المسائل المنتخبة المجلد 2

هوية الکتاب

جمَمِيعُ الحُقُوقِ محَفُوظَة

الطَّبعَةُ الثَّانِيَة

مَزِيدَة ومُنقَّحَة

1424ه- / 2003م

النَّجف الأشرف

آيت الله العظمي السيد علاءالدين الموسوي الغريفي دامت برکاتة

ص: 1

اشارة

جمَمِيعُ الحُقُوقِ محَفُوظَة

الطَّبعَةُ الثَّانِيَة

مَزِيدَة ومُنقَّحَة

1424ه- / 2003م

تنبيه مهم

على كل من لديه هذا الكتاب لطبعته الأولى الاعتماد على هذه الطَّبعة في التَّصحيحات والتَّفاوتات الفتوائيَّة الحديثة والله الموفِّق.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

« وَقُلْ اِعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ

وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنُون » التَّوبة / 105

صَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيمُ

عَنْ الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: -

((تَفَقَّهُوا في دِينِ اللهِ فَإِنْ الفِقْهَ مِفْتَاحُ البَصِيرَةِ وَتَمَامُ

العِبَادَةِ وَالسَّببُ إِلى المَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ وَالرُّتَبِ الجَلِيلَةِ في

الدِّينِ وَالدُّنيَا، وَفَضْلُ الفَقِيهِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِ

الشَّمْسِ عَلَى الكَوَاكِبِ وَمَنْ لَمْ يَتَفَقَّه في دِينِهِ

لَمْ يَرْضَ اللهُ لَهُ عَمَلاً))

تحف العقول / 307

ص: 3

بِسْمِهِ تَعَالَى شَأنُهُ

وَلَهُ اَلحَمْد وَالمَجْد

لا بأس بالعمل بهذه الرِّسالة الشَّريفة المختصرة، الملخِّصة لرسالتنا الموسعَّة المسمَّاة ب- (غنية المتَّقين في أحكام الدِّين) مع مراعاة الاحتياط جهد الإمكان، فإنَّه مجز ومبرئ للذمَّة إنشاء الله تعالى.

النَّجف الأشرف

ص: 4

المُقَدِّمَةُ العَامَّة لِلمَسَائِل المُنْتَخَبَة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

الحمد لله ربِّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، ومتحفهم بالشَّرع المبين، على يد خاتم الأنبياء والمرسلين، ومن خلَفه من بعده - من حفظة شرعه - الأئمَّة الغر الميامين، ومن ناب منابهم - ممَّن سار على نهجهم، من فقهاء الأمَّة والعلماء العاملين، ثمَّ الصَّلاة والسَّلام على النَّبي الصَّادق الأمين، وآله الطَّيبين الطَّاهرين، وصحبه المنتجبين، ومن تلاهم من خيار التَّابعين وحواري المعصومين، واللَّعنة الدَّائمة على أعدائهم من الآن إلى يوم الدِّين.

وبعد فيقول العبد الفقير إلى الله الغني المُغني (علاء الدِّين) نجل العلاَّمة الجليل الحجَّة السَّيد موسى الموسوي البحراني الغُريفي ((دام ظلُّه))، إنَّه قد طلب منِّي الكثيرون - من أعزَّائنا من الأخوة والأبناء المؤمنين في كثير من الأماكن وبإلحاج شديد - إبراز شيء ممَّا استقرَّ عليه رأينا ورجَّحه نظرنا القاصر في مجال الأمور الفقهيَّة كعادتهم في طلبهم ذلك منَّا في المجالات الأخرى سابقاً لحسن ظنِّهم بنا، فلم يسعنا التَّخلُّص منهم إلاَّ باختصار رسالتنا العمليَّة المسَّماة ب- (غُنية المتَّقين في أحكام الدِّين) قبل إظهارها للطَّبع.

فاخترناها لهم على أن لا تخرج عن طور التَّكريم للفقهاء الأكابر المعاصرين المنظورين بالاعتبار بمحاولة التَّقريب بين فتاوانا وفتاواهم جهد الإمكان ولو بالنَّحو الاحتياطي، ولهذا ميّزناها بكثرة الاحتياط الممكن وسمَّيناها ب- (المسائل المنتخبة)، لينتفع بها أكبر عدد ممكن.

وقد رتَّبناها على جزأين (عبادات ومعاملات) وجعلنا قبلهما المقدِّمات، وهي أقسام ثلاثة: -

الأوَّل: مقدِّمات قبل طرح الرِّسالة في ثماني عشرة نبذة لها علاقتها المهمَّة بها.

ص: 5

الثَّاني: مقدِّمات التَّفقُه في الدِّين، وهي الاجتهاد والتَّقليد والاحتياط.

الثَّالث: مقدِّمات العبادات وما يلحق بها من المعاملات، وهي الطَّهارة بالمعنى العام.

فأسأل الله تعالى أن تكون محقِّقة لرغبة الرَّاغبين المحتاجين خالصة لوجهه الكريم، ومحفوفة بعناية صاحب الأمر وولي العصر إمامنا الثَّاني عشر عجَّل الله تعالى فرجه وسهَّل مخرجه الشَّريف وجعلنا من أنصاره وأعوانه إنَّه سميع مجيب.

