نبراس الاصول المجلد 2

هویة الکتاب

نبراس الاصول

الجزء الثانی

السید جعفر الحسینی الشیرازی

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين إلی يوم الدين

ص: 3

ص: 4

فصل في الترتب

اشارة

وهذا الفصل من فروع بحث الضد، إلا أنه أفرزناه في فصل خاص به لکثرة مسائله وأهمية بحثه، فالغرض من بحث الترتب هو بيان إمکان أو امتناع الأمر بالضدين المتزاحمين إذا تعلق الأمر بالأهم وتعلق الأمر بالمهم في حال عصيان الأهم أو ترکه.

وقد اخترنا منهجية السيد الأخ (رحمة الله) في کتابه (الترتب) لأنها الأحسن في ترتيب المواضيع، فهنا مباحث:

المبحث الأول: في شروط تحقق موضوع الترتب

اشارة

ذکر السيد الأخ عشرة شروط مع المناقشة في بعضها، قد تستفاد من مطاوي کلام الأعلام، مع إمکان إضافة شروط أخری.

الشرط الأول: وجود تضاد بين الأمرين

مع کونهما مما لهما ثالث، وهذا التضاد إنّما هو بالعرض، حيث لا تنافي بين الإنشائين، وإنّما هو في مرحلة امتثال المکلف للحکم حيث لا يقدر عليهما لتضاد المتعلقين وعدم تمکنه من الجمع بينهما.

ولا فرق في هذا التضاد بين کونه من غير واسطة، أو بواسطة حکم شرعي، مثلاً إذا وجب قصد الإقامة في بلد، فلو عصی ولم يقصدها وجب عليه القصر والإفطار، فإنه لا تضاد في الأصل بين قصد الإقامة وبين القصر

ص: 5

والإفطار، وإنّما نشأ من الحکم الشرعي بقصر وإفطار غير المقيم، وبتمام وصيام المقيم.

فالمثال يكون من مصاديق الترتب لجريان ملاکه فيه، نعم هو مثال فرضي لا واقع له، إذ الواجب قد يكون الإقامة، ولا يشترط قصدها أصلاً، فسواء قصد أم لم يقصد أو قصد ضدها إن بقي - ولو اتفاقاً - فقد امتثل الأمر بالبقاء، فليس قصد الإقامة واجباً حتی نفرضه الأهم، بل الواجب نفس الإقامة، وحکم القصر والتمام والإفطار والصيام يرتبط بالقصد أو العلم، وليس هو الواجب حتی يكون ترکه مثلاً محققاً للعصيان الذي هو موضوع الأمر بالمهم، فتأمل.

إن قلت: إن التقابل علی أربعة أنواع - هي النقيضان، والضدان، والعدم والملکة، والمتضايفان - فلماذا خص البحث بالضدين؟

قلت(1): أما النقيضان: فلأن عصيان أحدهما مساوق لتحقق الآخر، فلا معنی للأمر به لأنه من طلب الحاصل، وهذا الکلام يجري في الضدين اللذين لا ثالث لهما کما لا يخفی.

وأما المتضايفان: فلضرورة وجود کل واحد منهما بالقياس إلی وجود الآخر، وامتناعه بالقياس إلی عدمه، فلا يعقل إناطة وجود أحدهما بعصيان الآخر، لأنه يؤول إلی إيجاب إيجاد الشيء في ظرف عدمه.

وأما العدم والملکة: فلرجوعهما إلی النقيضين، لکن مع لحاظ المحلّ القابل.

ص: 6


1- الترتب: 13؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 22.

إن قلت(1): قد يجري البحث في المتخالفين - وهما الأمران الوجوديان اللذين لا مانع من اجتماعهما وارتفاعهما کالسواد والحلاوة - کالتطهير والتعطير، بأن کان الثاني معلقاً علی عصيان الأول، مع عدم الأمر بالجمع بينهما - مع قابلية المحلّ وقدرة المکلف - لمفسدة في الأمر بالجمع مثلاً، ولم يكن تخييراً لکون الأول أهم؟

قلت: إنهما وإن کانا متخالفين بالذات إلا أنهما تحولا إلی متضادين بالعرض.

کما لا وجه لتخصيص الموضوع بالأمرين لجريانه في النهيين، والمختلفين، فالأقسام أربعة.

الشرط الثاني: كون التكليفين إلزاميين

ويرد عليه: عدم الفرق بين الإلزاميين وغيرهما، حيث يجري بحث الترتب فيهما أيضاً، وذلك لأن مبادئ الحکم غير الإلزامي مسانخة لمبادي الإلزامي، إلا أن الاختلاف في المرتبة القوية والضعيفة، فکما يجوز أو يمتنع اجتماع إرادتين إلزاميّتين متضادتين، کذلك إرادتين غير إلزاميتين، أو مختلفتين.

فالأقرب جريان بحث الترتب مطلقاً، فهنا صورتان:

الصورة الأولی: کون أحد الحکمين إلزامياً مع کون الآخر غير إلزامي، من غير فرق بين کون الأهم أيهما...

أ) فقد يأمر بإلزامي أهم، ويشترط في غير الإلزامي عصيانه، کأن يقول:

ص: 7


1- الترتب: 14؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 22.

(حُجّ، فإن عصيت فيستحب لك الزيارة).

ب) وقد يكون غير الإلزامي هو المطلوب، ويشترط في الإلزامي ترکه، کأن يقول: (يستحب لك الزيارة، فإن ترکتها فتجب عليك الزراعة في البستان)، والمورد إنّما هو فيما لم يكن الملاك في الزراعة مطلقاً، وإنّما کان الملاك في حال تواجده في البلد فقط، فإن کان خارجاً فلا ملاك له، ويمکن تقريب المثال بأن تکون الزراعة کفائية مع وجود من فيه الکفاية، فيأمره مستحباً بالزيارة فإن تركها تصير الزراعة عليه واجباً عينياً لمصلحة في الأمر، أو لتحقق ملاك العينية حينئذٍ، فتأمل.

ولا يخفی أن هذا يدخل في الترتب لو کان شرط الحکم الثاني أعم من عصيان الأمر الأول أو ترکه، أما لو کان شرطه العصيان فلا يدخل فيه، إذ لا عصيان في ترك غير الإلزامي.

الصورة الثانية: کونهما غير إلزاميين، فإن لم يترتب أحدهما علی ترك الآخر کانا من المستحب التخييري حتی لو کان أحدهما أهم، ولا يرتبط حينئذٍ ببحث الترتب.

أما لو ترتب أحدهما علی الآخر جری بحث الترتب، وذلك بأن يكون شرط استحباب الثاني هو ترك الأول، بأن يستحب الأول بشکل مطلق، ثم يقول المولی: لو ترکته استحب لك کذا، وهذا أيضاً يصحّ لو قلنا بکفاية ترك الأول في تحقق موضوع الترتب، کما مرّ.

الشرط الثالث: كون المتعلقين عباديين أو كون المهم عبادياً

وسبب اشتراطه لأجل أن تکون المسألة ذا أثر علمي، فتصح العبادة علی إمکان الترتب، وتفسد علی الامتناع إن لم يمکن تصحيحها بالملاك.

ص: 8

وأما في التوصليات فالأثر يترتب ولو مع عدم وجود الأمر.

وفيه أولاً: إن التوصليات هي ما لا يشترط قصد أمرها، لکن يمکن أن يكون الأمر بها دخيلاً في المصلحة، بحيث لا يترتب الأثر من غير أمر، لا بمعنی توقف الملاك علی الأمر لکي يستلزم الدور، بل بمعنی وجود الملاك مطلقاً مع عدم إمکان الوصول إليه إلا بوجود الأمر، فتأمل.

وثانياً: وجود الثمرة الأصولية(1)

وهي فساد الضد العبادي للمهم - حتی لو کان هذا المهم توصلياً - ، بناءً علی اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص واقتضاء النهي لفساد العبادة.

مثلاً: لو أمره بالسفر ثم أمره بالإزالة علی تقدير عصيان السفر، فعلی إمکان الترتب تجب الإزالة وتبطل الصلاة التي ضدها، وعلی عدم إمکانه لا أمر بالإزالة فلا نهي عن الصلاة.

لکن يشترط في هذه الثمرة عدم تحقق تضاد بين الأهم وبين ضد المهم أي بين السفر في المثال وبين نفس الصلاة، فتأمل.

وثالثاً: وجود ثمرات فقهية، منها: أخذ الأجرة عليها، ومنها: إسناد الأمر إلی الشارع، ومنها: الإتيان به بداعي الأمر، ومنها: حصول الفسق بترك الأهم والمهم معاً مع کونهما من الصغائر وتحقق الإصرار بصغيرتين بناءً علی إمکان الترتب، وعدم حصوله بناءً علی عدم إمکانه، ومنها: غير ذلك مما ذکره السيد الأخ في کتاب الترتب، فراجع.

ص: 9


1- الترتب: 21؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 32.

الشرط الرابع: أن لا يكون المهم مشروطاً بالقدرة الشرعية

وقد مرّ تفصيله في طرق إحراز الملاك بعد سقوط الأمر، فراجع.

ومختصره: أن المحقق النائيني ذهب(1) إلی أن الخطاب المترتب علی عصيان خطاب الأهم يتوقف علی کون متعلقه حال المزاحمة واجداً للملاك، والکاشف عن ذلك الملاك هو إطلاق المتعلّق، فإذا کان الخطاب مقيداً بالقدرة الشرعية لم يبق للخطاب بالمهم محلّ أصلاً، فلذا لا يصح الوضوء في موارد الأمر بالتيمم لا بالملاك ولا بالترتب.

وقد مرّ الإشکال فيه: بأن جميع الخطابات مقيدة بالقدرة الشرعية، بحکم العقل بقبح تکليف العاجز، وهذه قرينة متصلة، ومع عدم القدرة لا خطاب، فلا طريق لاستکشاف الملاك.

نعم في مرحلة الثبوت يمکن بقاء الملاك مع ارتفاع الخطاب لکن لا طريق لإحراز ذلك الملاك.

وعليه: فلا فرق بين تقييد الخطاب لفظاً أو الاکتفاء بتقييده لباً.

الشرط الخامس: أن يكون التضاد بين المتعلقين اتفاقياً

إذ لو کان التضاد دائمياً کان الدليلان متعارضين، إذ يكون التصادم حينئذٍ في مقام الجعل لا في مقام الامتثال، ضرورة أنه لا معنی لجعل حکمين لفعلين متضادين دائماً، وعليه: فيخرج الدليلان عن موضوع الترتب.

وفرّع المحقق النائيني(2)

علی ذلك: عدم صحة کلام کاشف الغطاء، من

ص: 10


1- فوائد الأصول 1: 367.
2- فوائد الأصول 1: 369.

أن صحة الجهر في موضع الإخفات وبالعکس جهلاً إنّما هي بالترتب، حيث دفع بذلك الإشکال في کيفية صحة العبادة حينئذٍ مع استحقاق العقاب علی ترك الآخر.

وجه البطلان: أن التضاد بين الجهر والإخفات دائمي وليس اتفاقي.

وفيه(1): أولاً: ثبوتاً، يحتمل وجدانهما للملاك، وإنّما التعاند في مقام الفعلية لا في مقام الجعل، کما يحتمل اختصاص أحدهما بالملاك.

إن قلت: في صورة التضاد الدائمي يكون الجعل لغواً؟

قلت: لا لغوية إذا کانا واجدين للملاك وحصل الأثر العملي، وإلا لزم ذلك في الاتفاقي أيضاً، إذ لا فرق في الاستحالة بين الدائمي والاتفاقي، فالمستحيل کما يكون محالاً في الدائمي يكون محالاً في الاتفاقي، ونفس دليل جواز الترتب - لو قيل به - کما يجري في الاتفاقي يجري في الدائمي أيضاً.

ومثاله: الأمر بتلوين الجدار باللون الأخضر ثم الأصفر - مثلاً - علی سبيل الترتب، فمع أن التضاد بين اللونين دائمي، لکن لا لغوية في هکذا أمر لو قلنا بإمکان الترتب.

وثانياً: إثباتاً، بأنه لا تعارض بين الدليلين، بل التعارض بين الإطلاقين - أي إطلاق کل منهما مع الآخر - ، فلا موجب لرفع اليد عن کليهما أو أحدهما، بل إما يرفع اليد عن إطلاقيهما إن لم تحرز أهمية أحدهما علی الآخر فينتج التخيير، وإما يرفع اليد عن إطلاق المهم إن أحرز أهمية الآخر فيكون علی

ص: 11


1- الترتب: 27-28؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 38-40.

سبيل الترتب، ورفع اليد عن إطلاقه يكون باشتراطه بعصيان الأهم.

إن قلت: يلزم أن يكون الجمع عرفياً، بأن يكون أحدهما أو کلاهما قرينة عرفية لتفسير الآخر، وليس کذلك في الأمرين بالضدين الدائمين، إذ العرف يراه من التعارض.

قلت: لا فرق في ذلك بين الاتفاقي والدائمي، فإن لم يكن الجمع عرفياً کان التعارض فيهما ثابتاً، وإن کان عرفياً رفع التعارض بذلك ودخل في الترتب إن قلنا بإمکانه، کما أنه لو صرّح بالتعليق فلا تعارض عرفي، فتأمل.

الشرط السادس: أن لا يكون المهم ضروري الوجود عند العصيان

وفرق هذا عن سابقه، أن ذاك کان في اشتراط التضاد الاتفاقي لا الدائمي، وهذا في اشتراط أن يكون لهما ثالث، فهذا أخص من ذاك، فحتی لو أشکلنا علی الشرط السابق لابد لنا من قبول هذا الشرط - في الجملة - .

فعن المحقق النائيني(1):

أن مورد الخطاب الترتبي هو ما إذا کان خطاب المهم مترتباً علی عصيان الأمر بالأهم، وهذا لا يكون إلا فيما إذا لم يكن المهم ضروري الوجود عند العصيان، کالضدين اللذين لهما ثالث، أما فيما لا ثالث لهما ففرض عصيان أحدهما هو فرض وجود الآخر، فيكون طلبه طلباً للحاصل.

وبالجملة: فإن الأمر بالمهم قبل وجود موضوعه ليس بفعلي، وبعده يكون طلباً للحاصل.

إن قلت: لو أخذ العزم علی العصيان شرطاً للأمر بالمهم فلا يرد

ص: 12


1- راجع فوائد الأصول 1: 372.

المحذور.

قلت: إنه في حال العزم علی العصيان يكون منشغلاً بالأهم - لفرض أنهما لا ثالث لهما - فيكون الأمر بالمهم حينئذٍ من طلب المرجوح حين الانشغال بالراجح وهو قبيح.

إن قلت: مع ملاحظة قيد الدوام في المتعلّق يمکن جريان الترتب، إذ بلحاظ الزمان الممتد يخرجان عما لا ثالث لهما، وذلك بأن يبعّض فيهما، فتارة يأتي بهذا، وأخری بذلك، فيأمره بالدوام علی الأول فإن عصی فبالدوام علی الثاني.

قلت: هذا خروج موضوعي عن الشرط.

وأما ما مثّل لهذا الشرط من الجهر والإخفات...

فيرد عليه: أن الضدين قد لا يكون لهما ثالث بلحاظ موضوع خاص، ولکن من دون ذلك اللحاظ يكون لهما ثالث، فالجهر والإخفات لهما ثالث وهو السکوت، نعم لو لوحظا بالنسبة إلی القاري فلا ثالث لهما.

فلابد من ملاحظة لسان الدليل، فإن کان من قبيل: تجب عليك القراءة الجهرية فإن عصيت فالقراءة الإخفاتية، في قبال ترك القراءة الذي هو الثالث، فيمکن جريان الترتب، أما لو کان من قبيل: القارئ إن لم يجهر بالقراءة فيجب عليه الإخفات، فلا يمکن جريانه.

ثم إنه لا ينحصر هذا الشرط في الضدين اللذين لا ثالث لهما، بل يجري في الأضداد لو أمر بجميعها، حيث إن المحذور يرد في الأمر بالأخير دون سواه.

وتظهر ثمرة هذا الشرط بعدم إمکان إدراج الخطابين - في الضدين

ص: 13

اللذين لا ثالث لهما - في المتزاحمين کي يمکن تصحيحهما بالخطاب الترتبي، وذلك لحصول التنافي في مرحلة الجعل لا في مرحلة الامتثال، وسيأتي تفصيله.

الشرط السابع: أن يكون الخطاب بالأهم منجزاً على المكلف

فلو لم يتنجز، کما في موارد جريان البراءة عن المجهول، لم يعقل الأمر بالمهم علی الترتب، وذلك لانتفاء موضوعه - وهو عصيان الأهم - بمقتضی جريان البراءة عنه.

وأشکل عليه: بعدم اشتراط الترتب بالعصيان، لجريان ملاك الترتب في ترك الأهم، وهو عدم لزوم طلب الجمع بين الضدين في زمان واحد الناشئ عن الأمرين، وذلك لأن فعل المهم في ظرف ترك الأهم مقدور فلا يكون التکليف به قبيحاً.

والجواب - کما ذکره السيد الأخ في کتاب الترتب -(1):

بأن الترتب علی معنيين: مطلق التعليق ولو لم يلزم محذور، ونوع خاص من التعليق.

فالأول: کما لو علّق الأمر بالمهم علی صورة عدم وصول الأهم، ولعلّه لا يمانع عن وقوع هذا الفرض حتی القائلين بالاستحالة، وذلك لاختلاف الداعي، والاستحالة إنّما هي في حالة تماثل الداعي.

ولا يخفی أن مورد جريان البراءة عن المجهول من هذا القبيل، فالداعي للمهم هو إيجاد الداعي في العبد، وأما الداعي في الأهم - فيمن لم يتنجز عليه - فلا يعقل أن يكون إيجاد الداعي إذ ما يعلم عدم ترتبه علی الشيء لا

ص: 14


1- الترتب: 34؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 45-46.

يعقل أن يكون غرضاً منه.

والثاني: لو تنجز التکليف بالأهم علی المکلف، فحينئذٍ يجري البحث في الإمکان والاستحالة حيث اجتمع حکمان بعثيان علی المکلّف، وعليه فهذا الشرط صحيح.

الشرط الثامن: وصول التكليف بنفسه

وإلا لم يتحقق العصيان - حتی لو وصل بطريقه - ومع عدم تحقق العصيان ينتفي موضوع الترتب.

ويرد عليه: مضافاً إلی ما مرّ في الشرط السابق...

أولاً: جريان البحث في صورة وصوله بطريقه، کالشبهات الحکمية قبل الفحص، وحينئذٍ فبالوصول بطريقه يتحقق العصيان، لأن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وثانياً: يمکن تعميم العصيان المأخوذ في الترتب بعصيان الأمر الواقعي، وعصيان الأمر المقدمي الطريقي، فتأمل.

الشرط التاسع: عدم أخذ الجهل في موضوع الأمر الترتبي

إنّ المکلف بالإخفات إذا جهر مع جهله بوجوب الإخفات، فحينئذٍ قد تحقق واقعاً عصيان الأمر بالإخفات، إلاّ أنه يستحيل جعله موضوعاً لوجوب الجهر في ظرف الجهل، لجهتين:

الأولی ما في الأجود(1):

من استحالة جعل حکم يمتنع إحرازه، بسبب

ص: 15


1- أجود التقريرات 2: 93.

الجهل بتحقق موضوعه.

وبعبارة أخری: لو لم يكن المکلّف محرزاً للعصيان لم يتنجز عليه التکليف المتوقف علی العصيان، لعدم إحراز موضوعه وشرطه، لأن التكليف الواقعي لا يتنجّز مع الجهل به، وبدونه لا يتحقق العصيان الذي فُرض اشتراط الجهر به أيضاً.

الثانية ما في الفوائد(1):

من أنه لا يصح التکليف إلا فيما أمکن الانبعاث عنه، ولا يمکن الانبعاث عن التکليف إلا بعد الالتفات إلی ما هو موضوع التکليف، وإلی العنوان الذي رتب التکليف عليه، وفيما نحن فيه لا يعقل الالتفات إلی ما هو موضوع التکليف بالجهر الذي هو کون الشخص عاصياً للتکليف الإخفاتي.

وأشکل عليه السيد الأخ(2):

أولاً: بأنه إنّما يرد الإشکال لو سيق الأمر بالمهم بداعي التحريك، أما لو صدر الأمر بلحاظ سقوط القضاء - حيث إن الفعل مأمور به - فلا يرد المحذور.

وثانياً: بما أجيب عن الإشکال في جعل النسيان موضوعاً للتکليف، کأن يخاطبه بعنوان ملازم للجهل أو النسيان، أو يخاطبه بوصفه الشخصي، کأن يقول: يا فلان يجب عليك الجهر، ونحو ذلك من الأجوبة.

الشرط العاشر: كون المتزاحمين في عرض واحد زماناً

فلا يجري الترتب في الواجبين الطوليين إذا فرض عدم قدرة المکلف

ص: 16


1- فوائد الأصول 1: 370.
2- الترتب: 37؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 49.

علی الجمع بينهما اتفاقاً، نظير عدم تمکنه من القيام إلا في إحدی الصلاتين - الظهر والعصر - مثلاً.

ولهذه المسألة صورتان(1):

تأخر الأهم، وتأخر المهم.

الصورة الأولی: تقدّم المهم وتأخّر الأهم زماناً.

قيل: علة عدم جريان الترتب هو أن الخطاب الترتبي: إما يلاحظ بالنسبة إلی نفس الخطاب المتأخر، فيكون عصيانه شرطاً للأمر المتقدم، وإما يلاحظ بالنسبة إلی الخطاب المتولد منه نحو: (إحفظ قدرتك لامتثاله)، فيكون عصيان حفظ القدرة للأهم شرطاً للأمر بصرف القدرة للمتقدم.

وأورد علی الأول: بأنه من الشرط المتأخر، وبعدم جدواه في رفع المزاحمة، لأن نفس الخطاب المتأخر غير مزاحم للخطاب المتقدم - لعدم اجتماعهما في الزمان - بل المزاحم هو الخطاب المتولد منه، وفرض عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط وجوب حفظ القدرة له، وذلك لعدم سقوط خطاب المتأخر ما لم يتحقق عصيانه، فلا يسقط خطاب حفظ القدرة له.

وحينئذٍ: خطاب (إحفظ قدرتك) موجب للتعجيز عن المتقدم، إذ لا يعقل الأمر بالمتقدم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخر.

والجواب: أولاً: أن متعلق التکليفين وإن لم يكونا متزاحمين لاختلاف زمانهما، إلا أن الخطابان متنافيان، لعدم إمکان امتثالهما بالجمع بينهما، فلا يمکن البعث بهما.

وثانياً: بعدم استلزامه للشرط المتأخر، وذلك بجعل الشرط للمهم هو

ص: 17


1- الترتب: 28؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 50.

(العزم علی عصيان الأهم) وليس العصيان نفسه، فيكون شرطاً مقارناً، مع إمکان أخذ (التعقب بالعصيان) شرطاً فلا يكون متأخراً.

إن قلت: لا دليل علی کون التعقب شرطاً.

قلت: إن الدليل علی المهم في هذه الصورة هو إطلاق دليله، ولابد من رفع اليد عن الإطلاق لو ثبتت استحالة شمول الحکم لفرد اتفاقاً، ولکن مع إمکان وعرفية الترتب ولو باشتراط التعقب يلزم التمسك بإطلاق دليل المهم.

وبعبارة أخری: المفروض هو اشتمال المهم علی الملاك الملزم مع عدم وجود محذور فيه - وذلك بطلبه مشروطاً بتعقبه بعصيان المتأخر - فلا حاجة إلی دليل بخصوصه علی شرطية التعقب.

وثالثاً: اجتماعهما في الزمان ممکن، بکون وجوب الأهم معلقاً أو مشروطاً بالوقت المتأخر، فتأمل.

وأورد علی الثاني: أولاً: بأنه لا دليل علی وجود خطاب شرعي متعلّق بحفظ القدرة، إلا الوجوب المقدمي، ولا نقول بوجوب المقدمة شرعاً.

وثانياً: إن عدم حفظ القدرة للمتأخر لا يكون إلا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة إليه، وذلك الفعل الوجودي... إما نفس المتقدم، أو فعل آخر، أو الجامع بينهما.

والأول: يلزم منه طلب الحاصل، فيكون کما لو قال المولی - في مثال عدم تمکن العبد من القيام في صلاتين -: إن قمت في الصلاة المنذورة فقد عصيت خطاب (إحفظ القدرة علی القيام في الفريضة)، فيجب عليك

ص: 18

الواجب المهم وهو القيام في المنذورة، مضافاً إلی لزوم کون الشيء شرطاً لوجوب نفسه!!

والثاني: يلزم منه تعلق الطلب بالممتنع، إذ مع انشغاله بالأمر الوجودي الآخر لا تبقی قدرة لا للأهم ولا للمهم.

والثالث: يلزم منه کلا المحذورين.

والجواب: أولاً: بالنقض في جميع الأوامر الترتبية، فإن مثل (أزل النجاسة عن المسجد فإن عصيت فصلّ) کذلك، إذ ترك الإزالة إما يلازم فعل الصلاة فيكون طلباً للحاصل، أو يلازم فعل غير الصلاة فيكون طلباً للممتنع، أو الأعم فيستلزم کلا المحذورين.

إن قلت: القياس مع الفارق، لأن ترك الإزالة قد تتقارن مع أفعال وجودية وقد لا تتقارن معها، بأن لا يشتغل بفعل وجودي، وحينئذٍ لا مانع من أمره بالصلاة إذ لا محذور من طلب الحاصل أو طلب الممتنع.

قلت: يرد المحذور هنا أيضاً، إلا أنه ذو شقوق ثلاثة، وذلك لاستحالة الإتيان بالمهم في حال عدم الانشغال بفعل وجودي أصلاً.

وثانياً: بالحلّ، بأنه لا محذور في وجوب الشيء حال الاشتغال بضده أو حال عدم الاشتغال بشيء، لأن امتناعه بالغير - أي استحالة المعلول لعدم تحقق علته - ، وهذا لا ينافي الإمکان الذاتي والوقوعي، کما لا ينافي جواز التکليف، فإنه يمکن أمر القائم بالقعود، لأن القعود ممکن له بإيجاد علته، وکذا ما نحن فيه، هذا مضافاً إلی أن الأمر الوجودي الآخر قد لا يستنزف القدرة أصلاً.

ص: 19

الصورة الثانية: تقدّم الأهم وتأخّر المهم زماناً.

فقد قيل في سبب عدم جريان الترتب فيها: بأن سقوط الأمر بالأهم يرفع المانع عن الأمر بالمهم، کالأمر بالتيمم بعد سقوط الأمر بالوضوء، فلا استحالة.

وأورد عليه(1):

بإمکان تعاصر الفعليتين، بتعليق وجوب المهم، أو کونه مشروطاً بالوقت المتأخر علی نحو الشرط المتأخّر، وذلک بغرض التحريک نحو مقدماته المفوّتة - مثلاً - فيجتمع في وقت واحد تحريکان متضادان نحو الأهم والمهم - ولو بالتحريک نحو مقدماتهما - ويتحقق بذلک موضوع الترتب، فتأمل.

المبحث الثاني: في أدلة استحالة الترتب

الدليل الأول: طلب الضدين

إن المحذور في طلب الضدين في عرض واحد يجري في طلبهما علی نحو الترتب أيضاً، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما، إلا أنهما يجتمعان في مرتبة طلب المهم، وذلك لوضوح بقاء فعلية الأمر بالأهم في مرتبة طلب المهم لبقاء ملاکه وعدم سقوط طلبه بالعصيان لعدم انتفاء موضوعه، مع فعلية الأمر بالمهم لأجل تحقق شرط فعليته وهو عصيان الأهم.

إن قلت: إن هناك فرقاً بين الاجتماع في عرض واحد وبين الاجتماع علی نحو الترتب، فهناك کل منهما يطارد الآخر، وهنا ليس کذلك، إذ طلب المهم لا يطارد طلب الأهم، لأن طلب المهم إنّما هو في حال عدم الإتيان بالأهم، فلا يريد المولی غير الأهم في حال الإتيان بالأهم!!

ص: 20


1- الترتب 41؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 54.

قلت: إن التطارد يحصل حين عصيان الأهم، حيث إن المولی حينذاك يريدهما معاً، فيحصل التطارد بينهما، بل يكفي الطرد من طرف المهم فإنه مع طلبه يكون طارداً لطلب ضده وهو الأهم.

ولأجل اتضاح محاور هذا الدليل، ليتضح مرکز الإشکالات اللاحقة عليه، لابد من تلخيصه في ست نقاط - کما في کتاب الترتب للسيد الأخ(1)-:

1- فعلية الطلبين علی تقدير عصيان الأمر بالأهم، أما فعلية طلب الأهم فلأنّ الأمر لا يسقط بالعصيان، لعدم فوات الموضوع، وأما فعلية طلب المهم فلتحقق موضوعه فعلاً.

2- تضاد متعلقي الطلبين، وإلاّ خرج عن فرض المسألة، وأمکن اجتماع الأمر بهما بلا إشکال.

3- سراية التضاد بين المتعلقين إلی نفس الطلبين.

4- استحالة تضاد الطلبين، إمّا لاستحالة انقداح الطلب الحقيقي المتعلق بالمحال في نفس المولی، وإما لاستلزامه اللغوية.

5- لا فرق في استحالة التضاد بين کون التضاد مطلقاً، کما في الطلبين العرضيين المتعلقين بالضدين، أو علی تقدير دون تقدير، کما في الطلبين الطوليين علی نحو الترتب، وذلك لأنه يكفي في بطلان الملزوم ترتب لازم باطل عليه ولو في بعض الأحيان.

6- لو فرض عدم التطارد بين الأمرين في صورة تحقق موضوع الأمر بالمهم، کفی في الاستحالة الطرد من طرف واحد، فإن الأمر بالمهم وإن لم

ص: 21


1- الترتب: 44؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 58.

يقتض طرد الأمر بالأهم فرضاً، لکن الأمر بالأهم لا محالة يقتضي طرد الأمر بالمهم - أي يكون مانعاً عن حدوث الأمر بالمهم - .

وقد أورد علی هذا الدليل بعدة إشکالات...

الإشکال الأول:

ما نقله المحقق الإصفهاني عن بعض(1): من أن اقتضاء کل أمر لإطاعة نفسه إنّما هو في رتبة سابقة علی إطاعته، وذلك لأن رتبة الإطاعة هي مرتبة تأثيره وأثره، ومن البديهي أن اقتضاء کل علّة لأثرها إنّما يكون في رتبة ذاتها، وذاتها متقدمة رتبة علی تأثيرها وأثرها.

ولازم ذلك کون عصيان الأمر - وهو نقيض الإطاعة - أيضاً متأخر عن الأمر واقتضائه.

وعليه: فإذا أنيط أمرٌ بعصيان مثل هذا الأمر فلا شبهة في أن هذه الإناطة تُخرج الأمرين عن المزاحمة، إذ في رتبة الأمر بالأهم - وتأثيره في صَرْف القدرة نحوه - لا وجود للأمر بالمهم، وفي رتبة وجود الأمر بالمهم لا يوجد اقتضاء للأمر بالأهم، فلا مطاردة بين الأمرين، بل کل يؤثر في رتبة نفسه علی وجه لا يوجب تحيّر المکلف في امتثال کل منهما، ولا يقتضي کل من الأمرين إلقاء المکلّف فيما لا يطاق.

وأجيب عنه بأجوبة متعددة، منها...

الجواب الأول: للمحقق الإصفهاني(2)

- وهو جواب کبروي -: بأن

ص: 22


1- نهاية الدراية 2: 216.
2- نهاية الدراية 2: 220.

ملاك التزاحم والتضاد ليس المعيّة الرتبيّة الطبعية، بل المعية الوجودية الزمانية، فمجرد عدم کون أحد المقتضيين في رتبة المقتضي الآخر لا يرفع المزاحمة، فاللازم لتصحيح الترتب هو بيان عدم منافاة أحد الاقتضائين للآخر لمکان الترتب، لا مجرد بيان اختلاف رتبة الاقتضائين.

وما ذکر من عدم اقتضاء الأمر بالأهم في رتبة وجود الأمر بالمهم إنّما هو بمعنی عدم معيّة الاقتضائين رتبةً، لا سقوط أحد الاقتضائين عن الاقتضاء حين وجود الاقتضاء الآخر.

فالحاصل: أن مجرد تأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بحسب الرتبة لا يدفع الاستحالة في حال وجود المعية في الاقتضاء وجوداً زمانياً.

الجواب الثاني - وهو جواب صغروي -: بأن ما ذکر من الاختلاف الرتبي، وبه يخرج الأمران عن التزاحم في التأثير، إنّما يتم لو کان الأمر بالمهم مشروطاً، أما لو فرض کونه معلقاً - بأن يكون التقييد للمادة لا للهيأة - فحينئذٍ يكون الأمر بالمهم سابقاً علی العصيان، فيتزاحم الاقتضاءان في رتبة واحدة، إذ يكون المتأخر عن العصيان حينئذٍ هو المطلوب لا الأمر.

الجواب الثالث - وهو جواب نقضي -: بأنه لو کان الاختلاف الرتبي نافعاً في دفع التطارد، لنفع في أخذ العلم بالحکم موضوعاً لحکم ضده، لتأخره عنه برتبتين، وذلك لتأخر الحکم بالضد عن العلم، وتأخر العلم عن المعلوم - وهو الحکم بالضد الآخر - ، فيخرج الحکمان عن المزاحمة، وهذا مما لا يلتزم به حتی القائل بإمکان الترتب.

إن قلت: القياس مع الفارق، وذلك لتعدد المتعلق ووحدة سنخ الحکم في

ص: 23

الأمر الترتبي، بخلاف مورد النقض حيث المتعلق واحد وسنخ الحکم مختلف.

قلت: إن الملاك واحد وهو التضاد مع الاختلاف الرتبي في کليهما، فالفرق غير فارق.

وفيه(1): أن المحذور في مورد النقض لا ينحصر في تزاحم الاقتضائين، بل هناك محذور آخر هو استلزام اللغوية، حيث يمتنع تصديق المکلّف بالحکم، لفرض علمه بالضد، فلا يمکن جعل الحکم بداعي جعل الداعي للامتثال، وذلك لعدم ترتب الامتثال عليه، وما لا يترتب علی الشيء في علم الجاعل لا يمکن أن يكون غرضاً للجعل، وبعبارة أخری: يكون هذا من مصاديق الردع عن العمل بالقطع، فلذا کان مستحيلاً.

والحاصل: إنه لعلّ من أجاز الترتب لا يجوّز أخذ العلم بالحکم موضوعاً لحکم ضده لا من باب التضاد حتی يدفع باختلاف الرتبة، بل من باب آخر هو ما ذکر، فتأمل.

الجواب الرابع - وهو نقضي أيضاً -: بأنه إذا قيّد الأمر بالمهم بامتثال الأمر بالأهم لا بعصيانه، فإن تعدد الرتبة لا يجدي حتی عند القائل بالترتب.

وأورد عليه: بأنه علی تقدير امتثال الأهم يكون فعل المهم غير مقدور في نفسه، إذ الضد المقيّد بوجود ضده ممتنع، فيكون الأمر به أمراً بالممتنع في نفسه، بخلاف الأمر بالضد حال ترك ضده، فإنه مقدور في نفسه.

وفيه(2): أنه لا فرق بينهما في الاستحالة، وذلك لأن مقدورية المهم حال

ص: 24


1- الترتب: 59؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 77.
2- الترتب: 61؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 79.

ترك ضده الأهم إنّما يتم لو أخذ مطلقاً وبما هو هو، أما لو أخذ بما أنه مأمور بضده الأهم فلا فرق في الحالين، فيستحيل المهم لوجود المانع عنه - وهو الأمر بضده - .

نعم هناك فرق غير فارق، وهو عدم القدرة الشرعية علی إتيان المهم حين ترك الأهم، وعدم القدرة العقلية علی إتيان المهم حين فعل الأهم.

الجواب الخامس - وهو جواب صغروي -: باتحاد الرتبة في الترتب، وذلك لأن الأمر بالمهم وإن لم يصعد إلی مرتبة الأمر بالأهم، ولکن الأمر بالأهم ينزل إلی مرتبة الأمر بالمهم، حيث إن العلة وإن کانت أقدم من المعلول رتبة لکن معنی ذلك عدم تقييد العلة بالرتبة المتأخرة، لا أنها مقيدة بالرتبة المتقدمة، بل لها إطلاق، فيلزم فعلية الاقتضائين في الرتبة المتأخرة.

وفيه: أنه إن أريد المعيّة في الوجود زماناً فهذا رجوع إلی الجواب الأول، وإن أريد الرتبة العقلية الاصطلاحية فما ذکره غير معقول، وذلك لأن الرتبة هي نحو وجود للشيء فلا يعقل الاتصاف بنحوين من الوجود في وقت واحد.

وبعبارة أخری: کما في کتاب الترتب(1): إن التقدم والتأخر لا يكونان إلا لملاك يقتضيهما، ومع حصول ملاك التقدم لا يعقل حصول ملاك التأخر، فإن ذلك من الجمع بين المتنافيين.

هذا تمام الکلام في الإشکال الأول علی الدليل الأول للاستحالة.

ص: 25


1- الترتب: 62؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 80-81.

الإشکال الثاني:

إن الأمر بالمهم وسقوط الأمر بالأهم کلاهما معلولان لعصيان الأمر بالأهم، أو معلولان لما يلازمه وهو انتفاء الموضوع، وذلك لأن العصيان من أسباب سقوط الأمر، وحينئذٍ ففي رتبة الأمر بالمهم لا أمر بالأهم - کي يقتضي امتثاله - فلا يتنافي الأمران.

والجواب: أولاً: ما مرّ من أن ملاك التضاد هو المعيّة الوجودية، فالاختلاف الرتبي لا يدفع التضاد.

وثانياً: بأن الأمر بالأهم مستمر حتی في ظرف عصيانه، وذلك لعدم فوات الموضوع في باب الترتب، وإلا فمع فوات الموضوع لا إشکال في صحة الأمر بالمهم حتی عند القائل باستحالة الترتب.

بل حتی مع فوات الموضوع لا يكون الفوات عِلة لسقوط الأمر، وذلك لعدم معقولية العِليّة بين الأعدام، لأن التأثير إنّما هو للوجودات، والعدم ليس بشيء حتی يكون مؤثراً، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، بل الواقع هو عدم وجود علة للأمر بالمهم حين انتفاء الموضوع، لأن انتفاءه هو علة عدم الأمر، فهذا النوع من التعبير مجازي.

الإشکال الثالث:

إن ذلك بسوء اختيار المکلف حيث يعصي فيما بعد بالاختيار، ولولا عصيانه لما توجه إليه الخطاب بالمهم، وحيث عصی بسوء اختياره فلا دليل علی امتناع تکليفه بالضدين.

کمن دخل داراً مغصوبة حيث يكون بقاؤه وخروجه محرّمين، لکونهما تصرّفاً في المغصوب، فلا بأس بتوجه کلا الخطابين إليه،لسوء اختياره.

ص: 26

والجواب: أولاً: أن طلب المحال محال في نفسه حتی لو کان بسوء الاختيار، إذ لا تنقدح إرادة الضدين في نفس المولی مع علمه بتضادهما، فطلب المحال من المحالات الذاتية، لا أنه قبيح کي يقال بارتفاع القبح بسوء الاختيار.

وثانياً: لو فرض عدم محاليته، فلا ريب في کونه قبيحاً مطلقاً حتی في صورة سوء الاختيار، لأن الأمر إنّما هو بداعي إيجاد الداعي، أو لإتمام الحجة ليصح العقاب، وکلاهما منتف هنا، إذ لا يمکن إيجاد الداعي فيه لاستحالة الانبعاث نحوه، کما أن العقاب مترتب عليه بسبب سوء الاختيار، فيكون تکليفه من غير غرض، وهو عبث يقبح علی الحکيم، کما لو نهاه - وهو في حال السقوط - عن الارتطام بالأرض، فإنه يعدّ عابثاً عند العقلاء.

ولذا لا يصح نهيه عن البقاء وعن الخروج من المغصوب، بل يأمره بأخفهما وهو الخروج، وهذا الأمر في الحقيقة إرشاد إلى أقلّهما مفسدة أو عقاباً.

إن قلت: الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار؟

قلت: إنه لا ينافي الاختيار عقاباً، لکنه ينافيه خطاباً، ولا ملازمة بين جواز العقاب وجواز الخطاب.

مضافاً إلی أنه لا امتناع هنا أصلاً، فلا تجري القاعدة، وذلك لتمکن المکلّف من امتثال الأمر بالأهم، فلا يتحقق موضوع الأمر بالمهم، فلا يكون ثمة عصيان أصلاً.

وثالثاً: النقض بما لو علّق طلب الضدين علی أمر اختياري في عرض

ص: 27

واحد بلا حاجة إلی الترتب في تصحيحه، مع أنه محال بلا ريب.

الإشکال الرابع:

إن الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم، لأنه متأخر عن عصيان الأهم المتأخر عن الأمر بالأهم. وکل شيء کان في طول آخر لا يعقل أن يزاحمه، إذ لو کان مزاحماً في ظرف عدمه لزم تأثير المعدوم وهو محال، وإن کان مزاحماً في ظرف وجوده لزم الخلف، لأنه متوقف علی وجود الأول في رتبة سابقة.

وعليه: فإذا لم يكن الأمر بالمهم مزاحماً للأمر بالأهم وطارداً له، فلا يكون العکس أيضاً، وذلك لأن ملاك المزاحمة والمطاردة هو التضاد، ولو کان لتحققت المزاحمة والمطاردة من الطرفين. والنتيجة: هي عدم التضاد بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم.

والجواب: أولاً: علی الکبری، وذلك لأن الطولية بين الشيئين لا تمنع عن المزاحمة بينهما، نعم لو کان بينهما عِلية، فلا مزاحمة ولا تضاد، لکن إذا لم تکن عِلية بل تقدّم بالطبع فقد يكون مزاحمة کما في بعض المعدّات کالخطوة الأولی والثانية، فإنهما لا تجتمعان في الوجود وبينهما تضاد، مع أن الثانية متأخرة عن الأولی، بل لا تتحقق الثانية إلا مع إعدام الأولی، فتأمل.

وثانياً: علی الصغری بأن الأمر بالأهم والأمر بالمهم معلولان لعلتين متضادتين، وهما إرادة الأهم وإرادة المهمّ، ومن الواضح أن تضادّ الإرادتين - تبعاً لتضاد المتعلقين - يستتبع تضاد الحکمين. وحينئذٍ فيستحيل الطولية بينهما بأن يكون أحدهما علة أو جزء علة للآخر، وذلك لتقارن العلة

ص: 28

والمعلول زماناً، وحيث استحال اجتماع الضدين فيستحيل العِلية بينهما.

وثالثاً: إن القول بأنه (إذا لم يكن الأمر بالمهم مزاحماً للأمر بالأهم وطارداً له فلا يكون العکس) مما لا وجه له، وذلك لأن الضدين قد يلاحظان معاً فحينئذٍ يوصفان بالمطاردة من الطرفين، ولکن قد يلاحظ سبق وجود أحدهما، وحينئذٍ يكون الضد الموجود طارداً دون العکس، وذلك لأن الضد الموجود يمنع عن تحقق ضده مادام موجوداً.

وما نحن فيه من قبيل الثاني، إذ انقداح إرادة الأهم في نفس المولی مانع عن انقداح إرادة المهم في نفسه، وحينئذٍ تطرد إرادة الأهم إرادة المهم ولا عکس، فتأمل(1).

ورابعاً: علی الصغری، بعدم تسليم الطولية بين الأمر بالأهم وعصيان الأمر بالأهم، وذلك لأن العصيان لا يتوقف علی الأمر بالأهم بل هو معلول لِعلَلِه التکوينية.

وفيه: العصيان لا يتحقق إلا بعد الأمر، إذ الأمر متقدم بالطبع علی المعصية، إذ لا تحقق لها بدونه، مع إمکان تحققه بدونها - وهذا هو ملاك التقدم بالطبع کما مرّ - .

وخامساً: ما قيل: من أن هذا الوجه يستلزم الدور، لأن الترتب متوقف علی عدم التضاد، فتوقف عدم التضاد علی الترتب دور مصرّح.

وفيه: أن الأول ثبوتِي، ففي الواقع إن لم يكن تضاد صحّ الترتب، والثاني: إثباتي فإنا عن طريق الترتب نکتشف عدم التضاد، فتأمل.

ص: 29


1- وللتفصيل راجع کتاب الترتب: 67؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 86.

الإشکال الخامس:

ما نقله في نهاية الدراية(1)، وحاصله: أن وجود کل شيء طارد لجميع أعدامه المضافة إلی أعدام مقدماته أو وجود أضداده، فطلب مثل هذا الوجود يقتضي حفظ متعلّقه من قِبل مقدمات وجوده وعدم أضداده بقول مطلق، وفي هذه الصورة يستحيل الترخيص الفعلي في مقدمة من مقدماته أو وجود ضد من أضداده، بخلاف ما إذا خرج أحد أعدامه عن حيز الأمر، إما لکونه قيداً لنفس الأمر، أو بأخذ وجوده من باب الاتفاق، فإنه في هاتين الصورتين لا يترشح إليه الأمر، ولا يكون العدم من قِبل هذه المقدمة أو هذا اللازم مأموراً بطرده، بل المأمور بطرده عدمه من قبل غيره من المقدمات والأضداد.

وفيما نحن فيه: مرجع الأمر بالأهم - لمکان إطلاقه - إلی سدّ باب عدمه من جميع الجهات حتی من قبل ضده المهم، ومرجع الأمر بالمهم - لترتبه علی عدم الأهم - إلی سدّ باب عدمه في ظرف عدم انسداد باب عدم الأهم من باب الاتفاق.

ولا منافاة بين قيام المولی بصدد سدّ باب عدم الأهم مطلقاً، وسد باب عدم المهم في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق، فلا يكون للأمر بالمهم محرّکية إلا في ظرف انفتاح باب عدم الأهم اتفاقاً.

وبعبارة أخری: عدم المعلول يتصوّر له حصص - مع أنه واحد بسيط -: فتارة يسند إلی عدم المقتضي، وأخری إلی عدم الشرط، وثالثة إلی وجود

ص: 30


1- نهاية الدراية 2: 220.

الضد.

ويرد عليه: عدم سقوط الأمر بالأهم بسبب عصيانه - ما لم يفت الموضوع، فإن فات خرج عن موضوع الترتب - ففي ظرف العصيان يكون طلب الأهم مستلزماً لسدّ باب عدمه بجميع حصصه، ومنها الحصة الملازمة لوجود الضد المهم، فيكون المکلّف مأموراً بطرد المهم فلا يعقل الأمر به حينئذٍ، فکما لا يصح الأمر بالضدين المتقابلين بشکل مطلق کذلك لا يصح الأمر بهما علی سبيل الترتب، مع أن هذا الوجه جار في الأمر بشکل مطلق أيضاً، فتأمل.

إن قلت: إنه علی تقدير العصيان لا يوجد أمر بطرد الأهم، لأنه من الأمر بتحصيل الحاصل، فينحصر الأمر بالمهم بسدّ باب عدمه من سائر الجهات، وعليه فلم يحصل تنافي حين عصيان الأهم بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم.

قلت: بل الأمر بالمهم بمعنی طلب استمرار طرد الأهم، فرجع التنافي.

هذا تمام الكلام في الدليل الأول لاستحالة الترتب.

الدليل الثاني: تعدد استحقاق العقاب

وقد استدل لاستحالة الترتب بعدم تعدد استحقاق العقاب.

وبيانه کما في کتاب الترتب(1):

إن استحقاق العقوبة علی مخالفة الأمر المولوي لازم عقلي للمخالفة، وهذا اللازم غير قابل للوضع حيث إنه من تحصيل الحاصل، ولا الرفع لأنه تفکيك بين اللازم وملزومه، إلا برفع أو وضع منشأ انتزاعه.

ص: 31


1- الترتب: 78؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 98-99.

وعلی الترتب يكون هناك أمران مولويان فعليان، فلازم ذلك استحقاق المکلف لعقابين لو خالف الأمرين، ومعنی ذلك استحقاق العقاب علی ترك ما لا يكون داخلاً تحت قدرة المکلّف - وهو أحد الفعلين - ، مع أنّ مناط حسن العقوبة هو القدرة علی الامتثال، فعدم تعدد الاستحقاق کاشف عن عدم تعدد الأمر.

وبتقرير آخر، کما عن المحقق النائيني(1)،

إن القائل بالترتب لا يخلو من أمرين:

1- إما الالتزام بتعدد العقاب علی تقدير عصيانهما معاً، کما لو اشتغل بأمر آخر مثلاً.

2- وإما الالتزام بعدم استحقاق العقاب علی ترك الواجب المهم.

والأول: لا سبيل له إليه، فکما لا يمکن تعلّق التکليف بغير المقدور، کذلك لا يمکن العقاب عليه، وفيما نحن فيه حيث يستحيل الجمع بين المتعلقين فيستحيل العقاب علی ترکهما معاً.

والثاني: لازمه إنکار الترتب، وانحصار الأمر المولوي بخطاب الأهم، وکون الأمر بالمهم إرشاداً محضاً إلی کونه واجداً للملاك، ضرورة عدم معنی للقول بوجود الأمر المولوي مع عدم العقاب عليه.

وأشکل عليه بعدّة إشکالات، منها:

الإشکال الأول: النقض بالأوامر الکفائية، التي لا يمکن صدور الواجب فيها إلا من بعض المکلّفين علی البدل، مع أن جميع المخاطبين يستحقون

ص: 32


1- أجود التقريرات 2: 87.

العقاب علی مخالفته.

بيان ذلك: إن القدرة علی امتثال التکليف في الکفائي مخصوصة ببعض المکلفين علی البدل، فلا يعقل صدور الواجب عن جميعهم دفعة واحدة، لامتناع الواجب بطبعه عن الاشتراك فيه، کما لا يعقل صدوره تدريجاً، لسقوط التکليف بامتثال من فيه الکفاية، وذلك لعدم بقاء موضوع للتکليف حينئذٍ، ومع ذلك توجه الخطاب إلی الجميع، ويصح عقابهم لو لم يقم بالتکليف من به الکفاية، فکذلك فيما نحن فيه من الأمر الترتبي.

وأجيب عنه: أولاً: بالفرق بين المقامين:

أما في الکفائي: فإنه توجد قدرات متعددة بعدد المکلفين، غاية الأمر أن إعمال کلٍ منهم لقدرته إنّما يتوقف علی عدم وجود المزاحم الخارجي، والذي منه سبق غيره إلی الامتثال.

وأما في الأمر الترتبي: فإنما توجد قدرة واحدة قائمة بمکلّف واحد.

وفيه(1): عدم الفرق بينهما، وذلك لأن القدرة تطلق علی معنيين:

1- مجرّد المقتضي، بأن يمتلك قوة العضلات علی الفعل.

2- المقتضي منضماً إلی عدم المانع.

وعلی التقديرين لا فرق بين الوجوب الکفائي والترتبي، إذ الأول موجود في کلا المقامين، لوجود القوة العضلية عند کل واحد من المکلفين في الواجب الکفائي، وعند المکلف علی کل واحد من المتعلقين في الواجب الترتبي، وأما الثاني، فإن القدرة مشروطة في کلا المقامين، إذ قدرة کل

ص: 33


1- الترتب: 80؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 101.

مکلّف علی أداء الواجب الکفائي - الذي لا يتحمل التکرار - مشروطة بعدم سبق غيره إليه، کما أن قدرة المکلف الواحد علی أحد الضدين مشروطة بعدم تلبسه بالضد الآخر.

وثانياً: عدم تسليم تعدّد العقاب في الواجبات الکفائية، وذلك لوحدة الملاك أو الغرض، وليس في مخالفة التکليف الواحد إلا عقاب واحد، فيتوزع ذلك العقاب علی مجموع العصاة في الواجب الکفائي، وهذا بخلاف الترتب إذ تعدد فيه الأوامر تبعاً لتعدد المبادي فلابد من تعدد العقاب، فيلزم المحذور.

اللهم إلا أن يقال: بعدم تسليم وحدة التکليف ووحدة العقاب، وسيأتي تفصيل تصوير الواجب الکفائي إن شاء الله تعالی.

الإشکال الثاني: النقض بتکليفين يتضاد متعلقاهما في القدرة، مع کون المتأخر منوطاً بعدم امتثال المتقدّم، وحتی القائل بالترتب لا يمانع عنه، وذلك لعدم تقارن الفعلين زماناً. وعليه: فلو عصی المکلف کلا الأمرين فإنّه يستحق عقابين مع عدم القدرة علی الفعلين.

کمن يعجز عن صوم کل أيام الشهر لکنه يتمکن من الصوم يوماً مع الإفطار في اليوم الآخر، فيجب عليه صوم اليوم الأول، فلو ترکه ولم يصمه استحق العقوبة ووجب عليه صوم اليوم الثاني، فلو ترکه استحق عقوبة أخری.

وأجيب عنه بعدة أجوبة، منها(1):

ص: 34


1- الترتب: 83؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 104.

أولاً: مورد النقض إنّما هو من مصاديق بحث الترتب، وذلك لعدم تسليم اشتراط العرضية في تحقق موضوع الترتب - کما مرّ في الشرط العاشر من شرائط تحقق الموضوع - ، إذن جواز تعدد العقاب في المثال مبني علی جوازه في کلي الترتب، فبناء جواز الترتب علی تعدد العقاب في المثال دور واضح.

وفيه: أن مورد النقض ليس من الترتب في شيء، بل هو انتفاء موضوع الأول، فلا أمر له لعدم وجود موضوع له.

وثانياً: إن تعدد العقاب في المقيس عليه غير مسلّم، إذ مناط الاستحقاق هو (ترك الفعل المقدور) وهذا المناط جار في مورد النقض أيضاً.

وفيه: أن لازم هذا القول عدم تحقق عصيان للأمر الثاني أصلاً، إذ العصيان تحقق بالأول، فلا معنی لعصيان الثاني، فلا معنی لوجوبه.

وبعبارة أخری: إن القدرة إذا کانت لأحد الفعلين، فمع ترکه للأول هل تحقق عصيان أم لا؟

لا محيص عن القول بتحققه، وحينئذٍ فلا يتحقق عصيان للثاني.

وثالثاً: إن الأمر بهما في المقيس عليه إنّما هو من باب تعدد المطلوب، أي يوجد طلبان أحدهما بالجامع والآخر بإيجاد هذا الجامع في ضمن حصة معينة، ومتعلق کلا الطلبين مقدور، فعصيانهما يوجب تعدد استحقاق العقاب.

وفيه: أنه لا يوجد إلا طلب واحد، لأن الأمر بالجامع إنّما هو أمر بإيجاد الحصة، إذ الکلي الطبيعي موجود بوجود فرده، فلا يوجد طلبان.

ص: 35

ورابعاً - وهو العمدة -: هو تعدد القدرة في المقيس عليه، وذلك لأنه کان قادراً علی صوم اليوم الأول فعصاه فاستحق عقاباً، ثم بعد ذلك کان قادراً علی صوم اليوم الثاني فعصاه فاستحق عقاباً آخر، واستحقاق العقاب لا يترتب علی الفرضيات بأن يقال: لو کان يصوم اليوم الأول لما کان قادراً علی صوم اليوم الثاني، بل يترتب علی الواقعيات الخارجية، وليس الترتب کذلك فمع عصيان الأهم هو مکلّف بالأهم والمهم مع عدم قدرته إلا علی أحدهما.

الإشکال الثالث: إشکال علی الکبری، فعن المحقق النائيني(1)،

من أن العبرة في استحقاق العقاب هو ملاحظة کل خطاب بالنسبة إلی کل مکلّف في حدّ نفسه، أي يلاحظ الخطاب وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر.

إن قلت: لازم هذا صحة الأمر بالضدين، لفرض تعلق القدرة بکل واحد منهما لو قطع النظر عن اجتماعه مع الآخر؟

قلت: الفرق واضح، لأن الأمر بالضدين محال في نفسه مطلقاً، فلا يعقل صدوره عن المولی، فلا تصل النوبة إلی بحث القدرة واستحقاق العقاب ونحو ذلك.

إن قلت: ماذا لو فرض إمکان طلب الضدين من المولی، کما لو غفل عن التضاد بينهما، فإن طلبه حقيقي، فحينئذٍ يقال: يصح العقاب علی مخالفتهما لتعلق القدرة بالنسبة إلی کل متعلق مع قطع النظر عن المتعلق الآخر.

ص: 36


1- فوائد الأصول 1: 365.

قلت(1): إن الأمر الناشئ عن الغفلة ليس بأمر حقيقة، وذلك لعدم الموضوعية في الأمر، بل هو طريق إلی کشف الملاکات الواقعية، فإذا علم المکلف بعدم ذي الطريق لم يكن الأمر منجزاً، ولم يستحق العبد العقاب علی مخالفة مثل هذا الأمر.

کما أن العکس کذلك، فلو کان هناك ملاك ملزم لکن لم يتمکن المولی من الأمر به لمحذور - من جهل أو إکراه أو نحو ذلك - فيجب تحصيل ذلك الملاك، لأن الأمر طريق، فإذا حصل ذي الطريق لم يكن الطريق مهماً.

الإشکال الرابع: علی الکبری أيضاً، فقد قيل: إنّ الميزان في صحة العقاب هو (أن يكون التخلص من المخالفة مقدوراً)، وليس الميزان (کون الامتثال مقدوراً).

ففي باب الترتب يمکن التخلص من مخالفة التکليفين عبر امتثال الأمر بالأهم، نعم لا يمکن امتثالهما معاً لکن ذلك ليس المناط في صحة العقاب.

وفيه: أن لازم هذا الميزان هو صحة الأمر بجميع المحالات الذاتية معلقاً علی عصيان تکليف مولوي - مثلاً - کأن يقول: لا تدخل الدار فإن دخلتها فعليك الجمع بين النقيضين، مع أن الميزان المذکور وهو إمکان التخلص من المخالفة موجود في المورد، وذلك بعدم إيجاد مقدّم هذه القضية الشرطية.

وأما حديث (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار)، فقد مرّ أن المراد به

ص: 37


1- الترتب: 86؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 108.

الامتناع بالغير، لا الامتناع الذاتي أو الوقوعي، فراجع.

الإشکال الخامس: الالتزام بإمکان وحدة العقاب حتی مع وجود أمرين مولويين، وهذا إشکال کبروي راجع إلی تعيين ملاك استحقاق العقوبة، وذلك بأن يقال: إن ملاك الاستحقاق للعقاب هو تفويت الغرض، فلو فرض اشتمال المهم علی بعض مصلحة الأهم...

1- فإن أتی المکلّف بالأهم، فقد أدرك تمام المصلحة.

2- وإن أتی بالمهم، فقد أدرك بعض المصلحة، فلا عقوبة إلا بقدر البعض الآخر.

3- وإن ترکهما معاً، فلا يستحق إلا عقوبة واحدة بمقدار مصلحة الأهم، وذلك لأن الأمر بالمهم إنّما کان لتدارك بعض مصلحة الأهم.

والجواب(1): أولاً: ما مرّ من أن استحقاق العقوبة لازم عقلي للأمر المولوي، فلا يعقل الانفکاك أصلاً، وبما أن الأمر بالمهم مولوي - بناءً علی الترتب - فلابد من وجود عقاب له، اللهم إلا إذا انکرت الملازمة، وحينئذٍ فلا طريق لإثبات استحقاق العقوبة علی أيّ أمر مولوي إطلاقاً، وهذا ما لا يمکن الالتزام به.

وثانياً: إنه قد تکون مصلحة المهم من غير سنخ مصلحة الأهم، بل حتی مع السنخية فقد يكون الغرض من الأهم والغرض من المهم في عرض واحد کما في إنقاذ غريقين.

ص: 38


1- الترتب: 95؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 118.

الدليل الثالث: النهي عن المهمّ

وقد استدل بذلک علی استحالة الترتب، وهو مبني علی القول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام.

وبيانه: أن الأمر بالأهم يقتضي حرمة نقيضه، والمهم إما مصداق للنقيض، أو ملازم له مع القول بسراية الحکم من أحد المتلازمين إلی الآخر، أو ملازم له من غير سراية لکن مع القول بلزوم عدم اختلاف المتلازمين في الحکم.

وأشکل عليه: بأن...

1- المصداقية غير معقولة، إذ لا يمکن أن يكون الوجود مصداقاً للعدم، إذ هي متوقفة علی الاتحاد بين الشيئين، ولا يعقل اتحاد الوجود والعدم.

2- وسراية الحکم غير ممکنة، لا في الملاك، إذ هو صفة تکوينية ولا يعقل انتقال العرض من معروض لآخر، ولا في إرادة المولی، ولا في الجعل إذ هما تابعان للملاك، مضافاً إلی استلزام السراية لانحصار الحکم في الواجب والحرام.

3- وأما علی مبنی عدم اختلاف المتلازمين في الحکم، فکذلك غير معقول، إذ لا يعقل إرادة الضدين مع الالتفات إلی کونهما ضدين، فإذا کان (عدم الأهم) مبغوضاً للمولی فکيف يكون ملازمه وهو (وجود المهم) محبوباً لديه، مضافاً إلی أنه لو کانت مصلحة في أحد المتلازمين ومفسدة في الآخر فحينئذٍ يكون الحکم للغالب منهما، وإن تساويا فالإباحة، فلا يعقل أن يكون أحدهما وهو عدم الأهم ذا مفسدة مؤثرة في التحريم الفعلي، والآخر وهو وجود المهم ذا مصلحة مؤثرة في الوجوب الفعلي.

ص: 39

إن قلت: إن المانع عن اختلاف المتلازمين في الحکم إنّما هو لزوم التکليف بما لا يطاق، وهذا المحذور لا يجري في الترتب، وذلك لأنه لو اختار الأهم ارتفع موضوع المهم، لکن لو عصی الأهم ثبت الحکم اللزومي للمهم فيكون المکلف بسوء اختياره ألقی نفسه في المحذور، فلا يكون من التکليف بما لا يطاق.

قلت: قد مرّ عدم صحة هکذا تکليف حتی وإن کان بسوء الاختيار، فإنه مصحح للتکليف بالممتنع الغيري، لا الذاتي أو الوقوعي، وإرادة الضدين ممتنع ذاتاً، فراجع.

المبحث الثالث: أدلة إمكان الترتب، ومناقشتها

اشارة

ثم إن القائلين بجواز الترتب - أي إمکانه - استدلوا بأمور، منها:

الدليل الأول

اشارة

ما ذکره المحقق النائيني(1)،

وهو يتألف من عدة مقدمات:

المقدمة الأولى

لتحرير محل النزاع، کما صرح به المحقق النائيني نفسه(2)، فهي لا ترتبط بتصحيح الترتب.

المقدمة الثانية

لبيان عدم المطاردة بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم، وذلك لاختلاف الرتبة، سواء قبل تحقق الشرط أم بعده...

ص: 40


1- فوائد الأصول 1: 336، 357.
2- فوائد الأصول 1: 352.

أما قبل تحقق الشرط: فلما مرّ من أن عصيان الأهم متأخر عن الأهم، وهذا العصيان متقدم علی المهم لأنه شرط تحققه.

وأما بعد تحقق الشرط - وهذا هو المقصود بيانه في هذه المقدمة - فلأنّ التأخر الرتبي يبقی محفوظاً حتی مع تحقق الشرط، وذلك لبقاء الواجب المشروط واجباً مشروطاً حتی مع تحقق الشرط، ولا يتصف بصفة الإطلاق، فلا ينقلب عمّا هو عليه.

وذلك لأن الشروط ترجع إلی الموضوع، والموضوع لا ينسلخ عن الموضوعية بعد وجوده خارجاً، وإلاّ صار الحکم بلا موضوع، فدعوی انقلاب الواجب المشروط إلی مطلق تساوق دعوی خروج الموضوع عن موضوعيته بعد وجوده خارجاً.

وسبب ذلك هو أن الأحکام الشرعية قضايا حقيقية لا خارجية، مثلاً وجوب الحج أنشِأ مشروطاً بوجود موضوعه - وهو البالغ العاقل المستطيع - ، وهذا لا يفرق فيه الحال بين تحقق الاستطاعة لزيد - مثلاً - أو عدم تحققها، فليس لزيد حکم يخصّه، کي يقال: بأنه لا معنی لاشتراط الاستطاعة في زيد المستطيع فإنه من طلب الحاصل.

فتبين الفرق بين القضايا الحقيقية حيث يبقی الواجب المشروط مشروطاً، وبين القضايا الخارجية.

والنتيجة هي عدم کون الأهم والمهم في عرض واحد بل رتبتهما مختلفة، فلم يجتمع الضدان.

وأورد عليه إشکالات عديدة، منها:

الإشکال الأول: ما مرّ من عدم دفع محذور طلب الضدين بالاختلاف

ص: 41

الرتبي، بل لابد من الاختلاف في الزمان.

الإشکال الثاني: إنه لو فرض انتفاء التضاد بين الخطابين - لفرض طوليتهما - لکن يبقی الإشکال في حکم العقل بتنجز التکليفين، بمعنی أن للعقل تنجيزين، أحدهما يتعلق بالأهم لکونه مطلقاً، والآخر يتعلّق بالمهم لتحقق شرطه، فحصل التهافت في حکم العقل، وهو باطل قطعاً، فالمقدّم مثله.

إن قلت: التنجز تابع للأمر، فإن أمکن رفع التضاد بين الأوامر باختلاف الرتبة، أمکن ذلك أيضاً في التنجز.

قلت: بل الأمر بالعکس، فيستدل بوجود المحذور في التنجز علی عدم ارتفاع التضاد في الأوامر حتی مع طوليتها فيما لو کانت في زمان واحد.

الإشکال الثالث: إن القول برجوع شرائط التکليف إلی قيود الموضوع، إما يراد به شرائط الجعل وهي علل ودواعي الحکم الذي يريد المولی تحققها عبر التکليف، وإما يراد به شرائط المجعول من المادة والهيأة.

والأول: محال، بمعنی استحالة کون الداعي قيداً للموضوع، لاستلزامه إما خروج الواجب المطلق عن الوجوب، أو تحصيل الحاصل، أو الأمر بالشيء بلا ملاك.

مثلاً: قوله تعالی: {وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِذِكْرِي}(1)

يكون الموضوع هو (المکلف المتذکر)...

فقبل الصلاة: لا يكون متذکراً، فلم يتحقق الموضوع کي يترتب عليه

ص: 42


1- سورة طه، الآية: 14.

الحکم، لأن الحکم لا يدعو إلی موضوع نفسه، إذ وجوده متفرع علی وجود موضوعه، فدعوته إليه تستلزم تقدم الشيء علی نفسه.

وحين الصلاة: يكون الأمر بأدائها طلباً للحاصل.

وبعد الصلاة: لقد استوفي الملاك، فلا يكون الأمر بها إلا أمراً بلا ملاك يقتضيه.

والثاني: أي إن أريد شرائط المجعول، فإرجاع القيد إلی الموضوع يستلزم عدم وجود الواجب المشروط أصلاً، بل عليه تکون الواجبات کلها مطلقة.

وفيه(1): هو أنّ الأول: غير مراد للمحقق النائيني إذ کلامه منصرف عنه، وأما الثاني: فلأن المراد من الموضوع هو متعلّق المتعلّق أي (المکلّف)، ورجوع شرائط التکليف - الهيأة - إلی المکلّف لا يلغي الواجب المشروط، حيث لا فرق بين قولنا: (المکلف يجب عليه الحج إن استطاع) وبين (المکلّف المستطيع يجب عليه الحج)، وذلك لعدم داعوية الحکم إلی إيجاد موضوعه، وأما شرائط المادة فهي أجنبية عن البحث حيث إنها غير مرادة.

الإشکال الرابع: لو رجعت الشرائط إلی قيود الموضوع، لم يصح الاستصحاب في مثل (الماء نجس إذا تغيّر) حينما نشك في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر، للشك في کون التغيّر عِلّة محدثة أم علة مبقية، وذلك لأن الموضوع يكون بعد إرجاع الشرط إلی الموضوع هو (الماء المتغيّر)، وبعد

ص: 43


1- الترتب: 116؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 145.

زوال التغيّر يكون الموضوع قد تبدّل!!

وفيه: أن المناط في بقاء الموضوع في الاستصحاب ليس البقاء الحقيقي، بل ولا بقاء ما أخذ في لسان الدليل، بل البقاء العرفي، ولا فرق في ذلك بين کون الوصف مأخوذاً في الشرط أو في الموضوع.

فتحصل ورود الإشكالين الأول والثاني على المقدمة الثانية، وعدم ورود الإشكالين الثالث والرابع.

المقدمة الثالثة

ذکرها المحقق النائيني(1)

لبيان دفع ما تخيل من توقف الخطاب الترتبي علی الواجب المعلّق والشرط المتأخر. فهي أيضاً لا ترتبط بالدليل.

المقدمة الرابعة

المقدمة الرابعة(2)

وهي أهم المقدمات، بل عليها يبتني أساس إمکان الترتب، وحاصلها: رفع التنافي بين الأمرين في مرحلة التأثير والداعوية الفعلية، فهي تتکفل منع اجتماع تأثير الأمرين الترتبيين في زمان واحد، بمعنی أنه بالترتب يمنع من فرض حصول التأثير الفعلي لهما في زمان واحد - وإن اجتمع الأمران في زمان واحد - .

وذلك لأن تأثير الأهم ينتهي عند حدّ، ثم يبدأ تأثير المهم، وذلك لخصوصية هي (العصيان) أو (مخالفة الأمر وعدم تأثيره).

بيانه: أن الأمر لا إطلاق له ولا تقييد بالنسبة إلی (عدم المؤثرية)، سواء

ص: 44


1- فوائد الأصول 1: 341.
2- فوائد الأصول 1: 348؛ وراجع منتقی الأصول 2: 413.

کان الإطلاق والتقييد في الموضوع - أي المکلّف - أو في المتعلّق، لأن (التقييد) هو بمعنی ترتب الحکم علی الخصوصية المأخوذة قيداً - في الموضوع أو في المتعلق - بحيث يكون ثبوت الحکم مرتبطاً بتحقق تلك الحصة المقيّدة، و(الإطلاق) هو نفي دخالة الخصوصيات، بمعنی ثبوت الحکم بثبوت أي فرد من الأفراد، لتعلق الحکم علی نفس الطبيعة الموجودة في ضمن أفرادها.

أما (مؤثرية الأمر) و(عدم مؤثّريته) فلا يعقل الإطلاق والتقييد فيهما، لا بلحاظ الموضوع، ولا بلحاظ الحکم، وذلك لأنهما من الأمور اللاحقة لتحقق الأمر، ففي الظرف الذي يفرض فيه وجود (المؤثرية) أو (عدم المؤثرية) لابد من فرض وجود الأمر قبلها، فهما فرع ثبوت الأمر.

وبعبارة أخری: الخطاب بنفسه مقتضٍ لوضع ذلك التقدير ورفعه، وهذا مختص بباب الطاعة والمعصية، ويستحيل الإطلاق والتقييد فيه، إذ وجوب الفعل لو کان مشروطاً بوجوده لزم طلب الحاصل، ولو کان مشروطاً بعدمه لزم طلب الجمع بين الضدين، فالخطاب هو المقتضي للبعث والزجر لا أنه مقيّد بهما.

وعليه: يظهر انحفاظ خطاب الأهم حال العصيان من جهة اقتضائه لرفع هذا التقدير، بخلاف خطاب المهم فإنه لا نظر له إلی وضع هذا التقدير ورفعه، حيث إن ذلك التقدير هو موضوع خطاب المهم، والحکم لا نظر له لموضوعه، فلا خطاب المهم يرتفع لمرتبة الأهم ليقتضي موضوع نفسه، ولا خطاب الأهم ينزل ويقتضي شيئاً غير رفع موضوع خطاب المهم، فالخطابان في مرتبتين طوليتين - وإن اتحدا زماناً - .

ص: 45

وبعبارة ثالثة - كما في المنتقى -: إن عصيان الأهم هو نهاية داعوية الأهم، حيث إن ظرف عصيان الأهم هو ظرف نهاية داعويته - حيث إن الأمر لا ينظر إلی عصيانه لا بالإطلاق ولا بالتقييد - کما أنه ظرف ابتداء داعوية المهم، فخطاب الأهم وإن کان موجوداً إلا أنه لا داعوية له.

والحاصل: إنه في حال العصيان لا يؤثر الأهم فلا فعلية له، بل الفعلية للمهم حيث إن موضوعه مقيّد بالعصيان!!

ويرد عليه: أولاً: إن استحالة التقييد قد يلزم منه استحالة الإطلاق، وذلك لو استحال ثبوت الحکم علی المقيّد، لأن المحذور إنما هو في شمول الحکم للحصة، فلا فرق بين شموله لها لوحدها أم شموله لها مع غيرها، وقد تکون الاستحالة في نفس التقييد فيكون الإطلاق ضرورياً، مثلاً يستحيل التقييد في الأحکام العقلية فلابد من الإطلاق حتماً.

وما نحن فيه من قبيل الثاني، إذ لا محذور في شمول الحکم لکلتا الحالتين - حالة العصيان والامتثال - بمعنی بقاء الحکم فيهما، بل المحذور إنّما هو في نفس تقييد الحکم بحالة العصيان لاستحالة أخذ المتأخر في الموضوع المتقدم.

کما أن الحکم يشترك بين العالم والجاهل، فيستحيل تخصيصه بحالة العلم للزوم الدور، وبحالة الجهل للزوم اللغوية، فلابد من عدم التقييد فيكون الحکم شاملاً لکلتا الحالتين.

وقد مرّ أن عدم التقييد إن لوحظ فيه المحل القابل فيكون الإطلاق والتقييد من العدم والملکة، فإذا استحال أحدهما استحال الآخر لعدم المحلّ القابل، وإن لوحظ عدم التقييد مطلقاً فيكون من السلب والإيجاب

ص: 46

فيكونان نقيضين، فارتفاع أحدهما يلازم ضرورة الآخر.

وثانياً: إن ما ذکره في المنتقی من انتهاء الداعوية حين العصيان محل تأمل، لأن الأمر بعد صدوره يدعو لنفسه، وهذا معنی الداعوية، وانتهاؤها حين العصيان مجرد دعوی من غير دليل، بل بقاء الأمر هو بمعنی الداعوية والباعثية لأنها مقتضی ذاته فيستحيل انفکاکها عنه.

وبعبارة أخری: إن عدم أخذ حالة العصيان، - وعدم المؤثرية - في متعلق الأمر لا يعني عدم داعوية الأمر، بل الداعوية هي حقيقة الأمر وذاتيّه، فالقول بتجرد الأمر عنها تناقض، وعليه فتکون مؤثرية الأهم مستمرة حتی في حال العصيان ويكون للأمر الفعلية والتنجز، فيحصل التهافت بينها وبين مؤثرية المهم.

وبتعبير آخر: عصيان العبد لا يقطع بعث المولی نحو المتعلّق، بل البعث مستمر مادام الأمر موجوداً، فإذا انتفی الأمر انتفی البعث، والمفروض في باب الترتب هو بقاء الأمر بالأهم، فتأمل.

المقدمة الخامسة
اشارة

المقدمة الخامسة(1)

لبيان عدم اجتماع الضدين في الأمرين الترتّبيين، وهنا مطلبان:

المطلب الأول

إن الحکمين قد لا يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر، مثل: (صلِّ وصم)، وقد يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر، وهذا علی خمسة أقسام فالرافع:

ص: 47


1- فوائد الأصول 1: 352؛ وراجع مباحث الأصول 3: 70-111.

1- قد يكون نفس جعل الحکم الأول، کما لو تعلق الزکاة بشيء فلا يتعلق به الخمس علی بعض المباني.

2- وقد يكون فعلية الحکم المجعول، مثل الحکم بحرمة ما وقع متعلقاً للشرط، فلو اشترط حيازة شيء - وهو مباح - في ضمن عقد لازم، ثم سبق إلی حيازته الغير، فالحکم بحرمة حيازة ملك الغير يرفع وجوب الوفاء بالشرط.

3- وقد يكون وصول المجعول، کارتفاع حرمة الإفتاء بغير علم حينما ينقلب جهله إلی علم.

4- وقد يكون تنجز الواصل، کما لو تنجزت عليه حرمة التصرف في أمواله، فيرتفع بذلك وجوب الزکاة، کما قيل.

5- وقد يكون امتثال المنجز، مثل ارتفاع وجوب الکفارة بامتثال الأمر بالصوم في شهر رمضان.

والترتب - إن قلنا بإمکانه - يكون من القسم الأخير، حيث إنّ المولی أوجب الصلاة علی تقدير عدم الإزالة، فامتثال وجوب الإزالة رافع لوجوب الصلاة لعدم تحقق موضوعه، وبعدم امتثال الأمر بالإزالة يتحقق موضوع وجوب الصلاة، مع عدم التعارض بين الأمرين...

أ) لا في مبادئ الحکم، إذ لا منافاة بين حب الشيء وحب ضده، مع کونه عاجزاً عن تحصيلهما معاً، کمن يحب أن يكون يوم عرفة في عرفات، ويحب أن يكون أيضاً في کربلاء.

ب) ولا في نفس الحکم، لأنه اعتبار، ولا تنافي بين الاعتبارات.

ج) ولا في اقتضاء الامتثال لو تزاحما، إذ لو تنجز وجوب الإزالة لم تجب الصلاة، ولو لم يتنجز وجوب الإزالة لم يكن هذا الوجوب داعياً

ص: 48

للامتثال.

وفيه تأمل: وذلك لأن الأمر بالإزالة باق علی تنجزه مادام موضوعه موجوداً، فإنّه لا وجه لسقوط التنجز بالعصيان مع بقاء الملاك ووجود الخطاب، بل هو تفکيك بين اللازم والملزوم، کما مرّ في الإشکال علی المقدمة الرابعة.

المطلب الثاني

إن المحذور في الأمر بالضدين هو طلب الجمع، حيث لا يقدر المکلّف علی امتثالهما، أما لو لم يكن طلباً للجمع، بل کان الجمع في الطلب، فلا محذور.

بيانه(1):

إن الخطاب الترتبي لا يقتضي إيجاب الجمع، فلا وجه لاستحالته، لأن الجمع هو اجتماع کل واحد منهما في زمن امتثال الآخر، بحيث يكون امتثالهما متقارناً، والذي يوجب المحذور: إمّا تقييد کل من المتعلقين أو أحدهما بحال فعل الآخر، وإمّا إطلاق کل من الخطابين لحال فعل الآخر.

لکن الخطاب الترتبي لا يقتضي إيجاب الجمع، بل يقتضي نقيضه، بحيث لا يكون الجمع مطلوباً لو فرض إمکانه، وإلاّ لزم المحال في المطلوب والطلب.

1- أما في المطلوب: فلأن مطلوبية المهم تکون في ظرف عصيان الأهم، حيث إنّها مقيدة بحال العصيان، فلو وقع علی صفة المطلوبية في حال امتثال

ص: 49


1- فوائد الأصول 1: 359-361؛ الترتب: 125؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 156.

الأهم - کما هو لازم إيجاب الجمع - لزم الجمع بين النقيضين.

2- وأما في الطلب: فلأن خطاب الأهم من عِلل عدم خطاب المهم، لاقتضائه رفع موضوعه، فلو اجتمعا - کما هو لازم إيجاب الجمع - لکان من اجتماع الشيء مع علة عدمه، وهو محال.

ويرد عليه: أولاً: إن تقييد خطاب المهم - مع إطلاقه في حدّ نفسه - إنّما هو بحکم العقل دفعاً لمحذور الأمر بما لا يطاق، فلا يوجد في الأدلة الشرعية التصريح بتقييد المهم بعصيان أو ترك الأهم، فإذا فرض إمکان صدورهما معاً عن المکلّف ارتفع المحذور، ولم يكن هناك سبب لتقييد المهم، بل کان الأمران عرضيين فعليين، فقوله: «بحيث لا يكون الجمع مطلوباً لو فرض إمکانه» محلّ نظر.

إن قلت: هذا لو أحرزنا ملاك المهم في عرض الأهم، لا في صورة ترتب ملاك المهم علی العصيان.

قلت: نفس إطلاق المهم کاشف إنّي عن ثبوت الملاك.

وثانياً: إن ما ذکر هو في الواقع دليل لبطلان الترتب لا لجوازه، وذلك لأنه يقال: لو کان هناك أمران علی نحو الترتب لزم الجمع بين المتعلقين، لکن التالي باطل فالمقدم مثله.

وذلك لأنا أثبتنا بقاء الأمر بالأهم وفعليته ومنجزيته حتی في حال عصيانه، فمع الأمر بالمهم حينئذٍ يكون طلب بالجمع، فتأمل.

الدليل الثاني

مما استدل به علی إمکان الترتب هو الوقوع، فإنه أدلّ دليل علی

ص: 50

الإمکان، وذلك لوضوح عدم تحقق المحال في الخارج، وقد مثّلوا لذلك بأمثلة في الشرعيات والعرفيات.

1- أما الشرعيات، فقد مثّل المحقق النائيني(1)

بأمثلة...

منها: ما لو فرض حرمة الإقامة علی المسافر من أول الفجر إلی الزوال، فلو عصی وأقام فلا إشکال في وجوب الصوم عليه، فقد توجّه عليه کلٌّ من حرمة الإقامة ووجوب الصوم ولکن مرتباً.

ومنها: عکس المثال، کما لو فرض وجوب الإقامة من أول الزوال، فيكون وجوب القصر عليه مترتباً علی عصيان وجوب الإقامة.

ومنها: وجوب الخمس المترتب علی عصيان خطاب أداء الدين - إذا لم يكن الدين من عام الربح - .

ويرد عليه: أولاً: إن ذلك إنّما يكون لو تمّ إحراز أنّ ما وقع هو مصداق للکبری التي يراد إثباتها، ولا يمکن الإحراز إلا بنفي جميع الاحتمالات الأخری، وحصر الأمر في ما يراد إثباته.

والأمثلة الشرعية المذکورة، وغيرها، يمکن کون الأمر إرشادياً إلی وجود المصلحة في متعلقه، وذلك(2)

لأن المصلحة أمر تکويني لا تزول بالعجز عن تحقيقها بسبب التضاد، کما أن محبوبية الشيء لا تستلزم مبغوضية الضدّ الخاص، والخطاب يكشف عن وجود الملاك من غير فرق بين الخطاب المولوي أو الإرشادي، حيث لا يصح الأمر فيهما إلا بملاك

ص: 51


1- فوائد الأصول 1: 357-359.
2- راجع الترتب: 130؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 163.

يقتضيه، والأمر وإن کان ظاهراً في المولوية إلا أنه لو کان هناك محذور عقلي لابدّ من صرفه إلی الإرشادية، کما في أوامر الطاعة.

إن قلت: قد مرّ عدم کفاية قصد الملاك في العبادية، بل لابدّ من وجود أمر؟

قلت: نعم لابدّ من وجود أمر، لکن يكفي الأمر الإرشادي لتصحيح العبادية.

إن قلت: إنه من استعمال اللفظ في أکثر من معنی، بأن نحمل الأمر علی المولوية إن لم يوجد تزاحم، وعلی الإرشادية في حال التزاحم؟

قلت: کلّا، المعنی واحد وهو الطلب، لکن مع اختلاف الداعي، فتأمل،

مضافاً إلی ما مرّ من عدم الإشکال في استعمال اللفظ في أکثر من معنی.

وثانياً: الإشکال علی الأمثلة صغروياً.

أما الأول: فإن وجوب الصوم لا يترتب علی الإقامة المحرّمة، بل يتوقف علی قصد الإقامة، وهذا القصد ليس بحرام، کما مرّ.

وأما الثاني: فکذلك، لأنّ وجوب القصر متوقف علی عدم قصد الإقامة، وهي ليست واجبة، وإنّما الواجب عدم الإقامة.

وأما الثالث: فبالإشکال في وجوب الخمس حينئذٍ.

2- أما العرفيات، فقد مثّلوا له بقول الوالد لولده: (إذهب إلی المدرسة)، فإذا عصی الولد قال له: (أکتب في الدار ولا تخرج منه)، وأمثال هذا کثير في العرفيات.

ويرد عليه: ما ورد علی الأمثلة الشرعية، بإمکان کونها إرشادية، فلا

ص: 52

تصلح استدلالاً علی وقوع الترتب.

ولا يصغی إلی ما يقال: بأن الوجدان شاهد علی عدم الفرق بين الأمر الأول والثاني حيث نراهما کليهما مولويين!! وذلك لأن عدم الفرق إنّما هو في رؤية المصلحة لکن مع إضافة المولوية في الأمر الأول، ويؤيده ما مرّ من عدم تعدد العقاب عند عرف العقلاء، فتأمل.

الدليل الثالث

مما استدل به علی جواز الترتب، ما قيل(1): من أن الأمر بالمهم علی تقدير ترك الأهم، مرجعه إلی الأمر بالجامع بين فعل الأهم وفعل المهم، ومن المعلوم أن الأمر بالأهم لا يضاد الأمر بالجامع، وإنّما التضاد بين الأهم تعييناً والمهم تعييناً، وذلك لأنّ الإرادة المشروطة ترجع في واقعها إلی الإرادة المطلقة للجامع بين فعل الأهم وفعل المهم، ومن المعلوم أن الأمر بالأهم لا يضادّ الأمر بالجامع، کما لو أمره بزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في ليلة الجمعة، وأمره بزيارة أحد الأئمة (علیهم السلام) في ليلة الجمعة، فلا تنافي بين الأمرين.

ويرد عليه: أولاً: إن الإرادة التعيينية إنّما هي بالأهم، فلو کان هو مصداق الجامع فلا إشکال، لکن لو صار المصداق فرداً آخر - وهو المهم - فيحصل التنافي.

وبعبارة أخری: إن المولی في حال العصيان يطلب منه المهم تعييناً، وهو يتنافي مع طلب الأهم تعييناً.

ص: 53


1- مباحث الأصول 3: 114.

وثانياً: ما مرّ من أنه مع بقاء طلب الأهم حين العصيان، لا يكون المکلّف قادراً شرعاً علی الإتيان بالمهم، وقد ذکرنا في ما مضی أن الجامع بين المقدور وغير المقدور لا يكون مقدوراً، لمّا مرّ من أن الکلي والأفراد کالآباء والأبناء، لا کالأب والأبناء.

وثالثاً: قد لا يمکن تصوّر جامع، فيما لو کان المطلوب في أحدهما وجودياً وفي الآخر عدمياً، فتأمل.

الدليل الرابع

ما قيل: من أن المحذور في الأمر بالضدين إما في الحکم، أو في مبدأه، أو في منتهاه، وکل المحاذير منتفية في الأمر الترتبي.

1- أما في نفس الحکم: فلما مرّ من أنه إنشاء واعتبار، ولا تضاد بين الإنشاءات والاعتبارات في حدّ نفسها، بل التضاد فيها يكون بالعرض باعتبار المبدأ أو المنتهی.

2- وأما في المنتهی: فلأن المحذور إنّما يتولّد في صورة استلزام أمر المولی لتحيّر المکلّف حتی في صورة الانقياد، کالأمر بالضدين، أما الأمران الترتبيّان فلا يوجبان وقوع المکلف في التحير، لإمکانه الانقياد عبر الإتيان بالأهم، فينتفي موضوع المهم.

3- وأما في المبدأ، وهو الإرادة ومقدماتها...

أ) فإن التکليف کما يصدر بداعي التحريك والانبعاث، کذلك قد يصدر بدواعي أخری، کالاختبار وإتمام الحجة.

ب) وکما تجب إطاعة المولی فيما کان الداعي هو التحريك والانبعاث، کذلك تجب الإطاعة في الأوامر الأخری التي تصدر بدواعي أخری.

ص: 54

ج) وما يعلم المولی عدم ترتبه علی الشيء لا يعقل أن يكون غرضاً منه، فإذا علم المولی عدم انبعاث العبد لا يعقل أن يكون غرضه من أمره هو انبعاثه وتحريكه.

د) والمستحيل إنّما هو تعلّق إرادتين بغرض التحريك بأمرين متضادين، وذلك لعدم إمکان ترتب أحدهما عليه، ولا استحالة فيما لو کانت إحدی الإرادتين بداعي التحريك، والأخری بداعي الاختبار وإتمام الحجة.

وعليه: فإن الأمر بالأهم - بالنسبة إلی من يعلم المولی عصيانه - لا يكون بداعي التحريك والانبعاث، ولکن مع ذلك تجب إطاعته، وأما الأمر بالمهم فيكون بداعي التحريك لمن يمتثله وبداع آخر لمن لا يمتثله، فتحصل: أنه لا محذور في اجتماع هکذا إرادتين.

وفيه تأمل: أولاً: فإن المحذور في المنتهی لا ينحصر بتحيّر العبد، بل هناك محذور آخر هو عدم قدرة المکلّف شرعاً علی امتثال المهم، کما مرّ تفصيله.

وثانياً: النقض بالأمر بالضدين بداعيين أحدهما البعث والآخر الامتحان، وهذا واضح البطلان، حتی مع قطع النظر عن الإشکال في المنتهی من تحيّر المکلّف وعدم قدرته، فتأمل.

وثالثاً: لو علم بعصيان العبد لکلا الأمرين - الأهم والمهم - فإن الداعي علی الأمرين هو واحد لا متعدد، فلابد من القول باستحالته، فيكون تفصيلاً في إمکان الترتب.

ورابعاً: عدم جريان هذا الوجه في الأوامر العرفية حيث لا يعلم المولی - عادة - بحالة العبد من جهة الامتثال وعدمه، بل قد يحتمل عدم امتثاله

ص: 55

للأهم، وعليه فيكون کلا الأمرين بداعي التحريك.

هذا تمام الکلام في أدلة إمکان الترتب، وقد تبين عدم نهوضها لذلك، مع قيام الدليل علی عدم إمکانه، فالأقوی هو استحالة الترتب مطلقاً.

المبحث الرابع: ما يُناط به الأمر بالمهم

اشارة

وقد جلعه بعضهم دليلاً علی استحالة الترتب، وذلك لا يخلو من احتمالات خمسة: أن يناط بنفس عصيان الأهم بنحو الشرط المقارن، أو المتقدم، أو المتأخر، أو علی العزم علی العصيان، أو بکون المکلّف ممن يصدر منه العصيان في المستقبل.

الاحتمال الأول: الإناطة بالعصيان بنحو الشرط المقارن

وقد قيل باستحالة ذلك، لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: ما عن المحقق الخراساني، وحاصله: لزوم تقدم البعث علی الانبعاث، ضرورة أن البعث إنّما يكون لإيجاد الداعي في المکلّف، ولا يحصل الداعي فيه إلا بعد تصوره، وتصور أمور أخری کالثواب والعقاب، ولا يمکن هذا إلا بعد زمان البعث، وقد مرّ تفصيله.

فلو کان عصيان الأهم مأخوذاً في الأمر بالمهم على نحو الشرط المقارن، مع تزامن عصيان الأهم وطاعة المهم، للزم تقارن البعث والانبعاث.

مثلاً: من ترك الإزالة باشتغاله بالصلاة، فإن الابتداء بالصلاة هو عصيان للأمر بالإزالة فيتحقق شرط الأمر بالصلاة، فيكون ذلك الأمر متقارن مع نفس الصلاة، فلزم تقارن البعث والانبعاث، وهو غير معقول!!

ص: 56

وأورد عليه: أولاً: بعدم معقولية انفکاك البعث والانبعاث، إذ هما متضايفان، فهما متکافئان في القوة والفعل، فتأخر الانبعاث عن البعث غير معقول.

إن قلت: البعث التشريعي قد ينفك عن الانبعاث في العُصاة، وکذا ما ذکر من أن إيجاد الداعي لا يكون إلا بعد الأمر؟

قلت: البعث التشريعي هو جعل ما يمکن أن يكون داعياً، فمضايفه هو الانبعاث إمکاناً.

إن قلت: قد ينقض هذا بالواجب المنجّز، قبل حصول مقدماته الوجودية، کالصلاة والوضوء، مع عدم إمکان الانبعاث نحو ذي المقدمة إلا بعد وجود مقدماته؟

قلت: تحصيل المقدمات في المنجز ممکن، وهذا يكفي في إمکان ذي المقدمة، بخلاف البعث إلی الشيء قبل حضور وقته، فإن الفعل المتقيّد بالزمان المتأخر يستحيل فعله في الزمان المتقدّم.

وثانياً: ما عن المحقق النائيني(1)

من أنه لو فرض علم المکلف قبل الوقت بتوجه الخطاب إليه في وقته، لکفی ذلك في إمکان تحقق الامتثال من غير حاجة إلی تقدم البعث علی الانبعاث، بل وجود الخطاب قبل الوقت لغو، وذلك لأن المحرّك هو الخطاب المقارن لصدور متعلّقه، لا الخطاب المفروض وجوده قبله، وبتعبير آخر: يلزم تقدم العلم بالخطاب لا نفس الخطاب!

ص: 57


1- راجع فوائد الأصول 1: 344-345.

وحيث إن الغرض هو تصحيح وجود الأمر حين الاشتغال بالمهم، فيكفي هذا الجواب في إمکان تقارن العصيان مع الأمر، فتقع الصلاة مثلاً من أولها مأموراً بها، فلا تصل النوبة إلی الجواب بعدم اللغوية في فعلية المجعول قبل حلول وقت إمکان الامتثال، إذ يكفي في دفع اللغوية محرکيته نحو المقدمات المفوتة ونحوها.

هذا مضافاً إلی إمکان تصحيح الجزء الأول من الصلاة - في المثال - بالملاك لو قلنا بکفايته في العبادات.

اللهم إلا أن يقال بأن هذا خروج عن هذا الاحتمال الأول إلی الاحتمال الثاني - وهو الشرط المتقدم - .

الوجه الثاني: إن العصيان هو ترك المأمور به في مقدار من الوقت يتعذر عليه الإتيان به فيما بعد في ذلك الوقت، ففوت الأهم - الذي يُحقِّق شرط المهم - لا يتحقق إلا بمضيّ زمان بحيث لا يتمکن المکلّف من إطاعة أمره في ذلك الزمان، وفي هذا الزمان کما يفوت الأهم کذلك لا يمکن الإتيان بالمهم فيه، لأن الأمر بالمهم لا يوجد إلا بعصيان الأهم، ففي الآن الأول لا عصيان فلا أمر بالمهم، فيكون الإتيان بالمتعلق من غير أمر.

ويرد عليه: أولاً: إن العصيان ممتد بامتداد الأمر، وهو شيء واحد واقع في زمان ممتد، لا أنه عصيانات متعددة، وعليه فمع مضي الزمان الأول يتحقق العصيان، فيصدر الخطاب بالمهم مع بقاء نفس العصيان، فکان مقارناً، فتأمل.

وثانياً: إن ما يتوقف علی انقضاء الأمد هو العلم بالعصيان، وأما نفس العصيان فهو لا يحتاج إلی مضي زمان بل يتحقق منذ الآن الأول الذي فيه

ص: 58

يصدر خطاب المهم، وبعبارة أخری: انتزاع العصيان هو الذي يتوقف علی انقضاء الآن الأول، لا نفس العصيان، وذلك لأن العصيان هو عدم الإتيان بالمأمور به وهذا يتحقق منذ اللحظة الأولی.

الوجه الثالث: إن عصيان الأمر بالأهم علة لسقوطه، فلا ثبوت للأمر بالأهم في ظرف العصيان، وذلك لتقارن زمان العلة والمعلول، وعليه فلا يجتمع الأمر بالأهم مع الأمر بالمهم في ذلك الآن، فينتفي الترتب، لاشتراطه بتقارن الأمرين الفعليين في زمان واحد.

وأورد عليه: بأن العصيان ليس علة لسقوط التکليف، إلا إذا فات الموضوع، وذلك لأن سبب الأمر هو الغرض، وذلك الغرض مستمر في ظرف العصيان إذا لم يفت الموضوع.

الاحتمال الثاني: الإناطة بالعصيان على نحو الشرط المتقدّم

وقد قيل بعدم صحته لأنّه خروج عن موضوع الترتب، وإن لم تکن هناك استحالة، حيث يمکن طلب أحد الضدين بعد سقوط طلب الآخر، کالأمر بالتيمم بعد سقوط الأمر بالوضوء.

وذلك لاشتراط تزامن الأمرين الفعليين في الترتب، ومع تحقق العصيان وانتهاء أمده - کما هو المفروض في الشرط المتقدّم - ، فلا تتزامن فيه الفعليتان، فلا يكون من الترتب.

وبيان ذلك کما في کتاب الترتب(1): أن امتداد العصيان مطابق لامتداد الأمر، فإذا کان الأمر بالمهم متأخراً عن العصيان فلا يخلو ظرفه من أحد

ص: 59


1- الترتب: 165؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 208-209.

ثلاثة:

1- ففي ظرف العصيان لا وجود للأمر بالمهم، لفرض أن العصيان شرط متقدم.

2- وقبل العصيان لا وجود له أيضاً، لاستلزامه سبق المشروط علی شرطه السابق عليه.

3- وبعد العصيان لا وجود للأمر بالأهم، لأن معنی (بعد العصيان) هو عدم وجود الأمر، إذ مع بقاء الأمر يبقی العصيان، فلا يزول العصيان إلا بانتفاء الأمر.

الاحتمال الثالث: إناطته بالعصيان على نحو الشرط المتأخر

بأن يكون الأمر بالمهم متقدماً علی عصيان الأمر بالأهم.

وأشکل عليه باستلزامه لمحالين:

الأول: استلزامه للشرط المتأخر، وذلك لإناطة الوجوب المتقدم بالعصيان المتأخر.

والثاني: استلزامه للواجب المعلّق، وذلك بلحاظ سبق زمان وجوب المهم علی زمان امتثال المهم.

بيانه(1):

إن (عصيان الأهم) متأخر عن (وجوب المهم)، لأن الفرض کونه شرطاً متأخراً، فيكون زمان امتثال الأهم متأخراً، إذ لا يعقل انفکاك زمان الامتثال عن العصيان، إذ القدرة تتعلق بالطرفين لا بطرف واحد، وإلاّ لکان ضرورة أو امتناع، وعليه: فإذا کان زمان امتثال الأهم متأخراً کان زمان

ص: 60


1- الترتب: 166؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 210.

امتثال المهم متأخراً أيضاً، للزوم تعاصر زمان الأهم والمهم في الترتب.

ويرد عليه: مبنیً بإمکان الشرط المتأخر والواجب المعلّق، وأما بناءً فلا يرد عليه إشکال مع الالتزام بالمبنی.

إن قلت: يمکن فرض الشرط المتأخر مع عدم استلزامه للواجب المعلّق، کما لو فرض تزاحم واجبين في زمانين مع عدم قدرة المکلف في الجمع بينهما، کوجوب القيام في النافلة المنذورة وفي صلاة الفريضة، مع کون المهم أسبق زماناً، فيأمر المولی بالقيام في النافلة المنذورة معلقاً علی عصيان الأمر بالقيام في الفريضة - الذي هو أهم - في الزمان اللاحق، فهنا اتحد زمان الوجوب والواجب فلم يكن من الواجب المعلّق في شيء، وقد مرّ تفصيل المثال في شرائط تحقق الموضوع.

قلت: هنا وإن انحلّ التعليق في جانب المهم لکن يبقی الواجب المعلّق في جانب الأهم، فالأمر بالقيام في الفريضة المتأخرة فعلي - لفرض لزوم تعاصر التکليفين الفعليين - مع کون زمانه لاحقاً، فتأمل.

الاحتمال الرابع: إناطته على العزم بالعصيان، أو عدم العزم على الامتثال

وقد أشکل عليه بإشکالين:

الإشکال الأول: ما ذکره المحقق الإصفهاني(1)،

بأنه يلزم منه إما الواجب المعلّق لانفکاك زمان الوجوب عن زمان الواجب، وإما الشرط المتقدم، وإما کلاهما.

بيانه: أن الأمر بالمهم لا يخلو من فروض ثلاثة:

ص: 61


1- نهاية الدراية 2: 217.

1- إن کان في زمن العزم علی العصيان - وهو متقدم علی العصيان - للزم الواجب المعلّق، حيث إن زمان المهم إنّما هو في زمان العصيان الذي هو متأخر عن زمان العزم علی العصيان.

2- وإن کان في زمن العصيان نفسه - وهو متأخر عن العزم علی العصيان - للزم الشرط المتقدم.

3- وإن کان في الزمان المتوسط بين العصيان والعزم عليه، للزم کلا الأمرين.

ويرد عليه: عدم انحصار الفروض في الثلاثة، وذلك لإمکان أن يكون الشرط مقارناً ومن غير تعليق، وذلك بتقارن الشرط والوجوب والواجب زماناً، بأن يأخذ العزم شرطاً إذا قارن زمان الوجوب والواجب، وحيث إن البحث ثبوتي فيكفي هذا الاحتمال الممکن لإبطال الاستحالة، فضلاً عن الإشکال المبنائي بإمکان کل من الشرط المتقدم والواجب المعلّق.

الإشکال الثاني: ما عن المحقق النائيني(1):

من أن عِلة إمکان الترتب - کما مرَّت في المقدمة الرابعة والخامسة من دليله - تقتضي أن يكون الشرط هو العصيان لا العزم عليه، وهي أن يكون الأمر بالأهم يقتضي هدم شرط الأمر بالمهم، واقتضاؤه إنّما هو هدم موضوع الأمر بالمهم، ولا تعرض له بصورة عدم الهدم بالعصيان، کما أن الأمر بالمهم لا يقتضي وضع موضوعه، لأن الحکم لا يتعرض لموضوعه، فلا يكون طلباً للجمع بين الضدين فلم تحصل منافاة بين الأمرين.

ص: 62


1- أجود التقريرات 1: 85.

وعليه: فإن الأمر بالأهم يقتضي بذاته هدم عصيان الأهم، لا هدم العزم علی العصيان.

وأورد عليه: أولاً(1): بأن اقتضاء شيء لشيء يساوق لاقتضائه علته، کما أن اقتضائه لطرده يساوق لاقتضائه طرد علته، وفي الأوامر إرادة إيجاد المتعلق للأمر تقتضي إيجاد علته، وإرادة رفعه تقتضي رفع علته، وإرادة دفعه تقتضي الحيلولة دون وجود علته، وما نحن فيه من الأخير، فإن الأمر بالأهم يقتضي دفع العصيان فيقتضي دفع العزم عليه باعتبار جزء علته.

وثانياً: ما قيل: من أن الذي يقتضي الأمر هدمه أولاً وبالذات ليس هو العصيان وترك الأهم، بل إنّما هو العزم عليه وعدم العزم علی الامتثال، لأن التکليف إنّما يجعل من أجل أن يكون داعياً في نفس العبد، فمقتضاه الأوَّلي إيجاد الداعي والعزم، فهو يهدم العزم علی العصيان وعدم العزم علی الامتثال.

وفيه: عدم جريانه في التوصليات، مضافاً إلی أن الوجدان شاهد بأن ما يجعل التکليف لأجله هو (الفعل بشرط العزم)، ومعنی ذلك إرادة الحصة من الفعل لا طبيعي الفعل، فتأمل.

الاحتمال الخامس: الإناطة باتصاف المكلف بلحوق العصيان

بأن يناط الأمر بالمهم بکون المکلّف ممن سيصدر عنه العصيان في المستقبل، فشرط الأمر بالأهم هو اتصاف المکلّف بأنه سيعصي.

وأشکل عليه: أولاً: بأن اللاحق والملحوق متضايفان، فلابد من

ص: 63


1- الترتب: 172؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 218.

تکافئهما قوة وفعلاً، فکيف يمکن أن يكون الملحوق - وهو المکلف الذي سيعصي - بالفعل، مع کون اللاحق - وهو نفس العصيان - بالقوة؟

وفيه(1): أن غير المتکافئين ليسا بمتضايفين، وما هما متضايفان متکافئان.

بيانه: أنه لا تضايف بين ذات اللاحق والملحوق، ولذا يمکن تصور أحدهما من غير تصور الآخر، مع أن المتضايفين متلازمان تحققاً وتعقلاً، نعم يوجد تضايف بين اللاحق بما هو لاحق، والملحوق بما هو ملحوق، وهما متکافئان في التحقق حيث إنهما وجودان ذهنيان يتحققان معاً ويستحيل تصور أحدهما من غير تصور الآخر، فتأمل.

وثانياً: ما في نهاية الدراية(2)

من استحالة هذا الاحتمال من جهة إناطة الوجوب بالشرط المتأخر، فإن کون المکلف ممن يعصي ليس من أکوان المکلف المنتزعة عنه بلحاظ العصيان المتأخر، بل إخبار بتحقق العصيان منه في المستقبل، فلا کون ثبوتي بالفعل ليكون شرطاً مقارناً للوجوب.

وفيه(3): أنه لا يشترط وجود صفة عينية في صدق العنوان الانتزاعي علی المنتزع منه واتصافه به حقيقة، بل يكفي في الصدق کونه لو عُقل عُقل معه ذلك العنوان، کما في ذاتي باب الکليات حيث ينتزع الجنس والفصل مثلاً من الوجود مع عدم کونهما صفة عينية فيه، وکما في ذاتي باب البرهان - وهو ما لم يكن مقوماً للذات ولکن کان لحاظه بنفسه کافياً في انتزاع ذلك العنوان

ص: 64


1- الترتب: 176؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 222.
2- نهاية الدراية 2: 215.
3- الترتب: 177؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 223.

دون توقف ذلك علی لحاظ شيء آخر - کانتزاع الزوجية من الأربعة، وکما فيما لم يكن ذاتياً لکن توقف انتزاعه علی لحاظ أمر خارج عنه، کانتزاع عنوان الأب والإبن.

وما نحن فيه من قبيل الثالث، فإن تصور الذات مع لحاظ وصف تلبسها بالمبدأ في المستقبل کاف في انتزاع عنوان (الملحوق بالعصيان) وصدقه عليه من الآن حقيقة، فيكون شرطاً مقارناً لا متأخراً.

وثالثاً: لزوم الخلف، حيث إن المکلّف مع کونه ممن يعصي يجوز له ترك المهم إلی فعل الأهم، وذلك لإطلاق وجوب الأهم، مع أنه لا يجوز ترك الواجب التعييني، وعلی جواز الترتب يجب المهم تعييناً مع تحقق شرطه.

وفيه: أن الوجوب التخييري إنّما يكون مع بقاء الموضوع، کخصال الکفارة، وليس من الواجب التخييري جواز ترك الواجب إلی غيره بهدم موضوعه، کالحاضر الذي يجوز له ترك التمام بالسفر، وفيما نحن فيه ترك المهم إلى فعل الأهم هو من تبديل الموضوع، فتأمل.

ص: 65

فصل هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

وهنا أمور:

الأول: قيل: المراد بالجواز الإمکان الوقوعي، أما الذاتي فلا إشکال في إمکانه لعدم امتناع الإنشاء في نفسه.

