نبراس الاصول المجلد 1

هویة الکتاب

نبراس الاصول

الجزء الاول

السید جعفر الحسینی الشیرازی

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين إلی يوم الدين

وبعد: فهذا الكتاب هو خلاصة بحوث أ ُلقيت على بعض طلبة العلوم الدينية في علم أصول الفقه، وكان المنهج هو استيعاب أهم الآراء والمناقشات، واختيار ما هو الأقرب في النظر القاصر، مع مراعاة الإيجاز غير المخلّ قدر المستطاع(1).

أسال الله سبحانه التوفيق والسداد، إنه ولي ذلك.

12 / ذي الحجة / 1433

ص: 3


1- كما أن المنهج في هذه البحوث ليس نقل نصّ كلمات الأعلام دائماً، بل روعي النقل بالمعنی أيضاً، وأحياناً نقل توضيح وتلخيص بعض العلماء لكلماتهم، ذلك أنَّ الغرض كان إيصال الفكرة بوضوح.

ص: 4

بحوث تمهيديّة

اشاره

ص: 5

ص: 6

فصل فی تعريف علم الأصول

اشاره

غالب التعريفات هي شرح الاسم - أي تبديل لفظ بلفظ آخر أقرب إلی الذهن - كقولهم (سعدانة نبت)، فلا يشترط انعكاسها واطرادها.

وقد ذكر صاحب الكفاية - في بحث الاجتهاد والتقليد(1)

- أن التعاريف الحقيقية لايعلمها إلاّ الله تعالی.

وكلامه يستلزم عدم وجود حدّ حقيقي.

ويمكن أن يقال: إنَّ ذلك صحيح بالنسبة إلی الوجودات الخارجية التي لم يصنعها الإنسان، وأما ما اخترعه فيمکنه بيان حدّها بشكل كامل، لمعرفته بحقيقتها، مثل الصناعات ونحوها.

وعليه فيمکن تعريف العلوم التي أنتجتها الأذهان البشرية، ولذا كان دأبهم تعريف العلوم والنقض والابرام فيها.

نعم قد لايکون البحث عن الحد التام مفيداً، ولذا أعرض البعض عن التعريفات لعدم ترتب فائدة عملية عليها.

ولو فرض عدم إمكان التعريف بالحدّ، وكون الحدود هي شرح الاسم، فالأولی التعريف بالأقرب فالأقرب، لتتضح الصورة أكثر.

ص: 7


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 338-339.

وأما علم الأصول - ليكون ضابطة للمسائل الأصولية - فقد عُرّف بتعريفات متعددة، منها:

التعریف الأول

«إنه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية» أي: ما كانت واسطة في الاستنباط في كبری الاستدلال.

وأورد عليه بأمور:

الإشكال الأول: الأصول هو نفس القواعد، تارة يعلمها وتارة يجهلها، بشهادة صحة إضافة العلم والجهل، يقال عالم بالأصول وجاهل به(1).

ولعلّه لذلك بدّل المحقق الخراساني(2) العلم إلی صناعة يعرف بها... الخ، أي ليس مجرد إدراك، بل هو فن فوق العلم، كالصياغة والنجارة. فالصناعة يراد بها الملكة.

ولكن لازم ذلك عدم كون نفس القواعد من علم الأصول، فلا تكون هذه الكتب من الأصول بل مقدمة له، لأنها مقدمة لحصول الملكة.

وفي الحقائق توجيهه بقوله: ولعل الباعث علی ذكر (العلم) في التعريف كونه منشأ الأثر في الفنون دون نفس المعلوم، والمصحح لهذا الاستعمال وحدة العلم والمعلوم وإن اختلفا اعتباراً(3).

ولعل مراده أن المعلوم بوجوده الذهني هو العلم، لأن الصورة الذهنية

ص: 8


1- نهاية الأفكار 1: 12.
2- إيضاح كفاية الأصول 1: 22.
3- حقائق الأصول 1: 15.

هي المعلوم وهي العلم.

ويمكن القول بأن حقيقة العلم مجهولة لنا، قيل: هو نور يكون به الكشف، ولذا مع الغفلة يكون انعكاس للصورة في الذهن مع عدم الإدراك. فتأمل.

الإشكال الثاني: عدم شموله لبحث الأصول العملية، ولا الأمارات، لأنها لا تُثبت الحكم الشرعي الواقعي بل إما جعل حكم ظاهري أو تنجيز وإعذار، ولا الظن علی الانسداد علی الحكومة.

أما الأول - أي الأصول العملية - : فبعضها لا يستنبط بها أحكام شرعية، بل هي وظائف تنجيزاً وتعذيراً، كالأصول العقلية.

وبعضها أحكام شرعيّة، كأصالة الحل، لکنها ليست أحكاماً بناءً على إنكار الحكم الظاهري، وعلی إثباته هي بنفسها حكم شرعي، لا أنه يستنبط منها حكم شرعي.

إن قلت: إنها تقع في كبری الاستنباط، فيقال: هذا مشكوك الحل، وكل مشكوك الحل حلال، فهذا حلال.

قلت: النتيجة هي نفس القاعدة، لكن كان تطبيقها علی فرد جزئي. وبعبارة أخری: هي واسطة في التطبيق لا في الاستنباط.

أما الثاني - الأمارات - : فقد يقال: إنها لا تثبت الحكم الشرعي، بل إما جعل حكم ظاهري أو تنجيز وإعذار.

ص: 9

وأجاب المحقق العراقي(1):

نحن نقول بمتمم الكشف. لأنها تقع وسطاً في القياس، هكذا: إن هذا مما قام علی وجوبه خبر الواحد، وكل ما كان كذلك فهو منكشف - بحكم الشارع بكونه كاشفا - ، فهذا منكشف.

أقول: لعله يشير إلی أنه علم تنزيلي، فيكون كاشفاً عن الواقع كالعلم.

وأجاب المحقق الإصفهاني(2):

بأن علم الأصول ما يُبحث فيه عن القواعد الممهدة لتحصيل الحجة علی الحكم الشرعي، بلا حاجة إلی إحراز الحكم الشرعي الواقعي.

وفيه: أنه في الحقيقة إرجاع له إلی الوظيفة العلمية، أي إن الوظيفة هي هكذا، وهذا في الحقيقة ليس استنباطاً للحكم الشرعي، إذ هو ليس حجة علی الحكم الشرعي، بل ابراء الذمة.

وقال المحقق النائيني(3):

إنّه إذا أريد من الحكم الماخوذ في التعریف الأعم من الواقعي والظاهري، فمباحث الأصول العملية تدخل في المسائل التي يستنبط منها الحكم الشرعي.

ويرد عليه: أنه ليس استنباطاً للحكم الظاهري بل جعل له، فتامل.

وقيل: إن الحكم الظاهري في موارد الأصول العملية هو نفس القاعدة الأصولية وليس مستنبطاً منها.

وقيل: إن أخذهم (العلم) في تعريفه يكشف عن أن مرادهم بالأحكام

ص: 10


1- نهاية الأفكار 1: 20.
2- نهاية الدراية 1: 42.
3- أجود التقريرات 1: 6.

الأعم من الظاهرية والواقعية، لا خصوص الواقعية، وإلاّ لم يكن لأخذ قيد العلم وجه أصلاً، إذ الأحكام الواقعية لا تكون معلومة غالباً في الفقه.

أما الثالث - أي الانسداد علی الحكومة - : فإنه لا يتوصل بنتيجة هذه المسألة إلی حكم شرعي، سواء أريد من الظن علی الحكومة:

1- حكم العقل بجواز التبعيض في الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظني، وهذا ليس حكماً شرعياً، لأن حكم العقل لا يرتبط باستنباط الحكم الشرعي بل بإفراغ الذمة.

2- أم قلنا بأن العقل يری حجية الظن، وهذا لا يوجب سوی التنجيز والتعذير.

توضيح الأول: أن الواقع يتنجز بالعلم الإجمالي المستلزم للإتيان بجميع المحتملات حتى الموهومات، لكن مقدمات الانسداد تبيّن عدم لزوم الاتيان بالموهومات - أو هي والمشكوكات - ، فلا دلالة لها علی حجية الظن. بل الاتيان بخصوص المظنونات ينتج من ضمّ العلم الإجمالي ومنجزيته إلی حكم العقل بعدم لزوم الإتيان بالموهومات والمشكوكات.

إذن ليست نتيجة المسألة حجية الظن أصلاً.

الإشكال الثالث: شمول التعريف للقواعد الفقهية، كقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، وقاعدة الطهارة، فإنها قواعد ممهدة يستنبط منها الحكم الشرعي.

ولمعرفة صحة الإشكال من عدمه لابدّ من تعريف القواعد الفقهية وبيان الفرق بينها وبين الأصول، ثم البحث عن أن هذا الإشكال وارد أم لا.

ص: 11

وقد ذكرت عدة فروق، نذكر بعضها:

الفرق الأول: إن القواعد الفقهية خاصة بالشبهات الموضوعية، ولا تجري في الشبهات الحكمية، أما المسائل الأصولية فهي تجري في الحكمية دون الموضوعية.

وفيه: أولاً: جريان بعض القواعد الفقهية في الأحكام الكلّية.

مثلاً: قاعدة لا ضرر، تنفي الضمان الكلّي في الموارد التي لا نص فيها علی الضمان. وكذا تنفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر نوعاً، من غير أن تصل النوبة إلی البراءة ونحوها.

وثانياً: أكثر القواعد الفقهية توصلنا إلی أحكام جزئية، كوجوب الصلاة والضمان(1).

فلابد من إضافة قيد الكلّية في المسائل الأصولية، مع إدخال ما يتوصل به إلی الأحكام الجزئية في القواعد الفقهية.

وثالثاً: بعض المسائل الأصولية تجري في الشبهات الموضوعية الكلية، كالاستصحاب في الشبهات الموضوعية.

الفرق الثاني: إن القاعدة الفقهية قابلة لإلقائها علی العامي كي يطبقها علی جزئياتها، دون المسائل الأصولية فهي بيد المجتهد خاصة، ففي القاعدة الفقهية يذكر في الموضوع تمام قيود الحكم الواقعي فيلقی إليه(2).

مثلاً: قاعدة الفراغ والتجاوز، وقاعدة اليد، وقاعدة ما يضمن، هي من

ص: 12


1- منتقی الأصول 1: 32.
2- أجود التقريرات 1: 7.

القواعد الفقهية، فهي أحكام كلّية تلقی إلی المكلف، وهو الذي يضمّ صغرياتها إليها، فينتج حكماً جزئياً شخصياً.

أما المسائل الأصولية فهي بيد المجتهد، فإنه يستخرج منها الأحكام الكلّية ثم يُلقي تلك الأحكام إلی المكلفين ليطبقوها علی جزئياتها.

مثلاً: يَستخرج من مسألة حجية خبر الواحد كثيراً من الواجبات الكلّية، ويبيّن للمقلد الوجوب، ففي كلّ مورد جزئي يتحقق الموضوع يعرف المقلد الوجوب.

وفيه: أولاً: النقض...

أ) بقاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية، فهي من وظيفة المجتهد خاصة حيث يطبقها علی مواردها، وذلك لاشتراطها بالفحص، ولا يتأتی ذلك من العامي.

ب) وبالشرط المخالف للكتاب والسنة، فتطبيقها بيد المجتهد خاصة، وذلك لتوقفها علی معرفة الكتاب والسنة، ليميّز كون الشرط مخالفاً أم لا(1).

ج) وبقاعدة من بلغ، بناءً علی دلالتها علی الاستحباب.

وثانياً: رُبَّ مسألة فقهية جزئية في الشبهات الموضوعيّة لا يمكن إلقائها إلی العامي.

مثلاً: لو علم بنقصان ركعة من إحدى الصلاتين - الظهر أو العصر - وهذه من فروع مسألة العلم الإجمالي في الشبهات الموضوعية.

الفرق الثالث: المسائل الأصولية تجري في مختلف أبواب الفقه،

ص: 13


1- نهاية الأفكار 1: 21.

بخلاف القواعد الفقهية فهي خاصة ببعض الأبواب دون بعض.

وبذلك تخرج مثل قاعدة الطهارة عن التعریف المذكور، وتدخل في مسائل الفقه، بلحاظ عدم سريانها في جميع أبواب الفقه.

إن قلت: إن قاعدة لا ضرر ولا حرج غير مختصة بباب دون باب.

أجاب المحقق العراقي(1): بأن القاعدتين لا تنتجان حكماً كلّياً، إلاّ في ظرف جريانهما في مقدار الفحص من الطرق أو في موارد التبعيض في الإحتياط في الشبهات الحكمية، فالقاعدتان لا تنتجان حكماً كلّياً، وإنّما إنتاجهما له أيضاً من جهة خصوصية في المورد، فتدبر.

وفيه: أولاً: أنه تسليم بالإشكال، ولكن مع إخراج القواعد الفقهية بفرق آخر.

وثانياً: أنه تسليم بأن بعض القواعد الفقهية تكون كلّية، ولكن مع بيان سبب كليّتها - وهو خصوصية المورد - ، فتأمل.

الفرق الرابع: إن القواعد الفقهية هي أحكام فقهية كلّية تطبق علی مواردها ولا يستنبط منها حكم شرعي، نعم قد يکون تطبيقها بحاجة إلی خبروية(2). عكس المسائل الأصولية فإنها يستنبط منها الحكم الفقهي.

وأشكل عليه(3): بأن ذلك يستلزم أن يکون التمييز بين الأصولية والفقهية إنّما يرتبط بكيفية صياغة المسألة مع كون الروح واحدة، مثلاً مسألة اقتضاء

ص: 14


1- مقالات الأصول 1: 55.
2- نهاية الدراية 1: 43.
3- بحوث في علم الأصول 1: 22.

النهي عن العبادة للفساد:

أ) يمكن طرحها أصولياً: فيقال هل النهي عن العبادة يقتضي الفساد أم لا؟ وذلك لأن البطلان مستنبط من الاقتضاء.

ب) ويمكن طرحها فقهياً: فيقال العبادة المنهي عنها باطلة أم لا؟ وذلك لأن بطلان كل عبادة محرمة يکون تطبيقاً.

وفيه: أن ذلك يرتبط بالغرض من طرح المسألة، ولذا قد تكون مسألة واحدة داخلة في عدة علوم بتعلق غرض تلك العلوم بها، مثل مسألة التجري حيث يمكن طرحها أصولياً وفقهياً وكلامياً باعتبار الأغراض المختلفة، فليس مجرد صياغة ألفاظ.

الفرق الخامس: إن المستنتَج من المسائل الأصولية لا يکون إلاّ حكماً كلّياً، بخلاف المستنتَج من القاعدة الفقهية، فإنه يکون حكماً جزئياً وإن صلحت في بعض الموارد لاستنتاج الحكم الكلّي أيضاً، إلاّ أن صلاحيتها لاستنتاج الحكم الجزئي هو المائز بينها وبين المسائل الأصولية(1).

وهذا هو الأقرب.

الإشكال الرابع: علی تعريف المشهور: عدم طرده، وذلك لدخول علم الرجال في هذا التعريف.

والجواب: أولاً: إمكان القول بأن كليات علم الرجال داخلة في الأصول، لأنها قواعد كلية يستنبط منها حكم شرعي، مثل وثاقة مشايخ الثلاثة، ودلالة الترضي علی الوثاقة، وأما الجزئيات - وهي عمدة علم

ص: 15


1- فوائد الأصول 1: 19.

الرجال من التوثيق والتضعيف - فهي ليست قواعد.

وفيه: أن إثبات وثاقة زرارة مثلاً ينتج منه حكم كلّي، وهو حجية ما يرويه زرارة، وهذا حكم كلّي تُستنبط منه أحکامٌ فقهية في مختلف الأبواب.

وثانياً: إن علم الأصول هو العلم بالكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها استنتج منها حكم فرعي كلّي، فعلم الأصول هو الجزء الأخير من الاستنباط، وأما سائر العلوم فهي مقدمات، مثلاً نحتاج في الاستنباط إلی معرفة معاني الألفاظ عبر اللغة، ثم أبنية الكلمات ومحلّها من الإعراب عبر النحو والصرف، ثم سلسلة سند الخبر عبر الرجال، ثم حجية الخبر عبر الأصول(1).

فخرج علم الرجال لأنّ الكبری هي (حجية خبر الثقة)، والصغری هي (حجية خبر زرارة).

وأشكل عليه(2): بأن هذا الكلام يستلزم خروج جملة من البحوث الأصولية - سواء اللفظية أم العقلية - :

1- مثال اللفظية، الكبری: حجية الظهور، والصغری: دلالة الأمر علی الوجوب، والنهي علی الحرمة... الخ.

وأجيب عنه: بأن حجية الظهور ليست مسألة أصولية بل هي من المسلّمات.

ص: 16


1- فوائد الأصول 1: 18.
2- بحوث في علم الأصول 1: 27.

وفيه: أن كيفية الإثبات لا يوجب الدخول أو الخروج عن الأصول، بل لو انطبق التعريف عليها دخلت وإلاّ خرجت، سواء كانت من المسلّمات أم لا.

2- مثال العقلية، الكبری: قواعد التعارض، والصغری: مسألة اجتماع الأمر والنهي، ومسألة اقتضاء الأمر للنهي عن الضد.

وثالثاً: إن المدار في المسألة الأصولية: علی وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي بنحو يکون ناظراً إلی إثبات الحكم بنفسه أو بكيفية تعلقه بموضوعه، أما لو كان ناظراً إلی الموضوع فقط فليس من المسائل الأصولية، ومسائل علم الرجال واقعة في طريق استنباط الموضوع لا نفس الحكم ولا لكيفية تعلقه بموضوعه، بل شأنه إثبات موضوع الحكم محضاً من كون السند موثوقاً به كي تشمله أدلة التعبد به(1).

ومن أمثلة ذلك توضيحاً:

1- مباحث العام والخاص والمطلق والمقيد، نتيجتها ليست استنباط ذات الحكم، ولكن من المعلوم أنه يستفاد منها كيفية تعلق الحكم بموضوعه أي هل بكل الأفراد أم بعضها.

2- مباحث المفاهيم وضعت لبيان سنخ إناطة الحكم بشئ، فهو من أنحاء وجود الحكم وثبوته.

بخلاف البحوث الأدبية، فإنها تنظر إلی الموضوع بنظرة مجردة عن الحكم، وكذا البحوث اللغوية كمعنی الصعيد لا نظر له إلی الحكم أصلاً ولا بكيفية تعلق الحكم بالموضوع.

ص: 17


1- مقالات الأصول 1: 54.

وبعبارة أخری(1): إن مسائل الرجال وأدلته، لا تكوّن لدی الفقيه أدلة علی الجعل الشرعي الكلّي، فوثاقة الراوي يحتاج إليها الفقيه باعتبارها موضوعاً لدليلية الدليل، حيث إن دليلية الخبر منوطة بوثاقة المخبر، والدليل هو نفس الخبر.

وأما أدلة الرجالي فهي أدلة علی تلك الوثاقة لا علی الجعل الشرعي الكلّي.

ورابعاً: لو عجزنا عن إخراج علم الرجال عن علم الأصول يمكن الالتزام بأن علم الرجال هو من مباحث الأصول، وإنّما أفردوه بالبحث في علم مستقل لكثرة مسائله وتشعبها(2).

الإشكال الخامس: أن مرادكم من «الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية»...(3).

أ) إن كان بلا واسطة، فيلزم خروج مباحث الألفاظ طراً - التي شأنها إثبات الوضع والظهور - مثل مبحث الأوامر والنواهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمفهوم والمنطوق، لأن نتيجتها ليست إلاّ تعيين الظهور كظهور هيأة الأمر في الوجوب، وهذا لا يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بتشكيل قياس واحد، بل يحتاج إلی قياسين لانتاج الحكم الشرعي، يکون نتيجه أحدهما صغری لكبری القياس الآخر، فيقال - مثلاً - :

ص: 18


1- بحوث في علم الأصول 1: 34.
2- نهاية الأفكار 1: 23.
3- نهاية الأفكار 1: 21؛ مقالات الأصول 1: 54.

هذا أمر، وكل أمر ظاهر في الوجوب، فهذا ظاهر في الوجوب.

أو هذا ظاهر في الوجوب، وكل ظاهر يجب التعبد به والعمل علی طبقه بمقتضی ما دلّ علی وجوب الأخذ بكل ظاهر، فهذا يجب التعبد به والعمل علی طبقه.

نعم: مثل مسألة حجية الخبر الواحد، لا تحتاج إلاّ إلی قياس واحد، فيقال: هذا مما أخبر العادل بوجوبه، وكل ما كان كذلك يجب التعبد بمضمونه، فهذا يجب التعبد بمضمونه.

ب) وإن كان مع الواسطة، فيلزم دخول مسائل كثيرة من العلوم الأدبية كالنحو والصرف في المسائل الأصولية، باعتبار وقوع نتيجتها - بالأخرة - في طريق الاستنباط.

والجواب: باختيار الشق الأول، ولدفع الإشكال يقال:

أولاً: المقصود ليس وقوعه دائماً بلا واسطة، بل يکفي في أصولية المسألة وقوعه أحياناً بلا واسطة، بخلاف سائر العلوم فإنها لا تقع في طريق الاستنباط بلا واسطة أصلاً(1).

وفيه: أن غالب مباحث الألفاظ لا تقع بلا واسطة أصلاً، كما في مثال دلالة الأمر علی الوجوب.

وثانياً: إن المسائل اللفظية يترتب الحكم عليها بواسطة حجية الظهور، إلاّ أنها حيث كانت من الجلاء والتسليم - بحيث يری أن الحكم يترتب بمجرد تنقيح موضوعها وهو أصل الظهور - ، لم تُخِلَّ واسطتها الارتكازية

ص: 19


1- فوائد الأصول 1: 19.

في أصولية هذه المسائل، بل بمجرد إثبات الظهور تترتّب النتيجة(1).

وثالثاً(2): المهم في العلوم الأدبية ليس إثبات الظهور للكلمة والكلام.

وعلی فرض كون المقصود هو إحراز الظهور، فإن غاية ما يقتضيه ذلك هو وقوع نتيجتها في طريق استنباط موضوعات الأحكام، لا في طريق استنباط نفس الأحكام.

إن قلت: هذا يستلزم خروج مثل مباحث العام والخاص - مثلاً - .

قلت: إن هذه المباحث تتكفل بإثبات كيفية تعلّق الحكم بموضوعه، وهذا في الحقيقة من أنحاء وجود الحكم وثبوته، فلذا خرج بحث المشتق عن الأصول، لأنه يتكفل إحراز موضوع الحكم وأنه خصوص المتلبس بالفعل أم الأعم، ولا يتكفل بالبحث عن الحكم بذاته، ولا بكيفية تعلقه بموضوعه.

إلی هنا ننتهي من تعريف المشهور، وهو تعريف لا بأس به مع إجراء بعض التعديلات عليه.

التعریف الثاني

ذكر في المنتقی(3) ضابطاً لأصولية المسألة وحاصله:

المسألة التي ترفع التردد والتحيّر الحاصل للمكلف من احتمال الحكم:

1- وذلك لأن المكلف إذا إلتفت إلی شيء بلحاظ حكمه، فقد يحتمل

ص: 20


1- منتقی الأصول 1: 35.
2- نهاية الأفكار 1: 22.
3- منتقی الأصول 1: 29.

وجوبه أو يحتمل حرمته أو سائر الأحكام.

2- ومن هذا الاحتمال ينشأ في نفسه التردد، والعجز بالنسبة إلی العمل، فهل يفعل أو لا... الخ.

3- والمسألة الأصولية ترفع هذا التحيّر - سواء كانت واقعة في طريق الاستنباط أم لا - وهي علی أقسام:

أ) ما أوجب العلم منها - كالملازمات العقلية - فيرتفع التردد بارتفاع منشأه تكويناً.

ب) الأمارات غير العلمية، فنتيجة حجيتها هو تنجيز الواقع بها أو التعذير عنه، فارتفع التحيّر بذلك.

ج) الأصول العملية العقلية، ومفادها التعذير والتنجيز، فارتفع التحيّر أيضاً.

د) الأصول العملية الشرعية: فهي ترفع التحير علی جميع المبانی فيها.

ه-) وكذا الظن الانسدادي علی الحكومة.

والحاصل: إن لنا (واقع الحكم) و(رافع التحيّر). فواقع الحكم - الذي تتكفل به القواعد الفقهية والمسائل الفقهية - لا يرفع التحيّر، بل الذی يرفعه دليله وهو مسألة أصولية.

ويرد عليه: النقض بقاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية، فإنها رافعة للتحيّر والتردد من غير بيان الحكم الواقعي للمورد المحتمل، وكذا النقض بفتوى الفقيه، هذا مضافاً إلى دخول جميع الأدلة الجزئية في التعريف، فتأمل.

ص: 21

التعریف الثالث

تعريف صاحب الكفاية(1): بأن الأصول: صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي ينتهی إليها في مقام العمل، بناءً علی أن مسألة حجية الظن علی الحكومة ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية من الأصول.

وقد مرت بعض الإشكالات في طي المباحث الماضية.

ولنذكر إشكالين آخرين ذكرهما المحقق الإصفهاني(2):

الإشکال الأول: لزوم فرض غرض جامع بين الغرضين، لئلا يکون فن الأصول فنّين.

وتوضيحه: أن تمايز العلوم - عند صاحب الكفاية - بالأغراض، فإذا كان الغرض: الاستنباط والإنتهاء في مقام العمل، صار علم الأصول علمين.

وأجاب عنه في المنتقی(3): بتصوير غرض خارجي جامع بين الغرضين، ويترتب علی جميع مسائل علم الأصول، وهو ارتفاع التردد والتحيّر للمكلف من احتمال الحكم.

وفيه: أن الكلام في تصوير صاحب الكفاية، لا في تعريف غيره.

الإشکال الثاني: إن الانتهاء في مقام العمل:

أ) إما يُقيد بالفحص واليأس، فيلزم خروج الأمارات، إذ في الرجوع إليها

ص: 22


1- إيضاح كفاية الأصول 1: 22.
2- نهاية الدراية 1: 42.
3- منتقی الأصول 1: 27.

لا يشترط الفحص واليأس، لأن الفحص شرط في الأصول العملية.

ب) وإما لا يقيد بهما، فيلزم دخول جميع القواعد العامة الفقهية، فإنها المرجع في جزئياتها، أي هي مما ينتهي إليها المجتهد في مقام العمل والتطبيق.

والجواب: أن الأمارات داخلة في الصدر، فلا ضير في خروجها عن الذيل، فالأصول العملية هي التي ينتهی إليها في مقام العمل، واشتراطها بالفحص مستفاد من الأدلة ويُشعر به قوله «أو التي ينتهی...» الخ.

اللهم إلاّ أن يقال بأن المراد من الاستنباط إن كان احراز الحكم الشرعي، خرجت الأمارات عن الصدر أيضاً، لأنه - وعلی رأي صاحب الكفاية - المجعول فيها إما المنجزية والمعذرية، أو الحكم المماثل، وهي بكلا الوجهين لا تقع في طريق الاستنباط(1).

نعم لو كان المراد من الاستنباط تحصيل الحجة علی الواقع - ويکون ذلك عن طريق اعتبار الأمارات كاشفة عن الواقع - فحينئذٍ تدخل الأمارات في الصدر.

التعریف الرابع

تعريف المحقق العراقي(2): إن القواعد الخاصة التي تعمل في استخراج الأحكام الكلّية الإلهية، أو الوظائف العملية الفعلية - عقلية أو شرعية - ، ولو بجعل نتيجتها كبری القياس في استنتاج:

ص: 23


1- منتقی الأصول 1: 27.
2- نهاية الأفكار 1: 20.

أ) إما الحكم الشرعي الواقعي، مثل: هذا ما أخبر العادل بوجوبه، وكلما كان كذلك فهو واجب واقعاً، وهذا علی مبنی الكشف.

ب) أو الحكم الشرعي الظاهري، مثل: هذا مما تيقن سابقاً بوجوبه وشك لاحقاً، وكلما كان كذلك فهو واجب ظاهراً.

ج) أو الحكم العقلي، مثل: هذا مما لم يرد عليه بيان، وكلما كان كذلك فلا حرج فيه أو يجب الاحتياط فيه أو يتخيّر... الخ.

وحيث إن بعض القواعد الفقهية داخلة في التعريف، قال: لابد من إضافة قيد (عدم اختصاصها بباب دون باب من أبواب الفقه).

وفيه: أولاً: إنّ الأصول قواعد يستخرج منها الأحكام الفقهية، فقد تكون أحكاماً جزئية، فقوله (الكلّية) محل تأمل.

وثانياً: قوله (ولو بجعل...) لم يتضح المقصود منه، بل يلزم أن تقع النتيجة في كبری القياس - كما مرّ - .

هذا مضافاً إلى أنه عبارة أخری عن تعريف المحقق الخراساني مع تبديل الألفاظ، فتأمل.

وهناك تعريفات أخری متقاربة مضموناً، وقد يکون عليها إشكالات، فراجع المفصّلات.

ص: 24

فصل في الوضع

البحث الأول: في معنى الوضع

علاقة اللفظ بالمعنی علاقة سببيّة - أي اللفظ سبب لوجود المعنی في الذهن - فكيف حصلت هذه العلاقة؟

في ذلک أقوال ثلاثة:

الأول: إنها دلالة ذاتية لا تنالها يد الجعل.

الثاني: إنها دلالة إعتبارية بسبب جعل الجاعل - وهو الواضع - .

الثالث: إنها حالة متوسطة بينهما.

أما القول الأول:

فواضح الإشكال، لاختلاف اللغات، ولو كانت ذاتية لما اختلفت، ولذا كانت اللغة ترتبط بالإكتساب وبالتعلم، مع عدم وجود أية أمور ذاتية فيها.

كما أن الاختلاف في اللغات ليس في تخطئة كل أهل لغة لغيرهم ممن لهم لغة أخری، بل يرجع اختلافهم إلی الجعل والاعتبار.

وبعبارة أخری - كما في المنتقی(1) - : الأمور الجعليّة تختلف باختلاف الأنظار، دون الأمور الواقعيّة الحقيقية، فإنها لا تختلف باختلاف الأنظار،

ص: 25


1- منتقی الأصول 1: 45.

وإن اختلفت فيها الأنظار.

وأما القول الثالث:

1- فهو الذي يظهر من المحقق العراقي(1) وحاصله:

أ) الوضع أمر إعتباري - وهو جعل الملازمة بين اللفظ والمعنی - .

ب) إنه تنشأ من هذه الملازمة الاعتبارية، ملازمة حقيقية، وهذه النقطة هي الفرق بين الوضع وغيره من الإعتبارات.

ج) إن المجعول مقيد بصورة العلم بالجعل.

وأشكل عليه: بأن الملازمة باعتبار اشتراطها بالعلم بالوضع تكون متأخرة عنه، فلا يعقل أن يکون الوضع هو نفس هذه الملازمة، وإلا يلزم تأخر الشيء عن نفسه(2).

والجواب: هو ما يظهر من خلال كلام المحقق العراقي، وقرره في المنتقی(3): بأن الجاعل يجعل الملازمة بين اللفظ والمعنی في صورة العلم بهذا الجعل، بنحو يکون العلم قيداً للمجعول، لا قيداً للجعل، وأخذ (العلم بالجعل) قيداً (للمجعول) أمر ممكن.

2- كما قد يظهر من المحقق النائيني حيث قال(4): إن اختصاص لفظ بمعنی لابد أن يکون لجهة إقتضت إختصاصه به ليخرج عن الترجيح بلا

ص: 26


1- نهاية الأفكار 1: 26؛ مقالات الأصول 1: 61؛ منتقی الأصول 1: 48.
2- بحوث في علم الأصول 1: 73.
3- منتقی الأصول 1: 48.
4- فوائد الأصول 1: 30.

مرجح، ولا يشترط أن تكون تلك الجهة راجعة إلی ذات اللفظ - حتی تكون دلالة الألفاظ علی معانيها ذاتية - بل لابد من جهة خارجة عن الذات.

ويرد عليه:

أولاً: إن المرجح موجود، ولعله انسباق تلك الكلمة إلی الذهن حين تصور المعنی وإرادة وضع لفظ له(1).

وثانياً: إن المرجح هو الإرادة، بعد كون المصلحة في الكلي الطبيعي للَّفظ، فيکون اختيار بعض الألفاظ دون بعض بترجيح الإرادة لها، وهذا نظير طريقي الهارب ورغيفي الجائع، ومرجع هذا إلی أنه ترجيح مع المرجح، وهي الإرادة.

فلا يکون من الترجيح بلا مرجح الذي هو محال، لرجوعه إلی الترجّح بلا مرجح، لأنه مساوق لوجود معلول بلا علة، وذلك لأنه مع وجود الإرادة خرج موضوعاً عن الترجيح بلا مرجح.

وثالثاً: النقض بوضع الأعلام الشخصيّة.

وأما القول الثاني:

وهو كون الوضع دلالة إعتبارية بسبب جعل الجاعل، حيث لا يمكن إيجاد سببيّة بين شيئين بمجرد الإعتبار، فإن السببية صفة ذاتية للسبب الحقيقي، فلا يمكن جعلها تكويناً لشيء لا يکون سبباً، فضلاً عن وضعها تشريعاً واعتباراً، بل الواضع يقوم بعمل تمهيدي يترتب عليه قيام السببيّة بين

ص: 27


1- نهاية الأفكار 1: 25.

اللفظ والمعنی(1).

وذلك لأن الاعتبار علی قسمين(2):

1- أن يکون من الأمور التسبيبيّة، كالبيع، فإنه سبب لاعتبار الشارع أو العقلاء للملكية.

2- أن يکون من الأمور المباشرية، كالوضع، فإنه ليس سبباً لاعتبارهم، نعم قد يتوقف أثره علی إمضائهم أو مشاركتهم له فيه.

إذن: فالسؤال: ما هو العمل الذي قام به الواضع؟ فيه آراء:

الرأي الأول: العَلامة

كما ذهب إليه المحقق الإصفهاني(3): بأن اللفظ وضع علی المعنی، ليکون علامة عليه، مثل العَلَم المنصوب علی رأس الفرسخ، فدلالة اللفظ علی معناه كدلالة إشارات المرور ونحوها.

نعم الفرق بين اللفظ وبين سائر العلامات - وهو غير فارق - أن الوضع فيها حقيقي بوضع العلاقة تكويناً، والوضع في اللفظ اعتباري - لأنه أمر ذهني - .

وأشكل عليه: أولاً: إن هذه من المعاني الدقيقة التي لا يلتفت إليها العرف في أوضاعهم، مع أن وضع اللفظ علی المعنی هو من الأمور العرفيّة.

وفيه: أن الوضع من الأمور الارتكازية في العرف، والنزاع إنّما هو في

ص: 28


1- بحوث في علم الأصول 1: 74.
2- نهاية الدراية 1: 46-47.
3- نهاية الدراية 1: 47.

تفسير ذلك المعنی والكشف عنه، وتحديده بنحو جامع ومانع، والدقة في هذا المقام لا في نفس المعنی(1).

وثانياً: إن هناك فرقاً آخر بين الوضع في الألفاظ وبين الوضع في سائر الدلالات - غير کون الوضع حقيقي أو اعتباري - ، وهو أنه في مثل العَلم يکون كاشفاً عن شيء - وهو كون المكان رأس فرسخ - ، بخلاف الوضع فإن (الموضوع عليه) و(المنكشف) هو المعنی بنفسه(2)، وبيانه: بأن الدلالة في العَلم هي دلالة تصديقية، في حين أن الدلالة في الألفاظ تصورية.

أقول: وهذا أيضاً إشكال لفظي لأن الفرق غير فارق.

وثالثاً: إن الوضع التكويني لا يقتضي دلالة (الموضوع) علی (الموضوع له) بنفسه، فوضع العَلم - مثلاً - لا يکفي للدلالة ما لم يكن بناء علی أن لا يوضع العَلم إلاّ لذلك.

وبعبارة أخری: إن تحقق الدلالة إنّما هو بالبناء في كليهما، أي يقرر الواضع دلالة العَلم علی رأس الفرسخ، ودلالة اللفظ علی ذلك المعنی، وإلا فمجرد وضع العَلم لا يدل علی أنه رأس الفرسخ من غير بناء سابق، وكذا مجرد وضع اللفظ علی معنی لا يُحقق دلالته عليه، ما لم يكن هنالك بناء علی عدم وضع العَلم إلاّ للدلالة علی الفرسخ، وعدم وضع اللفظ إلاّ للدلالة علی المعنی.

ومن هذا يظهر أن قوله بأن «الوضع في سائر العلامات حقيقي وفي

ص: 29


1- منتقی الأصول 1: 55-56.
2- منتقی الأصول 1: 56.

الألفاظ اعتباري» محل تأمل.

لأن (البناء) ليس إلاّ أمراً اعتبارياً في كليهما، والمبرز لهذا البناء هو أمر تكويني ويکون باتخاذ القرار باللفظ أو الكتابة أو نحو ذلك، وأما وضع العلم خارجاً فهذا يرتبط بالاستعمال، كالنطق باللفظ.

وفيه: بأنه في جعل شيء علامة لشيء آخر ثلاث مراحل، والعَلاميّة هي المرحلة المتوسطة، وتلك المراحل هي: 1- تصور ذي العلامة والعلامة.

2- اتخاذ القرار المعلن بأن هذا علامة لذاك. 3- استعمال العَلامة، والوضع هو المرحلة الثانية، وأما الثالثة فهي مرحلة الاستعمال، والحاصل: إن الوضع ليس مجرد البناء بل إظهاره ليكون اللفظ علامة للمعنى متى ما استعمل فيه.

والحاصل: إن الأقرب هو أن الوضع جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى بحيث يصبح اللفظ علامة على المعنى، وهذه العَلاميّة لازمة للوضع لا أنها حقيقته، فتأمل.

الرأي الثاني: التنزيل

أي اعتبار اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنی، ولا بأس ببيان أقسام التنزيل ليتضح المراد، فنقول: إن التنزيل قسمان:

1- أن يکون بمعنی الاعتبار، أي يکون فرضاً، مع وجود أثر عقلائي أو شرعي لذلك الفرض، وهذا عكس الخيال، فإنه فرض من غير أثر عقلائي أو شرعي.

ومثاله: فرض الجاهل عالماً، ثم ترتيب آثار العالم عليه، وفرض عدم النسب في ولد الزنا فيترتب عليه عدم إرثه.

ص: 30

2- أن يکون أمراً واقعياً انتزاعياً، فيکون (المنزَّل) بديلاً عن (المنزَّل عليه) في ترتيب آثاره التكوينية أو غيرها، وهذا ليس أمراً جعلياً، لكنه قد ينشأ من أمر جعلي.

ومثاله: كون التيمم بدلاً عن الوضوء، فنفس البدلية أمر واقعي، وإن كان منشؤها اعتبار ترتب الأثر علی البدل.

إذا اتضح ذلك، نقول: إن التنزيل في الوضع إنّما هو من القسم الأول، فإن للمعنی وجوداً خارجياً أو ذهنياً، فيفرض الواضع أن اللفظ متحد مع المعنی، والغرض من ذلك هو جريان بعض آثار المعنی علی اللفظ، ومن تلك الآثار تصور المعنی عند الإحساس به، فيترتب علی اللفظ أيضاً هذا الأثر فيتصور المعنی عند سماع اللفظ.

وأشكل عليه: أولاً: إنا لا نجد آثار المعنی الخارجي علی وجود اللفظ، مثلاً آثار (الماء) الخارجية لا تترتب علی لفظه، فما هو معنی التنزيل إذن؟

وفيه: أنه لا يشترط في التنزيل ترتيب كل الآثار، بل يکفي في صحته ترتب بعضها، وهنا تصور المعنی عند الاحساس به يترتب علی اللفظ، وهذا يکفي في صحة التنزيل.

وثانياً: ما قيل: من أن الغرض من الوضع هو دلالة اللفظ علی المعنی ليحصل التفهيم، والدلالة تقتضي الاثنينية، واعتبار الوحدة بين الدال والمدلول تقتضي عدم الدلالة، فيکون الوضع لغواً، لصيرورته بلا أثر!

ويرد عليه: أن الوحدة الاعتبارية لا تنافي التعدد الذاتي، والمعتبر في مقام الدلالة هو الثاني، والتنزيل يقتضي الأول.

ص: 31

وأما حديث اللغوية فغير صحيح، لأن للوحدة أثراً، بل لهذه الوحدة - علی هذا القول - تمام الدخل في ترتب الغرض، وهو حصول التفهيم والتفهم(1)، فإن الأثر التكويني المقصود للاعتبار هو التلازم بين (الانتقال إلی اللفظ) و(الانتقال إلی المعنی)، وهذا لا يتحقق إلاّ (باعتبار الوحدة).

ويمكن: فرض الدلالة مع الوحدة، وذلك لأن الوحدة هي بين شخص اللفظ وشخص المعنی، والمدلول فيهما هو الطبيعي، فكما أن الوجود الخارجي يدل علی الكلي كذلك اللفظ الذي هو وجود تنزيلي.

الرأي الثالث: التعهد

وبيانه - كما نقله السيد الوالد(2) عن المحقق الحائري - : إنه التزام من الواضع أنه متی أراد معنی وتعقله، وأراد إفهام الغير، تكلّم بلفظ كذا، فإذا إلتفت المخاطب بهذا الالتزام، ينتقل إلی ذلك المعنی عند استماع ذلك اللفظ.

وبعبارة أخری كما قرّره في نهاية الأفكار(3) عن بعض، ولعلّه المحقق النهاوندي:

أنه من المستحيل جعل العلقة والارتباط بين شيئين لا علاقة بينهما، وذلك لحصر الإضافات بالإضافات الخارجية، والملازمات الواقعية الذاتية.

وما يمكن تعقله هو التعهد، أي يلتزم الواضع ويتعهد تعهداً كلياً بأنّ مَن

ص: 32


1- منتقی الأصول 1: 58.
2- الأصول 1: 24.
3- نهاية الأفكار 1: 27-28.

أراد معنیً وتعقله وأراد إفهام الغير، تلفظ بلفظ كذا، وهذا التعهد هو جعل ارتباط بين (إرادة المعنی) و(إرادة التلفظ بلفظ كذا) فهو جعل علقة بين إرادتين، وليس جعلاً تكوينياً للعلقة بين اللفظ والمعنی.

فإذا التفت المخاطب إلی هذا الالتزام والتعهد - عن طريق إعلام الواضع أو استعمال الآخرين - فلا جرم ينتقل ذهنه إلی ذلك المعنی عند سماع اللفظ منه.

وأشكل عليه: أولاً: إن الوضع غير الالتزام، فالأول فعل، والثاني انفعال(1).

ويمكن أن يقال: بأنهما كليهما فعل، إلاّ أن أحدهما وهو الالتزام مقدمة للآخر، لا نفسه.

وثانياً: الالتزام يبقی مادام الشخص ملتزماً، أما الوضع فهو يبقی وإن رفع الواضع يده عن وضعه.

والجواب: أنه كما يکون التزام من الواضع الأول، كذلك يکون التزام من الآخرين، ويمكن لأحدهم أن يرفع التزامه ويبتدع اصطلاحاً جديداً في محاوراته فقد يکون مفيداً إذا اتبعه الآخرون، وإلاّ يبقی في حد كلمات نفسه لا غيره.

وثالثاً: استلزام التعهد للدور، وبيانه من وجوه، منها:

الوجه الأول: إنّ تعهد ذكر اللفظ عند قصد تفهيم المعنی، يتوقف علی

ص: 33


1- الأصول 1: 24.

العلم بأنه وُضع له، فلو فرض أن الوضع عبارة عن ذلك التعهد، لدار(1).

وأجيب عن هذا الإشكال بأجوبة:

منها: إن لنا تعهدين:

أ) التعهد الكلي النفساني المتعلق بذكر طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنی وهذا هو الوضع - علی هذا المبنی¬ - .

ب) التعهد الشخصي الفعلي الثابت في مرحلة الاستعمال، وهذا مايتوقف علی العلم بالوضع.

وفيه: أن التعهدين شيء واحد، فالثاني مصداق للأول وليس غيره.

ومنها: إن كل مستعمل هو متعهد، فيکون العلم متأخراً عن التعهد دائماً، سواء في الكلي أو الجزئي.

ولازم هذا الجواب: أن كل متكلّم واضعٌ، نهاية الأمر إن أوّل المتعهدين كان الواضع الأول، والآخرون تبعوه!

ومنها: إن العِلم متأخر عن تعهد الواضع، ولكنه متقدم علی استعمال أهل اللسان، وهذا هو الأصح في الجواب.

الوجه الثاني: إن التعهد يتوقف علی مقدورية متعلقه - وهو التفهيم - ، إذ مع عدم مقدورية التفهيم يستحيل التعهد، والقدرة علی التفهيم بهذا اللفظ غير حاصله قبل التعهد، بل هي متوقفة علی التعهد.

والجواب: إن التعهد قضية شرطية حقيقية، والقضية الشرطية لا تتوقف

ص: 34


1- نهاية الدراية 1: 48.

علی إمكان طرفيها، بل تكون صادقة حتی مع استحالتهما، كقوله تعالی: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(1)، فلا يتوقف التعهد علی القدرة علی التفهيم، نعم في مرحلة الاستعمال لابد من القدرة علی التفهيم، وإلاّ كان الاستعمال لغواً وليس مستحيلاً - كخطاب الأطرش مثلاً - .

ورابعاً: إنه يستلزم من وجوده عدمه، وبيانه بمقدمات:

1- إن التعهد المذكور يوجب انحصار إفهام المعنی باللفظ.

2- ومع الانحصار يکون التفهيم قهرياً.

3- ومع القهريّة لا يکون مجال للتفهيم بغير اللفظ - سواء تعهد أم لا - .

4- فلا معنی للتعهد المذكور.

وبعبارة أخری(2): إنه مع انحصار المفهم باللفظ، لامجال ل-(التعهد بالتفهيم باللفظ الخاص)، فإن كون اللفظ مفهّماً - وإن نشأ بواسطة التعهد - إلاّ أنه حيث كان الفهم منحصراً به، كان التعهد بالتفهيم به عند إرادة التفهيم بلا وجه ولا محصل، إذ لا مجال للتفهيم بغيره - تعهد أم لم يتعهد - فالتفهيم قهري لا محيص عنه، فلا معنی للتعهد المذكور.

وفيه: أن حصول التفهيم قهراً إنّما هو للعلم ببقاء التعهد، فإنه كما يلزم التعهد ابتداءً، يشترط استمراره، إذ يمكن رفع اليد عن الانحصار عن طريق تغيير الوضع.

وخامساً: إن ماينتج من الوضع هو دلالة تصورية - أي انتقال المعنی إلی

ص: 35


1- سورة الأنبياء، الآية: 22.
2- منتقی الأصول 1: 63.

الذهن بمجرد ذكر اللفظ - ، في حين أن التعهد ينتج منه دلالة تصديقية، وهي كون اللفظ كاشفاً عن إرادة المتكلم لإفهام المعنی.

ولا يخفی أن أصحاب نظرية التعهد لا يمانعون عن ذلك، بل ذكر بعضهم أن هذا هو من ميزات نظرية التعهد.

وسادساً: قد تصدر ألفاظاً من غير ذی شعور كالببغاء، وينتقل الذهن إلی المعنی، مع عدم وجود تعهد أصلاً.

والجواب: إنه في هذه الموارد لا توجد علقة وضعية بل انتقال الذهن إنّما هو لأجل أنس الذهن بهذه العلقة، كالشباهة في التكوينيات، فإن رؤية شبيه قد توجب تصوّر شبيهه مع عدم وجود دلالة ولا علقة أخری بل هي مجرد قضية اتفاقية.

وسابعاً: إن كان المراد من التعهد هو البناء علی ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنی، فيلزم من ذلك أن يکون مدلول اللفظ هو (إرادة التفهيم) لا (المعنی)، وإنّما يکون المعنی من قيود المدلول لا نفسه، وهذا ينافي دعوی وضع اللفظ للمعنی!!

وثامناً: أيّد في المنتقی(1) بطلان التعهد بأمثلة:

أ) تحقق الوضع من الأخرس الذي لا يستطيع الكتابة، ولا يمكنه الاستعمال قط - كما لو وضع اسماً لولده - مع أنه لا تعهد لديه بذكر اللفظ والتفهيم به عند قصد التفهيم.

وفيه: أنه تعهد - علی القول به - لغيره لا لنفسه.

ص: 36


1- منتقی الأصول 1: 66.

ب) لو وضع اسماً مباركاً علی ولده لا بقصد الاستعمال بل بقصد التبرك كوضعهم اسم (محمد) علی الوليد لمدة سبعة أيام.

وفيه: أنه تعهد لمدة معينة ينتهي بعدها - علی القول بالتعهد - .

ج) لو وضع اسماً قبيحاً علی ولده لكي لا تصيبه عين، مع عدم إجازته لاستعمال ذلك الاسم.

وفيه: أنه تعهد - علی القول به - ويوجب دلالة ذلك اللفظ علی ذلك الوليد، ولكن المنع إنّما هو في الاستعمال العمومي لا استعمال نفس الوالد والوالدة مثلاً، وهذا نظير الألفاظ القبيحة التي يمنع عن استعمالها عند العموم مع أن دلالتها علی المعنی لا إشكال فيها.

هذا مضافاً إلی أن الإشكال في هذه الأمثلة يرد علی الوضع بأي معنی كان.

فتحصل: أن نظرية (التعهد)، لا إشكال عليها ثبوتاً، وإنّما الإشكال في مقام الإثبات، حيث لا نری ذلك في الواضعين.

البحث الثاني: في الواضع

إدعی المحقق النائيني(1) أن الواضع هو الله تعالی، واستدل لذلك:

بأن اللغات دقيقة جداً - في ألفاظها ومعانيها - ، ولا قدرة لمجموعة من الناس فضلاً عن واضع واحد لاستيعاب كل تلك الألفاظ والمعاني.

ولو كان الوضع من البشر لذكر في التاريخ اسمه، بينما لا نجد ذلك في أية لغة من اللغات.

والنتيجة: أن الواضع هو الله تعالی، لا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ولا

ص: 37


1- فوائد الأصول 1: 30.

بطريق الجعل التكويني بل عن طريق الإلهام، فيُلهم كل قوم بلفظ لمعنی، مع وجود مناسبة بينهما مخفية علينا.

ويرد عليه: أولاً: إنه لا أحد ينكر وجود قوة وملكة في الإنسان تجعله قادراً علی الوضع، وتلك الملكة هي بجعل منه تعالی، كما قال سبحانه: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(1)، وهذا ليس خاصاً بالوضع، بل في جميع ممارسات الإنسان الاختيارية، فإن البذرة من الله تعالی، ونموها باختيار الإنسان.

وثانياً: أنه لا يدعي أحد أن كل اللغة أو غالبها هي بوضع تعييني، بل يقال: إن الحاجة دعت الإنسان إلی التعبير عما يدور في ذهنه، وكانت في المجتمعات البدائية معاني قليلة، ثم تطورت بالتدريج وبمرور أجيال، وكلّما ظهرت حاجة، تعارف استعمال لفظ، وهذا نظير استعمال الأطفال لألفاظ مخصوصة فيما بينهم، بل قد يستعملها الكبار في تكلمهم معهم، ولو كانوا يتركون علی ما هم عليه لتولدت لغة جديدة خاصة بهم.

ومن ذلك يظهر وجه النظر في دليله الثاني.

وثالثاً: في تسمية الأولاد هل يجد أحدنا أن ذلك الاسم الخاص بإلهام منه تعالی(2)؟! وكذا بالوجدان لا نشاهد في الأوضاع التعيينية - سواء في الآلات أو المعاني الجديدة - أيَّ إلهام.

وقد استدل بأدلة أخری علی كون الواضع هو الله تعالی.

منها: كيف قدّر لإنسان ما قبل اللغة أن يلتفت إلی إمكانية الاستفادة من

ص: 38


1- سورة الرحمن، الآية: 4.
2- نهاية الأفكار 1: 24.

الألفاظ ووضعها بازاء المعاني؟

والجواب: إن وجود القوة والملكة بجعل من الله لكن ذلك ليس وضعاً، بل كما ذكرنا كل أعمال الإنسان الاختيارية منشؤها ملكات ذاتية جعلها الله تعالی.

ومنها: كيف نفسر اتفاق مجموعة من الناس علی لغة معينة؟

والجواب: إن المجتمعات البدائية كانت صغيرة جداً، فيمکن حصول الوضع بالتدريج - بالتعيّن غالباً وبالتعيين أحياناً - وخاصة مع تعلّم الأبناء من الأباء، وكلّما قلّت الارتباطات عبر الهجرة وانقطاع الاتصال تغيرت اللغات بمرور الزمان، ولذا قد ثبت اشتراك كثير من اللغات في أصلها وتغيرها وتطورها بحسب عامل الهجرة وانقطاع الاتصال.

بل اللغة الواحدة لمجموعة واحدة تتغير باستمرار، كما نشاهد ذلك في اللهجات العامية في اللغة العربية، ولولا القرآن الكريم لتحوّلت اللغة العربية إلی مجموعة لغات، كما حدث لغيرها.

نعم، لايمكن إنكار أن آدم (علیه السلام) كان يتكلم بلغة مع زوجته وأولاده، وذلك بتعليم من الله تعالی، ولكن هذا الأمر لا يسري إلی كل اللغات.

والحاصل: إن قوة التكلم والقدرة علی الوضع إنّما هي من الله تعالی، ونفس عملية الوضع هي فعل بشري قام به أجيال من الناس وفي فترات طويلة، وهذه العملية مستمرة ولذا تتطور اللغات وتتغير.

البحث الثالث: أقسام الوضع

اشاره

الوضع: هو حكم بين طرفين، أحدهما اللفظ والآخر المعنی، فلابد من ملاحظتهما حين الوضع.

ص: 39

ثم إنه قد يُقَسَّم الوضع بلحاظ المعنی، وقد يُقَسّم بلحاظ منشأ الوضع، وقد يُقَسّم بلحاظ اللفظ.

فالأول: التقسيم بلحاظ عموم المعنی وخصوصه، وهو علی أربعة اقسام.

والثاني: التقسيم إلی الوضع التعييني والتعيني.

والثالث: التقسيم بلحاظ أن الوضع شخصي أو نوعي، كما في وضع الهيئات حيث لم يلحظ معنی خاص.

التقسیم الأول: التقسيم باعتبار منشأ الوضع

قسموا الوضع باعتبار منشأه إلی تعييني وتعيني، وإلی التعييني بالإنشاء وبالاستعمال، فالأقسام ثلاثة:

1- الوضع التعييني الإنشائي: وذلك بجعل العلقة بين اللفظ والمعنی بجملة إنشائية، نظير عقد البيع.

2- الوضع التعييني الاستعمالي: وذلك عبر استعمال لفظ في معنی بغرض الوضع، كأن يقول: (ناولوني ولدي علياً) قاصداً وضع اسم (علي) علی وليده، ونظير هذا المعاطاة التي هي إنشاء فعلي لحصول الملكيه.

3- الوضع التعيّني: وذلك بحصول العلاقة بين اللفظ والمعنی بكثرة الاستعمال.

وأشكل علی الثاني:

أولاً: بأن ذلك الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز.

والجواب: أن ذلك غير ضائر، إذ لا دليل علی إنحصار الاستعمال فيهما، بل هذا النوع من الاستعمال لا يأباه الطبع، وهو واقع بلا استقباح.

ص: 40

وثانياً: إن فيه اجتماع لحاظين، الآلي تارة، لأن اللفظ حين الاستعمال غير ملحوظ بنفسه بل بما هو آلة للمعنی، والاستقلالي أخری، نظراً إلی إقتضاء الوضع لأن يکون النظر إليه استقلالياً.

والجواب(1): إن الملاحظ شيئان:

أ) شخص هذا اللفظ، وهو متعلق اللحاظ الآلي.

ب) طبيعة هذا اللفظ، وهو الذي قصد الواضع تحقق العلاقة والربط بين هذه الطبيعة وبين المعنی، وهذا متعلق اللحاظ الإستقلالي، فلم يجتمع اللحاظان في موضوع واحد كي يستلزم اجتماع اللحاظين المحال.

وقد يقال بعدم المحذور في اجتماع اللحاظين، وذلك لأن اللحاظ يرتبط بالوجود الذهني، ولا مانع في أن يکون هناك وجودان في الذهن! ونظيره في التكوينيات النظر في المرآة لمعرفتها بنفسها ولمعرفة الصورة المنطبعة فيها.

وأشكل علی الثالث:

أولاً(2): إن استعمال اللفظ في معنی لابد أن يکون مصاحباً لقرينة لتدل علی المعنی، فلا وجه لأن يختص اللفظ بالدلالة علی المعنی بكثرة الاستعمال، بل لابد من دلالتهما معاً - اللفظ والقرينة - علی المعنی.

وفيه(3): أن اللفظ يقترن بالمعنی في كل الاستعمالات، لكن القرينة

ص: 41


1- نهاية الأفكار 1: 31.
2- منتقی الأصول 1: 72.
3- بحوث في علم الأصول 1: 96.

تختلف من مورد لآخر، تارة حالية، وأخری ارتكازية، وثالثة لفظية، وصياغات الألفاظ تختلف، فلا يحصل إقتران بين القرينة والمعنی، بل بين اللفظ والمعنی.

وثانياً: قد يقال: بأنه لابد في تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنی من القصد إلی تحققها في أحد تلك الاستعمالات، وإلا فبدونه لا يكاد يجدي مجرد الاستعمال في تحققها، ولو بلغ الاستعمال في الكثرة ما بلغ.

وفيه: أنه مبنيّ علی القول بأن العلاقة الوضعيّة هي بالجعل الإنشائي، ولكن الصحيح أن العلاقة كما تتحقق بالإنشاء القولي أو الفعلي، كذلك تتحقق بواسطة كثرة الاستعمال، ويشاهد هذا بالوجدان في استعمال الألفاظ المجازية بكثرة حتی تنقلب إلی حقيقة(1).

والحاصل: إن كثرة الاستعمال توجب استيناس أذهان أهل المحاورة بالانتقال من سماع اللفظ إلی المعنی، فلا حاجة إلی دعوی اعتبار أهل المحاورة علی حد اعتبار الواضع، فإنه لغو بعد حصول النتيجة(2).

ثم إنه قيل: إن التعهد - علی مبنی التعهد - إن كان ابتدائياً فالوضع تعييني، وإن كان منشؤه كثرة الاستعمال فالوضع تعيني.

وفيه: أن التعيّني ليس تعهد وجعل علقة، بل اختصاص اللفظ بالمعنی يحصل قهراً ومن كثرة الاستعمال(3).

ص: 42


1- نهاية الأفكار 1: 31.
2- نهاية الدراية 1: 49.
3- فوائد الأصول 1: 29.

وبعبارة أخری - كما في المنتقى -(1): إن كثرة الاستعمال من الأمور التشكيكية، فإذا بلغت من الكثرة بحيث حصلت العلقة بين اللفظ والمعنی فلا ملاك للتعهد، لأن الغرض حاصل بدونه - وهو قابلية اللفظ للتفهيم - ، وإن لم تبلغ إلی ذلك الحد فلا وضع تعيّني.

التقسیم الثاني: التقسيم باعتبار المعنى
اشاره

أي التقسيم باعتبار المعنی المُتصوَّر، فتارة يکون باعتبار الحصر العقلي، وأخری باعتبار الممكن من الأقسام، وثالثة باعتبار الواقع منها.

فباعتبار الحصر العقلي الأقسام أربعة، 1- الوضع العام والموضوع له العام 2- الوضع الخاص والموضوع له الخاص 3- الوضع العام والموضوع له الخاص 4- عكسه.

فالوضع: هو المعنی المتصوّر، ويُسمی وضعاً مجازاً.

والموضوع له: المعنی الذي يُقرِّر الواضع وضع اللفظ لذلك المعنی.

والعام: يراد منه معناه اللغوي - أي المطلق - وهو الصورة الذهنية الكلية.

والخاص: هو المقيد، أي الصورة الذهنية الجزئية.

1- الوضع العام والموضوع له العام

لا إشكال في وقوع هذا القسم في كافة اللغات، مثل أسماء الأجناس.

ثم إن عمومية الوضع علی نحوين(2):

الأول: ما هو المشهور: من لحاظ معنی كلي عام ووضع اللفظ بازائه،

ص: 43


1- منتقی الأصول 1: 72.
2- نهاية الأفكار 1: 32-34.

كما في لفظة الإنسان، حيث يلاحظ الواضع مفهوم الإنسان في ذهنه، فيضع لفظ الإنسان بازاء ما تصوره من المعنی الكلي العام.

والعمومية هنا باعتبار المتعلّق، نظير كلّية الأحكام التكليفية، فإن كليتها باعتبار متعلّقها، لانحلالها حسب أفراد المتعلق إلی إرادات وأحكام جزئية، وإلاّ فنفس الحكم وتلك الإرادة المتعلقة بعنوان لا تكون إلاّ شخصيّة.

الثاني: أن يکون الموضوع له: الجهة المشتركة بين الأفراد المتصورة في الذهن، التي تمتاز بها أفراد كل نوع عن أفراد نوع آخر، بنحو لا يكاد تحققه في الذهن إلاّ مع الخصوصية وبالوجود الضمني المستقل.

وبعبارة أخری: الموضوع له ليس المفهوم المنتزَع بل هو منشأ انتزاع هذا المفهوم العام المنتزع عن الأفراد المتصورة في الذهن، وهي الجهة المشتركة.

وفي كلا القسمين لابد من توسيط آله الملاحظة.

أما الأول: فلأنّ أسامي الأجناس موضوعة للمهية المهملة - أي اللابشرط المقسمي - وهي مما لا يمكن تصورها بنفسها، لأن ما في الذهن إما مطلق أو مقيد، فلابد من توسيط آلة ملاحظة تشير إلی الجامع بين الماهية المقيدة والمطلقة.

وأما الثاني: لأن الجامع لا يكاد يتحقق في الذهن إلاّ في ضمن أفراده الذهنية، فلابد في مقام التفهيم من دالين اثنين، أحدهما: علی نفس الجامع، والآخر علی الخصوصية، وكذلك في مقام الوضع.

ص: 44

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1) - والإشكال راجع إلی تصوير النحو الثاني - وحاصله: إن الموجودات بما هي موجودات ليس فيها جهة اشتراك أصلاً:

أ) لا للماهية بما هي هي، لأنها - في حد ذاتها - غير واجدة إلاّ لذاتها وذاتياتها، وليس منهما الكلّية أو جهة الاشتراك، لأنها من الأعراض.

ب) ولا للماهية بما هي موجودة - خارجاً أو ذهناً - لأنها بقيد كونها موجودة تكون جزئية.

بل الكلية والاشتراك من إعتبارات الماهية حين كونها في الذهن، فإذا كان النظر مقصوراً علی الماهية فيقال إنها جهة جامعة مشتركة، فالمنتزع عن الأفراد هي الجهة المشتركة وهي وحدة واحدة بطبيعة واحدة، وصحة انتزاع هذا الواحد من كل واحد من الوجودات هو معنی وجود الطبيعي بالعرض في الخارج.

فلسيت الجهة المشتركة هي منشأ الانتزاع حتی تكون الموضوع له، بل جهة الاشتراك هي بنفسها منتزعة، فتأمل.

فحاصل إشكال المحقق الإصفهاني: أنه لا محصل للنحو الثاني - مما ذكره المحقق العراقي في عمومية الوضع - وذلك لعدم وجود عمومية أصلاً:

أ) لا في الماهية بما هي هي، لأنها في حدّ ذاتها غير واجدة لما يعرض عليها، والكلية والجزئية من العوارض.

ص: 45


1- نهاية الدراية 1: 50-51.

ب) ولا للماهية بما هي موجودة - سواء في الذهن أم في الخارج - لأنها حينئذٍ جزئية.

ج) ولا لما ينتزع عن الأفراد - وهو جهة الاشتراك - وذلك لأن جهة الاشتراك هي وحدة واحدة بوحدة طبيعية - بمعنی أنها تنتزع من كل فرد - .

ويمکن أن يقال: إن الوجودات الجزئية مرکبة عادة من أجزاء أو قيود، سواء في الخارج أم في الذهن، فبعد ملاحظة تشابه بعض هذه الأجزاء أو القيود يمکن اعتبار تلك المتشابهات هي الجهة المشترکة فينتزع منها جامع عنواني.

ثم إنه لافرق في تصوّر الواضع المعنی الكلي حين الوضع بين: أن يکون تصوره بالكنه والحقيقة، كتصوره للإنسان بحدّه التام، أم بالوجه والعنوان، كالتصور بالحدّ الناقص، أم بالمشير، من دون دخل لذلك المشير في المعنی.

2- الوضع الخاص والموضوع له الخاص

ولا ريب في وقوعه في كافة اللغات، كأسماء الأعلام الشخصيّة، وذلك بأن يلاحظ الواضع معنی جزئياً حقيقياً، فيضع اللفظ لنفس ذلك الجزئي الحقيقي.

3- الوضع العالم والموضوع له الخاص
اشاره

وقد أشكل في إمكانه بأمور:

الإشکال الأول: إنه حين الوضع يلزم لحاظ المعنی الموضوع له، والمعنی الخاص إما ملحوظ أو غير ملحوظ، والأول: يستلزم كون الوضع خاصاً، وذلك للحاظ الخاص وهذا خلف، والثاني: يمتنع معه الوضع لعدم

ص: 46

اللحاظ.

وأجيب: بأنه يمكن الوضع للأفراد بلا إلتفات تفصيلي إليها، بل العنوان العام المشير إليها يکون واسطة في الوضع، وبعبارة أخری: العام وجه للأفراد، وتصوره تصور لها بوجهٍ، فيلحظ العام طريقاً إلی أفراده.

وبيانه بأنه لا يحتاج في الوضع ولا في أي حكم آخر إلی الالتفات التفصيلي إلی المحكوم عليه، بل يمكن الحكم عليه بواسطة عنوان عام مشير إليه، بلا إلتفات إلی نفس المعنون بالمرّة.

ثم إن عدم الالتفات إما للجهل بجميع الخصوصيات الموجبة للجزئية، أو لعدم إمكان الالتفات إلی الخاص، كما لو كان الحكم علی مصاديق العام مع كونها كثيرة جداً بحيث لا يمكن الالتفات إلی جميعها أصلاً.

ورُدّ الجواب(1): بأن (الموضوع له) في الوضع العام والموضوع له الخاص:

أ) لا يمكن أن يکون الفرد بوجوده الخارجي، إذ هو يمتنع أن يکون معروضاً للّحاظ، لأن الذهن لا يقبل الوجود الخارجي، لتقابلهما.

ب) ولا يمكن أن يکون (الموضوع له) الفرد بوجوده الذهني، إذ يمتنع أن يعرض اللحاظ علی الوجود الذهني، بمعنی أن يوجد في الذهن ثانياً، لاستحالة أن يکون للشيء الواحد وجودان.

ج) فانحصر (الموضوع له) في المفاهيم الجزئية - بلا وصف تلك المفاهيم بالوجود الخارجي أو الذهني.

ص: 47


1- منتقی الأصول 1: 74-75.

وهذه المفاهيم ليست وجهاً للعام أصلاً، وذلك لأن المفاهيم في مرحلة مفهوميتها متباينة - كتباين مفهوم زيد مع مفهوم الإنسان - ، نعم العام يکون وجهاً لأفراده الموجودة في الذهن أو الخارج - أي هو وجه لمصاديقه الذهنية أو الخارجيّة - لأنه متحد معها بنحو من أنحاء الاتحاد، ولذا يصح حملها عليه بملاك الاتحاد في الوجود، ولكن أثبتنا أن الموضوع له ليس الفرد بوجوده الذهني ولا الفرد بوجوده الخارجي، بل الموضوع له هو المفاهيم الجزئية، وليس العام وجهاً لها.

وفيه: أولاً: أن الجزئيات لها مفاهيم، ويمكن انتزاع المفهوم العام منها، كإنتزاع مفهوم الفرد من الإنسان، وبعبارة أخری(1): المفهوم العام الذي يتصوره الواضع ليس هو المفهوم العام المنتزع من الخارج ابتداءً فحسب، كمفهوم الإنسان الذي لا يصلح أن يکون فانياً إلاّ في الواقع الخارجي المنتزع منه، بل المفهوم العام المنتزع من نفس المفاهيم الجزئية التي يراد الوضع لها، كمفهوم الفرد من الإنسان الذي هو منتزع عن مفهوم زيد وعمرو وخالد وهكذا.

وثانياً: بأنّه لا يشترط اللحاظ في الوضع أصلاً، بل يکفي في صحته الإشارة إلی المعنی بلا لحاظه، فتأمل.

الإشكال الثاني(2): إنه لا يعقل وجود الجامع إلاّ بالتجرد عن كل الخصوصيات الفرديّة، فلا يکون الجامع حاكياً عن الأفراد بخصوصياتها،

ص: 48


1- بحوث في علم الأصول 1: 89.
2- نهاية الأفكار 1: 37.

فكل فرد له جزئان تحليليان - الجامع والخصوصية - ولا يمكن الاكتفاء بتصور الجزء للوضع للكل.

وحاصل الإشكال أن شيئاً من العناوين التفصيلية، كعنوان الإنسان والحيوان ونحوهما، وكذا العناوين العامة العرضية، كعنوان الذات والشيء ونحوهما، لا يمكن أن يکون مرآة إلی الأفراد الخاصة والعناوين التفصيلية، لأن غاية ما تحكي عنه تلك العناوين، إنّما هي الجهة المشتركة بين الأفراد التی بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن أفراد نوع آخر، وأما حكايتها عن الأفراد بما لها من الخصوصيات التي بها إمتياز كل فرد من هذا النوع عن الفرد الآخر من ذلك النوع، فلا، بل هو مستحيل، لأن (الفرد والخصوصية) تتباين مفهوماً مع مفهوم (العام)، والمباين لا يمكن أن يکون وجهاً للمباين.

وجوابه: وله تقريران:

التقرير الأول: حسب المحكي عن المحقق العراقي في بدائع الأفكار: أن الجامع قسمان:

1- أن يکون الجامع الكلي جزءاً تحليلياً لما هو فرده بالذات، كالإنسان بالنسبة إلی زيد وعمرو.

2- أن يکون الجامع بالنسبة إلی أفراده بالعرض، كالجامع الانتزاعي بالنسبة إلی مناشئ انتزاعه، كالإمكان بالنسبة إلی ماهية الإنسان، إذ بفرز ما به الامتياز في الأفراد لا نحصل علی مفهوم الإمكان، بل نحصل علی الجنس مثلاً، بل الإمكان في كل منها قائم بالماهية بخصوصياتها، وبفصلها المميز لها عن الماهية الأخری.

ص: 49

وبعبارة أخری(1): إن حيثية الجامع، تارة: تكون ثابتة في أفراده ضمناً، فلا يعقل حكايته عن الأفراد بخصوصياتها، لأن مرجعه إلی حكاية الجزء عن الكل، وهذا ما يکون دائماً في الجامع مع أفراده بالذات.

وتارة أخری: تكون حيثية الجامع قائمة بأفراده قياماً عرضياً، علی نحو تكون قائمة بهذا الفرد بخصوصه، وبذلك بخصوصه، فيمکن أن يُتخذ الجامع مرآةً للأفراد بخصوصياتها - وهذا يکون في الجامع الانتزاعي العرضي مع أفراده بالعرض، وهي مناشئ انتزاعه - .

التقرير الثاني: ما في نهاية الأفكار(2): بكفاية لحاظ الموضوع له، ولو بوجه إجمالي، مشيراً به إلی الأفراد الخاصة في مقام الوضع، المعبّر عنها بما ينطبق عليه مفهوم الإنسان أو مفهوم الذات أو الشيء.

وأشكل عليه في المنتقی(3): بأن هذا يستلزم كون الوضع والموضوع له عامين وهذا خلاف الفرض بكون الموضوع له خاصاً. لأن هذه المفاهيم المنتزعة عن الخصوصيات المنطبقة عليها، هي مفاهيم عامة، وضع بإزائها بعض الألفاظ الدالة عليها، كلفظ الفرد والشخص ونحوهما. إذ كل ما يتصور مما هو حاك عن الأفراد يکون كلياً، والوضع بإزائه يستلزم عموم الموضوع له.

أقول: لعل إشكاله يرد علی التقرير الأول، وأما التقرير الثاني فلا يرد

ص: 50


1- بحوث في علم الأصول 1: 90.
2- نهاية الأفكار 1: 37.
3- منتقی الأصول 1: 78.

عليه هذا الإشكال لتصريحه «بأن الوجه الإجمالي يشار به إلی الأفراد الخاصة في مقام الوضع».

مثلاً يقول: (من في هذه الدار سميته علياً) فإن (الموضوع له) ليس الكلي الذي ينطبق علی مصاديقه، بل (الموضوع له) الأفراد بخصوصياتهم، وقد جعل العنوان الكلي (من في هذه الدار) مشيراً إلی تلك الأفراد، فتأمل.

أقسام الوضع العام والموضوع له الخاص

ثم إنّه قيل بأنّ أنحاء تصوّر (الوضع العام الموضوع له الخاص) علی ثلاثة(1):

1- أن يکون (الموضوع له) - الملحوظ بتوسط العنوان العام الكلي - هو الأفراد المخصوصة بخصوصياتها التفصيلية الجزئية، كما لو لاحظ في مقام الوضع عنوان الإنسان مشيراً بهذا العنوان إلی المصاديق الخاصة.

نظير التكاليف، كقوله (أكرم من في الدار) مشيراً به إلی الأفراد الخارجيّة.

2- أن يکون (الموضوع له) عبارة عن الأفراد والصور التفصيلية، ولكن بحيث تعمّ الكلي والجزئي، مثلاً لفظ (شيء)، يشير به إلی ما ينطبق عليه هذا العنوان، سواء كان كلياً كالإنسان والحيوان، أم جزئياً كزيد وعمرو.

3- أن يکون (الموضوع له) - الملحوظ بتوسط العنوان الكلي - ، هو معنی إجمالي مبهم، كالشبح، بحيث يکون نسبته إلی الصور التفصيلية هي نسبة الإجمال والتفصيل، بحيث لو انكشف الغطاء لكان ذلك المعنی

ص: 51


1- نهاية الأفكار 1: 35.

الإجمالي عين المعنی التفصيلي.

ومثّلوا للثاني: بأسماء الإشارة، فيقال (هذا الإنسان) و(هذا زيد).

ومثّلوا للثالث: بأسماء الإشارة أيضاً، والضمائر، والموصولات، التي يعبّر عنها بالمبهمات وسيأتي الكلام فيها، وأنها ليست من (الموضوع له الخاص) فانتظر.

ويرد علی هذا البيان، أنّه في القسم الأول والثاني إن لاحظ الواضع الأفراد بخصوصياتها التفصيلية خرج عن الوضع العام إلی الوضع الخاص، وإن لم يكن كذلك دخل في القسم الثالث.

الاشتراك اللفظي أم المعنوي؟

ذهب المحقق النائيني(1)إلی أن (الوضع العام والموضوع له الخاص) يکون من المشترك اللفظي، وذلك لأن الإشتراك اللفظي هو أن يكون اللفظ واحداً مع تعدد المعنی، وهكذا فيما نحن فيه، إذ (الموضوع له) هو الأفراد، وهي متباينة، فإن الاشتراك اللفظي تارة يکون مع تعدد الأوضاع - كلفظ العين - ، وتارة يکون مع وضع واحد، ولكنه في الحقيقة ينحل إلی أوضاع متعددة.

مثلاً: قد يسمی كل مولود يولد في ليلة معينة ب-(علي)، فهنا أوضاع متعددة لمعاني متعددة، وقد يجمع الأوضاع كلها في لفظ واحد فيقول: (كلّ مَن يولد في هذه الليلة فقد سميته علياً). فهذا النوع من الاشتراك يرجع إلی الوضع العام والموضوع له الخاص، لأنه جامع عرضي قد تصوره

ص: 52


1- فوائد الأصول 1: 32.

الواضع ووضع اللفظ بازائه.

وأما الشيخ الأعظم فيظهر من تقريرات درسه(1) الفرق بين (الوضع العام والموضوع له الخاص) وبين (الاشتراك اللفظي) - وذلك في بحث الصحيح والأعم - .

ووجهه المحقق النائيني(2): بأن مراده من (الاشتراك اللفظي) لعله ما تعدد فيه الوضع حقيقة، لا ما كان التعدد بالانحلال (كما في الوضع العام والموضوع له الخاص).

أقول: إن (الاشتراك اللفظي) اصطلاح خاص بتعدد الوضع مع اختلاف المعنی، نعم ملاكه يجري في (الوضع العام والموضوع له الخاص)، فتأمل.

4- الوضع الخاص والموضوع له العام
اشاره

بأن يتصور الواضع مصداقاً جزئياً فيضع اللفظ لكليّه.

وقد اختلف في إمكانه، والأشهر استحالة هذا القسم.

وبيان وجه الاستدلال على استحالته

وقد استدل علی الاستحالة بوجوه، منها:

الوجه الأول: ما ذكره في المنتقی(3)، وحاصله: أنه لابد من الإشارة الذهنية للمعنی الموضوع له، إذ لايمكن الوضع لشيء بدون تصوره أو بدون الإشارة إليه، وكل ما يکون مشيراً إلی المعنی العام يکون كلياً، مثلاً

ص: 53


1- مطارح الأنظار 1: 49.
2- فوائد الأصول 1: 33.
3- منتقی الأصول 1: 80-81.

لو تصورنا مفهوماً جزئياً كزيد، وأردنا الوضع لكليّه المنطبق عليه بلا تصور لذلك الكلي - لكي لا ينقلب إلی الوضع العام - فلابد من الإشارة إلی ذلك الكلي، وكل ما يتصور كونه مشيراً إلی ذلك الكلي فهو كلي، مثل عنوان (منطبق) أو عنوان (كلي)، فيقال: (ما هو كلي زيد) أو (ما هو منطبق علی زيد).

وواضح أن هذه المفاهيم كليه، فانقلب إلی (الوضع العام) أيضاً.

وفيه: أنّ (الوضع) ليس للعنوان المشير، فلا يضر كليّة ذلك العنوان المشير.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1): من أن الوضع للكلي لايحتاج إلاّ إلی ملاحظته، بخلاف الوضع للأفراد غير المتناهية، فإن لحاظ غير المتناهي غير معقول، فلابد من لحاظها بجامع يجمع شتاتها، ويشمل متفرقاتها، وهو الكلي المنطبق عليها، فإن لحاظها بالوجه لحاظها بوجهٍ.

وأشكل عليه: بأنه كما يمكن التصور الإجمالي للأفراد عبر تصور العام - في الوضع العام والموضوع له الخاص - ، كذلك يمكن التصور الإجمالي للعام عبر تصور الخاص، لتضمّن الخاص علی العام باعتباره جزءاً منه، - وهذا في الوضع الخاص والموضوع له العام - ، نعم يمكن التصور التفصيلي للعام، لكنه غير لازم بعد فرض كفاية التصور الإجمالي.

والحاصل: إن التصور الإجمالي إن كان كافياً، فلا فرق بين التصور الإجمالي للخاص أو التصور الإجمالي للعام، وعدم إمكان التصور

ص: 54


1- نهاية الدراية 1: 49.

التفصيلي للأفراد مع إمكانه للعام غير فارق.

وفيه نظر: لأن تصور العام الذي هو في ضمن الخاص ليس تصوراً إجمالياً له، بل هو تصور تفصيلي له ولكن انضم إليه تصور أمور أخری تفصيلياً - وهي المشخصات الفردية - بخلاف تصور الأفراد، فإنها لكثرتها - مثلاً - لا يمكن تصورها إلاّ بنحو الإجمال وعبر العام.

فالأولی: الإشكال بأن عدم الحاجة لا تثبت الاستحالة، بل أقصی ما تثبته هو العبثيّة، فتأمل.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(1): وهو التباين بين (الكلي) وبين (الفرد والخصوصيه)، وكذا (الكلي المقيد). فمفهوم الإنسان مباين مع مفهوم زيد، وكذا مباين مع مفهوم الإنسان المقيد بالزيديّة - مثلاً - ، ولا يکون المباين وجهاً لمباينه.

ومع تجريده عن الخصوصية، وذلك عبر لحاظه بما أنّه قابل للإنطباق علی زيد وعلی غيره، يکون من الوضع العام والموضوع له العام.

وأشكل عليه: أولاً: بالنقض في (الوضع العام والموضوع له الخاص)، بأنه كيف لم يقل باستحالته مع التباين بين الكلي وبين الخاص؟

وفيه: أن هناك - أي في الوضع العام والموضوع له الخاص - يُضفي الواضع الخصوصية بنحو إجمالي علی المفهوم العام، وتلك الخصوصية بسبب إجمالها لا توجب الإنقلاب إلی (الوضع الخاص والموضوع له الخاص)، عكس ما هنا - أي في الوضع الخاص والموضوع له العام - ، فإن

ص: 55


1- نهاية الأفكار 1: 37.

تجريد الخاص عن الخصوصية يوجب انقلابه إلی الوضع العام، فتأمل.

وثانياً: إن الخصوصية لا تباين ذات الطبيعة بلا تقيدها بأي قيد - في اللابشرط القِسمي - فلا تباين بين العام والخاص.

وفيه: أن الكلام في المفهوم، ولا إشكال في أن مفهوم الإنسان يباين مفهوم زيد، لأن المفهوم هو الصورة الذهنية - وهي جزئية - ومن المعلوم تباين الوجودات الجزئية.

وثالثاً: إن ما ذكره لا يجري في القسم الثاني من الجامع - وهو الجامع العرضي، كالفرد والشيء ونحو ذلك، كما مرّ.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الخراساني(1)، وحاصله: أن العام يصلح لأن يکون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو عام، فإنه من وجوهها، ومعرفة الشيء بوجهه معرفة له بوجهٍ ما، فلذا أمكن الوضع العام والموضوع له الخاص.

بخلاف الخاص، فإنه بما هو خاص، لا يکون وجهاً للعام، ولا لسائر الأفراد فلا تكون معرفته وتصوره معرفة للعام، ولا للأفراد أصلاً ولو بوجه.

ويرد عليه: أنه ما المراد (بكونه وجهاً)؟

أ) إن كان المراد (الانتزاع)، حيث إن العام ينتزع من الخاص، فلذا يکون تصور العام مستلزماً للتصور الإجمالي للخاص، وليس كذلك الخاص إذ لا ينتزع عن العام!

ص: 56


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 27-29.

ففيه: أن الخاص منشأ انتزاع العام، فأي مانع من أن يکون تصور الخاص مستلزماً للتصور الإجمالي للعام، فكما أن تصور أربعة أشياء يکون مستلزماً للتصور الإجمالي للزوجية، كذلك تصور الزوجية مستلزم للتصور الإجمالي للأشياء الأربعة.

ب) وإن كان المراد (المرآتية)!

ففيه: أن إدعاء الفرق خال عن الدليل، لأن العام والخاص متحدان وجوداً - باعتبار أن الطبيعي موجود بوجود فرده - ، ومتغايران مفهوماً، لأن المفاهيم جزئية، والجزئيات متباينة.

فالأولی: في بيان وجه الاستحاله، أن يقال إن الواضع إذا تصور الخاص:

1- فإن تصور العام، إنقلب إلی الوضع العام.

2- وإن لم يتصور العام، لم يكن الوضع له، إذ كيف يضع اللفظ لشيء لم يتصوره.

إن قلت: يشير إلی العام من غير تصوره، كما في الوضع العام والموضوع له الخاص.

قلت: إن الإشارة إلی العام تستلزم تصوره دائماً، لأنه شيء واحد، فينطبع في الذهن قهراً، بخلاف الإشارة إلی الأفراد، فإنها لا تنطبع في الذهن بالإشارة إليها إلاّ بنحو إجمالي، والإجمال لا يضر بالوضع العام - كما مرّ - فتأمل.

الاستدلال على إمكانه

ثم إنه قد استدل علی إمكان هذا القسم بدليلين:

ص: 57

الدليل الأول: ما عن المحقق الرشتي(1): من أن الوضع الخاص والموضوع له العام كالمنصوص العلة، فإنه فيها يکون موضوع الحكم شخصياً، ومع ذلك يسري إلی كل ما فيه العِلّة.

وكذا إذا وضع لفظ لمعنی باعتبار ما فيه من الفائدة - كدواء مركب من أشياء - فإن الوضع يسري إلی كل ما فيه تلك الفائدة، فيکون الموضوع له عاماً، مع كون آلة الملاحظة خاصاً.

والجواب: أولاً(2): أن اللحاظ الذي لابد منه في الوضع للكلي، هو لحاظ نفس الكلي - أي علی نحو اللابشرط المقسمي - ، ولحاظ الفرد من حيث فرديته أو لحاظ الكلي الموجود فيه لا دخل له بلحاظ الكلي بما هو كلي.

وثانياً(3): أنه لا ربط للمقام بمنصوص العلة، ولو سلّم الربط فإن الحاكم في منصوص العلة لو لم يلحظ العلة لم يكن قاصداً للحكم العام، وإن لحظها فقد لحظ العام بعد لحاظه للخاص.

الدليل الثاني: ما عن المحقق الحائري: بأنه قد يری شبحاً من دون العلم بنوعه ولا بجنسه ولا بأي عنوان ينطبق عليه، بل لا ينطبق عليه سوی عنوان (الشبح)، فإذا وضع اللفظ بإزاء العنوان الواقعي المنطبق علی هذا الشبح، كان من الوضع الخاص، إذ الملحوظ حال الوضع هو هذا الموجود الخاص - وهو الشبح - والموضوع له عام لأنه الكلي المنطبق علی الشبح.

ص: 58


1- راجع الأصول 1: 27.
2- نهاية الدراية 1: 50.
3- الأصول 1: 28.

وفيه: أن هنا عنوان عام عرضي هو (كل ما ينطبق علی هذا الشبح)، فانقلب إلی الوضع العام.

البحث الرابع: في المعنى الحرفي

اشاره

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في معنى الحروف
اشاره

لا إشكال في وقوع الوضع والموضوع له العامين، كما لا إشكال في وقوع الخاصين، إنّما الكلام في وقوع الوضع العام والموضوع له الخاص - بعد الفراغ عن إمكانه - .

وقد مثّلوا له بالحروف، والأسماء الشبيهة بها كالموصولات وأسماء الإشارة، والشباهة من جهة الافتقار.

فلابد من تحقيق الأمر في معاني الحروف، ليتضح صحة هذا الكلام من عدمه.

ولا يخفی أن المدلول الإجمالي للحروف واضح لأهل اللسان، ومع الشك يمكن مراجعة كتب النحو أو اللغة، وإنّما البحث هنا في معرفة حقيقة المعنی الحرفي، أي كيفية تصورنا له، فالبحث في الحقيقة هو بحث لتحليل واقع نفهمه ونستعمله.

ثم إن المباني في المعنی الحرفي ثلاثة:

1- إن الحروف لم توضع لمعنی، وأن حالها حال علامات الإعراب.

2- إن معانيها كالأسماء، فالوضع والموضوع له عامين، وإنّما الاختلاف بين الأسماء والحروف فيما سنذكره.

ص: 59

3- إن للحروف معاني تختلف اختلافاً ذاتياً عن المعاني الاسمية.

المبنى الأول: عدم وضع الحروف لمعنى

وحاصله: أن الحروف كعلامات الإعراب، ولم توضع لمعنی أصلاً، بل هي علامات لبعض حالات الاسم والفعل، فكما أن (الرفع) علامة لكون الاسم فاعلاً - مثلاً - من غير أن يکون للرفع معنی، كذلك (في) - مثلاً - علامة علی كون ما بعدها ظرفاً(1).

وفيه: أولاً: الإشكال في (المقاس عليه) أي في حركات الإعراب، وفي (المقاس) أي في الحروف.

أما المقاس عليه: فإن حركات الإعراب تدل علی معان وخصوصيات خارجة عن مدلول الاسم، ولذلك يتغير المعنی بتغيرها وتبدلها، مع أن مدلول الاسم واحد لا تبدل فيه.

وبعبارة أخری: لفظ (زيد) - مثلاً - لا يدل إلاّ علی الذات العارية عن الخصوصية، - أي الماهية اللابشرط المقسمي وهي الماهية الصرفة - والخصوصيات ليست داخلة في معناه(2)، فلو استعمل لفظ زيد وأريد به الدلالة علی الماهية مع الخصوصيات كان مجازاً، لأنه من استعمال اللفظ في غير ما وضع له الذي هو الماهية الصرفة.

وأما المقاس: فإنه بضم الحرف إلی الاسم يفهم معنی وخصوصية ما، خارجة عن مدلول الاسم، بحيث لا تفهم تلك الخصوصية بذكر الاسم

ص: 60


1- نقله في فوائد الأصول 1: 34؛ نهاية الأفكار 1: 39.
2- نهاية الأفكار 1: 39.

وحده، فيتعين أن يکون الدال عليها هو الحرف، إذ ليس في الكلام غيره مما يمكن القول بكونه دالاً علی المعنی(1).

إن قلت: المقصود هو وضع (الاسم المقيد بالحرف) للمعنی الخاص، بحيث لا يبقی في الحرف مدلول إضافي في الكلام يستفاد بنحو تعدد الدال والمدلول كما هو المطلوب(2).

قلت: إن الأسماء وضعت لذات المعنی، ولم توضع للمعنی المقيد أصلاً، وإلاّ لزم الوضع إلی ما لا نهاية، لاختلاف التركيبات بما لا يمكن حصره، وذلك مما لا يمكن الالتزام به.

وثانياً: يلزم من ذلك جواز حذف الحروف، إذ علی هذا المبنی لا دلالة لها بل هي علائم كعلائم الإعراب التي يجوز حذفها في الوقف ونحوه من غير تغير في المعنی، وهذا اللازم باطل قطعاً لاختلال المعنی في أكثر التركيبات لو حذفت الحروف منها.

إن قلت: إن الحروف تشخص المراد الجدي ولذا لم يجز حذفها.

قلت(3): إن الحروف تكمّل المدلول الاستعمالي، ولذا لا تكون الجملة تامة بدون الحروف سواء كان لها مدلول جدي أم لا.

المبنى الثاني: كون الحروف كالأسماء

إن للحروف معنیً لا يختلف عن معنی الأسماء، فيکون الوضع

ص: 61


1- أجود التقريرات 1: 24؛ منتقی الأصول 1: 94.
2- بحوث في علم الأصول 1: 232.
3- بحوث في علم الأصول 1: 233.

والموضوع له عامين في الحروف كالأسماء، وذلك لأن الحروف لا تشتمل علی خصوصية توجب جزئية المعنی:

1- لا خصوصية في الوجود الخارجي: وذلك لاستعمال الحروف في المعاني الكلية في كثير من الأحيان مثل (سِر من البصرة إلی الكوفة) فيتحقق الامتثال بالابتداء بالسير من أية منطقة من البصرة.

2- ولا خصوصية في الوجود الذهني - المعبّر عنه باللحاظ - إذ يرد عليه ثلاثة إشكالات، كما في الكفاية(1):

أولاً: عدم الصدق علی الخارجيات، لأن المعنی مقيد باللحاظ وهو أمر ذهني، وما كان مقيداً بأمر ذهني لا موطن له إلاّ الذهن، فيمتنع امتثال مثل (سِر من البصرة)، إلاّ بالتجريد، وهو يستلزم المجازية.

وثانياً: لزوم اجتماع لحاظين في مقام الاستعمال، أحدهما: اللحاظ المأخوذ في المعنی، والثاني: اللحاظ اللازم في مقام الاستعمال، حيث لا يمكن استعمال لفظ في معنی إلاّ مع لحاظ ذلك المعنی.

وثالثاً: لزوم جزئية المعنی في الأسماء، باعتبار أن اللحاظ الاستقلالي لحاظ - وهو وجود ذهني - فيکون جزئياً دائماً، لأن الكليات إنّما هي في المفاهيم لا في الوجودات.

فتحصّل: أنه لا فرق بين الحرف والاسم في المعنی، وإنّما الفرق بينهما باعتبار اللحاظ الآلي والإستقلالي، فإذا لوحظ في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي يصير معنی حرفياً، وإن لوحظ باللحاظ الاستقلالي يصير معنیً اسمياً.

ص: 62


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 35-37.

ونتيجة ذلك هي أن الوضع والموضوع له عامين في الحروف كالأسماء، لأن ذات المعنی كلي، وعدم كون اللحاظ - الآلي كالاستقلالي - موجباً لجزئيته.

وأورد عليه إشكالات، منها:

الإشكال الأول: إنه علی ذلك يلزم الترادف بينهما، وجواز استعمال الحروف مكان الأسماء وبالعكس، مع بداهة بطلان ذلك.

والجواب: من وجوه منها:

الجواب الأول(1): إن منشأ عدم صحة استعمال أحدهما مكان الآخر هو قصور الوضع وعدم إطلاقه، فإن الاسم وضع لكي يراد معناه بما هو في نفسه، بخلاف الحرف فإنه وضع لكي يراد معناه بما هو آلة لملاحظة خصوصية حال المتعلق.

فليس منشأ عدم صحة الاستعمال، وجود المانع عن الاستعمال المذكور بعد إطلاق الوضع واقتضائه جواز الاستعمال المذكور، كما ليس منشأه من جهة تقيد المعنی في الاسم باللحاظ الاستقلالي والحرف باللحاظ الآلي، فإن ذلك مستحيل للوجوه الثلاثة التي ذکرت.

إن قلت(2): إن ذلك يقتضي أن يکون حدوث العلقة الوضعية وحصولها بين اللفظ والمعنی متوقفاً علی الاستعمال، لوضوح كون المراد باللحاظ الآلي والاستقلالي: اللحاظ في حال الاستعمال، ولازم ذلك أنه لا وضع - بمعنی لا

ص: 63


1- نهاية الأفكار 1: 41.
2- منتقی الأصول 1: 91.

وجود للعلقة الوضعية - بين اللفظ والمعنی قبل الاستعمال، وبطلان هذا لا يحتاج إلی بيان.

قلت: ليس المراد أن حصول الوضع يتوقف علی الاستعمال، بل المراد أن الوضع كان لبعض مصاديق المعنی العام، فالابتداء مثلاً له مصداقان أحدهما الابتداء الاستقلالي وقد وضع له الاسم فقط، والآخر الابتداء الآلي وقد وضع له الحرف فقط، فهذا الوضع من قبيل (ضيّق فم الركية)، فتأمل.

الجواب الثاني: إنه لافرق بين الاسم والحرف في المعنی، إلاّ أن الواضع اشترط استعمال الاسم فيما لو قُصد الاستعمال استقلالاً، واشترط استعمال الحرف فيما لم يُقصد استقلالاً بل قُصد لغيره(1).

ويرد عليه - لو أريد ظاهره، ولم يکن المقصود منه ما ذکر في الوجه السابق - :

أولاً: ما في المنتقی(2): من أن (الشرط) المأخوذ في الوضع: إما يرجع إلی (الموضوع له) بحيث يکون من قيوده، أم لا.

فعلی الأول: يلزم تقييد (الموضوع له) بالآلية والاستقلالية، فيکون رجوعاً إلی ما فرّ منه، فيرد عليه الإشكالات الثلاث المتقدمة.

وعلی الثاني: يلزم منه رجوع الشرط إلی تعدد المطلوب، فإن الشرط إذا لم يرجع إلی الموضوع له، كان مطلق المعنی هو الموضوع له في الحرف والاسم بلا قيد، وإنّما ثبت الإشتراط بنحو الاستقلال بلا دخل له في

ص: 64


1- فوائد الأصول 1: 47.
2- منتقی الأصول 1: 89.

الموضوع له، إذ الشرط خارج عن دائرة الموضوع له، فيرجع المحذور من جواز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر.

وثانياً: ما في الفوائد(1) من أنه لا ملزم لاتباع شرط الواضع، فإنه أقصی ما يقال إن الواضع هو الله تعالی وأنه ألزم بهذه الكيفية من الاستعمال، فتكون مخالفته عصياناً، وهو لا يقتضي عدم صحة الاستعمال المذكور.

مثلاً: لو وضع اسم (زيد) علی الوليد واشترط عدم إطلاقه عليه ليلاً، فلو خالفه أحد واستعمله في الليل، لايکون غلطاً، بل عصياناً علی أسوء الفروض.

هذا فضلاً عن عدم ثبوت كون الواضع هو الله تعالی، وعدم وجود أي دليل علی هذا الاشتراط، بل مع القول بأن اللغات إنّما هي بالوضع التعيّني لا يکون معنی لهذا الشرط أصلاً.

الإشكال الثاني: مخالفته للوجدان، حيث نجد في أنفسنا اختلاف معنی (من) و(الابتداء).

قال المحقق العراقي(2): مخالفته لما عليه الوجدان والارتكاز من انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالها.

وسيأتي مزيد توضيح لكلامه حين ذكر أقوال المبنی الثالث.

وأما ما في الفوائد(3) من أن مثل ألفاظ (الابتداء) (الانتهاء) (الظرف)

ص: 65


1- فوائد الأصول 1: 49.
2- نهاية الأفكار 1: 43.
3- فوائد الأصول 1: 49.

(النداء) يکون لكل منها معنی متحصل في نفسه، بحيث يسبق إلی ذهن السامع لتلك الألفاظ معانيها، ولا يصح أن يقال للمتكلم أنه ليس لمفردات كلامه معنی متحصل، نعم يصح أن يقال له: ليس لكلامه نسبة يصح السكوت عليها، وهذا بخلاف التكلم بلفظة (من) (إلی) (في) (يا) (ك)، فإنه لا يسبق إلی ذهن السامع من هذه الألفاظ معنی أصلاً، ويصح أن يقال للمتكلم بذلك: إنه ليس لمفردات كلامه معنی، بل يُعَدّ هذا الوجه من التكلم مستهجناً ومستبشعاً.

ففيه تأمل، وذلک لانسباق المعنی من بعض الحروف وجداناً.

الإشكال الثالث: إن الاسم والحرف لو كانا متحدي المعنی وكان الفرق بمجرد اللحاظ الاستقلالي والآلي، لكان طبيعي المعنی الوحداني قابلاً لأن يوجد في الخارج علی نحوين، كما يوجد في الذهن علی طورين، مع أن الحرفي - كالنسب والروابط - لا يوجد في الخارج إلاّ علی نحو واحد وهو (الوجود لا في نفسه)، ولا يعقل أن توجد النسبة في الخارج بوجود نفسي(1).

وأجيب عنه: بأنه لا يلزم تطابق الوجود الخارجي والوجود الذهني في كل الخصوصيات، فالعرض لا يوجد في الخارج إلاّ في موضوعه، مع إمكان لحاظه في الذهن مستقلاً عن موضوعه، فله في الذهن طورين مع أنه في الخارج علی نحو واحد.

إن قلت: مثل معنی الابتداء قابل للنحوين من الوجود - الاستقلالي

ص: 66


1- نهاية الدراية 1: 51.

والآلي - سواء في الذهن أم في الخارج.

قلت: لعلّه لم يكن نظر المحقق الإصفهاني إلی كل المعاني الحرفية، حتی يستشكل عليه بهذا الإشكال، بل كان نظره إلی أمثال النسب والروابط التي لا توجد في الخارج إلاّ آلة.

الإشكال الرابع: إذا كان (الموضوع له) في كل من الحرف والاسم واحداً، فلازم ذلك حدوث علاقة بين معنی الاسم والحرف، بنحو يصح استعمال كل منهما مكان الآخر مجازاً، بل العلاقة الثابتة أقوی العلاقات - إذ العلقة هي في الإتحاد الذاتي بين المعنيين - مع وضوح عدم جواز استعمال أحدهما مكان الآخر حتی مجازاً(1).

وفيه: أولاً: الاستعمال المجازي مرتبط بالعرف، لا بالدقة العقلية، والمعنی - علی هذا المبنی - وإن كان متحداً دقة لكنه مختلف عرفاً(2).

ويمكن بيانه بطريقه أخری: وهو أنه لا يکفي مجرد العلقة في المجازية، فلا يصح إطلاق (الأسد) علی (الأبخر) و(المشعر)، بل لابد من قبول ذوق العرف لذلك.

وثانياً: أنه بناءً علی عدم تحقق العلقة الوضعية يکون الحرف مهملاً إذا لم يُلاحَظ آلة، وكذا الاسم يکون مهملاً إن لم يلاحظ بالاستقلال، والمهمل لا يصح استعماله لا حقيقة ولا مجازاً.

ويرد عليه: أنه في جميع الاستعمالات المجازية، يکون اللفظ وضع

ص: 67


1- فوائد الأصول 1: 49.
2- منتقی الأصول 1: 94.

لمعنی واستعمل في معنی آخر، وكذا هنا الحرف وضع للمعنی الآلي فيستعمل في المعنی الاستقلالي مثلاً.

الإشكال الخامس: النقض بموارد لوحظت بعض الأسماء آلة، أو الحروف استقلالاً، منها:

النقض الأول: الأسماء التي أ ُخذت معانيها معرفاً لغيرها وآلة للحاظه، مثل العناوين الكلية المأخوذة في القضايا حال كونها معرفات، مثلاً الكلي آلة للحاظ أفراده ومصاديقه، فإن الكلي تارة يلحظ بما هو ويحمل عليه المعقولات الثانوية - كالإنسان نوع - ، وأخری يلحظ مرآةً لأفراده وسارياً فيها ويحمل عليه الأحكام الثابتة للأفراد، فيقال (الماء يرفع العطش) و(النار حارة)، وعليه فيلزم أن تكون المعاني الاسمية حرفياً إذا لوحظت مرآة لمصاديقها وفانية فيها(1).

وفيه: أن معنی الآلية هو فناء مفهوم في مفهوم آخر، لا فناء العنوان في المصداق الخارجي(2).

قال المحقق العراقي(3): إنهم أطبقوا علی كونها - أي الحروف - غير مستقلة بالمفهومية، وربما أرجع (عدم الاستقلال بالمفهومية) إلی عدم استقلالها في مقام لحاظها بجعلها آلة لملاحظة حال الغير، قبال مفاهيم الأسماء الملحوظة بالاستقلال، وإلی ذلك نظر من قال بأن معانيها آلية

ص: 68


1- دراسات في علم الأصول 1: 39.
2- بحوث في علم الأصول 1: 235.
3- مقالات الأصول 1: 83.

ومرآتيّة.

وبعبارة أخری - كما قيل - : المعاني الاسمية والحرفية بناءً علی المبنی الثاني واحدة وإنّما الفرق في اللحاظ فقط، بمعنی أن (الابتداء) في (من) لوحظ آلة - أي رابطاً بين الطرفين - فوضع له الحرف، وفي لفظ (الابتداء) لوحظ مستقلاً فوضع له الاسم.

النقض الثاني: النقض بالمصادر، فإن فرقها عن أسماء المصادر هو أن المصادر أخذت بما هي أوصاف لمعروضاتها، بخلاف أسماء المصادر الملحوظ فيها الحدث بما هو شيء في نفسه، مع قطع النظر عن كونه وضعاً لغيره.

وأجيب: بأن المصادر مركبة من مادة وهيأة، فالمادة هي نفس الحدث وهو معنی اسمي، وأما الهيأة فلا بأس في القول بأنها معنی حرفي(1).

وفيه: أن غرض المستشكل هو أن المصدر - بمادة وهيأته - لم يلاحظ بشكل مستقل، بل لوحظ حالة في غيره، فانطبق عليه المعنی الحرفي - علی المبنی الثاني - .

فالأولی: الجواب عنه بما مرّ في الجواب عن النقض الأول.

النقض الثالث: قد يکون المعنی الحرفي هو المقصود بالإفادة، كما لو كان الموضوع والمحمول معلومين، مع الجهل بخصوصياتهما، فلو سأل شخص عن تلك الخصوصيات فأجيب عنها، فإن السائل والمجيب ينظران إلی هذه الخصوصيات بالنظرة الاستقلالية، مع أنها حالة في الغير ومعنی حرفي.

ص: 69


1- بحوث في علم الأصول 1: 236.

وفيه(1): أولاً: المستعمِل ينتزع مفهوماً اسمياً مشيراً به إلی واقع المعنی الحرفي الخاص ويجعله مدخول الاستفهام، نظير الإشارة إلی (العدم) والحكم عليه، فإن له وجوداً ذهنياً ولذا أشار إليه وحكم عليه، ولكن هذا الوجود الذهني يشير إلی واقع (العدم)، وكذا مثل (واجب الوجود) و(ممتنع الوجود) فإن المفهوم المنطبع في الذهن إنّما هو موجود ذهني ممكن، لكنه يشير إلی واقع لا يمكن إحضاره إلی الذهن، فتأمل.

وثانياً: أن يکون اللحاظ الاستقلالي متعلقاً بطرف المعنی الحرفي، أي بالمعنی الاسمي المتحصص بالحرف - بما هو متحصص - فيکون لحاظ التحصص تبعاً، كما لو سأل (إن زيداً هل جاء في البر أم البحر؟)

المبنى الثالث: اختلافهما بالذات

إن المعاني الحرفية تختلف عن المعاني الاسمية بالذات.

ولتصوير هذا المبنی وجوه متعددة - وهي أقوال مختلفة - منها:

القول الأول: الإيجادية

وهو ما ذهب إليه المحقق النائيني(2) وحاصله: أنه لا جامع بين المعنی الحرفي والمعنی الاسمي، وأن الحروف وضعت لإيجاد معنی في الغير - مع أربعة قيود - ، والأسماء وضعت بازاء المفاهيم المقررة في وعاء العقل.

وأما القيود الأربعة، فهي:

1- إن المعنی الحرفي إيجادي لا إخطاري، عكس المعنی الاسمي.

ص: 70


1- راجع منتقی الأصول 1: 92-93؛ بحوث في علم الأصول 1: 236.
2- فوائد الأصول 1: 35-45.

والإخطار: هو كون استعمال اللفظ في المعنی يوجب إخطار معناه في ذهن السامع واستحضاره لديه، لأن المفاهيم الاسمية لها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل - الذي هو وعاء الإدراك - .

والإيجاد: هو أن يکون استعمال اللفظ موجباً لايجاد المعنی من دون أن يکون للمعنی نحو تقرر وثبوت بدون الاستعمال، بل المعاني توجد في موطن الاستعمال، مثل كاف الخطاب وياء النداء، بداهة أنه لولا قولك (يا زيد) و(إياك) لما كان هناك نداء ولا خطاب، ولا يكاد يوجد معنی ياء النداء وكاف الخطاب إلاّ بالاستعمال.

2- إن المعنی الحرفي قائم بغيره لا بنفسه، والمعنی الاسمي قائم بنفسه.

فالمعنی الاسمي مدرك من حيث نفسه وله تقرر في وعاء العقل من دون أن يتوقف إدراكه علی إدراك أمر آخر، حيث إنه معنی يقوم بنفسه في مرحلة التصوّر والإدراك، وله نحو تقرر وثبوت.

وإن النسبة بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية هي النسبة بين المصداق والمفهوم، (فالنداء) مفهوم اسمي موطنه الذهن، والنداء الذي يوجد ب-(يا) هو مصداقه في الخارج، ومن الواضح الفرق بين المصداق والمفهوم، فالحروف بأجمعها إنّما وضعت لايجاد مصاديق الربط والنسبة، والأسماء وضعت بازاء مفاهيم تلك الروابط، فلا ترادف بين لفظة (يا) وبين لفظة (النداء).