النَّجف الأشرف

1 جمادى الآخرة علاء الدِّين الموسوي

1420ه-

الغُريفي

ص: 6

المُقدِّمَةُ الخَاصَّة بِأَمْرِ المُقَدِّمَاتِ العَامَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

وَبِهِ نَسْتَعِينِ

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على محمد وآله الطَّيبين الطَّاهرين، وبعد: -

فهذه مواضيع المقدِّمات الدِّينيَّة العامَّة قبل البدء بالرِّسالة في عباداتها ومعاملاتها العائدة لها من حيث العموم، إخترناها مفصولة قبل البدء بتلك الرِّسالة في هذه المقدِّمة الخاصَّة، لتيسيرها لطلاَّبها مستعجلاً كما مضى بيانه في المقدِّمة العامَّة، وهي على ثلاثة أقسام:-

ص: 7

ص: 8

نُبَذٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الرِّسَالةِ العَمَليَّة

اشارة

ص: 9

ص: 10

القسم الاول في ُبَذٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الرِّسَالةِ الفقهيَّة العَمَليَّة

بالرغم من أنَّنا آلينا على أنفسنا في هذه الرِّسالة المختصرة بكلا جزئيها الأوَّل والثَّاني من الاختصار في كلِّ أمورها مقدِّمات وغايات، إلاَّ أنَّه - ولبعض ضرورات وقتيَّة هامَّة - لابدَّ من بيان نُبذ قد تكون مقدِّمة لها شأنها الكبير لهذه الرِّسالة ليستفيد منها القارئ المثقَّف - فضلاً عن البسيط في ثقافته - ويستنير بها العامِّي في معلوماته.

فنقول و بالله الإستعانة: -

النُّبْذَةُ الأُولَى فِيمَا يَجِبُ إِحْرَازُه عَلَى المُتَفقِّهِين مِنَ الاِعْتِقَادِيَّات

إنَّ هذا الموضوع من المواضيع المهمَّة في بابها والقابلة للإطالة في الكلام عنها لما فيه من تشكيك الجهلة وذوي العقول النَّاقصة والرِّد عليها، وقد أشبعنا ذلك -والحمد لله - في الرِّسالة الموسَّعة، لذا نكتفي هنا بالإيجاز في ذلك، لئلاَّ نخرج عن الطَّور الَّذي صمَّمنا عليه هنا.

فنقول: إنَّه يجب عقلاً - كما أرشد إليه الكتاب والسُّنَّة - على كلِّ مكلَّف ومسؤول شرعاً بالفقهيَّات (عبادات ومعاملات) أن يعتقد بعقائد الإسلام العزيز - قبل العمل بالفقهيَّات - وبما يلحق بها من توابع الاعتقاد الحق اللازمة المفصَّلة في محلِّها من علم الكلام وأصول العقائد، وفي الجزء الأوَّل من رسالتنا العمليَّة الكبيرة وغيرهما، لا بنحو كونه مقدِّمة مقوِّمة للفقاهة وإنَّما ذلك لوجوب إحراز أحسن الاعتقاد لتصحيح العمل الفقهي كما سيتَّضح.

وهذه العقائد هي الأصول الثَّلاثة - المعروفة - بإجماع كافَّة المسلمين، وهي: -

ص: 11

1- التَّوحيد، وهو اعتقاد المكلَّف وإذعانه بأنَّه لابدَّ لهذه المخلوقات المختلفة الَّتي حولنا من إله واحد ورب صمد، يدبِّر ويدير أمورها، خاضعة عابدة له، بلا شريك يزاحمه، ولا وزير يسانده، ولا والد يعاضده، ولا ولد يدعو له ويمتثل أمره، متَّصف بكافَّة صفات الكمال، ومنزَّه عن سيئ المقال ]سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون[، ألاَ وهو ( الله ) جلَّت أسماؤه وعظمت آلاؤه، ويكفي فيها - لعصمة دم المكلَّف وماله وعرضه - الإقرار بلسانه بأنَّه (لا إله إلاَّ الله ).

2- النُّبوة، وهي الاعتقاد والإذعان بأنَّه لابدَّ لخالق البشر من مبعوثين يبعثهم رحمة منه لأممهم - من جنسهم وعلى لسانهم، متمتِّعين بكلِّ فضيلة، ومعصومين عن كلِّ خطيئة، ومنزَّهين عن كلِّ رذيلة - بواسطة وحي منه، يسمعون منهم التَّبليغ.

وقد جهَّزهم بمعاجز وآيات، خارقات للعادات، تُثبت صحَّة دعواهم، وتشهد بصدق كلامهم، ليكونوا هداة لإطاعته، ودعاة لعبادته، وقادة لشرائعه، ومبشِّرين بثواب خير الأعمال، ومنذرين بعقاب سوء الأفعال، ألاَ وهم الأنبياء الصَّالحون والأتقياء المخلِصون.

وهم على ما ورد عن أهل بيت العصمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (مائة وأربعة وعشرون ألف نبي)، يصدِّق بعضهم بعضاً، ويبشِّر السَّابق منهم ببعثة اللاحق، أوَّلهم أبو البشريَّة جمعاء (آدم) عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ .

اختار منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر - على ما ورد في بعض الرِّوايات - أعلى منهم مرتبة وأسمى درجة، أبلغهم تعالى مقام الرِّسالة إلى عباده، وفضلَّهم بمشاهدة وحيه.

ثمَّ انتخب منهم خمسة، يُسمَّون بأولي العزم، تميَّزوا عنهم بأمرين: -

الأوَّل: أنَّ لكل واحد منهم كتاباً وشريعة مستقلِّة عن غيرها وناسخة لإحكامها.

الثَّاني : إتِّباع الأنبياء المعاصرين لهم أو بعض المتأخِّرين عنهم إيَّاهم.

وهم بحسب ترتيبهم الزَّمني (نوح، وإبراهيم، وموسى - وعيسى - و محمد) على نبيِّنا وآله وعليهم أفضل الصَّلاة والسَّلام، ما بين عهد كل منهم خمسمائة عام أو ما يزيد شيئاً عن ذلك.

ثمَّ اصطفى منهم ( محمد بن عبد الله ) ليكون خاتماً للنَّبيين، وسيِّداً للمرسلين، ولتكون شريعته أفضل الشَّرائع - لاستجابتها لاحتياجات البشر كلِّها حتَّى نهاية العالم - ومعجزته

ص: 12

(القران) أرقى المعاجز، وخير برهان على إعجازه الدَّائم أنَّه لا يزال خالداً صحيحاً معتبراً في نصوصه، وصدى صوته يُدّوي في كل أرجاء المعمورة، تحدَّى به حامله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في عصر نزوله كافَّة خبراء أهل الفصاحة والبلاغة وإلى الآن وإلى قيام السَّاعة.