وأورد عليه: بعدم الفرق بينهما إلا بالاصطلاح، وذلك لأنه لا فرق في الاستحالة بين کون الشيء محالاً في نفسه کاجتماع النقيضين، أو کونه مستلزماً للمحال کالأمر بالضدين، وذلك لاستحالة کليهما بعد عدم إمکان انفکاك اللازم عن الملزوم في المحال الوقوعي.

الثاني: المراد بالأمر هو الأمر الحقيقي الذي هو بعث نحو الشيء، أما الأمر الصوري فلا إشکال فيه حتی مع العلم بانتفاء شرطه، لعدم کونه بعثاً حقيقة، وقد مثّلوا له بالأوامر الامتحانية.

وفيه تأمل: لأنها علی أقسام:

فمنها: ما کان بعثاً حقيقة نحو المراد لأجل الاختبار، کمن يأمر عبده بالطبخ، ليری کيفية طبخه، ليأمره بعد ذلك للطبخ للضيوف، فهنا بعث حقيقي بداعي الامتحان، وفي هذا القسم يجب علی العبد الامتثال حتی لو علم بأن الأمر امتحاني، بل قد يصرّح المولى بكونه امتحانياً، مع لزوم امتثاله قطعاً.

ومنها: ما کان بغرض اختبار إطاعة العبد عن عصيانه، مع عدم تعلّق غرض

ص: 66

أصلاً بالمتعلّق، فهنا أيضاً بعث حقيقي ويجب علی العبد الامتثال أيضاً.

ومنها: ما کان صورة أمر من غير أن يكون بعثاً حقيقياً، فهذا ليس امتحاناً، وإدراجه في الامتحان مجاز، ولا يجب امتثاله لعدم کونه بعثاً أصلاً.

ولا يخفی أن المراد من البعث الحقيقي: هو إمکان کونه باعثاً، فيكون مضايفه إمکان الانبعاث، فيدخل فيه الأوامر التعذيرية لإتمام الحجة، فإنها أوامر حقيقية مع عدم کونها بعثاً حقيقياً، للعلم بعدم انبعاث العبد، ومنه أمر الکفار بالفروع مع العلم بعدم امتثالهم.

الثالث: الشرط هنا يراد به شرط المجعول، لا شرط الجعل، وإلا فإنه من الواضح استحالة الشيء بانتفاء شرطه، إذ الشرط جزء من العلة، وانتفاء المعلول بانتفاء العلة أمر بديهي، فيكون رجوع الضمير إلی الأمر من باب الاستخدام، فالأمر يراد به الإنشاء والضمير يراد به الفعلية، فکان الأمر في مرتبتين.

إن قلت: إن الإنشاء مع العلم بعدم تحقق شرط المجعول يستحيل أن يكون بداعي البعث، للعلم بعدم الانبعاث، وأما بداعي الامتحان فخارج عن العنوان، والأمر من غير داع لغو أو محال؟

قلت: لا تنحصر الدواعي في البعث أو الامتحان، بل قد يكون الغرض في المقدمات، مضافاً إلی أن إخراج داعي الامتحان عن العنوان لا وجه له، فتأمل.

الرابع: قد يقال: إن ثمرة هذا البحث هو جواز النسخ قبل العمل أو قبل حلول وقت العمل، فلا يحتاج إلی تأويل ما ورد من نسخ بعض الأحکام قبل العمل بها، کالأمر بذبح إسماعيل.

أو يقال: بأنه تصحيح لشمول التکليف للکفار والعصاة ونحوهم ممن کان يعلم الشارع بعدم امتثالهم أصلاً.

ص: 67

فصل في تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد

ولا يخفی أن المسألة أعم من الأمر والنهي، بل والإنشاءات الأخری، فهنا أمور:

الأمر الأول: تظهر ثمرة هذا البحث في مسألة الاجتماع، فلو قلنا بتعلقها بالأفراد، فتکون الخصوصيات الفردية داخلة في متعلق الأمر، فلا يعقل تعلق النهي بها، لأنه من طلب الضدين، وأما لو قلنا بتعلقها بالطبائع فقد يقال: بإمكان الاجتماع، لأنهما تعلقا بطبيعتين، فيكون کالنظر إلی الأجنبية في الصلاة، حيث يحرم نظره وتجب صلاته.

الأمر الثاني: قد يتوهم أن المقولة المعروفة (الماهية بما هي ليست إلا هي، لا موجودة ولا معدومة، ولا مطلوبة ولا غير مطلوبة... ولا متصفة بأية صفة أخری)، تدل علی عدم إمکان تعلق الأمر بالطبيعة!!

وفيه: أن المراد هو أنها في مرتبة ذاتها غير موصوفة بشيء إلا بجنسها وفصلها - حيث تترکب منهما - وهذا لا ينافي عروض الأوصاف المختلفة عليها في مرتبة ما بعد ذاتها، فقولهم: (بما هي) إنّما هو لتحديد المعروض، فإنه لو کان الوجود ذاتي لها استحال عليها العدم وکانت واجب الوجود، وإن کان العدم ذاتي لها کانت ممتنع الوجود بالذات.

إن قلت: قولهم (لا موجودة ولا معدومة) يستلزم ارتفاع النقيضين وهو

ص: 68

محال.

قلت: الاستحالة في الخارج لا في وعاء لحاظ ذات الماهية، وفي الذهن لها وجود ذهني، لکن له إشارة إلی ذلك المفهوم القابل للوجود وللعدم في الخارج.

والحاصل: إن الممتنع هو إدخال شيء من العوارض في ذات الماهية فيستحيل عليها غير ذلك، أما عروض شيء عليها من غير إدخاله في حقيقتها فلا شك في إمکانه.

الأمر الثالث: في الفرق بين الطبيعة والفرد، فمن جهة: لا شك في أن الأفراد متباينة، ولذا لا يصح حمل بعضها علی بعض، ومن جهة أخری: نری جهة مشترکة بينها بحيث يصح انتزاع ماهية واحدة منها، وهذه الجهة المشترکة ذاتية لا عرضية - فيخرج مثل الجامع العنواني الذي مرّ تفصيله في المعنی الحرفي - ، وبذلك يتبين أن الجهة المشترکة الذاتية هي الطبيعة، والخصوصيات المتباينة العارضة علی تلك الطبيعة هي التي يتشکّل منها الأفراد.

إن قلت: الطبيعة أمر ذهني، فکيف تکون معروضاً للخصوصيات الفردية التي تتعلق بالوجود الخارجي؟ وهل يعقل أن يكون العارض والمعروض في عالمين؟ وکيف يقال بالنسبة إلی مثل عروض الإمکان علی الممکن، إذا کان الممکن من الوجودات الخارجية مع أن الإمکان أمر ذهني، إذ لو کان خارجياً لزم التسلسل؟

قلت(1): إن الطبيعة تلاحظ بما هي مرآة للخارج، فالعارض والمعروض

ص: 69


1- نهاية الأفکار 1: 380.

کلاهما ذهني، لکن الموجود الخارجي يكون معروضاً بالعرض حيث إن تلك الصور لوحظت فانية في الخارج، فتأمل.

الأمر الرابع: لا إشکال ثبوتاً في کل من تعلق الأمر بالطبيعة وبالفرد.

وقد أشكل علی تعلق الأمر بالأفراد بإشكالين:

الإشكال الأول: بأنه لا يكون الفرد فرداً إلا بعد وجوده، فإن الشيء ما لم يوجد لم يتشخص، وحينئذٍ لا يعقل تعلق الأمر به، لأنه من طلب الحاصل.

وفيه: أن المراد هو إيجاد الفرد في الخارج، أي يكون الأمر بعثاً نحو الفرد الخارجي الذي ليس بموجود حين الأمر، ويكون الغرض من الأمر إيجاد الداعي في العبد لإيجاده.

إن قلت: الإيجاد والوجود شيء واحد حقيقة، وفرقهما بالاعتبار، فإن لوحظ بالنسبة إلی الفاعل کان إيجاداً، وإن لوحظ بالنسبة إلی القابل کان وجوداً، ککل فعل وانفعال، وعليه: فإذا استحال کون متعلق الأمر الوجود فيستحيل کونه الإيجاد!!

قلت: المقصود هو أن متعلق الغرض هو ما سيوجد لاحقاً بإيجاد المکلف له، فلا انفکاك بين الوجود والإيجاد، نعم هو حين الأمر غير موجود خارجاً، لکن المولی يلاحظه فيكون ما في ذهنه مرآة لما في الخارج، وبهذا البيان لا محذور في تعلق الأمر بالفرد.

وبعبارة أخری: إن المولی يتصور الشيء فيشتاق إليه، وحيث إنه غير موجود فيبعث العبد عبر الأمر لإيجاده خارجاً، وفي مولی الموالي يعلم

ص: 70

بالمصلحة في الشيء الذي ليس بموجود، فيبعث إليه لإيجاده لتتحقق تلك المصلحة.

الإشکال الثاني: بأن الأفراد غير متناهية، فيستحيل تعلق الطلب بکلّها علی سبيل البدل.

وفيه: أن الخصوصيات الفردية وإن کانت کثيرة جداً لکنها متناهية، مضافاً إلی عدم تناهي الباري جلّ وعلا فلا محذور في عدم تناهي الطلب، هذا فضلاً عن أن الطلب واحد وإنّما المتعلّق غير متناهي فرضاً، فلا محذور في صدور هکذا طلب من الإنسان أيضاً.

أما في مرحلة الإثبات:

فالصحيح هو تعلق الأمر بالطبائع لا الأفراد، وذلك لعدم تعلّق غرض المولی بالخصوصيات الفردية، فإنه لو فرض إمکان تجرد فعل المکلف عن کل الخصوصيات الفردية لکان غرضه يتحقق من دونها، نعم في الخارج تتلازم الطبيعة مع الخصوصيات، لکن مجرد التلازم أو الملازمة لا يكون سبباً لسراية حکم أحد المتلازمين أو اللازم والملزوم إلی الآخر، کما مرّ في بحث المقدمة.

الأمر الخامس: في منشأ هذا البحث.

1- قيل: إن هذا البحث يرتبط ببحث وجود الطبيعي في الخارج أو عدم وجوده، فعلی الأول يكون تعلق الحکم بالطبيعي ممکناً، وعلی الثاني لا يمکن تعلق الحکم به لأنه تکليف بغير المقدور.

وأشکل عليه: بأن البحث معقول علی کلا القولين، لأن القائلين بعدم

ص: 71

وجوده في الخارج يقصدون عدم وجوده بالذات، أما وجوده بالعرض فلا ينکرونه، بل هو ثابت علی کل حال، ولذا صح الحمل في قولنا: (زيد إنسان).

2- وقيل: إنه يرتبط بالخلاف في أن (الشيء ما لم يتشخص لم يوجد)، أو أن (الشيء ما لم يوجد لم يتشخّص)، بمعنی أن معروض الوجود هل هو الماهية الشخصية أو ذات الماهية، فعلی الأول يكون الحکم متعلقاً بالفرد، وعلی الثاني يتعلق بالطبيعة، وذلك لأن الإرادة التشريعية في کيفيتها تابعة للإرادة التکوينية.

وأورد عليه: بعدم ثبوت کون متعلق الإرادة التشريعية کالتکوينية، فيمکن علی الأول أيضاً تعلّق الحکم بالطبيعة بعدم ملاحظة مشخصاتها.

3- وقيل: إن النزاع لأجل تحديد أن الواجبات الشرعية - التي يجب فرد منها علی سبيل البدل - هل وجوبها علی نحو التخيير العقلي أم الشرعي؟ فعلی القول بکون المتعلق هو الطبيعة يكون التخيير عقلياً، إذ هناك حکم واحد متعلق بالطبيعة التي نسبتها إلی الأفراد سواء، فالترديد بينها عقلي، وعلی القول بکون المتعلّق الأفراد تکون هنالك أحکام متعددة بعدد الأفراد علی سبيل البدل، وهذا هو التخيير الشرعي.

وأشکل عليه(1): بأن الأمر يرتبط بماهية التخيير الشرعي، فإن قيل: بأنه تعلق الحکم بکل فرد وبکل خصوصية بنفسها - بمعنی أن کل خصوصية لوحظت بنفسها وأخذت في متعلّق الوجوب التخييري - ، فحينئذٍ يرجع

ص: 72


1- منتقی الأصول 2: 478.

التخيير الشرعي إلی العقلي، وذلك لعدم ملاحظة کل فرد بخصوصيته المباينة لخصوصية الآخر، بل يلتزمون بملاحظة الجهة الجامعة والمشترکة بين الأفراد بما هي أفراد، وأما لو قيل: بأن مرجع التخيير الشرعي إلی تعلّق الحکم بعنوان انتزاعي ينطبق علی کلتا الخصوصيتين، مثل عنوان (أحدهما)، فيكون الجامع انتزاعي عنواني، عکس التخيير العقلي الذي يكون الجامع حقيقياً، فحينئذٍ يصحّ ما ذکره، إذ بناءً علی کون المتعلّق هو الفرد يكون الجامع عنوانياً - وهو الفرد - فيكون التخيير شرعياً، وأما بناءً علی کون المتعلّق الطبيعة يكون الجامع حقيقياً فيكون التخيير عقلياً.

وسيأتي مزيد بيان في بحث الواجب التخييري.

ص: 73

فصل في نسخ الوجوب

اشارة

لو نسخ الوجوب فهل يبقی الجواز - بمعناه الأعم - أو الاستحباب؟

والکلام في مرحلتي الدلالة اللفظية والأصل العملي:

المرحلة الأولى: في دلالة اللفظ

والظاهر أنه لا دلالة، لا من الدليل الناسخ، ولا من الدليل المنسوخ.

أما الدليل الناسخ: فدلالته تنحصر في رفع ما تضمنه الدليل المنسوخ من الحکم، ولا نظر له إلی إثبات حکم آخر أصلاً.

وأما الدليل المنسوخ: فکذلك لا دلالة له علی حکم من الأحکام، لا بالدلالة الالتزامية لما مرّ في أنها تسقط بسقوط الدلالة المطابقية، ولا بالدلالة المطابقية، كأن يقال: إن الأمر يدل علی طلب الفعل مع المنع عن الترك، والدليل الناسخ إنّما رفع المنع، ولم يرفع الطلب.

وعدم الدلالة لجهتين:

الأولی: عدم ترکب الأحکام، بل هي أمور بسيطة، کما مرّ تفصيله.

والثانية: عدم إمکان بقاء الجنس من غير فصل، فلو فرض ترکب الوجوب فإن الطلب جنس يشمل الوجوب والاستحباب، وفصل الوجوب هو المنع من الترك، فلو زال الفصل زال الجنس معه، إلا لو دلّ الدليل علی حدوث فصل جديد، بل لو حدث فصل جديد فلابد من جنس جديد، لما

ص: 74

مرّ من أن الجنس والفصل ونحوهما أمور انتزاعية، وذلك لأصالة الوجود، وهي ترتبط بالماهية، وکل انتزاع يختلف عن الانتزاع الآخر، وقد مرّ أن نسبة الطبيعي إلی الأفراد کنسبة الأبناء إلی الآباء، فتأمل.

نعم لو قلنا بأن دلالة الأمر علی الوجوب إنّما هي بدلالة العقل، بأن ينتزع العقل الوجوب من طلب الفعل مع عدم الترخيص في الترك، فحينئذٍ يمکن إثبات الاستحباب، وذلك لأن الدليل الناسخ يُثبت حينئذٍ الترخيص، ولا يُسقط أصل الطلب، فيبقی الطلب مع الترخيص في الترك وهو الاستحباب، لکن قد مرّ الإشکال في أصل المبنی، فراجع.

المرحلة الثانية: في مقتضى الأصل العملي

قد يقال: بجريان الاستصحاب، بأنه حين الوجوب کان جائزاً بالمعنی الأعم، فيستصحب هذا الجواز.

وأورد عليه: بأنه من القسم الثالث من استصحاب الکلي، فلا يجري.

وأشکل عليه: أولاً: بأن الاستصحاب هنا من قبيل النوع الثاني من القسم الثالث وهو ما کان تباينٌ دقةً مع وحدة الموضوع عرفاً، بأن کان أحدهما الفرد الشديد، والآخر الفرد الضعيف، کاستصحاب السواد، حين زوال السواد الشديد، مع احتمال تبدله بالسواد الخفيف أو بالبياض، وما نحن فيه کذلك، لأن الفرق بين الوجوب والاستحباب إنّما هو في الطلب الشديد والطلب الضعيف، وعليه: فلو شك في بقاء الجواز في ضمن الاستحباب صحّ إجراء استصحاب الکلي.

وفيه: أن جريان الاستصحاب في هذا النوع من القسم الثالث إنّما هو

ص: 75

لحفظ الوحدة العرفية، فالعرف يری السواد الخفيف نفس السواد السابق الشديد، والملاك في الاستصحاب وحدة الموضوع عرفاً، فلا يكفي وحدة الموضوع دقة، کما لا يضرّ تعدد الموضوع دقة مع وحدته عرفاً، وفيما نحن فيه يری العرف الوجوب والاستحباب وکذا سائر الأحکام أفراداً متباينة.

وثانياً(1): بأن الوجوب والاستحباب إن أريد منهما الإنشاء بداعي البعث، فهما متباينان عقلاً وعرفاً، وليس التفاوت بينهما بالشدة والضعف.

وإن أريد منهما الإرادة الحتمية والندبية، فهما مرتبتان من الإرادة، ولا تفاوت في الإرادة بين الشديدة والضعيفة بل هي نوع واحد، بل لا تفاوت بينهما - شدة وضعفاً - في الوجود أيضاً.

وحينئذٍ علی مبنی جعل الحکم الظاهري في الأمارات والأصول فلا يجري الاستصحاب، لأن الإرادة ليست حکماً شرعياً ولا موضوعاً لحکم شرعي.

وأما علی مبنی التنجيز والتعذير، فيصحّ استصحاب الإرادة، لأن اليقين بها کما يكون منجزاً لها حدوثاً يكون منجزاً لها بقاءً بالاستصحاب.

وثالثاً: إن الاستصحاب هنا ليس من الکلي أصلاً، بل هو استصحاب شخصي، وذلك لأن عدم الحرمة کان معلوماً سابقاً فيجري استصحابه، ولا يضرّ اقتران عدم الحرمة مع الوجوب، وذلك لأن العدم لا يتغيّر ولا يتعدّد باختلاف مقارناته.

وفيه: أن الوجوب کما کان مقترناً مع عدم الحرمة کذلك کان مقترناً مع

ص: 76


1- نهاية الدراية 2: 265-266.

عدم الکراهة وعدم الاستحباب وعدم الإباحة بالمعنی الأخص، وحيث نعلم إجمالاً بتبدّل الوجوب إلی أحد هذه الأربعة فتتعارض استصحابات عدمها لو جرت، فلا يجري أيٌّ منها، فتأمل.

ص: 77

فصل في الوجوب التخييري

اشارة

وفيه بحثان:

البحث الأول: في إمكانه

لا إشکال في وقوع الوجوب التخييري في الأوامر الشرعية، وکذا بين الموالي العرفية، وهو أدل دليل علی الإمکان، لکن وقع البحث عن کيفية تصويره بما لا يستلزم منه المحال.

فقد يقال: کيف يكون واجباً مع جواز ترکه؟

وقد يقال(1):

بأنه لا يمکن تعلق إرادة الفاعل بأحد شيئين أو الأشياء من غير تعيين.

ولحلّ الإشکال ذکرت وجوه، منها:

الوجه الأول: إرجاعه إلی الوجوب التعييني، بأن يكون الواجب هو ما يختاره المکلف، فالواجب علی کل مکلّف ما يختاره، بل المکلّف الواحد إذا اختار تارة هذا وأخری ذاك کان الواجب في کل مرّة غيره في المرّة الأخری.

وأشکل عليه: أولاً: بأن ذلك غير معقول مطلقاً، لأن إيجاب ما يختاره

ص: 78


1- فوائد الأصول 1: 232.

من طلب الحاصل، إذ قبل الاختيار لا وجوب له، وبعد الاختيار يكون الفعل قد وقع فلا معنی لطلبه.

وفيه: أن المراد ليس إيجاب ما اختاره فعلاً، بل مرجع الأمر إلی قضية شرطية، أي إيجاب ما سيختاره.

إن قلت: يلزم من هذا إما الواجب المعلّق أو الشرط المتأخر.

قلت: لا يلزم المعلّق لأن الوجوب والواجب فعليّان، وليس الواجب استقبالياً، مضافاً إلی أن المبنی إمکانهما کما مرّ.

وثانياً: بأن ذلك غير معقول في صورة العصيان، فإنه لو عصی ولم يأت بأيٍّ من خصال التخيير، فيلزم أحد محذورين: إما ارتفاع الوجوب لعدم تحقق موضوعه، فيرتفع العصيان، فيلزم من العصيان عدم العصيان وهو محال، وإما بقاء الوجوب بلا موضوع وهو محال أيضاً.

إن قلت: إن الواجب هو ما يختاره بنحو القضية الشرطية.

قلت: لا يمكن إجراء هذا الجواب هنا، وذلك لأن القضية الشرطية صادقة حتى مع عدم تحقق طرفيها، لكن حيث لم يختر المكلّف أيّاً منهما لم يتحقق شرط الوجوب فلا وجوب لانتفاء شرطه، وهذا بديهي البطلان.

وثالثاً: إن ذلك يخالف قاعدة الاشتراك في التکليف، حيث يختلف الواجب علی الأشخاص، بل علی الشخص الواحد في المرات المتعددة.

وفيه: أن القاعدة مستفادة من دليل لبيّ، وقد تمّ تخصيصها في موارد متعددة، فليكن ما نحن فيه من تلك الموارد، مضافاً إلی أن الجميع مشترك في التکليف وهو (وجوب ما يختاره)، واختلاف المتعلق لا يوجب تعدد

ص: 79

الحکم، کما في وجوب الوفاء بالنذر، فهو حکم يشترك فيه الجميع، مع اختلاف متعلقات النذور.

ورابعاً: إنه خلاف ظاهر الدليل في الواجبات التخييرية.

وفيه: أن کلامنا في مرحلة الثبوت، ولا غضاضة في مخالفة ظاهر الدليل إذا انحصرت معقولية الشيء في ما يقتضي تأويل الدليل.

وخامساً: أن هذا الوجه خلاف الوجدان، حيث لا نجد في أنفسنا أن متعلق هذا الوجوب هو ما يختاره المکلف.

الوجه الثاني: إرجاعه إلی وجوبين مشروطين، بأن يكون الواجب هذا إن لم يأت بالآخر، والواجب الآخر إن لم يأت بهذا، وذلك لأن لکل واحد ملاك يخصّه، واستيفاء أحدهما مانع عن استيفاء الباقي، وتخصيص أحدهما بالوجوب بلا مرجح.

وأشکل عليه: أولاً: إن الوجوب إنّما هو للملاك الملزم، ففرضهما مشروطين إنّما هو بسبب أن امتثال أحدهما يكون مفوتاً لملاك الآخر، ولازم ذلك هو وجوب الإتيان بهما معاً لو تمکن من الجمع، لأنه حينئذٍ يتمکن المکلف من الجمع بين الملاکين الملزمين، وهذا اللازم لا يمکن الالتزام به قطعاً.

وفيه: أنه يمکن ثبوتاً أن لا يتمکن المکلّف من استيفاء کلا الملاکين حتی لو جمع بينهما، بل يتنصّف الملاك، بأن يكون کل واحد منهما محرزاً لبعضه، وعليه فلا يجب الجمع لعدم إمکان إحراز الملاکين الملزمين معاً، نظير ما لو أمر المولی بالإتيان بأحد طعامين مع وجود ملاك الإشباع في کل

ص: 80

واحد منهما، فلا يجب الجمع بينهما لعدم إمکان اشباعين حتی لو أکل منهما.

وثانياً: بأن التزاحم إذا کان قبل الخطاب فلا يمکن أن يكون کل واحد تاماً في الملاکية، فبالنتيجة بعد الکسر والانکسار يكون الملاك التام واحداً ويكون العبرة به، ومع وحدة الملاك لا تکون أفراد الواجب التخييري من الواجب المشروط، فإنه مبني علی تعدد الملاکات.

نعم لو کان التزاحم بعد الخطاب - کإنقاذ الغريقين - کان خطاب کل واحد منهما مشروطاً بعدم فعل الآخر، لتمامية الملاك في کل واحد، وذلك لاشتراط التکليف بالقدرة، وهي إنّما تکون في حال عدم فعل الآخر.

وفيه: أن ما ذکر إنّما يتم لو کان أحد الملاکين أقوی، فيترجح علی الآخر، فيؤمر به، ويسقط الآخر، أما لو تساوی الملاکان فلا وجه لترجيح أحدهما علی الآخر، وحيث لا يمکن الجمع بينهما - لعدم التمکن من إحراز الملاکين معاً کما سيأتي - ، فلا طريق إلا بتأثيرهما معاً علی نحو الواجب المشروط، فتأمل.

وثالثاً: إن ذلك يستلزم معصيتين إذا ترکهما معاً، وذلك لتحقق شرط الواجب المشروط في کليهما، مع أن المتسالم عليه هو استحقاق عقاب واحد في ترك الواجبات التخييرية.

وفيه: أن ملاك کليهما وإن کان فعلياً، لکن تحصيل کلا الملاکين غير ممکن، حيث إن فوات أحدهما علی المولی مما لابدّ منه، فلا تعدد للعقاب حينئذٍ.

ص: 81

نعم(1)

لو کان ترك کل واحد منهما سبب لاتصاف الآخر بالملاك، فقد فوّت العبد علی المولی ملاکين، بينما کان يمکنه عبر الإتيان بأحدهما أن يحصّل أحد الملاکين، ويرفع موضوع الملاك الآخر.

ورابعاً: إن هذا الوجه يبتني علی صحة القول بالترتب، فإنه التزام به - لأن وجوب کل واحد منهما مشروط بترك الآخر - ، فلا يمکن للقائل بالامتناع أن يلتزم بهذا مع أنه ترتبين اثنين.

وفيه: أ نه لو کان الواجبان مشروطين فلا يلزم الترتب، لأن المحذور في الترتب هو كون أحدهما مطلقاً وبترکه يتحقق موضوع الآخر فيستلزم طلب الضدين وهو محال کما مرّ تفصيله، أما لو کان کلاهما مشروطاً بترك الآخر فلا يستلزم طلب الضدين، فلم يبق محذور.

وخامساً: عدم عموم هذا الوجه لکل الواجبات التخييرية، حيث لا يشمل الأمرين الضمنيين - کالحمد والتسبيحات - ، وذلك لأن الواجبات الضمنيّة مجعولة بجعل واحد لا جعول متعددة.

وفيه: أن الجعل الواحد لا ينافي الواجبين المشروطين، وذلك لانبساط الوجوب الواحد علی کل الأجزاء بکيفياتها، فلا مانع من القول بانبساطه علی الحمد والتسبيحات المشروطين.

وسادساً: إن هذا الوجه خلاف الوجدان، حيث نری في الواجبات التخييرية العرفية ثبوت وجوب واحد لا وجوبين، بل لا نری إلا غرضاً واحداً يمکن تحصيله بکل واحد من خصال الواجب التخييري.

ص: 82


1- مباحث الأصول 3: 285.

الوجه الثالث: إن الواجب هو الجامع، فالملاك واحد، وبما أنا لا نعرف ذلك الجامع، ولامصاديقه، فيبيّن الشارع تلك المصاديق، فمرجع التخيير الشرعي إلی التخيير العقلي.

وقد يستدل لهذا بقاعدة الواحد، ولکن قد مرّ الإشکال عليها، وعلی فرض صحتها فهي تجري في الواحد الشخصي لا الواحد النوعي، إذ يمکن صدور الواحد النوعي عن المتعدد، کالحرارة الصادرة عن الحرکة والنار والکهرباء مثلاً، وادعاء الجامع فيها لا يخلو عن مصادرة، بل خلاف الواقع.

إن قلت: يعتبر في الجامع أن يكون أمراً عرفياً يصحّ تعلق التکليف به بنفسه، بحيث يكون من المسببات التوليدية، وهذا لا يوجد في الواجبات التخييريّة.

قلت: هذا لو أراد المولی الأمر بالجامع، فلابد من معرفة المکلفين بمصاديقه - ولو بعضها - ليتمکنوا من الامتثال، أما لو تعلّق الغرض بجامع مخفيّ لا يتمکن المکلف من معرفة مصاديقه، فإنه لابد من الأمر بالمصاديق، فليكن هکذا في الواجبات التخييرية.

الوجه الرابع(1): أن يفرض غرضان، لکل منهما اقتضاء إيجاب ما يُحصّل ذلك الغرض، لکن مصلحة التسهيل اقتضت الترخيص في ترك أحدهما، فحينئذٍ يوجب المولی کليهما - لوجود الغرض الملزم في نفسه - لکن مع الترخيص في ترك کل واحد منهما إلی البدل، فيكون التخيير شرعياً من دون لزوم الإرجاع إلی الجامع.

ص: 83


1- نهاية الدراية 2: 270-271.

وفرق هذا عن الوجه الثاني أن ذلك کان يفرض وجوبين مشروطين، وهذا يفرض وجوبين مطلقين.

وأشکل عليه: بمخالفته لظاهر الدليل، حيث يدل علی وحدة الجعل لا تعدده.

وهذا الإشکال يمکن بيانه بطرق مختلفة، فتارة: باستلزامه خلاف الظاهر في وجود وجوبين مستقلين، وأخری: بأن إحراز وجود ملاکين لا يمکن إلا عبر الخطاب، وظاهره وحدة الملاك، وثالثة: بعدم الدليل علی وجود مصلحة التسهيل، ورابعة: بأنه لا دليل علی کون فعل کل واحد منهما رافعاً لموضوع الآخر.

ويرد عليه: بأن الکلام إنّما هو في کيفية تصوير الواجب التخييري في مرحلة الثبوت لدفع الإشکال العقلي، فإذا انحصر الوجه في هذا فلابد من القول به.

الوجه الخامس: إن الإرادة تعلقت في الواجب التخييري بکل واحد من الشيئين علی البدل، وذلك بأن يكون کل واحد منهما بدلاً عن الآخر(1).

إن قلت: أمر الإرادة دائر بين الوجود والعدم، فکيف تتعلق بالشيئين علی البدل؟

قلت: إن عدم الإمکان إنّما هو في إرادة (الفاعل)، فلابد من إرادته شيئاً تعييناً ليفعله، وأما (الآمر ) فلا محذور في تعلق إرادته بالشيئين علی البدل، فيكون نظير إرادة الآمر بالکليّ مع إرادة الفاعل للجزئي بخصوصياته الفردية.

ص: 84


1- فوائد الأصول 1: 235.

وبعبارة أخری: الإرادة التکوينية لا يمکن تعلقها إلاّ بالجزئي المعلوم، وأما الإرادة التشريعية فهي إيجاد الداعوية نحو الشيء ولا محذور بأن يكون نحو الشيئين علی البدل.

وفيه: أن کان المراد الفرد المردّد فيرجع إلی الوجه الآتي وسنتکلم حوله، وإن کان الأمر نحو الجامع فيرجع إلی الوجه الثالث، فلا وجه يتعقّل بتعلق الإرادة بشيء لا علی التعيين، فتأمل.

الوجه السادس: تعلّق الوجوب في الواجب التخييري بالفرد المردد - هذا أو ذاك - لقيام الغرض بأحدهما، فيأمر به لا علی التعيين.

وأشکل علی الفرد المردد بوجوه، منها:

الإشکال الأول: بأن الفرد المردد لا وجود له في الخارج ولا في الذهن، فکيف يمکن تعلّق العَرَض به، ومن البديهي استحالة قيام العرض من غير معروض، وذلك لأن الوجود يساوق التشخص، فلا مجال للترديد في الموجود بما هو موجود.

وأجاب الشيخ الأعظم(1)

- في مسألة بيع صاع من صبرة - بأن المحال تعلّق العرض الحقيقي بالمردد، أما الاعتباري فهو خفيف المؤنة، حيث يمکن اعتبار ما ليس بموجود، أو اعتبار وصف لما ليس بموجود.

الإشکال الثاني: استلزامه الخلف، لأن وصف المعيّن بالمردد يستلزم: إما تعيّن المردد، أو تردد المعيّن(2).

ص: 85


1- المكاسب، البيع 4: 251.
2- نهاية الدراية 2: 271-272.

وبتعبير آخر: إن أريد مفهوم المردّد، فهو ليس بمردد بل معيّن وهو الجامع بين الفردين بجامع عنواني انتزاعي، وإن أريد مصداق المردّد فهو مستحيل سواء في الذهن أم في الخارج، لأن الوجود يساوق التشخص.

وأجيب: بأن مفهوم الفرد المردد متعيّن في نفسه ولذا هو قابل للتصور ويمکن الحکم عليه، وبما أن الصفات النفسية لا تتعلّق بالخارجيات لتغاير عالم الذهن وعالم الخارج فلابد من أن يكون البعث نحو المفهوم الذهني من غير ارتباط له بالخارج، نظير الإخبار عن أحد شيئين کمجيء زيد أو عمرو مع إمکان عدم مجيء کليهما، ومع ذلك حصل الإخبار، کذلك في الإنشاء.

وأورد عليه: بأن الغرض لا يترتب علی (مفهوم أحدهما)، فلا يكون البعث نحوه، بل يترتب علی کل واحد منهما بواقعه الخارجي.

الإشکال الثالث: إنه يمکن تعلق الصفات الاعتبارية بالفرد المردد، لکن للبعث خصوصية تمنع من تعلّقه بالفرد المردد، حيث إنه لإيجاد الداعي في المکلّف، وحيث لا يمکن تعلّق إرادة المکلّف بالفرد المردد لعدم إمکان إيجاده، فلا يكون التکليف المتعلّق بالفرد المردد قابلاً للتحريك، فيمتنع هذا التکليف.

والحاصل: إنه حتی لو قلنا بإمکان تعلّق الأعراض بالفرد المردد، لا يمکن القول بتعلّق البعث به للمحذور المذکور.

وفيه نظر: لإمکان التحرك نحو أحد الأمرين علی نحو التعيين، فالأمر وإن کان علی نحو الترديد، لکن الانبعاث ممکن بالتوجه إلی المعيّن،

ص: 86

وبذلك يحصل غرض المولی.

والأقرب الجواب عن کل الإشکالات بما في المنتقى(1):

من أن مفهوم الفرد المردد معيّن في الذهن، والبعث نحوه بما هو مرآة للخارج، وقد مرّ أن الأمر إنّما هو لإيجاد الداعوية، أي إمکان الانبعاث نحو الشيء، فيكون حقيقة الأمر هو إمکان البعث، ومن الواضح أنه يمکن الانبعاث نحو المصداقين علی سبيل البدل ولکن بواسطة مفهوم أحدهما.

وهکذا الأمر في الإخبار بالمردد، فهو إخبار عن مفهوم ذهني معين جعل مرآة للواقع الخارجي، فتأمل.

الوجه السابع: تعلّق الأمر بالکلي الانتزاعي، الذي هو جامع عنواني، وهو عنوان أحدهما، وتکون المصاديق الخارجية مصاديق لهذا العنوان الانتزاعي.

ولا يخفی رجوع هذا الوجه إما إلی الفرد المردد أو إلی الوجه الثالث حيث إن الجامع إما حقيقي وإما عنواني انتزاعي.

البحث الثاني: في التخيير بين الأقل والأكثر

لا إشکال في وقوعه في الشرعيات، کالتخيير بين الإتيان بالتسبيحات مرّة أو ثلاث مرّات، إنّما الکلام في کيفية تصويره في مرحلة الثبوت، فإن الأقل والأکثر...

1- تارة دفعيين کالتخيير بين إلقاء صاع من الماء أو صاعين، أو التصدق بدرهم أو درهمين دفعة، فالإشکال بأن الزائد يجوز ترکه لا إلی

ص: 87


1- منتقی الأصول 2: 493-494.

بدل، فکيف يكون واجباً؟

2- وأخری تدريجيين، کمثال التسبيحات، والإشکال في أنه بمجرد تحقق الأقل يحصل الغرض، فيحصل الامتثال، فيسقط الأمر، وعليه فيستحيل أن يكون الأکثر مصداقاً للواجب.

أما الأول: فالجواب أن کلاهما - الأقل والأکثر - محصّلان للغرض، وفي الأکثر ليس المحصّل هو الأقل الذي في ضمنه، وحينئذٍ فلابد من التخيير بينهما، إذ تخصيص الأقل بالوجوب من غير مخصص.

وقد ذکرنا في بحث الصحيح والأعم جواب الإشکال عن دخول الشيء في الماهية وخروجه عنها، فصلاة الظهر وصلاة الغريق کلاهما صلاة صحيحة مع ما بينهما من الاختلاف الشاسع، وکذا الدار الوسيعة والدار الضيقة کلاهما دار مع الاختلاف في کثير من الأجزاء.

والحاصل: ما في نهاية الدراية(1)

من أن الماهية واحدة والاختلاف إنّما هو في الوجود، فالماهية المنتزعة عن الفردين المختلفين هي ماهية واحدة ذاتاً، وإنّما الاختلاف بين الفردين في الوجود، لأن الوجود مشکِّك وله مراتب قوة وضعفاً، کالنور الشديد والضعيف، حيث إن ماهيتهما واحدة والاختلاف في شدة الوجود أو ضعفه، ومثل الخط الطويل والقصير فکلاهما مصداق لماهية واحدة - وهي الکم المتصل - .

وحينئذٍ لابد من التخيير بين الأقل والأکثر، لعدم اختلافهما في الماهية، فهما من طبيعة واحدة، والفارق إنّما هو في الوجود.

ص: 88


1- نهاية الدراية 2: 274.

إن قلت: إذا کانا يختلفان في الوجود فکيف يصدر منهما الغرض الواحد؟

قلت: مع قطع النظر عن الإشکال في أصل القاعدة، وأنها علی فرض صحتها إنّما هي في الواحد الشخصي لا النوعي، نقول: إنّهما مشترکان في أصل الوجود، ومختلفان في مرتبة الوجود، والغرض إنّما يتحقق من نفس الوجود مع قطع النظر عن مرتبته.

والحاصل: إنه ليس للأکثر وجودان - وجود للأقل ووجود للزيادة - بل وجوده واحد لکن من المرتبة الشديدة.

أقول: أصل الجواب لا بأس به، لكن لا دليل على التشكيك في الوجود، بل الوجود سنخان واجب لا نعلم حقيقته، وممكن متواطئ في الوجود، وما يرى من الشدة والضعف إنّما هو في الزيادة في الكم كماء الحوض وماء البحر حيث لا تشكيك في وجودهما بل الزيادة في الكم وهي لا توجب تشكيكاً في الوجود بل ضم وجود إلى وجود، وأما مثال النور فقد أثبت العلم الحديث أن هناك جُزَيئيات تشكل النور فبزيادة عددها يزداد النور وبقلّة العدد يضعف، وكذا الصفات النفسية ونحوها فإن شدتها باعتبار المتعلق لا في نفسها، فتأمل.

وأما الثاني: فالجواب هو بإرجاع الأکثر والأقل إلی المتباينين، ولا ضير في ذلك، لأن الغرض هو بيان وجه إمکان التخيير في مثل التسبيحات، وذلك بأن يكون التخيير بين (الأقل بشرط لا عن الزيادة)، وبين (الأقل بشرط الزيادة) ومن المعلوم التباين بين (الشيء بشرط لا) و (الشيء بشرط شيء)، فلا يكون الأقل في ضمن الأکثر واجباً بالاستقلال.

ص: 89

إن قلت: حين الانتهاء من الأقل يكون أمره دائراً بين الوجود والعدم، أي أن لا يأتي بالزيادة أو أن يأتي بها، وهذا هو اللابدية العقلية، فلا يكون من الواجب التخييري أصلاً.

قلت: قبل الابتداء لم يكن أمره دائراً بينهما فقط، بل کان شق ثالث هو ترکهما معاً، وحينذاك يكون أمر المولی بأحدهما مخيّراً لا محذور فيه، فيكون من التخيير الشرعي، هذا مضافاً إلى عدم الضير في إرجاع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي مطلقاً.

إن قلت: إن (بشرط الشيء) و (بشرط لا) متباينان، فکيف يصدر منهما الغرض الواحد، بل الأمر أکثر إشکالاً، حيث إنهما متناقضان، وذلك يستلزم تأثير النقيضين في شيء واحد؟

قلت: إن المؤثر هو ذات الشيء - التسبيحات مثلاً - وهو جامع بين الأقل والأکثر، فتأمل.

ص: 90

فصل في الوجوب الكفائي

اشارة

بعد تحقق الوجوب الکفائي خارجاً قطعاً، يكون الکلام حول کيفية تصويره في مرحلة الثبوت، وحل إشکال التضاد بين (أداء الواجب بفعل البعض)، وبين (عصيان الکل فيما لو ترکوا جميعاً)، وذلك لأن عصيان الکل ملزوم وجوبه علی کل واحد منهم، کما أنّ أداء الواجب بفعل البعض لازمه عدم وجوبه علی کل أحد.

والجواب: عدم التلازم بين (الوجوب علی کل أحد)، وبين (لزوم إتيان کل واحد منهم)، کما سيتضح من کيفية تصوير الواجب الکفائي.

ثم قد يقال بوحدة الغرض، وقد يقال بتعدده...

الاحتمال الأول: تعدد الغرض

بأن يقال: إن هناك أغراض متعددة بفعل کل واحد من المکلفين، لکن مع عدم إمکان اجتماع تلك الأغراض للمضادة بينها، إما في أصل الاتصاف بالغرض فيما لو کانت المضادة قبل الأمر، أو في وجود الأغراض لتزاحمها فيما لو کانت المضادة بعد الأمر.

ويرد عليه: أولاً: عدم الامتثال لو قام المکلّفون بالفعل دفعة واحدة، نظير عدم الامتثال فيما لو أراد المولی اختبار قوة أحد عبيده ليأمره بشيء، فأمرهم جميعاً برفع حجر بنحو الوجوب الکفائي، فلو اشترکوا في رفع

ص: 91

الحجر لما تحقق غرض المولی أصلاً.

إذ مع المضادة بين الأغراض إما أن يتحقق في الواجب الکفائي کلّ الأغراض وهو خلف فرض تضادها، وإما بعضها دون بعض وهو ترجيح بلا مرجح، وإما عدم تحقق أيٍّ منها، وهو خلاف المتسالم عليه من تحقق الامتثال.

وثانياً(1): إن لازم تعدد الأغراض ومضادتها، هو کون التکليف إما منوطاً بعصيان الآخرين أو منوطاً بعدم إتيانهم...

والأول: يستلزم الدور، إذ يستلزم تأخر کل واحد من التکاليف عن الآخر برتبتين - بل ثلاث رتب - وکذا العکس، مثلاً تکليف زيد متوقف علی عصيان عمرو، وعصيانه فرع تکليفه، وتکليفه متوقف علی عصيان زيد، وعصيان زيد متوقف علی تکليف زيد.

والثاني: لا يلزم منه محذور الدور، حيث إن العدم سابق علی الأمر، لکن يلزم منه محذور تعلّق تکليف تام بذمّة کل واحد من المکلّفين وهو مستحيل لمضادة الأغراض حسب الفرض وامتناع اجتماعها في الوجود، فيكون البعث الفعلي نحوها جميعاً محال.

الاحتمال الثاني: وحدة الغرض

اشارة

بأن يقال: إن الغرض واحد، وهو يحصل بتحقيقه سواء بفعل الکل معاً أو بفعل البعض ممن فيه الکفاية، فهنا طرق:

ص: 92


1- نهاية الأفکار 1: 396.

الطريق الأول

اشارة

تکليف الجميع، ويمکن تصويره بوجوه.

الوجه الأول

ما ذهب إليه المحقق العراقي(1)

من أنّ الوجوب الکفائي - کالوجوب التخييري - هو وجوب ناقص، بمعنی تعلّق الوجوب بفعل کل واحد من المکلفين بنحو لا يقتضي إلا المنع عن بعض أنحاء تروکه - وهو ترکه في حال ترك بقية المکلفين - .

إلا أن الفرق بين التخييري والکفائي، هو أنه في التخييري توجّه التکليف إلی کلا الشقين، لأنه تکليف بالجامع إلی مکلف واحد، وفي الکفائي لا يمکن الأمر بالجامع بين فعل النفس وفعل الغير، لأنه أمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور، وقد مرّ أن هذا الجامع غير مقدور، فلا يمکن التکليف به.

الوجه الثاني

وجوبه علی الجميع بنحو مطلق، إلا أن مصلحة التسهيل اقتضت الترخيص في ترك الباقين، کما مرّ عن المحقق الإصفهاني(2)

في التخييري.

الوجه الثالث

وجوبه علی الجميع بنحو الواجب المشروط بعدم إتيان الآخرين.

وهذا الوجه لا يمکن الالتزام به في الکفائي، لاستلزامه عدم تحقق

ص: 93


1- نهاية الأفکار 1: 395.
2- ([2]) نهاية الدراية 2: 271.

الوجوب لو أتوا به دفعة لعدم تحقق الشرط - وهو عدم إتيان الآخرين - .

اللهم إلا أن يقال إن الشرط عدم إتيان الآخرين به قبلاً، فلو أتوا به جميعاً لم يكن مخالفة للشرط.

الطريق الثاني

تکليف الفرد المردد، أي عنوان أحد المکلفين بنحو العموم البدلي.

وهذا أمر معقول في نفسه کما مرّ في الواجب التخييري.

أمّا إشکال: عدم ثبوت الفرد المردد فلا ماهية له ولا وجود، مع استلزامه الخلف باتحاد المعين مع المردد.

فجوابه: أن مفهوم الفرد المردد له تعيّن في الذهن، والبعث إليه باعتبار مرآتيته للواقع الخارجي، وقد مرّ التفصيل في الواجب التخييري.

إن قلت: لا يمکن إيجاد الداعي في الفرد المردد فيستحيل توجه الأمر إليه.

قلت: بما أنه مرآة للواقع الخارجي، فيمکن إيجاد الداعي في الأشخاص عبر مفهوم الفرد المردد وتوجه التکليف إليه.

الطريق الثالث

تکليف المجموع من حيث المجموع، أي وجوب واحد علی المجموع(1).

وأورد عليه: بأنه من المعقول تعلق الأمر الواحد الشخصي بمجموع أفعال بحيث يترتب الغرض علی مجموعها، وعدم ترتبه رأساً بفقد بعضها - کالأمر

ص: 94


1- نهاية الأفکار 2: 279.

بالصلاة المرکبة من أفعال ومقولات مختلفة - ، لکن تعلّق الحکم بمجموع أشخاص فهو غير معقول، لعدم إمکان انقداح الداعي، إذ ليس مجموع الأشخاص شخصاً ينقدح الداعي في نفسه، بل لابد من انقداح الداعي في نفس کل واحد، وهو مع شخصية البعث محال، فلابد من تعدده، فيخرج عن هذا الفرض، إذ يؤول الأمر إلی تعلّق أفراد من طبيعي البعث بأفراد من عنوان المکلّف، فتأمل.

ويمکن الإشکال من وجه آخر: وهو أن تکليف المجموع من حيث المجموع يخرجه عن الکفائي، إذ عليه يجب علی الجميع الاشتراك في الفعل ليتحقق المجموع من حيث المجموع، کما يلزم منه سقوط التکليف عن الجميع لو عصی البعض، فتأمل.

الطريق الرابع

التكليف من غير موضوع، أي من دون توجيهه إلی المکلفين، فالمهم هو تحقق الفعل بالمعنی الاسم المصدري.

ويرد عليه(1): أن البعث کما هو متقوم بالفعل المبعوث إليه، کذلك متقوم بالمکلّف المبعوث، فإنه لا يعقل البعث نحو الفعل من دون بعث أحد، فإنه إذا اشتاق المولی العرفي إلی شيء فإن کان اشتياقه إلی فعل نفسه فيحرك عضلاته نحوه، وإن کان إلی فعل الغير فلا محالة يكون ذلك الغير هو المشتاق صدور الفعل منه، نعم الحب والبغض قد يتعلق بالشيء مع قطع النظر عن الفاعل، لکن الأمر والنهي - وهما بعث وزجر - لا يعقل عدم

ص: 95


1- نهاية الدراية 2: 279.

تعلقهما بالمبعوث والمزجور.

الطريق الخامس

تعلق التكليف بصِرف الوجود، لتعلق الغرض علی صدور الفعل من صرف وجود المکلّف، فبامتثال أحد المکلفين يتحقق الفعل من صرف وجود الطبيعة فيسقط الغرض، فلا يبقی مجال لامتثال الباقين، وهذا ما ذهب إليه المحقق النائيني(1).

وقد أورد عليه المحقق الإصفهاني(2)

ببيان أن (صرف الوجود) قد يراد منه أحد معاني ثلاثة وکلها محل إشکال في الواجب الکفائي.

إلا أن الأولی الإشکال عليه، بأن الواجب الکفائي قد يلزم فيه تعدد المکلفين الذين بهم الکفاية، کما في الجهاد، وحينئذٍ فلا يسقط التکليف بقيام المجاهد الأول، مع أنه يفترض تحقق صرف الوجود للمکلّف، حسب المبنی.

تكملة

استثنی المحقق النائيني(3)

صورة وجود ملاکات متعددة لا يمکن استيفاء جميعها، فحينئذٍ يقع التزاحم في مقام الفعلية، فيكون خطاب کل منهم مشروطاً بعدم فعل الآخر.

مثلاً: لو فرضنا شخصين فاقدين للماء، ثم في وقت الصلاة وجدا ماءً لا

ص: 96


1- أجود التقريرات 2: 271.
2- نهاية الدراية 2: 278.
3- أجود التقريرات 1: 272.

يكفي إلا لوضوء أحدهما، فإلزام کل واحد منهما بحيازة الماء مشروط بعدم سبق الآخر، فإن سبق أحدهما سقط التکليف عن الآخر، کما أنهما يعصيان ويستحقان العقاب لو ترکا الحيازة.

ثم إنه لو کانا علی تيمّم فهل يبطل تيمّمهما، أو لا يبطل أيٌّ منهما، أو يبطل أحدهما علی البدل؟

فهنا أمور ثلاثة: الأمر بالوضوء، والأمر بالحيازة، والقدرة علی الحيازة، وحيث إن بطلان التيمم في لسان الدليل لم يترتب علی الأمر بالوضوء، ولا حيازة الماء، بل هو مترتب علی وجدان الماء - المتحقق في ظرف القدرة علی الحيازة - فحينئذٍ يبطل التيممان معاً.

وفي المنتقی(1):

إن موضوع التيمم هو عدم وجدان الماء، فبمجرد القدرة علی استعماله يرتفع موضوعه، فيبطل التيمم، لقدرة کليهما علی استعمال الماء وذلك بالسبق إليه، وأما موضوع الوضوء فهو وجدان الماء لکن بما أن الجميع لا يتمکنون من إعمال القدرة في استعماله، فأمر کلهم في عرض واحد محال، وذلك لوقوع التزاحم في مقام الامتثال، فلا يمکن إلا أمر أحدهما بالوضوء.

والحاصل: إن بطلان التيمم متوقف علی أصل القدرة علی الماء، أما موضوع وجوب الوضوء فهو فعلية المقدور في الخارج.

أقول: إن أصل المثال لا يرتبط بالواجب الکفائي، بل هو من التزاحم بين الواجبات العينية أو بين ملاکاتها، مع فوت الموضوع في مکلّف مع سبق

ص: 97


1- منتقی الأصول 2: 502.

مکلّف آخر، فليس المطلوب وضوء واحد إما أن يقوم به هذا أو ذاك کفاية، بل المطلوب هو وضوءان يقوم بکل واحد منهما کل واحد من المکلّفين، إلا أن سبق أحدهما يفوّت الموضوع علی الآخر.

کما أن وجدان الماء لا يتحقق بالقدرة الشأنية - بحيث لو سبق لحاز الماء - ، بل وجدانه يتحقق بالقدرة الفعلية، بأن لا يكون مانع عن الوصول إليها، ومن المعلوم أن سبق الغير مانع فلم يتحقق وجدان الماء، فالأقوی عدم بطلان تيمم من لم يتمکن من السبق إليها.

نعم لو ترك کليهما الماء فهنا نعلم إجمالاً بتوجه خطاب فعلي إلی أحدهما، لکنه غير منجز، فيكون نظير واجدي المني في الثوب الواحد، فتأمل.

ص: 98

فصل في الواجب الموسع والمضيق

اشارة

لا يخفي عدم خلو الفعل عن الزمان، لكن قد يؤخذ الزمان في التكليف أو متعلّقه فهو الواجب الموقت، وقد لا يؤخذ فهو غير الموقت، وهذا إما يجب فوراً وإما يجوز التراخي فيه.

ثم الموقت تارة يكون مضيقاً، بأن يكون الزمان بمقدار الواجب كالصوم، وتارة أخرى يكون موسعاً بأن يكون الزمان أوسع من الواجب كالصلوات اليومية.

وهنا بحوث:

البحث الأول: في رجوع القيد الزماني إلى المادة أو الهيأة

فإن قلنا باستحالة الواجب المعلّق فلابد من إرجاع القيد إلى الهيأة ليكون وقت الوجوب والواجب واحداً، وإن قلنا بإمكانه فيمكن ثبوتاً إرجاعه إلى أي منهما بأن يقال: (الصلاة المقيدة بالوقت واجبة) أو (الوجوب المقيد بالوقت قد تعلق بالصلاة).

البحث الثاني: في دفع الإشكال العقلي عليهما

1- أما المضيق: فقد أشكل عليه بأنه لابد من تقدم البعث على الانبعاث، وحينئذٍ:

فإما أن يقال بتقدم الوجوب - ولو آناً ما - على الوقت، وهو خلف فرض

ص: 99

المضيق، بل يستحيل بناءً على استحالة الواجب المعلق، ولاستلزامه تقدّم المشروط على شرطه.

وإما أن يقال بتأخر الوجوب - ولو آناً ما - عن أول الوقت، وهو خلف أيضاً، لأن المفروض أن ذلك الوقت هو أول الوقت لا قبل الوقت.

والجواب: هو التقدم الرتبي بين البعث والانبعاث، بل لا يعقل التقدم الزماني، لعدم انفكاكهما في الوجود، بل هما وجود واحد إن نُسب إلى الفاعل كان بعثاً، وإن نُسب إلى القابل كان انبعاثاً.

لا يقال: لابد من تحقق تصور وتصديق المكلّف للأمر ثم تحرّكه نحوه، وهذا لابد له من زمان، فلابد من تأخر الانبعاث!!

فإنه يقال: يكفي فيه الإخبار السابق بأنه سيكون بعث في ذلك الوقت، وقد مرّ الكلام حول هذا في بحث الترتب، فراجع.

2- وأما الموسع: فقد أشكل عليه بأنه إمّا يجوز تركه في الزمان الأول إلى بدل، أو يجوز تركه إلى غير بدل.

والأول: يستلزم التخيير بين الفعل في الزمان الأول وبين الأفعال الأخرى في سائر الوقت، وهذا خلاف فرض كونه واجباً موسعاً تعيينياً بل يدخل حينئذٍ في الواجب التخييري.

والثاني: معناه عدم الوجوب إذ جاز تركه لا إلى البدل.

والجواب(1): إن الحركة بين المبدأ والمنتهى على قسمين: متوسطة

ص: 100


1- نهاية الدراية 2: 281.

فيكون الزمان ظرفاً، وقطعية فيكون مفرّداً، والإشكال إنّما يرد لو قلنا بالقطعية، وأما على المتوسطة فالواجب هو طبيعي الفعل في طبيعي الوقت، والتخيير العقلي بين الأفراد لا ينافي الوجوب الشرعي التعييني.

ومن ذلك يتضح أن التخيير في الموسع عقلي لا شرعي، لأنه ليس من ترك الشيء إلى بدله، بل من تطبيق الكلي على أفراده، فإن ملاحظة الفعل بنحو الحركة التوسطية يوجب كون الواجب هو الكلي فيكون تطبيقه على الأفراد عقلياً، عكس ما لو لوحظ الفعل بنحو الحركة القطعية فإن ذلك يوجب التخيير الشرعي بين تلك الأفعال التي ستكون حينئذٍ واجبات مضيقة.

والحاصل: إن الصلاة المقيدة بأول الوقت ليست واجبة شرعاً كي يقال: لا بدل لها، بل الواجب الصلاة بين الحدّين، فتكون الصلاة في أول الوقت ووسطه وآخره أفراد لها.

البحث الثالث: في القضاء خارج الوقت

اشارة

فلو انقضى الوقت، ولم يأت بالفعل، فهل يجب القضاء بالأمر الأول، أم لابد من توجّه أمر جديد، بحيث لو لم يكن أمر جديد لما وجب القضاء؟

وقد أشكل على أصل القضاء بأنه لو كان للوقت دخل في مرتبة من الغرض أو في غرض آخر فلا معنی للتدارك، حيث إن مصلحة الوقت غير قابلة للتدارك، إذ لو أمكن كان معنى ذلك عدم دخل الوقت في تلك المصلحة، وأما مصلحة ذات الفعل فهي غير فائتة حينئذٍ لأنه كما يمكن استيفائها في الوقت يمكن ذلك في خارجه.

ص: 101

والجواب(1): إن القضاء هو تدارك للفائت بنحو من أنحاء التدارك، لا بتمام حقيقة التدارك، وذلك بأحد طريقين:

إما أن تقوم المصلحة في الفعل في الوقت بالمرتبة العليا من المصلحة وقد فاتت، ويمكن تدارك المصلحة لكن بالمرتبة الدنيا في خارج الوقت.

وإما العناية في إطلاق الفوت، ففي الفعل مصلحة في الوقت وخارجه، لكن في الوقت توجد أيضاً مصلحة أخرى لازمة الاستيفاء.

وسيأتي مزيد توضيح في البحث الرابع.

ثم لابد من البحث في مرحلتي الثبوت والإثبات:

1- أما مرحلة الثبوت

فاحتمالات ثلاث:

الأول: تعدد المطلوب وتعدد التكليف، إما بأن يقال: بأنه لا يكون الوقت قيداً لأصل الوجوب، بل هناك وجوبان أحدهما لأصل الفعل، والآخر للوقت، أو يقال: بأن التقييد بالوقت ليس بلحاظ أصل المطلوب، بل بلحاظ كماله، بناءً على إمكان توجه وجوبين للحصة الواحدة.

ولازم ذلك هو لزوم الإتيان بالفعل خارج الوقت، إذ بانقضاء الوقت يفوت أحد المطلوبين دون الآخر.

الثاني: وحدة المطلوب ووحدة التكليف، بأن ينحصر المطلوب في شيء واحد، هو الفعل المقيد بالوقت، فلا مطلوبية له بعده.

ولازم ذلك عدم القضاء خارج الوقت، لفوات المطلوب كاملاً بانتهاء

ص: 102


1- نهاية الدراية 2: 282.

الوقت.

الثالث: وحدة المطلوب في صورة الإمكان، وتعدده في صورة العجز، فيكون تكليفان: أحدهما للقادر في الوقت، والآخر للعاجز مطلقاً.

ولازم ذلك ثبوت القضاء بعد الوقت لخصوص العاجز دون القادر العاصي.

2- وأما مرحلة الإثبات

فالمحتملات ثلاث أيضاً:

عدم دلالة الأمر الأول على القضاء مطلقاً - سواء كان دليل الوقت متصلاً أم منفصلاً - ، أو دلالته مطلقاً، أو التفصيل بأن يقال: بالدلالة إن كان متصلاً أو كان منفصلاً مع إطلاق دليل القيد، وبعدم الدلالة إن كان منفصلاً مع عدم إطلاق دليل القيد وإطلاق دليل الوجوب.

أما الأول - بعدم الدلالة مطلقاً - فاستدل له بأمور(1):

منها: إن الغاية إن كان لها مفهوم بعدم استمرار الحكم إلى ما بعد الغاية، فالقيد يكون دالاً على عدم لزوم القضاء، وإن لم يكن لها مفهوم فهذا معناه السكوت عما بعد الغاية، وعلى كل حال لا يثبت استمرار الحكم، فلا دلالة على لزوم القضاء خارج الوقت.

ومنها: أنّ تعدد المطلوب خلاف ظاهر الأدلة، إذ لا فرق بين الزمان وغيره من القيود، فكما لا يلتزم في سائر القيود بتعدد المطلوب كذلك في الزمان، ولا وجه للتفرقة بينهما مع وحدة الملاك في المقامين، ولا يمكن

ص: 103


1- منتقی الأصول 2: 508.

الالتزام في سائر القيود بتعدد المطلوب، لأن ذلك خلاف البديهة العرفية من حمل المطلق على المقيد.

وأما الثالث: فقد يستدل له(1)

بأن الوقت...

إن كان بدليل متصل، فالاتصال يوجب إجماله وكذا إجمال دليل الواجب، فلا يبقى ظهور حتى يتمسك به لإثبات الوجوب بعد الانقضاء.

وإن كان بدليل منفصل، وكان لدليل الواجب إطلاق، وكان دليل الوقت مجملاً، فيتمسك بإطلاق دليل الواجب الشامل لحالة ما بعد الوقت.

ويرد عليه: أن دليل التوقيت - متصلاً أم منفصلاً - ظاهر في وحدة المطلوب، كسائر أدلة القيود، كما مرّ قبل قليل.

وبأنّ الواجب إما عبادة أو معاملة، وأدلة العبادات لا إطلاق لها، لأنها طُرّاً واردة في مقام بيان أصل المشروعية، لا في مقام بيان تلك الجهات كما ذكر هذا في بحث الصحيح والأعم(2)،

وأما أدلة المعاملات فكذلك يراد منها المعاملة الصحيحة لا الفاسدة، حتى لو صحت تسميتها بها، وهي في مقام بيان أصل المشروعية دون مقام بيان سائر الجهات، فالمعنى أحل الله البيع الصحيح، ولا يمكن إحراز البيع الصحيح بتسميته بيعاً.

وفيه تأمل، وسيأتي بحث إطلاق أدلة العبادات إن شاء الله تعالی.

البحث الرابع: في قيام الدليل على القضاء

لو قام الدليل على لزوم القضاء - كما في الصلاة والصوم - فهل هذا الأمر

ص: 104


1- نهاية الأفكار 1: 397.
2- نهاية الأفكار 1: 397.

الثاني يكشف عن تعدد المطلوب، فيتبع القضاء الأداء، أم هو أمر مستقل؟

الاحتمالات الممكنة ثلاثة(1):

الأول: أن يكون هناك أمران، أحدهما بذات العمل، والآخر بإيقاعه في الوقت الخاص.

الثاني: أن يكون أمر واحد، لكنه مقيد بالوقت الخاص للمختار، وغير مقيد به لغير المختار، فيكون نظير الأمر بالتمام للحاضر وبالقصر للمسافر.

الثالث: أن يكون الأمر بالقضاء أمراً مستقلاً، موضوعه فوات الواجب الأول.

وقد اختار المحقق النائيني في مرحلة الإثبات ثالث الاحتمالات، لوجوه منها:

الوجه الأول: ظاهر لفظ (القضاء) هو تدارك ما فات في وقته، والاحتمالان الأولان لا ينطبق عليهما لفظ القضاء، لعدم إمكان تدارك الوقت، وعدم فوات ذات العمل كي يتدارك.

الوجه الثاني: ثبوت القضاء شرعاً في الحج والصوم المنذورين في وقت معين، مع أن النذر تابع لقصد الناذر، وقصده هو التقييد بنحو الوحدة، ومع ذلك أمر الشارع بالقضاء.

الوجه الثالث: انفصال زمان القضاء عن زمان الأداء غالباً، نظير الصوم الذي فوته يكون في أول الليل أو قبله، لكن الأمر بالقضاء إنّما هو في حال

ص: 105


1- فوائد الأصول 1: 237-238.

الفجر، لاستحالة الواجب المعلّق، وهذا إنّما يكون بناءً على الاحتمال الثالث، دون الاحتمالين الأولين، لأن مقتضاهما اتصال الأمر بالفاقد بالأمر بالواجد.

ويمكن الإشكال على الوجوه:

أما الأول: فهو بحث لفظي، ولا تحمل كلمات الروايات على الاصطلاحات المتأخرة، مضافاً إلى عدم وجود لفظ القضاء في بعض رواياته.

وأما الثاني: فلأن ذلك - على فرض صحة الصغرى - إنّما هو لدليل خاص.

وأما الثالث: فبالإشكال مبنى، حيث لا استحالة للواجب المعلّق.

البحث الخامس: في استصحاب الوجوب

لو شك في كون التقييد بنحو وحدة المطلوب حيث لا يلزم القضاء إلا بأمر جديد، أم أنه بنحو تعدد المطلوب حيث يجب القضاء بنفس الأمر الأول، فما هو مجرى الأصول العملية؟

1- فالأقرب ما ذهب المحقق الخراساني(1) من عدم جريان الاستصحاب، وذلك للزوم وحدة الموضوع في القضيتين المتيقنة والمشكوكة، ولا وحدة هنا، إذ الزمان المأخوذ في المتعلّق يراه العرف مقوماً للموضوع.

2- وقد يقال: بأنه لو تردد بين بقاء المطلوب أو زواله، فهو من النوع

ص: 106


1- إيضاح كفاية الأصول 2: 222.

الثاني من القسم الثالث من استصحاب الكلي - وهو ما كان زوال فرد مع احتمال حدوث فرد جديد لكن من المرتبة الخفيفة - فمقتضى الاستصحاب هو بقاء الوجوب خارج الوقت، إذ(1)

عند ذهاب الوقت يشك في ذهاب أصل المطلوبية، أو ذهاب مرتبة منها مع بقاء المطلوبية ببعض مراتبها.

أما لو تردد بين وحدة المطلوب وتعدده، فهو من القسم الثاني من استصحاب الكلي، حيث إنه بناءً على وحدة المطلوب يعلم بزوال الوجوب، وبناءً على تعدد المطلوب يعلم ببقائه، فيمكن إجراء الاستصحاب(2)، وذلك بإجراء استصحاب كلّي الوجوب الثابت أولاً، وقد كان ذلك الوجوب مردداً بين الوجوب الضمني بناءً على وحدة المطلوب، والوجوب النفسي الاستقلالي بناءً على تعدد المطلوب، والأول هو الفرد القصير، والآخر هو الفرد الطويل، ويترتب على هذا الاستصحاب أثره من الدعوة والتحريك، وهذا بناءً على انحلال الأمر بالمشروط.

البحث السادس: في استصحاب الموضوع

وذلك لو دلّ الدليل على وجوب القضاء مع الفوات، فلو شك المكلّف بعد الوقت في أنه هل أتى بذلك العمل في الوقت أم لا؟

فلو لم يكن دليل على أن الوقت حائل، فما هو الأصل العملي الذي يجري هنا؟

1- فإن قلنا: بأن القضاء بالأمرالأول، فمع الشك يكون مجرى قاعدة

ص: 107


1- نهاية الأفكار 1: 398.
2- منتقی الأصول 2: 512.

الاشتغال، للعلم باشتغال الذمة بذلك الأمر، وعدم العلم بفراغها.

2- وإن قلنا: بأنه بأمر جديد، فإن كان الفوت الذي هو موضوع القضاء أمراً وجودياً فلا يجري الاستصحاب لأنه مثبت، فإن استصحاب عدم الإتيان يلازم الفوت وهو لازم عقلي، وإن كان الفوت أمراً عدمياً فهو عين عدم الإتيان، فلا يكون أصلاً مثبتاً لأن الأثر الشرعي وهو وجوب القضاء يترتب عليه مباشرة من غير واسطة.

ص: 108

فصل في الأمر بالأمر بالشيء

اشارة

وفيه ثلاث مطالب:

المطلب الأول: في مرحلة الثبوت

الصور الممكنة ثبوتاً، أن غرض المولى إمّا حصول ذلك الشيء أو لا، وعلى كل تقدير فإما له غرض في توسيط الغير أو لا.

1- أن يكون له غرض في حصول الشيء، من غير غرض في توسيط الغير، بل يكون الغير مجرد مبلّغ فيكون تبليغه طريقياً، فحينئذٍ يجب على العبد الإتيان بالعمل حتى لو بلغه من غير طريقه.

2- له غرض في حصوله، مع وجود غرض في توسيط الغير، بأن يكون لأمر الغير موضوعية، فغرض المولى يتحقق بأمرين معاً: هما وجود المصلحة في الفعل، مع مصلحة في الطريق، فحينئذٍ لا يجب الامتثال لو وصل من غير طريقه، وذلك لعدم تحقق غرض المولى عند ذاك.

3- أن لا يكون له غرض في الشيء، وإنّما الغرض في أمر الآمر بنحو الموضوعية، وحينئذٍ يجب إطاعة الآمر ولا يجب الامتثال لو وصل من غير طريقه، وذلك لأن الغرض هو جعل الولاية للآمر، فالمصلحة ليست في ذات الفعل، بل في إطاعة الثاني للأول.

4- أن لا يكون له غرض لا في الشيء ولا في توسيط الغير، وهذا لغو،

ص: 109

لعدم ترتب فائدة ومصلحة على هذا الأمر أصلاً.

المطلب الثاني: في مرحلة الإثبات

وظاهر الأمر بالأمر هو الصورة الأولى، لوجود ظهور نوعي عرفي في كون الأول مجرد واسطة في التبليغ، إلا إذا دلّ الدليل على كون أمر الأول دخيلاً في الغرض بحيث لا يتحقق لولاه، وقد يستظهر من بعض الأدلة بأن الأحكام الشرعية من هذا القبيل، فلا يترتب الغرض عليها إلا بأخذها من النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) .

المطلب الثالث: في الثمرة

فقد يقال: بأن ثمرته هو شرعية عبادات الصبي، وترتّب أحكام العبادة عليها - إن لم يكن دليل خاص على خلاف ذلك - ، كجواز الاقتداء به، وجواز نيابته عن الغير، وعدم وجوب الإعادة عليه لو بلغ أثناء الوقت بعد إكمال الصلاة أو في أثنائها، حيث ورد في الحديث «مروا صبيانكم بالصلاة»(1).

ولإثبات ترتب تلك الآثار طريقان:

الطريق الأول: إن هذا الحديث يدل على كون عبادتهم مشروعة، فيترتب عليها آثار العبادة كلّها.

وأشكل عليه(2): بأن هذا المقدار لا يكفي لإثبات وفاء المأتي به في الصغر بمصلحة الواجب، كي يلزمه الاجتزاء به عن فعل الواجب - فيما لو

ص: 110


1- مستدرك الوسائل 3: 19.
2- نهاية الأفكار 1: 399.

كان بلوغه بعد الفراغ عن العبادة أو في أثنائها - ، وذلك لأن العبادة قبل البلوغ تكون واجدة للمصلحة، لكن هل تلك المصلحة هي من سنخ المصلحة الملزمة الثابتة في حال البلوغ؟

وبعبارة أخرى: إن أمرهم يدل على كون الفعل محبوباً لكن هل بملاك المصلحة الموجودة في البالغين أم بملاك التمرين؟

الطريق الثاني: ضم المشروعية المستفادة من قوله (علیه السلام): «مروا صبيانكم بالصلاة»(1)

إلى إطلاقات الخطابات في التكاليف كقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(2)، وإطلاقات الأدلة الدالة على ترتب الآثار.

إن قلت: إن دليل رفع القلم يدل على عدم ترتب تلك الآثار.

قلت: إن ضمّ دليل الرفع إلى دليل مشروعية عباداتهم ينتج منه أن دليل رفع القلم هو لرفع الإلزام لا أكثر.

وعليه فإن أفعال الصبي تستوفي المصلحة كاملة، فلا مجال لاستيفاء آخر، فلا تجب الإعادة بعد البلوغ في الوقت أو خارجه، كما تترتب سائر الآثار لولا الدليل الخاص.

اللهم إلا أن يقال: إن ارتكاز المتشرعة على أن الخطابات خاصة بالبالغين، فحينئذٍ لا إطلاق لخطابات التكاليف ولا إطلاق لأدلة آثارها، فتأمل.

ص: 111


1- مستدرك الوسائل 3: 19.
2- سورة البقرة، الآية: 43.

فصل في الأمر بعد الأمر

لو كرّر المولى أمره، فهل يحمل الأمر الثاني على التأكيد فلا يجب التكرار، أم على التأسيس فيجب؟

وهذا فيما لو أمكن التأسيس بسبب قدرة الفاعل وقابلية القابل ونحو ذلك، وأمكن التأكيد بأن كان قبل الامتثال مثلاً، فهنا حالتان:

الحالة الأولى: لو ذكر سببين، كما لو قال: (إن جاء زيد فأطعم)، و(إن جاء عمرو فأطعم)، فالأمران ظاهران في التأسيس، بل قيل: كذلك لو ذكر لأحدهما سبب دون الآخر، على تأمل في هذا.

الحالة الثانية: أن لا يذكر سبباً أصلاً، أو ذكر سبباً واحداً في كلا الأمرين:

1- فثبوتاً: كلاهما محتمل.

فقد قيل: بأن إطلاق المادة يقتضي التأكيد، وإطلاق الهيأة يقتضي التأسيس.

أ) فإن مقتضى إطلاق المادة هو إرادة الطبيعي، وهو يدل على التأكيد، لأن الطبيعة واحدة، فلا يمكن تعلّق الطلب بها مرتين، وإلا استلزم اجتماع المثلين.

وفيه نظر: لما مرّ من أن نسبة الطبيعي إلى الأفراد كنسبة الآباء إلى الأبناء،

ص: 112

فالطبيعي الذي ينتزع من الأمر الأول غير الطبيعي الذي ينتزع من الأمر الثاني، فلا اجتماع للمثلين، فتأمل.

ب) وإن مقتضى إطلاق الهيأة بناءً على عدم جزئيتها هو التأسيس، ومعنى الإطلاق هو أن المولى يطلب الشيء سواء كان هناك طلب آخر أم لا.

وحيث يتعارض الإطلاقان، فلابد من رفع اليد عن أحدهما، فإما عن إطلاق المادة، وذلك بحملها علی الطبيعة المهملة أو على الفرد، وإما عن إطلاق الهيأة.

وقيل: هنا احتمالان(1):

إما ترجيح إطلاق المادة، لأنها أسبق رتبة، حيث إنها معروضة للهيأة، فيجري إطلاق المادة بلا معارض، فلا تصل النوبة إلى إطلاق الهيأة.

وإما ترجيح إطلاق الهيأة، وذلك لأن سبب وجود المادة في الخارج هو الهيأة، حيث إن الوجوب هو سبب امتثال العبد بإيجاد المادة.

ويرد عليه: أولاً: باقترانهما وجوداً، وأن انعقاد الإطلاق لا يكفي فيه الأسبقيّة الرتبيّة، بل حتى مع الأسبقيّة في الوجود، لأن الملاك هو الإرادة الجدّية.

وثانياً: بأنه لو سلمنا إجداء التقدم في انعقاد الإطلاق للمتقدم، فإنما يجدي التقدم الإنشائي، حيث إنّ الإطلاق يرتبط بالإنشاء، فلا يجدي فيه التقدم والتأخر في الخارج، فتأمل.

ص: 113


1- نهاية الأفكار 1: 401.

2- وأما إثباتاً: فالظاهر أن هناك ظهور نوعي في التأكيد.

إن قلت: إن هيأة الأمر لا تدل إلا على الوجوب فقط، أما التأسيسية والتأكيدية فليس شيء منهما مدلولاً لها، إذ لم توضع الهيأة لطلبٍ لم يكشف عنه بكاشف أسبق، ولذا ليس التأكيد بمجاز.

قلت: إن الكلام في استفادة التأكيد أو التأسيس من الإطلاق، لا من الوضع، فلا يرد حينئذٍ هذا الإشكال.

3- وأما مع الشک، لأجل الإجمال - بأن قلنا بتعارض إطلاق المادة والهيأة، وعدم ترجيح أحدهما على الآخر - فإن مقتضى الأصل هو البراءة عن التكليف الزائد، فيكون نتيجة الأصل هو نتيجة التأكيد.

ص: 114

المقصد الثاني في النواهي وفيه فصول

اشارة

ص: 115

ص: 116

فصل في صيغة النهي

اشارة

وفيها بحوث:

البحث الأول: في مدلول الصيغة

فقد يقال: بأنه طلب الترك، وعليه: فلا فرق بين الأمر والنهي في المعنى إلا في المتعلّق، فأحدهما يتعلق بالفعل والآخر بالترك.

وأشكل عليه: أولاً: باستلزامه انقلاب بعض الواجبات إلى محرمات، كالصوم الذي هو طلب ترك المفطرات.

وأجيب: بأن الأمر والنهي يرتبطان بالمصلحة والمفسدة، فما كان فيه المصلحة كان مأموراً به سواء كانت المصلحة في الفعل أو الترك، وما كان فيه المفسدة كان منهياً عنه سواء كانت المفسدة في الفعل أو الترك.

وفيه: أن هذا وإن کان صحيحاً في نفسه إلاّ أنه لا يدفع الإشكال عن تفسير النهي ب-(طلب الترك)، بل هو تفسير آخر له.

وثانياً: بأن النهي مركب من مادة وهيأة، ففي مثل (لا تشرب الخمر) لا تدل المادة على الترك، فليس معنى (الشرب) هو (عدم الشرب) مجازاً، كما هو أوضح من أن يخفى، كما لا تدل الهيأة إلا على النسبة الإرسالية - أي الطلب على هذا المبنى - ، فمن أين استفيد (الترك)، وما هو الدال عليه؟

وفيه: أن النهي إنّما يكون بأداته، مثل (لا)، ففي مثل (لا تشرب) لنا

ص: 117

معنييان حرفيان: أحدهما يستفاد من كلمة (لا)، والآخر من الهيأة، فلا محذور في كون الدال على الترك هو أداة النهي.

وثالثاً: إن الارتكاز العرفي لا يساعد على كون مدلول النهي هو طلب الترك، بل ارتكازهم على الدلالة على الزجر في النهي، مع كون الداعي هو ذلك الزجر.

إن قلت: لا دلالة للنهي على الزجر التكويني، وأما الزجر التشريعي فالنهي بنفسه مصداق له، فلابد من كون المدلول شيئاً آخر، فإن الشيء لا يكون كاشفاً عن نفسه!

قلت: قد مرّ عدم اشتراط الكشف في الدلالة الوضعية، بل يكفي الإخطار، أي إيجاد المعنى في الذهن، كسائر الإنشائيات.

إن قلت: إن العدم لا يتعلق به قدرة المكلف، لأنه أزلي، فكيف يتعلق به التكليف؟

قلت: ليس الكلام في الأزلي من العدم، بل النعتي منه، وحينئذٍ فلو لم تتعلق القدرة بالعدم لكان الوجود ضرورياً، كما في العكس فلو لم تتعلق بالوجود لكان الامتناع ضرورياً.

والحاصل: إنه لا إشكال ثبوتاً في كون مدلول الصيغة هو (طلب الترك)، إنّما الكلام في أن الارتكاز العرفي يدل على أن معناها هو الزجر.

البحث الثاني: كيفية الامتثال في النهي

اشارة

و(الكف) هو حالة نفسية تمنع من انسياق النفس نحو الشيء، وبعبارة أخرى: إيجاد حالة في النفس تمنع من ارتكاب الشيء حين حصول الرغبة

ص: 118

فيه، أو تمنع عن حدوث الرغبة بحيث لولا النهي لأمكن فعل الشيء.

وهنا أمران:

الأمر الأول: في تحقق امتثال النهي

والظاهر تحققه بالترك، إذ المفسدة الموجبة للنهي عن الشيء إنّما هي في تحقق الشيء خارجاً، ولذا يرتبط التكليف بالتروك الخارجية، ولا ارتباط لها في الحالة النفسية أصلاً، وهكذا في جانب الأمر، فالمصلحة ترتبط في التوصليات في الفعل دون الأمر النفسي، وعليه فلو ترك الشيء غفلة أو لسبب آخر غير نهي المولى، فقد تحقق الغرض من النهي، وذلک بعدم تحقق المنهي عنه في الخارج.

إن قلت: إن النهي قد صدر لإيجاد الداعي، وهذا إنّما يتعقل في صورة وجود المقتضي للفعل، بحيث يكون المكلف في مقام العمل، فينهى المولى عنه، أما لو لم يكن العبد في مقام العمل فلا معنى للنهي عنه لتحقق الانتهاء والانزجار.

قلت: أولاً: لا ينحصر سبب النهي في إيجاد الداعي، فقد يكون لإتمام الحجة حتى مع العلم بالعصيان وعدم إيجاد الداعي.

وثانياً: في التكاليف العامة يصح أمر الجميع ونهيهم فيما لو أراد إيجاد الداعي ولو في البعض، فتحقق الانزجار في البعض لا يمنع عن صحة النهي العام للجميع.

وثالثاً: إن لازم هذا الكلام عدم صحة نهي من كفّ نفسه لا لأجل نهي المولى، فهل يقال: بعدم صحة نهيه لعدم إيجاده الداعي، هذا فضلاً عن

ص: 119

تقوية الداعي بالسبب الثاني الذي هو النهي الشرعي.

ورابعاً: إن صحة النهي لا تتوقف على فعلية إيجاد الداعي، بل يكفي في الصحة إمكان إيجاده، كما مرّ في الأوامر.

الأمر الثاني: في الثواب على الامتثال

والظاهر أن الترك إن لم يكن مسبباً عن النهي، فلا ثواب فيه، لأن الثواب إنّما يكون في الطاعة، وهي لا تتحقق بمجرد الترك، وإنّما بقصد الامتثال، فالقصد مأخوذ فيها، وبعبارة أخرى: إن الامتثال وإن لم يكن من الأمور القصدية - لأنه مطابقة المتروك للمنهي عنه، ومطابقة المأتي به للمأمور به - إلا أن الإطاعة عنوان قصدي، فالعقل لا يرى التارك والفاعل من غير قصد مستحقاً للثواب.

نعم قد يقال: بأن الثواب على امتثال التکاليف الشرعية كلّه تفضّلي - كما مرّ - ولا مانع من التفضل في بعض التروك أو الأفعال حتى من غير قصد أمر المولى، كما قيل بثبوت هذا التفضل في الثواب على ترك شرب الخمر وعلی البکاء على الإمام الحسين (علیه السلام) حتى لو لم يقصد النهي أو الأمر.

البحث الثالث: في عموم النهي الشمولي

إن هناك فرقاً بين الأمر والنهي، من حيث إن امتثال الأمر يتحقق بإيجاد الطبيعة مرة واحدة، ولكن في امتثال النهي لابد من عدم إيجاد أي فرد من أفرادها، وعلى ضوء ما مرّ من أن الأوامر والنواهي تتعلق بالطبائع دون الأفراد كيف يمكن تصوير هذا الفرق، فهل هو بالوضع أم الإطلاق أم بدلالة العقل؟

لا إشكال في عدم الفرق وضعاً، لأن المادة تدل على الطبيعة، ولا تدل

ص: 120

الهيأة إلا على النسبة الإرسالية أو الزجرية، وكذا لا فرق من جهة الإطلاق، لأن الشمولية والبدلية لا تستفاد من الإطلاق كما سيأتي، فلابد أن يكون الفرق بدلالة العقل، وفي كيفية تصويرها وجوه، منها:

الوجه الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1): من أن وجود الطبيعة يكون بوجود فرد، ولكن عدمها لا يكاد يكون إلا بعدم جميع الأفراد.

ويرد عليه(2): أولاً: أن النواهي كالأوامر على أقسام، فقد يكون أمر بنحو السريان للطبيعي في الأفراد، ولازمه مطلوبية كل الحصص الفردية، فينحل الطبيعي إلى تكاليف بعدد الحصص، وقد يكون بنحو صرف الوجود ولازمه مطلوبية أول وجود للطبيعي، فكذلك النهي قد يكون بنحو السريان وذلك في غالب النواهي وقد يكون بنحو صرف الوجود بأن يكون المبغوض أول الوجودات دون سائر الأفراد، كما لو أمره بالهدوء لكيلا يعلم بهم العدو، فإنه مع الصياح الأول يتحقق كل المبغوض، فلا مبغوضية لسائر الصياح، وحينئذٍ فالسؤال ما هو الذي جعل الأمر من قبيل الثاني، والنهي من قبيل الأول؟

وثانياً: العدم والوجود متناقضان، فلابد أن يُلاحظا بشكل واحد من جهة الإطلاق والتقييد والإهمال، فلا يصح ملاحظة الوجود بشكل وملاحظة العدم بشكل آخر.

وعليه فإن الطبيعة المأخوذة في الأمر والنهي لابد من ملاحظتها فيهما إما

ص: 121


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 232.
2- نهاية الأفكار 1: 403.

بنحو الطبيعة المهملة وجوداً وعدماً فتكون النتيجة جزئية في الأمر والنهي، وإما بنحو الوجود السِعِي - وهو العام الشمولي - فتكون النتيجة عموم الحكم لجميع الأفراد في الأمر والنهي، وإما بنحو الكثرة - وهو العام المجموعي - فتكون النتيجة وجوب واحد وحرمة واحدة لجميع الأفراد مجتمعين.

ولا يصح ملاحظة الوجود بنحو صرف الوجود بحيث ينطبق على أول الوجودات، ونقيضه عدم ناقض العدم وهو بقاء العدم الكلي على حاله كي يكون لازم مثل هذا الوجود تحقق الطبيعة بفرد، ولازم نقيضه انتفاء الطبيعة بانتفاء جميع الأفراد.

وذلك(1)

لأن طارد العدم الكلي لا مطابق له في الخارج، لأن كل وجود هو جزئي فيطرد عدمه البديل له، لا عدمه وعدم غيره، فأول الوجودات أوّل ناقض للعدم، ونقيضه عدم هذا الأول، فإن عدم الوجود الأول يستلزم عدم الثاني والثالث وهكذا لا أنه عينها.

أورد عليه: بأن أصل المطلب - وهو لزوم ملاحظة الوجود والعدم في النقيضين بنحو واحد - لا إشكال فيه، وإنّما القائل بأن الطبيعة في الأمر والنهي هي صرف الوجود يريد بذلك إثبات الفرق بين الأمر والنهي، سواء كان الفرق بالمطابقة أو بالالتزام، فإن صرف الوجود يتحقق بأول فرد ففي الأمر يراد هذا الفرد فيتحقق به، وفي النهي يراد ترك هذا الفرد الذي هو أول الوجودات، وامتثاله لا يكون إلا بترك جميع الأفراد، لأن أي فرد يوجد فهو أول وجود الطبيعة فترك أول الوجودات لا يتحقق إلا بترك جميع

ص: 122


1- نهاية الدراية 2: 289.

الأفراد(1)،

فلا يضر بالمقصود كون عدم صرف الوجود ليس هو عين ترك جميع الأفراد بل هو ملازم له.

لكن لا يمكن الالتزام بهذا كما سيأتي في البحث الرابع بإذن الله تعالى.

الوجه الثاني(2): إن سبب الأمر والنهي هو المصلحة والمفسدة، والغالب تحقق المصلحة كاملة بالفرد الأول، دون المفسدة التي هي سارية غالباً في جميع الأفراد، وهذه الغلبة أوجبت ظهوراً في كون الطبيعة في الأمر على نحو صرف الوجود، وفي النهي على نحو الوجود الساري.

البحث الرابع: في استمرار النهي بعد العصيان

لو عصى النهي فارتكب المخالفة، فهل يسقط النهي بحيث لا محذور في الارتكاب مرّات أخرى، أم لا يسقط؟

لا إشكال في استمرار النهي في الأوامر العرفية والشرعية، إلا إذا كانت قرينة على سقوطه، فما هو الوجه في ذلك؟

وفي ذلك وجوه منها:

الوجه الأول: إن النهي لا يدل وضعاً ولا بدلالة العقل على حكم ما بعد المخالفة فلا يدل على استمرار طلب الترك أو عدم استمراره، ولكن إطلاقه يدل على استمراره، وذلك الإطلاق هو ثبوت النهي مطلقاً، سواء عصى أم لم يعص، أي تعميم الطبيعة إلى ما بعد العصيان.

وأورد عليه: بأن مقدمات الحكمة لا تدل على أزيد من إرادة الطبيعة

ص: 123


1- منتقی الأصول 3: 10.
2- راجع فوائد الأصول 1: 395.

غير المقيدة، فليس المولى في مقام البيان من جهة البدلية أو الشمولية أو نحو ذلك، فلا يمكن التمسك بالإطلاق هنا لإثبات الشمولية.

الوجه الثاني: ما ذكر في البحث السابق، من الغلبة التي أوجبت قرينة نوعية عامة في جميع الأوامر والنواهي بحيث إن إرادة غير ذلك بحاجة إلى قرينة صارفة، فلم يكن الفرق من حيث المتعلق الذي هو الطبيعة التي لا تفترق فيهما.

ومن ذلك يظهر الإشكال في مبنى كون المتعلق صرف الوجود، فإنه لو كان ذلك متعلقاً للنهي لسقط النهي بأول مخالفة، لأن المرات الأخرى لا تكون أول الوجودات، بل ثاني وثالث الوجودات وهكذا، وهي غير منهي عنها بناءً على مبنى صرف الوجود.

فإن قلت: إن أول الوجودات منهي عنه باللفظ حيث يراد به صرف الوجود، وأما سائر الوجودات فهي منهي عنها بالملاك لتلك القرينة العامة.

قلت: مضافاً إلى أن الارتكاز يدل على أن سائر الوجودات مشمولة للنهي بنفسه، أنه لا وجه لحمل المتعلق على شيء يكون غرض المولى أعم منه دائماً، بل حيث إن المفسدة عامة حتى لما بعد العصيان، فمن اللغو تخصيص النهي لحالة ما قبل العصيان ثم تعميمه بالملاك.

البحث الخامس: في الحرمة الكفائية والتخييرية

1- أما الحرمة الكفائية: فلا إشكال في وقوعها، ومعناها تحريم الجمع، لا تحريم الجميع، كما لو منع المولى أحد عبديه - لا على التعيين - عن الذهاب، لحاجته إلى واحد منهما، فلو ذهب أحدهما دون الآخر لم يفعلا

ص: 124

حراماً وكذا لو بقيا، أما لو ذهبا معاً أثِما جميعاً.

إن قلت: إن ذهب الأول تعويلاً على بقاء الثاني، فذهب الثاني أيضاً فهل يأثم الأول أيضاً؟

قلت: الأمر مرتبط بكيفية التحريم، فيحتمل أن يقال إن سبب وقوع المحذور هو الثاني دون الأول فهو الذي كان سبباً للجمع الممنوع، ويحتمل شمول الحرمة للأول أيضاً بأن لا يجوز له الذهاب - في المثال - إلا بعد الاطمئنان ببقاء الثاني، فتأمل.

إن قلت: إن التحريم الكفائي في حقيقته هو وجوب كفائي، ففي المثال وجوب بقاء أحدهما عند المولى.

قلت: إذا كان ملاك التحريم هو المفسدة في الشيء كان ذلك سبباً للتحريم لا لوجوب ضده، وهذا هو الفرق بين الواجب والحرام، حيث إن الملاك إن كان المصلحة كان الوجوب وإن كان المفسدة كانت الحرمة.

2- أما الحرمة التخييرية: بأن تكون المفسدة في الجمع لا في الجميع، كما لو نهاه عن أكل أحد طعامين على سبيل البدل حيث يكون في اجتماعهما الضرر لا في كل واحد منهما منفرداً.

فالمطلوب منه ترك أحدهما أو تركهما، كما أنه في الواجب التخييري كان المطلوب فعل أحدهما أو فعلهما معاً، فإن كان التركان في عرض واحد حصل بهما الامتثال، كالإتيان بالواجبين التخييريين في عرض واحد، وإن كان أحدهما أسبق حصل به الامتثال دون الثاني لسقوط الغرض، إلا لو كان النهي مستمراً فيحصل بهما الامتثال أيضاً، فتأمل.

ص: 125

فصل في اجتماع الأمر والنهي

اشارة

وهنا بحوث:

البحث الأول: في عنوان المسألة

عنون الكثير المسألة بأنه (هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد أم لا)، فلا بأس بالتعرض إلى مفردات هذا العنوان مختصراً.

الأول: (الجواز) لا يراد به التكليف كما هو واضح، إذ لا إشكال في أمر المولى بطبيعتين مختلفتين مع إمكان اجتماعهما في مجمع واحد أحياناً، كالصلاة والغصب، كما لا يراد به القبح لوضوح عدم القبح فيما لو كان الاجتماع بسوء اختيار المكلف، وإنّما يراد به الإمكان، بحيث يكون تعدد العنوان في المجمع مصححاً لتعلق إرادة وكراهة ثم أمر ونهي به، أم لا يكون مصححاً عقلاً.

الثاني: (الاجتماع) لا يراد به الاتحاد من جميع الجهات، فإن تضاد الأحكام من البديهيات، وعدم إمكان اجتماع الضدين في محل واحد من الواضحات، بل المراد أن تعدد الجهة هل يرفع أحد شروط استحالة اجتماع الضدين أم لا، ولذا رجّح المحقق النائيني تغيير العنوان إلى أنه «إذا اجتمع متعلق الأمر والنهي - من حيث الإيجاد والوجود - فهل يلزم منه أن يتعلق

ص: 126

كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر أو لا يلزم ذلك»(1).

وبعبارة أخرى: إن استحالة اجتماعهما مطلبٌ مفروغ عنه، إنّما الكلام في أن ما نحن فيه اجتماع لهما فيستحيل أو ليس اجتماع فيمكن.

الثالث: (الأمر والنهي) لا يراد بهما إنشاؤهما، وذلك لعدم التضاد بين الوجودات الإنشائية، وإنّما المراد المبدأ أي اجتماع إرادة وكراهة، أو المنتهى أي اجتماع وجوب وتحريم، حيث الکلام في أنه مع اختلاف الجهة هل يمكن اجتماع الإرادة والكراهة أو الوجوب والتحريم، أم لا.

الرابع: (الواحد) لا يراد به الواحد الشخصي، لوضوح عدم قدرة المكلف على فعل شيء واحد وتركه معاً فلا يصح البحث عن إمكان ذلك أو عدمه.

ولا الواحد بالجنس، لوضوح إمكان اختلاف أحكام الأنواع أو الأصناف، كالسجود لله الواجب، والسجود للصنم المحرّم.

ولا الواحد بالإيجاد المتعدد بالوجود، وذلك لاتحاد الإيجاد والوجود، وإنّما فرقهما في الاعتبار، فباعتبار نسبته إلى الفاعل كان إيجاداً، وباعتبار نسبته إلى القابل كان وجوداً، فلا يعقل وحدة الإيجاد مع تعدد الوجود حقيقة.

ولا الواحد العرفي المتعدد دقة، وذلك لأن البحث عقلي وليس لفظياً.

بل الكلام في عموم أو إطلاق كلا الدليلين وانطباق الطبيعتين على المجمع، فهل يعقل شمول الإطلاقين له أم لا؟

والحاصل: إن المراد الواحد بالوجود، والذي انطبق عليه مفهوم طبيعتين

ص: 127


1- فوائد الأصول 1: 396-397.

مختلفتين، بمعنى انتزاعهما منه، كالحركة التي ينتزع منها الصلاة والغصب، فهل وحدة العنوانين في الوجود مصحِّح لتعلق الأمر والنهي بهذا الوجود الواحد أم لا؟

إن قلت: إن عنوان البحث يلزم أن يكون بنحوٍ يدخل فيه جميع الأقوال في المسألة، وفيما نحن فيه يبتني القول بالامتناع على وحدة المتعلقين وجوداً، ويبتني القول بالجواز على تعدده، فكيف يصح أخذ وحدة المتعلقين وجوداً في عنوان البحث؟

قلت: إن الأمر والنهي يتعلقان بالطبائع التي هي مفاهيم ذهنية ولكن بما هي فانية في الوجودات الخارجية، والظاهر أنه لا خلاف في وحدة المجمع وجوداً، وإنّما الخلاف في أن تعدد المتعلّق جهةً هل مصحح للاجتماع أم لا، فتأمل.

البحث الثاني: في الفرق بين هذه المسألة، ومسألة اقتضاء النهي للفساد

اشارة

فقد يتوهم اتحادهما، لأن البحث هنا عن أن النهي هل يوجب سقوط الأمر فتفسد العبادة لعدم الأمر بها، والبحث هناك عن أن النهي عن العبادة هل يقتضي عدم وقوعها مصداقاً للمأمور به فتفسد.

وقد ذكر الأعلام جملة من الفروق، منها:

الفرق الأول

إن الاختلاف في الموضوع، وذلك ببيانين:

الأول: ما عن المحقق القمي(1)،

من أن الموضوع هنا في العامين من

ص: 128


1- قوانين الأصول 1: 358.

وجه، كالصلاة والغصب، والموضوع هناك في العموم المطلق كالصلاة والصلاة في جلد غير المأكول - مثلاً - .

الثاني: ما عن صاحب الفصول(1)،

من أن الفرق بالموضوع أيضاً، لكن لا بالوجه الذي ذكر في القوانين، وذلك لإمكان كون المطلق والمقيد من مصاديق الاجتماع، بل البحث هنا في طبيعتين - سواء كانت النسبة بينهما من وجه، أو العموم المطلق كالناطق والشاعر - ، وهناك البحث في طبيعة واحدة.

ويرد عليهما: أن تعدد الموضوع لا يوجب تعدد المسألة مع وحدة الجهة، فمثل مقدمة الصلاة ومقدمة الصوم موضوعان لكن البحث عن وجوب مقدمتهما مسألة واحدة، لوحدة جهة البحث، وهي سراية وجوب ذي المقدمة إلى المقدمة أو عدم سرايتها.

الفرق الثاني

إن الاختلاف في جهة البحث، كما في الكفاية(2)، فالجهة في مسألة الاجتماع هي أنه لو تعدد العنوان مع وحدة المعنون فهل يوجب ذلك السراية أم لا، والجهة في مسألة الاقتضاء هي أن النهي هل يقتضي البطلان أم لا بعد الفراغ عن توجه النهي إلى العبادة.

وبعبارة أخرى: إنه بناءً على القول بالامتناع وترجيح جانب النهي تكون مسألة الاقتضاء من صغريات مسألة الاجتماع.

وأورد عليه: أولاً: بأنه إن أريد من جهة البحث الحيث التعليلي - وهي

ص: 129


1- الفصول الغرويّة: 125.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 237.

العلة لثبوت المحمول للموضوع - فليس البطلان في مسألة الاقتضاء حيث تعليلي، بل هو المحمول بنفسه، فكان لابد من ذكر جهة البطلان، وهي عدم تمشي قصد القربة - مثلاً - .

وإن أريد الغرض، فإنه من الواضح أنه في المسألتين واحد، وهو تصحيح العبادة المنهي عنها أو عدم تصحيحها.

وثانياً: إن الفساد في مسألة الاجتماع مستند إلى النهي بوجوده العلمي حيث لا تتمشى قصد القربة، وفي مسألة الاقتضاء إلى النهي بوجوده الواقعي، فالفرق من هذه الجهة، لا ما ذكر.

وفيه: صحة الصلاة في حال الجهل أو النسيان في المسألة الثانية كما لو صلى في جلد ما لا يؤكل لحمه جهلاً فلم يؤثر النهي بوجوده الواقعي.

الفرق الثالث

إن الاختلاف في الرتبة.

وذلك لأن مسألة الاجتماع تنقّح موضوع مسألة الاقتضاء، فالبحث هنا في سراية النهي إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته، فإذا ثبتت السراية تنقّح موضوع المسألة هناك فحينذاك يبحث عن اقتضاء النهي للفساد أو عدمه.

وأورد عليه: بأن البحث في مسألة الاجتماع ليس في السراية وعدمها، بل عن أصل إمكان الاجتماع حتى مع عدم السراية، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الفرق الرابع

إن الاختلاف في المسألتين إنّما يكون لو تعدد المحمول مع تعدد

ص: 130

الحيث التعليلي معاً، فلا يكفي تعدد أحدهما دون الآخر.

وفي مسألة الاجتماع والاقتضاء يختلف المحمولان، حيث إن محمول مسألة الاجتماع هو الامتناع والإمكان، ومحمول مسألة الاقتضاء الفساد والصحة، كما تختلف المسألتان في الحيث التعليلي، ففي الاجتماع طلب الضدين وعدمه مثلاً، وفي الاقتضاء تمشي أو عدم تمشي قصد القربة، فتأمل.

الفرق الخامس

إن مسألة (الاقتضاء) تندرج في مسألة التعارض، لأجل تكاذب الدليلين في أصل المصلحة، بالإضافة إلى التمانع في مرحلة الحكم، وأما مسألة (الاجتماع) فهي تندرج في مسألة التزاحم - ولو على القول بالامتناع - وذلك لوجود الملاك في كليهما، ويدل عليه حكمهم بصحة العبادة في الغصب مع الغفلة أو الجهل بالموضوع أو الحكم عن قصور حتى على القول بتقديم جانب النهي، فاللازم الرجوع إلى قواعد باب التزاحم بترجيح أقوى الملاكين ولو كان الآخر أقوى سنداً، عكس مسألة الاقتضاء التي تندرج في التعارض فلابد من ترجيح أقوى السندين(1).

إن قلت: مسألة الاجتماع أيضاً تندرج في التعارض، لأن الفرق بين التزاحم والتعارض - كما عن المحقق النائيني(2)

- هو أن (التعارض) إنّما هو في مرحلة نفس الحكم حيث تتزاحم الملاكات، وأما (التزاحم) فهو في مرحلة الامتثال وعدم قدرة العبد على الجمع بينهما، بعد الفراغ عن أصل

ص: 131


1- نهاية الأفكار 1: 412.
2- راجع فوائد الأصول 1: 317.

التشريع حسب الملاك ولكن اتفق اجتماعهما.

قلت(1): حقيقة التزاحم هو وجود الملاكين مع ضيق الخناق من تحصيلهما، وحقيقة التعارض هو عدم إحراز الملاكين، بل قد نعلم بعدم وجود الغرض في أحد الموردين، فلا فرق بين كون الغرضين في مقام الجعل أو في مقام الامتثال.

وعليه فبقرينة صحة الصلاة في الغصب مع النسيان نعلم بوجود الملاكين، فيكون من باب التزاحم لا التعارض.

ويرد عليه: أنه حتى في مسألة الاقتضاء لو كان جاهلاً أو ناسياً صحت عبادته كمن صلّى في جلد ما لا يؤكل لحمه جاهلاً أو ناسياً، فعلى كلامه تدخل مسألة الاقتضاء في باب التزاحم أيضاً، فلم يحصل الفرق بينهما، هذا مع قطع النظر عن البحث في المبنی، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

البحث الثالث: في أصولية المسألة

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أصوليتها لانطباق ضابطها عليها، وهي وقوع المسألة في كبرى دليل الاستنباط(2)،

كأن يقال: هذه الصلاة في المغصوب قد اجتمع فيها الأمر والنهي، وكلما اجتمع فيه الأمر والنهي فهو باطل على الامتناع، فهذه الصلاة باطلة، أو كلما اجتمعا فيه فهو صحيح على الإمكان، فهذه الصلاة صحيحة.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

ص: 132


1- نهاية الأفكار 1: 413.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 242.

الإشكال الأول: بأنها لا تقع مباشرة في طريق الاستنباط، بل لابد من ضم كبرى أخرى إليها لتكون منتجة، فالمسألة في إمكان الاجتماع وعدمه، فلابد من ضم (فساد العبادة بالنهي)، فتكون صورة البرهان هكذا: (هذه الصلاة وقعت في المغصوب)، (والاجتماع ممتنع فيقدم النهي)، (فالعبادة منهي عنها)، (فهي فاسدة)، فالحكم الفرعي الكلي لم يستنبط من مسألة الاجتماع مباشرة.

وأجيب: أولاً: بأنه يكفي في الأصولية وقوع المسألة كبرى الاستنباط مباشرة ولو على بعض المباني، وفيما نحن فيه على مبنى جواز الاجتماع لا نحتاج إلى ضمّ كبرى أخرى.

وأورد عليه: بأنه لابد من ضم كبرى أخرى، فإن مجرد إمكان الاجتماع لا يصحح العبادة، بل لابد من ضم (عدم قدح النهي عن مصداق المأمور به في صحة العبادة) هذا لو قلنا بوحدة المعنون، أما على القول بتعدده فلابد من ضم كبرى أخرى هي (إمكان الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور) مثلاً(1).

وثانياً: بأنه لو أردنا الحكم الوضعي من صحة العبادة أو بطلانها فلابد من ضم كبرى أخرى، لكن لو أردنا الحكم التكليفي من الوجوب والحرمة فلا نحتاج إلى ضم شيء آخر، كأن نقول: هذا مما اجتمع فيه الأمر والنهي، والاجتماع ممكن، فهذا واجب، أو نقول: هذا مما اجتمعا فيه، والاجتماع ممتنع مع تقديم جانب النهي، فهذا حرام.

ص: 133


1- بحوث في علم الأصول 3: 51.

الإشكال الثاني(1): بأن البحث إنّما هو عن صغرى مسألة أصولية أخرى، فتكون مسألة الاجتماع من المبادي التصديقية، وذلك لرجوع البحث إلى البحث عما يقتضي وجود الموضوع لمسألة التزاحم أو التعارض.

وذلك لأن البحث في مسألة (الاجتماع) عن أن اتحاد المتعلقين هل يقتضي تعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر، وهذا بحث عن صغرى التعارض، فتكون من مبادئ مسائل التعارض، وكذا البحث عن كفاية المندوحة بحث عن صغرى التزاحم.

وبتعبير آخر كما في المنتقى(2): إن في مسألة الاجتماع احتمالات ثلاث، وكلها لا تقع في طريق الحكم مباشرة، بل تكون صغرى للتزاحم أو التعارض...

1- فعلى الامتناع لأجل التضاد، يكون تعارض بين الدليلين، فكانت من المبادئ التصديقية للتعارض.

2- وعلى الامتناع لأجل التزاحم - حيث لايمكن التمسك بإطلاق كلا الدليلين بل لابد من تقييد أحدهما - تكون المسألة من المبادي التصديقية للتزاحم في مرحلة الحكم.

3- وعلى الجواز من كلتا الجهتين - التضاد والتزاحم - يمكن التمسك بإطلاق كلا الدليلين من غير تقييد أحدهما، فتكون المسألة من التزاحم في مرحلة الامتثال.

ص: 134


1- فوائد الأصول 1: 400.
2- منتقی الأصول 3: 22.

البحث الرابع: في عقلية المسألة

حيث إن المبحوث في هذه المسألة هو الإمكان والامتناع، وذلك مما لا يرتبط بالألفاظ، فلذا كانت مسألة عقلية.

وأما ذكرهم لها في مباحث الألفاظ، فلأن الغالب الدلالة على الوجوب أو الحرمة باللفظ، مع عدم تخصيص القدماء فصلاً للأمور المستقلة العقلية، فتبعهم في الترتيب المتأخرون.