3- إن المعنی الحرفي ليس له تقرر وثبوت بعد إيجاده.

بل كان إيجاده في موطن الاستعمال، ويکون الاستعمال مقوماً له،

ص: 71

ويدور حدوثه وبقاؤه مدار الاستعمال.

4- إن المعنی الحرفي حين إيجاده مغفول عنه وغير ملتفت إليه.

بداهة أن المعنی الحرفي - بما أنه معنی حرفي - لو کان ملتفتاً إليه قبل الاستعمال أو حين الاستعمال، لما كان موطنه الاستعمال، بل كان له موطن غير الاستعمال، إذ لا يمكن الالتفات إلی شيء من دون أن يکون له نحو تقرر في موطن، نظير الغفلة عن الألفاظ حين تأدية المعاني بها، لفناء اللفظ في المعنی وكونه مرآة له.

وبعبارة أخری(1): إن المعنی الحرفي بعد أن كان من سنخ اللحاظ والتصوّر وكيفية من كيفياته ولم يكن من المفاهيم المتقررة، كان غير قابل لتعلّق اللحاظ الاستقلالي به والإلتفات إليه، لأن اللحاظ في ظرفه غير ملتفت إليه أصلاً ومغفول عنه، والإلتفات يکون لنفس الملحوظ، فما يکون من سنخ اللحاظ ومن كيفياته - كالنسبة والربط - لم يكن قابلاً للإلتفات.

إن قلت: إن بعض الحروف ليست إيجادية، بل تحكي عن النسبة الخارجيّة مثل (من) و (إلی) ونحوهما ولذا فصّل صاحب (الحاشية علی المعالم) بين الحروف، فاعتبر بعضها إيجادية وبعضها إخطارية(2).

قلت: الحاكي عن النسبة هو الجملة وليس الحرف، فمثل (سرت من البصرة) لا شك من خطور الابتداء والانتهاء الحرفي - أي النسبة الابتدائية والانتهائية - ، لكن ليس الحاكي عنها الحرف بل كل الجملة بتركيبها.

ص: 72


1- منتقی الأصول 1: 97.
2- هداية المسترشدين 1: 146.

هذا محصل ما يستفاد من كلام المحقق النائيني في الفوائد.

ويرد عليه عدة إشكالات:

الإشكال الأول: إن هنالك نسبة بين الموجودين الخارجيين، ونسبة في الذهن بين المفهومين، وحرف يُنطق به في الكلام.

وفي الأول والثاني: تكون النسبة جزئية، رابطة بين الوجودين الخارجيين أو المفهومين الذهنيين.

وأما الثالث: فإن استعمال الحرف قد يکون للحكاية عن النسبة الموجودة في الخارج، فتكون المفاهيم الذهنية ونسبتها مرآة للحكم علی الخارج، وقد يکون لإيجاد شيء في الخارج كالنداء ب-(يا).

الإشكال الثاني: إن لنا مواطن ثلاث: الخارج، وذهن المتكلم، وذهن السامع.

أ) فإن كان المراد من (الإخطار): كشف الأسماء عن معنی في ذهن المتكلم، فالحروف كذلك.

ب) وإن كان المراد من (الإيجاد): هو إيجاد الحروف للمعنی في ذهن السامع، فالأسماء كذلك.

ج) وإن كان المراد هو وجود المعنی في الخارج، فكلاهما - أي الأسماء والحروف - قد يکونان إيجاديين وقد يکونان إخطاريين، أي قد يُوجدان المعنی في الخارج، وقد يحكيان عن وجوده في الخارج.

الإشكال الثالث: إنه لا يکون الكلام جدياً إلاّ إذا كان المتكلّم قاصداً له، ففي مثل (يا زيد) يکون هنالك تصوّر للنداء - بمعناه الحرفي - ثم قصده،

ص: 73

فالمعنی الحرفي حاضر في الذهن قبل الاستعمال.

إن قلت: في مثل (يا زيد) لا يکون النداء حاصلاً قبل الاستعمال!!

قلت: النداء بوجوده الخارجي يتوقف علی كلمة (يا)، ولكن بوجوده الذهني الربطي - أي بمعناه الحرفي - لا يحتاج إلی هذه الكلمة، بل يسبقها.

والحاصل: إن (يا) النداء، كما تُوجد النداء في الخارج، كذلك لها معنی في الذهن قبل الاستعمال، وإلاّ كان الاستعمال من غير قصد ولغواً.

الإشكال الرابع: لم يعرف معنی محصل ل-(الغفلة عن المعنی الحرفي) إذ عدم تعلق اللحاظ بالمعنی الحرفي باعتبار أنه من تحصيل الحاصل حيث إن المعنی الحرفي من سنخ اللحاظ، لا يلازم الغفلة عنه، بل كونه من سنخ اللحاظ هو عين الالتفات إليه، فإن اللحاظ هو بمعنی وجود الشيء في الذهن، والغفلة هي بمعنی عدم وجوده فيه، ففي الكلام تهافت.

والحاصل: إن المفهوم يحتاج إلی تعلق اللحاظ به ليوجد في الذهن، لكن اللحاظ أو ما كان من سنخه هو موجود في الذهن حاضر فيه فيکون ملتفتاً إليه، فتأمل.

الإشکال الخامس(1): إن مضامين الأسماء تكون في رتبة سابقة عن كشف الألفاظ عنها، فلو كان شأن الحروف هو إيجاد الارتباطات الخاصة بين مفاهيم الأسماء، فإن ذلك يلزمه تأخر صقع الارتباط بين المفهومين عن صقع الألفاظ.

فمضامين الأسماء متقدمة علی الألفاظ، والألفاظ مقدمة علی الربط - الذي

ص: 74


1- نهاية الأفكار 1: 49.

هو المعنی الحرفي علی هذا المبنی - ومعنی ذلك تقوّم الربط بما هو متقدم عليه بمرتبتين وهو محال.

وبيان المحالية - كما عن البدائع(1) - ما تصورته النفس حال كونه غير مرتبط، لا يعقل إحداث الربط فيه، لأن الوجود لا ينقلب عما هو عليه، مثلاً لو قال: (زيد)، فإنه يتصور السامع مفهومه مستقلاً لعدم علمه بعدُ بالربط وبمفاد الجملة، فلو قال بعد ذلك (في الدار) فإن إحداث الربط في الموجود غير المرتبط ممتنع.

وأشكل عليه(2): بأن الربط من خصوصيات نفس اللحاظ والتصور، فبذكر لفظ (زيد) يتحقق تصوره بلا أي تقيد، وبعد ذكر (في الدار) تضاف إلی ذلك اللحاظ والتصور خصوصية، ولا محذور في ذلك لأن الربط هو إضافة خصوصية إلی الوجود، فهو نظير حدوث الأوصاف علی الوجود الخارجي.

وفيه تأمّل: لأن الحرف يكشف عن الربط الموجود في ذهن المتكلم، وايجادية الحرف هي بمعنی تأخر ذلك الربط في ذهن السامع، فكيف يکون ما في ذهن السامع رابطاً للمفاهيم الموجودة في ذهن المتكلم؟

الإشکال السادس(3): أنّ لازم هذا القول هو إخراج جميع مثل هذه التقييدات عن حيّز الطلب والإرادة في الطلب المنشأ بالهيأة، كما في نحو

ص: 75


1- نقله في منتقی الأصول 1: 102.
2- منتقی الأصول 1: 104.
3- نهاية الأفکار 1: 49.

(سر من البصرة إلی الكوفة)، لأنه علی هذا المبنی تقييد السير بالبصرة في الموطن المتأخر عن موطن مفهومي الاسمين - أعني ذات السير والبصرة - ، وإن ذلك يستلزم كون هذا التقييد في عرض الطلب المنشأ بالهيأة، وذلك لأنه كما لفظ (من) علة لتحقق التقيد والإرتباط الخاص، كذا الهيأة علة لإيجاد الطلب، فكان العلتان في عرض واحد، فمعلوليهما - وهما الطلب والتقييد في عرض واحد - ولازم ذلك خروج جهة التقيد عن حيّز الطلب وتجريد متعلقه عنه، من جهة استحالة أن يؤخذ في متعلق الطلب ما هو في عرضه.

وبعبارة أخری: لو التزم بايجادية المعنی الحرفي لزم أن يکون معنی الحرف في حيّز الطلب وصقعه لا في حيّز المطلوب وصقعه، لأنهما يوجدان باللفظ، فيکون المعنی الحرفي متحققاً حال تحقق الطلب، فلا يکون مأخوذاً في المطلوب لتقدم المطلوب علی الطلب، فلا يکون القيد مأخوذاً في المطلوب، وإلاّ لزم الخلف - لتقدم المطلوب بقيوده علی الطلب - .

وأجيب عنه(1): بأن تقدم المطلوب علی الطلب إنّما هو في ذهن الآمر، والحروف ليست موجدة لمعانيها في ذهنه، بل توجدها في ذهن السامع، وليس المطلوب في ذهن السامع متقدماً علی الطلب، وأما بالنسبة إلی المتكلم فالمعنی الحرفي ليس من صقع الطلب لأنه متحقق قبل التلفظ.

وفيه تأمل: لنفس ما ذكرناه في الجواب السابق، فإن الطلب متأخر عمّا في ذهن الآمر، فلو لم يقصد الآمر التقيدات فلا تكون متعلقة لطلبه أصلاً فلا يجب امتثالها، فتأمل.

ص: 76


1- منتقی الأصول 1: 104.

القول الثاني: الوجود الرابط

ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني(1): وهو أن الحروف موضوعة للوجود الرابط، وهو أضعف أنحاء الوجود، وذلك لأن الوجود علی أربعة أنحاء:

1- في نفسه ولنفسه وبنفسه، وهو الواجب تعالی.

2- في نفسه ولنفسه ولكن بغيره، وهو الجوهر.

3- في نفسه ولغيره وبغيره، وهو الأعراض، ويعبّر عنه بالوجود الرابطي.

4- لا في نفسه ولغيره وبغيره، وهو الوجود الرابط، وهذا هو المعنی الحرفي.

ومعنی (في نفسه) أنه في مرتبة ذاته لا يحتاج إلی أن يتقوّم بوجود غيره فيمکن تصوّره مستقلاً، ومعنی (لنفسه) هو أنه في مرتبة وجوده الخارجي لا يحتاج إلی محلّ، ولذا كان العرض (لغيره) لأنه في وجوده محتاج إلی محل، ومعنی (بنفسه) أي لا يحتاج إلی علّة لوجوده وهذا منحصر في الواجب تعالی، لأن سائر أنحاء الوجود ممكنه تحتاج إلی علّة لايجادها.

واستدل علی تحقق (الوجود الرابط): بأنا قد نتيقن بوجود الجوهر والعرض، فنعلم بوجود زيد ونعلم بوجود القيام - مثلاً - ، ولكنا نشك في ثبوت هذا العرض المقطوع به للموضوع المقطوع به فلا ندري هل القائم زيد أم عمرو.

ومن الواضحات لزوم تغاير متعلق الشك واليقين، وحيث كان متعلق اليقين هو: (الجوهر والعرض)، فيکون متعلق الشك أمراً آخر هو (الوجود

ص: 77


1- نهاية الدراية 1: 52-55.

الرابط).

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

1- إشكال مبنائي، بعدم تحقق (الوجود الرابط)، وأن الدليل غير تام، لأنا قد نتيقن بالطبيعي ونشك في المصداق، مع أن الوجود في الخارج واحد، وهكذا هنا يکون اليقين بطبيعي العرض - كالقيام في المثال - ، والشك في مصداقه - أي تحققه في زيد - .

وفيه: أنه لعل المقصود هو إثبات تغاير (بين الجوهر والعرض) وبين (الوجود الرابط)، فقد نعلم ونقطع بوجود الجوهر والعرض، ولكن نشك في الارتباط بينها، فلا ندري هل هناك ارتباط أم لا بين (زيد) وبين (القيام)، وهذا يدل علی أن هناك شيء آخر غير الجوهر والعرض وهو (الوجود الرابط)، وإلاّ لم يكن مورداً للشك، بل كان ينبغي القطع بعدم وجوده، فلاتشبه (الطبيعي ومصداقه)، فتأمل.

2- إشكال بنائي، بأنه قد تستعمل الحروف في موارد يعلم بعدم وجود الرابط بينها مثل (الله عالم)، مع عدم تحقق أية نسبة وربط بين الواجب وصفاته الذاتية، لأنها عين ذاته.

وفيه نظر: أولاً: إنّ استعمال الكلمات في الواجب تعالی إنّما هو بنفس المعاني المستعملة في غيره وذلك لقصور اللغة، فتلك المعاني مرادة بالإرادة الاستعمالية، ولكنها قد لا تكون مرادة بالإرادة الجدّية، والمدار في الحقيقة والمجاز علی الإرادة الاستعمالية لا الإرادة الجدّية، كما ذكروا نظيره في العام المخصص بالمنفصل.

ص: 78

وثانياً: إن الربط إنّما هو في المفهوم الذهني للمتكلم، لا في الوجود الخارجي، فقد ذكرنا أن الألفاظ تدل علی المعاني في ذهن المتكلّم، والمفاهيم الموجودة في ذهنه ممكنات فلا إشكال في إيجاد الربط بينها، ويدل الحرف علی ذلك الربط، فتأمل.

القول الثالث: العَرَض النسبي

وهو ما نسب إلی المحقق العراقي، ولكن لا يظهر هذا منه في نهاية الأفكار ولا في المقالات، بل يظهر منه ردّ هذا الكلام(1).

وحاصل هذا القول هو أن الحرف موضوع للعرض النسبي، أي العرض المتقوّم في وجوده بطرفين كالأبوة والبنوة.

وذلك لأن الأعراض علی قسمين، فمنها ما لا يتقوم إلاّ بطرف واحد كالكم والكيف وهذا معنی اسمي، ومنها ما يتقوم بالطرفين مثل الأبوة والبنوة فهذا معنی حرفي!! مثلاً (من) موضوعة للإبتداء المتقوم ب-(المبتدِأ) و(المبتدأ منه)، و (في) موضوعة للظرفية، المتقومة بالظرف والمظروف.

إن قلت: المعاني الإفرادية تحتاج في إفادة المعنی التركيبي إلی رابط يربط بعضها ببعض، فإذا كان معنی الحرف نفس (العرض النسبي) احتاج الكلام إلی رابط يربط بعض أجزائه ببعض لعدم صلاحية الحرف للربط إذا كان معناه نفس العرض.

قلت: الرابط هو الهيأة التركيبية في الكلام، فلفظ (في) - مثلاً - يدل علی العرض الأيني العارض علی زيد في قولنا (زيد في الدار) والرابط بين (زيد)

ص: 79


1- راجع نهاية الأفكار 1: 45.

و(في) و(الدار) هو الهيأة التركيبية، وكذلك هيأة مثل (عالم) و(أبيض) و(مضروب)... الخ تدل علی ربط العرض بموضوعٍ ما.

وأشكل عليه(1): بأن المعنی الحرفي إن كان هو العرض النسبي، فلا يفترق حينئذٍ عن المعنی الاسمي، لأن كليهما - علی هذا المبنی - موضوعان للعرض النسبي، فلفظ (في) ولفظ (الظرفية) سيکونان بمعنی واحد، وهذا خلاف الوجدان، إذ إن الأعراض التسع - كلها ومنها الأعراض النسبيّة - من الوجودات المستقلة في ذاتها، وهي معان اسمية.

وعليه فبناءً علی هذا لا يظهر هنالك فرق ذاتي بين الاسم والحرف في المعنی، وهذا يناقض ما ذكره من الفرق الذاتی بينهما.

فتحصل أن الصحيح هو ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني من كون معنی الحروف هو الوجود الرابط، لتعقله في نفسه ولعدم ورود إشكال عليه، مع ورود الإشكال علی كل الأقوال الأخری.

المطلب الثاني: في كيفية الوضع للحروف

بعد أن تبين معنی الحرف، نأتي إلی البحث عن كيفية الوضع في الحروف، فهل هو من (الوضع العام والموضوع له العام)، أم هو من (الوضع العام والموضوع له الخاص)؟

أما علی المبنی الثاني - وهو مبنی صاحب الكفاية من عدم الفرق بين المعنيين الاسمي والحرفي - فواضح أن الموضوع له عام، لأن اللفظ وضع للمعنی المطلق.

ص: 80


1- منتقی الأصول 1: 110-111.

وأما علی المبنی الثالث - سواء قلنا بإيجادية الحروف أم بإخطاريتها - ، فقد اختلف الأعلام:

1- فقد قيل: بأن الموضوع له عام.

قال المحقق النائيني(1): بعد ما كان قوام المعنی الحرفي بالغير - وكان وجوده بعين استعماله - ، فالخصوصية اللاحقة له باعتبار ذلك الغير، كالبصرة في (سرت من البصرة) ومكة في (سرت من مكة) ونحوهما...

أ) هل هي مما يتقوّم بها المعنی الحرفي، ولاحقة له بهويته - علی نحو التقييد داخل والقيد خارج - فيکون الموضوع له خاصاً.

ب) أم أن تلك الخصوصية خارجة عن المعنی الحرفي كلاً، فتكون تلك الخصوصية نظير المحل الذي يحتاج إليه العرض في التحقق، مع أنه خارج عن هوية ذاته ولا يتقوم به معنی العَرَض؟ فيکون الموضوع له عاماً.

والصحيح هو أن (الموضوع له) عام، لأنا حينما ننظر إلی استعمالات (من) و(إلی) - مثلاً - نجد أن معنی الكلمتين مختلف، لكن حينما ننظر إلی مختلف استعمالات (من) - مثلاً - نجد أن هنالك معنی وحداني في كل تلك الاستعمالات، وهو الجامع الموجود في كل تلك الاستعمالات الجزئية، وهذا يكشف عن وحدة المعنی الموضوع له، ولو كان المعنی جزئياً لكان ما يوجد بقولك (سرت من البصرة) مبايناً لما يوجد بقولك (سرت من الكوفة)، كمباينة شخصين اسم كل واحد منهما (زيد)، بداهة تباين الجزئيات بعضها مع بعض، وحيث لا نری تفاوتاً بين النسب الابتدائية التي

ص: 81


1- فوائد الأصول 1: 56.

توجدها لفظ (من)، فنعلم أن لفظة (من) موضوعة للقدر الجامع بين ما يوجد في تلك الموارد.

2- وقيل: إن الموضوع له في الحروف خاص لا عام.

واستدل له(1): بأنه إن لوحظ الطرفان إنعدم الجامع، وإن لم يلحظ الطرفان لم يكن الجامع من المعاني الحرفية لأن المعنی الحرفي متقوم بالطرفين.

فإن تصور كون الموضوع له عاماً إنّما يکون بلحاظ الوضع للجامع بين الوجودات الخاصة، والجامع غير متحقق ولا يتصور فيما نحن فيه إلاّ بالغاء خصوصية الطرفين، ليکون الجامع كلي الوجود، إذ مع ملاحظة الطرفين يکون كل وجود مبايناً للوجود الآخر، لأنه فرد آخر، وكل فرد بخصوصيته مغاير للفرد الآخر، ولا يمكن تجريد المعنی عن الطرفين لتقوم المعنی الحرفي بهما.

وفيه: أنه من الصحيح إن تصور المعنی الكلي المجرد عن الطرفين ملازم لاسمية ذلك المعنی، ولكن لا يشترط في الوضع التصور التفصيلي للمعنی، بل يکفي الإشارة إلی ذلك المعنی من غير تصوره تفصيلاً، وقد مرّ نظيره في الحكم علی (العدم) و(الواجب) و(الممتنع)، فإنه لا يمكن تصورها بحقيقتها لأن ما في الذهن هو وجود ممكن، لكن عبر ذلك الممكن يشار إليها، وهكذا الجامع الحرفي لا يمكن تصوره ولكن يمكن أن يشار إليه عبر جزئياته، فتأمل.

ص: 82


1- منتقی الأصول 1: 120.
المطلب الثالث: ثمرة البحث في المعنى الحرفي

ستذكر الثمرة إن شاء الله تعالی في بحث الواجب المشروط.

وحاصلها أن ثمرة البحث في رجوع القيد إلی المادة أو إلی الهيأة - بأن يکون الوجوب مقيداً أم الواجب - تبتني علی المعنی الحرفي في بعض الصور.

مثلاً لو قال: (إن استطع فحُجَّ)، بأن کان الدال علی الوجوب الهيأة...

1- فهل القيد - وهو الاستطاعة - قيد للمادة وهو الحج، فالوجوب مطلق، فيجب تحصيل الاستطاعة، کما أن الأمر بالصلاة مطلق فيجب تحصيل مقدمته وهي الوضوء - مثلاً - .

2- أم القيد هو قيد للهيأة، فيكون الوجوب مقيداً بالاستطاعة، فلاوجوب قبلها، فلايجب تحصيل مقدمته التي هي الاستطاعة.

فإذا أمكن رجوع القيد إلی أيٍّ من المادة والهيأة، فالمتّبع هو ظهور اللفظ في أيٍّ واحد منهما، وإن لم يكن ظهور فالمرجع سائر الأدلة أو الأصول العملية.

ولكن قد يدعی عدم إمكان رجوع القيد إلی الهيأة، فلابدَّ من رجوع القيد إلی المادة، ومن هنا أنكر جمعٌ (الوجوب المشروط).

وأمّا وجه عدم الإمكان فهو مبتنٍ علی ما قُرّر في المعنی الحرفي، بأحد وجهين:

الأول: إن قيل بأن في المعنی الحرفي (الموضوع له خاص)، فلا يمكن رجوع القيد إلی الهيأة - التي هي معنی حرفي - ، لأنّ الخصوصية هي بمعنی

ص: 83

الجزئية، والجزئي لا يقبل الإطلاق - الذي له قابلية الصدق علی الكثيرين - ، وإذا امتنع الإطلاق إمتنع التقييد، لأن تقابلهما تقابل العدم والملكة، حيث إن التقييد هو تضييق دائرة المطلق.

والحاصل: إن الإطلاق والتقييد يرتبطان بالمفاهيم، لا بالوجودات، وبناءً علی (الموضوع له الخاص) في الحروف، يمتنع رجوع القيد إلی الهيأة التي هي معنیً حرفي.

واُورد عليه: بأن خصوصية الموضوع له لا تنافي التقييد، لأن الإطلاق الأفرادي هو الذي لا يتصور في الخاص، دون الإطلاق الأحوالي، فيمکن التقييد والإطلاق في الجزئي بلحاظ الأحوال!!

مثلاً: (زيد) جزئي لا إطلاق له من حيث فرديته، لأن الوجود هو هو لا غيره، ولكنه قد تعرضه حالات مختلفة فيقال: (زيد مقيداً بالحالة الفلانية) أو يقال: (زيد من غير تقييده بحالة خاصة).

وبعبارة أخری: هناك قيود ترجع إلی ذات الشيء، وهذه يستحيل لحوقها بالموجودات بعد وجودها، وهناك قيود هي عوارض علی الشيء فيمکن لحوقها بها.

الثاني: إن المعنی الحرفي متقوّم بالآلية، فيلاحظ آلة في غيره، فلا يصح الإطلاق والتقييد فيه، وذلك لأنهما يقتضيان اللحاظ الإستقلالي، أي لا يمكن تقييد شيء من غير التوجه إليه، وحيث إن المعنی الحرفي مغفول عنه - لأنه آلة في غيره - فلا يمكن تقييده!

وفيه: أن الآلية ليست بمعنی الغفلة عن الشيء - كما مرّ - بل بمعنی عدم

ص: 84

تحقق وجود الشيء بالاستقلال، بحيث يکون وجوده متقوماً بالطرفين، ففي الذهن لا يمكن تصور المعنی الحرفي إلاّ مع تصوّر الطرفين، وهذا لا يلازم الغفلة عنه، فتأمل.

وفي هذا تفصيل - مبنیً و بناءً - سيأتي بحثه إن شاء الله تعالی.

البحث الخامس: في الإنشاء والإخبار

اشارة

إن الإنشاء والإخبار يرتبطان بالهيأة، ولذا كانا معنیً حرفياً، فتمّ البحث عنهما تتمة للبحث عن المعنی الحرفي.

ولابد من البحث في مقامات ثلاث: 1- معنی الإنشاء والإخبار، 2- الفارق بين الجمل الإخبارية والإنشائية، 3- في كيفية الإيجاد في العقود.

المقام الأول: معنى الإنشاء والإخبار

وفيه أقوال:

القول الأول: ما ذهب إليه المشهور: من أن (الإنشاء) هو إيجاد المعنی بواسطة اللفظ في عالم الاعتبار، فيکون إلقاء اللفظ سبباً لاعتبار العقلاء للمعنی، مثلاً حين إجراء عقد البيع، يتحقق بهذا اللفظ اعتبار العقلاء للملكية.

وأما الإخبار فهو الحكاية عن الخارج - وليس إيجاد المعنی فيه - وحينئذٍ فقد تتطابق الحكاية مع الخارج فيکون صدقاً، وقد لا تتطابق فيکون كذباً.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن هذا التعريف لا يشمل مثل التمنّي والترجي ونحوهما من الأمور التكوينية التی لها ما بإزاء في الخارج، حيث إنها

ص: 85

صفات نفسانية، ووجودها تابع لتحقق أسبابها التكوينية، ولا ترتبط بالإعتبار أصلاً، مثلاً من يرجو رحمة الله، ويقول (لعلّ الله يرحمني) فإن الترجي بما هو صفة نفسانية موجود في نفسه، وقد عبّر عمّا في نفسه بلفظة (لعلّ) سواء اعتبر العقلاء الترجي أم لم يعتبرونه.

وأجيب عنه: أولاً: بأنه لا ضير في خروج الصيغ الدالة علی التمني ونحوه عن الإنشاء فإن هذا ليس بمحذور(1).

وسيأتي التحقيق في ذلك.

وثانياً: إن معنی الإنشاء هو استعمال اللفظ لا بقصد الحكاية - سواء قصد الإيجاد أم لم يقصد - ، فليس معنی الإنشاء هو استعمال اللفظ في المعنی بقصد إيجاده!

وفيه: أن ذلك خروج عن تعريف المشهور، بل هو تسليم بورود الإشكال عليه.

الإشكال الثاني: إن العقلاء إنّما يعتبرون الشيء إذا كان له ثمرة، ومع فقدان الثمرة لا اعتبار للعقلاء، إذ هو لغو فلا يرتكبونه، وعليه: يلزم عدم تحقق الإنشاء في المورد الذي يعلم المُنشئ بعدم ترتيب الأثر، وهذا يستلزم خروج عدة من الموارد التي نقطع بأنها إنشاء، مثل الإنشاء المكرّر بصيغ متعددة، لاعتبار العقلاء للمعنی بأول إنشاء، فلا يوجد بالثاني والثالث... ومثل بيع الغاصب والفضولي، فإنهما يعلمان بعدم ترتيب الأثر علی إنشائهما.

ص: 86


1- منتقی الأصول 1: 136.

وأجيب: أولاً(1): بأنه ليس الإنشاء علة تامة لترتب الأثر - أي الإيجاد - بل قد يکون جزء العلة للإيجاد، فيترتب الأثر عليه مع انضمام سائر ما له دخل في التأثير، وعليه فالإنشاء هو إيجاد المعنی باللفظ في الاعتبار مع تحقق سائر الشرائط الدخيلة في ذلك الإيجاد، ففي مثل الغاصب والفضولي إذا انضم إليه رضى المالك، فتأمل.

وثانياً: إن الإنشاء علی قسمين: ما لا يقبل التأكيد - كالملكية - فيکون التكرار لغواً، وما يقبله - كالطلب - فلا يکون التكرار لغواً.

وفيه: أن ما لا يقبل التأكيد لا يکون التكرار فيه لغواً، بل هو بقصد إيجاد المعنی لو لم يكن الإنشاء الأول كافياً لوجود خلل فيه - مثلاً، وكيف يکون لغواً مع أن ديدن العقلاء التكرار في أمثال هذه الموارد.

وثالثاً: إن الغاصب يدعي أنه المالك بالحقيقة الادعائية، فيُرتب هو علی فعله ما يترتب علی فعل المالك الحقيقي، فيجري الصيغة بقصد الإيجاد، فتأمل.

القول الثاني: إن (الإنشاء) هو إيجاد المعنی في نفس الأمر، لا الحكاية عن ثبوته وتحققه في موطنه من ذهن أو خارج، و(الخبر) هو الحكاية عن ثبوت المعنی في موطنه.

ومعنی نفس الأمر: أنه ليس مجرد تخيّل، كفرض الإنسان جماداً، ولا بمعنی أن له وجوداً خارجياً، وإنّما للشيء ثبوت لا في الخارج بل في الذهن في نفس الأمر، ولنعبر عنه بعالم الإنشاء.

ص: 87


1- منتقی الأصول 1: 134.

مثلاً: ملكية المشتري قبل البيع لم يكن لها ثبوت، ولكن بعد الإنشاء حصل لها نحو ثبوت وخرجت عن مجرد فرض وتخيّل، مع أنها ليس لها ما بإزاء في الخارج.

وعليه: فيدخل في هذا التعريف ما كان خارجاً عن تعريف المشهور، مثل:

1- التمني ونحوه، لأنه لا يعتبر في الإنشاء بناءً علی هذا القول إيجاد الشيء في عالمه - وهو الوجود الخارجي التكويني - كي يقال: بأنه تابع لأسبابه التكوينية، بل تتحقق تلك الصفات في عالم الإنشاء، حتی وإن لم تتحقق في الخارج، ويترتب عليها آثارها في ذلك العالم.

2- وكذا يدخل في التعریف الإنشاء المكرّر، إذ لا يعتبر - علی هذا القول - ترتب أثر شرعي أو عرفي عليه، بل بكل إنشاء يوجد المعنی في عالمه الخاص به - وهو عالم الإنشاء - ، فليس الإنشاء الثاني إيجاد الموجود حتی يستشكل بأنه تحصيل للحاصل.

والحاصل: إن (الإنشاء) هو إيجاد المعنی بوجود إنشائي غير إيجاده في عالمه المناسب له، سواء كان الواقع الخارجي أم الاعتباري.

وفيه: أولاً: إنه لم يذكر لهذا القول دليل في مقام الإثبات، فبعد إمكان هذا المعنی في عالم الثبوت نحن بحاجة إلی إثباته.

وثانياً: إن الظاهر في إنشاءات العقلاء أنه يقصدون إيجاد المعنی في عالم الاعتبار العقلائي، فما ذكر مخالف للإنشاءات العقلائية.

ص: 88

القول الثالث: ما يظهر من المحقق الإصفهاني(1)، وحاصله: إن الإنشاء هو ثبوت المعنی باللفظ، أي يراد ثبوت المعنی بعين ثبوت اللفظ، فينسب الثبوت إلی اللفظ بالذات، وإلی المعنی بالعرض. فاللفظ - بواسطة العلقة الوضعية - وجود المعنی تنزيلاً في جميع النشآت، فكأنّ المعنی ثابت في مرتبة ذات اللفظ، بحيث لا ينفك عنه في مرحلة من مراحل الوجود.

ولا يمكن أن يراد ثبوت المعنی منفصلاً عن اللفظ، بأن يکون اللفظ آلة لثبوت المعنی، بحيث ينسب الثبوت إلی كل منهما بالذات، لأن الآلية تتحقق إما في الذهن أو في الخارج، وكلاهما غير معقول هنا:

1- أما الخارج، فإنه يتوقف علی حصول مطابق الشيء أو مطابق ما ينتزع عنه، وليس اللفظ يُوجد أحدهما، فنسبة الوجود بالذات إلی نفس المعنی - مع عدم وجود مطابقه ولا مطابق منشأه - غير معقول.

2- أما الذهن فلا يعقل أن يکون اللفظ آلة لإيجاد المعنی فيه لجهتين:

أ) إن وجود المعنی يکون بتصور المعنی، وليس اللفظ علة للوجود الذهني للمعنی.

ب) إن هذا النحو من الإيجاد غير خاص بالإنشاء، فيشمل الإخبار أيضاً.

إن قلت: هذا المطلب - أي ثبوت المعنی باللفظ - جار في جميع الألفاظ بالنسبة إلی معانيها، من دون اختصاص بالإنشائيات؟

قلت: الفرق أن المتكلم قد يتعلق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعيّة في موطنها باللفظ المنزل منزلتها، وقد يتعلق غرضه بإيجاد نفس هذه النسبة

ص: 89


1- نهاية الدراية 1: 274.

بايجاد اللفظ المنزل منزلتها. فمفاد (بعت) - إنشاء وإخباراً - واحد، وهي النسبة المتعلقة بالملكية، وهيأة (بعت) وجود تنزيلي لهذه النسبة الإيجادية القائمة بالمتكلّم والمتعلقة بالملكية:

فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجاً بوجودها التنزيلي الجعلي، فهذا الإنشاء.

وقد يقصد - إضافة إلی ثبوت المعنی تنزيلاً - الحكاية عن ثبوته في موطنه وهذا الإخبار.

وأورد عليه: أولاً: إن كون الإنشاء هو إيجاد المعنی عرضاً بوجود اللفظ، يبتني علی كون الوضع هو تنزيل اللفظ منزلة المعنی، فيکون اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنی، وبذلك يکون وجوده وجوداً للمعنی بالعرض، إذ المُنَزَّل نحو وجود للمنزَّل عليه - بالعرض والمسامحة - .

لكن قد عرفت أن الوضع هو ارتباط اللفظ والمعنی، أو اعتبار اللفظ علی المعنی ونحو ذلك، وعليه فلا يکون المعنی وجوداً بالعرض للّفظ، إذ طرف العلقة الوضعية لا يکون وجوداً بالعرض لطرفها الآخر.

وفيه تأمل: لأن المقصود من إيجاد المعنی عَرَضاً، هو وجوده بتبع وجود اللفظ، وهذا لا ينافي ما ذكر في معنی الوضع من أنه ارتباط اللفظ والمعنی، بل إن هذا هو نتيجة الارتباط، حيث إن إيجاد الربط بين اللفظ والمعنی بسبب الوضع يُنتج وجود المعنی بتبع وجود اللفظ.

وثانياً: لو كان الإنشاء هو الإيجاد بشرط أن لا يکون الغرض الحكاية، يلزم أن يکون من أقسام الإنشاء: الجملة الخبرية التي لم تستعمل بقصد

ص: 90

الحكاية، بل بداعي استمرار ارتكاز مدلولها في ذهن المخاطب بتكرارها بلا أن يقصد الحكاية - مثلاً - .

وفيه نظر: إذ هو خلط بين معنی الجملة وبين الداعي إلی التكلّم، فإن التكرار بداعي الرسوخ في الذهن هو داعي التكلم وليس معنی الجملة، وإنّما معنی الجملة - التي توجد حتی مع التكرار - هو ثبوت المعنی تنزيلاً بقصد الحكاية.

وبعبارة أخری: الإرادة الاستعمالية هي ثبوت المعنی تنزيلاً مع قصد الحكاية، نعم بالإرادة الجدّية لا قصد للحكاية، فتأمل.

والحاصل: إنه لا إشكال في مرحلة الثبوت علی هذا القول نعم لا دليل إثباتي عليه، بل عمل العقلاء علی خلافه.

القول الرابع: إن الإنشاء هو إبراز الصفات النفسية - سواء كانت اعتبارية أم حقيقية - ، فالمتكلم يتمنی ثم يبرز هذا التمني بلفظ (ليت)، ويعتبر ملكية زيد في نفسه ثم يبرز هذا الاعتبار الشخصي بقوله (بعت).

وفيه: أولاً: مع اعتبار العقلاء يکون الاعتبار الشخصي لغواً، بل ليس ذلك من ديدن العقلاء.

وثانياً: إن اعتبار الملكية - مثلاً - لا تكون قبل اجراء صيغة العقد، فبالوجدان لا يعتبر البائع الكتاب ملكاً للمشتري قبل اجراء العقد، بل حتی مع إنشاء الايجاب لا يکون هناك اعتبار شخصي، بل هذا الاعتبار بعد إتمام القبول، فالحاصل: إنه لا اعتبار شخصي قبل الإنشاء كي يکون الإنشاء مبرزاً له.

فتحصل أنه لابد من الذهاب إلی ما قال به المشهور، بعد إمكانه في

ص: 91

نفسه، وظهور فعل العقلاء فيه.

المقام الثاني: الفارق بين الجمل الإخبارية والإنشائية
اشارة

كان البحث السابق حول علاقة الإنشاء بالمعنی، وأن الإنشاء مُوجد للمعنی، والخبر حكاية عن المعنی.

وهذا البحث حول ذات المعنی، وأنه هل المعنی في الخبر والإنشاء واحد أم مختلف.

وهنا أمران:

الأول: الجمل المختصة بالإنشاء، كالتمني والترجي والاستفهام والأمر ونحوها.

الثاني: الجمل المشتركة مثل (بعت) و(يعيد).

الأمر الأول: في الجمل المختصة بالإنشاء

وفيها أقوال:

القول الأول: إن الجملة الإنشائية وضعت لهذه المعاني - الطلب، التمني، الترجي... الخ - وليست كذلك الجملة الخبرية.

إن قلت: قد تستفاد هذه المعاني من الجملة الخبرية كقولك: (أطلب منك كذا).

قلت: الطلب مستفاد من الكلمة لا من هيأة الجملة.

إن قلت: ما هو الفرق بين الجملة الإنشائية في مثل (ليت زيداً قائم)، وبين الألفاظ الدالة علی نفسٍ مفهوم التمني - مثلاً - .

قلت: هنا فرقان:

ص: 92

1- الجملة الإنشائية وُضعت لإبراز واقع هذه الصفات والكشف عنها، ولذا كانت كلاماً تاماً، بينما تلك الألفاظ وضعت بإزاء مفاهيمها بقصد إحضارها تصوراً، لذا كانت كلاماً ناقصاً، وبعبارة أخری: الجملة الإنشائية وضعت للمصداق، وتلك الألفاظ وضعت للمفهوم.

2- الجملة الإنشائية تُوجد معناها باللفظ - لذا كانت كلاماً تاماً - ، بخلاف تلك الألفاظ.

ويرد علی هذا القول: ما مرّ في ردّ القول الرابع من البحث السابق فراجع.

القول الثاني: للمحقق الإصفهاني(1)، وهو أن الجملة الإنشائية وضعت للنسبة القائمة بين المتكلّم وبين المادة، ففي صيغة الأمر مثلاً هناك نسبة بين المتكلّم والمخاطب والمادة، وهكذا في سائر القضايا.

وتوضيحه: أن المتكلم الذي يريد بعث غيره يستعمل صيغة الأمر، فتتحقق علاقة بينه وبين القضية المبعوث لها، وهنا ينتزع شيئان: مفهوم اسمي يعبّر عنه (بالطلب)، ومفهوم حرفي هو معنی صيغة الأمر.

إن قلت: بأن هذا المعنی يستلزم وجود نسبتين اثنتين في الجملة الإنشائية، إحداهما النسبة في مدخول الأداة - مثل قيام زيد في قولك هل زيد قائم - ، والأخری النسبة بين المستفهم والمستفهم عنه.

قلت: لامحذور في تعدد النسبة في الجملة الواحدة، بل ذلك واقع كثيراً سواء النسب الناقصة أم التامة، كقولنا (غلام زيد قائم) فهنا نسبتان، فنسبة

ص: 93


1- نهاية الدراية 1: 62.

في (غلام زيد) وهي نسبة ناقصة لا يصح السكوت عليها، ونسبة أخری بين المبتدأ والخبر وهي نسبة تامة.

القول الثالث: ما نسب إلی المحقق العراقي - وإن كان يظهر من نهاية الأفكار خلافه(1) - وهو أن الجملة تدل علی نسبة المفهوم إلی مدخولها، مثلاً نسبة الاستفهام إلی الجملة المستفهم عنها.

والفرق بين القولين الثالث والثاني: هو أن مفهوم الاستفهام علی الوجه السابق خارج عن المدلول، بينما هو داخل في المدلول علی هذا القول لأنه طرف النسبة.

وأشكل عليه: بأن ذلك يقتضي نقصان الجملة الإستفهامية، وذلك لعدم دال علی أحد طرفي النسبة - أي الاستفهام - ، حيث إن أداة الاستفهام دالة علی صرف النسبة، فأين الدال علی أحد طرفي النسبة - وهو مفهوم الإستفهام - ؟

إن قلت: تدل عليه قرينة عقلية، حيث لا تمكن النسبة إلاّ بين طرفين.

قلت: هذا لا يخرج الجملة عن كونها ناقصة، فهل يصح مثل (زيد في) اعتماداً علی وجود قرينة علی (الدار) مثلاً؟

وفيه تأمل: وذلك لوقوع حذف أجزاء من الكلام لوجود قرينة عليها، كما قال:

وفي جواب كيف زيد قل دنف

فزيد استغني عنه إذ عرف

ص: 94


1- نهاية الأفکار 1: 57.

وصحة أو عدم صحة الحذف يرتبط باستعمال أهل اللسان، فعدم صحة (زيد في) لأجل عدم استعمالهم ذلك، ولو كانوا يستعملونه لصح.

القول الرابع: إن الأداة في الاستفهام ونحوه أو هيأة الجملة، تبين وعاء النسبة، فهناك نسبة واحدة سواء في الجملة الخبرية أم الجملة الإنشائية، لكن وعاء النسبة في الجملة الخبرية هو خارج الذهن، ويدل علی ذلك خلوّ الجملة عن الأداة في لغة العرب، وأما في لغة الفرس - مثلاً - فتدلّ كلمة (است) عليه، لكن في الجملة الإنشائية الوعاء هو (عالم التمني) أو (عالم الاستفهام)... الخ، و(ليت) و(هل)... تدل علی ذلك الوعاء.

فتحصل أنه لا توجد نسبتان، إحداهما مدلول الأداة والأخری مدلول مدخولها، بل النسبة واحدة، فمثل (زيد) و(عالم) متحدان - بنحو الحمل الشايع - في عالم الخارج في الجملة الخبرية، وهما متحدان في عالم الاستفهام في الجملة الاستفهامية.

ومرجع هذا القول إلی ما ذكره المحقق الخراساني من الإيجاد في عالم الإنشاء.

إن قلت: ماذا يحصل إن أجبنا ب-(نعم) في الاستفهام؟

قلت: يحصل تبدل الوعاء من عالم الإنشاء إلی عالم الثبوت الخارجي.

وفيه نظر: أما في بعض اللغات الأخری فتوجد أداتان مثلاً (آيا) و(است) في الفارسية فيقال (آيا زيد عالم است) فهل الأداة الثانية لغو حيث لا تدل علی النسبة؟

وذلك يدل علی وجود نسبة محفوظة في المدخول سواء دخلت أداة أم

ص: 95

لم تدخل، نعم مع دخول الأداة تحصل نسبة ثانية.

والحاصل: إن الأقرب هو ما ذكره المحقق الإصفهاني من أن الجمل المختصة بالإنشاء تدلّ على النسبة بين شخص المتكلم وبين القضية المدخولة كالمستفهم والقضية المستفهم عنها.

الأمر الثاني: في الجمل المشتركة بين الإنشاء والإخبار

فهل تستعمل الجملة الإنشائية في معنی يختلف عن معنی الخبر، إما بوضع آخر أو مجازاً، أم أنها مستعملة في نفس المعنی وحينئذٍ ما هو الفارق بينهما؟

1- أما علی مبنی التعهد في الوضع، فالمعنی يختلف، إذ عليه تكون الدلالة الوضعية تصديقية حيث إن المدلول الوضعي للجملة الخبرية هو قصد الحكاية، وليس هذا معنی الإنشاء قطعاً.

2- وأما علی سائر المباني حيث إن الدلالة الوضعية تصورية، وقصد المعنی خارج عن حريم الوضع:

أ) فقد يقال بأن ذات المعنی في الخبر والإنشاء واحد، وهذا ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1)، فكما ذهب إلى أنّ المعنی في الحرف والاسم واحد، كذلك في الإنشاء والإخبار، ففي مثل (بعت) يکون المعنی نسبة البيع إلی المتكلم، ففي الإخبار يکون بقصد الحكاية وفي الإنشاء يکون بقصد الإيجاد، من غير أن يکون هذا القصد داخلاً في المعنی، بل هو من أنحاء الاستعمال.

ص: 96


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 38-39.

ب) والأقرب أن يقال: إن ذات المعنی مختلف في الإخبار والإنشاء، وأن هذه الجمل - كبعت ويعيد - وضعت للخبر، وأما استعمالها في الإنشاء فهو إما بوضع تعيني جديد، وإما مجاز.

ويؤيد كونه مجازاً تبادر الإخبار من أمثال هذه الكلمات، ولا تستعمل في الإنشاء إلاّ بقرينة.

المقام الثالث: في كيفية الإيجاد في العقود

قد يقال: كيف يتم الإيجاد في العقود، مع أنه لا إيجاد بمجرد قوله (بعت)، بل تحقق البيع يتوقف علی القبول، فقبل القبول لا إيجاد، فكيف يکون الإيجاب إنشاءً مع عدم تحقق الإيجاد به؟ كما لا يعقل الإيجاد من غير وجود لاستحالة انفكاك المعلول عن العلة؟

والجواب: أولاً: إن الايجاب معدّ، وتتحقق العلة التامة للإيجاد بالقبول.

وفيه: أن ذلك خلاف ظاهر كلامهم في الإنشاء بأنه إيجاد.

وثانياً: إن العقد يوجد في عالم الاعتبار بمجرد الإيجاب من غير أثر.

وفيه: أنّ العقلاء لا يعتبرون تحقق العقد بمجرد الإيجاب، مضافاً إلی أن الاعتبار من غير أثر لغو لا يفعله العقلاء.

وثالثاً: إن الإيجاب يُحقِّق العقد، لكنه مراعی بالقبول، فإن تحقق القبول إنكشف تحقق العقد من حين الإيجاب.

وفيه: أنه لا تترتب الآثار في الفترة بين الإيجاب والقبول، حتی بعد إكمال العقد.

ورابعاً: أن يقال إن اللفظ الدال علی الإيجاب ليس إنشاء للعقد، بل هو

ص: 97

إنشاء للإيجاب، ويتحقق الإيجاب في عالم الاعتبار العقلائي، ويتحقق أثره العقلائي وهو صلاحية لحوق القبول به، وتحقق العقد هو أثر الأثر لا أثر نفس الإيجاب.

البحث السادس: الأسماء الملحقة بالحروف

اشاره

وهي التي يُعبّر عنها بالمبهمات، كأسماء الإشارة، وضمائر المخاطب والغائب، والموصولات.

فهل الموضوع له فيها عام أم خاص، وفيها أقوال:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1)، وحاصله: أنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في هذه الأسماء عام، مثلاً (هذا) معناه المفرد المذكر، وأما تشخّصه فلا يرتبط بالمعنی الموضوع له، ولا بالمستعمل فيه، بل هو تشخصٌ نتيجة الاستعمال، إذ كان التشخص بالإشارة الخارجية، وهي لا تكون إلاّ بالشخص.

وأشكل عليه(2): بأن الإشارة الخارجية تتعلق بالفرد دون الطبيعة والكلي، فلا يصح القول بأن أسماء الإشارة موضوعة ليشار بها إلی معانيها، مع الإلتزام بأن معانيها كلية.

إن قلت: نريد الفرد من اللفظ - وإن كان اللفظ موضوعاً للكلي - ، كسائر الألفاظ الموضوعة للطبائع، فإنها تستعمل ويراد بها الفرد، مثل (أكلت الخبز).

ص: 98


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 40-41.
2- منتقی الأصول 1: 155.

قلت: إنه خلاف المدعی بأن (المستعمل فيه) عام أيضاً، مضافاً إلی أن اللفظ الموضوع للطبيعة لا يستعمل في الفرد، وإلا كان مجازاً، إذ هو استعمال اللفظ في خلاف ما وضع له، ولذا التزموا بأن المستعمل فيه ليس الفرد، بل هو الكلي بلحاظ انطباقه علی هذا الفرد.

وفيه: أن أسماء الإشارة - مثلاً - موضوعة لمعناها، وهو المفرد المذكر، ولكن بغرض أن يشار بها إلی شيء - سواء بالإشارة الخارجية إلی الشيء الجزئي، أم بالإشارة الذهنية إلی الكليات ونحوها - ، فليس (ليشار بها إلی معانيها) ضمن المعنی، لا المعنی الموضوع له، ولا المعنی المستعمل فيه، بل هو من خصوصيات الاستعمال، كما صرّح المحقق الخراساني.

ومن هذا تبين أن ما ذكر في الإشكال والجواب (بعبارة إن قلت... قلت...) لا وجه له.

القول الثاني: ما ذهب إليه المحقق العراقي(1)، وحاصله: أن الموضوع له فيها هو معان إبهامية، تكون نسبتها إلی الذوات التفصيلية من قبيل الإجمال والتفصيل، لا من قبيل الكلي والفرد، ولكن مع اشتمالها علی خصوصية زائدة، كخصوصية الإشارة، والغيبة، والخطاب، والمعهودية ونحوها.

فأسماء الإشارة مثلاً وضعت لمعنی مستقل متعلق للإشارة، لا لنفس الإشارة، وهذا المعنی لا يعقل أن يکون من المفاهيم التفصيلية، مثلاً في (هذا الإنسان) لا يكاد ينسبق في الذهن إلاّ معنی واحد، وهذا المفهوم الواحد يستحيل أن يکون معنی كل واحد من اللفظين، للزوم اجتماع

ص: 99


1- نهاية الأفكار 1: 58؛ مقالات الأصول 1: 104.

اللحاظين في شيء واحد.

وبعبارة أخری: إن معنی (هذا) في قولنا (هذا الإنسان) لو كان مفهوماً تفصيلياً يوازي مفهوم الإنسان للزم لحاظ هذا المفهوم التفصيلي مشيراً ومشاراً إليه في آن واحد، وبهذا يجتمع لحاظان في شيء واحد وهو محال، لأن اللحاظ هو الوجود في الذهن، ولا يعقل اجتماع وجودين في شيء واحد.

أقول: الظاهر أن أصل الدعوی (وهي أن الموضوع له فيها هو معان إبهامية، وفرقها عن الذوات التفصيلية بالإجمال والتفصيل) متين، ولعلّه هو المنساق إلی الذهن من هذه الكلمات فعندما نقول (هذا زيد)، فإنه باستماع لفظ (هذا) ينعكس في ذهن السامع شخص أو شيء غير محدد الاسم وإن كان معلوماً بالإجمال، وبقولنا (زيد) يتضح له بالتفصيل.

ولکن الاستدلال باستحالة اجتماع اللحاظين، محل تأمل.

أولاً: بالنقض بالحمل الأولي الذاتي - الذي ملاكه الاتحاد المفهومي - فكلٌ من (الإنسان) و(حيوان ناطق) له مفهوم تفصيلي، ومع ذلك يكون المفهوم واحداً، وهكذا في حمل المترادفات مثل (الإنسان بشر).

لا يقال: (حيوان ناطق) أكثر تفصيلاً من (الإنسان).

لأنه يقال: إن ذلك لا ينافي كون (الإنسان) ذا مفهوم تفصيلي غير مبهم.

وثانياً: بالحلّ بأن اللفظ له معنی تفصيلي في الذهن ثم بتكراره أو بحمل المترادف أو بالحمل الأولي يتكرر المفهوم في الذهن، فلا اجتماع للحاظين في شيء واحد، فتأمل.

ص: 100

القول الثالث: إن مثل (هذا) موضوع للإشارة الخارجيّة، لا الذهنية المتوجهة إلی مدلول الكلمة، مثلاً (الرجل) في قولنا (هذا الرجل)، فلفظ (هذا) بمنزلة الإشارة باليد والعين، فكما أنه بتحريك اليد والعين مشيراً إلی زيد يوجد مصداق الإشارة الخارجية، كذلك بلفظ (هذا)، فهي آلة لإيجاد مصداق الإشارة والخطاب، وأن معانيها إيجادية لا إخطارية.

ويرد عليه: أولاً: إن أسماء الإشارة ونحوها قد تستعمل في الكليات وهي أمور ذهنية، من غير أن يکون الاستعمال مجازاً، ولو كان الوضع للإشارة الخارجية كانت مجازاً حينئذٍ.

وثانياً: إنه لو استعملتَ (هذا) مثلاً من غير إشارة حقيقية بل أردت التمثيل فقط كقولك (اسم الإشارة مثل هذا)، فلا إشكال في عدم المجازية، مع أن لازم هذا القول هو مجازية الاستعمال، لعدم استعمال الكلمة في معناها الحقيقي الذي هو الإشارة الخارجيّة.

وبعبارة أخری(1): لا يکون هناك تطابق بين (الممثَّل) و(الممثَّل له) إذ أحدهما الإشارة بالمعنی الحقيقي، والآخر بغير المعنی الحقيقي فيکون الاستعمال مجرد لقلقة لسان.

وثالثاً: ما في المقالات(2): من أن لازم الوضع لصرف الإشارة، كون معانيها من النسب والروابط، وهو لا يناسب اسميتها، وصيرورتها مبتدأ تارة وخبراً أخری.

ص: 101


1- مقالات الأصول 1: 103.
2- مقالات الأصول 1: 103.

وفيه تأمل: إذ النسب والروابط قد وضع لها أسماء كما وضع لها حروف كقولنا (زيد علی السطح) و(زيد فوق السطح)، فالمعنی الحرفي قد يؤدّی بالاسم، وقد يؤدّی بالفعل، وقد يؤدی بالحرف... الخ(1).

ورابعاً: ما في المقالات أيضاً، قال: ويؤيده: صورة الإشارة الذهنية من سماع هذا اللفظ من النائم والساهي، مع الجزم بعدم إشارتهما خارجاً، ولو كان اللفظ موضوعاً للإشارة الخارجية، فلا معنی لانسباق مفهومهما في الذهن، لأنه أجنبي عن الموضوع له، والمفروض أنه لا موجب لهذا الانسباق أيضاً إلاّ الوضع.

وفيه: أن للألفاظ دلالة تصورية، لا تصديقية، وقد مرّ الإشکال علی مبنی التعهد، فليس معنی اللفظ أن المتكلّم قاصد لمعناه، بل هناك ملازمة بين ذلك اللفظ وذلك المعنی بحيث لو سمع العارف باللغة اللفظ انتقل المعنی إلی ذهنه لأجل هذه الملازمة، کما اختاره المحقق العراقي في معنی الوضع وقد مرّ.

وهنا لو فرض أن المعنی هو الإشارة الخارجيّة، لانتقل إلی ذهن السامع حتی لو لم يكن المتكلم قاصداً بل كان نائماً أو ساهياً.

القول الرابع: إن لفظ (هذا) مثلاً موضوع لمدلول (الرجل) - مثلاً - المتحصّص بالإشارة الخارجيّة، علی نحو أخذ الإشارة الخارجية قيداً في المعنی، لا نفس المعنی كما کان في القول الثالث.

و يرد عليه: ما أورد علی القول السابق.

ص: 102


1- الأصول 1: 29-30.

القول الخامس(1): إن المعنی في كلّها - الضمائر والإشارة والموصولات - هو: ذات وإشارة، والإشارة هي النسبة الخاصة، فتفترق عن الحروف، بأن الحروف للنسبة فقط، وهذه ذات مع نسبة، وبناء هذه الثلاثة يؤيد دخول الإشارة في المعنی، حيث إن بناء الأسماء هو بسبب شباهتها بالحروف.

فحاصل المعنی هو: ذات مقيدة بالإشارة، بحيث يکون القيد جزءاً للمعنی، وليس المقصود الإشارة الخارجية، كما هو واضح، وحينئذٍ فيکون فرق هذه الثلاثة هو أن:

1- اسم الإشارة هو (الذات المُبينة بالإشارة)، مثل (هذان).

2- والضمير هو (الذات الملوّنه بالسبق، المبينة بالإشارة) مثل (هما).

3- والموصول هو (الذات المحتاجة إلی الصلة المبينة بالإشارة) مثل (اللذان).

ثم إنه علی هذا يکون الموضوع له عاماً ولكن المستعمل فيه خاص.

أقول: إن هذا كلام متين، ولعلّه قريب من كلام المحقق العراقي، مع إجراء بعض التعديلات عليه:

أولاً: لازم كون المستعمل فيه خاصاً هو المجازية، لأن المعنی الموضوع له إذا كان عاماً، فاستعمال اللفظ في غيره يکون استعمالاً في خلاف ما وضع له.

وأما حديث استعمال الكلي في الفرد فقد أجبنا عنه فيما سبق ببيان كيفية ذلك الاستعمال، فراجع.

ص: 103


1- الأصول 1: 42.

وثانياً: إن الفروق المذكورة حاصلها أن الضمائر والموصولات هي بنفس معنی أسماء الإشارة مع زيادة، ولازمه كونهما من مصاديق أسماء الإشارة، لأن الجامع بينها هو (الذات المبينة بالإشارة) مع زيادة قيد في الموصول والضمير.

فالأولی في بيان الفرق بينها هو ما ذكره المحقق العراقي(1) بأن:

1- الإشارة: موضوعة لجهة عرضية إبهامية، منطبقة علی الصور التفصيلية، مع خصوصية الإشارة الذهنية.

2- والضمائر، موضوعة لجهة عرضية إجمالية، متحدة مع ما يماثل مفهوم مرجعها مع خصوصية الغيبة والحضور.

3- والموصولات: موضوعة لجهة عامة عرضية قبال خصوصيات الصور، وقبال الموصوفات، مع اشتمالها علی خصوصية المعهودية.

فالجامع هو الجهة العرضية الإبهامية وإنّما كانت عرضاً لخروجها عن حريم الذات فتعرض عليها.

ولا يخفی أن تعريفه للموصولات فيه شيء من الغموض، فتأمل.

كما لا يخفی أنه علی مبنی المحقق العراقي يکون المعنی من قبيل (الوضع العام والموضوع له الخاص) ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد، كما في نهاية الأفكار.

نعم لو جعلنا الخصوصية خارج المعنی لكنها ملازمة له، كان الموضوع له عاماً.

ص: 104


1- نهاية الأفكار 1: 60.

وكذا لو قلنا بأن الموضوع له هو الجهة المشتركة، الذي كان المعنی الثاني من عمومية الوضع، لا الكلي ومصداقه، فراجع أوائل بحث الوضع.

القول السادس: إن الموضوع له هو الذوات التفصيلية.

وفيه: أنه يلزم انسباق مفهوم زيد مرتين في قولنا (هذا زيد)، وكذا انسباق مفهوم الإنسان مرتين من قولنا (هذا الإنسان)، تارة من لفظ (هذا) وأخری من لفظ (زيد) أو لفظ (الإنسان)(1).

هذا مع أنه قد يشار إلی الشيء المبهم من دون أن تعرف تفاصيله أبداً، فتأمل.

القول السابع(2): الموضوع له في أسماء الإشارة هو نفس الإشارة الذهنية إلی الذوات التفصيلية، كما يوهمه ظاهر تعبير بعض علماء الأدب كابن مالك حيث قال: (بذا لمفرد مذكر أشر)، وإثبات هذا المدعی يکون عبر مقدمتين:

1- معنی الإشارة الذهنية: هو توجه النفس نحو المعنی الحاضر، بنحو يختلف عن أصل التصور واللحاظ، نظير الإشارة الخارجية بالعين فإنها خصوصية تختلف عن أصل النظر.

2- إن الإشارة - خارجية كانت أم ذهنية - فعلٌ، لكنه فعلٌ آلي إلی المعنی المشار إليه.

وفيه تأمل: أولاً: بعد أن لم يكن المقصود من الإشارة مفهومها الذي

ص: 105


1- نهاية الأفكار 1: 59.
2- منتقی الأصول 1: 158.

هو معنی اسمي، بل كان المقصود هو مصداق الإشارة، يلزم خروجها من الاسمية إلی الحرفية، ولازم ذلك عدم جواز اجراء أحكام الأسماء عليها كالاخبار عنها، والاخبار بها، ووقوعها فاعلاً ومفعولاً... الخ(1).

لكن هذا الإشكال مبنائي، فلا يرد علی من يجوّز وضع الاسم علی المعنی الحرفي، کما مرّ في مثل (زيد علی السطح) و(زيد فوق السطح) حيث يذهب البعض إلی أن المعنی الحرفي دلّ عليه الحرف تارة (وهو علی)، والاسم أخری (وهو فوق).

وثانياً: قد لا يکون المشار إليه من الذوات - كالمعاني الكلية - ، وقد لا تكون ذات تفصيلية كما لو أراد إشارة إلی شيء مردد أو مبهم.

ولا يخفی أن هذا إشكال لفظي.

وثالثاً: إن المتبادر من (هذا) ليس مجرد الإشارة بل المشار إليه داخل في ضمن معناه، كما مرّ بيانه.

فذلكة

قد يقال: إنّ (هذا) لم يوضع للإشارة الخارجية، لأن ذلك لا يرتبط بالوضع، بل هو أمر تكويني، وإنّما وضع للإشارة الذهنية فحسب - أي الذهن يشير إلی المعنی - .

وأما اقتران كلمة (هذا) بالإشارة الخارجية - أحياناً - فذلك مما لا يرتبط بالمعنی أصلاً، إذ كثيراً ما يحرّك الإنسان يده أو رأسه حين استعماله لفظاً دالاً علی معنی، مع عدم كون تلك الحركة جزءاً من المعنی.

ص: 106


1- نهاية الأفكار 1: 59.

وبعبارة أخری(1): إنّ من المتعارف في الاستعمالات إقتران اللفظ بما يرادف معناه من الأفعال الخارجية - لو كان له مرادف - مثلاً رفع الرأس إلی الأعلی حين استعمال كلمة (فوق) من الأمور الواضحة، لكن ليس هذه الحركة جزءاً من معنی (فوق).

وحيث إن اسم الإشارة موضوعة للإشارة الذهنية، ولم يكن في الخارجيات ما يصلح للتعبير عنها غير الإشارة الخارجية - لكونهما من سنخ واحد - كان من الطبيعي انضمام الإشارة الخارجية إلی لفظ الإشارة وهو (هذا).

وبعبارة ثالثة: قد يکون هناك وضع لفظ لمعنی، وقد يکون وضع تحرّك لنفس ذلك المعنی - وهذا غالباً يکون بالوضع التعيني - فاقترانهما أحياناً ليس دليلاً علی كون أحدهما جزء معنی الآخر.

وفيه تأمل: بل اسم الإشارة يدل علی شيء مع الإشارة سواء ذهنية أم خارجية، مثلاً قولنا: (جاء هذا) معناه ذات مشار إليها، وهذه الإشارة قد تكون ذهنية باعتبار سبق عهد للمعنی، وقد تكون خارجيّة باعتبار عدم سبق معنی في الذهن.

إن قلت: لا تكون الألفاظ موضوعة للوجودات الخارجيّة، بل قيل باستحالته.

قلت: لم يظهر وجه الاستحالة، بل علی مبنی كون الوضع علامة فاللفظ شيء خارجي جعل علامة علی موجود خارجي، وهذا الجعل هو أمر

ص: 107


1- منتقی الأصول 1: 159.

اعتباري، وهذا لا محذور فيه كما مرّ.

البحث السابع: في هيأة الجُمل

الهيأة معنی حرفي فناسب البحث عنها، وإن كان قد مرّ البحث في بعض الهيئات كالإنشاء والخبر.

ومعنی الهيأة: هو الحالة الخاصة الناشئة من تركيب مفردات معينة - سواء كانت حروفاً أم كلمات - .

وهيأة الجمل: هي الهيأة المتكوّنة من كلمتين أو أكثر، بحيث يکون للمجموع مدلول جديد لم يكن ثابتاً لتلك الكلمات قبل انضمامها.

وقد ذهب المشهور: إلی أن هيأة الجملة موضوعة للنسبة الذهنية، فإن صح السكوت عليها فهي النسبة التامة، وإلاّ فهي النسبة الناقصة.

وأشكل عليه: أولاً: هناك جمل لا يعقل وجود نسبتها في الخارج، كقولنا (شريك الباري ممتنع) فليس في الخارج (شريك للباري) حتی يکون طرفاً للنسبة.

وكذلك في الحمل الشايع الصناعي لا يعقل النسبة الخارجية، لأن الحمل الشايع هو اتحاد الموضوع والمحمول خارجاً - مثل زيد قائم - ، فلا يعقل النسبة التي قوامها الاثنينية.

وفيه: أن المراد وجود النسبة في الذهن، ولا إشكال في وجود مفهوم (شريك الباري) و(ممتنع) في صقع الذهن، فهنا مفهومان بينهما نسبة، وهيأة الجملة تدل علی تلك النسبة الذهنية.

وثانياً: إن النسبة لا يعقل نقصانها، لأن أمرها دائر بين الوجود والعدم،

ص: 108

فعلی هذا المعنی المشهور لا يوجد فرق بين الجمل التامة والجمل الناقصة.

والجواب من وجوه:

الجواب الأول: ما في البحوث(1)، وحاصله: أنه في الجملة الناقصة يکون (المتصوَّر) شيء واحد، ولكنه بالتحليل العقلي يتحول إلی نسبة ومنتسبين، وحيث إن المتصوَّر واحد كان لابد من نقصانه، وأما الجملة التامة فالمتصور فيها شيئان.

وفيه: أنه قد يکون في الجملة الناقصة تصور شيئين، مثلاً (الإنسان القائم) جملة ناقصة يتصور فيها شيئان، ولا فرق في تعدد التصور بينها وبين الجملة التامة في (زيد قائم)، وهذا هو الواضح لمن تأمل الجملتين، نعم في مثل (غلام زيد) قد يصح ادعاء وحدة المُتصوَّر.

الجواب الثاني: ما في نهاية الأفكار(2) وحاصله: أنه في الجمل التامة النسبة إيقاعية، أي المعنی المصدري، وفي الجمل الناقصة النسبة وقوعيّة أي المعنی الاسم مصدري، وحينئذٍ ليست الزيادة والنقصان في نفس النسبة، بل النسبة لها وجود جزئي، لكنها علی نحوين، في النحو الأول يکون الكلام تاماً، وفي الثاني ناقصاً.

ولعل مراده: أن الشيء إذا كان منسوباً إلی الفاعل كانت جملة مفيدة يصح السكوت عليها وهذا ما يستفاد من المعنی المصدر، الذي قوامه بنسبة الحدث إلی فاعله، وإن لم يكن الشيء منسوباً إلی الفاعل كانت جملة ناقصة

ص: 109


1- بحوث في علم الأصول 1: 268.
2- نهاية الأفکار 1: 54.

لا يصح السكوت عليها، وهذا ما يستفاد من المعنی الاسم مصدري - الذي قوامة بالحدث المجرد عن فاعله - .

وفيه: أن النسبة الناقصة قد تكون بمعنی المصدر مثل قولنا (ضَرْبُ زيد) فهنا النسبة إيقاعية مع كونها ناقصة، وقد تكون الجملة التامة بلا إيقاع كقولنا (الإنسان حيوان ناطق)، فتأمل.

الجواب الثالث: إن الألفاظ والهيئات وضعت لكي يتمكن الإنسان من التعبير عما في ذهنه، فإن دلت الهيأة علی كل ما في ذهنه كانت الجملة تامة، ووضعت لها الهيأة التامة، وإن لم تعبر عن كل ما في ذهنه كانت الجملة ناقصة ووضعت لها الهيأة الناقصة، فالتمامية والنقصان لا يرتبطان بالنسبة أصلاً، بل بمدی تعبير الجملة عما يدور في ذهن المتكلّم.

الجواب الرابع: إن النسبة نوعان: قد تكون حمليّة وهذه تفيد المستمع فائدة تامة لذا كانت الجملة تامة، وقد لا تكون حملية - كالوصفية والإضافية - وهذه لا تفيده فائدة تامة لذا كانت جملة ناقصة، فالنسبة في كلا النوعين غير ناقصة بل هي تامة رابطة بين المنتسبين، وإنّما التمام والنقصان في أمر هو خارج عن حريم النسبة.

البحث الثامن: هل الدلالة تتبع الإرادة؟

هل اللفظ موضوع للمعنی بما هو هو، أو بما هو مراد؟ فيه قولان:

القول الأول: أنه موضوع للمعنی بما هو.

والدليل: هو انسباق ذات المعنی وتبادره عند سماع اللفظ، ولو من لافظ غير ذي شعور أو الساهي والغالط، ولولا الوضع لذات المعنی لم يكن لهذا

ص: 110

التبادر وجه.

إن قلت: إنه من جهة أنس الذهن، لا أنه من حاقّ اللفظ.

قلت: يدفعه التبادر في الألفاظ غير المأنوسة، لو علم بالوضع.

بل لا يعقل الوضع للفظ بما هو مراد، وذلك لأن الإرادة متأخرة عن المعنی، فلا يمكن أخذها فيه، سواء قلنا بأن الإرادة هي: اللحاظ المقوّم للاستعمال، أم إرادة تفهيم المعنی، أم إرادة الحكم في مقام الجِدّ.

القول الثاني: إن الألفاظ موضوعة للمعنی بما هو مراد!!

واستدل لذلك: بأن الغرض من الوضع هو تفهيم المعنی، والتفهيم ملازم مع إرادة المعنی حين إلقاء اللفظ، فهذا يقتضي تضييق دائرة الوضع، فيختص المعنی والموضوع له بحال إرادة المعنی، وإن لم يكن مقيداً بها.

وبعبارة أخری: وضع اللفظ للحصة، فلا يرد إشكال تأخر الإرادة عن المعنی - .

وفيه: مبنیً بأن الغرض من الوضع ليس هو تفهيم المعنی، بل جعل ملازمة بين اللفظ والمعنی، كما مرّ تفصيله في بحث الوضع، ومقتضی ذلك هو الإنتقال من اللفظ إلی المعنی - علی نحو الدلالة التصورية - حتی لو كان التلفظ من لافظ غير ذي شعور.

ويؤيده: أنهم يضّمون مقدمة - مثل بناء العقلاء - لإثبات أن المتكلم في مقام الإفادة، فلو كان ذلك بمقتضی الوضع، كان يکفي نفس الوضع بلا ضم مقدمات، مثل دلالة اللفظ علی المعنی الحقيقي، حيث إنه من حاق اللفظ فلا يحتاج إلی ضمّ أيّة مقدمة.

ص: 111

و من هذا يتضح النظر فيما نسب إلی الفارابي والمحقق نصير الدين الطوسي، حيث نسب إليهما بأنهما ذهبا إلی أن الدلالة تتبع الإرادة، فإن أرادا الدلالة التصورية، ففيه نظر كما ذكرنا. وإن أرادا الدلالة التصديقية، فلا بأس بهذا الكلام، لكنه غير مرتبط بالوضع.

ص: 112

فصل في الاستعمال

اشارة

ما مرّ کان في الوضع، وهو عمل الواضع، وأما الاستعمال فبمعنی الاستفادة من ذلك اللفظ للدلالة علی المعنی، فهنا مقامات:

المقام الأول: في معنى الاستعمال

علاقة اللفظ بالمعنی لها جانبان:

1- ما يرتبط بالسامع، ويعبّر عن هذه العلاقة بالدلالة، إذ تصوّر أحدهما يوجب الانتقال إلی تصور الآخر، للعارف باللغة.

2- ما يرتبط بالمتكلّم، ويعبّر عنه ب-(الاستعمال)، فالمتكلّم يستعمل اللفظ في المعنی ويتخذه أداة لتفهيمه.

ثم إن (الاستعمال) لا يتحقق بمجرد التلفظ - ولو من النائم والساهي مثلاً - ، بل يتقوّم بالإرادة، وتسمی بالإرادة الاستعمالية.

وذلك لأن الإرادة نوعان:

1- الإرادة الاستعماليه: وهي إرادة استعمال اللفظ في المعنی، سواء المعنی الحقيقي أم المجازي، وسواء أراد تفهيم المعنی أم أراد اللُغز، أم استعمل المشترك من غير قرينة لغرضٍ ما.

وقيل(1): هي إرادة التلفظ باللفظ بما أنه دال، أي له صلاحية لايجاد

ص: 113


1- بحوث في علم الأصول 1: 132.

صورة المعنی في الذهن.

وقيل: هو إرادة استعمال اللفظ فيما وضع له، والمجاز يدخل فيه، لأنه حقيقة ادعائية.

2- الإرادة الجدّية: وهي إرادة المعنی واقعاً سواء دلّ عليه الكلام، أم كانت تلك الدلالة بمعونة كلمات أخری، وبهذا التعريف يخرج الهزل.

ويدخل في الإرادة الجدّية موارد، منها:

1- العام المخصَّص بمنفصل، فإن الإرادة الجدّية هي بعض الأفراد، لكن بالإرادة الاستعمالية يراد جميع الأفراد، ولذا كان لفظ العام مستعملاً في معناه من غير مجازية، إذ المجاز والحقيقة يرتبطان بالإرادة الاستعمالية لا الجدّية.

2- الأفعال الزمانية المستعملة في الله تعالی، كقولنا (كان الله)، فإن لفظ كان مستعملة في نفس المعنی الموضوع له - وهي الفعل مع الزمان - ، لكن الزمان غير مراد بالإرادة الجدّية للملتفت إلی المعارف الدقيقة.

وسيأتي أن الأقرب هو دلالة الأفعال علی الزمان، وأن استعمالها في الله تعالی استعمالها بنفس معناها الموضوع له، لكن بالإرادة الاستعمالية لا الجدّية، فلا مجاز فيها.

3- التأويلات، فإن كثيراً منها خلاف الظاهر وفي غير ما وضع له، ولكنها ليست بمجاز، لأنها لا ترتبط بالإرادة الاستعمالية، بل بالإرادة الجدّية، ولا تكون من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ص: 114

المقام الثاني: في كيفية الاستعمال

ثم هل في استعمال اللفظ في المعنی يلاحظ اللفظ استقلالاً، أم يکون مرآةً، أم يکون إفناءً للّفظ في المعنی، مباني ثلاث.

والأقرب أن اللفظ يلاحظ مرآة للمعنی مع إمكان الالتفات إلی اللفظ بنفسه، ولذا ينتقي الخطيب الألفاظ المناسبة، ويلاحظ القواعد النحوية والصرفية، فيما لم تتحول إلی سليقة فيه.

أما حديث الاستقلالية، وكونها كالكنايات، حيث تلاحظ معانيها بالاستقلال وكذا تلاحظ لوازمها الكنائية، فذلک خلاف الوجدان.

وكذا الإفناء إذا لم يرجع إلی المرآتية فلا معنی محصل له، ويخالفه الوجدان في إمكان ملاحظة اللفظ مستقلاً.

المقام الثالث: استعمال اللفظ وإرادة شخصه أو صنفه أو نوعه

1- إرادة الشخص، مثل: (زيد لفظ) مع إرادتنا لنفس كلمة (زيد) التي خرجت من الفم في هذه الجملة.

وهذا لا يکون من الاستعمال، بل من الإيجاد، إذ لم يستعمل لفظ (زيد) للدلالة علی معنی، بل بنفس التلفظ به أوجدنا الموضوع في الخارج.

وقد يستدل لذلك: بعدم معقولية اتحاد الدال والمدلول ولو باعتبارين، وذلك لأنهما علة ومعلول، فلا يعقل اجتماعها في شيء واحد ولو من جهتين، وإلاّ لزم تقدم الشيء علی نفسه.

2- إرادة الصنف مثل (ضَرَبَ فعلٌ ماض) فإن المراد صنف (ضرب)، فلا يشمل نفس كلمة (ضرب) الموجودة في هذه الجملة لأنها مبتدأ.

ص: 115

3- إرادة النوع، مثل (زيد اسم) مع إرادة كل أفراد (زيد) بوجودها اللفظي، فتشمل نفس (زيد) في الجملة.

ولا يرد إشكال اتحاد الدال والمدلول، وذلك لأن المدلول: طبيعي (زيد)، والدال شخص (زيد)، فتأمل.

ص: 116

فصل في علائم الحقيقة والمجاز

اشارة

وقبل البحث لابأس بذكر مقدمتين:

المقدمة الأولی: قيل(1) بأنه لا فائدة في هذا البحث، لأن المدار في معرفة المراد علی ظهور الكلام في المعنی، سواء كان حقيقياً أم مجازياً، أما مجرد كون المعنی حقيقياً فلا يجدي في الحكم بكونه مراداً.

وفيه: أنه مع المعرفة بالمعنی الحقيقي يحصل ظهور فيه.

المقدمة الثانية: إن هناک بحوث خمسة ترتبط بهذا البحث، وهذا الفصل منعقد للبحث الخامس(2):

الأول: لو عرفنا المعنی الحقيقي عن المجازي، ولم نعلم المراد فلابد من الحمل علی الحقيقة، وذلك للظهور، ومنشأ هذا الظهور هو: أصالة الحقيقية، وأصالة عدم القرينة، وقبح إرادة المجاز بدون نصبها.

والظاهر أن المنشأ هو أصالة الحقيقة فقط، وهي أصل عقلائي، نعم بما أن العقلاء لا شغل لهم بالتعبد في أمورهم، بل محرّكهم أغراضهم العقلائية، فإن تسالمهم علی أصالة الحقيقة يکون بسبب عدم وجود القرينة وقبح إرادة المجاز بدونها.

ص: 117


1- منتقی الأصول 1: 172.
2- الأصول 1: 63-64.

وقيل: الحمل علی الحقيقة هو بسبب غلبة الاستعمال في المعنی الحقيقي.

وفيه: أن الغلبة إذا لم توجب الظهور لا اعتبار بها.

الثاني: لو عرفنا المراد ولم نعلم أن ذلك المعنی المستعمل فيه هل هو المعنی الحقيقي أم المجازي، فعن السيد المرتضی أن الاستعمال علامة الحقيقة.

وفيه: أنه لا أصل عقلائي بعد معرفة المراد، لأن غرضهم هو معرفة المراد، وهو حاصل، ولا غرض لهم في معرفة أنه علی نحو الحقيقة أم المجاز، فثبت أن الاستعمال أعم من الحقيقة.

الثالث: لو عرف المعنی في زماننا، ولم يعرف في زمانهم، فالأصل العقلائي هو عدم النقل، وباصطلاح آخر: أصالة تشابه الأزمان.

الرابع: لو عرف أفراد المعنی، وشك في دخول فرد آخر، فلا تمسك بالإطلاق، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

الخامس: إذا لم نعرف المعنی الحقيقي عن المجازي، فقد ذكرت علائم أربع:

العلامة الأولى: تنصيص أهل اللغة

وأشكل عليه: بأن اعتبار كلامهم: إما من جهة أنهم أهل الخبرة، أو من باب الشهادة، أو من باب الانسداد.

أما الأول: فإنهم ليسوا بصدد تعيين الأوضاع، بل في صدد بيان ما هو مستعمل فيه، فلا دلالة لكلامهم علی المعنی الحقيقي أم المجازي.

ص: 118

وأما الثاني: فيشترط فيه العدد والعدالة، فضلاً عن أن شهادتهم في الاستعمال لا في الوضع.

وأما الثالث: فلا حجية للانسداد الصغير، لأنه لا يوجب العُسر والحرج الكامل الرافع للتكليف فضلاً عن الهرج والمرج، فإن الانسداد الصغير هو الانسداد في بعض الأشياء مما لا يوجب الانسداد في كل الأحكام، وفي هذا الانسداد لا مانع من الاحتياط، فلا تصل النوبة إلی حجية أيّ ظنٍ.

ونظير ذلك ادعاء البعض الانسداد في معرفة الرجال، ولذا قالوا بحجية كل ظن في الرجال.

وقد أشكل عليه: بأن الاحتياط حينئذٍ في موارد الروايات التي لا نعلم بوثاقة رجالها غير موجب للعسر ولا للحرج فلا تصل النوبة إلی حجية الظن المطلق.

أقول: إن اللغويين هم أهل خبرة في الأوضاع، فلا يذكرون المعاني المجازية، فهل ذكروا الرجل الشجاع في معنی الأسد؟ مع أن الاستعمال فيه كثير جداً، وهل ذكروا الكريم في معنی البحر؟ وهل ذكروا جميل الوجه في معنی القمر... الخ.

كل ذلك دليل علی أنهم يذكرون المعنی الحقيقي فقط دون المعنی المجازي.

أما حجية قول اللغوي الواحد الثقة من غير اشتراط عدد ولا عدالة، فهو يرتبط بمسألة فقهية في كفاية إخبار الثقة الواحد في الموضوعات الخارجية أو عدم كفايته.

ص: 119

وسيأتي تفصيل بحث حجية قول اللغوي في بحوث الظنون الخاصة إن شاء الله تعالی.

العلامة الثانية: التبادر

فلولا الوضع لما تبادر المعنی الموضوع له.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشکال الأول: النقض بالمجاز المشهور، والحقيقة المغمورة.

وفيه: أن المجاز المشهور إذا لم يصل إلی حد الوضع الجديد فلا تبادر فيه، وكذا الحقيقة المغمورة يتبادر المعنی فيها للعالم بالوضع إذا لم يصل إلی حد النقل بتغيير الوضع والسقوط عن المعنی الموضوع له.

الإشکال الثاني: الدور، لأن التبادر متوقف علی العلم بالوضع، والعلم بالوضع متوقف علی التبادر.

وفيه: أولاً: العلم الارتكازي هو سبب التبادر، والتبادر سبب للعلم التفصيلي، فلا دور.

إن قلت(1): إن أريد أن العلم بالوضع علة للتبادر فهذا غير معقول، وذلك لأن العالم بمجرد استعلامه عن علم نفسه يحصل له اليقين المباشر بعلمه - إذا كان عالماً - ، ويستحيل أن يوسّط بينه وبين علمه الذي يستعلم عنه واسطة يبرهن بها عليه، لأجل حضور العلم في أفق نفسه.

قلت: إن العالم بالعلم الارتكازي حينما يستعلم عن علم نفسه، فحينئذٍ

ص: 120


1- بحوث في علم الأصول 1: 165.

يتسائل عن نفسه أن دلالة اللفظ هل هي من حاق الكلمة أم لا، وحينما يعلم بأنها من حاق اللفظ من غير قرينة يحصل له العلم التفصيلي بالوضع.

وبعبارة أخری: إنه بمجرد الاستعلام عن نفسه لا يخرج عن حالة الغفلة عن الوضع والعلم الارتكازي، بل لابد من إعمال الفكر ونفي أن الدلالة بالقرائن كي يتوصل إلی أن ذلك كان من حاق اللفظ، فهنا لابد من توسيط التبادر.

وثانياً: إن التبادر عند العالم، دليل علی المعنی الحقيقي عند المستعلم.

وثالثاً: عن المحجة(1) بأن الوضع علة للتبادر، والتبادر سبب للعلم بالوضع، نعم يشترط العلم بالوضع ليکون الوضع علة للتبادر، فاختلف الموقوف عليه التبادر، والموقوف علی التبادر.

وفيه: أن المشروط متوقف علی الشرط، فيکون الشرط جزءاً من العلة، فالوضع بشرط العلم كان علة للتبادر، وهو علة للعلم بالوضع، فثبت الدور.

ورابعاً: يکفي لارتفاع الدور تغاير الموقوف والموقوف عليه، تغايراً بالشخص، فهنا علمان تفصيليان أحدهما علة للتبادر، والآخر معلول له.

وفيه: أنه لغو إثباتاً، بل غير معقول ثبوتاً، لأنه تحصيل للحاصل، لعدم التغاير بين العلمين فإذا كان عالماً بالوضع فلا يعقل تكرار هذا العلم.

الإشکال الثالث: إن التبادر لا يمكن الاستناد إليه إلاّ مع تحقق الاطراد، فلابد من ضمّ الاطراد إلی التبادر ليکون علامة علی الوضع.

ص: 121


1- نقله في نهاية الدراية 1: 78.

قال المحقق العراقي(1): إن هذه العلائم الثلاث ليست في مساق واحد، فالتبادر: علامة لوجود الوضع. وصحة السلب: علامة عدم الوضع. والاطراد: علامة استناد التبادر أو صحة السلب إلی حاق اللفظ، ورافع لاحتمال استنادها إلی قرينه حافة بالكلام.

ولذا اشترط المحقق الخراساني(2): العلم باستناد التبادر إلی نفس اللفظ، وأما فيما احتمل استناده إلی القرينة، فلا تجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه لا إليها، لأن أصالة عدم القرينة هي لإحراز المراد، لا لإحراز الموضوع له بعد معرفة المراد، فإنها لا تجري حينئذٍ.

وفيه تأمل: إذ لانسلّم بأنّ كل الأصول العقلائية هي لأجل تشخيص المراد فقط، بحيث لا تجري مع العلم بالمراد، بل الظاهر أنهم يجرون الأصول لفائدتها لهم، فكما تكون الفائدة لفهم المراد في الموارد العامة كذلك قد تكون لفهم المراد في موارد أخرى، وفيما نحن فيه قد يتوقف العلم بالمراد في كثير من الموارد علی العلم بالمعنی الحقيقي، فحين التبادر مع احتمال استناده إلی القرينة، يمكن نفي القرينة بالأصل العقلائي لا لهذا المورد الذي تبادر فيه، بل للموارد المشكوكه، فتأمل.

العلامة الثالثة: عدم صحة السلب

وقد يعبّر عنه بصحة الحمل، وهي علامة الحقيقة، وأما صحة السلب بقول مطلق فهو علامة المجاز.

ص: 122


1- مقالات الأصول 1: 113.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 65.

ولا يخفی أن الحمل:

1- قد يکون أوّلياً ذاتياً - الذي ملاكه الاتحاد الذاتي - ، فقد يکون الاختلاف في الإجمال والتفصيل مثل (الإنسان حيوان ناطق)، وقد يکون في المترادفين مثل (الإنسان بشر).

2- وقد يکون شائعاً صناعياً - الذي ملاكه الاتحاد الخارجي مع تغاير المفهوم - .

وعلاميّة الحمل فيه إنّما هو إذا كان بين الكلي وفرده مثل (زيد إنسان)، لا ما إذا كان بين الكليين المتساويين مثل (الناطق ضاحك)، ولا ما إذا كان بينهما عموم من وجه مثل (الأبيض إنسان).

ولا يخفی أن معنی صحة الحمل هو: حمل المعنی - المشكوك وضع اللفظ له - علی اللفظ بما له من المعنی الارتكازي، أو بالعكس.

وبيانه كما عن بدائع الأفكار(1): بأن اللفظ بما له من معنی، يُحمل علی المعنی المشكوك وضعه له، فإن صحّ الحمل كان دليلاً علی الحقيقة، وإلاّ كان قرينة علی عدم وضع اللفظ له.

فالموضوع والمحمول هما لفظان بما لهما من المعنی، لا اللفظ مجرداً عن المعنی، كي يقال بأنه لا معنی للحمل.

أما في الحمل الأولي الذاتي: كما لو شككنا في أن لفظ (الإنسان) هل موضوع (للحيوان الناطق) أم لا؟ فصحة الحمل تدل علی اتحاد المعنی الارتكازي للّفظ، مع نفس المعنی الذي يشك في وضع اللفظ له، وذلك

ص: 123


1- بدائع الأفکار 1: 98؛ منتقی الأصول 1: 176.

دليل الوضع.

وأما في الحمل الشايع الصناعي والذي علاميته خاصة في الحمل بين الفرد والكلّي: فإذا علمنا أن (زيداً) وجود (للإنسان) باعتباره فرداً له، ثم صحّ حمل (الحيوان الناطق) علی (زيد)، فإن صحة هذا الحمل تكشف عن اتحاد معنی الإنسان والحيوان الناطق، وذلك يدل علی وضع (الإنسان) علی (الحيوان الناطق)، ولولا ذلك لم يكن الفرد بما أنه وجود لأحدهما وجوداً للآخر.

وأشکل عليه بأمور منها:

الإشکال الأول: ما أشكله المحقق العراقي علی هذه العلامة(1)، بأن المدار في الحقيقة هو أن يکون اللفظ موضوعاً علی المفهوم، فلا يکفي الاتحاد الخارجي حتی وإن صح الحمل، وكذا لا يکفي الاتحاد الذاتي فيما لو تغاير المفهوم.

وفي الحمل الأولي: المفهوم متباين، فأحدهما بسيط والآخر مركب، علی رغم الاتحاد الذاتی.

وفي الحمل الشايع: تباين المفهومين أوضح، فمفهوم الإنسان مغاير لمفهوم الناطق، رغم اتحادهما خارجاً.

ومع تغاير المفهوم لا يصح استعمال اللفظ الموضوع لأحد المفهومين في المفهوم الآخر علی نحو الحقيقة بل يکون مجازاً.

نعم صحة السلب تكشف عن اختلاف المفهومين وعدم اتحادهما.

ص: 124


1- نهاية الأفكار 1: 67-68.

وفيه تأمل، وذلك لأن تغاير المفهومين إنّما هو بالتحليل العقلي، وإلا فهما معنی واحد تمّ بيانه تارة بالإجمال وأخری بالتفصيل.

الإشكال الثاني: مافي نهاية الدراية(1)، من أن صحة الحمل وصحة السلب لا تكون علامة، لأن العلم بصحة الحمل يحتاج إلی سبب آخر من تنصيص أهل اللسان أو التبادر... فيخرج عن كونه علامة مستقلة.

وفيه تأمل: لأن الحمل إنّما يکون بالمعنی الارتكازي، من غير حاجة إلی التنصيص أو التبادر... الخ، فإذا صح الحمل بما له من معنی ارتكازي كشف عن كونه حقيقة بالتفصيل.

الإشكال الثالث: إن الحمل لا نظر له إلی الاستعمال - وأنه هل هو مستعمل في المعنی الموضوع له أم لا - ، بل الحمل ناظر إلی المعنی، فمع إتحاد المعنيين ذاتاً أو وجوداً يصح الحمل، ولكن هل هو حمل بنحو حقيقي أم مجازي فذلك لا يرتبط بالحمل.

وفيه: أن المحمول هو اللفظ بما له من معنی ارتكازي وبلا قرينه، وهذا هو حمل اللفظ بمعناه الموضوع له المرتكز في الذهن، وذلك علامة الحقيقية(2).

الإشكال الرابع: في الحمل الذاتي لابد من التغاير بين الموضوع والمحمول - كما لابد من نوع اتحاد - ، فمع التغاير كيف يكشف حمل اللفظ علی معنی عن كون ذلك المعنی هو الموضوع له اللفظ؟

ص: 125


1- نهاية الدراية 1: 79؛ بحوث في علم الأصول 1: 169.
2- بحوث في علم الأصول 1: 169.

وفيه: أن التغاير قد يکون في اللفظ فقط، كحمل (الإنسان) علی (البشر)، فهذا التغاير صححّ الحمل، ولكنه لا ينافي اتحاد المعنی.

وقد يکون التغاير في الإجمال والتفصيل - كالحد والمحدود - وهذا لا ينافي العينية الذاتية.

والحاصل: إن التغاير إنّما هو في أمور لا ترتبط بحاقّ المعنی، وذلك صحح الحمل.

العلامة الرابعة: الاطّراد

وقد ذكر الاطّراد علامة علی المعنی الحقيقي، وعدم الاطراد علامة علی المجاز.

وأشكل عليه: بأن المعنی المجازي يطَّرد إطلاق اللفظ عليه، كإطلاق الأسد علی الشجاع.

إن قلت: نوع العلاقة في مثل (الأسد والرجل الشجاع)، هي المشابهة، ولا اطّراد في إطلاق الأسد علی كل ما شابهه كالمُشعر والأبخر، وكذا عدم صحة إطلاق الأسد علی غير الإنسان من الشجعان.

قلت: المراد صنف العلاقة وهي شباهة الرجل الشجاع بالأسد، وهذه مصححة لإطلاق الأسد علی كل رجل شجاع.

ولا يخفی أن الاطّراد علی أقسام، منها:

1- اطّراد التبادر، بمعنی أنه في الاستعمالات المختلفة يتبادر معنی خاص، وقد مرّ عن المحقق العراقي أن هذا الاطّراد ليس علامة بنفسه بل هو شرط علاميّة التبادر!

ص: 126

2- اطّراد الاستعمال من غير قرينة، فإذا شاهدنا استعمالات مختلفة للّفظ في معنی من غير قرينة نكتشف أن ذلك المعنی هو المعنی الحقيقي لذلك اللفظ.

3- اطّراد الاستعمال مع القرينة، كالأسد في الرجل الشجاع، ومن الواضح أنه لا يکون علامة للحقيقة.

ثم إنه لو شككنا بأن الاطّراد مع القرينة أم بدونها، فلا تجري أصالة الحقيقة، لأنها لا تجري مع العلم بالمراد، كما مرّ.

ص: 127

فصل في الحقيقة الشرعية

اشارة

للبحث مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولی: لا إشكال في وجود ماهيات شرعية مخترعة، وقد استعمل الشارع لبيانها ألفاظاً، وتلك الألفاظ كانت مستعملة في اللغة قبل الشرع...

1- فهل نقلها الشارع إلی معانيها الجديدة، فتكون حقيقة شرعية؟

2- أم استعملها مجازاً، فلا حقيقة شرعية، وإنّما صارت حقيقة في المعاني الجديدة بعد زمان الرسول (صلی الله علیه و آله) فهي حقيقة متشرعيّة؟

3- أم أن الشارع استعملها في نفس المعاني اللغوية، باعتبار أن المعاني الشرعية هي من مصاديق المعاني اللغوية؟

المقدمة الثانية: في ثمرة هذا البحث، فقد قيل بأن مرادات الشارع من الألفاظ التي استعملها واضحة، سواء في القرآن الكريم أم في كلام الرسول (صلی الله علیه و آله) ، فلا ثمرة للبحث سواء ثبتت الحقيقة الشرعية أم لا، لأن المهم أن نفهم كلام الشارع، أما أنه استعمل الألفاظ علی نحو الحقيقة أم المجاز فلا فائدة فيه.

وفيه نظر: وذلك لأن العبادات الشائعة كالصلاة والصوم والحج، يعرف مرادات الشارع من ألفاظها، ولكن في كثير من الأمور التي لا شيوع

ص: 128

لألفاظها، كما في الشروط والموانع والقواطع ونحوها قد لا يُعرف مراد الشارع، فإن ثبتت الحقيقة الشرعية حملنا ألفاظه عليها، وإلاّ فعلی المعنی اللغوي.

المقدمة الثالثة: على فرض ثبوت الحقيقة الشرعية، فإن الوضع الشرعي فيها قد يكون تعينيّاً - بكثرة استعمال الشارع - ، وقد يكون تعيينياً ولكن من قبيل الوضع بنفس الاستعمال، فقد ذكر صاحب الكفاية(1) أن الوضع التعييني علی قسمين - كما مرّ - :

1- أن يضع اللفظ علی معنی ثم يستعمل اللفظ في ذلك المعنی.

2- أن يکون الوضع بنفس الاستعمال، كأن يولد له مولود فيقول: (ناولوني ولدي علياً)، قاصداً وضع اسم (علي) بنفس هذا الكلام.

وقرّبه في المنتقی(2): بأن استعمال اللفظ في معنی، وقصد دلالته عليه لمّا كان من لوازم الوضع، كان الاستعمال دالاً بالدلالة الالتزامية علی الوضع، وموجباً لخطوره في ذهن المخاطب، وعليه: فيقصد إيجاد الوضع بهذه الدلالة الالتزامية.

وفيه: أن هذه الدلالة الالتزامية معلول للوضع، فكيف تكون سبباً لتحقق الوضع؟

اللهم إلاّ أن يکون مراده أن المصحح لهذا النوع من الوضع هو هذه العلاقة.

ص: 129


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 76-77.
2- منتقی الأصول 1: 186.

ولكن مع كون الوضع اعتباراً عقلائياً، ومع تصحيحهم لهذا النوع من الوضع فلا حاجة إلی البحث عن العلاقة.

ثم إنه قيل: بأنه لابد من نصب قرينة علی أنه يريد الوضع، وهذه القرينة ليست قرينة المجاز، بل قرينة للوضع.

وأشکل عليه: بأن الوضع التعييني الاستعمالي ليس بحقيقة ولا بمجاز، أما أنه ليس باستعمال حقيقي فلعدم استعمال اللفظ فيما وضع له، وأما أنه ليس بمجازي فلعدم كونه استعمالاً في غير ما وضع له.

أقول: مرّ الجواب عنه، مضافاً إلی أن (الاستعمال الحقيقي) و(الاستعمال المجازي) اصطلاحان، فيمکن اصطلاح (الحقيقة) علی كل استعمال صحيح ليس بمجازي، كما يمكن اصطلاح (المجاز) علی كل استعمال صحيح ليس بحقيقي، بل لابد منه لو كان الحقيقة والمجاز من العدم والملكة.

كما أنه علی مبنی التعهد، يکون الوضع هو أمر نفسي يُعبّر عنه باللفظ، فيکون الاستعمال متأخراً عن الوضع في هذا القسم - وهو الوضع التعييني الاستعمالي - ، فتأمل.

البحث الأول: الأقوال في الحقيقة الشرعية

القول الأول: ادّعی صاحب الكفاية(1): أن ادعاء الحقيقة الشرعية بنحو الوضع التعييني الاستعمالي غير مجازفة.

والدليل أو المؤيد لذلك أمور:

ص: 130


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 79.

المؤيِّد الأول: إنه لا إشكال في تبادر المعنی الشرعي إلی الأذهان من ألفاظ الشارع، والمراد أذهان من كانوا في عصره، فلابد أن يکون الوضع التعييني بأحد النحوين، وحيث يعلم بعدم كون الوضع بالنحو الأول - إذ لو كان الرسول (صلی الله علیه و آله) يصرّح بوضع هذه الألفاظ لتلك الماهيات الشرعيّة لتمَّ نقله في الروايات والتاريخ قطعاً - انحصر في أن يکون الوضع بالنحو الثاني.

وفيه نظر: إذ سبب التبادر لا ينحصر في الوضع بأحد النوعين، بل يمكن أن يکون علی نحو الوضع التعيّني بكثرة الاستعمال، أو بنحو استعماله بنفس معناه اللغوي باعتبار أن المعنی الشرعي أحد مصاديق المعنی اللغوي ثم حصول الانصراف في استعمالاته، ولذا بقيت سائر المصاديق علی نحو الحقيقة.

المؤيِّد الثاني: أنّه لو لم تثبت الحقيقة الشرعية لزم الاستعمال المجازي، مع فقدان العلاقة المصححة للمجاز في بعض الاستعمالات كالصلاة التي معناها اللغوي (الدعاء)، ولا علاقة لهذا المعنی مع الصلاة الشرعية.

إن قلت: العلاقة هي علاقة الجزء والكل.

قلت: يشترط في هذه العلاقة أن يکون جزءاً أصلياً كالرقبة في الإنسان.

وفيه نظر: لأن المصحح للاستعمال المجازي هو قبول الذوق له، وتلك العلاقات إنّما جمعها بالاستقراء علماء البلاغة، ولا ينحصر المجاز فيها، ومع قبول الذوق لاستعمال الصلاة في الأركان المخصوصة لا حاجة إلی تلك العلاقة.

مضافاً إلی أن الصلاة ليست بمعنی الدعاء في اللغة على ما قيل.

ص: 131

المؤيِّد الثالث: أيد المحقق العراقي الوضع التعييني الاستعمالي(1): بأن كل مخترع لماهية بناؤه وديدنه علی وضع لفظ مخصوص أيضاً بازاء اختراعه لا أنه يستعمل فيه اللفظ مجازاً بلا وضع خاص، وعلی ذلک جرت طريقة العقلاء، والشارع ما جاوز هذه الطريقة المألوفة، وإلاّ كان عليه البيان لئلا يحملوا اللفظ الصادر عنه - عند عدم القرينة - علی المعنی الشرعي، فيکون نفس عدم البيان كاشف عن كون جريه علی طبق ديدن العقلاء، فثبت بذلك الوضع والحقيقة الشرعية.

وفيه تأمل: لعدم ثبوت كون هذه الماهيات مخترعة شرعية، وذلك لوجود هذه العبادات في الشرائع السابقة، مع استعمال العرب نفس هذه الألفاظ لتلك العبادات، فلم يكن العرب اليهود ولا النصاری يستعملون ألفاظاً أخری للتعبير عن هذه العبادات.

ويؤيده: قوله تعالی: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}(2) فضمير كتب يرجع إلی الصيام، ولو كان ذلك الصيام شيئاً آخر لزم الاستخدام وهو نوع من المجاز، لكن الظاهر عدم الاستخدام.

إن قلت: ثبوت المعاني سابقاً لا يدل علی كون هذه الألفاظ تستعمل فيها، ونقل القرآن لتلك العبادات بهذه الألفاظ ليس دليلاً علی استعمالها في هذه المعاني قبل الإسلام، إذ لعل النقل كان بالمعنی أو الترجمة.

قلت: من الظاهر أن هذه المعاني كانت بهذه الألفاظ عند أصحاب

ص: 132


1- نهاية الأفكار 1: 71.
2- سورة البقرة، الآية: 183.

الديانات الأخری، وكذلك كانت معلومة لدی العرب المعاشرين لأصحاب تلك الديانات، وخاصه أن أصحابها كانوا من العرب أيضاً.

إن قلت: عباداتهم كانت تختلف عن عباداتنا.

قلت: الاختلاف في بعض الأجزاء والشرائط لا يوجب اختلاف الحقيقة والماهية، كما في عباداتنا حيث تختلف الأجزاء والشرائط ومع ذلك يطلق الاسم، مثلاً صلاة الظهر الرباعية وصلاة المسافر والمضطر كلها صلاة حقيقة مع اختلاف الشرائط والأجزاء، وسيأتي تفصيل بحثه في بحث الصحيح والأعم.

القول الثاني: عدم ثبوت الحقيقة الشرعية، وأن الصحيح أنه لا حقيقة شرعية بل هي حقائق لغوية فللمعنی اللغوي مصاديق متعددة منها المصداق الشرعي.

نعم يمكن ادعاء انصراف اللفظ في استعمالات الشارع إلی الماهيات الشرعية، وسبب الانصراف هو الأنس الذهني.

فتحصل أن قِدَم الاستعمال ينفي المجازية، ولا يثبت الحقيقة الشرعية - كما قيل - ، وهذا هو الأقرب.

القول الثالث: إن الألفاظ المستعملة في زمان الرسول (صلی الله علیه و آله) مجملات، وذلك لأن الوضع التعييني مقطوع العدم، ولا طريق لنا إلی الوضع التعيّني، كما عن المحقق النائيني(1).

القول الرابع: إن الحقيقة الشرعية لا تكفي إلاّ إذا ثبت هجر المعنی

ص: 133


1- أجود التقريرات 1: 49-50.

السابق، والحال أن الهجر غير ثابت، كما عن المحقق العراقي(1).

ويرد عليهما: ما ذكرناه من أنها حقائق لغوية، مع انصرافها إلی المصداق الشرعي في لسان الشارع.

ثم علی فرض إثبات الحقيقة الشرعية فيمکن الجواب(2):

عن القول الثالث: بأن الإهمال كاف في الإخفاء، ولذا اختفت مسألة السجدة علی التراب، وكيفية الوضوء وكلمة آمين... الخ، مع كثرة تكرار الرسول للصلاة.

وأن طريق إثبات التعيني هو عقلائي، كما في كل آت بدين جديد.

وأنه لو لم يثبت الوضع فلا إجمال، بل لابد من الحمل علی المعنی الحقيقي - أي اللغوي - .

وعن القول الرابع: بأن بناء العقلاء استعمالهم فيما وضعوه، لا فيما وضعه غيرهم، إذا كان بناؤهم تأسيس طريقة جديدة، خصوصاً فيمن يريد نسخ ما قبله من الأديان واجتثاث جذور الجاهلية.

البحث الثاني: كيفية تشخيص مراد الشارع

ثم إذا شككنا في مراد الشارع من تلك الألفاظ، فلتشخيصه تختلف المباني:

1- إن قلنا بالحقيقة الشرعية بالنقل - عبر الوضع التعييني الاستعمالي - فلابد من الحمل علی المعنی الشرعي.

ص: 134


1- مقالات الأصول 1: 134.
2- الأصول 1: 74.

2- وإن قلنا بالحقيقة الشرعية علی نحو الاشتراك بلا هجر المعنی السابق، بأن كان كثرة الاستعمال سبباً للحقيقة الشرعية مع بقاء المعنی اللغوي علی حقيقته، فلابد من القول بإجمال اللفظ.

3- وإن قلنا بأنها حقائق عرفية، والمعنی الشرعي مصداق، فلابد من التوقف إذ هذا كالاشتراك. اللهم إلاّ إذا أدعي الانصراف إلی المعنی الشرعي، كما قرّبناه.

4- وإن قلنا بأنها مجازات، فلابد من الحمل علی المعنی اللغوي.

البحث الثالث: زمان الاستعمال

لايخفی أنه بناءً علی ثبوت الحقيقة الشرعية إنّما يحمل اللفظ عليها مع العلم بتاريخ الوضع، وتأخر الاستعمال عنه.

وأما مع الجهل بتاريخهما أو تاريخ أحدهما، فلا أثر، بل يکون اللفظ مجملاً، وذلك لعدم العلم بأنه استعمله قبل الحقيقة أم بعدها.

وقد يدعی إمكان إثبات تأخر الاستعمال علی الحقيقة الشرعية، بأحد وجهين:

الوجه الأول: أصالة تأخر الاستعمال عن الوضع للمعنی الشرعي.

وفيه: أنه معارض بأصالة تأخر الوضع عن الاستعمال، مضافاً إلی أنه أصل مثبت، إذ هذا الأصل هو استصحاب عدم استعمال الشارع إلی حين وضعه، وهو يلازم تأخر الاستعمال عن الوضع، فيکون مراده المعنی الشرعي.

الوجه الثاني: أصالة عدم النقل.

ص: 135

وقد يقال: بأنها الاستصحاب القهقري، لكنه ليس بحجة، لعدم دلالة دليل الاستصحاب عليه، إذ دليله فيما لو کان اليقين سابقاً والشك لاحقاً، دون العكس.

وقد يقال: بأنها أصل عقلائي، فيکون لازمه حجة، إذ مثبتات الأمارات حجة - كما يقال - ، وبذلك يثبت تأخر الاستعمال عن الحقيقة الشرعية.

وفيه: أن الأصل العقلائي هو عدم النقل مع الشك في أصل النقل، وذلك لأن الظهور الشخصي الفعلي للّفظ يكشف ببناء العقلاء عن الظهور النوعي للّفظ في الحال الحاضرة وفي الماضي أيضاً.

وأما مع العلم بالنقل، والشك في تقدمه وتأخره، فلا بناء للعقلاء أصلاً، فيکون اللفظ مجملاً.

ص: 136

فصل في الصحيح والأعم

اشارة

ولا يخفی أن النزاع إنّما هو في الماهيات المخترعة المركبة، أما الألفاظ الموضوعة للمعاني المفردة - كالركوع - فلا يتصور النزاع فيها، لأن أمرها دائر مدار الوجود والعدم(1).

وهنا مباحث:

المبحث الأول: في العبادات

اشاره

وهنا مطالب:

وقبل الخوض فيها لابد من تقديم مقدمات.