وبذلك يكفي للعصمة المذكورة لكل مكلَّف في حقن ماله ودمه وعرضه - كما مرَّت الإشارة إليه - إضافة إلى كلمة التَّوحيد شهادة (أنَّ محمداً رسول الله )، وهي المسمَّاة مع كلمة التَّوحيد بالشَّهادتين اللتين يجب الإقرار بهما.

3- المعاد يوم القيامة، وهو الاعتقاد والإذعان بأنَّه لابدَّ من يوم تُعاد فيه الأرواح إلى الأجسام بعد موتها، ليجزي الله فيه كل امرئٍ على أعماله، ويعوِّضه عن كل أفعاله بما يناسبها من طاعة أو معصية، فيأخذ كل ذي حق حقَّه من الثَّواب أو العقاب.

فمن لم يعتقد بهذه الأمور - الثَّلاثة - لا تصحُّ منه أعماله العباديَّة وإن لم تسقط عنه على ما هو معروف ومشهور، كما توسَّعنا في الكلام عنه في كتابنا (غاية المسؤول التَّكليف بالفروع للكفَّار بالأصول).

وبإضافة أصلين في مذهبنا الحق - مذهب الإماميَّة ومن تبعهم فيهما من بعض المذاهب الإسلاميَّة - لتصبح خمسة ولتسمَّى بأصول الدِّين والإيمان وهما: -

1- العدل، وهو الاعتقاد والإذعان بأنَّ الله حكيم لا يفعل القبيح، لامتناعه عنه تعالى - مع القدرة عليه -، ولا يخِلُّ بواجب، وبأنَّه غني يستحيل عليه الحاجة، وتصدر كل أفعاله عن غرض وإرادة.

ومن عدله أنَّ أمره لعباده بالطَّاعات ونهيه إيَّاهم عن المعاصي كان على وجه اختيارهم وإرادتهم، ليحيا من حيَّ عن بيِّنة، ويهلك من هلك عن بيِّنة، لا على نحو الإجبار كما يقوله الأشاعرة.

2- الإمامة، وهي الاعتقاد والإذعان بأنَّه لابدَّ من تنصيب وتعيين إلهي - بواسطة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووصاية منه - لإمام يقوم مقامه - بعد ختم نبوَّته ورسالته - ليكون امتداداً لأداء رسالته، وحافظاً لشريعته، وموضِّحاً لسنَّته، وقائداً لأمَّته، ورئيساً في الدِّين والدُّنيا لرعيَّته، حتَّى أنَّه قال صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهليَّة)).

ويمتاز صاحب هذا المنصب الإلهي بمؤهِّلات كمؤهِّلاته صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وخصائصه - عدا النُّبوة

ص: 13

والرِّسالة - من الاستقامة والعصمة والعلميَّة والكرامات وغيرها، لكي يصبح بعد الرَّسول صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قريناً للثِّقل الأكبر وهو القرآن الكريم كما قال صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ((إنِّي مخلِّف فيكم الثَّقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلِّوا بعدي أبداً وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا علي الحوض)) كما كان أهلاً لذلك في حياته.

وبطبيعة الحال أنَّ لزوم هذا التَّعيين - الَّذي جاء على لسان آيات كثيرة منها ]يَا أَيُّهَا اَلذَينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [ - وإعلانه الرَّسمي بين الملأ - بأمر مولوي شديد في قوله عزَّ من قائل ]يَا أيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ الله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ - ممَّا يقتضيه لطف الله وحكمته البالغة كي تبقى الأمَّة سائرة على هدى نبيِّها تامَّاً - وكي لن تضلَّ أبداً ما دام موجوداً على هذه الأرض - ببيان - صاحب هذا المنصب - الحقائق الدِّينيَّة وتطبيقه الأحكام الإسلاميَّة وتنفيذه التَّشريعات الاجتماعيَّة وغيرها من لوازم الحياة الشَّرعيَّة الأخرى.

وكان أوَّل من صرَّح النَّبي باسمه - بعد الإشارة إليه في مواقف ومواطن عديدة - مولى للمسلمين هو مولانا علي بن أبي طالب عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ، بل خصَّه بكونه أميراً للمؤمنين، وكان ذلك على رؤوس الأشهاد تنفيذاً لأمر ربِّه في رجوعه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من حجَّة الوداع في موضع غدير خم - باتِّفاق كافَّة المؤرِّخين المنصفين من العامَّة إضافة إلى نصوصنا الخاصَّة - عندما سأل أصحابه ومرافقيه - خلال إلقائه خطبته الطَّويلة المعروفة في حجَّة الوداع - بقوله ((ألست أولى بكم من أنفسكم)) قالوا ((بلى)) فأخذ النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بكتف علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ورفعه أمام النَّاس وقال ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه)) إلى أخر خطبته.

وبهذا ثبتت للإمام علي (سلام الله عليه) الولاية الإلهيَّة والزَّعامة الدِّينية والدُّنيوية بعد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والَّتي منها أخذ الأحكام منه وعنه لأنَّه المعين الصَّافي لها، فبايعه جميع من حضر ذلك الموقف الحاشد، ومنهم الخليفتان الأوَّل والثَّاني مع المسلمين ونساء النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، وبعدما تمَّت المبايعة نزلت الآية الشَّريفة ]اَليَومُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينَاً [ فكبَّر رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وقال ((تمام نبوَّتي وتمام دين الله ولاية علي بعدي)).

إلى غير ذلك من الموارد الدَّالَّة على أفضليَّته وإمامته عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ والَّتي دلَّت عليها من القرآن

ص: 14

وحده، وعن خصوص طرق العامَّة بما يصل إلى مائة وسبعة وثمانين مقاماً، على ما حقَّقه المرحوم الحجَّة الشَّيخ محمَّد حسن المظفَّر رحمه الله في دلائل الصِّدق، غير ما دلَّ على ذلك من طرقنا فقط وهي الَّتي وصلت إلى مائة مورد فيه، وهكذا ما نقله صاحب كتاب الغدير والبحراني (قُدِّس سرُّهما) وغيرهم.