إن قلت: يكفي في إدخال المسألة في مباحث الألفاظ قول بعضهم: (بالإمكان العقلي والامتناع العرفي) فإنه يكفي في كونها لفظية على أحد الأقوال.

قلت: ليس المراد من (الامتناع العرفي) الامتناع لفظاً، فإن ذلك لا يرجع إلى معنى محصل، لعدم ارتباط الألفاظ بالإمكان والامتناع أصلاً، بل مرادهم التسامح العرفي حتى في الوجوب والحرمة المدلول عليهما بغير اللفظ، فإنه على هذا القول حيث إن المجمع متعدد دقةً فلا امتناع عقلي، لكن لما كان يراه العرف واحداً لذا يجري فيه البحث.

وبتعبير آخر: إن العقل يحكم بامتناع اجتماعهما في شيء واحد، لكن تشخيص كونه واحداً أم لا فهذا لا يرتبط به بل يرتبط بالعرف.

وأورد على هذا القول: بأن العرف ليس بحجة في تشخيص المصداق، فلا معنى للامتناع العرفي حتى من هذه الجهة.

وأجيب: بأن التسامح العرفي قد يكون سبباً لظهور اللفظ أو لسقوط ظهوره في معنى، فيدخل في باب حجية الظواهر وعدم حجية غير الظواهر.

ص: 135

وفيما نحن فيه قد يقال: بوجود تنافر بين الأمر والنهي عرفاً، حتى لو لم يثبت التنافر عقلاً، وهذا يوجب دلالة التزامية عرفية لدليل كل من الأمر والنهي على نفي الآخر فيتعارضان(1)،

فتأمل.

ثم إن المحقق الخراساني(2)

ذهب إلى أن غاية الأمر دعوى دلالة اللفظ على عدم وقوع بعد اختيار جواز الاجتماع.

وأشكل عليه: بأنه إن كان المراد عدم شمول إطلاق الأمر والنهي للمجمع، فغايته عدم الدلالة، لا الدلالة على العدم.

البحث الخامس: في عموم البحث لكل أنواع الواجب والحرام

فعن صاحب الفصول(3)

أنه خصص البحث بالواجب النفسي العيني التعييني، إما من جهة انصراف الواجب إليها، أو للإطلاق حيث إن الثلاثة لها قيود زائدة من المقدمية للغير أو العِدل أو عدم فعل غيره، كما مرّ مفصلاً.

ويرد عليه: أن البحث في الاجتماع بحث عقلي في إمكانه أو امتناعه ولا يرتبط باللفظ كي نستند إلى الانصراف أو مقدمات الحكمة.

ولو فرض أن البحث لفظي فلا يمكن الاستناد إلى الإطلاق أيضاً، لأن من مقدمات الحكمة أن لا تكون قرينة في البين، وفيما نحن فيه توجد قرينة تعمّ البحث إلى الثلاثة وهي قرينة عقلية لعموم الملاك في كل الأقسام، كما لا يمكن الاستناد إلى الانصراف حيث إن منشأه إما غلبة

ص: 136


1- مباحث الأصول 3: 395.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 246.
3- الفصول الغرويّة: 124.

الوجود أو غلبة الاستعمال، وكلاهما مفقودان في المقام.

وكذا في جانب الحرمة لا فرق في أقسامها فتشمل الحرمة التخييرية والكفائية وغيرهما، فإن قلنا باستحالة الاجتماع فلا يجتمع الواجب بأي قسم من أقسامه مع الحرام بأي أقسامه، وقد عمّم المحقق الخراساني في الكفاية البحث لجميع أقسام الوجوب(1).

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(2)

بأنه على مبنى المحقق الخراساني لا يجري البحث في الوجوب المقدمي، إلا فيما لو كان له عنوان آخر غير المقدمية كالطهارات الثلاث.

وذلك لأن الأمر المقدمي عنده لا يتعلق إلا بما هي مقدمة بالحمل الشائع عقلاً، لا بعنوان المقدمية، وعليه فلا يكون المجمع واحداً ذا وجهين، فتأمل.

البحث السادس: في أخذ قيد المندوحة

فقد يقال: إن النزاع في الاجتماع إنّما هو فيما كان للمكلّف مفرّ وطريق لامتثال الأمر والنهي معاً، كما لو تمكن من الصلاة في غير المغصوب، ولولا المندوحة استحال التكليف بكليهما، لعدم قدرة المكلّف على الامتثال، والتكليف بالمحال محال.

وأشكل عليه: أولاً: بأن البحث في الاجتماع إنّما هو في ارتفاع التضاد بتعدد العنوان أو عدم ارتفاعه، فالكلام في مرحلة التكليف، أما قيد المندوحة فهي مرتبطة بمرحلة الامتثال، وليس الكلام في مسألة الاجتماع في ذلك.

ص: 137


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 246.
2- نهاية الدراية 2: 295.

وبعبارة أخرى إن البحث في مقامين: الأول: في إمكان الاجتماع أو استحالته، الثاني: في صحة التكليف بالأمر والنهي في الواحد المتعدد العنوان أم لا، وكلامنا في الأول وقيد المندوحة مرتبط بالثاني.

نعم لو قلنا بالإمكان في المقام الأول، فلابد من القول بوجود شرائط التكليف في المقام الثاني من العقل والقدرة ونحوهما، وقيد المندوحة يرتبط بالقدرة، لكن ذلك غير مرتبط ببحث الاجتماع.

وأجيب(1): بأن عنوان المسألة عام، و لا يُقيَّد العنوان بتعدد الجهة وعدمها لأنها حيث تعليلي، فليست حيثاً تقييدياً مُقوّماً للموضوع كي يقال بعدم احتياج عنوان البحث إلى التقييد بالمندوحة ليتمحّض البحث في خصوص الجواز والامتناع من حيث خصوص التضاد وعدمه.

مضافاً إلى أن الغرض يترتب على الجواز الفعلي، فلابد من تعميم البحث وإثبات الجواز من جميع الوجوه اللازمة من تعلق الأمر والنهي بواحد ذي وجهين، لا الوجوه العارضة من باب الاتفاق، فلا يقاس المندوحة وعدمها بسائر الجهات الاتفاقية المانعة عن الحكم بالجواز فعلاً.

وفيه: أن مثل العقل والقدرة من غير جهة المندوحة أيضاً كالمندوحة ليست مشترطة من باب الاتفاق، بل هي شروط عقلية دائمة، فتأمل.

وثانياً(2): بأنه لو كان تعدد الجهة مجدياً في تعدد المعنون، لكان مجدياً في التقرب به من حيث رجحان نفسه، فإن عدم المندوحة يمنع عن الأمر

ص: 138


1- نهاية الدراية 2: 296.
2- نهاية الدراية 2: 297.

لعدم القدرة على الامتثال، ولا يمنع عن الرجحان الذاتي الصالح للتقرب به، فكما أن تعدد الجهة يكفي من حيث التضاد، كذلك من حيث ترتب الثمرة، وهي صحة الصلاة، فلا موجب للتقييد بالمندوحة، لا على القول بالتضاد إذ لعدم الصحة تكفي الاستحالة من جهة التضاد، ولا على القول بعدم التضاد وذلك لحصول التقرب لو قلنا بتعدد الجهة.

أقول: إنه مع عدم المندوحة لا إشكال في سقوط أحد التكليفين - الأمر والنهي - لئلا يكون تكليفاً بما لا يطاق، والغالب سقوط النهي للاضطرار إلى المنهي عنه، نعم لو دار الأمر بين امتثال أحدهما حصراً كما لو خيره الظالم بين الصلاة في المغصوب أو عدم الصلاة في المباح فحينئذٍ يسقط أضعفها ملاكاً ويبقي الآخر، ولو تساويا تخير.

ومع سقوط أحد التكليفين لا موضوع لبحث الاجتماع، لأن المسألة فيما لو كان هناك أمر ونهي بطبيعتين ثم اجتمعت الطبيعتان في فرد اتفاقاً مع إمكان امتثالهما في فرد آخر، وعليه فإن عدم القدرة الشرعية بعدم المندوحة وإن كانت في مرحلة الامتثال إلا أن عدم القدرة دائماً في حال عدم المندوحة يكون سبباً لعدم التكليف أصلاً في حال عدم المندوحة فرجع البحث إلى المقام الأول، فتأمل.

البحث السابع: في عموم النزاع سواء قلنا بأن التكاليف تتعلق بالطبائع أم بالأفراد

قد يتوهم: أنه لا إشكال في الامتناع بناءً على تعلق الأحكام بالأفراد وذلك لأن الجواز يبتني على تعدد المتعلّق، والفرد واحد في ماهيته ووجوده، وأما بناءً على تعلقها بالطبائع فقد يقال بالجواز وقد يقال بجريان

ص: 139

القولين من الجواز والامتناع.

ومنشأ التوهم هو أن الفرد وجود واحد شخصي، ويستحيل تعلق حكمين بالواحد الشخصي فإنه من اجتماع الضدين، عكس الطبيعة التي هي كلي.

وأجاب صاحب الكفاية(1):

بأن (المجمع) شيء واحد وله وجهان، سواء قلنا بأن التكاليف تتعلق بالطبائع أم بالأفراد، فلذا يجري البحث عن جدوى تعدد الوجه في رفع التضاد أم عدم جدواها، وذلك لأن موضوع الحكمين هو المجمع على كل حال، والمجمع هو وجود خارجي يعبر عنه بالفرد، لكن على القول بتعلق التكاليف بالطبائع لا تدخل الخصوصيات الخارجية في متعلق التكليف، وعلى تعلقها بالأفراد تدخل تلك الخصوصيات في متعلّق التكليف.

والحاصل: إن الموضوع هو الفرد الخارجي على كل حال، لكن قد تلاحظ فيه الخصوصيات الخارجية وتكون متعلقاً للأمر، وقد لا تلاحظ تلك الخصوصيات وإنّما يلاحظ الوجوب السِعي المعبّر عنه بالطبيعة.

وأشكل عليه: بأن تعلق التكليف بالفرد إنّما هو بمعنى تعلق التكليف بجميع الخصوصيات الفردية والتي منها تقيد الطبيعة بالمكان الخاص في مثل الصلاة في المغصوب، فصار المكان الخاص متعلقاً للأمر ومتعلقاً للنهي، وهذا بمعنى تعلق حكمين في شيء واحد بوجه واحد، وهو محال حتى عند القائل بالجواز.

وردّه المحقق الإصفهاني(2):

بأن الفرد ليس هو الطبيعة المقيدة بالمكان

ص: 140


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 253.
2- نهاية الدراية 2: 298.

الجزئي بل هو الطبيعة المقيدة بكلي المكان وكلي الزمان وهكذا كلي سائر الخصوصيات، فهذا المكان الخاص لم يتعلق به أمر.

إن قلت: كلي المكان لا يوجب التفرّد، فإن ضمّ كلي إلى كلي لا يستلزم الفردية، وإن أوجب تضييق دائرة الصدق.

قلت: إن الفرد وإن كان عبارة عن الطبيعة مقيدة بالمكان الخاص مثلاً، إلا أن القيد ذات المكان لا بعنوان أنه غصب، فهو مأمور به بعنوان أنه لازم للطبيعة، ومنهي عنه باعتبار أنه غصب، فتحقق الوجهان المطلوبان.

وفيه تأمل: لأن ما ذكره من تقيد الطبيعة بكلي الخصوصيات هو أحد المباني في تعلق الأحكام بالأفراد، وهناك مباني أخرى منها تقيدها بالخصوصيات الجزئية على نحو الواجب التخييري - تخييراً شرعياً - فعاد الإشكال على المحقق الخراساني.

البحث الثامن: الملاك في الاجتماع

اشارة

قد يُدّعى أنه لا يمكن فرض الاجتماع إلاّ لو كان في متعلقي الأمر والنهي ملاك الحكم مطلقاً حتى في مورد التصادق.

والكلام في مرحلتين:

المرحلة الأولى: في مقام الثبوت

فلابد من وجود الملاكين في المجمع، فعلى الجواز يكون محكوماً بكلا الحكمين، وعلى الامتناع يكون محكوماً بأقوى الملاكين، وفي حال التساوي التخيير أو يحكم بحكم غيرهما.

وذلك لجهتين:

ص: 141

الأولى: إنه لو لم يكن لأحدهما ملاك فلا يكون محكوماً بحكمه بل يحكم بالحكم الآخر الذي له ملاك، ولو لم يكن لأي منهما ملاك فلابد أن يحكم بغيرهما، فليس هناک اجتماع أصلاً من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارة أخرى: إن وجود المقتضي للحكم في رتبة سابقة عن نفس الحكم، فيمتنع الحكم من غير ملاك، فلا تصل النوبة إلى البحث عن إمكان الاجتماع وعدمه.

وأورد عليه: بأنه خلط بين الامتناع بالذات لأجل التضاد وهو محلّ الكلام، وبين الامتناع بالعرض لأجل عدم وجود الملاك، فإن هذا لا يرتبط بالبحث.

وفيه: ما مرّ في بحث المندوحة، من أن الغرض هو إثبات إمكان الاجتماع أو امتناعه فعلاً، ولا فرق في ذلك بين كون منشأ الامتناع ذاتي أم بالغير.

الثانية: ما قيل من أن ثمرة الاجتماع لا تظهر إلا مع وجود الملاكين، فإن نتيجة القول بالجواز هي فعلية الوجوب في المجمع رغم كونه مصداقاً للحرام، وهذا لا يمكن إلا مع وجود ملاك الوجوب والحرمة معاً.

وأورد عليه: أولاً: إنه يكفي في الثمرة عدم إحراز انتفاء أحد الملاكين في المجمع، ولا يشترط إحراز ثبوتهما، إذ بمجرد عدم إحراز ارتفاع أحد الملاكين يتمسك بإطلاق دليل الأمر.

وفيه: أن هذا هو بيان للزوم إحراز الملاك، لكن مع بيان كيفية إحرازه، وهو إطلاق الدليلين، والحاصل: إنه لابد من إحراز الملاك تارة عن طريق الأمر بإطلاقه وأخرى عن طريق آخر، فتأمل.

وثانياً: بأنه لا ينبغي أن يؤخذ في موضوع المسألة ما يكون دخيلاً في

ص: 142

ترتب الثمرة على تلك المسألة، مثلاً دلالة الأمر على الوجوب تتوقف على عدم المعارض، مع وضوح عدم أخذ ذلك شرطاً في موضوع البحث الذي هو دلالة الأمر على الوجوب.

وفيه: أن الثمرة لو توقفت على وجود شيء بشكل دائم بحيث لا تترتب تلك الثمرة إلا بشرط وجوده فلابد من أخذه في موضوع البحث، وما ذكر من التنظير إنّما هو أمر عدمي، فتأمل.

وقد أشكل على أصل اشتراط الملاك: بأن مسألة الاجتماع لا ترتبط ببحث الملاك أصلاً، وذلك لإمكان البحث فيها حتى من القائلين بعدم لزوم المصلحة والمفسدة في متعلق الحكم، حيث إن جهة البحث هي اجتماع الضدين في موضوع واحد، أو عدمه، واجتماع الضدين محال حتى عند من ينكر تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

والجواب: ما مرّ في بحث اشتراط المندوحة، من أن ملاك الاستحالة قد يكون التضاد فيجري النزاع حتى من القائلين بعدم التبعية حسب الادّعاء، وقد يكون الملاك شيئاً آخر - کعدم الملاك - فيجري النزاع على حسب رأي العدلية.

أما ما قيل: من أن المراد من الملاك ليس المصلحة والمفسدة في المتعلق، بل المراد مبادئ الحكم - سواء رجعت إلى العبد من المصلحة والمفسدة أم رجعت إلى نفس المولى - إذ لابد لكل حكم من وجود غرض للمولى حتى عند منكر التبعية.

ففيه: أن منكري التبعية لا يشترطون غرضاً في الحكم مطلقاً، سواء رجع

ص: 143

إلى العبد أم إلى المولى، فلا يشترطون لا المصلحة والمفسدة للعبد، ولا أي غرض آخر للمولى سوى إرادته.

المرحلة الثانية: في مقام الإثبات

قد يقال: 1- بأنه قد يحرز ملاك واحد فقط، فإن كان الدليل الأخبار، فالخبران متعارضان، ولابد من إعمال قواعد التعارض، من الترجيح بالسند أو التخيير، ونحو ذلك.

2- وقد يحرز وجود الملاكين، فيتزاحم المقتضيان، فلابد من إعمال قواعد التزاحم من تقديم الأقوى ملاكاً، وإن كان الآخر أقوى سنداً.

نعم لو تكفّل الدليلان للحكم الفعلي، حصل التعارض في مرحلة الفعلية، فلابد من إعمال قواعد التعارض حينئذٍ.

3- ولو لم يكن طريق للملاك سوى إطلاق الدليلين على الحكم الفعلي، فعلى القول بالامتناع يحصل تصادم بين الدليلين، مع عدم الدلالة على وجود الملاك فيهما، لأن ارتفاع أحد الحكمين قد يكون لأجل المزاحم، وقد يكون لأجل عدم وجود المقتضي.

والحاصل: إنه لو كان مفاد الدليلين الحكم الفعلي مع الذهاب إلى الامتناع، وقع تعارض بينهما، فيتساقطان، فلا طريق لإثبات الملاك.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1):

بإمكان إحراز الملاك حينئذٍ بأحد طريقين:

الطريق الأول: الدلالة الالتزامية للدليلين على الملاك، بعد سقوط

ص: 144


1- نهاية الدراية 2: 302.

الدلالة المطابقية لهما بالتعارض.

وأورد عليه: أولاً: بالنقض بما لو كان متعلّق الدليلين واحداً كما لو تعارض دليلان مفادهما (صلّ) و(لا تصلّ)، فمع سقوط الدلالة المطابقية بالتعارض لا يلتزم أحد ببقاء الدلالة الالتزامية بل يجرون فيهما أحكام التعارض.

وأجاب عنه المحقق العراقي(1): بأن لكل أمر ثلاث دلالات التزامية: الدلالة على المصلحة في المطلوب، والدلالة على النهي عن الضد العام، والدلالة على أن لا مصلحة للضد العام - وهذه لازم اللازم - ، فيحصل التنافي بين الدليلين في الدلالة الالتزامية على الملاك أيضاً، ففي المثال (صلّ) يدل على المفسدة في ترك الصلاة، و(لا تصلّ) يدل على المفسدة في فعلها.

وهذا بخلاف مورد الاجتماع في مثل (صلّ) و(لا تغصب)، حيث لا يدل الأمر على النهي عن الضد الخاص.

وأشكل عليه: بعدم وجود الدلالة الالتزامية الثالثة في مورد النقض، وذلك لأن حرمة الضد العام حرمة تبعية ناشئة عن نفس ملاك الأمر بالفعل، وليس بملاك آخر.

ومع قطع النظر عن هذا، فإن الأمر بالشيء يدل على وجود ملاك فيه، ولا يدل - إثباتاً أو نفياً - على ملاك في الترك، فتأمل.

وثانياً: الإيراد المبنائي، بتبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية - ثبوتاً وسقوطاً - إلا مع علمنا بصدور أحد الدليلين، فحينئذٍ نعلم تفصيلاً بالدلالة

ص: 145


1- نهاية الأفكار 1: 440.

الالتزامية على نفي الثالث.

الطريق الثاني: التمسك بإطلاق المادة

وذلك لأنه مع عدم إطلاق الهيأة بأن كان هناك محذور عقلي لشمول الوجوب لصورة من الصور، كصورة العجز، فالوجوب يختص بغير هذه الصورة، لكنه يتعلق بذات الواجب، لا الواجب المقيد بهذه الصورة، وذلك لإطلاق المادة.

وبعبارة أخرى: لا إطلاق للهيأة، لوجود محذور عقلي، ولكن لا محذور في إطلاق المادة، بأن يكون عدم العجز مثلاً ظرفاً لتعلق الوجوب بالمادة المطلقة، لا قيداً.

ونتيجة ذلك هو أن لذات الصلاة مثلاً ملاكاً بلا تقييد بتلك الصورة.

وأشكل عليه(1): بأن هذا إنّما يتم في الموانع العقلية التي تقيد الوجوب، فلا وجوب مع العجز مثلاً، لا فيما نحن فيه، لأنه لو وجدت مندوحة فالوجوب مطلق ويريده المولی على كل حال ولكن الواجب يتقيد بالحصة المباحة.

البحث التاسع: الحكم في التزاحم الملاكي

لو قلنا بإمكان إثبات الملاك عبر إطلاق المادة أو بالدلالة الالتزامية، أو ثبت الملاك بدليل آخر، فهل التزاحم الملاكي تجري فيه أحكام التزاحم الامتثالي، أم أحكام التعارض؟

أما التزاحم الامتثالي: فهو ما لو جعل الحكم طبقاً لملاكه، ولكن العبد لا يتمكن في مرحلة الامتثال من امتثال كلا الحكمين، كما لو لم يتمكن

ص: 146


1- مباحث الأصول 3: 410.

من إنقاذ كلا الغريقين، فلكل واحد منهما ملاك، والمولى جعل الحكم بوجوب الإنقاذ، لكن العبد لم يتمكن من امتثال أحدهما.

وأما التزاحم الملاكي: فهو ما لو وجدت المصلحة والمفسدة في شيء، ولم نعلم أن المولی رجح أيهما فجعل الحكم طبقاً له.

والفرق بينهما: أن التزاحم الملاكي إنّما هو تزاحم في الجعل، فيتنافي الدليلان لعدم صدور أحدهما، وأما التزاحم الامتثالي فهو تزاحم في الفعلية من غير تزاحم في الجعل فلا تنافي بين الدليلين لإمكان صدورهما معاً.

كما قد يقال: بأنه في التزاحم الامتثالي العقل هو الحاكم بترجيح أحدهما على الآخر لأهميته أو نحو ذلك، أما في التزاحم الملاكي فالحاكم هو المولى لأنه هو الذي يجعل الحكم طبقاً لأحد الملاكين ولا طريق للعقل لتشخيص ذلك، فتأمل.

فلابد من بيان بعض مرجحات باب التزاحم، وسيأتي تفصيلها(1).

فنقول: لو علمنا بوجود هذه الملاكات من دليل خارج فلابد من الترجيح بها، وإن لم يكن لنا إلاّ إطلاق الدليل، فحينئذٍ لابدّ من ملاحظة كلّ مورد على حِدة، فالمرجحات...

منها: الترجيح بالأهمية، حيث إنه في التزاحم الامتثالي لابد من الترجيح بها لو علمنا بها، وأما في التعارض فحيث لم نكشف وجود الملاكين، فلا وجه للترجيح بها، لأن الترجيح بها فرع وجود الملاك الأهم، وهو غير ثابت بسبب التعارض.

ص: 147


1- راجع فوائد الأصول 1: 323.

وأما فيما نحن فيه - من التزاحم الملاكي - فإنه مع كون الدليل على وجود الملاك هو نفس دليل الحكم، فحينئذٍ نعلم بوجود الملاكين، ولكن لا طريق لإحراز أهمية أحدهما على الآخر، كي تكون تلك الأهمية سبباً للجعل، إذ لا دلالة التزامية على الأهمية، ولا الإطلاق يدل عليها.

ومنها: ترجيح ما لا بدل له على ما له بدل، نظير صوم النذر وصوم خصال الكفارة.

وفيما نحن فيه - من التزاحم الملاكي - لا يمكن إثبات أصل الملاك عبر إطلاق الدليل، لتعارض مفاد الدليلين في أصل وجود الملاك، فلا تصل النوبة إلى هذا المرجح، لأنه فرع إحراز الملاكين معاً.

مثلاً: (صلّ) له إطلاق بدلي بحيث يشمل حتى الصلاة في المغصوب، فيدل على وجود مصلحة في هذا الفرد أيضاً، و(لا تغصب) له إطلاق شمولي يدل على وجود مفسدة في الغصب مطلقاً - حتى لو كان صلاة - فيتعارضان.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: لو كانت مفسدة في الغصب لما كان يقتضي ملاك الصلاة جعل وجوبها مطلقاً بحيث يشمل الصلاة في المكان المغصوب، وذلك لإمكان الصلاة في مكان آخر، فالإطلاق البدلي لدليل وجوب الصلاة ينفي بالالتزام أصل مفسدة الغصب في المجمع، وإطلاق دليل الغصب يقتضي وجود المفسدة فيه، فيقع التكاذب، فالتعارض.

نعم لو علمنا بدليل خارج أن ما لا بدل له يوجد فيه الملاك، فلا إشكال في لزوم الترجيح به، وذلك لوجود المقتضي وهو الملاك، وعدم المانع، حيث إن مصلحة الآخر قابلة للاستيفاء في فرد آخر - حيث إنه له بدل - فتأمل.

ص: 148

ومنها: ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية، كالجهاد العيني والحج، حيث إن وجوب الجهاد سبب عدم القدرة الشرعية على الحج لاشتراطه بالاستطاعة، فلا وجوب فيه.

وفيما نحن فيه - من التزاحم الملاكي - لا إحراز لأصل الملاك، حتى نرجحه بكونه مشروطاً بالقدرة العقلية، ومن ذلك كلّه يتضح أن الحكم هو التعارض فتجري فيه أحكامه.

وحيث إن الوظيفة حين التعارض هي الجمع الدلالي أولاً، ثم الترجيح بالسند ثانياً، ثم التخيير أو التساقط ثالثاً، فلابد من النظر في جريان هذه الثلاثة فيما نحن فيه...

الأول: الجمع الدلالي

فقد يقال: إنه لو أحرزنا أهمية الملاك في أحدهما حملناه على الحكم الفعلي وحملنا الآخر على الحكم الاقتضائي.

وفيه: أنه ليس بجمع عرفي، مضافاً إلى أن العرف لا يعتبر غير الفعلي حكماً، فالحمل على الاقتضائي ليس بجمع بل إسقاط الدليل الآخر.

الثاني: الترجيح بالسند

ففي المتباينين يحصل تكاذب في السندين، لسراية التعارض من الدلالة إلى السند، فلابد من إعمال المرجحات السندية، وحينئذٍ فإن عرفنا الملاك من الخارج، كان ثابتاً على كل حال حتى في الساقط لكن من غير تأثيره في الحكم، وإن كان ثابتاً عبر الدليل سقط ملاک المرجوح، وأما ملاك الراجح، فقد يقال: يقدّم الأقوى منهما سنداً، ثم عبر دليل الإن يستكشف أن

ص: 149

مدلوله أقوى مقتضياً.

وأورد عليه: أولاً: بأنه لا إحراز لأصل المقتضي فضلاً عن أقوائيته، وذلك لأن الترجيح ناشئ عن المصلحة النوعية، لأكثرية إصابة الواقع في الخبر الراجح.

وثانياً: بعدم الفائدة في إحراز أصل الملاك فضلاً عن الأقوائية، وذلك لأن الترجيح السندي إنّما هي للأخبار الدالة عليه، ولتلك الأخبار إطلاق يشمل صورة إحراز الملاك وعدمه وأقوائية وعدمها، فتأمل.

الثالث: التساقط، لو لم نقل بالتخيير

فلو قلنا بسقوط الدلالة مطلقاً - حتى في نفي الثالث - فإن لم نحرز من الخارج أياً من الملاكين، رجعنا إلى الأصول العملية، حتى لو كان مقتضاها حكم ثالث غير ما هو موجود في الخبرين.

وإن أحرزنا الملاكين، فلا يجوز الرجوع إلى أصل يفوّت كلا الملاكين، وإنّما الأصل المتطابق مع أحدهما، فتأمل.

البحث العاشر: في ثمرة بحث الاجتماع

قد يتسائل: بأن المشهور ذهبوا إلى الامتناع مع تقديم جانب النهي، فلا يكون العمل العبادي صحيحاً، لكنهم مع ذلك أفتوا بصحة الصلاة في المغصوب جهلاً قصورياً، مع أنه بالاجتماع قد سقط الأمر واقعاً ولم يكن يوجد إلا النهي، فکيف يتمّ الجمع بينهما؟

وقد يفصّل حسب المباني، فيقال: إنه لو أتى بالمجمع...

1- فعلى القول بالجواز: فإنه يحصل الامتثال، لو أتى به بداعي الامتثال،

ص: 150

حتى في العبادات، نعم قد ارتكب حراماً للنهي أيضاً، فيكون نظير النظر إلى الأجنبية في الصلاة.

2- وعلى القول بالامتناع مع تقديم جانب الأمر: فإنه يحصل الامتثال، ويسقط الأمر، مع عدم ارتكاب معصية، لعدم وجود النهي.

3- وعلى القول بالامتناع مع تقديم النهي...

ففي التوصليات: يحصل الغرض فيسقط الأمر، كمن غسل ثوبه الذي يريد الصلاة فيه بماء مغصوب.

وأما في التعبديات:

أ) فمع الالتفات إلى الحرمة، لا يحصل امتثال، لعدم تمشي قصد القربة.

ب) ومع عدم الالتفات والتقصير، فإنه وإن تمكن من قصد القربة - لجهله بالحرمة - لكن العمل لا يصلح للتقرب به، حيث إن العمل معصية، ولا يمكن التقرب بالمعصية، وحينئذٍ لا يتحقق غرض المولى، فلا يسقط الأمر.

ج) وأما مع عدم الالتفات قصوراً، فقد يقال بسقوط الأمر، ولتصحيح ذلك وجوه مختلفة، منها:

الوجه الأول: اشتمال المجمع على ملاك الوجوب، وذلك يكفي في صحة العمل، لتحقق الحسن الفعلي والفاعلي، أي لاشتمال الفعل على المصلحة مع صدوره حسناً، فحتى لو لم يكن هناك أمر ولم يكن هذا الفعل امتثالاً له، لكن الأمر بالطبيعة يسقط لتحقق الملاك.

وأشكل عليه: أولاً: بتحقق التزاحم بين ملاكي الوجوب والتحريم في المجمع، وبعد ترجّح ملاك التحريم يكون الفعل مبغوضاً مطلقاً - حتى في

ص: 151

حالة الجهل القصوري - ، فإن معذورية الجاهل لا ترفع بغض المولى للفعل بعد فرض الامتناع وترجح جانب النهي.

وبعبارة أخرى: وجود المفسدة شيء واقعي لا يرتبط بالعلم والجهل، وحينئذٍ كيف يصلح ما هو مبغوض المولى للمقربية له؟

وفيه نظر: إذ (المحبوبية الفعلية) ليست من شرائط حصول التقرب، بل يكفي فيه توهم المحبوبية حتى لو كان في توهمه خاطئاً بأن كان الفعل مبغوضاً للمولى.

وبعبارة أخرى: إن الحسن الفاعلي بالانقياد يكفي في حصول التقرب إلى المولى حتى لو لم يكن حسناً فعلياً، فمن صلّى باستصحاب الوضوء مع انتقاضه واقعاً، فصلاته مقربة للمولى رغم بطلانها وعدم محبوبيتها، وكذا مع المبغوضية كمن أنقذ جندي العدوّ بتوهم أنه من جنوده.

وعليه: فإذا كان الملاك موجوداً وحصل التقرب بتوهم المحبوبية، يكون المجمع امتثالاً للأمر المتعلق بالطبيعة.

وثانياً: بأنه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك إلاّ الأمر، لکنه قد سقط بالاجتماع.

وأجيب: بعدم لزوم إحراز الملاك في المجمع، وذلك لصحة المجمع في حال الجهل حتى مع عدم إحراز الملاك، وذلك بإجراء أصالة البراءة، لأن الشك في الملاك - الذي يكون سبباً لعدم إجزاء المجمع - مسبّب عن الشك في (تقييد الواجب بعدم الغصب)، فصار المورد من مصاديق الأقل والأكثر الارتباطيين.

ص: 152

وبعبارة أخرى(1):

بأنه بلحاظ الملاك يشك في أن (إباحة المكان) هل هي دخيلة في الملاك أم لا؟ فالأصل البرائة عن دخلها فيه.

وبلحاظ الخطاب يشك في تقيد الخطاب ب-(الإباحة)، فالأصل البراءة عن هذا القيد، نظير سائر موارد الأقل والأكثر الارتباطيين.

وقد يورد عليه: بأن مثل: (صلّ)، لمادته إطلاق أي الصلاة في مجمع أو غيره، و لهيأته إطلاق أي الوجوب حتى في المجمع، فمع الذهاب إلى الامتناع وترجيح جانب النهي، نعلم بتقييد أحدهما فيما لو تعارض مع مثل: (لا تغصب)، فالأمر يدور في (صلّ) بين تقييد المادة وذلك يكشف عن عدم الملاك في المجمع، وبين تقييد الهيأة بمعنى عدم الوجوب للصلاة في المغصوب واختصاص الوجوب بالصلاة في المباح مع عدم تقييد الصلاة به، وقد مرّ أن تقييد المادة أولى من تقييد الهيأة، لأن المادة مقيدة على كل حال، حيث إن تقييد الهيأة يستلزم تقييد المادة، دون العكس، مضافاً إلى الظهور العرفي في تقييد المادة، وعليه فمع وجود الدليل الاجتهادي بتقييد المادة الكاشف عن عدم الملاك لا تصل النوبة إلى أصل البراءة، فتأمل.

الوجه الثاني: إن الأحكام تابعة للمصلحة والمفسدة المؤثرة في الحسن والقبح الفعليين، فمع عدم القبح الفعلي لا يوجد هناك حكم واقعي - حتى وإن كان الفعل مشتملاً على المصلحة - .

وعليه: فمع الجهل القصوري، لا يحكم العقل بقبح العمل، فلا توجد حرمة، فيكون الأمر ثابتاً من غير مزاحم.

ص: 153


1- بحوث في علم الأصول 3: 75.

وأشكل عليه: أولاً: بأنّ هذا هو التصويب بعينه، إذ مرجع هذا إلى اختصاص الأحكام بالعالم دون الجاهل، وقد ثبت في محله اشتراك العالم والجاهل في الأحكام الواقعية، بمعنى أن الأحكام عامة غير مقيدة بأحدهما أو بكليهما.

وثانياً: إنه لو فرض رفع التضاد في الحكم، فلا يمكن رفعه في مباديه، فالإرادة والكراهة متضادان حتى مع عدم تنجز الحكم.

الوجه الثالث: إن المجمع وافٍ بالملاك، فيمكن الإتيان به بداعي الأمر بالطبيعة - حتى وإن لم يشمله الأمر بنفسه - ، وذلك لأنّ المجمع أحد أفراد الطبيعة، وعدم تعلق الأمر به ليس لعدم المقتضي بل لوجود المانع، وحينئذٍ لا يرى العقل فرقاً بين المجمع وبين غيره من أفراد الطبيعة في الوفاء بالملاك.

ويرد عليه: أولاً: ما مرّ من أن الأمر المتعلق بالطبيعة لا يشمل الأفراد غير المقدورة - بالقدرة الشرعية - ، لأن الطبيعي والفرد كالآباء والأبناء.

وثانياً: النقض بصورة العلم بالغصب، فهذا يعلم بأن للطبيعة أمر، فيقصد أمر الطبيعة، فتمكّن من قصد القربة، لأنها قصد الأمر كما مرّ، فلا وجه لأن يقال: إن العلم بالغصب مانع عن التقرب.

الوجه الرابع: إن لازم الأمر بالطبيعة بنحو صرف الوجود، هو الترخيص في تطبيقه على كل فرد من أفراده، والعلم بالغصب ينافي الترخيص في التطبيق على الفرد المحرّم، دون الجهل به، فإن الترخيص ثابت لعدم تنجز الحرمة، فلا مانع من التمسك بإطلاق الأمر بالصلاة في حالة الجهل.

ويرد عليه: أن عدم التنجيز هو في الظاهر، مع بقاء الحرمة الواقعية، وهي

ص: 154

تنافي الترخيص الواقعي، وأما الترخيص الظاهري فإنه لا ينفع، لما مرّ من عدم إجزاء الظاهري عن الواقعي، مع أن المفروض ذهابهم هنا إلى الإجزاء بعدم الحاجة إلى إعادة الجاهل أو قضائه.

والحاصل: إنه قد اتضح عدم انسجام الذهاب إلى الامتناع وترجيح جانب النهي مع القول بصحة الصلاة في المغصوب جهلاً.

اللهم إلا أن يكون ذهاب المشهور إلى صحة الصلاة من باب الدليل الخاص، وهو قاعدة «لا تعاد»(1).

وأشكل عليه: برجوع إباحة المكان إلى بعض هذه الخمسة، فإن الحركة کالرکوع مثلاً هي نفس التصرف في المغصوب، فيبطل الركوع، فتبطل الصلاة بنفس دليل (لا تعاد)، وذلك لفقدان أحد الخمسة الذي هو الركوع.

وبعبارة أخرى: لم يتحقق الركوع - مثلاً - لأنه اسم للصحيح، والحركة الركوعية التي هي تصرف في الغصب ليست هي الركوع الصحيح بل صورة ركوع، فالصلاة لا ركوع فيها، فهي باطلة.

وفيه نظر: وذلك لأن الركوع وإن كان بالدقة العقلية متحد مع الحركة التي هي التصرف في المغصوب ولكن الظاهر العرفي هو مغايرة الركوع لشرط إباحة المكان، فيرى العرف فقدان هذه الصلاة لأمر خارج عن الخمسة مع توفر الخمسة كلّها، وسيأتي تتمة لهذا في بحث (مفهوم الاستثناء).

ص: 155


1- من لا يحضره الفقيه 1: 279.

البحث الحادي عشر: دليل عدم إمكان الاجتماع

وهو ما ذكره المحقق الخراساني بمقدمات أربع(1):

المقدمة الأولى: إن الأحكام الخمسة متضادة، فلا يمكن اجتماعها في محل واحد.

وأشكل عليه: بعدم التضاد في مراحل الحكم...

1- أما مرحلة المصلحة والمفسدة، فلا محذور في اجتماعهما في شيء واحد، لعدم تضادهما، بل قد يترتبان معاً على بعض الأفعال.

وفيه: أن المراد المصلحة والمفسدة الغالبتين، فإنهما لا يجتمعان، وذلك لأن التي تصير سبباً للوجوب هي المصلحة الغالبة على المفسدة لا ذات المصلحة، وكذا المفسدة الغالبة هي التي تكون منشأ للحرمة.

2- وأما مرحلة الإرادة والكراهة، فقد قيل: بأن التضاد صفة خارجية عارضة على الحقائق الخارجية، فلا تضاد في الصفات النفسية العارضة لما في النفس، فيمكن اجتماع الحالات والكيفيات المختلفة في آنٍ واحد، كما لا تضاد في متعلّق تلك الصفات النفسية، لأن المتعلق ليس هو الفعل الخارجي بل هو الوجود الذهني، إذ يستحيل تقوّم ما في النفس بما في خارجها، وإلا لزم انقلاب الوجود الذهني إلى الوجود الخارجي، وهو محال.

وفيه: الإشكال مبنىً، وبيانه: أنه لا تنافي بين المفاهيم الذهنية، ولكن قد يحصل التضاد مع وحدة المصداق الذهني، ولذا قالوا بأن اجتماع النقيضين مفهوماً ذهنياً ممكن، ويستحيل تحقق مصداقه في الذهن.

ص: 156


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 270-276.

هذا مضافاً إلى أن المتعلّق هو الوجود الذهني بما هو مرآة في الخارج وفانٍ فيه.

3- وأما مرحلة الإنشاء، فقد يقال: بعدم تضاد الأحكام في هذه المرحلة، حيث إن الإنشاء خفيف المؤنة وهو مجرد اعتبار، ولا تنافي بين الاعتبارات المختلفة.

وفيه: أن الإنشاء هو قصد إيجاد المعنى باللفظ في عالم الإنشاء، وليس مجرد لقلقة لسان، ومع التفات المولى إلى التضاد في المصلحة والمفسدة الغالبتين وكذا التضاد بين الإرادة والكراهة، وكذا في المراحل الأخرى، ومرحلة امتثال المكلف، مع ذلك لا يعقل قصد إيجاد معنيين متنافيين، ولا يفرق في هذا المباني المختلفة في حقيقة الإنشاء، كما مرّ تفصيلها.

4- وأما مرحلة الفعلية، فأشكل عليه: باستحالة ثبوت الحكمين الفعليين، إما للّغوية، وإما لاستحالته في نفسه حتى من غير الحكيم.

أما الأول: فلأن المولى الملتفت إلى عدم قدرة المكلف في الإتيان بهما معاً، يكون لاغياً إذا جعل الحكمين الفعليين.

وأما الثاني: فلأن الداعوية إما مأخوذة في حقيقة التكليف الذي هو جعل ما يمكن أن يكون داعياً، وإما هي الغرض من التكليف على مبنى من يرى التكليف بأنه جعل الفعل في عهدة المكلف، ومن المعلوم عدم إمكان الداعوية إلى الفعل والترك معاً(1).

وأورد عليه: أولاً: بأنّ الدليل أخص من المدعى، فيجري في الواجب

ص: 157


1- منتقی الأصول 3: 83.

والحرام، دون الواجب والمستحب أو الحرام والمكروه، نعم هو يفيد في خصوص بحث اجتماع الأمر والنهي الذي هو محلّ بحث الاجتماع.

وثانياً: بناءً على المبنى الثاني من أن الداعوية هي الغرض من التكليف، حيث يمكن ذلك من الساهي والغافل ونحوهما، نعم لا يجري هذا الإشكال في مورد البحث من الأوامر والنواهي الشرعية.

والحاصل: هو ثبوت التضاد في مرحلة الفعلية بين الأمر والنهي في الأوامر الشرعية.

ومن كل ذلك يتبين ثبوت المقدمة الأولى بوجود التضاد بين الأحكام الشرعية.

المقدمة الثانية: ترتب الغرض على حقيقة الشيء وواقعه، لا على عنوانه، لأن الأحكام تابعة للأغراض، وهي لا تترتب على العناوين، وإنّما على الأفعال الخارجية، وبهذا يتبين أن متعلق الأمر والنهي هو الوجود الخارجي للشيء، وهو واحد.

وأشكل عليه: بعدم تعلق الأحكام بالموجودات الخارجية، إذ الحكم من عالم الإنشاء وهو موجود ذهني، فلا يعقل أن يتعلق بما هو في عالم الخارج، بل تعلقها به يستلزم طلب الحاصل إذا كان الموضوع موجوداً في الخارج، أو تعلق الوصف بالمعدوم إذا لم يكن موجوداً.

وفيه: أن الصورة الذهنية مرآة لما في الخارج، فيكون المطلوب هو إيجاد الشيء وتحقيقه في الخارج، كما مرّ.

المقدمة الثالثة: إن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون، بل قد يتعدد

ص: 158

العنوان مع وحدة المتعلّق من كل الجهات، كالعناوين الوصفية الصادقة على ذات الباري تعالى.

وأشكل عليه(1): بأنّ تعدد العنوان قد يكون مع تعدد المعنون وقد يكون مع وحدته، وذلك لأن العناوين علی ثلاثة أقسام: فقد تطلق على المفاهيم الطولية في الوجود كالعلية والمعلولية، وهذه يستحيل انطباقها على شيء واحد، وقد تكون تلك العناوين في مرتبة الذات فيجب انطباقها على شيء واحد كصفات الباري الذاتية، وقد تكون العناوين في مرتبة متأخرة عن الذات مع كون تلك العناوين في عرض واحد، كالعناوين الصادقة على الذات بلحاظ عروض الأعراض، كالسواد والطول والحلاوة في شيء واحد فحينئذٍ يتعدد المعنون.

وعليه فلابد من البحث في الصغرى، لنرى أنها من أي الأقسام الثلاثة.

وفيه: أن هذا ليس نقضاً للمقدمة، إذ الهدف منها بيان إمكان انفكاك تعدد العناوين عن تعدد المعنون، لا إثبات الانفكاك دائماً.

اللهم إلا أن يكون الغرض بيان أن الذات هي مطابقة للعناوين دائماً، رداً على من ذهب إلى أن لازم تعدد العنوان هو تعدد الخصوصية في المعنون، فحينئذٍ نقول: إن الأمثلة الشرعية التي وقعت مورداً للبحث هي من قبيل القسم الثالث، فتأمل.

المقدمة الرابعة: اتحاد المجمع ذاتاً وماهيةً، وعدم ابتناء المسألة على أصالة الوجود أو الماهية، ولا على تعدد الجنس والفصل في الخارج أو عدم

ص: 159


1- نهاية الدراية 2: 315.

تعددهما، ولا على إمكان تعدد الفصل مع وحدة الجنس في شيء واحد.

أما الأول: فقد يتوهم أنه بناءً على أصالة الوجود، لا يكون الصادر عن الفاعل إلا الوجود وأنه متعلق التكليف، لا الماهية التي هي أمر انتزاعي ذهني، وحيث إن وجود الذات واحد فلذا يمتنع تعلق الأمر والنهي معاً به، وأما بناءً على أصالة الماهية فلا خارجية للوجود وإنّما هو أمر انتزاعي، بل المتحقق في الخارج هو الماهية، والماهيات متباينة، فيكون متعلق الأمر غير متعلق النهي.

وفيه: أن الوجود الواحد ليس له إلا ماهية واحدة، وكذا العكس، فلا فرق بين القولين.

إن قلت: فكيف انطبق على الوجود الواحد عنوانان كعنوان الصلاتية والغصبية مثلاً!!

قلت: ليس معنى تعدد العنوان هو تعدد الماهية، بل هو ينتزع من وجود واحد وماهية واحدة، وبعبارة أخرى: أمثال هذه العناوين هي تنتزع عن الوجودات والماهيات وليست هي ماهية مستقلة، كما سيأتي بعد قليل بيانه.

وأما الثاني: فقد يتوهم جواز الاجتماع إذا كان تعلق أحدهما بالماهية الجنسية والآخر بالماهية الفصلية، وعدم جوازه بناءً على عدم تعددهما.

وفيه: أن الصلاة والغصب ليس أحدهما جنس أو فصل للآخر، بل قد ينفكان كثيراً، لأن النسبة بينهما العموم من وجه، مع أن النسبة بين الجنس والفصل هي العموم المطلق، مضافاً إلى أن الأمثلة الشرعية من المفاهيم الانتزاعية التي لا تكون جنساً أو فصلاً.

ص: 160

وأما الثالث: فقد يتوهم أن الحركة بما هي حركة جنس، والصلاتية والغصبية فصلان.

وفيه: - مضافاً إلى أن المورد من المفاهيم الانتزاعية التي ليس لها جنس أو فصل - استحالة أن يكون للشيء الواحد فصلان، بل لكل ماهية فصل واحد.

وحيث تمتّ المقدمات الأربع، تبين امتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ولو تعدد العناوين.

البحث الثاني عشر: أدلة الإمكان

وقد استدل له بوجوه، وبعضها أدلة الجواز في بعض الصور، فهي أدلة لبعض التفصيلات.

الدليل الأول: ما ذكره المحقق النائيني(1)

لإثبات تعدد الوجود في موارد الاجتماع، وهو بحث صغروي بعد أخذ الكبرى - وهي إمكان الاجتماع مع تعدد الوجود وامتناعه مع وحدته - مسلّمة.

وقد ذكر عدة أمور، لكنها تصبّ في تنقيح الموضوع أو زيادة توضيح للدليل، فنكتفي بإيراد أصل الدليل، وحاصله: أن التركيب بين متعلقي التكليفين إما تركيب انضمامي بأن يكون وجود كل واحد منهما غير وجود الآخر، فيمكن الاجتماع، وإما تركيب اتحادي بأن يكونا وجوداً واحداً في الحقيقة، فيمتنع الاجتماع.

1- وفي مبادئ الاشتقاق يكون التركيب انضمامياً، كالغصب والصلاة، وذلك لأن المبدأ هوية واحدة سارية في كل الأفراد، كالبياض فإنه ماهية

ص: 161


1- فوائد الأصول 1: 406-408.

واحدة سواء كان في السکّر أم في العاج - مثلاً - أم في غيرهما، وكالصلاة فإن ماهيتها لا تختلف سواء كانت مع الغصب أو بدونه.

وحيث كانت الماهية واحدة لزم أن يكون تركيبها مع غيرها تركيباً انضمامياً، وإلا لزم الانقلاب المحال.

2- وأما في العناوين الاشتقاقية كالعالم والعادل يكون التركيب اتحادياً، لأن معروض العنوان هي الذات، وهي لا تتعدد بتعدد العناوين، حتى لو تعددت الأعراض القائمة بها.

وأشكل عليه: أولاً: بأن سراية المبدأ في كل الأفراد لا يلزم منه التركيب الانضمامي، وذلك للنقض بالجنس والفصل، حيث إن الجنس محفوظ بتمام حقيقته مع جميع الفصول، مع أن التركيب اتحادي لا انضمامي.

وفيه: أن مقصود المحقق النائيني ظاهراً أن الماهية الواحدة لا يمكن أن تنقلب عما هي عليه فتتحد مع ماهية أخرى، ومورد النقض لا يرتبط بالبحث، إذ لا ماهية للجنس والفصل، وإلا لزم التسلسل، فتأمل.

وثانياً: إن ما ذكره إنّما يصح في المبادئ المتأصلة، فلازم تعدد المبدأ هو تعدد الوجود، فيستحيل انطباق ماهيتين على وجود واحد، نظير العلم والعدالة، وأمّا لو كان أحد المبدءين أو كلاهما من المبادئ الانتزاعية فلا محذور في انتزاعهما من وجود واحد، وذلك لأن المبدأ الانتزاعي لا وجود له إلا بوجود منشأه، فلابد من ملاحظة المنشأ، فمع تغاير المنشأين وجوداً يتعدد المبدءان، وإن اتحد منشأ انتزاع المبدءين فلا يتعددان، وذلك لأن الوجود الخارجي واحد لا غير.

ص: 162

وفي الأمثلة الشرعية كالغصب والعدالة، كلا المبدءين منتزعان لا متأصلان، فالحركة الخارجية الموجودة باعتبار كونها تصرفاً في ملك الغير بغير إذنه ينتزع منها الغصب، وباعتبار جزئيتها للصلاة ينتزع منها الركوع مثلاً، فلا تعدد في الوجود، فتأمل.

الدليل الثاني: تعدد الجهة في الوجود الواحد تكفي في تعلق الأمر بجهة وتعلق النهي بجهة أخرى.

وفرق هذا عن سابقه هو أن الدليل السابق كان لإثبات تعدد الوجود، وهذا الدليل لإثبات كفاية تعدد الجهة حتى مع الوجود الواحد.

فقد يقال(1): إن الخصوصية على قسمين:

الأول: أن يترتب الأثر سواء وجدت الخصوصية أم لا، لكن اتصاف الأثر بالمصلحة يتوقف على وجود تلك الخصوصية، كترتب الآثار على الدواء سواء كان مريضاً أم لا، لكن المصلحة تتوقف على وجود المرض.

وهذا خارج عن البحث، لأن الأثر لا يرتبط بالخصوصية، بل دورها إنّما هو في صيرورة الأثر مصلحة أو مفسدة، وحيث يمتنع اجتماع المصلحة الراجحة مع المفسدة الراجحة فلا إشكال في امتناع اجتماع الحكمين حينئذٍ.

ولا يعقل أن تكون الخصوصية متعلقاً للحكم، لأن الفعل عند وجودها يصير ذا مصلحة أو مفسدة فتنشأ إرادة وحب أو كراهة وبُغض، ثم أمر ونهي نحو الفعل، لا نحو الخصوصية التي هي موجودة، فيكون طلبها طلباً للحاصل.

ولذا لم يختلف الأصوليون - حتى القائلين بجواز الاجتماع - في تعارض

ص: 163


1- منتقی الأصول 3: 100.

مثل أكرم العالم ولا تكرم الفاسق في العالم الفاسق، لأن خصوصية الفسق والعلم أوجبت مصلحة ومفسدة في الذات، وحيث يستحيل كونهما غالبتين، فلا اجتماع وإنّما تعارض.

الثاني: أن لا يترتب الأثر إلا مع وجود الخصوصية، وحينئذٍ فقد يقال...

1- بإمكان الاجتماع، فيما لو كانت المصلحة في خصوصية، والمفسدة في خصوصية أخرى، أو كان أحدهما في ذات العمل والآخر في الخصوصية، وذلك لأن الخصوصية وإن لم يكن لها وجود مستقل، إلا أنها يمكن أن تكون متعلقاً للأغراض العقلائية - من غير ملاحظة العمل - فتنشأ إرادة وكراهة إحداهما للذات والأخرى للخصوصية، أو إحداهما لخصوصية وأخرى لخصوصية أخرى، حتى لو كانتا في وجود واحد، ولا يلزم التضاد، لأن تضاد الحكمين لأجل منشأهما، ومع اختلاف المنشأ لا تضاد!!

2- أو بامتناع الاجتماع، فيما لو كان مركز الإرادة والكراهة واحداً، سواء بالمطابقة أم بالتضمن، كما لو كانت إحداهما في ذات العمل والأخرى في الذات مع الخصوصية، أو إحداهما في الخصوصية والأخرى في الذات مع الخصوصية، أو كانتا في المجموع، وذلك لاتحاد منشأ الإرادة والكراهة فيحصل التضاد!!

ويرد عليه: أنه مع اتحاد الوجود حتى لو اختلف مركز الإرادة والكراهة - بأن كانت إحداهما في خصوصية والأخرى في خصوصية ثانية، أو كانت إحداهما في الذات والأخرى في الخصوصية - فإن العمل المتضمن لتلك الخصوصية واحد، فهل يريده المولى أم لا يريده، فإن المولى الملتفت إلى عدم انفكاك الفعل عن الخصوصية أو عدم انفکاک الخصوصيتين لا يعقل

ص: 164

تحقق إرادة غالبة وكراهة غالبة في نفسه، بل يحصل بينهما كسر وانكسار ويكون الترجيح للأقوى ومع التساوي التعارض.

وقد مرّ نظير هذا الكلام في عدم تعقل أن يكون تضاد في حكم المتلازمين أو اللازم والملزوم، مع تعدد وجودهما، فكيف بما نحن فيه حيث وجود واحد يتضمن خصوصية منتزعة عنه.

ولا يجدي التفصي بأن ذلك الاجتماع بسوء اختيار العبد.

وذلك لأن سوء الاختيار لا يجعل المحال ممكناً، بل يرفع قبح العقاب مثلاً، وقد مرّ نظير ذلك في بحث مقدمة الواجب بناءً على الملازمة فاختار مقدمة محرّمة بسوء اختياره مع تمكنه من مقدمة مباحة.

الدليل الثالث: ما عن المحقق العراقي(1)،

من أن الوجود الواحد إذا كانت له حيثيتان بحيث صار بإحداهما مصداقاً لعرض وبالأخرى مصداقاً لعرض ٍ آخر، فحينئذٍ...

1- إما أن تكون جهة مشتركة بين الحيثيتين، فلا يمكن الاجتماع، وذلك لاستلزام المحال باجتماع حكمين في شيء واحد - وهي الجهة المشتركة - حيث إن متعلق الحكم هو الوجود الذهني، وهذا النحو من الوجود يشتمل على الطبيعي مع خصوصية الوجود، فيكون الحكم ثابتاً للطبيعي المتحقق في الوجود الذهني ضمناً، فالحكمان الثابتان للخصوصيتين قد تعلّقا بالجهة الجامعة، وذلك لتحقق الجهة الجامعة في كلا الخصوصيتين.

2- وإما أن لا تكون جهة مشتركة بين الحيثيتين، فيمكن الاجتماع،

ص: 165


1- نهاية الأفكار 1: 425.

لاختلاف متعلق الحكمين.

وأورد عليه: أولاً(1):

بالنقض بعروض الأوصاف الخارجية على الموجودات الخارجية فيما لو كان أحدها عارضاً على فرد من الطبيعي والآخر عارضاً على فرد آخر منه، فبناءً على ما ذكره يلزم عروض وصفين متضادين على الطبيعي، الذي هو الجهة الجامعة بين الفردين.

وفيه: أن الكلام في الوجود الواحد الذي له حيثيتان فيهما جهة مشتركة، ومورد النقض هو في وجودين لا في وجود واحد، فلا يرد هذا النقض.

وثانياً: ما مرّ من أن الحكم إنّما يتعلق بالوجود الذهني بما هو مرآة وفانٍ في الخارج، لعدم تعلق الغرض بالوجود الذهني كي يكون بما هو هو متعلقاً للحكم، فسواء كانت جهة مشتركة أم لم تكن لا يمكن الاجتماع لاتحاد الوجود.

الدليل الرابع: ما عن المحقق القمي(2)،

من أن الفرد مقدمة للطبيعي، فإن متعلق الأحكام الطبايع، وحيث كان متعلق الأمر طبيعي الصلاة مثلاً ومتعلق النهي طبيعي الغصب، فحينئذٍ...

إن قلنا بعدم الملازمة في الحكم بين ذي المقدمة وبين المقدمة، فلا محذور لعدم تعلق الحكم بالفرد - الذي هو المجمع - فلا اجتماع للضدين.

وأما لو قلنا بالملازمة فيجب ويحرم الفرد الواحد وفي ذلك اجتماع الضدين وهو محال.

ص: 166


1- منتقی الأصول 3: 104-105.
2- قوانين الأصول 1: 324-326.

ويرد عليه: أولاً: عدم كون الفرد مقدمة للطبيعي، بل الطبيعي ينتزع عنه في الخارج، وأما التعبير بأن الطبيعي عين الفرد في الخارج فلا يخلو عن مسامحة، بل الصحيح أن الفرد منشأ لانتزاعه، لا أنه مقدمة له، ولذا قالوا الحق أن الطبيعي موجود بوجود فرده.

وثانياً: بأنه على الملازمة لا يلزم محذور اجتماع الضدين، لأن مقدمة الواجب إذا صارت محرّمة لجهة من الجهات - كما لو ركب الدابة المغصوبة إلى الحج - فسقوط الوجوب وعدم الملازمة حينئذٍ لا يكون سبباً لسقوط حكم ذي المقدمة، وفيما نحن فيه لو فرضنا أن الفرد مقدمة للطبيعي، فحيث إن الوجوب لطبيعي والحرمة لطبيعي آخر فلا اجتماع للحكمين المتضادين، وسقوط حرمة أو وجوب المقدمة - الذي هو الفرد - لمحذور لا يستلزم سقوط حكم ذي المقدمة، فتأمل.

البحث الثالث عشر: في العبادات المكروهة

اشارة

قد ثبت في الشرع كراهة بعض العبادات - وهي بين واجب ومستحب - كالصلاة في الحمام، وكصوم يوم عاشوراء، وكالصلاة في مواضع التهمة، بل استحباب بعض العبادات الواجبة كالصلاة المفروضة في المسجد، وقد اعتبر ذلك دليلاً على جواز الاجتماع.

قد يقال: بأن هذا الإشكال يرد حتى على القائل بإمكان الاجتماع، إذ الذي يرى الجواز إنّما يراه لو تعدد العنوان، ولا تعدد للعنوان في غالب العبادات المكروهة.

ولكن لا يرد الإشكال على بعض المباني، كالذي يذهب إلى الامتناع

ص: 167

لأجل أن الأمر بصرف الوجود يستلزم الترخيص في المصاديق، فإن الترخيص لا ينافي الكراهة كما سيأتي، وكالذي يذهب إلى الجواز فيما إذا كان الأمر يتعلق بصرف وجود الطبيعة وكان النهي متعلقاً بالفرد، حيث لا محذور عنده في إرادة المولى للجامع مع النهي عن بعض الأفراد.

ثم إن البحث في أقسام ثلاثة: 1- العبادة التي لها بدل كالصلاة في الحمام، 2- وما ليس لها بدل كصوم يوم عاشوراء، 3- وما لو تعلق النهي بعنوان آخر غير العبادة لكنه اجتمع معها في فردٍ ما كالصلاة في مواضع التهمة.

القسم الأول: العبادة التي لها بدل

فقد يقال: إن الكراهة هي بمعنى المنقصة والحزازة، وهما لا يجتمعان مع المقرّبية التي لابد منها في العبادة، وحينئذٍ بعد الكسر والانكسار بين المصلحة العبادية والحزازة في الكراهة يترجح الأقوى، فإما لا تبقى على عباديتها، وإما لا كراهة فيها!!

والجواب من وجوه:

الوجه الأول: إن النهي ليس مولوياً، وإنّما هو إرشاد إلى قلة الثواب، فلا تكون الكراهة حينئذٍ بمعنى المنقصة والحزازة، وإرشادية النهي وإن كانت خلاف الظاهر إلا أنه لابد من المصير إليها دفعاً للمحذور، فإن أمكن دفع الإشكال مع حفظ المولوية في النهي فهو، وإلاّ فلابد من الحمل على الإرشاد.

ومعنى قلة الثواب هو أنه يفترض لطبيعة الصلاة مصلحة وثواب معين، فتنقصان في الحمام، وفي عكسه تزدادان في المسجد مثلاً.

إن قلت: يستحيل تأثير المعدوم في الموجود، فكيف أثر عدم الصلاة

ص: 168

في الحمام في المصلحة الكاملة والثواب التام؟

قلت: إن المصلحة الكاملة والثواب التام يترتبان على نفس الصلاة، وإيقاعها في الحمام يؤثر في قلتهما، مضافاً إلى إمكان افتراض أمر وجودي ينطبق على تركها في الحمام.

إن قلت: الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام الكاشف عن مبغوضية ذلك الضد، والمصلحة الكاملة مأمور بها، فيكون ضدها منهياً عنه ومبغوضاً.

قلت: منشأ النهي المولوي قد يكون المفسدة التي تنافي المصلحة، وقد يكون فقدان المصلحة التامة وهذه لا تنافيه، كما سيأتي توضيحه.

الوجه الثاني: لو قلنا بإمكان تعلق الأمر والنهي بخصوصيتين ولو في وجود واحد، فنقول بأن النهي إنّما هو عن خصوصية الكون في الحمام، لا عن ذات العبادة التي هي الصلاة، فاختلف مركز الأمر والنهي، حيث إن النهي عن التقييد لا عن المقيد، وحينئذٍ يحمل النهي على ظاهره من المولوية.

وعن المحقق النائيني(1):

حمل النهي على ظاهره من كونه مولوياً تنزيهياً، وذلك بقصد الزجر عن متعلقه، وهذا الزجر التنزيهي لا يقيد إطلاق الأمر، لا في مقام الجعل، ولا في مقام الامتثال.

أما في مقام الجعل: فلا منافاة، لأن متعلق الأمر صرف الوجود للطبيعة، ومتعلق النهي هو الفرد الخاص، فلم يتعلق الحكمان بشيء واحد كي يلزم التضاد.

ص: 169


1- فوائد الأصول 1: 437-438.

وأما في مقام الامتثال، فلا منافاة أيضاً، حيث إن تعلق الحكم بصرف الوجود يستلزم حكم العقل بترخيص المكلف في تطبيق المأمور به على أي فرد شاء - حتى لو كان الفرد المكروه - وذلك لإمكان اجتماع الترخيص مع الكراهة.

نعم لو كان الزجر عن المتعلق تحريمياً لزم تقييد إطلاق الأمر، لمنافاة الترخيص مع الحرمة، وعدم إمكان اجتماعهما.

وأشكل عليه: أولاً: بأن معنى حكم العقل بترخيص تطبيق المأمور به على أي فردٍ من الأفراد، هو عدم دخل الخصوصية - لا وجوداً ولا عدماً - في المأمور به، وحينئذٍ يمكن تطبيق المأمور به على الفرد المحرّم أيضاً، إذ لا منافاة بين عدم دخل الخصوصية في المأمور به وبين حرمة ذلك الفرد، وعليه فيكون الفرد المحرّم مصداقاً للمأمور به.

وفيه: أن عدم إمكان تطبيقه على الفرد المحرّم حينئذٍ لعدم تمشي قصد القربة، ولولا ذلك لأمكن القول به، بعبارة أخرى: إن عدم دخل الخصوصية هو سبب ترخيص العقل لولا المانع، وفي الفرد المحرّم يوجد المانع.

وثانياً: عدم إمكان أن تكون الطبيعة متعلقة للأمر، والفرد متعلقاً للنهي التنزيهي، وذلك لأن الفرد إذا كان مشتملاً على مفسدة فإن كانت غالبة فلا ملاك للأمر، فلا أمر، فلا امتثال، وإن كانت مغلوبة فلا ملاك للكراهة، وإن تساويا كان مباحاً لا واجباً ولا مكروهاً!!

لكن لا يخفى أن هذا إشكال مبنائي، إذ علی القول بجواز الاجتماع لاختلاف مركز الأمر والنهي وتمّ تصحيح الاجتماع بذلك فلا يرد الإشكال

ص: 170

فيما نحن فيه.

القسم الثاني: العبادات المكروهة التي لا بدل لها

كصوم يوم عاشوراء، فإن الأمر الاستحبابي بالصوم عام استغراقي، فيشمل الصوم في كل يوم - إلا ما استثني - فكل يوم ليس بديلاً عن يوم آخر، بل هو مستحب أصلي مستقل، ولا إشكال في صحة صوم يوم عاشوراء مع أرجحية الترك، فكيف اجتمع الاستحباب مع الكراهة؟ مع أنه قد يتوهم عدم إمكان حمل النهي على الإرشاد إلى أقلية الثواب، إذ لا توجد أفراد أخرى لهذا الصوم ليكون أقل ثواباً بالنسبة إليها؟

والجواب من وجوه:

الوجه الأول: أن يقال: باشتمال الفعل والترك على المصلحة، لكن مصلحة الترك أكثر، فيكون النهي إرشاداً إلى ذلك، فلا طلب للترك ولا زجر.

الوجه الثاني: إن حقيقة النهي هي طلب الترك، ومنشؤه قد يكون المفسدة في الفعل، وهذا يضاد الأمر بالفعل الذي منشؤه المصلحة فيه، وقد يكون منشؤه المصلحة في الترك - أو ما يلازمه - فلا مفسدة في الفعل، وحينئذٍ يصح الفعل، لاشتماله على المصلحة من دون المفسدة، ولا يضر فيه كون مصلحة الترك أقوى.

وقد أورد عليه المحقق النائيني(1):

بأن معنى ذلك هو كون المورد من التزاحم بين المستحبين، وأثر هذا التزاحم هو الأمر التخييري بينهما مع كون أحدهما أفضل، لاشتماله على مصلحة أكثر.

ص: 171


1- فوائد الأصول 1: 439.

ولكن لا يمكن التزاحم إلا إذا كان المتزاحمان مما لهما ثالث بحيث يمكنه تركهما، فيتعلق الأمر التخييري بهما ويكون هذا الأمر صالحاً للداعوية.

أما لو لم يكن لهما ثالث - كالنقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما - فلا يخلو المكلف عن أحدهما قهراً، فلا يعقل الطلب التخييري بهما، إذ لا يكون هذا الأمر داعياً لارتكاب أحدهما أبداً، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأن الأمر دائر بين صوم يوم عاشوراء وبين تركه ولا شق ثالث.

إن قلت: بل يوجد ثالث وهو الصوم من غير قصد القربة، فالمستحب هو الحصة الخاصة من طبيعي الصوم - الذي هو الصوم بقصد القربة - لا نفس الطبيعي، فالشقوق ثلاثة: ترك الصوم، الصوم بقصد القربة، الصوم لا بقصد القربة!!

قلت: إن متعلق الأمر هو الصوم بقصد القربة، وضده أو نقيضه هو ترك هذا الصوم، والصوم لا بقصد القربة داخل في ترك هذا الصوم، لا أنه ضده الآخر، وذلك لأن فعل بني أمية لعنهم الله لم يكن الإمساك المجرد، بل الصوم بقصد القربة، فترك هذا الصوم هو الراجح سواء أمسك لا بقصد القربة أو لم يمسك أصلاً.

الوجه الثالث: ما عن المحقق النائيني(1)،

من اختلاف متعلّق الأمر والنهي، إذ متعلق الأمر هو ذات العبادة، ومتعلق النهي هو التعبّد بالعمل والتقرّب به إلى الله تعالى، فيكون النهي في طول الأمر، ولا ينافي هذا النهي قصد القربة لكونه تنزيهياً.

ص: 172


1- فوائد الأصول 1: 439.

وهذا نظير الأمر الناشئ من تعلّق الإجارة بعمل عبادي، كما لو آجره لينوب عن الميت في قضاء الصلاة، حيث إن متعلق الأمر العبادي هو ذات العمل، ومتعلق الأمر الإجاري هو إتيان العمل بداعي الأمر الثابت له، وبذلك تنحل شبهة كيفية انسجام أخذ الأجرة مع قصد القربة.

وأشكل عليه في المقيس والمقيس عليه:

أ) أما في المقيس عليه - وهو الإجارة للنيابة في عمل عبادي - فلأنّ ذات العمل يكون متعلقاً لكلا الأمرين - الأمر العبادي استقلالاً والأمر الإجاري ضمناً - فاتحد متعلق الأمرين فلا طولية في البين، بل لابد من التداخل بينهما، ولا يجدي اختلاف رتبة الذات مع الذات المقيدة.

ب) وأما في المقيس - وهو صوم عاشوراء - فلأن التشبّه بالأعداء، محرّم لا أنه مكروه، مضافاً إلى أن الأمر قد تعلق بالذات بقصد القربة - ولو عن طريق متمم الجعل - فاتحد متعلق الأمر والنهي.

الوجه الرابع: ما في المتنقى(1)

من أن النهي إرشاد إلى أقلية الثواب وأن غيره أكثر ثواباً، وذلك لأن كل صوم مستحب لا بدل له، إلا أنه تحفّ ببعض الأفراد خصوصية توجب نقصان مصلحته وثوابه عما عليه سائر الأفراد الأخرى، وذلك لأنه ليس من متعارف المكلفين الصوم في جميع أيام السنة، بل يصومون بعض الأيام ويتركون أخرى، فالنهي في الحقيقة إرشاد إلى أولوية الإتيان بغير هذا الفرد، فالأفراد الأخرى أبدال طولية بحسب البناء العملي للمكلفين لا بحسب جعل الحكم.

ص: 173


1- منتقی الأصول 3: 126.

وبعبارة أخرى: النهي هو بمعنى إن كنت تريد صوم يوم من الأسبوع فاجعله غير يوم عاشوراء، لتنال ثواباً أكثر!!

وفيه: أن لازم ذلك عدم الكراهة لمن يصوم الدهر عملاً، أو من اضطر إلى ترك المفطرات طوال يوم عاشوراء - لعدم وجدانه إياها مثلاً - حيث ينوي الصوم، وأمثال ذلك، مع أنه لا إشكال في الكراهة أيضاً.

القسم الثالث: ما لو كانت الكراهة على عنوان آخر غير العبادة

لكنه اجتمع معها في مجمع واحد، كالصلاة في مواضع التهمة...

1- فإن كان ذلك العنوان ملازماً للعبادة من غير اتحاد، فلا إشكال حتى على القول بالامتناع، وذلك لتعدد الوجود، فيكون كالنظر إلى الأجنبية في الصلاة.

2- وإن كان متحد وجوداً مع العبادة، فهذا القسم في الحقيقة يرجع إلى القسم الأول، فيكون نظير الصلاة في الحمام، حيث يكون العنوان المكروه المنطبق على العبادة من خصوصيات ذلك الوجود، المستلزم لنقصان مصلحة العبادة وقلة ثوابها، فيجري في هذا القسم ما جرى هناك.

البحث الرابع عشر: في الاضطرار إلى الحرام

اشارة

والكلام إنّما هو على مبنى الامتناع مع غلبة ملاك النهي على ملاك الأمر، حيث يكون المجمع حينئذٍ مبغوضاً، فالعبادة غير قابلة للتقرب بها.

ولكن لو اضطر إلى الحرام، فهل يمكن التقرب بذلك العمل فتقع العبادة صحيحة؟

والكلام في موضعين: ما كان الاضطرار لا بسوء الاختيار، وما كان بسوء

ص: 174

الاختيار.

القسم الأول: الاضطرار لا بسوء الاختيار

فقد يقال: بأن هذا الاضطرار سبب لعدم تأثير ملاك الحرمة، فترتفع المبغوضية، فيؤثر ملاك الوجوب من غير مزاحم، فيصح العمل العبادي لارتفاع المانع عن الصحة.

وأورد عليه: أولاً: بأنه لا طريق إلى الملاك إلا الخطاب، فلا يكفي الاستدلال للوجوب بالملاك، بل لابد من القول بأن الحرمة كانت مانعة عن إطلاق دليل الوجوب، وبارتفاعها يرتفع المانع عن شمول إطلاق الدليل، إن كان له إطلاق.

وثانياً: ما عن المحقق النائيني(1) من أن القيود العدمية في المأمور به - وهي التي تجعل الحكم مختصاً ببعض الموارد - على أنحاء ثلاثة:

1- ما كانت بدلالة النهي الغيري، كالنهي عن لبس جلود ما لا يؤكل لحمه في الصلاة، فهذا إرشاد إلى مانعية الشيء عن صحة العبادة.

وهذا النهي لا يرتفع بالاضطرار، لإطلاق دليله، والاضطرار لا يرفع سوى الحكم التكليفي دون الوضعي.

2- ما كانت بدلالةٍ تبعيّةٍ للنهي النفسي الدال على التحريم، فبناءً على امتناع الاجتماع يستفاد من الدليل المانعية عن صحة العمل.

وهذه المانعية قد تكون في طول الحرمة، فحينئذٍ ترتفع المانعية بارتفاع الحرمة، لارتفاع سبب المانعية، كالنهي عن الصلاة في ثوب الحرير للرجال،

ص: 175


1- راجع فوائد الأصول 1: 444-446؛ أجود التقريرات 2: 182-184.

وقد تكون في عرض الحرمة فلا ترتفع كالنهي عن الوضوء بماء مغصوب، وذلك لأن النهي يقتضي الحرمة والمانعية معاً، فهو علة لمعلولين، والاضطرار ينفي المعلول الأول دون المعلول الثاني، وحيث إن المعلولين في رتبة واحدة فيستحيل عدم تأثير العلة في أحدهما لو لم تؤثر في الآخر لمانع عنه.

3- ما كانت الحرمة ثابتة لأجل مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه، - كما على بعض مباني إمكان الاجتماع - فحينئذٍ يتزاحم الحكمان، ومع الاضطرار ترتفع الحرمة، فتزول المزاحمة، فيؤثر ملاك الوجوب أو إطلاقه.

إذا اتضح ذلك تبين الإشكال - لو كانت الحرمة من النحو الثاني وكانت في عرض المانعية - حيث إن ارتفاع الحرمة بالاضطرار لا يوجب ارتفاع المانعية، فلا يؤثر ملاك الوجوب!!

وفيه: أن المقتضي لأحد الضدين هو جزء العلة لايجاده، ومانع عن تأثير مقتضي الضد الآخر، لا أنه علة لعدم الضد الآخر، لأن الملاك شيء وجودي فلا يمكن أن يكون علة للشيء العدمي، فليس الملاك علة لمعلولين عرضيين بحيث لو ارتفع أحدهما بالاضطرار بقي الآخر، بل هو علة لشيء واحد يرفعه الاضطرار، فتأمل.

وثالثاً: بأنه لو قلنا ببقاء الدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية، فإنه يكفي ذلك في إثبات المانعية، حيث إن دليل النهي يدل على عدم الوجوب - أي المانعية - التزاماً، فتأمل.

القسم الثاني: الاضطرار بسوء الاختيار

كمن دخل الأرض المغصوبة عالماً عامداً، حيث يضطر إلى الخروج الذي هو تصرف في المغصوب أيضاً.

ص: 176

وهل ترتفع الحرمة والمبغوضية حينئذٍ، أم أن سوء الاختيار سبب بقائهما؟ ثم على فرض ارتفاع الحرمة فهل يجب الفعل الذي يوجب التخلص عن الحرام - كالخروج عن المغصوب - أم لا؟ فهنا مطالب ثلاث:

المطلب الأول: في ارتفاع الحرمة، ولا إشكال في ذلك، لعدم صحة التكليف بغير المقدور - حتى لو كان بسوء الاختيار - إذ هو لغو لا يورث الداعوية حيث لا يتمكن المكلف من تنفيذه.

إن قلت: قد يتمكن المكلف من عدم الخروج عن المغصوب، وذلك بالبقاء فيه، فلا يكون الخروج غير مقدور فيصح التكليف بالحرمة فيه!!

قلت: حيث إن مفسدة البقاء أكثر عادة فلابد من عدم تحريم الخروج، وإلاّ كان المولى ناقضاً لغرضه ومُوقعاً في المفسدة الأكبر، فالمكلف مضطر إلى الخروج شرعاً، والاضطرار الشرعي كالاضطرار العقلي بلا فرق، وحيث كان الخروج مضطراً إليه فلا إشكال في ارتفاع الحرمة.

لا يقال: الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار؟

فإنه يقال: لا ينافيه عقاباً - وذلك لتفويت غرض المولى والايقاع في المفسدة - ، لكنه ينافيه خطاباً، لما ذكرناه من اللغوية وعدم الداعوية.

وقد ذكر المحقق النائيني(1)

عدم جريان القاعدة في مثل الخروج عن المغصوب، مستدلاً بأنه لابد من تحقق أمور أربعة لجريان القاعدة وهي: 1- عدم قدرة المكلف، 2- وعدم صحة توجيه الخطاب لا عقلاً ولا شرعاً، 3- وكون الملاك ثابتاً مطلقاً - حتى في حال عدم وجود المقدمة - ، 4- وكون

ص: 177


1- فوائد الأصول 1: 450-452؛ أجود التقريرات 2: 189-193.

وجود المقدمة موجباً للقدرة على ذي المقدمة لا عدمها. وهذه الأمور مفقودة فيما نحن فيه فلا تجري فيها القاعدة!!

أما الأول: فلأنه لابد من عدم القدرة على الشيء حتى يصدق الموضوع، وهو (الامتناع)، وليس الخروج كذلك، فإنه مقدور حيث يمكنه فعله أو تركه، نعم أصل الغصب - بمقدار زمان الخروج - ليس مقدوراً، لكنه خارج عن الكلام.

ويرد عليه: ما ذكرناه قبل قليل من أن الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي، حيث إن الاضطرار إلى الخروج - فيما كان البقاء يستلزم الغصب الزائد - شرعي.

هذا مضافاً إلى أن البحث إنّما هو في الاضطرار إلى أصل الغصب فيدخل في الاضطرار العقلي، ولا وجه لإخراج أصل الغصب عن محل البحث وحصره في الخروج.

وأما الثاني: لأن مورد القاعدة ما كان امتناعاً، فلا يصح فيه الخطاب أصلاً، وليس ما نحن فيه كذلك، إذ الخروج - فيما استلزم الغصب الزائدة - واجب عقلاً.

وأورد عليه: بأن الاضطرار إلى الخروج إنّما نشأ من حكم العقل بلزوم الخروج، فراراً من أشد المحذورين، فحينئذٍ هو مضطر شرعاً إلى الخروج، فامتنع عليه البقاء شرعاً، فتأمل.

وأما الثالث: فلأن مورد القاعدة هو وجود ملاك الحكم مطلقاً - سواء تحققت المقدمة أم لا - ، وليس الخروج كذلك، إذ الملاك في الخروج إنّما هو بعد الدخول، وأما قبل الدخول فلا ملاك للخروج.

ص: 178

ويرد عليه: أن حرمة الغصب إنّما هي قضية حقيقيّة، فكل غصب فيه مفسدة، سواء كان بالخروج أم بغيره، نعم خارجاً لا يتحقق خروج بدون دخول، لكن لا ربط لذلك بالقضية الحقيقية.

وأما الرابع: فلأن مورد القاعدة ما كان وجود المقدمة سبباً للقدرة على الحرام، وعدم المقدمة سبباً لعدم القدرة عليه، والشأن فيما نحن فيه بالعكس، حيث إن وجود المقدمة - وهي الدخول - سبب للامتناع أي الاضطرار إلى الخروج.

ويرد عليه: أن المناط هو كون الامتناع مستنداً إلى اختيار المكلف، فلا فرق عقلاً بين كون الامتناع مستنداً إلى فعل أو ترك المقدمة، فتأمل.

والحاصل: إنه لا شك في ارتفاع الحرمة بالاضطرار إلى الخروج، حتى وإن كان اضطراراً عرفياً لا عقلياً، كالمضطر إلى أكل الميتة، فإنه قادر علی الإمساك عن الأكل إلى حدّ الموت، فليس الاضطرار عقلياً - كالساقط من شاهق حيث لا يتمكن من إيقاف السقوط - ، لكنه اضطرار عرفي، وهو مناط ارتفاع الحرمة.

مضافاً إلى ما ذكرناه من اضطراره العقلي إلى أصل الغصب - ولو بمقدار زمان الخروج - فترتفع هذه الحرمة عقلاً للغوية الخطاب حينئذٍ.

أما الشيخ الأعظم فقد استدل لعدم الحرمة، بأنه لا تكليف بالحرمة لا قبل الدخول ولا بعده...

أما قبل الدخول: فإنه لا يتمكن من الخروج أو عدمه.

إن قلت: إنه يتمكن من ترك الخروج بترك الدخول!!

ص: 179

قلت: في الواقع إنه ترك الدخول، وليس ترك الخروج إلا من باب السالبة بانتفاء الموضوع، نظير من لم يشرب الخمر لعدم وقوعه في المهلكة، فإنه لا يصدق عليه إلا أنه لم يقع في المهلكة، لا أنه لم يشرب الخمر في المهلكة!!

وأما بعد الدخول: فإن خروجه مما يترتب عليه التخلص من الحرام، فلا يمكن أن يتصف بالمبغوضية فلا حرمة لعدم الملاك لها.

والأقرب أن مراد الشيخ الأعظم ما ذكره في المنتقى(1)

من أن للخروج فرضين:

الأول: فرض الخروج في ظرف ما قبل الدخول، ومن الواضح أنه غير مقدور، إذ قبل الخروج غير قابل لإعمال الإرادة فيه إيجاداً أو تركاً، بل الترك متحقق قهراً بترك الدخول، فهو في هذا الظرف متروك في نفسه.

الثاني: فرض الخروج في ظرف ما بعد الدخول، فهو مقدور - لقبوله تعلق الإرادة به - لكنه لا يصح تعلق التكليف به، لأنه مورد الاضطرار، ومقدمة للتخلص عن الحرام.

وهذا بخلاف البقاء، فإنه بعد الدخول قابل للتحريم، إذ لا يقع مقدمة للواجب!!

وعليه فلا يرد على كلام الشيخ الأعظم ما أورده المحقق الخراساني عليه من إشكالات(2) حيث حمل كلام الشيخ على أنه يشترط في صحة

ص: 180


1- منتقی الأصول 3: 142.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 319-322.

التكليف القدرة المباشرية على متعلقه، وعدم صحته مع القدرة عليه بالواسطة، فأورد عليه بإشكالات:

منها: النقض بالبقاء، حيث إنه قبل الدخول غير مقدور، فكيف تعلق التكليف بحرمته؟

وفيه: أنه بعد الدخول يكون البقاء مقدوراً، وحيث إنه يستلزم الغصب الزائد بلا اضطرار إليه يكون مبغوضاً، فلا مانع من الحكم بحرمته، عكس الخروج الذي هو مقدمة للتخلص عن الحرام.

ومنها: القدرة على الخروج وعدمه قبل الدخول، إلا أنها قدرة بالواسطة، ولا يعتبر في صحة التكليف سوى القدرة، سواء كانت بواسطة أم بدونها.

وفيه: أن الشيخ الأعظم لا ينكر ذلك، ولذا إلتزم بالواجب المعلق - وقد سماه بالواجب المشروط كما مرّ - مع أن القدرة فيه تتوقف على الواسطة كما هو واضح.

المطلب الثاني: في ارتفاع المبغوضية وعدمها، فهل المقدميّة للتخلص عن الحرام تصير سبباً لارتفاع مبغوضية الخروج، أم أن الخروج يبقى على ما هو عليه من المبغوضية!!

وقد يقال بارتفاع المبغوضية، لوجوه، منها:

الوجه الأول: بأنه بعد الدخول إلى الغصب - مثلاً - ، لا يكون الخروج مبغوضاً، لأنه مقدمة للتخلص عن الحرام، وحيث إن التخلص محبوب للمولى، كانت مقدمته محبوبةً أيضاً، فلا يمكن اتصاف الخروج بغير المحبوبية.

ص: 181

وأورد عليه: أولاً: بأن الخروج مشتمل على مفسدة التحريم، وحيث إنه كان بسوء الاختيار فلا يمكن اتصافه بغير المبغوضية، نعم الاضطرار إلى التخلص يرفع الحرمة، لكنه لا يرفع المبغوضية، ودليل المقدمية لا يثبت أكثر من ذلك.

وثانياً: بأن أمثال المورد داخلة في باب التزاحم، ففي المثال تتزاحم حرمة الخروج لكونه غصباً، مع لزوم التخلص عن الغصب الزائد، وترجيح أحد المتزاحمين لأهميته لا يرفع المبغوضية عن الآخر حتى لو لم يكن بسوء الاختيار، فضلاً عما كان بسوء الاختيار.

وحيث إن محط النظر حول ارتفاع المبغوضية وعدمها، فلا يهمنا البحث عن تشخيص المتزاحمين...

وأن التزاحم هل هو بين الخروج والتخلص.

أم أن التزاحم بين الخروج والبقاء، بأن يقال: إنّ المضطر إليه هو مقدار من الغصب، فلابد من ملاحظة ما يستلزم الغصب الأقل، فقد يكون في البقاء فيلزم الخروج، وقد يكون في الخروج فيلزم البقاء - كما لو تمكن من استرضاء المالك لو بقي، في مدة أقل من مدة الخروج - ، وقد يتساويان فيتخير، وعليه فيحرم ما استلزم غصباً زائداً لوجود مقتضي الحرمة - وهي مفسدة الغصب - مع عدم المانع، عكس ما لا يستلزم غصباً زائداً فلا يحرم لوجود المانع.

وإنما لم يهمنا ذلك لأنه يرتبط برفع الحرمة، لا بالمبغوضية التي هي محل الكلام.

ص: 182

الوجه الثاني: إن الكلام حول المبغوضية التي هي سبب للأثر، لا المبغوضية الطبيعية، فهي توجد حتى في الموارد القهرية التي لم تكن بسوء الاختيار، بل قد مرّ إمكان اجتماع الحب والبغض لشيء واحد لكن المولى يراعي في أحكامه الغالب منهما، ويحكم بعد الكسر والانكسار، فمن يضطر إلى قطع يده حفاظاً على حياته، يبغض القطع ويحبه، لكن الحب غالب فلذا يمكّن الطبيب من قطعها.

وفيما كان بسوء الاختيار فإن البُغض الطبيعي موجود، لكن حيث إن الشق الآخر أهم لذا لا يكون هذا البُغض منشأ للأثر.

وأورد عليه: أنه وإن لم يكن منشأ ً للتحريم لوجود المانع أو المزاحم الأهم، لكنه منشأ لصحة العقاب إن كان بسوء الاختيار.

وأجيب: بأن صحة العقاب ليست على فعل المضطر إليه، وإنّما هو لإلقاء النفس فيما يضطر إليه.

نعم يمكن التفصيل بين ما يضطر عقلاً إلى ذلك الشيء كما في الأسباب التوليدية، كمن يلقي بنفسه من شاهق فيصح عقابه على نفس الارتطام بالأرض لا على الإلقاء، وبين الاضطرار الشرعي - مما لا يسلب القدرة العقلية - كمن يذهب إلى الصحراء ليضطر إلى أكل الميتة، فيكون العقاب على الذهاب لا على أكلها، وذلك للفرق بين الموردين، إذ في الأول لا تكليف شرعي بعد الاضطرار فلا يخاطبه المولى بالامتناع عن الارتطام وهو في حالة الهُو ِيّ، عكس الثاني حيث يأمره الشارع بالأكل حذراً من المحذور الأشد، فتأمل.

ص: 183

وقد يقال: باستحالة ارتفاع المبغوضية، ويستدل لذلك بصحة العقاب، وقد عرفت ما فيه.

وقد يقال: باستلزام ارتفاع المبغوضية إلى تعليق التحريم وعدمه على إرادة المكلف، فإذا لم يرد الدخول حرم، وإذا أراده لم يحرم!!

وفيه: أنه لا دخل للإرادة في ذلك، بل يحرم الغصب مطلقاً، أراد الدخول أم لم يرده على نحو القضية الحقيقية، نعم ترتفع الحرمة بعد الدخول للاضطرار، لكن ارتفاعها لا يلازم ارتفاع المبغوضية كما عرفت.

المطلب الثالث: في كون الخروج مأموراً به.

واستدل له: بأن الخروج مقدمة للتخلص عن الحرام، أو هو بنفسه تخلص عنه.

وأورد عليه: بأن التخلص ليس بواجب شرعي، بل هو حكم عقلي منتزع عن حرمة الغصب، فليس هنا سوى حكم واحد هو حرمة الغصب(1).

مضافاً إلى ابتناء ذلك على وجوب مقدمة الواجب، أو على القول بأن النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضده، ولا نقول بهما.

ص: 184


1- منتقی الأصول 3: 148.

فصل في التزاحم

اشارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: في شرائط تحقق موضوع التزاحم

فقد ذكرت عدة شروط، منها:

الشرط الأول: وجود الملاك في كلا المتزاحمين، مع كون التزاحم في مرحلة الامتثال دون مرحلة الجعل، فإن التزاحم على قسمين:

أحدهما: التزاحم في مرحلة الملاك، بأن يوجد مناط الوجوب ومناط الحرمة معاً، كالميسر الذي فيه إثم كبير ومنافع للناس، وهنا المولى يعلم بالمناطين ويرجح أحدهما على الآخر بعد الكسر والانكسار، فالميسر مثلاً إثمه أعظم من نفعه، فهنا يوجد حكم واحد فقط وهو الذي يطابق الملاك الراجح، فلو فرض قيام دليلين حدث بينهما تعارض.

ثانيهما: التزاحم في مرحلة الامتثال، أي بعد جعل الحكم على موضوعه، حصل تزاحم بين تكليفين.

الشرط الثاني: أن يكون توارد الحكمين على موضوعين، كإنقاذ غريقين، دون موضوع واحد، كالصلاة في المغصوب، وذلك لأن علاج التزاحم هو بتقديم الأهم إما بالترتب أو بدونه، ومع عدم الأهم التخيير، وهذا العلاج لا يمكن فيما لو ورد حكمان على موضوع واحد، أما الترتب

ص: 185

فممتنع إذ ترك الأهم مساوق للإتيان بالمهم فيمتنع الأمر به، هذا فضلاً عن امتناع جعل حكمين متضادين على موضوع واحد.

أقول: هذا على المبنى المختار من عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي حتى مع اختلاف الجهة، أما القائل بالجواز مع اختلاف الجهة فيمكنه إجراء هذا العلاج، فتأمل.

الشرط الثالث: أن يكون منشأ التزاحم في مقام الامتثال هو عدم قدرة المكلف على امتثالهما معاً، كعدم تمكنه من إنقاذ الغريقين معاً، أما لو كان المنشأ الدليل الخاص في المورد فليس من التزاحم في شيء.

وأما ما مثّل به المحقق النائيني(1)

من أن الدليل دال على عدم وجوب الزكاة في كل سنة مرتين، فيحصل التزاحم بين من كانت له أول السنة خمسة وعشرين بعيراً وزكاتها خمس شياة، ثم زادت واحدة في وسط السنة، حيث زكاة ستة وعشرين بعيراً بنت مخاض، فيتزاحم حكما الزكاة في أول السنة القادمة ووسطها بين وجوب دفع خمس شياة أو دفع بنت مخاض، وعدم وجوب الزكاتين لا يرتبط بعدم قدرة العبد على دفعهما بل بالدليل الخاص...

فليس من التزاحم في شيء، وذلك لعدم إحراز الملاك للنصاب الثاني إلى حين حلول حول على النصاب الأول، ولذا أفتى مشهور الفقهاء بأنه يبقى على النصاب الأول فلمّا يحول الحول يدفع زكاته وهو خمس شياة ثم بعد ذلك ينتقل إلى النصاب الآخر، نعم مع إحراز الملاك يكون لهذا الكلام

ص: 186


1- فوائد الأصول 1: 319.

مجال، لكن لا إحراز له بعد قيام الدليل على عدم وجوب زكاتين في عام واحد، إذ لا طريق لإحراز الملاك إلا الخطاب، والمفروض عدم وجود ذلك الخطاب، لعدم إطلاق الدليل بعد قيام الدليل الخاص.

ثم إن المحقق النائيني(1)

ذكر أن منشأ التزاحم وعدم القدرة أحد أمور خمسة:

1- أن يكون عدم القدرة اتفاقي، لا للتضاد بين الأمرين، كتزاحم إنقاذ غريقين.

2- عدم القدرة للتضاد الاتفاقي بين الأمرين، بمعنى استحالة تحقيق الأمرين معاً لجهة العجز من جهة المقدور، كما لو أمره بملازمة زيد وأمره بالبقاء في الدار، فكان زيد في الدار ثم خرج منها.

3- إذا كانت ماهيتان اتحدتا في الخارج، كالصلاة والغصب، فلو كانت ماهية واحدة كإكرام العالم الفاسق فهو من التعارض.

4- إذا كان الحرام مقدمة لواجب اتفاقاً، كدخول الدار المغصوبة لإنقاذ غريق، أما لو كانت المقدمية دائمة فهو من التعارض.

5- إذا تلازم الواجب والحرام اتفاقاً، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق دون من سكن اليمن مثلاً.

المبحث الثاني: في الفرق بين التزاحم والتعارض

اشارة

وعن المحقق النائيني(2)

أنهما يفترقان في أمور ثلاثة: في مورد التنافي

ص: 187


1- فوائد الأصول 1: 320-321؛ وراجع منتقی الأصول 3: 40-41.
2- فوائد الأصول 1: 317؛ أجود التقريرات 2: 33.

والتصادم، وفي الحاكم بالتخيير أو الترجيح، وفي جهات التقديم.

الفرق الأول: في مورد التنافي والتصادم

وفيه قولان:

القول الأول: إنه قد يكون التصادم في الملاك، بأن يكون مقتضی الوجوب والحرمة - مثلاً - موجودين، فحينئذٍ في مرحلة جعل الحكم يلاحظ المولى الجهتين، ويحكم بعد الكسر والانكسار بينهما: إما بترجيح أحدهما على الآخر، أو بالتخيير لو لم يكن مرجحاً، ويستحيل جعل الحكمين المتضادين معاً.

فهذا المورد يرجع إلى التعارض ومن مصاديقه، وفي ذلك تضييق دائرة الجعل.

وقد لا يكون تصادم في الملاك، حيث لم يكن محذور في جعل كلا الحكمين على موضوعهما المفروض، لكن يحصل التصادم في مقام فعلية الحكمين، بحيث يكون امتثال أحدهما مستلزماً لارتفاع موضوع الآخر، لا تضييق دائرة الجعل، وهذا هو التزاحم المبحوث عنه هيهنا.

وقد يوجّه كلام المحقق النائيني بأن الحكم لا نظر له إلى موضوعه، فلا ينظر إلى ما يرفعه، فمع تقديم أحدهما لا يكون الآخر داعياً إلى صرف القدرة في متعلق نفسه، فاستلزام أحد الحكمين لرفع موضوع الآخر سبب لعدم التنافي في الجعل.

وأشكل عليه(1): أولاً: مبنىً، بأن الحكم قد ينظر إلى موضوع نفسه،

ص: 188


1- منتقی الأصول 3: 34.

كالأمر بالوضوء حيث ينظر إلى حفظ الماء، فيجب حفظه، مع أن الماء هو موضوع وجوب الوضوء.

وفيه: أن الكلام في القضايا الحقيقية التي هي جملة شرطية في حقيقتها، بأنه إن وجد الموضوع فالحكم كذا، وليس الكلام فيما لو دل الدليل الخاص على وجوب تحقيق الموضوع أو أجزائه أو شرائطه.

وثانياً: بناءً، بأنه حتى لو فرض صحة عدم نظر الحكم إلى موضوعه، فإن ما نحن فيه مستثنى منها، وذلك لأن الحكم يدعو إلى متعلقه بأن تصرف القدرة فيه، وذلك ملازم للاحتفاظ بموضوع الحكم، إذ صرفها في غيره يقتضي إعدام موضوعه.

والحاصل: إن نظر الحكم إلى موضوعه فيما نحن فيه بحفظ القدرة، إنّما هو من جهة اقتضاء الحكم إلى متعلقه، وهو أمر ملازم لكل حكم، وحيث لا يتمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين - إذ القدرة واحدة - ، فيمتنع جعل كليهما لما مرّ من أن حقيقة الحكم هي الداعوية.

وعليه: ففي المورد الذي لا يمكن أن يترتب على الجعل الداعويّة والتحريك لا يكون المجعول هو الحكم، فلا يكون جعلاً، فرجع إلى التنافي في مقام الجعل، فصار كالتعارض.

مضافاً إلى أن المراد من الداعوية هو إمكانها لا فعليتها، فلذا يصح تكليف العصاة مع العلم بعدم امتثالهم.

وإلى أن (الحكم بوجوب حفظ القدرة) ليس من باب نظر الحكم إلى موضوعه، بل لا يرتبط بمرحلة الجعل، بل هو في مرحلة الامتثال، فإن العقل

ص: 189

يستقل بوجوب الامتثال، والذي من مقدماته حفظ القدرة بعدم صرفها في فعل آخر، فتأمل.

وثالثاً: بأنه لا علاج للتزاحم إلا بتقييد أحد الحكمين بترك امتثال الآخر أو عصيانه - كالترتب - ومن الواضح أن هذا التقييد يرجع إلى تضييق دائرة الجعل والإنشاء، فيكشف عن كون التنافي في مقام الجعل، وإلاّ لم يكن وجه للتصرف فيه بعد أن كان التنافي في مقام آخر.

وفيه: أن القائل بجواز الترتب لا يقول بسقوط الحكم الأول وإلا خرج عن الترتب، مضافاً إلى ما مرّ من أنّ الجعل إنّما هو بنحو القضية الحقيقية، وعدم القدرة أو لزوم صرفها في الغير رافع للموضوع لا مقيد للجعل، فتأمل.

القول الثاني: إنه قد يرتفع الحكم مع بقاء الموضوع وهذا في التعارض، وقد يرتفع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه وهذا هو التزاحم.

مثلاً قوله: (أكرم العلماء) وقوله: (لا تكرم الفساق) متعارضان في العالم الفاسق، وترجيح أحدهما على الآخر إنّما هو مع بقاء الموضوع، وأما في قوله: (أنقذ الغريق) مع تنافي إنقاذ غريقين لعدم قدرة المكلف عليهما، فإن ترجيح أحدهما - لأهميته مثلاً - يكون تعجيزاً للمكلّف عن الآخر فلا يجب لانتفاء موضوعه، فالجعل لا قصور فيه لعدم تنافي الحكمين معاً، لكن فعلية الحكم في أحدهما استلزمت انتفاء موضوع الآخر، فلا يوجد حكم لعدم وجود موضوع من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

الفرق الثاني: في الحاكم بالترجيح والتخيير

ففي التزاحم: الحاكم هو العقل، حيث يستقل بترجيح ذي المزية،

ص: 190

والتخيير عند عدمها.

وفي التعارض: الحاكم هو الشرع، لأن حجية الأمارات من باب الطريقية، وحيث تعارضتا سقطت طريقيتهما عقلاً، فلابد من حكم الشارع بترجيح أحدهما على الآخر.

وأورد عليه: أولاً: بأن الحاكم في كليهما الشرع، إذ هو الجاعل للحكم، فيكون الترجيح العقلي كاشفاً عن حكم الشرع.

وفيه: أنه مع فرض جعل كلا الحكمين بنحو القضية الحقيقية، ووضوح أن الأحكام تتبع المصالح والمفاسد، فوجود المزية مرجح عقلي، فلو فرض وجود حكم شرعي بالترجيح فإنه إرشاد إلى حكم العقل، فتأمل.

وثانياً: بأنه مع تعارض الأمارات لا وجه للتساقط مع وجود المزية التي توجب الأقربية إلى الواقع، بل العقل يرجح بها أيضاً، فلا فرق في الترجيح بذي المزية عقلاً بين التزاحم والتعارض، نعم مع تساوي الأمارات يتساقطان ولا حكم بالترجيح لا عقلاً ولا شرعاً، بل إما التخيير أو الرجوع إلى الأدلة أو الأصول الأخرى.

وفيه: أن هذا مبني على كون المرجحات المذكورة في الروايات إنّما هي من باب الأقربية إلى الواقع، وإنّما ذكرت في الروايات كمثال - كما ذهب إليه الشيخ الأعظم - ، لكن في ذلك تأمل وإشكال.

نعم يمكن القول بأنّه لا طريق في حالة التعارض إلى معرفة وجود الملاك إلا بيان الشارع، وفي حالة التزاحم وجود الملاك في كليهما محرز، وكذا إطلاق الخطاب - فيما كان إطلاق - للمورد أيضاً محرز لولا التزاحم،

ص: 191

وإنّما القصور من جهة قدرة المكلف غالباً، فهنا العقل هو الذي يرجح بالملاك الأهم، ومع عدم معرفته يستقل بالتخيير، فتأمل.

الفرق الثالث: في جهات التقديم
اشارة

وقد ذكر أنها أربع: 1- تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل، 2- تقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية، 3- ترجيح الأسبق زماناً على المتأخر وذلك في المشروط بالقدرة الشرعية، 4- ترجيح الأهم.

الأول: تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل

وله صورتان:

الصورة الأولى: ما له بدل في عرضه مما كان واجباً تخييرياً شرعاً أو عقلاً.

ومثال الشرعي: تزاحم أداء الدين مع إطعام كفارة الصيام، فهنا الترجيح لأداء الدين، لأن المكلف قادر على الكفارة بالصيام ستين يوماً مثلاً.

ومثال العقلي: تزاحم إنقاذ غريق مع الصلاة في أول الوقت، فالترجيح للإنقاذ.

ووجه التقديم: ما قيل: من أن الواجب التخييري لا اقتضاء له بالنسبة إلى خصوص الفرد المزاحم، حيث إن المكلف مخير في مقام الامتثال بين المصاديق المختلفة، وأما الواجب التعييني فإنه حيث ينحصر الامتثال فيه فإن له اقتضاءً ودعوةً إلى خصوص ما فيه التزاحم.

مضافاً إلى أن تقديم التعييني يستلزم حفظ غرض المولى في كلا حكميه، عكس ترجيح التخييري حيث يستلزم فوات أحد الغرضين.

ص: 192

وأورد عليه: أن هذا يرفع التزاحم من أساسه، لا أنه وجه للتقديم مع المزاحمة.

وفيه: ما مرّ من أن الأحكام قضايا حقيقية، فعدم شمول الحكم لمورد التزاحم لارتفاع الموضوع، لا لعدم الحكم مع وجود الموضوع، فراجع.

الصورة الثانية: ما كان لأحدهما بدل طولي، كالوضوء والتيمم، فلو تعارض الوضوء مع الطهارة من الخبث - لقلة الماء - قُدِّم الثاني على الأول.

وقد يستدل له: أولاً: بأنه لو دار الأمر بين إهمال أصل المصلحة أو تحصيل بعض المصلحة، كان الثاني أولى، بشرط أن لا تكون مقدار المصلحة الفائتة أهم من أصل المصلحة الأخرى.

وفيه: أن المناط إن كان أهمية أصل المصلحة من أحدهما، أو المقدار الفائت من الآخر، فحينئذٍ لابد من اكتشاف الأهمية من الأدلة، والأهمية قد تكون في ما له البدل، وقد تكون في ما ليس له بدل، وغالباً لا طريق إلى إحرازها.

وثانياً: بأن ما يكون له بدل طولي يكون الوجوب فيه مقيداً بالقدرة الشرعية، فيرجع إلى المرجح الثاني أي إن الوضوء إنّما يجب مع القدرة عليه، وحيث تزاحم مع التطهير من الخبث فلا قدرة عليه، فينتقل إلى بدله الذي هو التيمم.

وفيه: أن عدم القدرة على الوضوء حين التزاحم هو فرع ترجيح الطهارة من الخبث عليه، فالقول بترجيح الطهارة الخبثية لعدم القدرة على الطهارة الحدثية مصادرة أو دور.

ص: 193

الثاني: تقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في المقصود بهما

فيقال: إنّ القدرة العقلية يضادها العجز التكويني، بأن لا يتمكن من الفعل أصلاً حتى لو أراده المكلف، وأما القدرة الشرعية فيراد بها عدم صعوبة القيام بالفعل، ويضادها المشقة الشديدة ونحوها وهو ما يعبر عنه في الأدلة بالطاقة وعدم الطاقة، فالإنسان يتمكن تكويناً من الصوم حتى الموت، لكنه لا يتمكن من ذلك عرفاً بمعنى الصعوبة الشديدة في فعل ذلك.

ونتيجة ذلك: هو أن المشروط بالقدرة الشرعية، تكون القدرة دخيلة في ملاك الحكم فيه، بحيث لا ملاك له من دونها، فالاستطاعة دخيلة في وجوب الحج، بحيث لولاها لما كان له ملاك، بخلاف المشروط بالقدرة العقلية حيث لا دخل للقدرة في ملاكه، فالعجز تكويناً عن إنقاذ الغريق لا يكون سبباً لسقوط ملاكه، وإنّما يسقط به فعلية الحكم عن العاجز.

وبعبارة أخرى: في المشروط بالقدرة الشرعية تكون القدرة دخيلة في الملاك وفي الخطاب.

وأما المشروط بالقدرة العقلية تكون القدرة دخيلة في الخطاب فقط دون الملاك.

ولبقاء الملاك أو ارتفاعه آثار هامة ستتضح في طي البحوث القادمة.

المطلب الثاني: في دليل التقديم

وهو (ورود) دليل المشروط بالقدرة العقلية على دليل المشروط بالقدرة الشرعية، وذلك لأن القدرة في المشروط بالشرعية قد أخذت في الموضوع،

ص: 194

وبانتفائها ينتفي الموضوع.

ومع التزاحم مع المشروط بالقدرة العقلية، فإما يبقى حكم المشروط بالشرعية ومعنى ذلك الحكم بلا موضوع وهو باطل، وإما نمنع من جريان الدليل الآخر فيثبت موضوع المشروط بالشرعية وهو دور مصرّح، وذلك لأن مانعية المشروط بالشرعية عن الحكم الآخر متوقف على تمامية موضوع المشروط بالشرعية، وتمامية موضوعه متوقف على عدم الآخر.

وليس ذلك في العكس، لأن بقاء المشروط بالعقلية لا مانع منه، إذ المشروط بالشرعية لا يمنع عن موضوعه، إذ القدرة التكوينية موجودة حتى لو وجب المشروط بالشرعية، فموضوع المشروط بالعقلية تام، فيترتب عليه حكمه، من غير لزوم محذور بقاء الحكم بلا موضوع أو محذور الدور، حيث إن تمامية موضوعه غير متوقف على عدم الآخر(1).