المطلب الأول: في تصوير النزاع

بناء علی القول بالحقيقة الشرعية فلا إشكال في تصوير النزاع بأن يقال هل الشارع وضع الأسماء للصحيح أم للأعم.

وأما علی عدم القول بها فلابد من تصوير النزاع، وإن لم يمكن تصوير النزاع فلا يکون هذا البحث مستقلاً عن بحث الحقيقة الشرعية، بل يکون من فروعه، إذ هو نتيجة أحد القولين فقط.

ولكن الأصح هو إمكان تصوير النزاع علی سائر الأقوال:

ص: 137


1- نهاية الأفكار 1: 72.

1- أما علی القول بأنها حقائق لغوية، فيقال: هل عادة الشارع الاستعمال في المصداق الصحيح أم الأعم؟

2- وأمّا علی القول بأنها حقائق لماهيات كانت قبل الإسلام، فيقال: ما هو ذلك المعنی الذي استعمل الشارع الألفاظ فيه، هل هو الصحيح أم الأعم؟

3- وأما علی القول بالمجازية، فقد تمّ تصوير النزاع بوجوه، منها:

التصوير الأول: ذكره المحقق الخراساني(1): فيقال ما هو المجاز الأقرب، بمعنی أن أيّ المعنيين اعتبرت أولاً العلاقة بينه وبين المعنی الحقيقي؟ وذلك لكي يحمل اللفظ عليه مع عدم القرينة المعينة.

وأشكل عليه: أولاً: بأنه لابد من ثبوت الأول في اعتبار العلاقة، ولا طريق إليه.

وثانياً: إن الأوّلية في اعتبار العلاقة توجب الظهور، وهذا أيضاً لا طريق إليه.

إن قلت: إنه قد يکون طريق لإحراز الظهور، في أحد المجازين، كما في المجاز الراجح أو المجاز المشهور.

قلت: لا إشكال في الكبری، إنّما الكلام في أنه لا طريق لذلك في الألفاظ التي استعملها الشارع.

والحاصل: إن العلاقة المصححة للاستعمال فيهما هي بدرجة واحدة عرفاً، فلم يحرز الظهور في أي منهما.

ص: 138


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 88.

التصوير الثاني: ما عن تقريرات الشيخ الأعظم(1) بأنه:

أ) علی الصحيح: فالمجاز هو استعمال اللفظ في العبادة الصحيحة فقط، ثم هناك تصرف في أمر عقلي، وهو اعتبار الفاسدة من أفراد الصحيح - أي اعتبار الفاقدة للأجزاء والشرائط واجدة لها - ، فلا يکون سبك مجاز من مجاز أصلاً، بل مجاز واحد، فمع عدم القرينة في التصرف في الأمر العقلي يحمل علی الواجد.

ب) وعلی الأعم: فيُدّعی أن اللفظ مستعمل في الأعم، والصحة والفساد بدال آخر، ومع عدم الدال يحمل اللفظ علی ظاهره - وهو الأعم - .

وأشكل عليه: أما الأول: فليس بعرفي، إذ لا إشكال في عرفية الاستعمال في الأعم ابتداء، بل هو واقع كما في تقسيم العبادة إلی الصحيحة والفاسدة.

وأما الثاني: فكذلك ليس بعرفي، فإن تعدد الدال والمدلول طريقة عقلائية لو أريد التحفظ علی المعنی الحقيقي، أما مع المجاز فلا موجب عرفي لهذه الطريقة، فتأمل.

التصوير الثالث(2): إن النزاع في تحديد القرينة العامة التي كان الشارع يعتمدها في استعمالاته المجازية، فالصحيحي يدعي أن مفادها الصحيح، والأعمي يدعي أن مفادها الأعم.

وفيه: عدم الطريق إلی معرفة مفاد القرينة العامة.

ص: 139


1- مطارح الأنظار 1: 32-33.
2- بحوث في علم الأصول 1: 189.

التصوير الرابع: ما يستفاد من كلمات المحقق النائيني(1): وعبارة الفوائد هي: لو لم نقل بالحقيقة الشرعية، فلا إشكال في ثبوت الحقيقة المتشرعية، فيقع الكلام في المسمّى عند المتشرعة، وأنه هل هو الصحيح أو الأعم، ومن المعلوم أن ما هو مسمى عند المتشرعة هو المراد الشرعي عند إطلاق تلك الألفاظ سواء كان الإطلاق على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز.

ويمكن تقرير كلامه بنحو آخر، بأن يقال: الحقيقة ثابتة لدی المتشرعة، للتبادر عندهم، ومنشؤها هو كثرة الاستعمال في زمان الشارع وما بعده، وحينئذٍ فنلاحظ ما هو المتبادر عندنا، فنحمل كلام الشارع عليه.

وفيه(2): أنه لا تلازم بين كثرة استعمال الشارع وبين الحقيقة عند المتشرعة، فلعلّ الشارع أكثر الاستعمال في جانب، ولكن المتشرعة أكثروا في جانب آخر لحاجتهم إليه، فتأمل.

المطلب الثاني: في معنى الصحة

وهنا أمور:

الأمر الأول: يقال إن الصحة هي التمامية، وبيان التمامية بأحد وجهين:

الوجه الأول: إن لها واقعاً مستقلاً غير الآثار، كموافقة الأمر وإسقاط القضاء...، وقد يقال: بأن هذا الواقع هو جامعية الأجزاء والشرائط.

وفيه نظر: لأنه قد يکون العمل صحيحاً مع كونه غير جامع للأجزاء والشرائط، كمن نسي شرطاً أو جزءاً ولم يكن ركناً، فعمله صحيح مع عدم

ص: 140


1- فوائد الأصول 1: 59-60.
2- منتقی الأصول 1: 199.

كونه جامعاً.

والحاصل: إن التمامية هنا ليست مقابل النقصان، بل هي مقابل الفساد.

الوجه الثاني: إنها أمر ينتزع عن مقام ترتب الأثر(1)، فهي التمامية بلحاظ الأثر المهم(2)، فلا واقع للتمامية إلاّ التمامية من حيث موافقة الأمر أو إسقاط القضاء ونحو ذلك.

وعليه فيمتنع أن يکون الأثر من لوازم التمامية، لأن مقوم الشيء لا يکون أثره.

إن قلت: بأنه خلط بين تمامية الشيء في نفسه - وهو الجامعية للأجزاء والشرائط - وبين التمامية بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء.

وبعبارة أخری: إنه خلط بين واقع التمامية وبين عنوانها - الذي هو ينتزع عن الشيء بلحاظ أثره - ، فالصلاة مثلاً لم توضع بإزاء ذلك العنوان، بل بإزاء واقعه ومعنونه - وهو الأجزاء والشرائط - .

قلت(3): الجزئية والشرطية ليس لهما واقع، وإنّما هما ينتزعان عن الشيء بلحاظ نحو دخله في حصول ما لوحظت الأمور المتكثرة واحداً بالإضافة إليه، والتي ينتزع لها عنوان المركب.

فليس الركوع - بما هو - جزءاً، بل هو فعل تام مستقل، وإنّما صار جزءاً بلحاظ دخله في حصول المأمور به ومتعلق الأمر.

ص: 141


1- نهاية الدراية 1: 95.
2- نهاية الأفكار 1: 73.
3- منتقی الأصول 1: 203.

فلا معنی للتمامية من حيث استجماع الأجزاء والشرائط، بل هي في طول التمامية بلحاظ أحد هذه الآثار.

فتحصل: أن التمامية أمر إضافي، يختلف باختلاف الجهة الملحوظة في الشيء، فلا يکون الشيء تاماً أو ناقصاً في نفسه من غير لحاظ أية جهة خارجية كحصول الأثر أو كونه مأموراً به ونحو ذلك.

مثلاً: بناءً علی القول بإجزاء الأمر الظاهري، فعند كشف الخلاف يکون العمل صحيحاً بنظر الفقيه، لقوله بالإجزاء، وفاسداً بنظر المتكلم لعدم مطابقة المأتي به للمأمور به(1).

ومن ذلك يتبين أن الصحة هي التمامية لا بقول مطلق بل من حيث ترتب الأثر المترقب، لوضوح عدم صدق الفاسد علی ناقص بعض الأجزاء إذا كان مؤثراً لنفس أثر الكامل(2).

الأمر الثاني: بعد أن تبين أن التمامية هي أمر ينتزع عن مقام ترتب الأثر، يتمّ الكلام حول هذا الأثر، فيقال:

1- لا يمكن إرادة الصحة بمعنی التمامية من حيث موافقة الأمر، لأن الشيء لا يتصف بموافقة الأمر إلاّ بعد تعلق الأمر، فلا يمكن أن يکون متعلّقا للأمر، إذ هو خلف.

2- وكذا لا يمكن إرادة الصحة من حيث إسقاط الإعادة والقضاء، لنفس الوجه، حيث لا يتصف الشيء بذلك إلاّ بعد تعلق الأمر.

ص: 142


1- نهاية الأفكار 1: 74.
2- منتقی الأصول 1: 204.

3- فيتعيّن: التام من حيث ترتب الأثر.

إن قلت(1): يلزم أخذ ما هو خارج عن الذات فيها، لأن الأثر خارج عن الذات، حيث إنه بمنزلة المعلول لها.

قلت: أولاً: تأخر الأثر عن الذات إنّما هو في الوجود الخارجي، أما في التسمية فلا مانع من وضع اسم واحد للعلة والمعلول معاً، لأن الدخل في المسمی لا يوجب الدخل في الذات.

وثانياً: المراد ما يکون له قابلية التأثير، وهذا داخل في ذات الشيء، لأن الجهة التي تقتضي عِليّة العِلة داخلة في ذاتها.

وبعبارة أخری: ترتب الأثر فعلاً هو من لوازم الصحة، وأما كونه مؤثراً فهو مقوّم للصحة، وهنا الاسم ليس للوجود بل هو للطبيعة بما هي.

الأمر الثالث: هل الموضوع له - بناءً علی الصحيح - هو التام من حيث ترتب الأثر من جميع الجهات، فحينئذٍ لا يحتاج ترتب الأثر علی الشيء فعلاً إلاّ إلی وجوده خارجاً، أم أن الموضوع له هو التام من بعض الجهات؟

والجهات التي تعتبر في ترتب الأثر علی العبادة هي: تحقق الأجزاء والشرائط، وعدم النهي، وعدم المزاحم، وقصد القربة.

1- الشرائط والأجزاء:

ذهب الشيخ الأعظم - علی ما في تقريراته(2) - إلى أنّ الصحة هي التمام من حيث الأجزاء دون الشرائط. وذلك لأن الأجزاء بمنزلة المقتضي للتأثير،

ص: 143


1- نهاية الدراية 1: 96.
2- مطارح الأنظار 1: 101.

والشرط متأخر عن المقتضي بحسب الرتبة إذ بالشرط تكون فعلية التأثير، والفعلية إنّما تفرض في صورة وجود ما يقتضي التأثير.

وأشكل عليه: بأن الاختلاف الرتبي إنّما هو في مقام التأثير في المعلول، لا في مقام التسمية.

2- عدم النهي:

ذهب المحقق النائيني(1) إلی خروج عدم النهي، لعدم إمكان أخذه في المسمی، إذ هو فرع المسمّی، لأنه متعلقه.

وأشكل عليه: بأن النهي قد يتعلق بذات الشيء، لا بما هو المسمّی، فلا يکون متأخراً عن المسمی.

3- عدم المزاحم:

ذهب المحقق النائيني أيضاً(2) إلی خروجه، لنفس الوجه السابق - أي تأخر مزاحم المسمی عن المسمی - .

وأشكل عليه(3): بأن المزاحم علی قسمين:

أ) المزاحم لنفس الشيء، فلا يتجه الكلام.

ب) المزاحم لأمر الشيء - كالإزالة التي تزاحم أمر الصلاة، ولا تزاحم نفس الصلاة - فيتجه الكلام.

لكن الظاهر أن المراد هو الأول لا الثاني.

ص: 144


1- فوائد الأصول 1: 61.
2- فوائد الأصول 1: 61.
3- منتقی الأصول 1: 209.

4- قصد القربة:

ذهب المحقق العراقي(1) إلی خروجه، لأن قصد القربة متأخرة عن المسمى، إذ هي متأخرة عن الأمر، والأمر متأخر عن المسمى.

وقيل: بأنه لا يمكن أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، نعم يمكن أخذ مفهومه في المسمی، لكن هذا المسمی لا يمكن الأمر به، إذ الأمر تعلق بالمسمی فيکون متأخراً عنه.

وحيث إن تعيين المسمی لأجل تشخيص متعلق الأمر، فيمتنع أن يکون المسمی هو الفعل من جميع جهاته حتی قصد القربة.

نعم لو قلنا بأن هناك أمران، أو قلنا بمتمم الجعل فلا محذور فيه، وسيأتي تفصيل إمكان أو امتناع أخذ قصد القربة في المتعلق في بحث التوصلي والتعبدي.

المطلب الثالثة: في تصوير الجامع
اشاره

ذهب المحقق النائيني(2) إلی عدم لزوم تصوير الجامع بين الأفراد - سواء علی القول بالصحيح أم الأعم - تبعاً لتقريرات الشيخ الأعظم(3)، وبيانه:

إن لفظ الصلاة - مثلاً - موضوعة للواجدة لجميع الأجزاء والشرائط، فيکون استعمالها في سائر المراتب من باب الادعاء والتنزيل، أو من باب اكتفاء الشارع به، كما في صلاة الغريق، فالموضوع له - علی كلا القولين -

ص: 145


1- نهاية الأفكار 1: 75.
2- فوائد الأصول 1: 62-64.
3- مطارح الأنظار 1: 49-50.

هو المرتبة العليا فقط، وحينئذٍ لا أفراد حقيقية أخری كي نحتاج إلی الجامع.

وأشكل عليه: بأن للصلاة مراتب عليا كثيرة، وكلها في عرض واحد، كصلاة الصبح والمغرب والظهر والوتر، وصلاة الآيات، والعيدين، وغيرها... فلابد من وجود جامع بينها، ولا يصح القول بأن إحداها هي المرتبة العليا والبقية يطلق عليها لفظ الصلاة بالعناية والحقيقة الادعائية، بل كلها في عرض واحد، فلابد من البحث عن الجامع بينها، سواء الجامع علی الصحيح، أم علی الأعم، مع وضوح عدم إمكان الالتزام بالاشتراك اللفظي فيها.

1- تصوير الجامع على الصحيح

وقد ذكرت لتصوير الجامع علی القول بالصحيح وجوه:

الجامع الأول: ما ذكره صاحب الكفاية(1)، من وجود جامع بسيط بين الأفراد، لكن لا يمكننا تعيينه بالاسم لعدم معرفتنا بحقيقته، وهذا الجامع متحد خارجاً مع أفراده، نعم يمكن جعل عنوان مشير إلی ذلك الجامع.

والدليل علی ذلك هو وحدة الأثر، الكاشفة عن وحدة المؤثر، لأن المعلول الواحد لا يصدر عن المتعدد، فالنهي عن الفحشاء أثر يترتب علی جميع الصلوات الصحيحة، ولهذا المعلول عِلة واحدة - وهي الجامع - ، ولكنا لا نعرف حقيقة تلك العلة، وقد عرفناها عبر معلولها، ويمكن انتزاع عنوان يشير إلی تلك الحقيقة مثل: الناهية عن الفحشاء.

ص: 146


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 97.

وأشكل عليه: بما ورد في تقريرات الشيخ الأعظم(1): من أن الجامع إما بسيط، أو مركب، وكلاهما غير ممكن!!

أما المركب: فلا يمكن أن يکون جامعاً، لأنه يختلف صحة وفساداً بحسب الحالات، فكل جزء من المركب يمكن فرض صحة الصلاة بدونه.

وأما البسيط: فأمره دائر بين أن يکون عنوان المطلوب، أو ملزوم مساوي له.

والأول: غير ممكن لأنه يرد عليه:

أولاً: أخذ ما لا يتأتی إلاّ من قِبل الطلب في متعلق الطلب، لأن عنوان المطلوب ينتزع عن الشيء بعد تعلق الطلب به، والمسمی متعلّق الطلب، فهو سابق علی الطلب، فلا يمكن أن يکون المسمی هو المطلوب.

وثانياً: حصول الترادف بين لفظ الصلاة - مثلاً - ولفظ المطلوب، وهو بديهي البطلان.

وثالثاً: عدم جريان البراءة عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته، بل لابد من جريان الاشتغال، وذلك لرجوع الشك إلی المحصِّل، إذ المأمور به بسيط ومعلوم لا إجمال فيه، فيکون الشك في جزئية شيء شكاً في المأمور به، فرجع الشك إلی المحصِّل.

والثاني: غير ممكن أيضاً لورود الإشكال الثالث عليه.

وأجاب: صاحب الكفاية(2) بأن الجامع لا ينحصر في الجامع العنواني - سواء كان مركباً أم بسيطاً - بل يمكن فرض جامع حقيقي، وهو متحد مع الأفراد

ص: 147


1- مطارح الأنظار 1: 46-47.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 97.

الخارجية، وتدل الآثار علی ذلك الجامع.

ثم إنه يمكن التزام أنه جامع بسيط مع كونه ملزوماً للمطلوب، ومع ذلك يمكن جريان البراءة.

وذلك لأن الاحتياط إنّما يکون فيما لو كان وجود ذلك الشيء البسيط يغاير وجود الأجزاء والشرائط، كما لو كان مسبباً عنها، كالطهارة المسببة عن الوضوء حيث إن الإنسان مأمور بالطهارة وهي مسبب عن الغسلتين والمسحتين، أما فيما نحن فيه، فليس الجامع مستقلاً عن الأجزاء والشرائط، بل هي من الكلي والفرد حيث إن وجود الكلي بوجود الفرد، فيکون الشك في الحقيقة شكاً في التكليف وأنه هل هناك أمر تعلق بالجزء أو الشرط المشكوك أم لا، فتجري البراءة دون الاحتياط.

أقول: يمكن أن يكون نظر الشيخ الأعظم غير ما فهمه صاحب الكفاية، وسيأتي بيانه في ذيل الجامع الثاني بإذن الله تعالى.

إشكالات أخرى بناءً ومبنیً:

أما مبنیً: فأولاً: عدم صحة قاعدة الواحد من أساسها، لأنها مبتنية علی كون العلل بالتوليد، والصحيح أنها بالتوافي، وهو أحد الأقوال في العِليّة، قال السبزواري: «أو بالتوافي عادة الله جرت»(1)، ولذا قد يسلب منها الأثر من غير تبدل حقيقتها، كنار ابراهيم (علیه السلام) .

وثانياً: ما في الأصول(2) من أن وحدة الأثر إنّما تلازم وحدة المؤثر في

ص: 148


1- شرح منظومة السبزواري: 114.
2- الأصول 1: 80.

الأمور الطبيعية لا فيما إذا جعل الفاعل المختار أثراً بعدة مؤثرات. ولا يخفی أن هذا الجواب إنما هو في طول الجواب الأول.

وأما بناءً: فقد أشكل المحقق الإصفهاني(1) بإشكالات ثبوتية وإثباتية - وإن کان في بعضها مناقشة - :

فأولاً: بعدم إمكان جامع ذاتي مقولي لأفراد الصلاة، وذلك لأن الصلاة مؤلفة من عدة مقولات متباينة، كالكيف والوضع وغيرهما، ولا يعقل وجود جامع في صلاة شخصية واحدة، فضلاً عن فرض الجامع لجميع المراتب.

ووجه ذلك: أن المقولات أجناس عالية، فلا جنس لها، وفرض جامع فيما نحن فيه يساوق فرض جنس أعلی من المقولات، كما لا يمكن فرض المركب مقولة برأسها لاعتبار البساطة في المقولات، مع لزومه إلی عدم تناهيها.

وثانياً: إن فرض الجامع البسيط المقولي المتحد مع الأفراد يستلزم التناقض، إذ كيف يتحد البسيط مع المركب؟ وذلك لأن البسيط هو ما لا جزء له، فاتحاده مع الأجزاء بمعنی كونه ذا أجزاء، وهذا خلف.

إن قلت: الكلي الطبيعي بسيط وهو متحد مع فرده المركب خارجاً.

قلت: قد مرّ أن معنی وجود الكلي الطبيعي بوجود فرده هو أن الكلي ينتزع عن الفرد الخارجي.

وثالثاً: علی فرض إمكان وجود الجامع البسيط المقولي، فلا دليل عليه إثباتاً.

ص: 149


1- نهاية الدراية 1: 99-101.

إن قلت: الدليل هو وحدة الأثر الكاشفة عن وحدة المؤثر.

قلت: إن الأثر هنا - كالنهي عن الفحشاء - ليس واحداً بالحقيقة، بل هو واحد اسماً ومتكثر حقيقة، وذلك لاختلاف أنحاء الفحشاء المستلزم لتغاير كيفية النهي عنها، كما أن كل مرتبة من مراتب الصلاة تؤثر في النهي عن مرتبة من مراتب الفحشاء.

ورابعاً: إن الجامع علی الصحيح، يمكن فرضه جامعاً للأعم، لتداخل مراتب الصحيح والأعم.

وذلك لأن المفروض اتحاد هذا الجامع مع ذات الأجزاء والشرائط، ولا يمكن لحاظ جهة إضافتها إلی الفاعل وصدورها عن المكلف، إذ هي جهة اعتبارية، ولا يعقل دخل الاعتبارية في فرض الجامع المقولي، إذ يمتنع تأثير الأمر الاعتباري في أمر حقيقي واقعي.

فتحصل أن الملحوظ ذات الأجزاء والشرائط، وهي في نفسها قابلة للصحة والفساد، فهذا الجامع المفروض لها المتحد معها، قابل لأن يکون جامعاً للأعم في الوقت الذي يکون جامعاً للصحيح.

الجامع الثاني: أن يفرض للأفراد الصحيحة جامع عنواني، لا حقيقي مقولي، كعنوان الناهي عن الفحشاء، ويکون اللفظ موضوعاً بإزائه.

وأشكل عليه: أولاً: لزوم الترادف بين لفظ الصلاة وعنوان الناهي عن الفحشاء، وهو غير متحقق عرفاً(1).

وفيه: أن هذا العنوان هو معنی الصلاة، كما يقال معنی الإنسان الحيوان

ص: 150


1- نهاية الدراية 1: 99.

الناطق، وهذا أجنبي عن الترادف الذي هو أن يوضع لفظان لمعنی واحد.

وثانياً: لزوم كون استعمال اللفظ في الذات المعنونة بالعنوان مسامحياً ومجازياً، لأن اللفظ موضوع للعنوان لا المعنون(1).

ولكن يمكن القول: بأن العنوان هو وجه للمعنون أو مرآة له أو فانٍ فيه - حسب المباني المختلفة - ، وهذا المقدار كافٍ في رفع المجاز أو المسامحة، فتأمل.

وثالثاً: لزوم إجراء الاشتغال عند الشك في جزئية شيء للمأمور به، لأن المأمور به هو العنوان الانتزاعي - وهو يتحصل بالأجزاء والشرائط جميعاً - فالشك في جزئية شيء يستلزم الشك في تحقق هذا العنوان عند عدم الاتيان به.

ولعله علی هذا الجامع العنواني أشكل الشيخ الأعظم حيث قال: إن كون الجامع بسيطاً يستلزم عدم جريان البراءة، وكأنّ الجامع المقولي كان معلوم الاستحالة لديه، ويشعر بنظره هذا جعله (عنوان المطلوب) أحد طرفي الترديد(2)، فيکون إشكاله وارداً، ولا يرد عليه ما تقدم عن المحقق الخراساني، إذ من المعلوم عدم اتحاد الجامع العنواني مع الأجزاء والشرائط، لأنه ينتزع عنها باعتبار تلبسها بعرض خاص غيرها(3).

الجامع الثالث: أن يفرض جامع مبهم من جميع الجهات إلاّ بعض الجهات المعرِّفة، ولا يکون جامعاً مقولياً ذاتياً، ولا عنوانياً.

ص: 151


1- نهاية الدراية 1: 99.
2- منتقی الأصول 1: 220.
3- نهاية الدراية 1: 99.

وتقرير هذا الجامع بأحد وجهين:

التقرير الأول: للمحقق الإصفهاني(1)، وحاصله:

أن هذا الجامع مبهم من كل الجهات إلاّ بعض الجهات المعرّفة - كجهة النهي عن الفحشاء والمنكر ونحوها - ، وهو جامع مركب من جملة أجزاء، فيصدق علی جميع مراتب العمل، سواء القليل منها من حيث الأجزاء والشرائط أم الكثير.

وتوضيحه: أن العناوين المنتزعة عن الخارجيات علی ثلاثة أقسام:

1- المعيّن بجميع جهاته، كمفهوم الإنسان.

2- المردَّد، كمفهوم (أحدهما)، وهذا لا وجود له في الخارج، بل الموجود أحد الفردين أو الأفراد.

3- المفاهيم المبهمة غير المتعينة وغير المرددة بحسب حقيقتها، القابلة للانطباق علی كل فرد محتمل وهي ثابتة في الخارج، وتكون نسبتها إلی الأفراد نسبة الطبيعي إلی فرده، كالشبح من بعيد حيث إنه قابل للانطباق علی كل فرد يحتمل أن يکون الشبح.

وكلّما زاد الإبهام وقلّت درجات التعيين كانت دائرة الصدق أوسع وأشمل، والعكس بالعكس.

إن قلت: ما الفرق بين المردَّد والمبهم، أ ليس المردد من مصاديق المبهم؟

قلت: الفرق أن المردَّد لا وجود له في الخارج بل هو عنوان قابل

ص: 152


1- نهاية الدراية 1: 101.

للانطباق علی الخارجيات، مثلاً (أحدهما) غير موجود خارجاً، لكنه يمكن انطباقه علی زيد أو علی عمرو، أما المفهوم المبهم فله مصداق في الخارج، لكنه في مرحلة المفهوم غير معيّن إلاّ من بعض الجهات المعرفة، ولذا كان المبهم كلي، عكس المردد فليس بكلي.

فتحصل أن جامع الأفراد الصحيحة ليس حقيقياً مقولياً، ولا عنوانياً، بل هو أمر مبهم يعرّفه بعض المعرفات كجهة نهيه عن الفحشاء والمنكر، وهذه الجهة هي التي أوجبت خروج الأفراد الفاسدة، وتبقی سائر الجهات مبهمة، فيکون قابلاً للانطباق علی كل الأفراد الصحيحة.

ودليل هذا الجامع: هو التبادر، حيث إنه جامع عرفي.

ومثاله العرفي: (الخمر) الذي لها جهات: اللون، والرائحة، والفاكهة التي اتخذت منها، وغيرها من الجهات التي تختلف أفراد الخمر فيها. والمتبادر عند إطلاقه هو سنخ (المائع المسكر) لا أكثر، فيکون مبهماً من سائر الجهات، فحقيقتها مجهولة، ولكن هناك جهة معرّفة هي (المائع المسكر) مع إبهام في سائر الجهات، فلذا تنطبق علی كل أفرادها.

و مثال آخر: (الكلمة)، و(الدار) وغيرهما.

وهكذا (الصلاة)، فجهتها المعرِّفة (النهي عن الفحشاء وأمثالها)، مع إبهام من سائر الجهات، ولذا تصدق علی صلاة الظهر للمختار المقيم، وعلی صلاة الغريق، وعلی كل المراتب التي بينهما.

وأشكل عليه: أولاً: بإنكار الإبهام في الماهيات الاعتبارية، إذ لا يعقل الإبهام في ذات الأشياء.

ص: 153

وفيه: أن الشيء بذاته معين، والإبهام إنّما حصل بسبب عدم اتضاح حقيقته، بل اتضحت منه جهة مع إبهام سائر الجهات.

وثانياً: إن الجامع المذكور ليس متعلقاً للأمر، بل متعلقه نفس الأجزاء المتقيده بقيود كما هو المتبادر.

وفيه: أن هذا الجامع ينتزع عن الشيء، كانتزاع الكلي عن فرده، فلذا ينطبق علی الأجزاء والقيود تمام الانطباق، فهو متعلق للأمر باعتبار انتزاعه عن الأجزاء والقيود، فتأمل.

التقرير الثاني: للمحقق العراقي(1) وهو الجامع الوجودي، وحاصله:

1- بعد بطلان الاشتراك اللفظي، وبطلان تخصيص الوضع ببعض الأنواع وجعل البقية أبدالاً... فلا محيص عن الكشف عن القدر المشترك بين تلك المختلفات الكمية والكيفية، يکون ذلك الجامع هو المسمی بالصلاة... مع لزوم كونه مشكِّكاً ينطبق علی الزائد والناقص تمام الانطباق... نظير مفهوم (الجمع) الصادق علی الثلاثة والأربعة والخمسة، ونظير (الكلمة) التي تنطبق علی المركب من حرفين أو ثلاثة أو أربعة...

2- ومن طرق اكتشاف ذلك الجامع: هو صدق مفهوم الصلاة علی الصلوات المختلفة بحسب الكمية والكيفية، وانسباق وحدة المفهوم منها، الحاكية عن اتحاد الحقيقة.

3- ثم إن هذا الجامع لا يمكن أن يکون ذاتياً مقولياً ولا جامعاً عنوانياً - لما مرّ - ، فلابد من القول بأن الجامع هو الجامع الوجودي، مع كونه مبهماً من

ص: 154


1- نهاية الأفكار 1: 81-84.

طرف غير الأركان - علی نحو اللابشرط - ، وبحيث يشار إليها في مقام الإشارة الإجمالية بأنها معراج المؤمن - مثلاً - .

فتحصل: أن حقيقة الصلاة: هي معنی بسيط وحداني، ليس بجوهر ولا بعرض، بل مرتبة خاصة من الوجود المتشكل من المقولات الخاصة بعد الغاء خصوصيات الحدود، ولها جهة كلية بالنسبة إلی الأفراد العرضية بنحو التواطي، وجهة كليّة بالقياس إلی الأجزاء والأفراد الطولية بنحو التشكيك.

إن قلت: وهل يمكن أن يکون الشيء غير جوهر ولا عرض.

قلت: دخل الحدود والمقولات الخاصة إنّما هو من باب كونها من المشخصات الفردية لحقيقة الصلاة - مثلاً - ، من غير أن يکون لها دخل في أصل حقيقة الصلاة أصلاً، وحينئذٍ لا يلزم كون حقيقة الصلاة أمراً مركباً من المقولات المتعددة، فحقيقة الصلاة ليست جوهراً ولا عرضاً ولكن مصاديقها الخارجية تكون مركبة من الأعراض المختلفة.

إن قلت: لو كان الجامع الوجودي هو المسمی بالصلاة من غير دخل الخصوصيات الفردية في حقيقة الصلاة، فيمکن الاتيان بصلاة المضطر بدلاً عن المختار، لوجود الجامع من كونه هو المطلوب.

قلت: إن الحالات الخاصة توجب حصر المصداق في فرد معين بخصوصيات معينة، ولو من جهة إناطة القرب في كل حالة بمصداق خاص، مثلاً (الماء المشبع) يختلف من حالة إلی أخری وعن شخص إلی آخر، فماء الكوز، والحب، والشط مصاديق للماء المشبع لكن قد ينحصر المصداق في أحدها في حالة خاصة أو بالنسبة إلی شخص خاص.

ص: 155

وبعبارة أخری موجزة: إمكان تصوير جامع وجودي - ليس بذاتي ولا عنواني - بين الأفراد الصحيحة، باعتبار اشتراكها جميعاً في الحيثية الوجودية، ولو كانت من مقولات مختلفة، فدخل تلك المقولات المتباينة في الصلاة - مثلاً - باعتبار دخل وجودها، بلا دخل خصوصية تلك المقولة، وطريق اكتشاف ذلك الجامع هو انسباق وحدة المفهوم عن الصلوات المختلفة الدال علی اتحاد حقيقتها.

وأشكل عليه: أولاً: بأنّ الوجود غير مأخوذ في معاني الألفاظ، بل الموضوع له هو ذات المعنی، الصالح للوجود خارجاً وذهناً.

وأجيب: بأنه لم يظهر وجه المنع عن وضع الألفاظ للوجود الخارجي، نعم عامة الألفاظ موضوعة للحقائق مع قطع النظر عن وجودها الخارجي، لكن لا محذور عن الوضع للوجود.

وثانياً: إن كان الوضع لواقع الوجود، فإن ذلك الواقع مجهول فكيف يمكن وضع اللفظ له؟

وإن كان الوضع للعنوان المنتزع - كعنوان الوجود والموجود - فإن لازم ذلك صحة إطلاق لفظ الصلاة - مثلاً - علی كل وجود وموجود.

وفيه نظر: إذ نختار الشق الأول ونقول: إن الوضع لواقع الوجود ممكن حتی مع الجهل به، وقد صرّح المحقق العراقي بكونه مبهماً مع إمكان الإشارة الإجمالية إليه بأنه معراج المؤمن مثلاً، وذلك لأن الجهل بواقع الشيء لا يمنع عن المعرفة الإجمالية به عبر الآثار مثلاً.

ويمكن أن نختار الشق الثاني ونجيب بأن الاسم لمفهوم الوجود أو

ص: 156

الموجود المنتزع عن وجود خاص، أي إن هذه الحصة من الوجود لها هذا الاسم، من غير دخل للخصوصيات في التسمية.

وبعبارة أخری: العنوان المنتزع من حصة خاصة هو المسمی بالصلاة، لا العنوان المنتزع من مطلق الأشياء.

وثالثاً: إن هذا الجامع غير عرفي، ولا ينسبق إلی الأذهان حين سماع لفظ الصلاة، فهذا الجامع لا إشكال فيه ثبوتاً، وإنّما الإشكال في عدم الدليل عليه، وإنّما التزم به المحقق العراقي من باب اللابدّية والاضطرار، بعد لزوم الجامع وبطلان الجامع الذاتي المقولي والجامع العنواني.

لكن الظاهر عرفيّة الجامع الذي صوّره المحقق الإصفهاني بل وتبادره من ألفاظ العبادات، فلا وجه للالتزام بالجامع الوجودي، فتأمل.

2- تصوير الجامع على الأعم

ذكر صاحب الكفاية(1) بأنه لا يمكن الجامع علی الأعم، وذلك لعدم اشتراك الفاسد مع الصحيح في الأثر فلا جامع ذاتي، كما لا يمكن جامع تركيبي

- كالأركان - ، إذ لو كانت الأركان (بشرط شيء) لزم عدم صدق المسمی علی الفاقد لها، وإن كانت (لا بشرط) يکون الإطلاق علی الواجد مجازاً.

وفيه: إمكان تصوير الجامع البسيط، وهو المقتضي للأثر بأن يکون مؤثراً شأناً لا بمعنی الفعلية، وبذلك يدخل الفاسد لأن له شأنية التأثير - إذا اجتمعت معه سائر الأجزاء والشرائط -(2).

ص: 157


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 98.
2- نهاية الأفكار 1: 86.

وإمكان تصوير الجامع المركب العنواني، عن طريق انتزاع الجامع عن هذه الأجزاء سواء كانت قليلة أم كثيرة، مثل انتزاع (الكلمة) عن حرفين وثلاثة وأربعة... الخ.

أما الجامع الذي تم تصويره فمن وجوه:

الجامع الأول: ما عن المحقق القمي، من أن الجامع هو خصوص الأركان، وسائر الأجزاء والشرائط دخيلة في المأمور به لا المسمّی.

وفيه: أولاً: عدم الطرد والعكس، فلازمه عدم صدق الصلاة علی فاقد ركن من الأركان مع استجماعها لسائر الأجزاء والشرائط، لأنها ليس الموضوع له - وهو مجموع الأركان - .

ولزوم صدق اسم الصلاة علی مجرد الأركان من دون سائر الأجزاء والشرائط، وليس كذلك، إذ لا يصدق الاسم عليها.

وثانياً: لزوم المجازية في استعمال اللفظ في جميع الأجزاء والشرائط.

وثالثاً: إن كان المراد الأركان بجميع مراتبها - حسب اختلاف الموارد من صلاة القادر والعاجز والغريق... - فلابد من تصوير جامع للأركان بجميع مراتبها ليکون هو الموضوع له، فعاد المحذور(1).

ورابعاً: إما يلتزم بخروج سائر الأجزاء والشرائط مطلقاً، أو يلتزم بخروجها عند عدمها.

والأول: يلزم منه أن يكون إطلاق الصلاة على التامة الأجزاء مجازاً من باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل.

ص: 158


1- فوائد الأصول 1: 75.

والثاني: يلزم منه كون الشيء داخلاً في الماهية حال وجوده، وخارجاً عنها حال عدمه، وهذا محال(1).

الجامع الثاني: أن تكون الصلاة اسم لمعظم الأجزاء التي تدور التسمية مدارها.

وأشكل عليه: أولاً: إما يراد مفهوم المعظم أو حقيقته(2).

أما مفهوم المعظم فلا يمكن أن يکون اسماً للصلاة، وذلك لأن الألفاظ موضوعة بإزاء الحقائق، لا المفاهيم التي لا موطن لها إلاّ العقل.

وأما حقيقة المعظم وواقعه، فيلزم منه الترادف بين لفظ (الصلاة) وبين (المعظم)، مضافاً إلی أنه يختلف باختلاف حالات المكلفين، فيلزم أن يکون المعظم بالنسبة إلی البعض غير المعظم بالنسبة إلی الآخرين وهذا يلزم منه محذوران:

الأول: تبادل الماهية، وهذا بديهي البطلان، لأن الشيء الواحد له ماهية واحدة.

الثاني: التردّد في تعيين الداخل من الخارج حينما تجتمع جميع الأجزاء والشرائط.

وفيه تأمل: لأن الصلاة مثلاً مركب اعتباري لا حقيقي، والمستحيل هو تبادل الماهية في الأمور الحقيقية.

وثانياً: يلزم منه المجازية في إطلاق لفظ الصلاة علی التام الأجزاء

ص: 159


1- فوائد الأصول 1: 75.
2- فوائد الأصول 1: 76.

والشرائط.

وفيه نظر: لأن الإطلاق علی التام إنّما هو بلحاظ اشتماله علی المعظم.

تقريب آخر لهذا الجامع: احتمل المحقق النائيني أن يکون الجامع هو (المعظم)، ولكن من قبيل (الكلي في المعيّن) كالصاع من صبرة، الذي ينطبق علی كل ما يمكن أن ينطبق عليه، مثلاً الصلاة موضوعة لسبعة أجزاء - فرضاً - بحيث لا يضر تبادل السبعة حسب اختلاف الحالات.

وأشكل عليه: بأنه يلزم منه كون إطلاقه علی الأكثر من السبعة مجازاً، مضافاً إلی عدم إمكان إثباته - لو فرض عدم المحذور في مرحلة الثبوت - .

الجامع الثالث: إن وضع ألفاظ العبادات كوضع الأعلام الشخصية، التي لا يضر فيها تبادل الحالات المختلفة - من صغر وهرم وصحة ومرض... الخ - كذلك الحال في ألفاظ العبادات.

وأشكل عليه في الكفاية(1): بالفرق، إذ الموضوع له في الأعلام أمر محفوظ في جميع الحالات، وهو وجوده الخاص، فمادام الوجود باقياً، كان الشخص باقياً، وليس كذلك في الصلاة، لاختلاف تركيبها بحسب الحالات.

واعترض عليه(2) في المنتقی، وحاصله: بأن الوضع في الأعلام إما للوجود أو للشخص.

والأول: لابد من أن يکون المراد وجود شيء معين، فيقع السؤال عن ذلك المعين ما هو؟

ص: 160


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 102.
2- منتقی الأصول 1: 228.

والثاني: إمّا لمفهوم الشخص، وهو فاسد للزوم الترادف، وإمّا لمصداق الشخص وواقعه، فيلزم المجازية حين استعمال اللفظ بخصوصياته.

وفيه تأمل: إذ يمكن أن يراد الوجود بما هو حصة خاصة، ويوضع اللفظ لتلك الحصة، بلا حاجة إلی معرفة كنهها، وتلك الحصة تتوارد عليها الحالات المختلفة.

ويمكن أن يراد الشخص لكن مع كونه لا بشرط عن الخصوصيات فلا يلزم المجازية حين استعماله مع خصوصياته.

الجامع الرابع: إن الوضع في ألفاظ العبادات نظير الوضع في المعاجين التي وضعت للصحيح التام، ثم العرف يتسامحون فيطلقون اللفظ علی الفاقد تنزيلاً له منزلة الواجد، حتی صار الفاقد حقيقة بسبب كثرة الاستعمال.

وأشكل عليه: بالفرق، فإن المعاجين وضعت ابتداءً للكامل، إذ المعاجين معلومة الحدّ والمقدار، ولكن صحيح العبادات غير معلوم الحد والمقدار، لاختلاف المراتب العرضية للصلاة الصحيحة من أربع ركعات إلی ثلاثة إلی اثنين، ومن اليومية إلی الآيات إلی العيدين... الخ، فكلها في عرض واحد من غير أن يکون أحدها الأصل.

المطلب الرابع: ثمرة البحث

الثمرة الأولی: قد يقال: بأن ثمرة بحث الصحيح والأعم، هي إمكان التمسك بالإطلاق علی القول بالأعم، وعدم إمكانه علی القول بالصحيح.

وذلك لأن إثبات الحكم لموضوع ٍ ما فرع ثبوت ذلك الموضوع، ومع الشك في الموضوع لا يجدي الإطلاق، بل يکون من التمسك بالعام في

ص: 161

الشبهة المفهومية.

فلو قال المولی (أكرم العالم) - مثلاً - ، وشككنا في أن (العالم) يشمل (الشعراء) أم لا، فحينئذٍ إثبات إطلاق (أكرم العالم) لا يجدي في إثبات وجوب الإكرام للشعراء، لعدم ثبوت كونهم من العلماء.

نعم لو أحرزنا الموضوع وشككنا في أن ترتب الحكم عليه مقيد بقيد زائد أم لا، فإنه يمكن التمسك بالإطلاق لنفي ذلك القيد الزائد، ففي المثال: لو شككنا في اشتراط الهاشميّة في العالم، فمع العلم بأنه عالم يمكن نفي قيد الهاشميّة بالإطلاق.

وفيما نحن فيه، علی القول بالصحيح، لم يحرز صدق اسم الصلاة - مثلاً - علی الفرد الذي ليس فيه الجزء أو الشرط المشكوك جزئيته أو شرطيته، ومع عدم إحراز أنه صلاة لا يجدي التمسك بالإطلاق.

أما علی القول بالأعم، فإنه يحرز الاسم، سواء كان المشكوك جزءاً أو شرطاً واقعاً أم لم يكن، وبعد إحراز الاسم - وهو الموضوع - يمكن نفي الجزئية والشرطية بالإطلاق.

وفيه: أولاً: إنه لا ثمرة عملية تترتب علی ذلك(1).

فإن النصوص الدالة علی العبادات: إما ليست في مقام البيان، بل هي في مقام أصل التشريع، كقوله تعالی: {أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(2)، وإما في مقام بيان الأجزاء والشرائط وذلك عبر بيانها بخصوصياتها.

ص: 162


1- نهاية الأفكار 1: 96.
2- سورة البقرة، الآية: 43.

فعلی الأول فلا إطلاق لفظي حتی علی القول بالأعم.

وعلی الثاني يوجد إطلاق مقامي، حيث إن المولی في مقام بيان ما هو دخيل في المأمور به، وهذا الإطلاق محكَّم سواء علی القول بالصحيح أم الأعم، فانتفت الثمرة.

وسيأتي إن شاء الله تعالی الفرق بين الإطلاق اللفظي والإطلاق المقامي، وأن الأول يرتبط بما يستفاد من اللفظ، والثاني هو دلالة الحال علی عدم أخذ القيد الزائد، فإن من يريد بيان تفاصيل الصلاة - مثلاً - وذكر أنها تبدأ بالتكبير وعدّد الأجزاء والشرائط إلی انتهائها بالتسليم، إذا لم يذكر شرطاً أو قيداً، لكانت حالته دالة علی عدم جزئيتها أو شرطيتها، وهذ قرينة خاصة يعتمد عليها العقلاء في أمورهم.

وثانياً: إنه لا يمكن التمسك بالإطلاق حتی علی الأعم، لأن اللفظ وإن كان ينطبق علی الصحيح والفاسد، إلاّ أن المأمور به هو خصوص الصحيح.

فلو شك في دخالة جزء أو شرط في المأمور به، فلا إحراز لكون الفاقد صحيحاً - حيث إن القيد علی تقدير اعتباره دخيل في الصحة - وحينئذٍ لا يحرز صدق المطلق علی المشكوك فيه، فالمطلق في قوة أن يقول (صلّ الصلاة الصحيحة)، وفاقد ذلك المشكوك لا يعلم بأنه (صلاة صحيحة) فيکون شكاً في تحقق الموضوع.

وبعبارة أخری - كما قيل - : تقييد المراد الجدي كتقييد المراد الاستعمالي.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال بوجوه:

ص: 163

منها: ما في المنتقی(1): وبيانه يتوقف علی أمرين:

1- بناء العقلاء هو كشف المراد الجدي عن طريق الظاهر، ولذا لو كان للكلام ظاهر ثم ادعی المتكلم أنه لم يقصد ذلك الظاهر لم تسمع دعواه.

2- والمراد الجدي في ألفاظ العبادات هو ما يترتب عليه الأثر، ومن المعلوم أن الأثر يترتب علی مجموعة من الأجزاء والشرائط.

وعليه: فلو تردد المراد الجدي بين الأقل والأكثر - وأنه الأجزاء التسعة أم العشرة - ، وكان هناك ظهور يعين لنا مقداره، وجب التمسك بذلك الظهور.

وفيما نحن فيه، بناءً علی الأعم فإن لفظ الصلاة - مثلاً - يصدق علی الأقل والأكثر، وحيث تردد المراد الجدي - إذ الفرض حصول العلم بكون المراد الجدي كميّة معينة من الأجزاء والشرائط، وإنّما التردّد في مقدارها وأنه الأقل أم الأكثر - أمكن التمسك بظهوره الإطلاقي في تعيين المراد الجدي، وأنه الأقل، دون الأكثر لعدم القرينة عليه،

فلا يکون من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، بل هو تمسك بظهور المطلق في الإطلاق لإحراز المراد الجدي، وهذا لا محذور فيه.

وبناءً علی الصحيح، لا ظهور للفظ العبادة، لأن اللفظ موضوع لتلك الحصة المعينة واقعاً، المرددة عندنا، فاللفظ ظاهر في تلك الحصة، ولم يعلم أنها الأقل أم الأكثر، فيکون اللفظ مجملاً.

ومنها(2): أن هنا حكمين لا تنافي بينهما فلا يقيد أحدهما الآخر، وهما:

ص: 164


1- منتقی الأصول 1: 240-243.
2- منتقی الأصول 1: 243.

1- حكم العقل بعدم تعلق الأمر إلاّ بالصحيح، وهو الواجد للملاك والمصلحة.

2- ودليل تعلق الأمر بفعل الأجزاء والشرائط كقوله تعالی: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(1).

وحيث لا منافاة بينهما، أمکن جريان كلا الدليلين، فدليل الأمر يدل بالملازمة علی ثبوت الملاك في الفعل، فيکون الفعل بجميع أفراده صحيحاً واجداً للملاك.

فيکون (دليل الأمر) وارداً علی (الحكم العقلي)، لأن (الحكم العقلي) هو عدم تعلق الأمر بالفاسد، و(دليل الأمر) يدل علی صحة كل أفراد الصلاة، فلا يبقی موضوع له.

وفيه تأمل: أولاً: لأن هذا الكلام يجري بناءً علی كلا القولين - الصحيح والأعم - ، ونتيجته إمكان التمسك بالإطلاق علی كليهما، وبذلك تنتفي الثمرة.

وثانياً: إن دليل الأمر لم يتعلق بفعل الأجزاء والشرائط بشكل مطلق، بل تعلق بالصحيح منها، فلازمه هو وجود الملاك في الفرد الصحيح لا مطلقاً، فالتمسك بالدليل لإثبات صحة كل الأفراد تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فتأمل.

الثمرة الثانية: ما عن المحقق القمي(2) بظهور الثمرة في النذر، بأن نذر أن يتصدق بدرهم علی المصلّي، فعلی الصحيح لا وفاء للنذر إلاّ بإعطاء الدرهم

ص: 165


1- سورة البقرة، الآية: 43.
2- قوانين الأصول 1: 105.

لمن صلی صحيحاً، وعلی الأعم يجوز إعطائه لمن كانت صلاته فاسدة.

وفيه: أولاً: أنه لو صحت هذه الثمرة فهي خاصة بباب النذر وشبهه، ولا تجري في عامة أبواب الفقه فلا تكون المسألة أصولية، اللهم إلاّ أن يقال بأنهم لم يعتبروها مسألة أصولية بل ذكروها في المقدمات.

وثانياً: بأن هذه ثمرة جزئية لا يناسبها بحث كهذا البحث في الأصول.

وثالثاً: عدم صحة هذه الثمرة من أساسها، لأن النذر تابع لقصد الناذر، ومع غفلته فإن ارتكاز الناذر هو الصلاة الصحيحة، سواء كان اللفظ للصحيح أم للأعم.

وبعد الانتهاء من هذه المقدمات ندخل في أصل الموضوع.

المطلب الخامس: أدلة الطرفين
1- من أدلة القائل بالصحيح

الدليل الأول والثاني: التبادر وعدم صحة السلب.

ولكن هذان أمران وجدانيان، فإنكارهما سهل، بل يمكن ادعاء العكس، كما حدث فعلاً حيث استدل بهما للأعم.

الدليل الثالث: إثبات الآثار للمسمّيات - من غير تقييدها بالصحيح - ، ومن المعلوم عدم ترتب تلك الآثار علی غير الصحيحة، كقوله تعالی: {إِنَّ الصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}(1)، و«الصوم جنة من النار»(2)... وغيرها، والأمر يدور بين الوضع لخصوص الصحيح فيکون الاستعمال حقيقياً، وبين

ص: 166


1- سورة العنکبوت، الآية: 45.
2- الكافي 2: 19.

الوضع للأعم فيکون مجازياً، والأول هو المتعين.

وفيه: أولاً: إن المراد واضح، وبعد اتضاحه لا يوجد أصل يعيّن أنه حقيقي أم مجازي، فإن (أصالة الحقيقة) كما مرّ تجري مع الشك في المراد، وأما مع العلم به - مع عدم العلم بأنه حقيقي أم مجازي - فلا تجري.

وثانياً: إرادة أحد المصاديق من المعنی الحقيقي لا تستلزم المجازية، إذ هي من باب التطبيق، لا من استعمال اللفظ في غير ما وضع له، نظير استعمال الإنسان في زيد.

وثالثاً: عن فوائد صاحب الكفاية(1)، بأن الاستدلال المذكور هو من قبيل التمسك بعموم العام لإخراج ما يعلم بخروجه عن حكم العام عن موضوعه، فراراً عن لزوم التخصيص علی تقدير دخوله في موضوع العام.

مثلاً لو قال: (أكرم كل عالم)، وعلمنا بخروج زيد، لكن هل كان عالماً وخرج بالتخصيص، أم لم يكن زيد عالماً فخروجه موضوعي وبالتخصص، فلا تجري هيهنا أصالة العموم لكي يثبت عدم التخصيص وأن خروجه بالتخصص.

فالاستدلال مبنيّ علی حجية أصالة العموم مطلقاً حتی فيما علم بخروجه وشك في سبب الخروج، ولكن المبنی محل نظر إذ دليل حجية أصالة العموم هي السيرة وهي لبيّة، والقدر المتيقن منها هو ما كان معلوم الفردية وشك في خروجه.

الدليل الرابع: الروايات الدالة علی نفي الماهية بمجرد انتفاء جزء أو

ص: 167


1- نهاية الأفكار 1: 89.

شرط، مثل: «لا صلاة إلاّ بطهور»(1) و«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(2)، ولو كان الموضوع له هو الأعم، لما كانت الماهية تنتفي بانتفاء أحد أجزائها أو شرائطها.

وأشكل عليه: أولاً: بأن المراد نفي الكمال، لا نفي الماهية، كقوله (لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد)(3).

وفيه: أن ذلك مجاز لا يصار إليه إلاّ بالقرينة.

وثانياً: إنه قد تكون الصلاة صحيحة بدون فاتحة الكتاب في بعض الحالات، كالاضطرار والنسيان، وكذا بدون الطهور لفاقد الطهورين كما يراه بعض الفقهاء، فالجامع علی القول بالصحيح يشمل الواجد والفاقد.

إذن فالنفي راجع إلی نفي الماهية في بعض الحالات، كحالة الاختيار والذكر، دون غيرها.

الدليل الخامس: عدم إمكان إرادة الصحيح في بعض الروايات، كقوله: (دعي الصلاة أيام أقرائك)(4)، فإن الحائض غير قادرة علی الصلاة الصحيحة، فالنهي عنها نهي عن غير المقدور، فلابد من حمل الصلاة علی الأعم لقدرتها علی الصلاة الفاسدة.

وفيه: أولاً: أن النهي هنا إرشادي، لإرشادها إلی عدم قدرتها علی

ص: 168


1- من لا يحضره الفقيه 1: 58.
2- عوالي اللئالي 1: 196.
3- تهذيب الأحكام 1: 92.
4- عوالي اللئالي 2: 207.

الصلاة، وليس نهياً مولوياً، وذلك لوضوح عدم حرمة إتيانها بصورة الصلاة كما لو أرادت تعليم الصغار، نعم لو أتت به بقصد القربة مع فرض إمكانه كان حراماً من جهة التشريع لا من جهة النهي المولوي.

وثانياً: إن استعمال الصلاة هنا في الأعم، والاستعمال لا يدل علی الحقيقة.

وأشكل عليه: بأن الاستدلال ليس بالاستعمال، بل بعدم العناية، فإنا لا نجد أيّة مجازية في هذا الاستعمال.

ولعل مقصود السيد المرتضی حيث ذهب إلی أن الاستعمال علامة الحقيقة، إلی هذا، أي الاستعمال بدون عناية علامة للحقيقة.

2- من أدلة القائل بالأعم

فمضافاً إلی استدلالهم بالتبادر وصحة السلب، استدلوا بأمور أخری، منها:

الدليل الأول: إن الألفاظ الموضوعة للأمور الحقيقية، أو المركبات الخارجية، وضعت للأعم من الصحيح والفاسد، فالبيض اسم للأعم سواء كان صحيحاً أم فاسداً، والدار تطلق علی العامرة وعلی الخربة، والشارع لم ينهج طريقة أخری في التسمية أو الاستعمال، وتعلّق الأمر بالصحيح - لتعلق الغرض به - لا ينافي التسمية بالأعم، كما في تعلّق الغرض بالصحيح في الأمور الخارجية.

الدليل الثاني: صحة التقسيم إلی الصحيح والفاسد، فيقال: الصلاة إما صحيحة وإما فاسدة، ولو كانت اسماً للصحيح لكان من تقسيم الشيء إلی

ص: 169

نفسه وإلی غيره.

وحيث إن استعمال اللفظ من غير عناية، كشف ذلک عن أن الاستعمال في المعنی الحقيقي.

الدليل الثالث: الاستدلال بمثل قوله «بني الإسلام علی خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه»(1)، مع أن الصلاة بغير ولاية باطلة، فلو كانت اسماً لخصوص الصحيح لكان يقول: فترك الناس الخمس كلها.

وأشكل عليه: بأن المذكورة في صدر الرواية هي الصحيحة قطعاً لأن الاسلام يُبنی علی العبادات الصحيحة لا الفاسدة.

والمراد بالأربع في الذيل أيضاً: إما الصحيحة ولكن حسب اعتقادهم، أي فأخذ الناس بما زعموه صحيحاً من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وإما الصحيحة من غير جهة الولاية، حيث إن الصحيح كما مرّ هو من غير ناحية قصد القربة، والولاية من شؤونات قصد القربة(2).

ويرد عليه: أولاً: أن إرادة الصحيح من الصدر لا ينافي الوضع للأعم، لأن الصحيح أحد مصاديق المعنی، ولا إشكال في جواز استعمال اللفظ بالمعنی الحقيقي في أحد مصاديقه.

وثانياً: بأنّ الولاية غير مرتبطة بقصد القربة في العمل، بل هي واجب نفسي مستقل بالاعتقاد بالأئمة (علیهم السلام) ، ووجودها شرط في صحة العبادة من

ص: 170


1- الكافي 2: 18.
2- نهاية الأفكار 1: 90.

غير أخذها في قصد القربة التي هي قصد أمر المولی، فتأمل.

الدليل الرابع: لا إشكال في صحة تعلق النذر بترك الصلاة في مكان مكروه كالحمّام، كما لا إشكال في حصول الحنث بفعلها فيه، وعليه: فلو كانت الصلاة اسماً لخصوص الصحيح، لم يحصل الحنث، لأن هذه الصلاة تكون منهياً عنها، والنهي في العبادة موجب لفسادها، فلم يرتكب مخالفة النذر، وحينئذٍ يقال: إنه غير قادر علی الإتيان بمتعلق النذر، فيبطل نذره، للزوم كون متعلق النذر مقدوراً.

وأشكل عليه: أولاً: مبنیً: بأنّ كراهة العبادة: إما بمعنی كونها أقل ثواباً مع رجحانها والثواب عليها. وإما بمعنی الكراهة في أمر يلازم العبادة - كالكون في الحمام في حال الصلاة - .

فعلی الأول: يکون النذر باطلاً من أساسه، لأن الصلاة في الحمام راجحة، فتركها مرجوح، فلا يصح تعلق النذر به.

وعلی الثانی: فإن كان متعلق النذر نفس العبادة دون اللازم، فكذلك النذر باطل من أساسه.

وإن كان متعلق النذر ذلك اللازم، فالصلاة صحيحة - لعدم النهي عنها بل النهي عن لازمها - ، فلو أتی بها حنث النذر بسبب ارتكابه ذلك اللازم.

إن قلت: تسری الحرمة من اللازم إلی ذات العبادة لعدم انفكاكها.

قلت: لازم ذلك بطلان الصلاة في الحمام ولو من غير نذر(1).

وثانياً: بناءً: فإن المراد الصحة اللولائية، أي لولا النذر لكانت الصلاة

ص: 171


1- نهاية الأفكار 1: 92.

صحيحة، وذلك لأن الصحة المتفرعة عن النذر لا يمكن أخذها في متعلق النذر، لأن الصحة والفساد المترتبان علی النذر متأخران عنه، فلا يمكن أخذهما في متعلق النذر الذي هو موضوع النذر فيکون مقدماً عليه، فتأمل.

المبحث الثاني: في المعاملات

اشاره

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في تحرير محل النزاع

إن النزاع في الوضع للصحيح أم للأعم كما يجري في المعاملات العرفية كذلك يجري في المعاملات الشرعية.

وقيل: إن البحث خاص للوضع بنظر العقلاء، إذ لولا ذلك كانت أدلة الإمضاء لغواً حيث يکون مفاد {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(1) هو أن البيع الصحيح صحيح!!

ويرد عليه: أولاً: لو فرض الاستعمال في الأعم في هذه الآية، فإنه لا يضر، لأن الاستعمال أعم من الحقيقة.

وثانياً: إن الإشكال إنّما يرد لو قيل بوضع اللفظ لعنوان الصحيح، ولا نقول به، بل نقول بأن الوضع هو لحقيقة الصحيح دون عنوانه، فمعنی {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} هو أحل الله مبادلة مال بمال المقرون بالاختيار... الخ، وهذا ليس بلغو.

ثم إن في المعاملات ثلاثة أمور:

ص: 172


1- سورة البقرة، الآية: 275.

1- السبب، كالعقد والإيقاع والمعاطاة.

2- المسبب، وهي الأفعال التي تتولد من الأسباب الخاصة، كالتمليك والتزويج.

3- آثار المسبب، كالملكية والزوجية ونحوهما.

وليس البيع - مثلاً - الأول، فإنه تُنشأ به المعاملة، فلو كانت نفس المعاملة لزم اتحاد المُنشأ - بالفتح - مع ما ينشأ به وهو محال، ولا الثالث فإنه أثر البيع وليس نفس البيع، فظهر أن المعاملة هي الفعل التوليدي الذي له أسبابه الخاصة وله آثار معلومة.

ثم إن المحقق الخراساني(1) ذهب إلی جريان النزاع لو قلنا بأن المعاملة هي السبب، وعدم جريانه لو قلنا بأنها المسبب، وذلك لأن السبب مركب فيمکن فيه الصحة لو تمت الأجزاء والشرائط، والفساد لو لم تتم، دون المسبب لأنه بسيط فأمره دائر بين الوجود والعدم.

وتفصيل ذلك(2):

1- إن قلنا إنها أسامٍ للأسباب، كما هو المترائی من ظاهر من عبّر عنها في مقام شرعيتها بقولهم البيع عقد كذا، فلا إشكال في دخولها في حريم النزاع، فقد يترتب الأثر علی العقود فتكون صحيحة، وقد لا يترتب فتكون فاسدة.

2- وإن قلنا بأنها أسامي للمسبَّبات وأنها أمور بسيطة ناشئة من قبل

ص: 173


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 129.
2- نهاية الأفكار 1: 97.

أسبابها الخاصة والعقد موجد لها، فحينئذٍ قد يقال بعدم جريان النزاع فيها...

تارة: من جهة أنها بنفسها آثار، وكلامنا في المؤثرات التي يترتب عليها الآثار، مع أن معنی الصحة هي ترتب الأثر المقصود، فالبحث في المؤثرات لا في الآثار.

وأخری: لأنها بسيطة فأمرها دائر مدار الوجود والعدم، فلا يتصور فيها التمامية والنقصان.

وأشكل عليه بأمور منها:

الإشکال الأول: فيقال أما علی الشِق الأول فبأنّها وإن كانت آثاراً، إلاّ أنها يترتب عليها أحكام، كجواز التصرف وحرمته، وحسب ما ذكرنا فإن المعاملة هي الأفعال التوليدية التي يترتب عليها آثار.

وأما الشق الثاني: فله وجه إن قلنا باتحاد حقيقة البيع ومصداقه عند العرف والشرع، فيکون مورد التخالف - كالبيع الربوي - من تخطئة الشرع للعرف، ولكن إن قلنا بالشقوق الأخری فلا.

وذلك لأن في عدم إمضاء الشارع مثل المعاملة الربوية ثلاث احتمالات:

الأول: اتحاد حقيقة البيع ومصداقه شرعاً وعرفاً، فتكون التخطئة إنّما هي في عدّ العرف غير البيع مصداقاً للبيع، ولازمه: عدم قابليته للاتصاف بالصحة والفساد، بل أمره دائماً دائر بين الوجود والعدم، ومبنی هذا الوجه: أن البيع أمر واقعي انتزاعي عن منشأه، وغير منوط بالجعل.

ويرد عليه: عدم صحة المبنی بل البيع من الأمور الاعتبارية.

الثاني: اتحاد حقيقة البيع ومصداقه شرعاً وعرفاً، لكن نهي الشارع ليس

ص: 174

لتخطئة العرف في عدّه مصداقاً للبيع، بل هو تخصيص بمعنی عدم ترتب الأثر علی البيع، ولازمه: قابلية الاتصاف بالصحة والفساد، إذ أمكن وجود البيع غير المؤثر، فالبيع قد يتصف بالصحة والفساد وقد لا يتصف.

ويرد عليه: التهافت بين القول بتحقق البيع مع عدم تحقق آثاره، وهو مخالف لما عليه الإرتكاز.

الثالث: إن للبيع مصداقين - عرفي وشرعي - وكل واحد منهما منشأ للآثار عند الشارع أو العرف.

ودليل هذا الوجه: أن المسببات هي أمور اعتبارية جعلية، فلا معنی للتخطئة هنا، لأن البيع المضاف إليهم والمصداق المختص بهم متحقق لا محالة - وذلك لأن الاعتبار بيد المعتبر - ، نعم المصداق الشرعي يکون تحققه تابع لاعتبار الشارع.

ويرد عليه(1): أن الأثر وإن كان من الأمور الاعتبارية، إلاّ أن كون هذا السبب مقتضياً للاعتبار هو أمر تابع لما يراه العقلاء من المصالح والمفاسد، ومقتضيات قائمة بالسبب، وليس أمراً جزافاً، فيمکن التخطئة في الوجه والباعث علی جعل الشيء سبباً، لا في نفس السبب، ولا في المسبب.

وبعبارة أخری: حيث إن العقول متفاوتة في إدراك المصالح والمفاسد، فقد يری العرف صلاحية الشيء للتأثير ولكونه سبباً للاعتبار، ولكن يری الشارع عدم صلاحيته.

الإشكال الثاني: عدم جريان النزاع أيضاً علی القول بأن المعاملات أسامٍ

ص: 175


1- نهاية الدراية 1: 137.

للأسباب، وذلك لأنه وإن أمكن جريان النزاع ثبوتاً، إلاّ أنه لا يجري إثباتاً، إذ ذلك يتوقف علی فرض ثمرة، والثمرة منتفية علی رأي صاحب الكفاية، حيث إنه يری إمكان التمسك بالإطلاق - سواء قيل بالصحيح أم بالأعم - .

وفيه: أن التمسك بالإطلاق يبتني علی مقدمات هي محل خلاف، فيکفي وجود الثمرة علی بعض الأقوال.

الإشكال الثالث: إن البيع يسند إلی الأشخاص، فيقال: (باع زيد) مثلاً، فلو كان البيع اسماً للمسبب لم يصح إسناده إلی الأشخاص، بل هو من فعل الشارع.

وفيه: النقض: بإسناد الأحكام الشرعية والعرفية إلی المكلّف، فيقال مثلاً: طهّر فلان ثوبه مع أن الطهارة هي حكم الشارع.

والحلّ: بأن القدرة علی السبب قدرة علی المسبب، فالإنسان قادر علی الإحراق بإلقاء الورقة في النار مع أن الإحراق هي فعل النار، لكن الإنسان قادر عليه بقدرته علی سببه.

وبعبارة أخری: إن أحكام الشارع قضايا حقيقية عادة، ولكن فعليّة الحكم منوط بوجود موضوعه، فمن يُوجِد الموضوع يصح إسناد الحكم إليه.

الإشكال الرابع: إن النسبة بين العقد والمعاملة ليست نسبة السبب والمسبب، بل هي نسبة الآلة إلی ذي الآلة(1).

وذلك لأن المسبب التوليدي ما يترتب علی سببه بمجرد وجوده بلا

ص: 176


1- فوائد الأصول 1: 81.

توسط الإرادة له، بل ترتبه قهري، ولذا لم يكن بنفسه متعلقاً للإرادة، بل الإرادة تتعلق به بتبع تعلقها بالسبب، كالإحراق بالنسبة إلی الإلقاء في النار.

بخلاف ذي الآلة، فإنه اختياري بنفسه وبالمباشرة، فلا يترتب علی تحقق الآلة قهراً، بل تتعلق الإرادة بذي الآلة بنفسه، كالكتابة بالنسبة إلی القلم، فلا تترتب علی القلم قهراً بل الكتابة مقدورة بنفسها.

وبعبارة أخری: الكتابة هي نفس تحريك القلم علی القرطاس، فهي فعل اختياري، دون الإحراق فإنه ليس بذاته فعل الإنسان وإنّما فعله هو الإلقاء.

وفيه: أولاً(1): أن الآلة ليست من الأفعال، بل هي من الأمور التكوينية التابعة وجودها لأسبابها، وأما السبب فهو من الأفعال، فآلة الكتابة - القلم - ليست من الأفعال بل هي موجود تكويني من الجواهر، وسبب الكتابة هو تحريك القلم علی القرطاس.

وفيما نحن فيه العقد هو من الأفعال الاختيارية، لأنه إنشاء واستعمال اللفظ، وليس من الجواهر حتی يکون آلة.

وفيه تأمل: لأن الآلة هي ما يتوصل بها إلی الشيء المقصود، فتخصيصها بالجواهر بلا وجه، فكما يمكن التوصل إلی الشيء عبر الآلة التي هي جوهر، كذلك قد يکون عبر العَرَض، ومنه الكلام الذي هو من مقولة الكيف.

وثانياً: إن السبب هو الاستفادة من الآلة، وهذا يتصور في العقد، فإنه حتی لو فرض أن الكلام آلة، لكن الاستفادة من هذه الآلة هو سبب تحقق

ص: 177


1- منتقی الأصول 1: 281.

المسبب، كما أن القلم آلة لكن سبب الكتابة هو تحريك القلم، فيصح البحث في أن المعاملة هي السبب أو المسبب. فتأمل.

المطلب الثاني: في ثمرة النزاع في المعاملات
اشاره

وفيه مقامان:

المقام الأول: في الثمرة على القول بأن المعاملة اسم للسبب

فقد قيل: بإمكان التمسك بإطلاق ألفاظ المعاملات بناءً علی الأعم، وعدم إمكانه بناءً علی الصحيح، لو شك في فرد خاص من المعاملة، كبيع الغرر أو بغير العربية.

لأن التمسك بالإطلاق علی الصحيح يکون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، حيث إن لفظ البيع - مثلاً - موضوع لما هو المؤثر واقعاً أو ما له اقتضاء التأثير، فإذا شك في فرد من أفراد البيع أنه ممضی أم لا، يکون مرجع الشك إلی أن ذلك الفرد مؤثر أو مقتضٍ للتأثير أم لا، فلا إحراز لصدق البيع عليه، وحينئذٍ لا يمكن التمسك بمثل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(1)، لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وأشكل عليه: بامكان التمسك بالإطلاق حتی علی القول بالصحيح بأحد طريقين، فتنتفي الثمرة:

الطريق الأول: التمسك بدلالة الاقتضاء لأن الشارع أمضی البيع العرفي، فعدم بيانه في مورد الشك كاف في التمسك بالإطلاق.

حيث إن الممضی هو العقد المؤثر، ولا طريق لنا لتعيين مصداق موضوع

ص: 178


1- سورة البقرة، الآية: 275.

الإمضاء، وذلك يقتضي الاعتماد علی العرف في تشخيص المصداق، وأن ما هو موثر عرفاً يکون مؤثراً شرعاً، ولولا ذلك كان دليل الامضاء لغواً لعدم المعرفة بما أمضاه الشارع.

اللهم إلاّ إذا كان الشك في اعتبار شيء عرفاً لعدم العلم بكونه بيعاً أصلاً(1).

والحاصل: إن دليل الامضاء يتكفل أمرين(2):

1- إمضاء العقد، وهو ما يتكفله المدلول المطابقي للكلام.

2- أن ما هو مؤثر عند العرف يکون مؤثراً عند الشارع، وهو ما يتكفله الدليل الالتزامي الاقتضائي.

وفيه تأمل: وذلك لوجود القدر المتيقن من المعاملات الممضاة، وبذلك ترتفع لغوية الكلام.

الطريق الثاني: التمسك بالإطلاق المقامي، حيث إنه علی مبنی وضع اسم المعاملة للسبب، فإن البيع موضوع لما هو المؤثر واقعاً، ونظر العرف والشرع طريق إليه، فإذا كان المولی في مقام البيان، وحكم بنفوذ كل ما هو مؤثر واقعاً بلا تقييده بمصداق خاص، يکون هذا الإطلاق حجة علی أن المُمَلِّك في نظر العرف مملِّك في نظر الشرع.

وفيه تأمل: حيث إن إحراز الإطلاق المقامي يتوقف علی إحراز أن المولی قد تصدی لبيان تمام مقصوده بنفس دليل الإمضاء، ولا طريق لنا

ص: 179


1- الأصول 1: 105.
2- منتقی الأصول 1: 288.

لإحراز هذا التصدي، بل الظاهر أن تدريجيّة الأحكام تدل علی أن الشارع يبين مقصوده عبر خطابات متعددة، فلذا لابد من ملاحظة كل خطاباته لإحراز تمام مراده.

إن قلت: بعد الفحص وعدم العثور علی الردع نكتشف الإمضاء.

قلت: هذا دليل لبي، يتمسك فيه بالقدر المتيقن، وقد يکون مورداً للعلم الإجمالي أو الاستصحاب، فتأمل.

فتحصَّل أن الثمرة تامة، فعلی الأعم يمكن التمسك بالإطلاق وعلی الصحيح لا يمكن.

المقام الثاني: في الثمرة على القول بأن المعاملة اسم للمسبَّب

فمع الشك في إمضاء السبب هل يمكن التمسك بإطلاق الدليل لإثبات صحة المعاملة، أو لا يمكن، إذ دليل الإمضاء يتكفل إمضاء المسبب دون السبب؟

وبعبارة أخری: هل إمضاء المسبب يلازم إمضاء السبب أم لا؟

وقد ذكرت عدّة طرق لإثبات الملازمة:

الطريق الأول: لولا إمضاء السبب لكان امضاء المسبب لغواً.

وفيه: أنه لا ملازمة عرفية في ذلك، واللغوية إنّما تلزم إذا لم يجعل الشارع سبباً أو لم يُمض سبباً في الجملة، فلابد من الأخذ بالقدر المتيقن(1).

الطريق الثاني: ما مرّ من أن المعاملة ليست من قبيل السبب والمسبب بل من قبيل الآلة.

ص: 180


1- فوائد الأصول 1: 80.

وقد تقدم تفصيله مع الإشكال عليه.

الطريق الثالث: وحدة السبب والمسبب بالمسامحة العرفية، فلا اثنينية ولا تعدد في البين حتی يقال: بأن إمضاء المسبب أجنبي عن إمضاء السبب.

وأشكل عليه(1): بعدم العبرة بالمسامحة العرفية إلاّ في تشخيص المفاهيم دون التطبيقات، فتطبيق العرف المسبب علی السبب لا يُعتدُّ به.

ويرد عليه: بأنه قد يقال بأن المسامحة ليست في المصداق، بل في المفهوم، أي إن ألفاظ المعاملات وإن كانت موضوعة حقيقة للمسببات، لكن العرف يتوسع في المفهوم، فتأمل.

الطريق الرابع: إن المسبب منحلّ خارجاً بعدد الأسباب، فليس هناك مسبب خارجي واحد له أسباب عديدة كي يقال بعدم دلالة إمضائه علی إمضاء كافة أسبابه.

وأشكل عليه(2): بأنه لا يجدي تعدد المسبب في إمضاء السبب المشكوك، لعدم العلم بإمضاء المسبب الناشیء من السبب المشكوك، للشك فيه من جهة السبب، والمفروض إجمال الكلام من هذه الجهة، فلا إطلاق للكلام كي يتمسك به.

وبعبارة أخری: لا إطلاق لقوله تعالی: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(3) من جهة السبب، بل إطلاقه من جهة المسبب، فقد تمَّ امضاء كل تمليك عرفي من

ص: 181


1- نتائج الأفكار 1: 119.
2- منتقی الأصول 1: 293.
3- سورة البقرة، الآية: 275.

النقد والنسيئة والسلم والصرف... الخ، لكن لا نظر للدليل علی الأسباب أصلاً، فليس الدليل في مقام البيان من هذه الجهة.

فتحصل: أنه بناءً علی أن المعاملة اسم للمسبب لا فرق في جريان الإطلاق بين القول بالصحيح أم الأعم، إذ لو قلنا بالتلازم بين إمضاء المسبب والسبب أمكن التمسك بالإطلاق مطلقاً، وإلاّ فلا، فتأمل.

المبحث الثالث: في الجزء المستحب في العمل الواجب

وهذا بحث استطرادي مكمّل لبحث الصحيح والأعم.

فقد أشكل ثبوتاً علی الجزء المستحب: بأنه إن كان دخيلاً في الماهية بحيث تنتفي بانتفائه كان جزءاً واجباً لا مستحباً، وإن لم يكن دخيلاً في الماهية فليس بجزء أصلاً.

وبعبارة أخری: الواجب الذي له أجزاء ارتباطية، امتثال كل جزء منه يحصل حين امتثال مجموع الأجزاء، فعدم الإتيان بإحداها يؤدي إلی عدم امتثال المجموع، وحيث إن امتثال الأجزاء الواجبة لا يتوقف علی الإتيان بالجزء المستحب فلا يکون جزءاً للواجب أصلاً.

والجواب: أولاً: إن الاستحباب هو في التطبيق، أي تطبيق الطبيعة علی هذا الفرد، مثلاً للصلاة فردان: أحدهما بلا قنوت، والثاني مع القنوت، فيمکن للمكلَّف أن يُطبِّق الطبيعة المأمور بها علی أيٍّ منهما شاء، لكن يستحب التطبيق علی الفرد الواجد للقنوت، نظير ما قيل في العبادة المكروهة كالصلاة في الحمام، بأن الكراهة ليس في فعل الصلاة فإنها عبادة راجحة، وإنّما الحزازة في تطبيقها علی الصلاة في الحمام.

ص: 182

وفيه: أن هذا خلاف ظاهر الأدلة الدالة علی جزئية القنوت للصلاة، وكذا سائر الأجزاء المستحبة، ولا يُصار إليه إلاّ بعد العجز عن دفع الإشكال من أصله.

وثانياً: إن الجزء المستحب ليس بجزء حقيقة، بل هو مستحب مستقل لكن ظرفه في الواجب، كمن نذر التصدق حين الصلاة، وكطواف النساء بعد الحج والعمرة - علی ما قيل - .

ويرد عليه: ما ورد علی الجواب الأول بعينه.

وثالثاً: إن الجزء المستحب هو جزء للفرد لا للطبيعة، ولهذا الجواب تقريران:

التقرير الأول: ما ذكره المحقق العراقي(1): من أن الجزء المستحب عند وجوده يوجب مزية للفرد الواجد له علی الفاقد، وتكون جزءاً للفرد لا للطبيعة - لأنها من قبيل اللابشرط بالنسبة إليها فتتحقق الطبيعة معها وبدونها - غاية الأمر الفرد المشتمل عليها يصير من أكمل الأفراد وأفضلها.

وبمثل هذا يجاب عن إشکال دخول الشيء في الماهية حين وجوده وعدم دخوله حين عدمه، کالبيت ذي الغرف فالغرفة الثانية حين وجودها جزء مع عدم جزئيتها حين عدمها، فيقال: إنها جزء من الفرد لا من الطبيعة.

التقرير الثاني: ما في المنتقی(2): من أن هذه الخصوصية - كالقنوت في الصلاة - توجب تأكد المصلحة في الواجب، فهنا أمر وجوبي واحد مؤكد

ص: 183


1- نهاية الأفكار 1: 101.
2- منتقی الأصول 1: 298-301.

هو للطبيعة مع الخصوصية، فالقنوت جزء من الصلاة، ومصلحته مرتبطة بمصلحة الصلاة بحيث تزداد معه، وهذه المصلحة غير ملزمة لذا جاز ترك القنوت.

نعم لو كانت المصلحة ملزمة لوجب الاتيان بذلك الجزء كالجهر في الصلوات الجهرية، لكن مع الغفلة عن الجهر لا إعادة ولا قضاء، لأنه أدرك مصلحة الصلاة مع عدم إمكان تدارك المصلحة الزائدة، وهذا ما اكتشفناه من أدلة صحة الصلاة مع الغفلة عن الجهر.

وبعبارة أخری: ليس للقنوت - مثلاً - مصلحة مستقلة أصلاً، بل مصلحة ضمنية متعلقة بمصلحة الطبيعة، بحيث تتفاوت مصلحة الطبيعة بوجود القنوت وعدم وجوده، فلا يمكن تعلق الأمر الاستحبابي بالقنوت لعدم استقلاله بالمصلحة فلا أمر مستقل به لأن الأمر تابع لملاكه من المصلحة، كما لا يمكن تعلق الأمر الاستحبابي بالصلاة لاستلزامه لاجتماع الضدين لأن الصلاة تعلق بها الأمر الوجوبي، فحينئذٍ لابد من القول من تداخل الأمرين - الوجوبي والاستحبابي - فيحصل أمر وجوبي واحد مؤكد.

ويمكن أن يقال: إن الجزء المستحب قد يکون مستحباً نفسياً وله مصلحة بنفسه، مع دلالة الأدلة علی استحباب إتيانه أيضاً في ضمن واجب آخر، كالقنوت حيث إنه مستحب ولو في خارج الصلاة.

فالأولی الالتزام بالتقرير الأول.

إن قلت: الميزة أو زيادة المصلحة، قد تكون بسبب كون الشيء جزءاً للفرد، وقد تكون بسبب تقارنه مع ذلك الفرد، فكيف أثبتم الجزئية؟

ص: 184

قلت: ظاهر الأدلة الجزئية، ومع دفع الإشكال الثبوتي بما ذكر - من الميزة أو زيادة المصلحة- فلا وجه لرفع اليد عن الظاهر، ولذا فهم الفقهاء الجزئية قبل طرح هذا الإشكال الثبوتي.

ص: 185

فصل في الاشتراك اللفظي

لا إشكال في وقوع الاشتراك اللفظي في لغة العرب وغيرها من اللغات، فإنكاره إنكار للبديهي، والإشكال العقلي عليه شبهة مقابل البديهة، مضافاً إلی إمكان دفع الإشكالات، فهنا بحوث:

البحث الأول: دعوی امتناعه عقلاً، بأحد وجهين:

الوجه الأول: إن الوضع هو اختصاص لفظ بمعنی، وهو يقتضي المرآتية وفناء اللفظ في المعنی، ولا يعقل فناء لفظ واحد في معنيين.

وفيه: أولاً: المرآتية والفناء - علی القول بها - إنّما هي في مرحلة الاستعمال، أما في مرحلة الوضع فلا مرآتية ولا فناء، بل لابد من تصور اللفظ وتصور المعنی مستقلاً، فهذا الإشکال في حقيقته يرجع إلی إثبات امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنی لا في استحالة الاشتراك اللفظي.

وثانياً: إن المحذور هو في المرآتية الفعلية بحيث يکون للّفظ ظهور فعلي مطلقاً حتی مع وجود المزاحم، وليس هناك محذور في اقتضاء الظهور بحيث يصل إلی الفعلية لو لم يكن مانع، والقرينة تكون مانعاً عن أحد المعنيين فلا محذور.

الوجه الثاني: استحالة الاشتراک علی مبنی التعهد، إذ معناه أنه كلما جاء باللفظ فقد قصد معناه الموضوع له، ولازم هذا فعلية كلا التعهدين في مورد

ص: 186

ذكر المشترك، لأنه شرط في كلا التعهدين معاً.

وفيه: إمکان کون (المتعهَّد به) هو قصد أحد المعنيين علی نحو الإجمال. مضافاً إلی إمکان تقييد كل واحد من التعهدين بعدم قصد المعنی الآخر.

البحث الثاني: دعوی لغويته فيمتنع وقوعه.

واستدل له: بأنه لو لم ينصب القرينة لأخلّ بالتفهيم والتفهم، ومع نصبها يکون تطويلاً بلا طائل.

وفيه: أولاً: إن الغرض قد يتعلق بالإجمال.

وثانياً: لا تطويل بلا طائل مع الاتكال علی القرائن الحالية، أو أن القرينة لها غرض آخر غير القرينية کما لو قال: (عيني توجعني)، فإن هذا الفعل مقصود بذاته مع كونه قرينة أيضاً، كما أنه قد يکون غرض عقلائي في التطويل.

وثالثاً: إن منشأ الاشتراك - غالباً أو دائماً - هو تعدد الأقوام والقبائل وأماكن الناطقين بلغة واحدة، وحين اجتماعها أو جمع مفردات اللغة يحصل الاشتراك، ويقال بنظير ذلك في الترادف أيضاً.

البحث الثالث: دعوی وجوبه، واستدل له بعدم تناهي المعاني مع تناهي الألفاظ.

وفيه: عدم الحاجة إلی المعاني غير المتناهية إلاّ بالمقدار الذي يرتبط بحياة الناس، وهي متناهية.

وبعبارة أخری - كما قيل - : وضعت الألفاظ لما يتصوره الناس، والمعاني

ص: 187

التي يتصورونها محدودة وقد وضعت الألفاظ لها من غير حاجة إلی المزيد، نعم كلّما احتاجوا إلی معنی جديد لم يألفوه من قبل وضعوا له لفظاً جديداً، أو استعاروا اللفظ من سائر اللغات، ويؤيد ذلك كثرة المهملات في جميع اللغات مما يكشف عدم الحاجة إلی أوضاع كثيرة، هذا مضافاً إلی تناهي المعاني الکلية، وإلی عدم تناهي الألفاظ بترکيب بعضها مع بعض.

ص: 188

فصل في استعمال اللفظ في أكثر من معنى

اشارة

هل يجوز استعمال اللفظ في أكثر من معنی واحد علی نحو الاستقلال بنحو كان كل واحد من المعنيين أو المعاني كما إذا لم يستعمل اللفظ إلاّ فيه؟

والكلام في ضمن بحوث:

البحث الأول: في بيان الثمرة

وقد ذكر المحققون موارد يبتني فيها الكلام علی جواز أو امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنی...

منها: ما لو جاء أمر بشيئين، ثم دلّ دليل منفصل علی استحباب أحدهما، فهل يبقی الأمر علی وجوبه بالنسبة إلی الأول أم لا(1)، كالأمر بالأذان والإقامة مع قيام الدليل المنفصل علی استحباب الأذان.

ومنها: قوله: «كلّ شيء نظيف حتی تعلم أنه قذر»(2) فهل يمكن استفادة قاعدتي الطهارة والاستصحاب؟ وکذا قوله: «كل شيء هو لك حلال حتی تعلم أنه حرام بعينه»(3) فهل يستفاد منه الحلية والاستصحاب؟

ص: 189


1- منتقی الأصول 1: 305.
2- وسائل الشيعة 3: 467.
3- الكافي 5: 313.

إذ الحلية والطهارة تحتاج إلی النظر إلی أصل ثبوت المحمول، وأما الاستصحاب فيحتاج إلی أن يکون النظر إلی استمرار المحمول فارغاً عن أصل ثبوته.

ومنها: قوله تعالی: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَىٰهَا}(1)، فالموصول هل يراد منه فعل المكلف أم التكليف، فعلی الأول: المعنی (لا يكلّفها إلاّ فعلها)، فيکون الموصول مفعولاً به، فيدل علی اشتراط القدرة، وعلی الثاني: المعنی (لا يكلفها إلاّ تكليفاً) أي لا يراد منها إلاّ أداء التكاليف أما غيرها فلا يراد منها، فيکون الموصول كالمفعول المطلق.

وإنّما كانا معنيين لأن تعدد النسبة تقتضي تعدد النظر واللحاظ، فعلی جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنی يمكن استفادة المعنيين، وإلاّ فلا.

ومنها: استفادة قاعدتي الاستصحاب واليقين من قوله (علیه السلام) : «لا ينقض اليقين بالشك»(2).

ذكر هذه الثلاثة في نهاية الأفكار(3).

البحث الثاني: في تحرير محل النزاع

ينبغي بيان محل الكلام والنقض والإبرام، ليخرج البحث عن النزاع اللفظي أحياناً، فإن الصور المتصورة متعددة، وهي:

الصورة الأولی: أن يکون اللحاظ واحداً والملحوظ متعدداً، سواء كان

ص: 190


1- سورة الطلاق، الآية: 7.
2- الكافي 3: 352.
3- نهاية الأفکار 1: 107.

هذا الملحوظ مستقلاً غير مرتبط بشيء كلحاظ نقاط متعددة، أم كان الملحوظ غير مستقل كلحاظ رأس الخط وذيله، حيث إن الخط متشكل من مجموعة نقاط مترابطة.

ولا إشكال في إمكان هذه الصورة، فلابد من البحث عن وقوعها وجوازها لغة بعد ثبوت إمكانها.

إن قلت: اللحاظ هو التصور وإيجاد المعنی في الذهن، فلا معنی لتعدد المتصور مع كون اللحاظ واحداً.

قلت: (التصور) هو إيجاد الشيء في الذهن، و(اللحاظ) هو توجه النفس إلی شيء ملحوظ بعد تصوره وايجاده في الذهن، کذا في نهاية الأفکار(1).

الصورة الثانية: أن يکون الملحوظ (بشرط لا) عن لحاظ شيء آخر.

وفي هذه الصورة لا إشكال في عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنی، لأنه خلف، حيث اشترط في كل معنی عدم لحاظ المعنی الآخر.

الصورة الثالثة: أن يکون هناك لحاظان، فلكل معنی لحاظ مستقل، فهل يجوز استعمال لفظ واحد حينئذٍ؟

وهذا هو محل الكلام والنقض والإبرام في الإمكان وعدم الإمكان، ويرتبط إمكانه وعدمه علی المباني المذكورة في الوضع، من أنه جعل اللفظ مرآتاً للمعنی وفانياً فيه، أم أنه علامة، أم أنه التعهد.

فاتضح أن الامتناع أو الإمكان يرتبط بالمباني في الوضع والاستعمال.

أمّا علی مبنی كون الألفاظ علامة للمعنی - ومرجعه إلی كشف العلامة

ص: 191


1- نهاية الأفکار 1: 104.

عن ذي العلامة ككشف الدخان عن النار - فقد يقال بالامتناع وقد يقال بالجواز.

وأمّا علی مبنی أن الألفاظ فانية في المعاني - لكونها مرآة لها - فلابد من الامتناع كما سيأتي توضيحه بإذن الله تعالى.

البحث الثالث: في إمكانه وامتناعه

فقد استدل لعدم الإمكان بوجوه، بعضها مبنائية، منها:

الوجه الأول - بناءً على كون الألفاظ فانية في المعاني - : بأنه يمتنع إفناء شيء واحد في شيئين لاستلزامه التناقض إذ لو فنی في الأول لا يبقی شيء كي يفنی في الثاني.

إن قلت: قد وقع إفناء الواحد في المتعدد، وذلك في العام الاستغراقي حيث يحكم علی الأفراد بتوسط عنوان عام يکون كاشفاً عنها، ويکون لحاظه لحاظها، فكما يمكن أن يکون المفهوم الواحد فانياً في أفراده المتعددة كذلك يمكن أن يکون اللفظ الواحد فانياً في المعاني المتعددة(1).

قلت: معنی وحدة العام هو الطبيعة أو الجامع، لكنه ينطبق علی مصاديق، فلا نقصد بالمعنی الوجود الخارجي، بل ما يوجد في الذهن الذي هو المفهوم وهو بسيط لا تكثر فيه، لكنه بوجوده الخارجي مصاديق متعددة، فتأمل.

إن قلت: في الوضع العام والموضوع له الخاص، وضع اللفظ لكل واحد

ص: 192


1- نهاية الأفكار 1: 110؛ منتقی الأصول 1: 308.

من الأفراد بخصوصه بتوسط عنوان عام، فليكن كذلك باب الاستعمال فيستعمل اللفظ في كل واحد من المعاني بتوسط عنوان عام.

قلت: في باب الوضع لا توجد مرآتية ولا فناء، بل هما في مرحلة الاستعمال كما أشرنا إليه في بحث الاشتراك.

أقول: قد مرّ في بحث الوضع الإشكال في المبنى، وأن الوضع هو جعل العلاميّة مما لا يستلزم الإفناء، مضافاً إلى أن الإفناء الممتنع إنّما هو في الأمور التكوينية لا الاعتبارية.

الوجه الثاني: استعمال اللفظ في أكثر من معنی يستلزم اجتماع لحاظين في وقت واحد، وذلك للحاظ المعنی الأول والثاني معاً، وذلك مستحيل.

وفيه: عدم استحالته إذا كان متعلق اللحاظين متعدداً، فإن النفس يمكنها التوجه إلی عدة أشياء في وقت واحد، مثل اجتماع الحب والبغض مع اختلاف المتعلق، فيحب ولده ويبغض عدوه معاً، ومثل لحاظ الموضوع والمحمول حين الحكم، فمثل (زيد عالم) المتكلم يتصورهما ويلحظهما معاً في وقت واحد وإلاّ لما صحّ الحكم.

الوجه الثالث: استلزامه صدور الكثير عن الواحد وهو ممتنع، حيث إن المعاني المتعددة تصدر من لفظ واحد.

ويرد عليه: أولاً: بأنه ليس اللفظ علة لوجود المعنی، وإلاّ لزم إيجاد المعنی حتی لغير العارف باللغة، وقد مرّ تفصيله.

وثانياً: بأنّ اللفظ مركب وله جهات متعددة، وحينئذٍ لا يکون من صدور الكثير من الواحد بل صدور الكثير من الكثير، كالنار التي هي علة للإحراق

ص: 193

والحرارة والضوء والدخان... الخ.

وثالثاً: بأنّ ذلك في الأمور الحقيقية - لأن دليلهم عليه هو لزوم السنخية وإلاّ لصدر كل شيء من كل شيء - فلا تجري القاعدة في الأمور الاعتبارية، وما نحن فيه من الاعتباريات.

هذا مضافاً إلى الإشكال في قاعدة الواحد من أصلها، كما مرّت الإشارة إليه.

الوجه الرابع: إن معنی جعل اللفظ علامة للمعنی هو أن اللفظ سبب لانتقال المعنی إلی الذهن، فيکون اللفظ إيجاداً والمعنی وجوداً، ولا يخفی اتحاد الإيجاد والوجود، وإنّما تغايرهما بالاعتبار حيث إن الإيجاد هو باعتبار نسبته إلی العلة، والوجود باعتبار نفسه.

وحينئذٍ لا يمكن تعدد المعنی للّفظ الواحد، لاستلزامه وحدة الإيجاد مع تعدد الوجود.

وفيه(1): أن متعلق الوجود والإيجاد هنا مختلف، فإيجاد اللفظ ووجوده متحد فهو واحد، كما أن إيجاد المعنی ووجوده متعدد، واستحالة الاختلاف إنّما هو مع وحدة المتعلق كايجاد زيد ووجوده، أما مع تعدد المتعلق فلا إشكال، فالمستشكل فرض أن الإيجاد تعلق باللفظ والوجود تعلق بالمعنی، لكن الصحيح هو اختلاف المتعلق، وحينئذٍ لا بأس بالتعدد، أي إن إيجاد اللفظ ووجوده واحد، وايجاد المعنی ووجوده متعدد. وذلك لأن إيجاد اللفظ في الخارج فيکون وجوده كذلك لاتحادهما، وايجاد

ص: 194


1- نهاية الدراية 1: 150-151.

المعنی في الذهن فيکون وجوده كذلك، ولا يعقل اتحاد الخارج مع الذهن.

البحث الرابع: في وقوعه

بعد إثبات إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنی يأتي البحث عن وقوعه، فهل هو واقع أم لا؟

ذهب صاحب المعالم إلی المنع، وإستدل له بأنه إخلال بقيد الوحدة المأخوذ في الوضع.

والجواب: أن قيد الوحدة هل هو جزء من الموضوع له، أو أنه دخيل في الغرض من غير أن يکون جزءاً للموضوع له؟

أما الأول: أي كونه جزءاً من الموضوع له، فيرد عليه:

أولاً: إن الموضوع له هو ذات المعنی بلا لحاظ قيد الوحدة أصلاً، ويدل عليه الوجدان ومراجعة حال الوضع، ولذا التزم المحقق القمي(1) بأن الوضع للمعنی في حال الوحدة لا بقيدها - أي هي قضية حينيّة لا وصفية - .

وثانياً: لو فرض أن المعنی هو بقيد الوحدة، فلا مانع لاستعمال اللفظ في أكثر من معنی مجازاً، إذ هو من استعمال اللفظ في جزء المعنی.

إن قلت: هذا ليس استعمالاً للّفظ في جزء المعنی - بعد إلغاء قيد الوحدة - بل: إمّا استعمال في المباين إذ الشيء بقيد الوحدة يباين الشيء بقيد الانضمام لتباين الشيء (بشرط لا) عن الشيء (بشرط شيء)، وإمّا من استعمال الشيء

ص: 195


1- قوانين الأصول 1: 141.

في جزء المعنی منضماً إلی جزء معنی شيء آخر، وهذان ليسا من العلائق المصححة للمجاز.

قلت: إن صحة المجاز إنّما هو بقبول الذوق العرفي له، والعلائق المصححة للمجاز إنّما هي قواعد غالبية، فقد لاحظ علماء الأدب المجازات فاكتشفوا لها علائق خاصة، وإلاّ فليس صحة المجاز وعدم صحته تدور مدار هذه العلائق.

وثالثاً: ما ذكره المحقق العراقي(1) وهو: ما المراد من (الوحدة) المدعی أخذها في المعنی الموضوع له؟ فيها ثلاثة احتمالات:

1- الوحدة الذاتية، المساوقة لشيئية الشيء في مقابل كون الشيء اثنين.

وهذه الوحدة محفوظة في موارد استعمال اللفظ في أكثر من معنی، حتی لو كان ألف، فيقال ألف واحد.

2- لحاظ المعنی مستقلاً، لا في ضمن معنی آخر يتركب معه، بمعنی كون المعنی منفرداً في الوجود غير مركب مع آخر.

ومن الواضح أن هذا اللحاظ محفوظ في المقام.

3- نفي ثبوت لحاظ للمعنی الآخر في مقام الاستعمال، أي وحدة المعنی وانفراده عن المشارک، بمعنی أن الواضع حين الوضع يضع اللفظ للمعنی الذي لا مشارک له حال الاستعمال.

ويرد علی هذا الاحتمال من أن الوحدة اللحاظية في مقام الاستعمال من مقومات الاستعمال، فلا يعقل أخذها في المعنی المستعمل فيه، وهو سابق

ص: 196


1- نهاية الأفكار 1: 111؛ راجع بحوث في علم الأصول 1: 154.

رتبة علی الاستعمال، فلا يُوخذ في المستعمل فيه.

وأما الثاني: أي كون قيد الوحدة دخيلاً في الغرض...

فقد قيل: إن ضيق الغرض لا يوجب ضيق العلقة الوضعية، حتی لو سلم ذلك في باب العبادات حيث إن القربة دخيلة في الغرض مع عدم امكان أخذها شرطاً، وهذا الدخل في الغرض يوجب عدم إطلاق متعلق الأمر.

وذلك لأن إيجاد الملازمة أمر خارجي واقعي مترتب علی الوضع - كما مرّ سابقاً - ، فإذا أوجدت هذه العلقة ثبتت فيما تعلق به غرض الواضع وفيما لا يتعلق.

والحاصل: إنه لا محذور في استعمال اللفظ في أكثر من معنی.

نعم هو خلاف الظاهر في الألفاظ، ولذا لا يتمسك العقلاء بأصالة الحقيقة لإثبات استعمال المشترك في كلا معنييه، بل يصبح اللفظ مجملاً.

ثم إنه لو قيل بالامتناع العقلی فلا معني للبحث عن الظهور على تقدير الجواز، فإن ذلك رجم للغيب حيث إن الظهور لا يبتني علی الفرضيات بل علی الألفاظ المستعملة خارجاً(1).

البحث الخامس: في التثنية والجمع

اعتبر صاحب المعالم(2) استعمال اللفظ في أكثر من معنی بسبب قيد الوحدة في المفرد مجاز، وفي التثنية والجمع حقيقة، وذلك لأن علامة التثنية والجمع تدل علی إرادة المعنيين من المدخول، فلا محذور.

ص: 197


1- منتقی الأصول 1: 315.
2- معالم الدين: 39.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: ما ذكره صاحب الكفاية(1)، وحاصله: أنه من الصحيح أنهما بمنزلة تكرار اللفظ، إلاّ أن الظاهر أن المراد من كل لفظ فرد من أفراد معناه، فيراد من المثنی - مثلاً - فردان من طبيعة واحدة لا معنيان.

إن قلت: وماذا عن تثنية الأعلام، حيث يراد من المثنی معنيان، حيث إن الموضوع له في كل واحد منهما مباين للآخر، فليس هناك طبيعة كي تقبل الأفراد.

قلت: أولاً: نلتزم التأويل بأن يراد من المثنی في الأعلام: المسمی، مثلاً (زيدان) يراد به فردان من المسمّی بزيد، و(المسمّی) جامع عنواني وله أفراد فيکون كالطبيعة.

ولا يرد إشكال تنكير لفظ العَلَم حينئذٍ، لأنا قد التزمنا بالتأويل، فلا ضير في ذلك.

وثانياً: إن إرادة فردين من معنيين في المثنی ليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنی، لأن المثنی في قوة تكرار لفظ المفرد، وهذا فيما لو لم نلتزم بالتأويل وقلنا: إن الموضوع له في المثنی أعم من فردين لمعنی واحد أم فردين من معنيين.

نعم لو أريد من أحد المعنيين فردان منه، ومن المعنی الآخر فردان منه أيضاً، كان استعمالاً للّفظ في أكثر من معنی، وهذا مع وضوح بطلانه إذ يستلزم أن يكون المراد من المثنی أربعة أفراد، يوجب خللاً في قيد الوحدة

ص: 198


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 152.

الذي لم يجوّزه صاحب العالم.

إن قلت: وماذا عن تثنية اسم الإشارة مثل (هذان)، حيث لا يمكن التأويل بالمسمی.

قلت: يکفي الجواب الثاني، مضافاً إلی أن صاحب الكفاية التزم في أسماء الإشارة بأن الوضع عام والموضوع له عام أيضاً، فيکون المعنی كلياً.

الإشكال الثاني: إن للتثنية والجمع وضعين، علی نحو تعدد الدال والمدلول، فالمادة موضوعة للطبيعة المهملة - أي اللابشرط المقسمي - ، والهيأة موضوعة لإرادة المتعدد من مدخولها.

فإذا دلت المادة علی معنی - كالعين الجارية - فلا يعقل أن يراد من المثنی والجمع أكثر من طبيعة واحدة، لأن مدخول الهيأة طبيعة واحدة، والهيأة لا تدل إلاّ علی التعدد، فلابد أن يراد فردين من طبيعة واحدة.

إن قلت: قد تكون المادة تدل علی المتعدد فحين التثنية والجمع لابد من التكرار في ذلك المتعدد، مثلاً (العشرة) معناها متعدد وتثنيتها (عشرتان) يدل علی تكرار هذا المتعدد.

قلت: إن معنی (العشرة) واحد لا متعدد، لأن كل فرد صار جزءاً للمعنی علی نحو الانضمام، وبعبارة أخری: مفهوم العشرة بسيط، وإن كان الوجودات الخارجية متعددة.

البحث السادس: في بطون القرآن الكريم

قد قيل: إن ذلك من موارد وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنی، وهو أدلّ دليل علی الإمكان.

ص: 199

وأجيب بوجوه:

أحدها: لصاحب الكفاية(1): بإرادة هذه المعاني بنفسها حال الاستعمال في المعنی الواحد فقط، لا أنها مرادة من اللفظ.

وفيه: أنه علی هذا لا تكون هذه المعاني بطوناً للقرآن، بل تكون أجنبية عنه.

اللهم إلاّ أن يقال بالاضطرار إلی هذا التأويل الذي هو خلاف الظاهر لوجود المحذور العقلي في استعمال اللفظ في أكثر من معنی!

أما الإشكال عليه: بأن إرادة المعاني مستقلة، سبب عدم عظمة القرآن، لإمكان ذلك في غير القرآن، بل حتی في الألفاظ المهملة، حيث يمكن أن ترد معاني كثيرة إلی الذهن حال التلفظ بها من باب القضية الاتفاقية!!

فغير وارد: لأن عظمة القرآن في ألفاظه ومعانيه، وعدم كون البطون من معانيه لا يضّر بتلك العظمة، بل القرآن يتكوّن من الحروف والكلمات والجمل العربية وقد استعمل نفس طريقة العرب، لكنهم يعجزون علی الإتيان بمثله في ألفاظه ومعانيه، بل وفي مقارناته.

ثانيها: له أيضاً: من أن البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ، وإن كانت تلك اللوازم خفية بحيث لا تصل إليها أذهاننا.

وأما الإشكال بأن خفاء اللوازم عن أذهان الناس لا يوجب عظمة!

ففيه: أن عدم فهم الأكثر لا ينافي العظمة، إذ هناك من يعرف تلك

ص: 200


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 155.

المعاني، ثم يبين بعضها للناس، وهم الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) ، كما أن الكتب العلمية الغامضة لا يفهمها أكثر الناس وهذا لا يقلّل من قيمتها، مع وجود مزية للقرآن بأن ظاهره أنيق يفهمه من يعرف اللغة وباطنه عميق لا يعرفه إلاّ من خوطب به.

ثالثها: للمحقق العراقي(1): بأن يراد من البطون المصاديق المتعددة لمعنی واحد كلي، التي تتفاوت في الظهور والخفاء، فما ظهر سُمّي ظهراً، وما خفي سُمّي بالبطن.

لكن لا يمكن هذا في بعض الموارد التي ورد فيها أحاديث في بيان البطون، فإنه بينها تباين أحياناً.

رابعها: إن جميع تلك المعاني مرادة من اللفظ لكن لا من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنی، بل كلّها ملاحظة بلحاظ واحد لكنها مستقلة في نفسها كما مرّ في ملاحظة خمسة نقاط بلحاظ واحد، فحينئذٍ يقال: إن الناس يلتفتون إلی إحدی تلك المعاني، وهي المعبر عنها بالظاهر، لكنهم لقصورهم لا يتمكنون من الالتفات إلی سائرها إلاّ ببيان من المعصومين (علیهم السلام) .

خامسها: إن بعض أوجه الاستحالة إنّما هي بالنسبة إلی البشر، كاجتماع اللحاظين، ولا تجري في الخالق - عزوجل - فإنه لا يعقل فيه اللحاظ، بل هو سبحانه عالم ولاحدّ لعلمه، فلا يرد المحذور حينئذٍ.

سادسها: الالتزام بتعدد النزول والإيجاد حسب تعدد المعنی، وهذا

ص: 201


1- نهاية الأفكار 1: 118.

الاحتمال لا يمكن إثباته لكنه ثبوتاً كافٍ لدفع الإشكال، والله العالم بحقائق كتابه.

البحث السابع: في قصد المعاني في الصلاة

قد يقال: كيف نقصد معاني الآيات التي نقرؤها في الصلاة، مع أن ذلك من استعمال اللفظ في أكثر من معنی؟ لأن التكليف هو القراءة، وهي استعمال اللفظ في اللفظ حكاية، فإذا قصد بالآية المعنی الذي استعملت فيه لم تتحقق القراءة لاستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنی.

والجواب: بالإشكال مبنیً وبناءً:

فأولاً: لا إشكال في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنی، بما ذكرناه في البحث الثالث والرابع.

وثانياً: بالإشکال علی تفسير (القراءة) بما ذكر، فإن القراءة ليست الحكاية عن الألفاظ بالألفاظ، بل هي ذكر ما يماثل كلام الغير من حيث إنه يماثله، وهذا في قبال ذكره من تلقاء نفسه من باب توارد الخواطر فإنه ليس بقراءة.

وهذا المعنی غير مشروط بعدم إنشاء المعنی به، نظير من يمدح محبوبه بقصيدة بعض الشعراء، فقد قرأ قصيدة ذلك الشاعر ومدح محبوبه ولم يستعمل اللفظ في أكثر من معنی(1).

وثالثاً: بأن قصد معنی الآية ليس باللفظ، وإنّما هذا القصد يکون مقارناً

ص: 202


1- نهاية الدراية 1: 162.

للقراءة من باب القضية الاتفاقية، ففي (إهدنا الصراط المستقيم) مثلاً نطلب الهداية مقارناً لقرائتها، لا أنها تطلب بها(1).

ولا يخفی أن هذا تسليم للإشكال، فضلاً عن عدم صحته في نفسه.