ثمَّ من بعده كانت الوصاية منه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لأحد عشر إماماً واحداً بعد واحد ذكرتها روايات عديدة في كتب الفريقين.

منها ما نقله (الحمويني) أحد كبار علماء أهل السنَّة في كتابه الفرائد فقال (فقام أبو بكر وعمر - يعني بعد نزول آية إكمال الدِّين المتقدِّمة - فقالا: يا رسول الله هذه الآيات خاصَّة في علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فقال صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ((بلى، فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة، قالا: يا رسول الله بيِّنهم لنا، فقال علي أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمَّتي وولي كل مؤمن من بعدي، ثمَّ ابني الحسن، ثمَّ ابني الحسين، ثمَّ تسعة من ولد ابني الحسين، واحداً بعد واحد، القران معهم وهم مع القران، لا يفارقه ولا يفارقهم حتَّى يردوا علي الحوض)).

ومنها ما ورد في كتاب ينابيع المودَّة عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهم حينما سأل النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عند نزول هذه الآية ] يَا أَيُّهَا اَلذَينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [ من هم الَّذين وجبت طاعتهم ؟ أجاب صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : -

((هم خلفائي يا جابر وأئمَّة المسلمين من بعدي، أوَّلهم علي بن أبي طالب، ثمَّ الحسن، ثمَّ الحسين، ثمَّ علي بن الحسين، ثمَّ محمد بن علي المعروف في التَّوراة بالباقر - ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرأه منِّي السَّلام - ثمَّ جعفر بن محمد، ثمَّ موسى بن جعفر، ثمَّ علي بن موسى، ثمَّ محمد بن علي، ثمَّ علي بن محمد، ثمَّ الحسن بن علي، ثمَّ سميِّي وكنيِّي حجَّة الله في أرضه وبقيَّته في عباده ابن الحسن بن علي))، علماً بأنَّ هذه الرِّواية بلغ رواتها من العامَّة حوالي ثمانية عشر راوياً.

إلى غير ذلك من النُّصوص الأخرى من طرق الأخوة العامَّة إضافة إلى نصوصنا الوافرة حول ذلك.

فتحقَّقت الإرادة الربَّانيَّة والمشيئة الإلهيَّة بوجودهم، فقد قاموا بتثبيت الأصول العقائديَّة، وترسيخ وبثِّ كافَّة العلوم والمعارف والأحكام الإسلاميَّة على اختلافها، بل

ص: 15

نشر كل ما فيه فضيلة إلى العام والخاص، فازدهرت بهم البلاد الإسلاميَّة خلال قرنين ونصف، بالرَّغم من كلِّ الظُّروف القاسية الَّتي حولهم من ظلم واضطهاد حكَّام وولاة زمانهم إلى حين استشهادهم بما بين قتل وسم، ما عدا ولي العصر بعد موت أبيه الحسن العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ .

ثمَّ شاءت الحكمة الإلهيَّة في أن تكون هذه الأمور هي السَّبب في حفظ إمام العصر الحجَّة المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ من خلال غيبتيه الصغرى والكبرى - اللتين أخبر عنهما آباؤه وأجداده - لأجل خلاص البشريَّة ونجاتها، ولعلَّ من جملة الأسباب والأسرار الغيبيَّة في غيبة الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - على ما في بعض الرِّوايات - امتحان النَّاس واختبار مدى استقامتهم وثباتهم بعد إتمام الحجَّة عليهم.

فقد روي عن الإمام السَّجاد عن أبيه عن جدِّه علي بن أبي طالب عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: -

((وإنَّ للقائم منَّا غيبتين، إحداهما أطول من الأخرى، فلا يثبت على إمامته إلاَّ من قوي يقينه وصحَّت معرفته)).

وقد كانت غيبته الصغرى بعد وفاة والده الحسن العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كما أشرنا - وكان عمره الشَّريف آنذاك خمس سنوات على أقل تقدير - واستمرَّت لمدَّة سبعين عاماً كان خلالها يدير شؤون المؤمنين ويقضي احتياجاتهم عن طريق اللقاءات الخفيَّة الخاصَّة بسفراءه ونوَّابه الأربعة، وهم: -

(عثمان بن سعيد، ومحمَّد بن عثمان، والحسين بن روح، وعلي بن محمَّد السَّمري) رضوان الله تعالى عليهم، كل واحد منهم يوصي الآخر إلى أن انتهت السَّفارة بوفاة الأخير فأمره عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بعدم الإيصاء إلى أحد لابتداء غيبته الكبرى إلى مدَّة غير معلومة.

عجَّل الله تعالى فرجه وسهَّل مخرجه وجعلنا من أعوانه وأنصاره والمستشهدين بين يديه وتحت لوائه إنَّه سميع مجيب.

فلا يصحُّ التَّقليد - في هذه الأصول الخمسة - وإن صحَّ التَّلقين والتَّأديب والتَّربية والتَّدريس لمعالمها، وكذلك تلقِّيها والأخذ بها، لصحَّة أدلَّتها وتساوي العقول النَّاضجة في تطابقها تمسُّكاً بحقِّها النَّاصع ونورها اللامع.

بل حسن أو وجوب الاعتقاد بما يُعبد به المعبود المرِسِل جل جلاله حقَّاً، وما يطاع به الرَّسول

ص: 16

2صدقاً ممَّا أفاضه آلهعَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من رسالته المتضمِّنة لأحكام شرعه المتوقِّفة عليه تماماً.