وهكذا في كل (ورود)، فالدليل على الوجوب - مثلاً - وارد على أصالة البراءة، إذ موضوعها الشك، فمع قيام الدليل على الوجوب إما تجري البراءة مع عدم موضوعها الذي هو الشك، وإما نقول بمنع البراءة لدليل الوجوب فيلزم الدور، حيث إن مانعية البراءة عن دليل الوجوب متوقف على تمامية موضوعها، وتماميته يتوقف على عدم الحكم الآخر.

ومثاله: تزاحم الحج المشروط بالاستطاعة شرعاً مع الزكاة التي لم يؤخذ في لسان الدليل القدرة عليها، فالزكاة مقدمة عليه، إذ لا استطاعة على الحج مع وجوب الزكاة حيث لا يبقى عنده ما يكفيه للذهاب إلى الحج.

ص: 195


1- منتقی الأصول 3: 51.
المطلب الثالث: في دفع الإشكالات

فمنها: ما أورد على كون القدرة عقلية، فيما إذا لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل(1)، ومرجع ذلک إلى عدم إطلاق الخطاب الشرعي، فإنه مع عدم أخذ القدرة في لسان الدليل لا إطلاق كي يتمسك به لإثبات كون القدرة عقلية، حتى يتم ترجيح المشروط بها على المشروط بالقدرة الشرعية.

ومنها: زعم أن القدرة في الأدلة جميعاً شرعية.

الإشكال الأول: إن كل خطاب يقتضي القدرة على متعلقه، حيث إن حقيقة الخطاب ليس إلا ترجيح أحد طرفي المقدور، ومع اقتضاء كل أمر القدرة على متعلقه كيف يصح التمسك بإطلاق الأمر على عدم تقييد المتعلق بالقدرة كي يستنتج من ذلك عقلية القدرة المعتبرة فيه؟ بل مقتضى الخطاب هو شرعية القدرة في جميع التكاليف!

وحتى لو فرض عدم ثبوت تقييد القدرة بالقدرة الشرعية، لكن اقتضاء الخطاب صالح للقرينية وذلك مانع عن انعقاد الإطلاق.

والجواب: هو أن اشتراط القدرة إنّما هو بحكم العقل بقبح تكليف العاجز، ومن الواضح أن هذا الاشتراط عقلي لا شرعي.

وأما على مبنى المحقق النائيني من أن اشتراط القدرة إنّما هو لاقتضاء الخطاب له(2).

فإن هذا الاقتضاء لا يمكن أن يقيد المتعلق، وذلك لأن هذا الاقتضاء إنّما

ص: 196


1- فوائد الأصول 1: 323-326.
2- فوائد الأصول 1: 323.

جاء من جهة الخطاب فهو متأخر عنه، فلا يمكن أن يقيد المادة التي هي متقدمة.

مضافاً إلى أن الخطاب يدل على وجود الملاك في المتعلق، وذلك لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، فإطلاق الأمر بضميمة هذه التبعية يكون كاشفاً عن قيام الملاك بذات المتعلق (أي المادة) وأما الهيأة فإنها ترد على نفس هذا المتعلق بلا قيد.

وعليه: فيمكن التمسك بالإطلاق على قيام الملاك بالمتعلق بلا تقييده بالقدرة شرعاً.

الإشكال الثاني: إن التمسك بالإطلاق في رفع ما شُك في قيديته، إنّما هو لأجل مقدمات الحكمة، والتي منها لزوم نقض الغرض وإيقاع المكلف في خلاف الواقع لو كان القيد مشكوكاً، وهذا لا يجري فيما نحن فيه، لأن المتعلق لو كان واقعاً مشروطاً بالقدرة بحيث كان لها دخل في ملاكه، لم يلزم من إهمال ذكرها نقضاً للغرض، ولا إيقاع المكلف في خلاف الواقع، إذ لا يمكنه فعل غير المقدور حتى يقع في خلاف الواقع.

والجواب: أولاً: أنه قد يلزم إيقاع المكلف في خلاف الواقع إذا لم يبيّن المولى اشتراطها بنحو دخالتها في الملاك، وذلك لأن عدم القدرة الشرعية لا تلازم عدم القدرة التكوينية، فالمكلف يمكنه الإتيان بالفعل مع عدم قدرته الشرعية عليه لكن مع قدرته تكويناً، وهذا يلزم منه إغراء المكلف بالجهل بإيهامه وجوب ما ليس بواجب عليه، كما قد يلزم منه مخالفة التكليف، كما لو كانت الصلاة مقيدة بالقدرة عليها شرعاً، فلو أخلّ بالبيان فقد يكون المكلف عاجزاً عنها لمزاحمتها بالأهم، ومع هذا قد يغُرّه إطلاقها، فيأتي بها

ص: 197

ويترك مزاحمها وفي ذلك إيقاع المكلف في خلاف الواقع.

وثانياً: إنّ إيقاع المكلف في خلاف الواقع ليس من مقدمات الحكمة، بل التي من المقدمات هي كون المتكلم في مقام بيان مراده.

وفيه: أن عدم إيقاعه في خلاف الواقع هو منتزع عن مقدمتين، وهما كون المتكلم في مقام بيان مراده، مع عدم نصب قرينة على الخلاف، فهو من مقدمات الحكمة بهذا الاعتبار، فتأمل.

الإشكال الثالث: قد يقال: إن القدرة الشرعية مأخوذة في جميع الأحكام الشرعية، فلا مصداق لهذا المرجح، بل هو فرض صرف، وذلك لوجود أدلة عامة تجري في جميع التكاليف تقتضي تقييدها جميعاً بالقدرة الشرعية، وهي أدلة رفع الحرج والاضطرار ونحوها.

وأجيب(1): بأن أثر تقييد الحكم بالقدرة الشرعية ودخالتها في موضوع الحكم يظهر في جهتين:

الأولى: في أن ارتفاع القدرة الشرعية مساوق لارتفاع ملاك الحكم، وحينئذٍ فإن كان كلا الحكمين مشروطاً بها لزم ترجيح الأهم كما سيأتي، وإن كان الأهم مشروطاً بها فقط لزم ترجيح المهم عليه كما مرّ في المطلب السابق.

ودليل رفع الحرج والاضطرار ونحوها، لا يتكفل برفع الملاك، لأن ظاهر الدليل هو أن ارتفاع الحكم إنّما هو لأجل الامتنان والتسهيل على العباد، وظاهره ثبوت الملاك بحيث لولا جهة الامتنان والتسهيل لثبت الحكم، وحينئذٍ فلو كان الأهم مشروطاً بالقدرة الشرعية ولم يكن المهم مشروطاً بها في لسان الدليل فلا

ص: 198


1- راجع منتقی الأصول 3: 72.

دلالة لدليل رفع الحرج والاضطرار ونحوهما على تقييد الملاك في المهم بالقدرة الشرعية، فلابد من ترجيح دليل المهم على دليل الأهم كما عرفت.

الثانية: في تقديم غير المشروط بالشرعية على المشروط بها في مورد التزاحم، وذلك لارتفاع موضوع المقيد بالقدرة الشرعية.

وفيما نحن فيه فإن دليل الاضطرار ونحوه لا يرفع موضوع الحكم، وذلك لأن موضوع الحكم لا نظر فيه إلى التقييد بعدم الاضطرار من جهة الحكم الشرعي المزاحم، لأن رفع الاضطرار - مثلاً - لا يراد به الاضطرار التكويني، إذ الارتفاع حينئذٍ ثابت ببداهة العقل، فلا مِنّة في رفع الحكم حينئذٍ، ولا يحتاج إلى الاستيهاب بالتضرّع لرفع الحكم، بل المراد الاضطرار العرفي - بمعنى المشقة الشديدة ونحوها - حيث يمكن إبقاء الحكم عقلاً، فيكون رفعه منةً.

والحاصل: إن رفع الاضطرار إنّما يصح فيما لم يكن التكليف ممتنعاً، فلا يجري دليل الرفع في صورة المزاحمة، لأن جعل التكليفين في نفسه ممتنع لعدم القدرة التكوينية على امتثالهما، فارتفاع أحد الحكمين مع وجود الآخر قهري، فلا يكون مشمولاً لدليل الرفع، فلا يكون موضوع الحكم مقيداً بعدم الاضطرار من جهة المزاحم بواسطة دليل الرفع، وعليه فلا يكون أحد الحكمين رافعاً لموضوع الآخر، فتأمل.

المطلب الرابع: لو كان المشروط بالقدرة الشرعية أهم

هل تقديم المشروط بالعقلية يشمل صورة كون المشروط بالشرعية هو الأهم؟ احتمالان:

الاحتمال الأول: هو تقديم الأهم مطلقاً، واستدل له بأدلة، منها:

ص: 199

الدليل الأول: عدم المانع عن تقديم الأهم عقلاً للقدرة التكوينية عليه، ولا شرعاً، إذ لا مانع إلا وجوب المهم وهو غير صالح للمانعية، لأنه بمزاحمته مع الأهم لا يكون مقدوراً، فلا يكون الأمر به فعلياً، ومع عدم فعليته لا يكون مانعاً عن الأهم.

ويرد عليه: أولاً: إنه مصادرة، إذ محل البحث في الأهمية هيهنا هل هي سبب للترجيح أم لا، فلا يصح جعلها دليلاً على التقديم، وما ذكره ليس بأولى من قلب الاستدلال بأن يقال: إن الأهم غير مقدور لمزاحمته بالمهم فلا يكون فعلياً.

وثانياً: إن المهم رافع لموضوع الأهم، حيث إن المهم غير مشروط بالقدرة الشرعية مع كون الأهم مشروطاً بها، فيكون هناك مانع شرعي عن وجوب الأهم.

الدليل الثاني: حيث إن المفروض وجود الملاك في كلا الحكمين لولا التزاحم، ففيما نحن فيه لا يخلو المورد من ثلاث صور:

1- ترجيح الأهم والحكم طبقاً له، وهذا هو المطلوب.

2- ترجيح المهم والحكم على طبقه، وهذا ترجيح المرجوح وهو قبيح.

3- الحكم بوجوب أحدهما لا بعينه، فحينئذٍ يحكم العقل بالأهم حصراً، وبعبارة أخرى: إن ثبوت الملاكين معاً وإن كان يستلزم التخيير الشرعي إلا أن العقل يستقل بترجيح الأهم.

وأورد عليه: بأن إيجاب أحدهما رافع لموضوع الآخر، فلا مانع من إيجاب المهم الرافع لموضوع الأهم، وحينئذٍ لا ملاك ولا غرض في الأهم

ص: 200

كي يكون ترجيح المهم عليه ترجيحاً للمرجوح.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن الأهمية ثابتة لولا الحكم بالمهم، ومع الحكم به لا أهمية، إذ لا ملاك ولا غرض، فتأمل.

الاحتمال الثاني(1): إن ترجيح المهم إنّما يكون ترجيحاً للمرجوح القبيح عقلاً، إذا كان ملاك الأهم ثابتاً مطلقاً - حتى في صورة التزاحم - وحينئذٍ فلا يكون الحكم بالمهم رافعاً لملاكه بل يكون ترجيحاً للمرجوح وتفويتاً للغرض الأهم.

وليس الشأن فيما نحن فيه كذلك، فإن ثبوت ملاك الأهم مشروط بعدم المانع عن متعلق الحكم، فثبوت المانع العقلي يرفع ملاك الأهم، فلا تفويت للغرض الأهم، بل هو من قبيل رفع الغرض الأهم وعدم تحققه في الخارج وهو ليس بقبيح.

وحينئذٍ: فلابد من ترجيح المشروط بالقدرة العقلية، حتى وإن لم يكن هو الأهم، لتحقق الملاك فيه مطلقاً، بل لا يمكن ترجيح المشروط بالشرعية عليه، حتى لو كان أهم، لتقييد ملاكه بالقدرة واستلزامه تفويت الملاك الآخر بلا سبب.

المطلب الخامس: اشتراط العلم بهما

إن الترجيح بالمشروط بالعقلية على المشروط بالشرعية إنّما هو مع العلم بهما، وأما لو علمنا بأحدهما دون الآخر، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: لو ثبت كون القدرة في أحدهما شرعية، ولم نعلم

ص: 201


1- راجع فوائد الأصول 1: 323.

بالآخر، فلابد من ترجيح الثاني، للجزم بإبراء الذمة معه، لأنه لو كانت القدرتان شرعية فقد أدى التكليف لكونه مخيراً، ولو كانت القدرة في الثاني عقلية لكان تكليفه منحصراً بأدائها، فيكون المورد من موارد الدوران بين التعيين والتخيير.

وقيل: بالتخيير بينهما، لأن الشك في سعة الملاك والخطاب، وهو مورد جريان أصالة البراءة.

وفيه نظر: لأن الخطاب مطلق وهو طريق إلى اكتشاف الملاك.

اللهم إلا أن يقال: إن الكلام في صورة عدم وجود الإطلاق وأنه لابد من الأخذ بالقدر المتيقن، وهو يفيد فائدة التقييد بالقدرة الشرعية، فتأمل.

الصورة الثانية: لو ثبت عقلية القدرة في أحدهما ولم نعلم بالآخر، فقد يقال: بترجيح معلوم الاشتراط بالعقلية، لأن سعة الملاك واشتغال الذمة به معلوم والآخر مشكوك، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، ولا عكس لأن الآخر لو كانت القدرة فيه عقلية لكان مخيراً وإلا فلا، فرجع إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

المطلب السادس: في كيفية إحراز كون القدرة عقلية أم شرعية

فقد يقال(1): بأن هنا حالتان:

الحالة الأولی: إذا لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل فالأصل فيها أن تكون عقلية، فلا تكون دخيلة في الملاك، وذلك تمسكاً بالدلالة الالتزامية حتى مع سقوط الدلالة المطابقية في حالة العجز، وتمسكاً بإطلاق المادة،

ص: 202


1- مباحث الأصول 3: 151-152.

حيث إن لها إطلاقان: في الملاك وفي الحكم، فإذا قُيد الثاني بسبب العجز فلا تقييد للأول.

لكن مرّ الإشكال في كلا المبنيين، وذكرنا سقوط الدلالة الالتزامية تبعاً لسقوط الدلالة المطابقية، وأن طريق معرفة الملاك هو الخطاب فإذا سقط الخطاب أو قُيِّد فلا طريق إلى معرفة وجود الملاك أو إطلاقه.

الحالة الثانية: إذا لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل، فالأصل أن تكون القدرة شرعية فتكون دخيلة في الملاك.

ويدل عليه: بأنه لو حملت القدرة على العقلية كان التقييد بها في لسان المولى إرشادياً، والأصل هو المولوية دون الإرشادية، ونعني بالأصل الظهور، حيث إن صِرف التأكيد مستبعد عرفاً.

وأورد عليه: بالإشكال في المبنى، فليس كل ما دل عليه العقل يكون حكم المولى به إرشادياً، ولا يجري محذور الدور أو تعدد العقاب إلا في أوامر الطاعة، دون غيرها مما يستقل به العقل، فلا مانع من كونها مولوية.

وبعبارة أخرى - كما في البحوث -: إن التقييد بالقدرة مولوي على كل حال، إذ هو تضييق المولى دائرة تشريعه وتخصيصه بصورة القدرة، نعم منشأ هذا التقييد يختلف، فقد يكون ضيق الملاك، وقد يكون قبح تكليف العاجز.

المطلب السابع: لو كان كلاهما مشروطاً بالقدرة العقلية

فهنا صور:

الصورة الأولى: إذا تساويا في الأهمية وتقارنا زماناً، فلا محيص عن

ص: 203

الالتزام بالتخيير العقلي والشرعي، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، فإن امتثال كل واحد منهما رافع لموضوع الآخر، من غير وجود مرجح لرفع موضوع أحدهما دون الآخر.

والمراد من التخيير العقلي - هنا -: تساوي الملاكين والخطابين، مع تقييد كل واحد منهما بترك الآخر، والمراد من التخيير الشرعي - هنا -: هو تساوي الملاكين مع سقوط الخطابين وثبوت تكليف آخر بالإتيان بأحدهما مخيراً.

الصورة الثانية: إذا كان أحدهما أهم - سواء كان متقدماً زماناً أم متأخراً - ، فلابد من ترجيح الأهم، كما لو كان الصيام في النهار يمنع من الجهاد في النهار، أو يمنع من الجهاد في الليلة التي تلي الصوم، مع كون الجهاد فرض عين لا بديل له.

واستدل له: أولاً: بالورود، فإن كل حكم مقيد لُبّاً بعدم الانشغال بما لا يقلّ أهمية عنه، فالانشغال بالأهم سبب عدم تحقق قيد وجوب المهم، دون العكس حيث الانشغال بالأهم لا يكون سبباً لعدم تحقق هذا القيد بل القيد باقٍ.

وثانياً: بحكم العقل بقبح تفويت الغرض الأهم، وأن الحكم بالمهم حينئذٍ ترجيح للمرجوح على الراجح.

الصورة الثالثة: إذا تساويا في الأهمية مع كون أحدهما أسبق زماناً، وسيأتي بيان هذه الصورة تفصيلاً في المرجح الآتي.

الثالث: الترجيح بالأسبق زماناً
اشارة

أما موضوع هذا الترجيح، فقد اتضح مما سبق من أنه مع وجود البديل العَرْضي لأحدهما فهو المرجح، وكذا لو كان أحدهما مشروطاً بالقدرة

ص: 204

العقلية فيرجح على المشروط بالقدرة الشرعية، وأما مع فقد هذين المرجحين، فقد يقال بترجيح الأسبق زماناً، وللمسألة حالات، منها:

الحالة الأولى: إذا كان كلاهما مقيداً بالقدرة الشرعية، وتساويا في الأهمية، مع كون أحدهما أسبق من الآخر، كما لو دار الأمر بين القيام في صلاة الظهر أو صلاة العصر، أو دار الأمر بين صيام النصف الأول من شهر رمضان، أو النصف الثاني منه، لمرض يمنع من صيامه كله، فهنا صور(1):

1- السبق بالموضوع والامتثال

كما لو نذر زيارة الإمام الرضا (علیه السلام) في رجب لو شافى الله ولده، ونذر زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في شعبان لو جاء مسافره، مع عدم استطاعته إلا لإحدى الزيارتين، فشافى الله ولده قبل قدوم المسافر ثم قدم.

فهنا لابد من ترجيح الأسبق زماناً وامتثالاً، وذلك لأن الوجوب السابق تام الموضوع وهو فعلي، ولا مانع عنه عقلاً ولا شرعاً، إذ ليس المانع الشرعي إلا الوجوب الآخر وهو ليس بثابت لعدم تحقق موضوعه.

لكن هذه الصورة خارجة عن البحث، إذ لا تمانع، فالأول في ظرفه لا مانع عنه، والثاني لا موضوع له، ومع عصيان الأول يسقط لفوات الموضوع، فلا مانع حينئذٍ عن فعلية الثاني.

وقد يستثنى من ذلك ما لو كان السابق بنحو الواجب الموسع، إذ لا تزاحم بين الموسع الذي هو لا اقتضائي بالنسبة إلى الوقت وبين المضيق الذي هو اقتضائي بالنسبة إلى وقته.

ص: 205


1- فوائد الأصول 1: 330؛ منتقی الأصول 3: 53.

وفيه نظر: لأنه لو تحقق موضوع الأسبق مع عدم تحقق موضوع المتأخر، فإنه لا مانع من المبادرة إلى امتثاله حتى لو كان موسعاً، إذ الفرض عدم تحقق موضوع الآخر، فلا فعلية بل لا وجوب أصلاً له، ومع امتثال الأول لا يبقى مجال لامتثال الثاني لعدم القدرة عليه حسب الفرض، نعم لو لم يبادر إلى الأول باعتبار توسعته ثم تحقّق موضوع الثاني تحقّق التزاحم مع كون كليهما اقتضائياً لفرض فوات كل واحد منهما بترك الآخر.

2- السبق في الامتثال مع التقارن في الموضوع

كمثال نذر الزيارتين، ثم تحقق شرطهما معاً، كما لو قدم مسافره وشافى الله ولده في آنٍ واحد.

فهنا لابد من التخيير بينهما، لوقوع التزاحم بلا مرجح، وذلك لتحقق الموضوع والوجوب في وقت واحد، مع حصول التنافي بينهما في مقام الامتثال.

3- السبق في الموضوع والتقارن في الامتثال

كما في المثال، إذا تحقق شرط أحد النذرين أولاً، ثم تحقق شرط النذر الثاني، مع كون المنذور في كليهما في وقت واحد، كما لو نذر زيارة الإمام الرضا (علیه السلام) في أول رجب إن شافى الله ولده، ونذر زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في أول رجب إن جاء مسافره، فجاء المسافر، ثم شُفي ولده.

فهنا لابد من ترجيح الأسبق زماناً، وذلك لفعلية وجوبه حين تحقق موضوعه من غير منافي، فلا يبقى مجال لتحقق موضوع الثاني لعدم تحقق القدرة فيه.

وبعبارة أخرى: إن الخطاب السابق قد شغل الوقت، فلم يبق موضع

ص: 206

للواجب الآخر.

الحالة الثانية: إذا كان كلاهما مقيداً بالقدرة العقلية، مع تساويهما في الأهمية، وكون أحدهما أسبق، كمثال القيام في صلاة الظهر أو العصر، فهنا فرضان:

الفرض الأول: إذا كان التنافي بين إطلاقي الخطابين لا بين أصل الحكمين، وحينئذٍ يستقل العقل بسقوط الإطلاقين، والتخيير العقلي بأن يقيد كل واحد منهما بما إذا ترك الآخر، إذ التنافي بين الإطلاقين لا بين أصل الحكمين فيرفع اليد عنهما بمقدار الضرورة وذلك بالتقييد بالكيفية المذكورة.

وفي هذا الفرض لابد من تقديم الأسبق زماناً، لأن معنى التخيير العقلي هو أن ثبوت أحد الحكمين مشروط بترك الآخر، وفيما نحن فيه امتثال الواجب المتأخر غير معقول في ظرف المتقدم، أي لا يمكن امتثال القيام في صلاة العصر إذا كان هو في صلاة الظهر، فحينئذٍ ترك المتأخر قهري فتحقق شرط وجوب المتقدم، فيجب الإتيان به.

الفرض الثاني: إذا كان التنافي بين أصل الحكمين، فقد ذهب المحقق النائيني(1)

إلى عدم الترجيح بالأسبق زماناً، إذ لا مانع من تعلق خطاب واحد بكل منهما بنحو البدل، فيكون كل واحد منهما واجباً تخييرياً، إذ التقدم والتأخر الزماني لا يمنع من صحة ذلك.

وأشكل عليه: بأنه مع فرض تساويهما في الملاك فإن بناء العقلاء هو

ص: 207


1- راجع فوائد الأصول 1: 333-335.

عدم تفويت الملاك الأول، وخاصة مع احتمال حدوث طارئ يمنع عن امتثال الثاني في وقته.

وفيه: أن ذلك فرض خارج عن مورد الكلام، إذ هذه الجهة تكون سبباً لعدم تساويهما، مع أن الفرض هو تساويهما من كل الجهات سوى أسبقية أحدهما.

ثم إنه في مرحلة الإثبات يتردد الأمر بين سقوط أصل أحد الخطابين أو كلاهما وبين سقوط إطلاقهما من هذه الجهة، والثاني أقرب للظهور، فتأمل.

فرع: في مثال تزاحم النذر والحج

فلو نذر زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في يوم عرفة قبل حصول الاستطاعة، ثم استطاع للحج، فما هو المقدم منهما؟ قولان:

القول الأول: تقديم النذر، لأنه غير مقيد بالقدرة الشرعية في لسان الدليل، مع تقيد الحج بالقدرة الشرعية في لسانه.

وذلك لأن وجوب الوفاء بالنذر تام الموضوع وهو فعلي، ولا مانع عنه لا عقلاً لوجود القدرة التكوينية عليه، ولا شرعاً إذ لا موضوع للواجب الآخر الذي هو الحج.

وأمّا ما ورد في الحديث من أن: «شرط الله قبل شرطكم»(1)

فلا دلالة له، إذ لا شرط له تعالى مع عدم القدرة، بل هو تعالى قيد الحج بالاستطاعة، ولا استطاعة فيما نحن فيه.

ويرد عليه: ما سيأتي في الدليل الثاني من القول الثاني.

ص: 208


1- تهذيب الأحكام 7: 370.

القول الثاني: تقديم الحج، وانحلال النذر، واستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: وقد ذكره المحقق النائيني(1)،

وبيانه: إن وجوب النذر أيضاً مقيد بالقدرة الشرعية، وتلك القدرة ترتفع بالمانع الشرعي، ولكن وجوب الوفاء مقيد بقيد آخر، وهو أن لا يكون متعلق النذر مُحلِّلاً للحرام، بمعنى أن لا يكون متعلقه ملازماً للوقوع في الحرام، حتى لو كان ذلك المتعلق راجحاً في نفسه، والحرام هنا هو ترك الواجب.

إن قلت: إن وجوب الوفاء يرفع وجوب الحج، فلا ارتكاب للحرام.

قلت: وجوب الوفاء لا يمكنه رفع وجوب الحج، وإلا لزم الدور، إذ فعلية وجوب الوفاء تتوقف على عدم فعلية وجوب الحج - لئلا يلزم تحليل الحرام - فلو كان عدم التكليف بالحج متوقفاً على فعلية وجوب الوفاء للزم الدور.

وأشكل عليه: أولاً: بأنه لا تحليل للحرام - الذي هو ترك الحج - إذ ذلك إنّما يكون لو تحققت الاستطاعة، فمع عدم تحققها لا تحليل للحرام، وحينئذٍ فلا فرق في حصول التمانع بين أن يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر من جهتين - هما عدم القدرة والتحليل للحرام - ، وبين كون الآخر رافعاً لموضوع الأول من جهة واحدة - وهي عدم القدرة - .

وفيه نظر: وذلك لأن المراد من تحليل الحرام هنا هو أنه لولا النذر لكان حراماً، فيراد الاستفادة من دليل النذر على عدم صحة هذا النذر من أساسه، نعم لا بأس بالإشكال بعدم صحة هذا الاستظهار من دليل النذر، فتأمل.

ص: 209


1- فوائد الأصول 1: 330-331.

وثانياً: بأنه لا دور، إذ فعلية وجوب أحدهما ملازم لعدم فعلية وجوب الآخر، لا أنه متوقف عليه، وهكذا الحال في كل دور معي، وإلا لزم إشكال الدور في كل تزاحم مع عدم ترجيح أحدهما على الآخر، مثلاً يقال: إنقاذ الغريق الأول فعلي لعدم فعلية إنقاذ الغريق الثاني، وعدم فعلية إنقاذ الثاني متوقف على فعلية إنقاذ الأول.

وثالثاً: إن القدرة في النذر ليست شرعية بل عقلية، لعدم أخذها في لسان الدليل.

إن قلت: إن الناذر إنّما ينذر بما يقدر على الإتيان به، فتكون القدرة مأخوذة في موضوع وجوب الوفاء، قبل تعلق النذر، فتكون دخيلة في الملاك.

قلت: إن هذا يدل على اشتراط أصل القدرة، وذلك لحكم العقل باشتراطها في جميع التكاليف، ولا دلالة فيه على تعيين كونها شرعية.

الدليل الثاني: إنه لابد في صحة النذر من الرجحان واقعاً، والنذر المستلزم لترك الحج لا رجحان فيه ولا في متعلقه، بحسب ارتكاز المتشرعة، وبحسب أهمية الحج وما له من فوائد، وليس لتوهم المكلَّف أثر في الرجحان وعدمه، لأن الملاك هوالرجحان الواقعي لا التصوري.

الرابع: الترجيح بالأهمية أو احتمالها
اشارة

أما الترجيح بالأهمية:

فقد عُلم حاله مما سبق، وأنه لا ترجيح بها مع وجود البدل لأحدهما، أو كون أحدهما مشروطاً بالقدرة العقلية مع كون الآخر مشروطاً بالقدرة

ص: 210

الشرعية، وفي غير ذلك لابّد من الترجيح بها حتى لو كان غير الأهم أسبق زماناً.

وأما الترجيح باحتمال الأهمية:

1- فقد قيل: إن احتمال الأهمية إما لجهة تأثير شيء في المصلحة فهنا مجرى الاشتغال، وإما لجهة احتمال انضمام ملاك آخر مع ملاكه، فالأصل عدمه فيكون مجرى أصالة التخيير.

وأورد عليه: بأن هذا إنّما هو على مبنى حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم للمولى، وأما على مبنى تنافي الحكمين في مقام الامتثال مع كون الدليلين متكفلين للحكم الفعلي، فلابد من تقديم محتمل الأهمية مطلقاً.

2- وأما المحقق النائيني(1) فقد ذهب إلى أنه بناءً على التخيير الشرعي، أي سقوط كلا الخطابين واستكشاف العقل خطاباً تخييرياً، تكون المسألة من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير، التي اختلفت الآراء فيها بين البراءة والاشتغال.

وأما بناءً على التخيير العقلي، أي عدم سقوط الخطابين بل تقييد إطلاق كل واحد منهما، فلابد من ترجيح محتمل الأهمية، وذلك للقطع بتقييد غير محتمل الأهمية مع الشك في تقييد محتمل الأهمية.

وبتعبير آخر: نعلم ببراءة الذمة مع امتثال محتملها إذ التكليف به معلوم إما تعييناً وإما تخييراً بينه وبين الطرف الآخر، عكس غير محتملها فإن

ص: 211


1- فوائد الأصول 1: 334-335.

الإتيان به لا يوجب الأمن من العقاب، ولا الجزم بسقوط خطاب محتمل الأهمية.

وأشكل عليه(1): بأنه لا فرق في وجوب ترجيح محتمل الأهمية بين التخيير العقلي أو الشرعي، وذلك لسقوط إطلاق ما لا يحتمل أهميته على كل حال فلا حجية لإطلاقه، عكس محتمل الأهمية إذ لا علم بسقوط إطلاقه، فيتمسك به عملاً بأصالة الإطلاق، فبناء على التخيير العقلي لا إحراز لتقييد إطلاق محتمل الأهمية، وبناءً على التخيير الشرعي لا إحراز لسقوط دليله، فتأمل.

نعم في غير باب التزاحم قد يكون الترجيح لمحتمل الأهمية، وقد لا يكون الترجيح به، ففي الدوران في المسألة الأصولية - أي في مقام الحجية - لا إشكال في التعيين، لأن الآخر مشكوك الحجية، والشك فيها مسرح عدمها.

وفي الدوران بينهما في المسألة الفرعية، إن كان التخيير عقلياً كما لو أمر بطبيعة ثم شك في تقيدها بخصوصية، فالأصل عدم تلك الخصوصية مما ينتج منه التخيير وعدم الترجيح بمحتمل الأهمية، وإن كان التخيير شرعياً، كما لو علم بتعلق الأمر بفرد وشك في أنه بخصوصه متعلق للأمر أم أنه مخير بينه وبين غيره، فهنا خلاف بين الأعلام في البراءة أو الاشتغال.

تتمة: في كيفية إحراز الأهمية

قال المحقق النائيني(2):

ومسألة الأهمية تختلف باختلاف ما يستفاد من

ص: 212


1- منتقی الأصول 3: 69.
2- فوائد الأصول 1: 335.

الأدلة، ومناسبة الحكم والموضوع، فما كان لحفظ بيضة الإسلام يقدّم على كل شيء، وما كان من حقوق الناس يقدم على غيره، كما أن ما كان من قبيل الدماء والفروج يقدّم على غيره، وأما فيما عدا ذلك فاستفادة الأهمية يحتاج إلى ملاحظة المورد وملاحظة الأدلة.

وقد يقال(1): 1- إذا كان الحكمان من الأحكام الارتكازية العقلائية والتي يفهم العرف ملاكها، فهنا توجد دلالة التزامية عرفية على أن الملاك لحكم الشرع هو ذلك الملاك، وحينئذٍ فبمعرفة الملاكين يمكن معرفة الأهم، وذلك فيما رجح العقلاء أحدهما ارتكازاً، مثل حرمة دم الإنسان وماله، فإن الملاك العقلائي هو حفظ الشخص وحفظ ما يرتبط به، فلو توقف إنقاذه على صرف ماله كان الإنقاذ أهم.

2- وكذا إذا وردت أحكام ثانوية بلحاظ الطوارئ والحالات في أحدهما دون الآخر، كالصلاة التي لا تترك بحال، فحينئذٍ نكتشف أهمية الجامع بين أفراد الصلاة على ما لم يرد فيه ذلك كالصوم.

3- وكذا كون أحدهما مما بُني عليه الإسلام، أو التأكيد الشديد على امتثاله، أو التأكيد على العقوبة في تركه، مع عدم ورود مثل ذلك في مزاحمه، فحينئذٍ يعلم أهميته ولا أقل من احتمال الأهمية، نظير الحج والنذر، حيث بني الإسلام على الحج وهناك أوامر شديدة في لزوم امتثاله وفي كفر تاركه ولم يرد مثل ذلك في النذر.

أقول: الأقرب هو الرجوع إلى ارتكاز المتشرعة - وهذا الارتكاز في أكثر

ص: 213


1- بحوث في علم الأصول 3: 185-187.

الأحيان ينشأ من الأدلة الشرعية، أو مما ذُكر - فلا أقل من كونه سبباً لاحتمال الأهمية في أحدهما دون الآخر، فتأمل.

ص: 214

فصل في اقتضاء النهي للفساد

اشارة

وفيه بحوث:

البحث الأول: في أنواع النهي

اشارة

الأنواع الداخلة في محل البحث والخارجة عنه، ولاب-ّد من بحث كل واحد على انفراد ليتبيّن الداخل عن الخارج.

النوع الأول: النهي الإرشادي

وهنا صورتان:

الصورة الأولى: النهي عن أصل العبادة أو المعاملة، ولا ريب في دلالته على الفساد - سواء في العبادة أم المعاملة - وذلك لأن هذا النهي إنّما هو إرشاد إلى المانعية، بمعنى عدم أخذ الشيء في الماهية، وذلك يستلزم تقييد إطلاق أدلة العبادات والمعاملات بغير هذه الحصة، أي عدم تحقق الماهية مع تحقق ذلك الشيء.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن العبادة أو المعاملة لا تنطبقان على تلك الحصة، أما العبادة فهي عنوان انتزاعي من انطباق المأمور به على المأتي به، ولا تنطبق على تلك الحصة، وأما المعاملة فهي إمضائية، ولا إمضاء مع دلالة الشرع على المانعية.

وبعبارة أخرى: النهي الإرشادي إما هو إرشاد إلى أصل البطلان، أو إرشاد إلى عدم المطلوبية، وذلك لا يكون إلا مع عدم الملاك، ولا إشكال

ص: 215

في البطلان مع عدم وجود الملاك، لوضوح عدم الأمر وعدم الإمضاء.

ومن ذلك يتضح خروج النهي الإرشادي عن محل البحث، لوضوح اقتضائه للفساد.

الصورة الثانية: النهي عن جزئها أو شرطها

1- فإن كان ذلك الجزء أو الشرط مورداً لتوهم الأمر به، فظاهر النهي هو إرشاد إلى أنه ليس بجزء ولا بشرط، ولا دلالة له على بطلان أصل العبادة أو المعاملة، كالنهي عن طواف الحائض فهو إرشاد إلى عدم جزئيته للحج.

2- وإن لم يكن الشرط أو الجزء مورداً لتوهم الأمر أصلاً، فظاهر النهي هو إرشاد إلى بطلان العمل رأساً، أي إرشاد إلى مانعية ذلك الجزء أو الشرط، وذلك لأنه مع عدم توهم الأمر لا وجه للنهي إلا بيان المانعية، كما أنه مع الأمر بهما لا وجه للأمر سوى الشرطية أو الجزئية، وذلك يصنع ظهوراً يكون سبباً للحمل على الإرشاد.

نعم ظاهر الأوامر والنواهي - إن لم تكن قرينة على الخلاف - هو أن الأمر استعمل بداعي البعث، والنهي بداعي الزجر، لا بداعي الإخبار - الذي هو معنى الإرشادية - .

النوع الثاني: النهي التنزيهي

وقد ذکرت وجوه لدخوله في البحث أو خروجه، وهي ترتبط بالمباني المختلفة التي تمّ مناقشة بعضها فيما مضی، فلا داعي لتکرار المناقشات:

فمنها: ما ذكره المحقق النائيني(1):

من أن الرخصة الوضعية بالنسبة إلى

ص: 216


1- فوائد الأصول 1: 455.

الإتيان بأي فرد - المستفاد من تعلق الأمر بالطبيعة - لا تنافي النهي التنزيهي المتضمن للرخصة أيضاً، وذلك لأن التخيير العقلي في تطبيق الكلي على أيِّ فردٍ إنّما هو بمعنى الرخصة في ترك ذلك الفرد، والنهي التنزيهي يتضمن الرخصة في تركه، فلا تنافي بينهما.

نعم لو فرض تعلق النهي التنزيهي بذات العبادة - بحيث يتحد متعلق الأمر والنهي - لكان لدعوى اقتضائه للفساد مجال، لأن ما كان مرجوحاً ذاتاً لا يصلح لأن يتقرب به، لكن لا وجود لهكذا نهي في النواهي الشرعية.

ومنها: ما ذكره المحقق العراقي(1):

من أن غاية ما يقتضيه النهي التنزيهي إنّما هو الدلالة على وجود حزازة في الشيء، وهذا لا يكفي في فساده بناءً على جواز اجتماع المحبوبية والمبغوضية في عنوان واحد بالتفكيك في أنحاء حدود الشيء، وأما بناءً على عدم الجواز فالنزاع يعمّ النواهي التنزيهية أيضاً.

ومنها: ما ذکره المحقق الخراساني(2):

من أن ظاهر النهي وإن كان النهي التحريمي، إلا أن ملاك البحث يشمل التنزيهي في العبادات دون المعاملات.

وحاصله أن النهي التنزيهي في العبادات: إن كان إرشاداً إلى قلة الثواب أو نقصان المحبوبية فلا يقتضي البطلان أصلاً، إذ إطلاق دليل الوجوب يشمل هذا الفرد أيضاً مع عدم المانع عنه، إذ يمكن التقرب بما هو أقل ثواباً

ص: 217


1- نهاية الأفكار 1: 452.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 371.

كما مرّ في مثل الصلاة في الحمام، وإن كان النهي زجراً فلا إشكال في البطلان لأن الزجر يكشف عن مبغوضية غالبة، وهي لا تجتمع مع المحبوبية الغالبة، وقد مرّ عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي.

وأما النهي التنزيهي في المعاملات: فلا دلالة له على البطلان أصلاً، إذ هو إما إرشاد إلى وجود مفسدة قليلة، أو إلى أكثرية المصلحة في تركه، وكلاهما لا ينافي الامضاء، فتشمله إطلاقات الأدلة، وإما إلى وجود حزازة فيه، وحيث لا يشترط قصد القربة فيها فلا مانع عن شمول الإطلاقات لهذا الفرد أيضاً، وسيأتي مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.

النوع الثالث: النهي التحريمي المولوي

ذهب المحقق العراقي(1)

إلى خروجه عن مورد البحث كالإرشادي، وإرجاعه البحث إلى بحث صغروي، بأن النهي المتعلّق بعنوان - معاملة كانت أم عبادة - هل هو مولوي تحريمي فلا يقتضي الفساد، أم هو إرشاد إلى خلل فيه فيقتضيه!

واستدل لذلك: بأنّ الحرمة التكليفية في المعاملة لا تلازم الفساد الوضعي، فلذا لا بطلان لها فيما لو نهى الوالد أو حلف على عدم البيع، ونحو ذلك.

وأما في العبادة: فلأن الفساد المتصور لا يخلو من أحد أمرين:

1- انتفاء الملاك والمصلحة، وعدم ترتب الغرض، وهذا غير مترتب على النهي، إذ لا دلالة ولا إشعار للنهي على عدم المصلحة في متعلقه، بل

ص: 218


1- نهاية الأفكار 1: 453-455.

غاية ما يقتضيه هو الدلالة على وجود المفسدة في متعلقه، ولا مضادة بينهما كي يكون الدلالة على أحدهما يلازم نفي الآخر.

2- وعدم قصد القربة، لكن هذا مترتب على العلم بالنهي، لا على نفس وجود النهي، مع أن مقتضى ظاهر العنوان هو ترتب الفساد على نفس النهي بوجوده الواقعي، ولو فرض أن المراد بالعنوان هو العلم بالنهي فلا إشكال في الفساد، فلا بحث لكي يقع محلاً للنزاع.

ويرد عليه أولاً: بأن الكثيرين ذهبوا إلى أن النهي المولوي التحريمي في العبادة يقتضي الفساد، مع ذهابهم إلى أن النهي الإرشادي يقتضيه أيضاً، فلا وجه لرجوع النزاع إلى نزاع صغروي إذ على كلتا الحالتين يكون النهي دالاً على الفساد.

وثانياً: إن النهي يدل على وجود مفسدة غالبة في متعلقه، وهذا يدل على عدم وجود مصلحة غالبة، وبينهما المضادة الواضحة، فكل واحد منهما يلازم نفي الآخر.

وثالثاً: المقصود هو عدم إمكان التقرب بالعبادة المنهي عنها، سواء لعدم صلاحيتها للتقرب فيما إذا كان نهي واقعي حتى لو لم يعلم به، أو لعدم إمكان التقرب بها فيما إذا توهم وجود النهي حتى لو لم يوجد نهي، فتأمل.

النوع الرابع: النهي الغيري

أ) فإن كان نهياً غيرياً أصلياً - بأن كان مدلولاً للخطاب - شمله البحث، وذلك لوجود الملاك فيه، قال المحقق الإصفهاني(1):

التكليف المقدّمي - بعثاً أو زجراً -

ص: 219


1- نهاية الدراية 2: 383.

لا يوجب القرب والبُعد، بل هما مترتبان على موافقة التكليف النفسي ومخالفته، فالنهي المقدمي وإن كان لا يجامع الأمر لتضادهما، إلا أن مجرد النهي عن شيء لا يسقطه عن الصلوح للتقرب به إذا لم تكن مخالفته مبعّدة، إلا أن يقال: بأن مقدميته للمبعِّد كافية في المنع عن التقرب به، كما لا يبعد.

ب) وإن كان تبعياً - بأن لم يكن مدلولاً للخطاب - فهو وإن لم يكن نهياً لفظياً، إلا أنه داخل في ملاك البحث، وذلك لأن سبب الفساد هي الحرمة - لا استحقاق العقاب - وهذه الحرمة توجد في النهي التبعي أيضاً، ولذا في بحث (اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده) جعلوا الثمرة فساد الضد إذا كانت عبادة، كما لو توقفت إزالة النجاسة عن المسجد على ترك الصلاة في أول الوقت - كما مرّ مفصلاً - .

ثم إن النهي إذا تعلّق بذات العبادة، فكيفية التعلّق مختلفة، وهي سبعة أقسام، والنتيجة تختلف باختلاف الصور، ذكرها المحقق العراقي(1) فنذكرها مع تعديلات.

فالنهي إما مولوي، وإما في مقام دفع توهم الوجوب الفعلي، أو المشروعية الفعلية، أو المشروعية الاقتضائية، وإما إرشاد إلى خلل في العبادة، أو إلى اقتران ملاكها بالمانع، أو إلى إخلالها بعبادة أخرى.

1- أمّا النهي المولوي المتعلق بعنوان العبادة، فهو يقتضي الفساد من جهة الإخلال بالقربة، وذلك متوقف على العلم بالنهي، ولا يقتضي الفساد من جهة الدلالة على فقدان الملاك، لأن النهي يدل على مفسدة في متعلقه ولا

ص: 220


1- نهاية الأفكار 1: 456.

دلالة له على عدم وجود ملاك الأمر، نعم مع الشك في الملاك فالأصل عدمه، وإنّما نسب الفساد إلى النهي لأنه كشف عن عدم وجود الملاك أو صار سبباً للشك فيه، وسيأتي مزيد توضيح لهذا القسم.

2- وأمّا لو كان النهي في مقام دفع توهم الوجوب الفعلي، فهو يدل على عدم الوجوب، لكنه لا يدل على عدم الاستحباب أو عدم الرجحان أو عدم الملاك أو وجود المفسدة، وحينئذٍ لو جرى عموم أو إطلاق دال على رجحانه أو استحبابه فهو المطلوب، وإلا فالأصل يقتضي الفساد.

3- وأمّا لو كان في مقام دفع توهم المشروعية الفعلية، كالنهي عن النافلة في وقت الفريضة، فهذا النهي لا يدل إلا على عدم الفعلية، ولا ملازمة بين عدم الفعلية وعدم الملاك، وحينئذٍ فلو قام دليل على توفر الملاك في العمل فلا إشكال في صحته، وإلا فالأصل عدم الملاك فالفساد.

والأقرب أن هذا النهي إرشادي، وقد مرّ تفصيل بحث العبادات المكروهة، وذلك لأن نفي الفعلية يساوق انتفاء الملاك ظاهراً لعدم طريق لإحرازه إلا الأمر، ومع بقاء الأمر يكون فعلياً فلا طريق إلا لحمل النهي على الإرشاد.

4- وأمّا لو كان النهي في مقام دفع المشروعية الاقتضائية، فالنهي يقتضي الفساد، لدلالته على انتفاء الملاك.

ولا يخفى عدم وجود مثال لهذا المورد.

5- وأمّا ولو كان إرشاداً إلى خلل في العبادة، فيدلّ على انتفاء الملاك، فتفسد.

6- وأمّا لو كان إرشاداً إلى اقترانها بالمانع، كالتكتّف، فيدلّ على الفساد

ص: 221

لوجود المانع من دون مبغوضية أو حرمة.

ولا يخفى أن هذا لو لم يكن هناك دليل آخر دال على المبغوضية والحرمة، كحرمة إبطال الصلاة الفريضة مثلاً، كمن يلبس جلد ما لا يؤكل لحمه ثم يبدأ بالصلاة فلا تنعقد أصلاً فلا مبغوضية، أما مثل التكتف فهو إبطال للصلاة بعد انعقادها فتكون محرمة، ولكن ليست الحرمة من جهة النهي الإرشادي، كما لا يخفى.

7- ولو كان إرشاداً إلى إخلاله بغيره، كالسجود عند سماع آية السجدة وهو في الصلاة، فبالنسبة إلى الظرف - أي العمل الذي وقع فيه العمل - يكون النهي دالاً على فساده لأنه إرشاد إليه، وأما بالنسبة إلى المظروف - أي نفس العمل الذي نُهي عنه - فلا دلالة على فساده، إلا إذا كان إبطال الظرف حراماً فحينئذٍ يحرم المبطل بالحرمة الغيرية، فيفسد مع العلم بالنهي، بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي.

البحث الثاني: في معنى العبادة والمعاملة

1- أما العبادة

فقد يقال: إن عبادية الشيء إما ذاتية له كالسجود، وإما باعتبار الأمر به، أي لو أمر به لكان أمره عبادياً لا يسقط بدون قصد القربة، وحينئذٍ يبحث عن أن النهي هل يمنع عن العبادية التي لولا النهي لكان الشيء عبادياً.

وفيه: أولاً: في العبادة الذاتية إن كان المراد المعنى اللغوي فهو ليس محلاً للكلام، وإن أريد العبادة الشرعية فيستحيل انفكاك الذاتي عن الذات، ولا معنى لكون الشيء عبادة مع حرمته، فالأقرب عدم كون شيء عبادة

ص: 222

ذاتاً أصلاً، إلا لو أريد المعنى اللغوي الذي هو غاية الخضوع.

وثانياً: إنه على مبنى عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، لا فرق من جهة الأمر بين التعبّدي والتوصلي، فلا يكون الأمر عبادياً، وإنّما اشتراط قصد القربة يستفاد من دليل العقل كما مرّ في بحث التعبدي والتوصلي.

وثالثاً: قد يسقط الأمر العبادي من دون قصد القربة، كالزكاة، نعم ترتب الثواب يتوقف على قصد القربة.

فالأقرب تعريف العبادية: بأنها ما كان قصد القربة جزءاً من المتعلق أو شرطه على مبنى إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق، أو ما كان الغرض يتوقف على قصدها على مبنى عدم إمكان أخذها، وأما مثل الزكاة فلفوات الموضوع لو أتى بها من غير قصد القربة، فتأمل.

وحينئذٍ فالمراد أنه لو تعلق النهي بالعبادة الشأنية هل النهي يقتضي الفساد أم لا، بعد وضوح عدم إمكان تعلّقه بالعبادة الفعلية، وبتعبير آخر: کشف النهي عن عدم عباديتها حينئذٍ.

2- وأما المعاملة

فيراد منها: كل ما لا يشترط فيه قصد القربة، من العقود والإيقاعات بل و التصرفات التي لها أثر شرعي كالتحجير والرضاع ونحوهما، فيقال: هل النهي يقتضي فسادها أم لا؟

وقد مرّ معنى الصحة والفساد في المعاملة في بحث الصحيح والأعم، وأن المراد هو ترتب الأثر المتوقّع أو عدم ترتبه، فهل النهي في المعاملة يقتضي عدم ترتب الأثر عليها أو لا يقتضي ذلك؟

ص: 223

ومن ذلك يتضح دخول مثل التحجير والرضاع في مورد البحث، وذلك لترتب الأثر أو عدم ترتبه عليها، فلا وجه لاخراجها عن البحث بعد جريان الملاك فيها.

فيختص البحث بما كان قابلاً للاتصاف بالصحة والفساد، كي يمكن البحث عن أن النهي هل يقتضي فساده أم لا، وأما ما لا يقبلهما - إما لعدم كونه ذا أثر، أو لكون الأثر يلازمه دائماً - فهو خارج عن البحث لعدم اتصافه بالفساد أصلاً.

البحث الثالث: في كون الصحة من الأمور المجعولة شرعاً أم لا؟

ذهب صاحب الكفاية(1) إلى التفصيل في العبادات:

1- فعلى تفسيرهما بموافقة الأمر وعدم موافقته، لا تكون مجعولة شرعاً، لأن الموافقة وعدمها أمران انتزاعيان من مطابقة المأتي به مع المأمور به أو عدم مطابقته، وهذان يرتبطان بفعل العبد لا أمر المولى، إذ بجعل المأمور به لا تتحقق الموافقة، بل لابد من تحقق المأتي به الذي هو فعل العبد.

2- وعلى تفسيرهما بسقوط القضاء والإعادة، أو عدم سقوطهما...

أ) فبالنسبة إلى إتيان المأمور به بالأمر الواقعي، فإن سقوطهما من اللوازم العقلية، وذلك لحصول الغرض وسقوط الأمر، إذ مع الإتيان ثانياً إما يحصل ما حصل أولاً وهو تحصيل للحاصل المحال، وإما يحصل غيره فهو غير المأمور به.

ب) وبالنسبة إلى إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري، فإن

ص: 224


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 381-384.

سقوط طبيعي الأمر قد يكون مجعولاً إذا لم يكن الاضطراري أو الظاهري وافياً بتمام الملاك، فحينئذٍ يمكن للشارع الحكم بالسقوط تخفيفاً ومنّة على العباد، وربّما يحكم بعدم السقوط وثبوت القضاء والإعادة.

ج) وأما سقوط القضاء والإعادة في الأفراد، فليس بمجعول شرعي، بل الأفراد تتصف بالصحة والفساد بمجرد انطباق المأتي به على ما هو المأمور به، فإن انطباق الكلي الطبيعي على الفرد وعدم الانطباق ليس بمجعول شرعي، بل هو أمر قهري.

وأما في المعاملات، فإن الصحة فيها بمعنى ترتب الأثر على المعاملة، وهو مجعول للشارع سواء بنحو التأسيس أم الإمضاء.

وأشكل عليه(1): بأن القضاء والإعادة ليسا من العناوين الجعلية، لأنهما من فعل المكلف تكويناً، بل المجعول الحكم الذي هو إيجاب القضاء أو الإعادة وعدمه، فإذا قال الشارع: (أسقطت القضاء) مثلاً، رجع إلى عدم إيجاب القضاء، لمصلحة التسهيل والتخفيف، الراجحة على المصلحة المقتضية للتكليف بالقضاء، وحيث إن الكلام في الصحة والفساد الموصوف بهما الفعل، فلا يكون (الإيجاب) محلاً للبحث، إذ ليس الوجوب وعدمه حكمين للمأمور به الاضطرار والظاهري، بل الوجوب وعدمه حكمان للقضاء.

فإن قلت: إن مُسقطيّة المأتي به لأمر القضاء والإعادة إنّما هي جعليّة، بتبع إنشاء عدم وجوب القضاء والإعادة، وبعبارة أخرى: الصحة هنا هي

ص: 225


1- نهاية الدراية 2: 388-389.

كون المأتي به علة لعدم الأمر بالقضاء أو الإعادة.

قلت: إن العلة لعدم الأمر بالقضاء هي مصلحة التسهيل المانعة عن اقتضاء بقية المصلحة للقضاء، وهي واقعية جعلية.

والحاصل: إن فعل المكلف لا يتصف بسقوط القضاء وعدم ايجابه، مثلاً الصلاة بالتيمم لا تتصف بوجوب القضاء وعدمه.

وفيه: أنه لا يشترط في كون الشيء مجعولاً أن يتصف فعل المكلف بالأمر المجعول، بل يكفي فيه ترتبه على فعله، بحيث كان فعل المكلف علة لذلك الأثر، مع كون العِليّة جعلية غير تكوينية، وفيما نحن فيه إيجاب القضاء أو عدم إيجابه يترتب على المأتي به.

وبعبارة أخرى: إن المأتي به يترتب عليه أثر مجعول وهو نفي القضاء مثلاً.

وأما مصلحة التسهيل فهي علة غائية لإسقاط القضاء وهذا لا ينافي العِليّة بين المأتي به وبين عدم الإيجاب من جهة أخرى، فتأمل.

كما يمكن القول: بأن ترتب الأثر في المعاملات إنّما هو لأجل جعل العلية بأن يكون العقد علة للملكية مثلاً أو لأجل ترتيب الشارع الأثر بعد تحقق العقد من باب التوافي، وكلاهما مجعول للشارع، لذا يمكنه توسيع أو تضييق العِليّة، أو لا يرتب الأثر أو يرتبه، ولو كان أمراً تكوينياً لما أمكن ذلك.

أما المحقق النائيني(1) فذهب إلى ما يقرب كلام صاحب الكفاية في

ص: 226


1- فوائد الأصول 1: 460.

العبادات دون المعاملات، وحاصل كلامه:

أن الأقوى كون الصحة والفساد - سواء في العبادات أم المعاملات - من الأمور الانتزاعية، كالسببية والشرطية والجزئية والمانعية، فلا تكون جعلية باعتبار الانتزاع، وإنّما منشأ الانتزاع قد يكون مجعولاً في الغالب، وقد لا يكون مجعولاً...

أما في العبادات:

1- فالإتيان بمتعلق الأوامر - سواء الواقعي الأولي أم الاضطراري أم الظاهري - مجزٍ عن أمر نفسه، فالمأتي به ينطبق على المأمور به، ومن هذا الانطباق ينتزع وصف الصحة - أي كون المأتي به صحيحاً - وهذا الانطباق ليس مجعولاً شرعياً، وإنّما المجعول الشرعي هو تعلق الأمر بما ينطبق على المأتي به (كالصلاة بأجزائها وشرائطها...) أما كون المأتي به منطبق أو لا فهو يدور مدار واقعه، والصحة والفساد تنتزعان عن نفس الانطباق وعدمه، فعليه لا يكونان مجعولين شرعاً.

2- أما لو شك في الانطباق، فللشارع الحكم بالبناء على الانطباق - كالأصول الجارية في قاعدة الفراغ - وحينئذٍ من حكم الشارع بالانطباق ينتزع وصف الصحة، فيكون منشأ الانتزاع مجعولاً شرعياً حيث حكم الشارع - وباعتبار الأصل - بالانطباق.

لكن الصحة حينئذٍ ظاهرية، فإذا انكشف الخلاف وتبين عدم الانطباق فلا صحة بناءً على ما مرّ من عدم الإجزاء.

نعم للشارع الحكم بالصحة بعد انكشاف الخلاف، ومرجع الصحة في مثل هذا إلى الاكتفاء بما أتى به عن الواقع، وهذه ترجع إلى الصحة الواقعية

ص: 227

بوجه، أي تكون برزخاً بين الأحكام الظاهرية والواقعية الثانوية، فمن جهة أخذ الشك في موضوعها تكون حكماً ظاهرياً، ومن جهة كونها موجبة لسقوط التكليف الواقعي - حتى بعد انكشاف الخلاف - تكون شبيهة بالأحكام الواقعية الثانوية.

والحاصل: إن التعبد بانطباق المأمور به الواقعي على المأتي به مجعول شرعي، فصارت الصحة حينئذٍ مجعولة.

وأما في المعاملات: فالمجعول هو ترتب الأثر عند تحقق سببه، وهذا لا يتصف بالصحة والفساد، بل المتصف بهما هو الفرد المأتي به من المعاملة، وهذا الفرد إنّما يتصف بالصحة عند انطباقه على ما يكون مؤثراً، والانطباق أمر واقعي ومنه تنتزع الصحة، فليست إذن مجعولة شرعاً.

وأورد عليه: أولاً: بأن الانطباق ليس الملاك في الصحة، للنقض بمثل الصلاة الجهرية المأتي بها إخفاتاً جهلاً تقصيرياً، فإنها صحيحة مع عدم الانطباق، ولذا يعاقب على تقصيره.

وفيه: أن هذا المورد وأشباهه من قبيل الصحة الظاهرية التي حكم الشارع فيها بالاكتفاء حتى مع انكشاف الخلاف.

وثانياً: بأنه لا يمكن التعبد بانطباق الواقع على المأتي به فيما لو شك في الانطباق، وذلك لأنه لا يصح التعبد إلا بما كان مجعولاً شرعياً أو موضوعاً لأثر شرعي، وليس انطباق الواقع على المأتي به من المجعولات الشرعية!!

وفيه: أن الانطباق أمر واقعي، لكن التعبد به - أي فرض الانطباق - أمر جعلي، نظير الأمارات التنزيلية حيث ينزل مؤداها منزلة الواقع بالجعل

ص: 228

الشرعي.

وثالثاً: يرد على ما ذكره في المعاملات بما مرّ من أنه يمكن جعل العِليّة وهذا يكفي في كون الشيء مجعولاً للشارع بجعل منشأ الانتزاع، نعم ترتب المعلول على العلة أمر قهري.

البحث الرابع: في مقتضى الأصل حين الشك في اقتضاء النهي للفساد

والبحث قد يكون عن الأصل في العبادات وقد يكون في المعاملات، وتارة البحث عن الأصل في الملازمة العقلية، أو في الدلالة اللفظية، وثالثة البحث في المسألة الأصولية أو الفرعية الفقهية(1).

1- أما في العبادات في المسألة الأصولية العقلية - أي الملازمة بين النهي والفساد -:

فالصحة والفساد تكون بأحد معاني ثلاث...

الأول: الصحة والفساد من حيث موافقة الأمر وعدمه، فحينئذٍ لا مورد للشك أبداً كي يبحث عن الأصل فيه، إذ على مبنى عدم جوازالاجتماع لا يوجد أمر، للفراغ عن تعلق النهي بالعبادة، وعلى مبنى جواز الاجتماع لا إشكال في موافقة الأمر، فلا تصل النوبة إلى الشك أصلاً.

الثاني: الصحة والفساد بمعنى موافقة الملاك، بأن يفي العمل بالملاك أو لا يفي به.

وقد يقال: بالقطع بالصحة من حيث الملاك فلا مورد للشك أصلاً، لأن المفروض تعلق النهي بالعبادة - لا ببعضها - ، فالمنهيّ مستجمع لجميع

ص: 229


1- راجع نهاية الدراية 2: 391-392؛ وفوائد الأصول 1: 462.

الأجزاء والشرائط الدخيلة في الملاك، نعم قد يشك في منافاة المبغوضية الفعلية مع التقرب المعتبر في العبادة، ولا أصل حينئذٍ يعيّن أحد الطرفين.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إنه مع تعلق النهي بالعمل، يحتمل بقاء ملاك الأمر مع كون ملاك النهي مانعاً عن تأثيره، كما يحتمل انتفاء ملاك الأمر أصلاً وهو المصلحة الراجحة، إذ مع تعلق النهي لا توجد مصلحة راجحة للأمر.

لكن لا يخفى أن قصد القربة دخيل في ملاك الأمر قطعاً - حتى لو قلنا بعدم إمكان أخذه في متعلق الأمر - فحينئذٍ نقطع بعدم موافقة الملاك، فلا شك في الفساد.

نعم لو كان غافلاً عن النهي أمكنه قصد القربة، فحينئذٍ لا إشكال في الصحة من حيث تحقق الملاك، وقد يُشكّ في حصول التقرب بهذا العمل، إلاّ أنّه لا دليل على دخالة التقرب بهذا المعنى في تحقق العبادة، فتأمل.

الثالث: الصحة والفساد بمعناهما - من التمامية وعدمها - مع قطع النظر عن الأمر والملاك.

فقد يقال: بأنه لا أصل في البين، إذ الملازمة إن كانت فهي أزلية، فليس لها حالة سابقة، حتى لو قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام العقلية.

2- وأما في العبادات في المسألة الفرعية الفقهية

أ) فتارة: تكون تلك العبادة مأمور بها مع قطع النظر عن النهي...

فإن تعلق النهي بجزء العبادة أو شرطها فحينئذٍ قد يقال: بأن الشك في اقتضاء النهي للفساد يستتبع الشك في مانعية المنهي عنه عن العبادة، فتندرج في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وتختلف الآراء بين البراءة أو الاشتغال.

ص: 230

وإن تعلق النهي بنفس العبادة فقد يقال: بأن الأصل الفساد، للقطع باشتغال الذمة بالعبادة المقرِّبة، ومع الشك في صدورها قُربيّة لا قطع بفراغ الذمة، فيجب تحصيل الفرد غير المبغوض بالفعل، مع وضوح عدم رجوع الشك إلى المانعية، وذلك لاقتضاء النهي حرمة العبادة، ومع حرمتها لا يمكن تصحيحها، فتأمل.

ب) وتارة: لا تكون تلك العبادة مأمور بها حتى مع قطع النظر عن النهي...

فقد يقال: کما عن المحقق النائيني(1):

أن الشك في اقتضاء النهي للفساد يوجب الشك في مشروعية العبادة، والأصل عدم مشروعيتها.

وفيه نظر: إذ يكفي في عدم مشروعيتها عدم الأمر بها، مع عدم إمكان إحراز الملاك، بل إحراز عدمه بعدم الأمر بها حتى في حالة عدم النهي، اللهم إلا في العبادة الذاتية، وقد مرّ الإشكال عليها.

3- وأما في المعاملات

فالشك في اقتضاء النهي للفساد يستتبع الشك في صحة المعاملة، والأصل يقتضي عدم الصحة، لأصالة عدم ترتب الأثر عليها، والمفروض أن الكلام في حالة عدم وجود دليل من إطلاق أو عموم، وإلاّ لما وصلت النوبة إلى البحث عن الأصل في حالة الشك.

4- وأما في الدلالة اللفظية سواء في العبادة أو المعاملة

فإنه لا يوجد أصل يعيّن دلالة اللفظ أو عدم دلالته.

ص: 231


1- فوائد الأصول 1: 462.

وأما ما ذكره المحقق الإصفهاني(1):

من أنه في المسألة الأصولية يكون النزاع في أن النهي هل هو ظاهر في الحرمة التكليفية أم في الإرشاد إلى المانعية، ولا يوجد أصل يعيّن أحد الأمرين، وأما في المسألة الفرعية فيتمسك لإثبات الصحة بالإطلاق حيث إن العبادية لا تنافي الحرمة المولوية ولا دليل على المانعية!!

ففيه: أولاً: انه لا معنى للإرشاد إلى المانعية مع كون النهي عن نفس العبادة لا عن جزئها، فينحصر الأمر في الحرمة التكليفية التي لا تنسجم مع الصحة أصلاً، كما مرّ.

وثانياً: إن الكلام إنّما هو مع الشك، بمعنى عدم وجود دليل لفظي من إطلاق ونحوه، ففرض وجود الإطلاق خروج عن موضوع البحث.

البحث الخامس: في أقسام متعلق النهي في العبادة

اشارة

فقد ذكر صاحب الكفاية أنه على أقسام خمسة، وهي بأمثلتها من الوصول(2).

1- النهي عن نفس العبادة، كصوم العيدين، وصلاة الحائض.

2- النهي عن جزئها، كقراءة العزيمة في الصلاة، أو السجود رياءً.

3- النهي عن شرطها الخارج عنها، وذلك بخروج القيد ودخول التقيد، كالصلاة في الساتر الحريري أو النجس.

4- النهي عن وصفها الملازم لها بأن لا توجد العبادة بدونه، كالجهر

ص: 232


1- نهاية الدراية 2: 391-392.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 486-487.

والاخفات في القراءة فإن الوصفين لا ينفكان عنها وإن كانت هي تنفك عن أحدهما.

5- النهي عن وصفها غير الملازم، بأن كانت النسبة بينهما العموم من وجه، كالغصب في الصلاة.

وأشكل أولاً: على أصل التقسيم(1):

بأن القسم الأول داخل في القسم الرابع والخامس، وذلك لأنه لا يمكن النهي عن العبادة لذاتها، إذ لا يتعلق النهي بذات العبادة بنفسها وبما هي هي، بل لابد أن تكون هناك خصوصية أوجبت النهي، كصلاة الحائض وصوم العيدين، فجعل النهي عن العبادة لذاتها قسيماً للنهي عن العبادة لوصفها لا يستقيم، بل يكون النهي عن العبادة لوصفها في كليهما.

وأجيب: بأن النهي قد يتعلق بالذات ولكن بسبب الخصوصية، حتى لو كانت تلك الخصوصية من قبيل أوصاف المكلف، وتارة يتعلق النهي أولاً وبالذات بالخصوصية فيبحث حينئذٍ عن سراية النهي إلى ذات العبادة أم لا، فقد تكون الخصوصية غير اختيارية - كحلول يوم العيد والحيض - فلا وجه للنهي عنها إلا النهي عن ذات العبادة، وأما الخصوصية الاختيارية فالغالب تعلق النهي بها أولاً وبالذات ثم يبحث عن سراية النهي إلى ذات العبادة كالنهي عن الجهر في الصلاة الاخفاتية أو الصلاة في المغصوب، نعم قد تكون تلك الخصوصية الاختيارية سبباً للنهي عن ذات العبادة كالنهي عن الصلاة حال السكر، وهذا يرتبط بالاستظهار من الدليل، فتأمل.

ص: 233


1- فوائد الأصول 1: 463.

وثانياً: بتعميم الإشكال، فقد قال المحقق الإصفهاني(1):

بأن هذا التقسيم لا وجه له أصلاً وذلك لأن...

أ) البحث في دلالة النهي عن العبادة على الفساد، فلا فرق بين عبادة وأخرى - سواء كانت كلاً أم جزءاً أم شرطاً أم وصفاً - فالحكم في الجميع واحد.

ب) فإن كان المقصود هو البحث عن فساد الكل بفساد الجزء، وفساد المشروط بفساد الشرط، فهذا لا ربط له بالمسألة - التي هي اقتضاء النهي للفساد - بل قد يقال: بأنه بحث فقهي يحرر في مسائل الخلل في الصلاة.

ج) وإن كان المقصود البحث عن سراية الحرمة من الجزء أو الشرط أو الوصف المنهي عنه إلى الكل والمشروط والموصوف، فإن أريد الحرمة الحقيقية في نفس العبادة فرجع البحث إلى القسم الأول أي حرمة نفس العبادة، ولا دخل في سبب حرمة العبادة في مسألة اقتضائها للفساد.

د) فالأقرب كون هذا البحث بحثاً عن المبادي، أي عن صغريات المسألة، حيث لم تبحث في مكان آخر، فتأمل.

وأما تفصيل البحث في هذه الأقسام فنقول:

1- النهي عن نفس العبادة

وسيأتي بحثه.

2- النهي عن جزء العبادة

وفيه احتمالان، هما:

الاحتمال الأول: عدم بطلان المركب ببطلان جزئه، ويستدل له...

ص: 234


1- نهاية الدراية 2: 392-393.

أولاً: بأنه لا دليل علی كون جزء العبادة عبادة(1)،

إذ لا ملازمة بين جزئية شيء للعبادة وبين كونه عبادة، بل يمكن تعلق الأمر بالعمل المركب بنحو الاستغراق لأجزائه من دون كون جميع الأجزاء عبادة، كما أن التقيد بالشرط جزءٌ مع أنه ليس بعبادي.

وفيه تأمل: إذ الأمر ينبسط على جميع الأجزاء، كما مرّ، فتكون الأجزاء واجبة بوجوب ضمني، وحيث كان الأمر عبادياً فلابد من عبادية جميع الأجزاء لانبساطه - وهو عبادي - عليها، وأما كون التقيد بالشرط جزء مع أنه ليس بعبادي، فلأنّه جزء عقلي لا خارجي، أريد به دفع إشكال كيفيّة دخالة شيء في شيء مع كونه خارجاً عن حقيقته.

وثانياً: بعدم الدليل على استلزام بطلان الجزء بطلان المركب، فيما لو لم يكتف بالجزء الباطل بل كرره صحيحاً، إلا إذا استلزم التكرار محذوراً آخر - كالقِران بين السورتين - فيكون البطلان لذلك المحذور، من غير استناده إلى بطلان الجزء.

الاحتمال الثاني: بطلان المركب مطلقاً، وقد ذهب إليه المحقق النائيني(2) من غير فرق بين كون ذلك الجزء من سنخ الأقوال أو الأفعال، وسواء اقتصر على ذلك الجزء المنهي عنه أم لا، وسواء كان اعتبار ذلك الجزء في العبادة بشرط لا أو لا بشرط.

والدليل على ذلك أن النهي عن جزءٍ يوجب تقيد العبادة بما عدا ذلك

ص: 235


1- منتقی الأصول 3: 186.
2- فوائد الأصول 1: 465.

الجزء، فتكون نسبة العبادة إليه (بشرط لا)، ونفس اعتبار العبادة بشرط لا عن شيء، يوجب فساد العبادة الواجدة لذلك الشيء، لوجوه ثلاثة:

الأول: عدم كون الواجد لها من أفراد المأمور به، بل المأمور به غيره، فمن أتى بالمنهي عنه لا يكون آتياً بالمأمور به.

الثاني: أدلة إبطال الزيادة للصلاة تشمل هذا المورد، فهذا قد زاد في صلاته مثلاً، فتفسد.

الثالث: أدلة إبطال التكلم للصلاة إذا كان المنهي عنه من سنخ الأقوال تشمل هذا المورد، وذلك للإطلاقات الدالة على بطلان الصلاة بالتكلم، ويستثنى من ذلك القرآن والذكر، وبالنهي عن القِران - مثلاً - تخرج هذه الزيادة عن الاستثناء، فتندرج في إطلاقات المُبطليَّة!!

وأورد عليه: أولاً: بأن ادعاء صيرورة العبادة حينئذٍ (بشرط لا) خالٍ عن الدليل، بل الجزء المحرّم ليس بجزء في الواقع، فيكون خارجاً عن حقيقة العبادة، فلا فرق بينه وبين مثل النظر إلى الأجنبية في الصلاة.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن إطلاق دليل العبادة يقتضي كون نسبتها إلى الجزء المحرّم هو (لا بشرط) هذا على المبنى المنصور من كون العبادات أسامي للصحيح.

إن قلت(1): على كونها أسامي للأعم، فإنَّ الجزء المنهي عنه مقوّم للعمل، فالعمل المأتي به مع الجزء المحرّم يطلق عليه الصلاة - مثلاً - فيكون هذا الجزء مقوماً للفرد، فلا يمكن شمول الإطلاق لهذا الفرد، لامتناع تعلّق

ص: 236


1- منتقی الأصول 3: 189.

الأمر بالفرد ذي الجزء المحرّم، فلا يكون هذا الفرد مأموراً به، وهذا هو المقصود من أخذ العبادة (بشرط لا) عن الجزء المحرّم، أي مانعيته عنها، فلا يصح قياسه بالنظر إلى الأجنبية حين الصلاة - مثلاً - .

قلت: إن تكرار ذلك الجزء يجعل المقوّم مردداً بين الجزء الباطل والصحيح، أو يجعلهما كليهما مقوّمين للفرد، فلا محذور من شمول الأمر لهذا الفرد، لعدم لزوم تعلق الأمر بكل الخصوصيات الفردية، فشخص الصلاة الخارجية لها تشخصات كثيرة غير داخلة تحت الأمر، وإنّما الداخل فيها بعض الكليات المنطبقة على الفرد الخارجي، فتأمل.

وثانياً: اختصاص الوجه الثاني والثالث بخصوص الصلاة، وذلك يناسب المسألة الفقهية لا الأصولية، مضافاً إلى الإشكال في إطلاق أدلة إبطال الزيادة، أو شمول أدلة إبطال التكلم للسورة حتى المنهي عنها، والتفصيل في الفقه.

3- النهي عن شرط العبادة

فهو على نوعين:

النوع الأول: أن يكون الشرط عبادة كالوضوء، فإنه يبطل الشرط بناءً على أن النهي في العبادة يوجب الفساد، وببطلانه يبطل المشروط.

لا يقال: لا يسري بطلانه إلى المشروط لو لم تتنجز حرمة الشرط، للجهل بها، حيث يمكن ادعاء إطلاق دليل الشرطية، فإن النهي تعلّق بالقيد والأمر تعلّق بالتقييد!!

فإنه يقال: إن التقييد إنّما هو بالشرط العبادي، لا بما يتوهم عباديته، ففي

ص: 237

الجهل وإن أمكن قصد القربة، لكن لا صلاحية للعمل للتقرب به، فلا يشمله إطلاق دليل الشرطية.

النوع الثاني: أن لا يكون الشرط عبادياً، كالستر بالمغصوب في الصلاة، فقد يقال(1): بإمكان التسمك بإطلاق دليل الشرطية لإثبات أن هذا مصداق للشرط، ولا يستلزم ذلك اجتماع الأمر والنهي، إذ النهي تعلّق بالقيد لا بالتقيّد، والأمر الضمني في الشرط يتعلّق بالتقيّد ولا يسري إلى القيد، فيكون متعلقهما مختلفاً.

وأشكل عليه: بأن النهي يصلح أن يكون قرينةً فلا تتم مقدمات الحكمة في دليل الشرطية، فإن مصب النهي والأمر وإن كان مختلفاً لكنه واحد عقلاً، فتأمل.

فتحصل: أن بطلان الشرط في كلا القسمين مما يستلزم بطلان المشروط.

5/4- النهي عن وصف العبادة

فحيث لا فرق بين الوصف الملازم والوصف المفارق لوحدة الملاك فيهما، لذلك نذكرهما معاً.

فقد يقال: بسراية النهي عن الوصف إلى الموصوف، فيبطل الموصوف لو قلنا بأن النهي يستلزم الفساد، واستدل له المحقق الخراساني(2): باستحالة كون القراءة التي يجهر بها - مثلاً - مأموراً بها، مع كون الجهر بها منهياً عنه فعلاً، فلذا تكون القراءة منهياً عنها أيضاً.

ص: 238


1- بحوث في علم الأصول 3: 122.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 393.

وأشكل عليه: أولاً: بأن هذا المقدار لا يثبت حرمة القراءة، لأن الجهر ملازم لها، وقد مرّ عدم لزوم اتفاق المتلازمين في الحكم، وأنه لا دليل على سراية حكم أحدهما للآخر، نعم يلزم عدم اختلافهما في الحكم، وحينئذٍ فالقراءة غير منهي عنها لكنها ليست مأموراً بها، فيمكن تصحيحها بكفاية وجود الملاك فيها.

إلا أن يقال: بأنه لا طريق للملاك إلاّ الأمر، وحيث سقط الأمر فلا دليل على الملاك، أو يقال: بأنه لا يلزم كون جميع أجزاء العبادة مأموراً بها، وكذا في الواجب التوصلي.

لا يقال: بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي، فأي فرق بين الصلاة والغصب حيث يقال بالصحة، وبين الجهر في الصلاة الاخفاتية حيث يقال بالبطلان؟

لأنه يقال: الفرق هو تعدد العنوان في الصلاة وفي الغصب، وعدم تعدده في القراءة الجهرية، إذ الواجب هو القراءة والحرام هو القراءة الجهرية.

وفيه تأمل: لأن ملاك الجواز هو تعدد العنوان حتى لو كان الوجود واحداً، والعنوان هنا متعدد، أي القراءة والجهر، فتأمل.

وثانياً: بإشكال صغروي في المثال(1)

بأن القراءة هي من الأعراض لأنها من الكيف المسموع، والجوهر هو الهواء الذي تعرض عليه القراءة، والأمر يختلف باختلاف المباني:

1- فإن قيل بإمكان التشكيك في الماهية الواحدة، فحينئذٍ تكون نفس

ص: 239


1- نهاية الدراية 2: 393-394.

الماهية النوعية بما هي شديدة تارة وضعيفة أخرى، وحينئذٍ القراءة الجهرية ماهية واحدة شديدة لا تعدد فيها، وكذلك القراءة الاخفاتية، فالنهي يتعلق بالعبادة بنفسها.

2- وإن قيل بعدم معقولية التشكيك في الذاتيات، فحينئذٍ المراتب أنواع متباينة - أي ماهيات مختلفة - فالنهي في القراءة الجهرية أو الاخفاتية متعلق بالماهية النوعية، فالقراءة هي الجنس والمراتب - من الجهر والاخفات - فصول لها، فالنهي عن الجهر مثلاً نهي عن نفس القراءة بناءً على اتحاد الجنس والفصل.

3- نعم لو قلنا بتعدد الجنس والفصل في الوجود، فالنهي حينئذٍ عما ينضم في الوجود إلى العبادة، لا عن العبادة نفسها - التي هي القراءة - .

والتحقيق أن الأعراض بسائط، ولا تعدد للجنس والفصل في الوجود، بل الشدة والضعف إنّما هي في الوجود، وعليه فالمنهي عنه هو نفس القراءة الجهرية أو الاخفاتية، لأن الجهر والاخفات كلاهما عرضان والشدة والضعف فيهما بحسب الوجود، وحيث إن الوجود بسيط فلا تركب لكي يتعدد متعلق الأمر والنهي، وهذا نظير السواد - الذي هو كيف مرئي - فإن شدته ليس وجوداً أو ماهية أخرى غير نفس السواد، بل السواد وجوداً وماهيةً، فتأمل.

البحث السادس: في إمكان تعلق النهي بالعبادة - ثبوتاً -

قد يقال: بعدم إمكان تعلق النهي بالعبادة أصلاً، فيكون البحث من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وبيان ذلک بوجوه ومنها:

الوجه الأول: إن العبادة هي ما توجب القرب إليه تعالى، ولا يعقل

ص: 240

النهي عن ذلك، لأنه للبُعد عنه سبحانه.

والجواب(1): بأنه ليس المراد العبادة الفعلية، بل المراد تعلق النهي بما كان من سنخ الوظائف التعبدية، بحيث لو لم يتعلق النهي بها وتعلق بها الأمر كان أمراً عبادياً، فلا يسقط إلا بالتقرب إليه تعالى.

لا يقال: إن منافاة النهي والعبادية أمر واضح، لا يحتاج إلى هذا البحث المفصَّل.

لأنه يقال: بإمكان دفع المنافاة على بعض المباني، بل دفع المنافاة في حال عدم العلم بالنهي، أو توهمه مع عدم وجوده واقعاً كما سيأتي، مضافاً إلى البرهنة العقلية على المنافاة، أي بيان البرهان العقلي لهذا الأمر الارتكازي.

الوجه الثاني: إن النهي عن العبادة لا يجتمع مع الأمر بها، ومع عدم الأمر تكون العبادة فاسدة لعدم مشروعيتها، فلا تصل النوبة إلى اقتضاء النهي للفساد، بل الفساد يستند إلى أسبق عِلله وهو عدم المشروعية.

والجواب(2): أولاً: بأن الفساد لولا النهي مستند إلى أصالة عدم المشروعية، وهي أصل عملي، ومع النهي يكون الفساد من جهة الدليل الاجتهادي، فلا يستند الشيء إلى الأصل العملي مع وجود الدليل الاجتهادي.

إن قلت: استناد الفساد إلى الدليل خروج عن محل البحث - الذي هو

ص: 241


1- فوائد الأصول 1: 463.
2- فوائد الأصول 1: 463.

الملازمة بين الحرمة والفساد - !!

قلت: إن الدليل هنا هو نفس النهي الدال على الحرمة، وهو دليل اجتهادي، وليس المراد قيام دليل آخر على الفساد ليكون خروجاً عن محل البحث.

وثانياً: إنه ربما يشمل إطلاق دليل المشروعية لتلك العبادة، بحيث لو لم يكن نهي لشملها الإطلاق، فمع النهي عنها يكون الفساد مستنداً إلى النهي فقط.

الوجه الثالث: أن النهي الموجب للفساد إما يتعلق بذات العبادة من غير قصد القربة، أو يتعلق بها مع قصد القربة.

والأول: لا يلتزم به أحد، فهل يقال بحرمة الإمساك عن المفطرات طوال اليوم لا بقصد القربة؟! أو بحرمة تعليم الحائض الصلاة عملاً للأطفال مثلاً، فتقوم بجميع أجزائه وشرائطه من غير قصد القربة؟!

والثاني: غير ممكن، فلا يمكن قصد القربة أصلاً، إذ إن كانت القربةُ هي قصد الأمر فلا يوجد أمر كي يقصده، وإن أريد معنى آخر فلا يمكن التقرب به مع العلم بالنهي، ومع الجهل به لا يكون للعمل صلاحية التقريب فلا يكون عبادة.

والجواب: أولاً: إن القائل قد توهم أن سبب الفساد هو الحرمة، وأمرها دائر بين عدم وجودها في الأول، وعدم إمكانها - لعدم تحقق موضوعها - في الثاني.

لكن الصحيح أن النهي بنفسه سبب للفساد - كما سيأتي - وهذا لا يتوقف

ص: 242

على وجود الحرمة، فالنهي الإرشادي لا حرمة فيه مع أنه إرشاد إلى الفساد، وكذا مع عدم العلم بالنهي تكون العبادة فاسدة مع عدم وجود الحرمة الفعلية، وعليه: فنلتزم بالشق الثاني ونقول إن الإتيان بالفعل مع قصد القربة منهي عنه - سواء فرضنا هناك حرمة أم لا - وهو يوجب الفساد.

وثانياً: بأنه يمكن القول بأن النهي مانع عن عباديتها لذلك تقع فاسدة، بأن يكون في العمل مصلحة مع كونه مصداقاً لعبادة مأمور بها، لکن النهي مانع عن تأثير المصلحة وعن صلاحية العمل للتقرب.

وثالثاً: أن يقال بأنه يمكن الإتيان بالعمل مع قصد القربة، لكنه يكون تشريعاً، فهو يقصد أمراً غير موجود مع نسبته إلى الشارع، فتكون الحرمة تشريعية لا ذاتية - لئلا يلزم اجتماع المثلين - .

إن قلت: إن الإتيان بالعمل بقصد قربي لا يلازم التشريع، إذ يمكن الإتيان به رجاءً.

قلت: إنه مع العلم بالنهي لا وجه للرجاء، ومع عدم العلم به لا تشريع.

إن قلت: وأي دليل على حرمة التشريع العملي - إذا لم ينسبه إلى الشرع بالقول ليكون افتراءً - وهل ذلك إلا مخالفة التزامية التي لا دليل على حرمتها، ولو فرض حرمته فلا وجه لعدم اجتماعه مع الحرمة الذاتية، لعدم استلزام اجتماع المثلين إذ الحرمة الذاتية في الفعل، والحرمة التشريعية في القلب!!

قلت: مع قطع النظر عن المبنى، فإن التشريع هو الالتزام القلبي مع إظهاره قولاً أو عملاً، فتدخل العبادة المنهي عنها إذا أتي بها بقصد القربة

ص: 243

في الافتراء المنهي عنه.

وبعبارة أخرى: في التشريع تكون الحرمة للعمل بشرط الالتزام القلبي، أو أن الحرمة لهما معاً - أي للعمل والالتزام - فحينئذٍ عاد محذور اجتماع المثلين.

وعليه فإذا حرمت تشريعاً فلا يمكن شمول دليل الأمر لهذا الفرد - لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي - وحيث لا أمر كانت العبادة فاسدة، فتأمل.

البحث السابع: من أدلة فساد العبادة مع النهي عنها

وعمدة الأدلة ثلاثة، وهي: عدم إحراز الملاك، وعدم وجود الأمر، وعدم تمشي قصد القربة، وكلها مبطل للعبادة.

الدليل الأول: إنّه مع النهي عن العبادة لا طريق لإحراز الملاك فيها، وحتى مع فرض إحرازه فإنه مغلوب، والمغلوب غير صالح للعبادية، وإلا لما كان مغلوباً(1)، ومن المعلوم أن النهي عن العبادة يكشف عن ثبوت مفسدة فيها أقوى من مصلحتها، وعليه فينحصر تصحيح العبادة عبر الملاك بما إذا كان عدم الأمر بها لأجل عدم القدرة عليها، لمكان المزاحمة.

وفيه: أولاً: إن غلبة المصلحة لا يلازم عدم ملاكيتها للعبادية، نعم غلبة المفسدة مانع عن فعلية الأمر بها، وبالجهل يرتفع المانع، إذ يمكن حصول القرب بهذه العبادة مع وجود ملاكٍ لها.

وثانياً: إن المراد التقرب بحسب موازين العبودية والمولوية(2)، فقتل

ص: 244


1- فوائد الأصول 1: 465.
2- بحوث في علم الأصول 3: 111.

عدو المولى بتوهم أنه صديقه ليس اقتراباً منه بل ابتعاد عقلاً، كما أن قتل صديقه بتوهم أنه عدوه اقتراب إليه، وإن كان مفوتاً لغرضه، وحينئذٍ ففيما نحن فيه لا محيص عن بطلان العبادة، لإطلاق الهيأة في الأمر بالعبادة، أي إطلاق الوجوب سواء أتى بالفرد المنهي عنه أم لم يأتِ.

ولو فرض الإشكال على هذا الإطلاق - للإشكال في إطلاق الهيأة لجزئيتها، أو لعدم إحراز كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة، أو لغير ذلك - فحينئذٍ تكون أصالة اشتغال الذمة بالتكليف بالعبادة محكّمة، إذ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، ونتيجة ذلك هو وجوب الإعادة أو القضاء مع الإتيان بالعبادة المنهي عنها، وهذا هو نتيجة البطلان، فتأمل.

وقد يقرر الدليل: بأن النهي يتنجز مع وصوله إلى العبد، فيكون الفعل معصية يحكم العقل بقبحها، فيكون الفعل مبعِّداً، فيستحيل أن يكون مقرِّباً، للتضاد بينهما، والمبعِّد لا يصلح لأن يكون عبادة.

ولا يخفى أن هذا لا يرتبط بقصد القربة، بل بصلاحية الفعل للمقربية أو المبعدية - مع قطع النظر عن قصد العبد للقربة - فلذا يمكن إجراء هذا الدليل في التوصليات أيضاً، على تأمل.

وقد يقال: إن القرب والبعد ينشأ من الدواعي النفسية، فلو أمكن إيجاد فعل بداعيين - داعي محبوب وداعي مبغوض - كان الفعل مقرباً ومبعداً من جهتين، وفيما نحن فيه تتعدَّد الجهة لو كان الأمر بالجامع وكان النهي عن حصة معينة!!

وأورد عليه: أولاً: بأن النهي عن الحصة يخصِّص الجامع المأمور به بغيرها، فالجامع الموجود فيها غير مطلوب، وذلك لأن نسبة الطبيعي إلى

ص: 245

أفراده كنسبة الآباء إلى الأبناء.

وثانياً: إنّ الداعي بما هو داعي ليس مقرباً ولا مبعداً، بل لابد من أن يقترن بالعمل، فيلوّن ذلك الداعي العمل، فيكون العمل مقرباً أو مبعداً، فقتل عدوّ المولى بتوهم أنه صديقه مبعِّد، لكن ليس لجهة الداعي فقط، بل العمل مُبعّد بنفسه لما اقترن بهذا الداعي، حتى وإن كان محبوباً في نفسه، فتأمل.

نعم أصل الإشكال هو عدم إمكان إحراز الملاك مع عدم الأمر، وحيث لا يمكن اجتماع الأمر والنهي حتى على القول بالجواز لعدم تعدد العنوان هنا، فعدم الأمر ثابت، فلا طريق للملاك.

الدليل الثاني(1): إنّه مع قيام النهي لا محيص عن تقييد إطلاق الأمر بما عدا مورد النهي - بعد ما كانت النسبة بينهما العموم المطلق مع كون متعلق النهي أخص - فإنه لولا التقييد لزم إلغاء النهي بالمرة، أو اجتماع الضدين، وحينئذٍ لا أمر، ومع عدم الأمر تفسد العبادة، لاشتراط الأمر في صحتها، كما مرّ مفصلاً في بحث التوصلي والتعبدي بعدم كفاية الملاك حتى مع إحرازه، بل لابد في العباديَّة من وجود الأمر.

الدليل الثالث: إنّه مع وصول النهي إلى العبد، لا يمكنه قصد القربة:

فلا يمكنه قصد الأمر، حيث يقطع العبد بعدم وجوده مع علمه بالنهي، ومع عدم إمكان اجتماعهما.

ولا يمكنه قصد الملاك، إذ لا طريق إلى الملاك إلاّ الأمر، والمفروض

ص: 246


1- فوائد الأصول 1: 464.

انتفاء الأمر، وحينئذٍ لا محيص عن بطلان العبادة.

نعم يمكن القول بأن العبد لو تخيل إمكان اجتماع الأمر والنهي، أو تخيل إمكان اجتماع الحب والبغض من جهتين في المولى، أو أتى بالعمل بقصد رجاء وجود الملاك، فحينئذٍ يمكنه قصد القربة، لكنه لا يمكنه الاجتزاء بتلك العبادة إلا إذا انكشف عدم وجود النهي، فتأمل.

البحث الثامن: حالات المكلّف

ذكر المحقق النائيني(1)

أن النهي في العبادة موجب لفسادها، من غير فرق بين حالة الاختيار، وحالة الاضطرار الموجب لرفع الحرمة، وكذا حالة النسيان، وذلك لأن المانعية ليست معلولة للحرمة حتى تدور مدارها، بل كلاهما معلولان للمفسدة والمبغوضية الواقعية التي أوجبت النهي، وهي أمور واقعية لا ترتفع بالاضطرار.

ثم أشكل على حكم المشهور بصحة صلاة من اضطر إلى لبس الحرير والذهب في الصلاة أو نسيهما، وذلك لأن (إطلاق الأمر) و(الحرمة) كلاهما في عرض واحد، والتضاد بينهما هو الذي كان سبباً للمانعية، ولولا التضاد لما كان للمانعية وجه، ففي حالة الاضطرار لا يمكن أن يكون ارتفاع الحرمة مقدمة لثبوت الأمر بالعبادة.

وحتى لو فرضنا الطولية، فإن المانعية ليست معلولة للحرمة، كي يكون ارتفاع المانعية موجباً لارتفاع الحرمة، بل كلاهما معلولان لعلة ثالثة، وهي المفسدة، وهي ثابتة، إذ ارتفاع أحد المعلولين لا يكون سبباً لارتفاع العلة،

ص: 247


1- فوائد الأصول 1: 467.

ومن المعلوم أن الاضطرار والنسيان لا يوجب إلا رفع الحرمة، لأن الرفع للمِنّة، ولا ترتفع بها المفسدة الواقعية.

ومن ذلك يتضح الإشكال على كلام آخر للمشهور فيما لو شك في شيء أنه حرير أو ذهب، حيث أجروا أصالة الحل والبراءة، باعتبار أنهما أصل سببي فلا يبقى مجال للأصل المسببي وهو المانعية.

إذ ليست المانعية مسبباً عن الحرمة كي يرتفع المسبب بإجراء الأصل في السبب.

وفيه تأمل:

أما الأول فيرد عليه:

أولاً: إن رفع أحد الضدين ليس مقدمة للآخر، لكنه ملازم لثبوت الضد الآخر إن كان من الضدين اللذين لا ثالث لهما.

وثانياً: بإمكان التمسك بإطلاق الأمر بعد ارتفاع المقيَّد بسبب الاضطرار، فلا يبقى وجه لبقاء المانعية، وإطلاق الأمر دليل اجتهادي فلا يبقى مجال لاستصحاب المانعية.

وثالثاً: لازم كلامه عدم وجوب الصلاة على هذا المضطر أصلاً، لا أداءً لبطلانها بالمانع، ولا قضاءً بناءً على تبعية القضاء للأداء، أو بناءً على عدم تحقق الفوت حينئذٍ، كما مرّ في بحث الإجزاء.

وأما الثاني، فيرد عليه:

أولاً: لا يعقل ارتفاع المعلول إلا بارتفاع العلة، فلا يعقل بقاء العلة وأحد المعلولين مع زوال المعلول الآخر، هذا في العلل التكوينية.

ص: 248

وثانياً: إن النهي هو جزء من العلة، وليست المفسدة هي العلة التامة، وبانتفاء جزء العلة - وهو النهي - تنتفي العلة، فينتفي كلا معلوليها.

وثالثاً: إن الدليل إنّما يجري بناءً على إجراء أصالة الاشتغال في الشك في الشرط، وأما بناءً على إجراء أصالة البراءة - كما هو الأقرب - فلا، فتأمل.

البحث التاسع: في النهي عن المعاملة

اشارة

النهي عنها قد يكون إرشاداً إلى المانعية فلا إشكال في دلالته على البطلان، وذلك لعدم تحقق الشيء مع وجود مانعه، وهذا يساوق البطلان.

وقد يكون تكليفياً، وهذا على أقسام أربعة، إذ تارة يكون النهي عن ذات السبب، أي عن العقد الذي هو فعل للمكلَّف، كالنهي عن البيع وقت نداء يوم الجمعة، وتارة عن ذات المسبب، كالنهي عن بيع المصحف للكافر حيث إنه نهي عن ملكيته له، وتارة عن آثار المسبب كالنهي عن تسليم الثمن، وتارة عن التسبيب أي التسبيب لذلك المسبب المعين بالسبب الخاص.

القسم الأول: النهي عن السبب بذاته

ولا دلالة فيه على الفساد بوجه من الوجوه، لا لفظاً كما هو واضح، ولا عقلاً لعدم التنافي بين مبغوضية السبب وبين ترتب الأثر عليه، نظير العلل التكوينية، حيث إن مبغوضية إيجاد النار لا ينافي ترتب الإحراق عليها، وبعبارة أخرى: مبغوضية السبب لا تسلب سببيته منه.

إن قلت: ألا يشترط في صحة السبب رجحانه، لا أقل من عدم مبغوضيته؟ وكيف يمضي الشارع أو يؤسس معاملة يبغضُ سببها؟

قلت: يكفي في الإمضاء عدم ترتب مفسدة غالبة على المسبَّب، وأن

ص: 249

لزوم رجحان السبب أو عدم مبغوضيته لا دليل عليه بوجه من الوجوه، ولذا تترتب الآثار على الواجبات التوصلية حتى لو كان السبب محرّماً، كالطهارة المترتب على الغسل بماء مغصوب.

القسم الثاني: النهي عن ذات المسبَّب
اشارة

فقد يقال بدلالته على الفساد، وعن بعض العامة دلالته على الصحة، والأقرب عدم دلالته على الفساد أيضاً.

وهنا أمران:

الأمر الأول: في إمكان النهي عن المسبَّب

قد يقال: بعدم إمكانه، لأن المسبب فعل لله تعالى بالإمضاء أو التأسيس، ولا يمكن أن يوجّه للمكلَّف نهي متعلّق بفعل شخص آخر.

وفيه: أن تشريعه من الله تعالى - تأسيساً أو امضاءً - إنّما هو بمعنى جعل السببيّة الاعتبارية بينهما، وحينئذٍ يصبح المسبَّب تابعاً للسبب، وحيث إن السبب فعل توليدي للمكلَّف فيمكن تعلق النهي بالمسبَّب.

لا يقال: صحيح أنه فعل توليدي للمكلَّف، لكنه فعل مباشري منه تعالى، فلماذا جعل السببيّة في هذه الصورة مع بغضه له!!

لأنه يقال: إن جعل السببيّة الكليّة قد تكون أهمّ من سلب السببيّة عن هذا المورد المبغوض، فيكون نظير السببيّة التكوينية التي هي بجعل منه تعالى بناءً على الأصح من التوافي، مع بغض المسبّب أحياناً، فينهى عنه، لكن مع ارتكابه يتحقق المسبب، كالنهي عن الإحراق - مثلاً - .

وبعبارة أخرى - كما قيل -: قد يكون في المسبّب مفسدة لذلك ينهى

ص: 250

عنه، لكن بعد تحققه تكون مصلحة أقوى في اعتبار المسبّب.

الأمر الثاني: في الأقوال في المسألة

القول الأول: دلالة النهي على الفساد، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: روايات خاصة، كصحيحة زرارة عن الإمام الباقر (علیه السلام) ، قال: سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده؟ فقال (علیه السلام): ذاك إلى سيده إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما، قلت: أصلحك الله إن الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد، ولا تحل إجازة السيد له! فقال أبو جعفر (علیه السلام): إنه لم يعص الله، وإنّما عصى سيده، فإذا أجازه فهو له جائز(1).

وجه الاستدلال هو أن صحة نكاح هذا العبد يتوقف على أن لا يكون معصية لله ولا للسيد، فمع انتفاء أحدهما لا يقع صحيحاً، ومن المعلوم أن الحرام معصية لله فلا تكون المعاملة صحيحة.

وبعبارة أخرى: إن عدم معصية الله هو جزء من العلة لوقوع النكاح صحيحاً، والمعلول ينتفي بانتفاء علته، ويمكن بيانه: بأن المعصية مانع، أو بيانه: بأن هذا من مفهوم الشرط.

وبعبارة ثالثة: إن هذا النكاح ليس حراماً كي يقع فاسداً، بحيث لا يمكن إصلاحه بإجازة السيد، فيدل على ملازمة الحرمة مع الفساد في النكاح وسائر المعاملات لعموم العلة.

والجواب: أن المعصية وإن كانت ظاهرة في مخالفة الحكم التكليفي،

ص: 251


1- وسائل الشيعة 21: 114.

إلا أن المراد منها هنا مخالفة الحكم الوضعي - الذي هو الإمضاء والتشريع - فيكون المراد من المعصية عدم الإمضاء، فمعنى الرواية هو أن عدم إمضاء المعاملة سبب لفسادها، وهذا لا يختلف فيه إثنان، وليس معناها أن مخالفة الحكم التكليفي موجب للفساد.

وإنما رفعنا اليد عن الظاهر لقرائن دلت على أن المراد من المعصية مخالفة الحكم الوضعي(1)،

منها:

1- المقابلة بين (معصية الله) و(معصية السيد)، وذلك لوضوح أن معصية المولى هي معصية لله تعالى إذا كان المراد المخالفة التكليفية، فلا تفكيك بينهما إلا في المعصية الوضعية، وحينئذٍ فالمعنى أن هذا العقد ليس مما لم يُمْضِه الله تعالى، بل أوقفه على إمضاء السيد، فإن أمضاه السيد أمضاه الله، وإلاّ فلا.

2- وضوح عدم حرمة العقد من غير إذن السيد، إذ لا دليل على احتياج كلام العبد إلى إذن مولاه بحيث لو منعه عن الكلام وجب عليه الإطاعة، وإنّما المقدار الذي دل عليه الدليل هو في أفعاله التي تعلق بها غرض المولى - لا مطلق الأفعال حتى لو كانت عادية كالعبث باللحية وحك الوجه مثلاً - .

وعليه: فمجرد إجراء العقد ليس معصية تكليفية للسيد، وإنّما معصية السيد هو ترتيب الأثر عليه، فبقرينة المقابلة يكون المعنى: إن عقده ليس مما لم يرتب الله الأثر عليه، وذلك لتشريع أصله مع إيقافه على إذن السيد.

3- ما قيل: من أن النهي لو كان متعلقاً بالمسبّب - أي إيجاد العلقة

ص: 252


1- بحوث في علم الأصول 3: 133.

الزوجية - فهذا النهي غير قابل للعصيان أبداً، إذ مع عدم الإمضاء لا يقع المسبب، ومع الإمضاء لا عصيان، وحيث يستحيل العصيان التكليفي فلا معنى للنهي التكليفي، بل لابد من حمل النهي على الإرشاد.

الدليل الثاني: ما ذكره المحقق النائيني(1)

وحاصله: أن الأمر والنهي الشرعيين موجبان لخروج متعلقهما عن سلطة المكلف، فيكون في عالم التشريع مقهوراً على الفعل أو الترك.

ففي الواجب يكون مقهوراً على الفعل تشريعاً، ولذا لا يجوز أخذ الأجرة على الواجبات، لخروج الفعل بالإيجاب الشرعي عن تحت القدرة والسلطنة، فلا يمكنه تمليكه إلى الغير ليأخذ أجرة عليه، نعم لو تعلق الإيجاب بنفس الإيجاد لا بالعمل فحينئذٍ يمكنه أخذ الأجرة على العمل، كما في الصناعات النظامية، لأن الوجوب تعلق بالإيجاد لا بالعمل!! وكذا في عدم جواز بيع منذور الصدقة أو مشروطها ضمن العقد.

وهكذا في الحرام، يكون المكلف مقهوراً على الترك، فيخرج الفعل عن سلطنته، فيكون النهي مخصصاً لعموم قوله: «الناس مسلطون على أموالهم»(2)،

إذ من شرائط صحة المعاملة السلطنة وعدم الحجر.

إن قلت: إن الوجوب والحرمة لا ينافيان السلطنة!!

قلت: لا معنى لبقاء السلطنة مع المنع الشرعي، كما لا معنى لبقائها مع سلب السلطنة عن نفسه بنذر أو شرط، بعد ما دلّ الدليل على لزوم الوفاء

ص: 253


1- فوائد الأصول 1: 472.
2- عوالي اللئالي 1: 222.

بالنذر والشرط.

والحاصل: إن الممنوع عنه شرعاً موجب لسلب السلطنة، ومعه لا صحة للمعاملة.

ويرد عليه: أولاً: إنه مصادرة، لأن عدم السلطة على المعاملة هي محل البحث، أي هل النهي يوجب رفع السلطة على المسبّب أم لا يوجبه، فالاستدلال بعدم السلطة هو عين مدعى القائل بالفساد.

وثانياً: إنه لا ملازمة بين حرمة الشيء وترتب آثاره عليه، إذ لا دليل على التلازم بين الوضع والتكليف، فحرمة الغسل بماء مغصوب لا يعني عدم حصول الطهارة به، كذلك حرمة المعاملة لا تعني ارتفاع السببيّة بوجه من الوجوه - لا لفظاً وعقلاً - فعدم السلطنة تكليفاً لا تلازم عدمها وضعاً.

وثالثاً: الإشكال على ما ذكره من الأمثلة، فأما الواجبات فحرمة أخذ الأجرة عليها لعدم وصول مقابلها إلى دافع المال، لا لأجل وجوبها.

كما أنه في الصناعات النظامية لا يعقل تعلق الإيجاب بالإيجاد مع عدم تعلقه بالوجود، وذلك لوحدة الإيجاد والوجود حقيقة، والاختلاف بينهما بالاعتبار فقط - فإذا نُسب الوجود إلى الفاعل كان إيجاداً، وإذا نسب إلى القابل كان وجوداً - فلا معنى لتفكيك الوجوب حينئذٍ، فتأمل.

كما أن دليل وجوب الوفاء بالنذر والشرط لا يدلان على أكثر من عدم جواز إزالة موضوع الوفاء بالكلية، فأي مانع من بيعه مع اطمئنانه برجوعه إليه حين الوفاء بالنذر أو الشرط؟!

القول الثاني: دلالة النهي في المسبب على الصحة

ص: 254

واستدل له: بأنه لابد من كون المنهي عنه مقدوراً، لعدم جواز تعلق التكليف بالممتنع، ومع فساد المنهي عنه لا قدرة على تحقيقه، فيكون النهي عنه لغواً، وعليه فإن عدم لغوية النهي تستدعي عدم فساد المنهي عنه.

ويرد عليه: أولاً: النقض بالعبادات، وقد قلنا هناك بأن المراد: (العبادة لولا النهي)، وفي المعاملة نقول أيضاً إنها لولا النهي مقدورة، فبالنهي قد زالت القدرة، وهذا النوع من القدرة - أي التي تزول بعد الحكم - لا دليل على اشتراطها، بل لابد من كون الشيء مقدوراً قبل تعلق النهي، نعم في الأوامر لابد من بقاء القدرة حتى بعد الأمر.

وثانياً: ما مرّ من أن الإنشاء هو إيجاد الشيء في عالم الإنشاء - على بعض المباني - ، وذلك قد يستتبع اعتبار شرعي وعقلائي وقد لا يستتبع، ولذا يصدق البيع حقيقة على بيع الغاصب مع عدم تحقق الاعتبار الشرعي.

وفي النهي عن المسبّب يكون متعلق التحريم هو الوجود الإنشائي، وهو مقدور لعدم توقفه على الاعتبار الشرعي، بل بالعكس الاعتبار الشرعي يتوقف عليه، فيمكن للشارع عدم الاعتبار الشرعي للمعاملة - وهو معنى الفساد - مع تحقق الوجود الإنشائي، وعليه: فلا دلالة للنهي على الصحة.

وهنا مباني أخرى في إنشاء الملكية تطلب في كتاب المكاسب.

فالصحيح هو أن النهي عن المسبب لا يدل على صحة أو فساد، بل الحكم بصحة المعاملة إنّما هو لإطلاق دليلها الجاري حتى في مورد النهي.

القسم الثالث: النهي عن آثار المسبّب

1- فإذا تعلق النهي بأثر مع كون ذلك الأثر مقتضى العقد، كالنهي عن

ص: 255

التصرف في الثمن في البيع، في قوله: «ثمن العذرة من السُحت»(1)

مثلاً، أو كالنهي عن الوطي في النكاح، فحينئذٍ يدلّ النهي على الفساد، للدلالة الالتزامية العرفية على بطلان المعاملة حينئذٍ.

2- وأما لو تعلق النهي بأثر ليس هو مقتضى العقد، وإنّما من الآثار التي ترتب عليه...

فقد يقال: بدلالته على الفساد، وذلك لأن صحة المعاملة تستلزم تقييد دليل ذلك الأثر، والأصل عدم التقييد مما يلزم منه بطلان المعاملة.