ورابعاً: بأن قصد المعنی من اللفظ لا يکون في عرض القراءة بل في طولها، فيقصد باللفظ الحاكي معناه وهو اللفظ المحكي عنه، ويقصد باللفظ المحكي عنه معناه وهو طلب الهداية مثلاً.

إن قلت: يستلزم ذلك اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في المحكي عنه، فاللفظ المحكي بما أنه محكي ومستعمل فيه يکون ملحوظاً بالاستقلال، وبما أنه حاك عن المعنی وفانٍ فيه يکون ملحوظاً آلةً(2).

قلت: قد مرّ إمكان اجتماع هذين اللحاظين كالخطيب الذي يقصد المعنی من اللفظ مع انتقائه الألفاظ.

إن قلت: إن الاستعمال كذلك غير معقول، إذ الاستعمال هو الإعلام، أو إيجاد المعنی باللفظ، أو إفناء اللفظ في المعنی - حسب المباني - وكل هذا لا يوصف به ما لا وجود له خارجاً، بل وجوده جعلي وتنزيلي. والفرض هو إنشاء المعنی باللفظ، فاللفظ مما ينشأ به ويتوسل به إلی ثبوت المعنی وهذا مع عدم تحقق ما ينشأ به ويتوسل به غير معقول(3).

قلت: اللفظ المحكي عنه وإن لم يكن له وجود إلاّ في الذهن - باعتباره

ص: 203


1- نهاية الدراية 1: 163.
2- منتقی الأصول 1: 320.
3- نهاية الدراية 1: 162.

معنى اللفظ الحاكي - ، إلاّ أن الوجود الذهني مرتبة من مراتب الوجود، فيصح أن يتصف بالعَلاميّة، أو يكون موجداً لمعنى آخر يكون في طوله، أو يفنى في معناه الذي يقع في طوله، فلا محذور في ذلك، فتأمل.

ص: 204

فصل في المشتق

اشارة

هل المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال، أو في الأعم منه ومن المنقضي منه؟

ولابد من بيان أمور.

الأمر الأول: في أصولية المسألة

لا يخفی أن الأكثر عَدّوا المسألة من مقدمات علم الأصول، وذلك لعدم انطباق ملاك علم الأصول عليها، فهي بحث في تمييز المعنی الحقيقي عن المجازي في بعض المفردات اللغوية - وهي هيأة المشتقات - ، ولكن لما كانت مصاديق المسألة كثيرة، حيث لا تخلو الأدلة في كل الأبواب الفقهية من ألفاظ المشتق لذلك كان للبحث أهمية.

وقد يقال بأصولية المسألة، لانطباق ملاك علم الأصول عليها، وحينئذٍ يكون البحث مبنوياً ويرتبط بتعيين ملاك أصولية المسألة، وقد مرّ تفصيلها.

الأمر الثاني: في المتلبس في الاستقبال

نسب إليهم إتفاقهم علی كون المشتق مجازاً فيما يتلبس به في الاستقبال(1).

ص: 205


1- الأصول 1: 117.

وفي الفوائد(1): والسر في المجازية في الاستقبال، والاختلاف فيما انقضی، أن المشتق هو العنوان المتولد من قيام العرض بموضوعه - من غير أن يکون الزمان مأخوذاً في حقيقته - وحينئذٍ فقد وقع الاختلاف بالنسبة إلی ما انقضی عنه المبدأ، حيث إنه قد تولّد عنوان المشتق، إذ قام العرض بمحلّه في الزمان الماضي، وهذا بخلاف ما يتلبس بعدُ، فإنه لم يتولد عنوان المشتق لعدم قيام العرض بمحلّه.

والحاصل: إنه فيما يتلبس في المستقبل لم يقم العرض بمحلّه، فكيف يمكن أن يتوهم صدق العنوان علی وجه الحقيقة مع أنه لم يتحقق العنوان بعدُ؟!

لكن يمكن أن يقال: إن الحقيقة والمجاز يرتبطان بظهور اللفظ في المعنی بغير قرينة أو معها، والظهور يرتبط بالمحاورات والفهم العرفي وليس بهذه الدقة العقلية.

اللهم إلاّ أن يقال: إن تطابق اللغات علی شيء يكشف عن سبب الوضع والظهور.

الأمر الثالث: في محلّ البحث

إن مرجع البحث إلی مرحلة الوضع، وتشخيص ما هو (الموضوع له) في المشتق، أي في مدلول الكلمة، وليس البحث في مرحلة الحمل.

وبعبارة أخری(2): هنا ثلاث نسب طولية:

ص: 206


1- فوائد الأصول 1: 82.
2- نهاية الأفكار 1: 118.

الأولى: نسبة تلبس الذات بالمبدأ واتصافها به، مع قطع النظر عن مقام جريه وتطبيقه علی المصداق الخارجي، حتی لو لم يكن لها مصداق خارجي أصلاً، مثلاً نفس مفهوم (الضارب) بما هو هل ذات لها النسبة إلی المبدأ، أو مبدأ له نسبة إلی الذات.

الثانية: نسبة انطباق ذلك المتلبس والمتصف بالمبدأ علی المصداق الخارجي، مثلاً (زيد) في (زيد ضارب)، وهذه النسبة متأخرة عن تلك.

الثالثة: النسبة الحكمية، مثل قولك (أكرم زيداً الضارب)، فقد نسبت الإكرام إلی زيد المنطبق عليه الذات المتلبسة بالمبدأ.

والكلام إنّما هو في النسبة الأولی، فهل مدلول الكلمة الذات المتلبسة بالمبدأ علی نحو الإطلاق - من دون إضافة قيد (أمس) أو (كان)... الخ - بنحو يلازم عدم صحة جريه وتطبيقه إلاّ علی المتلبس بالمبدأ في الحال، أم أن المدلول عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها مما مضی، الملازم خارجاً لصحة انطباقها علی المتلبس بالمبدأ ولو بقطعة منها مما مضی؟

فتبين أن صحة إطلاق المشتق وجريه علی الذات المنقضي عنها المبدأ في الحال وعدم صحته إنما هي من لوازم النزاع في مدلول الكلمة وتبعاته، لا أنه مورد البحث والنزاع.

ولعله إلی هذا يرجع ما حُكي عن صاحب المحجة(1) حيث قال:

أ) إن عدم صحة الإطلاق علی المنقضي مبنيّ علی كون الحمل

ص: 207


1- نقله في نهاية الدراية 1: 164.

(هوهو)، كالجوامد، فكما لايصح إطلاق لفظ الماء علی الهواء باعتبار زوال الصورة المائية، كذلك هيهنا، حيث إن المشتق - علی هذا المبنی - عنوان انتزاعي فصدقه يتوقف علی بقاء منشأ انتزاعه.

ب) وأن صحة الإطلاق إنّما هي بناءً علی أنه حمل (ذو هو) لا (هو هو)، فيفرق عن الجوامد.

وهذا الكلام وإن كان بظاهره خلاف المصطلح في حمل (هو هو) و(ذو هو) ولذا أشكل عليه المحقق الإصفهاني(1) بأنه خلط بين حمل مبدأ الاشتقاق فهو (حمل ذو هو) وبين حمل نفس المشتق فهو (هو هو)، بلا فرق بين المتلبس والمنقضي عنه.

إلا أن الظاهر أن مراده هو نفس ما ذكره المحقق العراقي في النسبة الأولی والثانية، فتأمل.

الأمر الرابع: في معنى المشتق

اشارة

ويراد بالمشتق في الأصول: كل وصف يجري علی الذات بملاحظة اتصافها بمبدءٍ ما، سواء كان مشتقاً صرفياً وهو ما كان لمادته وضع ولهيأته وضع آخر، أم كان جامداً صرفياً وهو ما كان له وضع واحد بمادته وهيأته.

وبذلك يتبين أن بين المشتق الصرفي والمشتق الأصولي عموماً من وجه.

1- فقد يکون أصولياً لا صرفياً، في الجوامد التي تجري علی الذات وتنقضي عنه، كالعبد والزوج.

2- وقد يكون العكس كما في المصادر والأفعال واسم الزمان.

ص: 208


1- نهاية الدراية 1: 164-165.

3- وقد يجتمعان في مثل (الناصر) و(المقتول) ونحوهما.

1- المشتق الأصولي غير الصرفي

وجريان البحث فيه لوجود الملاك الذي بقاء الذات مع تبدل الوصف.

وقد ذكر الفقهاء مسألة إرضاع الزوجتين الكبيرتين للزوجة الصغيرة، وهذه المسألة لها شقوق وصور مختلفة، تختلف الأحكام فيها، والشاهد في بعض الصور:

فلو أرضعت الكبيرةُ الأولی المدخول بها الصغيرةَ، حرمتا معاً، لصيرورة الكبيرة أماً للزوجة، وصيرورة الصغيرة بنتاً للزوجة المدخول بها، ثم بعد ذلك لو أرضعتها الكبيرة الثانية فهل تحرم الثانية أم لا؟ فقد بنی بعضهم المسألة علی بحث المشتق، إذ لو كان حقيقة فيمن انقضی أيضاً فهذه الصغيرة زوجة فصارت الثانية أماً للزوجة، ولو قلنا بأنه حقيقة في خصوص المتلبس فلا تصير الثانية أماً للزوجة لعدم كون الصغيرة زوجة حين إرضاعها لها.

إن قلت: كيف تحرم الكبيرة الأولی مع الصغيرة بناءً علی كونه حقيقة في خصوص المتلبس؟ فإن الرضعة الأخيرة كما كانت موجبة لاتصاف المرضعة بالأمومة، كذلك موجبة لخروج الصغيرة عن الزوجية، فكلاهما معلولين للإرضاع من دون تقدم أحدهما علی الآخر، فلا يصدق (أم الزوجة) و(بنت الزوجة).

وبعبارة أخری إن هنا ثلاث صور في كلها المحذور:

1- عدم حرمتهما معاً، وهذا خلاف المقطوع به، لاجتماع الزواج بأم الزوجة وببنت الزوجة.

ص: 209

2- حرمة إحداهما دون الأخری، وهذا ترجيح بلا مرجح.

3- حرمتهما معاً، وهذا تحريم من غير تحقق سببه، فلا هذه صارت اُماً للزوجة ولا تلك بنتاً للزوجة.

قلت: قد أجيب عن ذلك بأحد الوجوه التالية:

أولاً: إن تحريمهما تعبّد، قد دلت عليه الروايات، منها ما عن أبي جعفر (علیه السلام) : قيل له إن رجلاً تزوّج بجارية صغيرة، فأرضعتها امرأته، ثم أرضعتها امرأة له أخری، فقال ابن شبرمة حرمت عليه الجارية وأمرأتاه؟ فقال أبو جعفر (علیه السلام) : أخطأ ابن شبرمة، تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولاً، فأما الأخيرة فلم تحرم عليه، كأنها ارضعت ابنته(1).

وفيه: أن الخبر - مع قطع النظر عن إرساله - يدل علی أن سبب التحريم ليس التعبّد الصِرف، بل هو صدق عنوان (أم الزوجة) و(بنت الزوجة)، فلّما لم يصدق عنوان محرِّم علی المرضعة الثانية لم تحرم، كما أن الخبر يدل علی أن المشتق ليس بحقيقة علی من انقضی عنه المبدأ.

وثانياً: العرف يری اتحاد ظرف الأمومة مع ظرف الزوجية، بلحاظ شدة اتصال الزمانين أحدهما بالآخر، وإن كان بالدقة لا يجتمعان لتضادهما شرعاً.

وثالثاً(2): إن الأمومة وإن كانت في رتبة متأخرة عن علتها التي هي الرضعة الأخيرة، لكنها متقارنة معها زماناً، كما هو شأن كل معلول مع علته،

ص: 210


1- الكافي 5: 446.
2- نهاية الأفكار 1: 131.

وحينئذٍ فإذا كان ظرف الأمومة متحد زماناً مع ظرف علتها، وكانت الزوجية أيضاً متحققة للصغيرة في ذلك الظرف فلا جرم يلزمه اتحاد ظرفي الأمومة والزوجية أيضاً.

وفيه: أن الرضعة الأخيرة كما هي علة للأمومة، كذلك الأمومة علّة لانفساخ الزوجية، فكان ظرف الأمومة متحد مع ظرف الانفساخ زماناً، ولا يعقل اجتماع الزوجية وانفساخها في زمان واحد، فتأمل.

2- المشتق الصرفي غير الأصولي
اشارة

ما قيل في خروجه عن المشتق الأصولي مع كونه مشتقاً صرفياً، موارد متعددة منها:

المورد الأول: ما لا يعقل انفكاكه عن الذات

مثل (الممكن) فإن الإمكان لا ينقضي عن الممكن أصلاً، لاستحالة تبدّله إلی الواجب أو الممتنع. ويلحق بهذا الجوامد المنتزعة عن نفس الذات، كالإنسان والحجر، فإن منشأ الانتزاع هو تحقق الأجناس والفصول، وبزوالها لا تبقی ذات كي يقع الكلام في صدق المشتق عليها أو كونه حقيقة فيها أم لا.

ويرد عليه: أن الكلام في الهيأة وليس في المادة، فمثل (الممكن) استحالة انقضاء المبدأ عن الذات مع بقائها يرتبط بالمادة، لا الهيأة، والكلام إنّما هو في وضع هيأة المشتق في خصوص المتلبس أو الأعم منه ومن المنقضي.

أما الجوامد المنتزعة عن الذات فليست مشتقاً صرفياً ولا أصولياً، فلا تكون مورداً للبحث أصلاً.

ص: 211

المورد الثاني: اسم الزمان

فقد يقال: إن اسم الزمان يتصرّم، فلا يتصور وجود ذات انقضی عنها التلبس كي يبحث في أن اسم الزمان حقيقة فيها أم لا، وبعبارة أخری: لا يوجد جامع بين حالتي الحدوث والبقاء في الزمان.

وأشكل عليه: أولاً: بما في الكفاية(1) من أن النزاع في مفهوم المشتق والموضوع له اللفظ، وهذا لا يرتبط بتحقق المصداق الخارجي وعدم تحققه.

فمفهوم (اسم الزمان) عام للمتلبس والمنقضي - بناءً علی وضعه للأعم - لكن مصداقه الخارجي واحد وهو خصوص المتلبس، نظير لفظ (الواجب) حيث إنه كلي مع انحصار مصداقه خارجاً في واحد.

وفيه: أن اسم الزمان علی ما ذکره خارج عن غرض البحث، فلا معنی لادخاله فيه.

ولا يخفى أن الإشکال ليس في مادته، بل في هيأة اسم الزمان نفسها، فلا يمكن الجواب بما أجبنا عنه في مثل لفظ (الممكن).

وثانياً: التفصيل بين وضع هيأة اسم الزمان والمكان بوضع واحد، فيجري النزاع لترتب الثمرة علی أحد الفردين - وهو المكان - ، وبين القول بوضعين، فلا يجري في الزمان لعدم ترتب الثمرة عليه.

وثالثاً(2): بأنه يمكن جريان البحث إذا لوحظ الزمان شيئاً واحداً مستمراً

ص: 212


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 166-167.
2- نهاية الأفكار 1: 129.

عرفاً، وإن كان في الحقيقة مركب من آنات مختلفة لكل واحد منها هوية خاصة، لكن العرف يراه شيئاً واحداً فيکون هناك وجود اعتباري واحد، وهذا هو المصحِّح لاستصحاب الزمان - مع تبدل الموضوع دقةً - ، مثلاً العرف يری (اليوم) و(الشهر) و(السنة)... شيئاً واحداً، لذا يصح وقوع مبدأ فيها ثم انقضائه مع بقائها، فما يحدث في أول اليوم ينقضي مع بقاء اليوم.

وأشکل عليه(1): بأن اتصال الهويات المتغايرة لا يُصحح بقاء تلك الهوية التي وقع فيها الحدث حقيقة، بل مجازاً من باب نسبة ما يوصف به الجزء إلی الكل.

وبعبارة أخری: إن اليوم - مثلاً - واحد اعتباري، لأنه مركب من الأجزاء المختلفة تُشكّل كلها معاً هذا الكل وهو اليوم، فنسبة ما وقع في أحد الأجزاء - كالآن الأول من اليوم - إلی اليوم يکون مجازاً، حتی لو قلنا بأن المشتق حقيقة في الأعم، وذلك لأن نسبة ما للجزء إلی الكل مجاز.

وأجيب(2) أولاً: بأن الاعتراض يتجه في الجزء والكل العرضيين لا التدريجيين، لأن الكل التدريجي يکون موجوداً بتمامه بوجود كل جزء من أجزائه، فالنهار موجود بشخصه لا بجزئه في جميع الآنات المتدرجة منه.

وفيه تأمل: لأن القول بوجود الكل بتمامه حال وجود أحد الأجزاء دون سائر الأجزاء تناقض، نعم الكلي يوجد بوجود فرده وهذا لا يرتبط بوجود الكل بوجود أحد أجزائه.

ص: 213


1- نهاية الدراية 1: 170.
2- بحوث في علم الأصول 1: 369.

وثانياً: بأن العرف يراه واحداً اعتبارياً، فما وقع في الجزء يراه واقعاً في الكل، والحقيقة والمجاز ترتبط بالعرف لا بالدقة، وهذا الكلام يجری في النسبة إلی المكان أيضاً، فيقال مثلاً كربلا مقتل الإمام الحسين (علیه السلام) وهذا تعبير حقيقي، مع أن القتل وقع في جزء منها، فتأمل.

المورد الثالث: المصدر واسم المصدر

أما المصدر فهو الحدث مع انتسابه إلی فاعلٍ ما، وأما اسم المصدر فهو الحدث من حيث هو هو مع قطع النظر عن انتسابه إلی الفاعل.

وسبب خروجهما عن البحث:

أولاً: لأنه لا توجد ذات كي يبحث عن انقضاء المبدأ عنها وأنه حقيقة حينئذٍ أم لا، فيکون من السالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارة أخری: ليست الذات من معنی المصدر ولا اسم المصدر، بل معنی اسم المصدر هو المبدأ فقط، ومعنی المصدر هو المبدأ مع النسبة فقط.

ثانياً: ولأن مدلولهما نفس المبدأ فلا يعقل البحث عن انقضاء المبدأ عن نفسه فإنه تناقض.

وثالثاً: عدم صحة الحمل - لا الذاتي ولا الشايع - لتغاير المبدأ والذات في الوجود والماهية، حيث لا يکون المصدر واسم المصدر جاريان علی الذات، فلا يصح مثل (زيد ضَرْبٌ) إلاّ بالتأويل والمجاز.

ولا يخفی أن هذه الثلاثة طولية.

ص: 214

ثم إنه في الكفاية(1) تخصيص هذا الاستثناء بالمصادر المزيدة، وذلك لأن المصدر المجرد ليس مشتقاً صرفياً ولا أصولياً لأنه منشأ الاشتقاق.

ويرجع البحث في المبنی بأن أصل الاشتقاق هل هو المصدر، أو الفعل الماضي، أو المادة المجردة عن الهيأة، وتفصيل ذلك خارج عن غرض الأصول.

المورد الرابع: الأفعال

فهي مشتق صرفي لا أصولي.

وذلك لأن الأفعال تدل علی النسبة التصديقية، وهي متغايرة مع الذات(2)، أي تدل علی نسبة المبدأ إلی الذات وقيامه بها، فلا يصح الحمل لتغاير الذات والنسبة، وعدم الاتحاد بوجهٍ ما، نعم يصح الإسناد فيقال (نَصَر زيد عمراً)، والإسناد غير الحمل.

وبعبارة أخری(3): فإن النسبة في الفعل لها جهة حركة من العدم إلی الوجود، فيحضر من سماع (ضَرَب زيد) - مثلاً - حركة الضرب حقيقة من العدم إلی الوجود بحقيقة الحركة الصدورية، فكأنّ الفعل يری الحدث المخصوص متحركاً من العدم إلی الوجود.

بخلاف (الضارب) فإن النسبة المأخوذة فيه نسبة الواجدية للمبدأ ولها جهة ثبات وقرار وبها يکون مفادها وجهاً وعنواناً للذات، فحيث إن مفاد

ص: 215


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 167.
2- منتقی الأصول 1: 334.
3- نهاية الدراية 1: 176.

الوصف أمر منتزع عن الذات متحد معها يکون بقاؤها موهماً لبقائه، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك فإنه لا موهم للبقاء.

المورد الخامس: ما لم يكن فعلاً

وقد توهم اختصاص البحث بما إذا كان المبدأ فعلياً كالقيام، دون ما كان ملكة أو حرفة أو اسم آلة، كالمجتهد والتاجر والمفتاح، فلا تكون مشتقاً أصولياً مع كونها مشتقات صرفيّة.

وذلك لصدقها حتی لو لم يزاولها فعلاً، فيصدق التاجر والمجتهد علی واجد ملكة الاجتهاد وحرفة التجارة حتی لو كان نائماً أو منشغلاً بضدها، وكذا المفتاح يصدق حتی لو لم يفتح به فعلاً.

وعليه: فتكون هذه الموارد حقيقة في الأعم من المتلبس والمنقضي، وأما سائر الموارد ففيها البحث والنزاع في أنها حقيقة لخصوص المتلبس أم الأعم.

وفيه نظر: أولاً: لأنه مع زوال الملكة أو تغيير الحرفة وكسر الآلة لا يصدق المجتهد والتاجر والمفتاح، وهذا يدل علی عدم وضعها للأعم.

وثانياً: لأن اختلاف المبادي لا يوجب اختصاص البحث بمبدأ دون آخر، بل في كلّها يجري البحث، لكن في موارد الحرفة والملكة واسم الآلة لابد من التحقيق عن سبب فرقها عن سائر المشتقات.

ومحتملات الفرق أربعة:

الاحتمال الأول: دلالة الهيأة علی الأعم من المتلبس والمنقضي في خصوص هذه الموارد، فيقال إن هيأة (فاعل) مثلاً في هذه الموارد وضعت

ص: 216

للأعم، وفي سائر الموارد وضعت لخصوص المتلبس، أو أنها وضعت للمتلبس فقط لكن في هذه الموارد استعملت مجازاً في الأعم.

وفيه: أنه لا يمكن الالتزام بهذا الاحتمال، لوضوح وضع واحد في الهيأت، وهو وضع نوعي يستعمل بمعنی واحد في جميع الموارد، كما لا معنی للالتزام بالمجازية في مثل التاجر والمجتهد فإن إطلاقها حقيقي.

الاحتمال الثاني: دلالة المادة علی معنی الملكة أو الحرفة ونحوهما، فمعنی التاجر من له حرفة التجارة وهكذا سائر الأمثلة.

وفيه: أن هذا أيضاً لا يمكن الالتزام به، لاستلزامه تعدد الوضع، في المادة أو المجاز، لأن سائر الاشتقاقات لا تدل علی الملكة والحرفة وأمثالهما، فمثلاً (اتّجر) يدل علی الفعلية لا الملكة، فإذا كان مادة (ت ج ر) تدل علی الحرفة لزم تعدد الوضع، أو المجاز في (اتجر)، وكلاهما لا يمكن الالتزام به.

الاحتمال الثالث: التصرف في (الجري)، بأن يقال إن صاحب الملكة ونحوها في حالة النوم مثلاً متلبس بالمبدأ توسعة عرفية، وذلك لأن العرف ينزل الفاقد منزلة الواجد.

وبتعبير آخر: إن تكرار مزاولة المبدأ باستمرار استلزم إلغاء العرف للفواصل الزمنية المتخللة بين فترات صدور المبدأ من الذات، فكأنّ الذات متلبسة بالمبدأ دائماً.

إن قلت: إن ذلك يستلزم المجازية وهو خلاف الوجدان.

قلت: بل وضع تعيّني جديد، والالتزام به أقل محذوراً من الالتزام بوضع

ص: 217

المشتق للأعم، وكذا من الاحتمال الأول والثاني.

إن قلت: لازم ذلك صحة استعمال وصف اشتقاقي آخر مكانها، كأن يقال: زيد متلبس بالصياغة أو الكتابة في حال نومه!

قلت: الوضع التعيني المدّعی إنّما هو في خصوص تلك الألفاظ مع بقاء سائر الاشتقاقات علی معناها الوضعي الأول، فليس المدّعی تحقق وضع جديد في المادة حتی يرد هذا التساؤل، بل إن مثل التاجر والمجتهد والمفتاح صار لها وضع تعيني جديد بخصوصها. فتأمل.

الاحتمال الرابع(1): القول بأن صحة الإطلاق من جهة أن في الذات اقتضاء وجود المبدأ وفعليته، الناشي ذلك الاقتضاء من جهة تكرر المبدأ منه في الخارج كالتاجر، أو جعل الجاعل كالقاضي، أو تحقق الملكة كالمجتهد أو غيرها، ففي الحقيقة لما كان قضيتها تحقق المبدأ في الخارج، أوجب اعتبار العقلاء وجود المقتضی - بالفتح - عند تحقق مقتضيه.

ويرد عليه: أن مثل (البقال) لا يوجد فيه أي مقتضي من الذات، وإن كان المراد قابليته لذلك فكل الناس لهم القابلية لهذا العمل حتی وإن لم يزاولوه أصلاً، نعم يصح الكلام في الملكة واسم الآلة فقط دون الكثير من الحرفات.

الأمر الخامس: في معنى الحال المأخوذ في العنوان

قد يقال: بأن هذا البحث عديم الجدوی، لأنا لم نأخذ (الحال) في

ص: 218


1- نهاية الأفكار 1: 133.

العنوان، بل نحرر البحث هكذا: هل مفهوم المشتق خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً أو الأعم منه وممّن انقضی عنه التلبّس(1).

ويرد عليه: أن كلمة (فعلاً) هي بنفس معنی (الحال)، فلابد من معرفة المراد منها ومنه.

والمحتملات ثلاثة:

الاحتمال الأول: حال النطق

ولا يمكن أن يراد هذا لوجوه:

منها: إنه مناف لحكمة الوضع، لأن المشتق يستعمل في الأزمنة الثلاثة، فلماذا يوضع لأحدها؟

ومنها: أنّا لا نری بالوجدان مجازية في مثل (سيجيء زيد بعد سنة وهو لابس المغفر) و(كان زيد ضارباً أمس) و(سيکون ضارباً غداً).

ومنها: عدم دلالة الاسم علی الزمان، فمعنی المشتق الذات والحدث فقط(2).

هذا مضافاً إلی أن القضايا الحقيقية مثل (العالم يجوز تقليده) لا إشكال في عدم إرادة خصوص المتلبس حال الكلام، مع عدم كونه مجازاً قطعاً.

الاحتمال الثاني: حال الجري والتطبيق

وهذا أيضاً لا يمكن أن يکون مراداً لوجوه منها:

أولاً: قد مرّ أن هذه المرحلة متأخرة عن مرحلة نفس المشتق، وكلامنا

ص: 219


1- منتقی الأصول 1: 340.
2- الأصول 1: 136.

إنّما هو في نفس مدلول الكلمة مع قطع النظر عن التطبيق في الخارج.

وثانياً: إن هذا يستلزم المجاز في الإسناد لا في الكلمة، مثلاً تطبيق (ضارب) علی زيد الذي ضرب أمس، بقولنا: (زيد ضارب)، مجاز في إسناد الكلمة إلی زيد، والبحث إنّما هو في نفس مدلول كلمة ضارب.

الاحتمال الثالث: حال التلبس

وليس المقصود زمان التلبس، بل المراد حال (نسبة اتصاف المبدأ بالذات)، لأن البحث في مدلول الكلمة مع قطع النظر عن الزمان الذي وقعت فيه، وعن انطباقها علی الخارج أو عدم انطباقها.

وبعبارة الفوائد(1): المراد بالحال هو حال التلبس بالمبدأ، أي حال تحقق المبدأ وفعليّة قيامه بالذات.

وبعبارة أخری: المراد بالحال هو وجود العنوان المتولد من قيام العرض بمحلّه، سواء كان مقارناً لزمان الحال كما إذا كان ضارباً حين قولي: (زيد ضارب)، أو كان سابقاً علی زمان الحال، أو لاحقاً له، كما إذا قلت: (كان زيد ضارباً) أو (سيکون زيد ضارباً).

نعم لا يخلو الزماني من الزمان لاستحالة خروجه عن الزمان، إلاّ أن ذلك ليس بمعنی كونه جزءاً من مدلول اللفظ.

إن قلت: اشترطوا في عمل اسم الفاعل كونه بمعنی الحال أو الاستقبال.

قلت: إن التطبيق والجري - وهو أمر لا يرتبط بمفهوم المشتق بنفسه - في الحال أو الاستقبال هو شرط العمل، فيکون من باب تعدد الدال والمدلول،

ص: 220


1- فوائد الأصول 1: 90.

ولذا اتفقوا علی مجازيته في الاستقبال مع إعمالهم له حينئذٍ.

إن قلت: المتبادر من لفظة (الحال) هو زمان النطق.

قلت: المفيد هو التبادر من نفس لفظ المشتق، أما ما جعله العلماء في العنوان فلا يفيد تبادر معنیً منه، وبتعبير آخر(1) ثبوت الانسباق لا يرتبط بعالم الموضوع له وتعيينه وأن المقصود في العنوان ما هو، بل ذاك أجنبي عنه.

الأمر السادس: في تعيين الأصل العملي

اشارة

لو لم تتم الأدلة التي ستذكر لتعيين أحد المعنيين - الوضع لخصوص المتلبس أو للأعم - فهل هناك أصل عملي في البين، سواء أصل عقلائي أم شرعي، في المسألة الأصولية أم الفرعية؟ فهنا مطلبان:

المطلب الأول: في المسألة الأصولية

أي في تعيين المراد من هيأة المشتق مع قطع النظر عن المصاديق الجزئية. وهنا أصلان:

الأصل الأول: أصالة عدم ملاحظة الخصوصية.

وفيه: أولاً: معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العمومية، إذ الوضع للأعم يستدعي لحاظ العموم، كما أن الوضع للأخص يستدعي ملاحظة الخصوص، للتباين المفهومي بين العام والخاص، وبعبارة أخری(2): لأن المفاهيم - في حد مفهوميتها - متباينات، فمع دوران الأمر بين الوضع

ص: 221


1- منتقی الأصول 1: 342.
2- نهاية الدراية 1: 194.

لمفهوم أو مفهوم آخر ليس أحدهما متيقناً بالنسبة إلی الآخر، فإن التيقن في مرحلة الصدق - لمكان العموم والخصوص - لا دخل له بمرحلة المفهوم الذي هو الموضوع له.

أي إن أصالة العموم ونفي القيد الزائد إنّما هي في المصداق الخارجي، للتيقن بالعام والشك في القيد الزائد، وليست في مرحلة المفهوم للتباين بين المفاهيم فلا يکون من قبيل القيد الزائد.

وثانياً: إن هذه الأصالة ليست حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي فلا تجري إلاّ بنحو الأصل المثبت، كما أنها ليست أصلاً عقلائياً، لأن الأصول العقلائية إنّما هي في تشخيص المراد بعد العلم بالوضع، ولا أصل عقلائي في تشخيص الأوضاع.

الأصل الثاني: ترجيح الاشتراك المعنوي الملازم للوضع للأعم، علی الحقيقة والمجاز الملازم للوضع للأخص، وذلك لغلبة الأول علی الثاني.

ويرد عليه: بناءً: بمنع الغلبة، بل قد يقال: إن أكثر لغة العرب مجازات. ومبنیً: بمنع الترجيح بالغلبة.

المطلب الثاني: في المسألة الفرعية

أي ثبوت الحكم للألفاظ المشتقة مع عدم تعيين الموضوع له فيها.

وقد تختلف الأصول حسب الموارد، ومن أمثلته:

1- لو انقضی عن زيد العلم، ثم قال المولی (أكرم العالم)، فلا نعلم وجوب إكرام زيد، ولا حالة سابقة، فالأصل البراءة.

2- ولو كان عالماً حين صدور الحكم ثم صار جاهلاً، فاستصحاب

ص: 222

الإكرام جار.

وأشكل عليه: بعدم جريان الاستصحاب لا في الموضوع وهو كونه عالماً، ولا في الحكم وهو وجوب الإكرام.

أما الأول: أي استصحاب الموضوع، فيقال: هل المستصحب هو ذات الموضوع، أو الموضوع بوصف كونه موضوعاً للحكم؟

أ) واستصحاب ذات الموضوع لا يثبت موضوعية الموجود إلاّ بنحو الأصل المثبت.

ب) والموضوعية متقومة بالموضوع، ومع الشك في بقاء المعروض لا يجری الاستصحاب، إذ يعتبر في الاستصحاب بقاء المعروض لتقوم صدق النقض والإبقاء ببقائه، فتكون الشبهة مصداقية، فلا يمكن التمسك فيها بعموم دليل الاستصحاب.

وفيه(1): أن هنا شقاً ثالثاً وهو استصحاب انطباق المفهوم علی الموجود الخارجي، وهذا هو الذي نقصد استصحابه، حيث إن المقصود هو عالمية هذا الشخص مثلاً.

وبعبارة أخری: نستصحب عالمّية هذا الشخص لليقين السابق والشك اللاحق بها، فالمعروض هذا الشخص وهو باقٍ فيصدق النقض والابرام.

وأما الثاني: أي استصحاب الحكم.

فقد أشكل عليه من جهة الشك في بقاء موضوع هذا الحكم - وهو العالم في المثال - ، فيکون الاستصحاب تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

ص: 223


1- منتقی الأصول 1: 345.

وفيه: أن العرف يری بقاء الموضوع، وهذا كاف في صحة الاستصحاب وتحقق النقض والإبرام.

وأما ما يقال: من اختلاف الموارد، فقد يکون المشتق جهة تقييدية نظير (قلّد المجتهد) فلا يجري الاستصحاب لتغيير الموضوع بنظر العرف، وقد يکون جهة تعليلية نظير (أكرم العالم)، فيجري الاستصحاب لبقاء الموضوع.

ففيه تأمل: لعدم الفرق عرفاً بين الموارد، بل كلّها تكون من الجهة التعليلية، فتأمل.

الأمر السابع: في بساطة أو تركب المشتق

اشارة

وهنا جهات:

الجهة الأولى: في المقصود من التركب والبساطة

وفيه احتمالان:

الاحتمال الأول: بحسب المفهوم، فيکون مفهوم المشتق علی التركب: (ذات ثبت لها المبدأ).

وهذا الاحتمال غير مراد، لعدم تبادر وانسباق هذا المعنی من المشتقات، فلا يخطر في البال من لفظ العالم: ذات لها العلم - مثلاً - ، مضافاً إلی أن عامة المفاهيم بسيطة، أي المتصور منها شيء واحد لا شيئان أو أشياء متعددة، فلا وجه لتوهم التركّب من جهة المفهوم.

الاحتمال الثاني: أو بحسب الحقيقة وبمنشأ الانتزاع، أي لدی التحليل هل المشتق شيء واحد أم أنه مركب، مثلاً مفهوم (الإنسان) بسيط، لكن لدی التحليل العقلي يتجزأ إلی جنس وفصل، فهل المشتق كذلك أم لا؟

ص: 224

ثم إنه علی القول بالبساطة فإن المراد هو عدم أخذ (الذات) في حقيقة المشتق، وليس المراد البساطة من كل الجهات.

الجهة الثانية: المأخوذ في حقيقة المشتق

إنه في الخارج ثلاثة أشياء: (ذات) و(مبدأ) و(نسبة بينهما)، فأيّ منها اُخذ في حقيقة المشتق؟ المحتملات خمسة(1):

الاحتمال الأول: المشتق وضع لكل هذه الثلاثة، فتكون (الذات) جزء المدلول.

وفيه: أن المشتق مركب من مادة وهيأة، ولم تؤخذ الذات في أيّ منهما، إذ المادة تدل علی الحدث، والهيأة معنی حرفي لا تدل إلاّ علی قيام المبدأ بالذات، فلا يوجد شيء يدل علی الذات.

اللهم إلاّ أن يقال: إن هناك وضعاً ثالثاً للمادة والهيأة مجموعاً لتدل علی الذات المتلبسة بالمبدأ.

لكن ذلك مما لا يمكن الالتزام به، إذ الظاهر أن هناك وضعاً نوعياً للمواد ووضعاً نوعياً آخر للهيئات، من غير حاجة إلی وضع ثالث للمركب منهما، إذ لا يتعلق به غرض، فيکون لغواً.

الاحتمال الثاني: إن المشتق وضع ل-(المبدأ) و(النسبة) فقط، من غير أخذ الذات في المدلول، فيکون بسيطاً من هذه الجهة وإن كان في الواقع مركباً.

وهذا ما اختاره المحقق العراقي، واستدل لذلك: بأن المبدأ هو وجه وعنوان للذات وطور من أطوارها، وهذا المعنی هو الذي تقتضيه قاعدة

ص: 225


1- الأربعة الأولی في نهاية الأفكار 1: 141.

انحلال أوضاع المشتقات بحسب المادة والهيأة، فالمادة وضعت لنفس الحدث، والهيأة وضعت للدلالة علی إضافة قيام المبدأ بالذات.

الاحتمال الثالث والرابع: وضع المشتق للمبدأ محضاً. إما بنحو القضية الحينية، أي المبدأ في حال قيامه بالذات واتحاده معها، وإما بعنوان اللا بشرط، فيفترق عن المصدر بأن المصدر بشرط لا.

ويرد علی كلا الوجهين:

أولاً: استلزام ذلك إخراج المشتق عما تقتضيه قاعدة انحلال الوضع فيه إلی وضع للمادة ووضع للهيأة، والمصير إلی دعوی كون الوضع في الأوصاف من قبيل الوضع في الجوامد.

وثانياً: يستلزم أيضاً عدم صحة جعل المشتقات موضوعات للأحكام الخاصة مثل الإكرام في أكرم العالم وأطعمه وقبّل يده، فإن المبدأ لا يدله ولا بطن ولا يمكن إكرامه... وغير ذلك مما ذكره المحقق العراقي(1).

الاحتمال الخامس: إن معنی المشتق هو (ما له مبدأ الاشتقاق)، وهذا ما اختاره المحقق الإصفهاني، حيث بدّل (الذات) إلی أمر مبهم ينطبق علی الذات وعلی غيرها، كما في (البياض أبيض) و(الوجود موجود).

وكلامه يرجع - بالنتيجة - إلی البساطة بمعنی تمثّل صورة وحدانية في الذهن، وإلی التركب بحسب وجوده التفصيلي وهو (ما له مبدأ الاشتقاق).

فقال ما حاصله(2): إن التحقيق يقتضي اعتبار أمر مبهم مقوّم لعنوانية

ص: 226


1- نهاية الأفكار 1: 142-144.
2- نهاية الدراية 1: 219-221.

العنوان، ودليله الوجدان والبرهان.

أمّا الوجدان: فإنه عند سماع لفظ (القائم) تتمثل صورة مبهمة متلبسة بالقيام - وهذا هو تفصيل المعنی الوحداني المتمثل في الذهن - وبعبارة أخری: الصورة المنعكسة في الذهن شيء واحد بسيط، ولدی تحليلها نجد أن حقيقتها صورة مبهمة متلبسة بالقيام.

وأمّا البرهان: فإن المبدأ حيث إنه مغاير لذي المبدأ، فلا يصح الحكم باتحاده معه في الوجود، وإن اعتبر فيه ألف إعتبار، إذ جميع الاعتبارات لا توجب انقلاب حقيقة المبدأ عما هي عليه من المغايرة مع ذي المبدأ، لأن المغايرة ليست اعتبارية حتی ننفيها باعتبار آخر.

وكذا النسبة - وهي نسبة الواجدية للمبدأ - لا يصح حملها علی ما يقوم به المبدأ للمغايرة كما هو واضح.

وكذا المجموع من النسبة والمبدأ.

إذن لا مناص من الالتزام بوضع هيأة (ضارب) و(كاتب) للعنوان، وذلك العنوان هو (الصورة المتلبسة بالضرب أو الكتابة).

وهذه الصورة قابلة للاتحاد مع الموضوع وجوداً، فمفاد (زيد قائم) هو أن وجود الصورة الذاتية لزيد وجود للصورة المنتزعة منه بالعرض، فهذا الوجود الواحد وجود لصورة زيد المنطبعة في الذهن بالذات، ووجود لصورة متلبسة بالقيام بالعرض.

وهذه الصورة مبهمة من جميع الجهات لم يؤخذ فيها جوهر أو عرض أو أمر اعتباري، فتكون قابلة للاتحاد معها مثل (زيد قائم) و(البياض أبيض) و(الوجود موجود).

ص: 227

ومن الواضح أن هذا الأمر المبهم ليس هو الذات ولا المفاهيم المندرجة تحت الذات.

الجهة الثالثة: من أدلة البساطة

منها: ما ذكره السيد الشريف، وتبعه في الكفاية(1)، بأنه لابد من القول ببساطة المشتق للمحذور في التركيب، وذلك لأن مقتضی التركيب هو أن يکون معنی المشتق (ذات لها المبدأ)، وهذه (الذات) إما مفهوم الذات أو مصداقها، وفي كليهما المحذور.

أما الأول: - مفهوم الذات - فهو عرض عام، فعلی القول به يلزم دخول العرض العام في الفصل فی مثل (الإنسان ناطق) أي ذات لها النطق، فإن مفهوم الذات عارض عليها وهو عرض عام.

وأجيب: بأن (الناطق) ليس فصلاً في الحقيقة، بل هو كذلك في عرف المنطقيين، إذ لا يعلم فصول الأشياء إلاّ الباري تعالی.

وفيه: أولاً: إنهم أرادوا ذكر الفصل الحقيقي وليس مجرد اصطلاح، ومرادهم الحقيقة التي كانت سبباً للنطق، فإن تلك الحقيقة هي الفصل الواقعي، وقابلية النطق هي المبرز لتلك الحقيقة.

وثانياً: إن المشتق ليس هو الفصل، بل الفصل هو المبدأ فقط، كما أن العرض الخاص هو (الضحك) وليس الضاحك، فأخذ الشيء والذات ونحوهما في المشتق إنّما هو لتصحيح الحمل(2).

ص: 228


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 221.
2- نهاية الدراية 1: 205.

وثالثاً: إن لفظ (الناطق) ونحوه من الفصول قد استعمل بمعناه اللغوي والعرفي من غير تجوّز أو وضع اصطلاح، لكن بالإرادة الجدّية لم يريدوا دخول مفهوم الذات في هذه الفصول.

وبعبارة أخری: إن المجاز أو دخول العرض العام في الفصل إنّما يلزم إذا تطابقت الإرادة الجدّية مع الإرادة الاستعمالية، أما لو كانت الاستعمالية هي بنفس المعنی اللغوي والعرفي، وكانت الجدّية عدم إرادة الذات فلا مجاز ولا دخول العرض العام في الفصل، وهذا نظير ما ذكروه في العام المخصَّص، فإن العام ليس بمجاز واستعمل بنفس معناه وهو العموم لكن لم تكن الإرادة الجدّية إلاّ بالخاص.

وأما الثاني: - مصداق الذات - فلازمه انقلاب مادة (الإمكان الخاص) في القضايا إلی (الضرورة) حيث صار الموضوع جزءاً من المحمول، وحمل الشيء علی نفسه ضروري، فمعنی (الإنسان ضاحك) هو (الإنسان إنسان له الضحك).

إن قلت: ذكر صاحب الفصول(1) أنّ المحمول ليس هو الموضوع بشكل مطلق كي يکون الحمل ضرورياً فليس الحمل هو (الإنسان إنسان)، بل المحمول هو الموضوع المقيد بالضحك.

قلت: إن المحمول إما ذات المقيد من غير دخل للقيد والتقيد أصلاً، فيکون الحمل ضرورياً لحمل الشيء علی نفسه.

وإما جهة التقييد والقيد دخيلة في المحمول، فتنحل القضية إلی قضيتين

ص: 229


1- الفصول الغرويّة: 62.

(الإنسان إنسان) و(الإنسان له النطق) والقضية الأولی ضرورية، وإنّما قلنا بالانحلال لأن الوصف قبل العلم به خبر، فعندما يقال (زيد عالم متقي) فالمتقي وإن كان وصفاً لكنه في الحقيقة خبر ثانٍ، وهذا ما ذكره صاحب الكفاية(1) جواباً عن صاحب الفصول.

ويرد عليه: مضافاً إلی ما ذکرناه من الإرادة الجدّية والاستعمالية...

أولاً: إن (الإنسان إنسان) أمر معلوم فلا يکون خبراً، لما ذكروه من أن الأخبار بعد العلم بها أوصاف، فبناء علی هذا لا تنحل القضية إلی قضيتين.

وثانياً: إن القضيتين إحداهما ضرورية والثانية ممكنة، فالمركب منهما ممكن، لأن النتيجة تتبع أخس المقدمتين.

وثالثاً(2): إن المحتملات ثلاث، ولا يوجد انقلاب في أيٍّ منها:

1- ثبوت إمكان الكتابة للإنسان، وهذا أمر ضروري، فلا انقلاب بل القضية ضرورية.

2- ثبوت إمكان الإنسان الذي له الكتابة - أي إمكان هذه الحصة - ، وهذا أيضاً قضية ضرورية.

3- ثبوت نفس هذه الحصة الممكنة لطبيعي الإنسان، فهو بالإمكان لا بالضرورة، لأن ورود هذا القيد علی الإنسان - الموجب لكونه حصة - بالإمكان، فثبوت هذه الحصة الممكنة لطبيعي الإنسان بالإمكان.

ومثل (الإنسان كاتب) هو من الثالث، إذ معناه هو حمل الإنسان الذي له

ص: 230


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 228-229.
2- نهاية الدراية 1: 212.

الكتابة علی الإنسان، ولازمه إفادة كون الإنسان ذا حصة خاصة، لا إفادة إمكان الكتابة له كما في المحتمل الأول، ولا إفادة إمكان الحصة له كما في المحتمل الثاني، فلا تكون القضية ضرورية بل ممكنة، فتأمل.

الأمر الثامن: الأقوال في المشتق

اشارة

وفي الموضوع له المشتق قولان:

الأول: إن الموضوع له هو خصوص المتلبس، وعليه متأخرو الأصحاب.

الثاني: إن الموضوع له هو الأعم من المتلبس والمنقضي، وعليه متقدموهم.

وأما التفصيلات الأخری فمنشأها توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه أو أحواله، وقد مرّ الإشكال عليه، فلا وجه لهذه التفصيلات لبطلان منشئها.

1- من أدلة القول بأنه لخصوص المتلبس

والأدلة إما ثبوتيّة - بمعنی عدم إمكان الأعم - ، وإما اثباتيّة.

فالأول: ما ذهب إليه المحقق النائيني(1)، وحاصله:

أنه علی القول ببساطة المشتق لابدّ من المصير إلی الوضع لخصوص المتلبس، وذلك لأن معنی البساطة هو أن المشتق يکون نفس المبدأ، فمعنی (قائم) هو (القيام) - مع ملاحظته بكيفية يصح معها الحمل كما مرّ - فمفهوم المشتق يتقوّم بالمبدأ، فمع انعدامه لا يصدق المشتق، لعدم معناه.

وأما علی القول بتركب المشتق: فلا يجري هذا المحذور، لأن معنی التركب هو (الذات المنتسب لها المبدأ) فالركن الوطيد هو الذات، وأما

ص: 231


1- فوائد الأصول 1: 120.

انتساب المبدأ إليها فيمکن أن يکون جهة تعليلية، ولم يؤخذ في هذه النسبة زمان دون زمان، فتصدق علی المتلبس وعلی المنقضي.

ولكن يجري محذور آخر، وذلك لأن الوضع للأعم من المتلبس والمنقضي يقتضي وجود جامع، لعدم القول بالاشتراك اللفظي في المشتقات:

أ) وذلك الجامع لا يکون ذاتياً، لأن جزء المركب هو (النسبة)، وهي معنی حرفي، والمعنی الحرفي إيجادي، ومن الواضح أنه لا جامع ذاتي بين الوجودات، بل الجامع إنّما هو في الماهية.

ب) ولا يکون الجامع الزمان، إذ من المعلوم عدم أخذ الزمان في معنی المشتق.

ويرد عليه: مبنیً: بما مرّ من أنَّ المعنی الحرفي ليس إيجادياً.

وبناءً: بكفاية الجهة المشتركة حتی مع عدم وجود الجامع - كما مرّ نظيره عن المحقق العراقي - .

وبإمكان وجود جامع عنواني، وهو يکفي في صحة الوضع، لكونه اعتبارياً خفيف المؤنة، مثل عنوان (أحدهما).

إن قلت: إن هنا سنخين من الربط - ربط حقيقي واقعي في المتلبس، وربط مسامحي ادعائي في المنقضي لزوال أحد طرفي النسبة وهو المبدأ، ومن الواضح أن النسبة الحقيقية إنّما هي بين شيئين، فلا جامع بين هذين السنخين.

قلت: الجامع الحقيقي مفقود ولا كلام لنا فيه، وأما الجامع العنواني فيمکن، ويصح أن يکون هو الموضوع له.

ص: 232

فتحصل عدم وجود إشكال ثبوتي في الوضع لأيٍّ من المتلبس أو الأعم.

والثاني: - أي ما دلّ علی الوضع لخصوص المتلبس إثباتاً - فوجوه متعددة، منها:

الدليل الأول: التبادر، وبُرهن عليه بأن صدق المشتق علی الذات إنّما هو لوجود المبدأ، ولا صدق بعد فقده، لأنّ الصدق آناً ما وإن أعطی حيثيّة اعتبارية باقية إلاّ أن المتبادر هو قيام المبدأ لا قيام الحيثيّة.

وهذا البرهان غير نافع، فإن التبادر إنّما هو بسبب الظهور الكاشف عن الوضع، وهو أمر وجداني لا برهاني.

الدليل الثاني: صحة السلب عن المنقضي عنه المبدأ. فكما أن سلب الإيمان عمّن سيؤمن لاحقاً دليل عدم كون المشتق حقيقة في من لم يتلبس بعد بالمبدأ، كذلك سلب الإيمان عمّن كفر وانقضی عنه الإيمان، فإنهما من وادٍ واحد، فيکون الحمل مجازاً في كليهما.

إن قلت: صحة السلب تنافي صحة الحمل، مع أنه لا إشكال في صحة إطلاق السارق والزاني علی الذي ارتكب السرقة والزنا في الماضي، فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}(1) وقوله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ...}(2) ليس من المجاز في شيء، مع وضوح انقضاء السرقة والزنا حين إجراء الحدّ.

قلت: إنّما أطلق عليهما الزاني والسارق باعتبار حال التلبس، وقد مرّ

ص: 233


1- سورة المائدة، الآية: 38.
2- سورة النور، الآية: 2.

معنی (الحال) وأن المراد به حال التلبس، فليس المبدأ قد انقضی عنهما حين إطلاق السارق والزاني عليهما، فراجع.

إن قلت: إن صحة السلب إنّما تكون علامة، إذا كانت بشكل مطلق، لا ما إذا كانت في حال دون حال، وهنا سلب المشتق إنّما هو في حال الانقضاء دون حال التلبس.

قلت: السلب عن المنقضي في كل الأحوال وبشكل مطلق علامة عدم الوضع له.

الدليل الثالث: الخلف، ببيان أنه قد يکون تضاد بين المبادئ، وقد يتبادلان في الذات، كأن يکون كافراً ثم يصبح مؤمناً، أو يکون أبيض فيصير أسود، فلو صدق المشتق علی المنقضي، فإما أن يصدق علی المتلبس أو لا يصدق، والأول جمع بين الضدين، والثاني بديهي البطلان.

وفيه: أن التضاد إنّما يکون في الخارج، ولا تضاد في إطلاق الألفاظ إذا اختلف الاعتبار، فهو كافر باعتبار الماضي ومؤمن باعتبار الحال، وأبيض باعتبار ما انقضى وأسود باعتبار ما تلبس.

2- من أدلة القول بالأعم

واستدل القائل بوضع المشتق للأعم من المتلبس والمنقضي بأمور منها:

الدليل الأول: المتبادر من المشتق أنه المتلبس بالمبدأ آناً ما، فمثل (المقتول) يطلق بنحو حقيقي ولو بعد مضي فترات طويلة.

وفيه: أولاً: إنه إطلاق بلحاظ حال التلبس.

وثانياً: إنه يمکن أن يكون الإطلاق من باب التوسعة في المادة بحيث

ص: 234

يشمل حال الانقضاء أيضاً، وذلك لأن المهم هو الأثر الحاصل من حين التلبس إلی سائر الأوقات، فالأثر - وهو زهوق الروح مثلاً - مستمر، ولولا هذه التوسعة لم يتبادر أصلاً، فالعالم والجاهل ونحوهما لا يطلق بنحو حقيقي إلاّ علی المتلبس.

الدليل الثاني: صحة السلب، في مثل الزاني والسارق، وإن انقضی عنهما المبدأ.

ويرد عليه: ما مرّ في الأول، بأن الإطلاق بلحاظ حال التلبس، أو إنه من باب التوسعة في المادة، ويدل علی ذلك صحة السلب لو كان الإطلاق بلحاظ الآن لا بلحاظ حال التلبس.

الدليل الثالث: کثرة الاستعمال في موارد الانقضاء، فلو كان مجازاً فيها لزم كثرة المجاز المنافية لحكمة الوضع.

وفيه: أولاً: أكثرية الاستعمال في المتلبس.

وثانياً: إن غالب الموارد المستعملة في المنقضي إنّما هو باعتبار التلبس.

وثالثاً: كما تكون حكمة في الاستعمال بالمعنى الحقيقي كذلك تكون في المجاز.

ورابعاً: بأن أكثرية المجاز لا تنافي حكمة الوضع، ولذا قيل بأن أكثر كلام العرب مجازات.

مضافاً إلی أن المجاز هو في مرحلة الاستعمال، وكلامنا الآن في مرحلة الوضع.

الدليل الرابع: قوله تعالی: (فاجلدوا)، و(فاقطعوا)، فهما حكمان ثابتان

ص: 235

لمن صدق عليه الزاني والسارق، ولولا الصدق علی من انقضی عنه المبدأ لزم انتفاء الموضوع حين إجراء الحكم.

وفيه: أولاً: إن الإطلاق بلحاظ حال التلبس.

وثانياً: إن الآيتين لبيان القضية الحقيقية، فمن ارتكب السرقة أو الزنا استحق هذه العقوبة في نفس حال الارتكاب، نعم الإجراء بعد الثبوت الشرعي بالشهود أو الإقرار.

وبعبارة أخری: إن الزنا والسرقة حيث تعليلي، فيکفي حدوثهما في ثبوت الحدّ الشرعي، وإن ثبت عند الحاكم الشرعي بعد انقضائهما، فلا يرتبط الحدّ بالاسم بل هو مرتبط بحدوث الجريمة.

الدليل الخامس: استدلال الإمام (علیه السلام) بقوله تعالی: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(1) علی عدم لياقة من عبد الصنم للإمامة(2)، ومن الواضح توقف الاستدلال علی كونه حقيقة في الأعم من المتلبس والمنقضي.

وفيه: أولاً: إن الاستدلال لا يتوقف علی كون المشتق حقيقة في الأعم، بل هناك احتمال آخر - هو الأرجح - بأن الآية في مقام بيان عظمة الإمامة، حيث إن إبراهيم (علیه السلام) نالها بعد نبوته، وهكذا منصب عظيم لا يليق بمن عبد صنماً أو ارتكب ظلماً آخر في حياته حتى لو فرضت توبته منه.

وثانياً: إن {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ} قضية حقيقية، فحينما كانوا متلبسين بالظلم شملهم (لا ينال) أبداً.

ص: 236


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- الكافي 1: 175.

إن قلت: لولا القرينة الخارجية لكانت الآية مثل (لا يُصَلّی خلف الفاسق) حيث إنه بانقضاء الفسق عنه وصيرورته عادلاً جازت الصلاة خلفه.

قلت: بل الظاهر أنه في القضايا الحقيقية يکفي للحکم حدوث الموضوع - ولو آناًما - ، فإن الظاهر أنه حيث تعليلي، فلذا ترتب الحكم لا يحتاج إلی بقاء الموضوع، وفي مثل (لا يصلی خلف الفاسق) القرينة علی العكس حيث دلت علی أن الفسق حيث تقييدي، ولولا القرينة لأمكن القول بعدم جواز الصلاة خلفه أبداً.

الأمر التاسع: في صفات الباري تعالى

قد يتسائل عن كيفية حمل صفات الباري تعالی عليه، من ثلاث جهات:

الجهة الأولی: إنه لابد في الحمل من تغاير الموضوع والمحمول، والمفروض أن صفاته الذاتية عين ذاته، فلا تغاير بينها.

والجواب: بما في الکفاية(1) من أن الاتحاد بين الذات المقدسة وصفاتها الذاتية إنّما هو في الوجود، وأما المغايرة فهي في المفهوم، فإن مفهوم العلم - مثلاً - يغاير مفهوم الذات، والتغاير المفهومي مُصحِّح للحمل، كما في الحمل الشايع الصناعي.

وإليه يرجع ما في نهاية الدراية(2): من أنه لا يحتاج إلی إثبات المغايرة بين الموضوع مع مبدأ المحمول، بل يکفي مغايرة نفس المحمول مع الموضوع، ففي مثل (السواد أسود) و(الوجود موجود) يوجد اتحاد

ص: 237


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 245.
2- نهاية الدراية 1: 240.

الموضوع مع مبدأ المحمول، وإنّما صح الحمل لتغايرهما مفهوماً.

الجهة الثانية: المشتق إنّما يصدق في مورد تتحقق فيه النسبة بين المبدأ والذات، والنسبة تقتضي المغايرة والاثنينية، وليس كذلك في صفات الباري الذاتية.

والجواب من وجوه:

الجواب الأول: ما ذكره الفصول(1) من النقل في صفاته تعالی.

وأشكل عليه في الكفاية(2): بأنه خلاف الوجدان إذ لا يفهم معنيان فيه تعالی وفي غيره.

مضافاً إلی أن ذلك المعنی الآخر إمّا ضد العلم وهو الجهل، وهذا بديهي البطلان، وإمّا أن لا يکون ذلك المعنی مفهوماً، فيکون الوصف مجرد لقلقة لسان، وهذا أيضاً باطل.

أقول: أما الإشكال الأول فوارد، وأما الثاني ففيه:

أولاً: إمكان القول بنقل مجموع المادة والهيأة، ففي مثل العالم إلی (ما كان العلم عين الذات) لا ما كان العلم مغايراً.

وثانياً: إمكان القول بنقل الهيأة، أي عدم استعمال الهيأة في النسبة - وهي المعنی الموضوع لها - فلا إشكال.

وثالثاً: عدم فهم كنه علمه لا يستلزم كون الوصف مجرد لقلقة لسان، كيف والعلم عين ذاته وكنه ذاته مجهول لنا وكذا كنه علمه، نعم المقدار

ص: 238


1- الفصول الغرويّة: 62.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 247.

الذي ندركه أن علمه ليس بجهل، لا بمعنی أن معنی العلم هو عدم الجهل، بل بمعنی مقدار فهمنا من العلم هو هذا المقدار لا أكثر، کما أن المعرفة به عن طريق الآثار، وهو ليس بمعنی فهم كنهه.

ثم إنه لا يخفی أن كلام الفصول والإشكال والجواب إنّما هو لو قلنا بأن النسبة جزء المعنی، أمّا لو قلنا ببساطة المشتق - بمعنی دلالته علی المبدأ فقط - فلا مجازية أصلاً، لأن اللفظ مستعمل في معناه الموضوع له، فقد توجد قرينة عقلية تدل علی النسبة من غير دخالتها في المعنی الموضوع له، وقد توجد قرينة عقلية علی العكس بمعنی عدم وجود النسبة كما في صفاته الذاتية.

الجواب الثاني: ما مرّ من أن الإرادة الاستعمالية هي في نفس المعنی الذي تستعمل في غيره تعالی، مع عدم إرادة جدية لذلك، في الملتفت إلی هذه الأمور المعارفيّة.

الجواب الثالث: ما في الكفاية(1) من أن أنحاء القيام والتلبس تختلف باختلاف أنحاء المبادي وأطوارها، من الصدوري، والحلولي، والوقوع فيه، والوقوع عليه، والانتزاع، والاتحاد.

وفي صفات الباري تعالی القيام إنّما هو بنحو الاتحاد خارجاً بين العلم وذاته تعالی - مثلاً - .

وأشكل عليه: بأنه في التلبس لابد من وجود النسبة بين الذات والمبدأ، والنسبة تتوقف علی الاثنينية، ففرض التلبس مع كون القيام بنحو الاتحاد غير معقول، إذ هو خلف.

ص: 239


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 249.

ووجّهه المحقق الإصفهاني(1) بأنه من مصححات صدق المشتق هو عينية المبدأ لتمام ذات الموضوع، كما في صدق الأسود علی السواد، وبيانه: أن اتصاف الجسم ب-(الأسود) إنّما هو بواسطة (السواد)، وهو أمر خارج عن ذات الجسم، فبطريق أولی يكون اتصاف (السواد) ب-(الأسود)، لأن وجدان الشيء لنفسه ضروري.

وأورد عليه في المنتقی(2): بأنه لا معنی لواجدية الشيء لنفسه، بل هي إضافة خاصة تتقوّم بالواجد والموجود، فصارت اثنينية، لأن الإضافة بطبعها تقتضي ذلك، فلا معنی لأن يقال: الشيء واجد لنفسه، بل يقال: الشيء عين نفسه.

وفيه: أنها مناقشة لفظية بأن المتبادر من لفظ (الواجد) ذلك، وليس كلامنا في اللفظ، بل في حقيقة إطلاق المشتق - كالعالم - عليه تعالی، وإطلاق المشتق يکون بأحد الأنحاء التي ذكرها في الكفاية.

الجواب الرابع: إن إطلاق هذه الألفاظ إنّما هي علی اسمه تعالی، واسمه غير ذاته، بل الاسم مخلوق له سبحانه، فلا مانع في الاثنينية ووجود النسبة، بل هي أمر لابد منه، فتأمل.

الأمر العاشر: في دلالة الفعل على الزمان

اشتهر بين النحاة أن الفرق بين الاسم والفعل هو دلالة الفعل علی الزمان دون الاسم، كما قال ابن مالك:

المصدر اسم ما سوی الزمان من

مدلولي الفعل كأمنٍ من أمِن

ص: 240


1- نهاية الدراية 1: 240.
2- منتقی الأصول 1: 363.

وأورد علی ذلك عدة إشكالات، منها ما في الكفاية(1):

الإشكال الأول: مفهوم الزمان اسمي، فيمتنع أن يکون مدلولاً للهيأة، فإن مدلولها معنی حرفي.

وفيه: أولاً: إن المحقق الخراساني لم يفرّق بين المعنی الاسمي والحرفي إلاّ باللحاظ، فليلتزم به هنا أيضاً، وكذا علی مبنی أن معنی الحرف هو الوجود الرابط، حيث يمكن القول بأن الزمان في الفعل يکون وجوداً رابطاً، فتأمل.

وثانياً: بأنه قد يقال: بأن الزمان مدلول المركب من المادة والهيأة، فالمادة تدل علی الحدث، والهيأة تدل علی النسبة، والمجموع المركب يدل علی الزمان، ولا بأس بوضع المركب لعدم لزوم اللغوية حينئذٍ، لحصول الفائدة بالدلالة علی الزمان.

الإشكال الثاني: إن لازم دلالة الفعل علی الزمان هو أن يکون للهيأة معنيان: حرفي وهو النسبة، واسمي وهو الزمان.

وجوابه: اتضح مما سبق من دلالة الهيأة التركيبية علی الزمان، مضافاً إلی أنه لا محذور من أن يکون للهيأة معنيان حرفي واسمي - كل واحد منهما جزء المعنی - إلاّ محذور اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي وقد عرفت عدم الإشكال في اجتماعهما، كما أنه لا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى، لكون كل واحد منهما جزءاً للمعنى.

الإشكال الثالث: الفعل إمّا ما يدل علی الطلب كالأمر والنهي، أو يدل

ص: 241


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 170-171.

علی حكاية كالماضي والمضارع.

والأول: لا دلالة له علی الزمان، إذ المادة تدل علی الحدث، والهيأة تدل علی إنشاء الطلب.

وكون الإنشاء في الحال ليس بمعنی دلالته علی الزمان، لأن جميع الزمانيات تقع في الزمان مع عدم دلالتها عليه.

والثاني: لا دلالة له أيضاً، إذ قد يسند الماضي والمضارع إلی ما لا يقع في الزمان، كنفس الزمان في قولنا: (مضی الزمان)، وكالمجرد فيقال: (علم الله)، ومن الواضح أن لا مجازية في البين.

ويرد على الثاني: ما مرّ من الإرادة الجدّية والاستعمالية.

وعلى الأول: بأن ما ذكر من عدم دلالة الإنشاء علی الزمان مجرد ادعاء لم يقم عليه برهان، إذ يمكن ادعاء أن المجموع من المادة والهيأة يدل علی الزمان في الخبر وفي الإنشاء.

ودليل ذلك هو التبادر في الفعل الماضي والمضارع، وفي مثل (يجيء زيد بعد سنة وقد عَلِم كذا)، فإن (عَلِم) استعمل بمعناه الحقيقي ويدل علی الزمان الماضي، لكن مضيّه نسبي، أي بالنسبة إلی وقت مجيئه، وهذا كاف في صحة استعماله بمعناه الحقيقي.

وكذا لا يبعد ادعاء التبادر في الأمر والنهي وسائر الإنشاءات، بادعاء دلالته علی الحال والاستقبال، لا بمعنی زمان الإنشاء فهو في حال النطق قطعاً لاستحالة إنفكاك الإيجاد عن الوجود، بل بمعنی زمان متعلقه، وهذا لا ينافي عدم الدلالة علی الفور والتراخي، إذ الدلالة علی الزمان المطلق - حالاً واستقبالاً - يختلف عن الدلالة عليهما، فمعنی طلب إيجاد الشيء في المستقبل مثلاً أعم من الفور بمعنی أول

ص: 242

المستقبل أو التراخي، فتأمل.

إن قلت: كيف يمكن الدلالة علی الزمان الحال والمستقبل مع أن ذلك يقتضي وجود جامع بينهما، ومن المعلوم أن آنات الزمان متباينة لا جامع بينها، فلا جامع بين الحال والاستقبال؟

قلت: يکفي الجامع العنواني من غير حاجة إلی الجامع الحقيقي كما مرّ نظيره.

ثم إنه علی مبنی عدم دلالة الفعل علی الزمان فما هو الفرق بين الفعل الماضي والمضارع، ولماذا لا يجوز استعمال أحدهما مكان الآخر بنحو الحقيقة؟ فإذا كانت المادة تدل علی الحدث، والهيأة علی نسبة المبدأ إلی الذات فمن أين جاء الفرق؟

ذكر المحقق الخراساني(1): أن لكل من الماضي والمضارع خصوصية تلازم الزمان الماضي في الفعل الماضي، وتلازم الزمان الحال أو الاستقبال في الفعل المضارع، لكنها توجد في الزمانيات دون غيرها!

وأما تلك الخصوصية فقد قيل فيها أمور منها:

1- التحقق في الماضي، والترقب في المستقبل، وتحقق الفعل من الفاعل الزماني لابد أن يکون في الزمان الماضي، كما أن ترقبه يلازم صدوره منه فعلاً أو بعد حين، وذلك لاستحالة وقوع الفعل من الفاعل الزماني خارج الزمان، فهذا لازم عقلي لذلك.

إن قلت: فهل معنی (إني أترقب علم زيد) هو: (أترقب ترقب علم زيد).

ص: 243


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 172.

قلت: (الترقب) ليس جزء للمعنی، بل هو لازم للفعل أو للجملة، وحينئذٍ فلا إشكال في التصريح به فيکون نظير قولنا (نورالشمس) فليس النور هو ضمن معنی الشمس حتی يستلزم التكرار في النور، بل هو لازم لها وقد تَمّ التصريح به، فلا إشكال.

وعليه فلا داعي للقول بأن هذه النسبة هي (القابلية للترقب أو التحقق) أو (النسبة القابلة لأحدهما).

2- السبق في الماضي واللحوق في المستقبل، فإن السبق واللحوق لايتقومان بالزمان، بل هما ينتزعان من وجود الشيء، مع عدم تحقق الآخر، فإن كان قد تحقق الآخر وانعدم فهي اللحوق، وإن لم يكن قد تحقق بعد فهي السبق.

وبتعبير آخر(1): لا بمعنی السبق واللحوق الزمانيين، بل الأعم منه ومن غيره، فيکون السبق واللحوق زمانياً فيما لو انتسب إلی الزمانيات، وذاتياً فيما لو انتسب إلی نفس الزمان، ورتبياً فيما لو انتسب إلی المجرد.

وقد يُوجّه كلام النحاة بأنهم أرادوا الدلالة بالإلتزام، وحينئذٍ فيمکن أحد تعبيرين لهذه الدلالة الالتزامية، إما يقال: بأنه بنحو خروج القيد ودخول التقيد، أو بأن يقال: بأن الهيأة موضوعة للربط، وهو ينحلّ بالتحليل إلی نحوين هما: ربط بالفاعل - الذي يقوم بالفعل - وهذه دلالة بالمطابقة، وربط بالظرف الذي يقع فيه من حيث السبق واللحوق، وهذه دلالة بالإلتزام، فتأمل.

ص: 244


1- نهاية الأفكار 1: 127.

المقصد الأول في الأوامر وفيه فصول

اشارة

ص: 245

ص: 246

فصل في مادة الأمر

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في معنى الأمر

ذكرت للأمر معانٍ متعددة، كالطلب، والشيء، والفعل، والحادثة... الخ.

ولا يخفی أن بعض هذه من اشتباه المصداق بالمفهوم، فإن المعنی العام قد يکون له مصاديق جزئية، وكل مصداق له خصوصيات خاصة وليس لتلك الخصوصيات دخل في المفهوم، وبعضها من باب الخلط بين الكلمات ونسبة معنی إحداها للأخری، كقولهم من المعاني الغرض مستدلين بنحو (جئت لأمر كذا) مع أن الغرض يستفاد من (لام) التعليل لا من كلمة الأمر.

ثم إنه قد اختلف المحققون في أن للأمر معنيين بنحو الاشتراك اللفظي أم له معنی واحد بنحو الاشتراك المعنوي.

الاتجاه الأول: الاشتراك اللفظي بين معنيين.

وقد اختلفوا في تعيين المعنی الثاني، بعد اتفاقهم علی أن الطلب هو المعنی الأول، علی أقوال:

الأول: إنه مشترك لفظي بين الطلب والشيء.

وأشكل عليه: بأن (الأمر) أخص من الشيء، فلا يطلق علی بعض الجوامد مع إطلاق الشيء عليها، مثل (زيد شيء) ولا يقال (زيد أمر)، فلو

ص: 247

كان بين الأمر والشيء ترادف لصح استعمال أحدهما مكان الآخر شأن كل مترادفين.

الثاني: إن المعنی الثاني هو (الشيء لا بعرضه العريض)(1) فالأمر أخص من الشيء حيث لا يشمل: (الأعلام) و(أسماء الذوات)، فلا يقال (زيد أمر)، و(الرجل أمر)، مع صحة إطلاق الشيء عليهما.

والظاهر أن هذا المعنی لا مرادف له في اللغة، ولا إشكال فيه.

الثالث: إن المعنی الثاني هو (الحادثة المهمة).

وفيه: بأنه يصح القول بأنه جاء لأمر غير مهم، وهذا لا تناقض فيه ولا مجازية.

الرابع: إن المعنی الثاني هو (الفعل).

وأشكل عليه: بصحة إطلاق (الأمر) علی المعدوم وعلی المحال، مع أنهما ليسا فعلاً، فيقال: (شريك الباري أمر محال)، وكذا يطلق الأمر علی بعض الجامدات - وهي ليست فعلاً - مثل: (النار أمر ضروري في الشتاء).

وفيه تأمل: لأن المراد هو الفعل الذي يرتبط بالموضوع، أي تحقق الشريك، والتدفئة بالنار، وهذا نظير تعلق التكليف بالذات، حيث يراد الفعل المقصود منها، مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}(2) أي أكلها، وكذا هنا في هذه الأمثلة.

الاتجاه الثاني: كون المعنی واحداً بالاشتراك المعنوي.

ص: 248


1- مقالات الأصول 1: 205.
2- سورة المائدة، الآية: 3.

وفي هذا الاتجاه أقوال وذلك عن طريق إرجاع أحد المعنيين إلی الآخر:

1- إن المعنی هو (الفعل)، والطلب يرجع إليه ومن مصاديقه، وذلك لأن الفعل في معرض أن يُطلب، ولذا يعبّر عنه ب-(المطلب) حتى لو لم يتعلق به الطلب.

2- إن المعنی هو (الواقعة المهمة)، والطلب من مصاديقها.

3- ان المعنی هو الجامع بين الطلب والواقعة، أو الجامع بين الطلب وما ينشأ منه، ولو لم نعرف ذلك الجامع بالضبط.

ويرد علی هذه الأقوال كُلِّها إشکالان:

الإشکال الأول: اختلاف صيغة الجمع، فالأمر بمعنی الطلب يجمع علی (أوامر)، والأمر بالمعنی الآخر يجمع علی (أمور)، وهذا يكشف عن اختلاف المعنی، إذ لا يتعارف في اللغة أن يتحد المفهوم مع تعدد الجمع للمصاديق بحيث لا يصح استعمال كلا الجمعين في كل المصاديق، بل لو كان المعنی واحداً لصح استعمال كل المجموع في كل المصاديق.

الإشکال الثاني: الاشتقاق وعدم الاشتقاق، فإن المعنی الواحد إما يصح الاشتقاق فيه أو لا يصح، ولم يعهد في اللغة صحة الاشتقاق في أحد المصاديق دون الآخر، و(الأمر) بمعنی الطلب يشتق منه آمر ومأمور ويأمر... الخ، وأما (الأمر) بالمعنی الآخر جامد لا يشتق منه.

وهذا كله يكشف عن تعدد المعنی، هذا مضافاً إلی الإشكالات الواردة علی كل واحد من المعاني المذكورة - كما مرّ - .

فالأقرب هو ما ذكره المحقق العراقي من الاشتراك اللفظي بين الطلب وبين الشيء لا بعرضه العريض.

ص: 249

المطلب الثاني: في اشتراط العلّو والاستعلاء

هل يشترط في صدق الأمر: العلو أو الاستعلاء، أو لا يشترط أيٌّ منهما؟ وبعبارة أخری: هل يصدق (الأمر) علی مطلق الطلب الصادر حتی لو لم يكن فيه استعلاء ولم يكن من العالي؟

والكلام هنا إنّما هو في المعنی اللغوي والعرفي للكلمة، وليس البحث في حكم العقل بوجوب الطاعة، إذ لا إشكال في اعتبار العلو الحقيقي حينئذٍ.

ولا يخفی أن الطلب الموجه بلا علو ولا استعلاء لا يسمی (أمراً)، كطلب المسكين استرحاماً، كما لا إشكال في كون طلب العالي المستعلي (أمراً) عرفاً ولغة.

إنّما الكلام في الطلب الصادر من العالي بلا استعلاء، وكذا من غير العالي مع الاستعلاء.

وقد يقال: بعدم الثمرة العملية لهذا البحث، لأن كلامنا إنّما هو في الأوامر الصادرة عن الله تعالی وهو جامع بين العلو والاستعلاء، وهي أمر قطعاً.

وأورد عليه: بأن طلبه قد يکون بلا استعلاء، فهل يطلق عليه (الأمر) أم لا؟ فهنا ننقح الصغری، وفي المطلب التالي ننقح الكبری - وهي إفادة الأمر للوجوب - فعلی مبنی كفاية العلو وعدم الحاجة إلی الاستعلاء إذا لم نعلم وجود الاستعلاء في أمره تعالی - كما لو احتمل كونه للإباحة أو للاستحباب ونحوهما - نقول (هذا أمر، لوجود العلو) و(كل أمر يفيد الوجوب)، فالنتيجة (هذا يفيد الوجوب)، ولولا ذلك لكان من التمسك

ص: 250

بالعام في الشبهة المصداقية.

وعلی كل حال فالأقوال في البحث أربعة:

القول الأول: اشتراط العلو دون الاستعلاء، ودليله صحة السلب عن الطلب الصادر عن السافل والمساوي حيث يصح أن يقال إنّه ليس بأمر، بل هو سؤال أو التماس.

وأشكل عليه: بأن طلب العالي استدعاءً لا يسمی أمراً.

وأجيب: بأن ذلك للقرينة، وإلا فمع عدم وجود دليل علی كونه بالاستعلاء أم ليس باستعلاء، يطلق عليه الأمر أيضاً.

وفيه نظر: لأن هذا وجه عدم لزوم إحراز الاستعلاء، لا عدم اشتراطه.

القول الثاني: اشتراط الاستعلاء، حتی لو لم يكن علواً، ودليله: تقبيح السافل المستعلي فيما لو أمر سيده، فيقال له: (لِمَ أمرت سيّدك!).

وفيه: أن التقبيح إنّما هو علی استعلائه، وعلی تنزيل نفسه عالياً الموجب لصدور الأمر منه، فقد أثبت لنفسه مقاماً ليس هو أهلاً له، فإطلاق الأمر عليه بناءً علی اعتقاده، وهو مجاز للمشاکلة، وهذا نظير الحقيقة الادعائية.

القول الثالث: کفاية أحدهما - إما العلو أو الاستعلاء - .

وفيه: صحة السلب عن المستعلي غير العالي، وعن العالي غير المستعلي.

القول الرابع: اشتراط كلا الأمرين، إذ مطلق الطلب من العالي لا يسمی أمراً، وإنّما الطلب الصادر منه بحسب مقام مولويته أو علوه المستتبع لغضبه علی المخالفة واستحقاق المأمور للعقاب، مضافاً إلی صحة سلب الأمر عن المستعلي غير العالي كما مرّ، وهذا القول هو الأقرب وهو المتبادر.

ص: 251

المطلب الثالث: في منشأ دلالة الأمر على الوجوب

اشارة

وهذا البحث كما يجري في المادة كذلك يجري في الصيغة.

لا خلاف بين المحققين في دلالة الأمر علی الوجوب، إنّما الكلام في منشأ هذه الدلالة، هل هي بالوضع، أم بدليل العقل، أم بالإطلاق؟ فالأقوال ثلاثة:

القول الأول: دلالتها بالوضع.

وقد أنكره المحقق العراقي(1) وآخرون، مستدلين في إنكارهم بأمور:

منها: صدق الأمر حقيقة علی الطلب الصادر من العالي، حتی لو كان الطلب استحبابياً، مع عدم وجود عناية في ذلك، وهذا كاشف عن كون الأمر حقيقة في مطلق الطلب، ولولا ذلك لكانت عناية في صدق الأمر علی الطلب الاستحبابي.

وفيه: صحة السلب عن الطلب الاستحبابي في مثل: لم يأمر الله بصلاة الليل مثلاً.

ومنها: صحة التقسيم إلی الوجوب والاستحباب بقولنا: الأمر إما وجوبي أو ندبي، مع وضوح عدم صحة تقسيم الشيء إلی نفسه وإلی غيره، واشتراط وجود المقسم في كل الأقسام.

وفيه: أن التقسيم دليل علی إرادة الأعم من لفظ الأمر في مقام التقسيم، والاستعمال أعم من الحقيقة.

ولا يخفی أن استدلال هؤلاء في عدم العناية في المقسم فيرجع إلی

ص: 252


1- نهاية الأفكار 1: 160.

التبادر.

ومنها: إن فعل المندوب طاعة، وكل طاعة مأمور بها.

وفيه: أنه إن كان المراد من المأمور به معناه الحقيقي فالكبری ممنوعة، وإن كان المراد أعم من معناه الحقيقي فذلك لا يفيد المدعی.

وأما أدلة القائل بأن دلالته علی الوجوب بالوضع فمنها:

1- 2- التبادر وصحة السلب عن غيره.

3- الاستدلال بمثل قوله تعالی: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}(1) وقوله تعالی: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}(2) وقول الرسول (صلی الله علیه و آله) : «لولا أن أشقّ علی أمتي لأمرتهم بالسواك»(3) ونحو ذلك، فإن مخالفة الأمر لازمه وجوب الحذر والتوبيخ، مع وضوح عدم لزوم الحذر ولا استحقاق التوبيخ في ترك المستحب، وكذا لزوم المشقة من الأمر لازمه الوجوب إذ لا مشقة في المستحب لجواز تركه.

وفيه: أن هذا من باب التمسك بأصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص(4)، وذلک لايصح لأن دليل حجية أصالة عدم التخصيص هو بناء العقلاء، فيما لو شك في المراد، وأما فيما لو علم المراد بخروج فرد لكن لم يعلم أنه خارج عن الموضوع أم عن الحكم فلا يجري العقلاء الأصل، لأن المهم عندهم هو فهم مراد المتكلّم، وبعد فهم مراده فلا يهمهم شيء آخر،

ص: 253


1- سورة النور، الآية: 63.
2- سورة الأعراف، الآية: 12.
3- الكافي 3: 22.
4- نهاية الأفکار 1: 161.

فلا أصل لهم حينئذٍ.

وهكذا فيما نحن فيه، فبعد علمنا بخروج الأمر الاستحبابي عن الحكم - وهو وجوب الحذر والتوبيخ والمشقة - ، بعد ذلك لا نعلم بأن سبب الخروج هل لعدم كونه أمراً أي (التخصص)، أم سببه خروجه عن الحكم بعد كونه أمراً أي (التخصيص).

القول الثاني: إن منشأ الدلالة علی الوجوب هو حكم العقل(1).

فإن المدلول الوضعي للأمر هو الطلب لا الوجوب، ولكن كل طلب يصدر من العالي ولا يقترن بالترخيص في المخالفة، يحكم العقل بلزوم امتثاله وإطاعته، وحينئذٍ ينتزع منه عنوان الوجوب.

أما إذا اقترن بالترخيص، فلا يحكم العقل بلزوم امتثاله، فينتزع منه الاستحباب، فكل من الوجوب والاستحباب شأن من شؤون حكم العقل المترتب علی طلب المولی.

وأورد عليه بأمور، منها:

أولاً: لو ورد ترخيص بالعام وأمر بالخاص، مثل: (لا يجب إكرام العلماء)، و(أكرم الفقهاء)، فالمبنی المتسالم عليه هو أن هذا الأمر يخصص ذلك الترخيص العام.

لكن علی هذا المبنی، لا تعارض أصلاً كي يجمع بتقديم الخاص الأظهر علی العام الظاهر، حيث إن الأمر يدل علی أصل الطلب وهو لا ينافي الترخيص في الترك، بل يکون هذا العام رافعاً لحكم العقل بالوجوب في

ص: 254


1- فوائد الأصول 1: 136.

الخاص، لأن حكم العقل متوقف علی عدم الترخيص، وقد وُجد هذا الترخيص.

وثانياً: لو احتملنا الترخيص المنفصل، فلا يحكم العقل حينئذٍ، إذ لا حكم له إلاّ مع القطع، ولذا قالوا: «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال»، أي الاستدلال العقلي.

القول الثالث: إن منشأ الدلالة علی الوجوب هو الانصراف.

بمعنی أن كثرة الاستعمال في الوجوب سبب انصراف الأمر إلی خصوص الوجوب، مع أنه موضوع للطلب الأعم من الوجوب والاستحباب.

وأورد عليه: بأنه لا توجد كثرة الاستعمال في الوجوب، بل تستعمل في المستحب بكثرة، حتی أن صاحب المعالم(1) مع أنه ذهب إلی وضعها للوجوب، قال: بأن الاستعمال في الندب كان شائعاً، بحيث صار الاستحباب من المجازات الراجحة التي تساوي احتمال الحقيقة حين استعمال اللفظ.

القول الرابع: إن المنشأ هو الإطلاق بمقدمات الحكمة، وبيان الإطلاق من وجوه، منها:

البيان الأول: وهو ما ذكره المحقق العراقي(2)، وحاصله: أن الأمر يدل علی الطلب، وهو إما شديد أو ضعيف، والضعيف هو الاستحبابي، وهذا فيه جهة نقص، فلا يقتضي المنع عن الترك، وحيث إنه ناقص احتاج إلی تحديد وتقييد، بخلاف الطلب الوجوبي، فإنه لا تحديد فيه حتی يحتاج إلی التقييد.

ص: 255


1- معالم الدين: 53.
2- نهاية الأفكار 1: 162.

وحينئذٍ فحيث يکون الآمر بصدد البيان، فمقتضی الإطلاق هو كون طلبه طلباً وجوبياً لا استحبابياً.

وفيه تأمل: أولاً: لأن المبنی هو بساطة الوجوب والاستحباب، فلا يکون عدم المنع عن الترك من مدلول الأمر أصلاً، وأما المدلول الالتزامي فهو لا يمكن إثباته أو نفيه بالإطلاق، إذ لا بأس بعدم التعرض للمدلول الالتزامي للمولی الذي هو في مقام البيان.

وثانياً: إن الإطلاق يختص فيما لو رأی العرف قيداً زائداً ولم يتعرض له المولی في مقام البيان، فيقال: إن حكمته تمنع من عدم التعرض له إذا كان يريده، فعدم التعرض من المولی الحكيم يكشف عن عدم الإرادة، وأما لو لم يلتفت العرف إلی قيد أصلاً - ولو ارتكازاً - فإنه يری دوران الأمر بين المتباينين، لا أنه يراه من الإطلاق والتقييد.

إن قلت: شدة الإرادة من سنخ الإرادة، بخلاف ضعفها التي تعني عدم المرتبة الشديدة من الإرادة، فصار تحديد في الاستحباب دون الوجوب.

قلت: هذا بيان دقي لا يلتفت إليه العرف، والمناط هو رؤية العرف قيداً زائداً فينفيه بالإطلاق، مضافاً إلی استلزام هذا الكلام للتركب في المستحب وهو خلف.

البيان الثاني: للمحقق العراقي أيضاً(1)، وهذا يتركب من مقطعين:

الأول: الوجوب ليس مجرد الطلب، فإن ذلك ثابت في المستحبات أيضاً، فلابد من عناية زائدة في الوجوب، وهذه العناية ليست انضمام النهي

ص: 256


1- نهاية الأفكار 1: 162.

أو المنع عن الترك إلی الطلب - إذ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده - ، وإنّما العناية هي عدم الترخيص في الترك في الوجوب، وأما في المستحب فهي الترخيص في الترك، فالوجوب طلب متميز بقيد عدمي، والاستحباب طلب متميز بقيد وجودي.

الثاني: وإذا كان شيء مشترك بين شيئين، وكان المميز لأحدهما عدمياً وللآخر وجودياً، فإنه يتعين بالإطلاق الحمل علی الأول.

وذلك لأن الأمر العدمي لا مؤونة فيه بحسب النظر العرفي، فلو كان المقصود الأمر الوجودي فعدم ذكره خلاف الظهور العرفي من حال المتكلم، وحيث لم يذكره المولی فقد دلّ ذلك علی عدم إرادته.

وفيه(1): أنه ليس كل أمر عدمي لا يلحظ عرفاً أمراً زائداً، وهنا لا يری العرف أنه دوران بين الأقل والأكثر، بل يراه من المتباينين اللذين هما في عرض واحد، ويری الكلام مجملاً إذ لم يعيّن أحدهما.

مضافاً إلی استلزام التركب لو قلنا بأن الترخيص في الترك وعدمه جزء مدلول الأمر، وإن قلنا بأن الترخيص وعدمه لازم، فقد مرّ عدم إمكان نفيه أو اثباته بالإطلاق، فتأمل.

ثمرة البحث في منشأ الدلالة على الوجوب

ثم إنه قد ذكرت ثمرات في هذا الخلاف - في أن دلالة الأمر علی الوجوب بالوضع، أم حكم العقل، أم الانصراف، أم الإطلاق -(2) منها:

ص: 257


1- بحوث في علم الأصول 2: 22.
2- بحوث في علم الأصول 2: 24-27.

الثمرة الأولی: جريان قواعد الجمع الدلالي والعرفي علی مسلك الوضع والإطلاق، إذ تكون الدلالة في الدليلين لفظية، وأما علی مسلك حكم العقل فلا تجري تلك القواعد، وإنّما يکون دليل الترخيص وارداً علی حكم العقل بالوجوب ورافعاً لموضوعه، كما مرّ تفصيل بيانه في الإشكال علی هذا المبنی.

الثمرة الثانية: ثبوت دلالة السياق علی مسلك الوضع، وسقوطه علی مسلك الإطلاق وحكم العقل، وذلك فيما لو وردت أوامر متعددة في سياق واحد وعرفنا من الخارج استحباب بعضها.

1- فعلی الوضع: يختل ظهور الباقي في الوجوب، لاستلزامه تغاير مدلولات تلك الأوامر، مع أن وحدة السياق يوجب ظهوراً في إرادة المعنی الواحد.

2- وعلی حكم العقل: فإن جميع الأوامر مستعملة في معنی واحد، وهو الطلب، وأما الوجوب فهو حكم عقلي خارج عن مدلول اللفظ وهو متوقف علی مقدمة أخری، وهي عدم الترخيص، وتماميتها لا يُخِلّ بالسياق.

3- وعلی الإطلاق: الأوامر مستعملة بمعنی واحد - هو الطلب - ، لكن أريد من بعضها المقيد بدالٍ آخر فلم تختل وحدة السياق.

ويرد علی الأول: أن ظهور الوضع أقوی من ظهور السياق، فلذا دأب الفقهاء علی حمل كل تلك الأوامر علی الوجوب، واستثناء ما قام الدليل علی استحبابه، مع ذهاب أكثرهم إلی أن الدلالة علی الوجوب وضعية.

وعلی الثاني والثالث: أن الملاك في وحدة السياق هو الإرادة الجدّية لا الاستعمالية. اللهم إلاّ أن يقال بأن الظاهر هو تطابقهما معاً، فتأمل.

ص: 258

الثمرة الثالثة: لو أمر بشيئين بأمر واحد وثبت من الخارج عدم وجوب أحدهما، كما لو قال: (اغتسل للجنابة والجمعة).

أ) فعلی الوضع: لا يمكن إثبات وجوب الآخر بنفس هذا الأمر، لاستلزامه استعمال لفظ الأمر في أكثر من معنی.

ب) وعلی حكم العقل: إن الأمر مستعمل بمعنی واحد، وإنّما الوجوب من شيء آخر وهو الترخيص الثابت لأحدهما دون الآخر.

ج) وعلی الإطلاق: فإن الأمر ينحلّ إلی حصتين، وتقييد إطلاق أحدهما لا يستوجب تقييد إطلاق الآخر.

ويرد علی الأول: أن لفظ (اغتسل) مستعمل في الوجوب في كليهما، لكن لا يراد هذا الوجوب بالإرادة الجدّية في الجمعة، فلذا لا نجد مجازية في هذه الجملة - إذ الحقيقة والمجاز يرتبطان بالإرادة الاستعمالية دون الإرادة الجدّية - كما قالوا مثل ذلك في العام المخصص.

هذا مضافاً إلی الإشكال مبنیً بجواز الاستعمال في الأكثر - كما مرّ - ، وإلی أن العطف في قوة التكرار فالأمر الظاهر يدل علی الوجوب والمقدر يدل علی الاستحباب في المثال.

وعلی الثاني والثالث: ما مرّ من اختلال وحدة السياق، والتي كان الملاك فيها الإرادة الجدّية، مع عدم وجود ظهور وضعي أقوی منها.

الثمرة الرابعة: لو ورد عام وعلمنا بقرينة خارجية عدم وجوبه في الخاص، فهل يمكن إثبات الاستحباب فيه، كما لو قال: (أكرم العالم) وعلمنا بعدم وجوب إكرام غير الفقيه.

أ) فعلی الوضع: لا يمكن، لأن معنی الأمر الوجوب، وخروج الخاص

ص: 259

عن هذا المعنی أعم من إثبات الاستحباب أو غيره.

ب) وعلی حكم العقل: الأمر مستعمل في الطلب علی كل حال، والترخيص ثبت في حصة فيکون الاستحباب، ولم يثبت في أخری فيکون الوجوب.

ج) وعلی الإطلاق: لا وجه لرفع اليد عن أصل الطلب في غير الفقهاء في المثال، لأن الأمر دال علی الطلب ووجود القيد أخرجه عن الوجوب ولم يخرجه عن أصل الطلب.

وهناك ثمرات أخری مذكورة، فيها تأمل أيضاً.

المطلب الرابع: في الطلب والإرادة

اشارة

1- قد يکون البحث لغوياً، لمعرفة مفهوم الكلمتين، وأنه واحد أم متعدد، فهذا لا يرتبط بالأصول، والظاهر هو أن (الإرادة) تكون نفسية، و(الطلب) فعلاً خارجياً - سواء كان لفظاً أم لا - .

كما أن الظاهر أن كلمة (الطلب) لم تستعمل في الآيات والروايات في الله تعالی، وفسّرت الروايات (الإرادة) فيه تعالی بالإيجاد، فهي من صفات الفعل وليست ذاتية.

2- وقد يکون البحث أصولياً، بأن يقال: إن المادة أو الصيغة كاشفة عن الواقع، فهل ذلك الواقع شيء واحد هو الطلب والإرادة، وحينئذٍ فبمادة الأمر أو صيغته نحرز إرادة المولی، فيترتب عليهما ما يترتب علی إحراز إرادته.

أم أن ذلك الواقع هو الطلب دون الإرادة، فلا يترتب عليها ما يترتب علی إحراز إرادة المولی(1).

ص: 260


1- منتقی الأصول 1: 382؛ نهاية الدراية 1: 361.

3- وقد يکون بحثاً عقلياً، وأنه عند أمر المولی هل هناك شيئان أحدهما طلب والآخر إرادة، أم لا يکون إلاّ شيء واحد.

ثم لا يخفی أنهم بحثوا في مقامين:

الأول: في اتحاد وعدم اتحاد الطلب والإرادة.

الثاني: في الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين، وإنّما انجرّ البحث إلی هذا الأمر، لأن أحد استدلالات الأشاعرة علی عدم اتحاد الطلب والإرادة مبتنٍ علی مسألة الجبر، كما سيأتي توضيحه.

المقام الأول: في تغاير الطلب والإرادة
اشارة

وهنا أمور:

الأمر الأول: في عدم كون النزاع لفظياً

ادّعی صاحب الكفاية(1) أن النزاع بين الطرفين قد يکون لفظياً.

ولكن هذه الدعوی تخالف استدلالات الطرفين والنقض والابرام فيها، وذلك...

1- لأنّ القائلين بالاتحاد، استدلوا بأنا نجد في أنفسنا عند الأمر بالشيء العلم بالمصلحة والإرادة والحب أو البغض، ولا نجد شيئاً آخر قائماً بالنفس يسمی الطلب.

2- ولأن القائلين بالمغايرة ادعوا فروق ثلاثة بين الطلب والإرادة من الله تعالی، وهي فروق باطلة وفاسدة، کما سيأتي، إلاّ أن ذلک يکشف عن عدم کون النزاع لفظياً، وتلک الفروق هي:

ص: 261


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 282.

الأول: إن الطلب يتعلق بالمحال، والإرادة لا تتعلق إلاّ بالممكن. ومثّل الأشاعرة لذلك بتكليف الكفار بالإيمان، والعصاة بالعمل، مع زعمهم امتناع صدورهما منهم بعد علمه سبحانه بعدم تحققهما، فزعموا استحالةتعلق إرادته بالإيمان والعمل المستحيل منهم، وكما في موارد الأمر بما يعلم انتفاء شرط تحققه.

الثاني: إن الطلب يمكن تخلّفه عن المراد، والإرادة يستحيل تخلفها عن المراد، فزعموا أن الله تعالی لو کان يريد من الكفار الإيمان ومن العصاة العمل لتحقق مراده، لأنه تعالی إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيکون، فعلی الاتحاد يلزم عدم تحقق العصيان من العباد لعدم جواز تخلف إرادته عن المراد، فخلطوا بين الإرادة التکوينية والتشريعيّة، کما زعموا أن المراد في التشريعية هو صدور العمل من العبد.

الثالث: زعموا أن طلبه تابع لمصلحة في نفس الطلب، فيکون موضوعاً لحكم العقل بوجوب الاطاعة، أما إرادته فزعموا أنها لا تتبع لمصلحة في نفسها ولا تكون موضوعاً لحكم العقل بوجوب الطاعة، ولذا أنكروا التحسين والتقبيح العقليين، وجوزوا الأمر بالشيء مع خلوه عن المصلحة.

والحاصل: إنهم للفرار من هذه الإشكالات وغيرها، التزموا بالمغايرة بين الطلب والإرادة، فالتزموا بأن الطلب وما يحكی عنه - أي الأمر - يقبل هذه اللوازم، دون الإرادة.

الأمر الثاني: من أدلة القائلين بالتغاير

الدليل الأول: ما استدل به الأشاعرة، علی أن الله تعالی يوصف بالتكلّم، كما يوصف بالعلم والقدرة، وصفاته تعالی قديمة، فيکون كلامه قديماً.

ص: 262

وحيث يمتنع أن يراد الكلام اللفظي، لوضوح حدوثه وتصرّمه، فلابد من أن يکون كلامه شيئاً آخر في نفسه تعالی، وهو الكلام النفسي، ويکون الكلام اللفظي كاشفاً عن ذلك الكلام النفسي، فالطلب يكشف عن الكلام النفسي، وهو غير الإرادة، لأنه سبحانه يوصف بكليهما فيقال إنه متكلّم وإنه مريد، وذلك يقتضي المغايرة.

والجواب: أن التكلم ليس من صفات الذات، بل هو من صفات الفعل، فينطبق علی الكلام اللفظي، من غير حاجة إلی اختلاق كلام نفسي، وهذا الكلام اللفظي هو طلبه تعالی، كما أن إرادته هي فعله - كما دلت عليه الروايات المستفيضة الصحيحة(1) - ، فتكون أوامره اللفظية طلباً وإرادة، بمعنی أنه لا يوجد شيئان أحدهما طلبه والآخر إرادته، بل نفس إيجاده لهذه الألفاظ هو إرادته وطلبه.

الدليل الثاني: للأشاعرة أيضاً، بأن إرادته لا تنفك عن المراد، ففي أمر الكفار بالإيمان والعصاة بالعمل لا يکون هناك إرادة وإلاّ لآمنوا جميعاً وعملوا بالصالحات قهراً، فعصيانهم وعدم إيمانهم يكشف عن عدم إرادته، مع أنه طلب منهم وأمرهم.

والجواب: أنه هو خلط بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية، ومتعلق الإرادتين مختلف، ففي التكوينية إرادته في تحقق الوجود، فلا محالة يتحقق الوجود، ولا شيء يُعجز الله تعالی عن ذلک، وفي التشريعية ليس المتعلق هو الوجود بل المتعلق هو التشريع ولذا لا محالة يصدر الحكم

ص: 263


1- راجع شرح أصول الکافي، للمؤلف 2: 220-230.

ويتحقق التشريع بمجرد إرادته تعالی، فالمؤمنون المطيعون والكفار والعصاة أراد الله تشريع الحكم لهم وقد تحققت إرادته بالتشريع، كما أراد تكويناً أن يکونوا مختارين فتحققت إرادته في اختيارهم وعدم إكراههم.

والحاصل: إن معنی (أراد منا الإيمان) هو أراد تشريع الحكم علينا، فلم تتخلف الإرادة عن المراد.

الدليل الثالث: لهم أيضاً، بأنّه في الأوامر الامتحانية يوجد طلب ولا توجد إرادة.

والجواب(1) إن الأوامر الامتحانية علی قسمين:

الأول: ما لا يکون في متعلقه مصلحة بوجه من الوجوه، لا بعنوانه الأوليّ ولا بعنوانه الثانوي، كما لو كان الأمر بالإيجاد لمحض امتحان العبد، وفهم أنه بصدد الطاعة والامتثال أم لا.

والثاني: ما يکون في متعلقه مصلحة بالعنوان الثانوي - وإن لم تكن فيه مصلحة بالعنوان الأولي بل قد تكون فيه المفسدة - كما لو أمره بطبخ طعام في الظهر ليتغدی به، وغرضه هو أن يری كيفية طبخه حتی يأمره بالطبخ لضيوفه.

فنقول: إن الثاني لا ينفك عن إرادة العمل، بل تعلقت الإرادة الحقيقية من المولی بإيجاد العمل من المأمور، وأنه يستحق العقوبة علی المخالفة فيما لو خالف.

وأما الأول: فليس هنالك إرادة حقيقية، ولكنا نمنع كونه طلباً وأمراً

ص: 264


1- نهاية الأفكار 1: 172.

حقيقياً، بل هو طلب وأمر صوري، وعليه فلا يکون موضوعاً لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال، ولذلك يحاول المولی أن لا يطّلع العبد بواقع قصده وأن أمره لمحض امتحانه.

ومن المعلوم أن غرض المولی من هذا البعث - وهو الامتحان - يتحقق علی محض تخيّل العبد كونه أمراً حقيقياً ناشئاً عن إرادة جديّه متعلقة بالعمل وإن لم يكن كذلك بحسب الواقع.

إن قلت: فكيف يصح للمولی معاقبته علی المخالفة.

قلت: ذلك لتجريه، لأن التجري حرام ويستحق فاعله العقوبة، كما هو الأصح.

ثم إنه قد استدل آخرون علی تغاير الطلب والإرادة - وإن لم تنفع الأشعري في مبتغاه - ، منها:

الدليل الرابع: ما استدل به المحقق النائيني(1)، بأن هناك واسطة بين الإرادة وبين العمل، وبيانه بثلاثة مقدمات:

1- إن العقلاء يفرقون بين حركة المرتعش، والحركة الصادرة عن غير المرتعش بفعله، فيسندون الثانية إلی الشخص ويلومونه ويعاقبونه أو يثيبونه عليها، دون الأولی.

2- إن منشأ حركة المرتعش هو المرض وهو أمر غير اختياري، كما أن منشأ فعل الإنسان هو الإرادة وهي أمر غير اختياري، فكلّما حصل المرض أو حصلت الإرادة حصل الارتعاش أو الفعل، لأنهما علّة، والفعل معلول،

ص: 265


1- فوائد الأصول 1: 131؛ أجود التقريرات 1: 89.

ويستحيل انفكاك العلة عن المعلول، هذا إذا لم نقل بأن هناك واسطة بين الإرادة وبين الفعل.

3- فلابد أن يکون سبب الفرق هو وجود صفة أخری بين الإرادة والفعل، يستطيع بها الشخص من الفعل وعدمه، بحيث إنه بعد الإرادة له أن يفعل وله أن لا يفعل، وهذه الصفة هي تصدي النفس نحو المطلوب وبتعبير آخر حملة النفس، وهذه هي مناط الاختيار، وهي الفارقة بين حركة المرتعش وغيره.

فثبت وجود صفة أخری غير الإرادة وهي المعبر عنها بالطلب!

ثم إنه ردّ علی من ادعی الاتحاد قائلاً: إن من ذهب إلی الاتحاد لم يزد علی إدعاء الوجدان، ثم استدل علی التغاير بأمور ثلاثة:

الأول: أنا بالوجدان نری شيئاً آخر، هو صفة قائمة بالنفس وراء الإرادة تسمی الطلب.

الثاني: إنّ الانبعاث لا يکون إلاّ بالبعث، والبعث من مقولة الفعل، وأما الإرادة فهي من الكيفيات النفسانية، فلو لم يكن هناك فعل نفساني يقتضي الانبعاث لزم أن يکون انبعاث بلا بعث.

الثالث: يلزم من الاتحاد كونه تعالی مقهوراً، إذ إرادته عين ذاته فهي غير اختيارية له، وكونه مقهوراً بديهي البطلان.

و يرد عليه: أولاً: علی المقدمة الثانية بأن كثيراً من مقدمات الإرادة ليست اختيارية، أما الشوق المؤكد المعبر عنه بتحريك العضلات فهو اختياري، وعلته النفس بالذات، وليس لهذا التوجه علّة، وإلاّ لزم الجبر أو

ص: 266

التسلسل، وإلی هذا يرجع مقوله: اختيارية كل شيء بالإرادة، واختيارية الإرادة بالذات.

وثانياً: علی المقدمة الثالثة بأن الإرادة هي علة الفعل، وهي علة مبقية، كما أنها علة محدثة، فمع إرادة الفعل تتحرك العضلات نحوه، لكن يمكن إيقاف هذه الحركة بإزالة الإرادة.

وثالثاً: ليس المقصود من الإرادة الملكة، كي يقال بأنها هبة منه تعالی وهي غير اختيارية، بل معنی الإرادة هو القصد إلی الفعل، وهذا من مقولة الفعل، كما أن الطلب من مقولة الفعل فلا محذور من القول باتحادهما، وهذا إشكال علی الدليل الثاني.

ورابعاً: إرادته تعالی من صفات الفعل، فليست عين ذاته - كما دلت عليه الروايات المعتبرة - فلا يرد إشكال المقهورية أصلاً، وهذا إشكال علی الدليل الثالث.

الدليل الخامس: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1)، فقد التزم بإمكان صفة أخری غير الإرادة، لكنها مما لا تنفع الأشاعرة، فلا تثبت الكلام النفسي.

وحاصله: أن الكلام النفسي مردد بين ما قام البرهان علی عدم إمكانه، وبين ما ليس مدلولاً للكلام اللفظي مع إمكانه في نفسه.

أ) إذ الكلام النفسي لو كان من سنخ الماهية، فهو علی احتمالين:

الأول: قيام هذه الماهية بالنفس، كسائر الصفات النفسية، فيکون من الكيفيات النفسانية.

ص: 267


1- نهاية الدراية 1: 263-266.

وفيه: أن البرهان دل علی حصر الكيفيات النفسية، وليس الكلام النفسي أحدها.

الثاني: قيام هذه الماهية بالنفس قياماً بصورته العلمية.

وفيه: أنه داخل في مقولة العلم، لا أنه شيء آخر قبال العلم.

ب) وإن كان الكلام النفسي من سنخ الوجود، فهو معقول، لكنه لا يمكن أن يکون مدلولاً للكلام اللفظي، فليس الطلب في قباله.

أما معقوليته: فلأنّه ليس من صفات النفس، بل من أفعال النفس ومخلوقاتها، فإن للنفس القابلية في إيجاد الصور، ثم حمل إحداها علی الأخری، والحكم بأن هذا ذاك، والتصديق والجزم به، ومنه: الأحاديث النفسانية.

بل نسبة النفس إلی معلولاتها نسبة الخلق والإيجاد مطلقاً، كما قيل:(كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانية فهو مخلوق لكم مردود إليكم).

وأما عدم إمكان كونه مدلولاً للكلام اللفظي: فلأنّ الدلالة ليست إلاّ بمعنی كون اللفظ واسطة للانتقال من سماعه إلی المدلول، وهذا هو شأن المهية، أما الوجود الحقيقي فلا ينتقل باللفظ.

وأورد عليه في المنتقی(1): بأن استعمال اللفظ وإرادة الوجود الخارجي منه كثير، كالأعلام، وكاستعمال اللفظ الكلي وإرادة فرد معين منه، والمصحح له: هو أن الموضوع له ومدلول اللفظ هو نفس المهية الكلية أو الجزئية، وإرادة الفرد المعين والوجود المتميز إنّما هو بالتطبيق.