نعم يمكن الاعتماد على أقوياء العقيدة في الفرعيَّات الاعتقاديَّة والأخذ بأفكارهم اعتقاداً بها من قِبل من لم يتمكَّن من الاستقلال العلمي في اتِّخاذ الدَّليل إذا كانت الأدلَّة صريحاً من الكتاب ومتواتراً من السنَّة إلى أن ينضج الفكر تماماً ليستقلَّ في اتِّخاذ أحسن الأدلَّة على اعتقاداته الفرعيَّة.

النُّبذة الثَّانِية مَا هِيَ الرِّسَالَة

الرِّسالة - بالمنظور الفقهي المتعارف الَّذي نحن بصدد التَّحدث عنه - هي مجموعة فتاوى فقهيَّة وأحكام شرعيَّة - لها علاقة تامَّة بأفعال المكلَّفين من حيث الوجوب والحرمة ونحوهما من الأحكام التَّكليفيَّة، ومن الصحَّة والفساد من الأحكام الوضعيَّة - قد تعارف تدوينها فيما بين الفقهاء رضي الله عنهم قديماً من الطَّهارة إلى الدِّيات وإن لم تكن في الحقيقة مقيَّدة بالتَّدوين - منها ما فصِّلت مسائلها مع الدِّليل، ومنها ما فُصِل عنها الدَّليل لتسهيل تناول معلوماتها فيما بين العوام - استنبطوها من الكتاب والسُّنَّة والإجماع، ومن الأصول العمليَّة للمستقلاِّت العقليَّة المبرِّرة لها ليعملوا بها وقت الحاجة الماسَّة، إضافة إلى الضَّروريَّات واليقينيَّات اللازم ذكرها على أي حال.

وهذه الفتاوى هي الحاوية لفروع الدِّين العشرة في مضامينها، بل هي مسائل فرعيَّة لها، وهي: -

1 - الصَّلاة 2- الصَّوم 3 - الحج 4 - الزَّكاة 5 - الخمس 6 - الجهاد في سبيل الله 7 - الأمر بالمعروف 8 - النَّهي عن المنكر 9- موالاة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والَّتي منها صلة الأرحام بين المؤمنين 10- التَّبري من أعداء أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

وقد تعارف بينهم أيضاً في الآونة الأخيرة تقليص بعض أبواب الفقه العديدة إلى ما هو محل الابتلاء منها، لعدم الحاجة فعلاً إلى الأكثر، أو عدم القدرة على البعض الآخر لينتظر الوقت المناسب إلى إعادة التَّدوين لها عند حلول الأرضيَّة المناسبة.

كما وقد تجدَّدت في العصر الحاضر موضوعات تصلح أن تدخل تحت عناوين أخرى

ص: 17

تساعد عليها الأدلَّة الشَّريفة، سميِّت استعجالاً ب- (المستحدثات) لكونها لم تكن مألوفة من قبل، منها ما طبع في رسائل مستقلَّة لبعض أعلامنا على اختلافها وتنوِّعها، ومنها ما طبع ملحقاً بالرَّسائل العمليَّة بنفس العنوان المتقدِّم، لعدم التَّهيؤ لإدراجها تحت عناوينها اللائقة بها.

كما أنَّ البعض قد دقَّق في الجملة فألحق بعض هذه المسائل تحت عناوين لا بأس بها.

وفي هذه الرِّسالة المتواضعة نحاول جهد الإمكان تقسيم ما لم يقسَّم من ذلك على العناوين الفقهيَّة المتعارفة ووضع كلٍّ فيما يناسبه، كما وسيأتي في المقام نبذة نافعة عن خصوص المستحدثات فلاحظ.

وخلاصة مضامين الكل هو الكلام - ولو مختصراً - حول فروع الدِّين الماضية عن جامع فقهي قواعدي مشترك لها، اصطلح عليها بين الفقهاء بما يسمَّى ب- (الأحكام الشَّرعيَّة)، وهذه الأحكام على نوعين: -

1 - تكليفيَّة 2 - وضعيَّة.

أمَّا التَّكليفيَّة فهي الأمور الَّتي كلَّف بها المكلَّف - البالغ العاقل القادر شرعاً - في صميم الأدلَّة وما أعطته من تكاليف مناسبة للميسور أيضاً، وهذه التَّكاليف هي خمسة:-

1 - الوجوب 2- التَّحريم 3- الاستحباب 4 - الكراهة 5 - الإباحة

وستأتي معانيها في باب الاصطلاحات ومصاديقها في مسائل الرِّسالة.

وأمَّا الأحكام الوضعيَّة فهي الأحكام المصطيدة من تلك الأدلَّة الَّتي تعرَّف عليها الفقهاء من خلال متابعاتهم الطَّويلة وإن لم يصرَّح بها تماماً فيها، وهي: -

1 - الصحَّة.

2- الفساد.

وسيأتي معناهما في الكلام عن الاصطلاحات أيضاً، كما وستأتي مصاديقهما الكثيرة في مضامين هذه الرِّسالة بوضوح إنشاء الله .

كما وأنَّ الرِّسالة بالمنظور الدِّيني السَّماوي العام تشمل ما نحن نبتغيه إضافة إلى العقائد والأخلاق وكل ما فيه سعادة البشريَّة جمعاء.

ص: 18

النُّبذة الثَّالثة لِمَاذَا كَانَتْ الرِّسَالَة العَمَلِيَّة

قد يتصوَّر البعض - جهلاً - عدم الحاجة إلى الرَّسائل العمليَّة، لإمكان استفادة الأحكام الفقهيَّة عندهم من الكتاب والسُّنَّة وحدهما، ومن قِبل كل أحد يعرف القراءة والكتابة وبعض المعلومات الأخرى البسيطة، ولكن هذا ليس بالإمكان لكلِّ أحد وفي جميع الأدوار، إلاَّ لمن كان مجتهداً مقتدراً فعلاً على استنباطها من هذين المصدرين وغيرهما كالإجماع واستشعار أمرها من السِّيرة المستمرَّة - من زمن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إلينا وإلى حين ظهور الإمام المنتظر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - وكالأصول العمليَّة كما تبيَّن إشارة.