وفيه نظر: وذلك لأنه قد يكون دليل الأثر لبياً أو لفظياً من غير إطلاق، مضافاً إلى أن أصالة عدم التقييد إن أريد بها الأصل العملي فهذا اللازم مثبت، وإن أريد بها الأصل العقلائي فإن العقلاء لا يجرونها لإثبات هذا الأثر، وبعبارة أخرى - كما قيل -: إنه لا تجري أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص.

القسم الرابع: النهي عن التسبيب

وهذا في الحقيقة يرجع إلى النهي عن السبب أو المسبب، وإلا فلا يتصور النهي عن التسبيب من غير نهي عن السبب أو المسبب.

وأما ما مثلوا له من المراهنة بعوض، حيث لا يحرم التمليك بعوض، كما لا تحرم المراهنة بذاتها وإنّما المحرم التسبيب إلى حصول التمليك بهذا السبب الخاص.

فغير سديد لأن المراهنة بذاتها ليست معاملة ولا سبباً، والكلام إنّما هو

ص: 256


1- الاستبصار 3: 56.

في النهي المتعلق بالمعاملة، ولا تكون إلا المراهنة بعوض، والنهي فيها ليس عن التسبيب بل عن نفس السبب أو المسبب، فتأمل.

تتمة

قد يقال(1): بأنه عند الشك في المولوية والإرشادية، فالأصل هو عدم النفوذ وعدم المشروعية.

إن قلت: دليل البراءة يدل على الصحة، وذلك لأنه مع اقتران المعاملة بمشكوك المانعية يشك في تأثيرها في النقل والانتقال، فتكون المانعية مرفوعة بدليل البراءة!!

قلت: لا تجري أصالة البراءة لا عقلاً ولا نقلاً.

أما عقلاً: فلأن جريانها لنفي العقوبة، ولا إلزام في المعاملة كي تنفي العقوبة المحتملة.

وأما نقلاً: فلأن مجرى البرائة النقلية هو الامتنان، ولا امتنان هنا في إثبات الصحة برفع المشكوك المانعيّة.

لا يقال: إن دليل الحلية كقوله: «كل شيء هو لك حلال»(2) و{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(3)

ليس مسوقاً للامتنان، وحينئذٍ فمع اقتران المعاملة بمشكوك المانعية يشك في حليتها وضعاً أي في نفوذها في النقل والانتقال، فبدليل الحلية يثبت كونها حلالاً وضعاً مؤثرة في النقل والانتقال.

ص: 257


1- نهاية الأفكار 1: 460.
2- الكافي 5: 313.
3- سورة البقرة، الآية: 275.

لأنه يقال: ظاهر دليل الحلية هو الحلية التكليفية، ولذا لم يتوهم أحد من الأصحاب جريان هذه الأدلة في أبواب المعاملات لإثبات الصحة فيها.

وعليه: فمع عدم جريان أصالة البراءة عن المانعية، يجري الأصل المسببي وهو الاستصحاب، وهو يعني عدم نفوذ المعاملة وعدم مشروعيتها.

ويرد عليه: أولاً: إنه لا فرق في العقوبة بين كونه يترتب على نفس العمل أو على ما يستلزمه العمل، فدليل البراءة يجري في كلا الحالتين، نعم يمكن القول بأن البراءة العقلية تنفي لزوم المعاملة ولا تنفي أصلها، وبعبارة أخرى تنفي الأمر الإلزامي بوجوب الوفاء لأن هذا مما يترتب على مخالفته العقوبة.

وثانياً: بأن المناط في الامتنان مصب الحكم لا مآله، وإلا فلا يخلو حكم امتناني من عدم الامتنان في مآله، فتقرير فعل العبد - بالحكم بالصحة فيه - امتنان عليه، وإن استلزم وجوب الوفاء، فتأمل.

ص: 258

المقصد الثالث في المفاهيم وفيه مقدمتان وفصول

اشارة

ص: 259

ص: 260

المقدمة الأولى: في تعريف المفهوم وتمييزه عن المنطوق

فالمنطوق هو المعنى المطابقي أو التضمني للّفظ، وأما إنكار المحقق النائيني للدلالة التضمنية(1)

فغير وارد.

والمفهوم هو معنى التزامي، ولكن ليس كل معنى التزامي بمفهوم اصطلاحاً، فليس (الجود) مفهوماً اصطلاحياً لكلمة (حاتم) مع أنه معنى التزامي له، وكذا ليس وجوب المقدمة مفهوماً للّفظ الدال على وجوب ذي المقدمة، فلابد من تمييز المعاني الالتزامية ليتحدّد المفهوم فيها، وقد ذكرت وجوه لهذا التحديد، منها:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني(2)،

وحاصله: أن المفهوم ليس لازماً لنفس المعنى المطابقي للّفظ، وإنّما هو لازم الخصوصية الموجودة فيه - سواء كانت دلالة اللفظ على تلك الخصوصية بالوضع أم بمقدمات الحكمة - فكان مفهوم الشرط من المفاهيم، لأنه ليس لازماً للربط، وإنّما هو لازم لخصوصية في الربط وهي كونه بنحو العلة المنحصرة، ولم يكن وجوب المقدمة مثلاً من المفاهيم إذ هو لازم لأصل وجوب المقدمة.

وأورد عليه: بخروج مفهوم الموافقة، لأنه ليس لازم للخصوصية وإنّما

ص: 261


1- فوائد الأصول 1: 476.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 415.

لأصل المعنى، فمثل قوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفّٖ}(1)

لازم معناه حرمة الضرب، وليس حرمة الضرب لازمة لخصوصية.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني(2)،

وحاصله: أنه لو اشتمل الكلام على قضيتين، فالمذكورة منهما هي المنطوق، وغير المذكورة هي المفهوم.

وذلك لأن المعنى إما يفهم من نفس اللفظ أولاً وبالذات فهذا هو المنطوق، وإما يفهم منه بالتبع فهو المفهوم، فلابد في المفهوم من فهمه من نفس اللفظ ولكن بالتبع، فإذا فُهم معنى لكن ليس من اللفظ وإنّما بدلالة العقل - مثلاً - أو لم يفهم من كلام واحد وإنّما من كلامين فليس من المفهوم في شيء.

وهذا وجه وجيه ولا يرد عليه شيء مما أورد على سائر الوجوه، وهو أقرب إلى الارتكاز العرفي.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق النائيني(3) وحاصله: أن المفهوم هو لازم اللفظ مع كونه بيّناً بالمعنى الأخص، بمعنى أنه من مجرد تصور الملزوم ينتقل الذهن إلى اللازم، فليس من المفهوم ما لو كان لازماً غير بيّن، وذلك لعدم وضوح الملازمة، أو كان بيّناً بالمعنى الأعم، وذلك لعدم كفاية تصور الملزوم للانتقال إلى اللازم، بل لابد من تصور الملزوم والملازمة، مع كون

ص: 262


1- سورة الإسراء، الآية: 23.
2- نهاية الدراية 2: 409-410.
3- فوائد الأصول 1: 477.

الملازمة واضحة، كأقل الحمل المستفاد من آيتين.

وأما استدلالهم لإثبات المفهوم بوجوه عقلية دقيقة، حيث أثبتوا اللازم عبرها، فاحتياج إثبات اللازم إليها يدخله في اللازم البيّن بالمعنى الأعم، أو اللازم غير البين!!

فلعلّ تلك الأدلة توجيه عقلي لأمر ارتكازي عرفي، لا أن اللزوم يتوقف على إثباتها.

وأورد عليه: بدخول الكنايات مثل (الجود) الذي هو لازم بيّن بالمعنى الأخص للفظ (حاتم) مع أنه ليس من المفاهيم، وكذلك نظير دلالة مطهريّة الشيء على كونه طاهراً.

ولذلك عدّل المحقق العراقي(1) التعريف إلى «أن المفهوم هو قضية غير مذكورة - إما بحكمها أو بموضوعها - لازمة لقضية مذكورة لزوماً بيناً بالمعنى الأخص»، فيدخل في التعريف مفهوم الشرط، حيث إن الموضوع وإن كان واحداً في القضيتين إلا أن الحكم مختلف حيث إن أحدهما مذكور والآخر غير مذكور، وكذا يدخل فيه مفهوم الموافقة، إذ تارة يكون الحكم المذكور واحداً في المفهوم والمنطوق سواء مع اختلاف الموضوع كما لو قال: (لا تُهن عبد زيد) فمفهومه بالأولوية لا تُهن نفس زيد أيضاً، أو مع اختلاف الحكم كقوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفّٖ}(2)

ومفهومه لا تضربهما.

ص: 263


1- نهاية الأفكار 1: 469.
2- سورة الإسراء، الآية: 23.

ومن ذلك يتضح أن تعريف المفهوم بأنه: (حكم لغير مذكور) أو (حكم غير مذكور) ليس بتام.

المقدمة الثانية: في سبب دلالة الجملة على المفهوم

ولابد من تحقق أمرين معاً لكي تتحقق الدلالة على المفهوم.

الأمر الأول: عدم الانفكاك، بأن يكون الربط بينهما دائمياً، بحيث يعلم عدم تحقق الآخر عند فقدان أحدهما بسبب لعدم الانفكاك.

وقد يقال: بأنه يلزم كون الربط بنحو العلة المنحصرة، فلابد من 1- اللزوم بينهما لا الاتفاق، 2- والعليّة التامة لا أن يكونا معلولين لعلة ثالثة، ولا كون أحدهما جزء علة للآخر، 3- وأن تكون علة منحصرة لا بديل لها.

وفيه: كفاية عدم الانفكاك، وحينئذٍ لا فرق بين وجود العِليّة وعدم وجودها، ولا بين كون أحدهما علة للآخر أم كون كليهما معلولين لثالث، ولا بين العلة التامة وجزء العلة، إذ مع عدم الانفكاك لا يعقل وجود أحدهما دون الآخر، وإلاّ كان خلفاً.

ثم إنه بناءً على لزوم العليّة الانحصارية، كيف يمكن استفادة ذلك من الجملة؟

قد يقال: إن الانحصار يستفاد من النسبة - التي هي الوجود الرابط - إما من الأداة كأدوات الشرط في الجمل الشرطية، أو من هيأة الجملة كما في الجملة الوصفية.

وأشكل عليه: بأنه على مبنى كون المعنى الحرفي هو الوجود الرابط، لا فرق في النسبة بين النسبة الانحصارية وغير الانحصارية، إذ الانحصار

ص: 264

وعدمه ينتزعان من ملاحظة عدم وجود تلك النسبة في الموارد الأخرى، وهذا لا يرتبط بمدلولها، ففي الشرط مثلاً ينتزع الانحصار من عدم وجود الجزاء مع عدم الشرط.

وعلى مبنى كون المعنى الحرفي إيجادي، فإنه لا فرق في الإيجاد بين انحصار الموجد وعدم انحصاره، فتأمل.

الأمر الثاني: أن يكون الحكم في الجملة طبيعي الحكم أي سنخه، لا شخصه.

وذلك لأن انتفاء شخص الحكم لا ينافي وجود شخص آخر منه، والمراد من (طبيعي الحكم) هو الطبيعي بنحو اللا بشرط المقسمي، وسيأتي بيانه في مفهوم الشرط.

إن قلت(1): لا يمكن وجود الحكم السنخي، سواء كان الوجوب بمادته أم الهيأة.

1- أما لو كان بمادة الأمر، فلأن الحكم جزئي حيث تحقق بهذا الإنشاء الخاص.

2- وأما لو كان بهيأة الأمر فكذلك، حتى لو قلنا بأن الموضوع له في الحروف عام، وذلك لأن المعنى العام - وهو القدر المشترك - لا يمكن إحضاره في الذهن إلا في إحدى الخصوصيات، حيث إن الموجود الذهني جزئي أيضاً.

قلت: أما الأول فيرد عليه: أن جزئيته إنّما كانت من خصوصيات

ص: 265


1- نهاية الأفكار 1: 474-475.

الاستعمال، وذلك مما لا يرتبط بنفس الحكم.

وأما الثاني ففيه: أولاً: إن الهيأة وإن كانت تدل على النسبة الجزئية إلا أن لازمها الطلب وهو كلي، ولا يشترط اتفاق اللازم والملزوم في الكلية والجزئية.

وثانياً: بأن النسبة وإن كانت جزئية في الذهن، إلا أنها بتبع طرفيها قابلة للانطباق على الكثيرين.

أقول: أما المباني فقد تم البحث عنها في المعنى الحرفي فلا نطيل بإعادتها.

إلا أنه يمكن القول بأن المعاني الذهنية وإن كانت وجودات جزئية إلا أنها تدل على مفاهيم كلية قابلة للانطباق على كثيرين، بما أن تلك الوجودات الذهنية مرآة لها، أو بانتزاعها من تلك الوجودات.

وأما قابلية انطباق الجزئي على كثيرين بالتبع، فغير معقول إلا لو أريد الانتزاع أو المرآتية، فتأمل.

ص: 266

فصل في مفهوم الشرط

اشارة

وهيهنا بحوث:

البحث الأول: في المنطوق

قد يُتسائل عن الشيء الذي يدل على ارتباط الجزاء بالشرط؟ وهنا قولان:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني(1)

وقيل: إنه يستفاد من بعض كلمات المحقق النائيني أيضاً، وحاصله: أن شأن أداة الشرط هو جعل متلوها - أي الشرط - واقعاً موقع الفرض والتقدير، وأن الملازمة ونحوها تستفاد من ترتيب الجزاء والتالي على أمر مقدر الوجود مفروض الثبوت، ولذا قيل: إن كلمة (لو) حرف امتناع، لأن مدخولها الماضي، وفرض وجود شيء في الماضي لا يكون إلا مع عدم تحققه، فلذا يكون المفروض محالاً، وحيث رُتّب شيء على المحال في الماضي فهو محال أيضاً، إذ لو كان الشرط علته المنحصرة فإنه لم يوجد، ولو لم يكن علته المنحصرة - بأن كانت له علة أخرى أيضاً - فهي أيضاً لم توجد ولذا رُتب عدمه على عدم المفروض وجوده، فتبين أن كون (لو) حرف امتناع ليس التزاماً بالمفهوم

ص: 267


1- نهاية الدراية 2: 53، 412.

ولا بالعلية المنحصرة في الشرط.

وقد استدل لذلك بالوجدان وبملاحظة مرادفات أداة الشرط في الفارسية.

وقد يستدل له(1): بأن الجزاء قد يكون استفهاماً - مثلاً - كقولك: (إن جاء زيد فهل تكرمه؟) فهنا لا تعليق للجزاء على الشرط، إذ الاستفهام منجز وليس معلقاً على المجيء، وليس ذلك إلا لأن الشرط منجز - وهو فرض الوجود - فكذلك الجزاء.

وأشكل عليه: أولاً: بأنه لو كانت أداة الشرط تجعل متلوها مفروض الوجود لم يكن حاجة للإتيان بالفاء على الجزاء، كما يشهد لذلك المعنى الاسمي للفرض، كما لو قيل: (على فرض مجيء زيد يجيء عمرو) ولا يقال: (فيجيء عمرو) فهذا يكشف عن اختلاف المعنى!

وفيه: عدم لزوم تطابق المعنى الاسمي والحرفي في التركيب، فلذا قد يستعمل أحدهما مكان الآخر نظير: (زيد على السطح)، و(زيد فوق السطح)، وقد لا يصح الاستعمال نظير: (سرت من البصرة)، و(سرت ابتداء البصرة)، هذا مضافاً إلى عدم استعمال الفاء مع أداة الشرط أحياناً، كقولك: إن جاء زيد أخبرته بكذا، كما أنه في بعض اللغات لا تستعمل مرادفات الفاء في الجزاء عادة، وليس ذلك إلا لكيفية استعمال أهل اللسان، ولا يرتبط بحقيقة معنى الجملة الشرطية وأجزائها.

وثانياً: بأن الامتناع في مدخول (لو) إنّما هو لدلالة نفس (لو) على ذلك،

ص: 268


1- بحوث في علم الأصول 3: 149.

وليس لأجل ما ذكره من أن فرض وجود شيء في الماضي إنّما هو بسبب عدم تحقق ذلك الشيء، ودليل ذلك هو صحة استعمال (لو) مع الجهل بتحقق الشيء في الماضي مع إمكان تحققه حينذاك، في مثل: لو كان أبوك قد مات أمس فأمواله هي ملك لك.

ومن ذلك يتبين أن فرض شيء في الماضي كما يكون لعدم تحققه، كذلك قد يكون للجهل بتحققه مع احتمال التحقق واقعاً.

وثالثاً: مثال إن جاء زيد فهل تكرمه، الاستفهام في الحقيقة إنّما هو عن الملازمة، وليس عن الجزاء، فالمراد بالإرادة الجدّية هو (هل إن جاء زيد تكرمه)؟

إن قلت: يمكن النقض عليه بمثل (إن جاء زيد فأكرمه) فهل يلتزم المحقق الإصفهاني بفعلية وجوب الإكرام؟!

قلت: يمكنه الجواب بأن الإنشاء فعلي والمنشأ - وهو الحكم - أيضاً فعلي، لكنه من الواجب المعلق الذي يكون الوجوب فعلياً والواجب استقبالي، وقد مرّ الكلام في الواجب المعلق فراجع.

القول الثاني: دلالة أداة الشرط على الربط بين الشرط والجزاء.

وقد يستدل له: بالتبادر والوجدان، وأيضاً بأن الكلام قبل دخول الأداة لم يكن بحاجة إلى جزاء، كما في قولك: جاء زيد، ولكن بعد دخولها لابد من الجزاء، وسبب ذلك أحد أمرين، أولهما ينسجم مع كلا القولين، وثانيهما لا ينسجم إلا مع هذا القول، فلو أبطلنا الأول ثبت الثاني، وبه يثبت القول الثاني.

ص: 269

1- إن الأداة تبدّل النسبة في متلوّها من تامة إلى ناقصة، لذا احتيج إلى الجزاء.

2- بقاء النسبة تامة، لكن الاحتياج إلى الجزاء ليس إلا لخصوصية في الأداة، وتلك الخصوصية ليست إلا دلالة الأداة على الربط، ومن الواضح أن الربط لابد له من طرفين، وهذا ينسجم مع القول الثاني، ولكن لا توجد هذه الخصوصية بناءً على القول الأول، إذ الافتراض ليس ربطاً حتى يحتاج إلى طرف آخر.

وفيه: أنه على القول الأول أيضاً لابد من الجزاء حتى مع كون النسبة تامة، وذلك لأن الافتراض لا يكون إلا بغرض، فينتظر السامع بيان ذلك الغرض، فقولك: (نفترض مجيء زيد) جملة فيها نسبة تامة، لكن الاحتياج إلى الجزاء لأجل إفهام السامع سبب هذا الفرض.

وعليه فلا نحتاج إلى إطالة الكلام في إبطال الأمر الأول ليثبت الأمر الثاني، لما عرفت بأن كلا الأمرين ينسجمان مع كلا القولين.

البحث الثاني: في كيفية استفادة المفهوم

اشارة

وذلک يتوقف علی أمرين: 1- إثبات العلية المنحصرة أو عدم الانفكاك، 2- كون الجزاء سنخ الحكم لا شخصه.

أما الأمر الأول

فقد يقال بعدم الحاجة إليه، وعلى فرض الحاجة يكون الكلام في كيفية إثبات العِليّة أو عدم الانفكاك، وكذا الانحصار في القضايا الشرطية ليستفاد منها المفهوم، فهنا اتجاهان:

ص: 270

الاتجاه الأول: ما ذهب إليه المحقق العراقي من عدم الحاجة إلى إثبات الانحصار ولا إلى العلية، ببيان(1)

حاصله في نقاط:

1- القضية الحملية - مع قطع النظر عن دخول أداة الشرط عليها - هي قضية طبيعية بنحو اللا بشرط المقسمي، أي إثبات الحكم بنحو الطبيعة المهملة - لا الطبيعة المطلقة، ولا الحصر حيث إنهما بحاجة إلى عناية زائدة - فلذا لا مفهوم للقضايا اللقبيّة، فمثل (أكرم زيداً) لا يتعارض مع (أكرم عمراً)، لأن ثبوت الطبيعة المهملة لزيد لا ينافي ثبوت شخص آخر من هذا السنخ لعمرو.

2- إن موضوع هذه القضية له حالات مختلفة، فزيد له حالة القيام والقعود وغير ذلك، والجملة الحملية لها إطلاق من هذه الجهة، وبتعبير آخر: للموضوع إطلاق بحسب الحالات، فهذا الحكم المهمل مترتب عليه في كل تلك الحالات، فلذا لا يجوز إثبات وجوب آخر للإكرام بحسب بعض الحالات، وذلك لاستلزامه اجتماع المثلين.

ثم إن هذا الإطلاق يقتضي حصر الطبيعي بهذا الفرد، وذلك بلحاظ أن إطلاق هذا الحكم الشخصي لجميع الحالات يستلزم عدم ثبوت فرد آخر منه لموضوعه في بعض الحالات.

3- وطبع أداة الشرط الواردة على الجملة، هو أن الجملة الجزائية بما لها من المعنى الذي يقتضيه طبع القضية الحملية، تناط بالشرط.

بعد اتضاح هذه النقاط الثلاث يتضح أن مثل (إن جاء زيد فأكرمه) لازمه قهراً هو انتفاء وجوب الإكرام عن زيد عند انتفاء المجيء، وعدم

ص: 271


1- نهاية الأفكار 1: 479.

ثبوت وجوب آخر له في غير حالة المجيء، وذلك لمنافاة ثبوته مع طبع الجملة من ثبوت ذلك الوجوب لزيد في جميع حالاته - والتي منها حالة عدم المجيء - ومعنى ذلك عدم وجوب الإكرام في حالة عدم المجيء، وهذا هو المفهوم بعينه.

ويرد عليه: أن الدلالة الثالثة تصلح لأن تكون قرينة ترفع الإطلاق في الدلالة الثانية.

بيانه: أنه قبل الشرط كان لزيد إطلاق أحوالي لجميع الحالات التي منها حالة عدم المجيء، إلا أنه بعد دخول الشرط بقوله: (إن جاء زيد) فلا معنى لبقاء ذلك الإطلاق الأحوالي، فمن اللغو أن يكون معنى الكلام هو: (إن جاء زيد فيجب الإكرام المقيد بحالة عدم المجيء) بل هو من الأمر بالمحال، فإذا لم يجز التقييد لم يجز الإطلاق أيضاً، لأن هذا الإطلاق الأحوالي هو جمع للقيود في حقيقته، فتأمل.

الاتجاه الثاني: ما ذهب إليه المشهور من الاحتياج إلى إثبات العِليّة الانحصارية.

وذلك يتوقف على إثبات شيئين: الترتب بنحو العِليّة، وكونها عِليّة منحصرة.

الأول: دلالة أداة الشرط بالوضع على ترتب الجزاء على الشرط ترتب المعلول على علته، وقد ادعي على ذلك التبادر.

إن قلت: قد يكون بالعكس حيث يكون الشرط مترتباً على الجزاء، كقولنا: إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة!!

ص: 272

قلت: هنا أيضاً ترتب لكنه في مقام الإثبات أي العلم بطلوع الشمس متوقف على العلم بوجود النهار.

ويرد عليه: أن الدلالة على أصل الترتب مما لا ينكر، لكنها أعم من الترتب بنحو العلة والمعلول ومن سائر أنحاء عدم الانفكاك، فلذا لا مجازية في مثل (إن كان الضوء موجوداً فالحرارة موجودة) مع أنهما معلولان لعلة واحدة ولا ينفكان، وكذا في القضايا الاتفاقية.

الثاني: في إثبات الانحصار، وقد يستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: انصراف العلاقة اللزومية بين الشرط والجزاء إلى أكمل أفراد هذه العلاقة، وهو العلية المنحصرة.

وأورد عليه: أولاً: بمنع الكبرى - أي كون الأكملية منشأ للانصراف - إذ غالب المطلقات بعض أفرادها أكمل من بعض - لجهة من الجهات - مع عدم تحقق الانصراف إليها.

وثانياً: بمنع الصغرى - وهو أكملية اللزوم الانحصاري - إذ حقيقة العلة لا تختلف بين وجود عِدل لها أو عدم وجوده، بل الانحصار وعدمه خارج عن حقيقتها، إذ هو أمر ينتزعه الذهن حين ملاحظة العِدل أو عدمه.

إن قلت: إن الملازمة من الطرفين - أي بين وجوديهما وكذا بين انتفائيهما - يجعل الملازمة أكمل، عكس الملازمة من طرف واحد التي هي بين الوجودين فقط!!

قلت: إن كل معلول ينتفي بانتفاء علته، فإذا كان للعلة عِدل فإن ذلك معلول آخر في حقيقته لكنه من سنخ المعلول الأول، وانتفاؤه أو عدم

ص: 273

انتفائه، لا يرتبط بالعلة الأولى أصلاً، فتأمل.

الدليل الثاني: إطلاق الشرط - بمادته - بمعنى كون الشرط هو المؤثر في الجزاء، سواء سبقه شيء آخر أم قارنه أم لا، فإنه مع عدم الانحصار لا يكون هو المؤثر مع سبق العلة الأخرى، ولا يكون هو تمام المؤثر مع اقتران العلة الأخرى، وفي ذلك تقييد لأثر الشرط، فبالإطلاق ينتفي وجود علة أخرى.

وأشكل عليه: أولاً: بعدم كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة - أي وجود مؤثر آخر أم لا - فلا إطلاق، لعدم تحقق مقدمات الحكمة، بل الغالب كون المتكلم في مقام تأثير الشرط في الجزاء فقط.

وثانياً: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1)

من أن القدر المسلم من القضية الشرطية إفادة العِليّة، وصلاحية الشيء للتأثير من دون دخل شيء - وجوداً أو عدماً - في عِليّته الذاتية، وأما ترتب المعلول بالفعل على العلة فهو أمر قد يتفق سوق الإطلاق بلحاظه.

بيانه: إنه في القضايا الشرطية يكون المتكلم في مقام بيان اقتضاء هذا الشرط لتحقق الجزاء، وهذا لا ينافي عدم ترتب الجزاء لوجود مانع - مثلاً - وحينئذٍ فتأثير غيره لو سبقه لا ينافي كون الشرط مقتضياً، كما لا ينافي كون غيره مقتضياً أيضاً فيؤثران معاً لو اجتمعا.

وأجيب(2): بأن الالتزام بهذا يستلزم تأسيس فقه جديد، إذ معناه عدم

ص: 274


1- نهاية الدراية 2: 416.
2- منتقی الأصول 3: 228.

استفادة الوجوب عند تحقق الشرط في الأحاديث الشرطية، إذ لا رافع لاحتمال وجود المانع أو احتمال انتفاء شرط المقتضي، فمثل «إذا ذهب النوم بالعقل فليُعد الوضوء»(1)

يدل على الوجوب الفعلي للوضوء قطعاً، لا على اقتضائه فقط.

وفيه تأمل: إذ قلّما يكون الدليل في المسألة الفقهية هو المفهوم فقط، بل غالب الموارد يوجد دليل آخر بل أدلة أخرى إلى جنب المفهوم، هذا مضافاً إلى إمكان نفي المانع بالأصل، مع أن احتمال انتفاء شرط المقتضي كافٍ في عدم إجراء الحكم، فتأمل.

الدليل الثالث: إطلاق الشرط - بهيأته - على كونه بنحو التعيين، بمعنى أنه لا بديل له عند انتفائه، وإلاّ كان اللازم تقييده بمثل (أو كذا)، فيكون نظير إطلاق الوجوب على كونه تعيينياً لا تخييرياً، ونفسياً لا غيرياً!!

وأشكل عليه: أولاً: بما في الكفاية(2)

من أن مقدمات الحكمة لا تجري في المعاني الحرفية - ومنها الهيأة - إذ الإطلاق والتقييد فرع اللحاظ، وقد مرّ من صاحب الكفاية أن الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي هو في اللحاظ الآلي والاستقلالي، وحينئذٍ فلا إطلاق في هيأة الشرط لعدم اللحاظ فيها وإلاّ انقلبت إلى معنى اسمي.

ويرد عليه: أن الهيأة في صيغة الأمر أيضاً معنى حرفي فكيف استفاد من إطلاقها الدلالة على الوجوب التعييني وكذا الوجوب النفسي؟! وكذا في

ص: 275


1- وسائل الشيعة 1: 253.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 425-426.

استفادة الوجوب دون الندب من صيغة الأمر بناءً على وضعها لخصوص الطلب، واستفادة الوجوب من الإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة بناءً على عدم الوضع!!

وأجاب عنه المحقق الإصفهاني(1)

بأنه على مسلك المحقق الخراساني يحل الإشكال بملاحظة المعنى الحرفي الوسيع أو الضيق بتبع المعنى الاسمي، فملاحظة العلة والمعلول على نحو لا ينفك أحدهما عن الآخر هي ملاحظة العلية المنحصرة بالتبع.

أو نقول بأن مقدمات الحكمة تجري في المادة لا في الهيأة، فنقول: الصلاة بلا عِدل واجبة - مثلاً - .

وردّه في المنتقى(2)

بأن هذا يدفع الإشكال في الواجب التعييني والنفسي، ولا يدفعه في استفادة الوجوب من صيغة الأمر بناءً على وضعها للطلب، وذلك لأن الاختلاف بين الوجوب والندب لا يرتبط بمتعلقهما أصلاً، بل هو اختلاف في حقيقتهما - وذلك يرجع إلى الهيأة - فإن متعلق الوجوب هو نفس متعلق الندب، فتأمل.

وثانياً: بأن قياس ما نحن فيه على الوجوب النفسي والتعييني مع الفارق، لأن الوجوب الغيري يحتاج إلى مؤنة زائدة هي وجوب ذي المقدمة، وكذا الوجوب التخييري يحتاج إلى العِدل، فالإطلاق ينفي هذين القيدين، ويثبت الوجوب حتى مع عدم تحقق ما يتوهم كونه ذا المقدمة، وكذا حين تحقق

ص: 276


1- نهاية الدراية 2: 415.
2- منتقی الأصول 3: 225.

العِدل. وأما الانحصار أو عدم الانحصار فكلاهما قيدان زائدان.

وبعبارة أخرى: إن كيفية تأثير الشرط في الجزاء لا يختلف مع وحدة الشرط أو تعدده، فالشرط مؤثر في الجزاء بكيفية واحدة سواء كان له بديل عند انتفائه أم لم يكن له بديل.

والحاصل: إن التمسك بالإطلاق إنّما هو لنفي الخصوصية الزائدة، وفيما نحن فيه كلا المحتملين فيهما قيد زائد فلا يمكن إثبات أحدهما.

الدليل الرابع: إطلاق الجزاء في نفي العِدل، وهو ما ذكره المحقق النائيني(1)

وحاصله: أنه لو لم يكن الشرط لتحقق الموضوع - بأن أمكن أن يناط به المحمول، كالمجيء الذي لا يتوقف عليه الإكرام عقلاً - فإن أناط المولى الجزاء بذلك الشرط فلا محالة يكون الجزاء مقيداً به، في عالم الجعل والتشريع، ومقتضى إناطته به بالخصوص هو دوران الجزاء مداره وجوداً وعدماً - بمقتضى مقدمات الحكمة والإطلاق - حيث قيد المولى الجزاء بذلك الشرط، ولم يقيده بشيء غيره لا على نحو الاشتراك ولا على نحو الاستقلال، فينتفي الجزاء حينئذٍ بانتفاء الشرط، وهذا هو المفهوم بعينه.

فمقدمات الحكمة تجري في ناحية الجزاء - من حيث عدم تقييده بغير الشرط الذي جُعل في القضية - .

وبعبارة أخرى: الإكرام لا يتوقف على المجيء عقلاً، وحينئذٍ فالإكرام بالإضافة إلى المجيء إما مهمل أو مطلق أو مقيد، والإهمال ممتنع في مقام الثبوت، والإطلاق ينافي ترتب الحكم عليه، فتعين أن يكون مقيداً به.

ص: 277


1- فوائد الأصول 1: 482.

وأما إشكال عدم اختلاف العلة المنحصرة والعلة غير المنحصرة... فجوابه: بأنا لا نريد إثبات الإطلاق من هذه الجهة، بل نريد ذلك عن طريق تقيد الجزاء بوجود شرط، ومن المعلوم اختلاف التقييد مع الانحصار وعدمه.

وأورد عليه: بالنقض في كل القضايا، إذ كل حكم يترتب على موضوعه، فهل يقيد الموضوع بذلك!! ومعنى ذلك هو ثبوت المفهوم للّقب.

هذا مضافاً إلى ما ذكره المحقق الإصفهاني(1): من أن الإطلاق لا يكون إلا مع انحفاظ ذات المطلق، فالإطلاق من حيث الضميمة معقول، وأما الإطلاق من حيث البدل فلا، إذ لا يكون بدله إلا في ظرف عدمه، فلا يعقل إطلاق القيد في ظرف عدم نفسه، وقياسه بالواجب التعييني والتخييري مع الفارق، فإن الإطلاق المعيِّن للوجوب التعييني ليس في الواجب من حيث كونه ذا بدل، بل الإطلاق في الوجوب من حيث عدم كونه مشوباً بجواز الترك إلى بدل، فتأمل.

الدليل الخامس: التمسك بالإطلاق المقامي، وهو التمسك بعدم بيان المتكلم في كل مورد يكون عدم التقييد - لو أراد القيد - مُخلاً بمراده.

إن قلت: لا يمكن إجراء هذا الوجه حين الشك، لتوقف الإطلاق على مقدمات الحكمة التي منها إحراز كون المولى في مقام البيان.

قلت(2): إنه حيث كان الغالب في الاستعمالات العرفية هو استعمال

ص: 278


1- نهاية الدارية 3: 417 (الهامش).
2- منتقی الأصول 3: 237.

القضية الشرطية في هذا المقام، فكلّ ما يشك فيه يلحق بالغالب، إذ الغلبة بحد تكون من الأمارات العرفية الموجبة لظهور الكلام في ذلك!!

وهذا نظير ما عن جمع من الأعلام بأنه لا يحتاج في الإطلاق اللفظي إلى إحراز كون المولى في مقام البيان بل يكفي عدم العلم بكونه في مقام الإهمال أو الإجمال، وسيأتي توضيح ذلك في باب المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى.

هذا كله في تحقق الشرط الأول للدلالة على المفهوم، ألا وهو إثبات عدم الانفكاك أو العلية المنحصرة، وقد تبين من مجموع ما مرّ أنه يمكن ادعاء الظهور العرفي في الجملة الشرطية على الدلالة على انتفاء الجزاء حين انتفاء الشرط.

وأما الأمر الثاني

بأن يكون الجزاء سنخ الحكم لا شخصه، فلابد فيه من البحث في جهات ثلاث.

الجهة الأولی: الحاجة إلى هذا الشرط لإثبات المفهوم في القضايا الشرطية.

وقد أنكره المحقق الإصفهاني(1)، وأنه لا حاجة إليه، بل يمكن إثبات المفهوم حتى لو كان الجزاء شخص الحكم، ببيان: أن المعلق على العلة المنحصرة هو نفس وجوب الإكرام المنشأ في شخص هذه القضية، لكنه لا بما هو متشخص بلوازمه، بل بما هو وجوب، فإذا كانت علة الوجوب - بما

ص: 279


1- نهاية الدراية 2: 419.

هو وجوب - منحصرة في المجيء مثلاً، استحال أن يكون للوجوب فرد آخر بعلة أخرى.

ويمكن أن يقال: إن هذا البيان في حقيقته رجوع إلى إثبات سنخ الحكم، وإلاّ فلا أحد ينكر كون الحكم المنشأ متشخصاً وجزئياً لاستحالة إنشاء الكلي، فتأمل.

الجهة الثانية: في معنى السنخ هنا، وهو يحتمل وجوهاً:

الأول: الطبيعة الشاملة لجميع الأفراد، أي إثبات طبيعة الوجوب بحيث لا يشذ عنها فرد.

وفيه: أنّ هذا وإن كان لازمه انتفاء سنخ الحكم عقلاً، إلا أن ظاهر الأمر بالإكرام في الشرطية وغيرها على حدّ سواء(1)،

أي كما لا يُنشأ في سائر القضايا طبيعة الوجوب التي تشمل جميع الأفراد كذلك فيما نحن فيه.

الثاني(2): الطبيعة الناقضة للعدم.

أي طبيعة الوجوب، بمعنى وجودها الناقض للعدم - وإن تشخص بلوازم الوجود - .

ولازم هذا عدم الدلالة على السنخ لأن كل وجود بديل عدم نفسه، لا العدم المطلق، فانتفاؤه انتفاء نفسه لا انتفاء سنخ الوجوب.

وفيه تأمل: لأن الوجود إذا كان مطلقاً كان عدمه البديل مطلقاً أيضاً، فليس المراد عدم كل الوجودات حتى يقال إن وجود الطبيعة ليست بديلاً عن هذا

ص: 280


1- نهاية الدراية 2: 418.
2- نهاية الدراية 2: 418.

العدم، بل المراد عدم نفس الطبيعة المطلقة الذي هو مطلق مثلها، فتأمل.

الثالث: ذات الطبيعة غير المقيدة لا بالوحدة ولا بالتعدد.

وهذا مع الانحصار يلازم المفهوم، إذ ثبوت هذه الطبيعة مع عدم الشرط يكشف عن عدم الانحصار، وهذا خلف ما أثبتناه في الشرط الأول من الانحصار.

الرابع: الطبيعة بمعنى صرف الوجود - أي أول الوجودات - .

وهذا أيضاً يلازم المفهوم، لنفس ما ذكر في الوجه السابق، إذ مع عدم الشرط لو ثبت أول الوجود كشف ذلك عن عدم الانحصار، وهذا خلف.

إن قلت: الثابت بالشرط الثاني هو الوجود الثاني لا الوجود الأول، فلا خلف، حيث إن الوجود الأول منحصر في الشرط الأول، فلا ينافي إناطة الوجود الثاني بشرط آخر!

قلت(1): إذا تحقق الشرط الثاني أولاً، فإنه يتحقق به الوجود الأول، ويكفي هذا في تحقق الخلف، كما أنه لو تحقق كلا الشرطين معاً كانا مؤثرين في الوجود الأول وهذا خلف فرض الانحصار.

إن قلت: انتفاء المطلق لا ينافي ثبوت المقيد!

قلت: يتضح مما مرّ أن المقصود ليس المطلق المقابل للمقيد، بل المطلق الشامل للمقيد.

وفيه: أن لازم هذا أن المكلّف لو خالف المفهوم مرّة واحدة فلا محذور في تكرار المخالفة لأن المرة الثانية ليست أول الوجودات،

ص: 281


1- منتقی الأصول 3: 221.

والمنطوق والمفهوم كلاهما - على هذا الاحتمال - إنّما هما في أول الوجودات، فتأمل.

فتحصّل أن المتعيّن هو الاحتمال الثالث وهو بضميمة الشرط الأول يلازم المفهوم.

الجهة الثالثة: في إثبات كون السنخ - بالمعنى الذي يستلزم المفهوم - مدلولاً للكلام، وقد استدل لذلك بأمور غالبها مبنوية منها:

الوجه الأول: على مبنى القائل بأن الموضوع له في الحرف عام، فإن مدلول الهيأة في الجزاء هو مفهوم الوجوب، حيث إن الموضوع له في المعاني الحرفية عام كالأسماء، ومفهوم الوجوب كلي فيكون سنخاً، وهذا بخلاف المصداق الذي هو جزئي فيكون شخصياً.

ويرد عليه: أن كون الموضوع له في الحروف عاماً لا ينافي شخصية الحكم، إذ خصوصيات الاستعمال قد توجب جزئية المعنى كما مرّ في المعنى الحرفي، فحينئذٍ لابد من إثبات عدم الشخصية في مرحلة الاستعمال.

الوجه الثاني: على مبنى القائل بأن الموضوع له في الحروف خاص، فقد يقال: بأن المنوط بالشرط ليس مدلول الهيأة - إذ المعنى الجزئي غير قابل للتعليق - وإنّما هو المادة المنتسبة إلى الوجوب، كما عن المحقق النائيني(1).

وأورد عليه: بأن مفاد هذا الكلام هو إناطة المادة المعروضة للوجوب،

ص: 282


1- فوائد الأصول 1: 484.

ولم يذكر دليلاً على كون تلك المادة المنتسبة سنخ أم شخص.

الوجه الثالث: رجوع الحكم إلى المعتبَر - بالفتح - لا الاعتبار، والمعتبَر هو مفهوم الحكم، وهو كلي، فيكون سنخاً، وهذا نظير ما يقال: إنّ الإجازة في البيع الفضولي كاشفة حكماً حيث إن الاعتبار من حينها مع كون المعتبَر من حين العقد.

وأورد عليه: بأن ذلك لا يلازم المفهوم، إذ لا منافاة بين هذا المعتبَر - وهو المفهوم المنوط بالشرط - وبين وجود معتبَر آخر هو المفهوم غير المنوط على الشرط.

مضافاً إلى عدم تصوّر تعليق المفهوم على شيء، إذ التعليق بلحاظ وجود الشيء لا بلحاظ ذات الشيء(1).

الوجه الرابع: إن الأحكام تتعلق بالطبائع لا بالأفراد، وظاهر الطبيعة هي الطبيعة بنحو اللا بشرط المقسمي أي ذات الطبيعة غير المقيدة لا بالوحدة ولا بالتعدد - وهو المعنى الثالث للسنخ - ، وحينئذٍ فأداة الشرط وإناطة الجزاء بالشرط لا يغيّران إطلاق الجزاء، وبذلك يثبت كون الحكم في الجزاء سنخاً لا شخصاً.

الوجه الخامس: ما قيل من أن الإطلاق المقامي بنفسه يكفي في إفادة السنخ - لو استفدنا المفهوم من هذا المقام - إذ ظهور الجملة الشرطية في المفهوم مستند إلى هذا الإطلاق، فيكشف عن كون المتكلم في مقام بيان ما هو الشرط لسنخ الحكم، فتأمل.

ص: 283


1- منتقی الأصول 3: 240.

البحث الثالث: فيما لا مفهوم له من القضايا الشرطية

وقد ذكروا جملة من القضايا لا مفهوم لها، منها:

المورد الأول: النذور والأوقاف والصدقات ونحوها.

فقد ذكر المحقق الخراساني(1):

أن انتفاء الحكم في الجزاء ليس من جهة المفهوم، بل لعدم قابلية الشيء لذلك، فإنه إذا صار شيء وقفاً على أحد أو أوصى به أو نذر له فإنه لا يقبل أن يصير وقفاً على غيره أو وصية أو نذراً له، فإن الحكم المنوط هو شخصي لا كلي، وانتفاء شخص الحكم في هذه الأمور عن غير مورد المتعلّق عقلي، وذلك لانتفاء الشيء بانتفاء موضوعه.

وأشكل عليه: أولاً(2): بأن لانحصار الشرط أثرين: أحدهما: عدم ثبوت الجزاء على غير الشرط عند وجود الشرط، والآخر: عدم ثبوت الجزاء على غير الشرط عند انعدامه، والذي يمتنع تعلق الوقف عليه مرة أخرى هو الأول، وأما بالنسبة إلى حال عدمه فله أثر، لعدم امتناع وقف الموقوف على أحد على غيره بنحو الطولية وفي فرض عدمه، وعليه فلا وجه لإنكار البحث في المفهوم في المقام بعد تصور ثبوت الوقف على غير مورد الشرط عند انتفاء مورد الشرط.

وثانياً(3): إذا أنكرنا اقتضاء القضية لانحصار العلة فإنه كما في موارد

ص: 284


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 438.
2- منتقی الأصول 3: 242.
3- نهاية الأفكار 1: 483.

الحكم السنخي يحتمل وجود علة أخرى غير المذكورة في القضية، ولذا لا يحكم حينئذٍ بانتفاء السنخ عند الانتفاء، كذلك في موارد شخص الحكم يحتمل فرد علة أخرى في البين - بحيث كانت العلة للحكم الشخصي هو الجامع بينهما - وحينئذٍ فلا مجال لجعل الانتفاء عقلياً.

المورد الثاني: القضايا المسوقة لبيان تحقق الموضوع، مثل (إن رزقت ولداً فأختنه) وعدم دلالتها على المفهوم واضح، وذلك لأنه يلزم في استفادة المفهوم كون القضية في المنطوق والمفهوم واحدة مع اختلافهما في السلب والإيجاب، فلابد من انحفاظ الموضوع في المفهوم، ففي مثل (إن جاء زيد فأكرمه) يكون المفهوم (إن لم يجيء زيد فلا يجب إكرامه) فانحفظ الموضوع والمحمول في جملة الشرط والجزاء مع الفارق في السلب والإيجاب.

ولكن مع عدم بقاء الموضوع يكون انتفاء الحكم من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وليس من المفهوم في شيء.

وبعبارة أخرى(1): إن الحكم في الجزاء مقيد بموضوعه، كما أنه مقيد بالشرط، وهذان التقييدان طوليان عرفاً ودقة، أي وجوب الإكرام يتقيد بزيد ثم يتقيد هذا الوجوب بالمجيء.

وعليه فإذا كان الشرط مغايراً مع الموضوع كان مقتضى الإطلاق هو انتفاء وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء وهذا هو المفهوم.

وأما إذا كان الشرط مساوياً للموضوع بحيث كان انتفاء الشرط هو انتفاء

ص: 285


1- بحوث في علم الأصول 3: 176.

الموضوع، فحينئذٍ ينتفي الحكم في الجزاء، إلا أن انتفاؤه لأجل انتفاء موضوعه، وهذا انتفاء عقلي لا يرتبط بالجملة الشرطية أصلاً.

ثم إنه قد استثنى في البحوث(1)

ما لو كان الشرط مساوقاً مع تحقق الموضوع، لكنه ليس هو الأسلوب الوحيد لتحقق الموضوع، أي يمكن انتفاؤه مع بقاء الموضوع، نظير ما قالوه في آية النبأ، حيث إن مجيء الفاسق بالنبأ محقق لذلك النبأ الذي هو موضوع حكم التبين، إلا أنه يمكن افتراض النبأ من غير جهة الفاسق، فلا يكون انتفاؤه مساوقاً مع انتفاء مصب الحكم وموضوعه، فيكون المعنى (النبأ إن جاء به فاسق فتبينوا)، فيكون مقتضى إطلاق التعليق ثبوت المفهوم.

أقول: هذا في الحقيقة إخراج للشرط عن كونه محققاً للموضوع، وذلك عن طريق افتراض أن للنبأ حالتين، وبعبارة أخرى: إنه في المثال نفترض وجود النبأ ثم نفترض له حالتان، والحكم بالتبين منوط على إحدى الحالتين، فيكون كافتراض حالات مختلفة لزيد ثم تعليق الحكم على حالة المجيء مثلاً.

البحث الرابع: فيما لو كان الجزاء كلياً له مصاديق

فهل المفهوم هو أنه مع انتفاء الشرط ينتفي الجزاء بنحو العام المجموعي، أم بنحو العام الاستغراقي؟ كما في قوله (علیه السلام): «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء»(2)

فهل المفهوم هو أنه (إذا لم يبلغ قدر كر نجسه

ص: 286


1- بحوث في علم الأصول 3: 176.
2- الكافي 3: 2.

كل شيء) فيكون عاماً استغراقياً فينجس القليل بملاقاة كل واحدة من النجاسات، أم المفهوم (نجّسه شيءٌ ما) فلا تتحقق النجاسة إلا بملاقاته لكل النجاسات معاً فيكون عاماً مجموعياً؟

ذكر المحقق النائيني(1):

أن المفهوم تابع للمنطوق موضوعاً ومحمولاً ونسبةً، إلا أنهما يختلفان بالسلب والإيجاب، وحيث إن المنطوق كلي استغراقي فيكون المفهوم كذلك.

لا يقال: نقيض السالبة الكلية هو موجبة جزئية، فمعنى الرواية: نجاسة القليل في الجملة بنجاسةٍ ما، ولا يفيد نجاسته بجميع النجاسات.

لأنه يقال: أولاً: إن المباحث الأصولية والفقهية تبنى على الاستظهارات العرفية من الأدلة بخلاف المباحث المنطقية التي تبنى على البراهين العقلية، وحيث إن المستفاد من الحديث هو عموم السلب أي (لم ينجسه كل فرد فرد من أنواع النجاسات من البول والدم... الخ) كذلك يكون المفهوم أي (نجسه كل فرد فرد من البول والدم و...).

وثانياً: إن النكرة في سياق النفي تدل على العموم، وهذا العموم معنى حرفي يرتبط بالهيأة، فلا يمكن تعليق هذا العموم، بأن يكون المدلول في المنطوق هو تعليق (سلب العموم) على الشرط، بل المعلق هو الحكم وهو مطلق باقتضاء مقدمات الحكمة، وهذا يقتضي كونه استغراقياً.

نعم لو كانت الدلالة على العموم بالاسم، كلفظة (كل) فحيث يمكن لحاظ المعنى مع كون الموضوع له عاماً، لذا يمكن تعليق كل من (عموم

ص: 287


1- فوائد الأصول 1: 485.

الحكم) و(الحكم العام) فتعيين أحدهما بحاجة إلى قرينة.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: في مقام الثبوت: إما المعلق على الشرط هو (عموم الحكم) أي كل الأحكام على نحو العام المجموعي، فالمنفي في المفهوم حينئذٍ هو مجموع الأحكام معاً، وإما المعلق هو (الحكم العام) أي كل حكم حكم، فالمنفي في المفهوم على هذا هو كل حكم حكم.

وفي مقام الإثبات: الدال على العموم إما الاسم فيحتمل كلا الأمرين - عموم الحكم أو الحكم العام - والتعيين بحاجة إلى قرينة، وإما الحرف فيتعين الحكم العام، إذ العموم مدلول للحرف وهو غير قابل للتعليق، إذ التعليق لا يكون إلا فيما يمكن لحاظه مع كونه من المفاهيم الكلية، والمعنى الحرفي لا يمكن لحاظه وهو جزئي.

وأشكل عليه: أولاً: مبنىً بكلية المعاني الحرفية، وبإمكان لحاظها، كما مرّ.

وثانياً: في المثال بأن المنطوق فيه جزئي لا كلي، إذ هذه القضية وأمثالها تستعمل في نفي خصوص المرتبة العليا ويفهم انتفاء غيرها بالأولوية.

وفيه: أنه أشبه بالأكل من القفا، برفع اليد عن الظهور في العموم، ثم تعميم الحكم عبر الأولوية.

وثالثاً: بأن نقيض السالبة الكلية حتى عند العرف هو الموجبة الجزئية، فإن مثل (زيد في الدار) نقيض (لا أحد في الدار) عرفاً ودقةً.

وفيه: أن المقصود هو أنه يكفي في التناقض تحقق الموجبة الجزئية مقابل السالبة الكلية، وهذا أدنى درجات التناقض، وإلا فبين السالبة الكلية

ص: 288

والموجبة الكلية أيضاً تناقض، وحينئذٍ في الأمثلة الشرعية هل يراد أدنى درجات التناقض أم أعلاه؟ فهذا يرتبط بالاستظهار العرفي من الجملة.

ورابعاً: إن مدلول الجزاء - والذي عُلّق على الشرط - هو (الحكم على الطبيعة السارية)، فلا يكون المعلق عموم الحكم أو الحكم العام أصلاً.

وعليه: فالمفهوم هو انتفاء الطبيعة السارية عند انتفاء الشرط، وذلك يتحقق بانتفائه عن بعض الأفراد، ولا يتوقف على انتفائه عن جميع الأفراد، فحينئذٍ إذا كان المنطوق سالبة كلية كان المفهوم موجبة جزئية!!

وفيه: أن الطبيعة السارية عبارة أخرى عن الحكم العام، كما لا محذور في تعليق العموم بما هو عموم وإن كان في الخارج لا يتحقق إلا في ضمن الأفراد، فتأمل.

فتحصّل أنه لا إشكال على كلام المحقق النائيني سوى الإشكالات المبنائية، ومع قبول مبانيه فلا محيص عن الذهاب إلى ما ذهب إليه.

البحث الخامس: لو تعدد الشرط مع اتحاد الجزاء في جملتين

كما لو فُرض أنه قال: «إذا خفي الأذان فقصّر»، وفُرض أنه قال: «إذا خفيت الجدران فقصّر»(1)،

فحينئذٍ يقع التعارض بين منطوق كل منهما مع مفهوم الآخر، وذلك لإطلاقهما، فالمفهوم في الجملة الأولى هو إذا لم يَخْفَ الأذان فلا يجب القصر حتى وإن خفيت الجدران، وهذا يعارض منطوق الثانية، وكذا العكس.

ص: 289


1- هاتان الجملتان مصطيدتان من الأخبار، ولمراجعة نصوص الأحاديث راجع وسائل الشيعة 8: 470-473.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: مفهوم كل منهما ينفي وجوب القصر بانتفاء الشرط المذكور في المنطوق، كما أن منطوق الأخرى يثبت وجوبه بتحقق الشرط الآخر.

وهنا وجوه لرفع التعارض:

الوجه الأول: رفع اليد عن إطلاق المفهومين.

لأن النسبة هي العموم والخصوص المطلق، والمنطوقان أخص مطلقاً من المفهومين، إذ المفهوم هو (إذا لم يخف الأذان فلا يجب القصر سواء خفيت الجدران أم لا)، وهذا أعم من المنطوق في (إذا خفيت الجدران فقصّر)، وهكذا النسبة بين المفهوم والمنطوق الآخر.

وفيه: أولاً: إن النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، لا المطلق، إذ المنطوق أعم من صورة المفهوم وعدمه أيضاً، فالمنطوق هو (إذا خفيت الجدران فقصّر سواء خفي الأذان أم لا).

وثانياً: أقوائية ظهور المنطوق من ظهور المفهوم، فيقدم الأظهر على الظاهر.

الوجه الثاني: سقوط المفهومين في كلا الشرطيتين، وحينئذٍ يكون المدلول في الجملتين هو ثبوت الجزاء عند تحقق أيٍّ من الشرطين، من غير دلالة مفهومية على عدم الحكم عند فقد الشرطين أو أحدهما.

وفيه: أن التعارض إنّما هو بنحو العموم من وجه، والدلالة على المفهوم إن كانت مستندة إلى إطلاق الشرط أو الجزاء، فلا وجه لرفع اليد عن هذا الإطلاق في مورد التعارض مع مطلق آخر في مورد الاجتماع، مع كون

ص: 290

النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، بل لابد من مراعاة الطرق العلاجية لرفع التعارض، فإن لم توجد فالتساقط في مورد الاجتماع حصراً، فلا وجه لسقوط المفهوم بالمرّة.

الوجه الثالث: رفع اليد عن إطلاق الشرط في المنطوقين، واعتبار الشرط هو المركب منهما، فيتوافق المنطوقان مع المفهومين حينئذٍ، فالمعنى (إذا خفي الأذان والجدران معاً فقصّر) وهذا لا يتعارض مع المفهوم في (إذا لم تختف الجدران فلا يجب القصر)، وهكذا مع المفهوم الآخر.

وقد ذكر المحقق النائيني(1)

أن ذلك هو مقتضى العلم الإجمالي، وحاصله:

أن للشرط إطلاقين: أحدهما كونه علة تامة، أي لا بديل له فيكون مقابل (أو)، والآخر كونه علة منحصرة أي لا يحتاج إلى مكمّل فيكون مقابل (الواو)، وتعدد الشرط ينافي العلية التامة المنحصرة، فلابد من رفع اليد عن أحد الظهورين، وحيث لم يكن أحد الظهورين أقوى من ظهور الآخر، ولا أحدهما حاكماً على الآخر - لكون كليهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة - كان اللازم الجري على ما يقتضيه العلم الإجمالي، حيث نعلم بتقييد أحد الإطلاقين ولا نعلمه بالخصوص، والقدر المتيقن هو ترتب الجزاء حين حصول كلا الشرطين، وذلك لعدم العلم بترتب الجزاء لو حصل أحدهما.

وأشكل عليه(2): بأن قواعد باب التعارض تدل على التصرف في محلّ

ص: 291


1- فوائد الأصول 1: 487.
2- منتقی الأصول 3: 249-250.

المعارضة، والتعارض فيما نحن فيه إنّما هو بين مفهوم كل منهما مع منطوق الآخر، وليس محل المعارضة هو ظهور كل منهما في الاستقلال، حتى وإن كان رفع اليد عن ذلك الظهور سبباً لارتفاع المعارضة.

وبعبارة أخرى: إنه لابد من إعمال قواعد باب التعارض للجمع، وإلا كان جمعاً تبرعياً، والجمع التبرعي يرفع به المعارضة لكن لا يصار إليه، وفيما نحن فيه لا يدور الأمر بين الإطلاقين في دلالتهما على الاستقلال، بل المعارضة إنّما هي بين المنطوق والمفهوم.

وفيه: أن هذا الوجه ليس جمعاً كي يكون تبرعياً، بل هو مقتضى الأصل العملي حين لم يمکن ترجيح أحد المتعارضين على الآخر، بعد حصول التعارض بين المفهوم والمنطوق وحصول تعارض بين إطلاق الشرطين في القضيتين، أي بين إطلاق الشرط الأول في العلية التامة المنحصرة وبين إطلاق الشرط الثاني في ذلك أيضاً.

الوجه الرابع: اعتبار المؤثر في الجزاء هو الجامع بين الشرطين، فسببيّة كل شرط باعتبار كونه فرداً للجامع، وحينئذٍ يكون المفهوم في الجامع لا للفرد، فيرتفع التعارض.

وقد يستدل له: باستحالة تأثير المتعدد في الواحد.

ويرد عليه: مبنىً: ببطلان قاعدة الواحد من أساسها، كما مر.

وبناءً: بأنها في الواحد الشخصي التكويني، فلا تجري في الواحد بالنوع حيث لا مانع من تأثير المتعدد في الواحد بالنوع لتعدد الأثر واقعاً بتعدد الأفراد، كما لا تجري هذه القاعدة في الأمور الاعتبارية الجعلية، بل دليلها

ص: 292

يجري في العلل التكوينية، حيث قالوا: بأنه لابد من سنخية وربط خاص بين العلة والمعلول.

وإن أمكن الجواب عن الإشكال بالواحد النوعي: بأن المعلول الواحد نوعاً لا يمكن أن يصدر إلا من العلة الواحدة نوعاً بناءً على هذه القاعدة، فتأمل.

البحث السادس: في تداخل الأسباب والمسببات

اشارة

وذلك فيما كانت قضيتان شرطيتان، واختلف الشرط فيهما مع تشابه في الجزاء من حيث وحدة المادة، فلو فرض تحقق الشرطين معاً فهل يتعدد الجزاء وحينئذٍ يجب تكراره إذا كان حكماً تكليفياً، أم يكتفي بواحد؟

وفرق هذا عن سابقه أن ذاك كان فيما نعلم بوحدة الجزاء ولا نعلم بأن الشرط هو كل واحد بانفراد أم بالانضمام أو غير ذلك، وهذا فيما نحتمل تعدد الجزاء بتعدد الشرط.

ومعنى تداخل الأسباب هو اقتضاء الشرطين معاً لجزاء واحد فيكون تداخلاً في مقام الجعل، ومعنى تداخل المسببات هو افتراض تعدد الحكم مع كفاية الإتيان بفرد واحد فيكون تداخلاً في مقام الامتثال، فالبحث في مقامين:

المقام الأول: في تداخل الأسباب
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في أدلة عدم التداخل

ومنها:

الدليل الأول: إن عدم التداخل لا يستلزم خلافاً للظاهر أبداً، عكس التداخل حيث يستلزم منه ذلك، وبيانه: أن للجملة الشرطية ظهوران:

ص: 293

أحدهما، ظهورها في الحدوث عند الحدوث - أي حدوث الجزاء عند حدوث الشرط - والآخر: ظهور الجزاء في وحدة متعلق الحكم، وهذا يقتضي وحدة الحكم، إذ لا يمكن تعلق حكمين بموضوع واحد وإلاّ لزم اجتماع المثلين.

وبناءً على القول بعدم التداخل فإنّه مع تعدد الشرط ينتفي الظهور الثاني ويبقى الظهور الأول، وذلك لأن الظهور في الحدوث عند الحدوث مستند إلى الوضع، وأما الظهور الثاني فمستند إلى مقدمات الحكمة أي إطلاق متعلّق الحكم، حيث يدل هذا الإطلاق على أن المتعلّق إنّما هو بنحو الطبيعة السارية في الأفراد حتى لو كانت امتثالاً لحكم آخر، ومن المعلوم أن الإطلاق متوقف على عدم البيان، وللظهور الأول صلاحية لأن يكون بياناً، فيكون وارداً على الظهور الثاني، والنتيجة هي أن الحكم في كل شرطية يكون الفرد الذي لم يكن متعلقاً للحكم في الشرطية الأخرى.

وأما بناءً على القول بالتداخل يلزم إما رفع اليد عن الظهور في الحدوث عند الحدوث حيث لا يحدث الجزاء بالشرط الثاني، وإما رفع اليد عن ظهور الجزاء في الوحدة، ببيان ذكره في الكفاية(1):

بأن متعلق الجزاء وإن كان واحداً صورة إلا أنه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط لكنها متصادقة على واحد، فالذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعددة حسب تعدد الشرط إلاّ أن الاجتزاء بواحد لكونه مجمعاً.

وأورد عليه: بأنه لا يجري هذا الدليل فيما لو حدث الشرطان معاً،

ص: 294


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 455.

والحدوث يستند إلى كليهما مع وحدة الحكم فانحفظ كلا الظهورين مع القول بالتداخل.

وفيه: أنه يكفي في بطلان التداخل مخالفته للظاهر ولو في بعض الفروض، فعدم التداخل لا مخالفة فيه مطلقاً، عكس التداخل الذي فيه المخالفة غالباً - وهي ما لو تدرّج الشرطان - ولا يمكن التفصيل حينئذٍ بين حالة التقارن وحالة التدرج، للعلم بأن الحكم في كلا الحالتين على نسق واحد.

الدليل الثاني: ظهور الشرط في كونه علة مستقلة وتامة للجزاء، مع ظهوره في كونه علة للحكم لا لتأكيده، وحيث يستحيل اجتماع علتين تامتين على معلول واحد، فلابد من المصير إلى عدم التداخل.

وأورد عليه: بأن الظهور الأول مستند إلى مقدمات الحكمة والتي منها عدم البيان، ويرتفع هذا الظهور بذكر الشرط الثاني في القضية الشرطية الثانية.

الدليل الثالث: ما بيّنه المحقق النائيني(1)

وهو يتوقف على مقدمات:

1- إن القضية الشرطية هي في الحقيقة قضية طبيعية حملية، يكون الشرط موضوعاً لها والجزاء محمولاً لها، فقوله (حج إن استطعت) كقوله: (المستطيع يحج).

2- وفي القضية الحملية ينحل الحكم بانحلال الموضوع، فيتعدد الحكم بتعدد الأفراد، فكذلك في القضية الشرطية.

3- إن الطلب يتعلق بالطبيعة بنحو صرف الوجود، وهذا مدلول لفظي، فلذا يكتفى في مقام الامتثال بإتيان الطبيعة مرة واحدة، إلا أن عدم لزوم

ص: 295


1- فوائد الأصول 1: 493-496.

التكرار ليس مدلولاً لفظياً، بل هو من باب حكم العقل بأن المطلوب الواحد إذا امتثل لا يمكن امتثاله مرة أخرى، وهذا لا ينافي كون المطلوب إيجاد الطبيعة مرتين، فلو قام الدليل على أن المطلوب متعدد فلا يعارضه حكم العقل على أن امتثال الطبيعة يحصل بإتيانها.

4- ظاهر القضية الشرطية هو تأثير كل شرط لجزاء مستقل وهذا مدلول لفظي، فلا يعارضه حكم العقل بكفاية إتيان الطبيعة مرة واحدة في حصول الامتثال، لأن حكمه إنّما هو فيما لو لم يكن مقتض ٍ للتعدد، لا فيما إذا صرّح بالتعدد كما لو قال: (أكرم زيداً مرتين) أو مع الظهور اللفظي في التعدد كما فيما نحن فيه حيث ظهور الشرطيتين في تعدد التأثير والجزاء.

والحاصل: إن وحدة المطلوب إنّما هو لعدم ما يقتضي التعدد، وفيما نحن فيه يوجد المقتضي للتعدد وهو ظهور الجملة في الانحلال وتعدد المطلوب والطلب، ويكون هذا الظهور وارداً على حكم العقل بوحدة متعلق الحكم في الجزاء.

المطلب الثاني: في مقتضى الأصل العملي

لو لم يقم دليل على التداخل أو عدمه، ووصلت النوبة إلى الأصل العملي، فما هو مقتضاه؟

ذكر المحقق النائيني(1)

أن الشك قد يكون في الحكم التكليفي، وقد يكون في الحكم الوضعي.

أما الأول: فالشك في تداخل الأسباب يرجع إلى الشك في اقتضاء

ص: 296


1- فوائد الأصول 1: 490.

السبب الثاني لتعقبه بالجزاء، وتوجه التكليف به زائداً على التكليف المتوجه بالسبب الأول، فالأصل البراءة!

وأما الثاني: فربما يختلف الأصل، مثلاً لو شك في اقتضاء العيب للخيار زائداً على ما اقتضاه بيع الحيوان أو المجلس، فمقتضى الأصل هو عدم ثبوت خيار العيب، لكن يمكن أن يقال: إن مقتضى الأصل بقاء الخيار بعد الأيام الثلاثة!

ويرد على الأول: أولاً: بأنه مع جريان الأصل السببي لا تصل النوبة إلى أصالة البراءة وهي أصل مسببي، وذلك لأن التداخل إنّما هو إسقاط لسببية الثاني، وهذه السببية شرعية فتستصحب، فتأمل.

وثانياً: بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي يمكن القول بأن السبب الثاني لو كان متقدماً زماناً لأثّر أثره، فيستصحب تأثيره حتى مع تأخيره، فتأمل.

ويرد على الثاني: أولاً: بأنه لا وجه لإجراء الأصل العملي في بقاء الخيار، وذلك للعلم ببقائه، لأن التداخل - على فرض صحته في الخيار - لا يوجب رجوع الأطول مدة إلى أقصرها.

وثانياً: إن هذا الاستصحاب هو استصحاب للكلي، وهو إما قسم آخر غير أقسامه الثلاثة، إذ فيما نحن فيه نعلم بحدوث الفرد القصير ثم زواله مع الشك في أصل حدوث الخيار الآخر، فليس حدوث الفرد الثاني متقارناً مع زوال الفرد الأول، فلا يكون من القسم الثالث، كما نعلم بحدوث الفرد القصير فلا يكون من القسم الثاني، وفي هذا لا يجري الاستصحاب، وإما

ص: 297

هو من مصاديق القسم الثالث فلا يجري لعدم كونه من قسم الشديد والضعيف.

المطلب الثالث: لو لم يمكن تكرار الجزاء

إن بحث التداخل إنّما هو فيما أمكن تكرار الجزاء، كالإكرام حيث له القابلية للتعدد، وأما ما لا قابلية له للتكرار فهو خارج عن البحث، بل لا إشكال حينئذٍ في التداخل، بأن يكون كل سبب هو جزء العلة للجزاء، كالقتل إذا اجتمع سببان له.

وأما المحقق النائيني(1)

فقد ذكر أن ما لا يقبل التعدد على قسمين:

الأول: المسبب الذي يمكن تقييده بالسبب، كالقتل قصاصاً فيما لو قتل اثنان، فإنه لا يمكن قتل القاتل مرتين، لكن يمكن تقييد وجوبه بكل واحد من السببين، فيقال: قتله لأجل قتل زيد، أو قتله لأجل قتل عمرو - مثلاً - فلو ارتفع أحدهما بعفو الأولياء يبقى وجوب القصاص بحاله، وذلك لوجود السبب الآخر، وكالخيار المسبب عن أمرين فلو سقط أو أسقط أحدهما بقي الآخر.

وهذا القسم داخل في محل الكلام من التداخل وعدمه وله أثر عملي ببقاء المسبب حتى مع سقوط أحد السببين.

الثاني: المسبب الذي لا يقبل التقييد بالسبب، كوجوب القتل في حقوق الله تعالى كالارتداد والمحاربة مثلاً، وحيث لا يمكن العفو عن حق الله، فلا يقيد القتل بهذه الأسباب، فلا أثر عملي للقول بالتداخل أو عدمه، ومجرد

ص: 298


1- فوائد الأصول 1: 491.

القابلية للتأكيد ليس أثراً عملياً.

وفيه: أولاً: إنه لا أثر عملي على كل حال، إذ التداخل إنّما هو مع بقاء السببين معاً، فيستحيل استقلال كل واحد منهما بالمسبب، لاستلزامه تأثير علتين تامتين في معلول واحد، ولا وجه لترجيح أحدهما على الآخر في التأثير، لكونه ترجيحاً بلا مرجح، فلا محيص عن القول بالتداخل حينئذٍ، وأما مع سقوط أحدهما عن السببية - كالعفو عن القصاص في المثال - فإنه لا موضوع لتداخل الأسباب، أي يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع، لعدم تعدد الأسباب حينئذٍ حتى يبحث عن تداخلها.

وأما استمرار أثر الأطول مدة فهو ليس نتيجة للتداخل أو عدم التداخل، بل لأجل أن العلة المركبة منهما تؤثر أثرها في المعلول، ومن ضمن ذلك المدة الأطول، فتأمل.

وثانياً: ما يقال: من أن محذور اجتماع المثلين لا يرتفع بالتقييد، فوجود خيارين - بمعنى حق نقض الملكية - لا يعقل لكونهما مثلان، نعم يرتفع بما ذكر محذور اللغوية، لكنها لم تكن الإشكال.

المطلب الرابع: في مثال التداخل في الوضوء

إن عدم التداخل إنّما هو للظهور - الوضعي أو الإطلاقي - فلا مانع عقلاً عن رفع اليد عن هذا الظهور لو قام عليه الدليل، ومما قد يقال بقيام الدليل عليه، هو تداخل أسباب الوضوء والغسل، حيث إن الأحداث المتعددة والتي لها السببية لوجوبهما تتداخل، فيجب وضوء واحد، وكذا غسل واحد.

وقد أشكل في ذلك، بأنه ليس من باب تداخل الأسباب لوجوه، منها:

ص: 299

الإشكال الأول(1): بأن سبب الوضوء هو الحدث، وهو غير قابل للتعدد، نعم محققات الحدث كثيرة، لكن لا يتكرر الحدث بها، فالمؤثر هو أول أسبابه، فليس هناك تداخل في الأسباب، بل شرط واحد هو الحدث.

إن قلت: لم يرد في لسان الدليل سببية الحدث للوضوء والغسل؟

قلت: من قيام الدليل على كفاية وضوء واحد لجميع أسبابه، نكتشف كون سبب الوضوء:

إما العنوان الواحد الحاصل بأحد النواقض، وذلك العنوان هو السبب، وهو الحدث، ولا قابلية له للتعدد، فإن حصلت طولاً كان السبب الأول، أو عرضاً كانت السببية لها جميعاً بمعنى كون كل واحد جزء السبب.

وإما السبب هو صرف الوجود من النواقض، وهو يحصل بأول سبب حصل في الخارج لا مطلق الوجود القابل للتكرار.

ولا يمكن القول بأن المسبب - وهو الطهارة الحاصلة بأول وضوء - غير قابل للتعدد أو التأكيد أو الانتساب إلى سبب من حيث وإلى سبب آخر من حيث آخر، وذلك لورود الدليل على أن الوضوء على الوضوء نور.

وأجيب أولاً: بأنه لا محذور عقلاً في تعدد الحدث، ولا دليل نقلي على عدم قابليته للتعدد، لكونه أمراً اعتبارياً، ولا مانع من تعدد الاعتبار فيه.

وفيه: أن تعدد الاعتبار لابد أن يكون لغرض عقلائي، ومع الاكتفاء بوضوء واحد وعدم ترتب أي أثر آخر على تعدده فلا وجه للاعتبارات الأخرى، وهذا هو معنى عدم قابليته للتعدد.

ص: 300


1- فوائد الأصول 1: 498.

وثانياً: بأن سبب الوضوء ليس هو الحدث ولا النواقض أصلاً، بل إما جهة الاستحباب النفسي، أي الكون على الطهارة، وهو واحد، أو شرطيته للصلاة ونحوها، ومع تعدد المشروط يمكن الالتزام بتعدد الأسباب حينئذٍ، فتأمل.

الإشكال الثاني: أن يقال: إن الوضوء محقق للطهارة، والنواقض نواقض لها، فالمجعول هو الطهارة، وذلك لظهور الروايات في وجود شيء مجعول ومستمر، ولا يمكن أن يكون الوضوء لتصرمه، ولا الحدث لعدم ذكره في الروايات بل هو وارد في لسان الفقهاء.

وعليه يتضح سبب التداخل، إذ النقض غير قابل للتعدد، فلو حصل أول سبب انتقضت الطهارة، فلا يكون الثاني نقضاً لامتناع حصول الحاصل.

وفيه: أن النواقض ليست سبباً للوضوء كي يُصار إلى تداخلها، بل النواقض أسباب على البدل لنقض الطهارة - على هذا المبنى - فليس كفاية الوضوء الواحد مع تعدد النواقض لأجل التداخل في أسبابه - وهذا هو محل الكلام - فتأمل.

ثم بناءً على تعدد الحدث وتداخله بحيث يكتفى بوضوء واحد في رفع جميع الأحداث، فلو نوى رفع حدث دون آخر - في خصوص الوضوء دون الغسل - فقد يقال ببطلان الوضوء حينئذٍ:

1- إما لأنه تشريع، حيث لم يشرع الشارع الوضوء الرافع لبعض الأحداث دون بعض، فيبطل العمل من جهة التشريع، لعدم قصد الأمر، فلا قصد للقربة، لأن ما قصده غير مأمور به، وهو لم يقصد المأمور به.

2- وإما للتناقض في النية، إذ رفع بعض الأحداث ملازم لرفع بقية

ص: 301

الأحداث، فلا يمكن نية عدم رفع البعض.

اللهم إلا أن يقال بأنه تناقض هذه النية لا ينافي صحة أصل العمل، لأنه أتى بالعمل بقصد القربة، فضميمة نية أخرى لا تبطل العمل - إلا لو استلزم محذور آخر كالتشريع - .

المطلب الخامس: فيما ذكره فخر المحققين

وهو ابتناء التداخل وعدمه على كون الأسباب الشرعية معرّفات فتتداخل الأسباب، أو مؤثرات فلا تتداخل.

والمراد من (المؤثر) كونه سبباً واقعياً أفصح عنه الشارع، ومن (المعرّف) كون السبب الواقعي شيئاً آخر، وإنّما المذكور يلازمه فيكون عنواناً له، وإنّما لم يذكر الشرط الواقعي لصعوبة إفهامه للمكلف، فيؤتى بلازمه الذي يفهمه المخاطب.

فبناءً على كونها معرّفات يحتمل وحدة الشرط الواقعي، فتكون الشروط المتعددة عنواناً للشرط الواقعي - الذي هو واحد - ولا محذور في تعدد العنوان، كما يحتمل تعدد الشرط الواقعي فيكون كل شرط مذكور عنواناً لشرط واقعي، وحينئذٍ...

فإن لم يقم دليل على ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر، فالأصل البراءة عن الحكم الزائد - أي التكليف الثاني - ، أي مع تحقق الشرط الثاني نشك في حدوث تكليف ثانٍ متعلّق بالمسبب، فالأصل عدمه.

وقد يقال: بوجود الدليل على ترجيح الاحتمال الثاني - أي تعدد الشرط الواقعي - فلا تصل النوبة إلى الأصل، وذلك لأحد وجوه، منها:

الوجه الأول: دلالة الجملة على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط،

ص: 302

وهو يقتضي تعدد الجزاء بتعدد الشرط.

وأشكل عليه(1): بأن الجملة إنّما تدل على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط الواقعي، فإذا فرض كون الشرط الواقعي غير مذكور، فلا طريق للعلم بوحدته أو تعدده، فلا دليل على تعدد الشرط الواقعي كي يتعدد الجزاء بتعدده.

وفيه: أن المقصود هو ظهور الجملة في حدوث الجزاء للشرط المذكور حتى لو لم يكن واقعياً، وصِرف الاحتمال لا يوجب رفع اليد عن الظهور.

وبعبارة أخرى: إن الشرط الواقعي وإن كان غير مذكور - بناءً على كون الأسباب معرفات - إلا أن المذكور عنوان له، وظاهر تعدد العنوان هو تعدد المعنون.

الوجه الثاني: ظاهر كون الشرط معرفاً هو المعرفية الفعلية، فيمتنع أن يكون كلا الشرطين - مع تعاقبهما - معرفاً فعلاً للحكم الواحد، إذ لا معنى للعلم بالحكم ثانياً بعد تحقق العلم به أولاً، فلابد من تعدد الحكم المعرَّف، والحاصل أن تعدد المعرِّف يستدعي تعدد المعرَّف!

وأشكل عليه: أولاً: بأن المخاطب قد يكون متعدداً فذكر معرِّف لكل واحد منهما للشيء الواحد لا ينافي وحدة المعرَّف.

وثانياً(2): بأن المراد من المعرفية هو المرآتية، وهذا لا ينافي تعدد المرآة مع وحدة المرئي.

ص: 303


1- منتقی الأصول 3: 264.
2- منتقی الأصول 3: 265.
المقام الثاني: في تداخل المسببات
اشارة

وهو بمعنى أن تكون الأسباب المتعددة سبباً لتعدد الأحكام مع الاكتفاء بامتثال واحد، وهو صورتان:

الصورة الأولى: كون متعلق الحكمين طبيعة واحدة - كالإكرام مثلاً - .

والظاهر عدم معقولية التداخل، وذلك لاستحالة تعلق حكمين بطبيعة واحدة، لاستلزامه اجتماع المثلين، بل لابد من الذهاب إلى تعلق الحكمين بفردين من الطبيعة، فإن الأصل هو تعلق الأحكام بالطبائع كما مرّ، إلا أن محذور اجتماع المثلين سبب للذهاب إلى تعلقها بالأفراد فيما نحن فيه، وحينئذٍ فلا اكتفاء بفرد واحد، بل لابد من الإتيان بالأفراد المتعددة وحسب تعدد الأسباب.

إن قلت: ورد في الشرع موارد يكتفى فيها بفرد واحد في امتثال الأوامر المتعددة، كالاكتفاء بغسل واحد عن الجنابة والحيض - مثلاً - ، وكذا في الوضوء بعد الأحداث المتعددة.

قلت: أولاً: في هذين المثالين احتمالات متعددة ثبوتاً، منها: وحدة الحكم لا تعدده، ومنها: تعدد الحكم لفردين لكن الاكتفاء بواحد ليس من باب تداخل المسببات بل لأجل فوات موضوع الحكم الثاني، ومع تعدد الاحتمالات ثبوتاً لا طريق لإثبات تداخل المسبّبات في هذه الأمثلة.

وثانياً: ما مرّ من أنّ الأسباب المتعددة توجب حدثاً واحداً وهو يرتفع بوضوء واحد، أو أن الحدث - حتى لو كان متعدداً - ليس سبباً للوضوء، وإنّما ترتفع كل هذه الأحداث بوضوء واحد، فالمأمور به وضوء واحد، فخرج المورد عن تعدد المسببات، وبعبارة أخرى: لو قلنا بتعدد الحدث

ص: 304

فالمسبب للنواقض هو أحداث متعددة، وليس الكلام في تداخل هذه المسببات، وإنّما الكلام في ارتفاع كلها بوضوء أو غسل واحد، فلا يرتبط ذلك بتداخل المسببات(1).

الصورة الثانية: كون متعلق الحكمين طبيعيتن تصادقتا في واحد، سواء كان تغايرهما بالذات كالإكرام والضيافة، أم لم يكن التغاير بالذات وإنّما بقيود الطبيعة، كصلاة نافلة المغرب وصلاة الغفيلة، فكلاهما من طبيعة واحدة هي الصلاة لكن يختلفان بالقيود.

فالظاهر أنه لا تداخل للمسببات هنا، وإنّما يرجع في حقيقته إلى تداخل الأسباب، فلو قال: أكرم العالم، وقال: أكرم الهاشمي، فلا يكتفي بإكرام العالم الهاشمي، إلا بتداخل الأسباب، وذلك لاستحالة اجتماع حكمين في المجمع لاجتماع المثلين.

إن قلت: لا محذور في الحكمين في المجمع لاختلاف المتعلقين، إذ يختلف الحكمان في مصاديق كثيرة فلا محذور في صدور الحكمين من المولى.

قلت: ليس الكلام في جواز صدور حكمين من المولى، إذ يكفي في صحتهما اختلاف المتعلق، وإنّما الكلام في أنه في المجمع يستحيل اجتماع حكمين، وقد مرّ الكلام فيه في بحث اجتماع الأمر والنهي.

إن قلت: المجمع هو مصداق متعلق الحكمين - أي صرف الوجود من كل طبيعة - لا نفس المتعلّق.

ص: 305


1- منتقی الأصول 3: 266.

قلت: الطبيعة هي أمر انتزاعي من الأفراد الخارجية، فمتعلق الغرض في الحقيقة هو الأفراد والطبيعة مرآة لها.

إن قلت: إن العرف يرى أن العمل الواحد المنطبق عليه عناوين متعددة، أكثر ثواباً مما كان له عنوان واحد.

قلت: إن أكثرية الثواب ينسجم مع تأكد الحكم، وليس دليلاً على تعدده.

وحيث رجع الأمر إلى تداخل الأسباب فلابد من مراجعة الدليل لنرى كيفية ظهوره، وهل هو ظاهر في التداخل أو عدمه.

ويمكن ادعاء أنه مع كون الجملة شرطية فالظهور في التعدد، ولذا لا يكتفى في النذر المتعدد بوفاء واحد، وأما مع إنشاء الحكم ابتداء منجزاً غير معلق على شرط كما لو قال: (أكرم العالم) و(أضف الهاشمي) فالأقرب الظهور في التداخل، وذلك لتحقق غرض المولى من كلا الأمرين، فتأمل.

تتمتان

التتمة الأولى: بناءً على إمكان التداخل، فهل يكفي في امتثالهما في العبادات قصد أحدهما بحيث يسقط الأمر الآخر حتى مع عدم قصده بل وقصد عدمه، أم لابد من قصدهما معاً ليتحقق امتثالهما؟

والجواب: إن كان قصد الشيء بعنوانه جزءاً من المتعلق، فلا يتحقق بدونه، إذ لابد في الامتثال من إتيان الشيء بكل أجزائه وشروطه.

وإن لم يكن قصد الشيء بعنوانه جزءاً، بل قلنا بكفاية ارتباط العمل بالمولى في صحته، بأن يكون هناك أمر واقعي من المولى مع قصد العبد

ص: 306

امتثال أمر المولى - ولو الأمر الآخر - فحينئذٍ يسقط الأمر الآخر حتى لو لم يقصده العبد، وذلك لتحقق الامتثال بمطابقة المأتي به للمأمور به، فتأمل.

التتمة الثانية: في مثال تداخل النافلة والغفيلة

بناءً على إمكان التداخل في المسببات، فهل يمكن الاجتزاء بالغفيلة عن ركعتين من نافلة المغرب؟

قد يقال: إن التمييز في العبادات المتشابهة صورة إنّما هو بالقصد، فصلاة الصبح ونافلتها - مثلاً - متشابهتان صورة في كل الجهات إلا في النية.

وحينئذٍ فقد يكون القصدان متنافيين بحيث لا يجتمعان كالمثال، وقد لا يتنافيان كالقيام تعظيماً وفسحاً، وكإكرام رجل عالم هاشمي بقصد إكرام العالم وقصد إكرام الهاشمي.

وفي النافلة والغفيلة حيث لا نعلم بتنافي القصدين أو عدم تنافيهما، فلا علم لنا بفراغ الذمة من كلا التكليفين لو أتى بصلاة واحدة بقصدهما، فالمرجع قاعدة الاشتغال، لجريانها حتى في المستحبات.

وفيه: أن الأصل عدم تنافي القصود، فيكون حاكماً على أصالة الاشتغال، وبعبارة أخرى: إن التنافي إنّما يكون لو أخذ القصد بشرط لا، وأصالة عدم التقييد تكون محكمة، ونتيجتها هو كون القصد لا بشرط، فتأمل.

ص: 307

فصل في مفهوم الوصف

مرّ في أول بحث المفاهيم أنه لابد في إثبات المفهوم من إحراز أمرين: الترتب الانحصاري، وكون الحكم سنخياً لا شخصياً، ففي الوصف إن لم يكن الحكم منحصراً في الموضوع المقيد بالوصف، أو كان الحكم شخصياً فلا دلالة له على المفهوم.

أما الأول: فأقصى ما يدل عليه الكلام هو أن البعث أو الزجر تعلّق بالموضوع الموصوف، ولا دلالة له على الترتب فضلاً عن الانحصار.

وأما الثاني: فلأنه(1)

لا دلالة للقضية بطبعها على كون الحكم المعلّق على الوصف هو السنخ، كي يقتضي انتفاءه عند انتفاء القيد، بل غايتها الدلالة على مجرد ثبوت الحكم للمقيد بنحو الطبيعة المهملة غير المنافي لثبوت فرد آخر مثله في غير مورد القيد، كما كان ذلك هو الشأن في القضايا اللقبية، حيث لا فرق بينهما من هذه الجهة.

وقد استدل لإثبات المفهوم بوجوه منها:

الوجه الأول: لغوية ذكر الوصف لو لم يفد المفهوم، وارتفاع اللغوية إنّما يكون لو اختص سنخ الحكم بالموضوع المقيد بالوصف.

ص: 308


1- نهاية الأفكار 1: 499.

ويرد عليه: عدم انحصار الفائدة في المفهوم، بل قد تكون هناك أغراض أخرى، كالتنبيه إلى المورد الخاص، كإثبات فسق الوليد في آية النبأ، أو كون المقيد بالوصف مورداً للسؤال فكان الجواب متطابقاً مع السؤال، أو كون المولى في مقام تشريع الحكم للمقيد مع السكوت عن غيره، ونحو ذلک.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1)،

وحاصله:

1- إن الأصل في القيد أن يكون احترازياً، فمعنى قيدية شيء لموضوع الحكم هو أن ذات الموضوع غير قابلة لتعلق الحكم بها إلا بعد اتصافها بالوصف، فالوصف متمم لقابلية القابل، وهو معنى الشرط حقيقة.

2- عِليّة الوصف بعنوانه، إذ مع تعدد العلة لا يكون الوصف بعنوانه علة، بل العلة هو الجامع الذي فيه، وحيث إن ظاهر الكلام هو عِليّة الوصف بعنوانه لا بالجامع الذي فيه فلا يمكن وجود علة أخرى، وذلك لقاعدة الواحد.

3- كون المنوط بهذا الوصف هو نفس الوجوب بما هو وجوب، لا بما هو شخص من الوجوب.

وعليه: فلا محالة ينتفي سنخ الوجوب بانتفاء ما هو دخيل في موضوعية الموضوع لسنخ الحكم.

وأورد عليه: أولاً: بأن الاحترازيّة يراد بها تضييق دائرة الموضوع، لا الاحتراز عن شمول حكم آخر من سنخه لموضوع آخر، فلا فرق بين ذكر

ص: 309


1- نهاية الدراية 2: 435-436.

الموضوع بلفظة واحدة أو بلفظتين، فلا فرق بين أن يقول: (أكرم الرجل العالم)، وبين أن يشير إلى العلماء ويقول: (أكرم هؤلاء).

وثانياً: عدم ثبوت أصل عِليّة الوصف، فلا تصل النوبة إلى البحث عن انحصارها أو عدم انحصارها، هذا مضافاً إلى أصل الإشكال في قاعدة الواحد - كما مرّ مراراً - وعلى فرض صحتها فلا تجري في الواحد النوعي، وما نحن فيه منه.

وثالثاً: عدم ثبوت كون المنوط على الموضوع السنخ، كما أشرنا إليه في صدر البحث.

والحاصل(1): أن التقييد بالوصف وإن كان ظاهراً في دخالة الوصف، لكن لا ظهور له في أنه دخيل في سنخ الحكم حتى ينتفي بانتفائه، بل يمكن أن يكون دخيلاً في شخصه فلا يلازم المفهوم.

الوجه الثالث: ما اتفقوا عليه من حمل المطلق على المقيد، كما لو قال: (أعتق رقبة)، ثم قال: (أعتق رقبة مؤمنة)، حيث استفادوا المفهوم أي (لا يجب عتق الرقبة غير المؤمنة) وبذلك المفهوم قيدوا إطلاق (اعتق رقبة)، ولولا المفهوم لم يكن وجه للتقييد لعدم تنافي المثبتين، وإنّما التقييد يكون بين المثبت والنافي، حيث يحصل تعارض، ويرتفع بحمل الظاهر وهو المطلق على الأظهر وهو المقيد.

ويرد عليه: إنهم لا يحملون المطلق على المقيد إذا كانوا مثبتين، بل يصرّحون بعدم التنافي بينهما، وإنّما يحملونه لو دلت قرينة خارجية على

ص: 310


1- منتقی الأصول 3: 276.

وحدة الحكم، كما في المثال، وذلك لا يرتبط بالمفهوم البتة.

الوجه الرابع: إن القيد إذا كان للحكم دلّ على المفهوم، وذلك لما مرّ في مفهوم الشرط من أن الحكم مطلق، وهو منوط بالشرط، فبانتفاء الشرط ينتفي الحكم المطلق - الذي هو سنخ الحكم - وبذلك يثبت المفهوم.

وفي الوصف وإن كان الظاهر رجوع القيد إلى الموضوع، ففي مثل (أكرم الرجل العالم) ظاهر العالم كونه قيداً للرجل، إلا أن قيود الموضوع ترجع في الواقع إلى كونها قيوداً للحكم، فالإكرام مقيد واقعاً بالعالم.

وذلك لما قيل من أنه لو قُيِّد الموضوع فالحكم بالإضافة إلى ذلك القيد إما مطلق أو مهمل أو مقيد، والأول خلف، والثاني يستلزم الإهمال في مقام الثبوت وهو ممتنع، فثبت الثالث.

ويرد عليه: أولاً: أن الترتب الانحصاري هو الدال على المفهوم دون مطلق الإناطة، كما مرّ.

وثانياً: إن ذلك يتوقف على إثبات أن الحكم سنخ لا شخص، وقد ذكرنا عدم ثبوت كون الحكم في الوصف سنخياً.

وثالثاً: بعدم ثبوت رجوع قيود الموضوع إلى الحكم، بل يمكن إطلاق الحكم بالنسبة إليه مع عدم استلزامه الخلف، وذلك بالالتزام بالواجب المعلق، فتأمل.

تتمة:

لابد من فرض بقاء الموضوع حين انتفاء الوصف، لكي يتمّ البحث عن بقاء الحكم، وإلاّ فلا معنى لبقاء الحكم مع زوال الموضوع، فيكون الوصف

ص: 311

حينئذٍ نظير الشرط المحقِّق للموضوع، حيث لا مفهوم، لوضوح انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

وفرض بقاء الموضوع حتى مع زوال القيد هي:

1- كون الوصف أخص مطلقاً، مثل (أكرم العالم الفقيه) حيث إن الفقيه أخص مطلقاً من العالم.

2- كون النسبة بين الوصف والموصوف الخصوص والعموم من وجه، مثل (أكرم الرجل العادل) ففي صورة وجود الموصوف مع زوال الوصف - كالرجل الفاسق - يتم البحث عن المفهوم.

وأما الصور الخارجة عن البحث فهي:

1- لو كان الوصف أعم مطلقاً، مثل (أكرم الفقيه العالم)، فمع انتفاء العلم ينتفي الفقه أيضاً، فلا موضوع ليبحث عن بقاء الحكم فيه.

2- لو كانا متساويين، كالإنسان والناطق مثلاً، فبانتفاء الوصف ينتفي الموصوف أيضاً، لفرض تساويهما.

3- كون النسبة من وجه مع انتفاء الموصوف، مثل (أكرم الرجل العالم) لو كانت امرأة عالمة.

4- كون النسبة من وجه مع انتفاء الموصوف والوصف معاً، نظير قوله: «في سائمة الغنم زكاة»(1)

فقيل: يدل المفهوم على أنه لا زكاة في الإبل المعلوفة، وذلك لأن الوصف هو العلة المنحصرة لزكاة الأنعام!

وفيه: أولاً: إنه لا دليل على العِليّة فضلاً عن الانحصار، إلاّ لو دلت قرينة

ص: 312


1- عدة الأصول 2: 469.

خارجية عليه، فيخرج بذلك عن البحث.

وثانياً: إن هذا الكلام يجري في الشق الثاني والثالث أيضاً، فلا وجه لحصره في الشق الرابع.

ومن كل ذلك يتضح أنه لابد من كون الوصف معتمداً على الموضوع، مثل (أكرم الرجل العالم)، فلو كان هو بنفسه موضوعاً مثل (أكرم العالم) خرج عن البحث، لأن انتفاء الوصف حينئذٍ يساوق انتفاء الموضوع، فتأمل.

ص: 313

فصل في مفهوم الغاية

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في دلالتها على المفهوم

إن الغاية أقسام: فقد تكون غاية للحكم، كقوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}(1)،

وقد تكون غاية لمتعلق الحكم كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ}(2)، فهو غاية للصوم، وقد تكون غاية لموضوع الحكم - أي متعلق المتعلق - كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}(3).

وفي دلالة على المفهوم خلاف، وأقوال، منها:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(4)

من التفصيل: بين غاية الحكم، فتحقق الغاية دال على ارتفاع الحكم كما في قوله: «كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه»(5)

وذلك للظهور في

ص: 314


1- سورة النساء، الآية: 140.
2- سورة البقرة، الآية: 187.
3- سورة الإسراء، الآية: 34.
4- إيضاح کفاية الأصول 2: 477.
5- الكافي 6: 339.

المفهوم حينئذٍ، ولأن المفهوم هو مقتضى تقييد الكلام بالغاية وإلاّ لما كانت الغاية غاية.

وبين غاية الموضوع، فلا تدل على المفهوم فتكون نظير الوصف، كما لو قال: (سِر من البصرة إلى الكوفة)، فهي تقتضي تقييد شخص الحكم بها، ولا دلالة لها في ارتفاع سنخ الحكم حين تحقق الغاية، لعدم الوضع لذلك، ولا قرينة عامة تدل على الانتفاء حين تحققها.

وأورد على الأول: بأن الغاية كما يمكن أن تكون غاية لسنخ الحكم كذلك يمكن أن تكون غاية لشخصه، والنافع لإثبات المفهوم هو الأول دون الثاني، نعم قد تكون قرينة خاصة تدل على ارتفاع الحكم، كما في المثال الذي ذكره، إذ القرينة العقلية - وهي امتناع اجتماع الضدين - دلت على ارتفاع الحلية حين العلم بالحرمة، والقرينة الشرعية على طريقية العلم لا موضوعيته، فحينئذٍ لا يرتبط ارتفاع الحكم في الغاية بالمفهوم أصلاً.

وعلى الثاني: برجوع قيود الموضوع إلى الحكم، كما مرّ في بحث الوصف.

اللهم إلا أن يقال: بأنه وإن رجعت قيود الموضوع إلى الحكم إلا أن رجوعها إلى الموضوع مباشرة منع ظهورها في المفهوم.

القول الثاني: ما في المنتقى(1)

من التفصيل: بين ما إذا كان الكلام مسوقاً لبيان الغاية فقط، مع كون الحكم مفروغاً عنه، فكان المولى في مقام بيان غايته وحدّه، وحينئذٍ كان مقتضى الإطلاق المقامي ثبوت المفهوم وارتفاع

ص: 315


1- منتقی الأصول 3: 284.

الحكم بحصول الغاية، وإلا لم تكن الغاية غاية للحكم، كقوله تعالی: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}(1)

فإن أصل جواز الأكل معلوم والآية مسوقة لبيان غايته، وبين ما إذا كان مسوقاً لبيان الحكم المُغيّى، فلا دلالة له على المفهوم، إذ اعتبار حكم مقيد بقيد لا يتنافى مع اعتباره مقيداً بقيد آخر، أو غير مقيد بقيد.

ويرد عليه: بأنه لا فرق عرفاً بين ذكر الغاية مع الحكم، أو بيان الحكم أولاً ثم ذكر غايته، فلا فرق بين أن يقول: (اقرأ هذا الدعاء حتى نهاية شهر رمضان)، أو يفصل بينهما فيقول أولاً (اقرأ هذا الدعاء)، ثم يقول (اقرأه حتى نهاية الشهر)، كما لا فرق دقة بين تحديد الطبيعة من البداية، أو تعلق الأمر بها ثم تحديدها.

نعم لو كان المولى يريد تحديد الموضوع والحكم من كل أطرافه، دل على المفهوم، كمثال آية الصوم، فليس وجه الدلالة على حرمة الأكل بعد الفجر معلومية جوازه قبل الفجر، بل لكون المولى في صدد بيان الصوم بحدوده كلها من بدايته ونهايته وسائر أحكامه.

القول الثالث: عدم الدلالة على المفهوم، إلا إذا قامت قرينة، وذلك لأن الركن الأول للمفهوم - وهو الترتب الانحصاري - وإن تحقق في الغاية، إذ تحقق الغاية سبب لانتفاء الحكم فلا معنى لاستمراره بعدها، إلا أن الركن الثاني وهو انتفاء سنخ الحكم لا الشخص غير معلوم التحقّق.

وعليه: فإن الدليل لا يتعرض لما بعد الغاية، فإذا جاء دليل آخر دل على

ص: 316


1- سورة البقرة، الآية: 187.

ثبوت الحكم لما بعد الغاية أيضاً لم يكن تعارض بينهما، وإنّما يحصل التعارض لو ثبت المفهوم.

المطلب الثاني: في دخول الغاية في حكم المغيى أو خروجها عنه

1- قيل بخروجها، لكونها من حدوده فلا تكون محكومة بحكمه، وحيث إن موضوع الحكم هو المُغيّى - أي ذو الغاية - والغاية خارجة عنه فلا يشملها حكمه، لأن الحكم يتعلق بالموضوع لا بشيء خارج عن الموضوع.

2- وقيل بالتفصيل(1)

بأن مبدأ الشيء ومنتهاه: تارة يكون بمعنى أوله وآخره، فدخوله في الشيء من الواضحات، وتارة أخرى بمعنى ما يبتدأ من عنده وما ينتهى عنده الشيء، فخروجه من الشيء من الواضحات أيضاً.

وإنما الكلام صغروي: بأن مدخول (حتى) و (إلى) هو المنتهى بالمعنى الأول، أو الثاني.

نعم أكثر الموارد - ولعله الأظهر - كون مدخول (حتى) و (إلى) هو من قبيل الثاني، أي ما ينتهي عنده الشيء لا ما هو آخر الشيء.

ومعنى ذلك عدم وجود ظهور ولا قاعدة على أحدهما، فالأمر يبتنى على القرائن الخارجية، ومع الشك فالمورد من الأقل والأكثر الارتباطيين فتجري فيه أصالة البراءة على المبنى المنصور، وأصالة الاشتغال على المبنى الآخر.

3- وقد يقال: بالفرق بين (إلى) فالغاية خارجة، و(حتى) فداخلة.

وكأنه خلط بين (حتى) العاطفة والجارة، فمثل (أكلت السمكة حتى

ص: 317


1- نهاية الدراية 2: 439-440.

رأسها) ليست للغاية، فهي خارجة عن البحث أصلاً، وأما الجارة فلا فرق بينها وبين (إلى).

ص: 318

فصل في مفهوم الاستثناء

اشارة

وفيه بحوث:

البحث الأول: في حكم المستثنى

لا إشكال في أن الحكم في المستثنى منه لا يشمل المستثنى، فمثل (أكرم العلماء إلا زيداً) لا يشمل وجوب الإكرام زيداً، وإلاّ لم يكن معنى للاستثناء أصلاً، فيكون لغواً حينئذٍ، بل غلطاً.

وقد يقال: إن الاستثناء يدل على انتفاء الحكم الثابت لعنوان المستثنى منه عن المستثنى، فلا ينافي ثبوت حكم مماثل للمستثنى لكن بعنوان آخر، فلا تعارض بين أن يقول: (أكرم الفقير حتى لو كان فاسقاً)، وبين أن يقول: (أكرم الشعراء إلا فساقهم) فالفقير الشاعر الفاسق - وهو مصداق اجتماع موضوع الحكمين - يُكرَم من جهة فقره لا من جهة شاعريته! وكذا لو كان بين المتعلقين العموم من وجه مثل (أكرم) و(تصدق) في مورد الاجتماع!

وفيه: أن الاستثناء - وهو متصل - قد عنون الموضوع في المستثنى منه، فمعنى قوله الثاني هو: (أكرم الشاعر غير الفاسق)، فيتعارض بالعموم من وجه مع (أكرم الفقير حتى لو كان فاسقاً).

مضافاً إلى ما مرّ من أن تعدد الجهة مع وحدة المتعلّق أو الموضوع لا ترفع التضاد المتحقق بطلب الضدين في شيء واحد واقعاً، مع كونه متعدد العنوان.

ص: 319

البحث الثاني: من أدلة الطرفين

1- استدل بعض العامة على نفي الدلالة على الحصر بمثل قوله (صلی الله علیه و آله): «لا صلاة إلا بطهور»(1) فلو كان للاستثناء الدلالة كان المعنى أن الطهور وحده صلاة!!

وفيه: أنه لم يقل: (إلا الطهور)، وإنّما قال: (إلا بطهور) وبينهما فرق واضح، فعلى مبنى الصحيحي المعنى لا صلاة إلا لو كانت مع الطهارة، وعلى مبنى الأعمي لا صلاة صحيحة أو مأمور بها أو مجزية إلا بالطهارة، والحاصل أن معنى الحديث أن الصلاة - التي هي تمام الأجزاء والشرائط - لا تتحقق إلا مع الطهارة التي هي أحد شرائطها.

2- وقد استدل القائلون بالحصر بكلمة التوحيد، أي (لا إله إلا الله) إذ لو لم تدل على الحصر لم يكن معنى لقبول إسلام من ينطق بها!!

إن قلت: خبر (لا) النافية للجنس إما (ممكنٌ) أو (موجودٌ)، والأول لا يثبت به الإقرار بوجود الله بل إمكانه، وهذا المقدار لا يفيد في التوحيد، والثاني لا يُنفى به إمكان غير الله، بل ينفي عدم وجوده الخارجي، وهذا لا يكفي في التوحيد.

قلت: بل المقدّر هو (موجود)، ويكفي في التوحيد نفي وجود غير الله تعالى، مع إثبات وجوده سبحانه، إذ نفي وجود إله غير الله يلازم نفي ألوهية هذا الغير، لأن غير الموجود يحتاج إلى خالق لإيجاده، فلا يكون إلهاً.

وأما القول بأن كلمة (الله) بمعنى واجب الوجود، وأن نفي وجود الغير

ص: 320


1- من لا يحضره الفقيه 1: 33.

يساوق عدم وجوب وجوده، وأن إمكانه يساوق وجوده وذلك لوجوبه، فتدل الكلمة على التوحيد سواء قدّر الخبر (ممكن) أو (موجود).

فيرد عليه: أن وجوب الوجود لازم كونه إلهاً، وليس ذلك معنى كلمة (الله)، مضافاً إلى خفاء هذا اللازم على عامة من كان ينطق بالشهادة، فلا وجه لهذا التأويل أصلاً.

3- وقد يستدل على الحصر: بأن كلا ركني المفهوم متوفران في الاستثناء، أما الترتب الانحصاري فلدلالة الاستثناء على الحصر وضعاً، فمثل (أكرم العلماء إلا زيداً) يراد حصر الحكم في المستثنى منه بحيث لا يشمل المستثنى، وأما كون الحكم في المستثنى سنخاً لا شخصاً فللإطلاق بعد تمامية مقدمات الحكمة فيه، فيدّل على أن الإكرام - في المثال - يراد به سنخه، وعليه فإن سنخ الإكرام منحصر في العلماء، فلا يجب إكرام غيرهم لمنافاته لحصره فيهم، فيدل على عدم وجوب إكرام زيد بأي نوع من أنواع الإكرام.

وفيه: أن الحكم في طرف المستثنى منه، أي (أكرم العلماء) في المثال لا دلالة له على السنخ، وإلا لزم القول بمفهوم الوصف، أو اللقب في مثل (أكرم القوم إلا زيداً) مع وضوح أن الاستثناء إنّما هو من هذا الحكم، فلا معنى للذهاب إلى أن الحكم في المستثنى منه هو الشخص مع كون الحكم في المستثنى هو السنخ، فتأمل.

البحث الثالث: الاستثناء من النفي أو الإثبات

قد يقال(1): بأن الجملة الاستثنائية إذا كانت نافية كانت دلالتها على

ص: 321


1- بحوث في علم الأصول 3: 214.

المفهوم أوضح، لأن نفي الطبيعة لا يكون إلا بنفي جميع حصصها، فيكون الاستثناء منها إثباتاً لا محالة.

وأما إثبات الطبيعة فقد يكون بحصة خاصة، ويكون الاستثناء بلحاظ شخص تلك الحصة الخاصة، وهذا وإن كان مجرد احتمال ولا يضر بالإطلاق في متعلّق الحكم، إلا أن هذا الاحتمال سبب كون النفي أوضح.

وفيه تأمل: لأن الظهور غير مرتبط بالاحتمالات، بل يرتبط بما يبدو ويتبادر لأذهان أهل اللسان، والظاهر عدم الفرق في الظهور بين الاستثناء من النفي أو الإثبات.

البحث الرابع: هل الدلالة بالمنطوق أم المفهوم

الدلالة على نفي الحكم في الجملة الموجبة أو إثبات الحكم في الجملة السالبة، هل هو بالمنطوق أم بالمفهوم، ومعنى كونه بالمفهوم أن هناك خصوصية في الحكم الموجود في المستثنى منه، ولازمها عدم وجود الحكم في المستثنى، ومعنى كونه بالمنطوق أن نفس كلمة (إلاّ) مثلاً تدل بالمطابقة على نفي الحكم في المستثنى منه.

الظاهر الثاني، لأنه لا معنى للاستثناء إلا الإخراج، فلو كان هذا بالمفهوم لم يكن للفظ الاستثناء معنى مطابقي منطوق، وهو واضح الإشكال.

وفي المنتقى(1)

بيان الأثر العملي لهذا البحث، وحاصله: أنه لو شك في سعة الحكم في المستثنى أو ضيقه، فبناء على دلالة المنطوق يتمسك بالإطلاق، مع عدم إمكان التمسك به بناءً على الدلالة بالمفهوم إذ دلالته

ص: 322


1- منتقی الأصول 3: 289-290.