ص: 268


1- منتقی الأصول 1: 384.

وهنا يمكن فرض الكلام اللفظي دالاً علی نفس المفهوم وذاته، لا بما أنه موجود، وإرادة ما هو موجود في النفس منه من باب التطبيق، لا الاستعمال والكشف والحكاية.

ويمكن الجواب بطريقة أخری، وهو أنه يمكن أن يکون اللفظ موضوعاً للوجود الخارجي لا لمهيته، وهذا أمر وجداني في الأعلام، ويکون إحضار هذا المعنی إلی الذهن بوجهه وعنوانه لا بذاته، وهذا المقدار يکفي في تصحيح وضع اللفظ للوجودات الخارجية أو الذهنية، فلا يرد إشكال استحالة تبدل وجود الشيء من عالم الخارج إلی الذهن، ولا إشكال تحصيل الحاصل في الوجودات الذهنية، وقد مرّ بعض الكلام فيه في المعنی الحرفي، فراجع.

وفي الأصول(1) أشكل السيد الوالد علی المحقق الإصفهاني بأمرين:

الأول: عدم تسليم الحصر وهذا إشكال مبنائي.

والثاني: إمكان الالتزام بأن الكلام النفسي من سنخ الوجود، ويکون الانتقال إليه بالوجه، وهذا ليس صفة العلم بل صفة أخری.

والحاصل: إنه حتی لو ثبتت صفة أخری في النفس فلا تكون مدلولة للطلب، بل تكون الألفاظ إخبار عنها، فتأمل.

الأمر الثالث: هل المصلحة هي في الطلب أم في متعلقه؟

حيث أثبتنا اتحاد الطلب والإرادة، وأنه لابد فيه من المصلحة، فهل المصلحة في نفس الطلب، أم لابد من كونها في متعلّق الطلب؟

ص: 269


1- الأصول 1: 181.

وتظهر فائدة البحث في مسألة الملازمة(1) ...

1- فعلی كون المصلحة في نفس الطلب لا في المتعلق، يسقط هذا البحث رأساً، إذ بمجرد إدراك العقل حسن شيء أو قبحه لا يمكننا كشف حكم الشارع فيه، وكذا العكس فبمجرد حكم الشارع لا يمكن الكشف عن الحسن والقبح.

2- وأما علی كون المصلحة في المتعلق، فمع حكم الشارع، يتم كشف الحسن والقبح فيحكم العقل أيضاً، وليس كذلك العكس، إذ مع حكم العقل - فيما لو أدرك حسن شيء أو قبحه - لا يمكن العلم بحكم الشرع، لأن مجرد وجود المصلحة في المتعلق لا يکون علة لحكمه، لاحتمال وجود المانع أو المزاحم، نعم يثبت المقتضي.

إن قلت: قد يکون حكم الشارع امتحانياً، فكيف يتم كشف الحسن أو القبح كي يحكم العقل؟ وكيف يحكم بالمصلحة في المتعلق؟

قلت: أولاً: قد مرّ أن الأوامر الامتحانية لابد فيها من مصلحة في المتعلق، وإلاّ كانت صورة أمر.

وثانياً: يمكن القول بأن نفس الامتحان متعلق الطلب، إمّا لاتحاد ذلك المتعلق والامتحان، وإما لانتزاع الامتحان من المتعلّق.

إن قلت: كيف يکون الامتحان متعلقاً للطلب والحال أنه متأخر عنه، إذ لولا الطلب لما كان امتحان؟

قلت: الامتحان علة غائية، فهي متقدمة في التصور لكنها متأخرة عن

ص: 270


1- نهاية الأفكار 1: 173.

العمل، ويکفي لتعلق الطلب به تقدم التصور، فتأمل.

أما الثاني: وهو كون المصلحة في المتعلق لا في نفس الطلب فيدل عليه:

أولاً: الوجدان، إذ كشف كون الصفات النفسية ذات الإضافة عِلةً لشيء إنّما هو بالوجدان، وهو الحاكم بأن الحب والبغض لا يتحقق إلاّ باعتبار خصوصية في المتعلق - اما واقعاً أو توهماً - ، كما أن كشف العليّة في الأمور الخارجية إنّما هو بتكرار الملازمة خارجاً، إلی حد القطع بكون أحدهما علة للآخر.

وثانياً: البرهان، إذ لو كانت المصلحة في الطلب نفسه لزم الترجيح بلا مرجح في الأمرين المتساويين في جميع الخصوصيات، بل في أمر واحد، بأنه لماذا صار ذلك الشيء محبوباً لا مبغوضاً.

إن قلت: المصلحة في نفس الطلب.

قلت: بعد تحقق كلّي المصلحة في تعلق الطلب بأحد الفردين، أو تعلق الأمر بفرد واحد دون النهي أو العكس يکون ترجيح أحدهما علی الآخر ترجيحاً بلا مرجح.

اللهم إلاّ أن يقال: إنه مع وجود المصلحة في الكلي أو في النوع لا قبح ولا استحالة في اختيار أحدهما باعتباره أحد مصاديق الكلي، وذلك كرغيفي الجائع وطريقي الهارب، فتأمل.

وأما الأول: وهو كون المصلحة في الطلب نفسه فقد أستدل له: بوقوعه في بعض المسائل الفقهية، والوقوع أدلّ دليل علی الإمکان.

ص: 271

1- منها: ما لو قصد الإقامة عشرة أيام، فعليه أن يصلي الرباعية تماماً، ثم بعد صلاة رباعية واحدة يجب عليه الاستمرار بالتمام وكذا الصيام، حتی لو عدل عن الإقامة وانصرف عنها.

فهنا لم تترتب التمام ولا الصيام علی الإقامة عشرة أيام خارجاً، ولا علی الأمرين معاً - الإقامة خارجاً مع قصدها - ، بل ترتبا علی مجرد القصد فوجبت الصلاة تماماً في أول صلاة رباعية وبعدها وجب الاستمرار والصيام حتی مع العدول.

وعليه: فقد ترتب الحكم علی مجرد إرادة الإقامة، لا علی المصلحة في المتعلّق، فليكن في غيره كذلك، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

والجواب: أولاً: إن القائل قد خلط بين قصد العبد وبين إرادة المولی، والکلام إنّما هو في أنه هل يمكن أن يطلب المولی - والطلب متحد مع الإرادة - أمراً لا لمصلحة في متعلقه بل لمصلحة في نفس الطلب أم لا؟ وأمّا المثال فهو في تعلق قصد العبد بالإقامة، فنقول إن طلب المولی إنّما هو لمصلحة في المتعلق، وذلك المتعلق هو العمل الذي انضم إلی قصد العبد.

وبعبارة أخری: القصد قد يوجب مصلحة أو مفسدة في العمل الخارجي، نظير القيام الذي هو بقصد التعظيم أو الذي هو بقصد الإهانة، فمع أن العمل الخارجي هو بصورة واحدة لكن ذلك القصد أوجب مصلحة أو مفسدة فيه. وكذا هنا قصد الإقامة أوجب مصلحة في نفس التمام والصيام، وبعد صلاة رباعية فإن العدول لا يوجب زوال تلك المصلحة، وذلك لأن القصد يکون علة محدثة لا مبقية، نعم ما دامه لم يصل رباعية فهو علة محدثة ومبقية.

ص: 272

والحاصل: إن المصلحة ليست في إرادة المولی ليرجع إلی المصلحة في نفس الطلب بل المصلحة في المتعلّق، ولكن المصلحة في المتعلّق نشأت من قصد العبد.

وثانياً: ما ذكره المحقق العراقي(1): من أن وجوب التمام والصيام إنّما هو علی نفس الإقامة الخارجية، غايته لا علی وجودها المنحفظ بقول مطلق، بل علی وجودها المنحفظ من ناحية القصد المزبور، فهو الذي كان موضوعاً لحكم الشرع بوجوب الصوم والتمام، وذلك لتحقق ما هو الموضوع للحكم المزبور.

ولعلّ مراده أنه لو قصد الإقامة عشرة أيام، فلها فردان، أحدهما: الفرد الحقيقي، وهو البقاء عشرة أيام كاملة، والثاني: فرد ادعائي، وهو ما لو قصد العشرة وصلی رباعية ثم عدل، فإن هذه الفترة القصيرة تعتبر شرعاً عشرة أيام ادعاءً، فلذا يترتب عليها أحكامها من التمام والصيام.

فلا يرد علی المحقق العراقي الإشکال بأن مقصوده إن كان وجود المصلحة في المركب الانضمامي - أي الإقامة المقيدة بالقصد - فهذا يخالف ما عليه الفقهاء من عدم اشتراط استمرار الإقامة.

وإن كان مقصوده سد باب (عدم الإقامة من جهة عدم القصد) حتی لو فرض انفتاح باب آخر لعدم الإقامة - كالخروج جبراً - فكأنّ هذا حفظ لمرتبة من مراتب وجود الإقامة، فهذا عبارة أخری عن القصد، لأن سدّ عدم الشيء بعدم إحدی مقدماته ليس إلاّ عبارة أخری عن إيجاد تلك المقدمة.

ص: 273


1- نهاية الأفكار 1: 174.

ثم إنه قد يتوهم أن الإشكال إنّما هو في من لا يريد الإقامة عشرة أيام لكنه يقصدها لتصحيح صومه وصلاته ثم بعد رباعية يعدل عنها! وحيث إنه توهم هكذا أشكل عليه بعدم إمكان تحقق القصد حينئذٍ.

مع أن المثال إنّما هو في القاصد حقيقة، ثم بعد صلاة رباعية يبدو له فيغير القصد أو يضطر إليه.

2- ومنها: لو وُقِف حوض لوضوء من ينوي الصلاة في مسجد معيّن، فلو قصد الصلاة في ذلك المسجد، فتوضأ، ثم حصل له البداء، فالوضوء صحيح، مع أن المصلحة إنّما كانت في القصد.

ولا يخفی أن هذا المثال أكثر إشكالاً من السابق، وذلك لوجود شيء من الخارج هناك ناقصاً وهو البقاء لمدة يوم مثلاً فيمکن تنزيله منزلة التام، وأما في هذا المثال فلا يوجد شيء ولو کان ناقصاً من العمل الخارجي أي من الصلاة.

فلابد من الجواب بأن ارتكاز الواقف يشمل هذا الشخص الذي توضأ بنية الصلاة في ذلك المكان لكنه طرأ طارئ منعه عن ذلك. أو يقال: إن قصده كذلك أوجب مصلحة في ذلك الوضوء فطلبه المولی لتحقق المصلحة في متعلق هذا الطلب.

الأمر الرابع: أنحاء المانعية

ثم إن كون المصلحة في المتعلّق لايُراد به العِليّة، بل المعنی كون تلك المصلحة تقتضي تعلّق الإرادة بذلك الشيء بحيث تؤثر لولا وجود المانع أو المزاحم(1).

ص: 274


1- نهاية الأفكار 1: 175.

ثم إن المانعية علی نحوين:

النحو الأول: في أصل تأثير المصلحة في الإرادة الفعلية، أو في مباديها من الرجحان والمحبوبية.

سواء كان المانع من العبد، كما لو حصل تزاحم بين تكليفين مع عدم قدرة العبد علی الجمع بينهما، أم كان من جهة المولی، كما لو لاحظ مصلحة أهم تزاحم مصلحة العمل، كمصلحة التسهيل، فقد يکون في شيء في نفسه مصلحة ملزمة للتكليف، لكن لتزاحمه مع مصلحة التسهيل التي هي أهم لا يأمر به المولی.

وحينئذٍ فلا إشكال في عدم الوجوب، وذلك لانتفاء سببه.

ويترتب علی هذا إنكار الملازمة، لأن مجرد إدراك العقل حسن الشيء أو قبحه، لا يوجب كشف حكم الشرع علی طبقه، من جهة احتمال مزاحمة تلك المصلحة بمصلحة أخری أهم في نظر الشارع، ولو فرض أنها مصلحة التسهيل.

اللهم إلاّ أن يُدّعی بناء العقلاء - وليس حكم العقل - علی أنهم لو أحرزوا المقتضي فإنهم يجرون علی طبقه من دون الاعتناء باحتمال وجود المانع أو المزاحم، حتی لو لم يكن أصل يقتضي عدم المانع أو المزاحم، فتأمل(1).

النحو الثاني: في تأثير المانع في مقام إبراز المولی، لا في نفس المصلحة، وهذا فيما لو لم يتمكن المولی من إظهار طلبه، تقية مثلاً.

ص: 275


1- نهاية الأفكار 1: 176.

وحيث علم بالملاك - وهي المصلحة الملزمة من غير مانع أو مزاحم - وجب العمل علی طبقه، وذلك لاستقلال العقل بلزوم الاتيان وعدم جواز الترك، كما لو غرق ابن المولی حيث يجب علی العبد إنقاذه لوجود الملاك حتی لو منع مانع عن أمر المولی إياه.

المقام الثاني: في نفي الجبر

ذهبت المعتزلة إلی التفويض، والأشاعرة إلی الجبر، والشيعة إلی الأمر بين الأمرين، والبحث في جهتين.

الجهة الأولی: الكلام إنما هو في معرفة فاعل الأفعال الصادرة عن الإنسان، هل هو نفسه استقلالاً، أو الله تعالی، أم لكل من الإنسان والله نصيب؟

1- التفويض: وهو أن الفاعل هو الإنسان محضاً، بلا مدخلية للربّ تعالی في تلك الأفعال.

ويرده: أن معنی هذا هو عدم حاجة المعلول إلی العلة، وهو باطل بالضرورة، فإن الإنسان يحتاج إلی إفاضة الوجود من الباري تعالی بشكل مستمر في وجوده وفي صفاته الدخيلة في أعماله، ومن المعلوم أن وجود الإنسان - بنفسه وبصفاته - علّة في أفعاله.

2- الجبر: وهو أن الفاعل هو الله تعالی محضاً، والإنسان هو المحلّ القابل لذلك العمل، ثم اصطلحوا لأعمال الإنسان ب-(الكسب) ومقصودهم هو أن الله يخلق أعمال الإنسان كلّما أرادها الإنسان، فيکون اقتران إرادة الإنسان مع خلق الله للعمل من باب الصدفة الدائمة.

ص: 276

ويرده: الفرق بالضرورة بين حركة المرتعش وحركة الأصابع الاختيارية، وهذا ما نجده وجداناً، مضافاً إلی قبح العقاب لو لم يكن العمل من الإنسان، وأيضاً فإن إرادة الإنسان هي من أعماله، فعلی مبناهم لابد من كونها فعل الله تعالی، فينتج أنه تعالی يخلق الإرادة فهل بإرادة أخری من الإنسان وهكذا... فيتسلسل، أم لا فلا يوجد كسب حينئذٍ.

3- الأمر بين الأمرين: بمعنی أن الإنسان هو الفاعل المباشر لفعله ولكن بما أفاض الله تعالی عليه - فيضاً مستمراً - الوجود والقدرة... الخ.

وهذا ما يدل عليه البديهة والوجدان، فالإنسان يطيع أو يعصي بواسطة هذه الأمور التي يفيضها الله تعالی عليه آناً فآناً.

الجهة الثانية: بعد إثبات كون الفاعل هو الإنسان - بطريقة الأمر بين الأمرين - لابد من إثبات كونه مختاراً في فعله، فقد يکون هناك فاعل بالاضطرار كالنار التي يصدر منها الإحراق بلا اختيار.

وهنا شبهة معروفة، لها مقدمتان:

1- أفعال الإنسان ممكنة، والممكن لا يتحقق ما لم يجب، ولذا قالوا (الشيء ما لم يجب لم يوجد)، فلابد من أن يکون صدور الفعل من الإنسان بالضرورة.

2- والضرورة تنافي الاختيار، لأنها تساوق الاضطرار.

وأجيب بأمور، منها:

أولاً: الإشكال علی المقدمة الثانية، وذلك بادعاء أن الضرورة لا تنافي الاختيار، وذلك عبر تفسير الاختيار بأنه (إن أراد فعل، وإن لم يرد لم

ص: 277

يفعل)، ومن المعلوم أن القضية الشرطية صادقة حتی لو لم يتحقق طرفيها أو اضطر إليهما، إذن تصدق هذه القضية الشرطية - التي هي الاختيار - حتی مع الاضطرار إلی الإرادة وإلی الفعل!!

وفيه: أن تفسير الاختيار بهذه القضية الشرطية حتی مع الاضطرار إلی طرفيها، محلّ تأمل واضح، لأنه ليس هذا معناه لا في اللغة ولا في العرف، كما أنه لا يحلّ مشكلة العقاب، فإذا كانت المعصية ناشئة عن الإرادة بالضرورة، والإرادة ناشئة عن مقدماتها بالضرورة، وهكذا إلی أن ينتهي الأمر إلی إرادة الرب تعالی، فتكون هذه المعصية كحركة المرتعش يقبح العقاب عليها.

وثانياً: بالإشکال علی المقدمة الأولی، بأن (الشيء ما لم يجب لم يوجد) ليس بكلي، وذلك بإنكار قانون العلية، والالتزام بأن الشيء يخرج عن الإمكان إلی الوجود بلا حاجة إلی توسيط الضرورة.

وفيه: أن هذا إثبات للصدفة، وليس إثبات للاختيار - حيث إن الصدفة غير الاختيار - ، فلو فرض محالاً غليان الماء بلا علة، فهذا معناه تحقق الغليان صدفة وليس معناه أن الغليان كان اختيارياً للماء(1).

وثالثاً: النقاش في المقدمة الثانية (الضرورة تنافي الاختيار)، وذلك بأن يقال إن الضرورة الناشئة عن الاختيار لا تخرج العمل عن كونه اختيارياً، فإن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار.

بيانه: أن الاختيار هو صفة نفسانية، تتحقق بجعل هذه الصفة من الله تعالی

ص: 278


1- راجع بحوث في علم الأصول 1: 32.

في الإنسان، وهذه الصفة تجعل الأفعال تحت سيطرة الإنسان بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك، فإذا شاء الفعل مع عدم وجود الموانع تحققت العلة التامة للفعل، فيتحقق الفعل بالضرورة، وهذه الضرورة لا تنافي اختيارية الفعل من الأساس، وإن لم يشأ لم يتحقق الشيء بالضرورة لعدم تحقق علته.

ثم إن قولنا (له أن يفعل وله أن يترك) هو ذاتي لهذه الملكة، فلا تسلسل ولا جبر.

نعم الحكمة تقتضي أن تكون هذه الأعمال لمصلحة، ولو المصلحة في الكلي كرغيفي الجائع وطريقي الهارب، وبدون المصلحة تکون لغواً أو قبيحاً أو خطأ، لا محالاً.

فمن يستعمل هذه الصفة - عن طريق إعمال الاختيار - في المعصية، فقد ارتكب قبيحاً لا محالاً، وبهذا يتبين أن المصلحة أو المفسدة أو العلم بهما ليس العلة للأفعال ولا جزء علة، نعم قد تكون الداعي لإعمال هذه الصفة التي هي الاختيار.

وبذلك يتبين الإشكال علی رفع اليد عن إطلاق قوانين (العِليّة) في الأفعال الاختيارية، وعلی رفع اليد عن قاعدة (الشيء ما لم يجب لم يوجد).

وذلك لأنه لا يعقل وجود الممكن بلا علة، كما لا يعقل عدم وجوده مع تحقق العلة.

فتحصل أن إعمال الاختيار مع انتفاء الموانع هو علة لتحقق أفعال الإنسان، وحيث كان المنشأ هو الاختيار فهذه الضرورة لا تنافيه، لأنها في طوله لا في عرضه.

ثم إنه قيل: بأن الضابط في اختيارية الأفعال هو: كل فعل أو ترك يکون

ص: 279

لاعتقاد الإنسان بأن فيه المصلحة أو المفسدة دخل في تحققه.

وفيه: أن بعض الأفعال هي من اللغو أو العبث مع العلم بعدم المصلحة أو المفسدة فيها، ومع ذلك تكون أعمالاً اختيارية، فتأمل.

وقد بحثنا موضوع نفي الجبر تفصيلاً وإثبات الأمر بين الأمرين ومعناه في کتاب شرح أصول الکافي(1) فراجع.

ص: 280


1- شرح أصول الكافي 2: 501-528.

فصل في صيغة الأمر

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأول: في مدلول صيغة الأمر

ذكروا معان متعددة لصيغة الأمر، كالطلب، والترجي، والتمني، والتهديد، والتسخير... الخ، كقوله تعالی: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(1)، و{اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ}(2) و{تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ}(3) و{كُونُواْ قِرَدَةً}...(4).

والظاهر أن للصيغة معنی واحدة، والمعاني المذكورة إنّما هي دواعي التلفظ بصيغة الأمر.

قيل(5): إن كون بعض هذه دواعي غير معقول، لأن الداعي هو العلة الغائية، وهي تتأخر عن الشيء في الخارج وتترتب عليه.

وبعض هذه الدواعي لا تترتب علی الأمر فلا يمكن أن تكون داعياً له، كالتمني والترجي والتهديد، فإنها تحصل بأسبابها الخاصة.

ص: 281


1- سورة البقرة، الآية: 43.
2- سورة فصلت، الآية: 40.
3- سورة الزمر، الآية: 8.
4- سورة البقرة، الآية: 65.
5- منتقی الأصول 1: 397.

وفيه تأمل: لأن الداعي هو إبراز التهديد والتمني والترجي ونحوها، وهذا يحصل بمجرد الإنشاء، أما ما في النفس من التمني ونحوه فله أسبابه الخاصة وهو لا يرتبط بالصيغة، وإنّما الصيغة تبرزه، وأما هذه فتترتب علی الصيغة.

فما هو ذلك المعنی؟ وقد ذکروا أموراً:

الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1) من أن معنی الصيغة هو (إنشاء الطلب).

وأشكل عليه: بأن الصيغة هي إنشاء، فلا يعقل أن يکون معناها إنشاء، لأنه من إيجاد الموجود وهو تحصيل الحاصل المحال.

ووُجّه كلام المحقق الخراساني بتوجيهات:

منها: أن يکون مراده (الطلب الإنشائي)، كما وجهوا قول الشيخ الأعظم: «البيع إنشاء تمليك عين بمال»(2)، بأنه أراد: التمليك الإنشائي.

وأورد عليه(3): بأن الطلب الإنشائي هو بمعنی الطلب الموجود بوجوده الإنشائي، فلا يقبل الإنشاء ثانياً لامتناع إيجاد الموجود.

ويمكن الجواب: بأن المراد القابلية للإيجاد في عالم الإنشاء، فليس المراد الطلب الموجود فعلاً، بل الطلب القابل للوجود في ذلك العالم.

ومنها: أن يکون مراده أن الموضوع له والمستعمل فيه هو (الطلب) مع

ص: 282


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 299.
2- المکاسب 3: 11.
3- منتقی الأصول 1: 389.

تقييد العلقة الوضعية بأن يکون الاستعمال في مقام الإنشاء والإيجاد، لا في مقام الإخبار، وقد مرّ تفصيل الكلام فيه في المعنی الحرفي، وحينئذٍ فلا إشكال علی كلام المحقق الخراساني، إلاّ الإشكال المبنائي حيث ذهب إلی عدم الفرق بين المعنی الاسمي والمعنی الحرفي إلاّ بلحاظ الواضع، فساوی بين الاسم والحرف في المعنی - وهو الطلب - وفرّق بينهما بتقييد العلقة الوضعية.

الثاني: ما ذهب إليه المحقق العراقي(1)، وحاصله: أن الصيغة موضوعة للنسبة الطلبية، كغيرها من الحروف الموضوعة للنسب الخاصة.

وبيانه يتوقف على أمرين:

1- إن الصيغة موضوعة للنسبة الإرسالية الإيقاعية.

2- وأن دلالتها علی الطلب من جهة الملازمة.

أما الأول: فقد مرّ أن المشتقات تنحل إلی مادة وهيأة، وأن الهيأة لا تدل إلاّ علی النسبة الإرسالية، والمحركية بين المبدأ والفاعل، لكن دلالتها ليست على مفهوم هذه النسبة، لأنه معنی اسمي، بل دلالتها على مصداقه وصورة ذلك الربط الخاص الحاصل من تحريك المأمور به نحو العمل علی طبق الإرسال الخارجي.

وأما الثاني: فلأن المتكلم في مقام الجدّ بالإرسال، فينتقل الذهن من تلك النسبة الإرسالية إلی مفهوم الطلب.

وسبب هذا التلازم إنّما هو التلازم الخارجي بين منشأ الطلب وهو الإرادة

ص: 283


1- نهاية الأفكار 1: 178.

الخارجية، وبين منشأ النسبة وهو البعث والإرسال الخارجي، فاللفظ وجه للمفهوم، والمفهوم وجه لمنشأه، وبين المنشأين ملازمة في الخارج، وحينئذٍ ينتقل الذهن عند تصور أحد المفهومين إلی المفهوم الآخر.

الثالث: دعوی كون الهيأة موضوعة للنسبة الصدورية بين الفعل والمخاطَب، بداعي الطلب.

إذ استعمال الهيأة في النسبة الصدورية قد يکون بداعي الإخبار، كالجمل الخبرية، وقد يکون بداعي الإنشاء كالألفاظ الموضوعة لما يقبل الإيجاد مثل بعت، وقد لا يکون بداعي الإخبار أو الإنشاء بل بداعي آخر كالطلب لعدم قابلية الطلب للإيجاد، وبذلك يحصل الانبعاث نحو الفعل والتحرك إليه.

وسبب هذا التفصيل هو الإشكال في إنشائية بعض الصيغ - كصيغة التمني - حيث إنها ليست إخباراً، ولا معانيها قابلة للإيجاد بالألفاظ.

ويرد عليه: مضافاً إلی الإشكال في مبناه، أنا لا نری في الآمر أنه استعمل اللفظ في صدور الفعل من المخاطب بداعي الطلب، بل نراه استعمل الهيأة في مقام أسبق من مقام الصدور، وهو مقام التسبيب إلی الصدور، والبعث نحو الفعل.

وبعبارة أخری(1): الآمر لا يلاحظ الصدور من المخاطب بحيث يستعمل اللفظ فيها، بل لحاظه يتركز علی ما هو السبب في ذلك، وهو نسبة الطلب والبعث.

ص: 284


1- منتقی الأصول 1: 393.

المبحث الثاني: في مدلول الصيغة

اشارة

والکلام في مقامين:

المقام الأول: في دلالتها على الوجوب

هل تدل صيغة الأمر علی الطلب الإلزامي، أم تدل علی مطلق الطلب الجامع بين الإلزامي والاستحبابي؟

الظاهر دلالتها علی الوجوب عند الإطلاق، لكن الكلام في منشأ هذه الدلالة، هل هو الوضع أم الإطلاق أم حكم العقل.

أما القول بدلالتها علی الوجوب بالوضع فقد استدل له: بالتبادر، مؤيداً بأصالة تشابه الأزمان - أي أصالة عدم النقل - المقتضي لوضعها لخصوص الطلب الالزامي(1)، والظاهر أن هذا التبادر إنّما هو من حاق اللفظ بحيث يسبق الوجوب إلی الذهن ولو مع عدم تمامية مقدمات الحكمة.

ومع هذا التبادر لا حاجة للاستدلال بأصالة عدم القرينة لإثبات الوضع لخصوص الوجوب، وذلك لما مرّ من أن هذه الأصالة حجة في تشخيص المرادات لا في تعيين الأوضاع.

كما لا حاجة إلی الاستدلال بآية الحذر ونحوها - مما مرّ في بحث المادة - ، وذلك لما مرّ من أنه بعد العلم بالمراد لا يوجد أصل عقلائي يدل علی أن هذا المراد علی نحو الحقيقة.

وأشكل المحقق النائيني(2) علی دلالة الصيغة علی الوجوب، وذلك عبر

ص: 285


1- نهاية الأفكار 1: 180.
2- فوائد الأصول 1: 134.

بيان معنی الوجوب والاستحباب.

وحاصله: أن الوجوب ليس مركباً من (الإذن في الفعل مع المنع عن الترك)، ولا الاستحباب مركباً من (الإذن في الفعل مع الرخصة في الترك)، وذلك لوضوح بساطة مفهوم الوجوب والاستحباب.

وكذا ليس الطلب حقيقة مشككة، کي يكون الوجوب هو الطلب الشديد والاستحباب الطلب الضعيف، وذلك لأن الطلب غير قابل للشدة والضعف، حيث إن العرف لا يری اختلافاً في الطلب التكويني بين تصدي النفس وحملتها، بين شرب المضطر للماء وبين شرب غيره للماء للتبريد مثلاً، فما لم يصل إلی هذه الحملة ليس بطلب، وإن وصل كان طلباً من غير فرق، كما لا يری العرف اختلافاً في الطلب التشريعي فإنه لو قال: (اغتسل) كان طلباً، سواء في (اغتسل للجنابة)، أم في (اغتسل للجمعة).

وبعبارة أخری: الطلب دائر بين الوجود والعدم، فإن حصلت حملة النفس أو صدر التشريع كان طلباً، وإلاّ فلا من غير فرق بين الوجوب والاستحباب.

إذن: فالصيغة لم تستعمل إلاّ لايقاع النسبة بداعي البعث والتحريك، والدلالة علی الوجوب إنّما هو بحكم العقل، كما مرّ تفصيله في بحث المادة.

وأورد عليه(1): بإمكان وجود الفرق بين الوجوب والاستحباب ثبوتاً وإثباتاً:

ص: 286


1- منتقی الأصول 1: 401.

أما ثبوتاً ففي المبدأ والمنتهی:

أ) أما المبدأ: فالطلب إنّما هو باعتبار المصلحة، وهذه المصلحة تختلف، ولذا تختلف الإرادة تبعاً لها.

إن قلت: إن الشوق إذا لم يصل إلی حد تحريك العضلات لا يسمی إرادة؟

قلت: هذا في الإرادة التكوينية دون التشريعية.

ب) وأما في المنتهی: فإن الأمر ينشأ بداعي البعث والتحريك نحو الفعل، فيمکن أن يکون البعث حتمياً، أو غير حتمي، كما في التكوينيات حيث قد يکون دفع قوي أو خفيف.

وبعد ثبوت الاختلاف ثبوتاً، يمكن إرجاع اختلاف الوجوب والاستحباب إلی الوضع، لأن الواضع يضع الألفاظ المختلفة للمعاني المختلفة، ومع وجود الفرق لا إشكال في وضع مادة أو هيأة لتلك المعاني، فيکون الوجوب هو الطلب الناشئ عن الإرادة الحتمية، والاستحباب هو الطلب الناشئ عن الإرادة غير الحتمية، فيقال: إن صيغة الأمر وضعت للنسبة الطلبية الناشئة عن الإرادة الحتمية.

وأما إثباتاً: فإنه بعد علم العقل بأن الطلب قد يکون علی نحو الوجوب وقد يکون علی نحو الاستحباب، فلا حكم له، وحيث إنا نجد دلالة الصيغة علی الوجوب فلابّد من أن نرجع إلی الوضع أو الإطلاق.

أقول: لا فرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية، من جهة أنه إذا لم يكن تصدي لا يکون إرادة ولا طلباً، وإنّما الفرق أن (المتصدی إليه) قد يکون

ص: 287

فعل نفس الطالب فيکون التصدي هو تحريك العضلات، وقد يکون فعل الغير فيکون التصدي هو إصدار الأمر.

فما لم يكن تصدي الفاعل ولا أمر الآمر لا يکون طلباً، وإذا حصل التصدي تحقق الطلب، فيصح ما ذكره المحقق النائيني من أن الطلب غير قابل للشدة ولا للضعف، وكذلك الإرادة، نعم المقدمات قد تتسم بالقوة والضعف كالحب ونحوه.

فالأولی الجواب: بأن الطلب وإن كان غير قابل للشدة والضعف، لكن مصاديقه متعددة، فإن كان في الفعل مصلحة ملزمة وكان البعث حتمياً كان ذلك المصداق إلزامياً، وإلاّ لم يكن إلزامياً من غير فرق في حقيقة المصداقين، وحينئذٍ فيمکن للواضع أن يضع الصيغة للمصاديق التي كانت في الفعل مصلحة إلزامية وأراد المستعمل البعث الحتمي، فتأمل.

المقام الثاني: في استعمال الصيغة في الوجوب والاستحباب معاً

لو فرض أنه قال: (اغتسل للجنابة والجمعة)، أو (صل الفريضة والنافلة)، فيرد إشكال أن أمرنا دائر بين ثلاثة احتمالات، وفي كلها المحذور:

1- عدم إمكان استعمال الصيغة في كلي الطلب، لأن الطلب جنس، ولابد في تحققه من أن يتحدَّد بفصل.

2- وعدم إمكان استعمال الصيغة في الطلب الوجوبي والطلب الاستحبابي معاً، لاستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنی.

3- ولا إرادة أحدهما، لأنه خلف، إذ المفروض كون أحدهما واجباً والآخر مستحباً.

ص: 288

والجواب: أولاً: بوجود شق رابع لا محذور فيه، وبيانه بأحد وجهين:

الوجه الأول: إن المستعمل فيه واحد هو النسبة الإيقاعية، مع استفادة الوجوب من حكم العقل، ولا ربط له بالمستعمل فيه(1).

وقد مرّ الإشكال علی المبنی، أما مع قبول المبنی، فهذا البناء لا إشكال فيه.

الوجه الثاني: إن اللفظ استعمل في النسبة الطلبية، لكن المُنشأ إرادتان: حتمية منبثقة عن وجود المصلحة اللزومية، وغير حتمية ناشئة عن مصلحة غير لزومية، فالمستعمل فيه واحد وهو المعنی الموضوع له أي النسبة الطلبية، لكن منشأ الاستعمال متعدد(2).

إن قلت: إن هذا استعمال في غير الموضوع له وهو الوجوب.

قلت: علی فرض كونه مستعملاً في غير الموضوع له يکون مجازاً، وذلك لا محذور فيه.

وثانياً: بالإشكال علی الشق الأول، حيث إن عدم وجود الجنس بلا فصل إنّما هو في الخارج، بل لا يوجد في الخارج إلاّ الجزئيات الحقيقية، وأما في الذهن فيمکن تصوّر الكلي والحكم عليه، كقولنا: (الحيوان جسم نام متحرك بالإرادة)، فهنا (الحيوان) تمّ تصوّره من غير فصل، وكما لو جعل الكلي مقسماً... إلی غير ذلك من الأمثلة.

وثالثاً: بالإشكال في الشق الثاني...

ص: 289


1- فوائد الأصول 1: 136.
2- منتقی الأصول 1: 407.

أ) إمّا عن طريق الإشكال في المبنی، كما مرّ في بحث استعمال اللفظ في أكثر من معنی.

ب) وإما بالقول بأن العطف في قوة تكرار الصيغة، فأداة العطف تدل علی نسبة طلبية ثانية غير النسبة المدلول عليها بالصيغة.

المبحث الثالث: في دلالة الجملة الخبرية على الوجوب

اشارة

لا إشكال في جواز استعمال الجمل الخبرية في مقام إنشاء الطلب، إنّما الكلام في جهتين، في دلالتها علی الطلب، وفي دلالتها علی الوجوب، أو الرجحان الجامع بين الوجوب والاستحباب.

فهنا مطالب:

المطلب الأول: في كيفية دلالتها على الطلب

وقد ذكر لها وجوه متعددة، منها(1):

الوجه الأول: استعمالها في الطلب مجازاً.

وفيه: أن الذوق العرفي يشهد ببقائها علی معناها الخبري واستعمالها فيه، فلا مجازية في البين.

الوجه الثاني: استعمالها في معناها - وهو النسبة الايقاعية - بداعي الطلب، لا مطلقاً ليکون كذباً بل فيمن يريد الانقياد، فالداعي هو إفادة الملزوم - وهو الطلب والبعث - ، نظير الكنايات التي يراد ملزومها.

الوجه الثالث: استعمالها في معناها، لا بداعي الطلب، بل بداعي الإخبار، بأحد بيانيين:

ص: 290


1- نهاية الأفكار 1: 180-182؛ بحوث في علم الأصول 2: 55؛ الأصول 1: 197-199.

1- مع تقييد (المخبر عنه)، أي هو اخبار عن أمر مستقبلي، لكن لا من مطلق المكلَّفين بل من المنقادين منهم.

2- الإخبار بتحقق الفعل بلحاظ تحقق مقتضيه وعلته وهو الطلب، وهذا أمر شائع عند العقلاء، حيث يرتبون الآثار علی الأشياء - ومنها الإخبار - بمجرد تحقق المقتضي لها، وفيما نحن فيه إرادة المولی عِلّة لصدور الفعل من العبد، ولو بمعونة حكم عقله بوجوب الإطاعة.

إن قلت: إن إرادة المولی بوجودها الواقعي ليست سبباً - ولو بنحو الاقتضاء - لحكم العقل بوجوب الإطاعة، وإنّما السبب هو قطع العبد بإرادة المولی - ولو بالجهل المركب - ، فحين استعمال الجملة الخبرية لا يکون المكلف علی علم بالإرادة، فأين المصحح لإخبار المولی؟

قلت: إن إرادة الفعل واقعاً هي سبب لإعلام المكلّف، والإعلام سبب لحكم العقل بالإطاعة، وحكم العقل بالاطاعة سبب لتحقق الفعل خارجاً، فالإرادة الواقعية سبب لوجود العمل ولو بوسائط.

الوجه الرابع: إن هناك نسبة إيقاعية خارجية، وهو تُلازِم الوجود ولا تنفك عنه، كما أن هناك نسبة إيقاعية ذهنية، فإذا كان المتكلّم في مقام الجِدّ بهذا الإيقاع، فمقتضی جِدّه هو الملازمة مع إرادة الوجود من المكلّف، وحيث إن المتكلّم ليس يقصد الحكاية عن الواقع، فلابد من كونه بصدد الإنشاء لعدم الخلو عنهما.

وهذه الوجوه وإن كانت ممكنة كلّها - علی سبيل منع الخلو - إلاّ أن الأقرب هو الوجه الثالث حسب البيان الثاني.

ص: 291

المطلب الثاني: في دلالتها على الوجوب

ولا إشكال في ظهور الجملة الخبرية الواقعة في مقام الطلب علی الوجوب.

وأما ما ذهب إليه بعض من عدم دلالتها علی الوجوب استناداً إلی أنها مستعملة في غير معناها الحقيقي، مع كون المعاني المجازية متعددة، ولا مرجح للوجوب، لعدم أقوائيته.

ففيه إشكال، لشهادة الذوق العرفي السليم علی الظهور في الوجوب، مضافاً إلی ما مرّ من عدم المجازية بل استعمالها في معناها الحقيقي.

إنّما الكلام في منشأ هذا الظهور، وقد قيل فيه وجوه، منها:

أولاً: ما في الكفاية(1): من أنه إخبار عن وقوع المطلوب في مقام الطلب، إظهاراً بأنه لا يرضی إلاّ بوقوعه، فيکون ظهوره أقوی من ظهور الصيغة.

وأشكل عليه: بأن الإخبار بالوقوع لا يكشف إلاّ عن إرادة الوقوع، للمناسبة بينهما، ولا دلالة علی كون تلك الإرادة بنحو خاص بحيث لا يرضی بتركه.

وفيه: أن وقوع الفعل خارجاً من المنقاد يلازم الوجوب والطلب الحتمي، فإن الطلب غير الحتمي لا يستلزم وقوع الفعل خارجاً من المنقاد، إذ يمكن أن يفعل أو أن لا يفعل، حيث إن عدم الفعل لا ينافي الانقياد لجهة عدم الإلزام، فتبين أن الإلزام مستلزم لوقوع الفعل خارجاً ومناسب له

ص: 292


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 308.

بشدة(1).

ثانياً: ما قيل: من أن (الشيء ما لم يجب لم يوجد)، فإذا لم توجد علته التامة المقتضية لضرورة وجوده - لعدم انفكاك المعلول عن العلة - فلا يوجد الشيء. فإذا أخبر بوجود الشيء وتحققه كان ذلك كاشفاً عن ضرورة وجوده ولابدّيته، والمناسب لذلك المقام هو الوجوب التشريعي والطلب الإلزامي، فيدل الإخبار علی الوجوب بالملازمة.

وأشكل عليه(2): بأن هذا ليس أمراً عرفياً واضحاً، بل هو أمر دقيق لا يدركه كل أحد بالإدراك البدوي، فلا يمكن دعوی الظهور العرفي للّفظ استناداً إليه.

وفيه: أن عدم الالتفات ودقة المعنی لا تنافي ارتكازيته في أذهان العرف، نظير المعنی الحرفي الذي يفهمه أهل اللسان بارتكازهم ويستعملونه في كلامهم مع كون حقيقته من أدق الأمور.

والأولی إرجاع هذا الوجه بما ذكر في المطلب الأول الوجه الثالث ببيانه الثاني، وهو الذي رجحه المحقق العراقي.

المطلب الثالث: في أنواعها

الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب علی قسمين:

الأول: ما كان معناها مستقبلاً، كالفعل المضارع، أو الماضي الذي انقلب معناه إلی المستقبل عبر أداة الشرط مثل (إذا كانت ملطخة بالعذرة أعاد

ص: 293


1- نهاية الدراية 1: 313.
2- نهاية الدراية 1: 313.

الوضوء)(1) فإن (أعاد) هنا معناه مستقبلي.

أما الماضي الذي بقي علی مضيّه فلا يستعمل في مقام الطلب، وذلك لعدم مناسبة الطلب الحقيقي للماضي الذي يدل علی تحقق الفعل ومضيّه، بل التكليف يناسب المستقبل لأنه طلب بإيجاد العمل.

الثاني: ما يستفاد منها وضع الفعل علی عهدة المكلّف وفي ذمته، كالجملة الاسمية في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}(2)، والفعلية الماضوية في قوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}(3).

وقيل في وجهه(4): أن العهدة والذمة إنّما هي وعاء الضمانات، وما يلزم تنفيذه عقلائياً وعرفاً، فيکون مناسباً مع الوجوب.

المبحث الرابع: في اقتضاء الصيغة المباشرة أو التسبيب أو الأعم

اشارة

إن الأفعال قد يکون لها ظهور - ولو بالقرينة العامة - علی المباشرة، كالصلاة، وقد يکون لها ظهور في التسبيب كالبناء، وقد لا يکون لها ظهور خاص، وحينئذٍ فما هو مقتضی إطلاق الصيغة إن كان لها إطلاق، وعلی فرض عدم وجود الإطلاق فهل هناك أصل عملي يقتضي أحدهما؟

ومرجع ذلك إلی أن الواجب هل هو أمر تخييري بين فعل الشخص مباشرة أم أن المطلوب هو القيام بالفعل ولو بالتسبيب إليه، أم كفاية تحقق

ص: 294


1- الكافي 3: 36.
2- سورة آل عمران، الآية: 97.
3- سورة البقرة، الآية: 183.
4- بحوث في علم الأصول 2: 59.

الفعل من الغير مطلقاً؟

فهنا مقامان:

المقام الأول: الأصل اللفظي

وتقريره من أحد وجهين:

الوجه الأول: إن إطلاق الهيأة - الدالة علی الوجوب - يقتضي بقاء الوجوب حتی لو فعل الغير، ولا إطلاق للمادة كي يقال إن إطلاقها يدل علی أن مورد التكليف هو الفعل من أيِّ شخص كان، وذلك لأن فعل الغير خارج عن اختيار المكلف، فلا يکون مأموراً به، فلا إطلاق للمادة، فيبقی إطلاق الهيأة سليماً عن المعارض.

ويرد عليه: أولاً: إن هذا القائل يذهب إلی أن استفادة الوجوب إنّما هو بحكم العقل، فلا معنی للقول بإطلاق الهيأة، کما أنه يذهب إلی إمكان الأمر بالجامع إذا كانت بعض مصاديقه ممكنة - حتی لو تعذرت مصاديق أخری - ، وفيما نحن فيه الجامع من (فعل الإنسان بنفسه وفعل الغير) ممكن، وإن كان فعل الغير - وهو أحد المصاديق - خارج عن القدرة. وإن کان لنا إشکال في کلا المبنيين.

وثانياً: إن فعل الغير قد يکون مقدوراً، فيما أمكن المكلَّف التسبيب إلی صدور الفعل من الغير، إما إلجاءً، أو عبر إيجاد الداعي، كاستئجاره للعمل.

الوجه الثاني: يتكوّن من دعويين: لزوم نسبة الفعل إلی المأمور، والتفصيل في المباشرة وعدم المباشرة.

أما الأولی: فإن النسبة الصدورية - وهي نسبة المبدأ إلی الفاعل - قد

ص: 295

تعلّق بها الأمر، حيث إن النسبة الإرسالية وهي مدلول الأمر تطرأ علی النسبة الصدورية.

ومع تحقق الفعل من غير نسبة وتسبيب للمكلّف، لا تصدق النسبة الفعلية - المأخوذة في متعلّق الأمر - فالأصل عدم السقوط حيث لا قرينة.

أما الثانية: فإن كان المقصود هو النسبة الفعلية الصدورية فقط، فالأصل عدم اشتراط المباشرة، وإن كان المقصود مضافاً إلی النسبة الفعلية، نسبة الحلول فيه - كما في العرض ومحلّه - فالأصل اشتراط المباشرة.

ويرد علی الأولی: أنه بناءً علی إطلاق المادة، فإن النسبة الصدورية لا تختص بالمخاطب.

اللهم إلاّ أن يقال: إن خطاب المكلّف عبر صيغة الأمر ظاهر في تعلّق التكليف به - مباشرة أو تسبيباً - ، فلا إطلاق للمادة أصلاً لعدم تمامية مقدمات الحكمة فيها، مع تماميتها في جانب الهيأة، فتأمل.

ويرد علی الثانية: أن معرفة المقصود هو قرينة، والعمل به إنّما هو عمل بالقرينة، لا بالإطلاق.

فتحصل أنه لا أصل لفظي إلاّ لو قلنا بإطلاق الهيأة من غير إطلاق للمادة.

ثم إن المحقق النائيني(1)، أشكل علی كفاية فعل الغير بوجهين، وبهما ينتفي الإطلاق:

الإشکال الأول: إن الاستنابة إن كانت طرفاً للوجوب التخييري، كان مقتضی ذلك سقوط الوجوب بمجرد الاستنابة، وهو باطل قطعاً، لعدم فراغ

ص: 296


1- أجود التقريرات 1: 147.

الذمة بمجرد الاستنابة قطعاً.

وأورد عليه(1): بأن طرف التخيير ليس هو الاستنابة، بل الطرف هو فعل الغير الصادر بتسبيب المكلّف، فلا يسقط التكليف بمجرد الاستنابة، لأن ما يحصل به الغرض ليس مشتركاً بين فعل المكلف وبين التسبيب إلی فعل غيره، بل بين فعل نفسه وفعل الغير.

الإشکال الثاني: إنه قام الإجماع علی جواز التبرع في كل ما تدخله النيابة، ولا معنی لكون فعل الغير من أطراف الوجوب التخييري.

وأورد عليه(2): أن الملاك هو حصول الغرض بوجود الفعل في الخارج بلا دخل لخصوصية فاعله، غاية الأمر أن المورد اقتضی توجيه الخطاب إلی مكلّف خاص، كما في وجوب تطهير الثوب للمکلَّف بالصلاة، وكما في القضاء عن الميت فإنه علی القول بصحة عمل المتبرع يسقط وجوب القضاء عن الولي، فيکون فعل غير المكلّف كفعله في تحصيل الغرض الداعي إلی وجوب ذلك الفعل علی المكلف، نظير الملاك في الوجوب التخييري بين فعلين لمكلّف واحد.

إن قلت: فعل الغير غير داخل تحت القدرة، فلا يصح أن يخاطب به بنحو التخيير بين فعله وفعل غيره.

قلت: لما كان المكلّف يعلم أن هذا التكليف يسقط عنه بفعل غيره، فحينئذٍ يخيّره العقل بين أن يفعله هو بنفسه وبين أن يتسبب إلی فعل غيره،

ص: 297


1- نهاية الأفكار 1: 205 (الهامش) عن بدائع الأفکار.
2- نهاية الأفكار 1: 205 (الهامش) عن بدائع الأفکار.

فإن فَعله الغير سقط التكليف عنه، وإلا بقي مخاطباً، حيث إن الخطاب متوجه إليه حين عدم فعل الغير، كما في الواجب التخييري حيث الخطاب بكل من الفعلين أو الأفعال متوجّه إلی المكلّف حين عدم الآخر.

المقام الثاني: الأصل العملي

وقد اختلف فيه بين البراءة والاحتياط.

القول الأول: البراءة وقد ذهب إليه المحقق العراقي(1)، وذلك لاختلاف ما نحن فيه عن مورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير الذي يکون الأصل فيه الاحتياط، وبيانه:

أن منشأ الاحتياط في دوران الامر بين التعيين والتخيير هو العلم الإجمالي باشتغال ذمة المكلَّف، كما في دوران الأمر بين وجوب صلاة الظهر مطلقاً حتی لو صلّی الجمعة وبين وجوب الجمعة في حال ترك الظهر، فيلزم الاحتياط وذلك بفعل ما يحصل به اليقين بفراغ الذمة.

وأما في ما نحن فيه فالعلم الإجمالي غير موجود، وبيان ذلك عبر مقدمتين:

الأولى: الخطاب متوجِّه إلی المكلّف، تفصيلاً، ولا يکون عِدله فعل الغير، لخروجه عن قدرته واختياره.

الثانية: المكلّف يعلم بتوجه الخطاب إليه في حال ترك غيره، ولكنه يشك في توجه الخطاب إليه في حال فعل الغير، إذ حينئذٍ لا علم بالتكليف أصلاً بل شك فيه.

ص: 298


1- نهاية الأفكار 1: 206.

والنتيجة: هي جريان البراءة عن التكليف في حال أداء الغير للفعل.

وفيه تأمل: أما المبنی: فإن مورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ليس من موارد العلم الإجمالي، لأنه في العلم الإجمالي يعلم بوجود تكليف بين فعلين أو تركين، ولا يتمكّن من الموافقة القطعيّة إلاّ بارتكابهما معاً - فعلاً أو تركاً - ، وفي مورد الدوران بين التعيين والتخيير يتمكّن من الموافقة القطعية بارتكاب أحد الطرفين الذي وهو طرف التعيين.

وأما البناء: فإنه ما من شك في توجه الخطاب إلی المكلف - سواء فعل الغير أم لا - ، إنّما الكلام في أن فعل الغير هل هو مسقط للتكليف أم لا، لا أنه رافع للتكليف من أول الأمر.

القول الثاني: الاشتغال وقد ذهب إليه المحقق النائيني(1):

1- إمّا لأصالة الاشتغال، حيث إن اشتغال الذمة بالتكليف متيقن، وإنّما الشك بسقوطه بفعل الغير، والأصل يقتضي عدم كونه مسقطاً.

2- وإمّا لاستصحاب بقاء التكليف حتی مع فعل الغير.

إن قلت: إن المتيقن السابق هو وجوب الإتيان في ظرف عدم صدور الفعل من غيره، وأما وجوب الإتيان في ظرف صدوره من الغير فمشكوك من أول الأمر.

قلت: لا شك في توجه الخطاب إليه، إنّما الكلام في سقوط التكليف بفعل الغير بعد ثبوته في الذمة، كما مرّ.

القول الثالث: جريان استصحاب القدر الجامع بين الوجوب التام - أي

ص: 299


1- فوائد الأصول 1: 142-143؛ أجود التقريرات 1: 151.

وجوبه علی المكلف سواء فعله الغير أم لا - وبين الوجوب الناقص.

وأشكل عليه: بأن المورد من موارد الأقل والأكثر فتجري البراءة، مضافاً إلی عدم وجود الجامع، لعدم تعلق القدرة بفعل الغير.

وفيه تأمل: لأن مورد الأقل والأكثر الارتباطي هو وجوب شيء مركب مع الشك في وجوب أحد الأجزاء، فيکون أصل البراءة فيه حاكماً علی أصالة اشتغال الذمة، وأما الاستقلالي فهو معلومية وجوب الأقل، مع الشك في تعلق الوجوب بالزائد مستقلاً.

وليس ما نحن فيه منهما، لا من الارتباطي لوضوح عدم تعلق التكليف بالمركب من فعله وفعل غيره، ولا من الاستقلالي إذ هو من دوران الأمر بين متباينين، إذ مع الاتيان بنفسه لا شك في عدم وجوب فعل الغير، ومع اتيان الغير لا معلومية بوجوب فعل هذا الغير أصلاً، فتأمل.

المبحث الخامس: في اقتضاء الصيغة صدور الفعل عن اختيار أم عدمه

إذا شك في سقوط الواجب بالمصداق غير الاختياري من فعل المكلف نفسه، فهل هناك أصل لفظي أو عملي يدل علی السقوط بالاختياري فقط، أم بالأعم من الاختياري وغيره؟

أما الأصل العملي فيعرف مما مرّ في المبحث السابق.

وأما الأصل اللفظي، ففيه صورتان:

الأولی: إن كانت المادة مطلقة، كان الفعل غير الاختياري مصداقاً للواجب، فيثبت الإجزاء وسقوط الواجب به.

الثانية: إن كانت المادة مقيدة بالاختياري، فإطلاق الهيأة يقتضي عدم

ص: 300

سقوط التكليف بالفعل غير الاختياري، ومعنی إطلاق الهيأة هو وجوب الحصة الاختيارية مطلقاً حتی لو أتی بغيرها.

ويمكن إثبات تقييد المادة من طرق ثلاثة:

الطريق الأول: ما ذكره المحقق النائيني(1) من أن الأمر إنّما هو بغرض الباعثيّة - أي إيجاد الداعي في نفس المكلَّف - ، ومن الواضح استحالة التحريك نحو غير المقدور، إذن فالعقل يقيد إطلاق المادة وذلك بمقيد متصل لبّي.

والحاصل: إن الفعل غير الاختياري لا يمكن إيجاد الداعي إليه، فلا يکون متعلقاً للوجوب.

وأشكل عليه: بأن الجامع بين الحصة الاختيارية وغيرها، مقدور واختياري، فتعلّق الأمر بالجامع لا ينافي داعي التحريك والباعثيّة، فلو تحقق الفعل غير الاختياري تحقق المأمور به - وهو الجامع - ، فيسقط التكليف.

ولکن قد مرّ الإشکال في هذا، وأن الأمر بالجامع إنما هو بلحاظ حصصه الاختيارية.

الطريق الثاني: ما قيل: من أن الإطلاق والتقييد من العدم والملكة، فإذا استحال التقييد استحال الإطلاق. وفيما نحن فيه، لا إطلاق للمادة للحصة غير الاختيارية، حيث يستحيل تقييدها بذلك.

وأشكل عليه: بأن الإطلاق إنّما هو في مقابل التقييد بالحصة الاختيارية، وهو أمر ممكن، فيکون الإطلاق باعتبار الحصة الاختيارية ممكناً أيضاً.

ص: 301


1- فوائد الأصول 1: 143.

وفيه تأمل: لأن الإطلاق إنّما هو بالنسبة إلی الحصتين - حيث لا يخلو الأمر عنهما - فإذا استحال التقييد بأحدهما استحال الإطلاق أيضاً علی كل حال.

الطريق الثالث: إن إطلاق المادة للحصة غير الاختيارية لغو، لعدم إمكان الانبعاث نحوها.

وأشكل عليه: بأن فائدة الإطلاق هو أنه لو وقعت الحصة غير الاختيارية اتفاقاً، أمکن للمكلّف الاجتزاء بها.

وفيه تأمل: لأن الإطلاق إنّما يتم بمقدمات الحكمة، وهي غير ناظرة إلی الحالات الاتفاقية.

لكن قد يقال: بإمكان إثبات سقوط التكليف بالفعل غير الاختياري حتی لو قيدنا المادة بالفعل الاختياري، وذلك بأحد وجهين:

الوجه الأول: التمسك بعموميّة الملاك، وذلك عن طريق القول بإطلاق المادة للحصة غير الاختيارية باعتبار الملاك، حتی لو منعنا عن إطلاقها باعتبار الخطاب، نظير باب التزاحم، حيث يمكن إثبات الاجتزاء بالضد المهم إذا زاحمه الأهم، بناءً علی استحالة الترتب، عن طريق التمسك بإطلاق المادة بلحاظ الملاك.

ويرد عليه: أولاً: بأن الدلالة علی الملاك هي دلالة التزامية وهي تابعة للدلالة علی التكليف بالدلالة المطابقية - حيث إن كل تكليف لازمه وجود الملاك - ، وسقوط الدلالة المطابقية سواء بمتصل أم منفصل يوجب سقوط الدلالة الالتزامية ذاتاً وحجية.

ص: 302

إن قلت: في المنفصل تنعقد دلالة مطابقية فيتبعها الالتزامية، وحين مجيء المقيد المنفصل تسقط حجية الدلالة المطابقية فقط وتبقی الالتزامية - بذاتها وبحجيتها - .

قلت: الإرادة الجدّية حتی في المنفصل تكون في التقييد، فلا دلالة أصلاً للّازم - وهو الملاك - لا بالذات ولا بالحجية.

وثانياً: بأن التنظير غير سديد، للفرق بين المقامين من جهتين، حتی وإن قلنا بعدم تبعية الدلالة الالتزامية في الحجية للدلالة المطابقية في المنفصل:

الجهة الأولى: إن ما نحن فيه يکون المقيد لإطلاق المادة بلحاظ الخطاب، هو حكم العقل - بأن التكليف هو بداعي المحركية - وهذا مقيد متصل، فيمنع عن أصل انعقاد الإطلاق في المادة خطاباً، فلا ينعقد الإطلاق ملاكاً أيضاً.

بخلاف باب التزاحم، فإن سقوط الإطلاق في المادة إنّما هو باعتبار المعارضة، وهو مخصِّص منفصل.

الجهة الثانية: فيما نحن فيه انعقاد إطلاق المادة بلحاظ الملاك معارض مع إطلاق الهيأة.

بخلاف مورد التزاحم الذي يکون الأمر بالمهم ساقطاً علی كل حال فلا إطلاق له لا مادة ولا هيأة.

الوجه الثاني: إن الأصل اللفظي لا يقتضي السقوط ولا عدم السقوط، لأن الدليل الدال علی عدم إطلاق المادة - حسب المفروض - :

أ) إن كان متصلاً، فيبقی إطلاق الهيأة سليماً عن المعارض، لعدم انعقاد إطلاق للمادة أصلاً.

ص: 303

ب) وإن كان منفصلاً، انعقد ظهور للمادة، فتتعارض مع إطلاق الهيأة، فيتساقطان، ثم بعد قيام الدليل علی عدم إطلاق للمادة لا يرجع ظهور الهيأة أصلاً(1).

وفيه: أن الفرض الثاني لا وجه له أصلاً، لأن الدليل المقيد للمادة هو متصل دائماً حيث إنه حكم العقل، كما ذكرناه في صدر البحث عن المحقق النائيني - ، وحينئذٍ يبقی إطلاق الهيأة سليماً عن المعارض دائماً.

المبحث السادس: في سقوط التكليف بالفعل المحرّم وعدمه

ذهب المحقق النائيني(2) إلی عدم السقوط، مستدلاً لذلك: بأن السقوط لابد أن يکون لمكان اتحاد متعلق الأمر مع متعلّق النهي خارجاً، وإلاّ لم يعقل السقوط، وأنّ هذا الاتحاد بأحد نحوين:

1- أن تكون النسبة بين المتعلقين العموم والخصوص المطلق، فيندرج في باب النهي عن العبادة، ويخرج الفرد المحرّم عن سعة دائرة الأمر، ويتقيد الأمر بما عدا ذلك، ولا فرق في العبادة وغيرها.

2- أن تكون النسبة العموم من وجه، فيندرج في باب اجتماع الأمر والنهي.

فإن قلنا بالامتناع وتقديم النهي، فيکون من صغريات النهي عن العبادة.

وإن قلنا بالجواز، فإن الفرد المحرّم لا يصلح للتقريب، لعدم حسنه الفاعلي، وهذا الفرد وإن كان فيه ملاك الأمر إلاّ أنه لما يقع مبغوضاً عليه - لمجامعته

ص: 304


1- نهاية الأفكار 1: 207-208 (الهامش) عن بدائع الأفکار.
2- فوائد الأصول 1: 144.

للحرام - فلا يصلح لأن يتقرب به.

والحاصل: عدم سقوط الأمر مطلقاً بالفرد المحرم.

وأورد عليه بعدة إيرادات:

الأول: ما عن المحقق العراقي(1): من أن إطلاق الخطاب يكشف عن وجود مصلحة ملزمة في متعلقه مطلقاً - ولو كان بعض أفراده محرّماً - ، نعم غلبة ملاك النهي يوجب فعلية النهي وعدم فعلية ملاك الأمر، وهذا لا يستلزم انتفاء الملاك، وحينئذٍ فبفعل المحرّم يحصل الغرض الداعي لأصل الخطاب، فيسقط بانتفاء الموضوع، لا بالامتثال.

وفيه تأمل، يعلم مما سبق، وذلك لسقوط الدلالة الالتزامية تبعاً لسقوط الدلالة المطابقيّة.

الثاني: ما في المنتقی(2): من أن الفرد المحرّم يمتنع تعلق الوجوب به، فلا يکون من أفراد الواجب، ففرض تحريمه يساوق لفرض عدم فرديته للواجب، فيرجع الشك إلی إسقاط غير الواجب للوجوب، فيتمسك بالإطلاق في إثبات بقائه، من غير فرق بين الصور المختلفة التي ذكرها المحقق النائيني.

وذلك لأن القول بجواز اجتماع الأمر والنهي يرجع في الحقيقة إلی الالتزام بأن متعلّق الأمر غير متعلق النهي، فالمأمور به ليس محرّماً بل المحرّم غيره، فلا يکون من الإتيان بالفرد المحرم للمأمور به، لأن القائل بالجواز

ص: 305


1- نهاية الأفكار 1: 208 (الهامش) عن بدائع الأفکار.
2- منتقی الأصول 1: 508.

إنّما يقول به إذا كانا بعنوانين متباينين، وليس كذلك فيما نحن فيه.

الثالث: ما في البحوث(1): بأنه حتی لو اشترطنا الحسن الفاعلي، صح التمسك بإطلاق المادة بناءً علی جواز الاجتماع.

إذ القول بالجواز إذا کان علی أساس دعوی تعدد الوجود، فحينئذٍ ما يکون متعدد وجوداً يکون متعدداً إيجاداً وفاعلية، فيکون الحسن الفاعلي محفوظاً.

وإذا كان القول بالجواز علی أساس أن الوجود الواحد اجتمع فيه حسن وقبح وحرمة ووجوب من جهتين، فلتكن الفاعلية الواحدة أيضاً مجمعاً للحسن والقبح في وقت واحد من جهتين.

المبحث السابع: في التوصلي والتعبدي

اشارة

التعبدي: هو الواجب الذي أخذ قصد القربة فيه، والتوصلي: ما لا يشترط فيه قصد القربة.

وقصد القربة هي قصد أمر المولي، وقد يقال: إنها قصد الملاك، أو قصد المحبوبية في متعلق الأمر.

وهنا مطالب:

المطلب الأول: قصد الأمر

أما قصد الأمر فقد قيل باستحالة اشتراطه، وبيان وجه الإشکال من وجوه:

الإشکال الأول: الدور أو الخلف في مقام الأمر:

ص: 306


1- بحوث في علم الأصول 2: 71-72.

فإن الأمر يتوقف علی ثبوت متعلقه، وقصد الأمر يتوقف علی ثبوت الأمر، فأخذه في متعلق الأمر يستلزم فرض توقف الأمر عليه.

وبعبارة أخری: قصد الأمر يتوقف علی الأمر، والأمر يتوقف علی متعلقه، وحيث إن قصد الأمر من المتعلق فالأمر يتوقف علی قصد الأمر.

والحاصل: إن ما لا يكاد يتأتی إلاّ من قِبل الأمر لا يمكن أخذه في متعلق الأمر.

وأورد عليه: بأن الأمر لا يتوقف علی وجود متعلقه خارجاً، بل علی وجوده ذهناً، أي يتصور المولی المتعلق ثم يبعث نحوه، فإنه يمكن تصور قصد الأمر حتی لو لم يكن أمر أصلاً، وأما قصد الأمر فإنه يتوقف علی الأمر بوجوده الخارجي لا التصوري، فلا دور ولا خلف.

وبعبارة أخری: قصد الأمر بوجوده الخارجي يتوقف علی الأمر، والأمر يتوقف علی الوجود التصوري للمتعلق ومنه قصد الأمر.

الإشکال الثاني: الدور أو الخلف في مقام الامتثال:

فإن الأمر يتوقف علی القدرة علی متعلقه، إذ لا يصح الأمر مع عدم القدرة.

والقدرة علی قصد الأمر تتوقف علی الأمر، إذ لا يمكن قصد الأمر بدون وجود أمر.

وأورد عليه بما يمكن بيانه بنحوين:

النحو الأول(1): بأن شرطية القدرة علی نوعين:

1- الشرط الذي هو جزء العلة التامة.

ص: 307


1- منتقی الأصول 1: 471.

2- الشرط بما يکون رافعاً للغوية الفعل.

والأول دخيل في الوجود، والثاني ليس دخيلاً فيه بل رافع للّغوية، وهذا ليس في الرتبة السابقة علی المشروط، فلا يمتنع فرض تأخره عنه رتبة.

وشرطية القدرة علی المتعلق من قبيل الثاني، لأن القدرة مصححة للتكليف، وبدونها يکون التكليف لغواً لا محالاً ذاتياً، إذن لا مانع من أن تكون القدرة ناشئة عن نفس التكليف - لعدم تقدمها رتبة - وبذلك يرتفع اللغوية أيضاً.

وبعبارة أخری: القدرة المصححة للأمر إنّما هي القدرة علی المتعلق في ظرف الامتثال، لا في ظرف الأمر.

النحو الثاني(1): بأن القدرة المشروطة هي القدرة الشأنية - أي القدرة لو تعلق الأمر بها - لا القدرة الفعلية.

وفي المقام القدرة الشأنية حاصلة، إذ لو تعلق الأمر كان قصد الأمر مقدوراً، وهذه قضية صادقة حتی قبل تعلق الأمر، إذ القضية الشرطية صادقة حتی لو لم يتحقق طرفاها.

الإشکال الثالث: إن أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر يستلزم عدم القدرة علی الاتيان بالفعل بقصد الأمر، وذلك من جهتين:

الجهة الأولی: لزوم تعلق الأمر بغير الاختياري - وهو قصد القربة - إذ الإرادة ليست بالاختيار، وإلاّ لزم التسلسل.

وفيه: أولاً: مبنیً: بأن الإرادة اختيارية، لكن اختياريتها بنفسها لا بإرادة

ص: 308


1- بحوث في علم الأصول 2: 75.

أخری، فلا تسلسل.

وثانياً: بناءً: بأن القصد - هنا - ليس بمعنی الإرادة، بل الداعي، أي الإتيان بالفعل بداعي حصول الموافقة والامتثال.

وثالثاً: نقضاً: بأن المستشكل يصحح أخذ القربة بحكم العقل - كما سيأتي - ، وكما أنه لا أمر شرعي بغير الاختياري، كذلك لا حكم للعقل فيه أيضاً.

الجهة الثانية: عدم القدرة علی الإتيان بالمأمور به، وذلك لأن المركب الارتباطي لا يمكن الإتيان بكل جزء منه مستقلاً، بل لا يمكن الامتثال إلاّ عبر الإتيان بالكل.

فلا يمكن الإتيان بذات الفعل وهو جزء من المركب، بداعي وجوب الكل وهو ذات الفعل مع قصد الأمر، بل لابد من الإتيان بالكل (أي الذات مع قصد الأمر) بداعي الأمر، وهذا يستلزم المحال، لأن الأمر لا يکون محركاً نحو محركية نفسه، وملاك الاستحالة هو استحالة عِليّة الشيء لعليّة نفسه.

وبعبارة أخری: الأمر يدعو الإنسان للإتيان بالمتعلق، وحيث إن المتعلق هو ذات الفعل مع قصد الأمر، فلازمه أن يدعو الأمر إلی قصد الأمر، وحيث إن هنا أمر واحد فيکون المعنی أن يدعو الأمر إلی داعوية نفسه وهو محال.

والسِرّ في ذلك(1) أن الشيء إنّما يکون داعياً للعمل إذا كان بنفسه أثراً مرغوباً أو لكونه ذا أثر مرغوب.

ص: 309


1- منتقی الأصول 1: 424.

والجزء الضمني ليست لموافقته أثر مرغوب - لا شرعاً ولا عقلاً - من تحصيل مثوبة أو دفع عقوبة أو حصول تقرب ونحوها من الآثار، إذ هذه الآثار إنّما تترتب علی الكل لا علی الجزء.

وهكذا الأمر، فإن حصول الأثر من الامتثال والثواب والطاعة إنّما يکون علی موافقة الأمر بالمركب، ولا تتعدد الطاعة والمعصية ولا الثواب والعقاب، وليس لموافقة الأمر بالجزء أيّ أثر - إذ موافقة الأمر بالكل شيء بسيط غير قابل للتعدد لأنه تنتزع الموافقة عن الاتيان بجميع الأجزاء والشرائط.

وحينئذٍ فإن كان (داعي امتثال الأمر) جزءاً من المتعلق كان الأمر مستلزماً لأن يکون الشيء داعياً لداعوية نفسه.

ويرد عليه: أن معنی داعوية الأمر الضمني هو داعوية الأمر الاستقلالي إلی جزء من أجزائه، وفيما نحن فيه الأمر بالمركب - وهو الذات مع داعي الأمر - يدعو إلی جزئه الذي هو الذات، فإذا أتی بالذات بداعي الأمر فقد تحقق الجزء الآخر من الواجب - وهو داعي الأمر - ، فيتحقق الامتثال(1).

وبعبارة أخری: إنه لو تحقق بعض الأجزاء من غير اختيار أو بقصد آخر، فإنه لا يسقط الأمر بالباقي، بتوهم أن المأمور به هو المركب فلا يمكن حينئذٍ الأمر بالمركب بسبب كون بعض أجزائه حاصلة فيکون الأمر بها في ضمن المركب تحصيلاً للحاصل. وإنّما لا يسقط الأمر لبقاء الغرض في تحقيق المركب، وذلك يدعو للأمر بالباقي.

ص: 310


1- کتاب القضاء للمحقق العراقي: 24؛ بحوث في علم الأصول 2: 76.

وفيما نحن فيه الأمر يدعو إلی جزء المتعلق وهو الذات بالأمر الضمني، فالعبد باتيانه بهذا الجزء مقارناً مع داعي الأمر محقِّق الجزء الآخر، فيحصل غرض المولی ومطلوبه.

الإشکال الرابع: الدور بلحاظ متعلق المتعلق(1)، وبيانه بمقدمتين:

المقدمة الأولى: إن الأحكام الشرعية لها متعلقات، وهي أفعال المكلف التي يکون الحكم الشرعي مقتضياً لإيجادها كالصلاة، أو زاجراً عنها كشرب الخمر.

ولها متعلّق المتعلّق - ويعبّر عنها بالموضوع - ، وهي أوصاف المكلّف، أو الأشياء الخارجية المرتبطة بالمتعلّق الأول، كالبلوغ والعقل، وكالوقت في الصلاة، وكالخمر في لا تشرب الخمر، وكالعقد في أوفوا بالعقود.

المقدمة الثانية: الأحكام الشرعية هي قضايا حقيقية، فإذا وجد الموضوع - وهو متعلق المتعلق - وجد الحكم، ففي الأمثلة الماضية يکون حقيقتها هكذا: (إذا وجد الوقت فصلّ)، و(إذا وجدت خمر فلا تشربها)، و(إذا وجد عقد ففِ به). فيکون الحكم تابعاً للموضوع - أي متعلق المتعلق - في الإنشاء والفعلية.

أما في مرحلة الإنشاء: فإن الجاعل يری إناطة مجعوله بتحقق الموضوع، فيری أن الحكم متأخر عن موضوعه.

وأما في مرحلة الفعلية: فلأنه لا فعلية للحكم مع عدم الموضوع.

بعد هاتين المقدمتين، نأتي إلی ما نحن فيه:

ص: 311


1- فوائد الأصول 1: 145-150.

فإذا أمر المولی بالفعل وكان قصد الأمر جزءاً منه، فيکون (الأمر) نفسه متعلقاً للمتعلق - أي موضوع للأمر - ، فقوله (صل مع قصد الأمر) يرجع إلی قوله (إن وجد أمر فصلّ مع قصده).

وهذا دور، أو فيه ملاك الدور، في ثلاثة عوالم:

1- عالم الإنشاء: لأن المولی يلاحظ (الأمر) متقدماً، ليکون موضوعاً - أي متعلق المتعلق - ويلاحظه متأخراً لأن قصد الأمر فرع الأمر نفسه، فهذا تناقض في اللحاظ.

2- عالم الفعلية: إذ فعلية الأمر سوف تكون متوقفة علی فعلية موضوعه، ومن المعلوم أن قصد الأمر جزء من الموضوع - حسب الفرض - ، فتحصل توقف فعلية الأمر علی فعلية الموضوع الذي جزؤه الأمر، وهذا دور.

3- عالم الامتثال: وذلك لأن قصد الامتثال متأخر بالطبع عن تمام الأجزاء، لأن الامتثال إنّما هو بإتيان الأجزاء، فالمكلف يقصد الامتثال عبر الإتيان بالأجزاء، فلابد أن يکون المكلف قاصداً للامتثال قبل قصد الامتثال - الذي هو أحد الأجزاء - وهو محال.

ويرد عليه: أولاً: الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب، فالأول يکون مفروض الوجود حين إنشاء الحكم أو فعليته، دون الثاني إذ لا يتوقف الحكم عليه أصلاً.

وثانياً(1): بالإشكال في الكبری - وهي كل ما كان متعلق المتعلق يلزم أن يکون مفروض الوجود - ، إذ لا دليل علی هذه الكبری، لا في مرحلة

ص: 312


1- منتقی الأصول 1: 435.

الإنشاء، ولا في مرحلة الفعلية، ولا في مرحلة الامتثال.

بيانه: أن الحكم إما ينشأ من مصلحة في متعلقه أم لا...

وعلی الأول: فقد يکون متعلق المتعلّق مقوماً لاتصاف الفعل بالمصلحة، كالاستطاعة في الحج، ففي هذه الصورة يکون الحكم - الذي هو إرادة المولی للفعل - متأخراً، فيقال: إن وجدت الاستطاعة فحج.

وقد لا تكون المصلحة متوقفة علی متعلق المتعلق، لكن فعلية المصلحة تتوقف عليه، كالوضوء للصلاة، فهذا لاتتوقف إرادة المولی عليه، فيقال: تجب الصلاة عليك مطلقاً سواء توضأت أم لا.

وفيما نحن فيه، (الأمر) من النوع الثاني الذي لا تكون المصلحة متوقفة عليه، فإن الأمر ينشأ عن الإرادة، أو هو الإرادة نفسها، فهو متأخر عن القيود التي تكون دخيلة في اتصاف الفعل بالمصلحة، فلا تكون المصلحة متوقفة عليه، نعم تحققها خارجاً متوقف عليه كالوضوء الذي لا تتوقف مصلحة الصلاة عليه، لكن فعلية المصلحة تتوقف عليه.

وعلی الثاني: وهو في الأحكام التي لا تتبع المصلحة في المتعلّق كالأوامر الإمتحانية، فإن فرض وجود متعلق المتعلق وتأخر الأمر عنه إنّما يکون لغرض عقلائي في هذا الفرض، وإلاّ كان لغواً.

مثلاً: إيجاب الصلاة بالنسبة إلی الوقت، فإن فرض وجود الوقت له أثر وهو عدم صيرورة المكلف في عهدة التكليف قبل الوقت، فلا تجب المقدمات عقلاً لعدم الوجوب أصلاً.

وليس كذلك فرض وجود الأمر، فإنه لا أثر له، إذ لا يوجد زمان يکون المكلّف في عهدة التكليف قبل حصول الأمر.

ص: 313

والحاصل: إنه لا محذور من عدم لحاظ وجود الأمر حين الإنشاء.

كما لا محذور من عدم وجود الأمر حين الفعلية، بل لا إشكال في تأخر الأمر حين الفعلية.

وأما في مقام الامتثال فيمکن دفع الإشكال بتغاير قصد الأمر، فإن المأخوذ جزءاً من المتعلّق هو قصد الأمر الضمني المتعلق بذات الفعل، وإن المتفرع علی الأمر هو قصد امتثال الأمر الاستقلالي، فيقصد الامتثال بالأجزاء كما يقصد الامتثال بالمجموع، فلا محذور، فتأمل.

الإشکال الخامس: استلزام الخلف بأخذ قصد الأمر في متعلقه.

فعن المحقق العراقي(1): أن الخلف هو بتقدم اللحاظ وتأخره، فإن المولی يُلاحظ قصد الأمر متأخراً عن نفس الأمر، فإذا أخذ قصد الأمر في موضوع الأمر لزم أن يلاحظه متقدماً علی نفس الأمر، فيلزم تقدم المتأخر بحسب اللحاظ، وهذا محال، إذ يمتنع أن يری الشيء الواحد متقدماً ومتأخراً.

إن قلت: إن الموقوف عليه غير الموقوف عليه، لأن (الأمر الخارجي) هو الذي يتوقف علی قصد الأمر، وما يتوقف عليه قصد الأمر هو (العلم بالأمر) فلا خلف ولا دور، فيکون الملاحظ متقدماً هو العلم بالأمر، والملاحظ متأخراً هو الأمر الخارجي.

وذلك لأن قصد الأمر ليس معلولاً للأمر بوجوده الخارجي بل للأمر بوجوده العلمي، فإن القصد والداعوية تتحقق بعد الاطلاع علی الأمر لا

ص: 314


1- نهاية الأفكار 1: 188-189.

بمجرد وجوده الخارجي، كما أن التحرز عن الأخطار متفرع علی العلم بها، لا علی وجودها الواقعي مع الجهل بها.

قلت: إن قصد الأمر متوقف علی العلم به، إلاّ أن العلم مأخوذ بنحو الطريقية إلی الواقع، فلا يری المكلف نفسه إلاّ وهو منبعث عن الأمر الخارجي. وحينئذٍ يکون قصد الأمر متوقفاً علی العلم بالأمر الذي هو طريق إلی الواقع، فصار قصد الأمر متوقفاً علی الأمر بوجوده الواقعي، فعاد المحذور.

والجواب(1): إن ما يؤخذ في متعلق الأحكام هو المفاهيم والطبائع، لا المصاديق الخارجية، ومن المعلوم أن المفاهيم ينظر إليها بالاستقلال، لا أنها تلاحظ آلة، فتأمل.

فتحصل أنه لا محذور في اشتراط قصد القربة في التعبديات.

هذا كله بناءً علی تفسير قصد القربة بقصد الأمر.

المطلب الثاني: قصد المحبوبية أو الملاك

وقد يقال: إن قصد القربة هي (قصد المحبوبية)، أو (قصد الملاك)، فلا محذور إذ لم يؤخذ الأمر في متعلق نفسه، فقصد المحبوبية غير متفرع علی الأمر كي يلزم الدور، كما لا تلزم داعوية الشيء لداعوية نفسه، ولا تقدم اللحاظ وتأخره... إلی آخر المحذورات السابقة.

لكن قد يستشكل في ذلك بإشكالات ثبوتية وإثباتية:

الإشکال الأول: ما عن المحقق النائيني(2): من استحالة أخذ قصد

ص: 315


1- منتقی الأصول 1: 440.
2- فوائد الأصول 1: 151.

المحبوبية، لأن لازم ذلك كون المصلحة قائمة بالفعل المأتي به بداعي المصلحة، وذلك دور، إذ لا مصلحة في الفعل المجرد عن هذا القصد، وحينئذٍ يکون الاتيان بداعي المصلحة فرع قيام المصلحة به، الذي هو فرع أن يؤتی به بداعي المصلحة، وهذا إشكال ثبوتي.

ويرد عليه: ما مرّ من أن الأمر يدعو إلی جزئه الضمني - وهو الإتيان بالذات - فإذا أتی بهذا الجزء بداعي المحبوبية أو المصلحة تحقق الجزء الآخر أيضاً.

الإشکال الثاني: ما عن المحقق الخراساني(1)، وحاصله: أن اعتبار قصد المحبوبية أو الملاك، إما علی التعيين أو بالتخيير بينه وبين قصد الأمر.

والأول: يستلزم عدم صحة العمل بدون قصد المحبوبية أو الملاك، مع أنه لا إشكال في كفاية قصد الأمر في حصول الامتثال حتی لو لم يقصد المحبوبية، وهذا إشكال إثباتي.

والثاني: يستلزم أخذ داعي الأمر في متعلق الأمر - ولو كأحد طرفي التخيير - بأن يقول: صلّ بقصد الأمر أو بقصد المحبوبية، فتعود المحاذير السابقة، وهذا إشكال ثبوتي.

والجواب(2): أولاً: الالتزام بالتخيير، لكن لا علی نحو الوجوب التخييري ليلزم المحذور، بل بنحو التقييد، وذلك بأن يؤخذ عدم الإتيان بداعي الأمر قيداً لموضوع الوجوب المتعلق بقصد المحبوبية، كأن يأوّل هكذا: (صلّ بقصد

ص: 316


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 331.
2- منتقی الأصول 1: 452.

المحبوبية إن لم تأت بها بداعي الأمر)، والنتيجة هي نفس نتيجة الوجوب التخييري، لكن مع عدم الأمر بقصد الأمر ليلزم المحذور، نظير أن يقول (إن لم تسافر فتصدّق بدرهم)، حيث لم يتعلق الأمر بالسفر، لكن المكلف بالنتيجة يری نفسه مخيراً بين السفر وبين التصدّق.

وثانياً: عدم أخذ قصد المصلحة علی نحو التقييد كي لا يصح غيره، بل اعتبار قصد المصلحة مهملاً بالنسبة إلی قصد الأمر، فيرجع إلى حكم المولی بكفاية قصد المحبوبية، مضافاً إلی حكم العقل بكفاية قصد الأمر في تحقق الامتثال لتحقق غرض المولی، وبذلك يسقط الأمر فينتفي موضوع قصد المحبوبية.

الإشکال الثالث: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1) - وهو إشكال إثباتي - بأن جواز الاقتصار على الإتيان بالفعل بداعي الأمر، يكشف عن تعلق الأمر بنفس الفعل، لا بالفعل بداعي حسنه، إذ لا يمكن إتيانه بداعي الأمر إلاّ مع تعلقه بذات الشيء، وإلا يلزم اجتماع داعيين على فعل واحد، أو يکون داعي الأمر من قبيل داعي الداعي، وكلاهما خلاف الفرض.

وفيه: أنه لا إشكال في عدم وجود مصلحة في ذات العمل مجرداً عن قصد القربة فلابد من انضمام قصد القربة - سواء أخذ ضمن المتعلّق أم دلّ العقل عليه - وحينئذٍ إما نأخذها عن طريق قصد الأمر - ولو لم يكن متعلقاً للأمر - أو عن طريق قصد المحبوبية مع كونها متعلقاً للأمر، فتأمل.

الإشكال الرابع: ما قيل من أن اتفاق العلماء علی كفاية إتيان العبادة

ص: 317


1- نهاية الدراية 1: 336.

بقصد أمرها يكشف عن عدم أخذ قصد المحبوبية أو الملاك في متعلق الأمر، إلاّ إذا قلنا بلزوم قصد الأمر منضماً إلی قصد المحبوبية أو الملاك، ولم يقل بذلك أحد.

وفيه: أن الاتفاق علی الاكتفاء بداعي الأمر لا يكشف عن تعلق الأمر بذات العمل، كيف وقد اشترطوا قصد الأمر.

مضافاً إلی أن القدماء وأكثر المتأخرين اشترطوا قصد القربة في العبادة من غير التطرق إلی الكيفية، فلم يوجد عين ولا أثر في كلمات أغلبهم عن قصد الأمر، وإنّما المتأخرون وضّحوا قصد القربة بأنها قصد الأمر، فيمکن بيانه بأنه قصد المحبوبية ونحو ذلك.

المطلب الثالث: دفع المحذور بتعدد الأمر

قد يقال: بإمکان دفع الإشكال بالالتزام بتعدّد الأمر، حيث إن الأول يتعلق بذات العمل، والثاني بقصد الأمر، عكس التوصلي حيث لا يوجد فيه إلاّ أمر واحد بذات الفعل.

وهذا المطلب ثمَّ بيانه بطرق مختلفة، منها:

الطريقة الأولی: ما في الكفاية(1): من أن الأمر الأول يتعلق بذات العمل فيکون أمراً مطلقاً، والأمر الثاني يکون مقيداً للأمر الأول.

وأورد عليه: بأنّه مع إتيان الأمر الأول بدون قصد الامتثال هل يسقط الأمر الأول أم لا؟

فعلی الأول: يلزم منه سقوط الأمر الثاني أيضاً لفوات موضوعه،

ص: 318


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 326.

وبالسقوط لا تلزم الإعادة، وذلك يكشف عن عدم صيرورة الفعل بالأمر الثاني تعبدياً، إذ لو كان تعبدياً لم يسقط بدون قصد القربة، وهذا ما لا يلتزم به أحد.

وعلی الثاني: يلزم منه عدم سقوط الأمر مع تحقق متعلقه، فإن عدم سقوط الأمر يكشف عن توقف حصول الغرض - الموجب للأمر الأول - علی الإتيان بالفعل بقصد القربة، وبدون قصد القربة لا يحصل الغرض فلا يسقط الأمر، وحينئذٍ فالعقل يحكم بلزوم (قصد الأمر)، لتحصيل الغرض، وهذا الحكم في كيفية إطاعة أمر المولی، فيکون الأمر الثاني إرشادياً لا مولوياً.

وعليه لم يمكن تصحيح أخذ القربة بالأمر الثاني - لكونه إرشادياً - ، بل تصحيح قصد القربة بحكم العقل.

والحاصل: إن سقوط الأمر الأول يكشف عن عدم العباديّة وهو خلاف الفرض، وعدم سقوطه إنّما هو بحكم العقل فيکون أخذ قصد القربة بحكم العقل لا بالأمر الثاني.

إن قلت: يسقط الأمر الأول بشخصه لتحقق متعلقه، إذ بقاؤه يکون طلباً للحاصل، لكن يتولد أمر آخر مثله، وذلك لبقاء الغرض.

قلت: إن كان الغرض علة لحصول الأمر، فبدونه لا يسقط الأمر، كما أن ما تحقق في الخارج ليس مقتضی الأمر حتی يکون بقاء الأمر طلباً للحاصل.

الطريقة الثانية: ما ذهب إليه المحقق النائيني(1)، والذي عبر عنه ب-(متمم

ص: 319


1- فوائد الأصول 1: 161-162.

الجعل).

وحاصله: أن الأمر الأول يتعلق بالطبيعة المهملة - اللا بشرط المقسمي - ، لا بالطبيعة المطلقة، لأنه إذا استحال التقييد بقصد الأمر استحال الإطلاق أيضاً، لتقابل الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة. فلابد من رفع إهمال الأمر الأول بالأمر الثاني، وهو ليس جعلاً جديداً بل هو متمم للجعل الأول، وذلك لعدم إمكان بقاء الإهمال الثبوتي، فلابد للمولی من رفع الإهمال بأمر ثان يبين فيه الإطلاق أو التقييد.

وهذا الكلام يجري في كل شيء لا يمكن أخذه في متعلق الأمر.

وأشكل عليه: أولاً: بإشكال مبنائي، بأن تقابلهما تقابل الضدين الذين لاثالث لهما، فإذا استحال التقييد ثبت الإطلاق، نظير جهلنا بذات الباري مع عدم إمكان علمنا به، حيث يدل علی أن تقابل العلم والجهل ليس من تقابل العدم والملكة.

وفيه: أن الإطلاق بقوة العموم، فمعناه شمول المطلق للمصاديق كلها، فإذا استحال فرد من الأفراد فلا معنی لشمول الإطلاق له، إذ يکون الإطلاق حينئذٍ بمعنی شمول المطلق لذلك الفرد المستحيل ولغيره.

كما أن مثال العلم والجهل أيضاً من العدم والملكة، قال الوالد في الأصول(1)، إن ذات الباري قابلة لكي يُعلم أو يُجهل بها، وإنّما يجهل بها الممكن لنقص فيه لا لعدم قابلية الذات، فتأمل.

وثانياً: بإشكال بنائي، بأن إهمال الأمر الأول غير معقول، كي يُرفع بالأمر

ص: 320


1- الأصول 1: 208.

الثاني، لأن الحكم له وجود في عالم الاعتبار، وكل موجود لابدّ من أن يکون متشخصاً في صقع وجوده ويستحيل أن يوجد مُردّداً، كما أن المشرِّع لا يعقل أن يکون متردداً أو جاهلاً بإنشائه حين الإنشاء، وذلك لأن الأمر من مجعولاته.

وفيه(1): أن المراد هو الإهمال المفهومي، أي إن مدلول الأمر الأول اسم جنس - أي ذات الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة - حيث إن الإطلاق والتقييد حيثيتان لحاظيتان زائدتان علی ذات الطبيعة المهملة، وهذا المعنی معقول في نفسه، نعم الإهمال المصداقي والفرد المُردّد مستحيل في ذاته، لكنه غير مرتبط بكلام المحقق النائيني.

وثالثاً: بأن الطبيعة المهملة إما بقوة الإطلاق أو بقوة التقييد.

وعلی الأول: يرجع إلی كلام الكفاية، حيث يکون متعلق الأمر الأول مطلقاً.

وعلی الثاني: لا توجد حاجة إلی الأمر الثاني، لأن الأمر المهمل في قوة التقييد بقصد القربة ونحوها، فبالأمر الأول يتحقق تمام غرض المولی من غير حاجة إلی الأمر الثاني، فتأمل.

الطريقة الثالثة: ما ذهب إليه المحقق العراقي(2)، وحاصله: أن الجعل واحد ولكن المجعول متعدد، وذلك لأن الأمر قد يراد به السنخ - أي النوع - فقد تكون أفراد عرضية، مثل أكرم العالم، وقد تكون أفراد طولية، وهذا

ص: 321


1- بحوث في علم الأصول 2: 91.
2- مقالات الأصول 1: 238-240.

علی قسمين:

1- الطولية الذاتية، بأن يكون أحدهما معلولاً للآخر، مثل (إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة)(1)، فإن وجوب الطهور مقدّمي معلول لوجوب الصلاة.

2- الطولية لأجل إناطة موضوع أحدهما علی قيام الفرد الآخر من الحكم علی موضوع آخر، أي إذا قام حكم علی موضوع، تولّد منه موضوع حكم آخر، مثل (صدّق العادل) الشامل بإطلاقه الأفراد الطولية في الخبر بالواسطة، فإن موضوع هذا الإنشاء هو كل خبر يکون لمؤدّاه أثر، وذلك لا يستلزم الدور لأن الحجيّة التي تحقق الموضوع هي غير الحجيّة التي تتبع ذلك الموضوع، ولا مانع من أن يکون كل ذلك بجعل واحد وقد أخذ في موضوعه طبيعي الأثر الشرعي.

وهكذا فيما نحن فيه، فإنه يراد من إنشاء الأمر سنخ الوجوب، وهو موجود في فردين طوليين، فبالجعل الواحد يثبت أولاً أمر ضمني بذات الصلاة، وهذا لم يؤخذ في موضوعه أمر آخر، ثم ثانياً يکون أمر ضمني آخر بقصد الأمر، ويکون الأمر الأول محققاً لموضوعه، ولابأس بأن يکون كل ذلك بجعل واحد.

ويمكن أن يورد عليه: بالفرق بين المقامين، حيث إنه في الخبر مع الواسطة تكون هناك أحكاماً عديدة مستقلة، فيعقل أن يُحَقّق أحدها موضوع الآخر.

ص: 322


1- من لا يحضره الفقيه 1: 33.

وأما ما نحن فيه فالموضوع لكلا الأمرين واحد، فلا يعقل الطولية، لأن قوله (صلّ) - مثلاً - موضوعه الأجزاء والشرائط ومنها قصد القربة، فتأمل.

المطلب الرابع: مقتضى الأصل اللفظي والعملي
اشارة

لو شككنا في عبادية عمل أو توصليته، فهل هناك أصل يدل علی أحدهما؟

والبحث في ثلاثة مقامات: في الإطلاق اللفظي، والإطلاق المقامي، والأصل العملي.

المقام الأول: في الإطلاق اللفظي

والكلام يختلف بحسب المباني الثلاث...

1- فعلی مبنی جواز أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، ودفع إشكال الدور والخلف... الخ، تكون قصد القربة كسائر الأجزاء والشرائط، فيمکن نفيها بالإطلاق حين الشك في دخلها.

2- وأما علی مبنی الاستحالة، والقول بأن الفرق بين التوصلي والتعبدي إنّما هو في الغرض الذي يتوقف علی قصد القربة وعدم توقفه، مع عدم الفرق في تعلق الأمر فيهما، فهنا إشكالات في التمسك بالإطلاق، منها:

الإشكال الأول: إنه لا يمكن ذلک، لأنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق أيضاً.

وأورد عليه المنتقی إيرادين(1):

أولاً: بأنه لا وقع لهذا التمسك بالإطلاق ولا بالإشكال عليه أصلاً، وذلك

ص: 323


1- منتقی الأصول 1: 455؛ بحوث في علم الأصول 2: 97.

لعدم الشك أصلاً - علی هذا المبنی - للعلم بعدم دخل قصد القربة في متعلق أمر المولی لاستحالته.

وأما دخل قصد القربة في حصول غرض المولی أو عدم حصوله فهذا لا يرتبط أصلاً باللفظ كي نبحث عن إطلاقه أو عدم إطلاقه، فإن الإطلاق يتكفل ثبوت الحكم لموضوعه لا أكثر، وموضوع الشك - وهو الدخل في الغرض - غير مرتبط بذلك أصلاً.

وثانياً: بأن استحالة الإطلاق عند استحالة التقييد علی قسمين:

القسم الأول: استحالة شمول الخطاب للمقيد، وهذا علی نوعين:

أ) الاستحالة في نفس ثبوت الحكم للمقيد، أي عدم صلاحية ذات المقيد لثبوت الحكم فيه، مثلاً تقييد الحكم بالعاجزين.

وهذا النوع من استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق - بمعنی شمول الحكم للمقيد أيضاً بالإطلاق - .

ب) الاستحالة ليست في ثبوت الحكم للمقيد، بل في نفس عملية التقييد أو في نتيجة التقييد، ومثال الأول الدور المذكور هنا، حيث لا محذور في المقيد وهو وجوب الصلاة مع قصد القربة، لكن نفس التقييد كان فيه المحذور، ومثال الثاني تقييد الخطاب بالكفار فقط فإن المقيد وهو تكليف الكفار لا محذور فيه، وإنّما المحذور في حصر الخطاب بهم فإن ذلك مستهجن وقبيح فيستحيل علی الحكيم.

وفي هذا النوع استحالة التقييد لا يوجب استحالة الإطلاق، لأن المحذور كان في نتيجة التقييد - وهو تخصيص الحكم بالمقيد فقط أو في عمليّة التقييد - وكلا المحذورين يرتفع بالإطلاق.

ص: 324

وحيث إن أخذ قصد القربة في العبادة من هذا النوع الثاني، فاستحالة التقييد بقصد القربة لا تستلزم استحالة الإطلاق، فتأمل.

القسم الثاني: استحالة نفي القيد، فيکون الخطاب مهملاً.

وعليه يکون استحالة التقييد بقصد القربة يستلزم استحالة الإطلاق، فتثبت التوصلية.

ويدل عليه: أن تقابل الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة،حيث إن الإطلاق هو عدم التقييد في الموضع القابل للتقييد.

وأشكل عليه(1) بإنكار تقابل العدم والملكة بينهما، إذ ليست المسألة لغوية أو عرفية لنرجع إلی اللغة والعرف، كمعنی لفظ الأعمی، بل المسألة واقعية،ترتبط بسريان الطبيعة إلی تمام الأفراد وعدم السريان.

وحينئذٍ، فإن كان الإطلاق ذاتياً، بمعنی حصول الإطلاق مع عدم المانع الذي هو لحاظ قيد، فيقابله التقييد الذي هو لحاظ قيد، فيکون التقابل من السلب والإيجاب.

وإن كان الإطلاق لحاظياً - أي لحاظ شيء زائد علی أصل الطبيعة - ، والتقييد كذلك، فيکون الإطلاق من اللا بشرط القسمي، والتقييد من بشرط شيء، فيکونان أمرين وجوديين، فالتقابل بينهما من الضدين.

وأورد عليه(2) بأنه لا معنی لإطلاق شيء إلاّ عدم تقييده بشيء من شأنه التقييد به، فما يستحيل التقييد به يستحيل الإطلاق من جهته.

ص: 325


1- نهاية الدراية 1: 339 (الهامش)؛ بحوث في علم الأصول 2: 99.
2- نهاية الدراية 1: 337.

وفيه: أن الإطلاق تارة يكون جمع القيود، وتارة يكون بمعنى رفضها، وما ذكره يجري في الأول دون الثاني، وسيأتي توضيحه.

الإشكال الثاني ما ذكره المحقق الإصفهاني(1): بأن عدم التقييد لا يكشف عن عدم دخل قيد في الغرض، فلعلّه ممكن الدخل غير ممكن التقييد.

وأشكل عليه(2): بأنه إنّما يتمّ لو كان أخذ القيد ودخله في المتعلّق ممكناً ثبوتاً، لكن كان هناك مانع عن بيانه بالدليل. وليس ما نحن فيه كذلك، إذ أخذ القيد ثبوتاً ممتنع، فلا معنی لهذا الكلام الإثباتي.

ويرد عليه: بأنه لا إشكال عند المحقق الإصفهاني في عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، بل كلامه في دخله في الغرض أو عدم دخله، وحينئذٍ يکون عدم بيان الشارع مستنداً إلی استحالة أخذه في متعلق الأمر، وليس إلی عدم دخله في الغرض.

نعم لو كان أخذه ممكناً ومع ذلك لم يذكره الشارع، أمكن القول بعدم دخله في الغرض، أما مع استحالة أخذه فعدم بيانه لا يلازم عدم دخله في الغرض، فتأمل.

3- وأما علی مبنی تعدد الأمر:

أ) فإن قلنا بتعدد الأمر بحيث يکون الأول مطلقاً والثاني مقيداً، فلا محذور في التمسك بالإطلاق.

ص: 326


1- نهاية الدراية 1: 340.
2- منتقی الأصول 1: 459.

ب) وإن قلنا بمتمم الجعل، فيکون الجعل الأول غير تام، فلا معنی لإطلاقه أصلاً.

اللهم إلاّ أن يقال: إنه مع عدم العثور علی متمم الجعل، يمكن إثبات الإطلاق بمقدمات الحكمة، إذ عدم ذكر متمم الجعل بمعنی عدم نصب القرينة علی الخلاف.

ج) وإن قلنا بوحدة الجعل وتعدد المجعول، فلا إطلاق في البين، إذ تعدد المجعول لا يثبت إلاّ بوجوب الجامع بين ذات الفعل وقصد القربة، وحينئذٍ لا يکون شك في وجوب قصد القربة لكي ينفی بالإطلاق، ومع عدم دلالة الدليل علی وجوب الجامع بل دلالته علی وجوب الذات، فلا طريق لإثبات تعدد المجعول، بل يمكن ادعاء أن المجعول - وهو وجوب الذات - مطلق، فتأمل.

المقام الثاني: في الإطلاق المقامي

بأحد بيانين(1):

البيان الأول: إن ظاهر المولی أنه بصدد بيان تمام غرضه، فلو كان الأمر قاصراً عن بيان تمام غرضه لعدم إمكان أدائه به، لزم علی المولی تكميل البيان ولو بجملة خبرية، فإن لم يبين المولی ذلك انعقد إطلاق مقامي في كلامه لنفي دخل قصد القربة في الغرض.

البيان الثاني: لو كان قصد القربة دخيلاً في الغرض كان علی المولی بيانه - ولو بجملة خبرية - وإلاّ لزم نقض الغرض، ولكن بشرطين:

ص: 327


1- نهاية الأفكار 1: 199؛ بحوث في علم الأصول 2: 104.

أ) أن يکون قصد القربة مغفولاً عنه عند العرف.

ب) أن لا يکون الأصل الاشتغال.

أما لو كان العرف ملتفتاً إلی إمكانية اشتراط قصد القربة مع کون الأصل الاشتغال، فلا يلزم من عدم البيان نقض الغرض، وذلك لأن العبد لابد من أن يأتي بقصد القربة لاحتماله اشتراطها مع جريان الاشتغال في حقه.

والحاصل: إنه حينئذٍ وإن لم يصل المولی إلی غرضه عبر البيان لكنه يصل إليه عبر الأصل العملي وهو الاشتغال.

لكن يمكن أن يستشكل في الشرط الثاني، وذلك لأن موارد أصالة الاشتغال مختلف فيها بشدة، بل قد يتوهم جريان الإطلاق اللفظي لنفي اشتراط قصد القربة، فلذا على المولى البيان، نعم لو كانت أصالة الاشتغال في المورد متفق عليها مع عدم توهم جريان الإطلاق اللفظي فلا لزوم للبيان فيمكن نفي اشتراط قصد القربة بالإطلاق المقامي، فتأمل.

المقام الثالث: في الأصل العملي

فهل هو البراءة عن قصد القربة، أم الاشتغال بلزوم الإتيان بها؟

قيل: بأن الأصل الاشتغال حتی لو قلنا بالبراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين، فما نحن فيه ليس من مصاديق تلك المسألة.

وبيان هذا عبر وجوه...

الوجه الأول: الفرق بين الأسباب والمسببات التكوينية حيث لا تجري فيها البراءة، لأن وضعها ليست من الشارع لكي يکون رفعها بيده، وبين الأسباب والمسببات الشرعية، والتي يتصرف فيها الشارع ويبين حدّها، فمع الشك فيها نرجع إلی البراءة لأنها أمور مجعولة له فيمکنه رفعها.

ص: 328

وفيما نحن فيه: إنّما الشك في دخل قصد القربة في الغرض، لا في المأمور به لعدم إمكان أخذ قصد القربة فيه، والدخل في الغرض أمر تكويني فلا يمكن رفعه بالبراءة.

ويرد عليه: أن عدم بيان الشارع - ولو بجملة خبرية - يكشف عن عدم دخالته في الغرض، إذ لو كان دخيلاً فيه لكان عدم بيانه نقضاً للغرض.

فصحيح أن رفعه ووضعه ليس بيده، لكنه كان يمكنه بيان دخالته في الغرض فيکون عدم بيانه نقضاً للغرض.

الوجه الثاني: التفريق بين الموردين بواسطة البراءة العقلية والشرعية.

ففي كلتا المسألتين لا تجري العقلية إذ لابد من الجزم بتحصيل غرض المولی، وهو لا يحصل إلاّ بالأكثر، وأما البراءة الشرعية فتجري في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، لأن وضعها ورفعها بيد المولی، فإطلاق متعلق الأمر يكشف عن حصول الغرض به، ولا تجري البراءة الشرعية فيما نحن فيه لأن وضع قصد القربة لم يكن بيده فلا يکون رفعه بيده أيضاً.

والحاصل: إنه في الأقل والأكثر الارتباطيين تكون البراءة الشرعية واردة علی البراءة العقلية بإزالة موضوعها، وأما في قصد القربة فلا تجري البراءة الشرعية ولا العقلية، فلابد من الاحتياط.

ويرد عليه: أن عدم البيان - ولو بجملة خبرية - يكشف عن عدم دخل قصد القربة في الغرض، ومع الجزم بعدم دخالة قصد القربة في الغرض تجري البراءة العقلية بلا إشكال.

الوجه الثالث: التفريق بين الموردين بالشك بالتكليف والمكلف به.

ص: 329

ففي الأقل والأكثر الارتباطيين: يمكن الذهاب إلی البراءة وذلك عبر القول بانحلال العلم الإجمالي ورجوع الشك إلی الشك في التكليف بذلك الجزء أو الشرط، فتجري البراءة.

وأما في اشتراط قصد القربة: فلا شك في التكليف، حيث نعلم بعدم أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، بل الشك في مقام امتثال التكليف، فهل التكليف المعلوم يسقط بدون قصد القربة أم لابد من الإتيان بها، وسبب هذا الشك هو عدم العلم بدخالة قصد القربة في الغرض، حيث إن الأمر معلول للغرض، ولا يسقط المعلول إلاّ بسقوط غرضه.

و يرد عليه: أن الشك بسقوط التكليف وعدم سقوطه يزول بعلمنا بعدم دخالة قصد القربة في الغرض، لما مرّ من أن عدم بيانه يكشف عن عدم دخالته في الغرض، فتأمل.

المطلب الخامس: أصالة التعبدية

وقد يقال: إنه مع الشك في التوصلية والتعبدية، فالأصل التعبدية، وقد يستدل بأمور منها:

الدليل الأول: قوله تعالی: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(1) حيث دلت الآية علی حصر الأوامر في العبادية، وأما التوصليات فهي خرجت بدليل خاص مخصّص للآية.

والجواب: أولاً: إن الحصر إضافي، بقرينة أن الخطاب للكفار - كما دلت عليه الآيات السابقة - فالمعنی لم يؤمروا بالتوحيد إلاّ ليعبدوا الله وحده

ص: 330


1- سورة البينة، الآية: 5.

دون الأوثان.

وثانياً: إن ظاهر الآية هو حصر العبادة في الإخلاص، لا حصر الأوامر في العبادة، وذلك لأن المستثنی قد يکون مطلقاً وقد يکون مقيداً...

أ) فإذا لم يكن مقيداً فظاهره حصر المستثنی منه في المستثنی، كما لو قال: (لم آمرك إلاّ بالسفر) حيث ظاهره حصر جميع الأوامر في السفر، فلا أمر له غيره.

ب) وإذا كان مقيداً فظاهره حصر المستثنی في القيد، كما لو قال: (لم آمرك إلاّ بسفر الطاعة)، حيث ظاهره حصر الأمر بالسفر في سفر الطاعة، لا حصر جميع أوامره بسفر الطاعة(1).

وثالثاً: استلزامه تخصيص الأكثر، حيث إن أكثر الأوامر توصليات.

وفيه نظر: مبنیً بعدم الإشكال في تخصيص الأكثر إذا لم يستلزم الاستهجان، كما لو أراد بيان حكم المستثنی وحكم المستثنی منه فقال: (أكرم الشعراء إلاّ فسّاقهم)، وكان فساقهم أكثر، وكما إذا كان المستثنی أكثر في الفرد لا في النوع مثل: (أكرم العلماء إلاّ النحاة)، وكان أكثر أفراد العلماء النحاة، لكن كانت الأنواع الأخری كثيرة وإن كانت أفرادها قليلة، وكما في العكس، والعبادات أكثر أفراداً كأفراد الصلاة والصوم... الخ.

وبناءً: بأنه بضميمة المستحبات تكون العبادات أكثر(2).

الدليل الثاني: الروايات الدالة علی أن الأعمال بالنيات وإنّما لامرءٍ ما

ص: 331


1- راجع منتقی الأصول 1: 466.
2- فوائد الأصول 1: 157.