وإنَّما يمكن أن تتصوَّر عدم الحاجة في زمن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لإمكان مواجهتهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والاستفادة منهم شفاهة أو ممَّن يوثق بهم من حواريهم رضي الله عنهم، كما كان بعض أصحابهم أو المخلصين إليهم من البعيدين عنهم يشدُّون الرِّحال إليهم سلام الله عليهم - في بعض الأوقات - أو يراسلونهم من البلدان البعيدة، ومع ذلك استرخص منهم حواريهم رضي الله عنهموبعض تلامذتهم في إجازتهم بالاجتهاد - فيما لا نصَّ فيه صريح ولا دليل عليه واضح وعلى وفق القواعد الَّتي تعلموها منهم - لبعد أماكنهم وتعسُّر مراجعتهم السَّريعة، فأجيزوا منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لتحقُّق مصداق اجتهادهم في تلك النُّصوص لا في مقابلها، كما بيَّنت تلك الحالات بعض الرِّوايات الشَّريفة.

فإذا تأكَّد انحصار الاستنباط في المجتهدين - وللحاجة للبعد الزَّمني والمكاني عن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ - فلا يمكن إذن للعوام شيء من ذلك كما يتوهَّم البعض، إلاَّ في الأُمور الواضحة في نصوصها متناً ودلالة إذا كانوا من ذوي الثَّقافة التَّامَّة في الجملة وكما عليه بعض المتجزِّئين في اجتهادهم، مع الضَّروريَّات واليقينيَّات الَّتي لا تحتاج إلى تقليد كما مرَّ، وهو فيما كان في الكتاب الكريم والسنَّة المقطوع في سندها من ذلك فقط.

أمَّا ما في الكتاب العزيز من الأمور غير الواضحة في مداليلها كما في آيات ما يختلط أمره بين المحكم والمتشابه والنَّاسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيَّد والمجمل والمبيَّن والنَّص والظَّاهر وأمر المفاهيم المختلف فيها بين الأصولييِّن، وكذلك ما في السُّنَّة الشَّريفة

ص: 19

المتضاربة بين مقطوع السَّند ومظنونه، أو غير المقبول منه لاختلاف هويَّات رجالاته مع اختلاف أمر الدِّلالة وتفاوتها - كما في أمر الكتاب من التَّفاوت المشار إليه - ممَّا يحتاج إلى ضبط وتمحيص وقدرة كافية على الاستنباط، ممَّا أوضحناه في مقدِّمات رسالتنا العمليَّة الموسَّعة وفي بدايات موسوعة (الفقهيَّات بين الاستفتاءات والإجابات) فلا يتأتَّى ذلك لأجله لهم قطعاً إلاَّ باجتهاد من ذوي الاختصاص.

إذن ما أشرنا إليه من ذلك في زمن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وكان قريباً منهم زماناً ومكاناً فهو - كما مرَّ - أمر طبيعي على الغالب لازدهار الأيَّام ببركة وجودهم مع عدم قدرة أولئك العوام، وإن كتبت بعض الكتب والرَّسائل في ذلك الحين كما سيأتي، ولعلَّه لتبقى خالدة لمستقبل الأيَّام، لا لزمن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فقط، بل ليحتاج إليها بعد ما حصل في أزمنة الغيبة الكبرى من المحاربات للطَّائفة في كتبها ومصادرها، أو ليستفيد منها البعيدون عنهم مكاناً من أبناء زمانهم.

وأمَّا في أزمنة الغيبة الصغرى - فضلاً عن الكبرى - فلا يمكنهم ذلك حتماً، لما مرَّ من كونهم عوامَّاً - وإن تثقَّفوا ببعض الثَّقافات أو عرفوا بعض الفقهيَّات سطحيَّاً - إلاَّ أن يجتهدوا حينما لم تصلهم التَّواقيع الشَّريفة من الإمام الحجَّة عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بواسطة السُّفراء الأربعة "رضوان الله عليه".

ولهذا تصبح الرِّسالة العمليَّة - الجاهزة بفتاواها أو المصحوبة منها ببعض الأدلَّة أو المفصِّلة لها لمن يحاول التَّفقه موسَّعاً من ذوي الاجتهاد - ضروريَّة ليرجعوا إليها عند الحيرة حسب تفاوتهم الثَّقافي على أساس من التَّقليد الواجب عليهم كما سيجيء، وإن أمكن اليوم استفادة الأحكام بأسلوب الاستفتاء الخطِّي أو الشَّفهي، أو ما يتعارف بالهاتف، أو ما شابهه من أجهزة المصنوعات الإعلاميَّة والاستعلاميَّة المتطوِّرة أكثر، أو كان تناول الحكم من بعض خطباء المنابر المتفقِّهين ونحو ذلك، ولكن ليس أهميَّة ذلك كأهميَّة الرِّسالة المدوَّنة المخطوطة أو المطبوعة، الَّتي لو اقتنيت وأحتفظ بها لكانت جاهزة لأن تزيل كثيراً من متاعب حالات الاستفادة الأخرى الماضية عند عدم القدرة عليها، إلاَّ ما لو أستحدث من الوسائل الحديثة ما يضاهيها في الإسعاف بالإفادة المباشرة.

وأهمُّ تلك الكتب هي الجاهزة الخالية من الأدلَّة لدى العوام، ومنها المختصرات

ص: 20

المكيَّفة بالأساليب المفهمة، لكونها مستخلصة من الكتب المفصَّلة وعن الأدلَّة المبعثرة كتاباً وسنَّة، وأنَّها قد استخلصت من السنَّة من بين كتب الرِّوايات الشَّريفة وجوامعها المنيفة لتيسيرها لهم.

وبهذا المجهود الَّذي يقدِّمه الفقهاء الكرام ومن التَّعليلات والتَّوجيهات الجليلة في ذلك لا تقبل إذن بعض شبه ذوي الشُّبهات - من أنَّ الاجتهاد لا يمكن قبوله مع ما ذكرناه وأنَّه لا داعي إلى الرَّسائل المدوَّنة عنه - لأنَّ الاجتهاد على قسمين مقبول وغير مقبول.