إلتزامية، ففي قوله (علیه السلام) «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة»(1) لو شككنا في ثبوت الإعادة من جهة هذه الخمس في بعض الحالات، فعلى القول بالدلالة المفهومية لا مجال لإحراز ثبوت الإعادة في مورد الشك، حتى مع علمنا بنفي الإعادة بشكل مطلق في المستثنى منه، إذ لعلّ الاستثناء من حيث المجموع لا من حيث كل فرد فرد، وأما على القول بالدلالة بالمنطوق، فالإطلاق يثبت الإعادة حينئذٍ إذ معنى الاستثناء هو (وتعاد من خمس بشكل مطلق).

وفيه تأمل.

البحث الخامس: في الدلالة على الحصر بغير أدوات الاستثناء

كما لو قال: (إنما يجب إكرام زيد)، وكتقديم ما حقه التأخير - لو قلنا بدلالته على الحصر - ودلالته على المفهوم واضحة، وذلك لتوفر كلا ركني المفهوم، أما الترتب الانحصاري فلأن المفروض هو كون الأداة أو التركيب للحصر، وأما كون الحكم سنخاً لا شخصاً، فقد يقال بأن أداة الحصر أو التركيب الدال على الحصر تدل على أن المحصور هو سنخ الحكم من غير حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة، وذلك لأن حصر شخص الحكم أمر ثابت حتى مع عدم استعمال ما يدل على الحصر، فلو لم يكن المراد حصر سنخ الحكم لكان ما يدلّ على الحصر تأكيداً أو لغواً، والأول خلاف الظاهر، والثاني خلاف دلالة الاقتضاء.

ص: 323


1- من لا يحضره الفقيه 1: 339.

فصل في مفهوم اللقب والعدد

أما اللقب فهو الموضوع الذي ليس بوصف، كما لو قال: (أكرم زيداً)، وعدم دلالته على المفهوم واضح، وذلك لعدم توفر كلا ركني المفهوم، فلا دلالة على الترتب الانحصاري، كما لا دلالة على سنخ الحكم، فلا وجه لثبوت المفهوم.

وأما العدد فأيضاً لا دلالة له على المفهوم للسبب نفسه، إلاّ لو قامت قرينة خاصة على أن المتكلم في مقام التحديد من طرف الأقل و الأكثر، أو من طرف أحدهما، وحينئذٍ الدلالة على المفهوم لا ترتبط بالعدد نفسه بل ترتبط بالقرينة، فيخرج عن محل البحث.

ص: 324

المقصد الرابع في العام والخاص وفيه فصول

اشارة

ص: 325

ص: 326

وهنا بحوث تمهيدية

البحث الأول: في تعريف العام

معنى العموم هو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مع کون الشمول لفظياً.

فإذا لم يكن شاملاً لم يكن عاماً بل خاصاً، والتقييد ب- (يصلح) ليدخل في التعريف العام المخصص، والتقييد ب- (ينطبق) لإخراج ما لا يصلح أن ينطبق عليه، كأفراد سائر العمومات، والتقييد ب- (كون الشمول لفظياً) لإخراج المطلق، فإن الفرق بينه وبين العام - مع شمولهما كليهما لأفرادهما - هو أن دلالة العام على الشمول لفظية، ودلالة المطلق عليه إنما هي بمقدمات الحكمة، اللهم إلا أن يقال: إن قيد (ما يصلح) يُخرج المطلق أيضاً، فتأمل.

وقد يقال: بأنه تعريف لفظي فلا وجه للنقض والإبرام فيه، وخاصة أن هذا اللفظ لم يرد في الأدلة الشرعية كي يدور الحكم مداره، بل الآثار إنما هي لمصاديق العام - أياً كان تعريفه - .

البحث الثاني: في أقسام العموم

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في أقسام العموم

وهو على أقسام ثلاثة:

1- العام الاستغراقي: بأن يكون كل فرد فرد موضوعاً للحكم، كما لو

ص: 327

قال: (أكرم العلماء)، فيتعدد الحكم بتعدد الأفراد.

2- العام المجموعي: بأن تكون الأفراد معاً موضوعاً للحكم فهي كالأجزاء لمأمور به واحد، فلا يكون ممتثلاً إذا أتى بالبعض دون البعض.

3- العام البدلي: بأن يكون الموضوع هو فرد واحد على البدل، وبعبارة أخرى: أن يكون كل فرد موضوعاً للحكم لكن على البدل، فإذا أتى بفرد واحد فقد امتثل الحكم.

والحاصل: إن المتكلم يلاحظ جميع الأفراد فلذا صار عاماً، والتقسيم إلی الأقسام الثلاثة إنما هو في كيفية أخذ العموم في الموضوع، بمعنى أن المتكلّم يلاحظ الموضوع فرداً فرداً أو كل الأفراد كفرد واحد، أو أحدها على البدل.

وأما ما قيل: من أن التقسيم يرتبط بكيفية تعلق الحكم، فيكون التقسيم متأخراً عن الموضوع وعن الحكم.

فيرد عليه ما ذكره المحقق الإصفهاني(1) من استحالة اختلاف المتقدم بالطبع من ناحية المتأخر بالطبع.

والمعنى هو استحالة تقييد الموضوع - وهو العام - بالحكم أو بما ينشأ منه، فإن الاستغراقية والمجموعية والبدلية من خصوصيات العام - وهو موضوع الحكم - فكيف تنشأ هذه الخصوصية من الحكم الذي هو متأخر رتبة عن الموضوع!!

أما المحقق النائيني(2)

فقد أخرج العموم البدلي عن أقسام العموم، إذ

ص: 328


1- نهاية الدراية 2: 444-445.
2- فوائد الأصول 1: 514-515.

العموم بمعنى الشمول، والبدلية تنافي الشمول.

بل نُسب إليه أنه ألحق العموم البدلي بالمطلق، لكونه علی الغالب يستفاد من إطلاق المتعلّق.

وأشكل عليه: بأن العموم البدلي يستفاد من اللفظ، كلفظة (أيّ) فلا يرتبط استفادته من مقدمات الحكمة، ويترتب على ذلك ثمرة هامة، في تعارض المطلق مع العام حيث رجّحوا العام، إذ الظهور الوضعي أقوى وهو يصلح أن يكون قرينة على المراد من المطلق، فلم تتم مقدمات الحكمة في طرف المطلق.

والحاصل: إن الفارق بين العموم والإطلاق هو استفادة الشمول من اللفظ أم من مقدمات الحكمة، وحيث إن بعض ألفاظ العموم دالة على العموم البدلي، فلا وجه لإخراج العموم البدلي عن العام وإلحاقه بالمطلق!!

المطلب الثاني: دوران الأمر بين العموم الاستغراقي أو البدلي

فما هو المرجح؟

ذهب المحقق النائيني(1)

إلى أن الأصل اللفظي الإطلاقي يقتضي الاستغراقية، لأن المجموعية تحتاج إلى عناية زائدة، وهي لحاظ جميع الأفراد على وجه الاجتماع وجعلها موضوعاً واحداً.

وأشكل عليه: أولاً: بأن الاستغراقية أيضاً بحاجة إلى عناية زائدة، لأن جميع الأفراد تلاحظ في كليهما وإلا لم يكونا عامين، فتارة يلاحظ الفرد لا بشرط عن الإتيان بالآخر، فهو واجب مثلاً سواء أتى بالآخر أم لا وهو

ص: 329


1- فوائد الأصول 1: 515.

الاستغراقي، وأخرى يلاحظ الفرد بشرط لا فهو البدلي.

وثانياً: بأن الأمر يرتبط بكيفية تصوير الوجوب على البدل، وقد مرّ في الواجب التخييري، فهل يلاحظ الجامع بين الأفراد أو يلاحظ كل فرد منفرداً على البدل، فعلى الأول لا مؤونة زائدة، وعلى الثاني قد يقال بزيادة قيد على البدل، فتأمل.

وثالثاً: إن كان المراد من (الأصل اللفظي الإطلاقي) الظهور، فهو مرتبط بكيفية الوضع، فقد يضع الواضع اللفظ لما فيه المؤونة الزائدة فيكون ظاهراً فيه دون ما لم يضع له، وقد يكون بالعكس.

وحيث إن ألفاظ العموم وضعت للشمول وله مصداقان فلا يجري أصل لفظي في جانب الموضوع، كما أن لفظ الرجل مطلق له مصداقان - مثلاً -: الرجل العالم والرجل غير العالم، فلا يجري الإطلاق لتعيين اللفظ في الثاني باعتبار عدم المؤونة الزائدة، بل الظهور اللفظي يشملهما على حدّ سواء.

نعم لو كان الأمر مرتبطاً بالأصل الحكمي، فإن قلنا بأن العموم البدلي هو بمعنى تعلق تكليف واحد بالجامع والاستغراقي يتعدد التكليف بتعدد الأفراد فالأصل مع الأول، لكنه أصل البراءة وليس أصلاً لفظياً، أما لو قلنا بأنه تكاليف متعددة تسقط بامتثال أحدها، فالأصل العملي هو الاشتغال وهو يساوق في النتيجة مع الاستغراقي، فتأمل.

المطلب الثالث: في الأعداد

شمول الأعداد لآحادها ليس من باب العموم، إذ الأعداد لا تصلح لأن تنطبق على آحادها، فعشرة مثلاً لا تنطبق على الواحد، بل الآحاد أجزاء لها.

وتظهر الثمرة فيما لو ورد دليل علی العدد ودليل آخر مضاد له علی

ص: 330

بعض الآحاد، کما لو قال: (أکرم العشرة)، وقال: (لا تکرم الواحد منهم)، حيث يحصل تعارض بينهما، مع أنه لاتعارض بين العام والخاص، إذ يحمل العام علی الخاص.

البحث الثالث: في أدوات العموم

1- فمنها: (كل)

اشارة

والكلام في مقامات ثلاث:

المقام الأول: في وجه دلالة (كل) على العموم

أما أصل الدلالة عليه فواضحة، وإنكاره مكابرة، وقد اختلف في وجه الدلالة على قولين:

القول الأول: دلالتها على استيعاب ما يُراد من مدخولها، فلابد أولاً من تحديد المراد من المدخول ثم الدلالة بواسطة (كل) على استيعاب تمام المراد، ففي مثل: (أكرم كل عالم) لابد أولاً من إثبات إطلاق العالم ثم استيعاب جميع الأفراد بواسطة (كل)، فالدلالة طولية.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول(1) بأنه تارة: يراد الإطلاق الأفرادي، وهذا مما لا يُحتاج إليه، لأن لفظة (كل) تدل على الشمول لكل الأفراد.

وتارة أخرى: يراد الإطلاق الأحوالي، وهذا أجنبي عن لفظة (كل)، بل هنا دالان ومدلولان ولا يرتبط أحدهما بالآخر، ف-(كل) لسعة الأفراد، و(مقدمات الحكمة) لسعة الحالات.

ص: 331


1- نهاية الدراية 2: 446-447.

وتارة ثالثة: يراد من المدخول الطبيعة المهملة - سواء من حيث الأفراد أم الحالات - ، وحينئذٍ فالمدخول مهمل في حدّ ذاته - بمعنى اللاتعيّن - فلا تجري فيه مقدمات الحكمة، و(كل) دال على السعة من حيث الشمول - أي التعيّن من هذه الجهة - ولا منافاة بينهما، ويستحيل أن يكون الإهمال والسعة من جهة واحدة لتنافيهما.

والجواب: أولاً: بالنقض بدخول (كل) على الجمع المحلّى باللام، فالمدخول يدل على العموم وكل تدل عليه، مع أنه لا استحالة ولا لغوية.

وثانياً: بالحل، باختيار الشق الأول، مع الحاجة إلى الإطلاق في المدخول وإلى (كل)، لأن إطلاق المدخول إنما هو في قبال العموم البدلي، فيدل على نفيه، و(كل) تدل على استيعاب الأفراد، مثلاً: (أكرم كل عالم) فإطلاق (عالم) يدل على عدم كونه بدلياً، و(كل) يدل على كونه مستوعباً، فتأمل.

وثالثاً: بعدم انحصار الشقوق في ثلاثة، بل هنا شق رابع، وهو أن يكون المدخول الطبيعة المطلقة، بمعنى غير المقيدة بقيد وهذا ما يستفاد من مقدمات الحكمة، ويكون (كل) دالاً على الاستيعاب الأفرادي.

الإشكال الثاني: لزوم اللغوية من الإتيان بلفظة (كل)، إذ مع إحراز عموم المدخول بمقدمات الحكمة لا تبقى حاجة في الدلالة على العموم بدالٍ آخر.

إن قلت: يكون ذلك تأكيداً.

قلت: لابد في التأكيد من أن يكون الدالان في عرض واحد، وفيما نحن

ص: 332

فيه الدلالتان طوليتان، فإنه لو ارتفع الإطلاق في المدخول ارتفع الاستيعاب الأفرادي في (كل).

وفيه: أن المدخول قد يكون ظاهراً في العموم البدلي إذا كان مفرداً منكّراً، كما لو قال: (أكرم عالماً)، فدخول (كل) يعيّنه في العموم الاستغراقي، وعدم الإتيان بالمدخول يجعل الكلام مبهماً، إذ لا معنى لأن يقول: (أكرم كل)، فالجمع بين كل والمدخول يدل على المطلوب، وهذا كافٍ في رفع اللغوية، بل ضرورة الجمع بين إطلاق المدخول وكل.

الإشكال الثالث(1): إنه لا يمكن أن يكون المقصود: استيعاب تمام المراد الجدي - الذي يُحدد بالإطلاق فلذا يكون العموم متأخراً عنه وفي طوله - ، وذلك لأنه قد لا يكون للمتكلم مراد جدّي.

كما لا يمكن أن يكون المقصود: استيعاب تمام المراد الاستعمالي، لأن المراد الاستعمالي هو نفس المدلول الوضعي - لأن الأصل عدم المجازية - فرجع إلى القول الثاني - أي دلالة (كل) على استيعاب ما ينطبق عليه - وذلك لأن المدخول هو اسم جنس وهو موضوع للطبيعة السارية في كل الأفراد فلا نحتاج إلى مقدمات الحكمة حينئذٍ، فتأمل.

القول الثاني: دلالة (كل) على استيعاب ما ينطبق عليه مدخوله، فلا حاجة حينئذٍ إلى إجراء مقدمات الحكمة، لأن الاستيعاب لتمام المدخول - وبمعناه الموضوع له - يستفاد من نفس كلمة (كل).

وأشكل عليه: بأن المدخول إن كان اسم الجنس...

ص: 333


1- بحوث في علم الأصول 3: 230-231.

أ- فإن أريد منه الطبيعة المهملة بنحو اللابشرط المقسمي بحيث تدل (كل) على استيعاب هذا المعنى، فهذه الطبيعة يستحيل انطباقها على الأفراد الخارجية، لأن الجامع بين ما يقبل الانطباق على الخارج وما لا يقبل الانطباق يستحيل وجوده في الخارج.

ب- وإن أريد دلالة (كل) على الطبيعة المطلقة، فهذا خلف فرض دلالتها على الاستيعاب.

ج- وإن أريد دلالة (كل) على أمرين: تحديد المدخول في الطبيعة المطلقة، ثم استيعاب المدخول، فهذا غير صحيح لعدم وجود دلالتين طوليتين للفظة (كل) ونحوها من سائر الأدوات.

د- فلا يبقى إلا القول بأن دلالة المدخول على الطبيعة المطلقة إنما هو بمقدمات الحكمة، مع دلالة (كل) على استيعاب أفرادها.

وأورد عليه: بإمكان اختيار الشق الأول من غير لزوم المحذور المذكور، وهو أن يكون مدلول اسم الجنس هو الطبيعة المهملة بمعنى عدم تقيّدها لا تقيّدها بالعدم، وعليه فإن اسم الجنس الذي لم يُقيّد بقيد قابل للانطباق على الأفراد بذاته من غير حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة.

هذا مضافاً إلى الإشكال في الكبرى - أي قوله بأن الجامع بين ما يقبل وما لا يقبل الانطباق يستحيل وجوده في الخارج - وذلك لأن مقتضى الجامعية هو وجود الجامع في مصاديقه، فإذا كان من مصاديقه ما يقبل الانطباق في الخارج، وُجد الجامع معه، وإلا لم يكن جامعاً.

والثمرة بين القولين: تظهر فيما لو تعارض العام مع مطلق، فعلى القول الأول يتساويان، إذ عموم كليهما مستفاد من مقدمات الحكمة، فيصلح كل

ص: 334

واحد منهما أن يكون قرينة على عدم إطلاق الآخر، فتختلّ مقدمات الحكمة في كليهما، وأما على القول الأول يتقدم العموم المستفاد من (كل) على إطلاق الآخر، إذ يكون العموم حينئذٍ مستفاداً من الوضع لا من مقدمات الحكمة، فيكون قرينة على عدم إطلاق الآخر حيث تختلّ إحدى مقدمات الحكمة فيه.

المقام الثاني: في استيعاب الأجزاء والأفراد

إن (كل) تارة تستعمل في استيعاب الأجزاء، كما لو قال: (طهّر كل المسجد)، وأخرى تستعمل في استيعاب الأفراد، كما لو قال: (أكرم كل عالم)، مع كون (كل) في الموردين بمعنى واحد، فما هو السبب في هذا الاختلاف؟

قد يقال: وهو الظاهر أن استفادة استيعاب الأجزاء أو الأفراد إنما يرتبط بالمدخول، فإن كان للمدخول مصداق واحد، كان لاستيعاب الأجزاء، إذ لا معنى لاستيعاب الأفراد حينئذٍ لعدم وجود أفراد، ففي المثال حيث إن (المسجد) يراد به مسجداً خاصاً بدلالة لام العهد فلابد من الاستيعاب في غير الأفراد ولا يكون ذلك إلا باستيعاب الأجزاء.

وإن كان للمدخول مصاديق متعددة - بأن أريد منه الطبيعة - فحينئذٍ يكون الاستيعاب في جميع جهات الطبيعة، ومنها أفرادها، ففي مثال: (أكرم كل عالم) يراد به طبيعة العالم الشاملة للأفراد كلها.

وقد يقال: إن الدال على الأفراد هو التنوين التنكيري، وأما مع عدم التنوين فلا دلالة على الأفراد فينصرف إلى استيعاب الأجزاء.

وفيه: أنه قد تكون دلالة على الأفراد من غير تنوين كقوله تعالى: {كُلُّ

ص: 335

الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ}(1) حيث أريد به الأفراد، هذا مضافاً إلى ظهور التنوين التنكيري في البدلية كما لو قال: (أكرم رجلاً) فما الوجه في انقلابه إلى الاستغراق في (أكرم كل رجل)؟

وقد يقال: إن الدال على الأجزاء هو اللام، لأنها تدل على العهد وهو ينافي التعدد الأفرادي.

وفيه: أن الأصل في اللام أن تكون للجنس لا للعهد، ولام الجنس لا تنافي التعدد الأفرادي، مضافاً إلى نقصان هذا الوجه حيث لم يُبيّن فيه سبب الدلالة على العموم الأفراد في المجرد عن اللام.

2- ومنها: النكرة في سياق النفي أو النهي

اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في الدلالة على العموم

وتلك الدلالة لأن نفي الطبيعة لا يصلح إلا مع عدم وجود أي فرد من أفرادها، وكذا لا يمكن امتثال النهي عنها إلا بترك جميع أفرادها، وذلك لما مرّ في بحث النواهي أن وجود الطبيعة يكون بوجود فرد منها، وعدم وجودها لا يكون إلا بعدم وجود جميع أفرادها، فالطبيعة بمعنى واحد وإنما الفرق لهذا الوجه العقلي غير المرتبط بنفس لفظ الطبيعة.

نعم قد يمتاز النهي عن النفي، بأنه كما يمكن النهي عن مطلق الطبيعة كذلك يمكن النهي عن صرف وجودها - بمعنى أول الوجودات - كما لو نهى عن الحركة لئلا يلتفت إليهم العدو، فمع الحركة أو التفات العدو

ص: 336


1- سورة آل عمران، الآية: 93.

يسقط النهي لعدم تعلّق غرض به حينئذٍ، لكن النهي عن صرف الوجود خلاف ظاهر النهي وهو يرتبط بالقرينة، وحينئذٍ فالنكرة في سياق النهي ظاهرة في النهي عن الطبيعة المطلقة فيدل السياق على العموم.

ومع هذا البيان لا حاجة إلى حمل مثل (رجل) في (لا رجل في الدار) و (في الدار رجل) على أن المراد به أقل المراتب - أي ذات الأقل لا الأقل مقيداً بالأقلية - فيكون نفي أقل المراتب متلازماً مع نفي الجميع، عكس إثبات أقل المراتب.

فإن حمله على أقل المراتب خلاف الظاهر، بل الظاهر هو الطبيعة المطلقة التي تتحقق بفرد واحد وتنعدم بانعدام جميع الأفراد.

وأشكل على دلالة السياق على العموم بأمور منها:

الإشكال الأول: إن المعرفة في سياق العموم قد تفيد العموم أيضاً مثل: (لا تكرم الفاسق) فلا فرق بينه وبين النكرة في (لا تكرم فاسقاً).

وفيه: أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، فالنكرة في سياق النفي تفيد العموم، كما أن المعرفة قد تفيد العموم، مع فرق أن المعرفة يلزم ملاحظة اللام إذ قد يراد بها فرداً معيناً بالعهد - الذكري أو الذهني أو الحضوري - فلابد من قرينة معينة لمعنى اللام، وأما في النكرة في سياق النفي فمع عدم القرينة يكون الظهور في الطبيعة فيدل السياق على العموم.

والحاصل: إن السياق فيها يدل على العموم عكس المعرفة، فلا يكتفي بالسياق بل لابد من تعيين المراد من اللام أيضاً.

الإشكال الثاني: إن هذا العموم في النكرة في سياق النهي، ليس في

ص: 337

مقام الجعل بل هو في مقام الامتثال فلا يرتبط بدلالة السياق عليه، إذ عدم الطبيعة بعدم جميع أفرادها إنما يكون في مقام الامتثال.

وفيه: أن هذا الإشكال خاص بالنكرة في سياق النهي ولا يشمل النكرة في سياق النفي، وذلك يدل على أن العموم يرتبط بجهة أخرى غير جهة الامتثال، مضافاً إلى سراية العموم من مقام الامتثال إلى مقام الجعل، بمعنى أن المولى الملتفت - ولو ارتكازاً - إلى أن عدم الطبيعة لا يكون إلا بعدم جميع أفرادها ينهى عنها بعموم أفرادها.

الإشكال الثالث: إن ذلك العموم يستفاد من الإطلاق لا من الوضع، فلابد من إدخاله في المطلقات دون العمومات.

وفيه: أن الدال على الاستيعاب هو السياق، فلا فرق بين أن يقول: (لا تكرم فاسقاً) أو (لا تكرم كل فاسق) وإجراء مقدمات الحكمة في المدخول لا يضر بالدلالة الوضعية للسياق على العموم، كما لم يكن يضر إجراؤها في مدخول (كل)، في دلالته وضعاً على العموم.

وبعبارة أخرى: إن دلالة النهي أو النفي على العموم تتبع النكرة في سعتها أو ضيقها، فالسياق يدل على جميع أفراد المنفي أو المنهي عنه، وأما مقدار هذا المنفي أو المنهي عنه فيرتبط بمقدمات الحكمة.

المطلب الثاني: قابلية تخصيص هذا العموم

قد يقال: إن العموم الثابت للنكرة في سياق النفي أو النهي يختلف عن سائر العمومات في كونه غير قابل للتخصيص، فإذا ورد إثبات في بعض المصاديق لم يكن مخصصاً بل معارضاً، فمثل: (لا رجل في الدار) يعارض (زيد في الدار) مثلاً!!

ص: 338

وفيه: أنه لا تعارض عرفاً لو كان متصلاً، وكذا لو كان منفصلاً، فلا فرق بين أن يقول: (لا تنصر أحداً إلا زيداً) وبين أن يقول: (لا تنصر أحداً) ثم يعقبه بفاصلة (أنصر زيداً) فلا نجد إلا التخصيص وهذا أمر ثابت بالوجدان.

وكذا في النفي المتصل، وأما المنفصل فقد يكون هناك ظهور في التعارض بين مثل: (لا أحد في الدار) ثم (زيد في الدار)، ولعله بسبب أن قوة السياق في نفي الطبيعة جعلت الكلام آبياً عن التخصيص، فتأمل.

3- ومنها: الجمع المحلّى باللام

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: دلالته على العموم

لا إشكال في دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم، لظهوره فيه عرفاً.

وقد يستدل لدلالته على العموم بأمور:

منها: صحة الاستثناء في مثل: (أكرم العلماء إلا زيداً)، والاستثناء يدل على العموم، وإلا لم يكن له وجه.

وفيه: أنه كما يصح الاستثناء من العام كذلك يمكن من المطلق فيصح مثلاً: (أحل الله البيع إلا الربا)، وذلك لأن الاستثناء يدل على الشمول في المستثنى منه، وهو أعم من العموم والإطلاق.

ومنها: لغوية الإتيان باللام لو لم يكن له دلالة على العموم.

وفيه: أن الداعي لاستعمال اللام متعدد، منها التزيين، ومنها مراعاة قواعد اللغة في التعريف والتنكير، ومنها العهد الذهني أو الذكري أو الحضوري، وغير ذلك.

ص: 339

المطلب الثاني: في بيان سبب دلالته على العموم

لا يخفى أن الجمع المحلّى باللام يتركب من اللام، وهيأة الجمع، والهيأة التركيبيّة منهما، ومن المادة، لا كلام في المادة، وإنما الكلام في أن الدال على العموم هل إحدى الثلاث الأولى، أو شيء آخر؟ وفي ذلك وجوه:

الوجه الأول: دلالة الهيأة التركيبية.

وفي سبب الدلالة احتمالات، منها:

الاحتمال الأول: إن هذه الهيأة معنى اسمي، ومعناها (المتعدد من الأفراد) وكل فرد من الأفراد هو مصداق لهذا المعنى.

وفيه: مضافاً إلى الإشكال في المبنى وذلك لكون الهيئات معانياً حرفية، أن الفرد ليس مصداقاً للمتعدد من الأفراد إلا بدلالة التزامية، وأن (المتعدد من الأفراد) لا دلالة له على الاستيعاب، بل هو أقرب إلى البدلية.

الاحتمال الثاني: هو أنه لا إشكال في دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم، ولا يمكن أن تكون هذه الدلالة من اللام ولا من الجمع، لما سيأتي من الإشكالات على كليهما، فلا يبقى إلا القول بدلالة الهيأة التركيبية على العموم وضعاً، مع كون المدلول معنى حرفياً، وهذا هو أقرب الوجوه كما سيتضح.

الوجه الثاني: دلالة اللام على العموم وضعاً.

ويرد عليه: أولاً: إنه يستلزم المجازية لو أريد من الجمع المحلّى باللام جماعة مخصوصة، إما لعهد ذكري أو ذهني أو حضوري، والمجازية حينئذٍ واضحة البطلان.

إن قلت: يمكن القول بالاشتراك بين العموم وبين العهد لجماعة

ص: 340

مخصوصة.

قلت: مضافاً إلى عدم شعورنا بالاشتراك حيث لا نجد فرقاً من حيث المعنى بين الموردين، أن الاشتراك سبب إجمال الكلمة لو لم تكن قرينة معيّنة، وظاهرهم هو الحمل على العموم مطلقاً، حتى مع عدم وجودها.

وثانياً: إنه يستلزم تعدد الوضع في اللام حيث إنها تدخل على المفرد ولا تدل على العموم، وتدخل على الجمع فتدل عليه، مع أن الظاهر أن معنى اللام واحد وهو العهد.

وثالثاً: قد تدخل (كل) وأمثالها على الجمع المحلّى، كقوله: (أكرم كل العلماء)، وحينئذٍ فإما يُصار إلى القول بالتأكيد، أو إلى دلالة كل منهما على الاستيعاب استقلالاً بأن تكون هنالك دلالتان على الاستيعاب، والأول خلاف الظاهر إذ الأصل هو التأسيس، والثاني يستلزم اجتماع المثلين، إذ المدخول وهو العلماء مستوعب فكيف يقبل الاستيعاب ثانية بواسطة (كل)؟!

وفيه نظر: إذ لا مانع من التأكيد لو دلّ الدليل على وضعهما للاستيعاب، كما لا اجتماع للمثلين لما مرّ من أن دلالة الألفاظ على المعاني إنما هو لكونها علامة لها، ولا مانع من وجود علامتين مستقلتين لشيء واحد، فليس هو من استيعاب المستوعب بل من الدلالة عليه.

الوجه الثالث: دلالة اللام على العهد، واستفادة العموم من جريان مقدمات الحكمة في مدخولها - أي الجمع - .

بيانه: أن الجمع يدل على البدل على مراتب كثيرة، أقلّها ثلاثة أفراد

ص: 341

وأكثرها استيعاب تمام الأفراد، وحيث إن اللام للعهد - وهو التعيين - فلابد من تعيين إحدى تلك المراتب للجمع، ولا يتحقق التعيين إلا في المرتبة العليا وهي استيعاب تمام الأفراد، لأن سائر المراتب غير معيّنة في أفراد معلومين، بل كل مرتبة منها قابلة للانطباق على بعض الأفراد دون بعض، مثلاً أدنى المراتب وهي ثلاث أفراد، غير معينّة بل يمكن انطباقها على كل ثلاثة في ضمن الأفراد فالثلاثة الأولى، والثلاثة الثانية، والثلاثة الثالثة... الخ، وهكذا سائر المراتب، حتى المرتبة التي هي قبل الاستيعاب - وذلك بخروج فرد واحد - فلا يُعلم هذا الفرد الخارج أيّاً من الأفراد.

والحاصل: إن اللام دلت على التعيين، والجمع دلّ على مرتبة من المراتب، فباقتضاء مقدمات الحكمة لابد من تعيّن تلك المرتبة في العُليا، لعدم التعيين في أيّ مرتبةٍ أخرى.

وبهذا البيان يتضح عدم ورود الإشكالات على هذا الوجه، ومنها:

الإشكال الأول: إن التعيّن غير منحصر في المرتبة العليا، بل المرتبة الدنيا - وهي أقل الجمع - أيضاً معيّنة، لكنها على البدل.

وأجيب: بأن المراد من العهد هو التعيّن في الخارج، لا التعيّن في الماهية، فماهية (الثلاثة) وإن كان معيناً إلا أنه لا تعيّن في الخارج، مع وضوح أن البدلية تنافي التعيّن، وأما أعلى المراتب فتعينها في الخارج وعلى الأفراد الخارجية.

وأما تقسيم العهد إلى الخارجي والذهني، فلا يراد من الذهني الكلي، بل يراد عدم حضور المعهود حين الذكر، فهي مصاديق خارجية غير حاضرة وهي معيّنة في الخارج ويكون الذهن مرآة لها.

ص: 342

الإشكال الثاني(1): قد يكون للأقلّ تعيّن خارجي أيضاً، وقد يكون قدر متيقن في مقام التخاطب، أو قدر متيقن في مقام خارج مقام التخاطب، وفي هذه الموارد لا تجري مقدمات الحكمة ومع ذلك لا إشكال في دلالة (الجمع المحلّى) على العموم، وبذلك نكتشف أن هذه الدلالة لا ترتبط بالإطلاق.

1- فالتعين الخارجي مثل قول المولى: (اصعد الطوابق) وكانت عشرة، فكل مرتبة من الثلاثة إلى التسعة معينة، إذ الثلاثة مثلاً معيّنة في الثلاثة الأولى فقط دون الثلاثة الثانية أو الثالثة، وهكذا سائر المراتب كلّها معيّنة، فكل المراتب معيّنة، فلا ينحصر التعيين في المرتبة العليا، ومع ذلك ظاهر اصعد الطوابق هو صعودها كلّها.

2- والقدر المتيقن في مقام التخاطب، مثل ما لو كان السؤال عن جماعة مخصوصة، كما لو سأل: هل أكرم فلاناً وفلاناً وفلاناً، فأجاب المولى: (أكرم العلماء)، فلا إشكال في عموم الجواب مع وجود قدر متيقن في مقام التخاطب، ولو كان استفادة العموم من مقدمات الحكمة لما دلّ الجواب على العموم، مع أنهم يلتزمون بأن خصوصية المورد لا تخصص الوارد حتى في مثل هذا.

3- والقدر المتيقن في خارج مقام التخاطب، كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) وكان أحدهم عدواً للمولى، فهو داخل في الأمر مع أن الدلالة على العموم لو كانت بالإطلاق لما دلّت عليه، لاخترام مقدمات الحكمة.

وفيه تأمل: أما الأول: فإن المراتب كلها وإن كانت معينةً خارجاً

ص: 343


1- بحوث في علم الأصول 3: 243.

ومصداقاً، إلا أنه لابد من الحمل على أعلى المراتب، لأنه القدر المتيقن، أما سائر المراتب - رغم تعينها - فهي غير متيقنة، اللهم إلا أن يقال: إن مرجع هذا إلى الأقل والأكثر الارتباطي الذي هو مجرى أصالة البراءة عن الزائد.

وأما الثاني: فقد يقال: إن مقدمات الحكمة وإن انخرمت بسبب وجود قدر متيقن، إلا أن ظاهر كلام المولى هو بيان علة إكرامهم وهو كونهم من العلماء، وهذه العلة تجري في غيرهم أيضاً لذا لا يختص الحكم فيهم، فتعليق الحكم على الوصف قد يُشعر بالعلية إلا أن القرائن المقامية قد تجعله ظاهراً في العلية، ومنها ما نحن فيه.

وأما الثالث: فلا محذور في الالتزام بعدم شمول الحكم لعدو المولى في المثال، حتى لو قلنا بالدلالة الوضعية، لأن القرينة اللبيّة كالقرينة اللفظية.

لكن الإنصاف: إمكان دفع هذه الملاحظات، وعليه لا يبعد صحة هذا الإشكال في الجملة.

الإشكال الثالث: إن التعيين بالمرتبة العليا لا يرتبط بمقدمات الحكمة، بل هو بدلالة الاقتضاء، إذ تصحيح كلام المولى يتوقف على حمل التعيين على المرتبة العليا، إذ لا تعيّن في سائر المراتب، والمرتبة المعيَّنة وهي المرتبة العليا، وهذه الدلالة لاترتبط بالإطلاق كي نحتاج إلى إجراء مقدمات الحكمة ثم الإشكال فيها، فتأمل.

المطلب الثالث: في عموم المدخول أو المراد

بناءً على وضع اللام للدلالة على العموم في الجمع المحلّى باللام يأتي كلام حول أن الدلالة على عموم ما ينطبق عليه المدخول أو عموم ما يراد

ص: 344

من المدخول في مثل: (أكرم العلماء العدول)، فعلى الأول يكون التضييق تخصيصاً، وعلى الثاني لا تخصيص بل هو من باب ضيّق فم الركية، وقد مرّ البحث في ذلك في مدخول (كل) فراجع.

وأما بناءً على دلالة اللام على التعيين فقط واستفادة العموم من مقدمات الحكمة، فلا موضوع لهذا البحث أصلاً، نعم لابد من معرفة معنى المدخول لنحمله على أعلى المراتب.

ص: 345

فصل في العام المخصَّص

اشارة

إذا خُصِّص العام بمخصِّص - متصل أو منفصل - ، فلا إشكال في عدم شمول حكم العام للخاص، وإنما الكلام في حجية العام في تمام الباقي.

وهنا شبهة، حاصلها: أن العام وُضع للعموم، فتخصيصه بمعنى استعماله في غير ما وضع له، وذلك مجاز، وحيث إن المجاز مراتب متعددة، ولا يوجد مُعيِّن لإحدى تلك المراتب، فيصبح هذا العام مجملاً، فلا حجية له على أيِّ مرتبة من المراتب، فلابد للقائل بحجيته في تمام الباقي من إقامة دليل على ذلك.

والجواب: تارة بإنكار المجازية وبيان المعيِّن لتمام الباقي، وأخرى بتسليم المجازية، فالكلام في مقامين:

المقام الأول: إنكار المجازية

مع بيان سبب تعيّن العام في تمام الباقي، وبيانه يختلف بحسب اختلاف المباني.

الأول: على مبنى القائل بأن أدوات العموم وضعت للدلالة على استيعاب ما يُراد من المدخول، مع استفادة ذلك من مقدمات الحكمة.

وعليه فإن المخصص لا يُنافي العموم، وإنما هو قرينة لبيان المراد من المدخول، فمثل: (أكرم كل عالم) لا يختلف معنى (كل) سواء خُصِّص

ص: 346

بمثل: (لا تكرم فساقهم) أم لم يخصص، فهي مستعملة بمعنى واحد هو عموم ما يراد من المدخول، وحينئذٍ فالمراد الواقعي والاستعمالي من أداة العموم هو شيء واحد، فلا مجازية ألبتة، وعليه فالدلالة على تمام الباقي كان بمقدمات الحكمة.

الثاني: على مبنى القائل بأن أدوات العموم موضوعة للدلالة على استيعاب ما ينطبق عليه المدخول، فلا مجازية أيضاً، وذلك لأن هذه الأدوات حتى بعد تخصيصها مستعملة بمعناها الموضوع له، وإنما المراد الجدي هو غير الخاص من أفرادها، والمجازية ترتبط بالدلالة الاستعمالية دون الدلالة الجديّة.

فالخاص لا ينافي ظهور العام في العموم، وإنما يتعارضان في المراد الجدي، فيتقدّم الخاص على العام لكونه أظهر، فلا يكون العام حجة في الخاص لوجود المعارض، وأما في غير الخاص فلا معارضة، فيبقى العام حجة فيه.

وذلك لأنه في مقام التكلّم يوجد أصلان عقلائيان:

أحدهما: أصالة الحقيقة، بأن يكون المتكلّم استعمل اللفظ في معناه الموضوع له، وبذلك ينفي العقلاء الخطأ والغلط والسهو، والمجاز.

والآخر: أصالة تطابق المراد الاستعمالي مع المراد الجدي، بأن يكون ظاهر كلام المتكلّم هو مراده واقعاً.

وحين التخصيص لا موجب لرفع اليد عن الدلالة الأولى، ليكون العام مستعملاً في غير ما وضع له، بل لا مانع من بقاء أصالة الحقيقة، وإنما الخاص يتعارض مع الإرادة الجدّية فيتقدم عليها.

ص: 347

وبعبارة أخرى: لابد بعد التخصيص من رفع اليد عن الإرادة الجدّية في موارد الخاص، ولا وجه لرفع اليد عن أصالة الحقيقة في العام نفسه.

وحينئذٍ ففي غير الخاص يجري كلا الأصلين، فيكون للكلام ظهور في الأفراد غير المخصصَّة مع تطابق هذا الظهور مع المراد الجدي، نعم يسقط الأصل الثاني في الأفراد المخصَّصة فقط.

إن قلت: لو كانت الإرادة الجدّية تخالف الإرادة الاستعمالية، فلماذا لم يذكر المتكلّم كلاماً يتطابق مع الإرادة الجدّية؟

قلت: الغرض من ذلك ضرب القاعدة والقانون، ليكون المرجع حين الشك في خروج بعض الأفراد، وخاصة مع استلزام بيان الإرادة الجدّية طول الكلام وكثرة ذكر القيود فيه، فيذكر المولى العام ليكون المرجع والحجة كلّما لم نجد مخصصاً له، فنكتشف الإرادة الجدّية بعد عدم وجدان المخصصات.

وأورد عليه عدة إشكالات، منها:

الإشكال الأول(1): لو لم يكن الإنشاء بعثاً حقيقياً في بعض الأفراد مع كونه متعلقاً به في مرحلة الإنشاء، لزم صدور الواحد عن داعيين، بلا جهة جامعة بينهما وهما ضرب القاعدة وجعل الداعي!!

ولا يكفي القول بأن الداعي هو مجرد جعل القاعدة، إذ لا يترتب عليها البعث لعدم إنشائه بداعي البعث كما لايترتب عليها الحجية إذ هي متقوّمة بالكاشف عن البعث، كما لا يمكن الالتزام بانقلاب الإنشاء بحيث كان قبل

ص: 348


1- نهاية الدراية 2: 450.

المخصص لجعل القاعدة وبعده لجعل الحجية!!

ويمكن أن يقال: أولاً: كل واحد من البعث وضرب القاعدة يكون جزء العلة لصدور الإنشاء بحيث يصلح للعلية التامة لو انفرد، هذا مع قطع النظر عن أن الداعيين ليسا عِلة وإنما هما من مقدماتها، حيث إنهما من المعدّات.

وثانياً: إن الداعي لو كان جعل القاعدة فيمكن القول بأن لازمه البعث، فلم يستلزم انخرام قاعدة الواحد، هذا مع الإشكال في أصل المبنى.

الإشكال الثاني(1): إن في الأمر بالعام ظهورين، أحدهما: الظهور الاستعمالي بمعنى أن العام مستعمل في معناه الحقيقي وهو العموم، والآخر: الظهور من حيث الداعي بمعنى كون الإنشاء بداعي البعث.

وبعد ورود الخاص لابد من رفع اليد عن أحد الظهورين، إما عن الظهور الاستعمالي بأن نقول: إن العام استعمل في الخاص، وإما عن الظهور من حيث الداعي بأن نقول: إن الأمر لم يصدر بداعي البعث بل بداعي جعل القاعدة، ولا مرجح لأحدهما على الآخر.

وفيه: أن المرجح موجود، وهو أنه بعد ورود المخصص نقطع بعدم كون الإنشاء بالنسبة إلى الخاص بداعي البعث، فهذا الظهور ساقط بهذا المقدار لا محالة، وأما الظهور الاستعمالي فلا قطع بسقوطه، بل ادعاء القطع بعدم سقوطه غير مجازفة، فليس (كل) بمعنى (بعض) استعمالاً.

ثم إن المحقق الإصفهاني أجاب عن كلا الإشكالين(2): وحاصله: أنه

ص: 349


1- نهاية الدراية 2: 450.
2- نهاية الدراية 2: 451.

يمكن أن يقال: إن المخصص المنفصل إما أن يرد قبل وقت الحاجة أو بعدها...

فعلى الأول: فالإنشاء وإن كان بداعي البعث الجديّ، إلا أنه إنما يكون بالإضافة إلى موضوعه - الذي يحدّده ويعيّنه بكلامين منفصلين - فإنه لو علم أن عادة هذا المتكلم هي إفادة مرامه الخصوصي بكلامين، لم يكن ظهور كلامه في العموم دليلاً على مرامه.

وعلى الثاني: فإن الإنشاء إنما هو بداعي البعث الجدي بالإضافة إلى الجميع، غاية الأمر إن البعث المزبور منبعث في بعض أفراد العام عن المصالح الواقعية الأولية، وفي بعضها الآخر عن المصالح الثانوية بحيث ينتهي أمدها بقيام المخصّص.

وفيه: أن هذا المقدار لا يكفي في دفع الإشكال، وذلك لعدم إثباته صدور الأمر بداعي جعل القانون والقاعدة، فمن الصحيح أن ظهور كلامه في العموم لا يكون دليلاً على مرامه، لكن كيف نثبت الدلالة على كون الكلام لجعل القاعدة؟! فتأمل.

الإشكال الثالث(1): إن معنى (استعمال العام في العموم ليكون قاعدة وحجة) يحتمل أحد وجهين: إما حجية العام على العموم إذا لم يرد مخصص، وإما حجيته على الباقي إذا ورد مخصص.

أما الأول: فلا يصح، بعد كون الغالب هو ورود الخاص قبل وقت العمل بالعام، وذلك لأن حجية العام إنما هي من باب أصالة العموم، التي تجري

ص: 350


1- منتقی الأصول 3: 307.

عند حضور وقت العمل لا قبل حضوره، إذ لم يقم بناء من العقلاء على جريانها قبل حضور وقت العمل.

وأما الثاني: فلأن الحجية على الخصوص إنما هي لكونه جزء مدلول العام، فيدل العام على الخاص بالدلالة التضمنية، وذلك لا يصح إذ استعمال العام مع إرادة الخاص لغو إذ كان يمكن التعبير عن الخاص باللفظ الدال عليه، مضافاً إلى أن هذا الكلام يبتني على عدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقيّة.

وفيه تأمل: أما الأول: فلقيام بناء العقلاء على الحجية حتى قبل وقت العمل، خصوصاً بناءً على القول بالواجب المعلّق، وتظهر الثمرة في الإتيان بالمقدمات، ويمكن التعبير عنه ب-(الحجية اللولائية).

وأما الثاني: فلعدم اللغوية وخاصة أن استعمال العام أكثر اختصاراً وأوضح، وكونه مرجعاً في المشكوكات، مع كثرة مصاديق العام وعدم انضباطها، فلابد من تكرار الأمر مرات وكرات في كل المصاديق أو الأصناف، فبدلاً من ذلك يأتي بلفظ واحد جامع - وهو العام - ثم يُخرج منه الخاص بألفاظ معدودة أيضاً، فأن يقول: (أكرم العلماء) ثم يقول: (لا تكرم زيداً) أفضل من أن يقول أكرم عمراً وبكراً وخالداً و... ثم يعدد سائرهم، بل قد لا يمكن تعدد أفراد العام لكثرتهم أو لورود العام بنحو القضية الحقيقية التي تشمل الأفراد التي ستوجد بعد ذلك.

مضافاً إلى عدم ابتنائه على تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية، وذلك لدلالة العام على جميع أفراده وحجيته فيها، وبالخاص خرج بعض الأفراد عن الحجية لا أن الدلالة المطابقية سقطت مع بقاء الدلالة التضمنية.

ص: 351

وبعبارة أخرى: إن الدلالة المطابقية - وهي المدلول الاستعمالي - باقية حتى بعد التخصيص، والحجية لم تسقط عن هذه الدلالة، وإنما استثني منها بعض الأفراد الخاصة، فمعنى (حجية العام على الباقي إذا ورد مخصص) ليس سقوط الحجية عن المدلول المطابقي، بل هي باقية مع استثناء بعض الأفراد.

المقام الثاني: التسليم بالمجازية

ولكن ترجيح المجاز في تمام الباقي على سائر المجازات، لأحد الوجوه التالية:

الوجه الأول: إن ترجيح المجاز في الباقي لأجل أن العقلاء يستعملون العام للإفهام، وحيث كثر التخصيص حتى قيل: (ما من عام إلا وقد خُصّ) فلو لو يكن العام مجازاً في الباقي لصار مجملاً لتعدد مراتب المجاز، وهو خلاف غرضهم من الاستعمال للإفهام، ولا طريق لرفع الإجمال إلا حمل العام على ما بقي بعد التخصيص، لأن سائر المراتب لا ترفع الإجمال، فلذا حملوا العام المخصص على هذه المرتبة، مما أوجب ظهور العام المخصص فيها من بين سائر المراتب، وهذا أقرب الوجوه.

الوجه الثاني: إن الباقي أقرب للعام من سائر المراتب.

وأشكل عليه: بأن الأقربية لا توجب ظهوراً، بل الظهور إنما يحصل بسبب كثرة الاستعمال الموجب للأنس بحيث ينسبق المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ.

أقول: إن الأقربية من حيث الكم وإن لم تكن سبباً لترجيح هذه المرتبة،

ص: 352

إلا أن الكلام هو بعد قبول ظهور العام المخصص في تمام الباقي والبحث عن النكتة الارتكازية التي أوجبت ترجيح العقلاء هذه المرتبة من المجاز على سائر المراتب.

الوجه الثالث: إن العام يدل على جميع أفراده، فخروج بعض الأفراد بالتخصيص وإن استلزم المجازية، لكن تلك المجازية إنما هي لأجل عدم شمول العام لأفراد الخاص، لا بسبب دخول أفراد لم تكن مصاديق للعام، وحينئذٍ فالمقتضي للحمل على الباقي - وهو كونها أفراد للعام - موجود، والمانع مفقود، لأن المانع هو صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه عن الباقي، إذ التخصيص إنما هو في أفراد الخاص لا في سائر الأفراد.

وعلى هذا الوجه حمل صاحب الكفاية ما في تقريرات الشيخ الأعظم(1).

وأشكل عليه: بأن الدلالة على كل فرد من الأفراد ناشئة عن العموم، وقد سقط دلالة العام على العموم باستعماله في إحدى المراتب مجازاً، ولا يوجد ما يُعيّن تلك المرتبة، إذ بارتفاع الدلالة المطابقية ترتفع الدلالة التضمنية أيضاً.

الوجه الرابع: وبه فُسّرت عبارات التقريرات أيضاً، وحاصله: أن العام الاستغراقي يدل على كل فرد من أفراده بدلالة استقلالية لا ترتبط بدلالته على فرد آخر، كذلك ثبوت الحكم في كل فرد غير مرتبط بدلالته بالفرد الآخر، وعليه: فلو قام دليل ينفي دلالة العام على بعض الأفراد بقيت الدلالة على سائر الأفراد فيبقى فيها الحكم.

ص: 353


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 32-34.

وأشكل عليه: بأن الدلالة الاستقلالية على كل فرد إنما هي بمعنى استعمال اللفظ في أكثر من معنى، مضافاً إلى أن العام لم يوضع للدلالة على كل فرد استقلالاً بل دلالته عليها هي دلالة تضمنيّة.

الوجه الخامس: إنه قد تكون المجازات متباينة، فمع عدم إرادة المعنى الحقيقي لابد من وجود قرينة تعيّن إحدى المجازات وإلا صار الكلام مجملاً.

وأما مع عدم تباينها بأن كانت من الأقل والأكثر حيث إن الأكثر هو الأقل مع زيادة، فحينئذٍ لا محذور في إرادة جميع المجازات مع تداخل بعضها في بعض، فالقرينة تصرف الكلام عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي وحيث لا تباين فيمكن حمل اللفظ على جميع تلك المجازات!!

ويرد عليه: أن الإمكان لا يعني الوقوع فما هو الدليل على ذلك، بل يبقى الإجمال أيضاً مثلاً لو قال: (جاء الرجال) ثم قال إلا (بعضهم) فهل يحمل البعض على الواحد فقط لتداخل مراتب البعض؟! أم يقال بالإجمال كالمجازات المتباينة.

مضافاً إلى أن الأكثر (لا بشرط) لا ينافي الأقل بل هو الأقل وزيادة، أما لو كان (بشرط لا) كما هو الظاهر في التخصيص فيكون من المتباينين، فتأمل.

ص: 354

فصل في إجمال المخصص

اشارة

لو كان الخاص مجملاً فهل يسري إجماله إلى العام بحيث يسقط عن الحجية في كلّ ما احتمل كونه من الخاص أم لا؟

فنقول: إن الشبهة إما مفهومية أو مصداقية، والخاص إما يكون متصلاً أو منفصلاً، وكل منهما إما يكون الدوران بين المتباينين أو الأقل والأكثر، فهنا مقامات ثلاث:

المقام الأول: في الشبهة المفهومية

كما لو قال: (أكرم العلماء)، ثم استثنى الفاسق، وتردد الفاسق بين مرتكب الكبيرة وبين مرتكب الذنب مطلقاً - كبيرة كان أو صغيرة - ، أو استثنى زيداً وتردد زيد بين زيد بن عمرو أو زيد بن بكر مثلاً، فالكلام في صور أربع:

الصورة الأولى: المتصل المردّد بين الأقل والأكثر.

وحينئذٍ لا ظهور للعام إلا في غير الخاص فمثل: (أكرم العلماء إلا الفساق) لا ينعقد ظهور للعام إلا في غير الفساق، فالموضوع هو (العالم غير الفاسق)، وهذا العنوان غير معلوم الانطباق على مرتكب الصغيرة - في المثال - ، فيكون التمسك بالعام فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للعام، وهو واضح البطلان.

ص: 355

الصورة الثانية: المتصل المردّد بين المتباينين.

فأيضاً لا ينعقد ظهور للعام إلا في غير الخاص، ففي مثال تردد زيد بين ابن عمرو أو ابن بكر لا ظهور للعام في أيٍّ منهما، فلا يكون حجة فيهما.

وقد يقال: إن شمول حكم العام بالإرادة الجدّية لأحدهما مسلَّم، إلا أنه غير معلوم ومردّد بين فردين مثلاً، فيكون من موارد العلم الإجمالي...

فإن كان العام واجباً والخاص جائزاً أو بالعكس، فحينئذٍ لابد من الاحتياط بإجراء حكم الوجوب على كلا الخاصين المتباينين لإدراك الواقع بينهما.

وإن كان أحدهما واجباً والآخر محرّماً فيكون في موارد التخيير بفعل أحدهما وترك الآخر مع عدم جواز فعلهما معاً أو تركهما معاً لاستلزام ذلك المخالفة القطعية.

والحاصل: إن العام وإن لم يكن ظاهراً في كلا المتباينين، لكن مقتضى العلم الإجمالي هو ما ذكر.

الصورة الثالثة: الخاص المنفصل المردد بين متباينين.

فالعام وإن كان ظاهراً فيهما، لانعقاد ظهوره في العموم، إلا أنه ليس بحجة فيهما، وذلك للتعارض الحاصل بين الفردين، حيث نعلم إجمالاً بخروج أحدهما عن حكم العام فالتخصيص يضيّق دائرة حجية العام في غير الخاص، وحيث تردد الخاص بين متباينين فلا يكون حجة في أيٍّ منهما.

وقد يقال: إن العلم الإجمالي كما يقتضي خروج أحدهما عن حكم

ص: 356

العام كذلك يقتضي شمول الحكم لأحدهما أيضاً، فلابد من الاحتياط، كما مرّ في الصورة الماضية.

الصورة الرابعة: الخاص المنفصل المردد بين الأقل والأكثر.

أما الأقل فمعلوم الخروج عن حكم العام بلا إشكال، وأما الأكثر فخروجه مشكوك - كمرتكب الصغيرة في المثال - ، وحينئذٍ فقد يقال: بحجية العام في مورد الشك، وذلك لانعقاد ظهور العام في العموم قبل ورود المخصص، فيكون العام حجة في جميع الأفراد لأصالة مطابقة الإرادة الاستعمالية للإرادة الجدّية، وحينئذٍ مزاحمة الخاص إنما هو في المقدار المعلوم وهو الأقل فيترجح على العام لكون الخاص أقوى منه دلالةً.

وبعبارة أخرى: إن الخاص إنما يزاحم العام فيما كان الخاص حجة فيه - وهو الأقل الذي هو القدر المتيقن - أما في غيره فلا حجية للخاص فيه فلا يزاحم العام، فيكون العام حجة فيه من غير مزاحم حيث انعقد ظهور العام فيه مع أصالة المطابقة كما بينّاه.

وأشكل عليه(1): بما حاصله: أن حجية الخاص إنما هي فيما كان الخاص ظاهراً فيه فعلاً، للغوية جعل الحجية فيما لم يكن اللفظ ظاهراً فيه، كخبر الواحد المجمل الذي قد يقال بعدم شمول أدلة الحجية له للغوية جعل الحجية بعد ما لم يكن له أثر، وحينئذٍ لا يكون الخاص حجة إلا في المقدار المعلوم، وأما المشكوك فلا حجية له فيه، فيبقى العام بلا مزاحم في حجيته!!

إن قلت: جعل الحجية فيما نحن فيه ليس بلغو، لترتب أثر عملي مهم

ص: 357


1- منتقی الأصول 3: 317.

عليه، وهو سلب حجية العام في الموارد المشكوكة، فعليه فالحجية لواقع الخاص حتى لو لم يكن ظاهراً فيه، وحينئذٍ فالخاص يستلزم تضييق دائرة حجية العام بغير العنوان الواقعي للخاص، فالعبد يعلم بعد ورود الخاص بأن العام الصادر أولاً لايراد به جميع الأفراد، فالمراد الواقعي من العام تضيّق بمجيء الخاص، وحيث لا يعلم مقدار دلالته صار العام مجملاً في الأفراد المشكوكة، وأثر ذلك هو التوقف عن إثبات حكم العام لما يشك في كونه من أفراد الخاص!

قلت: هذا الكلام وإن كان متيناً، لكنه يُبتنى على القول بعدم انحلال العلم الإجمالي المردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فيثبت حينئذٍ إجمال العام في مورد الشك.

لكن الصحيح هو أن العلم الإجمالي بين الأقل والأكثر الارتباطيين ينحل إلى علم تفصيلي بالأقل وشك بدوي في الأكثر، لأنه وإن علم إجمالاً بثبوت الحكم على واقع الخاص، لكنه منحل كما عرفت، فلا دليل على خروج الأكثر عن العام.

بل يمكن القول برجوع الشبهة المفهومية إلى الأقل والأكثر الاستقلاليين لأن الحكم في العام ينحل بعدد الأفراد - في العام الاستغراقي - ولا إشكال في الانحلال حينئذٍ، فتأمل.

المقام الثاني: في الشبهة المصداقية

اشارة

وهي فيما إذا عُلم مفهوم الخاص بحدوده مع الشك في انطباقه على بعض الأفراد، للاشتباه خارجاً، كما لو علم بمفهوم الفسق لكن شك في

ص: 358

كون زيد فاسقاً أم لا مثلاً، وهذا أيضاً إما في الخاص المتصل أو المنفصل، وكل واحد منهما إما يدور الأمر بين المتباينين أو الأقل والأكثر.

1- أما المتصل

سواء من المتباينين أم الأقل والأكثر، فإن ظهور العام لاينعقد إلا في غير الخاص، فالفرد المشكوك كما يُشك انطباق الخاص عليه كذلك يُشك في انطباق العام عليه، فيكون التمسك بالعام فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للعام نفسه، وعليه فلا إشكال في عدم جواز التمسك بالعام حينئذٍ.

مثل ما لو قال: (أكرم العلماء إلا الفساق) يكون ظهور العام في (العالم غير الفاسق) وهذا هو الذي صار موضوعاً لوجوب الإكرام، فمع الشك في فسق زيد لا نعلم بانطباق عنوان العام وهو (العالم غير الفاسق) عليه، وبعبارة أخرى: يتعنون العام بعنوان الخاص المتصل فلا يُعلم شموله للفرد المشكوك أصلاً.

2- وأما المنفصل
اشارة

فتارة يكون الخاص لفظياً، وأخرى لبيّاً، فالكلام في موردين:

المورد الأول: المخصص اللفظي

فقد قيل: بجواز التمسك بالعام في المصداق المشكوك كونه من الخاص، وقيل: بعدم جواز التمسك به.

أما الجواز فقد يستدل له بأمور منها:

الدليل الأول: إن العام انعقد له ظهور في العموم، فيكون حجة فيه لأصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية، وأما الخاص فليس له

ص: 359

ظهور في الفرد المشكوك فلا يكون حجة فيه، فلا مزاحمة من الخاص للعام في مقام الحجية.

وبعبارة أخرى: كما عن المحقق الإصفهاني(1)

إن الحكم إنما يكون فعلياً لو وصل إلى المكلّف، إذ قد مرّ أن البعث والزجر هو بمعنى جعل ما يمكن أن يكون داعياً أو زاجراً، ومع عدم وصول الحكم والجهل به لا يُعقل ذلك، فلا يكون الحكم فعلياً، وفيما نحن فيه: انطباق عنوان العام على الفرد المشكوك معلوم فيكون حجة فيه، وانطباق عنوان الخاص غير معلوم فلا يكون المخصّص حجة فيه، إذ الأول فعلي والثاني غير فعلي، ومناط المعارضة هو فعلية كلا المتعارضين لا مجرد صدور الإنشائين المتناقضين، وحينئذٍ فإن مجرد ورود المخصص لا يوجب اختصاص حجية العام بما عدا المعنون بعنوان الخاص، غاية الأمر إن حكم العام بالنسبة إلى العالم العادل الواقعي حكم واقعي، وبالإضافة إلى الفاسق الواقعي المشكوك فسقه حكم ظاهري، بمعنى أنه رُتّب حكم فعلي على موضوع محكوم بحكم مخالف واقعي.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: بأن العام وإن كان ظاهراً في الفرد المشكوك، لكن حجيته فيه غير معلومة وذلك لأن الخاص يوجب تضييق حجية العام بغير الخاص.

فإن المخصص كاشف نوعي عن عدم وجوب إكرام العالم الفاسق،

ص: 360


1- نهاية الدراية 2: 454-455.

ولازمه قصر حكم العام على بعض مدلوله، فهنا كاشفان نوعيان لايرتبط حجية أحدهما بالآخر، وقصر حكم العام لايدور مدار انطباق عنوان المخصص على شخص في الخارج حتى يتوهم عدمه مع عدم الانطباق، بل لازم وجود هذا الكاشف الأقوى اختصاص الحكم العمومي ببعض أفراده، وحيث إنه أقوى فيكون حجة رافعة لحجية العام بالإضافة إلى بعض مدلوله(1).

وبعبارة أخرى: المخصّص كما يكشف نوعاً عن ثبوت الحكم لعنوان الخاص، كذلك يكشف بالملازمة عن نفي حكم العام عن عنوان الخاص للمنافاة بينهما، ولازمه عقلاً هو قصر حكم العام على بعض مدلوله.

وفيه: - مع قطع النظر عن الإشكالات المبنائية - أن حجية الخاص إنما هي في الأفراد الواصلة وهي الأفراد المعلوم كونها من مصاديق الخاص، وأما الأفراد المشكوكة فليس الخاص حجة فيها لعدم وصول شيء فيها، وعليه: فإن الخاص يضيّق دائرة العام ويقصره على غير الأفراد المعلوم كونها من الخاص، فلا دلالة مطابقية للخاص على حجيته في الأفراد المشكوكة، فتسقط الدلالة الالتزامية - الدالة علی تضييق العام وعدم شموله للأفراد المشكوكة - ، وحينئذٍ ينطبق العام على الفرد المشكوك من غير معارض، فتأمل.

الإشكال الثاني: عدم الفرق بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية، فكيف تمسكوا بالعام في الشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل والأكثر، ولم

ص: 361


1- نهاية الدراية 2: 455.

يتمسكوا بالعام في الشبهة المصداقية الدائرة بينهما، مع وحدة الدليل والإشكال في كلا الموردين؟!!

وأجيب(1): ببيان الفرق بين الموردين، وحاصله: بأن الأحكام في القضايا الشرعية هي بنحو جعل الحكم على الموضوع المفروض تحققه، فيكون مفادها هو ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع، فلا نظر للمولى إلى جهة انطباق الموضوع على مصاديقه ولا يتدخل فيها، ولذا يصح جعل حكم على موضوع لا وجود له فعلاً، وبعبارة موجزة: إن القضايا تتكفل بيان الكبريات، وأما الصغريات فإحرازها على المكلف بنفسه.

وحيث كان مدلول الدليل هذا فالحجية تنحصر في هذا المقدار فقط، بمعنى أن الإرادة الواقعية تعلّقت بثبوت الحكم على الموضوع المفروض الوجود.

وعليه: فالمصداق الخارجي للخاص لا يتكفل فيه لا الدليل العام ولا الدليل الخاص إذ لا يرتبطان بالمصداق الخارجي أصلاً، فعدم حجية الخاص في المصداق المشتبه لا يصحح التمسك بالعام في ذلك المصداق، لعدم حجية العام فيه أيضاً، بل إطلاق عدم الحجية على المصداق الخارجي إطلاق مسامحي لأن مقام حجية الدليل لا يرتبط بالخارج أصلاً.

فاتضح الفرق بين الشبهة المفهومية والمصداقية، إذ في الشبهة المفهومية بين الأقل والأكثر يكون الخاص في مورد اشتباه المفهوم مجملاً فلا يكون مزاحماً للعام إلا بمقدار كشفه عن المراد الجدي - وهو القدر المتيقن -

ص: 362


1- منتقی الأصول 3: 325.

فيبقى العام بلا مزاحم، وليس كذلك في مورد الشبهة المصداقية، فإنه لا قصور للخاص في مقام الحجية أصلاً.

وفيه تأمل: لأن لازمه عدم حجية العام ولا الخاص في المصاديق المعلومة أيضاً، إذ على هذا الكلام لانظر للدليل إلى المصاديق الخارجية!! وتصحيح حجية العام أو الخاص في المصاديق المعلومة إنما يكون عبر القول بأن الحكم كان يرتبط بالموضوع المفروض الوجود وقد فرض وجوده هنا، فكذلك فيما نحن فيه إذ الفرد المشكوك كونه من الخاص مفروض الوجود للدليل العام فيكون الدليل العام حجة فيه، وليس مفروض الوجود للدليل الخاص فلا يكون حجة فيه، فتحصل عدم الفرق بين الموردين والتفريق من غير فارق، فتأمل.

الدليل الثاني: ما استدل به المحقق العراقي(1) علی حجية العام في الشبهة المصداقية للخاص إذا نشأ الاشتباه عن اشتباه الحکم، لا إذا نشأ من الاشتباه الخارجي، وحاصل کلامه يرتکز علی نقطتين:

النقطة الأولی: بيان الفرق بين التخصيص والتقييد، وأن التخصيص لايوجب تعنون العام بعنوان الخاص بل يبقی علی عمومه، فالتخصيص إنما هو من قبيل إنعدام بعض الأفراد - بموت أو نحوه - ولايقتضي إحداث عنوان سلبي أو إيجابي في ناحية الأفراد الباقية، فلا تنقلب عن کونها تمام الموضوع للحکم إلی جزئه، وأما التقييد فإنه يوجب تعنون عنوان العام بأمر وجودي أو عدمي، وعليه ففي العام يكون أصل تطبيق العنوان علی المورد

ص: 363


1- نهاية الأفکار 1: 519-522.

عند الشك جزمياً، وبعد هذا الجزم فإنه يكفي في الحجية احتمال مطابقة هذا الظهور للواقع في الأفراد المشکوکة، وذلك لشمول دليل التعبد بالظهور الآمر بإلغاء احتمال الخلاف، لکفاية احتمال مطابقة الظهور للواقع في لزوم التعبد بذلك الظهور.

وبعبارة أخری: إن شأن التخصيص - سواء في المتصل أو المنفصل - إنما هو مجرد إخراج بعض الأفراد أو الأصناف عن تحت حکم العام و تخصيصه بالأفراد المتبقية، ولا يقتضي إحداث عنوان إيجابي أو سلبي في الأفراد الباقية في مقام موضوعيتها للحکم، فالتخصيص بمنزلة انعدام بعض الأفراد، ومجرد اختصاص حکم العام حينئذٍ بغير دائرة الخاص لايكون من جهة تعنون الأفراد الباقية بعنوان خاص، بل إنما ذلك من جهة القصور في نفس الحکم الناشیء من جهة تضييق دائرة الغرض والمصلحة عن الشمول ثبوتاً بغير الأفراد الباقية.

وأما باب التقييد فليس کذلك، بل التقييد بشيء يقتضي تعنون موضوع الحکم بوصف وجودي أو عدمي غير حاصل قبل توصيفه به، فمثل: اعتق رقبة، واعتق رقبة مؤمنة، تنقلب الرقبة من کونها تمام الموضوع إلی جزء الموضوع، فالموضوع حينئذٍ (الرقبة المقيدة بالإيمان).

النقطة الثانية: إنه في الشبهة المصداقية، قد تکون شبهة حکمية بمعنی الاشتباه في منافاة عنوانٍ ما لحکم العام، کعنوان النحوي لقوله: أکرم العلماء مثلاً، وقد تکون شبهة موضوعية بمعنی الشك في ثبوت المنافي - المعلوم منافاته - في فرد من أفراد العام، کالشك في فسق زيد بعد العلم بإخراج الفساق عن قوله: أکرم العلماء مثلاً.

ص: 364

أما في الشبهة الحکمية فالعام حجة، لأن مرجع رفع الجهل فيها هو المولی، فهو يتصدي لإثبات الحکم، وحيث ثبت ذلك بالعام ولم يثبت وجود الخاص کان العام حجة.

وأما في الشبهة الموضوعية، فليس العام بحجة، إذ موضوع الحجية هو الظهور التصديقي للکلام، وهو يتوقف علی کون المتکلّم بصدد الإفادة والاستفادة عبر اللفظ، وذلك يتوقف علی إلتفاته لمرامه، والموالي العرفية قد يجهلون انطباق مرامهم علی الأفراد الخارجية، ومع جهلهم واحتمال خروج الفرد المشکوك عن مرامهم کيف يتعلق قصدهم بتفهيمه؟!

وأشکل الأولی: بأنه لايمکن ضيق الحکم وقصوره مع عموم الموضوع وسعته، وذلك لأن الحکم يتبع الموضوع - إن واسعاً فواسع و إن ضيقاً فضيق - ، وبعبارة أخری(1):

الموضوع في مرحلة الثبوت إما مطلق أو مقيد بغير الخاص أو مهمل، والإطلاق ينافي التخصيص، والإهمال ثبوتاً غير ممکن، فلم يبق إلاّ التقييد بغير الخاص.

ولا يصح التنظير بموت أحد الأفراد، لأن الموضوع إنما هو الموضوع المفروض الوجود بلا نظر إلی الخارج، فانتفاء أحد الأفراد خارجاً لايوجب تغيراً في الموضوع، بخلاف التخصيص فإنه يزاحم الدليل العام في حجيته.

وأشکل الثانية: بأن إجمال الخاص يسري إلی إجمال العام، فلا يعلم حينئذٍ بتصدي المولی لإثبات الحکم العام في العنوان المشکوك، فحينئذٍ لم تحرز دلالة العام أصلاً في العنوان المشکوك ليكون حجة فيه.

ص: 365


1- منتقی الأصول 3: 331.

الدليل الثالث: ما نقله المحقق النائيني مع ردّه(1)، وحاصله: أن المتکلّم في إلقائه العام کأنّه قد جمع النتائج وذکر حکم الأفراد بعبارة العام، فکل فرد من أفراد العام قد ذکر حکمه بذکر العام، ومن جملة الأفراد الفرد المشکوك، وحيث لم يُعلم دخوله في الخاص وجب ترتيب ما ذکره أولاً - أي في العام - .

ويرد عليه: أن القضية إما حقيقية أو خارجية.

أما الحقيقية: فلا تعرّض فيها لحکم الأفراد، وإنما سيقت لبيان الکبری الکلية، وإنما يعلم حکم الأفراد بعد ضم الصغری إليها.

وأما الخارجية: فإن العنوان فيها و إن لم يكن له دخل في مناط الحکم، إلاّ أنه - علی کل حال - لوحظ مرآةً لما يحتوي من أفراد، وهي الأفراد ما عدی الفرد الذي ينطبق عليه عنوان الخاص، وحينئذٍ فالمشکوك لايحرز کونه من أفراد العام الذي لايكون معنوناً بعنوان الخاص.

وبعبارة أخری - کما قيل -: کيفية استعمال العام والخاص في الحقيقية والخارجية علی نهج واحد، غاية الأمر في الحقيقية کانت أصالة العموم قبل المخصص محرزة لکون عنوان العام تمام الموضوع للحکم الواقعي، وفي الخارجية کانت محرزة لکون المتکلم لم يحرز وجود ما لايريده في ضمن أفراد العام، ولکن بعد ورود الخاص نعلم أن المولی أحرز فرداً لا يريده، وبذلك نحرز أنه لايريد کل أفراد العام بل خصوص ما لم يكن من أفراد الخاص، و أن مجرد کونه فرداً للعام ليس موجباً للحکم، فالمشکوك لايعلم اندراجه تحت العام، کما لو قال: أکرم کل من في الدار، ولا تکرم عدوّي

ص: 366


1- فوائد الأصول 1: 527.

الذي هو في الدار.

الدليل الرابع: ما نقله المحقق النائيني أيضاً مع ردّه(1)،

وحاصله: أن العام حجة في الفرد المشکوك، لکونه من أفراد العام، والخاص ليس بحجة فيه للشك في کونه فرداً له، فيجب الأخذ بالحجة وترك اللاحجة.

وفيه: أن عنوان العام بعد ما صار جزء الموضوع لمکان الخاص، لايكون حجة في الفرد المشکوك، فيكون هذا الفرد بالنسبة إلی العام والخاص علی حدّ سواء في عدم الحجية، ولاتجري أصالة العموم کما تقدم.

إن قلت: فکيف تتمسکون بالأصول العملية عند الشك؟ کما لو شك في کون شيء حلالاً أم حراماً فإنه يتمسك بمثل أصالة الحل، فکذلك عند اندراج الفرد المشکوك فيما هو المراد من العام يتمسك بمثل أصالة العموم.

قلت: بينهما فرق، إذ الأصول العملية مجعولة في مرتبة عدم الوصول إلی الواقع واليأس عنه، بخلاف الأصول اللفظية، فإنها واقعة في طريق إحراز الواقع والوصول إليه، والمفروض أنه قد أحرز المراد الواقعي من العام، وهو العالم غير الفاسق مثلاً، أما کون زيد عالماً غير فاسق فهو أجنبي عن المراد الواقعي، فلا تجري فيه أصالة العموم.

الدليل الخامس: التمسك بدلالة العام لإثبات عدم دخول الفرد المشکوك في الخاص، ففي المثال نتمسك بأکرم العلماء لإثبات أن هذا الفرد المشکوك ليس بفاسق فليس داخلاً في الخاص، وبذلك نحرز دخوله في العام موضوعاً دون الخاص.

ص: 367


1- فوائد الأصول 1: 528.

وأشکل عليه: بأنه إما يراد عدم کونه فرداً للخاص واقعاً و إما عدم کونه فرداً له ظاهراً.

والأول: ليس بصحيح، لأن تشخيص انطباق العنوان أو عدم انطباقه ليس من شؤون المولی بما هو مشرّع، نعم إذا تصدي المولی لتشخيص الانطباق فذلك آية علی أنه قد أحرز القيد خارجاً و أنه أراد إرشاد العبد إليه.

والثاني: و إن کان من شؤون المولی، إذ جعل الموضوع الظاهري من شؤونه فيترتب عليه الحکم الظاهري، إلاّ أنه غير ممکن، إذ لا يمکن للدليل العام وهو دليل واحد أن يدل علی الحکمين الظاهري و الواقعي معاً وذلك للطولية بينهما، فلابد من جعل حکم واقعي ثم جعل حکم ظاهري عند الشك في ذلك الحکم الواقعي، فالظاهري متأخر عن الواقعي بمرتبتين فلا يعقل جعلهما معاً بدليل واحد کما لايمکن للدليل العام أن يدل علی الحکم الظاهري فقط دون الواقعي، وذلك لأن الظاهري فرع وجود الواقعي مضافاً إلی استلزام هذا عدم وجود حکم واقعي في سائر أفراد العام.

المورد الثاني: في المخصص اللبي

وقد يقال: بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للخاص إذا کان الخاص لبيّاً، کما لو قال المولی: (أکرم جيراني) و علمنا من قرائن خارجية بأنه لايريد إکرام أعدائه، و حينئذٍ فقد قام بناء العقلاء وسيرتهم علی التمسك بالعام في الفرد المشکوك کونه من الخاص.

واستدل له المحقق الإصفهاني(1):

بأن العام کما يدل علی عدم منافاة

ص: 368


1- نهاية الدراية 2: 457.

عنوانٍ ما لحکمه، کذلك يدل علی عدم وجود المنافي بين أفراده، فأصالة العموم محکمة في کلا الشبهتين - الحکمية والموضوعية - والمخصص اللفظي يدل علی کلا الأمرين، فکما يدل علی منافاة عنوان الخاص، کذلك يدل علی وجود المنافي، وإلاّ کان تصدي المولی لبيانه عبثاً، وعليه فالمخصص اللفظي يمنع حجية العام في کلتا الشبهتين، لکن المخصص اللُبي لايكشف إلاّ عن وجود المنافاة دون وجود المنافي لأن المنافاة الواقعية لاتدل علی وجود المنافي ولا لغو ولا عبث لعدم تصدي المولی لبيان هذا، وعليه فالمخصص اللُبي لايكشف إلا عن وجود المنافاة دون المنافي فيمنع عن حجية العام في الشبهة الحکمية دون الموضوعية.

وأشکل عليه: بأنه لايتم لا في القضية الحقيقية ولا الخارجية.

أما في القضية الحقيقية: فإن وجود الخاص - حتی اللُبي منه - يكشف عن عدم عموم المراد الجدي، إذ المولی لم يتصدَّ لتشخيص موضوع الحکم، بل تصدّی لإثبات الحکم علی تقدير الموضوع، فالمنافاة الواقعية تکشف عن عدم سعة إرادة المولی فلا يصل الأمر إلی لغوية أو عدم لغوية التخصيص.

و أما في القضية الخارجية: فإنه لو علمنا بوجود أعداء في الجيران نعلم بأن المولی لم يكن في مقام تعميم الحکم إليهم، بل أوکل تشخيص الموضوع إلی العبد، نعم مع عدم علمنا بوجود الأعداء فيهم فإن ظاهر تعميم المولی هو کونه في مقام استقصائهم بحيث تصدي لتشخيص الموضوع، فمع عدم ذکره للخاص نکتشف إحرازه عدم عداوة أيِّ واحدٍ

ص: 369

من الجيران، فمع الشك نجري حکم العام عملاً بهذا الظاهر فتأمل.

وقد مثّلوا للمخصص اللبي في القضية الخارجية بمثل ما ورد في الزيارة «ولعن الله بني أمية قاطبة»(1) مع وجود المخصص اللبي المستفاد من مجمل الأدلة وهو (حرمة لعن المؤمن منهم).

وقد ذهب المحقق الخراساني(2) إلی جواز التمسك بالعام لإثبات أن الفرد المشکوك ليس مؤمناً، فيقال: بأن فلاناً - و إن شك في إيمانه - يجوز لعنه، لمکان العموم، وکل من جاز لعنه لايكون مؤمناً، فينتج أنه ليس بمؤمن.

وقد يشترط أن لايثبت في الخارج وجود أفراد مؤمنين فيهم، وإلاّ کان ذلك قرينة علی أن المولی لم يتصدّ بنفسه لإحراز القيد في الأفراد الخارجية، إذ لو کان متصدياً کيف لم ينبّه علی وجود فرد من العام داخل في الخاص؟ وعليه فلابد أن يتصدی العبد بنفسه للتحقيق.

ففي المثال القضية خارجية ولم يثبت المخصص باللفظ حيث لم يرد لفظ خاص بالنهي عن لعن مؤمن بني أمية و إنما علمنا بهذا التخصيص من منهج الشارع، کما لم يعلم وجود أموي مؤمن خارجاً، و عليه فيجوز لعن کل أموي حتی لو شك في إيمانه، وذلك لبقاء ظهور العام في العموم حتی لهذا الفرد.

وأشکل عليه: بأن هذا المثال ليس من التخصيص بل هو من التخصّص،

ص: 370


1- مصباح المتهجّد: 774.
2- إيضاح کفاية الأصول 3: 52.

وقد توقف المحقق الخراساني و غيره: في جواز التمسك بالعام لإثبات التخصّص، فکيف تمسّکوا بالعام في هذا المثال مع کونه من موارده؟ إذ العام هو (لعن بني أمية قاطبة)، والخاص (يحرم لعن المؤمن منهم)، و عکس النقيض هو (من لايحرم لعنه ليس بمؤمن) فإذا کان العام قد تکفل إثبات جواز اللعن، کان دالاً بعکس النقيض علی عدم کون الفرد مؤمناً و أنه خارج عن الخاص تخصصاً لاتخصيصاً.

والجواب: بالفرق بين ما نحن فيه و بين تلك المسألة، إذ في دوران الأمر بين التخصيص و التخصّص نعلم بخروج الفرد عن حکم العام - سواء لعدم کونه فرداً للعام أو لتخصيص العام فيه - فلا حجية للعام في هذا الفرد کي نتمسك بعکس نقيضه، أما فيما نحن فيه فإنا نعلم بحجية الخاص في کل أفراده إذ لايجوز لعن المؤمن مطلقاً، ومع حجية الخاص أمکن التمسك بعکس نقيضه.

وبعبارة أخری کما في المنتقی(1): في تلك المسألة نعلم بخروج زيد عن (کل عالم يجب إکرامه)، ومع الشك في کون زيد عالماً لايمکن القول بأن المراد الواقعي ثبوت الحکم لجميع من يفرض کونه عالماً حتی لو کان زيداً، وذلك للعلم بخروجه، فإذا سقطت الدلالة المطابقية لم تبقَ حجية للدلالة الالتزامية، فلا حجية للعام في عکس نقيضه الذي هو مدلول التزامي، کي نثبت به عدم کون زيد عالماً، وأما ما نحن فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للخاص اللبي، فالخاص حجة في مدلوله

ص: 371


1- منتقی الأصول 3: 339.

المطابقي، فالمراد الواقعي هو (عدم جواز لعن مؤمن بني أمية حتی لو کان هذا الشخص)، فإذا کان المدلول المطابقي حجة جری المدلول الالتزامي أي (کل من جاز لعنه فليس بمؤمن) وذلك بضم الصغری وهي (جواز لعن المشکوك) لأصالة العموم، إلی الکبری وهي (کل من جاز لعنه فليس بمؤمن)، فتأمل.

المقام الثالث: التمسك بالاستصحاب

اشارة

ثم إنه قد يتمسك لإثبات حکم العام للفرد المشکوك، عن طريق نفي حکم الخاص عنه بالأصل الذي ينقّح الموضوع، وذلك باستصحاب عدم العنوان الخاص.

فاعلم أن البحث تارة في تنقيح موضوع العام ليجري علی المشکوك حکم العام، و تارة في نفي حکم الخاص عن الفرد المشکوك إذا کان ذلك الحکم إلزامياً.

المطلب الأول: في تنقيح حكم العام

فنقول: إن الأوصاف الخاصة التي يتصف بها العام علی نوعين:

النوع الأول: الأعراض التي توجد بعد وجود الذات، کالفسق، فيجري فيها استصحاب العدم من غير محذور، ففي مثل: (أکرم العلماء إلا فساقهم)، حيث يحرز علم زيد مثلاً بالوجدان وعدم فسقه بالأصل، فيتحقق موضوع وجوب الإکرام.

وليس هذا بأصل مثبت لأنّا لا نريد إجراء حکم العام بهذا الأصل کي يقال: بأن أصالة عدم الفسق لاتثبت وجوب الإکرام، بل نريد بهذا الأصل

ص: 372

إدخال الفرد المشکوك في موضوع العام، و حينما دخل الفرد في موضوع العام يجري عليه حکم العام وهو وجوب الإکرام، لا بالأصل، بل بدليل وجوب الإکرام.

النوع الثاني: الأعراض الملازمة للذات، والتي توجد بوجوده و تستمر باستمراره، فهنا لاتوجد حالة سابقة للذات بعدم وجود تلك الأعراض، فهل يمکن استصحاب العدم الأزلي بأن يقال: إن الذات قبل وجودها لم تکن متصفة بذلك العرض، فلما وجدت نستصحب عدم اتصافها؟

ومثاله ما قيل: من ورود النص العام علی أن الحيض إلی الخمسين، فإذا تجاوزت المرأة الخمسين کان استحاضة، وهذا العام قد خُصّص بالمرأة القرشية، فحيضها إلی الستين، فإذا شککنا في نسب امرأة إلی قريش، فهل يمکن إجراء استصحاب عدم القرشية أم لا؟ وفيه أقوال:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1) من جريان الاستصحاب العدمي بعد عدم وجود أصل وجودي يثبت أنها قرشية أم من قبيلة أخری، وذلك الأصل العدمي هو نفي نسبتها إلی قريش، أي قبل وجودها لم تکن قرشية فنستصحب عدم القرشية إلی حين وجودها، ولهذا الاستصحاب أثر، حيث إنه ينقّح الموضوع الذي له حکم شرعي.

ولا يعارض باستصحاب عدم کونها من قبائل أخری، لأن نفي کونها من قبائل أخری لا أثر له شرعاً، إلا بإثبات کونها من قريش - کي يجري عليها حکم الخاص - وهو أصل مثبت.

ص: 373


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 56.

القول الثاني: ما ذهب إليه المحقق النائيني(1)

بما حاصله: أن استصحاب عدم القرشية - مثلاً - إما لايقين سابق فيه، و إما الأصل مثبت، فالذي ليس بمثبت لايقين فيه، وما فيه اليقين السابق أصل مثبت، وبيان ذلك برسم مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولی:

في إثبات تعنون العام بعنوان الخاص، وذلك لأن العام بالنسبة إلی الأوصاف الخاصة إما مهمل أو مطلق أو مقيد، والإهمال محال إذ يستحيل علی المولی الملتفت إصدار حکم من دون موضوع أو مع إهمال بعض قيوده الملتفت إليها، واما الإطلاق فإنه يستلزم التهافت والتناقض بين مدلولي العام والخاص، فلايبقی إلاّ التقييد بأن يكون الباقي تحت العام بعد التقييد مقيداً بنقيض الخاص الخارج بالتخصيص فيكون دليل المخصص رافعاً لإطلاقه.

ولا فرق في ذلك بين المتصل والمنفصل، إذ المتصل يمنع الدلالة الاستعمالية والجدّية علی الإطلاق، والمنفصل يمنع الدلالة الجدّية علی الإطلاق، فلا إطلاق في المراد الواقعي علی کل حال.

المقدمة الثانية:

في بيان کيفية الترکيب في المواضيع المرکبة، وتطبيق ذلك علی ما نحن فيه.

أما الکبری: فإن الأوصاف والنعوت التي يتصف بها الشيء...

ص: 374


1- فوائد الأصول 1: 532-536؛ أجود التقريرات 2: 329-337.

قد تکون قائمة بذلك الشيء فتلاحظ بما هي مضافة إلی الشيء من قبيل کان الناقصة، أو يتصف بعدمها من قبيل ليس الناقصة المعبر عنها بالعدم النعتي.

وقد تکون الأوصاف من مقارنات الشيء، کما لو قال: أکرم زيداً حين مجيء عمرو، حيث إن مجيء عمرو ليس من الصفات القائمة بزيد وإنما من المقارنات التي يجمعه مع زيد عمود الزمان فقط.

وفي الأول: لايمکن إحراز عدم ذلك الوصف - الذي هو جزء الموضوع - إلاّ إذا فرض أن جهة النعتية والإضافة کانت معدومة في الحالة السابقة، ولا يكفي ملاحظة عدم ذلك الوصف في نفسه لإجراء الاستصحاب بأن نقول: إن هذا الوصف لم يكن فنستصحب عدم وجوده، إذ الذي يفيدنا هو عدم وجوده مضافاً، واستصحاب عدم الوجود لايثبت عدم الإضافة إلا بالأصل المثبت، وبعبارة أخری: في هذا لايفيدنا الأصل بمفاد ليس التامة، إذ هذا الأصل لا أثر له، بل لابد من تحقق جهة النعتية سابقاً حتی يجري الأصل بمفاد ليس التامة.

وأما في الثاني: فإنه يمکن إحراز عدم ذلك الجزء بما هو هو من قبيل ليس التامة، فنحرز أحد جزئي المرکب بالوجدان والجزء الآخر بالأصل، وبذلك يتم الموضوع ويترتب عليه الحکم.

و أما الصغری: فإن تعنون العام بضد عنوان الخاص هو من قبيل الأول دون الثاني، حيث إنه بعد ورود الخاص الذي هو من قبيل الأوصاف القائمة بعنوان العام يكون موضوع العام مرکباً من المعروض وعرضه القائم به، فيكون من مفاد ليس الناقصة أي من العدم النعتي، لا من مفاد ليس التامة

ص: 375

أي العدم المحمولي.

والسر في ذلك هو أن انقسام العام باعتبار أوصافه و نعوته القائمة به إنما هو في مرتبة سابقة علی انقسامه باعتبار مقارناته، فإذا کان دليل التخصيص کاشفاً عن تقييدٍما بمقتضی المقدمة الأولی فلابد أن يکون هذا التقييد بلحاظ الانقسام الأولي - أي الانقسام باعتبار أوصافه ونعوته - فيرجع التقييد إلی التقييد بما هو مفاد ليس الناقصة، إذ لو کان التقييد راجعاً إلی التقييد بعدم مقارناته بنحو ليس التامة، فإما أن يكون مع بقاء الإطلاق في مرحلة الذات أو مع التقييد فيها، والأول غير معقول لوضوح التدافع بين الإطلاق من جهة کون العدم نعتاً وبين التقييد بالعدم المحمولي، فمثل: أکرم العلماء إلا فساقهم لايعقل أن يكون بمعنی العلماء سواء کانوا فاسقين أم لا مقيدين بعدم الفسق، والثاني يستلزم اللغوية لعدم الحاجة إلی التقييد بالعدم المحمولي بعد التقييد بالعدم النعتي، فلا معنی لتقييد إکرام العلماء غير الفاسقين بعدم الفسق.

المقدمة الثالثة: إن تقابل الوجود النعتي الذي هو مفاد کان الناقصة مع العدم النعتي الذي هو مفاد ليس الناقصة، هو تقابل العدم الملکة، ويمکن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما القابل للاتصاف بهما، إذ الموضوع بعد وجوده يوجد فيه الوصف فيكون الوجود نعتاً أو لايوجود فيه الوصف فيكون العدم نعتاً، أما الموضوع قبل وجوده فهو غير قابل لعروض الوجود أو العدم النعتي عليه.

وفي مثال القرشية: فإنه بمقتضی المقدمة الأولی يكون موضوع العام وهو المرأة مقيداً بنقيض عنوان الخاص وهو القرشية، فالموضوع مرکب

ص: 376

من المرأة وغير القرشية، وبمقتضی المقدمة الثانية يكون هذا التقييد بنحو العدم النعتي أي مفاد ليس الناقصة، وبمقتضی المقدمة الثالثة يستحيل تحقق عنوان غير القرشية قبل وجود المرأة، وعليه فلا يمکن إحراز عدم القرشية بأصالة العدم الأزلي، لأن العدم النعتي الذي هو جزء الموضوع لايقين سابق فيه، والعدم المحمولي و إن کان له حالة سابقة إلاّ أنه ليس جزءاً للموضوع، بل هو ملازم له، فلا يثبت به إلاّ بناءً علی الأصل المثبت.

وأشکل علی المقدمة الأولی بإشکالات، منها:

الإشکال الأول: بأن مفاد العام هنا هو العموم الأفرادي، وهو يقتضي إخراج بعض الأفراد بالخاص، ولا يلازم تعنون العام بضد الخاص، ففي العموم الأفرادي لنا حصتان: إحداهما محکومة بحکم العام، والأخری محکومة بحکم الخاص، فإخراج بعض الأفراد لايعني تقييد سائر الأفراد بعدم الأفراد المخرجة، وذلك لأن الفرق بين الحصتين ذاتي فلا يمکن التقييد لعدم إمکان الإطلاق، فلايصح أن يقال إن زيداً مقيد بعدم عمرو، لامتناع إطلاق زيد بالنسبة إلی عمرو.

نعم لو کان العموم أحوالياً مع الذهاب إلی أن استفادة العموم ليس من الأداة و إنما من إطلاق المدخول، فالعام يدل علی الطبيعة وهي قابلة للتقييد.

وما نحن فيه من مثال القرشية العموم أفرادي - علی جميع المباني -(1) إذ مورد الکلام هو الأوصاف اللازمة للذات من حين وجودها، وهي مفرّدة، وعليه لم

ص: 377


1- منتقی الأصول 3: 357-358.

يكن الدليل المخرج للعنوان الأزلي موجباً لتقييد موضوع الحکم بضده.

الإشکال الثاني: ما ذکره المحقق الإصفهاني(1): من أن الواقع لاينقلب عما هو عليه، فما هو الموضوع لحکم العام - بحسب الظهور المنعقد له - يستحيل أن ينقلب عمّا هو عليه بسبب ورود کاشف أقوی، بل يسقط عن الحجية في المقدار المزاحم، إذ ليس للموضوعية للبعث الحقيقي - الموجود بوجود منشأ انتزاعه - مقام إلاّ مقام تعلّق البعث الإنشائي بشيء، وجعل الداعي إلی غير ما تعلق به البعث الإنشائي محال، لأنه مصداق جعل الداعي، والمفروض تعلّقه بهذا العنوان، فصيرورته داعياً إلی غير ما تعلّق به خلف محال، فليس شأن المخصص إلاّ إخراج بعض أفراد العام، وقصر الحکم علی باقي الأفراد من دون أن يجعل الباقي معنوناً بعنوان وجودي أو عدمي.

وبعبارة أخری: إن موضوع البعث الحقيقي ليس له وجود إلا في مقام الإنشاء، فموضوع البعث الإنشائي هو موضوع البعث الحقيقي، وذلك لأن الإنشاء إنما هو لأجل جعل الداعي، ويستحيل الإنشاء بداعي جعل الداعي إلی غير ما تعلّق به.

ويمکن أن يقال: إن تعلقه بعنوان العام إنما يكون تعلقاً واقعياً إن لم يخصّص، ومع التخصيص يكشف أن التعلّق بعنوان العام کان استعمالياً لاجدياً، وبعبارة أخری(2):

إنه لا مانع من أن يكون موضوع الحکم الواقعي غير المذکور في الکلام، إذا کان مما يتعارف تفهيم الواقع به وقابلاً لإرادته

ص: 378


1- نهاية الدراية 2: 458.
2- منتقی الأصول 3: 349.

منه، فتأمل.

وأشکل علی المقدمة الثانية بإشکالات، منها:

الإشکال الأول: إمکان الإهمال في مرحلة الذات مع الإطلاق أو التقييد في مرحلة المقارنات، فلا يلزم التدافع ولا اللغوية، وذلك لأن محذور الإهمال هو استحالة الحکم علی الموضوع المهمل مع التفات المولی، ولا يلزم هذا المحذور مع الاختلاف الرتبي إذا اتحد زمانهما، فإهمال الأقدم رتبة لايلازم الإهمال خارجاً.

الإشکال الثاني: عدم لزوم اللغوية، وذلك لأن التقييد في مرحلة الذات يُغني عن التقييد في مرحلة المقارنات، کالعکس، فلا فرق في أن تُقيّد المرأة بوصف عدم القرشية، أو تقيد بعدم وصف القرشية، فکل واحد منهما يغني عن الآخر، وخاصة علی ضوء ما ذکر في الإشکال الأول من عدم ورود إشکال الإهمال.

الإشکال الثالث: - و هو نقضي -: بأن هذا يلزم منه عدم صحة جريان الاستصحاب في جميع الموضوعات المرکبة، و التي يمکن إحراز أحد الجزئين بالوجدان ويراد إحراز الجزء الآخر بالأصل، وذلك لورود الإشکال في الإطلاق والتقييد، وذلك لأن مقارنة کل جزء مع الجزء الآخر إنما هي من أوصاف الجزء، فيرد نفس إشکال التدافع أو اللغوية، فتأمل.

وقد تقرر المقدمة الثانية بطريقة أخری للتفصّي عن الإشکالين الثاني والثالث - کما في المنتقی(1)

- لکنه لاينفع في التفصي عن الإشکال الأول.

ص: 379


1- منتقی الأصول 3: 352-353.

وحاصله: أن مرتبة الجزء متقدمة علی مرتبة الکل، والأمر الذي يؤخذ جزءاً لابد أن يلحظ في مرحلة جزئيته بالإضافة إلی جميع صفاته، وذلك لاحتمال دخل بعضها في جزئيته وترتب أثره الضمني، إذ ذات الجزء قد لاتکون جزءاً بدون وصف خاص، ثم بعد تکميل جهة جزئيته - مطلقاً أو مقيداً ببعض الصفات - تصل النوبة إلی لحاظه بالإضافة إلی الأجزاء الأخری وأخذه معها بلحاظ ترتب أثر الکل.

وعليه: فيندفع الإشکال الثالث، إذ في الموضوعات المرکبة وصف المقارنة وصف انتزاعي لا دخل له في التأثير إلا بلحاظ منشأ انتزاعه، والمنشأ هو وجود أحد الجزئين عند وجود الآخر، فهما يتصفان بوصف المقارنة معاً، فتعلّق الأمر بها علی حد سواء، لأن تخصيص أحدهما بلا مرجح، فاندفع الإشکال من أصله.

کما يندفع الإشکال الثاني إذ التقييد بکل منهما و إن أوجب رفع قابلية المورد للإطلاق والتقييد بالإضافة إلی الآخر، إلاّ أن ملاحظته بالإضافة إلی أوصافه و تقييده بها وجوداً وعدماً أسبق رتبة من ملاحظته بالإضافة إلی مقارناته، فلا تصل النوبة إلی أخذ العدم جزءاً، فتأمل.

القول الثالث: تفصيل المحقق العراقي(1)

وحاصله: عدم جريان الاستصحاب فيما لو کان العرض مأخوذاً في رتبة متأخرة عن وجود الذات، وجريانه فيما لو کان مأخوذاً في رتبة الذات بنفسها - لا وجودها - ، وذلك لأن نقيض کل شيء رفعه في تلك المرتبة لافي مرتبة أخری، فعلی

ص: 380


1- نهاية الأفکار 4: 200-203.

الأول: العدم الأزلي في ظرف عدم الوجود لايكون نقيضاً للوصف العارض علی الوجود، فلا يمکن إجراء الاستصحاب إلاّ بالأصل المثبت، وأما علی الثاني: فإن العدم الأزلي نقيض الوصف بلحاظ الذات، لأن نقيض المقيّد يشمل نفي القيد ونفي الذات ونفي النسبة، فيمکن الاستصحاب ويترتب عليه نفي الأثر الثابت للوصف، وعليه: فلاتختلف الحال بين کون الوصف بنحو النعتية أو الترکيب والمقارنة!!

وأشکل عليه أولاً(1): بأن کلامه أجنبي عن البحث، إذ محل الکلام هو الاستصحاب لإثبات حکم العام علی المورد المشکوك - بمعنی أخذ عدم الوصف في نفس موضوع حکم العام للوصول إلی أصالة العموم - ، وليس محل الکلام نفي الحکم الثابت لوجود الوصف.

وثانياً(2): بأنه لايشترط کون مرکز الاستصحاب النافي هو عنوان نقيض الموضوع، بل کلما يراه العقل موجباً لانتفاء الحکم المجعول شرعاً لابد أن يكون مجری الاستصحاب النافي - سواء سمّاه المنطقي بالنقيض أم لا، وفيما نحن فيه إذ رتّب الشارع الحکم علی جزئين فبانتفاء أحدهما ينتفي الحکم لامحالة، سواء کان هذا الانتفاء يُسمّی بالنقيض أم لا، فتأمل.

المطلب الثاني: في نفي حكم الخاص

أي التمسك باستصحاب العدم الأزلي لنفي حکم الخاص عن الفرد المشکوك، بأن نقول: إن الاستصحاب يدل علی عدم قرشية هذه المرأة

ص: 381


1- منتقی الأصول 3: 364.
2- بحوث في علم الأصول 3: 348.

فليس حيضها إلی الستين.

وعن المحقق النائيني(1)

أنه ذهب إلی عدم جريان هذا الاستصحاب، وبيانه بمقدمتين:

المقدمة الأولی: الربطية والناعتية من أوصاف وجود العرض لاماهيته، إذ ماهية العرض من حيث هي مستقلة في نفسها ولاربط ولاناعتية لها، لکن حين وجود العرض في الخارج يكون وجوده ربطي أي في غيره، عکس الجوهر الذي هو وجود قائم بنفسه.

المقدمة الثانية: تقابل الوجود والعدم سبب لعدم قبول أحدهما للآخر، فلا يعرض أحدهما علی الآخر بل يتناوبان في العروض في الماهية التي هي المحل القابل لهما، فهي تتصف بالوجود تارة وبالعدم أخری.

وعليه، ففيما نحن فيه: أن أريد استصحاب عدم ماهية القرشية، فعدمها الناعت المقابل لوجودها لاحالة سابقة له، وعدمها المحمولي ليس نقيضاً للوجود الناعت المأخوذ في موضوع الحکم، وإن أريد استصحاب عدم الوجود الرابط فهو غير معقول لأن العدم لايكون عرضاً علی الوجود.

وأشکل علی المقدمة الأولی(2): بأنه من الصحيح أن العدم المحمولي للقرشية لايكون نقيضاً للوجود الناعت لها، لکن لا إشکال في أن عدم القرشية المحمولي رافع لموضوع الحکم، إذ يكفي في انتفاء الحکم انتفاء أحد أجزاء موضوعه سواء کان هذا الانتفاء نقيضاً للوجود أم لم يكن

ص: 382


1- راجع منية الطالب 2: 350-351.
2- بحوث في علم الأصول 3: 345.

نقيضاً، وحينئذٍ فأرکان الاستصحاب النافي تامة.

وعلی المقدمة الثانية: بأنه ليس المأخوذ في موضوع الجعل وجوداً خارجياً معيّناً، إذ النعتية والرابطية ليست إلاّ عبارة عن ملاحظة المفهوم محصّصاً بمفهوم آخر، فالبياض تارة يُلاحظ مطلقاً فيكون مفهوماً مستقلاً، وتارة أخری يلاحظ في شيء فيكون مرتبطاً بموضوع، وهذا التحصّص والربط ثابت في مرحلة المفاهيم وبقطع النظر عن الوجود، وهذا هو المأخوذ في موضوع الجعل الشرعي بما هو مرآة عن مُعنونه الخارجي.

والحاصل: إن النعتية في الجعل إنما هي بمعنی أخذ الحصة الخاصة موضوعاً، ومن الواضح أن العدم يضاف إلی النعتية بهذا المعنی، فقرشية المرأة لم تکن في الأزل، فيكون هذا العدم مجری الاستصحاب.

ص: 383

فصل في الدوران بين العام وبين استصحاب حكم المخصص

وذلك بأن يُخصص العام، فيخرج عنه عنوان بالتخصيص، ثم طرأ الشك في أن حکم ذلك العنوان هل هو حکم العام أم حکم الخاص، فهل المرجع أصالة العموم أم استصحاب حکم الخاص؟

نظير الأدلة الدالة علی تصرف المالك في ملکه مطلقاً، فأخرج بالإجارة مدتها حيث لايجوز للمالك التصرف في العين المستأجرة، ثم شك في بقاء الإجارة أو انتهائها، فهل يتمکن المالك من التصرف وذلك عملاً بالعام، أم لابد من استصحاب حکم الإجارة التي هي الخاص؟

والظاهر أن الشبهة هنا حکمية غير مفهومية، فأمّا ما تمّ تصوريه علی أنه شبهة مفهومية فغير واضح، بل الأمثلة کلها غير مفهومية.

والظاهر أنه مع وجود إطلاق أزماني في کل الأفراد، يكون هذا الإطلاق أصلاً لفظياً وارداً علی الاستصحاب، وأما لو لم يكن إطلاق أزماني، فلا محذور في إجراء الاستصحاب لتمامية أرکانه، إلاّ إذا تبدل الموضوع فلا يجری، وحينئذٍ لابد من الرجوع إلی الأصول العملية الأخری.

وأما ما ذکر مثالاً للشبهة المفهومية، بأن کان العام هو عمومات الأحکام الإلزامية، والخاص هو إخراج غير البالغين، فشك في مرتبة أنها علامة البلوغ أم لا، کما لو شك في شعر أنه هل هو خشن أم لا.

ص: 384

فيرد عليه: أنه شبهة مصداقية لامفهومية، لأنه تارة نعلم معنی الخشن وغير الخشن ونشك في مصداق معين، فهذا من الشبهة المصداقية، وتارة نعتبر هذا الشعر حالة ثالثة، فيخرج عن محل الکلام إذ لاشبهة حينئذٍ حيث إن الخشن هو علامة البلوغ لاغيره والمفروض أن هذا نوع ثالث فليس بخشن، فتأمل.

ص: 385

فصل في دوران الأمر بين التخصيص والتخصص

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: العلم بخروج فردٍ بعينه عن حكم العام

فلو لم يكن مصداق محکوماً بحکم العام، وشککنا في أن خروجه عن الحکم بالتخصيص أي هو من مصاديق العام لکن ليس محکوماً بحکمه بالتخصيص، أو أن خروجه عن الحکم بالتخصّص أي ليس هو من أفراد العام فلذلك لم يکن محکوماً بحکمه، فهل هناك دليل أو أصل يثبت کونه تخصيصاً أو تخصصاً؟

قد يقال: بإمکان التمسك بأصالة العموم لإثبات کون ذلك الفرد خارجاً بالتخصص، وذلك لأن العام کما له دلالة علی ثوبت الحکم لجميع أفراده، کذلك له دلالة التزامية بعکس النقيض علی أن من لم يثبت له الحکم ليس من مصاديق العام، فمثل (کل عالم يجب اکرامه) يدل بعکس النقيض علی أن (من لايجب إکرامه ليس بعالم)، وحينئذٍ فلو علمنا بعدم وجوب إکرام زيد أمکن لنا إثبات عدم کونه عالماً وذلك بالتمسك بأصالة العموم التي تثبت بعکس النقيض أن زيداً ليس بعالم.

وأشکل عليه بإشکالات، منها:

الإشکال الأول: إن اللوازم لاتکون حجة إلاّ إذا کانت من اللازم البين

ص: 386

بالمعنی الأخص - بحيث يستلزم تصور أحدهما تصور الآخر - ، فيكون دليل الحجية دالاً علی الحجية في اللازم أيضاً بدلالة عرفية، أو إذا کان اللازم مفاد أمارة، کما في الخبر حيث إن الخبر بالشيء خبر بلازمه أيضاً.

وأورد عليه: أن عکس النقيض لازم بيّن بالمعنی الأخص للعام، إذ ثبوت الحکم لجميع أفراد العام يلازم نفي العام عما لاثبوت للحکم فيه، ومن أمثلته العرفية: أنه لو عُرف أهل بلدة بالسواد ثم جاء رجل أبيض وادّعی أنه من أهل تلك البلدة، فإنه يكذّب في دعواه.

الإشکال الثاني: إن العام لانظر له إلی مصاديقه، إذ موضوع الأحکام الشرعية هي القضايا الحقيقية عادة، لا الأفراد الموجودة، والمصاديق من قبيل الثاني، فلا نظر إليها لکي يُحکم علی مصداق أنه ليس من المصاديق لمجرد عدم جريان حکم العام عليه.

وأورد عليه: بأن العام وإن لم يكن له نظر إلی المصاديق الخارجية، إلاّ أنه يتکفّل وبالدلالة الالتزامية لبيان کبری کليّة لتعيين المصداق، فينشأ تشخيص المصداق من ضمّ الصغری إلی هذه الکبری.

أقول: الأقرب هو عدم الملازمة العرفية في العمومات الشرعية، وذلك لأن کثرة التخصيص فيها حتی أنه قيل: ما من عام إلاّ وقد خص، لم تترك مجالاً لهذه الدلالة الالتزامية، فخرجت عن عرفيتها، فلا دلالة للعام عليها بوجوه.

المطلب الثاني: لو تردد الخارج بين فرد العام وفرد غيره

كما إذا صدر حکم لعام، ثم صدر خلاف حکمه في فرد، ثم تردد ذلك

ص: 387

الفرد بين فردين أحدهما من مصاديق العام والآخر ليس من مصاديقه، کما لو قال: أکرم العلماء، ولا تکرم زيداً، وتردد بين زيد العالم وزيد غير العالم.