نوی(1).

و فيه: أن الروايات في بيان النتيجة - كالثواب - ، لا علی توقف صحة العمل علی قصد القربة.

وللشيخ الأعظم تفصيل في الجواب(2): بين ما أريد نفي العمل تكويناً، أو نفي صحة العمل، أو نفي نسبة الفعل إلی الفاعل، والأول يستلزم الكذب، والثاني يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن، والثالث أجنبي عن قصد القربة.

والحاصل: عدم ارتباط هذه الروايات باشتراط قصد القربة.

المبحث الثامن: دلالة الأمر على الوجوب النفسي التعييني العيني

أما الوجوب النفسي والغيري - فالنفسي: هو ما وجب لنفسه من غير ارتباط وجوبه بوجوب آخر، والغيري: ما وجب لغيره بأن كان مقدمة له - ، فالإطلاق يقتضي النفسيّة.

وأما الوجوب التعييني والتخييري، فالإطلاق يقتضي التعيينية، أي الوجوب علی كل حال سواء أتی بمحتمل البدلية أم لا، ولا فرق في ذلك علی مختلف المباني في الوجوب التخييري(3).

1- سواء قلنا: إنه الإيجاب مشروطاً بترك الغير - فيکون من الواجب المشروط - ، فإن الإطلاق يقتضي عدم الاشتراط.

2- أم قلنا: بأنه إيجاب الجامع بين الفعلين أم الأفعال، فإن المادة مطلقة

ص: 332


1- راجع تهذيب الأحكام 1: 83.
2- مطارح الأنظار 1: 316-317.
3- راجع بحوث في علم الأصول 2: 114.

وظاهرة في أن الأمر تعلّق بنفس هذا العنوان لا بالجامع، كما أن الهيأة لها إطلاق أحوالي أي حتی لو تحقق الآخر، ولازم هذا التعيينية.

3- أم قلنا: بأنه وجوب ضعيف مشوب بجواز الترك إلی بدل، حيث إنه واسطة بين الوجوب والاستحباب، فإن الإطلاق يقتضي بقاء الوجوب حتی مع الإتيان بمحتمل البدلية.

وأمّا الوجوب العيني والكفائي، فكذلك الإطلاق يقتضي العينية، أي سواء أتی الآخر به أم لم يأت.

والحاصل: إن الإطلاق أيضاً يقتضي بأن الواجب ليس متوقفاً علی مقدمة، ولا أنه جزء من مركب، ولا توقفه علی شخص آخر بأن يکون المكلف منضماً إلی شخص آخر(1).

ثم لا يخفی أنه في صيغة الأمر يتمسك بالإطلاق اللفظي، لكن إن استفيد الوجوب من دليل لبّي فلابد من التمسك بالإطلاق المقامي، أو بالأصل العملي بالاشتغال، فتأمل.

وكما تجري البحوث في الواجب كذلك في المستحب والحرام والمكروه.

المبحث التاسع: الأمر عقيب الحظر

في مدلول الأمر عقيب الحظر أو توهمه، ويلحق به النهي عقيب الوجوب أو توهمه.

ولابد من الكلام في نقاط:

ص: 333


1- الأصول 1: 212.

النقطة الأولی: في تنقيح محل البحث، وهو ما إذا لم يكن عموم أو إطلاق يشمل ما بعد النهي، بحيث يکون النهي كالتخصيص أو التقييد(1)، وما إذا كان متعلق الأمر عين متعلق النهي، لا العموم والخصوص، وإلا فلا إشكال في التخصيص(2).

النقطة الثانية: لا إشكال في عدم دلالة الأمر حينئذٍ علی الوجوب، وذلك لقيام القرينة النوعية علی عدم إرادته، وهذه القرينة ليست قرينة المجازية، إذ لا مجازية في الصيغة، بل قد يقال: إنّ الإرادة الاستعمالية - التي هي ملاك الحقيقة والمجاز - تعلقت بنفس المعنی الموضوع له، وهو النسبة الإرسالية، ولكن لا توجد إرادة جدية فلا يكشف الأمر عن إرادة هذه النسبة جداً، بل القرينة تدل علی عدم إرادته، وهكذا علی مبنی الدلالة علی الوجوب بالإطلاق حيث لم تتم مقدمات الحكمة لوجود القرينة علی الخلاف وهذا لا يستلزم المجازية، وكذلك علی مبنی الدلالة العقلية إذ ذاك لا يرتبط باللفظ ووضعه، فقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ}(3) ليس مجازاً البتة، فتأمل.

وأما احتمال الدلالة علی الوجوب، بزعم أن الأمر عقيب الحظر أو توهمه من صغريات الصيغة وهي تدل علی الوجوب، وهكذا توهم زوال علة النهي فلم يبق وجه لعدم الوجوب!!

ففيهما: عدم ظهور الصيغة في الوجوب، لوجود القرينة النوعية.

ص: 334


1- الأصول 1: 215.
2- نهاية الأفكار 1: 209.
3- سورة المائدة، الآية: 2.

النقطة الثالثة: بعد عدم الدلالة علی الوجوب، فما هو مدلول الصيغة؟

1- فقد يقال: بالإباحة وضعاً، للتبادر.

وفيه: عدم فائدة التبادر إذا كان مستنداً علی القرينة.

2- أو بالإباحة إما بالقرينة، أو لعدم تمامية مقدمات الحكمة لوجود القرينة علی الخلاف، على اختلاف المباني في كيفية دلالة الصيغة على الوجوب.

وقد يقال: إن الإباحة بالمعنی الأخص لها قيد عدمي فتثبت بالإطلاق، فتأمل.

3- أو الحكم السابق علی التحريم - أياً كان - لزوال علة النهي فيرجع الأمر إلی ما كان عليه.

وفيه: أنه لو لم يكن عموم أو إطلاق فلا وجه للرجوع إلی الحكم السابق، لعدم دليل ولا أصل من استصحاب أو غيره.

4- الإجمال، إذ لا موجب لظهورها في سائر الأحكام بعد عدم ظهورها في الوجوب.

وفيه: أن القرينة النوعية العامة رافعة للإجمال ودالة علی الإباحة.

النقطة الرابعة: في الأمر بعد الحظر في العبادات.

يمكن استفادة خصوصية الاستحباب(1)، لا من جهة ظهورالاستحباب - بعد ارتفاع الظهور في الوجوب - بل لمناسبة خصوصية المورد.

والدليل: هو أن الأمر كما يدل علی الوجوب، يدل علی محبوبية المتعلّق

ص: 335


1- راجع نهاية الأفكار 1: 210.

ورجحانه، وبعد ارتفاع الظهور في الوجوب من جهة وقوعه عقيب الحظر تبقی المحبوبية.

وفيه: أولاً: هذا عام لكل أمر تبعه حظر ثم أمر آخر رافع للحظر، وليس خاصاً بالعبادات.

وثانياً: إن جهة إثبات الاستحباب هو أنه لا معنی لعبادة غير راجحة - وجوباً أو استحباباً - فلا تخلو العبادات منهما، كما يظهر من مجمل الأدلة.

المبحث العاشر: في المرّة والتكرار

اشارة

هل صيغة الأمر تقتضي المرّة أو التكرار، أو لا تقتضي إلاّ صرف وجود الطبيعة؟

وهنا أمور:

الأمر الأول: المراد من المرة والتكرار

وفيه ثلاثة وجوه:

1- الفرد والأفراد.

2- الوجود الواحد والوجودات.

والفرق بينهما(1) هو أنه علی الأول يکون الفرد بخصوصية الفردية تحت الطلب، بخلافه علی الثاني فإن مطلوبية الفرد إنّما هي لكونه مصداقاً للطبيعي فتكون الخصوصية الفردية خارجاً عن دائرة الطلب.

وتظهر الثمرة في مقام الامتثال حيث إنه على الأول يقع الامتثال بالخصوصية، دون الثاني حيث لا يقع الامتثال بالخصوصية بل ربّما صدق

ص: 336


1- نهاية الأفكار 1: 211.

التشريع مع قصد الخصوصية، فتأمل.

3- الدفعة والدفعات.

ويظهر الفرق بين هذا وبين الوجهين الأولين في أنه:

أ) علی القول بالمرة، فعلی تفسيرها بالدفعة فإنه يتحقق الإمتثال بالمتعدد إذا جاء به دفعة واحدة.

ب) وعلی القول بالتكرار، فعلی تفسيره بالأفراد أو الوجودات يکفي المتعدد دفعة، وأما علی تفسيره بالدفعات فلا يکفي.

ثم إنه لو كان المراد الوجه الأول لكان اللازم دمج هذا البحث في المسألة الأخری الآتية في أن (الأمر يدل علی الطبيعة أو الفرد)، بأن يقال: هل الأمر يدل علی الطبيعة أم الفرد، وعلی فرض دلالته علی الفرد فهل يدل علی فرد واحد أم الأفراد.

فالأظهر هو أن مرادهم المعنی الثاني أو الثالث.

الأمر الثاني: الدلالة على الطبيعة

الظاهر دلالة الأمر علی الطبيعة - لا المرة ولا التكرار - وذلك لأنه لا وضع ولا إطلاق لأحدهما...

1- أما عدم الوضع لأحدهما: فلأنّ صيغة الأمر مركبة من المادة والهيأة، أما الهيأة فلا تدل إلاّ علی النسبة الإرسالية البعثية - كما مر سابقاً - ، وأما المادة فهي دالة علی المهية الصرفة وهي ذات الطبيعة، ولا يوجد شيء دال علی المرة أو التكرار.

هذا مضافاً إلی أن الوضع لأحدهما يستلزم المجاز في الآخر، وهذا لا يمكن الالتزام به.

ص: 337

2- وأما الإطلاق: فقد يقال: إن إطلاق الصيغة يدل علی البدلية، ففي نحو (أكرم العالم) يکفي إكرام كل واحد من العلماء مرّة واحدة وبنوع واحد من الإكرام، وذلك لتحقق الطبيعة بذلك، فلو أراد المولی زائداً علی ذلك كان عليه البيان.

نعم الموضوع وهو (العالم) إطلاقه دال علی الشمول، فلو أراد المولی بعض العلماء كان عليه نصب القرينة.

والحاصل: إن الإطلاق بلحاظ المتعلّق بدلي، وبلحاظ الموضوع شمولي.

والوجه في ذلك: الفهم العرفي، وهو حجة، لحجية الظواهر، فلا يرد إشكال أن المطلق يدل علی ذات الطبيعة من دون أخذ قيد زائد معها، فمن أين الفرق؟

وبيان الفارق العرفي، أو تشريح المرتكز العرفي(1): أن الموضوع يلحظ مفروض الوجود في المرتبة السابقة علی الحكم، وحيث إن الموجود جزئي - حيث إن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد - فلا محالة يتكرر الموضوع بتكرر الأفراد.

وليس المتعلق كذلك - أي لا يفرض وجوده قبل الحكم - ولولا ذلك لكانت الأوامر والنواهي طلباً للحاصل، مثلاً طلب إيجاد الإكرام المفروض وجوده، ولكان في الأخبار قضية ضرورية بشرط المحمول مثلاً (العالم عادل) يکون بمعنی (العالم المفروض كونه عادلاً عادلٌ).

والحاصل: إن المتعلق لا يلحظ مفروض الوجود والثبوت في المرتبة

ص: 338


1- بحوث في علم الأصول 2: 122.

السابقة علی الحكم والأمر، فلا معنی للانحلال بلحاظه.

ثم إنه لا فرق في ذلك بين الأوامر والنواهي في مرحلة الجعل، أي كلاهما يدلان علی صرف الطبيعة - إيجاداً في الأوامر وإعداماً في النواهي - ، وإنّما الفرق في مرحلة الامتثال، حيث إن إيجاد الطبيعة يتحقق بفرد واحد، وأما إعدامها يکون بالاستمرار في عدم إيجادها.

إن قلت: لماذا لايسقط النهي بمخالفته مرّة واحدة عبر إيجاد الطبيعة المنهي عنها.

قلت: إن علة النهي والغرض منه مستمر، فلا محالة لا يسقط، وسيأتي تفصيل ذلك في أوائل النواهي(1).

الأمر الثالث: في تكرار الامتثال
اشارة

وفيه ثلاث مقامات:

المقام الأول: تعدد الامتثال

فإن كانت الأفراد عرضية، فقد يقال بوقوعها جميعاً امتثالاً لأمرالمولی لتساوي الطبيعة بالنسبة إليها جميعاً.

وأما لو كانت الأفراد طولية، فلا يعقل كونها جميعاً امتثالاً، وذلك لأنه بتحقق الفرد الأول من الطبيعة يتحقق الغرض فيسقط الحكم، فلا يکون الثاني امتثالاً جديداً، اللهم إلاّ أن يکون تبديلاً للامتثال وهذا سيأتي في المقام الثاني.

إن قلت: يمكن فرض تعدد الامتثال، بإرجاعه إلی التخيير بين الأقل

ص: 339


1- في الفصل الأول، البحث الرابع.

والأكثر، حيث يکون أحد طرفي التخيير (بشرط لا عن الزيادة)، والطرف الآخر (بشرط شيء).

قلت: ثبوتاً يرجع إلی كون الجميع امتثالاً واحداً لو اختار الزيادة، فلا يکون من تعدد الامتثال، وأما إثباتاً فلا يمكن استفادة هذا التخيير من إطلاق الدليل.

المقام الثاني: هدم الامتثال

كما لو كان للامتثال شرط متأخر، فلو ترك الشرط وأتی بفرد آخر مع الشرط، يکون الثاني امتثالاً دون الأول، كما لو قضت المستحاضة الكثيرة صومها الموسّع ولم تغتسل ليلاً عمداً، فيبطل صومها ويلزمها صوم آخر - علی بعض المباني الفقهية - .

المقام الثالث: تبديل الامتثال

وهنا نقاط ثلاث:

النقطة الأولی: الصور التي يمكن البحث عنها - ثبوتاً وإثباتاً - وهي كالتالي(1):

أ) ثبوتاً:

1- قد لا يعقل الفرد الثاني لعدم قابلية الموضوع، كالقتل.

2- وقد لا يکون لتحقق الغرض، كالضرب.

3- تبديل قبل تحقق الغرض الأقصی، كتبديل الماء قبل الشرب.

4- تبديل بعد الإطاعة مع إستمرار الغرض، كتبديل المصباح بعد

ص: 340


1- الأصول 1: 220.

الإضاءة.

5- قد يعقل الفرد الثاني من دون تبديل عرضياً، كعقدين وإيقاعين.

6-7- أو طولياً أو هما، كالأمر بالتزيين الذي يحصل بعشرة مصابيح أو بعشرين بحيث كانت الثانية في عرض الأولی أو طولها.

ب) في مرحلة الإثبات:

1- إن كان إطلاق أو ملاك جاز طولاً، كإعادة الصلاة، أو عرضاً أو هما، كأخذ النائب المتعدد في الحج في عام واحد أو أعوام.

2- إن لم يكن إطلاق أو ملاك، فإن احتمل الضرر الواجب دفعه لم يجز، وإلاّ جاز للبراءة العقلية.

النقطة الثانية: في الإمكان ثبوتاً.

ذهب المحقق الخراساني(1) إلی إمكان التبديل، إذا لم تكن نسبة المتعلق إلی الغرض بنحو العليّة، بل كانت بنحو الإقتضاء، كالماء الذي يأمر المولی بإحضاره بغرض الإرتواء، فمادامه لم يشربه يجوز تبديله بفرد آخر مساو له أو أفضل منه، وذلك لأن الأمر باق ببقاء الغرض الداعي إليه.

وأشكل عليه: أولاً(2): إنه لو بقي الأمر الأول - المتعلق بالجامع بين الفرد المأتي به وسائر الأفراد - لكان من طلب الحاصل، ولو لم يتعلق ذلك الأمر بالفرد المأتي به لم يكن نفس الأمر الأول بل أمر جديد، وهذا خلاف الفرض.

ص: 341


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 359.
2- بحوث في علم الأصول 2: 128.

والجواب: إنه نفس الأمر الأول، لكنه خرج منه الفرد المأتي به، وهذا لا يوجب صيرورته أمراً جديداً، نظير ما لو أمر بالطبيعة مع إمكان أحد الأفراد ثم استحال، فإن الأمر يبقی علی حاله رغم خروج أحد الأفراد عن تحته.

والحاصل: إن الأمر وإن تعلق بالطبيعة وهي قد تحققت بالفرد الأول، لكن يمكن بقاء الأمر لبقاء غرضه مع خروج ذلك الفرد عن تحته، فتأمل.

وثانياً(1): إن الإتيان بالمأمور به - بحدوده وقيوده - علّة تامة للغرض الباعث للأمر، وأما مثال الماء فإن الإرتواء ليس غرضاً للأمر لعدم تمكن العبد من تحقيقه، بل الغرض من الأمر هو تمكن المولی من رفع عطشه وهو حاصل بالإمتثال الأول، نعم هو غرض مقدمي لا غرض أصيل.

وبعبارة أخری: إن هنا غرض أدنی وهو يترتب علی فعل العبد، وغرض أقصی وهو الإرتواء وهو يترتب علی فعل المولی، وهو ليس متعلق للأمر لعدم تمكن العبد منه، وأما ما يترتب علی فعل العبد فهو الغرض الأدنی وهو يتحقق باحضار الماء فلا محالة من سقوط الأمر.

وأجيب: بأن الغرض الأدنی قد يکون مقدمياً إلی الغرض الأقصی، والمقدمية لا تحصل إلاّ بعد الوصول إلی تمام النتيجة، وذلك لأن الغرض والحب الغيري لا يکون إلاّ في المقدمة الموصلة.

وبعبارة أخری: قد يکون الغرض الأقصی خارجاً عن قدرة العبد لكنه اُمر بإتيان ما هو تحت قدرته برجاء تحقق الجزء الآخر، فمادام لم يتحقق الجزء الآخر لم تتحقق المقدمية ولا الغرض الأدنی.

ص: 342


1- نهاية الدراية 1: 361.

النقطة الثالثة: في جواز تبديل الامتثال وذلك لأنه(1)...

1- علی مبنی المقدمة الموصلة، فإن الواجب هو الحصة المقارنة لترتب الغرض الأقصی، فما لم يترتب عليها الغرض الأقصی لا تكون واجبة ولا يشملها الوجوب.

وحينئذٍ فلو أتی بالفرد الأول صحّ الإتيان بفرد آخر برجاء امتثال الأمر به وتحصيل غرض المولی، فإذا اختار المولی في تحصيل غرضه الثاني كان هو مصداق الامتثال دون الأول حيث لا يکون امتثالاً.

إن قلت: ليس هذا من تبديل الامتثال لعدم كون الأول امتثالاً أصلاً.

قلت: ليس النزاع لفظياً حتی نبحث عن أنه تبديل أم لا، بل الكلام في جواز إتيان بفرد آخر سواء سمّي امتثالاً أم لا.

2- وعلی مبنی عدم قبول المقدمة الموصلة، وأن الواجب هو ما يصلح للإيصال:

أ) فإن تحقق الغرض الأقصی - كالإرتواء - فلا مجال لتحصيل الامتثال ثانياً.

ب) وإن لم يتحقق، كما لو لم يشربه، فإن الأول امتثال وبه يسقط الأمر، لكن يمكن الإتيان بفرد آخر بداعي تحصيل ما هو محبوب للمولی والوصول إلی ملاك الأمر.

وبعبارة أخری: إن الأمر وإن سقط لكن ملاكه لا زال باقياً، فيکون نظير الاحتياط.

ص: 343


1- منتقی الأصول 2: 14؛ نهاية الأفكار 1: 225-226.

وبذلك يتضح الإشكال في القول: بأن الفرد الأول مسقط للأمر حيث كان امتثالاً فلا مجال للإتيان بفرد آخر فلا يکون الآخر امتثالاً.

وذلك لأن سقوط الأمر لا يعني سقوط الملاك والمحبوبية، فالثاني ليس امتثالاً للأمر لكن فيه ملاك الامتثال، فتأمل.

3- ومع عدم تحقق الغرض الأقصی يراه العرف مخيراً بين إبقاء الفرد الأول وبين الإتيان بفرد آخر، وهذا التخيير لا إشكال فيه ثبوتاً، إذ في الواجب التخييري يجوز الإتيان بكلا فردي الوجوب دفعة ويکون كلاً منهما امتثالاً للأمر، کما أن الإبقاء والإتيان بفرد جديد كلاهما في عرض واحد فيکون كلاهما امتثالاً، هذا إذا كان الإبقاء اختيارياً، وإلا لم يكن طرفاً للوجوب التخييري.

النقطة الرابعة: في ذکر مصداق فقهي لتبديل الامتثال:

فقد وردت روايات في جواز أو استحباب إعادة الصلاة جماعة لمن صلاها فرادی(1)، فقد يقال: إنها في تبديل الامتثال، فلابدّ من النظر في تلك الروايات لمعرفة مدلولها، وهي علی أقسام:

1- فمنها: ما دل علی الإعادة جماعة(2)، فقد يقال: إن الإعادة هي تبديل الامتثال.

إن قلت: لايدل الأمر بالإعادة علی تبديل الامتثال، بل لعلّه لأجل أمر جديد استحبابي له امتثال جديد.

ص: 344


1- راجع الروايات في وسائل الشيعة 8: 401-404.
2- وسائل الشيعة 8: 403 عن تهذيب الأحكام.

قلت: إن الثانية صلاة الظهر - مثلاً - ، ومن المعلوم عدم ثبوت صلاتي ظهر في يوم واحد لا بنحو الوجوب ولا بنحو الاستحباب.

اللهم إلاّ أن يقال: إن الصلوات اليومية الواجبة هي خمسة، ولا مانع من زيادتها إذا كان الزائد استحبابياً، فتأمل.

2- ومنها: ما دلّ علی جعل الثانية الفريضة، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) : في الرجل يصلّي الصلاة وحده ثم يجد جماعة؟ قال: يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء(1).

فقد يقال: بدلالتها علی تبديل الامتثال، لقوله: (ويجعلها الفريضة)، ولا يخفی أن قوله: (إن شاء) قيد لقوله: (يصلي معهم).

وأشكل عليه: أولاً: بأن معنی (يجعلها الفريضة) هو يصليها بنية الوجوب، إذ لا يجوز الجماعة في الصلاة المستحبة.

وفيه: أن الألف واللام في (يجعلها الفريضة) للعهد، فمعنی الجملة إنه يجعل هذه الصلاة الثانية الصلاة الفريضة، وليس المعنی ينوي الوجوب.

وثانياً: إن (الفريضة) لا يراد به الواجبة، بل هي عنوان معرِّف بقطع النظر عن الوجوب والاستحباب، فالمعنی: ويجعل الصلاة الثانية صلاة الظهر، وهذا لا يدل علی تبديل الامتثال، بل هو بمعنی إعادة الصلاة حتی لو كانت مستحبة.

وفيه: أن الحمل علی كونها معرِّفاً خلاف الظاهر، بل الظاهر كون الألف واللام للعهد، فالمعنی يجعل هذه الصلاة الثانية نفس الفريضة السابقة، وهذا

ص: 345


1- وسائل الشيعة 8: 401 عن من لا يحضره الفقيه.

يساوق تبديل الامتثال.

3- ومنها: ما دل علی أن الله يختار أحبها إليه(1)، وظاهرها أن الاختيار في مقام الامتثال، لا مقام الثواب. فيمکن تصحيح ذلك بالشرط المتأخر بأن تكون الأولی هي الواجبة بشرط أن لا يأتي بفرد أحب.

وأما احتمال أن (الاختيار) في الثواب لا في الامتثال، فيردّه أنه خلاف الظاهر، وأن الثواب لكليهما، حيث إن إحداهما امتثال، والأخری انقياد.

المبحث الحادي عشر: في الفور والتراخي

والبحث في نقاط:

النقطة الأولی: في تحرير محل النزاع، فنقول: إن البحث في دلالة الأمر علی الفور أو جواز التراخي، فيرجع إلی قولين: الدلالة علی الفور أو الطبيعة، ولا قائل بالدلالة علی التراخي فقط.

النقطة الثانية: الصحيح الدلالة علی الطبيعة، وذلك لعدم دلالة المادة ولا الهيأة علی الفور وضعاً، وأما الإطلاق فإن إطلاق المادة يقتضي تحقق الإمتثال سواء بالفور أو التراخي.

وأما الاستدلال لذلك بأن الزمان غير مأخوذ في المشتقات.

فيرد عليه: أن القائل بالفور لا يقول بأخذ الزمان في مفهوم الأمر، بل مراده وجوب المسارعة، ولازم ذلك هو الفعل في أول الأزمنة، من غير أن يکون هذا اللازم مأخوذاً في المفهوم، كما أن القائل بجواز التراخي يقول بعدم وجوب المسارعة لا بأخذ الزمان مخيّراً في مفهوم الأمر.

ص: 346


1- وسائل الشيعة 8: 403 عن الكافي وتهذيب الأحكام.

وأما القائل بالفور فقد استدل(1):

1- بالعقل، وذلك باستحالة انفكاك الإرادة عن المراد، ففي التكوينيات تكون الإرادة علة لتحقق المراد، وفي التشريعيات تكون الإرادة مقتضية للمراد، فيجب اتصال حركة العبد بأمر المولی.

وفيه: أولاً: إن الأمر هو البعث نحو الشيء، وفوره وعدم فوره يرتبط بالمتعلق، فإذا كان المتعلّق هو الطبيعي الجامع بين الفرد الحالي والاستقبالي فالأمر يقتضي ذلك لا غير.

وثانياً: إن عدم تخلّف الإرادة التشريعية عن المراد إنّما هو بمعنی صدور الحكم والتكليف من المولی بمجرد إرادته، فهذا معنی صحيح لكن هذه الإرادة علة تامة للتكليف، ولا ارتباط لها بفعل العبد لا بنحو العلية ولا بنحو الاقتضاء.

2- وبالنقل: لقوله تعالى: {فَاسْتَبَقُواْ}(2)، وقوله سبحانه: {وَسَارِعُواْ}(3) حيث دلّت علی الاستباق والمسارعة نحو المأمور به وهو يساوق الفور.

وفيه: أولاً: الحمل علی وجوب المسارعة والاستباق يستلزم تخصيص الأكثر، لخروج المندوبات والواجبات الموسعة التي هي أكثر الواجبات.

وثانياً: إن الأمر في الآيتين للإرشاد لما هو المرتكز في العرف والعقل بحسن المسارعة والاستباق، وحيث كان هذا هو المرتكز فلابد من الحمل

ص: 347


1- نهاية الأفكار 1: 218-219.
2- سورة يس، الآية: 66.
3- سورة آل عمران، الآية: 133.

علی الإرشاد.

النقطة الثالثة: علی القول بالفور، لو لم يبادر، فهل يسقط الوجوب كاملاً أم لا؟ وبناء علی عدم سقوطه هل يجب فوراً ففوراً أم لا؟

وجه الاحتمالات هو أن المستفاد من الأدلة هل هو وحدة المطلوب أم تعدده؟

والظاهر هو التعدد، فلا سقوط لأصل التكليف بالتأخير.

كما أنّ المسارعة والاستباق لهما إطلاق بالنسبة إلی الفور الثاني وهكذا، لأنه مع عدم الإتيان فوراً تبقی دلالة الآيتين علی المسارعة والاستباق، فلابد من الإتيان في الآن الثاني وهكذا.

النقطة الرابعة: إن عدم الدلالة علی الفور إنّما هو مع عدم القرينة، ومع وجود القرينة لابد من الأخذ بها.

ومن القرائن الدالة علی الفور: علم المكلف بعدم تمكنه من الإتيان في الآن الثاني، فيحكم العقل - لتحقيق الاطاعة - بالفور.

ص: 348

فصل في الإجزاء

اشارة

لا إشكال في أن الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء في الجملة، بمعنی الإكتفاء به و عدم الحاجة إلی الإعادة أو القضاء.

وقبل الخوض في البحث لا بأس بالإشارة إلی أصولية المسألة، وأنها عقلية ولفظية.

1- فالفصول عنون البحث بأن الأمر بالشيء إذا أتي به علی وجهه هل يقتضي الإجزاء؟

وأشكل عليه: بأن الإجزاء ليس من شؤون أمر المولی، بل من شؤون فعل العبد، مضافاً إلی عدم دلالة المادة ولا الهيأة علی الإجزاء، وأما الدلالة الالتزامية فهي خارجة عن الدلالة اللفظية.

2- وقد يقال: بأن مسألة الإجزاء من المبادي الأحكامية، لأن الكلام في دلالة الدليل، ولأن النزاع ليس في أصل الكبری، وإنّما النزاع فيما تثبت به الكبری، أي الوفاء بالملاك وعدم الوفاء به، وكذا إمكان أو عدم إمكان تدارك المصلحة الفائتة، فلو ثبتت هذه الأمور ثبت الإجزاء، وإلاّ فلا، والحاصل: إنه لابدّ من البحث في هذه الأمور ويتفرع عليها الإجزاء وعدمه.

ويرد عليه: أن الكلام في كبری كلية تنطبق علی جميع الأدلة، فليس البحث في كل دليل بمفرده حتی يکون خاصاً به، ولذا ينطبق علی البحث

ص: 349

ملاك أصولية المسألة.

3- وقد يقال: إن البحث عقلي صرف، لحكم العقل بالإجزاء من دون دلالة اللفظ.

وفي الأصول(1): الأقرب جعله عقلياً بالنسبة إلی الأمر الذي امتثله، ولفظياً بالنسبة إلی غيره.

أما الأول: فلأن الغرض الداعي إليه يحصل بالمأتي به، وهو موجب لسقوطه، إذ لو لم يحصل لزم انفكاك المعلول (أي الغرض) عن علته ( أي المأتي به)، ولو حصل الغرض ولم يسقط الأمر لزم وجود العلة بلا معلول.

وأما الثاني: فلأن الكلام في دلالة الأوامر الاضطرارية والظاهرية علی الإجزاء، وذلك يستلزم ملاحظة أدلتها، هل هي علی التوسعة في المأمور به علی نحو الحكومة أم لا.

ثم إنا نجري علی التعبير الشائع من (إجزاء الأمر) وذلك اختصاراً للعبارة.

ثم إنه لا إشكال في الإجزاء إذا أتي بالأمر الواقعي، فلا داعي للحديث عنه.

إنّما الكلام في إجزاء الأمر الاضطراري والأمر الظاهري عن الأمر الواقعي، فالكلام في مقامين:

المقام الأول: إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي

اشارة

والبحث تارة في مرحلة الثبوت، وأخری في مرحلة الإثبات.

ص: 350


1- الأصول 1: 226.
المرحلة الأولى: البحث الثبوتي

والصور المتصورة أربعة، والآثار أيضا أربعة.

أما الصور فهي: 1- كون الأمر الاضطراري وافياً بتمام الغرض 2- وكونه وافياً ببعض الغرض مع كون الباقي إلزامياً غير قابل للتدارك 3- والصورة السابقة مع إمكان تدارك الباقي 4- وكونه وافياً ببعض الغرض مع عدم كون الباقي الزامياً.

وأما الآثار فهي: 1- الإجزاء عن الواقع 2- وصحة العمل وضعاً مع البدار 3- وجواز البدار تكليفاً 4- وجواز إيقاع المكلف نفسه في الاضطرار.

الصورة الأولی: وفاء الأمر الاضطراري بتمام الغرض.

ولا إشكال في الإجزاء لتحقق تمام غرض المولی، وبه يسقط التكليف، ومن ذلك يتضح صحة العمل وضعاً مع البدار، وجواز البدار تكليفاً، وجواز إيقاع المكلف نفسه في الاضطرار.

اللهم إلاّ إذا كان الوفاء بالغرض كاملاً إنّما هو في صورة استمرار الاضطرار، فلا يجوز البدار إذا لم يمكن تدارك الغرض أو المقدار الملزم منه، وكذا لو كان الوفاء بالغرض مشروطاً بأن لا يکون الاضطرار عن سوء الاختيار.

إن قلت: إن كان الأمر الاضطراري يفي بتمام الغرض كان لابد من التخيير بين الفعلين، لا أن يکون أحدهما اختيارياً والآخر اضطرارياً.

قلت: وفاء الأمر الاضطراري بتمام الغرض إنّما هو في صورة الاضطرار، لا في صورة التمكن من الإتيان بالأمر الواقعي.

الصورة الثانية: الوفاء ببعض الغرض، مع كون الباقي إلزامياً، غير قابل

ص: 351

للتدارك.

ولا إشكال في الإجزاء لعدم إمكان تدارك الباقي، وصحة العمل مع البدار وضعاً، وعدم جوازه تكليفاً إذا احتمل زوال الاضطرار مع عدم جواز ايقاع النفس في الاضطرار، لفوات مقدار ملزم من الغرض، بل قد يفوت کل الغرض إذا کان ترتب الأثر متوقفاً علی عدم سوء الاختيار.

نعم يمکن أن يقال: إنه إذا كان المأمور به عبادة فعدم جواز البدار يقتضي بطلان العبادة، لأن النهي فيها موجب للفساد، فحينئذٍ لا تترتب الآثار الثلاثة، فلا إجزاء، ولا صحة للعمل، ولا جواز للبدار، ولکن المکلّف قد فوّت جزءاً ملزماً من غرض المولی - حسب الفرض - .

اللهم إلاّ أن يقال: إن البدار لايرتبط بذات العبادة فحرمته لا تسري إلی العبادة کما قاله بعضهم في الجهر والإخفات، وفيه تأمل.

وقد يقال: بتعاكس الوضع والتكليف، فلو كان العمل صحيحاً مع البدار فلا يجوز البدار تكليفاً لاستلزامه تفويت مقدار ملزم من المصلحة، وأما لو كان البدار موجباً للبطلان فلا يحرم لعدم تفويته للمصلحة بل يکون لغواً.

لکن لايخفی أن الشق الثاني خلاف الفرض.

الصورة الثالثة: الوفاء ببعض الغرض، مع كون الباقي إلزامياً قابلاً للتدارك.

قد يقال: بأنه لا إشكال في عدم الإجزاء بل اللازم التدارك، فيصح البدار، ويجوز لكنه عمل لغو، وكذا يجوز إيقاع النفس في الاضطرار لكنه لغو، إلاّ إذا كان سوء الاختيار مفوتاً للغرض.

لکن يمکن أن يقال: إنه العمل لو کان عبادياً فالبدار غير ممکن، وذلک لأن

ص: 352

العبادة إذا کان لغواً کانت باطلاً فلا يمکن الإتيان بها مع البدار أصلاً، فتأمل.

الصورة الرابعة: الوفاء ببعض الغرض، مع عدم كون الباقي إلزامياً.

وتترتب كل الآثار الأربعة، لعدم كون الزيادة ملزمة بل استحبابية، إلاّ إذا كان الوفاء بالغرض متوقفاً علی عدم كونه بسوء الاختيار.

المرحلة الثانية: البحث الإثباتي
اشارة

والكلام في موضعين: في وجوب الإعادة في الوقت، ووجوب القضاء خارج الوقت.

الموضع الأول: في الإعادة

لا يخفی أنه ليس الكلام فيما لو ثبت أن الأمر الاضطراري إنّما هو فيما لو استمر العذر إلی آخر الوقت، لأنه حينئذٍ بعد ارتفاع العذر في الوقت ينكشف أن لا أمر اضطراري، بل أمر ظاهري، وسيأتي الحديث عنه في المقام الثاني.

وقد ذهب المحقق العراقي(1) إلی أن ظاهر أدلة الاضطرار هو استمرار الاضطرار في كل الوقت، إلاّ إذا استفيد عدم لزوم الاستمرار من الدليل، كدليل التقية ونحوها.

أما إذا لم يستفد من ظاهر الدليل أياً منهما - من الاستمرار أو عدمه - فهنا صورتان:

الصورة الأولی: وجود إطلاق لدليل الأمر الاختياري، بحيث يشمل من أدّی الوظيفة الاضطرارية، فلا إجزاء.

ص: 353


1- نهاية الأفكار 1: 228.

إلاّ إذا قيد دليل الأمر الاضطراري هذا الإطلاق، وقد يقال بالتقييد بأحد طرق، منها:

الطريق الأول: الإطلاق المقامي لدليل الأمر الاضطراري، فإن له ظهوراً في أن المولی في مقام بيان تمام ما هي وظيفة المكلّف، فلو لم يكن الفعل الاضطراري كافياً لكان عليه البيان بأن علی المكلف الإعادة لو ارتفع العذر.

ويرد عليه: أولاً: عدم وجود إطلاق مقامي، إذ الظاهر كون المولی في مقام بيان الوظيفة في حال الاضطرار، لا بيان الحكم مع زوال الاضطرار.

وثانياً: معارضة هذا الإطلاق - علی فرض ثبوته - ، مع إطلاق دليل الحكم الاختياري.

إن قلت: إن الإطلاق المقامي وارد علی الإطلاق اللفظي، لأن من شرط الإطلاق اللفظي أن لا ينصب المولی قرينة علی الخلاف، والإطلاق المقامي بنفسه قرينة.

قلت: هذا إنّما يکون لو كان الإطلاق المقامي مقارناً مع كلام المولی، أما لو تأخر عنه فإنه ينعقد الإطلاق اللفظي فيتعارضان، وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إن الأمر الاختياري سابق علی الأمر الاضطراري فينعقد له إطلاق، ثم بمجيء الأمر الاضطراري يکون له إطلاق، فيتعارضان.

الطريق الثاني: لو استفيدت البدلية من دليل الأمر الاضطراري، بأن تنزّل الوظيفة الاضطرارية منزلة الوظيفة الاختيارية، كما في قوله (علیه السلام) : «التيمم أحد الطهورين»(1)، فتكون للبدلية إطلاق تشمل ما بعد زوال

ص: 354


1- الكافي 3: 64.

الاضطرار، لمن أتی بالفعل في حال الاضطرار.

وأورد عليه(1) إشكالان:

الأول: معارضة إطلاق البدلية، مع ظهور دليل الحكم الاختياري في دخل القيد أو الجزء المضطر إلی تركه في المصلحة ولو ببعض مراتبها الملزمة، خرجت فترة الاضطرار لأن الأمر به يکون محالاً حيث إنه أمر بما لا يطاق، وتبقی فترة زوال الاضطرار.

الثاني: إن إطلاق دليل الأمر الاختياري مقدّم علی إطلاق البدليّة، لكونه أظهر وللحكومة.

أما الأظهرية: فلأن الظهور الأول مستند إلی وضع الهيأة التركيبية في دخل ما هو موضوع الخطاب والأمر في المصلحة، وهذا الظهور أقوی من ظهور الإطلاق في أدلة الاضطرار بالوفاء بتمام المصلحة.

وأما الحكومة: فلأنّ لازم إطلاق أدلة الاختيارية - بعد ما اقتضی حفظ الاختيار في تحصيل القيد - هو كونه ناظراً إلی رفع الاضطرار عنه، ومرجعه إلی نظره إلی رفع موضوع أدلة الاضطرار.

وبعبارة أخری: - كما قيل - إن دليل الوظيفة الاختيارية بظهوره في دخل القيود والأجزاء في المصلحة الواقعية يقتضي لزوم حفظ القدرة عليها، والمنع عن تفويتها بإيقاع النفس في الاضطرار الذي هو موضوع الوظيفة الاضطرارية، وهذا يعني أن دليل الحكم الاختياري حاكم علی دليل الحكم الاضطراري، لأنه ناظر إلی موضوعه.

ص: 355


1- مقالات الأصول 1: 275.

والجواب: أولاً: بعدم الأظهرية، وذلك لأن المعارض لإطلاق البدلية ليس أصل الظهور في دخل القيد ليکون بالوضع، بل إطلاق الظهور بحيث يشمل ما إذا أتی بالأمر الاضطراري فارتفع العذر.

وثانياً(1): إن الحكومة تعني رفع الموضوع شرعاً بغرض رفع الحكم المترتب عليه، كما في مثل: (لا شك لكثير الشك) ومثل: (لا ربا بين الوالد والولد)، وليس من الحكومة النهي عن تحقيق الموضوع خارجاً كي يکون حاكماً علی دليل حكم رُتب علی ذلك الموضوع، فلو عصی وأوجد ذلك الموضوع، فهذا الدليل لا يدل علی انتفاء تحققه في الخارج لكي ينتفي حكمه المترتب عليه.

وفيما نحن فيه: غاية الحال هو النهي عن إيقاع النفس في الاضطرار، أما لو أوقع نفسه فيه أو وقع فيه، فإن دليل الحكم الواقعي لا ينفي تحقق الاضطرار ليکون حاكماً علی دليل الوظيفة الاضطرارية.

والحاصل: إن الحكومة ليست مجرد النظر، بل النظر مع رفع الموضوع أو تضييقه أو توسعته شرعاً، لإثبات أو نفي حكم، وما نحن فيه ليس كذلك، بل غاية الأمر هو نظر دليل إلی موضوع دليل آخر للنهي عنه، فتأمل.

الصورة الثانية: عدم وجود إطلاق، فالمرجع حينئذٍ إلی الأصول العملية.

فصاحب الكفاية(2) ذهب إلی جريان أصالة البراءة عن الزائد، وذلك

ص: 356


1- بحوث في علم الأصول 2: 146.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 388.

بارجاعه إلی الشك في أصل التكليف.

ويرد عليه إشكالان:

الإشکال الأول ما ذكره المحقق العراقي(1): بأن اللازم الإحتياط، وذلك لأن المتصور أحد أمرين:

الأول: الشك في وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الاختياري أو عدم وفائه إلاّ ببعض المصلحة، فالمرجع الاحتياط، لاندراجه في باب التعيين والتخيير، للعلم بوفاء الاختياري بتمام المصلحة مع الشك في وفاء الاضطراري بالتمام، فيدور الأمر بين تعيين الاختياري أو التخيير بينه وبين الاضطراري.

ويرد عليه: أن الكلام إنّما هو في فرض ثبوت الأمر الاضطراري، وإلا خرج البحث إلی المقام الثاني من إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي، ومع ثبوت الأمر الاضطراري لا دوران بين التعيين والتخيير، بل لابد من القول بالإجزاء.

الثاني: مع إحراز وفاء الاضطراري ببعض المصلحة، فالشك في مفوتية الاضطراري للبعض الآخر من المصلحة أو عدم مفوتيته.

فالمرجع الاحتياط أيضاً، لأن مرجع الشك إنّما هو في القدرة علی الامتثال وتحصيل الغرض، وذلك لأن المكلف يعلم ببقاء قدر ملزم من المصلحة، إنّما شكه في القدرة علی استيفائها، فلابد من الاحتياط بإعادة الفعل لكي يقطع ببراءة الذمة، لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ص: 357


1- نهاية الأفكار 1: 230.

وأورد عليه: بأن المحتملات ثلاثة، لا غير، ونتيجة كلها البراءة دون الاحتياط، وهي:

1- تبدل المصلحة، أي عدم لزوم تدارك الباقي من المصلحة، وذلك لوجود مصلحة أخری في الاضطراري - كالتسهيل - تقوم مقام الفائت، فرجع إلی الأمر الأول، والجواب نفس الجواب.

2- رفع اليد عن الفائتة، أي إمكان الأمر التعييني بالاضطراري - من غير تخيير بينه وبين الاختياري - من غير تدارك المصلحة الفائتة، وذلك لرفع المولی يده عن ذلك المقدار الفائت من المصلحة لو أتی المكلف بالاضطراري.

وحينئذٍ يکون عدم الإتيان بالاضطراري قيداً في وجوب الاختياري، أي لا أمر بالاختياري إلاّ إذا لم يأت بالاضطراري، فمرجعه إلی أن الاختياري ليس بواجب في حال الإتيان بالاضطراري، فرجع الشك إلی أصل التكليف، وهو مجری البراءة، فلم يكن الشك في المحصّل كي يقال: إن الشك في القدرة فيجب الاحتياط.

3- عدم رضا المولی بتفويت المقدار المتبقی من الملاك.

فيکون الشك من قبيل الأقل والأكثر، إذ يشك في أن الواجب هو مطلق الاختياري (في حال عدم تفويت الباقي من المصلحة لو أتی بالاضطراري)، أو الاختياري المقيد بعدم سبق الاضطراري (علی تقدير التفويت)، فيکون الشك في هذا القيد، ومقتضی القاعدة عدم اشتراطه كسائر موارد الأقل والأكثر.

وفيه: أن نتيجة المحتمل الثالث هو الاحتياط دون البراءة، وذلك لأن

ص: 358

نفي قيد (عدم سبق الاضطراري) يساوق وجوب الاختياري علی كل حال سواء سبقه الاضطراري أو لم يسبقه، ومقتضاه لزوم الاعادة وعدم الإجزاء، فتأمل.

وحيث إن ظاهرالدليل هو الاحتمال الثالث، ثبت الاحتياط كما ذكره المحقق العراقي.

الإشكال الثاني: إن هنا أصل حاكم علی أصالة البراءة، وهو الاستصحاب التعليقي، فإنه في أول الوقت تصحّ هذه القضية (وجوب الفعل الاختياري لو زال الاضطرار) فهذا الحكم ثابت قبل الإتيان بالفعل الاضطراري، ثم بعد الإتيان به يشك في عدم الوجوب، فيستصحب هذا الوجوب التعليقي.

والجواب: أن لا يقين سابق في هذه القضية التعليقيّة، وذلك لأنه لو استوفی الأمر الاضطراري تمام المصلحة يکون الواجب من أول الأمر هو الجامع بين الاختياري والاضطراري، لا خصوص وجوب الاختياري.

ثم لا يخفی أن هنا ثلاثة مباني في كيفية تصوير الأمرين - الاختياري والاضطراري - وتختلف عليها النتيجة من حيث البراءة أو الاحتياط.

الأول: تعدد الأمر، فأحدهما بالجامع بين الاختياري والاضطراري، والآخر بالحصة الاختيارية.

وعليه يکون قطع بوجود الأمر بالجامع مع الشك في الأمر الآخر، ومرجعه إلی الشك في التكليف الزائد.

الثاني: التخيير بين الأقل والأكثر، أي بين الأمر الاختياري بعد زوال

ص: 359

العذر وبين الاضطراري حين العذر والاختياري بعد زواله.

ومرجعه إلی الاحتياط، وذلك لعدم كفاية الاضطراري وحده قطعاً لأنه ليس طرف التخيير أصلاً.

الثالث: استحالة التخيير بين الفعل الاختياري والاضطراري بنحو الأقل والأكثر.

وحينئذٍ فيرجع الشك إلی الشك في التعيين والتخيير، فعلی تقدير التخيير يکون الإجزاء، وعلی تقدير التعيين يکون عدم الإجزاء، وحيث دار الأمر بينهما فالاختياري مأمور به علی كل حال دون الاضطراري فلابد من الاحتياط.

الموضع الثاني: في القضاء

وهنا مطلبان:

المطلب الأول: هل لدليل القضاء إطلاق بحيث يشمل الدليل بإطلاقه من جاء بالفعل الاضطراري في الوقت.

ومحلّ هذا البحث هو في الفقه، والظاهر عدم وجود هكذا إطلاق.

وعلی فرض وجوده، فهل دليل الأمر الاضطراري يُقيد هذا الإطلاق؟ لابد من المراجعة إلی المباني في الأمر الاضطراري، فإن النتيجة تختلف باختلافها...

1- فعلی مبنی المحقق النائيني من الملازمة العقلية بين الأمر الاضطراري وبين الإجزاء، يمكن القول بعدم لزوم الإعادة، لأن وجود الأمر الاضطراري في صورة استمرار العذر في كل الوقت أمر مسلّم، وحينئذٍ يقال: إن دخل القيد المتعذر في الملاك إن كان بشكل مطلق فلا معنی للأمر الاضطراري

ص: 360

في الوقت لفقدانه للملاك، وإن كان غير دخيل في حال العذر فقد حصل الملاك فلا معنی للقضاء.

ويرد عليه: أنه قد يکون للوقت مدخلية في جزء من الملاك، وللقيد المتعذر أيضاً جزء آخر من الملاك، فيمکن الوصول إلی كل الملاك عبر امتثال الاضطراري في الوقت والقضاء خارج الوقت.

2- وأما على مبنى المحقق العراقي من بناء علی كون الأمر الاضطراري تعيينياً فالنتيجة هي الإجزاء في الوقت وخارجه كما مرّ، وبذلك يتقيد دليل القضاء.

3- وكذا علی القول باستفادة البدلية من دليل الأمر الاضطراري فهي بدلية بشكل مطلق.

4- وكذا بناءً علی القول بوجود إطلاق مقامي لدليل الأمر الاضطراري، وإن كان الأظهر عدم وجود هكذا إطلاق، لعدم نظرٍ إلی خارج الوقت أصلاً.

المطلب الثاني: بعد عدم وجود إطلاق فما هو مقتضی الأصل العملي؟

ذهب المحقق الخراساني(1) إلی أن الأصل البراءة عن وجوب القضاء.

وقد يقال: إن القضاء إما بأمر جديد أو بنفس الأمر الأول.

أ) فإن كان بأمر جديد، فالشك في أصل التكليف، فلا وجه للاحتياط ولا للاستصحاب التعليقي.

ب) وإن كان بنفس الأمر الأول - بأن يکون هناك أمران: أمر بالجامع،

ص: 361


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 388.

وأمر بإيجاد الجامع في الوقت - ، فمع الشك في الإجزاء يکون من دوران الأمر بين التعيين والتخيير فمقتضی القاعدة الاحتياط بالقضاء.

وذلك لأنه يعلم بالأمر بصلاة بتيمم في الوقت علی كل حال، كما يعلم بوجود أمر آخر مردد بين (الصلاة بوضوء خارج الوقت) وبين (الجامع بينها وبين الصلاة في الوقت بتيمم).

وفيه نظر: لأن الأمر بالصلاة بتيمم هو نفس الأمر بالجامع، فتكون النتيجة هو أن الأمر بالجامع معلوم وقد أدّی هذا الأمر بالصلاة بتيمم في الوقت، وأما الأمر (بالصلاة بوضوء خارج الوقت) فهو مشكوك فتجري فيه أصالة البراءة.

المقام الثاني: إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي

اشارة

أما تحرير محل البحث...

فقد يقال: بأن محلّ البحث هو ما إذا استند علمه إلی حجة شرعية، بحيث لا تزول حجيتها في ظرفها مع انكشاف كون الواقع خلافها.

أما لو لم تكن حجة شرعية كما لو عمل بخبر الفاسق بتوهم أنه عادل، فلم يثبت في حقه حكم ظاهري أصلاً، نظير انكشاف مخالفة القطع للواقع حيث لا حكم ظاهري، فلا يجري بحث الإجزاء، ومثاله ما لو انكشف خطأ المجتهد حيث إنه لنفسه لم يكن حكم ظاهري، نعم لمقلديه فقد كان حكم ظاهري.

ولا يخفی أن هذا هو بناءً علی ثبوت الحكم الظاهري، أما علی القول بالتنجيز والإعذار فلا.

ص: 362

ثم إن الحكم الظاهري قد يکون ثبوته بأمارة أو بأصل، وانكشاف الخلاف قد يکون بالعلم وقد يکون بأمارة وقد يکون بأصل عملي، فهنا بحوث:

البحث الأول: انكشاف الخلاف بالعلم

ومقتضی القاعدة عدم الإجزاء، إذ الحكم الظاهري لا يرفع الحكم الواقعي الفعلي، فلم يمتثل المكلف الحكم الواقعي، فالمطلوب منه امتثاله، وهو معنی عدم الإجزاء.

أما القول بالإجزاء فمن وجوه منها:

الوجه الأول: تفصيل صاحب الكفاية(1) بين:

أ) كون الحكم الظاهري موسعاً للموضوع بالحكومة، فالإجزاء، كما في أصالة الطهارة والحليّة واستصحابهما، التي توسع الاشتراط بهما، فسواء كانت طهارة واقعية أم طهارة علمية فقد تحقق الشرط الواقعي، وحينئذٍ لا يکون العلم بالنجاسة بعد العمل من باب انكشاف فقدان الشرط، بل قد تحقق للعمل شرطه الواقعي وهي الطهارة العلمية.

ب) كون الحكم الظاهري لاحراز الواقع فقط، فلا إجزاء حينئذٍ، لانكشاف فقدان الفعل لشرطه الواقعي، فلم يمتثل، فلابد من التكرار.

وأورد عليه المحقق النائيني وغيره بإشكالات(2) منها:

الإشكال الأول: النقض بسائر أحكام الطهارة، كطهارة ماء الوضوء،

ص: 363


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 389.
2- فوائد الأصول 1: 249-251.

وطهارة الملاقي ونحو ذلك.

وأجيب: أولاً(1): إن الدليل المتكفل لإثبات موضوع ظاهري بلحاظ أثر معين علی قسمين:

1- أن يکون لضد هذا الموضوع أثر آخر مناقض لأثره، كما في استصحاب ملكية زيد الذي أثره جواز البيع، وضد الملكية هو الوقف الذي أثره مناقض وهو عدم جواز البيع، فهنا يتعارض الأثران، فيکون الحكم بأحدهما ظاهراً لا واقعاً، فبانكشاف الخلاف يتبين عدم إمتثال الحكم الواقعي.

2- أن لا يکون أثر لضد هذا الموضوع، كما في الطهارة بلحاظ الشرطية للصلاة، فإن أثرها هو صحة الصلاة، وليس لضدها - وهي النجاسة - أثر يناقض الشرطية، وذلك لأن النجاسة لم تؤخذ مانعاً كي يقال: إن أثرها المانعية عن الصلاة، وذلك لأنه لو كان أحد الضدين شرطاً لا يعقل أن يکون الضد الآخر مانعاً، لتساوي الضدين رتبة فيلزم تساوي رتبة أثريهما، وليس كذلك هنا، وذلك لاختلاف الشرط والمانع رتبة، فإذا ثبتت الشرطية لأحدهما لا تثبت المانعية للآخر.

وفيه: أن دليل الطهارة لو كان حاكماً وموسعاً لدليل الاشتراط فلا فرق فيه بين ثبوت أثر للضد أو عدم ثبوت أثر له.

کما أن الحكومة يجب أن تكون عرفية بحيث يستفاد من نفس دليل الحاكم أنه ناظر إلی الدليل المحكوم وموسّع له، أما إذا كانت التوسعة غير

ص: 364


1- منتقی الأصول 2: 50.

عرفية فلا تثبت الحكومة.

وثانياً(1): إن أصالة الطهارة توسع موضوع الحكم الذي أخذ فيه الطهارة، ولا تضيق موضوع حكم أخذ فيه النجاسة.

ويرد عليه: أنه قد يکون تلازم بين التوسعة والتضييق، فدليل الطهارة إن وسع الموضوع فلابد من القول بطهارة الملاقي، مع أن عدم تضييق موضوع النجاسة معناه نجاسة الملاقي، فحصل التعارض بين الحكمين، فلم تثبت الحكومة، فتأمل.

الإشكال الثاني: إن ادعاء الحكومة غير صحيح، وذلك لأنها برأي صاحب الكفاية ما كان الدليل الحاكم مفسراً للدليل المحكوم، وليست أدلة قاعدة الطهارة والحلية واستصحابهما مفسرة بل ولا ناظرة إلی دليل شرطية الطهارة في ثوب المصلي - مثلاً - ، بل هي تشريع لقاعدة عامة مع قطع النظر عن هذا الاشتراط.

والجواب: إن هذا إشكال لفظي، فيلزم ملاحظة واقع التوسعة في الشرطية، سواء سميناها حكومة أم لا، فهل مثل قوله «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر»(2) يوسّع ما دلّ علی اشتراط طهارة ثوب المصلي، بحيث تكون شرطية الطهارة أعم من كونها طهارة واقعية أم ظاهرية، فيلزم النقاش في هذا.

الإشكال الثالث: إن هذه الحكومة - في الطهارة والحلية - ليست

ص: 365


1- بحوث في علم الأصول 2: 158.
2- وسائل الشيعة 3: 467 عن تهذيب الأحكام.

حكومة واقعية بحيث توسع الشرط الواقعي كي يشمل الطهارة والحلية الواقعية والظاهرية، بل هي حكومة ظاهرية، فلا تكون توسعة حقيقية كي تكون (الطهارة المعلومة) شرط واقعي.

وذلك لأن الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي في الرتبة، فلا يعقل توسعته للحكم الواقعي إلاّ في الظاهر، حيث إن الحكم الظاهري موضوعه أو ظرفه الشك بالحكم الواقعي، ومن المعلوم تقدم الشيء علی الشك به.

والجواب: إن أصالة الطهارة لا يراد منها توسعة الطهارة الواقعية، بل هي توسع (شرطية الطهارة في الصلاة)، وكلاهما - أصالة الطهارة وشرطية الطهارة - في رتبة واحدة مجعولان من الشارع، فيمکن توسعة أحدهما للآخر.

الإشكال الرابع: المجعول في الحكومة في الأدلة الظاهرية إنّما هو في طول المجعول الواقعي وفي الرتبة المتأخرة عنه، فلا يمكن أن يکون المجعول الظاهري موسعاً أو مضيقاً للمجعول الواقعي، مع أنه لم يكن في عَرضه، وليس هناك حكمان واقعيان مجعولان(1).

ولهذا الإشكال بيانان:

البيان الأول: إن المجعول بالأصول أمر ظاهري - قد لوحظ فيه الجهل بالواقع - ، فكيف تتكفل الأصول توسعة المجعول بها واقعاً، إذ هذا خلف فرض كون المجعول بها أمر ظاهرياً.

ص: 366


1- فوائد الأصول 1: 250.

وفيه: اختلاف (المجعول) و(ما توسّعه الأصول)، فأصالة الطهارة - مثلاً - تجعل (الطهارة الظاهرية)، ولا توسع نفس الطهارة الواقعية كي يلزم الخلف، بل توسع الشرط الواقعي، ولا امتناع في كون الطهارة الظاهرية شرطاً واقعياً.

البيان الثاني: إن الحكم بصحة الصلاة مع الطهارة الظاهرية - بحيث لو انكشف الخلاف لم تجب الإعادة - هذا الحكم بحاجة إلی أمرين: (الحكم بالطهارة ظاهراً) و(توسعة دائرة الشرطية) بحيث تشمل الطهارة الظاهرية أيضاً، وهذان أمران طوليان، فلابد أولاً من جعل الطهارة الظاهرية، ثم بعد ذلك توسعة الشرطية لتشمل هذه الطهارة الظاهرية.

ولا يمكن لجعل واحد أن يکون علة لكليهما، إذ معاليل العلة الواحدة كلها في عرض واحد، فإذا كان بين شيئين طولية فلابد من جعلين.

وأجيب عنه: بأن هنا جعلاً واحداً وهو (جعل أحكام الطهارة الواقعية لمشكوك الطهارة)، والطهارة الظاهرية منتزعة عن هذا الجعل.

إن قلت: أحياناً لا يکون لمشكوك الطهارة أحكام الطهارة الواقعية، كماء الوضوء والملاقي... الخ، بل هنا حكم ظاهري أولاً ثم توسعة الشرطية، فعاد المحذور.

قلت: لا إشكال في إجراء أحكام الطهارة الواقعية مادام الجهل مستمراً، فإذا علم بالنجاسة فيأتي الكلام بأن عدم ترتب تلك الأحكام يکون من حين العلم أو ينكشف عدم ترتبها من الأول، فلا إشكال في ذلك الجعل أصلاً، فتأمل.

ص: 367

الإشكال الخامس: إنه لو كانت حكومة (الأصل) علی (الشرطية) توجب حكماً ظاهرياً، لزم القول بالحكومة في الأمارات أيضاً، لأنها تجعل حكم ظاهري مماثل.

ولا يخفی عدم ورود هذا الإشكال علی المحقق الخراساني، لعدم إلتزامه بالحكم الظاهري في الأمارات، بل يذهب إلی المنجزية والمعذرية.

نعم من يلتزم بالحكم الظاهري عليه بيان الفارق بين الأصل والأمارة.

وقد بين المحقق الإصفهاني(1) الفارق بأن:

1- الأصل يجعل فرد ظاهري في مقابل الفرد الواقعي مع قطع النظر عن الواقع، وحينئذٍ فلا يوجد خلاف حتی يتصور كشف خلاف، لأن الأصل وسّع موضوع الحكم.

2- وأما الأمارة فإنها تجعل الفرد الواقعي، أي إن مفاد الأمارة هو الواقع، فلا توسّع موضوع الحكم بل تتكفل لثبوت آثار الواقع علی ما اعتبر بالأمارة، فإذا تبين أنه غير واقع فقد انكشف الخلاف، فتأمل.

الإشكال السادس(2): بأن قاعدة الطهارة تقابل دليلين واقعيين:

1- دليل نجاسة الشيء وطهارته.

2- ودليل اشتراط الصلاة بالطهارة.

وقاعدة الطهارة لا تكون حاكمة علی الأول، لأنها لا توسع الموضوع ولا تضيّقه، فيدور الأمر بين التخصيص وبين الحكم الظاهري، ونتيجة الأول

ص: 368


1- نهاية الدراية 1: 392-394.
2- بحوث في علم الأصول 2: 161.

الإجزاء لأن الخاص هو حكم واقعي، وفي نتيجة الثاني احتمالان - من ملاحظة دليل الشرطية ومقايسته مع قاعدة الطهارة - :

أ) تنزيل المشكوك منزلة الطهارة الواقعية، فتفيد الحكومة الواقعية والإجزاء.

ب) التنزيل بلحاظ الجري العملي والوظيفة في حالة الشك، فلا إجزاء، لأنها تحدد الوظيفة العملية ولا تدل علی سقوط الواقع.

وحيث أخذ (الشك) في موضوع أصالة الطهارة، فالظاهر عرفاً هو المعنی الثاني، ولا أقلّ من الإجمال، فلا يمكن الحكم بالتوسعة الموجبة للإجزاء.

ثم إن المحقق الخراساني(1) فصّل بين الأمارات القائمة علی الموضوع فذهب إلی الإجزاء، وبين الأمارات القائمة علی الحكم فلا إجزاء.

وذلك للحكومة في الأول، وبذلك يتوسع دائرة موضوع الحكم، فيکون فرد جديد للموضوع يضاف إلی الفرد الواقعي - كما مرّ تفصيله - ، وأما في الثاني فلأنّ الأمارة تتكفل بإيجاد مصلحة في المتعلق بناءً علی السببية، وهذه المصلحة لا ترتبط بمصلحة الواقع غير المستوفاة، وأما بناءً علی الطريقية فلا تتحقق أيّة مصلحة، لا مصلحة جديدة ولا مصلحة الواقع، فتبقی مصلحة الواقع فيجب استيفاؤها.

وقد مرّ الإشكال علی الحكومة، فلا إجزاء مطلقاً.

الوجه الثاني - من طرق إثبات إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي - :

ص: 369


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 401.

ما ذكره المحقق الخراساني(1) من الإجزاء بناءً علی السببيّة في الجملة.

وذلك لأنه بناءً على السببيّة يکون مؤدی الأمارة ذا مصلحة واقعيّة، فتجري حينئذٍ الاحتمالات الثبوتية - التي ذكرت في المأموربه الاضطراري - ، وقد مرّ أن نتيجة ثلاثة من الاحتمالات هو الإجزاء، ونتيجة أحدها هو عدم الإجزاء، وحيث ينتفي هذا بالإطلاق تكون النتيجة هي الإجزاء.

وأورد عليه المحقق النائيني(2): بأن هذا يتم بناءً علی التصويب وهو باطل قطعاً، وأما السببية الممكنة فهي الذهاب إلی المصلحة السلوكية، وعليها يبقی الواقع علی ما هو عليه، ولا يکون مؤدی الأمارة ذا مصلحة في نفسه، بل أقصی ما هناك هو وجود مصلحة في العمل علی طبق الأمارة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع، فتبين أنه لا وجه للإجزاء لا بالنسبة إلی القضاء ولا إلی الإعادة.

أما بالنسبة إلی الإعادة، فلأنه لم تفُت مصلحة العمل بالواقع مع بقاء الوقت وإمكان الاستيفاء، غاية الأمر أن سلوك الطريق كان فيه مصلحة يتدارك بها مصلحة أول الوقت.

وأما بالنسبة إلی القضاء، فلأنّ الفائت مصلحة الوقت دون مصلحة المجموع من الوقت والعمل، فاتباع الأمارة فيه مصلحة يتدارك بها مصلحة الوقت دون مصلحة أصل العمل.

إن قلت: إن مصلحة الوقت غير مستقلة، بل هي في ضمن مصلحة الصلاة،

ص: 370


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 398.
2- فوائد الأصول 1: 247-248.

فإذا أدرك مصلحة الوقت - عبر المصلحة السلوكية حيث عمل بالأمارة - فقد أدرك مصلحة الصلاة، لعدم الانفكاك، فلذا لا يلزم القضاء، وأما في الإعادة فإن مصلحة أول الوقت غير مرتبطة بمصلحة الصلاة، بل هي مصلحة استقلالية، فتكون نظير القنوت، حيث عدم تعقّل الجزء المستحب في ضمن واجب.

قلت: مع قطع النظر عن الإشكالات المبنائية، فإن تدارك مصلحة الوقت قد يکون بالجبران والتعويض، لا بتحقق مصلحة الوقت بنفسه الملازم لتحقق مصلحة الصلاة، وبعبارة أخری: إن المصلحة السلوكية هي مصلحة مستقلة عن مصلحة الواقع، فتحققها ليس بمعنی تحقق مصلحة الواقع، وحينئذٍ فالعمل بالأمارة المخالفة للواقع في الوقت كان فيه مصلحة مشابهة لمصلحة الوقت لا مصلحة الوقت بنفسه، وهذه المصلحة المشابهة لا تلازم تحقق مصلحة الصلاة.

وأجاب المحقق الإصفهاني(1) بعدم تلازم السببية مع التصويب حتی لو لم نقل بالمصلحة السلوكية.

بيانه: إمكان افتراض مصلحة في مؤدی الأمارة المخالفة للواقع - بما هو مؤدی أمارة مخالفة للواقع - ، وهذه المصلحة في عرض مصلحة الواقع، بمعنی كون المؤدی مشتملاً علی الملاك لا بعنوانه الأولي وفي نفسه، بل بالعنوان الثانوي.

وهذا يوجب الإجزاء لحصول الغرض، ولا يوجب التصويب الذي هو تبدل الحكم الواقعي التعييني إلی الأمر بالجامع بين الواقع وبين مؤدی الأمارة

ص: 371


1- نهاية الدراية 1: 405.

المخالفة للواقع بما هو مؤدّی أمارة مخالفة، لاستحالة ذلك، إذ لا يعقل أن يکون الجامع مأموراً به، بحيث يسري منه الأمر إلی الفردين تخييراً، إذ لابدّ من تعلق أمر بالواقع ثم مخالفة الأمارة له، وبعد ذلك يکون المؤدی ذا مصلحة ومصداقاً للجامع، فتأخر الجامع عن الأمر بالواقع بمرتبتين.

وبعبارة أخری: لا ثبوت لهذا الموضوع في حدّ موضوعيته في ضمن الواقع قبل تعلق الأمر بالجامع.

وبعبارة ثالثة: (مؤدی أمارة مخالفة للواقع) ليس له تقرر لولا الأمر التعييني بالواقع، إذ لو كان الأمر الواقعي تخييرياً لم تكن الأمارة متعلقة بما يخالف الواقع.

أقول: مضافاً إلى الإشكال المبنائي في المصلحة السلوكية، إنه على فرض ثبوتها فلا طريق لإثبات تداركها لمصلحة الواقع - سواء في الوقت أم في خارجه - ، كما لا طريق لإثبات كونها في عرض مصلحة الواقع.

وأما مسألة تأخر الجامع عن الأمر بالواقع بمرتبتين فيمكن الجواب عنه بما أجيب في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، فراجع، وتأمل.

البحث الثاني: انكشاف الخلاف بأمارة شرعية
اشارة

كما لو أجری أصالة البراءة ثم وجد خبراً صحيحاً دالاً علی الوجوب، فقد يکون ذلك في الموضوعات وقد يکون في الأحكام.

دليل عدم الإجزاء

أ) أما في الموضوعات، فقد ادعی المحقق النائيني(1) عدم الخلاف في

ص: 372


1- فوائد الأصول 1: 251.

عدم الإجزاء، فيكون نظير كون الشيء مستصحب الطهارة أو الملكية ثم قامت البينة علی النجاسة أو عدم الملكية، وذلك لأن الأمارات لها طريقية عن الواقع، وقد تبين خطؤها تعبداً، بل ثبت تعبداً طريق آخر وهو الأمارة المنجّزة، وعليه فتنتقض الآثار التي عمل بها بمقتضی الاستصحاب - مثلاً - .

ب) وأما في الأحكام الشرعية، كما في تبدل الاجتهاد، فالصحيح عدم الإجزاء في كل الصور سواء كان:

1- لأجل استظهار جديد خلاف الاستظهار السابق، كما لو كان يری عدم دلالة الأمر علی الوجوب ثم استظهر دلالته عليه، وليس سبب عدم الإجزاء هوأن استظهاره الأول لم يكن مستنداً إلی حجة شرعية بل إلی فهمه ورأيه وهو ليس بحجة، وذلك لحجية رأيه وفهمه مادام لم يتبدل، وإلاّ لما جاز العمل به مطلقاً، بل سبب عدم الإجزاء هو تبين خطؤه وعدم كونه طريقاً مع بقاء مصلحة الواقع علی ما هي عليه.

2- أم لأجل العثور علی دليل آخر يترجح علی الدليل الأول، لنفس الجهة، حيث إن الصحيح الطريقية وبقاء الواقع علی ما هو عليه، فانكشاف الخطأ يکون حجة شرعية علی عدم إدراك الواقع، فلابد من إدراكه.

نعم لو تعارضا وكانا متساويين وقلنا بالتخيير، فإن اختار الأول أجزأ، وإن اختار الثاني فعليه الاعادة أو القضاء، ولا يخفی أن هذا الفرض خارج عن الموضوع.

أدلة الإجزاء

وقد يقال بالإجزاء - فيما لو قامت الأمارة علی الحكم خلافاً للحجة السابقة - بوجوه، منها:

ص: 373

الوجه الأول: إن عدم الإجزاء يستلزم العسر والحرج، وكفاية الحرج والعسر والضرر النوعي في رفع أصل التكليف، كما في عدم وجوب السواك للمشقة(1)، ومثل الشفعة حيث عُلّلت في الأخبار بالضرر(2)، مع وضوح عدم عموميته لكل الأفراد ولجميع الأحوال.

وفيه(3): إنه من الخلط بين حكمة التشريع وعلة الحكم، ففي الحكمة لا حاجة إلی الاطراد، أما في العلة فقد جعل الضرر والحرج ونحوهما علة لنفي حكم ثابت، فيکون لها حكومة علی الأدلة الأولية، فلا تكون نوعية، لأن الحكومة كالتخصيص تقصر دائرة الأحكام الأولية بغير حالة الضرر والحرج، فيکون الحكم الأولي ثابتاً في غير صورة الضرر والحرج.

وبعبارة أخری: تارة المولی يلاحظ الحرج والضرر ونحوهما فلا يجعل حكماً، وتارة يشرّع الأحكام الأولية ثم يرفعها في حالة عروض الحرج ونحوه، ففي الأول يکون نوعياً وفي الثاني يکون شخصياً.

ولا يخفی أن مقتضی هذا الكلام هو اقتضاء القاعدة عدم الإجزاء، مع رفع اليد عنه في كل مورد ثبت الحرج ونحوه.

الوجه الثاني: إنه لا ترجيح للاجتهاد الثاني علی الاجتهاد الأول، بعد أن كان كل منهما مستنداً إلی الطرق الشرعية الظنية.

وبعبارة أخری: الحجة الثانية لا تمنع من حجية الأولی في ظرفها، فتكون

ص: 374


1- راجع الكافي 3: 22.
2- راجع الكافي 5: 280.
3- فوائد الأصول 1: 257.

لدينا حجتان، فلا ترجيح لأحدهما علی الأخری، مع كون إحداهما تقتضي الإجزاء والأخری عدمه.

وفيه: ليس هنا تعارض حتی يقال بأنه لا ترجيح، بل الكلام في زوال الأول بالثاني، وبعبارة أخری: الحجة الثانية لم تنف حجية الأولی في حينه إلاّ أنها تمنع من حجيتها فعلاً وبقاءً(1).

الوجه الثالث: ادعاء الإجماع علی الإجزاء.

وفيه: التأمل في تحقق هذا الإجماع، مضافاً إلی احتمال كونه مدركياً، وأنه دليل لبيّ، فلو فرض صحته فإنه يتمسك فيه بالقدر المتيقن، وهو سقوط الإعادة والقضاء، أما سائر الأحكام الوضعية فلا.

الوجه الرابع: ما عن الفصول(2) من أن المسألة الواحدة لا تتحمل اجتهادين ولو بحسب زمانين، والمراد جزئي المسألة، وإلا فكلّيها مما لا إشكال في تحملها لاجتهادين، وما أكثر تبدل رأي المجتهدين.

وفيه(3): إن كان المراد عدم تحملها اجتهادين في زمان واحد فذلك ضروري، لاستحالة اجتماع الضدين والنقيضين، وهذا لا يرتبط بما نحن فيه من تبدل الاجتهاد.

وإن كان المراد في زمانين، فذلك واضح البطلان، لعدم محذور عقلي أو نقلي في تعدد الاجتهاد في مسألة واحدة في وقتين مختلفين مع كون كل

ص: 375


1- فوائد الأصول 1: 258؛ منتقی الأصول 2: 68.
2- الفصول الغرويّة: 409.
3- فوائد الأصول 1: 258.

منهما طريقاً إلی الواقع.

وإن كان المراد من حيث الآثار فلا يترتب أثر الثاني بعد ترتب أثر الأول، فهو إدعاء من غير دليل.

البحث الثالث: في انكشاف الخلاف بالأصل

وهنا صورتان:

الصورة الأولی: انكشاف الخلاف بالاستصحاب.

سواء كان في الموضوع كما لو أجری أصلاً وعمل بمقتضاه ثم تبين له أن هناك استصحاب سببي حاكم علی ذلك الأصل، بحيث يکون العمل باطلاً، أم كان في الحكم كما لو قام دليل لديه علی وجوب الظهر في عصر الغيبة، ثم تبين له خللاً في الدليل فأجری استصحاب بقاء وجوب الجمعة الثابت في زمان الحضور.

أ) ففي الوقت: تجب الاعادة، لأجل هذا الاستصحاب، وقد يقال بجريان أصالة اشتغال الذمة.

ب) وفي خارج الوقت: يلزم القضاء، سواء قلنا بأن القضاء بالأمر الأول، أو قلنا بأنه بأمر جديد مع کون موضوع القضاء هو عدم الإتيان، وقد ثبت الأمر الجديد كما ثبت عدم الإتيان بمقتضی الاستصحاب.

وأمّا إن قلنا بأنه بأمر جديد مع كون موضوعه الفوت، فقد يقال: بعدم جريان الاستصحاب حينئذٍ لأنه أصل مثبت، فإن استصحاب عدم الإتيان لازمه العقلي أو العرفي هو الفوت، والفوت موضوع القضاء، وبعدم جريان الاستصحاب تجري أصالة البراءة ومقتضاها الإجزاء.

ص: 376

وقد يشكل علی ذلك بناءً علی كون موضوع القضاء الفوت(1).

أولاً: في الاستصحاب الموضوعي:

لأنّ جريان أصالة البراءة وعدم جريان الاستصحاب لكونه مثبتاً يستلزم منه عدم وجوب القضاء حتی إذا انكشف الخلاف في الوقت، لكنه قصَّر ولم يُعِدْ إلی أن خرج الوقت، فحينئذٍ يشك في توجه أمر جديد، ولا يمكن إثبات موضوعه - الذي هو الفوت - بالاستصحاب.

والجواب: إنه مع وجوب الفريضة ظاهراً، فإنه يصدق الفوت الظاهري، من غير حاجة إلی إثبات الفوت بالاستصحاب، ويکفي الفوت - واقعياً أم ظاهرياً - في تحقق موضوع القضاء.

إن قلت: لازم هذا الجواب هو وجوب القضاء حتی لو انكشفت صحة الصلاة، لأنه في الوقت جری في حقه حكماً ظاهرياً بالاعادة، فقصّر ولم يُعد حتی خرج الوقت، فتحقق الفوت الظاهري، فيتحقق موضوع القضاء حتی مع انكشاف صحة الصلاة التي صلاها في الوقت.

قلت: إنه يستفاد من دليل القضاء أنه لتدارك ما فات علی المكلفين، ويکون القضاء تبعاً للشيء المتدارك، فإن كان واقعياً كان القضاء كذلك، وإن كان ظاهرياً ً فالأمر بالقضاء ظاهري، فيرتفع الأمر بالقضاء مع انكشاف صحة الفريضة.

وثانياً: في الاستصحاب الحكمي:

لأنّ موضوع القضاء مركب من أمرين: الفوت، وكون الشيء واجباً،

ص: 377


1- بحوث في علم الأصول 2: 168-170.

والأول ثابت بالوجدان لأنه لم يصلّ الجمعة - في المثال - ، والثاني ثابت بالاستصحاب، وليس الأصل مثبتاً، لأنا لم نُر ِد به إثبات الفوت لأنه ثبت وجداناً، بل مجرد الوجوب.

وفيه: أن (الفوت) ليس منتزعاً عن عدم الإتيان بالشيء، بل عدم الإتيان بالشيء الواجب - فيما نحن فيه - ، فلابد من إثبات الوجوب أولاً لنتمكن من انتزاع عنوان الفوت، فعاد محذور الأصل المثبت، فتأمل.

الصورة الثانية: انكشاف الخلاف بالاشتغال - عبر العلم الإجمالي - .

كما لو كان يری التمام في بعض مسائل السفر، ثم تردد بين القصر والتمام، فحصل له علم إجمالي بوجوب أحدهما.

1- فقبل الصلاة، لا إشكال في لزوم الاحتياط بالجمع.

2- وبعد العمل بأحدهما، فهل يأتي بالآخر داخل الوقت، أو يقضيه في خارج الوقت؟

والكلام إنّما هو حسب مقتضی القاعدة، مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة.

وقد يستدل بأدلة علی وجوب الإتيان بالآخر - أداءً وقضاءً - مما يعني عدم الإجزاء، منها:

الدليل الأول: استصحاب اشتغال الذمة، حيث علم اشتغالها بالصلاة - مثلاً - بدخول الوقت، ولا يعلم الإتيان بهذا الواجب، فمع الإتيان بالآخر - أداءً أو قضاءً - يقطع بفراغ ذمته، وبدون الإتيان به لا قطع بالفراغ.

وأشكل عليه: أما في الوقت: فلخروج أحد الطرفين عن محل الإبتلاء

ص: 378

حين حدوث العلم الإجمالي، وذلك لأنه قد أتی بالتمام مثلاً، فلا تكليف متوجه إليه، وإنّما يشك في توجه تكليف بالقصر، فالأصل البراءة.

وأما في خارج الوقت: فمضافاً إلی ذلك، فلأن القضاء بأمر جديد، ولا يعلم بتحققه، إذ لا يعلم الفوت ولا عدم الإتيان، فالأصل البراءة.

وفيه: إشكال مبنائي، وذلك لأن القضاء ليس بأمر جديد، ولعدم الفرق عقلاً في الواجب والحرام بين ما لو ارتكب أحدهما وخرج عن محلّ ابتلائه ثم حصل العلم الإجمالي، وبين ما لو حصل العلم الإجمالي قبل الارتكاب، نعم لو لم يكن محل ابتلائه أصلاً - لا قبل العلم ولا بعده - فالوجه البراءة فيما هو محل ابتلائه، فتأمل.

الدليل الثاني: تبعية القضاء للأداء، وحيث وجب في الوقت الاحتياط - بحسب العلم الإجمالي - وجب القضاء خارج الوقت أيضاً.

وأشكل عليه: أولاً: عدم معلومية الوجوب أداءً، بناءً علی خروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء، كما ذكر في الوجه السابق.

وثانياً: إن وجوب الاحتياط عقلي، ومن غير المعلوم شمول دليل القضاء للواجبات العقلية.

وفيه: أن الواجب هو ما أمر به الشارع، وهو مجهول لنا، وإنّما الاحتياط كان للحفاظ عليه، ولا يعلم أداؤه لذلك الواجب.

وهذا نظير من جهل القبلة، فوجب عليه الاحتياط بالصلاة إلی الجهات الأربع، فصلی إلی أحدها فقط، فهل يلتزم بعدم وجوب القضاء عليه احتياطاً؟!

ص: 379

تكملة: في عدم إجزاء القطع

في الكفاية(1): لا ينبغي توهم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ، وذلك لأن الإجزاء إنّما هو في صورة كشف الأمر الشرعي عن وجود مصلحة في متعلقه، وحيث لا أمر - كما في صورة القطع - فلا إجزاء بعد انكشاف الخطأ.

وبعبارة أخری: الإجزاء فرع وجود الحكم، فيبحث في إجزائه وعدم إجزائه، أما في صورة القطع فلا حكم، بل تنجيز وإعذار، لأن القطع مجرد كاشف وليس له صلاحية إنشاء حكم، فمع انكشاف الخلاف لم يكن هناك سوی تخيّل الحكم.

وقد استثنی صاحب الكفاية(2) موردين:

الأول: كون المقطوع به مشتملاً علی كل المصلحة، واشتماله عليها إنّما هو في صورة القطع فقط لا مطلقاً، وإلاّ كان واجباً تخييرياً.

الثاني: كونه مشتملاً علی بعض المصلحة مع عدم إمكان تدارك الباقي، حتى لو كان الاشتمال علی بعض المصلحة مطلقاً - في حالة القطع وعدمها - ، إذ لا يستلزم ذلك الوجوب التخييري كما هو واضح.

فالإجزاء ليس لأجل امتثال الأمر المقطوع به، بل لخصوصية اتفاقية في المتعلّق.

ومثاله: الإتمام جهلاً بالقصر، والاخفات والجهر في مكان الآخر جهلاً أو

ص: 380


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 403.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 403-404.

نسياناً أو سهواً، وإنّما صحت الصلاة لأجل الاشتمال علی كل مصلحة الواقع في هذه الأحوال، أو لعدم إمكان تدارك المتبقي من مصلحة الواقع.

وعليه: لا يکون ذلك الفعل مأموراً به ولا متعلقاً للحكم، وإنّما هو محصّل لكل المصلحة في حال القطع أو لبعضها مع عدم إمكان تدارك الباقي.

وذهب المحقق البروجردي(1): إلی إمكان إدخال صورة أخرى في البحث، وهي ما لو كان القطع مأخوذاً شرعاً بنحو الموضوعية، كما في ذوي الأعذار بناءً علی جواز البدار لهم بمجرد القطع ببقاء العذر إلی آخر الوقت.

ويرد عليه: بأنه لو كان قطعاً موضوعياً وصفياً، فلا انكشاف للخلاف أصلاً، نعم لو كان القطع الوصفي جزءاً من الموضوع لجری هذا الكلام، فتأمل.

ص: 381


1- نهاية الأفكار 2: 255.

فصل في مقدمة الواجب

اشارة

وفيه بحوث:

البحث الأول: في أصولية المسألة

حيث إن البحث عن الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوبها، ثم من إثبات الملازمة يستنبط الحکم الفقهي وهو وجوب المقدمة.

لکن قد يقال إنها كلامية، أو فقهية، أو من المبادي الأحكامية.

1- كونها كلامية: لرجوعها إلی البحث عن استحقاق المثوبة علی الموافقة والعقوبة علی المخالفة.

وفيه: أولاً: إن العقوبة والمثوبة إنّما هما علی ترك أو فعل الواجب النفسي، وأما المقدمة فلا يترتب عليها ذلك.

وثانياً: مع إمكان بحثها أصولية - كما سيأتي - لا داعي للقول بالاستطراد فيها.

2- وكونها فقهية: لأنه بحث عن (الوجوب) للمقدمة، فلا تكون واسطة لاستنباط الحكم، بل هي بحث عن نفس الحكم الذي يعرض علی فعل المكلّف.

وأورد عليه: أولاً: إن البحث في المقدمة أعم من مقدمة الواجب والحرام والمكروه والمستحب، فالمهم هو البحث عن الملازمة بين ذي

ص: 382

المقدمة وبين المقدمة في الحكم.

وثانياً: بعدم انطباق ميزان المسألة الفقهية، وبانطباق ميزان المسألة الأصولية.

أما الأول(1): فإنّ الاستقراء يقتضي أن ملاك المسألة الفقهية هو وحدة الملاك والحكم والموضوع، فالمحمول دائماً شخصي بموضوع وحداني بملاك خاص، كما في مثل الصلاة واجبة.

وليس هذا الملاك متوفراً في مقدمة الواجب، لأن المحمول متعدد، فهي وجوبات متعددة مختلفة شدة وضعفاً، بموضوعات عديدة، بملاكات متعددة.

وأورد عليه(2): أولاً: بأنّ ضابط العلم إما الجامع بين المسائل وإما الغرض، ففرض ضابط بدونهما لا وجه له، وأما علم الفقه فهو ما يبحث عن العوارض الشرعية لفعل المكلّف، سواء تعدد ملاكه أم لا.

وفيه: أن ما ذكره في نهاية الأفكار إنّما هو نتيجة الاستقراء حسب ما ذكره، فيرجع إلی الضابط الأول، أي الجامع بين المسائل يکون واحداً موضوعاً ومحمولاً وملاكاً.

نعم يرد إشكال آخر، وملخصه أن الجامع هو الغرض، لا الموضوع ولا المحمول ولا الملاك، وذلك الغرض يترتب علی عوارض فعل المكلف.

وثانياً: بأن الملاك واحد، وهو عنوان المقدمية، فإنه هو الذي يوجب

ص: 383


1- نهاية الأفكار 1: 259.
2- منتقی الأصول 2: 98-99.

ترشح الوجوب علی المقدمة.

وفيه: أن عنوان المقدمية لا واقع له وليس هو سبباً للوجوب، وإنّما هناك عدة ترشحات للوجوب لا جامع حقيقي لها، نعم جامعها العنواني (عنوان المقدمية)، وهو ليس سبباً للوجوب، فتأمل.

وأما الثاني(1): فإنّ ميزان المسألة الأصولية هو ما يکون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الحكم الفرعي، وهذا الميزان ينطبق علی ما نحن فيه، حيث يقال: هذه مقدمة الواجب، وكل مقدمة للواجب واجبة، فهذه واجبة، فإن المحمول في الكبری ليس شخصياً، فلا يصح النقض بالشرط المخالف للكتاب حيث يقال: إنه فاسد، وذلك لأن الفساد شخصي، بخلاف الوجوب في المقدمة حيث إنها وجوبات مختلفة متنوعة.

ويرد عليه: أن هذا تطبيق وليس استنباطاً، وقد مرّ أن المسألة الأصولية ما تقع في كبری الاستنباط، وأما التطبيق فإن جميع المسائل الفرعية لها مصاديق تنطبق الكبری علی تلك المصاديق.

3- وكونها من المبادي الأحكامية، ولذلك تقريران:

التقرير الأول(2): بأن بحث المقدمة ليس عن أحد الأدلة الأربعة الذي هو (العقل)، بل البحث في المبادي، وبيانه: أن (العقل) الذي هو أحد الأدلة الأربعة:

أ) إما يراد به الإذعان العقلي الموصل إلی حكم شرعي.

ص: 384


1- نهاية الأفكار 1: 260.
2- نهاية الدراية 2: 7.

وليس البحث في المقدمة عن وجوبها الشرعي، فلا يکون البحث مرتبطاً بموضوع علم الأصول، بل هو بحث عن ثبوت أو نفي قضية عقلية بحتة وذلك من المبادي.

ب) وإما يراد به نفس العقل أي إثبات شيء للعقل.

وليس البحث في وجوب المقدمة عن نفس العقل، بل المهم فيها البحث عن ثبوت الملازمة، وهي ما أذعن به العقل وهو غير نفس العقل.

ويرد عليه(1): إشكال مبنائي على إخراج ما يبحث عن نفس الموضوع عن المسائل وإدخاله في المبادي، بل المراد من عوارض فعل المكلف هو ما يشمل التعيين للموضوع، فما له دخل في استنباطه - أي يکون كبری للاستنباط - يکون من مسائل الأصول، وإلاّ فالخبر الواحد - مثلاً - ليس من عوارض السنة.

التقرير الثاني(2): إنه بعد عدم انطباق ضابط المسألة الأصولية، وهو رفع التحيّر، إذ هنا لا تحيّر حيث يعلم المكلف بأنه لابد من الإتيان بالمقدمة، سواء كانت واجبة أم لا. وبعد عدم انطباق ضابط المسألة الفقهية، وهو ما يبحث فيها عن العوارض الشرعية لفعل المكلّف، إذ وجوب المقدمة شرعاً لا أثر عملي له، فلا طاعة وعصيان، ولا ثواب وعقاب، ولا بعث وزجر...

فإنه ينطبق ضابط المبادي، لأن ثمرة هذه المسألة تحقيق صغری مسألة أصولية أخری وهي التعارض والتزاحم، فيما لو كانت المقدمة محرمة في

ص: 385


1- الأصول 1: 285.
2- منتقی الأصول 2: 100-101.

نفسها، فإن قلنا بوجوبها حصل التعارض بين الحرمة الذاتية وبين الوجوب المقدّمي، وإن قلنا بعدم وجوبها حصل التزاحم بين الحرمة الذاتية في المقدمة وبين الوجوب لذي المقدمة.

وحيث إن التعارض والتزاحم من مسائل الأصول، فإن البحث عن صغری المسألتين من المبادي، فتأمل.

ويرد عليه: الإشکال مبنی في ضابط المسألة الأصولية، فراجع أول الکتاب.

البحث الثاني: في تقسيمات المقدمة

التقسیم الأول: تقسيمها إلى مقدمة داخلية وخارجية
اشارة

أما الداخلية فهي الأجزاء المأخوذة في المأمور به، وأما الخارجية فهي ما كان خارجاً عن الماهية لكن يتوقف وجود المأمور به عليها.

1- أما الأجزاء الداخلية
اشارة

فالبحث فيها في مقامين:

المقام الأول: هل الأجزاء مقدمة داخلية؟

فيه إشكال، وقد تمَّ بيان الإشكال بصور مختلفة، وحاصله: أن المركب لا يکون إلاّ نفس الأجزاء، فيلزم من مقدميتها كون الشيء الواحد مقدماً ومؤخراً، وذلك لأن ذي المقدمة معلول، والمقدمة علّة أو جزء العلة.

وببيان آخر: إنه لابد من اثنينية بين ذي المقدمة وبين المقدمة، إذ ذو المقدمة يحتاج إليها، ولا يمكن احتياج الشيء إلی نفسه.

وببيان ثالث: إنها تقع في طريق وجوده، والشيء لا يقع في طريق وجود

ص: 386

نفسه.

وببيان رابع: إن بينهما تضايف، ولا يعقل ذلك في شيء واحد.

وأجيب: بأن للجزء جهتين، إحداهما جهة الذات، والأخری جهة اجتماع الجزء مع غيره من الأجزاء، وجهة الذات متقدمة علی جهة الاجتماع، لأن الأول معروض والثاني عارض، فالجزء لا بشرط عن الاجتماع، والكل بشرط شيء - وهو الاجتماع - ، وحيث حصل تقدم وتأخر فيمکن أن يکون أحدهما مقدمة للآخر.

وفيه تأمل: لأن ذي المقدمة ليس جهة الاجتماع، بل ذات الجزء بجهة الاجتماع، وحيث كانت المقدمة هي ذات الجزء عاد المحذور.

وبعبارة أخری: إن جهة الاجتماع أمر اعتباري في المركبات الشرعية، ففي الحقيقة إن الكل هو نفس الأجزاء لكن بهذا الاعتبار، نعم لو كان ذو المقدمة هو صفة الاجتماع بنفسه من دون دخل الموصوف لكان لهذا الجواب مجال.

المقام الثاني: في دخول المقدمة الداخلية في البحث

وذلك علی فرض إمكانها.

فقد يقال بعدم دخولها في البحث لجهتين:

الجهة الأولی: عدم المقتضي للوجوب الغيري فيها، وذلك لعدم وجود ملاکه، فإن تعدد الاعتبار - الموجب للمغايرة بين الكل والجزء - لا يجدي، لأن الملاك إنّما يرتبط بواقع الشيء لا بالاعتبارات الخارجة عن حقيقته.

اللهم إلاّ أن يقال: إن لقيد الاجتماع دخلاً في الملاك، فيکون للجزء بما هو ملاك الوجوب الغيري، وله بقيد الاجتماع ملاك الوجوب النفسي،

ص: 387

فتأمل.

الجهة الثانية: وجود المانع - علی فرض وجود المقتضي - ، وهو استلزامه لاجتماع المثلين، لأن الوجوب النفسي المتعلق بالكل متعلّق بالأجزاء حقيقة، لأن الكل هو عين الأجزاء، فلا يعقل وجوبها الغيري لاستلزامه اجتماع المثلين وهو محال.

إن قلت: يتأكد الوجوب، كالواجبات النفسية التي تقع مقدمة لواجب آخر، كصلاة الظهر حيث إنها مقدمة لصلاة العصر.

قلت: إذا كان الوجوب الغيري معلولاً للوجوب النفسي فلا يعقل التأكد، لاستلزامه تأثير المتأخر في المتقدم أو الخلف.

أما الأول: فلأنّ الوجوب الغيري متأخر، وهو يترشح من الوجوب النفسي، فيمتنع التأكد لأن المتأخر لا يعقل أن يؤكد المتقدم، حتی وإن كانا مقترنين زماناً لاستحالة تأثير المعلول في علته.

وأما الثاني: فلأنّ الوجوب النفسي علة للوجوب الغيري، فمع التأكد ينعدم الوجوب النفسي بحدّه الخاص ويحدث فرد جديد للوجوب مؤكد، فيلزم انعدام علة الوجوب الغيري، فينعدم الوجوب الغيري لانعدام المعلول بانعدام علته، وهذا خلف(1).

ويرد عليه: إن المقصود هو أن العلة والمعلول مجتمعين يکونان علة لمعلول آخر، فالوجوب النفسي والغيري معاً صارا علة لوجوب ثالث هو الوجوب المؤكد، وليس ذلك بمعنی زوال العلة الأولی ليکون خلفاً، ولا

ص: 388


1- منتقی الأصول 2: 105.

تأكد الوجوب النفسي الأول ليکون تأثيراً للمتأخر في المتقدم، بل حدوث وجوب ثالث هو الوجوب المؤكد.

مضافاً إلی أن الذي يحدث هو وجوب نفسي جديد، أي مرتبة شديدة من الوجوب السابق، وهو صالح لترشح الوجوب منه إلی المقدمة، إلاّ لو قيل باستلزامه للتسلسل، فتأمل.

إن قلت: إنه لو قلنا بكفاية تعدد العنوان في رفع محذور اجتماع الضدين، في بحث اجتماع الأمر والنهي، نقول بنظير ذلك هنا، أي كفاية تعدد العنوان لرفع محذور اجتماع المثلين، لأن النفسي يطرأ علی عنوان المركب، والغيري يطرأ علی الأجزاء بعنوان المقدمية.

قلت: إن عنوان المقدمية ليس جهة تقييدية بل تعليلية، فالوجوب ليس عارضاً علی عنوان المقدمية بل هو عارض علی ذات المقدمة ونفس الذات طرأ عليها الوجوب النفسي، فاجتمع المثلان، عكس ذلك الباب، حيث إن الوجوب طرأ علی عنوان الصلاة، والحرمة علی عنوان الغصب.

ثم لا بأس بنقل كلام المحقق العراقي في عدم مقدمية الأجزاء(1)، قال - ما محصّله - : إن الأجزاء وجودات مستقلة، لكن وحدتها باعتبار تعلّق الأمر بها، واتحاد المصلحة القائمة بها، وحينئذٍ بعد تعلّق الأمر بها ينتزع منها الجزئية والكلية حسب اللحاظ، فإن لاحظناها بما هي انتزعت الجزئية، وإن لوحظت مجتمعة انتزعت الكلية، بلا تقدّم وتأخر بينها.

مثلاً: السرير هو اجتماع الخشبات المختلفة، حيث يمكن أن يکون لكل

ص: 389


1- نهاية الأفكار 1: 263-264.

خشبة مصلحة مستقلة وتكليف مستقل، ويمكن كون الجميع تحت مصلحة واحدة وتكليف واحد.

وهذا يدل علی أن المناط ليس الوحدات الخارجية، وإنّما وحدة الوجوب المتعلّق بالمتكثرات، فلا يمكن أخذ تلك الوحدة الناشئة من قبل الأمر في متعلقه.

إن قلت: ليست الجزئية مقدمة للكلية كي يرد ما ذكرت، بل ذات الجزء - وهو لا يتوقف علی الأمر - مقدمة علی الجزء بصفة الاجتماع.

قلت: غاية ذلك هو مقدمية ذوات الأجزاء بالنسبة إلی الهيأة التي هي جزء المركب، لا بالنسبة إلي نفس المركب - وهو ذوات الأجزاء مع الهيأة الاجتماعية - وحينئذٍ:

فإن كان الواجب هو الهيأة، صارت الأجزاء مقدمات خارجية، وهذا خلاف الفرض، لأن الكلام في المقدمة الداخلية.

وإن كان الواجب الذوات مع الهيأة الاجتماعية، فالوجوب يتعلق بالأمور المتكثرة والتي منها الهيأة، إذ إن معروض الوجوب هو منشأ هذه الوحدة الاعتبارية، لقيام المصلحة بذلك المنشأ - لا بالاعتبار - فيکون معروض الوجوب هو المتكثرات الخارجية - ومنها الأجزاء - فلا توجد مقدمية حينئذٍ.

إن قلت: الوحدة اللحاظية متقدمة علی التكليف.

قلت: إن الوجوب لا يتعلّق إلاّ بما قامت به المصلحة واللحاظ، وهو لا يکون إلاّ الذوات المتكثرة الخارجية، لأنها هي المؤثرة في الغرض دون العنوان الطاري.

ص: 390

2- أما المقدمة الخارجية

وهي ما كان لها دخل في تحقق ذي المقدمة، سواء كان القيد خارجاً والتقيد داخلاً، أم كان التقيد خارجاً أيضاً، كالمقدمات العقلية كنصب السلّم للكون علی السطح.

فقد ذكروا لها أقساماً، ومنها:

1- الشرط: وهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود، كالطهارة بالنسبة إلی الصلاة.

2- عدم المانع: والمانع هو ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود، كاستدبار القبلة.

3- السبب: وهو ما يلزم من عدمه العدم، ويلزم من وجوده الوجود لذاته - أي في نفسه بأن لا يقترن مع عدم الشرط أو وجود المانع أو قيام سبب آخر - ، وبذلك يتضح أن العلة التامة من مصاديق السبب.

4- المعدّ: وهو ما كان له دخل في وجود الشيء، بأن يُهيّئ لوجوده من غير ترشح وجوده منه، سواء كان له دخل في وجود الجزء اللاحق من المقدمة كالخطوة الأولی، أم لم يكن له دخل كالبذر الذي يهيأ للزرع من غير توقف وجود الشمس والهواء علی البذر.

وقد ذكرت فروق ومناقشات ونقض وابرام، إلاّ أن هذه الكلمات اصطلاحات، ولا مشاحة في الاصطلاح.

ثم إن المحقق نائيني فصّل في العلة والمعلول(1): بين ما كان لهما وجود

ص: 391


1- فوائد الأصول 1: 269-270.

مستقل كالطلوع والنهار، وبين ما كانا فعل واحد معنون بعنوانين كالإلقاء والإحراق.

فالأول: يوجب المغايرة بين العلة والمعلول، فتكون داخلة في محل النزاع، حيث إن العلة لها وجوب مقدمي والمعلول له وجوب نفسي، حيث إنه مقدور بالواسطة فيمکن أن يکون متعلقاً للتكليف، وحيث إن المصلحة قائمة بالمعلول فلا تكون العلة واجبة نفسياً.

والثاني: لا يوجبها، إذ ليس هناك إلاّ فعل واحد معنون بعنوانين طوليين أولي وثانوي، وهذا في الحقيقة ليس من باب العلة والمعلول - إذ هما يستدعيان وجودين - ، فليس الإحراق معلول الإلقاء، بل المعلول هو الاحتراق، وإنّما الإحراق هو نفس الإلقاء لكن باعتبارين.

وبذلك يفرّق بين المسببات التوليدية التي لكل واحد منهما وجود يخصّه كطلوع الشمس والنهار، وبين العناوين التوليدية التي ليست لكل واحد منهما وجود يخصّه بل هما شيء واحد حقيقة بعنوانين كفري الأوداج والقتل.

وبهذا يظهر الفرق في أسباب الضمان بين المباشرة - العناوين التوليدية - ، وبين التسبيب - المسببات التوليدية - .

التقسیم الثاني: تقسيم المقدمة إلى عقلية وشرعية وعادية

وأشكل الكفاية(1) أولاً: برجوع الشرعية إلی العقلية، لأن قاعدة المشروط عدم عند عدم شرطه عقلية.

ص: 392


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 419-420.

وثانياً: بأن العادية: ان كانت المراد أنها حسب العادة بلا توقف، كلبس النعال للخروج من الدار، فهذه ليست بمقدمة أصلاً، وإن كان هناك توقف كالصعود علی السطح بواسطة السلّم رجعت إلی المقدمة العقلية وذلك لاستقلال العقل - بعد توسيط العادة - باستحالة تحقق المشروط بدون شرطه.

وأجاب المحقق العراقي(1): بأن هذا المقدار لا يقتضي رجوع الشرعية والعادية إلی العقلية، إذ محطّ نظر هذا التقسيم هو أصل الإناطة ومنشأه، وحكم العقل إنّما هو بعد تحقق الإناطة وتحقق منشأها...

1- فقد تكون الإناطة ذاتية، بلا توسط شيء من جعل شرعي أو قضاء عادة.

2- وقد تكون شرعية، أي محتاجة إلی اعتبار الشارع، كالصلاة في ظرف الطهارة، ولولا حكم الشارع لكان العقل يجوّز تحقق الصلاة من غير طهارة.

إن قلت: دخلها في المصلحة يجعلها عقلية.

قلت: يکفي في عدم كونها عقلية إمكان أن لا يعتبرها الشارع حين الأمر، لقيام مصلحة أخری كالتسهيل.

3- وقد تكون عادية، فلولا حكم العادة لم يحكم العقل بالتوقف، كما في علوم المعصومين (علیهم السلام) حيث إنها لدنيّه، مع أن العادة تقضي بحصول العلم بالتعلّم لمدّة مديدة.

وأما المحقق الإصفهاني فقال(2):

ص: 393


1- نهاية الأفكار 1: 270.
2- نهاية الدراية 2: 28.

1- بأن التقسيم قد يکون بلحاظ الحاكم بالمقدمية، فهذا التقسيم غير صحيح، لأن العادة ليست حاكمة إذ لا يراد منها العرف هنا، بل المراد منها هنا هو طبع الشيء بلا قسر قاسر.

2- وقد يکون بلحاظ التوقف في حدّ نفسه، فالواجب بما هو إما متقيد بوجود ما يسمّی مقدمة مع قطع النظر عن الأنظار ووجوه الاعتبار، فالتوقف واقعي، وإما متقيد بحسب جعل الجاعل واعتبار المعتبر، فالتوقف جعلي، كالصلاة فإنها بما هي حركات لا تتوقف علی الوضوء مع قطع النظر عن جعل الشارع.

إن قلت: المقدمة العادية هي مقدمة عقلية، لاستحالة صعود السطح بلا نصب سلّم، حيث لا جناح ولا قدرة خارقة، لاستحالة تحقق المعلول من غير علة.

قلت: قد يستحيل الشيء برهاناً بالامتناع الذاتي، كالطفرة، فيکون كطي المسافة للوصول إلی السطح، فتكون مقدمة عقلية، وقد يستحيل الشيء لا برهاناً، بل الامتناع وقوعي كالطيران حيث إن الجسم الثقيل بالطبع ليس له الطيران إلاّ بقاسر من جناح أو قوة خارقة مع إمكان الطيران ذاتاً فلا تکون مقدمة عقلية بل عادية، نعم بالنسبة إلی عدم القوة عقلي.

والحاصل: إن أصل الجامع - وهو طي المسافة - عقلي، لكن إنحصار الجامع في نصب السلّم مثلاً يکون سبباً لكونه واجباً بالعرض فهو عادي، فتأمّل.

التقسیم الثالث: تقسيمها إلى مقدمة الوجود والوجوب والصحة والعلم

فالأول: كنصب السلّم للكون علی السطح، والثاني: كالاستطاعة للحج،

ص: 394

والثالث: كالطهارة للصلاة حيث يستحيل اتصاف الذات بالصحة بدونها، والرابع: ما يتوقف العلم بالشيء عليه، سواء كانت من الأقل والأكثر كغسل فوق المرفق، أم من المتباينين كالصلاة إلی الجهات الأربع.

وأشكل علی الأول: بأن مقدمة الوجود إما راجعة إلی مقدمة الوجوب إذا كان دخل الشيء في اتصاف الذات بالوصف العنواني - أي الوجوب - ، وإما راجعة إلی مقدمة الواجب إذا كان دخله في وجود المتصف فارغاً عن أصل الاتصاف - كالوضوء للصلاة - .

ويرد عليه: بأن المراد هو الشق الثاني، ومقدمة الواجب هي نفس مقدمة الوجود، إذ يتوقف عليها وجوده خارجاً، ولا مانع من دخول شيء واحد في تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة.

وأشكل علی الثاني: بأنه لا يتحقق الوجوب إلاّ بعد تحقق المقدمة، ومع وجود المقدمة لا يترشح الوجوب إليها، لأنه يکون طلباً للحاصل.

وأشكل علی الثالث: بأن مقدمة الصحة ترجع إلی مقدمة الوجود، بناءً علی أن العبادات أسامي للصحيحة.

إن قلت: إن ذلك مختص بالعبادات دون سائر الواجبات التوصلية.

قلت: إن الغرض إنّما هو في مقدمة الواجب، لا مقدمة المسمّی بالواجب، فإنه لا كلام في عدم ترشح الوجوب من المسمی غير الصحيح وذلك لعدم وجوبه أصلاً، وبذلك يتضح أنه حتی علی مبنی الأعم لا ترشح إلاّ من الصحيح.

وأشكل علی الرابع: أولاً: بأن وجود الواجب لا يتوقف علی المقدمة

ص: 395

العلمية أصلاً، فالصلاة إلی الجهات الأربع لا تكون دخيلة في حصول نفس الواجب، بل في حصول العلم بالامتثال، ووجوب هذا العلم عقلي لا شرعي.

وثانياً: بأن تحصيل العلم - في غير المعارف الاعتقادية - ليس واجباً شرعياً كي يبحث عن الوجوب الشرعي لمقدماته، وقد أحصی المحقق العراقي(1) موارد وجوب تحصيل العلم وأرجعها إلی الوجوب العقلي:

1- في فراغ الذمة عند العلم الإجمالي، فإن العلم عقلي محض، وذلك لكي لا يقع في محذور مخالفة التكليف الثابت المنجز ذلك التكليف بالعلم الإجمالي.