فالمقبول - بل الواجب في محلِّه - هو الاجتهاد في النُّصوص لاستنباط المهمِّ الفقهي منها - لما مرَّ -، وهو ديدننا بمعونة الباري ودعاء صاحب العصر لحفظ الملكة عن الشَّطط والشُّذوذ، والرَّسائل الحاوية لنتائجه هي من أهمِّ وسائل الاستفادة الفقهيَّة للأحكام إن لم نقل أنَّها الأهم.

وغير المقبول هو ما كان اجتهاداً في مقابل النُّصوص كما عليه سيرة بعض المذاهب - من مثل الاستحسانات الخارجيَّة والقياس مع الفارق - فهو الَّذي قد لا يُرضي بعض المتصوِّرين المشار إليهم، ولكنَّهم كيف يصحُّ منهم هذا النَّقد على فرض صحَّته أن يستفيدوا الأحكام بلا اجتهاد اصطلاحي من مورد النُّصوص وهم ليست لهم رتبة المجتهدين.

النُّبْذَة الرَّابِعَة مَتىَ كَانَتْ الرِّسَالَة العَمَلِيَّة

منذ أن حصل في الكتاب الكريم - وبالأخص في بعض آيات أحكامه الفقهيَّة الخمسمائة والتسعة عشر آية أو الأكثر - من الإجمال ونحوه - ممَّا مرَّت الإشارة إليه - كما اقتضته الحِكمة الإلهيَّة البالغة، وكذا ما حصل في السُّنَّة المطهَّرة من التَّطورات المبعثرة لها والمحدِثة في كثير منها أو بعضها المشاكل - الَّتي مرَّت الإشارة إليها - في عصر الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وفي عصر الغيبيتين من الكوارث الطَّبيعيَّة وغير الطَّبيعيَّة المعادية، بل في كثير من أمور الشَّريعة الشَّريفة - الَّتي حملتها الأدلَّة الواردة عنهم عن نبي الرَّحمة صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ممَّا كان صافياً في الأصول الأربعمائة قبل ذلك حيث لم يتهيَّأ لغالب

ص: 21

المكلَّفين آنذاك - وبعده في بقيَّة العصور - استفادة أحكامها بسهولة مغنية لهم حتَّى في عصر الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، لعدم تهيؤ الأمور الجاهزة لأولئك المكلَّفين من ذلك بمصادفة ملاقاتهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، أو مصادفة أصحابهم والحاملين لعلومهم على الدَّوام إلاَّ قليلاً، مع دوام حاجتهم إلى التَّعرُّف على الأحكام الشَّرعيَّة في كلِّ يوم، بل وكلِّ وقت.

فاحتيج إلى توضيح الأحكام من قبلهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أو الاستيضاح من قِبل المحتاجين ومن رواة الأحاديث والفقهاء من ذلك الوقت كذلك فإنَّهم لم يقتصروا على الشَّفهيَّات والمحاضرات الدَّرسيَّة لتلك الحوائج، بل ضبطوها مسجَّلة في كتب جامعة كجوامع الأصول الأربعمائة وما حواه نهج البلاغة من معارف الحقوق وأضرابها وبعض الرَّسائل كرسالة الحقوق المنسوبة إلى الإمام زين العابدين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ، وما ورد منسوباً إلى فقه الإمام الرِّضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ، وبعض آيات الأحكام في تفسير العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ والقمِّي، وكتاب ظريف وغيرها وغيرها، مع كون أنَّ في ذلك فائدة أخرى وهي مهمَّة أيضاً، وهي أن تحفظ مسجَّلة لإفادة الأجيال القادمة لو ضمنت سلامتها كما عرفت من الإشارات سابقاً.

ومن ذلك ما دوَّنه الفقهاء الكرام في أيَّام الغيبة الكبرى - إضافة إلى اهتمامهم الكبير المهم في جمع شتات الرِّوايات الشَّريفة في الكتب الأربعة الأولى وهي (الكافي، والإستبصار، والتَّهذيب، ومن لا يحضره الفقيه) والأخيرة وهي (الوافي، والبحار، والوسائل، ومستدركاتها) - من كتب فقهيَّة كرسائل المفيد ونهاية الشَّيخ الطُّوسي والمختصر النَّافع للمحقِّق وتبصرة العلاَّمة وما دوَّنه الشَّهيدان وصاحب الحدائق وغيره وإلى يومك هذا، إضافة إلى كتبهم الاستدلاليَّة المفصَّلة سواء كانوا أصولييِّن مجتهدين أو غيرهم من المدقِّقين والمحقِّقين المعتدلين، لأنَّ الكل مع الاجتهاد التَّام والعام والتَّحقيق المعتبر عند الجميع ولو في الجملة لكلٍّ منهم في خير مقبول وإيجابيَّة يتوخَّاها الجميع، لأنَّهم يصبُّون في حوض واحد كما حصل من التَّوافق المحترم بين صاحب الحدائق قدس سره ومن عاصره من الأصولييِّن وغيره حتَّى هذا الحين، على عكس بعض العوام التَّائهين وغير المرتبطين بالمجتهدين والمحقِّقين فإنَّهم في خسارة فادحة وللأسف الشَّديد.

ص: 22

النُّبْذَة الخَامِسَة لمِاذَا الاجْتِهَاد في الرِّسَالَة

لا يمكن الوصول إلى الغاية الأكيدة الَّتي من أجلها فرض الشَّارع المقدَّس أحكامه الفقهيَّة على المكلَّفين بكلِّ أسلوب يهواه النَّاس مهما تصاعدت ثقافاتهم العامَّة الفقهيَّة بين سطحيِّها ومتوسِّطها وعميقها في الجملة - حتَّى لو اعتقدوا أنَّ ثقافتهم العميقة تفصيليَّة مُغنية لهم عن كل شيء - إذا لم يكونوا من ذوي الفقاهة الكاملة كما مرَّ شيء من ذلك.