فقد يقال: بالتمسك بأصالة العموم لإثبات وجوب إکرام زيد العالم، وذلك لأن أصالة العموم أوجبت انحلال العلم الإجمالي، وتعيين من لايجب إکرامه في زيد غير العالم.

وفيه: أن ظهور العام في العموم بشمول الإکرام لزيد العالم يلازم کون المنهي عن إکرامه هو زيد غير العالم، وهذه ملازمة غير بينة فلاتکون حجة، فلاينحلّ العلم الإجمالي، وببقاء العلم الإجمالي يكون (العلماء) مجملاً بالنسبة إلی زيد العالم فلايكون حجة فيه.

المطلب الثالث: في التمسك بعمومات الأدلة الثانوية

هل يمکن التمسك بعمومات العناوين الثانوية، لإدخال المصداق المشکوك في العام بعنوانه الأولي، وعليه فيمکن تصحيح کل عمل مشکوك الصحة بمثل أدلة وجوب الوفاء بالنذر.

کما لو شك في مصداقية الوضوء بماء الورد للوضوء، فهل يمکن إدخاله في مصاديق الوضوء الصحيح عبر النذر، بأن يقال إذا نذر الوضوء بهذا الماء وجب الوفاء به، لعموم أو إطلاق دليل وجوب الوفاء، فإذا وجب الوفاء کشف ذلك عن کونه مصداقاً للوضوء، وإلاّ لم يجب الوفاء إذ لايجب الوفاء بالعمل الفاسد، فتمّ إدخال الفرد المشکوك کونه من مصاديق العام - الذي هو الوضوء - في العام عبر الدليل الثانوي.

وبعبارة أخری: الدليل مرکب من صغری وکبری، أما الصغری فهي: هذا

ص: 388

الفرد يجب الوفاء به لعموم أدلة وجوب الوفاء بالنذر، والکبری: کل ما يجب الوفاء به يلزم أن يكون فرداً صحيحاً من أفراد العام، فالنتيجة هذا الفرد هو فرد صحيح من أفراد العام.

وقد يؤيّد ذلك: بمثل صحة الإحرام قبل الميقات بالنذر، وکذا الصوم في السفر به.

وإن أمکن ردّ التأييد: بأن المثالان إنما يصححان الإحرام والنذر في حالة النذر فقط والکلام إنما هو في تصحيح العمل مطلقاً بأن يكون النذر في حالة مصححاً للفردية في جميع الأحوال.

وأشکل عليه: بأن العناوين الثانوية قسمان:

القسم الأول: مايطرأ علی الشيء بشرط کونه محکوماً بحکم حسب عنوانه الأولي، کالنذر الذي يصحّ لو کان المتعلّق راجحاً، وفي هذا القسم لايمکن التمسك بالعنوان الثانوي لإدخال الفرد المشکوك في العام، وذلك للزوم الدور، إذ صحة النذر تتوقف علی رجحان متعلقه، فلو توقف رجحان المتعلّق علی صحة النذر الدار.

وفيه: إمکان القول بأن رجحان المتعلّق لايتوقف علی صحة النذر، بل صحة النذر يكشف عن رجحانه، فلا دور، إذ التوقف في الطرف الأول واقعي، وفي الطرف الثاني علمي، وفي مثله لا دور.

نعم يمکن الإشکال بطريقة أخری: بأن دليل صحة النذر خاص بما کان المتعلق راجحاً، فلا يمکن اکتشاف الرجحان بواسطة دليل صحة النذر، وبعبارة أخری الدليل: لايتکفل موضوعه، فموضوع وجوب الوفاء هو

ص: 389

الرجحان فلا يمکن اکتشاف الرجحان عبر وجوب الوفاء، فتأمل.

القسم الثاني: ما يطرأ علی الشيء مطلقاً مع قطع النظر عن عنوانه الأولي، کالحرج والضرر، حيث يعرضان علی الواجب والمستحب والمکروه والحرام والمباح، وفي هذا القسم يمکن التمسك بهذه الأدلة لإثبات جواز العمل إذا لم يعلم الحکم بالعنوان الأولي، أو کانت ملاکات العناوين الثانوية أقوی من ملاکات العناوين الأولية، ومع التساوي التساقط والاحتياط إن أمکن، ومع عدم إمکانه فالرجوع إلی الأدلة الأخری، حتی لو کانت الأصول العملية.

وفيه: أن هذا خروج عن مورد البحث، حيث يراد إدخال الفرد المشکوك في مصاديق العام، وما ذکر هو بيان حکم الحالة من غير ارتباط له بمورد البحث، مع وضوح أن مثل الضرر والحرج يرفعان الحکم ولا يبيّنان الموضوع وأنه مصداق لأي عام، هذا مع قطع النظر عن الإشکالات المبنائية.

ثم إن المحقق الخراساني سلك ثلاث طرق - طولية - لدفع المحذور العقلي في صحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بالنذر(1)، فإنه بعد قيام الدليل إثباتاً في صحتهما کان لابد من دفع المحذور الثبوتي بالدور، ومن الواضح أنه يكفي مجرد الاحتمال الثبوتي لدفع المحذور العقلي - بعد قيام الدليل الإثباتي علی الصحة - حيث لا وجه حينئذٍ لتأويل الدليل الإثباتي مع عدم ثوبت المحذور الثبوتي، إذ مع هذه الاحتمالات لا محذور

ص: 390


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 63-66.

عقلاً فلاحکم للعقل بالاستحالة، فيلزم اتباع الدليل الإثباتي وعدم صحة تأويله، وتلك الطرق:

1- إما اعتبار العملين - الإحرام قبل الميقات، والصوم في السفر - راجحين ذاتاً، ووجود مانع عن تأثير هذا الرجحان، مع ارتفاع المانع بالنذر.

2- وإما کفاية الرجحان اللاحق علی النذر، فلا دور، لعدم توقف صحة النذر علی الرجحان السابق.

3- وإما تخصيص دليل رجحان متعلق النذر، بأن يقال: إن الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات مرجوح، ومع ذلك يصح نذرهما، وبعد النذر يرجحان مع عدم توقف صحة النذر علی هذا الرجحان اصلاً.

ص: 391

فصل في وجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام

اشارة

وفيه بحثان:

البحث الأول: في أصل وجوب الفحص

فيجب الفحص عن المخصص المنفصل قبل العمل بالعام، وقد يستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: الأدلة الدالة علی وجوب التفقه في الدين، فإنه يجب الفحص عن الأحکام الشرعية، والخاص من الموارد المحتمل وجود الأحکام فيها، فيجب الفحص عنه، کما کان الفحص عن أصل الحکم في العام واجباً، لکون ذلك کلّه من مصاديق التفقه في الدين.

وأشکل عليه: باستلزامه الدور، إذ حجية العام متوقفة علی الفحص فقبل الفحص لاحجية، کما أن وجوب الفحص متوقف علی حجيته العام، إذ لولا حجية لما وجب الفحص عن مخصصاته.

وفيه: عدم تمامية کلا رکني الدور.

أما الرکن الأول: فإن الحجية متوقفة علی الفحص نفسه، وأما المتوقف علی الحجية فهو وجوب الفحص لا الفحص نفسه.

وأما الرکن الثاني: فإنه يجب الفحص عن المخصص مع قطع النظر عن کونه خاصاً، فسواء کان العام حجة أم لايجب الفحص عن حکم الأفراد.

ص: 392

الدليل الثاني: العلم الإجمالي بتخصيص کثير من العمومات، فلا يمکن التمسك بالعمومات للتعارض الحاصل بسبب هذا العلم الإجمالي.

وأشکل عليه بأمور، منها:

الإشکال الأول: ما قيل: من أن العلم الإجمالي الکبير، ينحلّ بالعلم الإجمالي الصغير، أو بالعلم التفصيلي، انحلالاً حقيقياً فيما لو کان العلم التفصيلي ناظراً إلی العلم الإجمالي ومتعلّقاً بنفس ما تعلّق به، بحيث يعلم أن نفس ما علم إجمالاً هو ثابت في ما علم تفصيلاً أو فيما علم إجمالاً بالعلم الإجمالي الصغير، أو انحلالاً حکمياً فيما لم يكن کذلك حتی لو کان متعلّق العلمين عنواناً واحداً قابلاً للتطابق، کما لو علم إجمالاً بنجاسة بسبب الدم في أحد الإنائين ثم علم تفصيلاً بنجاسة بسبب الدم في أحد الإنائين، مع احتمال تطابق المعلومين. لکن يشترط أن يكون العلم الإجمالي الصغير أو العلم التفصيلي متقارناً زماناً مع العلم الإجمالي الکبير، أما لو حصل الإجمالي الکبير أولاً ونجّز تمام أطرافه، وبعد ذلك حصل ما يوجب الانحلال الحکمي في بعض الأطراف، فذلك لا ينفع في حلّ العلم الإجمالي الأول وإحياء الأصول العملية في الأطراف الأخری، فإن الأصل بعد أن مات لا يعود حياً، وبعبارة أخری: بعد ثبوت مقتضی الحجية في کل طرف تتنافی الحجج، فتسقط عن الحجية رأساً، فلا ترجع إلی الحجية أبداً.

وأورد عليه: مع قطع النظر عن المبنی، بأنه إنّما يکون ذلک في الأصول العملية، إذ الأصل بعد موته لايعود حياً علی هذا المبنی، وأما ما نحن فيه فالکلام في أصل لفظي هو أصالة العموم، وهذا الأصل يقتضي الحجية لولا

ص: 393

المانع، ومع العلم الإجمالي يكون المانع هو اشتباه الحجة باللاحجة، حيث إن العام المخصص لايكون حجة واقعاً، فإذا علمنا بالمخصصات حصل تمييز الحجة عن اللاحجة، فارتفع المانع عن اجراء أصالة العموم، کما لو قال المولی: أکرم العلماء، ثم علمنا إجمالاً بجهل أحد الرجلين، ثم علمنا تفصيلاً بعلم أحدهما وجهل الآخر، فلا إشکال في جريان أصالة العموم فيمن علمنا بعلمه، فتأمل.

الدليل الثالث: إن أصالة العموم هي للظهور، وحجية الظهور إنما هي ببناء العقلاء، وقد أمضاه الشارع، ولابناء لهم فيما لو کان أسلوب المولی کثرة التخصيصات بالمنفصلات، کما أن سيرة المتشرعة لها قدر متيقن وهو العمل بالعمومات بعد الفحص عن المخصص، ولا يعلم عملهم بالعمومات قبل الفحص، نعم لو فحص ولم يجد الخاص، فبناء العقلاء وسيرة المتشرعة هو بالعمل بأصالة العموم.

إن قلت: إن أصحاب الأئمة لم يكونوا يفحصون عن المخصصات، بل أودعوا العمومات في کتبهم، ولو کانوا يعملون بالمخصصات لذکروها؟

قلت: إن عدم ذکرهم للمخصصات أو عدم عملهم بها فيه احتمالات مختلفة، منها: عدم ابتلائهم بها، أو عدم حاجتهم إليها، فلذا لم يذکرها لهم الأئمة (علیهم السلام) ، أو لم تکن مصلحة في ذکرها لهم فلذا تمّ تأخيرها وخاصة في ظروف التقية، أو ذکروها في کتبهم لکن التقطيع في الأحاديث سبب عدم وصول قولهم إلينا، أو لغير ذلك، فلا يمکن الجزم بأنهم لم يكونوا يفحصون عن المخصصات حتی نکتشف من ذلك تقرير الأئمة (علیهم السلام) لهم

ص: 394

في ذلك.

هذا کلّه في المخصص المنفصل.

وأما المخصص المتصل فقد يقال: إن بناء العقلاء علی عدم لزوم الفحص عنه، حيث يعملون بالعلم من غير فحص عن المخصصات المتصلة، کما أنهم لايفحصون عن القرائن المتصلة الأخری، کقرينة المجاز حيث يحملون اللفظ علی الحقيقة.

البحث الثاني: في مقدار الفحص

فقد يقال: إن مقدار الفحص تابع لدليله، فإن کان دليله بناء العقلاء فالمقدار اللازم من الفحص هو الفحص بالمقدار الذي يخرج العام عن المعرضية للتخصيص، وإن کان دليله العلم الإجمالي، فبالمقدار الذي يوجب انحلال العلم الإجمالي من أصله، أو يوجب خروج المسألة عن أطرافه، وإن کان الدليل الظن الانسدادي، فاللازم الفحص في کل مسألة إلی حدّ الاطمئنان أو الظن نوعاً بعدم وجود الخاص.

لکن الظاهر عدم الحاجة إلی هذا الکلام کله، فإن الفقهاء العظام بحثوا في کل مسألة مسأله من مسائل الفقه وجمعوا کل ما يحتمل أن يكون دليلاً أو تخصيصاً أو معارضاً ونحو ذلك بحيث إن مراجعة مفصلات الکتب الفقهية مع عدم ذکرهم للمخصص توجب الاطمئنان بعدم وجود الخاص إذ لو کان لبان، اللهم إلاّ إذا کانت مسألة مستحدثة فيجري فيه ما ذکر، والظاهر عدم الفرق عملاً في مقدار الفحص حسب المباني الثلاث.

ص: 395

فصل في عموم الخطاب للمشافهين وغيرهم

اشارة

وفيه بحثان:

البحث الأول: في تحرير محل الكلام

1- فتارة يكون الکلام حول إمکان تکليف المعدوم، وهذا بحث عقلي.

فقد يقال: إنه لا يمکن فعلية التکليف بالنسبة إلی المعدوم، إذ البعث والزجر إنما هما لإيجاد الداعي في المکلّف، ويستحيل إيجاد الداعي في المعدوم، إذ مع إلتفات المولی لا يمکنه إيجاد البعث والزجر الحقيقيان لعدم وجود من يريد تکليفه، وبعبارة أخری: التکليف يستلزم الطلب، ولا يكون الطلب حقيقياً إلا من الموجود.

نعم يمکن تعلّق التکليف الإنشائي بالمعدوم، حيث إن الإنشاء هو إيجاد الطلب باللفظ ويكفي في صحته تعلّق غرض عقلائي به، والغرض هو تحقق الفعلية حين الوجود، لئلا يضطر المولی إلی إنشاء جديد، کما في ضرب القوانين عند العقلاء.

والحاصل: إن التکليف يكون إنشائياً بالنسبة إلی المعدوم، وفعلياً بالنسبة إلی الغائب، ومنجزاً بالنسبة إلی الحاضر الملتفت.

2- وتارة يكون الکلام حول إمکان خطاب المعدوم، ويلحق به الغائب،

ص: 396

وهذا بحث عقلي أيضاً.

ولبيان الإمکان وجوه، منها:

الوجه الأول: للمحقق النائيني(1)

فقد ذهب إلی عدم إمکانه في القضية الخارجية، وإمکانه في القضية الحقيقية.

أما في الخارجية: فلعدم إمکان مخاطبة الغائب والمعدوم، بلا تنزيل المعدوم منزلة الموجود.

وأما في الحقيقية: فحيث إنها متکفلة لفرض وجود الموضوع، فالخطاب إنما هو للذي فرض وجوده من أفراد الطبيعة في موطنه، فالأفراد متساوية في إندارجها تحت الخطاب، فالقضية الحقيقية هي الدالة علی التنزيل بنفسها، لأن شأنها فرض وجود الموضوع.

وأشکل عليه: أولاً(2): بأن ملاك القضية الحقيقية هو ترتب الحکم علی الأفراد المقدّرة الوجود، لا علی الأفراد المفروضة الحضور، وملاك الخطاب هو الحضور الذي ليس هو من مقتضيات القضايا الحقيقية.

وبعبارة أخری: في صحة خطاب المعدوم في القضايا الحقيقية لا يكفي تنزيل المعدوم منزلة الموجود، بل لابد من تنزيله منزلة الحاضر، وذلك قيد زائد علی مقتضی القضية الحقيقية، ولا دليل علی هذا التنزيل، فتأمل.

وثانياً: ما قيل: من أن تنزيل المعدوم منزلة الموجود ينفع في ترتيب الآثار الشرعية، والمخاطبة أمر تکويني لا يقبل الترتب بالتنزيل.

ص: 397


1- فوائد الأصول 1: 550.
2- نهاية الدراية 2: 474 (الهامش).

وأجيب عنه: بأنه ليس المقصود توجه الخطاب إليهم أيضاً، بل المراد أن المدلول التصديقي للخطاب يعمّهم أيضاً، أي إن المقصود بالإفهام هو کل من يبلغه الخطاب، فتأمل.

الوجه الثاني: للمحقق الخراساني(1)، وحاصله: أن الخطاب الحقيقي هو توجيه الکلام إلی الغير بقصد إفهامه، وهذا لايتحقق إلاّ بالنسبة إلی الحاضر الملتفت، نعم الخطاب المجازي يصح حتی مع الجمادات.

وقد يشکل عليه: بإمکان توجيه الخطاب الحقيقي لغير الحاضر الملتفت، بغرض وصوله إليه ولو بعد حين، کما لو کتب رسالة إلی المعدومين موجهاً خطابه إليهم، فإنه خطاب حقيقي وجداناً، وکأنّ منشأ التوهم هو حصر الخطاب باللفظ حيث إنه متصرّم الوجود فيكون مخاطبة المعدوم لغواً!!

هذا مع أن قصد الإفهام هو من دواعي الخطاب، وليس مقوماً لحقيقته، فمع عدمه يكون الخطاب لغواً عادة، لا أنه ليس بخطاب، فتأمل.

الوجه الثالث: إنه يكفي في صحة الخطاب مطلق وجود المخاطب ولو ادعاءً، فلذا صحّ خطاب مالا يشعر کالجمادات والحالات ونحو ذلك.

وأشکل عليه: إن وجود المخاطب ادعاءً يستلزم کون الخطاب أيضاً ادعائياً!!

وفيه: عدم صحة هذه الملازمة، إذ يمکن ترتيب الآثار الواقعية علی الوجود الادعائي، إذا کان له وجود حقيقي من جهة أخری، کمن يُنزل ابن

ص: 398


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 84.

القاتل منزلة ابيه ثم يقتص منه، نعم ما ليس بموجود في الخارج أصلاً لايمکن ترتيب آثار الوجود الخارجي عليه، وفيما نحن فيه للجدار مثلاً وجود خارجي حقيقي فيمکن جعله مخاطباً ادعاءً ثم توجيه الخطاب الحقيقي إليه، فتأمل.

3- وتارة يكون الکلام حول أداة الخطاب ومدخولها، وهذا بحث لفظي، ففي نهاية الأفکار(1): إن محل البحث هو ما کان بأداة الخطاب وکان موضوع الخطاب عنواناً عاماً قابلاً للإنطباق علی الموجود والمعدوم، کقوله: (يا أيها الناس) و (يا أيها الذين آمنوا)، فهنا عموم المتلوّ ظاهر في شمول الخطاب للغائبين والمعدومين، وظهور أداة الخطاب إنما هو في الخطاب الحقيقي الخاص بالحاضرين.

فليس البحث فيما لوکان الکلام بلاخطاب، کما لو قال: (يجب علی المقيم کذا، وعلی المسافر کذا) مما کانت المخاطبة بنفس المواجهة من دون توسيط أداة خطاب في البين، حيث لا إشکال في شمول الحکم للغائب والمعدوم متی ما وجد، لعدم المحذور في التکاليف غير الفعلية التي لا تتضمن بعثاً أو زجراً.

کما لايشمل البحث فيما لو کان التخاطب بأداة الخطاب، کضمير المخاطب، وکان المکلّف بالتکليف نفس المخاطب، من غير أن يكون واسطة في التبليغ، کما لو قال: يجب عليكم کذا، لعدم صحة خطاب غير الموجود حال الخطاب، فإذا کان المکلّف هو المخاطب فيلازم ذلك

ص: 399


1- نهاية الأفکار 1: 531-532.

اختصاص التکليف بخصوص الحاضرين.

أقول: لا بأس بهذا التقسيم الثلاثي، إلاّ أن مرجع الثاني إلی ظهوره في کونه قضية حقيقية، فشموله للمعدومين لأجل ذلك وبلا إشکال، کما أن مرجع الثالث إلی ظهور الکلام في القضية الخارجية، لا للوجه الذي ذکره، فتأمل.

وعلی کل حال ففي مورد أدوات الخطاب، فقد ذکر لشمول الحکم للمعدومين والغائبين وجوه، منها:

الوجه الأول: إن عموم المدخول يرتبط بعموم الأداة، فلأيّ شيء وضعت؟

فإن قلنا: بأنها وضعت لتوجيه الکلام إلی المخاطب بغرض إفهامه، فيكون المدخول خاصاً بهذا المخاطب.

وإن قلنا: بأنها وضعت لإيقاع الخطاب، مع اختلاف الدواعي، والتي منها: الإفهام، أو إبراز الشوق، أو إبراز التحسر... الخ، وعلی هذا لا مجازية لو استعملت لا بداعي الخطاب، کما في خطاب الجمادات، فيدخل فيه خطاب المعدوم أيضاً، وبعبارة أخری: إن أدواة الخطاب إنما هي لإيجاد المعنی في عالم الإنشاء، وهو عالم ذهني، لا لإيجاده في الخارج حتی يحتاج إلی مخاطب موجود.

وقد ذهب المحقق الخراساني إلی الثاني(1)، بتقريب عدم شعورنا بالمجازية لو لم تستعمل بداعي الخطاب، نعم هي ظاهرة في الخطاب

ص: 400


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 86-87.

الحقيقي، وليس منشأ هذا الظهور الوضع، بل الانصراف، ولا انصراف مع وجود المانع، ويوجد هذا المانع في الخطابات الشرعية، حيث نعلم بعدم اختصاص الأحکام الشرعية بالحاضرين.

وأشکل عليه المحقق العراقي(1):

بأن الظهور في الخطاب الحقيقي ظهور مستقر، فيزاحم عموم المتلوّ، ويوجب تخصيصه بالحاضرين، خصوصاً فيما يحتمل فيه مدخلية قيد الحضور في التکليف المتکفل له الخطاب.

وفيه: أن المقصود هو وجود المانع عن الانصراف، وهذا لايضرّبه استقرار الظهور في الاستعمالات التي لايوجد فيها المانع، والاشتراك في التکليف قرينة قوية توجب رفع اليد عن احتمال مدخلية قيد الحضور.

الوجه الثاني(2): أنه لا منافاة بين اختصاص الخطاب بخصوص الحاضرين وبين عموم الحکم المتکفّل له الخطاب لغير الحاضرين أيضاً، کما لا منافاة بين کون المخاطب جماعة بغرض تبليغهم مثلاً والحکم لجماعة أخرين، کما في خطاب الرجال بتکاليف النساء مثلاً يقول: يا أيها الرجال يجب الحجاب علی نسائکم، وعليه فنحمل الخطاب علی الخطاب الحقيقي وهو خاص بالحاضرين کما نبقي المتلوّ علی عمومه، بلا تعارض بينهما.

الوجه الثالث: التمسك بقاعدة الاشتراك في التکليف.

ص: 401


1- نهاية الأفکار 1: 534.
2- نهاية الأفکار 1: 534.

ويرد عليه: أولاً: إن کان المقصود هو خطاب المعدومين، فقد مرّ عدم إمکانه، وإن کان المقصود إنشاء الحکم بالنسبة إلی المعدومين أيضاً بمعنی الإيجاد في عالم الإنشاء، رجع هذا الوجه إلی الأوّل، وإن کان المقصود أن هذه القاعدة ثبتت بدليل آخر غير عموم الخطاب فهذا اقرار بعدم شمول الخطاب لهم وإنما يعمّم الحکم لجهة أخری.

نعم يمکن القول بأن مستند القاعدة هو التمسك بإطلاق الدليل لنفي قيد الحضور والوجود حين الخطاب.

وثانياً(1): بأن القاعدة تنفي الخصوصيات الذاتية، کزيّديته وعمرويّته، وأما الخصوصيات العرضيّة - والتي منها الحضور والغياب - فلا تتکفله القاعدة!

ويمکن أن يقال: إن الإطلاق کما ينفي الخصوصيات الذاتية، کذلك ينفي العَرَضيّة، کما أن خصوصية الحضور والغياب ليست من التقسيمات المتأخرة عن مرحلة الحکم حتی يستحيل الإطلاق بالنسبة إليها، مضافاً إلی أن الإطلاق هنا بمعنی رفض القيود وليس بمعنی جمعها، فتأمل.

البحث الثاني: في ثمرة عموم الخطاب أو عدمه

وقد ذکر لهذا البحث ثمرات، منها:

الثمرة الأولی: حجية الظواهر خاص بمن قُصد إفهامه، فإن کان الخطاب عاماً کانت الظواهر حجة لغيرهم، وإلاّ أختصت حجيّته بهم.

ويرد عليه: مضافاً إلی الإشکالات المبنائية:

ص: 402


1- نهاية الأفکار 1: 534.

أولاً: علی الکبری، إذ بناء العقلاء علی حجية الظواهر حتی لمن لم يُقصد إفهامه، بل حتی لو قُصد عدم إفهامه، فلو سمع کلاماً من وراء الجدار هو غير مقصود به، أو سمع إقراراً مع قصد المقرّ عدم إفهامه، رتبوا علی ظاهرها الأثر.

وثانياً: علی الصغری، يستفاد من الأخبار أن الجميع مقصود بالإفهام من الظواهر القرانية، وعليه فالثمرة منتفية.

الثمرة الثانية: بناءً علی شمول الخطاب لغير الحاضرين، فيمکنهم التمسك بالإطلاقات القرانية، فيما لو تخالف الحاضرون والغائبون والمعدومون في صفة من الصفات واحتمل دخلها في الحکم، فيمکن للغائبين والمعدومين التمسك بالإطلاق لنفي تلك الصفة، وأما لو اختص الخطاب بالحاضرين، فلا يمکنهم التمسك بالإطلاق، وذلك لأن تلك الصفة يمکن أن تکون قرينة، فلم تتم مقدمات الحکمة.

وأشکل عليه: أولاً: بقاعدة الاشتراك في التکليف.

وفيه: أنه إن کان مستند القاعدة الإطلاق فهو غير ثابت حسب الفرض، وإن کان المستند الاجماع فهو دليل لبي، فلا يمکن التمسك بها فيما نحن فيه.

وثانياً: التمسك بالإطلاق بطريقة غير مباشرة، بأن يقال: بجريان الإطلاق في حق المشافهين، ثم بقاعدة الاشتراك يجري الحکم في الغائبين والمعدومين.

فإن قلت: إن اتصاف المشافهين بالوصف يصلح قرينة لعدم الإطلاق،

ص: 403

مع عدم الحاجة إلی بيانه حتی لو کان شرطاً واقعاً وذلك لاتصافهم به.

قلت: إن الأوصاف عادة مشترکة بين المشافهين وغيرهم، مضافاً إلی أن المشافهين وإن کانوا واجدين لصفة إلاّ أنها عادة معرضة للزوال فلو کانت دخيلة في الحکم واقعاً کان لابد من بيانها، إلاّ في النادر من الأوصاف غير القابلة للزوال عن المشافهين مع عدم اتصاف المعدومين بها، کوصف حضور المعصوم مثلاً.

ص: 404

فصل في العام المتعقب بالضمير الراجع إلى بعضه

اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في تحرير محل النزاع:

1- لابحث فيما لو ذکر العام مقدمة للضمير، بأن کان الکلام ناقصاً لولا الکلمة التي فيها الضمير، کما لو قيل (المطلقات أزواجهن أحق بردهن)، لوضوح عدم انعقاد ظهور العام بالعموم مع اکتنافه بما هو قرينة علی إرادة البعض.

2- وإنما البحث فيما لو کان العام والضمير في کلامين متصلين، کقوله تعالی: {وَالْمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوءٖ} إلی قوله تعالی: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}(1)، أو کانا في کلام واحد مع استقلال حکم العام، کما لو قال: (أکرم العلماء وخدامهم) مع علمنا برجوع الضمير إلی خصوص خدام العدول من العلماء.

وحينئذٍ فلابد من التصرف: إما في العام بتخصيصه مع أن الأصل هو العموم، وإما في الضمير.

والتصرف في الضمير قد يكون بالاستخدام مع أن الأصل العقلائي هو

ص: 405


1- سورة البقرة، الآية: 228.

عدم الحمل علی الاستخدام، وهذا التصرف هو بإرجاعه إلی بعض الاسم الظاهر فيكون مجازاً حيث وضع الضمير ليراد به نفس ما أريد من الاسم الظاهر، فإرادة بعضه استعمال في خلاف ما وضع له، فيكون مجازاً، وقد يكون التصرف في إسناد الضمير، بأن يسند إليه حکم عام مع إرادة الخصوص بالإرادة الجدّية.

وإنما لزم التصرف في أحدهما، لعدم إمکان بقاء العام علی عمومه، وبقاء ظهور الضمير في المطابقة.

المطلب الثاني: في علاج التعارض

وذلك عبر وجوه:

الوجه الأول: رفع التعارض بترجيح عموم العام وعدم جريان أصالة الظهور في الضمير، فتبقی أصالة الظهور في العام سليمة عن المعارض، وأما عدم جريانها في الضمير، فلمعلوميّة المقصود منه، والأصول العقلائية إنما تجري لفهم المراد، وبعد فهمه لايهمّ العقلاء کيفية ذلك الفهم، فليس له أصول خاصة لتمييز الکيفية، ولذا اشتهر أن الاستعمال أعم من الحقيقة، لأنهم بفهمهم المراد لايهمهم کونه حقيقياً أو مجازياً.

وفيما نحن فيه لايُعلم المراد من العام - المطلقات في الآية - فهل أريد جميعهن أم خصوص الرجعيات منهن، فتجري أصالة العموم، وأما ضمير (بعولتهن) فإن المراد منه معلوم وهو المطلقات الرجعيات، فلا يجري فيه أصالة التطابق أو عدم الاستخدام، فلا تعارض في البين.

إن قلت: لاتجري أصالة العموم أيضاً، وذلك لأن الکلام مکتنف بما

ص: 406

يصلح أن يكون قرينة علی الخصوص، فيكون العام مجملاً؟!

أجاب المحقق النائيني(1)

بأن ضابط احتفاف الکلام بما يصلح للقرينية هو أن يكون مما يصح أن يعتمد عليه المتکلّم في مقام بيان مراده، ولم يخرج بذلك عن طريق المحاورة، وبعبارة أخری: أن يكون ما يصلح للقرينية مجملاً في نفسه فيوجب إجمال جملة الکلام، والضمير المتعقب للعام الراجع إلی بعض أفراده لايكون کذلك، لأنه معلوم المراد ولا يوجب إجمال العام.

وخالفه في ذلك المحقق العراقي(2)،

وسيأتي البحث عن ذلك في بحث المطلق والمقيد.

إن قلت: إن عدم الاستخدام کما يقتضي أن يكون المراد من الضمير هو الخاص، کذلك يقتضي أن يكون المراد من العام المعنی الخاص، ليتطابق المرجع والضمير، وأصالة عدم الاستخدام وان کانت لاتجري في الأول لعدم الشك في المراد من الضمير، إلاّ أنها تجري في الثاني، وحيث کان لازم عدم الاستخدام هو کون المراد من العام هو الخاص، فأصالة عدم الاستخدام تجري لإثبات هذا اللازم.

قلت(3): إرادة الخاص من العام لازم عدم الاستخدام، فلابد أولاً من إثبات عدم الاستخدام بوجه ولو بالأصل، ليترتب عليه لازمه الذي هو إرادة

ص: 407


1- فوائد الأصول 1: 554.
2- نهاية الأفکار 1: 546.
3- فوائد الأصول 1: 553.

الخاص من العام، وبعد عدم جريان أصالة عدم الاستخدام، وذلك للعلم بالمراد من الضمير، کيف يمکن إثبات لازمه الذي هو إرادة الخاص من العام؟!

وبعبارة أخری: لا دلالة علی اللازم بعد عدم الدلالة علی الملزوم.

الوجه الثاني: إنکار الاستخدام من أساسه، لأن الاستخدام هو رجوع الضمير إلی معنی آخر، وليس للعام المخصص معنی آخر، ليكون مجازاً، بل العام حتی بعد تخصيصه يكون دالاً علی العموم بالإرادة الاستعمالية، والتخصيص يرتبط ببيان المراد الجدي.

وفيه: أن النزاع ليس لفظياً بأن يكون في معنی الاستخدام، فحتی لو فرض أنه ليس من الاستخدام، فإن ظاهر الضمير هو أن يكون مرجعه بالإرادة الجدّية هو الاسم الظاهر لا بعض ذلك الاسم، فلو رجع إلی بعضه کان خلاف الظاهر سواء سُمّي استخداماً أم لا.

الوجه الثالث: ما في المنتقی(1)

من أن المراد من الاستخدام أحد أمرين:

الأول: استعمال اللفظ في معنی وإرادة معنی آخر من ضميره، فأصالة عدم الاستخدام تفيد وحدة المعنی.

وهذه الأصالة لا تجري فيما نحن فيه، لأن الاستخدام ثابت سواء أريد من العام العموم أو الخصوص، وذلك لاستعمال العام في العموم حتی لو کان المراد الجدي هو الخصوص، مع رجوع الضمير إلی الخاص.

ص: 408


1- منتقی الأصول 3: 378.

ومع ثبوت الاستخدام، لا معنی لجريان أصالة عدم الاستخدام، فتبقی أصالة العموم سليمة عن المعارض.

الثاني: أن يكون الاستخدام بمعنی اختلاف المراد الجدي من اللفظ وضميره، فأصالة عدم الاستخدام تفيد وحدة المراد الجدي ولو مع اختلاف المستعمل فيه.

وقد يُدّعی أن مستند هذا هو الظهور السياقي، فيدل علی وحدة المراد الجدي بين الضمير ومرجعه، وحينئذٍ يحصل التعارض بين أصالة عدم الاستخدام وأصالة العموم.

إلاّ أنه يمکن ردّ هذا الادعاء بأن الظهور السياقي ليس إلاّ مطابقة مقام الثبوت للإثبات، وليس شيئاً آخر، وحيث نعلم فيما نحن فيه بالمراد الجدي من الضمير ومخالفته للمراد الاستعمالي لو کان المرجع عاماً، فلا معنی لجريان هذا الأصل العقلائي الذي هو مطابقة الثبوت للإثبات، فينحصر جريان الأصل في طرف العام، فلا مزاحمة لأصالة العموم.

تتمتان

الأولی: ذکر المحقق النائيني(1): أن قوله تعالی: {وَبُعُولَتُهُنَّ...}(2) ليس من الاستخدام حتی لو بقي العام علی عمومه، وذلك لأن الضمير استعمل في مطلق المطلقات، لا في خصوص الرجعيات، وإرادة الرجعيات کان بدليل آخر هو عقد الحمل أي قوله: (أحق بردهن)، فلا اختلاف بين

ص: 409


1- فوائد الأصول 1: 553.
2- سورة البقرة، الآية: 228.

المستعمل فيه العام والمستعمل فيه الضمير. مرجع ذلك إلی أن الاستخدام لايرتبط بالمراد الجدي وإنما بالمراد الاستعمالي کما مرّ قبل قليل.

الثانية: قد يقال: لو رجع الضمير إلی المطلق وأريد من الضمير المقيد، فإن ذلك لايستلزم الاستخدام، إذ الإطلاق ليس مدلولاً وضعياً للمطلق کي يلزم إرجاع الضمير إلی غير مرجعه، بل المرجع مستعمل في الطبيعة المهملة و کذلك الضمير، غاية الأمر کان المراد الجدي من الضمير الطبيعة مع القيد، فلم يختل ظهور التطابق بين الضمير ومرجعه.

وأشكل عليه(1): بأن رجوع الضمير إلی مرجعه ليس بمعنی تکرار معنی المرجع في الضمير مرة ثانية، نظير أن يقال: (قلد العالم وأکرم العالم)، بل وضع الضمير لمفهوم مبهم هو الإشارة إلی المعنی التصوري للمرجع بنحو لا وظيفة له إلا إيصال ما بعده من النسبة إلی نفس ما تقدم من المعنی المنسبق إلی الذهن، فهو مثل: (قلّد وأکرم العالم)، فليس في الذهن إلاّ صورة واحدة لمعنی واحد، لا صورتان متکرّرتان، والصورة الواحدة لاتقبل إلاّ إطلاقاً واحداً، لا إطلاقين، فلو کان بعد الضمير دالاً علی تقييد تلك الصورة الواحدة من الطبيعة، فلا محالة تکون صورة الطبيعة المفادة بالمرجع مقيدة فيكون الحکم الأول مقيداً لا محالة، فالاستخدام في الحقيقة هو سلخ الضمير عن کونه لمجرد الإشارة والإيصال إلی معنی متقدم، وعليه فلو أريد من المرجع المطلق وأريد من الضمير حصة من المطلق حصل الاستخدام.

ص: 410


1- بحوث في علم الأصول 3: 381.

فصل في تخصيص العام بالمفهوم

اشارة

وفيه بحثان:

البحث الأول: تخصيص العام بمفهوم الموافقة

ونعني به تطابق المفهوم والمنطوق في السلب والإيجاب، ومنشأ المفهوم إمّا الأولوية القطعية العقلية کدلالة {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفّٖ}(1) علی حرمة الضرب، وإما الاشتراك في العلة المذکورة، فمثل (لا تأکل الرمان لأنه حامض) يدل علی النهي عن العنب الحامض مثلاً.

وهنا الصور متعددة، منها:

الصورة الأولی: کون المنطوق أخص مطلقاً، وکذلك المفهوم، کما لو قال: (لا تضيّف أيّ أحدٍ) وقال: (ضيّف خدام العلماء) حيث مفهومه الموافق (ضيّف العلماء)، فهنا المنطوق والمفهوم کلاهما أخص من العام، ولا إشکال في تقديمهما علی العام، إذ المنطوق أخص وهو مقدم علی العام، ويلازمه المفهوم قطعاً وهو أيضاً أخص، فيترجح علی العام، ولا وجه لتقديم العام علی المفهوم لاستلزامه تقديمه علی المنطوق أيضاً لعدم انفکاکهما عقلاً.

ص: 411


1- سورة الإسراء، الآية: 23.

الصورة الثانية: أن يكون المنطوق أخص مطلقاً، مع کون النسبة بين المفهوم والعام، العموم والخصوص من وجه، کما لو کان العام (لا تکرم الفساق)، وکان المنطوق (أکرم فساق خدام السادة) ويلازمه بالأولوية (وجوب اکرام فساق السادة) وهذا يلازمه بالأولوية (وجوب إکرام عدول السادة) فالمفهوم (وجوب إکرام السادة مطلقاً عدولاً کانوا أم فساقاً).

فبين العام والمنطوق العموم والخصوص المطلق، ولکن بين العام والمفهوم العموم من وجه، ومورد الافتراق الفاسق غير السيد وغير خادمه، وکذا السيد العادل.

قد يقال: بتقدّم المفهوم علی العام أيضاً.

واستدل لذلك المحقق النائيني(1)

بأن المفهوم أولی في ثبوت الحکم له من المنطوق، وحينئذٍ مع تقدم المنطوق الخاص علی العام لايعقل عدم تقدم المفهوم الخاص علی العام، إذ المفهوم أجلی من المنطوق، فإذا تقدم المنطوق الخاص فبالأولوية يتقدم مفهومه، فيكون المورد من موارد تقديم أحد العامين من وجه علی الآخر بمرجّح.

وبعبارة أخری: إن المرجح موجود حتی لو کانت النسبة - بعد ملاحظة المنطوق والمفهوم معاً - العموم من وجه - ، وهو أن تقديم العام سبب سقوط منطوق الخاص و بسقوطه يسقط مفهومه، إذ مع سقوط الدلالة المطابقية تسقط الدلالة الالتزامية، وعليه فيسقط الخاص بالمرّة، وهو خلاف الجمع العرفي، وإنما الجمع العرفي هو تقديم منطوق الخاص فيستلزم

ص: 412


1- فوائد الأصول 1: 556.

تقديم مفهومه، حتی لو کانت النسبة العموم من وجه، فتأمل.

الصورة الثالثة: ما کان بين المنطوقين تبايناً، مع تعارض مفهوم أحدهما مع الآخر، کما لو قال: (أکرم الخدام الأميين للعلماء) وقال (لا تکرم العلماء) فالتکليفان متباينان ولا تعارض بينهما، إلاّ أن مفهوم الأول هو (أکرم العلماء) بالأولوية، وعلاج التعارض هو بملاحظة المفهوم والمنطوق معاً لأنهما مدلولان للکلام ثم ملاحظتهما مع الدليل الآخر، وحيث إن التعارض حينئذٍ بالتنافي فلا جمع دلالي، ولا يخفی أن هذه الصورة خارجة عن فرض الکلام.

البحث الثاني: تخصيص العام بمفهوم المخالفة:

کقوله: «الماء کله طاهر»(1) وقوله: «إذا کان الماء قدر کر لم ينجسه شيء»(2)، حيث مفهومه (إذا لم يبلغ قدرکر نجسه شيء) وهذا المفهوم أخص من ذاك العام.

وهنا حيث لا أولوية ولا اشتراك في العلة، فيمکن رفع اليد عن المفهوم مع ثبوت الحکم في المنطوق، فيدور الأمربين رفع اليد عن عموم العام وبين رفع اليد عن المفهوم الخاص.

ولابدّ من أن يكون الجمع أو الترجيح عرفيّاً، وإلاّ فلا محيص للتساقط والرجوع إلی الأدلة أو الأصول الأخری.

فلا يصغی إلی الاستدلال علی ترجيح التخصيص بأنه جمع بين دليلي

ص: 413


1- وسائل الشيعة 1: 134.
2- وسائل الشيعة 1: 158.

العام والمفهوم، إذ ليس کل جمع أولی من الطرح، بل لابد من کونه عرفياً.

کما لايصغی إلی الاستدلال علی ترجيح العام بأنه أقوی لکونه بالمنطوق، إذ قد يكون المفهوم أقوی لأخصيته مثلاً.

وکون الجمع عرفياً يتمّ بملاحظة اتصال الذي له المفهوم أو انفصاله، وبملاحظة کون الدلالة علی العموم أو المفهوم بالوضع أو مقدمات الحکمة، وکون العموم آبياً عن التخصيص وعدم إبائه، فالصور کثيرة، منها:

الصورة الأولی: کون الدلالة علی العموم وعلی المفهوم بالوضع، کما لو قال: (أکرم کل عالم) وقال: (أکرم العلماء إذا کانوا عدولاً) فذهب المحقق العراقي(1) إلی الإجمال حينئذٍ إن لم يكن لأحدهما مرجّح - سواء کانا متصلين أم منفصلين - .

أما إذا کانا متصلين، فلعدم استقرار الظهور في أيٍّ منهما، حيث يصلح کل واحد منهما لأن يكون قرينة لرفع اليد عن الآخر.

وأما إذا کانا منفصلين، فإنه واستقر لکليهما ظهور، إلاّ أنهما مصطدمان، وحيث لاترجيح في البين لاتثبت الحجيّة لأيٍّ منهما، إلاّ إذا ثبتت أقوائية أحدهما علی الآخر أو کان هناك مرجّح.

وقد يقال: بأن المرجح موجود في المفهوم، لأقوائيته علی العام.

إن قلت: إن المفهوم يكون دائماً بالإطلاق لا بالوضع، وذلك لأن استفادته من دلالة المنطوق علی خصوصية ملازمة للمفهوم، کخصوصية العلة المنحصرة في مفهوم الشرط - علی القول بها - ، وغير خفي أن الدلالة

ص: 414


1- نهاية الأفکار 1: 546.

علی هذه الخصوصية إنما هي بالإطلاق، الذي هو عدم ذکر العِدل!!

قلت: إن الذي له المفهوم يدل بنفسه علی دخل مثل الشرط والوصف ونحوهما في الحکم، وإنما الإطلاق لنفي العِدل، وبعبارة أخری(1) العام يصادم دليل المفهوم في دلالته علی أصل دخالة الشرط في الحکم - والتي هي أسبق من دلالته علی المفهوم - ودليل المفهوم بلحاظ هذه الدلالة أقوی من دلالة العام علی العموم.

الصورة الثانية: کون دلالتهما بالإطلاق، وحکم هذه الصورة کالسابقة، في ترجيح المفهوم علی العام لأقوائيته بالوجه المذکور، فلا يصغی إلی ما قيل: من عدم ثبوت الإطلاق لأيٍّ منهما، وذلك لصلاحية الآخر للقرينيّة، ومن المعلوم أن من مقدمات الحکمة عدم وجود ما يصلح للقرينة.

الصورة الثالثة: کون العام بالوضع والمفهوم بالإطلاق.

فإن کانا متصلين: فقد يقال: بترجيح العام لأن ظهوره بالوضع، ومعه لايبقی مجال للإطلاق حيث إن العام صالح للبيانية، ولا عکس.

وقد يورد عليه: بأنه قد تکون جهة مرجحة للمفهوم المستفاد من الإطلاق، وهي لغوية ذکر الذي له المفهوم، وهذه الجهة توجب ثبوت الإطلاق وأقوائيته علی العام، فتأمل.

وإن کانا منفصلين: فقد يقال: بتقديم الوضع علی الإطلاق، نظراً لکون ظهور العام منجزاً، وظهور المفهوم معلّقاً علی عدم البيان.

ص: 415


1- منتقی الأصول 3: 388.

وأشکل عليه المحقق العراقي(1): بأن تقوّم الإطلاق هو عدم البيان في الکلام الذي وقع به التخاطب، لا عدم البيان بقول مطلق، والشاهد هو أخذ العرف وأهل المحاورة بظهور الکلام الملقی إليهم في الإطلاق عند عدم نصب قرينة علی الخلاف من غير حالة منتظرة بأنه لعله يأتي بيان، والنتيجة هو وقوع التعارض بين هذا الإطلاق وبين العموم لاستقرار الظهور في کليهما، فلابد من الحکم بالإجمال إن لم يكن هناك جهة مرجِّحة.

ويمکن أن يقال: مع قطع النظر عن البحث المبنائي، إن هذا الاستدلال علی فرض صحته لايجري في المولی الذي يتعارف فيه فصل القرينة، إن لم يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، والشاهد علی ذلك عمل العرف بعمومات کلام الموالي العرفية من غير انتظار لبيان الخاص - مثلاً - فتأمل.

الصورة الرابعة: عکس الصورة السابقة

فإن کانا في کلام واحد قُدّم المفهوم لتنجز ظهوره عکس ظهور العام.

وإن کانا في کلامين جری فيهما ما ذکر في الصورة السابقة.

تتمتان

التتمة الأولی: فيما ذکره الشيخ الأعظم في الاستدلال بآية النبأ علی حجية الخبر الواحد:

1- أما بالنسبة إلی ترجيح عموم التعليّل علی المفهوم فقال(2): إنا لو سلّمنا دلالة المفهوم علی قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم، لکن نقول: إن

ص: 416


1- نهاية الأفکار 1: 547.
2- فرائد الأصول 1: 258.

مقتضی عموم التعليل وجوب التبيّن في کل خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وإن کان المخبر عادلاً، فيعارض المفهوم، والترجيح مع ظهور التعليل... إن المفهوم أخص مطلقاً من عموم التعليل مسلّم، إلاّ أنّا ندعي التعارض بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر الواحد الغير العلمي، وظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في ثبوت المفهوم، فطرح المفهوم والحکم بخلوّ الجملة الشرطية عن المفهوم أولی من ارتکاب التخصيص في التعليل.

2- وأما بالنسبة إلی ترجيح المفهوم علی العمومات الدالة علی النهي عن العمل بغير العلم فقال(1): فالمفهوم أخص مطلقاً من تلك الآيات، فيتعيّن تخصيصها، بناءً علی ما تقرر من أن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم أقوی من ظهور العام في العموم.

وأما منع ذلك فيما تقدم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم، فلما عرفت من منع ظهور الجملة الشرطية المعلّلة بالتعليل الجاري في صورتي وجود الشرط وانتفائه في إفادة الانتفاء عند الانتفاء، انتهی.

وقد يفسّر کلامه: بأن التعليل آبٍ عن التخصيص، فلا يمکن تخصيصه بالمفهوم ولا بغيره، حيث إن إصابة القوم بجهالة غير قابل للتخصيص، أما الآيات الناهية عن العمل بالظن فلا إباء لها من التخصيص، فتخصص بالمفهوم!!

ومرجع هذا التفسير إلی أن المفهوم يُخصص العام مطلقاً إلاّ إذا کان

ص: 417


1- فرائد الأصول 1: 263.

هناك مرجح للعام، والإباء عن التخصيص مرجحٌ!

وأشکل عليه المحقق النائيني(1): بأن التعليل مهما بلغ من القوة، لايكون أقوی من المفهوم الخاص، والآيات الناهية عن العمل بالظن أيضاً آبية عن التخصيص! وکيف يمکن تخصيص مثل قوله تعالی: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَئًْا}(2).

ثم قال: إنه في الآيتين لاتلاحظ النسبة، بل المفهوم حاکم علی عموم التعليل وعلی عموم النهي عن العمل بالظن، لأن خبر العدل بعد ما صار حجة يخرج عن کونه ظناً، وعن کون إصابة القوم بالجهالة، ويكون علماً، وبذلك تخرج آية النبأ عن مورد البحث، إذ الکلام في التخصيص لا في الحکومة.

التتمة الثانية: في الفرق بين مفهوم الموافقة والمخالفة.

وقد ذکر المحقق النائيني(3): أن الفرق بينهما من وجهين:

الأول: في المفهوم الموافق يلاحظ التعارض والعلاج أولاً بين المنطوق والعام، ويتبعه العلاج بين المفهوم والعام، بخلاف المفهوم المخالف، فإن التعارض وعلاجه أولاً وابتداءً إنما يكون بين المفهوم والعام، إذ المنطوق ربما لايكون معارضاً أصلاً.

الثاني: إن المنطوق في المفهوم الموافق لو قدم علی العام لأخصيته،

ص: 418


1- فوائد الأصول 1: 559.
2- سورة يونس، الآية: 36؛ سورة النجم: الآية 28.
3- فوائد الأصول 1: 560.

فالمفهوم أيضاً يقدّم علی العام مطلقاً، ولو کان نسبته مع العام العموم من وجه، بخلاف المفهوم المخالف، فإنه لو کان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل معهما معاملة العموم من وجه، فربما يقدم العام علی المفهوم في مورد التعارض، ويخصّص المفهوم به، إذ المفهوم العام قابل للتخصيص ولا تخرج القضية بذلك عن کونها ذات مفهوم.

ويمکن أن يقال: أما الأول: فقد مرّ أنه لا وجه للتفكيك بين المنطوق والمفهوم في الموافق، لتلازمها عقلاً مع وضوح ذلك لدی العرف، فلابد من ملاحظتهما معاً في نسبتهما مع العام.

وأما في المخالف فلا کلام فيما لم يكن المنطوق معارضاً للعام، إنما الکلام فيما لو عارضه فکذلك لابد من ملاحظة المنطوق والمفهوم معاً في نسبتهما إلی العام، لتلازمها عرفاً.

وأما الثاني: فکذلك، لتلازم الموافق مع المنطوق، فالعرف ينظر إليهما کمدلول واحد للکلام حيث إن الإرادة الجدّية تعلقت بهما معاً حتی لو کان هناك تقدم رتبي للمنطوق علی مفهوم الموافق، وحينئذٍ فالمنطوق الخاص مطلقاً مع مفهومه الخاص من وجه يلاحظان معاً، فتکون نسبتهما إلی العام من وجه، وکذلك في المخالف، فتأمل جيداً.

ص: 419

فصل في الاستثناء المتعقب لجمل متعددة

اشارة

وکذا بعض التوابع الأخر، کالوصف کما لو قال: (أکرم العلماء والشعراء العدول)، ومثال الاستثناء قوله تعالی: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَٰنِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَٰدَةً أَبَدًا وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).

وهنا بحوث ثلاث: ثبوتي، وإثباتي، ومقتضی الأصل العملي.

البحث الأول: في مرحلة الثبوت

أي في إمکان الرجوع إلی غير الأخيرة، وذلك عبر طريقين:

الطريق الأول: ما سلکه صاحب المعالم(2) ببيان أن الحروف - ومنها أدوات الاستثناء - الوضع فيها عام والموضوع له خاص، فحيث کان الوضع عاماً صحّ کون معنی أداة الاستثناء عاماً، لکي يرجع الاستثناء إلی الکل.

وأشکل عليه المحقق الخراساني(3): بأن کيفية الوضع والموضوع له، لاترتبط بصحة الاستثناء من کل الجمل السابقة إذ لايتغير معنی الأداة بوحدة أو تعدد المستثنی أو المستثنی منه، فلا فرق في معنی الاستثناء بين

ص: 420


1- سورة النور، الآية: 4-5.
2- معالم الدين: 123.
3- إيضاح کفاية الأصول 3: 114.

(أکرم العلماء إلاّ زيداً) وبين (أکرم العلماء والشعراء إلا الفساق من کليهما)، حيث المعنی في کلا المثالين الإخراج، من غير تفاوت في المعنی حين اختلاف النسبة.

وأورد عليه المحقق الإصفهاني(1): بأن الموضوع له إن کان خاصاً بأن کانت أداة الاستثناء موضوعة للإخراجات الخاصة فلا محالة يتعدد الإخراج بتعدد أحد الطرفين، إذ النسبة تتعدد بتعدد أطرافها، وحينئذٍ فإن دلّت أداة الاستثناء علی إخراجات متعددة لزم استعمال اللفظ في أکثر من معنی، فلابد من وحدة الإخراج وذلك بلحاظ الوحدة في الجمل المتعددة أو الوحدة في الاستثناءات المتعددة.

وأجاب عنه في المنتقی(2): بأن لحاظ الوحدة في الجمل المتعددة إما عبر جامع عنواني، وهذا يخالف الوجدان إذ لانری عنواناً آخر في البين، وإما عبر لحاظ نفس العمومات بنحو المجموع، وهذا بعيد عن طريق أهل المحاورة، لاستلزامه لحاظ کل واحد من العموم بنحوين: استقلالي في مقام تعلّق الحکم به، وضمني في مقام الاستثناء.

أقول: إن الکلام في مرحلة الثبوت والإمکان، فمع الاذعان بالمباني المذکورة - من کون الحروف للمعنی الرابط أو النسبة، ومن عدم جواز استعمال اللفظ في أکثر من معنی - فلابد من انتهاج ما ذکره المحقق الإصفهاني، وأما عدم مساعدة الوجدان أو المحاورة فهذا يمکن جعله دليلاً

ص: 421


1- نهاية الدراية 2: 480-481.
2- منتقی الأصول 3: 390-391.

علی عدم رجوع الاستثناء إلاّ إلی الأخيرة في مرحلة الاثبات، أما مع قيام القرينة علی رجوعه إلی الکل إثباتاً فلابد من تصحيحه ثبوتاً بهذه الطريقة لدفع المحذور العقلي عمّا وقع في الخارج، فتأمل.

الطريق الثاني: ما ذکره صاحب المنتقی(1)

من أن أداة الاستثناء ليست ربطاً بين المستثنی والمستثنی منه، ليلزم محذور تعدد الربط أو النسبة واستعمال اللفظ في أکثر من معنی.

بل أداة الاستثناء تتکفل بيان الربط بين المستثنی والمتکلّم، حيث معناها اُخرج - بصيغة المتکلم - ، وعليه فلا يلزم المحذور، إذ لاتعدد لطرف الربط رغم تعدد المستثنی منه.

أقول: إن هذا لايساعد عليه الوجدان، ففي مثل: (جاء القوم إلاّ زيداً) هناك نسبة وربط بين زيد وبين المجيء، أو بينه وبين القوم الجائين، فليس (إلا زيداً) منقطعاً عمّا قبله بحيث يكون کالجملة المستأنفة من غير ارتباط بينهما، وأما نسبته إلی المتکلّم فهي النسبة الايجادية، أي أنه أوجد هذه النسبة في کلامه بحيث تکون مرآة عن النسبة الخارجية ودالة عليها، وليس الکلام في النسبة الايجادية وإنما النسبة والربط بين طرفي الکلام، فتأمل.

البحث الثاني: في مرحلة الإثبات

فهنا أقوال، منها:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(2): بأنه لا إشکال في

ص: 422


1- منتقی الأصول 3: 390.
2- إيضاح کفاية الأصول 3: 112-113.

رجوعه إلی الأخيرة، إذ هي القدر المتيقن، وأما الرجوع إلی غير الأخيرة فقط فهو خارج عن طريقة أهل المحاورة إن لم تکن قرينة، کما لو قال: أکرم العلماء والعدول إلا الفساق حيث قامت القرينة علی رجوعه إلی غير الأخيرة، والقرينة هي عدم صحة استثناء الشيء من ضده.

ولايخفی أن التيقن بالرجوع للأخيرة ليس بمعنی الظهور في ذلك، إذ هو محل خلاف فقد يقال به، وقد يقال بالظهور في الرجوع إلی الکل، ولکن أياً کان الظهور فالرجوع إلی الأخيرة مسلّم.

وهذا هو أقرب الأقوال وأظهرها.

القول الثاني: ما ذهب إليه المحقق النائيني(1): من التفصيل بين ما إذا کانت الجمل المتقدمة مشتملة علی الموضوع، وبين ما إذا حذف فيها الموضوع، ففي الأول يرجع إلی خصوص الأخيرة، وفي الثاني يرجع إلی الجميع، مثال الأول: أکرم العلماء وأضف الشعراء وأهن الفساق إلاّ النحوي، ومثال الثاني: أکرم العلماء والشعراء والسادات إلا النحوي.

وبعبارة أخری: في الأول حيث ذکر عقد الوضع في محلّه فيحتاج تخصص غيره إلی دليل، وأما الثاني فلأن عقد الوضع مذکور في صدر الکلام فلا يصلح الاستثناء إلاّ للرجوع إليه، وإن رجع إليه خصص الجميع لا محاله.

وأشکل عليه: بأن ذلك لايوجب ظهوراً، وخاصة أن العطف في قوة تکرار الموضوع غير المذکور.

ص: 423


1- فوائد الأصول 1: 555.

القول الثالث: ما ذهب إليه المنتقی(1): من أن في الاستثناء تقديراً لضمير راجع إلی المستثنی منه، فمثل: أکرم العلماء إلا الفساق إنما هو بمعنی إلا الفساق منهم، فلابد من تعيّن الضمير، إذ هو للإشارة إلی معنی متعيّن فلابد من سبقه، ومع سبقه...

1- فقد يتحد المحمول وتتکرر العمومات، فالضمير راجع إلی الجميع، إذ هو المعنی المتعين الصالح لرجوع الضمير إليه، وأما خصوص الأخيرة فلا تعين له ذهناً من بين العمومات، والأقربية غير صالحة للتعيين وإلاّ لکانت الأبعدية کذلك!

2- وقد يتکرر المحمول من غير عطف - سواء اتحد نوع المحمول أم اختلف - ، فهنا يتعين رجوع الضمير إلی الأخيرة، إذ بيان کل حکم بجملة مستقلة غير مرتبطة بسابقتها، يوجب کون الجملة السابقة في حکم المغفول عنها، وهذا يوجب التعيّن للأخيرة دون غيرها.

3- وقد يتکرر المحمول مع العطف، فيكون الکلام مجملاً في غير الأخيرة، إذ يحتمل أن يكون استقلال الأخيرة في الحکم موجباً لتعينه عرفاً، کما يحتمل أن يكون ربط الأخيرة بعطف موجباً لعدم تعينه لکون الجميع بمنزلة الجملة الواحدة.

ويرد عليه: أن کل هذه التقسيمات فرع فرض وجود الضمير ومن ثمّ البحث عن مرجع له، وحيث يخلو الکلام عنه فلا وجه للبحث عن مرجعه، وإرادته جداً لاتنفع بعد عدم استعماله لفظاً، هذا مضافاً إلی أنه في الإرادة

ص: 424


1- منتقی الأصول 3: 391-393.

الجدّية لامعنی لفرض الضمير بل يفرض الاسم الظاهر، ذلك لأن الإتيان بالضمير إنما هو للاختصار في الکلام مع إرادة معناه، فيكون تقدير الضمير وإرجاعه إلی اسم الظاهر کالأکل من القفا بل يقدر الاسم الظاهر بنفسه - لو احتيج إليه - .

القول الرابع: ما ذهب إليه المحقق العراقي(1): حيث فصّل بأن الدلالة في کل من العمومات والاستثناء المتصل بها، إما أن تکون بالوضع، وإما بالإطلاق ومقدمات الحکمة، وثالثة تکون الدلالة في العام بالوضع وفي الاستثناء بالإطلاق، ورابعة بعکس ذلك...

فعلی الأولين: تسقط العمومات عن الحجية، لتصادم الظهورات، ولا بد من الرجوع إلی الأصول العملية من استصحاب ونحوه.

وعلی الثالث: لابد من الأخذ بالعام وعدم الاعتناء باحتمال رجوع الخاص إليه، ولا مجال حينئذٍ لتوهم اجمال العام باتصاله بالخاص المحتمل الرجوع إليه، من جهة أن ذلك إنما هو في فرض صلاحية الخاص المتصل للقرينية عليه، وبعد فرض کون الدلالة فيه من جهة الإطلاق لايكاد يوجد صلاحية له للقرينية علی العام، بل الأمر حينئذٍ بالعکس فإن العام من جهة کون الدلالة فيه بالوضع يصلح للبيانية عليه فينفي موضوع الإطلاق في طرف الخاص، لکونه من قبيل الدليل بالنسبة إليه.

وبعبارة أخری: إن ظهور العام تنجيزي بخلاف الخاص فإن ظهوره تعليقي منوط بعدم ورود بيان علی خلافه، فيقدم الظهور التنجيزي علی

ص: 425


1- نهاية الأفکار 1: 543-544.

التعليقي، بخلاف العکس فإن صلاحية هذا الظهور التعليقي للقرينية علی الظهور التنجيزي دوري.

وعلی الرابع: لابد من الحکم في غير الأخيرة بالإجمال، وذلك لاحتمال صلاحية الخاص للقرينية والبيانية للعمومات عند عدم ظهوره في الرجوع إلی الجميع.

وأورد عليه: أولاً: بأن إطلاق المستثنی منه فرع رجوع الاستثناء إلی الجمل، ومع الشك لاموضوع للإطلاق! إذ لو أريد إجراء الإطلاق مع قطع النظر عن إضافته إلی المستثنی منه فهو غير معقول إذ لابد من الإضافة إلی شيء ليحصل الإطلاق، وإن أريد إجراء الإطلاق بعد تحصيل مفهوم معيّن له - عبر وقوعه صفة للمستثنی منه ومضافاً إليه - فالشك إنما هو في نفس ذلك المفهوم وأنه الجملة الأخيرة أو المجموع.

أقول: هذا إنما يصح لو کان المحمول متعدداً کما لو قال: أکرم العلماء وأضف الشعراء إلا الفساق، وأما لو کان المحمول واحداً - سواء تکرر أم لا - فلا مورد لهذا الإشکال کما لو قال: أکرم العلماء وأکرم الشعراء إلاّ الفساق، فإنه يمکن القول بإطلاق عدم إکرام الفساق فيشمل فساق العلماء والشعراء معاً.

وثانياً(1): بأن محذور الدور لايندفع بالمنع عن وجود الشيء خارجاً - أي المنع عن تحقق الموقوف والموقوف عليه خارجاً - بل لابد من إبطال أحد المتوقفين في نفسهما، وذلك لاستحالة علية الشيء لنفسه في عالم العلية والمعلولية، فليست الاستحالة من شؤون عالم الوجود الخارجي کي ندفع

ص: 426


1- بحوث في علم الأصول 3: 398.

الدور بمنع المتوقفين رأساً کمنع الإطلاقين هنا، وعليه فلابد من دفع الدور بأن الدلالة الإطلاقية في کل من المتعارضين ليست موقوفة علی عدم فعلية الآخر، بل علی عدم الإطلاق الشأني في الآخر، وهو غير موقوف علی فعلية الإطلاق، فلا دور!

وفيه تأمل: لأن کلام المحقق العراقي في عدم صلاحية الظهور التعليقي للقرينية، وعدم الصلاحية أعم من الوجود الخارجي، وبعبارة أخری: عدم الصلاحية في ذاتها ونفسها، مضافاً إلی أنه لايمکن فرض انفکاك العلية عن الوجود، ففرض عالم العلية والمعلولية في وعاء نفس الأمر في غير الوجود الخارجي لا وجه له، حيث إنه لو أريد الفرض فهذا الفرض بمکان من الإمکان إذ فرض المحال ليس بمحال، فتأمل.

البحث الثالث: مقتضى الأصل العملي

وحيث إن الأخيرة هي القدر المتيقن، ولا ظهور في غيرها، إذ الاستثناء متصل، فلا ظهور لغير الأخيرة في شمول مورد الاستثناء، فحينئذٍ تکون مجملة في موارد الاستثناء، فلابد من الرجوع فيها إلی مقتضی الأصل العملي، فإن کانت حالة سابقة استصحبت وإلاّ جرت أصالة البراءة.

إن قلت: لابد من عدم شمول الاستثناء لتلك الجمل، لأنها ألفاظ عامة فلابد من حملها علی العموم لتشمل حتی مورد الاستثناء، وذلك عملاً بأصالة الحقيقة!

قلت: أولاً: هذا يبتني علی تعبديّة أصالة الحقيقة، بمعنی بناء العقلاء علی العمل بالعموم حتی لو لم يكن ظهور نوعي، وبعبارة أخری: بناء

ص: 427

العقلاء علی حمل الألفاظ علی المعاني الحقيقية ولو لم تکن الألفاظ ظاهرة فيها، بأن يكونوا قد اتفقوا علی هذه القاعدة لا لأجل الظهور النوعي!

وهذا غير ثابت، بل الثابت عدمه، فليس لهم تعبد خاص هنا، بل عملهم بأصالة العموم إنما هو من باب الظهور فقط لاغير، وهکذا في بقية الألفاظ.

وثانياً: قد يقال: بأن العموم قد يكون بالإطلاق، فلا تتم مقدمات الحکمة، إذ الاستثناء يحتمل للقرينية.

وقد يشکل عليه: بأن ما يصلح للقرينية يلزم أن يكون ظاهراً في القرينية عرفاً، وإلاّ فمجرد احتمال القرينية لايمنع عن تمامية مقدمات الحکمة، وسيأتي تفصيله في بحث المطلق والمقيد.

ص: 428

فصل في تخصيص القرآن بخبر الواحد

وهذا البحث يرتبط ببحث حجية خبر الواحد، وبشرح معنی الأخبار الدالة علی الإعراض عن الخبر المخالف للکتاب، وببحث التعادل والتراجيح في الترجيح بالسند أو الدلالة، وسنشير إلی بعض البحوث هنا مختصراً، والتفصيل في البحثين إن وفقنا الله تعالی.

وفي المسألة قولان:

القول الأول: التخصيص بالخبر المعتبر.

قد يقال: إن ذلك إذا لم يكن اعتباره للانسداد، لأن الحجية فيه من باب الاحتياط، وهو إنما يجري إذا لم يكن دليل، وعموم الکتاب دليل.

وفيه تأمل: وذلك لأن الاحتياط قد يكون لإدراك الدليل الخاص، وحينئذٍ لابد منه حتی مع وجود الدليل الخاص، کما لو علمنا بتخصيص العام بأحد الدليلين، وما نحن فيه من هذا القبيل، فتأمل.

واستدل للتخصيص بأمور، منها:

الدليل الأول: سيرة الأصحاب المتصلة بزمان المعصومين (علیهم السلام) ، مع علمنا بأن عملهم لم ينحصر بالخبر المحفوف بالقرينة.

الدليل الثاني: إن جميع الأخبار مخصصة لعمومات الکتاب، کالأخبار الدالة علی الحرمة تخصص مثل قوله تعالی: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ

ص: 429

جَمِيعًا}(1)، وکذا جميع الأخبار الدالة علی الوجوب، تخصص الآيات الدالة علی البراءة، فيلزم من عدم الجواز لغوية جعل الحجية للخبر الواحد.

القول الثاني: عدم جواز التخصيص، واستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: قطعية الکتاب، وظنية الأخبار، ولا اعتبار للظني في قبال القطعي.

والجواب: إن التخصيص لايرتبط بالصدور کي يرجح القطعي علی الظني، بل يرتبط بالدلالة وهي في الکتاب ظنية، إذ الدلالة علی العموم إنما هو بأصالة العموم الراجعة إلی تطابق المراد الجدي مع الاستعمالي، وحجية أصالة العموم إنما هي فيما لم تکن قرينة علی خلافها، والخبر الخاص قرينة، وبعبارة أخری: أصالة العموم والخبر کلاهما ظنيان دلالةً، والجمع العرفي بينهما بالتخصيص، إذ ذلك يستلزم العمل بهما، عکس العمل بالعام المستلزم لطرح الخبر الخاص.

ولولا ذلك لم يجز تخصيص الخبر المتواتر القطعي الصدور بالخبر الواحد، ولا يلتزم به أحد.

الدليل الثاني: الأخبار المتواترة علی وجوب طرح الخبر المخالف للکتاب، والخاص مخالف، فيجب طرحه بمعنی عدم حجيته.

ويرد عليه: أولاً: بأن التخصيص ليس مخالفة عرفاً، حيث لايرون مخالفة بين مثل: أکرم الشعراء ولا تکرم فساقهم.

ص: 430


1- سورة البقرة، الآية: 29.

وثانياً: وعلی فرض کون التخصيص مخالفة، فلابد من تأويل کلمة (المخالفة)، وذلك للقطع بصدور بعض أخبار التخصيص عنهم - لثبوتها بالتواتر أو لاحتفافها بالقرينة - ولا يعقل أن ينهوا عن العمل بما قالوه (علیهم السلام) .

وثالثاً: حمل المخالفة علی مخالفة الحکم الواقعي لا مخالفة الظاهر، للعلم بعدم إرادة الظاهر أحياناً کما في المتشابهات، وذلك لما مرّ من أن الخاص يبيّن المراد الجدي مع بقاء العام علی عمومه، فالمعنی إنهم لايقولون ما يخالف واقع القران، لکن قد يصدر منهم ما يخالف الظاهر مع کونه موافقاً للواقع.

وأشکل عليه: بأن هذه الروايات وردت للضابطة، لکي يعرف الناس الخبر الصادر عنهم عن غيره، والناس لايعرفون إلاّ الظواهر، وأما المرادات الواقعية فلا يعلمها إلاّ الراسخون، وهم الرسول (صلی الله علیه و آله) والائمة (علیهم السلام) .

وفيه نظر: لأن الناس يعرفون المرادات الواقعية عبر معرفتهم بالظاهر، إذ المراد الاستعمالي کاشف عن المراد الجدي، ولکن مع مجيء الخاص فلا يكشف المراد الاستعمالي عن المراد الجدي في مورد الخاص، إذ الخاص يمنع عن ذلك، وعليه فلا يعلم مخالفة الخاص للمراد الواقعي.

الدليل الثالث: لو جاز التخصيص لجاز النسخ بأن يعتبر الخاص ناسخاً، لأن الأول تخصيص في الأفراد والثاني في الأزمان، والتالي باطل، فالمقدم مثله.

والجواب: إن مقتضی القاعدة هو جواز نسخ الخاص للعام، إلاّ أنا رفعنا اليد عنه لما سيأتي في الفصل اللاحق، هذا مضافاً إلی أن النسخ قليل جداً

ص: 431

فدواعي الضبط فيه کثيرة، عکس التخصيص فلو کان نسخ لتواتر أو استفاض نقله.

ص: 432

فصل الدوران بين التخصيص والنسخ

اشارة

في زمان العام والخاص ستة صور:

1- تقارن العام والخاص.

2- تقدم العام، مع صدور الخاص قبل حضور وقت العمل.

3- تقدم العام، مع صدور الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، والعام قد يكون لبيان الحکم الواقعي، وقد يكون لبيان الحکم الظاهري.

4- تقدم الخاص، وصدور العام قبل حضور وقت العمل بالخاص.

5- تقدم الخاص، وصدور العام بعد حضور وقت العمل بالخاص.

6- تقدم العام وتأخر الخاص مع عدم العلم بأن صدوره کان قبل حضور وقت العمل أو بعده.

الصورة الأولی والثانية: ولابد من التخصيص، وذلك لعدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل علی المشهور، للّغويّة، فيكون الخاص مبيناً للإرادة الجدّية من العام.

الصورة الثالثة: وهي علی قسمين:

القسم الأول: ما کان العام لبيان الحکم الواقعي

وقد ذهب المحقق الخراساني إلی النسخ(1)، إذ لو لم يكن الخاص مراداً

ص: 433


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 126.

من الأول کان ذکر العام من غير بيان الخاص إغراءً للمکلف بالجهل وتحميله ما ليس من تکليفه، وخاصة فيما استلزم ارتکاب المکلّف للمحرمات، کما لو کان العام (اقتل العدو في الحرب) وکان الخاص (لاتقتل الجريح منهم).

وأيّده في الحقائق(1)

بأنه لو کان الخاص مخصصاً لکان خلفاً، لأن المخصص کاشف عن عدم کون العام مطابقاً للإرادة الجدّية، والمفروض أن العام بعمومه مطابق لها، ووارد لبيان عموم الحکم الواقعي، ولو بلحاظ قبل زمان ورود الخاص.

إن قلت: قد تکون مصلحة في تأخير البيان تزاحم مفسدة إيقاع المکلف في المخالفة.

قلت: لابد من ثبوتها، وإلاّ فمجرد احتمالها لايصحح تأخير البيان، فتأمل.

وفي المنتقی(2) ذکر معاني تأخير البيان عن وقت، وهي ثلاث:

1- تأخير البيان عن وقت العمل والامتثال، کإنشاء الوجوب لأفعال أمس، وهذا لغو، لعدم ترتب الداعوية عليه.

2- تأخير البيان عن وقت البيان، أي تأخير البيان عن الوقت الذي يكون المتکلم في مقام البيان، وهذا قبيح، وقد عبّر عنه المنتقی بأنه خلف، ولا مشاحة في الاصطلاح.

ص: 434


1- حقائق الأصول 1: 536.
2- منتقی الأصول 3: 398.

3- تأخير البيان المفوّت للمصلحة واستيفاء الغرض، وهذا قبيح لايصدر من الحکيم.

والعمدة في الإشکال في تأخير الخصوصيات هو الأول، وإن کان يظهر الثاني من صاحب الکفاية.

وأياً کان المراد من تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن ذلك لايصدر عن الحکيم، فلذا لابد من حمل الخاص حينئذٍ علی النسخ لاستلزام التخصيص، المحذور المذکور.

لکن يمکن أن يقال:

بعدم المحذور في تأخر البيان عن وقت الحاجة - بمعنی تفويت الغرض - إن کان هنالك ملاك أهم.

ولا يرد الإشکال بعدم الفائدة حينئذٍ في جعل الحکم، وذلك لأنه قد لا يمکن الجعل في الزمان اللاحق - حين زوال الملاك الأهم المعارض - ، مضافاً إلی عدم المحذور في الجعل الإنشائي وعدم الفعلية إلا بعد حين، وأيضاً لعمل نفس الأئمة (علیهم السلام) والخواص من أصحابهم.

وأما لغوية إنشاء حکم فعلاً لزمان سابق، فذلك إنما يكون لو لم يكن له أثر، أما لو کان له أثر غير إمکان الداعوية، کترتب القضاء والضمان ونحو ذلك فلا إشکال فيه، فتأمل.

القسم الثاني: ما کان العام لبيان الحکم الظاهري

وقد ذهب المحقق الخراساني إلی التخصيص حينئذٍ(1)، وذلك لعدم

ص: 435


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 127.

المنافاة بين الحکم الظاهري المذکور في العام وبين الحکم الواقعي المذکور في الخاص، لعدم کون العموم مراداً بالإرادة الجدّية، فلا ينافيه التخصيص حتی بعد حضور وقت العمل.

وسبب ترجيح التخصيص علی النسخ - علی ما قيل - هو کثرة التخصيص الموجبة لظهور الخاص فيه، کما أنه ليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، لکون حکم العام ظاهرياً.

ويرد عليه: أنه بوصول الحکم الواقعي يرتفع موضوع الحکم الظاهري وليس ذلك من النسخ ولا من التخصيص.

والإشکال عليه: بأن ذلك يستلزم استعمال لفظ العام في أکثر من معنی حيث أريد الحکم الظاهري والواقعي، وکذا بعدم إمکانه لأن الحکم الظاهري في طول الحکم الواقعي... .

غير وارد، لأن الکلام فيما لو کان العام لبيان الحکم الظاهري دون الواقعي، فتأمل.

الصورة الرابعة: يترجح الخاص فيها، وذلك لعدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل علی مبنی المشهور

الصورة الخامسة: احتمل فيها التخصيص أو النسخ.

أما احتمال التخصيص، فلعدم المحذور فيه، لعدم استلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة، کما لو قال: (لاتحترم الظالم) ثم قال: (احترم کل إنسان) فتقديم الخاص غير مضرّ بمراده أصلاً.

وأما احتمال النسخ، فلإمکان انتهاء أمد الخاص، والحکم عليه بحکم

ص: 436

العام.

وقد يرجح الأول لوجهين:

الوجه الأول: کثرة التخصيص وندرة النسخ، بحيث يكون ظهور الخاص في الدوام ولو کان عبر الإطلاق الأزماني أقوی من ظهور العام في العموم ولو کان بالوضع، إذ مناط الحجية هو الظهور، وبعد ثبوته لا أهمية لمنشئه.

وأشکل عليه بأمور منها:

الإشکال الأول(1): بأن أصالة العموم أصل لفظي حيث تستفاد من الإطلاق، وأصالة عدم النسخ هي أصل عملي حيث تستفاد من استصحاب عدم النسخ لا من الدليل، إذ الدليل المتکفل لأصل الحکم لا يمکن أن يكون بنفسه متکفلاً لإثباته ولاستمرارة، لتأخر الاستمرار رتبة عن الحکم.

وأجيب: بأن الدليل کما بالإطلاق يعم الأفراد العرضية، کذلك بإطلاقه يعمّ الأفراد الطولية التدريجية، وهذا معنی استمراره، فکلاهما يستفادان من الإطلاق.

الإشکال الثاني(2): إنما کثر التخصيص وقلّ النسخ، لأن مبنی الفقهاء علی ذلك، وخاصة فيمن کانوا في الصدر الأول، وإلاّ لو کان مبناهم علی النسخ لصار أکثر، فلابد من البحث عن سبب ترجيحهم التخصيص.

فلعل التزامهم بذلك بسبب انقطاع النسخ بوفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) ، أو من جهة

ص: 437


1- أجود التقريرات 2: 399-400.
2- مقالات الأصول 1: 484-485.

تذبذب الأحکام لو التزموا بالنسخ في هذه الخصوصيات، وهذا دليل عقلي لايوجب أقوائية الظهور - کما قيل - .

وقد يقال: بأن کلام الأئمة (علیهم السلام) ليس تشريعياً فعلياً للحکم، بل هو بيان للحکم الواقعي الثابت من أول الأمر، فکلامهم کلّه بمنزلة واحدة، فلا تقدم ولا تأخر، فيكون الکل بمنزلة المقارن، فيتعين الخاص للتخصيص ولا يحتمل النسخ.

وأشکل عليه(1): بأنه يمکن أن يكون ابتداء الحکم من حين بيان المعصوم (علیه السلام) وإن کان جعله سابقاً، أي إن کلامهم يكشف عن سبق جعل الحکم، لکن إثبات کون المجعول سابقاً يحتاج إلی دليل، والطريق الوحيد لجرّ الحکم إلی السابق وإثبات تحقّقه من أول الأمر هو الإطلاق، وعليه فيدور الأمر بين التصرف بأصالة العموم وبين رفع اليد عن الإطلاق، فاحتمال النسخ ثابت.

الوجه الثاني(2): منع دلالة العام علی العموم، وذلك لصلاحية الخاص للتخصيص، وذلك يمنع جريان مقدمات الحکمة - والتي يتوقف عليها العموم - فالعموم لا مقتضي له، فلا تصل النوبة إلی البحث عن المانع عنه، ولا فرق في ذلك بين تقدم الخاص أو تأخره، وإن کان الخاص المتقدم أولی في منع العموم، إذ لو فرض قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلا يسلّم قبح تقديمه عنها.

ص: 438


1- منتقی الأصول 3: 402.
2- أجود التقريرات 1: 398.

وأشکل عليه: علی طبق مبناه بأن ثبوت حکم الخاص المتقدم في زمان ورود العام لايكون إلاّ بالاستصحاب، فلا يصلح لمناهضة أصالة العموم.

ويمکن دفعه: بأنه لافرق في القرينة أو محتملها - بناءً علی منعها من انعقاد مقدمات الحکمة - بين منشأ تلك القرينة، حتی لو کان أصلاً عملياً! فتأمل.

الصورة السادسة: قد يقال فيها بعدم وجود دليل لفظي، فلابد من الرجوع إلی الأصل العملي، ومقتضاه البراءة، حيث إن الشك في أصل التکليف، إذ علی التخصيص لم يكن مکلفاً بالخاص أصلاً، وعلی النسخ کان مکلفاً به إلی حين النسخ.

لا يقال: يرجح التخصيص بکثرته علی النسخ.

فإنه يقال: الکثرة لاتوجب إلاّ الظن، والفرق بين هذه الصورة وسابقتها أن هناك انعقد بالإطلاق ظهور في استمرار الخاص، والکثرة قوّت هذا الظهور، أما هنا فليس الأمر يدور بين ظهورين کي يقوّي أحدهما بالظن المذکور، بل دوران الأمر بين ورود الخاص قبل حضور وقت العمل أو بعده، وليس أحدهما يؤدّي إلی الظهور کي يقوّي بالظن، وهذا ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1).

خلاصة الکلام: إن الخاص المتأخر الدائر أمره بين التخصيص والنسخ، والأرجح کونه تخصيصاً لا نسخاً، إلاّ أنه لاثمرة عملية له بالنسبة إلينا، إذ العام في غير الخاص حجة لنا، وأما الخاص فلا فرق بين کونه ناسخاً أو

ص: 439


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 129-130.

خاصاً، هذا بالنسبة إلی من لم يكن في ذلك العهد، نعم من کان في زمان العام ثم أدرك زمان صدور الخاص، فإن کان نسخاً فلا شيء عليه، وإن کان تخصيصاً ولم يستلزم ترك واجب له قضاء فلا شيء عليه، وإن استلزم ترک واجب له قضاء فعلی ما مرّ في مسألة الإجزاء لابد من القضاء مع کونه معذوراً شرعاً.

وأما الخاص المتقدم فالأرجح فيه التخصيص، مع احتمال النسخ، ولا يلزم من النسخ محذور تذبذب الشريعة، وذلك لکثرة الأخبار المعرض عنها أو الساقطة بالتعارض، فليُضف إليها الخاص المتقدم لو قلنا بالنسخ.

تتمة: بحث حول البداء

وهو بحث کلامي، وقد ذکر في علم أصول الفقه استطراداً، تتمة لبحث النسخ، فلنشر إليه مختصراً.

(البداء) في اللغة هو الظهور سواء کان بعد الخفاء أو الإخفاء أو بعد العدم، وإذا استلزم الجهل فهو محال علی الله تعالی، بل البداء فيه إما بمعنی الإظهار بعد الإخفاء ويكون الإخفاء لمصلحة وبعد تبدلها يكون الإظهار، نظير إخفاء أمد الحکم في النسخ، وإما بمعنی الإيجاد بعد العدم، بمعنی إيجاد تقدير بعد أن لم يكن، أو تبدل تقدير بمحو التقدير السابق وإيجاد تقدير جديد، فيقال: بدا لله بمعنی أنه أوجد تقديراً جديداً بعد أن لم يكن.

وسبب البداء هو إعلام العباد بقدرة الله وقيمومته، ثم التوجه والتضرع إليه تعالی والدعاء والصدقة وصلة الرحم ونحو ذلك، فإن الإنسان إذا علم بإمکان تغيير التقدير فإنه يلتجئ إليه تعالی ليغيّره نحو الأحسن، ويتوجه إلی الطاعات التي تزيد في العمر والرزق ونحوها، وينتهي عن المعاصي التي

ص: 440

توجب نقصان العمر والرزق وأمثالها.

وفي البداء ردّ علی اليهود الذين زعموا أن يدالله مغلولة، وعلی من زعم أنه تعالی لم يخلق إلاّ العقل الأول، وعلی من زعم أنه فعل الأفعال دفعة واحدة ولا فعل له بعد ذلك، وعلی غيرهم ممن حدّدوا قدرته وعزلوه عن ملکه بأوهامهم السقيمة سبحانه وتعالی عما يقولون علواً کبيراً.

کما أن البداء صفة فعل وليس بمعنی العلم الذي هو صفة ذات، ولا منافاة بين العلم الأزلي بما هو کائن وبين تقدير غيره ثم البداء فيه، کما لم تکن منافاة بين علمه تعالی بعدم تحقق ذبح اسماعيل (علیه السلام) وبين أمر ابراهيم (علیه السلام) به.

وقد ذکرنا بعض التفصيل في شرح أصول الکافي فراجع(1).

ص: 441


1- شرح أصول الکافي 2: 439-444.

ص: 442

المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبيّن وفيه فصول

اشارة

ص: 443

ص: 444

مطالب تمهيدية

المطلب الأول: في تعريفهما

عُرّف المطلق بأنه (ما دل علی شائع في جنسه)، و(الجنس) بمعنی الطبيعة، فيشمل الکلي باعتبار أفراده، والشخص باعتبار حالاته، و(الشيوع) بمعنی شمول الجزئيات والحالات علی البدل، وعُرّف المقيد بعکس ذلك أي (ما لم يدل علی شائع في جنسه).

وحيث إن التعريف شرح للاسم فلا مجال للإشکال عليه بعدم الاطراد والانعکاس وبغير ذلك والتي ذکرها بعض الأصوليين... .

منها: عدم الاطراد، إذ يشمل ما دل علی الشائع بالوضع مثل (مَن) الاستفهامية، کما لو قال: (مَن تکرم؟) حيث دل بالوضع علی شائع في جنسه، لقابليته للانطباق علی کثيرين.

ومنها: عدم الانعکاس، حيث لايشمل ما دل علی الماهية مع قطع النظر عن الأفراد، کاسم الجنس وعلم الجنس، وکذا عدم انطباقه علی الإطلاق الشمولي.

ومنها(1): إن الظاهر من التعريف کون الإطلاق والتقييد من صفات

ص: 445


1- فوائد الأصول 1: 562.

اللفظ، إذ المراد من الموصول هو اللفظ - لأن الدلالة لفظية - مع أن الظاهر هو کون الإطلاق والتقييد من صفات المعنی، وذلك لأن لفظ المطلق يدل علی الطبيعة، ولا دلالة له علی الشمولية أو البدلية، حيث إنهما يستفادان من کيفية تعلق الحکم بالطبيعة، إذ الحکم الوارد علی صرف الوجود يقتضي البدلية في مقام الامتثال ولذلک يکتفی بفرد واحد، والحکم الوارد علی الطبيعة بلحاظ مطلق الوجود يقتضي الشمولية.

وهذه الإشکالات وإن أمکن النقاش فيها، إلاّ أنه لاحاجة له، لما ذکر.

والمراد بالشياع(1)...

تارة: سريان الطبيعة في ضمن جميع الأفراد، وهو المعبر عنه بالعموم السرياني في اصطلاح بعضهم.

وتارة أخری: قابلية الطبيعي للانطباق علی القليل والکثير انطباقاً عَرضياً.

ويطلق المعنی الأول غالباً علی المواد المأخوذة في طي النواهي النفسية، کقوله لاتشرب الخمر، وفي طي الأحکام الوضعية مثل قوله احلّ الله البيع، فهذا هو نوع ضيق في الطبيعة حيث لاينطبق إلاّ علی الکثير، إلاّ أنه من جهة سريانه في ضمن الأفراد کان له إطلاق.

ويطلق المعنی الثاني غالباً علی المواد المأخوذة في طي کثير من الأوامر، والمطلق بهذا المعنی أوسع دائرة من ذاك، من جهة عدم اعتبار تقيده بشيء من الخصوصيات حتی خصوصية السريان، فهو مجامع مع کل خصوصية ونقيضها، وقابل للانطباق علی القليل والکثير - وهو اللابشرط المقسمي - .

ص: 446


1- نهاية الأفکار 1: 560.

المطلب الثاني: في الإطلاق والتقييد في الجمل التركيبية

ذکر المحقق النائيني(1) أن الإطلاق والتقييد کما يردان علی المفاهيم الإفرادية کذلك يردان علی الجمل الترکيبية، ومعنی إطلاقها هو عدم تقييدها بما يوجب ظهورها في خلاف ما تکون ظاهرة فيه لولا تقييدها بذلك، وبعبارة أخری: الجمل الترکيبية قد تکون ظاهره في معنی، وکان تقييدها يوجب انقلاب ظهورها.

مثلاً: في الجمل الطلبية الإطلاق يقتضي النفسية العينيّة، والتقييد يوجب الغيرية أو التخييرية أو الکفائية، وکالعقد حيث يقتضي إطلاقه نقد البلد والنقد، وتقييده يقتضي خلاف ذلك، وليس ذلك لأجل الانصراف، ولذا لم يقل أحد بأن الدرهم الواقع في ضمن الإقرار منصرف إلی درهم البلد مثلاً، وکالبحث في باب المفاهيم حيث هو بحث عن إطلاق الجملة أو تقييدها.

فالفرق أن الإطلاق في المفاهيم الفردية يوجب التوسعة والتقييد يوجب التضييق، وفي الجمل الترکيبية علی العکس من ذلك.

وحيث لا ضابط لإطلاق الجمل الترکيبية لم يبحثوا عنه، وإنما لابد من البحث عنه في خصوص کل مورد.

وأشکل عليه: أولاً: بأن الجمل الترکيبية لا معنی لها کي يكون لذلك المعنی إطلاق، وقد مرّ عدم وضع ثالث غير وضع المادة أو الهيأة الإفرادية.

وثانياً: ما ذکره من الأمثلة لايرجع إلی إطلاق الجملة أو تقييدها، ففي الأمر الإطلاق مدلول للهيأة أو المادة أو المادة المنتسبة - حسب المباني - .

ص: 447


1- فوائد الأصول 1: 563.

وفي المعاملة الانصراف هو الذي أوجب تقييده بنقد البلد وکذا بالنقد دون النسيئة مثلاً، وهذا الانصراف لايوجد في الإقرار، ولعل سببه کثرة الأول بحسب النقد ونقد البلد، وکثرة انشغال الذمة بنقود مختلفة حيث لاينصرف إلی أحدها.

والمفهوم في الجملة الشرطية مدلول للأداة أو للشرط أو للجزاء کما مرّ وکلها إفرادية.

المطلب الثالث: في الإطلاق حسب الحالات المختلفة

قال المحقق النائيني(1): إن محل الکلام في المقام إنما هو في الإطلاق القابل لأن يكون جزء مدلول اللفظ، وفي الأعلام لايمکن أن يتوهم دخول الإطلاق باعتبار الطواري والحالات في مدلول اللفظ بحيث تکون التسوية بين القيام والقعود جزء مدلول لفظ زيد، فإن هذا ضروري الفساد، لوضوح أن لفظ زيد موضوع للذات المشخصة مع قطع النظر عن الحالات والطواري، فالإطلاق المبحوث عنه في کونه جزء مدلول اللفظ أو عدم کونه جزء مدلول اللفظ إنما هو في العناوين الکلية القابلة الصدق علی کثيرين، کأسماء الأجناس وما يلحق بها من العناوين العرضية.

وأشکل عليه(2): بأنه لايضر الفرق بين الفرد و الطبيعي في ذلك، إذ في الطبيعي الحصص السارية في ضمن أفراد الطبيعي، وفي الفرد تحليل الذوات الشخصية إلی حصص سارية في ضمن الحالات المتبادلة، فالتعدد

ص: 448


1- فوائد الأصول 1: 564.
2- نهاية الأفکار 1: 559.

بحسب التحليل لا الوجود الخارجي، ولذا لايصدق زيد القائم علی زيد القاعد، فإن تقييد زيد بالقيام يمنع عن شمول الحصة المحفوظة في ضمنه بالنسبة إلی ما کان من سنخه من بقية الحصص.

المطلب الرابع: في التقابل بين الإطلاق والتقييد

هل تقابلهما من تقابل العدم والملکة، وعليه فلا يمکن الإطلاق إلاّ لو أمکن التقييد، أم تقابلهما تقابل السلب والإيجاب وعليه فيجب الإطلاق إن امتنع التقييد؟

استدل للأول:

أولاً: بأن الإطلاق هو تسرية الحکم لمورد القيد وغيره، والتقييد هو اختصاص الحکم بمورد القيد، فلابد أن يكون المطلق مقسماً للمقيد وغيره، فإذا لم يكن مقسماً لهما امتنع الإطلاق، إذ لا معنی لتسرية الحکم لمورد القيد وغيره بعد أن لم يكن مورد القيد من أقسامه، فثبت أن الإطلاق هو عدم التقييد في مورد يقبل التقييد، فيكون من العدم والملکة، ولذا ذهبوا إلی امتناع إثبات التعبدية بإطلاق متعلق الوجود، کما مرّ.

ويرد عليه: أنه قد يمتنع الحکم علی الحصة المقيدة فهذا يلازم امتناع الإطلاق، وقد يمتنع تخصيص الحکم بالحصة فهنا امتناع التقييد يلازم ضرورة الإطلاق، وعليه فتارة يكون التقابل تقابل العدم والملکة، وأخری: تقابل السلب والإيجاب، وبعبارة أخری: تارة الإطلاق يكون جمعاً للقيود، وأخری رفضاً للقيود، فمثلاً تقييد الحکم بالعالم ممتنع فيلازم ضرروة عموم الحکم للعالم والجاهل.

ص: 449

وثانياً: إن الإطلاق هو اللابشرط القسمي - لأن اللابشرط المقسمي يجتمع مع القيد إذ هو مقسم له، فلا يكون مقابلاً له - وحينئذٍ فيقال: إن کون الإطلاق قسماً هو بمعنی وجود قسم آخر وهو التقييد، وحيث امتنع أحد القسمين امتنع الآخر.

وأورد عليه: بأن المأخوذ في المقسم وفي تعدد الأقسام ليس الانطباق الفعلي، کي يكون امتناع أحد الأفراد موجباً لانتفاء کون الأفراد الأخری أقساماً من الجامع، بل الملحوظ هو الانطباق الشأني وقابلية الصدق، وهي متحققة ولو امتناع الحکم فعلاً علی الفرد المعين.

والأولی أن يقال: إن انحصار الجامع في فرد أو حصة لايكون سبباً لعدم جامعيّته، لأنه انتزاع ذهني، وکما يمکن انتزاعه عن الموجود الخارجي يمکن عما لم يوجد أو يمتنع وجوده لسبب من الأسباب، ولذا قالوا إن واجب الوجود کلي منحصر في فرد واحد مع وضوح امتناع الأفراد الأخری.

أما ما قيل: في امتناع کون المطلق هو اللابشرط المقسمي من أنه مهمل ويمتنع الإهمال في مرحلة الثبوت!

فمحل للتأمل، إذ الإهمال الممتنع - علی فرض تسليم امتناعه - إنما هو بمعنی عدم وضوح الموضوع، و اللابشرط المقسمي هو الجامع وهو لاخفاء فيه لوضوحه وإنما لم يلاحظ فيه القيد أو عدم القيد، فالإهمال بهذا المعنی لامحذور فيه وفي جعله موضوعاً للحکم.

فتحصل: أن الإطلاق إن کان بمعنی جمع القيود فإنه، يمتنع إذا امتنع

ص: 450

أحد القيود، إذ عدم امتناعه خلف، فيکون التقابل بينهما من السلب ولإيجاب، وأما إذا کان بمعنی رفض القيود، فامتناع التقييد يلازم ضرورة الإطلاق لأنه رفض لهذا الممتنع.

ص: 451

فصل في أقسام المطلق

الأول: اسم الجنس

أي أسماء الطبائع الکلية المنطبقة علی أفرادها الجزئية، سواءکانت جوهراً أم عرضاً، وسواء کانت اعتبارية أم انتزاعية.

ثم إنه قد اختلف في الموضوع له لفظ اسم الجنس علی قولين:

القول الأول: إنها موضوعة علی الطبيعة المطلقة المأخوذة بنحو اللابشرط والإرسال، أي المهية بقيد الخلوّ عن جميع الخصوصيات والقيود، وعليه يكون الإطلاق جزء المعنی، فلا يحتاج في استفادته إلی قرينة، بل يكفي الاستعمال في الحمل علی المعنی الحقيقي من غير حاجة إلی شيء آخر.

وأشکل عليه: بأن هذه الطبيعة غير قابلة للانطباق علی الخارجيات، فاستعمالها يستلزم تجريد اللفظ عن معناه الحقيقي، واستعماله مجازاً، لکون الإطلاق هو المعنی الموضوع له، والخارجيات غير مطلقة بل جزئيات متشخصة بالخصوصيات الجزئية.

وبعبارة أخری: يكون استعمال المطلق في المقيد مجازاً، إذ هو وضع لئلا تلاحظ فيه القيود، فيكون من قبيل کلمة النساء التي تنطبق علی المرأة الواحدة ضمن سائر النساء لکن استعماله فيها مجاز.

ص: 452

القول الثاني: إن الموضوع له في اسم الجنس هو الطبيعة المهملة القابلة للإطلاق والتقييد، حيث إن عدم اعتبار المعنی مقيداً بقيد التجرد جعله قابلاً للانطباق علی القليل والکثير، فلا مجازية في استعماله في الأفراد، إذ لم يكن التجرد جزءاً من المعنی حتی يكون استعماله في غير المجرد مجازاً.

وأشکل عليه(1): بأن الطبيعة المجردة لاتکون مقسماً لتلك الاعتبارات حقيقة، بل المقسم الحقيقي هو القدر المشترك المحفوظ في ضمن المجردة وغيرها، والذي لايكون له في الزمن وجود منحاز مستقل إلا بحسب التعقل الثانوي، والذي يدل عليه أن استعمال اسم الجنس في الطبيعة المأخوذة بنحو السريان - کما في النواهي - استعمال حقيقي، مع أن الذهاب إلی کونها موضوعة للطبيعة المجردة يستلزم المجازية في استعمالها في الطبيعة السارية، لأنها لاتقبل الانطباق إلا علی الکثير، کما أن الطبيعة المقيدة لاتقبل الانطباق إلاّ علی القليل.

وفيه تأمل: لأن التجرد لاينافي لحاظ القيد، فکما لا يكون استعماله في الطبيعة المقيدة مجازاً، کذلك لايكون استعماله في السارية مجازاً.

نعم يمکن الإشکال علی من يذهب إلی القول الأول مع ذهابه إلی أن استعمال اسم الجنس في الطبيعة المجردة والسارية استعمال حقيقي وأن استعماله في الطبيعة المقيدة مجازي.

والحاصل: إن ما وضع له اسم الجنس هو المهية من غير ملاحظة کونها بشرط شيء، أو بشرط لا، أو لا بشرط، وهي المقسم لهذه الأقسام الثلاثة.

ص: 453


1- نهاية الأفکار 1: 562.

وبعبارة أخری: الجامع بين هذه الثلاثة هو ما وُضع له اسم الجنس، إذ الأقسام متباينة، فلا يمکن أن يكون أحدها مقسماً للآخر، فمثل الإنسان لم يلاحظ فيه البياض، ولا عدم البياض، ولا اللابشرط عن البياض وعدمه، ولذا کان مقسماً لکل هذه الأقسام الثلاثة.

والذي يدلّ عليه هو صدق الماهية علی الأفراد من غير عناية، سواء لوحظ وجود القيد، أو لوحظ عدم القيد، أو لوحظ اللابشرط عن وجوده وعدمه.

ولولا ذلك لزم المجاز في استعمال اسم الجنس علی الأفراد، لأنها ليست لابشرط، بل هي متصفة بالقيود.

وأما إشکال: لزوم عدم تحقق الشيء في الخارج، لأن ملاحظة اللابشرط سبب أخذ اللحاظ في المعنی، واللحاظ أمر ذهني لا تحقق له في الخارج.

فيمکن الجواب عنه: بأن اللابشرط القسمي يرجع إلی الماهية من غير دخل القيد وعدمه في الحکم، فإذا وضع اللفظ علی ذات ما تعلّق به اللحاظ کان التعبير باللحاظ للإشارة إلی تلك الذات، فلا يتمّ الإشکال، وذلك لعدم أخذ اللحاظ في الموضوع له، وصلاحية الموضوع له بنفسه للانطباق علی الخارج من دون أية عناية.

والحاصل: إن العمدة في الإشکال هو أخذ القِسم في المقسم، إذ لو کان (اللابشرط القِسمي) قسيمَ (بشرط شيء) و (اللابشرط) لم يمکن أخذه فيهما، ولکان استعمال اللفظ فيهما استعمالاً في غير ما وضع له.

اللهم إلا أن يكون المقصود إنکار اللابشرط القسمي، وبيان أن الأقسام

ص: 454

إثنان - هما البشرط شيء و اللابشرط - والجامع لهما هو ذات ما تعلق به اللحاظ، فيكون إطلاق اللابشرط القسمي عليه اصطلاحاً مع کون المراد هو نفس اللابشرط المقسمي حسب اصطلاح الأصوليين.

ثم إنه قيل: إن الفرق بين کون اسم الجنس موضوعاً للّابشرط القسمي أو المقسمي، أنه علی الأول يستفاد عموم الحکم لجميع الأفراد من الوضع لا القرينة، عکس الثاني حيث لابد من استفادته من قرينة الحکمة، وذلك لأن اللابشرط القسمي هو لحاظ عدم القيد - سواء کان الوجود أم العدم - وعدم القيد يساوق الإطلاق فإذا کان هذا هو المعنی الموضوع له کان الإطلاق ثابتاً بالوضع، وأما اللابشرط المقسمي فهو عدم لحاظ شيء وهو يساوق الإهمال فلابد من استفادة الإطلاق من القرائن بعد عدم استفادته من المعنی الموضوع له.

والحاصل: إن استعمال اسم الجنس في الماهية المطلقة والماهية المرسلة والمقيدة بشرط شيء أو المقيدة بشرط لا أو المقيدة باللابشرط استعمالاً حقيقياً هو دليل علی وضعها للجامع بينها وليس الاّ الطبيعة المجردة المعبرّ عنها باللابشرط المقسمي.

الثاني: عَلَم الجنس

مثل أسامة للأسد، وهو کاسم الجنس في الدلالة علی الماهية المجردة، فما هو الفرق بينهما؟

1- ذهب المحقق الخراساني(1)

إلی عدم الفرق بينهما من جهة المعنی،

ص: 455


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 151.

وإنما الفرق لفظي، فأحدهما معرفة والآخر نکرة، وفائدة ذلك التوسع في اللغة، کالتأنيث اللفظي.

وفيه: أنه مع إمکان وجود الفرق المعنوي، لا وجه لجعل الفرق لفظياً، فإن التوسع في اللغة وإن کان واقعاً، إلاّ أنه فيما لو لم يختلف المعنی أصلاً.

2- وذهب المشهور إلی اسم الجنس وضع للماهية المجردة، وأما عَلَم الجنس فوضع لمعنی مرکب من الماهية المجردة والتعيّن الذهني، لذا کان الأول نکرة والثاني معرفة، إذ التعيّن هو سبب التعريف.

وأشکل عليه: بأن اللحاظ أمر ذهني، فلو کان جزءاً من المعنی لم يصح إطلاقه علی الخارجيات إلاّ بعناية، مع وضوح عدم المجاز في مثل (هذا أسامة) في إشارة إلی أسد معين خارجاً!

وأجيب: أولاً(1) بأنه لو کان المراد من التعيّن التعيّن بالجنس صح إطلاقه علی الخارجيات بلا عناية، والمراد هو أن کل معنی طبيعي متعيّن في نفسه وذلك ذاتي له، لکن علم الجنس موضوع للمتعيّن بما هو متعيّن، واسم الجنس موضوع لذات المتعيّن.

إن قلت(2): أن التعريف لايمکن أن يكون مستنداً إلی المفاهيم، بأن يقال: إن تعيّن المفهوم سبب لتعريفه، وذلك لأن المفاهيم کلّها کذلك، فلو کان هذا هو المقياس لکانت الألفاظ جميعاً معارف.

قلت: من الواضح أن جميع المفاهيم معيّنة في حد ذاتها، وإنما المراد

ص: 456


1- نهاية الدراية 2: 495.
2- منتقی الأصول 3: 411.

أخذ قيد التعيّن في المفهوم أو عدم أخذه، فعلی الأول يکون المتعيّن معرفة وعلی الثاني يکون المتعيّن نکرة.

وثانياً(1): إن التعريف هو تعيين المصداق، والامتياز في مرحلة الانطباق، بحيث يكون مصداق المعنی معيناً في فرد خاص - خارجاً أو ذهناً - وليس المراد التعيّن عند المتکلم، وإلاّ لکان (رأيت رجلاً) معرفة، ولا عند السامع وإلاّ لکان (رأيت زيداً) نکرة إذا لم يعرفه السامع، واسم الجنس ليس معيناً في مرحلة الانطباق، إذ لاحدّ للأفراد، بل کل ما يفرض وجوده من الطبيعة يصدق عليه الإنسان مثلاً، فلذا کان نکرة، وأما علم الجنس فهو متعيّن ذهناً حتی لو کان منطبقاً علی الکثير لکونه موضوعاً للطبيعة بقيد التعيّن الذهني، نظير أسماء الإشارة والضمائر فإن تعريفها باعتبار تعيين معناها ذهناً حتی لو کانت منطبقة علی الکثير کما لو کان مرجع الضمير کلياً.

والتعيّن الذهني لايمنع من الانطباق علی الخارجيات، وذلك لأن العلم لايتعلّق بالخارج، وإنما يتعلق بالصورة الذهنيّة، فالخارج هو المعلوم بالعرض دقة وبالذات عرفاً، وعليه فالإشارة الذهنية وإن کانت تتعلق بالأمر الذهني حقيقة لکن للخارج نحو ارتباط بها، ولذا يشار إلی شيء خارجي، ويقال: هذا هو المعنی، وذلك يدل علی ربط بينهما لا يوجد بين الإشارة وغيره من المعاني التي لم تتعلق بها الإشارة.

والحاصل: إن الموضوع له هو المشار إليه بالعرض لا بالذات وهذا يصدق علی الخارجيات من غير عناية فيكون نظير اسم الإشارة والضمير.

ص: 457


1- منتقی الأصول 3: 413.

وثالثاً: إن اللحاظ إنما هو في مرحلة الاستعمال، ولم يؤخذ في الموضوع له، کما مرّ نظيره من صاحب الکفاية في المعنی الحرفي، واللحاظ في مرحلة الاستعمال مما لابد منه علی کل حال، إذ لايمکن استعمال اللفظ في معنی إلا بعد خطور ذلك المعنی في الذهن وتوجهه إليه، فليس المراد من التعيّن اللحاظ فتأمل.