2- وفي وجوب الفحص في الشبهات البدوية الحكمية، وذلك بحكم العقل أيضاً، وهذا الوجوب إما لعدم تحقق حكم العقل بقبح المؤاخذة، وإما لمنجزية التكليف الواقعي - علی تقدير وجوده - وعدم معذورية المكلف لولا الفحص، وحكم الشارع حينئذٍ إرشادي.

3- وفي الأمر بالتعلّم، والمؤاخذة علی عدمه في قوله: «أ فلا تعلّمت»(2)، وهذا الأمر إرشادي أيضاً لحكم العقل بعدم جواز الرجوع إلی البرائة إلاّ بعد الفحص، ولو كان الحكم مولوياً لأمكنه الإجابة بأنه لم يكن يعلم بوجوب تحصيل العلم بالأحكام الشرعية، ووجوب هذا موجب للتسلسل.

4- وفي الشبهات الموضوعية الواجب فيها الفحص، فالوجوب عقلي أيضاً، أما علی مبنی وجوب الفحص فيها جميعاً إلاّ ما خرج فلمنجزية

ص: 396


1- نهاية الأفكار 1: 271-272.
2- أمالي المفيد: 228.

التكليف الواقعي بحكم العقل، وأما علی مبنی عدم وجوب الفحص فيها إلاّ ما خرج، فلأن تلك الموارد خارجة بحكم العقل وأمر الشارع إرشاد، فإما تدخل في منجزية العلم الإجمالي كالفحص عن دم العُذْرة والحيض لدوران الأمر بين وجوب أو حرمة الصلاة والصوم، وإما تدخل في منجزية احتمال التكليف للواقع وعدم المعذرية في الرجوع إلی الأصول النافية لولا الفحص كما في الأمر بالبحث عن الماء بمقدار غلوة أو غلوتين.

اللهم إلاّ أن يقال: بأنه لا يحكم العقل بالمنجزية لولا حكم الشارع بوجوب الفحص، ولولا ذلك لوجب الفحص في كل الشبهات الموضوعية، فتأمل.

التقسیم الرابع: تقسيم المقدمة إلى متقدمة ومقارنة ومتأخرة
اشارة

وقد أشكل باستحالة المقدمة المتأخرة، والذي منها الشرط المتأخر، وحاصل الإشكال: إما تأثير المعدوم في الموجود لو كان تأثير الشرط حين تحقق المشروط، وإما لزوم تغيير الواقع عما وقع عليه لو كان التأثير من حين تحقق الشرط.

وبعبارة أخری: إن معنی الشرط هو كونه دخيلاً في وجود المشروط، فيکون من أجزاء العلة، وتأخر الشرط معناه تأثير المعدوم في الموجود أو تغير الموجود عمّا وقع عليه.

بل قد يقال بتعميم الإشكال إلی الشرط المتقدِّم المنقضي عند وجود المشروط، كالإيجاب في العقد، بل أجزاء القبول غير الجزء الأخير.

فالبحث في ثلاثة مواطن:

ص: 397

الموطن الأول: الشرط المتأخر للحكم التكليفي أو الوضعي

ذهب المحقق الخراساني(1) إلی أن شرط الحكم هو الوجود العلمي للشرط لا الوجود الواقعي، والوجود العلمي مقارن للحكم مطلقاً.

وقد يوجّه كلامه بلزوم كون العلة والمعلول في عالم واحد - الذهن أو الخارج - للزوم السنخية بينهما، فلا تؤثر الأمور الخارجية في المتصورات، وكذا العكس، وحيث إن الحكم صادر عن إرادة الآمر فلا معنی لتأثير الخارج فيه، بل الإرادة في نفس المولی، فمقدماتها ذهنية، ومن تلك المقدمات تصوّر الشيء، وهذا التصور هو المؤثر في الحكم ويوجب إرادته.

والحاصل: إن المؤثر هو العلم بالشيء وهو مقارن مطلقاً، لا متأخر.

إن قلت: فلماذا سميت الأمور الخارجية بالشرط؟

قلت: بلحاظ كونها متعلقاً للشرط.

وأشكل عليه المحقق النائيني(2): بأن ذلك خلط بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية، حيث إن ما ذكره يرتبط بالقضايا الخارجية، وهي ليست محل البحث في الشرط المتأخر.

وذلك لأن موضوع الحكم...

1- قد يکون شيئاً متحققاً في الخارج، وهو ما يعبر عنه بالقضايا الخارجية، والدخيل في ملاك الأمر في هذه القضايا هو علم المولی بتحقق

ص: 398


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 428.
2- فوائد الأصول 1: 276-278.

الموضوع وبكونه ذا مصلحة، فيتصور - مثلاً - وجود زيد وأنه صديق فيأمر بإكرامه، حتی لو كان عدواً في الواقع، وفي هذه القضايا لا يمكن تصور شرط متأخر، إذ الشرط هو العلم وهو مقارن دائماً.

2- وقد يکون شيئاً مفروض الوجود مع قطع النظر عن تحققه في الخارج، وهو ما يعبر عنه بالقضايا الحقيقية، وفيها لا يکون تشخيص تحقق الموضوع مهمة المولی، وبناءً عليه يمكن انفكاك الجعل عن المجعول، نظير الوصية التمليكية.

والحاصل: إنّ المؤثر في التكليف في القضايا الخارجية هو علم المولی بتحقق الموضوع، وفي القضايا الحقيقية تحقق الموضوع خارجاً، سواء علم به المولی أم لا، إذ الحكم يدور مدار تحقق الموضوع لا علی مدار علم المولی، فكلام صاحب الكفاية إنّما هو في القضايا الخارجية وليس كلامنا فيها.

وأجيب عنه: أولاً: بما يستفاد من كلمات المحقق العراقي(1): باستحالة انفكاك الجعل عن المجعول، لأن نسبتهما هي نسبة الإيجاد إلی الوجود، وهما متحدان ذاتاً وإنّما التغاير بالاعتبار، فلو لوحظ الشيء بالنسبة إلی الفاعل كان إيجاداً ولو لوحظ بالنسبة إلی القابل كان وجوداً.

إن قلت: كيف ذلك ونشاهد كثيراً عدم تحقق المجعول إلاّ بعد حين؟

قلت: لا انفكاك بين الجعل والمجعول، وإنّما قد تتأخر بعض آثار المجعول، وذلك بلحاظ احتياج الآثار إلی أمور أخری، فيکون المجعول

ص: 399


1- راجع نهاية الأفكار 1: 281.

كالمقتضي والمعدّ.

وهذا نظير ما يقال في مراتب الحكم، فإن الإنشاء لا باعثية له إلاّ بعد تحقق مجموعة من الأمور وعندها يتحول الحكم إلی الفعلية ثم التنجّز.

مثلاً: في وجوب الحج ليس المجعول سوی الوجوب علی المستطيع، وهذا متحقق بمجرد الجعل، أما كون هذا المجعول له أثر الباعثية ونحوها فهو مرتبط بأمور أخری غير الجعل.

وعليه فإن المولی لاحظ الموضوع في القضايا الحقيقية أيضاً كملاحظته للموضوع في القضايا الخارجية وهذا اللحاظ مقارن.

والحاصل: إن المولی يتصور الموضوع - وهو من يُفرض أنه مستطيع - ثم يجعل الحكم عليه، فيوجد حكماً يتعلق بذلك الشيء المفروض الوجود، نعم فعلية وتنجز ذلك الحكم متوقفة علی أمور أخری.

إن قلت: شرط الوجوب يکون مؤثراً في إتصاف الفعل بأنه ذو ملاك ومصلحة، كالاستطاعة في وجوب الحج حيث لا ملاك للوجوب بدونها، وذلك أمر تكويني خارجي، يکون المؤثر فيه الشرط بوجوده الخارجي لا اللحاظي، فرجع إشكال تأثير المتأخر في المتقدم.

قلت: يمكن القول بعدم دخالة الشرط المتأخر في الملاك، لكن عدمه موجب لعدم تحقق الملاك أو إفساده وعدم تأثيره، وهذا أمر واقع كثيراً في العرفيات، ككون شرب الدواء له فائدة بشرط الحمية مثلاً بعد ذلك(1).

وثانياً: بأنه من الصحيح لزوم تحقق الموضوع - بما له من الأجزاء

ص: 400


1- بحوث في علم الأصول 2: 181.

والتقيدات والحدود - قبل مجيء الحكم، ولكن المدعی هو تحققه بجميع ما يعتبر فيه من الحدود والتقيدات فعلاً بمحض تحقق القيود في مواطنها - سابقاً أو مقارناً أو لاحقاً - ، نظراً إلی كشف تحقق القيد في موطنه المتأخر في الواقع عن كون الأمر السابق محدوداً بالحدود التي بها يترتب عليه الأثر، فالشرط المتأخر إنّما هو طرف في الإضافة، وليس مؤثراً(1).

وعليه فلا فرق بين القضايا الحقيقية والخارجية من جهة تحقق جميع ما يعتبر فيهما حين الحكم، فتأمل.

الموطن الثاني: الشرط المتأخر للواجب
اشارة

والإشكال فيه إما بحسب الواجب أو بحسب الملاك.

وأما الأول: فيمكن الجواب عنه بما مرّ عن المحقق العراقي بأنه ليس من باب التأثير كي يستشكل في تأثير المتأخر في المتقدم، بل من باب حدود الوجود والحصة، فيرجع في حقيقته إلی تخصيص الواجب بخصوص الحصة التي يعقبها الشرط.

وبعبارة أخری: تخصيص المفهوم المأخوذ في متعلّق الأمر، وهذا المفهوم كما يمكن تخصيصه بقيد متقدم كذلك بقيد متأخر.

وأما الثاني: فالإشكال في كون الملاك أمراً تكوينياً، فالشرط في الحقيقة له دخل في ذلك الملاك فيکون مؤثراً حقيقة.

وأجاب عنه المحقق الخراساني(2): بأنه ليس الملاك المصلحة - التي هي

ص: 401


1- نهاية الأفكار 1: 281.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 432-433.

أمر تكويني - ، بل هو عبارة عن الحسن والقبح، وهما من المقولات الاعتبارية الواقعية، فيمکن استناده إلی شرط من جنسه، كالتعقب والمسبوقية، فيمکن انتزاع الحسن أو القبح من الفعل بهذا الاعتبار.

فالسبق واللحوق تنشأ من مقايسة العقل بين الصوم والغسل - مثلاً - وهذه المقايسة حاضرة دائماً لدی العقل، فصار شرطاً مقارناً.

وأشكل عليه(1): بتعقل الشرط المتأخر حتی في باب المصلحة، وأنه غير مختص بأحكام الآمر، مثلاً يأمر الطبيب بشرب دواء صباحاً مشروطاً بشيء متأخر كالحمية ليلاً، فلابد من الجواب بطريقة يدفع الإشكال حتی في باب المصلحة.

وقد أجيب: بأن الفعل المشروط ليس علة للمصلحة، وأنها لا توجد بفعله، بل ذلك الفعل يوجد أثراً وهذا الأثر باق إلی زمان تحقق الشرط، فبمجموع ذلك الأثر وهذا الشرط تتم أجزاء العلة للمصلحة، ففي المثال: شرب الدواء يوجد أثراً في الجسم وهذا الأثر باق إلی حين الحمية الليلية، فينضم ذلك الأثر مع هذه الحمية فتحقق علة البرء.

فرع: في غسل المستحاضة

ثم إن المثل الشائع للشرط المتأخر للواجب هو غسل المستحاضة الكثيرة ليلاً بعد انقضاء الصوم حيث ذهب بعض الفقهاء إلی توقف صحة الصوم عليه.

وقد يشكل: من جهة أخری غير جهة تأخر الشرط عن المشروط، وهو أن

ص: 402


1- بحوث في علم الأصول 2: 183.

شرط صحة الصوم ليس الغسل بنفسه وإنّما الطهارة المسبَّبة عن الغسل - كما هو الأصح - فالغسل دخيل في تحقق الطهارة المعتبرة في الصوم السابق، وهذه الطهارة إما تتحقق في حال الصوم فيلزم تأثير المعدوم، وإما تتحقق حال الغسل فيلزم وقوع العمل بلا طهارة، وإما أن يقال إن الشرط هو التعقب بالطهارة، ومعنی ذلك عدم شرطية الطهارة بنفسها وصحة الصوم بلا طهارة وهذا يصعب الالتزام به.

نعم لو قيل بأن الشرط ليس الطهارة وإنّما هو نفس الغسل، فيمکن القول بأن الشرط هنا هو التعقب بالغسل كسائر موارد الشرط المتأخر، نظير ما يقال في العقد الفضولي وأنّ الإجازة اللاحقة كاشفة، فالشرط هو التعقب بالرضا وهو متحقق حين العقد.

بل قد يقال: إن المورد هنا أكثر إشكالاً من مورد العقد الفضولي(1)، وذلك لجهة أن المؤثر هناك هو العقد وهو أمر تكويني، وهو متعنون بعنوان التعقب بالرضا وهو أمر انتزاعي، والمؤثر هنا هو نفس عنوان التعقب - حيث إن التعقب بالطهارة هو المؤثر من غير أن يکون عنواناً لشيء آخر - ، فصار المؤثر العنوان الانتزاعي البحت، وخاصة فيمن اغتسلت غسلها الأول لصلاة الفجر بعد دخول الوقت بقليل حيث تقع اللحظات الأولی من الفجر قبل الغسل، ففي تلك اللحظات الصوم صحيح لكن المؤثر في الصحة عنوان انتزاعي بحت - وهو التعقب بالطهارة - .

ويمكن الجواب: باختيار شقّ رابع وهو أن صحة صوم المستحاضة

ص: 403


1- منتقی الأصول 2: 132؛ راجع فوائد الأصول 1: 282-284.

مشترط بالطهارة ومشترط أيضاً بغسل وطهارة لاحقتين، فهي حين العمل طاهرة لكن لا يكفي ذلك لصحة صومها بل لابد من تحقق شرط آخر وهو اغتسالها وطهارتها بالليل وحينئذٍ يكون هذا الشرط الثاني بمعنى تعقّب الصوم بالغسل الليلي.

كما يمكن القول بأن العبادات - ومنها الصوم - مركبات اعتبارية فلا مانع من كون المؤثر فيها الأمور الانتزاعية أو الاعتبارية، فتأمل.

الموطن الثالث: الشرط المتقدم

والإشكال فيه بنفس الإشكال في الشرط المتأخر، حيث إن العلة يلزم أن تكون مقارنة للمعلول بتمام أجزائها فلو تقدم بعضها وأثّر بعد انقضائه كان من تأثير المعدوم.

والجواب: هو نفس ما مرّ من أن الحصة هي المأمور بها، أو أن ذلك المتقدم يوجب أثراً باقياً وحين تحقق سائر الأجزاء تنضم إلی هذا الأثر فتتم العلة فيتحقق المشروط.

ولذا قيل(1): إن الشرط إذا كان متمماً لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل فلابد أن يکون مقارناً مع المعلول، وأما إذا كان مُعدّاً - بمعنی كونه مقرباً للشيء من الامتناع إلی الإمكان بحيث يوجد إذا تحققت علته - فلا إشكال فيه، وذلك لأنّ المُعدّ إما يکون علّة للعلة كالخطوة الأولی التي هي علة للكون في المكان الثاني، وإما يكون علة للأثر الباقي بعد زوالها - حيث إنها علة محدثة لا مبقية - ، وذلك الأثر يکون جزءاً من العلة.

ص: 404


1- راجع نهاية الدراية 2: 33.

البحث الثالث: تقسيمات الواجب

التقسیم الأول: تقسيمه إلى مطلق ومشروط
اشارة

ولا يخفی أن كل واجب مطلق هو مشروط ولو من جهة الشرائط العامة للتكليف، فالمراد إطلاقه أو اشتراطه بالنسبة إلی قيد من القيود.

ثم إن البحث في إمكان الواجب المشروط في مرحلتين: الثبوت والإثبات.

المرحلة الأولى: في الغرض وفي الإرادة من المولى

1- فقد يكون القيد دخيلاً في الملاك والغرض، بأن تكون المصلحة وغرض المولی في المقيَّد لا في المطلق، وهذا لا كلام فيه.

2- وقد يكون البحث في إمكان الإرادة المشروطة، حيث إن الأمر دائر بين وجود الإرادة وعدم وجودها، فكيف يمكن اشتراط الإرادة بشيء؟

وبعبارة أخری: إن كانت الإرادة موجودة فلا معنی لتعليقها بشيء، وإن لم تكن موجودة فلا معنی للوجوب إذ هو فرع الإرادة.

ولتصحيح الواجب المشروط وجوه، منها:

الوجه الأول:

ما ذهب إليه الشيخ الأعظم، من أن الإرادة غير مشروطة، وإنّما المشروط هو المراد، وهو متعلق الإرادة.

ومثاله العرفي: قول الطبيب إن مرضت فاشرب الدواء، فالمراد - وهو شرب الدواء - مقيّد بحالة المرض، لا هذه الإرادة، بل هي مطلقة.

ومثاله الشرعي: حجّ إن استطعت، فإرادة المولی غير مقيدة بالاستطاعة، بل هو يريد فعلاً لكن المراد وهو الحج مقيّد بها.

ص: 405

والدليل علی ذلك أمران:

الدليل الأول: إن المولی إذا إلتفت إلی شيء فإما يريده أو لا يريده، والثاني خارج عن محل البحث لأن المفروض وجود الأمر، والأول معناه وجود الإرادة، وإذا وجد الشيء بقيوده وحدوده فلا معنی لاشتراط وجوده بشيء، لأنه موجود فعلاً.

وبعبارة أخری - كما قيل - : لابد من وجود إرادة في الجملة، للفرق بين الواجب المشروط وغير الواجب، فنتسائل: قبل تحقق الشرط إما الإرادة فعلية وهذا يستلزم رجوع القيد إلی المراد، وإما غير فعلية وهذا خلاف الوجدان لأنا نجد فرقاً بين شخصين غير مريضين أحدهما قرّر شرب الدواء حين المرض، والآخر قرّر عدم شربه حين المرض، فالأول له إرادة فعلية دون الثاني.

الدليل الثاني: إن صدور الأمر من المولی وطلبه للفعل - قبل تحقق الشرط - دليل علی وجود الإرادة، ولولا الإرادة لما أمر المولی ولما طلب الفعل من العبد.

والجواب عنهما: أن هنالك شقاً ثالثاً وهو وجود إرادة مقيدة من قبيل ضيق فم الركية، وبعبارة أخری: توجد إرادة فعلية لكنها مشروطة بما سيأتي بيانه.

الوجه الثاني:

في الواجب المشروط تكون الإرادة فعلية، مع رجوع القيد إلی نفس الإرادة لا المراد، وليس القيد هو وجود الشرط خارجاً، بل القيد هو لحاظه، وهذا اللحاظ فعلي حين وجود الإرادة، نعم فاعلية الإرادة - بمعنی ترتب

ص: 406

الأثر عليها - مشروط بتحقق الشرط خارجاً(1)، وذلك لأن الإرادة من عالم النفس فلابد أن يكون قيدها من الأمور الذهنية.

وأشكل عليه: بأن مجرد التصور لا يكون شرطاً للإرادة، بل لابد من التصديق بوجوده، فمثلاً مجرد تصور العطش لا يكفي في إرادة شرب الماء.

وفيه تأمل: لأن اللحاظ ليس هو التصور المجرد، بل هو توجه النفس إلى الشيء، فيكون الواجب المشروط من قبيل القضية الشرطية التي هي صادقة حتى مع عدم تحقق طرفيها، فتأمل.

الوجه الثالث:

ما يقال: من أنه في الواجب المشروط إرادتان(2)، لكل واحدة منهما أثر.

الأولى: إرادة بالعمل الذي له شرط، كشرب الماء المشروط بالعطش.

وهذه ليست إرادة فعلية قبل تحقق الشرط وجداناً، بل تتحقق عند تحقق الشرط، فلذا قبل تحقق الشرط لا إرادة للفعل لذا لا يكون الفعل واجباً لعدم إرادة المولی له، كالحج قبل الاستطاعة حيث لا إرادة له.

الثانية: إرادة لا تتعلّق بالعمل، بل تتعلق بالجامع بين (شرب الماء) و(الارتواء)، وهي إرادة فعلية، ولذا لا يذهب إلی مکان يعلم بأنه يعطش فيه بما لا يمكنه شرب الماء، وذلك لأن الجامع كان سبباً إلی عدم ذهابه، مع عدم كونه سبباً إلی شربه الماء، لفعلية إرادة الجامع وعدم فعلية إرادة

ص: 407


1- نهاية الأفكار 1: 295-296.
2- بحوث في علم الأصول 2: 191.

شرب الماء، فتأمل.

الوجه الرابع:

في الواجب المشروط يريد المولی الحكم الإنشائي لا الحكم الفعلي، لكن هذا الحكم الإنشائي يصير فعلياً مع تحقق الشرط.

ثم لا يخفی أن الوجوه الثلاثة الأخيرة كلّها ممكنة ثبوتاً، وبكل واحد منها يندفع إشكال استحالة رجوع القيد إلی الإرادة، ومع عدم الاستحالة لا وجه لصرف القيد عن ظاهره اللفظي.

المرحلة الثانية: في رجوع الشرط إلى الوجوب
اشارة

والبحث إنّما هو فيما إذا كان الوجوب مستفاداً من صيغة الأمر، لا من دليل لبيّ أو من مفهوم اسمي، وهنا مقامات:

المقام الأول: في إشكالات على رجوع القيد إلى الهيأة

وقد أشكل علی رجوع الشرط إلی الوجوب بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن الوجوب مستفاد من الهيأة، وهي معنی حرفي، وهو جزئي، فلا يكون قابلاً للتقييد، حيث إن التقييد يكون في المفاهيم الكلية.

وبعبارة أخری: إنه لا مجال للإطلاق والتقييد في ما كان الموضوع له خاصاً، إذ الفرد الموجود من الطلب لا يعقل أن يكون مطلقاً، وإذا استحال الإطلاق استحال التقييد، لتقابلهما تقابل العدم والملكة.

وأجيب: أولاً: مبنیً: بعمومية الموضوع له في الحروف.

وبناءً: بأن الفرد الموجود ينشأ من الأول مقيداً، فيكون القيد من حدود وجوده.

ص: 408

وثانياً: بإمكان التقييد في الجزئي الحقيقي باعتبار الحالات الطارئة العارضة، كتقييد زيد بكونه في زمان معين أو مكان معين.

وفيه: أن التقييد هنا يرجع إلی الذات لا الحالات، حيث إن الوجوب هو مفاد الهيأة وليس الوجوب من عوارض المفاد.

وثالثاً: ما قيل: من الفرق بين التضييق والتعليق، فالأول غير ممكن، أما الثاني فممكن بمعنی توقف وجوده علی شيء.

الإشكال الثاني: إن المعنی الحرفي يلاحظ آلياً، فلا يمكن التوجه إلی إطلاقه وتقييده.

أورد عليه: أولاً: ما مرّ من إمكان التوجه إلی الحروف ومعانيها، فقد يغفل الإنسان علی التوجه إليها لكن لا بمعنی عدم إمكان ملاحظتها، ولذا قد يختار المتكلّم الحروف المناسبة لكلامه فيتوجه إليها استقلالاً، كما أنه في بعض المرادات يكون كل الغرض في المعنی الحرفي في مثل (في المسجد) في جواب (أين زيد) حيث كل الغرض في الظرفية المستفادة من (في).

وثانياً: إمكان تقييد المعنی الحرفي عن طريق معنی اسمي يشير إليه، كما في وضع الحروف لمعانيها، حيث إنه حكم عليها بواسطة معنی اسمي.

هذا مضافاً إلی ما مرّ من الإشكال علی كون المعنی الحرفي يلاحظ آلياً.

الإشكال الثالث: إن الهيأة في الأمر للإيجاد، والإيجاد آبٍ عن التعليق، فإن تعليق الإيجاد يساوق عدمه - سواء في التكوينيات أم في الاعتباريات - .

ويرد عليه: إنه لا مانع عن أن لا يكون إيجاداً إلاّ بعد تحقق القيد،

ص: 409

بمعنی كون الهيأة من مقدمات الإيجاد لا نفسه.

مضافاً إلی ما مرّ من أنه إيجاد للوجوب المقيّد، لا الوجوب المطلق.

المقام الثاني: في الإشكال على رجوع القيد إلى المادة

وأورد علی رجوع القيد إلی المادة إشكال إطلاق الوجوب، وحيث وجب الفعل ترشح الوجوب علی مقدماته، ومعناه وجوب تحصيل المقدمات، كتحصيل الاستطاعة للحج.

وأجيب: بأن الحكم تابع للمصلحة، فقد تقتضي المصلحة وقوع القيد تحت الأمر، كالوضوء بالنسبة إلی الصلاة، وقد تقتضي عدم وقوعه تحته كالاستطاعة للحج.

ويرد عليه: أولاً: إن الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة عقلية، وهي غير قابلة للتخصيص.

وثانياً: عدم تعقل أن يكون (عدم التكليف بشيء) دخيلاً في المصلحة في شيء آخر.

اللهم إلاّ أن يقال: إن الكلام ليس في دخالة عدم مصلحة التكليف بالاستطاعة في مصلحة الحج، بل الكلام في عدم المصلحة في الأمر بالاستطاعة.

المقام الثالث: في الثمرة في رجوع القيد إلى الهيأة أو المادة
اشارة

والثمرة بين القولين تظهر في سائر المقدمات - غير الشرط - .

1- فعلی القول برجوع القيد إلی المادة، يترشح الوجوب إلی سائر المقدمات، فيجب تحصيلها حتی قبل تحقق الشرط - إن علم أو احتمل

ص: 410

تحققه - كحفظ الماء للوضوء قبل دخول الوقت، وأما بالنسبة إلی الشرط فحيث لم تكن المصلحة في وقوعه تحت الأمر، فقبل حصوله - اتفاقاً - لا يوجد طلب لعدم تعلق المصلحة به، وبعد حصوله لا طلب لكونه طلباً للحاصل.

2- وعلی القول برجوع القيد إلی الهيأة، لا وجوب قبل تحقق الشرط، فلا ترشح لسائر المقدمات أيضاً.

استثناءان:
اشارة

وقد يستثنی من ذلك: المعرفة والمقدمات المفوتة.

الاستثناء الأول: في المعرفة

قد يقال: بأن وجوب المقدمات الوجودية للواجب المشروط متوقفة علی حصول الشرط، كوجوب نفس الواجب المشروط، إلاّ في المعرفة بها فإنها واجبة حتی قبل تحقق الشرط.

وأورد عليه بإشکال معروف، حاصله أنه قبل تحقق الشرط لا يعقل ترشح الوجوب من ذي المقدمة إليها، فكيف يعقل وجوب تعلم المسائل قبل حصول الشرط.

وأجاب المحقق الخراساني: بأن وجوب المعرفة ليس بترشح الوجوب عليها من ذي المقدمة، بل لاستقلال العقل بتنجز الأحكام بمجرد احتمالها، إلاّ مع الفحص واليأس عن الظفر بدليل التكليف، فإنه لا فرق في ملاك حكم العقل بين احتمال حكم موجود حيث إن المكلف قادر علی الإطاعة بالفحص، وبين احتمال حكم سيوجد حيث يقدر المكلف علی الإطاعة بتمهيد المقدمة - وهي المعرفة - .

ص: 411

وأشكل عليه: أولاً: بالنقض بسائر المقدمات الوجودية، فأي فرق بين المعرفة وبين تحصيل الممكن من المقدمات كالرفقة ونحوها في الحج مثلاً.

وثانياً: إن الدليل أخص من المدعی، حيث لا يشمل ما لو تمكن من المعرفة بعد حصول الشرط، وكذا فيما أمكنه الاحتياط.

وثالثاً: بالفرق بين الفحص عن حكم محتمل، وبين تحصيل المقدمات، حيث سبب التنجز في الأول هو العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة فلابد من الفحص، ولا يوجد هذا الملاك في التكليف المحتمل المستقبلي.

وفيه نظر: لأن الملاك غير منحصر في العلم الإجمالي، حيث يجب الفحص في الشبهات البدوية الحكميّة حتی مع انحلال العلم الإجمالي الكبير بوجود تكاليف كثيرة، كما سيأتي بحثه في باب البراءة إن شاء الله تعالی.

ورابعاً: بأن التكليف المستقبلي غير منجز حتی مع العلم بتحقق الشرط، وذلك لاحتمال عروض الغفلة ونحوها، ومعها لا يتنجز التكليف المعلوم فكيف بالمحتمل، ففرق بين التكليف الحاليّ المحتمل الملتفت إليه، وبين التكليف المحتمل الاستقبالي(1).

اللهم إلاّ لو علم بعدم طروّ الغفلة ونحوها عليه، وهذا فرض نادر جداً.

والحاصل: إنه لا دليل علی تميّز المعرفة عن غيرها من المقدمات.

ص: 412


1- نهاية الدراية 2: 70-71.
الاستثناء الثاني: في المقدمات المفوتة

وهي المقدمات التي لا يتمكن المكلف من تحصيلها حين تحقق الشرط في الواجب المشروط.

ولا إشكال علی مبنی الشيخ من كون الوجوب فعلياً، إذ يترشح الوجوب إليها من ذي المقدمة، لكن يرد الإشكال علی مبنی المشهور من عدم فعلية الوجوب، وحاصله: استحالة الوجوب الغيري للمقدمات عند عدم وجوب ذي المقدمة.

وأجيب عن ذلك بوجوه، منها:

الوجه الأول: بأنها واجبة بوجوب نفسي - ولو تهيُّأً - .

وفيه: فقدان الدليل علی ذلك في غالب الموارد.

الوجه الثاني: إن لها وجوباً عقلياً، لأن امتناع ذي المقدمة بالاختيار، وهو لا ينافي العقاب.

وفيه(1): إنّما العقاب إذا كان ذلك ناشئاً عن سوء الاختيار، أما لو كان ناشئاً عن ترخيص شرعي، فلا سوء اختيار لكي يعاقب علی ما ليس بالاختيار. والحاصل: إنه لا عقاب علی الامتناع الذي لم ينشأ من سوء الاختيار، نظير الغافل ونحوه.

وفيه تأمل: لأن الترخيص الشرعي هو أول الكلام.

الوجه الثالث: إن العلم بتوجه التكليف الفعلي إليه فيما بعد، وكذا الابتلاء بغرض المولی، يكفيان في حكم العقل بلزوم تحصيل المقدمات

ص: 413


1- نهاية الأفكار 1: 319.

قبل تحقق الشرط، كمن يعلم بعروض عطش شديد له في برّ لا يوجد فيه ماء، فلو لم يحمل الماء كان مذموماً.

وأورد عليه(1): إنه من الممنوع جداً كون العلم بثبوت التكليف فيما بعد موجباً لوجوب تحصيل مقدماته الوجودية قبل الشرط، واستحقاق العقوبة علی تفويت الواجب في ظرفه.

وذلك لأن المصحح للعقوبة علی التفويت، هو البيان في ظرف التكليف، لا مطلق البيان ولو قبل التكليف، وكذا العكس فإن اللا بيان - الذي هو موضوع قبح العقاب - هو اللا بيان في ظرف التكليف لا عدم البيان مطلقاً حتی لو انقلب إلی البيان في ظرف التكليف.

ومرجع هذا الكلام إلی أن احتمال عروض الغفلة ونحوها حين تحقق الشرط يكفي في عدم العلم بالبيان في ظرف التكليف، فلا مصحح للعقوبة.

وفيه نظر: وذلك لأن حفظ غرض المولی واجب عقلاً حتی لو لم يكن أمر، والغفلة وإن كانت رافعة للتكليف، لكن مجرد احتمالها غير ضار بالبيان، وإلا فلو كان الواجب فعلياً وقد تحققت شرائطه وكان له مقدمات وجودية فهل يقال بعدم وجوبها لاحتمال سقوط وجوب ذي المقدمة بالغفلة؟!

وقد بيّن المحقق النائيني هذا الدليل بمقدمات ثلاث(2):

المقدمة الأولى: إن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، وإن نافاه

ص: 414


1- نهاية الأفكار 1: 320.
2- راجع فوائد الأصول 1: 196-208؛ أجود التقريرات 1: 219-223.

خطاباً، أما الخطاب فلأنّ التكليف إنّما هو بغرض إيجاد الداعي إلی الفعل، وغير المختار لا يمكن إيجاد الداعي فيه، فيكون خطابه لغواً، أما العقاب فقوامه اختيارية العمل، وخروج الفعل عن القدرة حيث كان بالاختيار فلا يضر باختياريته.

المقدمة الثانية: حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم للمولی، حتی لو لم يأمر به لمانع من غفلة أو استحالة ونحوهما، كما لو كان ابن المولی يغرق وكان مانع من أمر المولی لعدم علمه أو لقاسر ونحوهما، كما مرّ نظيره في قصد القربة.

المقدمة الثالثة: إن دخل القدرة علی الفعل في الملاك علی أربعة صور:

الصورة الأولی: أن لا تكون دخيلة في الملاك، بل تكون شرطاً عقلياً لتصحيح التكليف، كما في غرق ابن المولی، وهنا يلزم تحصيل القدرة علی الفعل - بالإتيان بالمقدمات المفوتة - حتی قبل الوجوب حفظاً لغرض المولی.

الصورة الثانية: أن تكون دخيلة في الملاك بشكل مطلق - سواء قبل الوجوب أم بعده - نظير دخالة الغسل في صحة الصوم، وهنا أيضاً يلزم تحصيل القدرة علی الفعل - بالإتيان بالمقدمات - حتی قبل زمان الوجوب، حفظاً لغرض المولی.

الصورة الثالثة: أن تكون القدرة دخيلة فيما لو حصل شرط الوجوب، فقبل هذا الشرط لا قدرة علی الملاك، كالحج مع الاستطاعة، حيث إنه قبل الاستطاعة لا يمكن تحصيل ملاك الحج الواجب، وهنا يوجد فرق بين المقدمات قبل حصول الشرط فلا تجب، وبعد حصوله فتجب.

ص: 415

الصورة الرابعة: أن تكون القدرة دخيلة في الملاك فيما لو حصل شرط الواجب، وهنا حيث لا ملاك قبل شرط الواجب، فلا يجب تحصيل القدرة قبل زمان الواجب.

ولا يخفی أن ظاهر الأدلة - إثباتاً - هو الصورة الأولی، وأحياناً الصورة الثانية، فبناءً على ذلك يجب تحصيل المقدمات المفوتة مطلقاً.

الوجه الرابع: - من وجوه القول بوجوب المقدمة المفوتة - : القول بأنه من موارد الشرط المتأخر، بمعنی أن الوقت ونحوه شرط للوجوب بنحو الشرط المتأخر، فإذا علم بحصوله في ظرفه فإنه يعلم بفعلية الحكم قبل حصول الشرط.

وأشكل عليه: المحقق الإصفهاني(1) بأن ذلك إرجاع للواجب المشروط إلی الواجب المعلّق، لأن الهدف هو تصحيح وجوب المقدمة قبل زمان ذي المقدمة، فلابد من فرض تأخر زمان الواجب وتقيّده بوقت معيّن متأخر، فالالتزام بالشرط المتأخر الملازم لفعلية الوجوب المصحح لوجوب المقدمة فعلاً إنّما يتعقل بناءً علی الالتزام بالواجب المعلق.

والحاصل: إن الالتزام بفعلية الوجوب قبل زمان الواجب هو إخراج للواجب عن الواجب المشروط والتزام بالمعلّق.

الوجه الخامس: ما مرّ من الالتزام بإرادتين: إحداهما بالجامع، والآخر بالفعل الخاص، وحيث كانت الإرادة بالجامع فعلية فلا بأس بالقول بالوجوب تبعاً لها فيترشح إلی المقدمات المفوتة.

ص: 416


1- نهاية الدراية 2: 86.

إن قلت: في بعض الموارد لم يلتزموا بوجوب المقدمة المفوتة، فأجازوا - مثلاً - أن يُجنب قبل الوقت مع علمه بعدم تمكنه من الغسل في الوقت.

قلت: ثبوتاً الموارد تختلف باختلاف كيفية دخل الشرط في الملاك، فإن كانت القدرة علی المقدمة دخيلة في تحصيل الملاك - سواء قبل الوقت أم بعده - فحينئذٍ يجب تحصيلها حفظاً لغرض المولی.

وإن لم تكن كذلك، بحيث لا تكون القدرة علی المقدمة قبل زمان ذي المقدمة دخيلة في الملاك أصلاً، فلا وجوب للمقدمة قبل الوقت أصلاً، وذلك لعدم ارتباطها بغرض المولی.

وأما إثباتاً، فاللازم متابعة ظاهر الدليل ومدی دلالته علی كيفية الدخل.

وقد ذكر بعض الفقهاء أن قوله تعالی: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ فَاغْسِلُواْ}(1) ظاهر علی تعليق الوضوء علی القيام إلی الصلاة، وهو بمعنی دخول الوقت، ومعنی ذلك أن الملاك في الصلاة بالطهارة المائية متوقف علی الوقت فلا يلزم حفظ الماء ولا الوضوء قبل الوقت.

وأشكل عليه: بأن غاية ما تدل عليه الآية هو دخل الوقت في تحقق الملاك الملزم للوضوء، أما الدلالة علی دخالة القدرة بنحو خاص في تحقق الملاك فلم تتكفل الآية ببيانه(2).

المقام الرابع: في دوران الأمر بين رجوع القيد إلى الهيأة أو المادة
اشارة

لو رجع القيد إلی المادة - أي الواجب - فلا إشكال في وجوب تحصيل

ص: 417


1- سورة المائدة، الآية: 6.
2- منتقی الأصول 2: 197.

القيد، كالوضوء للصلاة، كما لا إشكال فيما لو رجع إلی الهيأة - أي الوجوب - في عدم وجوب تحصيله، كالاستطاعة للحج.

أما لو شك في رجوعه إلی أيٍّ منهما فهل هناك قاعدة يرجع إليها، أم لابد من ملاحظة الدليل في كل مورد؟

فنقول: إن دليل التقييد تارة يكون منفصلاً، وأخری متصلاً، فهنا بحثان:

البحث الأول: في المقيِّد المنفصل

إن مقتضی القاعدة هو التعارض بين إطلاق المادة وإطلاق الهيأة، وبتساقطهما يكون المرجع الأصول العملية.

أ) الأصل اللفظي

ولكن قد ذكر الأعلام بعض المرجحات لرجوع القيد إلی المادة، منها:

المرجح الأول: ما نسب إلی الشيخ الأعظم، من أن إطلاق الهيأة شمولي، حيث يوجب هذا الإطلاق توسيع الوجوب لحالة فقدان القيد، وأما إطلاق المادة فهو بدلي، حيث مدلوله صرف الوجود للطبيعة وهو ينطبق علی أيِّ فرد من أفرادها، والإطلاق الشمولي أقوی من الإطلاق البدلي.

وأشكل عليه صغری وكبری...

أما الصغری: فبأن الأقوائية إن لم توجب ظهوراً فلا اعتبار بها، ولعلّ منشأ توهمها هو ما يقال في تقدم العام علی المطلق حيث إن الأول شمولي والثاني بدلي، مع أن التقدم هناك بسبب الظهور الناشئ من كون دلالة العام علی الشمول بالوضع ودلالة المطلق علی البدلية بمقدمات الحكمة، مضافاً إلی أن العام مقدم علی المطلق حتی إذا كان المطلق شمولياً.

ص: 418

وأما الكبری: فبأن الشمول والإطلاق في الهيأة والمادة إنّما هما بمقدمات الحكمة، فهي قد تقتضي الشمول، أو البدلية، أو التعيين، ومع اتحاد منشأ الدلالة يتساوی الظهور.

ثم عن المحقق النائيني أنّه قد استدل علی الكبری بأمور(1)، منها:

الدليل الأول: بأن التقييد في البدلي لا يوجب التصرف في الحكم الشرعي، إذ كان الحكم علی الطبيعة التي تتحقق بفرد واحد، فرجوع القيد إلی المادة لا يوجب تصرفاً للحكم، غاية الأمر هو تحديد دائرة الانطباق علی الأفراد بإخراج الأفراد التي لا قيد فيها.

وأما في الشمولي فإن التقييد يوجب رفع الحكم عن بعض الأفراد.

ومع دوران الأمر بين رفع الأمر عن الحكم أو رفع اليد عن التوسعة مع المحافظة علی الحكم، تعيّن الثاني.

ويرد عليه: أولاً: إنه استحسان لا يوجب ظهوراً، ففي مثل: أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق، لا ظهور أقوی في العالم الفاسق.

وثانياً: ما قيل: من أن المدلول الالتزامي للبدلي هو شمول الترخيص في تطبيق المطلق علی الكل، وهذا الترخيص هو حكم شرعي، وهو شمولي.

ومرجع هذا الإشكال إلی أن المطلق البدلي له مدلول التزامي شمولي، فيتعارض إطلاقان شموليان أحدهما بالمطابقة والآخر بالالتزام، فتأمل.

الدليل الثاني: إن انعقاد الإطلاق البدلي بالإضافة إلی جميع الأفراد يتوقف علی أن لا يكون هناك مانع عن انطباقه علی بعضها، إذ لو كان مانع

ص: 419


1- راجع فوائد الأصول 4: 729-730.

فلا إطلاق، إذ إن من مقدمات الحكمة عدم القرينة علی الخلاف، والإطلاق الشمولي يصلح أن يكون مانعاً عن الإطلاق البدلي، فهو قرينة تمنع انعقاده.

ويرد عليه: أولاً: إن العكس كذلك، فانعقاد الإطلاق الشمولي يتوقف علی أن لا يمنع عنه الإطلاق البدلي.

وثانياً: بأنه في كل تعارض يكون لكلٍّ من المتعارضين صلاحية سلب الحجية عن الآخر، إلاّ أن تساويهما وعدم وجود مزية لأحدهما علی الآخر يكون مانعاً عن انعقاد الحجية لكليهما.

وثالثاً: ما قيل: بأن التقدم إنّما هو فيما لو كان التعارض بالذات، وهنا ليس كذلك بل التعارض نشأ من أمر خارج عن الذات وهو العلم برجوع القيد إلی أحدهما، وهذا لا يوجب التقديم حتی لو كان أحدهما أقوی، فتأمل.

المرجح الثاني - مما استدل به الشيخ الأعظم لرجوع القيد إلی المادة - :

أن تقييد المادة تقييد واحد، عكس تقييد الهيأة إذ هو يستلزم تقييد المادة أيضاً، حيث لا معنی لصدق الواجب من دون وجوب، فلا تقع المادة مطلوبة من غير وجوب.

ومن البيّن ترجيح تقييد واحد علی تقييدين.

وبعبارة أخری - ويمكن اعتبارها مرجحاً ثالثاً - : إن تقييد المادة قدر متيقن دون الهيأة.

وأما المحقق الخراساني فقد قبل الاستدلال في المنفصل، دون المتصل، حيث لا إطلاق في المتصل، فلا يكون من التقييد الذي هو خلاف الأصل.

ص: 420

والجواب: أولاً: بمنع الكبری، فإن الأمر تابع للظهور، وحيث لا ظهور - حيث إن كلامنا في حالة الشك - فالإجمال، دون هذا الوجه وأمثاله.

وثانياً: ما عن المحقق الإصفهاني(1): من أن النسبة بين تقييد المادة والهيأة عموم من وجه، فلا يستلزم كل تقييد للهيأة تقييداً للمادة، نظير الاستطاعة فإنها قيد لوجوب الحج دون الواجب، فلو استطاع ثم أزال الاستطاعة عمداً فحجّ متسكعاً، صح ّحجه وبرئت ذمته.

والحاصل: إنه لا قدر متيقن في البين فيما لو دار التقييد بين المادة والهيأة، فالظهور وإن انعقد إلاّ أن العلم الإجمالي بعروض التقييد علی أحدهما أوجب سقوط كليهما عن الاعتبار، فلا يمكن التمسك بشيء منهما.

ويرد عليه: أن الاستطاعة ليست الاستطاعة المستمرة بل مطلق الاستطاعة، وحينئذٍ فالقيد للوجوب والواجب كما لا يخفی، ولا يوجد مثال آخر للعموم من وجه، بل لا معنی لصدق الواجب من غير وجوب.

وثالثاً: بان تقييد المادة بعد تقييد الهيأة ليس تقييداً بل هو تقيّد، فهو من السالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارة أخری - كما قيل - : الأمر دار بين تقييد وتقييد آخر يبطل محل الإطلاق، لا بين تقييد وتقييدين، ولا دليل علی أولوية الثاني علی الأول.

ب) الأصل العملي

ثم إنه لو وصل الأمر إلی الأصول العملية - بعد عدم وجود مرجح لأحد

ص: 421


1- راجع نهاية الدراية 2: 96-97 (الهامش).

التقييدين علی الآخر - فالظاهر أن الأصل هو البراءة، فلا وجوب، وحينئذٍ فلا ترشح للمقدمات، فمقتضی الأصل هو نتيجة تقييد الهيأة.

وقد يقال: باستصحاب الوجوب في المقيّد المنفصل لانعقاد ظهور في الوجوب مع الشك في بقائه بسبب الشك في رجوع القيد إلی الهيأة، دون المتصل إذ لا انعقاد للظهور أصلاً.

وفيه: أنه بعد ورود القيد لا يقين بالوجوب السابق، فالمورد من قاعدة اليقين دون الاستصحاب.

وبعبارة أخری: إن القيد وإن كان منفصلاً، إلاّ أن المراد الجدّي بالوجوب غير معلوم، فلا يقين سابق، بمعنی أن الشك ساري وليس طارئاً، فتأمل.

البحث الثاني: في المقيِّد المتصل

ولا يخفی أنه يمنع من انعقاد الظهور في كليهما - في المادة والهيأة - وذلك لاحتفاف الكلام بما يمكن أن يكون قرينة لأيٍّ منهما، فيكون الأمر مجملاً من جهة هذا القيد، فلابد من الرجوع إلی الأصول العملية، وقد ذكرنا أن مقتضاها البراءة دون الاستصحاب مطلقاً.

التقسیم الثاني: تقسيم الواجب إلى المنجز والمعلّق
اشارة

ومن تقسيمات الواجب المطلق تقسيمه...

1- إلی المعلّق، وهو الواجب المقيّد بقيد استقبالي خارج عن قدرة المكلّف كالزمان. وبعضهم أضاف ما كان مقيداً بقيد نعلم عدم لزوم تحصيله، لكن لو حصل اتفاقاً حلّ وقت الواجب، فتأمل.

ص: 422

2- وإلی منجّز وهو ما لم يكن مقيداً بهكذا قيد.

كالحج فإنه واجب مشروط بالنسبة إلی الاستطاعة، لكن بعد حصولها ودخول شهر شوال يكون معلّقاً بحلول يوم عرفة، وحلوله خارج عن اختيار المكلف.

وبعبارة أخری: المنجّز: ما كان الوجوب والواجب حالياً، والمعلّق: ما كان الوجوب حالياً والواجب مقيداً بزمان متأخر فيكون استقبالياً.

ثم إن هيهنا أمران:

الأمر الأول: في صحة هذا التقسيم

فقد أورد عليه إشكالات منها:

الأول: ما عن الشيخ الأعظم: من إنكار هذا التقسيم.

لكن إنكاره في الحقيقة يرجع إلی إنكار الواجب المشروط - حسب المشهور - ، وذهابه إلی أن الواجب المشروط هو نفس الواجب المعلّق، لإشكاله علی رجوع القيد إلی الهيأة، فيكون المشروط عنده هو ما كان الوجوب حالياً والواجب استقبالياً - وهو نفس الواجب المعلق - .

وقد مرّ في الواجب المشروط إمكان رجوع القيد إلی الهيأة فيكون المشروط، وإلی المادة فيكون المعلّق - إذا كان القيد زمان متأخر ونحوه - .

الثاني: ما عن المحقق الخراساني: من عدم الثمرة في هذا التقسيم، لأن المنجز والمعلّق كلاهما من الواجب المطلق المقابل للمشروط، وخصوصية كونه حالياً أو استقبالياً لا توجب هذا التقسيم ما لم توجب الاختلاف في المهم من الثمرة.

ص: 423

ولکن سيأتي بيان الأثر، وأنه لأجل تصحيح وجوب المقدمة قبل تحقق زمان الواجب، حيث إنه في المعلق الوجوب فعلي فيترشح الوجوب منه إلی مقدماته.

الثالث: ما قيل: من أن المعلّق قسم من المشروط لا من المطلق، فيوم عرفة - مثلاً - بالنسبة إلی الحج وإن كان غير مقدور، لكن له دخلاً في ملاك الحج، وإلا لم يكن وجه لأخذه في موضوع الحج، فصار واجباً مشروطاً بالشرط المتأخر، فتأمل.

الأمر الثاني: في استحالة الواجب المعلّق وإمكانه
اشارة

وهنا قولان:

القول الأول استحالته، واستدل لذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما نُسِب إلی المحقق النهاوندي: من أن الإرادة التشريعية كالتكوينية في جميع الخصوصيات، إلاّ أن الفرق أن التكوينية تتعلق بفعل النفس والتشريعيّة بفعل الغير.

وحيث يستحيل انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد - لأنها الشوق المستتبع لتحريك العضلات دون مجرد الشوق - فكذلك التشريعية، فلا يمكن وجود تكليف حالي مع كون الواجب استقبالياً.

ويرد عليه: أولاً: بأن (المراد) في التشريعية هو الأمر أو النهي، وهو لا ينفك عنها أبداً، فإن كانت إرادة كان أمر أو نهي، وإلاّ فلا إرادة من غير تحقق الأمر والنهي، فالإرادة علّة لهما فلا يتأخران عنها إلاّ رتبة، بل قد مرّ أنها نفس الطلب فراجع.

ص: 424

وحتی في الباري - جلّ وعلا - فإن الإرادة فيه من صفات الفعل كما دلّ عليه متواتر الروايات، بل ودليل العقل أيضاً، وقد مرّ شطر من البحث في مبحث الطلب والإرادة.

وأما توهم أن (المراد) هو فعل الغير، فلا يخفی ضعفه، وذلك لانفكاك فعل الغير عنها في العصيان، وفي الواجب الموسع، ونحو ذلك.

نعم انبعاث الغير وفعله هو الغرض من هذا الطلب، ويتعلق به الرغبة والحب، دون الإرادة التي هي الشوق المستتبع لتحريك العضلات في المخلوق، وإصدار الأمر في الخالق.

والحاصل: ما يتعلق به الشوق المستتبع لتحريك العضلات هو الطلب بغرض إيجاد الباعثية.

وثانياً: ما في الكفاية من إنكار المبنی - وهو امتناع انفكاك المراد عن الإرادة التكوينية - بل يمكن تعلّقها بأمر استقبالي، فإن ما تعّلق به الشوق قد يحتاج إلی مقدمات كثيرة - كطي المسافة نحوه - ، وفعل هذه المقدمات ليس بإرادة استقلالية، بل إرادتها تبعيّة لإرادة الوصول إلی المكان المعلوم، فلولاه لما أراد المقدمات.

فهذا الانبعاث نحو المقدمات دليل علی تعلّق الإرادة بأمر استقبالي.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1): بأن الشوق إلی المقدمة تابع للشوق إلی ذي المقدمة، وليست إرادتها تابعة لإرادته، حيث إنه لا إرادة فعلاً إلی ذي المقدمة، بل الشوق إلی المقدمة وصل إلی حدّ تحريك العضلات،

ص: 425


1- نهاية الدراية 2: 73.

دون الشوق إلی ذي المقدمة فإنه لم يصل إلی ذلك الحد.

والحاصل: إن التبعية في أصل الشوق لا في حدّه.

وثالثاً: بإنكار ما ذكره من معنی للإرادة التكوينية، بل معناها هو الشوق المستتبع لتحريك العضلات أعم من كونه شأناً أم فعلاً، والشاهد علی ذلك أنه قد يتعلّق الشوق لفعل حالي فيتحرك نحوه، وقد يكون الشوق آكد في أمر استقبالي لكن لا تحريك نحوه لكونه استقبالياً، فكلاهما إرادة.

وأورد عليه(1): بأن الوجدان شاهد علی أنه قد يحصل الشوق إلی شيء فيستتبع تحريك العضلات ويُعدّ إرادة، وقد يحصل شوق آكد لشيء آخر من دون استتباع لتحريك العضلات لوجود المانع ولا يُعدّ إرادة، مثلاً قد يشتاق إلی الاستجمام لكن لا يتحرك نحوه لعدم امتلاكه للمال.

والحاصل: إن مجرد الشأنية في تحريك العضلات لا يوجب كون الشيء إرادة.

ورابعاً: بأنه لو سلّم عدم الانفكاك في التكوينية، فلا يسلم في التشريعيّة إذ هي الطلب من الغير، وفعل الغير يتأخر عن طلب المولی ولو بزمان قليل، إذ الطلب يكون لإيجاد الداعي في المأمور، وحدوث الداعي يكون عبر مقدمات من تصوره ونحو ذلك، وهذا لا يحدث إلاّ بعد البعث ولو بزمان قليل.

ولا يخفی أن هذا الجواب مبنيّ علی أن المراد في الإرادة التشريعية هو فعل الغير، وقد مرّ الإشکال فيه.

ص: 426


1- منتقی الأصول 2: 158.

الوجه الثاني - من أدلة استحالة الواجب المعلّق - : هو أن القدرة من شرائط التكليف عقلاً، فالوجوب متوقف عليها، وفي المعلّق لا قدرة قبل زمان الواجب، فالواجب المعلّق يستلزم تحقق الشيء قبل تحقق شرطه، وهو محال، لتأخر الشيء عن شرطه، حيث إن الشرط من أجزاء العلة.

ويرد عليه: أولاً: الالتزام بأن القدرة حين زمان الواجب هي شرط متأخر للوجوب.

وثانياً: ما مرّ في التعبدي والتوصلي بأنه لا يراد من الشرط هنا الشرط الذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود - كما هو المصطلح - فإن ذاك من أجزاء العلة. بل يراد المعنی العرفي للشرط، وهو ما يكون مصححاً للتكليف ومخرجاً له عن اللغوية، وهذا لا إشكال في إمكان تأخره عن الحكم، إذ لا لغوية في التكليف بأمر استقبالي كما لا لغوية في التكليف بالأمر الحالي، بل قد يكون غرض عقلائي للتكليف بالأمر الاستقبالي كالتهيؤ وعدم الحاجة إلی التكرار لو كان المكلفون عدّة، ونحو ذلك.

الوجه الثالث(1): ويتوقف علی مقدمات ثلاث:

1- إن الغرض من الآمر هو البعث، فلا يصح الأمر مع عدم إمكان كونه باعثاً، لأن المصلحة تترتب علی الفعل الاختياري للمأمور دون مطلق الفعل ولو جبراً.

2- والبعث والانبعاث متضايفان، فلا يصدق أحدهما بدون الآخر.

3- والمتضايفان متكافئان في القوة والفعل، فإذا كان بعثاً بالإمكان كان

ص: 427


1- نهاية الدراية 1: 76-77.

انبعاثاً بالإمكان.

والنتيجة: هي أنه لا يمكن الانبعاث نحو أمر استقبالي - لخروج الوقت عن القدرة - ، فلا يمكن البعث نحوه، وذلك بمعنی عدم الأمر به.

والحاصل: إن المحذور ليس انفكاك الفعل خارجاً عن الأمر، بل انفكاك البعث عن الانبعاث.

وأورد عليه بالإشكال في المقدمة الأولی(1)، وذلك بأن حقيقة الأمر ليست البعث، بل اقتضاؤه، أي ما يقتضي الداعوية والبعث، فوجود المانع لا ينافي الاقتضاء - سواء كان المانع من الخارج أو لعدم قبول المحل - .

إن قلت: لا فائدة في أمر لا داعوية له فعلاً، باعتبار أن اقتضاؤه للباعثية إنّما هو مع وجود مانع دائم هو عدم قابلية المحلّ.

قلت: يكفي في الفائدة داعويته استقبالاً، وترشح الوجوب إلی مقدماته ونحو ذلك.

القول الثاني: إمكان الواجب المعلق

والقائلون بالإمكان، استدلوا بالوقوع، فإن أمكن القائلين بالاستحالة إيجاد مخرج ثبوتي لهذا الموارد بحيث لا تنحصر صحتها علی القول بالواجب المعلّق فهو، وإلاّ أثبتت هذه الموارد الواجب المعلق، ومنها:

الأول: الواجبات التدريجية المقيدة بالزمان، فإن الوجوب المتعلّق بالجزء الأخير يتعلق به من أول الشروع في العمل، فالوجوب حالي والواجب استقبالي، كالصوم حيث يتعلق الوجوب من الفجر بالإمساك في

ص: 428


1- نهاية الأفكار 1: 310؛ منتقی الأصول 2: 161.

تمام الوقت.

وقد تفصی المحقق النائيني(1)، بأن الواجب وشرطه إذا كانا تدريجيين، كانت فعلية الوجوب تدريجية أيضاً، إذ فعلية الحكم بفعلية موضوعه، فبعد أن كان الشرط تدريجي الحصول، كانت فعلية الحكم تدريجية بتدريجية الشرط.

والحاصل: إنه لا يكون التكليف المتعلّق بالجزء الأخير فعلياً من أول الوقت.

وحيث أمكن هذا ثبوتاً، فلا دليل علی حمل ما ثبت علی الواجب المعلّق.

الثاني: الواجبات التدريجية غير المقيّدة بزمان معين، كالواجبات الموسعة، فإن الوجوب يتعلّق بالجزء الأخير منها من حين الابتداء بها، مع أن الجزء الأخير غير مقدور منذ البداية، فلزم ما هو المحذور في الواجب المعلّق من تعلق الوجوب بما هو مقيد بغير المقدور.

وأجيب(2): بأن العمل مقدور بالواسطة، فالجزء الأخير - وإن كان متأخراً في وجوده - إلاّ أنه مقدور فعلاً وذلك بالقدرة علی الإتيان بالأجزاء السابقة.

الثالث: الواجبات التي يتوقف حصولها علی مقدمات، فالوجوب متعلق بالواجب قبل الإتيان بمقدماته مع عدم القدرة علی الإتيان به قبلها.

والجواب: ما مرّ في المورد السابق، مضافاً(3) إلی عدم فعلية التكليف

ص: 429


1- فوائد الأصول 1: 209.
2- منتقی الأصول 2: 170.
3- نهاية الدراية 2: 76.

بذي المقدمة قبل الإتيان بالمقدمة، وذلك لوجود المانع عن فعليته ومحركيته، نعم يتعلّق به الشوق لكن لا يصل إلی فعلية التكليف لأجل المانع.

وأما التكليف بالمقدمة فهو فعلي، لترشح الشوق إليها، مع عدم المانع عن محركية هذا الشوق.

تتمتان

التتمة الأولی: تظهر الثمرة في الواجب المعلّق في إمكان ترشح الوجوب إلی المقدمات قبل تحقق القيد، دون الواجب المشروط الذي لا يترشح الوجوب منه علی المقدمات.

وقد ظهر صحة هذه الثمرة من مطاوي الكلمات السابقة.

التتمة الثانية: قيل: بأن الوجوب لا يترشح علی ثلاثة أنواع من المقدمات:

الأولى: مقدمات الوجوب، لأن الوجوب يتوقف عليها، فلا وجوب قبل حصولها حتی يترشح عليها، إلاّ علی وجه دائر، وبعد تحقق المقدمة وتحقق الوجوب في ذيها لا ترشح للوجوب عليها لأنه من طلب الحاصل.

وفيه: أنّه قد مرّ الكلام في هذا، إلاّ أنه لا يرتبط بالمعلَّق بل بالمشروط.

الثانية: المقدمة الوجودية المأخوذة عنواناً للمكلف، كالمسافر والحاضر، فإن السفر هو مقدمة وجودية للقصر، لكن يمتنع ترشح الوجوب عليه، لأن التكليف بالقصر لا يكون إلاّ بعد تحقق السفر، حيث إنه اُخذ في موضوع الحكم فلابد من وجوده قبل الحكم، وبعد الحكم يكون تعلق التكليف به طلباً للحاصل.

ص: 430

وفيه: أنّ الظاهر دخول هذا في القسم السابق، لأن السفر ليس مقدمة لوجوب أصل الصلاة، بل هو مقدمة لوجوب مصداق منه وهو القصر، فالسفر مقدمة وجوب لا مقدمة وجود.

الثالثة: المقدمة الوجودية المأخوذة في الواجب بقيد حصولها اتفاقاً، بمعنی أن يكون الواجب هو الفعل المقيّد بهذا القيد الحاصل بنحو الاتفاق - سواء حصل اتفاقاً عن اختيار أم غير اختيار - لا بالبعث والتحريك.

وإنما لا يترشح التكليف عليه مع تعمّد فعله، لأن الترشح خلف فرض أخذه قيداً بنحو الاتفاق، وبعد حصوله اتفاقاً لا معنی لطلبه لأنه طلب الحاصل.

وفيه: أن هذا مجرد فرض، لا واقع له فيما نعلم من التكاليف.

التقسیم الثالث: تقسيمه إلى الواجب النفسي والغيري
اشارة

وهنا أمور:

الأمر الأول: في تعريفهما

وتعريفهما متعدد، إلاّ أن الأفضل تعريف النفسي: بما وجب لنفسه لا لواجب آخر، والغيري: بما وجب لواجب آخر، ويلازم ذلك كون العقاب علی ترك النفسي بما هو هو، وعدم العقاب علی الغيري إلاّ باعتبار أدائه إلی ترك واجب آخر.

إن قلت: إنّ سبب وجوب الواجبات هو المصالح والملاكات اللزومية، ومعنی ذلك انقلاب غالب الواجبات النفسية - غير المعرفة ونحوها - إلی واجبات غيرية.

ص: 431

قلت: هذا التعريف ناظر إلی التقسيم باعتبار الإلزام لا باعتبار الملاك.

وبعبارة أخری - كما قيل - : إنّ المجعول في الذمة إن كانت المصلحة يكون مُحصِّلها واجباً غيرياً، وإن كان المجعول فعل المكلّف كالصلاة فإن المصلحة لا تكون هي الواجب، بل تكون ملاك الوجوب، فيكون الفعل هو الواجب بنفسه.

سؤال: إن كانت المصلحة هي سبب الوجوب، فلماذا لم تجعل هي بنفسها في ذمة المكلف، بل المجعول في الذمة أسباب الوصول إليها، مع أن القاعدة تقتضي التطابق بين ما يجعله المولی في الذمة وبين غرضه؟

والجواب: أولاً: ما عن المحقق النائيني(1): بأنه ربما تتوقف تلك المصالح علی أمور أخری خارجة عن اختيار المكلّف، فيكون فعله هو جزء السبب وهو الداخل في اختياره، فيؤمر به.

إن قلت: إنّ الغرض الأدنی - من الإعداد والتهيّؤ - يكون تحت القدرة، ومع ذلك لم يأمر المولی به؟

قلت: إنه ليس الغرض الحقيقي، فلا فرق حينئدٍ بين أن يطلب المولی الفعل، أو الغرض الأدنی.

وثانياً: ما قيل من أنه ربّما تلتبس الطرق الموصلة لتلك المصلحة، بحيث يكون عدم تعيين طريق موصل إليها يؤدي إلی عدم معرفة غالب أو الكثير من المكلفين.

وكذا قد يكون غموض لدی المكلف في معرفة المصلحة نفسها، بحيث

ص: 432


1- أجود التقريرات 1: 167.

لا يمكنه تشخيصها إلاّ من قبل المولی نفسه، ومن خلال ما يأمر به من الأفعال والعناوين التي قد تكون مشيرة إليها، فلا محيص عن الأمر بها(1).

الأمر الثاني: في الشك في النفسية والغيريّة
اشارة

لو شك في أن الواجب نفسي أم غيري، فهل هنا أصل يعيّن أحدهما؟ والكلام في مقامين: مقتضی الأصل اللفظي، ومقتضی الأصل العملي.

المقام الأول: في مقتضى الأصل اللفظي
اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في التمسك بإطلاق الهيأة

فقد يقال: بإمكان التمسك بإطلاق الهيأة، لإثبات كون الواجب نفسياً لا غيرياً، فإن الإطلاق يقتضي عدم تقييد الوجوب بواجب آخر، أي الوجوب ثابت سواء وجب شيء آخر أم لا، حيث إن الغيرية هي تقييد الوجوب بواجب آخر، فلو كانت الغيريّة مرادة للمولی لزم التنبيه عليها.

وقد أشكل عليه بإشكالين:

الإشكال الأول: ذهب الشيخ الأعظم بأنه لا يمكن التمسك بالإطلاق في الهيأة، إذ هو شأن المفاهيم القابلة للسعة والضيق، وأما الواقع فغير قابل لهما، فيمتنع فيه الإطلاق والتقييد.

أما كون مدلول الهيأة واقع الطلب: فلأنّ الفعل يتصف بالمطلوبية بمجرد الإنشاء، فيقال عنه بأنه مطلوب، واتصاف شيء بالعَرَض إنّما هو بطروّ واقع العرض عليه لا مفهومه، مثلاً الجسم لا يتصف بالبياض إلاّ بعروض حقيقة

ص: 433


1- بحوث في علم الأصول 2: 222.

البياض عليه.

وأجيب عنه: أولاً: بما قاله المحقق الخراساني، من أن واقع الطلب تابع لأسبابه التكوينية، إذ هو من الصفات النفسية الخارجية، وهي لا تتحقق بالإنشاء، فيكون مدلول الصيغة هو مفهوم الطلب وهو قابل لتعلق الإنشاء به، لأنه أحد أسباب وجوده.

إن قلت: كيف يتصف الفعل بالمطلوبية بمجرد الأمر والإنشاء؟

قلت: إن المطلوبية إنّما هي المطلوبية الإنشائية، وهي قد تلازم المطلوبية الحقيقية وقد تنفك عنها، فاتصاف الفعل بالمطلوبية إنّما هو لتعلّق الطلب الإنشائي به.

وثانياً: بما قاله المحقق الإصفهاني(1)، عبر ثلاث مقدمات:

الأولی: إن التفاوت بين النفسي والغيري في الداعي، فالداعي في النفسي هو حسن ذاته، وفي الغيري هو التوصل إلی واجب نفسي، فالإطلاق هو عدم تقييده بانبعاثه عن داع آخر غير نفس الوجوب.

الثانية: إن إطلاق البعث - بمعنی عدم كونه منبعثاً عن داع آخر - لا يتنافی مع كون البعث المنشأ جزئياً، فلا مانع من التمسك بإطلاق الصيغة لنفيه، حتی لو كان الموضوع له هو واقع الطلب، إذ مرجع الإطلاق هو التمسك بظهور الصيغة في هذا الفرد دون ذاك، لاحتياج أحدهما إلی مؤنة زائدة.

ص: 434


1- نهاية الدراية 2: 107.

الثالثة: إن القيود التي تكون من قبيل الدواعي والأسباب لا توجب ضيق المعنی، بخلاف القيود التي تكون في الشؤون والأطوار.

وعليه فلا مانع من التمسك بالإطلاق، حتی لو التزمنا بأن مدلول الصيغة واقع الطلب.

وأورد عليها بإيرادات(1)...

أما المقدمة الأولی: فبأنّ النفسية بالمعنی المذكور قيد زائد أيضاً، سواء أخذت وجودية بانبعاث الوجوب عن حسن نفسه، أم عدمية بانبعاثه لا عن داعي غيره.

وأما الثانية: فإن الإطلاق لا يثبت النفسية من جهة الداعي - كما مرّ - فلا يبقی مجال لادعاء أن التقييد لا ينافي الجزئية الحقيقية، إذ ينحصر الإطلاق حينئذٍ في الشؤون والأطوار.

وأما الثالثة: بأن التقييد بالداعي إما في المفهوم أو في المصداق...

أ) أما في المفهوم، فإن تقييده بالداعي يضيّق دائرته، إذ التقييد بداعٍ يُخرج ما لم يكن منطلقاً من ذلك الداعي، كما أن الاحتراق ينطبق علی كل فرد إلاّ أن الاحتراق بسبب خاص يُخرج سائر الأفراد المنطلقة من أسباب أخری.

ب) وأما في المصداق، فهو غير قابل للتضييق - سواء كان القيد من قبيل الداعي أم من قبيل الشؤون والأطوار - فادعاء التضييق في الثاني دون الأول لا وجه له.

ص: 435


1- منتقی الأصول 2: 217.

الإشكال الثاني: إن الهيأة معنی حرفي، فهي ملحوظة باللحاظ الآلي، والإطلاق يتنافی مع الآلية، إذ هو يستدعي اللحاظ الاستقلالي، لأنه في مقام البيان الملازم لتوجه المكلّف إلی المعنی استقلالاً.

وفيه: مبنیً بإمكان ملاحظة المعنی الحرفي استقلالاً، كما مرّ مفصلاً.

المطلب الثاني: في التمسك بإطلاق المادة

وقد ذکر له وجوه، ومنها:

الوجه الأول: الإطلاق الأحوالي للواجب - في المادة، وفي الهيأة إن قلنا بقابليتها للإطلاق والتقييد - أي يجب هذا الواجب سواء وجب واجب آخر أم لا.

وأمّا ما قيل: وشرط هذا الإطلاق أن لا يكون المشكوك مشروطاً بأمر ملازم دائماً مع وجوب الواجب الآخر، وتظهر الثمرة في تعدد الثواب والعقاب.

ففيه: أن الكلام حول إطلاق الأمر وليس حول الواقع الخارجي.

الوجه الثاني: التمسك بإطلاق المادة في ذلك الواجب الآخر - الذي يحتمل أن يكون هذا الواجب مقدمة له - فذاك الواجب يتحقق سواء تحقق هذا أم لا.

إن قلت: الإطلاق هو اللا بشرط القسمي - وليس الطبيعة المهملة التي هي اللا بشرط المقسمي - ، فحينئذٍ يكون الإطلاق قيداً مقابل تقييد الواجب بغيره.

ولا يخفی جريان هذا الإشكال في التعييني والعيني أيضاً.

ص: 436

قلت: إن النفسية - وكذا التعيينية والعينية - تلازم الإطلاق من حيث وجوب الغير وعدمه، فإطلاق الوجوب يلازمها كما لا يخفی.

المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي

فلو لم يكن إطلاق أو أصل لفظي آخر يدل علی النفسية أو الغيرية، فما هو مقتضی الأصل العملي؟ الظاهر أن للمسألة صورتين:

الصورة الأولی: العلم الإجمالي بالوجوب الفعلي علی كل حال، فمرجع الشك هو إلی تقيّد هذا الواجب - المشكوك كونه نفسياً أم غيرياً - بذلك الواجب الآخر، والأصل هو عدم هذا التقيّد، فيجب هذا الواجب علی كل حال، فيمكنه الإتيان به مقدماً أم مؤخراً، وهذه النتيجة تتطابق مع الوجوب النفسي.

إن قلت: كونه نفسياً معارض بكونه غيرياً، للعلم الإجمالي بأحدهما، فكما أن الأصل لو جری ينفي الغيرية كذلك ينفي النفسية، فيتساقطان بمعنی عدم جريانهما.

قلت: منشأ الشك في النفسية والغيرية هو الشك في التقيّد وعدمه، فالأصل عدم التقيّد أي البراءة منه.

وقد مثل له المحقق النائيني(1) بما لو علم بعد الزوال بوجوب كل من الوضوء والصلاة مع الشك في أن وجوب الوضوء غيري أم نفسي - بالنذر مثلاً - .

وفي المثال تأمل، لأن الوجوب الغيري معلوم علی كل حال بسبب العلم

ص: 437


1- فوائد الأصول 1: 222.

بوجوب الصلاة مع كون الوضوء مقدمة له، وإنّما الشك في إضافة وجوب نفسي إليه أم لا، وحينئذٍ فمقتضی القاعدة إجراء البراءة عن هذا الوجوب الزائد.

وإن شئت قلت: بأن تقديم الوضوء علی الصلاة واجب علی كل حال للعلم بمقدميته للصلاة المعلومة الوجوب، وحينئذٍ تكون النتيجة متطابقة مع الواجب الغيري.

كما اتضح الإشكال في إرجاعه الشك في الصلاة إلی الأقل والأكثر الارتباطي الذي يذهب إلی جريان البراءة فيه، وذلك لمعلومية كون الوضوء مقدمة للصلاة علی كل حال فلا شك في وجوب الأكثر.

اللهم إلاّ أن يكون غرضه ذكر مثال فرضي، فالأولی التمثيل بالشك في وجوب الوضوء نفسياً بالنذر أو وجوب مس القرآن بالنذر مع كون الوضوء مقدمة له.

الصورة الثانية: عدم العلم الإجمالي بالوجوب الفعلي، بأن كان احتمال الوجوب النفسي فعلياً، واحتمال الوجوب الغيري تقديرياً، مع عدم العلم بوجوب ذي المقدمة أصلاً، أو مع العلم بعدم وجوبها الفعلي.

فالظاهر هو جريان البراءة عن أصل الوجوب، فلا مورد للبحث عن نفسيته وغيريّته.

ومن ذلك يتبين الإشكال فيما ذكره المحقق النائيني(1) من أن مرجع الشك هو إلی الشك باشتراط أحد الواجبين بشرط الآخر، والأصل هو نفي

ص: 438


1- فوائد الأصول 1: 223.

الاشتراط، ومثّل له بما لو علم قبل الزوال بوجوب كل من الوضوء والصلاة، فيشك في وجوب الوضوء قبل الزوال بمعنی الشك في اشتراطه بالزوال.

وجه الإشكال، مضافاً إلی ما مرّ من الإشكال في المثال، هو أن العلم بوجوب الوضوء تقديري، أي علی تقدير عدم مقدميته، فرجع الشك إلی أصل الوجوب، فالقاعدة هي البراءة عنه.

إن قلت: إذا جرت أصالة عدم الاشتراط ثبت الشق الآخر وهو الوجوب النفسي لدوران الأمر بين الوجوب النفسي أو الغيري.

قلت: هذا أصل مثبت لأن نفي أحد الضدين لا يثبت الضد الآخر إلاّ عقلاً، فتأمل.

ومن مصاديق هذه الصورة: ما لو علم بوجوب شيء - مشكوك في كونه غيرياً أم نفسياً - مع الشك في وجوب ذلك الغير، فمرجع الشك إلی الشك في أصل الوجوب الفعلي، فالأصل البراءة عن الوجوب، ومثّل له بالعلم بوجوب الوضوء المشكوك كونه غيرياً للصلاة مع الشك في وجوب الصلاة.

وذهب المحقق النائيني(1) إلی الوجوب بملاك وجوب الأقل في الأقل والأكثر الارتباطي، فكما أن العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشك في وجوبها يقتضي وجوب امتثال ما عُلم، ولا يجوز إجراء البراءة فيه مع احتمال كون ما عدا السورة غيرياً - مقدمة للصلاة مع السورة - فكذلك في المقام.

ص: 439


1- فوائد الأصول 1: 223.

وفيه تأمل: إذ هناك الأقل معلوم علی كل حال وإنّما الشك في وجوب الزائد، وأما هنا فالوضوء - في مثاله - غير معلوم علی كل حال، بل علی فرض وجوب الصلاة لا علی فرض عدم وجوبها، هذا مضافاً إلی الإشكال في أصل المثال كما مرّ.

الأمر الثالث: في استحقاق العقاب على الأوامر الغيرية

وتحرير محل البحث: هو أن البحث قد يكون في الثواب أو العقاب.

أما الثواب: فهل هو عن استحقاق له بحيث يكون تركه ظلماً، أو استحقاق المدح، أو التفضل؟ الصحيح أن الثواب كلّه تفضل منه تعالی، ويستحقه العبد من جهة الوعد فقط لا بحكم العقل ابتداءً وبالذات، كما أنه لا معنی لاستحقاق المدح إلاّ بمعنی اقتضاء العمل للمدح بحيث لا يكون المدح بلا موجب، فعليه لا استحقاق للثواب لا في النفسي ولا في الغيري، فتلزم ملاحظة الأدلة في التفضّل بالثواب، وهي كما دلت علی الوعد به في النفسيات، كذلك دلت عليه في كثير من الغيريات.

وأما العقاب: فكلّه عن استحقاق، وذلك يكفي في جدوی هذا البحث حتی علی القول بعدم الاستحقاق في الثواب بل التفضل فيه.

استدلّ القائل بوحدة الثواب والعقاب - بحيث لا يكون ثوابان وعقابان أحدهما للواجب النفسي والآخر للغيري - بأمور، منها:

الدليل الأول(1) بأنه:

أ) إن قيل: إن استحقاق الثواب والعقاب يدوران مدار عنوان الإطاعة

ص: 440


1- نهاية الأفكار 1: 325.

والمعصية، فهنا يتم البحث عن تحققهما أو عدم تحققهما في المقدمات، وحينئذٍ نسوق الأدلة ونردّها علی تعدّد أو عدم تعدد الثواب أو العقاب.

ب) وأما لو قلنا: بأن الاستحقاق من تبعات عنوان التسليم للمولی الجامع للانقياد والطاعة، أو الطغيان عليه الجامع للتجري والعصيان، فحينئذٍ يمكن الالتزام بترتبهما علی الأمر الغيري وتركه، لكن مع وحدة المثوبة والعقوبة عند تعدد المقدمات، وذلك لوحدة التسليم أو الطغيان التابعين لوحدة الغرض وتعدده.

ويدل عليه: مدح العقلاء له أو ذمهم، بمجرد الشروع في المقدمات، وليس لذلك وجه إلاّ تحقق عنوان التسليم بموافقة الأمر الغيري، كتحققه بموافقة الأمر النفسي.

الدليل الثاني(1): إن المقدمات إما شرعية أو عقلية، والعقلية إما من قبيل الأسباب التوليدية أو المعدات.

1- ففي المقدمات الشرعية، يكون امتثال أمرها بعين الأمر المنبسط علی الواجب بما له من أجزاء وشرائط وموانع، نظير الأجزاء الذي يكون امتثالها بعين امتثال الأمر بالكل.

2- وفي المقدمات العقلية التي تكون من قبيل الأسباب التوليدية، فإن الأمر بالسبب أمر بالمسبب، وكذا العكس، وذلك لأن المسبب يكون عنواناً للسبب، ويكون وجوده بعين وجود مسببه، ويتحد معه في الوجود، فليس هناك أمران كي يبحث عن الاستحقاق عليهما.

ص: 441


1- فوائد الأصول 1: 224.

3- وفي المقدمات العقلية التي تكون من قبيل المعدّات، فإن الأمر بالمقدمة إنّما تولّد من الأمر بذي المقدمة، فليس له امتثال بحيال ذاته علی غير هذا الوجه.

وفيه تأمل، لأن الثالث أشبه بالمصادرة، فإن منشأ الأمر بالمقدمة أياً كان لا ينافي استحقاق الثواب أو العقاب عليه، بل اللازم ملاحظة دلالة الدليل علی الاستحقاق وعدمه.

الدليل الثالث(1): إن الثواب إنّما ينشأ عن إتيان العمل مرتبطاً بالمولی، بأن يأتي به بداعي الأمر - وهو معنی الامتثال - ، والأمر الغيري لا يصلح للداعوية والتحريك، فلا يمكن الإتيان بالعمل بداعي امتثال الأمر الغيري.

وذلك لأن المكلف عند الإتيان بالمقدمة...

أ) إما يكون عازماً علی عدم الإتيان بذي المقدمة، فلا يمكنه قصد الأمر الغيري حين الإتيان بالمقدمة، إذ ملاك تعلق الأمر الغيري بالمقدمة هو جهة مقدميتها أو بما هي مقدمة.

ب) وإما يكون عازماً علی الإتيان بذي المقدمة، فإتيانه بالمقدمة - مع التفاته إلی مقدميتها - قهري لتوقف ذي المقدمة عليها، أي يأتي بها سواء تعلق بها أمر غيري أم لا، فالإتيان بالمقدمة في هذا التقدير لا ينشأ عن تحريك الأمر الغيري، بل هو قهري، فلا يكون امتثالاً، فلا ثواب له.

وفيه تأمل: أولاً: باستلزام هذا الكلام عدم الثواب علی أكثر الواجبات التي يلتزم بها الناس حتی لو لم يكن لها أمر، وذلك لعلمهم بالمصلحة أو

ص: 442


1- منتقی الأصول 2: 237؛ وراجع نهاية الأفكار 2: 113.

للعرف والعادة ونحو ذلك، إذ وجود تلك الدواعي إنّما هي قبل الأمر أو مع قطع النظر عنه، فيأتي بها الناس سواء كان هناك أمر أم لا، كبِرّ الوالدين والنظافة ونحوها.

وثانياً: إن وجود داعي سابق لا يعني عدم إمكان قصد الأمر، فإن هذا داع آخر ينضم إلی الداعي الأول، بحيث يكون كل واحد من الداعيين جزء العلة مع كون كل واحد منهما مؤثراً بوحده لو كان مستقلاً.

وهذا نظير المستحب النفسي الذي يكون واجباً غيرياً، كالوضوء للصلاة، فإن من يريد الصلاة يتوضأ قهراً وهذا لا يعني تمحض الداعي في الغيريّة.

والحاصل: لابدية الإتيان ليس بمعنی عدم التمكن من قصد الأمر واقعاً، فتأمل.

الدليل الرابع: ترتب الثواب علی الإتيان بالمقدمة التي يقصد بها التوصل إلی ذي المقدمة، حتی مع عدم التمكن من ذي المقدمة - حيث لم يتحقق المطلوب النفسي - ، وذلك يكشف عن وجود ثواب مستقل لامتثال الأمر الغيري.

والجواب: أولاً: إن ثوابه علی الانقياد، أو إن الثواب الواحد منبسط علی كل من ذي المقدمة ومقدماته.

إن قلت: فكيف لا يستحق ثواباً أصلاً لو حصل له البداء وانصرف قاصداً ترك الواجب النفسي بقطع مقدماته؟

قلت(1): يرتفع من حينه ما استحقه سابقاً بفعل المقدمات أو تركها،

ص: 443


1- نهاية الأفكار 1: 326.

والأولی اعتبار الاستمرار شرطاً متأخراً بحيث يتبين عدم استحقاقه من الأول لو ترك المقدمات، كما يقال نظير ذلك في إحباط الثواب وأنه تعالی وعد الثواب مشروطاً بعدم فعل ما ينافيه من الارتداد ونحوه.

وثانياً: بالنقض بالأجزاء التي قطعها ولم يكمّل الواجب لمانع حصل له، حيث يثاب علی ما فعله من الأجزاء، مع التسالم علی وحدة استحقاق الثواب علی الأجزاء.

وثالثاً: إن عدم ترتب الثواب علی المقدمات الأولی لو حصل له البداء يكشف عن عدم تعدد الثواب، وإلا لكان اللازم أن يكون نظير من يفعل واجباً نفسياً ويترك واجباً نفسياً آخر، حيث يستحق الثواب علی الأول حتی مع ترك الثاني.

الدليل الخامس: هناك فرق في الثواب بين الواجب الذي لا مقدمات له أو له مقدمات قليلة، وبين الواجب الذي له مقدمات كثيرة وشاقة، وهذا يكشف عن وجود ثواب للواجب الغيري.

والجواب: أن شدة الثواب ليست بمعنی تعدد الثواب، فالثواب في فرض وجود مقدمات كثيرة وصعبة أكثر لكنه ثواب واحد علی الواجب النفسي باعتبار صعوبته، أو هو واحد منبسط علی المقدمة وذي المقدمة باعتبار الصعوبة والمشقة في الامتثال.

إن قلت: لو قلنا بالثواب المنبسط فلا إشكال، لكن لو قلنا بأن الثواب علی الواجب النفسي فلا فرق من حيث الصعوبة والسهولة بين ما لو كان له مقدمات كثيرة أو قليلة، فالصلاة هي نفسها سواء كانت مقدماتها صعبة أم

ص: 444

سهلة.

قلت: صحيح أن الواجب النفسي بنفسه كان علی طريقة واحدة سواء صعبت المقدمات أم سهلت، لكن له حصص مختلفة، فالحصة التي كانت مقدماتها أصعب يكون الثواب عليها أكثر، فتأمل.

الأمر الرابع: في الطهارات الثلاث
اشارة

لا إشكال في عباديتها، كما لا إشكال في كونها مقدمة للصلاة.

وأشکل عليه: باستلزام عباديتها للدور، إذ لابد في العبادية من قصد الأمر، وقصد الأمر الغيري متوقف علی عباديتها.

بيانه: 1- تتوقف رافعية الحدث علی كون الوضوء عبادة. 2- والعبادية تتوقف علی الأمر الغيري، إذ العبادة هي الفعل بقصد الأمر. 3- والأمر الغيري يتوقف علی أن يكون الوضوء عبادة، حيث إن المقدمة إنّما هي الأفعال بقصد القربة، فلابد أن تكون عبادة قبل تعلّق الأمر الغيري.

ولا يخفی أن مرجع هذا الإشکال إلی إشكال كيفية قصد الأمر في عامة العبادات، حيث إن متعلق الأمر سابق علی الأمر، فإذا كان قصد الأمر مأخوذاً في المتعلق - شرطاً أو جزءاً - لزم تقدم الأمر وتأخره، فيمكن استفادة جواب هذا الإشکال هنا عن جواب الإشكال هناك، ومنها:

الجواب الأول: تعدد الأمر، ببيان(1) توجه أمر غيري بذات الوضوء باعتبار دخالتها ضمناً في تحقق ذي المقدمة، مع الكشف عن تعلق أمر غيري آخر بوصفها، وهو إتيانها بداعي أمرها المتعلّق بها.

ص: 445


1- نهاية الأفكار 1: 329.

الجواب الثاني(1): وهو علی مبنی متمم الجعل، وحاصله: أن هذا الإشكال مبني علی أن جهة عبادية الوضوء إنّما تكون من ناحية أمره الغيري، لكن الصحيح أن الوضوء إنّما يكتسب العبادية من ناحية الأمر النفسي المتوجه إلی الصلاة بما لها من الأجزاء والشرائط، بداهة أن نسبة الوضوء إلی الصلاة كنسبة الفاتحة إليها، حيث إن الوضوء اكتسب حصة من الأمر بالصلاة لمكان قيديته، كاكتساب الفاتحة لمكان جزئيتها.

إن قلت: الوضوء كالستر والاستقبال، فكيف صار عبادياً دونها؟

قلت: التفاوت في الملاك حيث إنه اقتضی قيدية الوضوء علی وجه العبادية دونها.

ويرد عليه: الفرق بين الأجزاء حيث إنها بنفسها تشكل الواجب النفسي، فالأمر بالصلاة أمر بها ضمناً والوجوب منبسط عليها، وبين الشرائط حيث لا انبساط للأمر عليها، بل لابد من تولد أمر غيري، فتأمل.

الجواب الثالث: ما نسب إلی الشيخ الأعظم مع ردّه، وحاصله: عدم توقف المقدمية علی قصد الأمر، وإنّما تتوقف علی قصد عنوان راجح يُشار إليه بقصد الأمر.

بيانه: إن الوضوء - مثلاً - معنون بعنوان قصدي راجح في نفسه، بمعنی أن ذلك العنوان الراجح لا يتحقق من دون قصده، فالوضوء بقصد ذلك العنوان هو مقدمة للصلاة مع قطع النظر عن الأمر الغيري المتعلّق به، فلم تتوقف المقدمية علی قصد الأمر، لكن لمّا لم يكن ذلك العنوان معلوماً لنا فلابد من

ص: 446


1- فوائد الأصول 1: 228.

قصده إجمالاً - حيث إنه عنوان قصدي - ، والطريق إلی قصده إجمالاً هو قصد امتثال الأمر الغيري، إذ الأمر الغيري تعلق بالوضوء بلحاظ ذلك العنوان المتعنون به.

والحاصل: إن العبادية في الوضوء ليست ناشئة عن قصد الأمر الغيري كي يلزم الدور، بل هي ناشئة عن رجحانه في نفسه بلحاظ العنوان القصدي المنطبق عليه.

ويرد عليه: أن قصد ذلك العنوان إجمالاً لا ينحصر في قصد الأمر، بل يمكن الإشارة إلی ذلك العنوان وقصده عبر الوصف، أي إتيان العمل متصفاً بالوجوب، وبه يتم الإشارة الإجمالية، مع وضوح بطلان الوضوء حينئذٍ، لخلوّه عن قصد القربة، فتأمل.

الجواب الرابع: إنها مستحبة نفساً، وتجب مقدمة للصلاة، فتعدد الأمر، فهي تعبدية من جهة، وتوصلية من جهة أخری، فلها أمر نفسي قبل تعلق الأمر الغيري بها، فلا دور.

وأورد عليه: أولاً: بأنه لا دليل علی استحباب التيمم في نفسه، مع كونه عبادة إجماعاً حيث لا يصح إلاّ بقصد القربة، فليس فيه إلاّ أمر واحد هو الأمر الغيري.

وأجيب: بأن الإجماع دل علی عبادية التيمم، وحينئذٍ فلابد من وجود أمر آخر - هو الأمر الاستحبابي النفسي - لئلا يلزم الدور، وبعبارة أخری نكتشف استحبابه النفسي من كونه عبادياً، إذ لا عبادة من دون أمر، وحيث لا يمكن أن يكون ذلك الأمر هو الأمر الغيري فلابد أن يكون هنا أمر آخر

ص: 447

نفسي.

وثانياً: انعدام الأمر النفسي الاستحبابي بعروض الوجوب، لامتناع اجتماع المثلين أو الضدين.

وأجيب: أن انعدامه إنّما هو بحدّه لا بواقعه، وبيانه: أن الطهارات الثلاث لها رجحان ذاتي أوجب استحبابها، ثم بعد مقدميتها للصلاة مثلاً يندك ذلك الاستحباب بالوجوب الغيري، فتتداخل الإرادتان وتنشأ منهما إرادة موحدة مؤكدة، كاشتداد السواد الضعيف، وکتداخل النورين.

والحاصل: إنه مع وجود الرجحان الذاتي يصح الإتيان بها عبادة، فلذا لا يصح قصد الأمر النفسي لاندكاكه بل يقصد الأمر الغيري الغالب علی الاستحباب مع كونه مشوباً بجهة راجحة في نفسه.

وفيه تأمل، بل الأولی القول بأنه قبل الأمر الغيري كان المتعلق هو الوضوء الذي له أمر نفسي - استحبابي - فلا محذور في تعلق الأمر الغيري بهذا العمل القربي من غير استلزام الدور، وانقلاب النفسي إلی الغيري لا يضر.

وبعبارة أخری: إن متعلق الأمر الغيري - بما فيه قصد الأمر - سابق علی هذا الأمر الغيري، فلا دور، فيمكن إرادة هذا المتعلق بأمر جديد غيري، وإن استلزم هذا الأمر الجديد انقلاب الأمر الاستحبابي النفسي إلی أمر وجوبي غيري، هذا من حيث المبدأ - وهو الإرادة في المولی - ، وكذا في المنتهی وهو مرحلة الامتثال، فإن وجود الأمر الغيري وتحققه كاف في صحة قصده، فتأمل.

ص: 448

وثالثاً: لو كانت العبادية ناشئة من تعلق الأمر النفسي بها، لما صحّ الإتيان بها بقصد أمرها الغيري من دون قصد الأمر النفسي، نظير عدم تحقق قصد القربة في صلاة الظهر بقصد الأمر المتعلق بصلاة العصر، مع أن الظهر مقدمة للعصر، إذ لا تصح لولاها.

مع أنه لا إشكال في صحة الطهارات الثلاث حتی لو أتی بها بداعي الأمر الغيري من غير التفات إلی الأمر النفسي.

وأجيب: بأن عدم صحة الأمر الغيري في صلاة الظهر إنّما هو لعدم وجوده أصلاً، وذلك لغلبة الوجوب النفسي فيها - بعد عدم إمكان اجتماع وجوبين فيها - فلا يمكن قصد الأمر الغيري لأنه من السالبة بانتفاء الموضوع، عكس الطهارات الثلاث حيث إن وجوبها الغيري هو الغالب.

وفيه: أن لازم ذلك عدم إمكان قصد الأمر النفسي في الطهارات لعدم وجوده بتزاحمه مع الأمر الغيري، فإن كفی وجود الملاك النفسي في تصحيح القربة في الطهارات كفی الملاك الغيري في تصحيحها في صلاة الظهر، فتأمل.

ورابعاً: قد لا يوجد استحباب نفسي بسبب سقوطه بالمزاحمة مع مستحب أهم، كما لو دار الأمر بين الوضوء وبين إرواء عطشان، فلا أمر استحبابي نفسي مع أنه لا إشكال في صحة الوضوء بقصد الأمر الغيري.

وفيه: أن استحباب الأهم ساقط بتزاحمه مع الواجب الغيري، فيبقی المستحب النفسي غير الأهم سليماً عن المعارض، وبعبارة أخری: ليس التزاحم طولياً بأن يكون تزاحم بين المستحبين ثم تزاحم المستحب الأهم

ص: 449

مع الواجب الغيري، بل التزاحم عرضي، مضافاً إلی أنه لو فرض طوليته فإنه بزوال منشأ سقوط المهم بعد تزاحم الأهم مع الواجب الغيري بعد ذلك يرجع الاستحباب النفسي، مع إمكان تصحيح بقائه بناءً علی ملاك الترتب.

وخامساً: إن المستحب النفسي ليس هو المسحتان والغسلتان، وإنّما الطهور المتولد منها، فتكونان مقدمة للمستحب النفسي - الذي هو الطهور - ، فلم تثبت عباديتها!!

والجواب: أنه لو فرض صحة المبنی فإن القربة في الطهور لا تنفك عن القربة في الغسلتين والمسحتين، لأنها تكون من الأسباب التوليدية، حيث لا تكون قدرة علی المسببات إلاّ عن طريق أسبابها، فلا معنی لاشتراط القربة في الأمر غير الاختياري بنفسه مع عدم اشتراطه في سببه الاختياري، فتأمل.

الجواب الخامس: هو کفاية قصد التوصل إلی الواجب النفسي، حتی لو لم يكن للمقدمة أمر ولم نقل بوجوب المقدمة غيرياً، إذ يكفي في تحقق العبادية الإتيان بالعمل منسوباً إلی المولی، وهذه النسبة تتحقق بقصد التوصل.

وأشكل عليه بأمور(1)، منها:

الإشکال الأول: إن القرب والثواب عند الإتيان بالمقدمة يمكن أن يرجع إلی أحد وجوه ثلاثة:

1- الشروع في إطاعة الأمر الوجوبي النفسي، فالثواب علی الواجب النفسي.

2- أن يكون الثواب علی نفس العمل من جهة كشفه عن الانقياد، وهو

ص: 450


1- منتقی الأصول 2: 261.

صفة حسنة لدی العبد، ففي الواقع الثواب ليس علی العمل بل علی الانقياد.

3- أن يكون الثواب علی ذات العمل باعتبار مقربيته بنفسه، وحينئذٍ فالثواب علی نفس المقدمة.

ولا ينفع الأول والثاني في العبادية، إذ لا تقرب بنفس العمل بهما، مع أن أحد الاحتمالين إن لم يكن أرجح فلا أقل من عدم تعين الثالث، فلا طريق لإثبات العبادية!!

ويرد عليه: أن الكلام إنّما هو في تصحيح العبادية، ونسبة العمل إلی المولی بأن يأتي به مضافاً إليه كافٍ فيها، وحينئذٍ فالثواب علی أيٍ كان فلا يضر في تحقق العبادية.

وبتعبير آخر: إن الأدلة دلت علی لزوم قصد القربة، وذلك كما يتحقق بقصد أمر نفس الواجب، يتحقق أيضاً بقصد التوصل إلی واجب آخر.

الإشكال الثاني: غالب المقدمات يؤتی بها بقصد التوصل، إذ لا يكون غرض العبد فيها غير الوصول بها إلی الواجب النفسي، فلازمه كون جميع هذه المقدمات تعبدية.

ويرد عليه: أنه لا يشترط في التوصليات القربة، وليس ذلك بمعنی عدم إمكانها، وإنّما الكلام في اشتراط قصد القربة في صحة الطهارات الثلاث التي هي مقدمة لواجبات نفسية، وبهذا الوجه - المذكور في الجواب الخامس - يمكن قصد القربة فلم يكن محذور، كما يمكن بهذا الوجه الإتيان بالتوصليات بنحو التعبد لكن مع عدم اشتراطه.

الإشكال الثالث: إنه لو جاء بالمقدمة بقصد التوصل وجاء بذيها بداعٍ

ص: 451

غير قربي كالرياء، لزم أن تكون المقدمة بما أنها مقدمة عبادية دون ذيها، وهو مستبعد جداً.

وفيه: أنه لا وجه للاستبعاد، بعد دلالة الدليل علی صحة العمل المقدّمي العبادي، فأي مانع من تحقق العبادية في الوضوء القربي والإثابة عليه مع بطلان الصلاة لأجل الرياء فيها، وهكذا في كل المقدمات التي يقصد بها التوصل إلی الواجب النفسي، نعم علی القول بأن الثواب لأجل الشروع في إطاعة الأمر النفسي قد يتأمل في الثواب لعدم تحقق تلك الإطاعة، كما في الشروع في الأجزاء ثم بترها وعدم إكمالها.

الإشكال الرابع: إن تحقق العبادية بقصد التوصل يستلزم الدور، إذ إن التوصل إنّما هو بما يكون مقدمة، والمقدمة هي: (ما كان عبادة) لا ذات العمل، مع أن العبادية - بناءً علی هذا الوجه - ناشئة عن قصد التوصل.

وبعبارة أخری: قصد التوصل يكون بما هو عبادة، والعبادة متوقفة علی قصد التوصل، فلزم الدور المصرّح.

والجواب: إن ذات العمل أيضاً مقدمة، فلا يتوقف قصد التوصل علی عبادية العمل بنفسه، وبتعبير آخر: ذات العمل جزء من الموصل باعتبار توقف ذي المقدمة عليه، فإذا قصد التوصل بتلك المقدمة - التي هي ذات العمل - تحققت العبادية، فلم يتوقف قصد التوصل علی العبادية، فتأمل.

تنبيهان:
التنبيه الأول

قد يرد إشكال، وهو أنه لو انحصر طريق عبادية الطهارات الثلاث في

ص: 452

استحبابها النفسي، مع عدم قيام دليل خاص علی ذلك الاستحباب، بل استفيد من نفس دليل مقدميتها مع الاتفاق علی أنها عبادية...

فحينئذٍ يكون الاستحباب النفسي فقط في ظرف ثبوت الوجوب الغيري، وهو لا يكون إلاّ بعد دخول الوقت، وعليه فلا يمكن إثبات الاستحباب النفسي قبل الوقت فلا تصح تلك الطهارات حينئذٍ، مع أنه لا إشكال في صحة الإتيان بها قبل الوقت!!

والجواب أولاً: بأن دليل مقدميتها يثبت استحبابها النفسي مطلقاً، إذ لا يمكن استحبابها في حال الوجوب الغيري لاستحالة اجتماع المثلين أو الضدين، فحصر الاستحباب في حالة الوجوب الغيري ثم رفعه دائماً لغو، فتأمل.

وثانياً: علی مبنی الواجب المشروط من أن الوجوب فعلي والواجب استقبالي، يكون الوجوب النفسي لذي المقدمة ثابتاً قبل الوقت وهو يكفي في صحة ترشح الوجوب علی مقدماته.

لكن لا يمكن الالتزام بهذا الجواب هنا، حتی لو قبلنا أصل المبنی، لما ذكرناه في الجواب السابق من لغوية جعل الاستحباب النفسي ثم رفعه دائماً.

التنبيه الثاني

في حقيقة الطهارات الثلاث، وفيها أقوال ثلاثة:

القول الأول: إن الأمر تعلق بالطهارة باعتبار أنها مسبّب عن الأفعال الخارجية، كالغسلتين والمسحتين في الوضوء فهي سبب توليدي للطهارة التي هي الشرط في الصلاة ونحوها.

ص: 453

القول الثاني: إن الأمر تعلق بالطهارة بما أنها عنوان انتزاعي عن هذه الأفعال الخارجية، أو أنها عنوان اعتباري لها، فليست هي أمراً مغايراً لهذه الأفعال بل هي عنوان لها، كالتعظيم الذي هو عنوان للقيام ينتزع منه أو يعتبر عليه.

وأورد عليه: بأن وجود العنوان إنّما هو بعين وجود المعنون، فإذا كانت الطهارة عنواناً للأفعال الخارجية المخصوصة، فلابد من انعدامها بانتهاء المسح، إذ لا يعقل بقاء العنوان من غير معنون، إذ لا يمكن الانتزاع مع زوال منشأ الانتزاع، ولا الاعتبار إلاّ مع فرض وجود المعنون فلابد من اعتبارين، وهو لغو فإن فرض المعدوم موجوداً ثم اعتبار عنوان له لا حاجة له بعد إمكان الاعتبار من غير هذا الفرض، وذلك عبر الالتزام بالقول الأول أو الثالث(1).

القول الثالث: إن الأمر لم يتعلق بالطهارة بل تعلق بنفس الأفعال، فالمقدمة هي نفس الغسلتين والمسحتين، لا الطهارة الناتجة عنهما، وقد يستظهر من بعض الأدلة هذا القول، كما قد يستظهر القول الأول، وتفصيل المسألة في الفقه.

البحث الرابع: في المقدمة الموصلة

اشارة

والکلام في جهات ثلاث:

الجهة الأولى: في متعلق أصل الوجوب
اشارة

فعلی القول بوجوب المقدمة، فما هو متعلق الوجوب؟ فيه أقوال:

1- ذات المقدمة، 2- أو ذاتها عند إرادة ذي المقدمة، كما عن المعالم،

ص: 454


1- قريب منه في منتقی الأصول 2: 265.

فتكون هذه الإرادة قيداً للوجوب، 3- أو ذاتها بشرط قصد التوصل إلی ذيها، كما عن الشيخ الأعظم، 4- أو خصوص المقدمة الموصلة، كما عن الفصول.

وفي الفوائد(1): ولعلّ منشأ اعتبار القيود الزائدة علی الذات هو استبعاد كون الواجب نفس الذات من غير اعتبار شيء، مع أنه قد تكون الذات محرّمة ويتوقف واجب أهم عليها، كما لو فرض توقف إنقاذ الغريق علی التصرف في ملك الغير، فإن القول بكون التصرّف واجباً مطلقاً ولو لم يكن من قصد المتصرّف إنقاذ الغريق - بل العدوان أو التنزه - مما يأباه الذوق، ولا يساعد عليه الوجدان.

وأما القول الثاني - بأن تكون إرادة المقدمة من قيود وجوب المقدمة - ، فقد أشكل عليه بأمور:

الإشكال الأول: ما عن المحقق النائيني(2)، وحاصله: أن اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذي المقدمة...

أ) إما أن يكون مقصوراً علی المقدمة لا علی ذيها، فهذا ينافي تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط.

ب) وإما أن يشمل ذي المقدمة أيضاً، وهذا يلزم إناطة التكليف بالشيء عند إرادته، وهو محال لجهتين:

الأولی: حصول الشيء عند تعلّق الإرادة به، فلو تأخر التكليف عن

ص: 455


1- فوائد الأصول 1: 285.
2- فوائد الأصول 1: 286.

الإرادة، لزم وقوع التكليف حين حصول الشيء وهو طلب الحاصل.

الثانية: لا معنی لاشتراط التكليف بالإرادة، لأن التكليف إنّما هو بعث للإرادة وتحريكها، فلا يمكن إناطة التكليف بها، لاستلزامه إباحة الشيء.

وفيه تأمل: أما الشق الأول فهو أشبه بالمصادرة، لأن البحث والكلام في وجوب المقدمة علی كل حال أم في صورة إرادة ذي المقدمة، فلا يصح جعل محل البحث دليلاً علی أحد الاحتمالات، وبعبارة أخری: أن هذا الكلام هو مقابلة ادعاء بآخر بلا إقامة برهان.

وأما الشق الثاني: فإن محذور طلب الحاصل إنّما يترتب لو أراد المكلف ذي المقدمة من كل الجهات، أما لو كان المراد هو إرادة ذي المقدمة من غير ناحية هذه المقدمة - وبعبارة أخری كما قيل: سد باب عدم ذي المقدمة من سائر الجهات غير جهة المقدمة المنظورة - فلا يكون طلباً للحاصل، كما لو أراد ذي المقدمة غافلاً عن هذه المقدمة أو عن مقدميتها، فعند الالتفات إليها لا مانع من ترشح الوجوب إليها حينئذٍ، فتأمل.

نعم الجهة الثانية من الإشكال واردة حيث لا يصح تعليق الوجوب النفسي بالإرادة، لأنه مساوق للإباحة.

الإشكال الثاني: ما عن المحقق العراقي(1) من أن ملاك الحكم الغيري ثابت لذات المقدمة، وحيثية القصد المزبور أجنبيّة عنه بالمرة، فلو أتی بالمقدمة لا بقصد التوصل كان إتيانه محصلاً لغرض الآمر بلا كلام، فمع أجنبية القصد المذكور لا يكاد يترشح الوجوب الغيري إلاّ علی ذات

ص: 456


1- نهاية الأفكار 1: 333.

المقدمة بنفسها.

وأورد عليه: بأن الواجب قد يسقط بغير الواجب - إذا تحقق به غرض المولی - ، وفيما نحن فيه الواجب إنّما هو الفعل بعنوان المقدمة لا ذات الفعل، فلو لم يأت به بهذا النحو لم يأت بالواجب، ويدل عليه حرمة التصرف في ملك الغير إذا كان مقدمة غير منحصرة للإنقاذ الواجب - مثلاً - فإنه يحصل به غرض المولی مع عدم وجوبه بل مع حرمته، فتأمل.

القول الثالث: الواجب هو المقدمة بشرط قصد التوصل إلی ذيها، فيكون هذا الشرط قيداً للواجب، واستدل له بأمور:

الدليل الأول: ما حاصله: باختلاف الحيث التعليلي عن التقييدي في الأحكام الشرعية، فالتعليلي هو ملاكات الأحكام، والتقييدي هو ما يشترط في الواجب، مثل عنوان الصلاة حيث لابدّ من قصده لتتحقق الصلاة.

وأما الأحكام العقلية، فالتعليلي فيها يرجع إلی التقييدي، حيث إن الأغراض في الأحكام العقلية هي عناوين لموضوعاتها في:

1- ما يرجع إلی الاستحالة والإمكان - وهو العقل النظري - مثلاً الحكم باستحالة شيء بسبب الدور هو حكم باستحالة الدور، فالحيث التعليلي وهو الدور موضوع لحكم العقل.

2- ما يرجع إلی الحسن والقبح - وهو العقل العملي - كحكم العقل بحسن ضرب اليتيم تأديباً، فإن مرجعه إلی حسن التأديب.

وفيما نحن فيه: مطلوبية المقدمة ليست لذاتها، بل لحيثية مقدميتها والتوصل بها، فالموضوع الحقيقي لحكم العقل إنّما هو نفس التوصل، حيث رجع الحيث التعليلي إلی التقييدي.

ص: 457

وأشكل عليه: أولاً: بأن البحث في وجوب المقدمة ليس عن اللابدية العقلية، بل عن الحكم الشرعي اللازم لحكم العقل.

وثانياً: إن ما نحن فيه ليس من موارد العقل العملي ولا النظري، حيث منشأ الحكم ليس الحسن أو القبح، ولا الاستحالة والإمكان، وإنّما المنشأ هو الوجدان الارتكازي، والوجدان يحكم بأنها تعليلية.

ولا يخفی أن هذا يرجع إلی الأول بإنكار عقلية الوجوب، إذ لا يخلو حكم العقل عن الأمرين - الحسن والقبح أو الاستحالة والإمكان - ، مضافاً إلی أن منشأ هذا الوجدان هو العقل العملي كما يظهر بالتأمل.

وثالثاً: إن هذا البيان يثبت المقدمة الموصلة، لا قصد التوصل، فإنه أثبت أن جهة الوجوب هو المقدمية والتوصل، وهذا هو مقالة صاحب الفصول، ولا يثبت قصد التوصل كما هو مدعی هذا القول، فتأمل.

هذا مضافاً إلی الإشكال في كبری رجوع الحيث التعليلي إلی التقييدي في الأحكام العقلية.

الدليل الثاني: متعلق التكليف - تعبدياً كان أم توصلياً - لا يقع علی صفة الوجوب إلاّ لو كان اختيارياً، ومن دون القصد لايكون الفعل اختيارياً بل قهرياً، فقد يحقق غير الاختياري الغرض في التوصليات، لكنه لا يكون ذلك الفرد غير الاختياري مصداقاً للواجب.

ويرد عليه: أولاً: بأن القصد يختلف عن الداعي، وعدم الداعي لا يسبب قهرية العمل وعدم اختياريته، فمن يدخل السوق لا لشراء اللحم المأمور به بل لزيارة صديق لا شك في اختيارية دخوله مع عدم قصده

ص: 458

التوصل.

وبعبارة أخری: الدواعي قد تختلف، لكن قصد أصل العمل موجود علی كل حال.

وثانياً: بما يقال: من أن القدرة علی الجامع بين المقدور وغير المقدور تصحح تعلق التكليف بهذا الجامع مما يستلزم تعلق التكليف بالفرد غير المقدور أيضاً، إذ تكفي القدرة علی فرد من الجامع في صحة التكليف بالجامع، وعليه: فإذا كان الواجب هو الطبيعي الجامع، كان الإتيان به لا بقصد التوصل مصداقاً للجامع، فيكون مشمولاً للخطاب.

وفيه نظر: لأن الطبيعي بالنسبة إلی الأفراد كالآباء بالنسبة إلی الأبناء، لا كالأب بالنسبة إلی الأبناء، وذلك لأن الطبيعي ينتزع من الفرد، وهذا معنی قولهم: «إن الطبيعي موجود بوجود فرده»، ومن المعلوم إن المنتزَع يختلف باختلاف منشأ انتزاعه، نعم المفهوم واحد، لكنه ليس مورداً للتكليف حيث إنه وجود ذهني، فتأمل.

الدليل الثالث: ما عن الشيخ الأعظم من أنه لا ريب بأنا نجد أن من يأتي بالمقدمة بدون قصد التوصل بها إلی ذيها، بل بداعٍ آخر، لا يعدّ في العرف ممتثلاً للوجوب الغيري وآتياً بمتعلّقه، مما يكشف عن كون معروضه هو المقدمة التي يقصد بها التوصل.

ووضّحه في المنتقی(1): بأن نفس الوجه الذي يقام دليلاً علی أصل وجوب المقدمة يقتضي تعلّق الوجوب بخصوص ما يقصد بها التوصل، فإن

ص: 459


1- منتقی الأصول 2: 287.

دليل الملازمة هو بناء العرف علی وجوبها، ويكشف عنه وجود بعض الأوامر العرفية بالمقدمة، كقوله: أدخل السوق واشتر اللحم، والعرف يری أن من يؤمر بالمقدمة هو من كان في مقام امتثال الأمر بذيها، لا من ليس في مقام امتثال الأمر بذي المقدمة.

إن قلت: کيف يصح تكليف من يعلم بعصيانه؟

قلت: يمكن أن يكون ذلك لإلقاء الحجة عليه، فيترتب عليه عقابه ومؤاخذته، وهذا غير متحقق في الأمر الغيري حيث لا عقاب علی مخالفته، فسبب الإيجاب ليس إلاّ تحصيل الواجب، والمفروض انتفاؤه.

ويرد عليه: أن ترشّح الوجوب من ذي المقدمة على المقدمة إنّما هو ترشّحٌ واقعيٌ وغير مرتبط بعنوان المقدمية، فلذا الإتيان بالمقدمة إتيان بواقع الواجب الغيري، فيكون ممتثلاً حتى لو لم يقصد، نعم لو أريد الامتثال المستتبع للثواب أو العقاب فهذا غير متحقق حتى مع قصد الامتثال لعدم ترتب ثواب أو عقاب على الأمر الغيري، كما مرّ.

هذا مضافاً إلى أن الملازمة عقلية وليست عرفية كي نرجع إلى العرف في معرفة موطن الامتثال عن عدمه.

الدليل الرابع: ما ذكره المحقق النائيني(1) كاحتمال لما أراده الشيخ الأعظم، وهو خاص بمقدمة الواجب التي هي محرمة في نفسها، كالمرور بالأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق، حيث مزاحمة الواجب الغيري مع الحرمة في المقدمة، فإذا كانت المقدمة في نفسها محرّمة فلا تصير واجبة

ص: 460


1- فوائد الأصول 1: 289؛ منتقی الأصول 2: 286.

بالوجوب الغيري إلاّ بقصد التوصل، لأن العقل يحكم بارتفاع حرمتها في هذه الصورة فقط دون ما لو قصد التنزه مثلاً.

وأورد عليه: أولاً: بأن ذلك ليس من باب التزاحم، إذ مع الالتزام بوجوب المقدمة، فإن وجوبها وحرمتها متعارضين، وذلك لتوارد حكمين علی موضوع واحد، لا علی موضوعين.

وثانياً: لو فرض تحقق التزاحم، فحكمه هو ارتفاع حكم المهم، وبقاء حكم الأهم مطلقاً، من دون دخل لقصد الامتثال للأهم وعدمه، إذ التزاحم إنّما هو بين ذات الحكمين، فوجود أحدهما يرفع الآخر سواء قصد امتثاله أم لا.

وثالثاً: إن التزاحم إنّما هو بين حرمة المقدمة وبين وجوب ذي المقدمة الموقوف علی المقدمة المحرّمة، حتی لو لم نقل بوجوب المقدمة أصلاً، فبين الإنقاذ والتصرف في المغصوب تزاحم، ولا ربط لقصد التوصل في ذلك أصلاً، فسواء قصد أم لا فإن التزاحم موجود.

اللهم إلاّ إذا قلنا بالترتب، فمن يريد عصيان الأمر بالأهم وهو الإنقاذ، يتوجه إليه خطاب تحريمي بالمهم، وهو التصرف في أرض الغير، فتأمل.

القول الرابع: ما ذهب إليه صاحب الفصول، وهو وجوب خصوص المقدمة الموصلة، وذلك بأن يكون الوجوب الغيري متعلقاً بخصوص العلة التامة التي يترتب عليها ذي المقدمة قطعاً.

والكلام تارة في الإمکان، وأخری في الوقوع، وثالثة في التعيّن.

المرحلة الأولی: في الإمکان، فلا محذور في وجوب خصوص

ص: 461

المقدمة الموصلة، وما ذكر من محاذير قابلة للدفع، وهي:

المحذور الأول: الوصول إلی الواجب ليس مما يحصل بالمقدمة في غير الأسباب التوليدية، وذلك لتوقف حصول الواجب في الأفعال الاختيارية علی إرادة المكلّف، فلا يتحقق ذي المقدمة من غير إرادة له حتی لو تحققت كل المقدمات، نعم في الأسباب التوليدية - كالإلقاء في النار حيث يتحقق به الاحتراق من غير توسط إرادة الفاعل المختار - يصح ما ذكر، لكن لازمه اختصاص وجوب المقدمة بها فقط، لأنها الموصولة دون سائر المقدمات.

وفيه: أن كل مقدمة هي جزء من العلة التامة، فذلك الوجوب ينبسط عليها جميعاً، وإرادة المكلف في غير الأسباب التوليدية أحد تلك المقدمات.

إن قلت: الإرادة ليست اختيارية، لاستلزام ذلك التسلسل، فلا يتعلّق التكليف بها، فلم يتعلق التكليف بالعلة التامة!

قلت: أولاً: الإرادة اختيارية، لكن لا بإرادة أخری بل بنفسها، كما مرّ.

وثانياً: ما قيل: من أنه لو فرض وجود المانع في تعلق التكليف بالإرادة، فهذا لا يمنع عن تعلق الوجوب بسائر المقدمات الموصلة مما هي دخيلة في الغرض، نظير ما قيل في قصد القربة.

المحذور الثاني: إن الأمر يسقط بأحد أمور أربعة: الموافقة، أو المخالفة، أو ارتفاع الموضوع، أو حصول الغرض، فحين الإتيان بالمقدمة قبل تحقق ذي المقدمة: لا مخالفة لأنه أتی بالواجب الغيري، وليس من

ص: 462

ارتفاع الموضوع وذلك للإتيان بمتعلقه، ولا بحصول الغرض حيث إن الغرض هو تحقق ذي المقدمة والمفروض أنه لم يتحقق بعد، فلم يبق إلاّ القول بأن سقوطه لأجل الموافقة وهو المطلوب حيث يثبت وجوب مطلق المقدمة دون خصوص الموصلة منها.

وفيه: أن الموافقة مراعاة بتحقق ذي المقدمة، فلو لم يأت به ثم توقف الإتيان به علی تكرار المقدمة وجب التكرار، وهذا دليل عدم سقوط الأمر الغيري بالمقدمة حين الإتيان بها، نظير الأمر الضمني بالجزء حيث إنه لو أتی به فسقوط الأمر به مراعی بالإتيان بالكل.

والسر في ذلك(1) أن الأمر الضمني له جانبان: جانب الداعوية، فعند الإتيان بالجزء تنتفي الداعوية، وجانب الامتثال فهو لا يسقط بمجرد ذلك بل امتثاله يتوقف علی الإتيان بباقي الأجزاء المرتبطة به.

وهكذا في المقدمة، حيث فرضنا وجوب العلة التامة، فكانت لكل مقدمة وجوب ضمني لأنها جزء الواجب، فتأمل.

المحذور الثالث(2): الدور في الوجود، وحاصله: أن الإيصال إلی ذي المقدمة ليس من الصفات الخارجية، بل هو أمر ينتزع عن الإتيان بذي المقدمة، فأخذ هذا القيد الانتزاعي - المتوقف تحققه علی الإتيان بذي المقدمة - في الواجب المقدمي يستلزم الدور، إذ يكون الواجب النفسي مقدمة للمقدمة - لتوقف تحقق الإيصال علی تحققه - ، وحيث إن وجوده

ص: 463


1- منتقی الأصول 2: 299.
2- راجع فوائد الأصول 1: 345؛ أجود التقريرات 1: 345؛ نهاية الأفكار 1: 338.

متوقف علی المقدمة لزم الدور.

وبعبارة أخری: الواجب النفسي في ذي المقدمة يتوقف علی المقدمة، وهي تتوقف علی تحقق الواجب النفسي لكي يتحقق عنوان الإيصال.

والجواب: أن قيد (الإيصال) لم يؤخذ مقوماً للمقدمة، وإنّما أخذ مقوماً للواجب الغيري، وأما المقدمة فهي ذات العمل، فلا دور.

وبعبارة أخری: الواجب الغيري في المقدمة يتوقف علی الواجب النفسي في ذي المقدمة، وهذا الواجب النفسي يتوقف علی ذات المقدمة مع قطع النظر عن وجوبها الغيري.

المحذور الرابع: الدور في الوجوب، وحاصله: أن وجوب المقدمة إنّما يترشح من وجوب ذيها، فوجوبها معلول لوجوبه، فإذا كان وجوب ذيها معلولاً لوجوبها لزم الدور، وبيانه: أن ذي المقدمة - بناءً علی وجوب المقدمة الموصلة - يكون مقدمة لما هو واجب وهو المقدمة الموصلة، حيث لا تكون المقدمة واجبة إلاّ لو أوصلت إلی ذي المقدمة.

والجواب: أولاً: عدم وجوب غيري لذي المقدمة، فهو وإن كان مقدمة للمقدمة إلاّ أنه لا ترشح للوجوب عليه لئلا يجتمع المثلان أي الوجوب النفسي والوجوب الغيري لذي المقدمة.

وثانياً: لو فرض تحقق الوجوب الغيري في ذي المقدمة فلا دور، إذ الموقوف عليه الوجوب النفسي لذي المقدمة ومنه يترشح وجوب غيري للمقدمة، ومنها يترشح وجوب غيري لذي المقدمة، فاختلف الوجوبان.

المحذور الخامس: أن تكون ذات المقدمة مقدمةً للمقدمة، وهو

ص: 464

يستلزم الخلف أو التسلسل، وذلك لأن المقدمة الواجبة هي الذات بقيد الإيصال، فكل من الذات والتقيد بالإيصال جزء المقدمة، وجزء الشيء مقدمة له لتوقفه عليه، فذات المقدمة مقدمة للمقدمة الموصلة، فلابد من ترشح الوجوب علی ذاتها لكونه مقدمة، فإن ترشح عليه فقط فهو خلف، وإن ترشح علی الذات مع أخذ قيد الإيصال فيه لزم التسلسل.

وفيه: أولاً: بالإشكال في المبنی حيث أنكرنا المقدمة الداخلية، فراجع.

وثانياً: ما قيل من أن هذا الإشكال إنّما يرد لو أخذ قيد الإيصال بعنوانه في الواجب الغيري، وأما إذا أخذ بنحو الملازمة فلا، فتأمل.

المرحلة الثانية: في وقوع وجوب خصوص المقدمة الموصلة.

واستدل له في الفصول بما حاصله: بأنه لا إشكال في صحة منع المولی عن جميع مقدمات الواجب غير التي يترتب عليها الواجب، فيمكن تصريح المولی بتحريم المقدمة غير الموصلة، وذلك يكشف عن عدم تعلق الوجوب بها، وإلا لزم اجتماع الضدين.

وهذا الدليل کما يثبت إمكان تعلق الوجوب بخصوص المقدمة الموصلة، کذلك يدل علی وقوعها أيضاً.

وأشكل عليه: بإشکالين:

الإشکال الأول: بما في الكفاية من منع دلالة الدليل علی المدعی، بأنا لا ندعي العِلية التامة بل ندعي اقتضاء كل مقدمة - موصلة أم غيرها - للوجوب، وهذا لا ينافي عدم وجوب بعض المقدمات لمانع.

ويضاف إليه إمكان المنع حتی عن بعض المقدمات الموصلة، فيما لو

ص: 465

كانت متعددة، كالمنع عن المرور بالأراضي المغصوبة لإنقاذ الغريق مع عدم انحصار طريق الإنقاذ بها.

ولا يخفی أن هذا الإشكال إنّما يرد لو كان المراد الاستدلال علی تعيّن الوجوب في المقدمة الموصلة، لكن لو كان المراد إثبات إمكانها بل وقوعها فلا يرد، فتأمل.

الإشکال الثاني: بما في الكفاية أيضاً لردّ المدّعی عبر بيان عدم إمكان المنع عن المقدمة غير الموصلة، بأن هذا المنع يستلزم جواز ترك ذي المقدمة، وهو خلف.

بيانه: أن وجوب الواجب متوقف علی القدرة عليه - قدرة عقلية، وقدرة شرعية بعدم النهي عنه - فلا وجوب لغير المقدور، فإذا فرض المنع عن المقدمة غير الموصلة، كان تحقق القدرة الشرعية علی المقدمة متوقفاً علی الإتيان بذي المقدمة، فمع عدم الإتيان بذي المقدمة تكون كل المقدمات محرّمة حيث إنها غير موصلة، إذ المفروض المنع عن غير الموصلة، وحينئذٍ لا يكون الواجب مقدوراً للنهي عن كل المقدمات.

ويرد عليه: أولاً: إن إمكان الإتيان بالواجب يستلزم إمكان الإتيان بالمقدمة الموصلة، وإن عدم الإتيان به وإن كان لازمه عدم التمكن من الإتيان بالموصلة في حال ترك الواجب، إلاّ أن المكلّف حيث كان يمكنه الإتيان بالواجب فكان يمكنه الإتيان بالمقدمة الموصلة، وفي ظرف عدم الإتيان به وإن كان لا يقدر علی الإتيان بالمقدمات إلاّ أن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار.

ص: 466

وبعبارة أخری: إن المكلّف في ظرف ترك ذي المقدمة غير قادر علی المقدمة الموصلة فلا يكون حينئذٍ قادر شرعاً علی ذي المقدمة، لكن بما أن ذي المقدمة واجب نفسي مطلق والمكلّف قادر علی تحقيقه خارجاً، ففي ظرف الإتيان هو قادر علی المقدمة الموصلة، وهذا المقدار يكفي في تحقق القدرة.

وثانياً: ما في الفوائد(1) من أنه لا يلزم التكليف بغير المقدور، لأنه يكون من قبيل اشتراط الشيء بأمر متأخر، فالتوصل وإن تأخر وجوده عن وجود المقدمة وكان يحصل بالإنقاذ مثلاً، إلاّ أنه أخذ شرطاً في جواز المقدمة، وهذا مما لا محذور فيه، بعد ما كان الإنقاذ فعلاً اختيارياً للمكلّف.

المرحلة الثالثة: في تعيّن الوجوب في المقدمة الموصلة.

ويدل عليه: أن ملاك وجوب المقدمة هي إيصالها إلی ذي المقدمة، حيث لا مصلحة نفسية فيها، كما أن مصلحتها الغيرية ليس الوصول إلی أمر آخر، بل الوصول إلی ذي المقدمة حصراً، وحيث إن التكليف تابع للملاك، ولا يوجد الملاك إلاّ في المقدمة الموصلة، فلابد من تعيّن الوجوب فيها.

الجهة الثانية: في متعلق الوجوب الغيري في المقدمة الموصلة

ثم إنه علی القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة، فما هو متعلق الوجوب الغيري؟ فيه احتمالات:

الاحتمال الأول: ما ذهب إليه المحقق العراقي(2) من تعلق الوجوب

ص: 467


1- فوائد الأصول 1: 292.
2- نهاية الأفكار 1: 340.

الغيري بالحصة التوأم مع سائر المقدمات وذي المقدمة، علی نحو القضية الحينيّة، أي الوجوب الغيري لا يتعلق إلاّ بالمقدمة في حال الإيصال من غير كون التقييد بالإيصال متعلقاً للوجوب، وبعبارة أخری: الوجوب الغيري قاصر عن التعلق بالمقدمة إلاّ في حال الإيصال إلی ذي المقدمة.

نظير الأوامر الضمنية المتعلّقة بالأجزاء في المركبات الارتباطية، حيث تختص الأوامر الضمنية بكل جزء من المركب في حال انضمام بقية الأجزاء، لا مقيداً بها، وإلا استلزم الدور، وقصورها بنفسها - لضمنيتها - عن الشمول للجزء عند عدم انضمام بقية الأجزاء.

ففي المقدمة دخل كل مقدمة هو سدّ باب عدم ذيها من قِبَلها - وهذا لا يختلف فيه الانفكاك عن ذيها وعدم الانفكاك - إلاّ أن التكليف المتعلق بكل واحد من السدود هو انحلالي ضمني، فالتكليف قاصر عن الشمول لحال عدم تحقق بقية السدود، وذلك لعدم الملاك في المقدمة غير الموصلة.

وأما عدم إمكان تقييد متعلق الوجوب بقيد الإيصال، فلأن الإرادة من المقدمات، وهي غير قابلة لتعلّق الطلب بها، فيكون التكليف المتعلّق ببقية المقدمات ناقصاً، فلابد من تعلق الوجوب بالحصة التي تتقارن مع الإيصال.

والحاصل: إن ملاك الوجوب في المقدمة هو الإتيان بذي المقدمة، فلا ملاك إلاّ في المقدمة الموصلة - كما سيأتي - لكن بما أنه لا يمكن أخذ الإيصال قيداً للوجوب لأنه يتوقف علی الإرادة وهي غير قابلة لتعلق التكليف، فلابد من تعلق الوجوب بالحصة التي تلازم الإيصال.

وأورد عليه: أولاً: عدم المحذور في تعلق الوجوب بالإرادة لأنها

ص: 468

اختيارية، واختياريتها بذاتها لا بإرادة أخری فلا يلزم التسلسل - كما مرّ - ، فلا محذور من تعلق الوجوب بالعلة التامة التي منها الإرادة، فوجه عدم إمكان أخذ قيد التوصل في متعلق الوجوب هو ما سيأتي من عدم توقف ذي المقدمة عليه.

وثانياً: بأن الحصة التوأم تكون في المصاديق الجزئية المتشخصة في الخارج، حيث يكون القيد مشيراً إلی المصداق المتشخّص مع عدم كون الموضوع مقيداً به، نظير قوله (صلی الله علیه و آله) «خاصف النعل»(1)، دون المفاهيم والقضايا الحقيقية حيث لا تشخص ولا تحصص.

وفيه: أن القضايا الحقيقية قد يكون الغرض مترتباً علی خصوص نوع منها لا علی كلّها، كما مرّ نظيره في أخذ قصد القربة في العبادات، فإن مثل (الصلاة واجبة) قضية حقيقية، مع كون الغرض في خصوص الصلاة بقصد القربة، فمع البناء علی عدم إمكان أخذ هذا القصد في متعلق الوجوب، فإن العقل يحكم بوجوب خصوص النوع الذي صار توأماً مع هذا القصد، لا الأنواع الأخری لعدم تعلق غرض بها.

وثالثاً: إن مجرد ملاحظة القيد مع عدم التقييد به لا يوجب رفع اليد عن الإطلاق، فمجرد ملاحظة الحصة التوأم لا يوجب تخصيص الوجوب بها.

وفيه: أنه لو فرض عدم إمكان التقييد لبعض المحاذير مع توقف الغرض علی نتيجة التقييد، فإنه لا محذور من الذهاب إلی وجوب خصوص الحصة التوأم علی نحو القضية الحينية، فمجرد توقف الغرض يكفي في وجوب

ص: 469


1- الكافي 5: 12.

خصوص الحصة التوأم بلا حاجة حتی إلی ملاحظتها.

الاحتمال الثاني: ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني(1) من عدم المحذور في أخذ قيد التوصل في متعلق الوجوب الغيري، وذلك لأن قيد التوصل ليس متأخراً عن الإتيان بذي المقدمة ليلزم المحذور، بل هو في عرضه، فالمقدمة عِلة لتحقق ذي المقدمة ولهذا القيد، والمعاليل للعلة الواحدة كلّها في عرض واحد.

بيانه: أن كل مقدمة لها القابلية للإيصال إلی ذي المقدمة، لكن ما بالقوة غير مرتبط بالغرض الأصيل المترتب علی وجود ذي المقدمة، بل لابد من فعليتها، فوقوع كل مقدمة علی صفة المقدمة الفعلية ملازم لوقوع المقدمات الأخری علی تلك الصفة ولوقوع ذيها في الخارج.

ويرد عليه: أولاً: بأن ما كان في عرض ذي المقدمة - باعتبار أنهما معلولين لعلة واحدة - لا يمكن أن يترشح عليه وجوب من ذي المقدمة، وقيد التوصل ملازم لوجود ذي المقدمة، فيكون ترشح الوجوب عليه من تحصيل الحاصل.

وثانياً: بأن قيد التوصل إنّما هو أمر انتزاعي، ولا دخل له في تحقق ذي المقدمة، فلا يمكن أن يكون متعلقاً للوجوب الغيري.

نظير توقف رفع حجر علی أربعة رجال، فإن الرفع متوقف عليهم وليس متوقفاً علی عنوان الزوجية المنتزع عنهم، رغم أن الزوجية لا تنفك عن الأربعة، وهكذا الأمر في المقدمة الموصلة، إذ الغرض من الأمر بها هو

ص: 470


1- نهاية الدراية 2: 138.

الإتيان بذي المقدمة، وهذا الغرض غير متوقف علی عنوان الإيصال، بل علی ذات المقدمة الموصلة.

إن قلت: إن عنوان التوصل إنّما ينتزع عن المقدمة بعد تحقق ذي المقدمة، فكيف ينبسط الوجوب الغيري علی هذا العنوان، مع أن توقف ذي المقدمة علی المقدمة يعني تقدم الواجب الغيري علی تحقق الواجب النفسي؟

قلت: لا محذور في كون الإتيان بذي المقدمة شرطاً متأخراً، فلا مانع عن كون متعلق الوجوب هو ذات المقدمة بقيد الإيصال الذي هو مشروط بتحقق ذي المقدمة - بنحو الشرط المتأخر - .

الاحتمال الثالث: هو أن الوجوب الغيري متعلق بذات المقدمة الموصلة، أي كل المقدمات التي تشكل العِلة التامة لتحقق ذي المقدمة، إما وجوب واحد منبسط عليها كلها، أو لكل واحد منها وجوب خاص بها لكن مع عدم تعلق الوجوب بعنوان التوصل، إذ هذا العنوان - كعنوان المقدمية وعنوان العلية - غير دخيل في وجود ذي المقدمة.

والحاصل: إن الغرض لا يترتب إلاّ علی خصوص المقدمة الموصلة، لكن من غير دخل لعنوان الإيصال في هذا الغرض فلا يكون متعلقاً للوجوب الغيري.

ولا يخفی أن هذا الاحتمال قريب من الحصة التوأم، بل قد يقال بأنه هي بنفسها.

الجهة الثالثة: في ثمرة المقدمة الموصلة

وقد ذكرت ثمرات، ومنها:

ص: 471

الثمرة الأولی: وهي تتوقف علی الالتزام بمباني ثلاث: 1- توقف أحد الضدين علی ترك الآخر، 2- وأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، 3- وأن النهي عن الشيء - حتی الغيري - يقتضي فساده.

فعلی هذه المباني، لو تزاحم واجب عبادي مهم مع واجب آخر أهم، كالصلاة الموسعة مع إزالة النجاسة عن المسجد المضيّقة، فحينئذٍ...

أ) علی القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها، فالصلاة صحيحة غير فاسدة، لأن الواجب مقدمةً هو الترك الموصل إلی الإزالة، لا مطلق الترك، وفعل الصلاة ليس نقيضاً للترك الموصل، لجواز ارتفاعهما معاً، كما لو ترك الصلاة ولم يشتغل بالإزالة.

فالضد العام للترك الموصل ليس فعل الصلاة بل رفع الترك وهو أعم من فعل الصلاة ومن تركها تركاً غير موصل، فلا تسري الحرمة إلی فعل الصلاة كي تفسد بالنهي عنها.

ب) وأما علی القول بوجوب مطلق المقدمة، فالصلاة فاسدة، لأن الواجب مقدمة هو ترك الصلاة مطلقاً، وهو الضد العام لفعل الصلاة.

وأشكل عليه: - مع قطع النظر عن الإشكالات المبنائية في المباني الثلاث - في التقريرات بعدم الفرق بين القولين، وفساد العبادة بناءً عليهما، وذلك لأن فعل الصلاة لا يكون نقيضاً لا للترك الموصل، ولا لمطلق الترك، وإنّما النقيض هو (عدم الترك) و(عدم الترك الموصل).

فنقيض مطلق الترك هو عدمه وهو ينطبق علی الفعل، كما أن نقيض الترك الموصل هو عدم الترك الموصل وهو جامع ينطبق علی الفعل وعلی الترك غير الموصل، فتحريم الجامع يساوق تحريم الأفراد، فعليه تكون

ص: 472

الصلاة منهياً عنها علی كلا القولين، فتكون فاسدة، إذ لا فرق في انطباق الحرام علی فردٍ واحد فقط أم علی فردين.

وأجاب عنه في الكفاية: بأنه علی الموصلة لا يكون الفعل إلاّ مقارناً لما هو النقيض - وهو رفع الترك - المجامع مع الفعل تارة ومع الترك المجرد أخری، ولا يكاد يسري حرمة الشيء إلی ما يلازمه، فضلاً عما يقارنه أحياناً، وبعبارة أخری: إن رفع الترك هو أمر عدمي فلا يعقل أن يكون جامعاً، بل قد يقترن معهما بنحو القضية الاتفاقية.

وأما علی مطلق المقدمة، فإن الفعل بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه، لا ملازم للمعاند والمنافي، فتأمل.

تصوير آخر للثمرة الأولی: ثم إن المحقق العراقي(1) صوّر هذه الثمرة بناءً علی ما ذهب إليه من الحصة التوأم، ببيان: أن الوجوب المتعلّق بالمقدمة كان ناقصاً غير تام، فلا يشمل إلاّ ترك الصلاة في حال إرادة الضد الواجب وهو الإزالة، فالبغض الناشئ من هذا الوجوب الناقص - أي وجوب ترك الصلاة حين الإتيان بجميع المقدمات - الذي تعلق ذلك البغض بفعل الصلاة أيضاً بغض ناقص، بحيث لا يشمل إلاّ الفعل في حال إرادة الضد، لا مطلق وجوده ولو في ظرف الصارف وعدم إرادة الوجود.

إن قلت: (ترك الإزالة) مبغوض بالبغض التام، وحيث إن (الصلاة) لها مقدمية لهذا الشيء المبغوض كانت مبغوضة بالبغض التام.

قلت: (ترك الإزالة) مستند إلی الصارف الذي هو عدم وجود المقتضي - أي

ص: 473


1- نهاية الأفكار 1: 346.

الإرادة - ، لا إلی وجود الصلاة، فلا يصح استناد عدم وجود الشيء إلی الشرط أو المانع مع عدم وجود مقتضيه، وذلك لسبق المقتضي رتبة علی بقية أجزاء العلة من الشرط والمانع.

ويرد عليه: أن سوق الكلام إلی البغض إرجاع له إلی الأمر المبنائي من أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده في بعض الصور، بل المراعی حينئذٍ هو البغض وعدمه، وكلامنا هنا في البحث البنائي أي بعد قبول أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، وحيث إن المراد هو الضد العام الملازم مع النقيض، فلا محيص عن الالتزام بأن الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية. فتأمل.

الثمرة الثانية: ما في نهاية الأفكار(1): في ضمان الأجرة علی المقدمة وعدمه، فيما لو استناب في فعل الواجب كالحج أو الزيارة، فمات المأمور به بعد فعل بعض المقدمات كالمشي مسافة...

أ) فعلی القول بوجوب مطلق المقدمة، فإنه يستحق الأجرة علی ما أتی به، لأن الأمر بالحج عنه أمر بالمقدمات.

ب) وعلی المقدمة الموصلة، حيث لم يكن المأتي به من المقدمات فلا استحقاق للأجرة، مع وضوح أن تخيل فعل ما استؤجر عليه لا يوجب أجراً.

وفيه: أولاً: إن هذه الثمرة الجزئية لا يمكن أن تكون ثمرة لمسألة أصولية.

وثانياً: رجوع استحقاق الأجر علی ارتكازهما، وفي الأمر الارتباطي

ص: 474


1- نهاية الأفکار 1: 347.

تكون الإجارة علی الفعل أجمع لا علی الناقص الذي لم يوصل إلی المقصود سواء قلنا بوجوب خصوص الموصلة أم مطلق المقدمة.

الثمرة الثالثة: ما في النهاية أيضاً(1): من أنه لو فرض انحصار المقدمة بالفرد الحرام، كالمشي في الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق...

أ) فعلی القول بوجوب مطلق المقدمة يكون المشي المزبور واجباً، وإن لم يترتب عليه الإنقاذ، فلا يكون حراماً حتی لو قصد عدم الإنقاذ.

ب) وعلی الموصلة فإنه علی تقدير عدم الإيصال يكون دخول الأرض محرماً، فلو لم يقصد الإيصال وقع محرماً، ولو قصد الإيصال كان معذوراً لانقياده.

وأما علی تقدير الإيصال، فإنه مع قصد الإيصال يكون مطيعاً، ومع عدم قصده يكون متجرياً.

أقول: وقد مرّ الكلام في المقدمة المحرمة إذا كانت منحصرة، وأنه من باب التزاحم فراجع.

البحث الخامس: ثمرة بحث المقدمة

وقد ذكرت لأصل بحث المقدمة ثمرات، ولا يخفی أن أكثرها لو صحت فإنما هي ثمرات للمسألة الفرعية لا للمسألة الأصولية منها:

الثمرة الأولی: وهي عدم جواز أخذ الأجرة عليها، لعدم جواز الأجرة علی الواجبات.

وفيه: بأنه لا دليل علی أن الوجوب مانع عن أخذ الأجرة، فإنه لا

ص: 475


1- نهاية الأفکار 1: 348.

يخرجها عن المالية، إن كانت من الأموال، فلذا يجوز أخذ الأجرة علی الصناعات الواجبة كفاية ونحوها.

علی أنه لو أقيم الدليل فإنما هو في العبادات، حيث يتوهم منافاة أخذ الأجرة مع قصد القربة، فالمانع هو العبادية حتی لو لم تكن واجبة، حيث إنه بين الوجوب والعبادة عموم من وجه، ومن المعلوم أن مقدمة الواجب - بما هي - غيرية.

وأما ما ذهب إليه المحقق النائيني(1) من أن أخذ الأجرة في المقدمة وعدمه يدوران مدار جوازه وعدم جوازه في ذي المقدمة، فإذا وجبت المقدمة - ولو من جهة اللا بدية العقلية - خرجت عن سلطانه فلا يصح أخذ الأجرة عليها!

فيرد عليه: أن التبعية إنّما هي في الوجوب، ولا دليل علی التبعية في كل شيء، فالعبادات غالب مقدماتها غير عبادية وهي ليست تابعة لها فيها، مع معلومية عدم الخروج عن سلطانه بمجرد الوجوب، بل هذا أشبه بالمصادرة.

الثمرة الثانية: حصول الإصرار علی الصغيرة وترتب الفسق عليها، فيما لو ترك واجباً له مقدمات متعددة.

وأورد عليه: أولاً: بأنه لا طاعة ولا عصيان، فلا ثواب ولا عقاب علی الأمر الغيري، فإن هتك المولی إنّما هو بترك الأمر النفسي، وذلك لأن تعدد العصيان تابع لتعدد الغرض، ولا غرض متعدد هنا.

إن قلت: إنه بناءً علی انبساط الوجوب علی كلٍ من النفسي والغيري

ص: 476


1- فوائد الأصول 1: 299.

يكون لها إطاعة وعصيان ضمنيّان.

قلت: إن ذلك لا يوجب تعدد المعصية ولا الطاعة، فيكون نظير ترك الواجب المركب أو فعله.

وثانياً: بأن ترك مقدمة واحدة يوجب عدم التمكن من سائر المقدمات ومن الواجب النفسي فتسقط عن حيّز الوجوب.

وفيه: أن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، فعدم التمكن من سائر المقدمات ومن الواجب إنّما هو بسوء اختياره في ترك المقدمة الأولی، مضافاً إلى أن المقدمات قد تكون عرضية فلا يلزم من ترك أحدها زوال القدرة على الأخرى.

وثالثاً: بأن الإصرار إنّما يتحقق بتكرار المعصية لمرات متعددة - ولو مرتين علی بعض المباني - أما ارتكاب معاصٍ عديدة دفعة واحدة فلا يتحقق به الإصرار، كالنظر إلی أجنبيات بنظرة واحدة، اللهم إلاّ إذا كان نوع المعصية متعدداً، وعلی كل حال: فإن الإصرار أمر عرفي وهو يتحقق بالدفعات المتعددة لا بالدفعة الواحدة ولو كان المتعلق متعدداً.

ورابعاً: مبنیً بما قيل: من عدم الدليل علی أن الفرق بين الصغيرة والكبيرة في حصول الفسق وعدم حصوله لو ارتكب مرة واحدة، فإن الدليل دلّ علی أن الفرق بينهما في العفو عن الصغيرة وعدم إيعاد النار عليها، عكس الكبيرة، فتأمل.

الثمرة الثالثة: ما عن الوحيد البهبهاني، من أن المقدمة إذا كانت محرّمة، كالمرور بالأرض المغصوبة مقدمة لإنقاذ الغريق، فعلی القول بوجوبها يلزم

ص: 477

اجتماع الأمر والنهي، دون القول بعدم وجوبها.

وأشكل عليه: أولاً: بأن الاجتماع إنّما هو فيما لو تعلق الأمر والنهي بعنوانين ثم اجتمعا في فرد اتفاقاً، وليس هنا كذلك، لأن عنوان المقدمة حيث تعليلي خارج عن متعلق الأمر، فالوجوب والحرمة تعلّقا بذات المقدمة وهو شيء واحد.

وأجيب: بتعلقهما بعنوانين هما الطبيعي والحِصة.

وفيه: أن الحصة هي نفس الطبيعي بلا تفاوت بينهما، نعم للطبيعي حصص أخری، وهذا لا يوجب التفاوت.

وثانياً: عدم لزوم الاجتماع أصلاً، لأن المقدمة إما منحصرة، فالملاك الأقوی يبقی دون الأضعف، فلا اجتماع. وإما غير منحصرة، فيختص الوجوب بغير الفرد المحرّم، إذ العقل الحاكم بالملازمة، لا يحكم إلاّ بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته المباحة.

وأجيب: بأنه في غير المنحصرة، الفرد المحرّم واجد للملاك أيضاً، إذ علی القول بجواز الاجتماع فإن اجتماع الصلاة مع الغصب - مثلاً - لا يخرج الصلاة عن المطلوبية حتی لو فرض لها مصاديق أخری.

والأولی الجواب بأن هذا إشكال مبنائي علی مسألة الاجتماع ببيان عدم إمكانه، أما لو فرض إمكانه فيكون ما نحن فيه من مصاديقه.

وثالثاً: بأن الغرض من المقدمة هو التوصل إلی الواجب النفسي، فمع توصليتها يمكن الوصول بها إلی ذي المقدمة مطلقاً - سواء قلنا بوجوبها أم لا - .

ص: 478

وحتی المقدمة العبادية، فلو قلنا بجواز الاجتماع صحت العبادة سواء قلنا بوجوب المقدمة أم لا، وإن قلنا بالامتناع وتقديم جانب النهي فهي فاسدة مطلقاً من غير فرق.

فتحصل أنه لا تظهر الثمرة سواء قلنا بجواز الاجتماع أم بعدم إمكانه في كل الحالات.

الثمرة الرابعة: التوسعة في التقرب، فإنها وإن كانت توصلية غالباً إلاّ أنه يمكن قصد أمرها وفي ذلك كثرة ما يتقرب به.

وفيه: أن الغرض هو الواجب النفسي فالإتيان بمقدماته بغرضه يوجب التقرب حتی لو لم تكن تلك المقدمات واجبة.

البحث السادس: دليل وجوب المقدمة

اشارة

وهنا مقامان: الأول في تأسيس الأصل العملي، والثاني في ذكر أدلة الأقوال.

المقام الأول: في تأسيس الأصل

ليرجع إليه لو لم تتم أدلة وجوبها، وهو تارة في المسألة الأصولية، وأخری في المسألة الفقهية.

الأول في المسألة الأصولية - وهي الملازمة - فقد يقال: إن هذه الملازمة إما واقعية أو انتزاعية بحيث تنتزع من حصول أحد المتلازمين عند حصول الآخر، وكلاهما لا حالة سابقة لهما، فإن هذه الملازمة - وجوداً وعدماً - أزلية، فلا يقين سابق، فلا جريان للاستصحاب.

وأشكل عليه: بأنه إن أريد القضية الحقيقية الشرطية - وهي صادقة حتی

ص: 479

قبل تحقق طرفيها بل واستحالتهما - فهذه لا حالة سابقة لها.

أما لو أريد القضية الخارجية، أي المنتزعة عن وجود العلة خارجاً، فهي مسبوقة بالعدم.

الثاني: في المسألة الفقهية، وذلك بإجراء أصل العدم، وقد أشكل عليه بعدة إيرادات:

الإشكال الأول: إن إجراء أصل العدم يستلزم احتمال التفكيك بين المتلازمين، إذ نحتمل واقعاً وجود الملازمة ثبوتاً، لكن حيث لا دليل إثباتاً فنريد نفي الملازمة عبر التعبّد، وهذا من التعبد فيما يحتمل استحالته.

وكما لا يمكن التعبد بما هو محال كاجتماع الضدين، كذلك لا يمكن التعبد فيما يحتمل الاستحالة، كالتعبد فيما يحتمل كونه من اجتماع الضدين.

والجواب أولاً: بما في الكفاية من أن التنافي إنّما هو بين الحكمين الواقعيين لا الفعليين، والتعبد إنّما هو بالحكم الفعلي الذي لا احتمال في كونه من المحال، إذ لا احتمال للملازمة في الفعليين!!

وفيه: أنه لا تنافي بين الواقعيين أيضاً إن أريد بهما الحكمين الإنشائيين إذ لا تنافي بين الإنشاءات بما هي وجودات لفظية.

وثانياً: بما في نهاية الدراية(1) بأن مجرد الاحتمال المذكور لا يمنع من التمسك بالأصل بعد مساعدة الدليل عليه، إذ لا يعتني العقلاء بمجرد الاحتمال، كما جاز التعبد بالظن مع احتمال استحالته، وذلك لأنه لا طريق

ص: 480


1- نهاية الدراية 2: 169.

للجزم بالاستحالة، ومجرد الاحتمال لا يكفي في الحكم بالمنع.

وأورد عليه(1): بأن الاستحالة المحتملة علی نوعين:

1- أن تكون في الحكم الواقعي - أي المؤدی - لا في التعبد، فهذا الاحتمال لا يضرّ بالتمسك بدليل التعبد، إذ المحتمل استحالته إنّما هو الحكم الواقعي، وأما التعبد فهو مقطوع الإمكان.

2- أن تكون الاستحالة المحتملة في أمر مشترك بين الحكم الواقعي وبين التعبد، وحينئذٍ يستحيل التعبد لاستلزامه التناقض أو الخلف.

وذلك لأن إثبات التعبد بدليل إنّما هو بمعنی ثبوت التعبد بالقطع واليقين - لفرض أن دليل التعبد قطعي - ، وحينئذٍ...

أ) فإن بقي احتمال الاستحالة في التعبد، كان ذلك تناقضاً.

ب) وإن ارتفع احتمال الاستحالة في التعبد استلزم ذلك ارتفاع احتمال الاستحالة في الواقع، إذ وجه الاستحالة هو الأمر المشترك بين الحكم الواقعي وبين التعبد، وحينئذٍ يرتفع سبب الشك في الواقع، إذ سبب الشك في الواقع هو احتمال الاستحالة فقط، فيثبت الواقع، وبثبوته يرتفع التعبد لأنه إنّما كان في ظرف الشك في الواقع، فمع العلم به لا يبقی مجال للتعبد، وهذا خلف.

ومثال التعبد بالظن من النحو الأول لذا لم يكن فيه مانع، وأما ما نحن فيه فمن النحو الثاني، وذلك لأن استصحاب عدم الوجوب يستلزم ثبوت التعبد قطعاً، وهذا لا ينسجم مع بقاء احتمال الاستحالة في التعبد، فيكون تناقضاً.

ص: 481


1- بحوث في علم الأصول 2: 276.

وفرض ارتفاع الاستحالة في التعبد سبب ارتفاع احتمال الاستحالة في الحكم الواقعي، فيقطع بعدم الملازمة لا محالة، فيقطع بعدم الوجوب الغيري الواقعي، فلم يبق مجال للاستصحاب مع القطع، وهذا خلف، فتأمل.

الإشكال الثاني: عدم ترتب الأثر علی هذا الأصل، مع أن جريان الأصل مرتبط بالأثر، إذ لولاه كان لغواً، نظير عدم جريان الأصل فيما هو خارج محلّ الابتلاء حتی مع العلم الإجمالي، فمن يريد امتثال الواجب النفسي يفعل المقدمة سواء كانت واجبة أم لا، ومن لا يريده يتركها كذلك.

والجواب: إن هناك ثمرات عملية وإن لم تكن أصولية بل فرعية - علی بعض المباني وقد مرّت - ، وهذه الثمرات تصحح جريان الأصل.

الإشكال الثالث: إن وجوب المقدمة - لو ثبت - فهو من لوازم الماهية، فلا تناله يد الجعل إثباتاً ونفياً.

والجواب: أولاً: إنه ليس من لوازم الماهية بل من لوازم الوجود(1)، إذ مناط لوازم الماهية هو الانتزاع من الشيء مع قطع النظر عن وجوده الذهني والخارجي، كالزوجية المنتزعة من الأربعة فلا وجود لها غير وجود الأربعة، ولا جعل لها غير جعلها، بل الجعل واحد ينسب إلی الماهية بالذات وإلی لوازمها بالعرض.

بخلاف إرادة المقدمة فإنها بحسب الوجود غير إرادة ذي المقدمة، لا أن إرادة واحدة متعلقة بذي المقدمة بالذات وبالمقدمة بالعرض، ومع تعدد الوجود يلزم تعدد الجعل، نعم هو جعل بالتبع لكنه ليس جعلاً بالعرض.

ص: 482


1- نهاية الدراية 2: 166.

وثانياً: من أنه حتی لو فرض كونه من لوازم الماهية، لكنه مجعول تبعاً بتبع جعل وجوب ذي المقدمة، وهذا الجعل التبعي يكفي في صحة كونه بيد الشارع - بما هو شارع - ، فتأمل.

الإشكال الرابع: إن وجوب المقدمة - إن ثبت - يكون لازماً قهرياً لوجوب ذي المقدمة، فلا يكون اختيارياً، فلا يجري الأصل فيه، لعدم قابليته للوضع ولا للرفع.

وفيه: أن الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار(1)، إذ العلة المتأصلة فيها واحدة، فإذا تمّت تلك العلة وبلغت حدّ الوجوب وجد معلولها قهراً، وهو عين الإيجاد بالإرادة والاختيار، وإلا لزم صدور المعلول من غير علته التامة، أو إمكان انفكاك المعلول عن علته التامة، فهو نظير المسبب التوليدي بعد حصول سببه، فلا مانع من جريان الأصل فيه، لأنه اختياري باختيارية سببه.

المقام الثاني: في أدلة الأقوال

وقد استدل علی وجوب المقدمة بأدلة، منها:

الدليل الأول: وهو أمر وجداني، حيث يجد الإنسان من نفسه أن من أراد شيئاً أراد مقدماته لو التفت إليها، وحينئذٍ قد يصرّح بالأمر بها، نظير قوله أدخل السوق واشتر اللحم، فكلا الأمرين (أدخل) و(اشتر) مولويان!!

وأشكل عليه: بأن الملازمة لا تكون في جميع مراحل الحكم.

1- أما في مرحلة الاقتضاء - وهي مرحلة الملاك - فلأنه لو تحقق الملاك

ص: 483


1- نهاية الدراية 2: 168.

في المقدمات لكانت واجباً نفسياً بعين وجوب ذي المقدمة لوجود الملاك في كليهما، هذا خلف.

2- وأما في مرحلة الإنشاء، فلوضوح عدم التلازم بين الإنشاء ات التي هي ألفاظ.

إن قلت: نعني بالتلازم بين الإرادتين التلازم بين الشوق إلی ذي المقدمة والشوق إلی المقدمة.

قلت: الإرادة غير الشوق، إذ هي إعمال القدرة وهجمة النفس - كما مرّ - وهذا ليس الشوق، نعم قد يكون الشوق من مقدماتها.

هذا مضافاً إلی عدم كفاية ثبوت الملازمة بين الشوقين، بل لابد من الملازمة بين الوجوبين، وذلك لأن مرادات المولی إذا لم يأمر بها لا يجب امتثالها، نعم لو احرز أن عدم أمره لمانع له من تقية أو جهل بحيث كان يأمر لولاه فإن العقل يحكم بلزوم تحصيل غرضه الملزم، وليس ما نحن فيه من ذلك.

إن قلت: إن التلازم إنّما هو في الداعوية، بمعنی أن إنشاء الوجوب النفسي يكون داعياً للمولی لإنشاء وجوب المقدمات.

قلت: لا دليل على ثبوت هذا الداعي، وذلك لعدم الحاجة إلی إنشاء وجوبها، حيث إن العبد إن كان بصدد الإطاعة كفاه الأمر النفسي، وإن لم يكن بصددها لم ينفعه ضمّ الأمر بالمقدمات إلی الأمر بذي المقدمة، اللهم إلاّ إذا كان الغرض التأكيد أو إلفات العبد إلی المقدميّة، وهذا المقدار لا يثبت التلازم في الداعوية، فتأمل.

الدليل الثاني: ما قيل: من أنه لو لم تكن المقدمة واجبة لجاز تركها،

ص: 484

وحينئذٍ فإما يعاقب علی الترك أو لا يعاقب، والأول خلف، والثاني مستلزم لانقلاب الواجب النفسي المطلق - وهو ذو المقدمة - إلی واجب مشروط، مع انقلاب المقدمة من مقدمة الوجود إلی مقدمة الوجوب، وهو خلف أيضاً، وحيث بطل التالي فالمقدّم مثله.

والجواب: ما مرّ من أن ترك المقدمة بما هي جائز ولا عقاب عليه، إنّما العقاب علی ترك الواجب النفسي وهو ذو المقدمة.

الدليل الثالث: وجود الأمر في بعض المقدمات - عرفية كانت أم شرعية - ، مثل (أدخل السوق واشتر اللحم)، وهذا الأمر يدل علی وجود إرادة غيرية - لا نفسية للعلم بعدمها لعدم ملاك نفسي - وإذا ثبتت الملازمة في بعض الموارد ثبتت في كل الموارد لعدم إمكان التبعيض.

والجواب: عدم انحصار الداعي في الأمر المولوي كي يكون سبب الأمر هو ثبوت الملازمة، بل يمكن أن يكون الداعي هو الإرشاد إلی مقدميتها.

إن قلت: ظاهر الأمر المولوية!!

قلت: لا ظهور في المولوية في الأوامر المتعلّقة بالمقدمات، بل ظاهره الإرشاد إلی المقدمية، كما في الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط.

القول الثالث: التفصيل بين السبب التوليدي وغيره، فيجب في الأول دون الثاني.

واستدل له: بأن الأمر إنّما هو لإيجاد الداعي في نفس المكلّف، فما لا يمكن إرادته لا يعقل تعلّق التكليف به، والمسبب التوليدي لا يمكن إرادته

ص: 485

حيث لا يمكن تحققه من غير سببه، وإذا تحقق سببه خرج عن دائرة الاختيار، وعليه فإذا تعلّق الأمر بالمسبب فإنه في الواقع قد تعلّق بالسبب، كما لو أمر بالإحراق فهو أمر بالإلقاء في النار في الحقيقة.

ويرد عليه: أولاً: بأنه ليس تفصيلاً في وجوب المقدمة، بل هو ذهاب إلی أن الأسباب التوليدية ليست مقدمة للواجب، بل هي الواجب بنفسها.

وثانياً: المسببات التوليدية مقدورة بالواسطة فلذا يمكن إرادتها، فيمكن تعلّق التكليف بها بلا إشكال.

القول الرابع: التفصيل بين الوجوب الشرعي والعقلي، فالأول ثابت للمقدمة دون الثاني.

واستدل له: بأن المقدمية في المقدمة الشرعية متوقفة علی إيجابها شرعاً، إذ لولا الإيجاب الشرعي لم تكن مقدمة أصلاً، عكس العقلية، فلا توقف لمقدميتها علی إيجابها.

وفيه: أولاً: إن الأمر بذي المقدمة إنّما هو أمر مقيد، فينتزع منها المقدمية حينئذٍ، فلا تتوقف مقدميتها علی إيجابها شرعاً.

وثانياً: استحالة كون المقدمية متوقفة علی الإيجاب الشرعي، إذ الإيجاب الغيري متوقف علی مقدميتها، فلا يمكن أن تكون المقدمية متوقفة عليه، وإلا لزم الدور.

البحث السابع: مقدمة المستحب والحرام والمكروه

أما مقدمة المستحب: فهي كمقدمة الواجب بلا فرق، إذ في كليهما طلب، وذلك المطلوب النفسي يتوقف علی مقدماته، فجهة المنع عن

ص: 486

النقيض في الواجب وعدم المنع عنه في المستحب لا تكون فارقاً في محلّ الكلام.

أما مقدمة المكروه: فهي كمقدمة الحرام، كما سيأتي توضيحها.

أما مقدمة الحرام: فإن لم نقل بالملازمة فلا كلام.

وإن قلنا بالملازمة، فلا تكون نظير مقدمة الواجب في وجوب كل مقدمة، بل لا يكون الحرام إلاّ مجموع المقدمات - بحيث تكون العلة التامة في ارتكاب الحرام - أو الجزء الأخير منها بحيث لو أتی به لا يبقی اختيار في ترك الحرام.

1- فعلی القول بالمقدمة الموصلة: يكون الحرام مجموع المقدمات معاً، لا جميعها، فكل مقدمة تكون محرّمة بشرط الانضمام.

2- وعلی عدم القول بها، فلا يكون الحرام إلاّ الجزء الأخير.

وسبب الفرق بين مقدمة الواجب ومقدمة الحرام، من وجوه منها:

الوجه الأول: أنه في الواجب يكون المطلوب الفعل، وهذا الفعل يتوقف علی الإتيان بجميع المقدمات، إذ لو لم يأت بأحدها انتفی المطلوب، فلذا يسري الوجوب إلی جميعها، لكن في الحرام المطلوب هو الترك، وذلك الترك يتوقف علی ترك أحدها فقط.

وقد فصّل بعض الأصوليين في ذلك الواحد فقال:

1- في الأفعال التوليدية - التي لا تكون الإرادة واسطة - يتحقق ترك الحرام بترك إحدی المقدمات فلا يكون المطلوب إلاّ ترك إحداها تخييراً، وذلك لأن التكاليف تابعة للأغراض، والغرض متوقف علی ترك إحداها

ص: 487

تخييراً فلا وجه لتحريم سائر المقدمات، وإنّما كان المطلوب ترك أحدها تخييراً لأن كل المقدمات تكون في عرض واحد بالنسبة إلی ذي المقدمة.

2- وفي الأفعال غير التوليدية - مما تكون الإرادة واسطة - يكون المطلوب ترك آخر المقدمات وهي الإرادة لا غيرها، وذلك لأن امتثال النهي يتوقف علی ترك أحدها، فلو لزم ترك غير الإرادة فإنه يستتبع ترك الإرادة أيضاً، فيكون طلباً لتركهما مع أن ترك الحرمة غير متوقفة علی تركهما بل متوقفة علی ترك أحدهما!!

وفيه: أن المقدمات الطولية - سواء في التوليدية أم في غيرها - يكون ترك ما في الطول يستلزم ترك ما بعده في السلسلة، فالمطلوب هو ترك واحد سواء كان رأس السلسلة أم آخرها، نعم لو ترك غيرالآخر فإنه يستلزم ترك ما بعده لكن ذلك لا يوجب القول بوجوب ترك كلها، بل اللازم ترك واحد سواء استتبع ترك مقدمات أخری أم لا، فتأمل.

الوجه الثاني(1): وجوب المقدمة وحرمتها مترشح عن وجوب ذيها وحرمته، فثبوت الوجوب لها أو الحرمة فرع دخالتها في ثبوت ملاك الوجوب والحرمة.

فمقدمة الحرام إنّما تحرم فيما لو كانت سبب وجود المفسدة، ووجودها منحصر في المقدمة الأخيرة في التوليدية، فتحرم لوجود المفسدة.

وأما مقدمة الواجب فهي واجبة لأجل دخالتها في الملاك بحيث لولاها لفاتت المصلحة، وجميع المقدمات لها هذا الأثر.

ص: 488


1- منتقی الأصول 2: 334.

ويعلم الإشكال فيه مما ذكر في الإشكال علی الوجه الأول.

والثمرة بين المسلكين: هو حرمة جميع المقدمات بناءً علی المقدمة الموصلة، وحرمة أحدها بناءً علی عدم القول بالموصلة، ومثّل له في نهاية الأفكار(1) بالمتوضي بالماء المباح في مصبّ غصبي مع تمكنه من المنع عن وصول ماء الوضوء إلی المصب ولو بجعل كفه حاجزاً.

أ) فعلی تخصيص الحرمة بالجزء الأخير يقع وضوؤه صحيحاً، لأن الجزء الأخير هو حيلولة الكف وهو غير مرتبط بالوضوء، ولا فرق حينئذٍ في الصحة بين علمه من أول الأمر أم جهله.

ب) وأما علی حرمة جميع المقدمات، فلو لم يمنع كان وضوؤه باطلاً، إذ جميع المقدمات ومنها نفس أفعال الوضوء تكون محرّمة، والنهي في العبادة موجب لفسادها.

نعم لو لم يعلم بذلك من أول الأمر أو كان بانياً علی إيجاد المانع، فاتفق ذلك - ولو من جهة بدائه - وقع وضوؤه صحيحاً، إذ لا حرمة فعلية في أفعال الوضوء حينئذٍ.

ص: 489


1- نهاية الأفکار 1: 358.

فصل في الضد

اشارة

وقد عنون بعضهم البحث بأن «الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا»، ولا بأس بهذا العنوان حيث إن غالب النواهي والأوامر تكون بالألفاظ، لكن أصل البحث عقلي وليس بلفظي، إذ الحكم مرتبط بالوجوب سواء كان مستفاداً من لفظ أم من دليل لبّي.

وهنا بحوث:

البحث الأول: في أصولية المسألة

حيث يمكن طرحها أصولية، وطرحها من المبادي الأحكامية، ومع إمكان الأول لا وجه للثاني ليكون بحثاً استطرادياً.

1- أما إمكان طرحها من المبادي الأحكامية، فلأنها بحث عن لوازم أحد الأحكام، أي البحث عن لوازم الوجوب، وأنه هل يلزم منه حرمة ضده أم لا.

ولا يخفی اختلاف هذا عن المبادي التصورية التي يتوقّف عليها تصوّر ذات وذاتيات الموضوع والمحمول، وعن المبادي التصديقية التي هي أدلة ثبوت المحمول للموضوع، وذلك لأن البحث عن لوازم المحمول لا يدخل في أيٍّ منهما.

2- وأما إمكان طرحها أصولية، فلانطباق ضابطة المسألة الأصولية عليها،

ص: 490

لأنّ هذه المسألة هي كبری دليل استنباط بعض الأحکام الشرعية، فبها يستنبط الحكم بلا توسّط مسألة أصولية أخری.

فإنه علی القول بالاقتضاء يستنبط حرمة الضد، فكانت المسألة طريق لاستنباط الحكم الفرعي، وهو الحرمة في مختلف أبواب الفقه.

وعلی القول بعدم الملازمة يستنبط صحة الضد العبادي في مختلف الأبواب.

نعم لبطلان الضد العبادي علی الملازمة لابد من ضم مسألة أصولية أخری هي دلالة النهي علی الفساد، لكن ذلك لا يخلّ بأصوليتها، إذ يكفي فيها وقوعها في طريق الاستنباط من غير واسطة أحياناً.

البحث الثاني: في الضد الخاص

ونعني به الأمر الوجودي الذي لا يمكن اجتماعه مع المأمور به لجهة من الجهات، ولو لعدم قدرة المكلّف علی الجمع بينهما، كالصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد.

فقد يقال: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص، واستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: إثبات مقدمية أحد الضدين للضد الآخر، وهذا الدليل يتوقف علی أركان ثلاث: 1- إثبات توقف كل واحد من الضدين علی عدم الآخر. 2- ووجوب مقدمة الواجب. 3- وحرمة الضد العام للواجب، مثلاً الإزالة الواجبة متوقفة علی عدم الصلاة، فعدم الصلاة صار واجباً لأنه مقدمة للواجب، والضد العام لعدم الصلاة هو الصلاة وهو محرّم، وهنا

ص: 491

يبحث في الركن الأول، أما الثاني فقد مرّ بحثه في المقدمة، وأما الثالث فسيأتي في البحث اللاحق.

أما إثبات المقدمية فبأحد طريقين:

الطريق الأول: إن عدم المانع من أجزاء العلة، فيكون مقدمة للمعلول، وفيما نحن فيه كل واحد من الضدين مانع عن الآخر، فعدم كل واحد منهما هو عدم المانع للآخر، فيكون من أجزاء علة الآخر، وبذلك ثبت مقدمية عدم كل ضد للضد الآخر، كمقدمية عدم الصلاة للإزالة.

وأشكل عليه بعدة إشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن المقدمية تستلزم الدور، إذ كما أن التضاد يقتضي توقف وجود الإزالة علی عدم الصلاة لتوقف الشيء علی عدم مانعه، كذلك يقتضي توقف عدم الصلاة علی وجود الإزالة لتوقف عدم الشيء علی وجود مانعه، وذلك لثبوت المانعية من الطرفين.

وأجيب أولاً: بأن التوقف من جانب الوجود فعليٌ، فإن وجود الإزالة متوقف علی عدم الصلاة، لكن التوقف من جانب العدم تقديريٌ، إذ عدم الصلاة لا يتوقف علی الإزالة إلاّ في فرض غير واقع أصلاً، وعليه فلا يكون دور أصلاً.

وذلك لأن عدم الشيء يستند إلی عدم مقتضيه لا إلی وجود المانع، نعم لو فرض وجود المقتضي فحينئذٍ ينسب العدم إلی وجود المانع.

وفيما نحن فيه لا يتحقق المقتضي أبداً، وذلك لأن المقتضي هو إرادة الصلاة، ومع إرادة الإزالة لا توجد إرادة للصلاة أصلاً، لعدم معقولية إرادة

ص: 492

الضدين، فعدم إرادة الصلاة هو سبب عدم تحقق الصلاة لا المانع الذي هو الإزالة.

وهكذا لو كان المتعلق واحداً مع إرادة شخصين، فإنه حينئذٍ وإن أمكن إرادة كل واحد منهما لأحد الضدين، لكن ما يتحقق خارجاً هو إرادة الأقوی، فعدم تحقق ما أراده الأضعف إنّما هو لعدم حصول شرطه وهو القدرة، لا المانع الذي هو وجود الضد الآخر.

وفيه: أن هذا البيان لا يكفي لدفع ملاك الدور - وهو تقدم الشيء علی نفسه - لأن الاعتراف بإمکان استناد عدم الصلاة إلی وجود الإزالة علی تقدير وجود المقتضي والشرط إنّما هو قبول بكون وجود الضد سابق رتبة علی عدم الضد الآخر.

مع أن عدم الضد الآخر في رتبة ذلك الضد حيث إن النقيضين في رتبة واحدة، فتقدم عدمه معناه تقدم وجوده أيضاً، وهذا يعني تقدم أحد الضدين علی الضد الآخر مع أنهما في مرتبة واحد، فاستلزم تقدم الشيء علی نفسه، وهو ملاك استحالة الدور.

إن قلت: لا يوجد ملاك الدور، وذلك لأن توقف عدم الصلاة علی وجود الإزالة إنّما هو في صورة وجود المقتضي والشرط، لكن صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق طرفيها، وفيما نحن فيه يمتنع تحقق المقتضي والشرط، وذلك سبب لعدم صدق المقدّم، فلا يصدق التالي، نظير ما لو كان زيد والداً لعمرو، فقلنا: (وجود زيد متقدم علی عمرو، ولو كان عمرو والداً لزيد لكان وجود عمرو متقدماً)، فهذه قضية شرطية صحيحة،

ص: 493

لكن حيث امتنع المقدم امتنع التالي، فلا دور.

قلت: في هذه القضية الشرطية خصوصية تقتضي صدق تاليها، وهي المانعية، فإنه لو لم تكن الإزالة مانعة عن الصلاة - حتی يسند عدم الصلاة إليها فيما لو تحقق المقتضي والشرط - لزم أن لا يكون الضد مانعاً، وحينئذٍ فلا وجه للقول بأن الإزالة متوقفة علی عدم الصلاة، لأن المانعية من الطرفين، فتأمل.

الجواب الثاني ما عن المحقق الإصفهاني(1): من أنه لا تقدم لعدم أحد الضدين علی الآخر، وذلك لأن العدم لا يحتاج إلی فاعل وقابل، إذ هو ليس بشيء كي يكون قابلاً للتأثير والتأثر، فلا يحتاج العدم إلی شيء آخر يكون مصححاً لفاعلية الفاعل أو متمماً لقابلية القابل، وحيث لم يكن توقف فلا دور، لعدم تمامية كلا القضيتين: توقف الإزالة علی عدم الصلاة، وتوقف عدم الصلاة عليها.

الجواب الثالث: إنه لو سلمنا توقف عدم الصلاة علی الإزالة، فإنا لا نسلم العكس بأن تتوقف الإزالة علی عدم الصلاة، وذلك لأن العدم لا علة له، فإن قابلية التأثر إنّما هو في الوجودات لا في الأعدام، إذ لو كان العدم مؤثراً لأمكن وجود الممكن من غير علة، وهو بديهي الاستحالة.

إن قلت: قد يُعلّل العدم - عند العرف والعلماء - كقولهم: لم تحترق الورقة لوجود الرطوبة، وكقولهم: عدم العلة علة العدم.

قلت: هذا تعبير مسامحي، إذ العدم غير قابل للتأثير والتأثر، فليس لعدم

ص: 494


1- نهاية الدراية 2: 183.

الرطوبة تأثير في الإحراق، وإنّما المؤثر هي النار فقط، لكن قد يكون الأمر الوجودي كالرطوبة حاجزاً فلا يدع المقتضي يؤثر في مقتضاه لأقوائيته، فعدمه غير مؤثر، وكذا انخرام العدم متوقف علی وجود العلة، فعدم العلة ليس سبباً لعدم المعلول في الحقيقة، وإنّما وجوده متوقف علی علته.

الجواب الرابع: إنه لو سلّم أن للعدم علة، فعلة عدم الضد هي (عدم عدم الضد الآخر) وليس نفس الضد، وعدم العدم لا ينطبق علی وجود الضد الآخر، إذ الأعدام لا تنطبق علی الوجودات، ولولا ذلك لزم انقلاب ما حيثية ذاته طرد العدم إلی ما ليس كذلك.

وأشكل عليه(1): أن (عدم العدم) إما صرف مفهوم لا واقع له أو له واقع، والأول لا يصلح للتأثير إذ المفهوم ليس له قابية التأثير والسببية، والثاني محال لاستلزامه وجود الواسطة بين الوجود والعدم، هو عدم العدم!! فلابد أن يكون (عدم العدم) هو نفس الوجود.

ويمكن أن يقال: العدم لا واقع له، فلو فرض أن له علة فتكون علته كذلك لا واقع لها للزوم السنخيّة، كما أنه لا يلزم ارتفاع النقيضين إذ (عدم الصلاة) و(عدم عدم الإزالة) كلاهما عدم خاص، فارتفاع الوجود وعدم الضد الخاص ليس من ارتفاع النقيضين، فتأمل.

الإشكال الثاني: إن مجرد المعاندة لا تستلزم مقدمية أحد المتمانعين للآخر، وإلا لكان ذلك في المتناقضين أولی، مع وضوح عدم إمكان كون أحد المتناقضين مقدمة للآخر، وذلك لكونهما في رتبة واحدة، وعدم الآخر

ص: 495


1- منتقی الأصول 2: 350.

هو نفس الشيء، فإذا كانت مقدمية، كان الشيء مقدمة لنفسه.

وأجيب(1): بأن القياس مع الفارق، إذ الاستحالة في النقيضين لجهة أخری، وهي: مقدمية الشيء لنفسه، باعتبار أن ارتفاع الوجود هو عين العدم البديل له.

وفيه: أن ملاك المقدمية لو كان والمعاندة، لكان ملاكاً في كل مورد، فعدم كون المعاندة سبباً للمقدمية في المتناقضين كاشف عن عدم كونها ملاكاً في الضدين.

الإشكال الثالث: إن المانعية قد تكون بمعنی مزاحمة أحد الضدين لتأثير مقتضي الضد الآخر، فحينئذٍ المانع وعدمه يكونان في مرتبة العلة، فيمكن القول بالمقدمية.

لكن إن كانت في وجوديهما بمعنی عدم اجتماعهما في الوجود، فلا يصلح المانع حينئذٍ للمقدمية، وذلك لأن الضدين في مرتبة واحدة فعدمهما كذلك في نفس المرتبة.

وبعبارة أخری كما في البحوث(2): إن المقتضيين لوجود الضدين لا تنافي بينهما فلذا يمكن اجتماعهما، لكن لا يمكن تأثيرهما معاً وذلك لامتناع اجتماع الضدين خارجاً، ولا تأثير أحدهما إن تساويا لأنه ترجح بلا مرجح، فلابد من عدم تحقق أيٍّ منهما، نعم لو كان أحدهما أقوی لتحقق ومنع عن الآخر.

ص: 496


1- أنظر نهاية الدراية 2: 199-200.
2- بحوث في علم الأصول 2: 298.

وفيما نحن فيه لا تتوقف الإزالة علی عدم الصلاة، بل تتوقف علی قوة مقتضي الإزالة، فتبيّن أن التمانع إنّما هو في مرحلة المقتضي لا في مرحلة وجود الضد - حيث يكونان في رتبة واحدة - ، فلا مقدمية.

بل يستحيل المانعية في الضد، وذلك لأن الضد إما مانع قبل وجوده، وهذا مستحيل، لأن المانعية فرع وجود المانع، وإما بعد وجوده، وهذا مستحيل أيضاً، إذ إن وجوده كان متوقفاً علی أقوائية مقتضيه علی مقتضي الآخر - لو كان - ، فوجود الضد كان متوقفاً علی المانع عن الآخر، فيستحيل أن يكون هو المانع عن الآخر.

الطريق الثاني: إثبات المقدمية من غير توقف، عبر التقدم بالطبع، کما ذکره المحقق الإصفهاني(1):

وذلك لأن التقدم علی أنحاء ثلاثة:

الأول: التقدم في الوجود، كتقدم العلة التامة علی معلولها، ولا يمكن توقف العلة علی معلولها للزوم الدور.

الثاني: التقدم في الزمان، كتقدم الموجود في الزمان الأول علی الموجود في الزمان الثاني، ولا يمكن توقف الأول علی الثاني، للزوم ملاك الدور.

الثالث: التقدم بالطبع، بحيث لا يكون لأحد الشيئين وجود إلاّ وللآخر وجود دون العكس، وهو علی أنحاء أربعة:

1- أن يكون المتقدم سبباً لقوام الآخر، كالجزء والكل، مثل الواحد والكثير.

ص: 497


1- نهاية الدراية 2: 180-183.

2- أن يكون مؤثراً في المتأخر، كالمقتضي ومقتضاه.

3- أن يكون مصححاً لفاعلية الفاعل، كالشرط والمشروط.

4- أن يكون متمماً لقابلية القابل، كعدم المانع والشرط العدمي، مثل عدم الرطوبة للاحتراق.

وما نحن فيه من هذا الرابع، إذ كلما وجد الضد كان الآخر معدوماً لا محالة، دون العكس إذ قد يكون (عدم الضد) لكن من دون وجود الضد الآخر، كما في الضدين اللذين لهما ثالث، فعدم الضد متمم لقابلية المحلّ لعروض الضد الآخر عليه، إذ بدون عدم الضد لا يكون المحلّ قابلاً، فحينئذٍ ثبتت المقدمية من دون توقف، فلا دور.

وفيه: أنّ التقدم بالطبع لا يكون ملاكاً للوجوب الغيري، إنّما الملاك التوقف في الوجود، والمتأخر بالطبع قد لا يتوقف وجود الآخر عليه، ففي المثال: لا يتوقف الاحتراق إلاّ علی النار، وليس متوقفاً علی عدم الرطوبة، بل وجود الرطوبة حاجز، فهي بوجودها حاجز ومانع، وليس لعدمها تأثير في الاحتراق بل يكون المؤثر له حينئذٍ النار فقط، فتأمل.

الدليل الثاني - لاقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص - : الملازمة بين وجود أحد الضدين وعدم الآخر، فيتلازمان في الحكم.

وهذا الدليل يتوقف علی مقدمات ثلاث:

1- إثبات أن كل ضد ملازم مع عدم ضده الآخر، حيث لا يمكن اجتماع الضدين.

2- إثبات أن المتلازمين في الوجود متلازمان في الحكم، إذ اختلافهما فيه سبب عدم إمكان امتثالهما معاً، فيقع في المخالفة، مثلاً لو كان أحدهما

ص: 498

واجباً والآخر حراماً، فإن امتثل الوجوب خالف الحرمة، وكذا العكس، وعليه ففيما نحن فيه حيث ثبتت ملازمة وجود أحد الضدين مع عدم الآخر، كان طلبه ملازماً لطلب ترك ضده.

3- إثبات أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام.

مثلاً: الإزالة ملازمة لعدم الصلاة، فإذا وجبت الإزالة وجب عدم الصلاة، وإذا وجب عدم الصلاة حرمت الصلاة.

ولا يخفی أن البحث في هذا الدليل إنّما هو في المقدمة الثانية، وهو بحث كبروي، إذ المقدمة الأولی وهي البحث الصغروي لا كلام فيها، إنّما الكلام في أن التلازم هل يقتضي الموافقة في الحكم أم لا، كما أن الدليل الأول كان البحث فيه صغروياً بعد إثبات الكبری - وهي وجوب المقدمة - في بحث مقدمة الواجب، فيبحث في أن عدم أحد الضدين هل هو مقدمة أم لا.

وأورد عليه: أولاً: بأن عدم جواز الاختلاف لا يستلزم التوافق في الحكم، بل هناك شق ثالث، وهو خلوّ أحد المتلازمين عن الحكم، فلا اختلاف لانتفاء الموضوع.

إن قلت: من المسلّم به عدم خلو الوقائع عن الحكم.

قلت: ملاك عدم خلوّ الواقعة عن الحكم هو أن لا يبقی المكلّف متحيراً في مقام العمل، فإذا ارتفع التحيّر بطريق آخر - غير جعل الحكم - فلا إشكال علی خلوها عن الحكم، وفيما نحن فيه لا تحيّر للمكلّف عملاً، إذ بعد وجوب أحد المتلازمين لا يبقی المكلّف متحيراً بالنسبة إلی الآخر، وذلك لأنه لو امتثل الحكم تحقق هذا المتلازم قهراً.

ص: 499

وثانياً: بأن ما ذكر من سبب تلازمهما في الحكم - من عدم إمكان امتثالهما والوقوع في المخالفة لو اختلفا فيه - إنّما يجري فيما لو كان أحدهما واجباً والآخر محرماً، أما لو كان الآخر مباحاً فلا يحري المحذور.

وثالثاً: إن مقدمات الوجوب من الحب والإنشاء إنّما هي تتعلق بالشيء الذي فيه المصلحة، ولا تسري إلی غيره مما يلازمه حيث قد لا توجد فيه مصلحة فلا يتعلق به حب ولا إنشاء، فتأمل.

البحث الثالث: في ملاكات الضدين

ثم إن صور وجود الملاك في كلا الضدين متعددة(1)، وهي أن الضدين...

إما متساويان بحسب الملاك والمصلحة، أم لا بل كانت لأحدهما مزية، وعلی التقديرين الملاكان: إما موسعين أو مضيقين أو مختلفين...

الأول: أن يكونا موسعين، فلا تنافي بينهما، حيث يحكم العقل بكون متعلقيهما ذا مصلحة ملزمة مع إمكان إدراك الملاكين، وحيث كانا موسعين فيجوز تقديم أيٍّ منهما شاء، سواء تساوی الملاكان، أم كان لأحدهما مزية.

الثاني: أن يكون أحدهما موسعاً والآخر مضيقاً، فحيث يمكنه إدراك كلا الملاكين لزم تقديم المضيّق حتی لو كان الأهم هو الموسع.

الثالث: أن يكونا مضيقين فهنا صورتان:

ص: 500


1- نهاية الأفكار 1: 365.

الصورة الأولی: أن يتساويا في الملاك، فهنا شقان:

1- إن يكونا ضدين لا ثالث لهما، كالحركة والسكون، والنوم واليقضة، فالحكم هو التخيير بحكم العقل، ولا معنی للتخيير الشرعي، إذ لا مجال لإعمال المولوية أصلاً، إذ في ظرف ترك أحد الضدين يكون الآخر موجوداً قهراً، فلا معنی للبعث أصلاً.

وبعبارة أخری: الأمر التخييري بشيئين بعد أن كان مرجعه إلی المنع عن ترك المجموع، فلا جرم يختص بما إذا تمكن المكلّف من ترك كلا الأمرين، ولكن هنا حيث لا يتمكن من تركهما فلا وجه للمولوية، لا بالنسبة إلی ترك المجموع، ولا بالنسبة إلی ترك أحد الفعلين، وذلك لامتناع ترك المجموع حيث لابد من تحقق أحدهما قهراً.

2- أن يكونا ضدين ولهما ثالث، كانقاذ الغريقين، وكالصلاة والإزالة، فهنا ليس للمكلف ترك كلا الأمرين، بل يجب عليه الإتيان بأحدهما مخيراً بينهما تخييراً شرعياً، وذلك لأنه لا يمكن المنع عن تركهما - بإيجاب فعلهما - أما الوجوب التخييري فلا مانع عنه، بعد تمكن المكلف من الإتيان بأحدهما وكذا ترك جميعها، فحينئذٍ يكون مجال لإعمال الجهة المولوية بالأمر بينهما مخيراً.

الصورة الثانية: إذا كان أحدهما أهم والآخر مهم، فقد ذكر المحقق العراقي(1) أن الأمر بالأهم تام، والأمر بالمهم ناقص، أي لو اتفق انحفاظ المهم من جانب الأهم، فحينئذٍ يلزم حفظ المهم من سائر الجهات، نظير

ص: 501


1- نهاية الأفكار 1: 366-367.

الواجب التخييري الذي كان الأمر بكل واحد منهما أمراً ناقصاً بمعنی لزوم سدّ باب عدمه من سائر الجهات سوی الشقّ الآخر للواجب التخييري.

وبعبارة أخری: المنع عن بعض أنحاء تروكه - وهو الترك في حال ترك الآخر - مع أن الترك في حال الوجود الآخر هو تحت الترخيص.

وليس هذا من جهة تقييد الطلب أو المتعلّق، بل لجهة قصور نفس الوجوبين حينئذٍ في اقتضاء حفظ الوجودين علی الإطلاق حتی في حال وجود الآخر، وهذا القصور ناش عن ملاكيهما، حيث يضادان فيوجب ذلك خروج أحد الوجودين عن كونه ذا مصلحة عند تحقق الآخر، فيتحصل من ذلك حرمة تركهما ووجوب الإتيان بأحدهما.

وبهذا البيان أمكن الجمع بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم في رتبة واحدة، فأمر تام بالأهم وأمر ناقص بالمهم، أي حفظ المهم من سائر الجهات في ظرف انحفاظه من قبل ضده الأهم اتفاقاً.

وذلك لأن محذور عدم جواز الأمر بالضدين، إما في المولی حيث لا يمكن إرادة الضدين، وإما في العبد حيث لا يقدر علی الجمع بينهما، فيكون التكليف بهما تكليفاً بما لا يطاق.

فيكون المهم حينئذٍ كالواجب المشروط، فلو اتفقت الاستطاعة تحققت الإرادة والأمر بالحج، وإلاّ فلا، وفيما نحن فيه لو اتفق ظرف عدم الضد الأهم فإن الأمر بالمهم يكون مقتضياً لحفظ متعلقه من سائر الجهات - غير ضده الأهم - .

وعليه، فإنه أمكن الجمع بين الأمرين في رتبة واحدة، من دون الاحتياج إلی الترتب - الذي هو في رتبتين - .

ص: 502

أقول: لا يخفی أن هذا إنّما يكون حين ارتفاع الأمر بالأهم - لعجز أو غفلة ونسيان ونحوهما - وإلاّ فمع التمكن من الأهم والالتفات إليه لا يتحقق شرط وجوب المهم، فيكون نظير الواجب المشروط الذي لم يتحقق شرطه، فرجع الأمر إلی رتبتين، فإن مجرد العصيان لا يوجب ارتفاع الأمر بالأهم لتحقق شرط المهم. وسيأتي مزيد توضيح في بحث الترتب إن شاء الله تعالی.

البحث الرابع: في الضد العام

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام الذي هو نقيضه، أي ترکه؟

لا إشکال في صحة استعمال أحدهما مکان الآخر، فلا فرق بين أن يقول: (صلِّ) أو أن يقول: (لا تترك الصلاة)، فليس الکلام في صحة الاستعمال وإنّما في الاقتضاء.

وهذا الاقتضاء قد يراد به العينيّة أو التضمن أو الالتزام.

أما الأول: فالصحيح عدم العينيّة، لأن النهي هو الزجر، والأمر هو البعث والإرسال، ولا إشکال في عدم اتحادهما بل اختلافهما ماهوي.

نعم لو فسرنا النهي بأنه طلب نقيض الشيء، فلا إشکال في العينيّة، لأن معنی لا تشرب الخمر هو طلب ترك شربه.

وأما الثاني: وهو التضمن، فعلی القول بأن الأمر بالشيء هو طلب الفعل مع المنع عن النقيض - وبهذا يمتاز عن المستحب - يكون النهي عن ضده العام جزءاً من مفهومه.

وأشکل عليه: بأن الوجوب والاستحباب بسائط، فالوجوب مرتبة

ص: 503

شديدة من الطلب، والاستحباب مرتبة ضعيفة منه، ولا يراد من هذا التعريف إلا تقريب معنی الوجوب، لا بيان أنه مرکب، فإن مفهوم الوجوب شيء واحد لا شيئان، ومصداقه الخارجي شيء غير مرکب بل مرتبة شديدة من الطلب.

ويرد عليه: أن الکلام ليس في الوجوب حتی يقال ببساطته، وإنّما الکلام في الأمر.

فالأولی الإشکال بأن هذا المعنی المرکب لا يتبادر من لفظ الأمر - لا من صيغته ولا من مادته - بل يتبادر الطلب الشديد فحسب.

وأما الثالث: وهو الالتزام، فتارة يلاحظ الالتزام في الجعل، وأخری في الحب والبغض والإرادة والکراهة.

1- أما في عالم الجعل، فقد قيل(1): بأن الاعتبار فعل اختياري للمولی، فيكون منوطاً بمبادئه الاختيارية، فإن أريد حصول الاعتبار الثاني بالتوليد عن الاعتبار الأول من دون حصول مبادئه، فهو خلف کونه من الأفعال الاختيارية. وإن أريد أن الاعتبار الأول داعي للاعتبار الثاني بجعل النهي الغيري، فهو لغو، حيث إنه اعتبار غيري لا طاعة ولا داعوية له.

2- أما بلحاظ الحب والبغض والإرادة والکراهة - بمعنی أنه مع حب الشيء يتولد بغض لترکه - فهذا أمر ثابت بالوجدان، وعليه يثبت بالأمر بالشيء بغض ترکه والنهي عنه.

ويرد عليه: أولاً: إنه قد يكون للشيء وللازمه معاً اعتبار واحد، فلا

ص: 504


1- بحوث في علم الأصول 2: 316.

خلف ولا لغوية، مضافاً إلی کفاية اختيارية الاعتبار الثاني بکونه متولداً من الاعتبار الأول الاختياري، فانه کما يكون الفعل اختيارياً إذا کان بلا واسطة کذلك مع الواسطة.

وثانياً: بأنه لا لغوية في الاعتبار الثاني حتی لو فرض کونه غيرياً، لوجود جانب التأکيد والتحفيز فيه.

وثالثاً: بأن مجرد الحب والبغض والإرادة والکراهة لا تکون إنشاءً للأمر أو النهي، فإثبات البغض في الترك لا يكفي لإثبات النهي عنه.

البحث الخامس: ثمرة بحث الضد

فقد ذکر أنّ ثمرة البحث هي بطلان العبادة، بضميمة أن النهي عن العبادة يوجب الفساد، وقد ذکر للثمرة فرعان:

الأول: لو کانت العبادة موسعة وکان ضدها واجباً فورياً، کالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد مع کون ضدها هو صلاة الظهر في أول الوقت.

الثاني: لو کانا مضيقين مع کون ضد العبادة هو الأهم.

وأشکل علی هذه الثمرة بإشکالات، منها:

الإشکال الأول: بأن العبادة باطلة علی کل حال - سواء قلنا باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده أم لا - ، لأنه مع الأمر بضدها فلا أمر لها، لعدم إمکان طلب الضدين والأمر بهما، فتبطل العبادة لعدم الأمر بها.

وأجيب عنه بعدة أجوبة، منها:

الجواب الأول: - وهو خاص بالفرع الأول - بأنه للواجب الموسع أمر بالجامع، وهو يكفي في العبادية إذا لم يكن نهي، وذلك لأن الجامع ليس

ص: 505

ضداً للواجب المضيّق، وإنّما ضده خصوص الفرد المزاحم، فإذا أمر بالجامع فإن انطباقه علی الفرد المزاحم قهري، فيكون ذلك الفرد من مصاديق المأمور به، فيكون الإجزاء عقلياً.

وأشکل عليه المحقق النائيني(1): بأنّ الملاك في اشتراط القدرة في التکليف أحد شيئين:

1- إمّا حکم العقل بقبح تکليف العاجز، فيصح الجواب، لأن هذا القبح مرتفع بالتکليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور شرعاً، فلا يكون المکلَّف في حرج من التکليف، لإمکان إتيانه بالفرد المقدور.

2- وإمّا کون الخطاب في التکليف يقتضي اختصاص التکليف بالمقدور، حيث إن التکليف هو البعث، وذلك لا يكون إلا مع قابلية الانبعاث، إذ هما - البعث والانبعاث - شيء واحد حقيقة والاختلاف بالاعتبار کالإيجاد والوجود، فإذا استحال أحدهما استحال الآخر، وعليه فمع استحالة الانبعاث يستحيل البعث، ومع عدم القدرة يستحيل الانبعاث فلا تکليف، وحينئذٍ فإن نفس التکليف والخطاب يجعل الخطاب إلی الجامع خطاباً خاصاً بالفرد المقدور، حيث إن البعث والانبعاث لا يكون إلا بالنسبة إلی المقدور من الأفراد.

وأورد عليه بعدم الفرق بين الملاکين:

تارة: بالإمکان علی کليهما(2)، فإنه حتی علی الثاني يصح الأمر بالجامع

ص: 506


1- فوائد الأصول 1: 314.
2- مباحث الأصول 3: 58.

الشامل لغير المقدور، وذلك لأن الانبعاث نحو الجامع - وهو متعلق التکليف - مقدور فيكون البعث نحوه مقدوراً.

وتارة أخری - وهي الأصح - : بعدم الإمکان علی کليهما(1)، إذ لا يصح الأمر بالجامع علی کلا التقديرين.

أما علی الأول: - وهو قبح تکليف العاجز - فلأن تعلق الأمر بالجامع إنّما هو بالإطلاق، وهو غير معقول، وذلك لأن امتناع التقييد قد يلازم

استحالة الإطلاق، وقد يلازم ضرورته - حيث يمتنع قصر الحکم علی بعض الأفراد - ، وما نحن فيه من قبيل الأول، لأن استحالة ثبوت الحکم لغير المقدور ليس لأجل امتناع قصر الحکم علی بعض الأفراد، بل لأجل امتناع ثبوت الحکم له بالخصوص، وإذا استحال ثبوت الحکم لغير المقدور فهو ممتنع مطلقاً - سواء کان بعنوانه الخاص أو بعنوان مطلق - ، وعليه فالإطلاق ممتنع کالتقييد.

أما الثاني: فلأنه يرجع إلی قبح تکليف العاجز، وذلك لأن التکليف إنّما هو لأجل جعل الداعي، وذلك بمعنی جعل ما يمکن أن يكون داعياً، أي ما له اقتضاء الداعوية ولو لم يكن داعياً بالفعل، فيمکن حينئذٍ التکليف بغير المقدور لإمکان وجود المقتضي مع عدم تأثيره، کالنار بلا إحراق، إلاّ أن جعل مقتضی الداعوية حينئذٍ لغو لعدم ترتب الأثر عليه، فيكون قبيحاً، فرجع إلی قبح تکليف العاجز لکونه لغواً، لا لعدم إمکانه.

الجواب الثاني: کفاية وجود الملاك في صحة العبادة، ويتحقق التقرب

ص: 507


1- منتقی الأصول 2: 368.

بذلك، لعدم اشتراطه بقصد الأمر، بل يكفي فيه قصد الملاك، نعم مع وجود النهي لا يكفي الملاك، إذ النهي في العبادة موجب لفسادها حتی مع وجود الملاك.

وعليه فحتی لو لم يكن أمر بالصلاة المزاحمة بالإزالة - مثلاً - إلاّ أنّها صحيحة لوقوعها عبادةً بقصد ملاکها.

وأما طريق إحراز الملاك فأمران:

الطريق الأول: الدلالة الالتزامية لصيغة الأمر، وذلك لأن لها دلالتان: مطابقية وهي طلب الفعل، والتزامية وهي وجود الملاك، إذ الأحکام تابعة لملاکاتها، ولولاها لم يصدر حکم عن الشارع، وعليه: فإن سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بالتعارض أو التزاحم لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية، لعدم التلازم بين الدلالتين سقوطاً.

وفيه: أن التبعية وعدمها يرتبط بظهور اللفظ وعدمه...

1- فقد يكون للّفظ ظهور في الدلالة الالتزامية حتی مع سقوط المطابقية بالتعارض أو التزاحم، کما لو تعارض خبران في الوجوب والحرمة فتسقط دلالتهما وحجيتهما في کل واحد من الحکمين، مع بقاء الظهور في الدلالة الالتزامية بنفي الحکم الثالث کالاستحباب - مثلاً - ، وکما لو تعارضت البينتان في أن البائع باع لزيد أم لعمرو، فسقوط الدلالة المطابقية لا تعني سقوط الدلالة الالتزامية بوقوع البيع، وأن الحق لا يعدوهما، فتصل النوبة إلی الأدلة الأخری، کقاعدة العدل والإنصاف ونحوها.

2- وقد لا يكون ظهور، فلا حجية للدلالة الالتزامية حينئذٍ، کما لو أخبر بطلوع الشمس، ولازمه وجود النهار، فمع العلم بخطأ خبره لا ظهور في

ص: 508

الدلالة الالتزامية.

ولا فرق في ذلك بين کون الدلالة الالتزامية بالوضع أم بحکم العقل أم بغيرهما، کما لا فرق في کون سقوط الدلالة المطابقية بالمنفصل أو المتصل، نعم مع کون المخصِّص متصلاً فعدم الظهور أوضح.

وفيما نحن فيه: مع سقوط الأمر بالمزاحمة لا يبقی ظهور للّفظ في وجود الملاك أصلاً، وخاصة بضميمة ما قيل: من أن اشتراط القدرة مخصِّص متصل، فکما يهدم الحجية کذلك يهدم أصل الظهور.

الطريق الثاني: إحراز الملاك عبر إطلاق المادة، وهو ما قد يظهر من عبارات المحقق النائيني(1)، وذلك لأن صيغة الأمر في مثل (صلّ) دلّت علی ثبوت شيئين: الحکم - وهو الوجوب - وذلك بدلالة وضعيّة، والملاك بدلالة حالية بالإطلاق المقامي، فتکون کلا الدلالتين مطابقية.

وحينئذٍ فإن سقوط إحدی الدلالتين المطابقيتين - وهي الحکم - إنّما هو بسبب اشتراط القدرة، سواء کان السقوط لأجل قبح تکليف العاجز، أم لأجل اقتضاء الخطاب لإمکان الانبعاث، وهذا الاشتراط لا يرتبط بالملاك، إذ لا قبح في وجود الملاك في العاجز، کما أن الملاك لا داعوية له للانبعاث، وعليه: فلا يمکن تقييد الملاك بصورة عدم المزاحمة، التي تتحقق بها القدرة الشرعية علی امتثال الخطاب.

نظير اشتراط التکليف بکون متعلقه محلاً للابتلاء، فعدم الابتلاء لا يكشف عن عدم الملاك في تلك الحال.

ص: 509


1- أجود التقريرات 2: 25-28.

نعم لو صرّح المولی باشتراط القدرة، کما لو قال: (حج إن استطعت)، أو قال: (تيمم إن فقدت الماء)، فحينئذٍ لا معنی لأخذ قيد في متعلق الطلب إثباتاً مع عدم دخله ثبوتاً.

وفيه: أولاً: عدم دلالة الخطاب علی الملاك بالمطابقة أصلاً، فمثل (صلّ) لا دلالة مطابقية له علی کونه ذا ملاك، وإنّما هي دلالة التزامية ناشئة عن علمنا بأن المولى حكيم، فرجع إلی الأول.

وثانياً: لا فرق بين التصريح باشتراط القدرة وعدمها، فلو سلّم الدلالة المطابقية للملاك فيمکن أن يقال: إنّ التصريح باشتراط القدرة إنّما هو لدخلها في الوجوب مثلاً، ولا تکشف عن عدم وجود الملاك في حال عدم القدرة، بل تکشف عنه ولکن لا بمرتبة الوجوب، فتأمل.

فتحصل: أنه لا طريق لإحراز الملاك، کما لا يبقی الأمر حين المزاحمة، فلا وجه لتصحيح العبادة حينئذٍ لعدم الأمر ولعدم الملاك، فرجع الإشکال بعدم الثمرة، إذ العبادة باطلة سواء قلنا باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده أم عدم الاقتضاء.

الإشکال الثاني - علی الثمرة - : صحة العبادة مطلقاً سواء قلنا باقتضاء الأمر للنهي عن ضده أم لا(1)، وذلك لأن العبادة وإن کانت منهياً عنها، إلا أن النهي المتعلّق بها غيري، ناشئ عن مقدمية ترکها للمأمور به أو ملازمته لها، وليس ناشئاً عن مفسدة في نفس متعلقه، کي يكون مزاحماً لما فيه من المصلحة وموجباً لاضمحلالها.

ص: 510


1- فوائد الأصول 1: 316.

إن قلت: لا طريق لنا إلی إحراز الملاك، لتعارض الأمر بالإزالة مع الأمر بالصلاة، وبعد تقديم الإزالة - إما لضيق وقتها أو لأهميتها - لم يبق مجال لاستکشاف الملاك، کما هو في سائر موارد التعارض؟

قلت: إن المقام ليس من باب التعارض بل هو من باب التزاحم.

ويرد عليه: أولاً: ما هو المقصود بالملاك؟

1- فإن کان المقصود المحبوبية الذاتية، فمن الواضح أن النهي - حتی الغيري منه - يستلزم مبغوضية العمل، ولو لأجل المفسدة في الغير، فلا يكون محبوباً، فلا يكون مقرباً، فلم تتحقق العبادية.

2- وإن کان المقصود المصلحة، فإن مجرد المصلحة لا توجب تقرباً إلی المولی لو لم ترتبط به، کمن يأتي بالصالحات لفائدتها الدنيوية، أو دفعاً للحرج، لا لأمر المولی، مضافاً إلی أنه بعد سقوط الأمر لا طريق لإحراز المصلحة أصلاً.

وثانياً(1): إن إدخاله في باب التزاحم محل تأمل، وذلك لأنه بناءً علی اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده، يكون الأمر بکل ضد موجباً للنهي عن ضده الآخر، فيتعارضان في وجود المصلحة أو المفسدة، وأما بناءً علی عدم الاقتضاء فعلی عدم القول بالترتب لا طريق لإحراز الملاك في الضد الآخر فيتعارضان أيضاً، نعم علی القول بالترتب يكون من قبيل التزاحم لوجود الأمر والملاك في کليهما، فتأمل.

ص: 511


1- مباحث الأصول 3: 63-64.

ص: 512

فهرست الموضوعات

بحوث تمهيديّة

فصل في تعريف علم الأصول

التعريف الأول8

التعريف الثاني20

التعريف الثالث22

التعريف الرابع23

فصل في الوضع

البحث الأول: في معنى الوضع25

البحث الثاني: في الواضع37

البحث الثالث: أقسام الوضع39

التقسيم الأول: التقسيم باعتبار منشأ الوضع40

التقسيم الثاني: التقسيم باعتبار المعنى43

1- الوضع العام والموضوع له العام43

2- الوضع الخاص والموضوع له الخاص46

3- الوضع العالم والموضوع له الخاص46

أقسام الوضع العام والموضوع له الخاص51

الاشتراك اللفظي أم المعنوي؟52

4- الوضع الخاص والموضوع له العام53

وبيان وجه الاستدلال على استحالته53

الاستدلال على إمكانه57

ص: 513

البحث الرابع: في المعنى الحرفي59

المطلب الأول: في معنى الحروف59

المبنى الأول: عدم وضع الحروف لمعنى60

المبنى الثاني: كون الحروف كالأسماء61

المبنى الثالث: اختلافهما بالذات70

المطلب الثاني: في كيفية الوضع للحروف80

المطلب الثالث: ثمرة البحث في المعنى الحرفي83

البحث الخامس: في الإنشاء والإخبار85

المقام الأول: معنى الإنشاء والإخبار85

المقام الثاني: الفارق بين الجمل الإخبارية والإنشائية92

الأمر الأول: في الجمل المختصة بالإنشاء92

الأمر الثاني: في الجمل المشتركة بين الإنشاء والإخبار96

المقام الثالث: في كيفية الإيجاد في العقود97

البحث السادس: الأسماء الملحقة بالحروف98

فذلكة106

البحث السابع: في هيأة الجُمل108

البحث الثامن: هل الدلالة تتبع الإرادة؟110

فصل في الاستعمال

المقام الأول: في معنى الاستعمال113

المقام الثاني: في كيفية الاستعمال115

المقام الثالث: استعمال اللفظ وإرادة شخصه أو صنفه أو نوعه115

فصل في علائم الحقيقة والمجاز

العلامة الأولى: تنصيص أهل اللغة118

العلامة الثانية: التبادر120

العلامة الثالثة: عدم صحة السلب122

ص: 514

العلامة الرابعة: الاطّراد126

فصل في الحقيقة الشرعية

البحث الأول: الأقوال في الحقيقة الشرعية130

البحث الثاني: كيفية تشخيص مراد الشارع134

البحث الثالث: زمان الاستعمال135

فصل في الصحيح والأعم

المبحث الأول: في العبادات137

المطلب الأول: في تصوير النزاع137

المطلب الثاني: في معنى الصحة140

المطلب الثالثة: في تصوير الجامع145

1- تصوير الجامع على الصحيح146

2- تصوير الجامع على الأعم157

المطلب الرابع: ثمرة البحث161

المطلب الخامس: أدلة الطرفين166

1- من أدلة القائل بالصحيح166

2- من أدلة القائل بالأعم169

المبحث الثاني: في المعاملات172

المطلب الأول: في تحرير محل النزاع172

المطلب الثاني: في ثمرة النزاع في المعاملات178

المقام الأول: في الثمرة على القول بأن المعاملة اسم للسبب178

المقام الثاني: في الثمرة على القول بأن المعاملة اسم للمسبَّب180

المبحث الثالث: في الجزء المستحب في العمل الواجب182

ص: 515

فصل في الاشتراك اللفظي

فصل في استعمال اللفظ في أكثر من معنى

البحث الأول: في بيان الثمرة189

البحث الثاني: في تحرير محل النزاع190

البحث الثالث: في إمكانه وامتناعه192

البحث الرابع: في وقوعه195

البحث الخامس: في التثنية والجمع197

البحث السادس: في بطون القرآن الكريم199

البحث السابع: في قصد المعاني في الصلاة202

فصل في المشتق

الأمر الأول: في أصولية المسألة205

الأمر الثاني: في المتلبس في الاستقبال205

الأمر الثالث: في محلّ البحث206

الأمر الرابع: في معنى المشتق208

1- المشتق الأصولي غير الصرفي209

2- المشتق الصرفي غير الأصولي211

المورد الأول: ما لا يعقل انفكاكه عن الذات211

المورد الثاني: اسم الزمان212

المورد الثالث: المصدر واسم المصدر214

المورد الرابع: الأفعال215

المورد الخامس: ما لم يكن فعلاً216

الأمر الخامس: في معنى الحال المأخوذ في العنوان218

الأمر السادس: في تعيين الأصل العملي221

المطلب الأول: في المسألة الأصولية221

المطلب الثاني: في المسألة الفرعية222

ص: 516

الأمر السابع: في بساطة أو تركب المشتق224

الجهة الأولى: في المقصود من التركب والبساطة224

الجهة الثانية: المأخوذ في حقيقة المشتق225

الجهة الثالثة: من أدلة البساطة228

الأمر الثامن: الأقوال في المشتق231

1- من أدلة القول بأنه لخصوص المتلبس231

2- من أدلة القول بالأعم234

الأمر التاسع: في صفات الباري تعالى237

الأمر العاشر: في دلالة الفعل على الزمان240

المقصد الأول في الأوامر وفيه فصول

فصل في مادة الأمر

المطلب الأول: في معنى الأمر247

المطلب الثاني: في اشتراط العلّو والاستعلاء250

المطلب الثالث: في منشأ دلالة الأمر على الوجوب252

ثمرة البحث في منشأ الدلالة على الوجوب257

المطلب الرابع: في الطلب والإرادة260

المقام الأول: في تغاير الطلب والإرادة261

الأمر الأول: في عدم كون النزاع لفظياً261

الأمر الثاني: من أدلة القائلين بالتغاير262

الأمر الثالث: هل المصلحة هي في الطلب أم في متعلقه؟269

الأمر الرابع: أنحاء المانعية274

المقام الثاني: في نفي الجبر276

ص: 517

فصل في صيغة الأمر

المبحث الأول: في مدلول صيغة الأمر281

المبحث الثاني: في مدلول الصيغة285

المقام الأول: في دلالتها على الوجوب285

المقام الثاني: في استعمال الصيغة في الوجوب والاستحباب معاً288

المبحث الثالث: في دلالة الجملة الخبرية على الوجوب290

المطلب الأول: في كيفية دلالتها على الطلب290

المطلب الثاني: في دلالتها على الوجوب292

المطلب الثالث: في أنواعها293

المبحث الرابع: في اقتضاء الصيغة المباشرة أو التسبيب أو الأعم294

المقام الأول: الأصل اللفظي295

المقام الثاني: الأصل العملي298

المبحث الخامس: في اقتضاء الصيغة صدور الفعل عن اختيار أم عدمه300

المبحث السادس: في سقوط التكليف بالفعل المحرّم وعدمه304

المبحث السابع: في التوصلي والتعبدي306

المطلب الأول: قصد الأمر306

المطلب الثاني: قصد المحبوبية أو الملاك315

المطلب الثالث: دفع المحذور بتعدد الأمر318

المطلب الرابع: مقتضى الأصل اللفظي والعملي323

المقام الأول: في الإطلاق اللفظي323

المقام الثاني: في الإطلاق المقامي327

المقام الثالث: في الأصل العملي328

المطلب الخامس: أصالة التعبدية330

المبحث الثامن: دلالة الأمر على الوجوب النفسي التعييني العيني332

المبحث التاسع: الأمر عقيب الحظر333

ص: 518

المبحث العاشر: في المرّة والتكرار336

الأمر الأول: المراد من المرة والتكرار336

الأمر الثاني: الدلالة على الطبيعة337

الأمر الثالث: في تكرار الامتثال339

المقام الأول: تعدد الامتثال339

المقام الثاني: هدم الامتثال340

المقام الثالث: تبديل الامتثال340

المبحث الحادي عشر: في الفور والتراخي346

فصل في الإجزاء

المقام الأول: إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي350

المرحلة الأولى: البحث الثبوتي351

المرحلة الثانية: البحث الإثباتي353

الموضع الأول: في الإعادة353

الموضع الثاني: في القضاء360

المقام الثاني: إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي362

البحث الأول: انكشاف الخلاف بالعلم363

البحث الثاني: انكشاف الخلاف بأمارة شرعية372

دليل عدم الإجزاء372

أدلة الإجزاء373

البحث الثالث: في انكشاف الخلاف بالأصل376

تكملة: في عدم إجزاء القطع380

فصل في مقدمة الواجب

البحث الأول: في أصولية المسألة382

البحث الثاني: في تقسيمات المقدمة386

التقسيم الأول: تقسيمها إلى مقدمة داخلية وخارجية386

ص: 519

1- أما الأجزاء الداخلية386

المقام الأول: هل الأجزاء مقدمة داخلية؟386

المقام الثاني: في دخول المقدمة الداخلية في البحث387

2- أما المقدمة الخارجية391

التقسيم الثاني: تقسيم المقدمة إلى عقلية وشرعية وعادية392

التقسيم الثالث: تقسيمها إلى مقدمة الوجود والوجوب والصحة والعلم394

التقسيم الرابع: تقسيم المقدمة إلى متقدمة ومقارنة ومتأخرة397

الموطن الأول: الشرط المتأخر للحكم التكليفي أو الوضعي398

الموطن الثاني: الشرط المتأخر للواجب401

فرع: في غسل المستحاضة402

الموطن الثالث: الشرط المتقدم404

البحث الثالث: تقسيمات الواجب405

التقسيم الأول: تقسيمه إلى مطلق ومشروط405

المرحلة الأولى: في الغرض وفي الإرادة من المولى405

المرحلة الثانية: في رجوع الشرط إلى الوجوب408

المقام الأول: في إشكالات على رجوع القيد إلى الهيأة408

المقام الثاني: في الإشكال على رجوع القيد إلى المادة410

المقام الثالث: في الثمرة في رجوع القيد إلى الهيأة أو المادة410

استثناءان:411

الاستثناء الأول: في المعرفة411

الاستثناء الثاني: في المقدمات المفوتة413

المقام الرابع: في دوران الأمر بين رجوع القيد إلى الهيأة أو المادة417

التقسيم الثاني: تقسيم الواجب إلى المنجز والمعلّق422

الأمر الأول: في صحة هذا التقسيم423

الأمر الثاني: في استحالة الواجب المعلّق وإمكانه424

ص: 520

تتمتان430

التقسيم الثالث: تقسيمه إلى الواجب النفسي والغيري431

الأمر الأول: في تعريفهما431

الأمر الثاني: في الشك في النفسية والغيريّة433

المقام الأول: في مقتضى الأصل اللفظي433

المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي437

الأمر الثالث: في استحقاق العقاب على الأوامر الغيرية440

الأمر الرابع: في الطهارات الثلاث445

تنبيهان:452

التنبيه الأول452

التنبيه الثاني453

البحث الرابع: في المقدمة الموصلة454

الجهة الأولى: في متعلق أصل الوجوب454

الجهة الثانية: في متعلق الوجوب الغيري في المقدمة الموصلة467

الجهة الثالثة: في ثمرة المقدمة الموصلة471

البحث الخامس: ثمرة بحث المقدمة475

البحث السادس: دليل وجوب المقدمة479

المقام الأول: في تأسيس الأصل479

المقام الثاني: في أدلة الأقوال483

البحث السابع: مقدمة المستحب والحرام والمكروه486

فصل في الضد

البحث الأول: في أصولية المسألة490

البحث الثاني: في الضد الخاص491

البحث الثالث: في ملاكات الضدين500

البحث الرابع: في الضد العام503

ص: 521

البحث الخامس: ثمرة بحث الضد505

فهرست الموضوعات513

ص: 522

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.