الثالث: المفرد المعرّف بلام الجنس

لايخفی أن مدخول لام التعريف باقٍ علی ما هو عليه من المعنی، فالمعنی واحد سواء دخلت اللام أم لم تدخل، فإذا دخلت لام التعريف علی اسم الجنس عُبّر عنها بلام الجنس، وکان من باب تعدد الدال والمدلول.

فنقول: الألف واللام قد تکون للجنس مثل: (الحمد لله)، أو الاستغراق مثل قوله تعالی: {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ}(1)، أو للعهد الذکری کقوله تعالی: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}(2)، أو العهد الخارجي مثل: (اغلق الباب)، أو العهد الذهني کما لو قال: (أکرم الرجل) وهو معيّن بينهما، کما أن هناك لام للتزيين مثل (الحسين).

وهل الاشتراك بينها لفظي أم معنوي؟

فالمشهور أنها موضوعة للتعريف وتفيد التعيين، إذ التعيين هو سبب التعريف، وبعبارة أخری: إذا أريد التعيين جيء بالتعريف، وقد يستثنی

ص: 458


1- سورة العصر، الآية: 2.
2- سورة المزمّل، الآية: 15-16.

العهد الذهني إذ هو لايفيد التعيين وغير قابل للانطباق علی الکثير، لأنه إشارة إلی المعنی الموجود في الذهن من غير تعيين في أي مصداق من المصاديق الخارجية، قال الرضي صاحب شرح الکافية والشافية(1): وإنما اختصت لام التعريف بالاسم لکونها موضوعة لتعيين الذات المدلول عليها مطابقة في نفس الدال.

وأشکل عليه(2): أولاً: بأنه لايمکن تعيين الجنس في الخارج، إذ المعيّن فيه هم الأفراد، ولا وجود للجنس في الخارج، ولازم الإشارة إلی المعنی المتميز في الذهن هو عدم إمکان حمل المعرّف بلام الجنس علی الأفراد، إذ المعرّف به أمر ذهني والأفراد خارجية، ولا يعقل اتحادهما مع أنا نری صحة الحمل ووقوعه، کقوله تعالی: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(3).

وثانياً: إن هذا المبنی فيه تکلّف غير محتاج إليه، حيث لازمه أن اللام وضعت لمعنی وتعيين ذلك المعنی يكون بالقرينة، وذلك لأن بين أقسام اللام اشتراك لفظي أو معنوي، وعلی کل حال يُحتاج إلی قرينة فإن کان لفظياً کانت لتعيين المعنی، وإن کان معنوياً کانت لتعيين المصداق، وحتی لو قيل بأنها للتزيين احتيج إلی القرينة للدلالة علی المراد.

ويمکن الجواب عن الأول(4): بإمکان الالتزام بکون الموضوع له هو

ص: 459


1- شرح الکافية 1: 44.
2- إيضاح کفاية الأصول 3: 155.
3- سورة الکوثر، الآية: 3.
4- منتقی الأصول 3: 414.

طرف الإضافة وأخذ القيد بنحو المعنی الحرفي، بأن يكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً، وهذا لاينافي الصدق علی الخارجيات.

وعن الثاني: بأن معنی اللام واحد هو التعريف والاقسام إنما هي باعتبار خصوصيات المستعمل فيه، فليست القرينة أمراً خارجاً عن نفس الکلام وسياقه حتی يكون تکلّفاً، مضافاً إلی أن هذا إشکال عام في جميع المشترکات اللفظية فيقال: مع الاحتياج إلی القرينة يكون الوضع للمعاني لغواً، أو يكون الاشتراك بنفسه لغواً، وما يجيب هناك فليجب به هنا أيضاً.

وقد استدل المحقق الإصفهاني(1): علی کون اللام للتعيين: بأن اللام أداة التعريف والتعيين، بمعنی أنها وضعت للدلالة علی أن مدخولها واقع موقع التعيين - إما جنساً أو استغراقاً أو عهداً بأقسامه - علی حدّ سائر الأدوات الموضوعة لربط خاص، کحرف الابتداء الموضوع لربط مدخوله بما قبله أي ربط المبتدأ به بالمبتدأ من عنده وهکذا.

والمراد من الإشارة إلی مدخوله، کون المدخول واقعاً موقع التعيّن والمعروفية بنحو من الأنحاء المتقدمة، لاکون المدخول مشاراً إليه ذهناً بمعنی کونه ملحوظاً بما هو ملحوظ.

وأشکل عليه: بأن الإشارة الذهنية من سنخ الوجودات، کالإشارة الخارجية، فليست من المفاهيم، فکيف تقع طرفاً للربط، مع أن الحروف تربط بين المفاهيم الذهنية لا الوجودات، ولا يصح قياسها ب- (من)، لأنها أداة ربط مفهوم البصرة ومفهوم السير.

ص: 460


1- نهاية الدراية 2: 495.

وأجيب: بأنه لابد أن يکون الربط بين الطرفين واقعاً، إذ يستحيل الربط بطرف واحد، لکن لايلزم ملاحظة کلا طرفي الربط، بل يمکن دلالة الحرف علی الربط من طرف واحد، فتأمل.

الرابع: النكرة

أي المفرد المنوّن غير المعرّف، مثل رجل، وهي قسمان:

القسم الأول: المعيّن واقعاً، سواء کان معلوماً عند المتکلّم أو السامع أو کليهما، أو غير معلوم، وهو في الإخبار عادة، مثل جاء رجل.

وهذا يكون من باب تعدد الدال والمدلول، فالنکرة تدل علی الماهية، والتنوين علی الوحدة، فهي ثبوتاً معينة، ولکن إثباتاً يحتمل انطباقه علی کثيرين.

القسم الثاني: ما لم يكن معنياً في الواقع، وهذا يكون في الإنشاءات، کالأمر والنهي.

وهنا أقوال عدة، منها:

القول الأول: إن معناها الفرد المردد، أي الفرد علی البدل، وهذا المدلول جزئي لا کلي.

وأشکل عليه: بعدم إمکان الفرد المردد، فلا معنی لطلب إيجادة، کما أنه ليس بجزئي بل هو کلي طبيعي فلذا له قابلية الانطباق علی کثيرين.

وبعبارة أخری: کل فرد في الخارج هو هو، لا هو أو غيره، وحيث إن النکرة تصدق علی الخارجيات فليست هي الفرد المردد.

القول الثاني: إن معناها الطبيعة بقيد الوحدة، ولذا لايصح تطبيقها إلاّ

ص: 461

علی واحد فقط من غير فرق بين الآحاد، بمعنی إمکان الإيجاد خارجاً في ضمن أيّة خصوصية، وبذلك يتبيّن الفرق بينها وبين اسم الجنس حيث إنه وضع للطبيعة المهملة فلذا يصح تطبيقه علی الواحد وعلی الأکثر.

وأشکل عليه: أولاً(1): بأنه إرجاع النکرة إلی الطبيعة المتقيّدة بعنوان الواحد بما هو هذا المفهوم، وهذا قابل للانطباق علی القليل والکثير إذا کانت في عَرض واحد، لأن هذا العنوان کلي کأسامي الأجناس، وتقيّده بقيد الواحد لايخرجه عن القابلية للانطباق العَرضي علی الکثير والقليل، فعليه يتعدد الامتثال إذا أتی بالأفراد دفعة واحدة فيعتبر الجميع امتثالاً، وهذا لايمکن الالتزام به.

وفيه تأمل: لأن قيد الوحدة کما ينفي التعدد الطولي فهو ينفي التعدد العَرضي، نعم مع الايتان بها معاً فيکون من قبيل ضم الامتثال إلی غيره مع إمکان کون کل واحد امتثالاً فتأمل.

وثانياً: إن کان المراد أن التنوين يدل علی الوحدة، و(رجل) مثلاً يدل علی الطبيعة، فيرد عليه: أن التنوين إنما هو للتمکين من الإعراب ولا دلالة له علی وحدة أو غيرها، ولو لا ذلك لزم القول بالاشتراك فيه.

القول الثالث(2): النکرة هي الطبيعة المتقيدة بإحدی الحصص، علی أن يكون (الأحد) بياناً ومقدراً لکم القيد، وأنه إحدی الحصص، قبال التمام والبعض والعشرة والعشرين ونحوها، من دون أن يكون عنوان الأحد بنفسه

ص: 462


1- نهاية الأفکار 1: 566.
2- نهاية الأفکار 1: 565-567.

قيداً للطبيعة بوجه أصلاً، ولازم ذلك عدم صلاحيتها للانطباق علی المتکثر إلاّ بنحو البدليّة دون العَرضيّة، والحاصل: إن الطبيعة مقيدة بالخصوصيات وعنوان الواحد يكون مقدِّراً لکمّ القيد لا أنه قيد، وعليه فلا فرق حينئذٍ بين النکرة الواقعة في حيّز الطلب أو حيّز الإخبار.

وعليه لو تعددت الامتثالات دفعة، لايكون الامتثال إلاّ بواحد منها، کما أن الخصوصيات کلّها تکون داخلة في حيّز الطلب، فلو قصدها في مقام الامتثال لم يكن تشريعاً.

ويمکن أن يقال: إنه لاغرض للمولی في الخصوصيات أصلاً فلا وجه لإدخالها في حيّز الطلب، أو حيز الإخبار، وعليه فلا يصح تفسير النکرة بأنها الطبيعة المتقيدة بإحدی الخصوصيات، وبعبارة أخری کما لاغرض للمولی في الخصوصيات فلا معنی لإدخالها تحت حيّز الطلب، وکذا في المخبر لا غرض له في الإخبار عنها، فتأمل.

القول الرابع(1): بأنه لافرق بين النکرة في حيّز الإخبار أو البعث، فالموضوع له واحد، وذلك لأن الطبيعة قد تلاحظ بنفسها فهو الکلي، وقد تلاحظ بقيد يوجب تشخصها وعدم صدقها علی کثيرين فهو الجزئي، وقد تلاحظ بقيد يضيّق دائرة الطبيعة ولا يشخصه فهي الحصة، والنکرة من الثالث.

والحاصل: إنه في النکرة، الطبيعة ملحوظة بنحو عدم التعيّن وعدم التقيد بما يعينه، بعد ما کانت في ذاتها لا متعيّنة بقيد ولا غير متعيّنة به، ولا فرق

ص: 463


1- نهاية الدراية 2: 495.

في عدم التعيّن بين کون النکرة في الإخبار أو الإنشاء، فمثل (جئني برجل) غير متعيّن في مرحلة الطلب، ومثل (جاءني رجل) غير متعيّن في مرحلة الإسناد وإن کان معيناً في الواقع.

وهذا هو الأقرب.

ص: 464

فصل في كيفية استفادة الإطلاق

اشارة

الإطلاق تارة يستفاد من اللفظ، وأخری من غير اللفظ، فهنا مباحث:

المبحث الأول: في منشأ الإطلاق اللفظي

في استفادة الإطلاق من المطلق مبانٍ ثلاث: الاستفادة من الوضع، أو من ظهور الکلام في کون الطبيعة تمام الموضوع، أو من مقدمات الحکمة.

أما الأول: فقد عرفت استلزامه للمجاز حين التقييد، وهذا ما لا يمکن الالتزام به.

وأما الثاني: فقد ذهب إليه المنتقی(1) ببيان: أن اللفظ المأخوذ في موضوع الحکم ظاهر في کونه تمام الموضوع، ففي مثل: (أکرم زيداً) ظاهر أخذ (زيد) في الموضوع هو کونه تمام الموضوع، وهذا الظهور يصطلح عليه بالظهور السياقي، وهو ثابت لا کلام فيه.

وفيما نحن فيه اللفظ المأخوذ في موضوع الحکم هو الطبيعة بما هي، وظاهر أخذ الطبيعة في موضوع الحکم أنها تمام الموضوع، وبذلك يثبت الحکم في کل مورد تثبت فيه وتوجد، ومما يؤيد ذلك اصطلاحهم علی ظهور المطلق بالظهور الإطلاقي، فإنه دال علی وجود ظهور للمطلق وهذا

ص: 465


1- منتقی الأصول 3: 433.

لايتلائم مع استفادة الإطلاق من مقدمات الحکمة، کما لا نقع في إشکال أن الإطلاق خصوصية زائدة کالتقييد، فکيف يثبت بعدم التقييد، کي نضطر إلی التخلّص عنه بدعوی بناء العقلاء علی الإطلاق عند عدم التقييد.

أقول: هذا في حقيقته إنما هو تلخيص لمقدمات الحکمة وبيان نتيجتها، فإن الظهور في کون اللفظ المأخوذ في الموضوع هو تمام الموضوع، في الحقيقة هو لازم کون المولی في مقام البيان ولم يقيّد موضوعه بقرينة، ولو کانت القدر المتيقن التخاطبي، فلو لم يكن في مقام البيان لم يستفد منه کون اللفظ تمام الموضوع، وکذا لو قامت قرينة فهي تصرف اللفظ عن کونه تمام الموضوع، وکذا لو کان قدر متيقن في مقام التخاطب - علی القول به - .

فالثالث هو الأقرب، بأن يتوقف الإطلاق علی مقدمات الحکمة، أي بملاحظة حکمة المولی وأنه لايُخِلّ بمراده لکونه حکيماً، وهي مقدمات ثلاث:

الأولی: أن يكون المتکلم في مقام البيان، أي بيان تمام مراده، لا الإجمال إثباتاً، أو الإهمال ثبوتاً، فمع انتفاء هذه المقدمة ينتفي موضوع الإطلاق، فلا يكون إرادة المقيّد إخلالاً بالغرض.

الثانية: أن لاتکون قرينة توجب التعيين في المقيّد، فلو وجدت قرينة کانت هي المتّبعة، لکشفها عن مراد المتکلّم حينئذٍ.

الثالثة: انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب، فلو کان انصراف عمل العقلاء به لا بالإطلاق، وأما القدر المتيقن في الخارج فلا يضرّ لعدم اعتماد

ص: 466

العقلاء عليه.

أما نتيجة المقدمات فهل هي الحمل علی الطبيعة الصرفة - أي صرف الوجود - والذي من شأنها عدم قابلية انطباقها إلاّ علی أول وجود الطبيعي کما ذهب إليه المحقق النائيني(1)، أو الحمل علی الطبيعة المهملة - والتي هي مقسم للطبيعة الصرفة والمقيّدة - کما ذهب إليه المحقق العراقي؟(2)

أما الأول: فقد يستدل له: بأن المتکلّم اعتبر تلك الصورة المجردة الفاقدة لجميع القيود والخصوصيات - حتی خصوصية السريان في ضمن الأفراد - ، وذلك لايكون إلاّ الطبيعة الصرفة التي من شأنها قابلية الانطباق علی القليل والکثير عرضياً، ومن لوازمها سقوط الطلب والأمر عنها بأول وجودها، کما في أغلب الموارد المأخوذة في حيّز الأوامر.

وأشکل عليه: بأنه يلزم من ذلك المصير إلی اختلاف نتيجة الحکم بوقوع الطبيعة في حيّز الأمر أو النهي، والالتزام في الأوامر بأن المقدمات تنتج صرف الطبيعي المنطبق علی أول الوجود، وفي النواهي تنتج الطبيعة السارية، وهذا لايمکن الالتزام به.

وأما الثاني: فقد يستدل له(3) بأن مدلول اللفظ هو الطبيعة المهملة، والتي من شأنها سعة الانطباق علی الأفراد الطولية والعرضية، فلا وجه لتقييد اللفظ بأول الوجودات مع کون الطبيعة شاملة له ولغيره، فالطبيعة مأخوذة في

ص: 467


1- فوائد الأصول 1: 581.
2- نهاية الأفکار 1: 568.
3- نهاية الأفکار 1: 568.

جميع الأقسام والصور، ومن شأن ذلك الانطباق علی الأفراد العرضية والطولية، ولو بتوسط انطباقه علی الطبيعة الصرفة والطبيعة المأخوذة بنحو السريان.

وأما الفرق بين الأمر بسقوط التکليف بأول الوجود، وبين النهي بعدم سقوطه وانحلاليته، فلأجل أن المصلحة في الأوامر قائمة علی الشخص ومن لوازمه العقلية حصولها وتحققها بتمامها بأول وجود الأفراد، وأما في النواهي فالمفاسد قائمة علی نحو السنخ الموجب لمبغوضية الطبيعي مهما وجد وفي ضمن أيِّ فردٍ تحقق من الأفراد الطولية أو العرضية، من غير فرق في معروض المصلحة، المصلحة والمفسدة ومن غير اختلاف في نتيجة مقدمات الحکمة.

وفيه: أن الإثبات تابع للثبوت، فإذا کانت المصلحة والمفسدة هکذا، کان لابد من إرادة ذلك من اللفظ علی حسبهما، نعم المحقق العراقي يلتزم بذلك أي بدخول جميع الخصوصيات الفردية تحت الطلب علی سبيل البدل، کما مرّ في بحث النکرة.

فالأقرب الالتزام بصدر الکلام بأنه لاوجه لتقييد الطبيعة بصرف الوجود، بل نتيجة المقدمات هي الطبيعة المهملة القابلة للانطباق علی الطبيعة الصرفة وعلی غيرها، وأما الفرق بينهما فقد مرّ في بحث دلالة الأوامر والنواهي علی الطبيعة لا الأفراد.

المبحث الثاني: في مقدمات الحكمة

اشارة

وهي ثلاث مقدمات:

ص: 468

المقدمة الأولى: كون المتكلّم في مقام البيان
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في المقصود من (مقام البيان)

فقد يقال: بأنه مقام بيان المراد الاستعمالي، أو مقام بيان المراد الجدي.

فعلی الأول: يكون مقصود المتکلّم إعطاء الحجة، وهذا يلازم ظهور اللفظ في الإطلاق الکاشف عن کون الإطلاق تمام المراد.

وعلی الثاني: يكون مقصود المتکلّم البيان بأعم من الکلام الذي أطلقه ومن کلام آخر ولو منفصلاً.

أما الأول: فقد أشکل عليه:

أولاً: بأنه لا معنی للإطلاق الاستعمالي في الإنشائيات، إذ من اللغو البعث - مثلاً - نحو المطلق مع عدم وجود الداعي إلاّ إلی المقيّد، وإنما يكون البعث نحو ما للمتکلّم الداعي للبعث إليه، فلابد من کون المتکلّم في الإنشائيات في مقام بيان مراده الواقعي الجدي.

وبعبارة أخری: إنه في الإخبار للّفظ معنی قد يراد جداً وقد لايراد، وأما في الإنشاء فاللفظ يُوجد المعنی، وهذا قد يكون بداعي البعث - في الأوامر مثلاً - وقد لايكون بداعيه، وليس الداعي معنی للّفظ کما هو واضح، وحينئذٍ فلا وجه لإيجاد المعنی کالطلب في المطلق مع عدم الداعي إليه واقعاً.

ويمکن الجواب عنه: بأن هناك سبباً عقلائياً للبعث نحو المطلق مع عدم وجود الداعي إليه، وهو ضرب القاعدة والقانون ليرجع إليه حين الشك، کما مرّ.

ص: 469

وثانياً: بأنه عليه لايصح تقديم المقيد علی المطلق دائماً، بل لابد من ترجيح أقوی الظهورين فلو کان المطلق أقوی للزم تقديمه، ککل تعارض بين ظاهرين؟!!

وأما الثاني: فقد أشکل عليه: بعدم إمکان التمسك بالمطلقات إذا قُيّدت بمقيّد منفصل، إذ المقيد يكشف عن عدم الإرادة الجدّية لبيان الإطلاق، وبثبوت عدم کون المتکلّم في مقام البيان تختل أولی مقدمات الإطلاق، ومعنی هذا هو سقوط عامة الإطلاقات عن الحجية لتقييد أکثرها بالمنفصلات!

وأجيب(1): بأن انثلام الکشف عن کونه في مقام البيان من جهة لايوجب انثلامه من جهات أخر.

ويشکل الجواب: بأنّ ورود القيد يكشف عن عدم کون الطبيعة موضوعاً للحکم، فلا وجه لجريان الإطلاق فيها.

وبيانه کما في المنتقی(2): بأنه إذا ورد المقيّد کشف ذلك عن کون الموضوع هو الحصة أي المقيّد، ولم يكن المتکلّم في مقام البيان من جهات الحصة وخصوصياتها، وأما ما کان في مقام بيانه - وهو الطبيعة - فليست مورداً للإطلاق بعد ورود القيد، لتبين عدم کونها موضوعاً للحکم.

وذلك لأن الإطلاق من سائر الجهات - في فرض التقييد - موضوعه الحصة الخاصة، وهذا الإطلاق هو في طول المقيّد، وعليه فلم يثبت هذا

ص: 470


1- نهاية الدراية 2: 498.
2- منتقی الأصول 3: 435.

الإطلاق في المطلق السابق، ولا دليل عليه بعد التقييد!!

مثلاً: لو قال: (أکرم العالم) ثم قيّده بالعادل بمقيد منفصل، فإطلاق الموضوع من حيث السيادة وعدمها موضوعه العالم العادل لا ذات العالم، إذ لا معنی للإطلاق من حيث السيادة - مثلاً - إلاّ في حدود وإطار العالم العادل، إذ لايثبت الحکم مع فرض کون موضوعه العالم العادل للعالم المطلق من جهة السيادة وعدمها ولو لم يكن عادلاً!

وفيه تأمل: لأن المقيّد کاشف عن المراد الجدي في المطلق، فالإطلاق من سائر الجهات في طول المقيّد إثباتاً لا ثبوتاً، فتأمل.

وأما ثمرة القولين فهو أنه إذا ورد مقيّد منفصل...

فعلی الأول: لا يُخلّ بظهور المطلق في الإطلاق بعد استقرار ظهوره، فيتعارضان، فلابد من علاج التعارض.

وأما علی الثاني: فإنه يُخلّ بالإطلاق، لکشفه عن تقييد المراد الجدّي، فلا تعارض أصلاً لعدم استقرار ظهور له، فيكون المقيد المنفصل مکمّلاً للکلام في بيان المراد الجدّي.

وقد أشکل عليه: بأنه لا فرق بينهما، إذ بناء العقلاء علی إبراز المولی تمام مقصوده بلفظ التخاطب، لابه وبکلام آخر، وعليه فسواء کان في مقام بيان المراد الجدي أو الاستعمالي ينعقد لکلامه ظهور، فيتعارض مع المقيدات علی کل حال!!

والجواب: أولاً: أن بناؤهم علی ذلك إنما هو في متکلّم لاتکون عادته علی بيان مقاصده في عدة کلمات ولو منفصلة.

ص: 471

وثانياً: ما قيل: من أن بناء العقلاء إنما هو لظهور حال المتکلّم في کونه في مقام بيان جميع مقصوده، وإجراء أصالة عدم المانع، بمعنی أصالة عدم کونه في مقام بيان مقصوده بهذا الکلام وبغيره، وهذا الأصل يرتفع بمجرد مجيء المقيّد، وبذلك ينتفي سبب الحکم بالإطلاق، وهو حکم العقل بعدم نقض المولی لغرضه، إذ لانقض للغرض بعد ذکر المقيد.

وبعبارة أخری: إن مقدمات الحکمة تنتج الإطلاق، لحکم العقل بأنه لولا ذلك لکان المولی ناقضاً لغرضه، وبذکر المقيد المنفصل لايكون ناقضاً للغرض، فينتفي سبب الحکم بالإطلاق، فکلّما ظفرنا بقيد ارتفع موضوع حکم العقل.

المطلب الثاني: البيان من كل الجهات

لايخفی إن هذه المقدمة لاترتبط ببيان مقصود المتکلّم، فإن ذلك يتکفّله اللفظ الذي يتکلّم به، وإنما وظيفتها هو أن الشيء الذي يريد المتکلّم بيانه هو تمام المراد لاجزؤه، فلابد في البداية من تعيين معنی الکلام وهذا يرتبط بالظهورات من وضع أو قرينة، وبعد ذلك يأتي دور هذه المقدمة بأن هذا المعنی هو تمام المراد ولا يراد معه شيء آخر من القيود المختلفة.

وهذا ما يعبرون عنه بکون المتکلّم في مقام البيان من کل الجهات أو من جهة دون أخری، مثلاً قوله تعالی: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}(1) في مقام بيان الحلية من جهة التذكية لا في مقام بيان الطاهرة والنجاسة ولا في مقام بيان الحليّة من جهات أخری بقرينة صدر الآية، وبعد ثبوت مراد

ص: 472


1- سورة المائدة، الآية: 4.

المتکلّم تأتي هذه المقدمة لإثبات أنه تمام مراده فلا يؤخذ في التذكية قيد خاص لم يذکر، کنوع کلب الصيد وزمانه ومکانه... إلی آخر القيود، فلا يثبت بالآية طهارة موضع العض، ولا حلية محرمات المذكّی کسواد العين والطحال والمثانة ونحوها.

والحاصل: إنه إذا کان للمطلق جهات عديدة، فلابد من استفادة الإطلاق من کون المتکلّم في مقام البيان من کل تلك الجهات، وإلاّ کان الإطلاق منحصراً في الجهة أو الجهات التي کان المتکلّم في مقام بيانها، وبعبارة أخری: إن کان المتکلّم ناظراً إلی کل تلك القيود کان اللفظ مطلقاً من کل تلك الجهات، و أما إن کان في مقام البيان من بعض تلك الجهات کان مطلقاً بالنسبة إليها ومهملاً بالنسبة إلی غيرها.

نعم لو کان في مقام البيان من جهة لکنها لازمت جهة أخری کان للکلام إطلاق من الجهتين، وهذه الملازمة أو التلازم قد يكون عقلياً أو شرعياً أو عادياً.

1- أما الملازمة العقلية، فکالحکم بصحة الصلاة في حال الجهل بتنجس ثوبه بعذرة غير مأکول اللحم، ولازمه العقلي - بالأولوية العقلية - صحة الصلاة في بصاقه، حيث إن النجس إن لم يكن مانعاً لم يكن الطاهر مانعاً بطريق أولی، وهذه ملازمة عقلية في سلسلة المعاليل.

2- وأما الملازمة الشرعية، کالحکم بالقصر الذي يلازمه الحکم بالإفطار حتی لو لم يكن الشارع في مقام بيان حکم الإفطار.

3- وأما الملازمة العادية، فکالحکم بطهارة سؤر الهرة حيث إنه في مقام البيان من جهة الأفراد دون الحالات، ولکن بملاحظة قلة عدم ملاقاة فم الهرة

ص: 473

بالميتة وقلة غمسه في الماء الکر أو الجاري مثلاً فعدم الإطلاق من جهة هذه الحالة سبب لحمل طهارة سؤر الهرة علی الفرد النادر جداً بأن لم يمسّ فمها الميتة أو ملاقاته للکرّ أو الجاري بعد المسّ، فالملازمة العادية تقتضي الإطلاق من جهة الحالات أيضاً حتی لو لم يكن المولی في مقام بيانها، فتأمل.

ولا يخفی أنه لا توجد ضابطة کليّة لمعرفة موارد کون المولی في مقام البيان من کل الجهات أو من بعضها، بل لابد في الفقه من ملاحظة کل مورد علی حدة، فإنه يختلف ذلك باختلاف الموارد والخصوصيات والقرائن و المناسبات.

المطلب الثالث: الأدلة الواردة في بيان أصل التشريع

قد يقال: بأنه لا شبهة في عدم استفادة الإطلاق من الأدلة الواردة في بيان أصل التشريع، مثل قوله تعالی: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(1)، فإن الورود في مقام التشريع يكون قرينة علی أن المتکلّم ليس في مقام البيان(2).

وذکر نظير ذلك بعض الفقهاء في قوله تعالی: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(3) حيث قالوا إنه في مقام أصل التشريع ومن المعلوم أن هذا المقام هو مقام إهمال لامقام بيان.

أقول: لا معنی للمناقشة في الأمثلة فإنها ترتبط بالاستظهار حسب ظهور الکلام أو القرائن، إنما الکلام في أنه هل يمکن استفادة نتيجة الإطلاق من

ص: 474


1- سورة البقرة، الآية: 43.
2- فوائد الأصول 1: 574.
3- سورة البقرة، الآية: 275.

مجموع الکلام الوارد في مقام أصل التشريع ومن المقيدات؟

ويبدو أن له صورتين:

1- أن يكون المقيّد بياناً لبعض المصاديق، وحينئذٍ لاطريق لإثبات نتيجة الإطلاق، إذ لعل المراد الواقعي للمتکلّم هو هذا المصداق وقد بيّنه في کلامين: أحدهما في مقام التشريع والآخر في مقام التفصيل.

2- أن يكون المقيد بياناً للشروط والموانع ونحوها، وحينئذٍ يمکن نفي ما لم يذکر من القيود بالاستعانة بکلا الکلامين، إذ لو أراد قيوداً أخری کان عدم بيانها - و لو بشکل منفصل - إخلالاً بالغرض، فتأمل.

المطلب الرابع: الحاجة إلى هذه المقدمة

قد يقال(1) إن هذه المقدمة مستدرکة، وذلك لأن إحراز کون المتکلّم في مقام البيان يحتاج إليه في کل الظهورات حتی الظهورات الوضعية، إذ لا يمکن الاستناد إلی کلام المتکلّم في تشخيص مراده ما لم يحرز أنه في مقام البيان، وإلاّ فلو کان نطقه باللفظ لأجل تجربة صوته، فلا يمکننا أن نقول إن مراده معنی اللفظ!!

فکما أن بناء العقلاء في إحراز المراد في الظهورات الوضعية بأصالة الجدّ ونحوها، کذلك في الظهور الإطلاقي، فلذا يحملون علی الإطلاق حتی مع الشك کما سيأتي في المطلب اللاحق!! وهکذا يرد هذا الإشکال علی المقدمة الثانية.

أقول: يمکن الفرق بأن عدم إرادة الظهور الوضعي بتجربة الصوت

ص: 475


1- منتقی الأصول 3: 433.

والهزل وأمثالهما نادر جداً، في حين أن عدم إرادة الإطلاق بالإهمال أو الإجمال غير عزيز، فکان لابد من التنبيه علی هذه المقدمة، فتأمل.

المطلب الخامس: الشك في كون المتكلّم في مقام البيان
اشارة

إذا شککنا في کون المتکلّم في مقام البيان، فهل هناك أصل اجتهادي أو عملي، يُحرزبه کونه في مقامه؟

وهنا صورتان: احتمال الإهمال من کل الجهات، وإحراز البيان من جهة والشك في جهة أخری.

الصورة الأولى

ذهب المحقق الخراساني(1) إلی أنه لايبعد أن يكون بناء العقلاء علی أن المتکلّم في مقام البيان، إذا لم يكن ما يوجب صرف وجه الکلام إلی غيره، ولذا يتمسکون بالإطلاقات مع عدم إحرازهم کون المتکلّم بصدد البيان.

وبتعبير آخر(2): فإنه لاطريق لنا إلی أحراز کون المتکلّم في مقام البيان إلاّ من جهة الأصل العقلائي، لمکان أن الظاهر من حال کلّ متکلّم هو کونه في مقام بيان مراده، وکونه في مقام الإهمال والإجمال يحتاج إلی إحراز ذلك، وإلاّ فطبع الکلام والمتکلّم يقتضي أن يكون في مقام البيان.

ومعنی ذلك أن ظاهر الحال يصنع ظهور لفظياً لدی العقلاء بکونه في مقام البيان، ولذا کان هذا أصلاً اجتهادياً لا أصلاً عملياً.

إن قلت: لعل تمسك المشهور بالإطلاقات حين الشك لأجل أنهم کانوا

ص: 476


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 172-173.
2- فوائد الأصول 1: 574.

يرون وضع المطلقات للإرسال والشمول، وکلّما شککنا في أن المتکلّم هل أراد المعنی الموضوع له أم أراد معنی آخر فأصالة الحقيقة تدل علی حمله علی الموضوع له!

قلت: لم تصح النسبة إلی المشهور، وليس التمسك بالإطلاق حين الشك خاص بمن يری أنه لأجل الوضع، بل حتی القائلين بالدلالة عبر مقدمات الحکمة التزموا بذلك.

وأشکل عليه: بأمور منها:

الإشکال الأول: إنّ الکلام بعدُ في تحقيق وجه للکلام، فکيف جعل الوجه مفروغاً عنه؟

فلابد من البحث عن وجه الکلام، ليكون صغری لبناء العقلاء علی کون المتکلّم في مقام بيان وجه الکلام!

وحاصل ما ذکره المحقق الإصفهاني(1): أن الأصول المعمولة في باب المحاورات...

1- تارة ترتبط بالظهور الوضعي، کأصالة عدم النقل، وذلک ببقاء الظهور الوضعي، وکأصالة الحقيقة بفعلية الظهور الوضعي.

2- وأخری بالظهور الإطلاقي، کأصالة البيان، فهي ترتبط بالظهور الإطلاقي، وحيث إنه في قبال الإهمال فمفادها أنه في مقام بيان تمام موضوع حکمه، لا في مطابقة مقام الإثبات لمقام الثبوت، إذ الکلام في تحقق مقام الإثبات، وأنه أيّ مقدار - إطلاقاً وتقييداً - .

ص: 477


1- نهاية الدراية 2: 499 (الهامش).

3- وهنا أصل آخر هو أصالة مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجديّ، حيث ترتبط بمطابقة الظهور الفعلي الاستعمالي للمراد الجدي، ويقابله الکناية حيث إن المراد الاستعمالي محقق مع عدم کونه مراداً جدياً، کما يقابله ما نحن فيه حيث إن المراد الجدي محقق - إما بالإطلاق أو بالتقييد - لکنه يشك في أنه بصدد إظهار ذلك المراد الجدي أو بصدد أمر آخر.

وکما أن العقلاء في مورد الشك في الکناية يحکمون بمطابقة المراد الجدي للاستعمالي وبذلك ينفون الکناية، إذ الجد لايحتاج إلی التنبيه عليه، فإن جدّ الشيء لا يزيد عليه، فکذلك فيما نحن فيه يحکمون بأن المولی الذي مراده محقق فهو بالجبلة والطبع - أي لو خُلي ونفسه - يقوم بصدد إظهاره، لأن کونه بصدد إظهار أمر آخر يحتاج إلی التنبيه عليه، فينتج أن المراد الاستعمالي غير مهمل، بل إما مطلق أو مقيد، فبضميمة عدم التقييد يثبت الإطلاق، خصوصاً إذا کان المورد مقام الحاجة!!

وأورد عليه: أولاً: بأن أمر المراد الجدي ليس دائراً بين الإطلاق والتقييد حتی يثبت الإطلاق بنفي التقييد، بل هنا شق ثالث هو الإهمال، بأن يكون المولی في مقام أصل التشريع.

إن قلت: الإهمال الثبوتي ليس قسيماً لهما، وذلك لعلم المولی بمراده واقعاً وهو إما مطلق أو مقيد؟

قلت: الإهمال الثبوتي لاينافي علمه، لأن الکلام في دلالة اللفظ لا فيما يعلمه المولی ويقصره واقعاً من غير دلالة لفظية عليه.

وثانياً: إن إثبات الإطلاق بنفي التقييد إن أريد به اللابشرط القسمي فلا

ص: 478

يصح، إذ هما قسمان أحدهما في عرض الآخر فلا وجه لنفي أحدهما لإثبات الآخر من غير دليل معيّن، وإن أريد به اللابشرط المقسمي رجع إلی الإهمال إذا کان الإطلاق جمعاً للقيود، نعم إذا کان رفضاً للقيود فلا يرجع إلی الإهمال، بل يمکن حينئذٍ إثبات الإطلاق بنفي التقييد، فتأمل.

الإشکال الثاني: إن هذا البناء علی الحمل علی البيان حين الشک إنما هو في المتکلّم الذي من دأبه بيان کل مرامه في مجلس التخاطب، وأما إذا کان من دأبه بيان مقصوده في خطابات متعددة، فلا ظهور في الإطلاق أو لا حجية له، إلاّ بعد مضيّ زمان يستلزم تأخير البيان عنه تأخيراً عن وقت الحاجة، وبذلك يرتفع الشك!!

وأجيب: أولاً: إن هذا الإشکال لايرد في أمثال زماننا في عهد الغيبة حيث قد انقضی زمان البيان، وانعقد الظهور أو تمت الحجيّة.

وثانياً(1): إن هيهنا صوراً ثلاث...

1- أن يكون السائل - مثلاً - ممن لايرجی لقاؤه بعد إلقاء الکلام إليه، فلا معنی لأن يقال: إن الإمام (علیه السلام) بصدد بيان مراده في خطابات متعددة، فإذا ورد مقيد بعد ذلك لزم إعمال قواعد التعارض.

2- أن يکون ممن يكون بحضرة الإمام (علیه السلام) ويجتمع معه کثيراً، فيمکن القول بهذه العادة بتفريق المقصود في خطابات متعددة!

3- أن يكون المقيد من الإمام (علیه السلام) اللاحق، فلا يمکن القول بأن العادة في التأخير!

ص: 479


1- منتقی الأصول 3: 441.

أقول: أما الصورة الأولی فإنه قد لايحتاج السائل إلی بيان القيد، لعلم الإمام (علیه السلام) بأنه يأتي به مقيداً في الأوامر، ولا يحتاج إلی فعل غير المقيّد في النواهي، فذکر المطلق مع عدم ذکر القيد لايكون إخلالاً بالغرض أو تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة.

وأما الصورة الثالثة فلابد من تخصيصها بما لم يدرك الراوي الإمام (علیه السلام) اللاحق، وإلاّ فإن کونهم نوراً واحداً لايمنع عن التعويل في بيان القيد إلی الإمام اللاحق.

هذا مضافاً إلی ما مرّ من أن التشريعات کلّها صدرت عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد علّمها الأئمة (علیهم السلام) ، إلاّ أن فعليّة بعضها کانت منوطة ببيانهم (علیهم السلام) ، فقبل وصول زمان الفعلية، لايكون عدم البيان تأخيراً له عن وقت الحاجة ولا نقضاً للغرض.

کما أنه يمکن ادعاء أن ما وصلنا من المقيدات عن إمام لايدل علی عدم صدورها عن إمام سابق، فلعلّ الإمام السابق بين المطلق والمقيد کما بينه الإمام اللاحق، إلاّ أن أصحاب المجاميع الروائية اختاروا رواية المقيد من الإمام اللاحق لا السابق إما لعلو السند أو لأصحيته أو لجهة أخری، فلم يرووه عن الإمام السابق وبضياع الأصول والکتب لم يصل المقيد إلينا إلا بالرواية عن الإمام اللاحق عليهم جميعاً الصلاة والسلام، ومع هذا الاحتمال يبطل الاستدلال بنقض الغرض أو التأخير عن وقت الحاجة، إذ إذا جاء الاحتمال في الدليل العقلي بطل الاستدلال به، لعدم حکم العقل فيما لاجزم له فيه، فتأمل.

فتحصل: أنه لا إشکال علی إحراز البيان حين الشك فيه بالأصل

ص: 480

العقلائي، هذا کلّه في الصورة الأولی من الشك في کونه في مقام البيان أو الإهمال.

الصورة الثانية

إذا أحرز کونه في مقام البيان من جهة وشك في جهة أخری.

فقد يقال: بأنه لا دليل علی إحراز کونه في مقام البيان من الجهة المشکوکة، وذلك لعدم اللغوية في الکلام بعد إحراز کونه في مقام البيان من جهة! أي إن سبب الحمل علی کونه في مقام البيان إنما هو لدلالة الاقتضاء فإذا ارتفعت اللغوية عن الکلام بکونه في مقام البيان من جهة سقطت دلالة الاقتضاء، فلم يبق وجه للحمل علی البيان من الجهة المشکوکة.

وفيه: أن اللغوية ليست السبب للحمل علی الإطلاق، وإنما تمامية مقدمات الحکمة تنتج أن عدم ذکر القيد لو کان مراداً استلزم تأخير عن الحاجة وذلك مفوّت للغرض فلا يرتکبه الحکيم، وحيث کان الأصل العقلائي في التعميم - کما ذکرنا في الصورة السابقة - فتتم مقدمات الحکمة.

المقدمة الثانية: أن لايكون هناك ما يوجب التعيين

فلو نصب المتکلم قرينة علی التقييد، أو کانت قرينة من حالٍ أو مقالٍ، لکان الکلام ظاهراً في المقيّد، ووجب حمله عليه، لحجية الظواهر.

وهذه من حيث الکبری واضحة، إنما الکلام في بعض الصغريات حيث دار الکلام فيها حول کون شيء قرينةً تصرف المطلق إلی المقيد، أو کونه معارضاً بحيث لابد من إعمال قواعد التعارض، وذلك إما متصل أو منفصل.

أما المتصل: فإن کان ما يوجب التعيين أخصاً مطلقاً، فهو ظاهر في

ص: 481

القرينية، کما لو قال: أکرم العالم ولا تکرم فاسق العلماء.

وأما إن کان بينهما عموم من وجه، کما لو قال: أکرم العالم ولا تکرم الفاسق، فهنا يحتمل عدم انعقاد الإطلاق لأيٍّ من الدليلين في العالم الفاسق، ويحتمل تعارضهما بعد انعقاد الإطلاق فيها.

والأقرب هو اختلال المقدمة الأولی حينئذٍ حيث مع الاتصال يثبت أن المولی في مقام بيان المجمع، إذ لا وجه للقول بأنه في مقام البيان في کليهما معاً لاستلزامه تهافت صدر الکلام وذيله، کما لا وجه للقول بأنه في مقام البيان في أحدهما دون الآخر لعدم الترجيح بينهما.

وأما المنفصل: فقد يقال(1): بأن موضوع حکم العقل بعدم نقض الغرض - الذي هو مفاد مقدمات الحکمة - إنما هو کون المتکلّم في مقام البيان وعدم إقامة حجة علی مدخلية قيد في مرامه، إذ لو أقام حجة عليه لايلزم عليه نقض الغرض بوجه أصلاً، وحينئذٍ فمهما ظفرنا بحجة علی القيد فيما بعد يلزمه ارتفاع موضوع حکم العقل من جهة انقلاب اللابيان بوجود البيان.

وعليه فلابد من الرجوع إلی المقدمة الأولی، فإن أريد من البيان بيان المراد الاستعمالي فيتعارض المطلق مع القرائن المنفصلة وترجيحها إنما يكون لو کانت أقوی ظهوراً، وإن أريد منه بيان المراد الجدي بأعم من لفظ التخاطب فلا تعارض أصلاً کما مرّ، فتأمل.

وقد يصاغ البحث بطريقة أخری(2) بأنه قد يشترط عدم القرينة

ص: 482


1- نهاية الأفکار 1: 573.
2- بحوث في علم الأصول 3: 422.

المنفصلة بنحو الشرط المتأخر أو بنحو الشرط المتقارن... .

والأول: فهو بمعنی أن تکون الدلالة الإطلاقية متوقفة علی عدم مجيء القرائن المنفصلة، بحيث لو جاءت قرينة کشفت عن عدم دلالة إطلاقية أصلاً.

ويرد عليه: أنه خلاف الوجدان، إذ ينعقد الظهور ويأخذ به العقلاء من أول الأمر، وليس سبب ذلك أصالة عدم القرينة، إذ اجراؤها إنما هو بعد ثبوت الظهور، والکلام هنا بعدُ في أصل الظهور، وأما الاستصحاب فهو مثبت.

والثاني: فهو بمعنی انعقاد الظهور واستمراره إلی حين مجيء القرينة، فإذا جاءت سقط من حينه.

ويرد عليه: أن هذا إنما يكون مع القطع بعدم القرينة حالاً مع احتمالها استقبالاً، وأما مع احتمالها حالاً فلا، إذ لا تأکّد من الظهور الإطلاقي حينئذٍ.

وفيه: أن مجرد احتمالها حالاً لايمنع من انعقاد الظهور، وحيث إنه حجة فلابد من العمل بمقتضاه، فإن جاءت قرينة سقط من حينه فترتفع الحجية حينئذٍ فتأمل.

المقدمة الثالثة: عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب

والقدر المتيقن قد يكون في الوجود الخارجي أي المصاديق، وقد يكون في مقام التخاطب أي في الجعل.

أما الأول: فهو بمعنی کون الفرد أو الحصة کاملين وأعلی الأفراد أو الحصص، من غير ظهور لأولوية الحکم لهما من نفس الکلام، کما لو قال: (أکرم العالم) فأکمل أفراده الأعلم الأورع، لکن هذا الکلام لايوجب

ص: 483

استفادة أولوية ثبوت الحکم له من نفس الخطاب.

وهذا لايضر بالإطلاق، إذ لاينعقد ظهور فيه، ولا يصرف الظهور عن غيره، بل الظهور ينعقد علی الإطلاق، بل لو أضرّ بالإطلاق لم يبق مطلق أصلاً، لعدم خلو المطلقات عن أفراد أو حصص لها ميزة علی غيرها، ولأنه لو کان مراداً کان عدم بيانه إخلالاً بالمراد.

وأما الثاني: فهو محل الکلام في هذه المقدمة.

فقد يقال: بأنه لابد من عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب لينعقد الإطلاق.

وقد يفصّل بين کون المتکلّم في مقام بيان تمام المرام وإلقاء الحجة وبين ما إذا کان في مقام البيان بأعم من الکلام الذي به التخاطب.

وفصل المحقق الخراساني(1)

بين ما إذا کان المتکلم في مقام بيان تمام مراده وبين کونه في مقام بيان تمام مراده وأنه تمام المراد.

واستدل للقول الأول: بأنه مع وجود القدر المتيقن التخاطبي لو کان هو المراد لم يلزم منه نقض للغرض، فلذا جرت سيرة العقلاء علی الاعتماد عليه وعدم التصريح به!

ويرد عليه عدة إشکالات، منها:

الإشکال الأول: وهو عمدتها، إن أريد الانصراف فذلك صحيح، إذ معه لاظهور للّفظ إلاّ في المعنی المنصرف إليه سواء کان فرداً أو حصة، وإن أريد غيره فلا وجه له لعدم إخلاله بالظهور أصلاً، والظاهر أن القائلين بهذه

ص: 484


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 169.

المقدمة يريدون شيئاً غير الانصراف.

الإشکال الثاني: إنه لافرق بين القدر المتيقن في مقام التخاطب وفي الوجود الخارجي، وذلك لعدم ثبوت نقض الغرض لو کان المقصود هو القدر المتيقن، وبعبارة أخری: مع وجود القدر المتيقن - خارجاً أو خطاباً - لا إخلال بالظهور في الإطلاق!!

وفيه: أن القدر المتيقن الخارجي لايفهم من الکلام ولا ينساق الذهن إليه، فلا يصح إرادته من دون إقامة القرينة عليه، فکون المتکلم في مقام البيان يجعل الکلام ظاهراً في عدم إرادته بالخصوص، وليس کذلک القدر المتيقن في مقام التخاطب.

إن قلت: إن ثبوت الحکم للقدر المتيقن التخاطبي إما لکونه أحد مصاديق المطلق أو لدخالة عنوانه في موضوع الحکم، وحيث لم يذکر المولی القيد فلابد أن يكون الموضوع هو المطلق لا المقيد!!

قلت: ليس المراد من هذه المقدمة إلاّ التشكيك في الإطلاق مع وجود القدر المتيقن التخاطبي لا إثبات القيد.

الإشکال الثالث: لو کان المطلق في الجواب عن السؤال عن مورد خاص، فلا يصح حينئذٍ التمسك بإطلاقه، لأن مورد السؤال هو القدر المتيقن من الجواب، لأن عدم شمول الکلام لشأن بيانه مستهجن، مع أنهم اطبقوا علی أن خصوصية المورد لاتخصص الوارد.

وفيه: أن خصوصية المورد لاتضع ظهوراً، مضافاً إلی أنه قدر متيقن في الوجود الخارجي لا في مقام التخاطب.

ص: 485

الإشکال الرابع: إن هذا الاشتراط يتم في المطلق الشمولي دون البدلي، إذ في الشمولي القدر المتيقن مراد علی کل حال سواء أريد المطلق أم المقيد، لأن الحکم شامل لکل الأفراد ولا يرتبط الامتثال في بعضها بالامتثال بالبعض الآخر، وأما في البدلي فإنه يتردد بين خصوصيتين أي خصوص القدر المتيقن أم الإطلاق، فتعلق الحکم بالقدر المتيقن يلازم عدم صحة الامتثال بغيره!!

وفيه: أنه مصادرة، إذ من المعلوم شمول الدليل للقدر المتيقن سواء کان المطلق شمولياً أم بدلياً، فيكون الإتيان به امتثال علی کل حال، وأما غير القدر المتيقن فحصول الامتثال به مشکوك في کليهما، وعليه فما ذکر في الشمولي يجري في البدلي أيضاً بأن يقال: إرادة بعض الأفراد في المطلق البدلي - وهي القدر المتيقن - لايختلف بين إرادتها بالخصوص أو في ضمن الأفراد الأخری علی البدل!!

نعم إن کان المقصود الإرجاع إلی بحث الأقل والأکثر، وأن الامتثال بالقدر المتيقن لازم في الشمولي علی کل حال، عکس البدلي حيث يلزم الامتثال به علی تقدير عدم الإطلاق مع عدم لزومه علی تقدير الإطلاق، فله وجه، إلاّ أن الکلام هنا في ظهور اللفظ لا في الأصل العملي.

وأما القول الثاني: فهو التفصيل بين کون المتکلّم في مقام بيان تمام المرام وإلقاء الحجة، فوجود القدر المتيقن لايوجب انثلام الظهور في الإطلاق، کما في جميع القرائن المنفصلة.

وبين کونه في مقام البيان بأعم من هذا الکلام، فوجود القدر المتيقن

ص: 486

يوجب عدم انعقاد ظهور في الإطلاق، وذلك لعدم لزوم محذور نقض الغرض لو أراد التقييد مع اتکاله علی القدر المتيقن ليكون بياناً وحجة علی القيد!!

وقد مرّ في المقدمة الأولی تفصيل کون مقام البيان هل بيان المراد الاستعمالي أم الجدي.

ويرد عليه: أولاً: إن القدر المتيقن إن کان قرينة فهو قرينة متصلة لامنفصلة، والقرينة المتصلة تمنع انعقاد الظهور سواء کانت حالية أم مقاليّة.

وثانياً: إن الاتکال علی القدر المتيقن إنما يصح لوکان الاتکال واضحاً بحيث يمنع عن انعقاد الظهور وهذا لايكون إلاّ في حالة الانصراف، وإلاّ فمجرد وجوده غير مانع عن انعقاد الظهور.

وأما القول الثالث: فهو التفصيل بين ما إذا أحرز کون المتکلّم في مقام بيان تمام مراده، فوجود القدر المتيقن مانع عن الإطلاق، لأن المقدار المتيقن إذا کان تمام المراد فهو مبيّن، وبعبارة أخری: لايكون عدم ذکره نقضاً للغرض، لأنه يُفهم من الکلام حينئذٍ.

وبين ما إذا احرز أنه في مقام بيان تمام مراده وأنه تمام مراده، فوجود القدر المتيقن غير مانع عن الإطلاق، لأن اليقين بوجوده ليس بياناً لکونه تمام المراد، فلابد أن يكون المراد هو الطبيعة المطلقة، وبعبارة أخری: إن وجود القدر المتيقن يفيد أنه مراد، لکن لا ينفي غيره، لأن إحراز کون التکلّم في مقام بيان تمام مراده لايدل علی إرادته لکون القدر المتيقن هو ذلك التمام!!

وقد يشکل عليه: بأنه إذا کان اليقين بوجوده بياناً لتمام المراد، فلابد من أن يدل بالالتزام علی أنه تمام المراد، فيكون بيانه بيان لتمام المراد.

ص: 487

والعمدة في الإشکال أن القدر المتيقن لايكون قرينة صارفة لظهور الکلام إلاّ إذا انجرّ إلی الانصراف.

المبحث الثالث: في مانعية الانصراف عن التمسك بالإطلاق

الانصراف يُخلّ بالظهور في الإطلاق، فلا حجية في غير المنصرف إليه، لعدم الحجية في الألفاظ إلا للظواهر، فلابد من التأمل في مناشيء الانصراف، وتمييز ما يُخلّ بالظهور من غيره، وقد ذکر له مناشيء.

المنشأ الأول: غلبة الوجود الخارجي، مما يوجب اُنساً للذهن في حصة خاصة، کانصراف الإنسان إلی السليم عن العيوب، وانصراف الماء إلی ماء الفرات لمن کان ساکناً عند النهر، وهذا الانصراف بدوي زائل، وذلك لأن انسباق الحصة الخاصة إلی الذهن لم يكن ناشئاً عن اللفظ، حتی يقال بحجية الظهور فيه، ولا دليل علی حجية الظهور غير المستند إلی اللفظ.

المنشأ الثاني: کثرة الاستعمال في حصة خاصة أو في معنیً مجازي بحيث صار سبباً لأنس الذهن بحيث صار اللفظ ظاهراً فيهما، وهذا حجة لاستناده إلی الظهور اللفظي، کانصراف لفظ العلماء إلی علماء الدين دون علماء الطب والهندسة ونحوهما.

وهذا علی أقسام، منها:

الأول: ما أوجب الاشتراك بين المعنی المنصرف منه والمعنی المنصرف إليه، کما قيل في لفظة الصعيد حيث وضع لمطلق وجه الأرض، ولکن کثرة استعماله في التراب الخالص صار أيضاً معنیً حقيقياً، وهذا يوجب انثلام المقدمة الثانية إذا أوجب ظهوراً فيه، وإلاّ فالمقدمة الثالثة، لکونه المقدار

ص: 488

المتيقن في مقام التخاطب.

الثاني: ما أوجب النقل إلی المعنی الثاني المنصرف إليه، وهذا يوجب ظهوراً فيه، فانثلمت المقدمة الثانية.

وأما ما يقال: من أن الاشتراك أو النقل لابدّ أن يكونا بعد الاستعمال المجازي إلی أن يتحول المعنی الثاني إلی معنی حقيقي، وليس کذلك استعمال المطلق في المقيد، إذ هو من باب تعدد الدال والمدلول أو من باب استعمال الکلي في أحد مصاديقه.

فيرد عليه: إن الوصول إلی النقل أو الاشتراك لايحتاج إلی المرور بمرحلة المجازية، بل يمکن النقل بالوضع التعيّني کما في الأعلام الشخصية المنقولة کفضل وأسد، أو الوضع التعييني في أحد المصاديق الحقيقة.

الثالث: قد يكون کثرة الاستعمال في بضع الحصص سبباً لتيقن إرادتها مع الشك في إرادة الحصص الأخری من غير أن يكون اللفظ ظاهراً في الحصة الکثيرة الاستعمال، کانصراف الماء إلی غير المياه الزاجية والکبريتية، وبهذا الانصراف تنثلم المقدمة الثالثة، إذ کثرة الاستعمال أوجب وجود قدر متيقن في مقام التخاطب وهو المقيّد.

المنشأ الثالث: الانصراف الناشیء من القرائن الخارجية، سواء کانت مناسبات عرفية أو عقلائية أو بلحاظ حالات المتکلّم، کانصراف (ما لا يؤکل لحمه) إلی غير الإنسان، وکانصراف مثل (الماء مطهّر) إلی الماء الطاهر لمرکوزية قاعدة فاقد الشيء لايعطيه مثلاً، وکانصراف الماء إلی الصالح للشرب إذا طلبه العطشان.

ص: 489

وحجيته من باب ظهور اللفظ في المعنی المنصرف إليه، ولولا ذلك لما کان حجة، وکان من الانصراف البدوي.

المنشأ الرابع: ما ذکره المحقق النائيني(1): فقد اعتبر المنشأ للانصراف المانع عن تحقق الإطلاق، هو التشكيك في الماهيّة في متفاهم العرف.

إمّا بحيث يری العرف بعض المصاديق خارجاً عن کونه فرداً لما يفهم منه اللفظ، فلفظ المطلق حينئذٍ يكون من قبيل الکلام المحفوف بالقرينة المتصلة، وذلك کانصراف لفظ ما لا يؤکل لحمه عن الإنسان.

وإمّا بحيث يشكّ العرف في بعض المصاديق، کما في المياه الزاجيّة والکبريتية، فهذا وإن لم يوجب الظهور في خصوص ما ينصرف إليه، إلاّ أنه به يختل الظهور في المنصرف عنه، إذ هو في حکم الکلام المحفوف بما يصلح لکونه قرينة، فيمنع عن انعقاد الإطلاق.

وأشکل عليه: بأن التشكيك في الماهية وإن کان سبباً کما ذکره، إلاّ أنه قد يوجب انصراف من غير تشكيك، کما قد يدعی انصراف قوله تعالی: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(2) إلی البيع الصادر عن المالك، لا مطلق البيع.

وفيه تأمل: لرجوع ما ذکره من المثال إلی التشكيك في الماهية، ولم نجد مثالاً لغير موارد التشكيك فيها.

أقول: الأحسن هو التقسيم الثلاثي، لأنه المنشأ الأساسي، فالتشكيك في الماهية ناشيء عن غلبة الوجود أو عن کثرة الاستعمال أو عن القرائن

ص: 490


1- أجود التقريرات 2: 435.
2- سورة البقرة، الآية: 275.

المحتفة بالکلام.

ثم إنه قد قيل: إن الانصراف الناشیء عن التشكيك في الماهية قد يكون بسبب قوة الحصة أو ضعفها فمثل: (ما لا يؤکل لحمه) انصرافه عن الإنسان باعتباره أقوی أفراد الحيوان، أو لضعف الحيوانية عرفاً فيه فينصرف إلی البهيمة!!

وفيه تأمل: لأن الأقوائية لاتکون سبباً للانصراف عنه، بل علی العکس قد تکون سبباً للانصراف إليه کلفظة الإنسان بالنسبة إلی الأنبياء (علیهم السلام) ، وأما المثال فلا يخفی ما فيه لعدم ذکر لفظ الحيوان في النص، بل الانصراف عن الإنسان للمناسبة العرفية بحيث إن المقسم - وهو ما لا يؤکل لحمه - لا يشمله عرفاً.

المبحث الرابع: تكملة مقدمات الحكمة

استبدل المحقق النائيني المقدمة الثالثة بمقدمة أخری وهي(1): أن يكون الموضوع مما يمکن فيه الإطلاق والتقييد، وقابلاً لهما، وذلك بالنسبة إلی الانقسامات السابقة علی ورود الحکم، وأما الانقسامات اللاحقة کقصد القربة واعتبار العلم والجهل بالحکم، فهي مما لايمکن فيها الإطلاق والتقييد، فلا مجال للتمسك بالإطلاق.

ويرد عليه: أولاً: - کما تنبّه هو عليه - بأن هذا في الحقيقة خارج عن مقدمات الحکمة، بل محقق لموضوع الإطلاق والتقييد.

وثانياً: إن المطلق من الماهية اللابشرط المقسمي فلا يمتنع تقسيم الماهية إلی العالم بحکمها أو الجاهل به، أو المقيدة بقصد القربة أو لا، نعم

ص: 491


1- فوائد الأصول 1: 573.

قد يقال: بامتناع أخذ هذه القيود في متعلّق الحکم، وذلك أمر آخر غير إمکان تقسيم الماهية باعتبارها.

وثالثاً: ما مرّ من أن امتناع التقييد قد يلازم ضرورة الإطلاق، إذا کان الإطلاق رفضاً للقيود، لا جمعاً لها، إذ التقابل بينهما حينئذٍ تقابل السلب والإيجاب، لا العدم و الملکة، فعليه أمکن الإطلاق مع عدم القابلية للتقييد.

المبحث الخامس: نتيجة المقدمات

نتيجة مقدمات الحکمة هو الإرسال وعدم التقييد بشيء، وقد تختلف النتيجة بين البدلية أو الشمولية، وبين التوسعة أو التضييق، وذلك بحسب القرائن، فالأقسام ثلاثة:

القسم الأول: ما إذا أريد ايجاد الطبيعة، وحينئذٍ تکون النتيجة البدلية.

ويدل عليه: أن إيجاد الطبيعة يتحقق بإيجاد فرد منها، وأن الغرض يتحقق بواحد منها عادة، وأنه لايعقل إرادة إيجاد جميع الأفراد لعدم قدرة المکلّف علی ذلك عادة.

إن قلت: امتناع الاستيعاب إن کان بسبب عدم القدرة فهو غير مانع، إذ يمکن القول بأن المطلوب هو جميع الأفراد المقدورة!!

قلت: من اللغو الأمر بالجميع مع وجود المحذور دائماً ثم الاکتفاء بما أمکن، کما أن التقييد بما أمکن قيد زائد ينفيه الإطلاق.

وهذا القسم يكون في الأوامر التکليفية عادة.

القسم الثاني: ما إذا أريد بيان حکم الطبيعة، وحينئذٍ تکون النتيجة الشمولية.

ص: 492

ويدل عليه: أن حکم الطبيعة يجري في کل أفرادها، أو لأنها واردة في مقام الامتنان وهو لايناسب البدلية.

أما ما قيل: من إمکان البدلية مع الإرجاع إلی الفرد الذي يختاره المکلّف، فلا يمکن المصير إليه لاستحالة تعليق الحکم علی إرادة المکلف کما مرّ سابقاً، مضافاً إلی أن هذا التعليق قيد زائد.

وهذا القسم يكون في الأحکام الوضعية عادة، کما في قوله تعالی: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(1) بناءً علی کونه وارداً مورد البيان.

القسم الثالث: ما إذا کان للطبيعة أصناف، ولبعض الأصناف قيد زائد دون بعض، فنتيجة مقدمات الحکمة هو عدم إرادة هذه القيود، مما ينتج تضييق الموضوع، کما في إطلاق صيغة الأمر حيث يقتضي العينيّة التعيينيّة النفسية، لأن إرادة غير ذلك بحاجة إلی بيان زائد بذکر الشق الآخر أو المکلّف الآخر، أو ذي المقدمة.

وهذا علی مبنی جريان الإطلاق والتقييد في الهيأة، وأما مع المصير إلی جزئية المعنی الحرفي فلا إطلاق وتقييد إلا في المادة، وقد مرّ تفصيله.

المبحث السادس: في الإطلاق المقامي

ما مرّ کان في الإطلاق اللفظي، وهو استفادة الإطلاق من اللفظ، بأن يكون مدلول اللفظ غير مقيّد بشيء، وهناك قسم آخر هو الإطلاق المقامي، بأن يُضاف مراد آخر غير مستفاد من اللفظ إلی المراد المستفاد من اللفظ.

ويفترقان أيضاً في کيفية استفادة الإطلاق، ففي اللفظي هناک قرينة عامة

ص: 493


1- سورة البقرة، الآية: 275.

علی استفادة الإطلاق لأن حال المتکلّم يقتضي کونه في مقام البيان حتی مع الشك فيه کما مرّ، وأما في المقامي فلابد من وجود قرينة تدل علی مراد آخر غير المراد اللفظي، وقد يذکر قرينتين:

الأولی: کون المتکلّم في مقام التحديد، فعدم ذکر شيء أو عدم الإيتان به، يكون قرينة علی عدم إرادته، کما لو أراد تعليم الصلاة فترك القنوت في الذکر أو في العمل، فهنا المقام يقتضي عدم تقييد الصلاة به بنحو الجزء الواجب أو الشرط.

الثانية: کون الإطلاق مما يناسب حال المتکلّم، کما في القيود التي يغفل عنها غالب الناس، بحيث لولا ذکرها لم يلتفتوا إليها، فعدم ذکرها دليل علی عدم قيديتها - بنحو الجزئية أو الشرطية أو المانعيّة - ، إذ لو کانت قيداً کان عدم ذکرها مع غفلة الناس عنها نقضاً للغرض کما ذکروا ذلك في قصد الوجه والتمييز.

وعلی کل حال فلا ضابطة کليّة للإطلاق المقامي، فلابد من ملاحظة کل مورد بانفراد في الفقه، ليُعلم کون المتکلّم في مقام التحديد أو کون الإطلاق مما يناسب حاله.

ص: 494

فصل في حمل المطلق على المقيد

اشارة

المطلق والمقيد قد يكونان مثبتين أو منفيين أو مختلفين، کما أنه قد نعلم بوحدة الحکم وقد نعلم بتعدده وقد نشك، کما أنهما قد يكونان في حکمين إلزاميين أو في مستحبين.

ولابد حينئذٍ من حمل المطلق علی المقيّد إذا توفرت الشروط التالية:

الشرط الأول: التنافي بين المطلق والمقيد

وهنا صور متعددة:

منها: ما إذا کانا مختلفين في النفي والإثبات، مثل: (اعتق رقبة) و (لاتعتق رقبة کافرة)، فلا إشکال في التقييد، للجمع العرفي بتقديم المقيّد لأنه الأقوی ظهوراً.

ومنها: ما إذا کانا مثبتين في حکم إلزامي، مثل: (اعتق رقبة) و (اعتق رقبة مؤمنة)، وهنا لابدّ من حمل المطلق علی المقيد.

وقد ذکر له أدلة منها:

الدليل الأول: عدم تمامية مقدمات الحکمة، بانثلام المقدمة الثانية.

الدليل الثاني: بأنه جمعٌ بين الدليلين، فإن المقيد مصداق للمطلق، فإذا اعتق رقبة مؤمنة فقد امتثل کلا الدليلين، وذلك أولی لبناء العقلاء علی الجمع إذا کان عرفياً.

ص: 495

وأشکل عليهما: بأن الجمع لاينحصر بذلك، بل يمکن بحمل الأمر في المقيد علی الاستحباب وأنه أفضل الأفراد، وبذلک لم يثبت انثلام المقدمة الثانية أيضاً.

وأجيب: بأن الحمل علی الاستحباب مجاز، وحمل المطلق علی المقيد ليس بمجاز، لأنه لم يوضع للإطلاق، بل استعمال الکلي في أحد مصاديقه حقيقة، وبعبارة أخری: أصل وجود القيد معلوم، لکن الاختلاف في کيفية التقييد فهل هو قيد للموضوع أو للحکم، والأول حقيقي، والثاني مجازي، فيكون الترجيح للأول.

ودفع الجواب: بأن الحمل علی الاستحباب لا مجازية فيه، بل المراد تأکد الوجوب، وذلك لأن المقيد المنفصل لايضر بالإرادة الاستعمالية في الإطلاق کما مرّ، بل مع التقييد نعلم بعدم الإرادة الجدّية، والمجازية ترتبط بالإرادة الجدّية لا الاستعمالية.

نعم هذا نوع تصرف لکنه ليس بأولی من التصرف الآخر بحمل أمر المقيد علی التأكيد، فيتساويان.

إن قلت: في غالب المطلقات إنما ثبت کون المولی في مقام البيان بالأصل العقلائي کما مرّ، ومع وجود المقيّد الذي هو دليل لاتصل النوبة إلی الأصل!

قلت: هذا الأصل ليس أصلاً عملياً بل هو أمارة.

فتحصل: أنه لايمکن الاستدلال بهذين الدليلين لحمل المطلق علی المقيّد في المثبتين.

ص: 496

الدليل الثالث: ما ذکره المحقق النائيني(1)، وحاصله: أن الأمر في المقيد يكون بمنزلة القرينة علی ما هو المراد من الأمر بالمطلق، والأصل الجاري في ناحية القرينة يكون حاکماً علی الأصل الجاري في ذي القرينة.

أما کونه بمنزلة القرينة: فلأن ملحقات الکلام کلها تکون قرينة علی ما أريد من أرکان الکلام، والأرکان هي الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر، وکذا المفعول علی احتمال، وما عداها متممات للکلام من الصفة والحال والتمييز وغيرها.

وأما الحکومة: فلأن الشک في المراد من ذي القرينة يكون مسبباً عن الشك في المراد من القرينة، فمثل: (رأيت أسداً يرمي) يكون ظهور (يرمي) في رمي النبل رافعاً لظهور (أسد) في المفترس، فلا يبقی ظهور للأسد في المفترس ليدل بالملازمة علی أن المراد من يرمي رمي التراب مثلاً!! فإن الدلالة علی اللازم فرع الدلالة علی الملزوم، وظهور يرمي في رمي النبل يرفع دلالة الملزوم.

إن قلت: أصالة الحقيقة في الأسد تقتضي کونه المفترس، فيلازمه کون المراد من الرمي رمي التراب مثلاً، ومثبتتات الأصول اللفظية حجة.

قلت: إن (يرمي) يتضمن الرامي أيضاً، خلاف (الأسد) فإنه لايتضمن الرمي، نعم لازم کونه علی المعنی الحقيقي هو کون المراد من يرمي رمي التراب مثلاً، وظهور يرمی في رمي النبل يكون هادماً لظهور الأسد في المفترس، فلا يبقی له ظهور في الحيوان المفترس حتی يدل علی لازمه!!

هذا محصّل ما يستفاد من کلام المحقق النائيني، ومقتضاه هو لزوم حمل الأمر في المطلق علی المقيد، لاعلی استحباب المقيد ولا علی کونه واجباً

ص: 497


1- فوائد الأصول 1: 577-579.

في واجب، من غير ملاحظة أقوی الظهوري، إذ الدليل الحاکم مقدّم مطلقاً.

وأشکل عليه(1): أولاً: في المقيد المتصل لايوجد إلا ظهور واحد، ولذا لاينتقل السامع إلاّ إلی الحصة الخاصة، وکذا في المجاز، وذلك لعدم ملاحظة الظهور الطبيعي، فإنه ثابت لأي لفظ حتی مع الجزم بخلافه، وليس هو موضوعاً لأيّ أثر عقلائي، وإنما التصادم بين الظهورين التصديقيين، وفي المتصل لايوجد ظهورين لعدم بناء العقلاء علی إرادة ظاهر اللفظ ما لم يتم الکلام، فإن بنائهم علی الظهور الفعلي لا الطبعي.

والحاصل: إنه قبل ورود القرينة لابناء للعقلاء علی إرادة ظهور ذي القرينة، وبعد ورودها لايكون للکلام سوی ظهور واحد يتناسب مع القرينة، نعم في المنفصل ينعقد ظهور للمطلق في الإطلاق لکن بالإرادة الاستعمالية فيكون ظهوران متصادمان ولکن لاحکومة کما سيأتي في الجواب التالي.

وثانياً: عدم جريان الحکومة هنا، إذ کما يمکن أن يكون (يرمي) سبباً للتصرف في الأسد، کذلك العکس، ولا يجدي التفصي بأن دلالة الأسد علی الرامي التزامية ودلالة الرامي علی الأسد مطابقية، وذلك لعدم وجه علی فصل المدلول الالتزامي عن المدلول المطابقي کي يجري الأصل في المطابقي أولاً ثم يثبت المدلول الالتزامي، بل يصح جريان الأصل بلحاظ المدلول الالتزامي رأساً.

هذا مضافاً إلی أن دلالة يرمي علی الرامي لايوجب تعيين معنی الرمي في رمي السلاح لا رمي التراب فحمله علی الأول مصادرة.

ص: 498


1- منتقی الأصول 3: 451-453.

الشرط الثاني: وحدة الحكم في المطلق والمقيّد

فقد يقال: إن ذلك لابدّ من استفادته من خارج الدليلين، ولا يمکن استفادته منهما، وقد يقال: بإمکان استفادته منهما في بعض الصور، والصور أربعة(1):

الصورة الأولی: أن يذکر السبب في کليهما مع اختلافه، کما لو قال: (إن أفطرت فاعتق رقبة) و (إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة).

ولا إشکال في عدم الحمل هنا، لعدم التنافي بين الحکمين، بل في الحقيقة يرجع ذلك إلی تعدد التکليف، لعدم ارتباط السببين أحدهما بالآخر.

الصورة الثانية: أن يذکر السبب في کليهما مع اتحاده، کما لو قال: (إن ظاهرت فاعتق رقبة) و (إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة).

وهذا أيضاً لا إشکال في الحمل، إذ من وحدة السبب بنفسها يستفاد وحدة التکليف، بل يمکن القول بأنه مع الإتيان بالمقيد فقد امتثل أمرهما معاً وذلك لکون المقيّد من أفراد المطلق.

الصورة الثالثة: أن يذکر السبب في أحدهما دون الآخر، کما لو قال: (اعتق رقبة) و (إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة)، أو بالعکس.

إستشکل المحقق النائيني في الحمل، للزوم الدور منه، إذ هنا إطلاقان وتقييدان: في ناحية الواجب (عتق الرقبة مطلقاً) (وعتق الرقبة المؤمنة)، وفي ناحية الوجوب إذ (وجوب عتق غير مقيد بسبب) و (وجوب عتق مقيداً بالظهار).

فتقييد أحد الوجوبين بصورة تحقق سبب الآخر يتوقف علی وحدة المتعلّق، إذ عند اختلاف متعلّق التکليف لاموجب لحمل أحد التکليفين علی الآخر.

ص: 499


1- فوائد الأصول 1: 579-581.

کما أن وحدة المتعلق في المقام تتوقف علی حمل أحد التکليفين علی الآخر، إذ لو لم يحمل أحد التکليفين علی الآخر ولم يقيّد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار لم تتحقق وحدة المتعلق.

والحاصل: إن حمل أحد المتعلقين علی الآخر يتوقف علی حمل أحد التکليفين علی الآخر، کما أن حمل أحد التکليفين علی الآخر يتوقف علی حمل أحد المتعلقين علی الآخر.

ويرد عليه: أولاً: النقض، بجريان هذا البيان للدور في کل مطلق ومقيد حتی مع عدم ذکر السبب فيقال: وحدة المتعلّق تتوقف علی وحدة التکليف، وکذا العکس.

وثانياً: بالحلّ، بأن تعدد الإنشاء ظاهر في تعدد الحکم، وإلاّ کان تأكيداً وهو خلاف الظاهر، وعليه فيثبت تعدد المتعلّق، فتعدد المتعلّق يتوقف علی وحدة الحکم دون العکس.

أما علی مبنی عدم استفادة الوحدة أو التعدد في الحکم من الدليلين فالأمر واضح، إذ لاتوقف من الطرفين بل وحدتهما أو تعددهما يتوقفان علی دليل آخر خارجي.

وثالثاً: بأن کلامه أخص من المدعی، وإنما يجري فيما لو تفرق القيدان بين الدليلين، فکان المتعلق في أحدهما مطلقاً مع ذکر السبب فيه، وکان الآخر بالعکس، أما لو اجتمع القيدان في دليل مع إطلاق الآخر في کليهما، کما لو قال: (اعتق رقبة) و(إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) فلا يجري الدور لأن التقييدان في عرض واحد بلا توقف أحدهما علی الآخر، فتأمل.

الصورة الرابعة: عدم ذکر السبب في أيٍّ منهما.

ص: 500

ولإثبات وحدة التکليف طريقان:

الطريق الأول: ما ذکره المحقق النائيني(1): بأنه لو کان المطلوب فيهما صرف الوجود مع کون التکليف إلزامياً، اقتضی ذلك حمل المطلق علی المقيّد، ففي (رقبة) و (رقبة مؤمنة) يراد إيجاد صرف الوجود، ومعنی الحکم الإلزامي هو عدم الرضا بغيره، فالجمع بين الأمرين يقتضي وحدة المطلوب.

وبعبارة أخری(2): إن الأمر بالمطلق بما أنه يتعلق بصرف الوجود ينحل إلی حکمين: حکم بالإلزام بنفس الطبيعة وحکم بالترخيص في تطبيق الطبيعة علی کل فرد من أفرادها، والأمر بالمقيد يقتضي تعيين المقيد، فيتنافي مع الحکم الترخيصي في المطلق، لأن الامتثال بغير المقيد يجوّزه الإطلاق وينفيه التقييد.

وأشکل عليه(3): أولاً: بأنه لايمکن إثبات وحدة التکيف عبر منافاة وجوب المقيّد مع ترخيص تطبيق الطبيعة علی أيّ فرد من أفرادها، بل الأمر بالعکس، فإن المنافاة متفرعة علی وحدة التکليف أي إذا ثبت أن التکليف واحد امتنع ترخيص الشارع في امتثاله بالإتيان بأيّ فرد کان بل لابد من إلزامّه بالمقيّد، أما لو کان التکليف متعدداً فترخيص الشارع في امتثال أحد التکليفين بأيّ فرد من أفراد الطبيعة لايتنافی مع إلزامه في امتثال الآخر بالإيتان بفرد معين، لعدم توارد النفي والإثبات علی موضوع واحد بل موضوعين.

ص: 501


1- فوائد الأصول 1: 581.
2- أجود التقريرات 2: 448-449.
3- منتقی الأصول 3: 456.

أقول: کلاهما ممکن، إذ هما متلازمان، فکما يمکن إثبات الوحدة عبر إثبات المنافاة، کذلك العکس، إذ هما لايجتمعان فإثبات أحدهما يلازم الآخر، إنما الکلام في أنه لا دلالة للدليلين علی أيٍّ من الأمرين فلابد من إثبات ذلك بالقرائن الخارجية.

أما ما قيل: من أنه لا حکم آخر يتکفل الترخيص في تطبيق الطبيعة علی جميع أفرادها.

ففيه: أن الترخيص عقلي - وهو التخيير العقلي - وهو لازم الإلزام بالطبيعة، وعليه فيتنافي مع الإلزام الشرعي بالمقيّد، فيرجع إلی تنافي الدليلين الشرعيين بتنافي لازم أحدهما مع صريح الآخر.

وثانياً: بأن عدم الحمل يستلزم وحدة الامتثال أحياناً وتعدده أخری، وهذا لايمکن الالتزام به، إذ لو قدّم الامتثال بالفرد الواجد للقيد فقد امتثل کلا الأمرين، إذ يتحقق بذلك امتثال الأمر بالمطلق لکون واجد القيد فرد من أفراده، کما يتحقق امتثال الأمر بالمقيد، أما لو قدّم الامتثال بغير الواجد للقيد فهو امتثال للأمر بالمطلق فقط فلابد من امتثال آخر بالإتيان بواجد للقيد، لعدم تحقق الملاکين في الأمرين، عکس الحالة السابقة إذ بها يتحقق ملاکهما فيسقطان.

وفيه: أنه لامانع من الالتزام به ولا محذور فيه سوی الاستبعاد وهو غير ضائر، بل هو استبعاد لغير البعيد.

مضافاً إلی إمکان القول بأنه تخيير عقلي بين الأقل والأکثر، ولکن بالطريقة المذکورة، من دون کونه مراعیً، بخلاف التخيير الشرعي بينهما،

ص: 502

کما يمکن ادعاء عدم تحقق الملاکين إلا بالتکرار، وأنه لو قدّم الامتثال بالمقيّد فيجب عليه امتثال آخر وحينئذٍ فإن امتثل بالمطلق اعتبر الأول امتثالاً للأمر بالمقيد والثاني للأمر بالمطلق، وإن امتثل بالمقيد کان أحد الامتثالين للمطلق والآخر للمقيد بلا تعيين، وهو غير ضائر مادام الغرض يتحقق بهما ولو من غير تعيين، فإنه بعد تحقق الامتثال لايشترط العلم بکونه بأيٍّ من الفعلين أو أن أياً من الامتثالين لأيٍّ من الأمرين، فتأمل.

إن قلت: يمکن الجمع بين الدليلين بحمل المطلق علی الحصة الفاقدة للقيد.

قلت: هو جمع تبرعي لا شاهد له.

الطريق الثاني(1): أن لنا حالتين:

الحالة الأولی: لو کان المقيد وارداً قبل انتهاء وقت البيان، فحينئذٍ لابدّ من حمل المطلق علی المقيد، أما علی مسلك الشيخ الأعظم - من إجراء مقدمات الحکمة في المراد الجدي - فلأنه لاينعقد ظهور للمطلق قبل مضيّ زمان البيان، فإذا ورد المقيد کان له ظهور من غير مزاحم، وأما علی مسلك المحقق الخراساني - من إجراء المقدمات في المراد الاستعمالي - فظهور المطلق منعقد، لکن لاحجية له في المتکلّم الذي من دأبه بيان مرامه في زمان محدد ممتد، فإذا ورد مقيد قبل انتهاء ذلك الزمان کان حجة من غير مزاحمة لعدم حجية المطلق في الإطلاق، وهذا نظير ظهور العام في العموم قبل الفحص عن المخصص حيث لايكون الظهور حجة مع انعقاده، وکالمطلق الصادر عن الهازل فهو ظاهر لکنه غير حجة.

ص: 503


1- منتقی الأصول 3: 460-464.

الحالة الثانية: لو کان المقيد وارداً بعد انتهاء وقت البيان، فقد انعقد ظهور المطلق وحجيته في الإطلاق علی جميع المسالك، وحينئذ يتنافي مع المقيّد، ولا وجه لتقديم المقيّد علی المطلق إلاّ لکونه أقوی الدليلين وذلك جمع عرفي بينهما.

إن قلت: يشکل الأمر فيما لو استلزم تأخيرُ المقيد تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة، فيكون عند العقلاء من التعارض بينهما، مع العلم بأنّه لايكون إلاّ مع تقدم المطلق وتأخر المقيد، وذلك فيما لو کان الکلام ملقی إلی سائل لايمکن اللقاء به مرّة أخری أو کان صدورهما من إمامين (علیهم السلام) !!

قلت: ويمکن حلّ الإشکال: بما مرّ من أن الواصل إلينا هکذا، ويحتمل أن يكون الأئمة (علیهم السلام) بينوا المقيدات مع بيان المطلقات، لکن أصحاب المجاميع اختاروا ما رووه من الروايات الکثيرة إما لجهة علو السند أو لکونه أوثق أو أفصح أو لأية جهة أخری، کما يحتمل أن عدم بيان المقيّد للراوي الذي لايمکن الالتقاء به بعد ذلك للعلم بأنه يمثل الأمر بالمطلق بالفرد الواجد للقيد، ومع هذه الاحتمالات الثبوتية، لاجزم بالتعارض إثباتاً، فيكون بناء العقلاء علی الجمع العرفي بينهما حينئذٍ بحمل المطلق علی المقيد.

أو يقال: إن الأحکام کلّها صدرت من النبي (صلی الله علیه و آله) وعلّمها أمير المؤمنين والأئمة (علیهم السلام) ، لکن المصلحة کانت تقتضي بيانها تدريجياً، فيمکن تحقق المصلحة ببيان المطلق دون المقيّد في زمان ولو اقتضی تأخير البيان عن وقت الحاجة، إذ مصلحة التدرّج أهم من ذلك فتترجح حين التزاحم، وحينئذٍ فلا تعارض.

ص: 504

الشرط الثالث: كون الحكم إلزامياً

فلو تضمنا تکليفاً استحبابياً فلا تقييد، بل يحمل المقيد علی کونه أفضل الأفراد في المستحب، وعلی أشدية الکراهة في المکروه، کما لو قال: (زر الإمام الحسين (علیه السلام) ) و(زر الإمام الحسين (علیه السلام) ليلة الجمعة)، وهذا الشرط في حقيقته راجع إلی أحد الشرطين السابقين:

أما علی مبنی استفادة وحدة التکليف من خارج الدليلين، فيقال: بأنه لا دليل يدل علی الوحدة في الأحکام غير الإلزامية، فاختل الشرط الثاني، فلا يكون الحمل عرفياً حينئذٍ.

وأما علی مبنی استفادة الوحدة من نفس الدليلين، فقد ذکر المحقق النائيني(1) أن هيهنا صوراً متعددة وفي الجميع لا وجه للحمل.

1- عدم تقييد الاستحباب بسبب، مع کون القيد راجعاً إلی الموضوع المستحب، کما لو قال: (يستحب الدعاء) و (يستحب دعاء کميل)، وذلك لعدم المنافاة بينهما بعدما کان المقيد جائز الترك.

2- إذا کان التقييد في الاستحباب والمستحب، کما لو قال: (يستحب الدعاء) و (إن أردت السفر فيستحب قراءة هذا الدعاء الخاص)، وذلك لأنه لاحمل في التکليف الإلزامي علی هذا الوجه لايحمل - کما مرّ في الصورة الثالثة في الشرط الثاني - فکيف بالتکليف الاستحبابي.

3- إذا کان التقييد في الاستحباب فقط - سواء کان التقييد يقتضي المفهوم أم لا - کما لو قال: (يستحب الدعاء) وقال (يستحب الدعاء عند

ص: 505


1- فوائد الأصول 1: 585.

رؤية الهلال) أو (إن رأيت الهلال فيستحب الدعاء)، فهنا لا موجب للحمل، وذلك لمکان تفاوت مراتب الاستحباب، فلا منافاة بين الاستحباب المطلق والاستحباب المقيد، فرجع إلی عدم تحقق الشرط الأول، إذ حتی فيما يقتضی المفهوم في نفسه فإن تفاوت مراتب الاستحباب يكون قرينة علی عدم ثبوت المفهوم للقضية الشرطية، فتأمل.

وقد يستدل لذلك: بأنه کما يدل المطلق علی الترخيص في ترك الفرد المقيد بتحقيق الامتثال بغيره کذلك يدل الدليل المقيد - لكونه مستحباً - بالترخيص في ترك المقيد، فلا منافاة بينهما!!

إن قلت: إن الدليل المقيد يقتضي عدم جواز امتثال الحکم الاستحبابي بغير المقيد، لفرض أنه ظاهر في دخالة القيد فيه فينافي ما دل علی جواز الامتثال بأي فرد ولو غير المقيد.

قلت: للقيد دخالة في المرتبة لا في أصل الحکم، نعم لو قيل بظهور القيد في دخالته في أصل الحکم، فحينئذٍ يقال: إن الترخيص إنما هو في ترك الامتثال بالمقيد، لا الترخيص بالامتثال بغيره من الأفراد.

والحاصل: إن اختلاف مراتب الاستحباب قرينة عرفية علی عدم التقييد، وإن أبيت إلا عن عدم القرينية فيقال: إنه لا دليل من الخارج علی وحدة الحکمين، وفي مورد الامتثال بالمقيد يكون من تداخل المسببات أو ببقاء استحباب آخر بمطلق أو مقيد کما مرّ تفصيله في الشرط الثاني، وعليه فلا يمکن قصد امتثال الأمر بالمقيد عبر الإتيان بغير المقيّد لکونه من التشريع المحظور فتأمل.

ص: 506

الشرط الرابع: كون المطلق بدلياً

فإذا کان شمولياً کما لو قال: (أکرم العالم) و (أکرم العالم العادل)، فهل يحمل المطلق علی المقيّد؟

الأقرب عدم الحمل، وهکذا في العام والخاص المثبتين، وقد يستدل لذلك بوجوه، منها:

الوجه الأول: إن الحکم في المطلق هو لجميع الأفراد، ففي الأفراد الواجدة للقيد يكون الحکم في المقيّد تأكيداً، ولا يمکن اعتباره تأسيساً لاستلزامة الجمع بين المثلين فهو محال، وعليه فلا يمکن اعتبار القيد احترازياً، وحينئذٍ يحمل المقيّد علی کونه أفضل الأفراد.

ويرد عليه: بأن ثبوت وحدة التکليف کما تکون بالحمل علی أفضل الأفراد، کذلك تکون بحمل المطلق علی المقيد، فإن التأكيد لاينافي تقييد المطلق، بمعنی أنه کما يمکن التأكيد مع ابقاء الإطلاق، کذلك يمکن مع تقيده بأن يكون المراد الجدي من المطلق المقيد فيكون الحکم في المقيد تأكيداً له.

الوجه الثاني: إن سبب حمل المطلق علی المقيد هو دلالة الحکم فيهما علی صرف الوجود وذلك يستلزم التنافي مما يكتشف منه وحدة التکليف، وهذا لا يجري في الإطلاق الشمولي، إذ الحکم لم يتعلق بصرف الوجود بل تعلّق بکل فرد فرد، وعليه فلا طريق لاستکشاف وحدة التکليف!

وأورد عليه: - مع قطع النظر عن الإشکال المبنائي الذي مرّ في النوع السابق - أن هناك طريقاً آخر لاستکشاف وحدة التکليف، وذلك لأنه في المقيد لا يوجد حکمان بل حکم واحد، ومن ذلك نستکشف وحدة الحکم مطلقاً، فتأمل.

ص: 507

فصل في المجمل والمبيّن

لايخفی أن العمدة في هذا البحث هو تشخيص المجملات عن المبينات جزئياً، وذلك بحث لغوي کالبحث عن معنی کلمة الصعيد مثلاً، فلا يرتبط بالبحث الأصولي.

وإنما المهم هو البحث عن قواعد کلية تنفعنا في رفع الإجمال عن المجملات.

وأما معنی المجمل فهو اللفظ الذي لا ظاهر له، وعکسه المبيّن، وقد يكون الإجمال في الجملة بعدم ظهورها في شيء حتی مع ظهور مفرداتها في معانيها.

والمجمل علی قسمين: ما لم يكن له ظاهر، أو کان له ظاهر لکن علمنا بعدم إرادته.

أما القسم الأول: فتارة يكون قباله مبيّن، کما لو ورد دليلان أحدهما: (الکر ستمائة رطل) و الآخر: (الکر ألف ومئتا رطل بالعراقي)، فالأول مجمل لاظاهر له لأن الرطل إما عراقي وإما مکّي، والمکي ضِعف العراقي، فيبحث في إمکان حمل الأول علی الرطل المکي ليتطابق مع الثاني، من دون أن يكون جمعاً تبرعياً.

وتارة في قباله مجمل آخر: کالمثال فلو وصله أمر المولی بشراء رطل

ص: 508

وبشراء رطلين من الطعام، فهل يمکنه رفع الإجمال بحمل الأقل علی المکي والأکثر علی العراقي ليتطابقان، أم أن ذلك جمع تبرعي لايرتفع به الإجمال!!

قد يقال(1): بإمکان رفع الإجمال عبر إحدی طريقتين:

الأولی: عبر جريان أصالة الجد فيهما، فيحملان علی معنی واحد ينسجم معها، لأن أيّ حمل آخر ينافي أصالة الجد فيهما.

ويشکل: بأن أصالة الجد أصل عقلائي، والعقلاء إنّما يجرونها فيما لو علموا بالمراد الاستعمالي، فيلتزمون بأن المراد الاستعمالي هو المراد جداً، لکن لايعلم اجراؤهم هذه الأصالة لمجرد رفع التناقض بين کلامي المولی مع عدم معرفتهم بالمراد الاستعمالي!

الثانية: الجمع بين جريان دليل الحجية في کليهما وبين دلالة الاقتضاء بصدقهما، حيث يحتمل أن يكون المراد في کل منهما ما يوافق الآخر.

وفيه: أولاً: إن الإجمال يمنع عن الحجية، لحجية الظواهر دون المجملات، فلا يجري دليل الحجية فيهما ليراد جمعه مع دلالة الاقتضاء.

وثانياً: بأن هذا جمع عقلي لا عرفي، فلا اعتبار به، وإنما تجري دلالة الاقتضاء لو قطعنا بصدور الدليلين مع القطع بجهة صدورهما، بل يمکن عدم جريانه حينئذٍ لأن صدق صحة الکلام واقعاً لا ينافي عدم حجيته لدی الإجمال، فتأمل.

ص: 509


1- بحوث في علم الأصول 3: 444.

وأما القسم الثاني: فإن قام دليل لتعيين المراد لزم حمل اللفظ عليه، وإلاّ بقي مجملاً، ومن ذلك متشابهات القرآن حيث لأکثرها ظاهر يقطع بعدم کونه مراداً وقد بيّنت الآيات المحکمة المراد من المتشابهات، کقوله تعالی: {إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(1) وقوله تعالی: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ}(2).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام علی المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلی الله علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين.

30 / ج 1 / 1436

ص: 510


1- سورة القيامة، الآية: 23.
2- سورة الأنعام، الآية: 103.

فهرست الموضوعات

فصل في الترتب

المبحث الأول: في شروط تحقق موضوع الترتب... 5

الشرط الأول: وجود تضاد بين الأمرين... 5

الشرط الثاني: كون التكليفين إلزاميين... 7

الشرط الثالث: كون المتعلقين عباديين أو كون المهم عبادياً... 8

الشرط الرابع: أن لا يكون المهم مشروطاً بالقدرة الشرعية... 10

الشرط الخامس: أن يكون التضاد بين المتعلقين اتفاقياً... 10

الشرط السادس: أن لا يكون المهم ضروري الوجود عند العصيان... 12

الشرط السابع: أن يكون الخطاب بالأهم منجزاً على المكلف... 14

الشرط الثامن: وصول التكليف بنفسه... 15

الشرط التاسع: عدم أخذ الجهل في موضوع الأمر الترتبي... 15

الشرط العاشر: كون المتزاحمين في عرض واحد زماناً... 16

المبحث الثاني: في أدلة استحالة الترتب... 20

الدليل الأول: طلب الضدين... 20

الدليل الثاني: تعدد استحقاق العقاب... 31

الدليل الثالث: النهي عن المهمّ... 39

المبحث الثالث: أدلة إمكان الترتب، ومناقشتها... 40

الدليل الأول... 40

المقدمة الأولى... 40

المقدمة الثانية... 40

ص: 511

المقدمة الثالثة... 44

المقدمة الرابعة... 44

المقدمة الخامسة... 47

المطلب الأول... 47

المطلب الثاني... 49

الدليل الثاني... 50

الدليل الثالث... 53

الدليل الرابع... 54

المبحث الرابع: ما يُناط به الأمر بالمهم... 56

الاحتمال الأول: الإناطة بالعصيان بنحو الشرط المقارن... 56

الاحتمال الثاني: الإناطة بالعصيان على نحو الشرط المتقدّم... 59

الاحتمال الثالث: إناطته بالعصيان على نحو الشرط المتأخر... 60

الاحتمال الرابع: إناطته على العزم بالعصيان، أو عدم العزم على الامتثال... 61

الاحتمال الخامس: الإناطة باتصاف المكلف بلحوق العصيان... 63

فصل هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

فصل في تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد

فصل في نسخ الوجوب

المرحلة الأولى: في دلالة اللفظ... 74

المرحلة الثانية: في مقتضى الأصل العملي... 75

فصل في الوجوب التخييري

البحث الأول: في إمكانه... 78

البحث الثاني: في التخيير بين الأقل والأكثر... 87

فصل في الوجوب الكفائي

الاحتمال الأول: تعدد الغرض... 91

ص: 512

الاحتمال الثاني: وحدة الغرض... 92

الطريق الأول... 93

الوجه الأول... 93

الوجه الثاني... 93

الوجه الثالث... 93

الطريق الثاني... 94

الطريق الثالث... 94

الطريق الرابع... 95

الطريق الخامس... 96

تكملة... 96

فصل في الواجب الموسع والمضيق

البحث الأول: في رجوع القيد الزماني إلى المادة أو الهيأة... 99

البحث الثاني: في دفع الإشكال العقلي عليهما... 99

البحث الثالث: في القضاء خارج الوقت... 101

1- أما مرحلة الثبوت... 102

2- وأما مرحلة الإثبات... 103

البحث الرابع: في قيام الدليل على القضاء... 104

البحث الخامس: في استصحاب الوجوب... 106

البحث السادس: في استصحاب الموضوع... 107

فصل في الأمر بالأمر بالشيء

المطلب الأول: في مرحلة الثبوت... 109

المطلب الثاني: في مرحلة الإثبات... 110

المطلب الثالث: في الثمرة... 110

فصل في الأمر بعد الأمر

ص: 513

المقصد الثاني في النواهي وفيه فصول

فصل في صيغة النهي

البحث الأول: في مدلول الصيغة... 117

البحث الثاني: كيفية الامتثال في النهي... 118

الأمر الأول: في تحقق امتثال النهي... 119

الأمر الثاني: في الثواب على الامتثال... 120

البحث الثالث: في عموم النهي الشمولي... 120

البحث الرابع: في استمرار النهي بعد العصيان... 123

البحث الخامس: في الحرمة الكفائية والتخييرية... 124

فصل في اجتماع الأمر والنهي

البحث الأول: في عنوان المسألة... 126

البحث الثاني: في الفرق بين هذه المسألة، ومسألة اقتضاء النهي للفساد... 128

الفرق الأول... 128

الفرق الثاني... 129

الفرق الثالث... 130

الفرق الرابع... 130

الفرق الخامس... 131

البحث الثالث: في أصولية المسألة... 132

البحث الرابع: في عقلية المسألة... 135

البحث الخامس: في عموم البحث لكل أنواع الواجب والحرام... 136

البحث السادس: في أخذ قيد المندوحة... 137

البحث السابع: في عموم النزاع سواء قلنا بأن التكاليف تتعلق بالطبائع أم بالأفراد... 139

البحث الثامن: الملاك في الاجتماع... 141

المرحلة الأولى: في مقام الثبوت... 141

المرحلة الثانية: في مقام الإثبات... 144

ص: 514

البحث التاسع: الحكم في التزاحم الملاكي... 146

البحث العاشر: في ثمرة بحث الاجتماع... 150

البحث الحادي عشر: دليل عدم إمكان الاجتماع... 156

البحث الثاني عشر: أدلة الإمكان... 161

البحث الثالث عشر: في العبادات المكروهة... 167

القسم الأول: العبادة التي لها بدل... 168

القسم الثاني: العبادات المكروهة التي لا بدل لها... 171

القسم الثالث: ما لو كانت الكراهة على عنوان آخر غير العبادة... 174

البحث الرابع عشر: في الاضطرار إلى الحرام... 174

القسم الأول: الاضطرار لا بسوء الاختيار... 175

القسم الثاني: الاضطرار بسوء الاختيار... 176

فصل في التزاحم

المبحث الأول: في شرائط تحقق موضوع التزاحم... 185

المبحث الثاني: في الفرق بين التزاحم والتعارض... 187

الفرق الأول: في مورد التنافي والتصادم... 188

الفرق الثاني: في الحاكم بالترجيح والتخيير... 190

الفرق الثالث: في جهات التقديم... 192

الأول: تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل... 192

الثاني: تقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية... 194

المطلب الأول: في المقصود بهما... 194

المطلب الثاني: في دليل التقديم... 194

المطلب الثالث: في دفع الإشكالات... 196

المطلب الرابع: لو كان المشروط بالقدرة الشرعية أهم... 199

المطلب الخامس: اشتراط العلم بهما... 201

المطلب السادس: في كيفية إحراز كون القدرة عقلية أم شرعية... 202

ص: 515

المطلب السابع: لو كان كلاهما مشروطاً بالقدرة العقلية... 203

الثالث: الترجيح بالأسبق زماناً... 204

فرع: في مثال تزاحم النذر والحج... 208

الرابع: الترجيح بالأهمية أو احتمالها... 210

تتمة: في كيفية إحراز الأهمية... 212

فصل في اقتضاء النهي للفساد

البحث الأول: في أنواع النهي... 215

النوع الأول: النهي الإرشادي... 215

النوع الثاني: النهي التنزيهي... 216

النوع الثالث: النهي التحريمي المولوي... 218

النوع الرابع: النهي الغيري... 219

البحث الثاني: في معنى العبادة والمعاملة... 222

1- أما العبادة... 222

2- وأما المعاملة... 223

البحث الثالث: في كون الصحة من الأمور المجعولة شرعاً أم لا؟... 224

البحث الرابع: في مقتضى الأصل حين الشك في اقتضاء النهي للفساد... 229

البحث الخامس: في أقسام متعلق النهي في العبادة... 232

1- النهي عن نفس العبادة... 234

2- النهي عن جزء العبادة... 234

3- النهي عن شرط العبادة... 237

5/4- النهي عن وصف العبادة... 238

البحث السادس: في إمكان تعلق النهي بالعبادة - ثبوتاً -... 240

البحث السابع: من أدلة فساد العبادة مع النهي عنها... 244

البحث الثامن: حالات المكلّف... 247

البحث التاسع: في النهي عن المعاملة... 249

ص: 516

القسم الأول: النهي عن السبب بذاته... 249

القسم الثاني: النهي عن ذات المسبَّب... 250

الأمر الأول: في إمكان النهي عن المسبَّب... 250

الأمر الثاني: في الأقوال في المسألة... 251

القسم الثالث: النهي عن آثار المسبّب... 255

القسم الرابع: النهي عن التسبيب... 256

تتمة... 257

المقصد الثالث في المفاهيم وفيه مقدمتان وفصول

المقدمة الأولى: في تعريف المفهوم وتمييزه عن المنطوق... 261

المقدمة الثانية: في سبب دلالة الجملة على المفهوم... 264

فصل في مفهوم الشرط

البحث الأول: في المنطوق... 267

البحث الثاني: في كيفية استفادة المفهوم... 270

أما الأمر الأول... 270

وأما الأمر الثاني... 279

البحث الثالث: فيما لا مفهوم له من القضايا الشرطية... 284

البحث الرابع: فيما لو كان الجزاء كلياً له مصاديق... 286

البحث الخامس: لو تعدد الشرط مع اتحاد الجزاء في جملتين... 289

البحث السادس: في تداخل الأسباب والمسببات... 293

المقام الأول: في تداخل الأسباب... 293

المطلب الأول: في أدلة عدم التداخل... 293

المطلب الثاني: في مقتضى الأصل العملي... 296

المطلب الثالث: لو لم يمكن تكرار الجزاء... 298

المطلب الرابع: في مثال التداخل في الوضوء... 299

ص: 517

المطلب الخامس: فيما ذكره فخر المحققين... 302

المقام الثاني: في تداخل المسببات... 304

تتمتان... 306

فصل في مفهوم الوصف

فصل في مفهوم الغاية

المطلب الأول: في دلالتها على المفهوم... 314

المطلب الثاني: في دخول الغاية في حكم المغيى أو خروجها عنه... 317

فصل في مفهوم الاستثناء

البحث الأول: في حكم المستثنى... 319

البحث الثاني: من أدلة الطرفين... 320

البحث الثالث: الاستثناء من النفي أو الإثبات... 321

البحث الرابع: هل الدلالة بالمنطوق أم المفهوم... 322

البحث الخامس: في الدلالة على الحصر بغير أدوات الاستثناء... 323

فصل في مفهوم اللقب والعدد

المقصد الرابع في العام والخاص وفيه فصول

البحث الأول: في تعريف العام... 327

البحث الثاني: في أقسام العموم... 327

المطلب الأول: في أقسام العموم... 327

المطلب الثاني: دوران الأمر بين العموم الاستغراقي أو البدلي... 329

المطلب الثالث: في الأعداد... 330

البحث الثالث: في أدوات العموم... 331

1- فمنها: (كل)... 331

المقام الأول: في وجه دلالة (كل) على العموم... 331

المقام الثاني: في استيعاب الأجزاء والأفراد... 335

ص: 518

2- ومنها: النكرة في سياق النفي أو النهي... 336

المطلب الأول: في الدلالة على العموم... 336

المطلب الثاني: قابلية تخصيص هذا العموم... 338

3- ومنها: الجمع المحلّى باللام... 339

المطلب الأول: دلالته على العموم... 339

المطلب الثاني: في بيان سبب دلالته على العموم... 340

المطلب الثالث: في عموم المدخول أو المراد... 344

فصل في العام المخصَّص

المقام الأول: إنكار المجازية... 346

المقام الثاني: التسليم بالمجازية... 352

فصل في إجمال المخصص

المقام الأول: في الشبهة المفهومية... 355

المقام الثاني: في الشبهة المصداقية... 358

1- أما المتصل... 359

2- وأما المنفصل... 359

المورد الأول: المخصص اللفظي... 359

المورد الثاني: في المخصص اللبي... 368

المقام الثالث: التمسك بالاستصحاب... 372

المطلب الأول: في تنقيح حكم العام... 372

المطلب الثاني: في نفي حكم الخاص... 381

فصل في الدوران بين العام وبين استصحاب حكم المخصص

فصل في دوران الأمر بين التخصيص والتخصص

المطلب الأول: العلم بخروج فردٍ بعينه عن حكم العام... 386

المطلب الثاني: لو تردد الخارج بين فرد العام وفرد غيره... 387

ص: 519

المطلب الثالث: في التمسك بعمومات الأدلة الثانوية... 388

فصل في وجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام

البحث الأول: في أصل وجوب الفحص... 392

البحث الثاني: في مقدار الفحص... 395

فصل في عموم الخطاب للمشافهين وغيرهم

البحث الأول: في تحرير محل الكلام... 396

البحث الثاني: في ثمرة عموم الخطاب أو عدمه... 402

فصل في العام المتعقب بالضمير الراجع إلى بعضه

المطلب الأول: في تحرير محل النزاع:... 405

المطلب الثاني: في علاج التعارض... 406

تتمتان... 409

فصل في تخصيص العام بالمفهوم

البحث الأول: تخصيص العام بمفهوم الموافقة... 411

البحث الثاني: تخصيص العام بمفهوم المخالفة:... 413

تتمتان... 416

فصل في الاستثناء المتعقب لجمل متعددة

البحث الأول: في مرحلة الثبوت... 420

البحث الثاني: في مرحلة الإثبات... 422

البحث الثالث: مقتضى الأصل العملي... 427

فصل في تخصيص القرآن بخبر الواحد

فصل الدوران بين التخصيص والنسخ

تتمة: بحث حول البداء... 440

ص: 520

المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبيّن وفيه فصول

مطالب تمهيدية... 445

المطلب الأول: في تعريفهما... 445

المطلب الثاني: في الإطلاق والتقييد في الجمل التركيبية... 447

المطلب الثالث: في الإطلاق حسب الحالات المختلفة... 448

المطلب الرابع: في التقابل بين الإطلاق والتقييد... 449

فصل في أقسام المطلق

الأول: اسم الجنس... 452

الثاني: عَلَم الجنس... 455

الثالث: المفرد المعرّف بلام الجنس... 458

الرابع: النكرة... 461

فصل في كيفية استفادة الإطلاق

المبحث الأول: في منشأ الإطلاق اللفظي... 465

المبحث الثاني: في مقدمات الحكمة... 468

المقدمة الأولى: كون المتكلّم في مقام البيان... 469

المطلب الأول: في المقصود من (مقام البيان)... 469

المطلب الثاني: البيان من كل الجهات... 472

المطلب الثالث: الأدلة الواردة في بيان أصل التشريع... 474

المطلب الرابع: الحاجة إلى هذه المقدمة... 475

المطلب الخامس: الشك في كون المتكلّم في مقام البيان... 476

الصورة الأولى... 476

الصورة الثانية... 481

المقدمة الثانية: أن لايكون هناك ما يوجب التعيين... 481

المقدمة الثالثة: عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب... 483

المبحث الثالث: في مانعية الانصراف عن التمسك بالإطلاق... 488

ص: 521

المبحث الرابع: تكملة مقدمات الحكمة... 491

المبحث الخامس: نتيجة المقدمات... 492

المبحث السادس: في الإطلاق المقامي... 493

فصل في حمل المطلق على المقيد

الشرط الأول: التنافي بين المطلق والمقيد... 495

الشرط الثاني: وحدة الحكم في المطلق والمقيّد... 499

الشرط الثالث: كون الحكم إلزامياً... 505

الشرط الرابع: كون المطلق بدلياً... 507

فصل في المجمل والمبيّن

فهرست الموضوعات... 511

ص: 522

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.