بل لابدَّ لهم من الاجتهاد فيها قوَّة وفعلاً والَّذي هو (حصول الملكة الإلهيَّة الكاملة النَّاتجة عن مواصلة التَّحقيق والتَّدقيق في استنباط الأحكام الشَّرعية الفرعيَّة عن أدلَّتها التَّفصيليَّة الَّتي هي الكتاب والسُّنَّة والإجماع والعقل - المرتبط بالمستقلاَّت العقليَّة من حسن الإحسان وقبح الظلم - والأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل كالاستصحاب والتَّخيير والاشتغال والبراءة).

وذلك لتسلُّط المجتهدين الاصطلاحييِّن من الفقهاء أكثر فأكثر في استخلاص النَّتائج الفتوائيَّة ممَّن دونهم مهما بلغت رتبتهم العلميَّة الأخرى، فضلاً عن ذوي المعارف الأخرى البعيدة وكثرة اشتباه أولئك الأقلِّين، لما ذكرناه سابقاً من جوانب الاختلاف المتعدِّدة في دلالة متني الكتاب والسُّنَّة وسند خصوص السنَّة الشَّريفة.

فلا يمكن أن يؤخذ بكلام هؤلاء وما يطرحونه في كتبهم، مهما نجحوا في تنسيق العبارات وترتيبها وإيضاحها أكثر من بعض رسائل المجتهدين وتقريبها إلى أفكار العوام، إلاَّ إذا كان إنشاؤها - من قبلهم - لصالح بعض المجتهدين ترويجاً لعلومهم وتبسيطاً لمقلِّديهم وموثَّقاً من أولئك المجتهدين بتواقيعهم.

فإنَّ الكتاب العظيم - وإن كان محفوظاً في سنده وبعض دلالاته المتينة في صراحة نصيَّتها - قد ظهر في بعض من آياته ما فيه ناسخ ومنسوخ ونحو ذلك - كما مرَّ -، ممَّا لا يميِّزه ويعرف أوضاعه إلاَّ من له حظ وافر من العلم وبلغ درجات عُليا منه من الأدبيَّات وعلوم القرآن ومعارف أخرى لابدَّ منها، وهكذا.

وكذلك السُّنَّة الشَّريفة الَّتي قد تفاوتت - مرَّة - في أسانيد رواياتها بين القوي والمعمول

ص: 23

به من الجهة الرِّجاليَّة - حتَّى لو كان صاحبه عاميَّاً - لكون الرَّاوي ثقة مثلاً، ومرَّة أخرى في متونها بين قوية الدِّلالة وصريحتها أو قويَّة مفاهيمها - الَّتي تكون مقبولة ويعمل بها - وبين غيرها كالضَّعيفة الَّتي لا يُعمل بها لتلك الحيثيَّة - أو لأجل تلفيقها بين نصَّين فيهما بعض الاختلاف الموجب لذلك في مورده، أو لغرابتها عن المورد، أو لكونها عاميَّة وممَّا لا يُوثق بصاحبها مثلاً، بل حتَّى لكونها موافقة للتَّقيَّة في غير مواردها من الحالات الاختياريَّة وإن كان سندها صحيحاً، لأنَّها لا يبنى عليها في المواقع الاختياريَّة، وإن كانت التَّقيَّة حالة طبيعيَّة ألتزم بها كل مذهب ولها مداركها المشروعة.

بل حتَّى الإجماع فإنَّه قد تفاوت أمره ما بين منقول - على لسان معلوم أو مجهول - لا يقبل وحده، وبين مدركي أساسه مدارك وروايات فيطرح ويكون الاعتماد عليهما على فرض كفاءتهما أو على أحدهما كذلك، وبين المحصَّل الَّذي هو حجَّة - عند الإماميَّة - ولوجود الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في ضمن المجمعين أو كان كاشفاً عنه وهذا هو نادر أو غير حاصل إلاَّ في بعض الأمور.

بل حتَّى أفهام المجتهدين أنفسهم فقد تتفاوت، لتفاوت مشاربها الفكريَّة المختلفة من حيث الأصول الاجتهاديَّة والفقاهتيَّة، ممَّا قد يوقع بعضهم في بعض الأحيان في الخطأ، وإن كانت أساليب الاستدلال النَّاجحة متعدِّدة، حتَّى أنَّه لو اتَّبع ذلك البعض كلاًّ منها لأدَّى إلى النَّتيجة المقبولة تكليفيَّاً بحسب الظَّاهر وإن كان خطأ في الواقع غير المعلوم فكل ذلك ممَّا يحوج إلى الاجتهاد في الرِّسالة.

وإنَّ من أهم مسبِّبات التَّفاوت لهم هو ما حلَّ من المشاكل قديماً - من الأعداء ومن أمور أخرى كما سلف - على الرِّوايات الشَّريفة الواردة عن أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ممَّا سبَّب شتاتها ونحو ذلك، ممَّا شجَّع - كبار العلماء والمحدِّثين - على تدوين الجوامع الشَّريفة وغيرها لا ليأخذ بها على علاَّتها من دون تأمُّل فيما يتفاوت منها وعلى نحو التَّعبُّد المستعقب ما لا يحتمله عاقل، بل لحفظها من الضَّياع.

كما تشجَّع آخرون - لهم شأنهم العلمي - للتَّنقيح والتَّدقيق في الأسانيد ورواتها وفي المتون ودلالاتها، فأسَّسوا علم الرِّجال وعلم الدِّراية والحديث تدويناً لمختصرات نافعة حول ذلك، واختصَّوا بهما، فأتحفوا المكتبة الإسلاميَّة الشِّيعيَّة بما أبدوه من معلوماتهم

ص: 24

النَّفيسة قديماً وحديثاً إضافة إلى ما تعلَّموه من الأساسيَّات المهمَّة من ذلك ممَّا ورد عن أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ومنهم بعض من تصدَّى لجمع هذه الكتب في موسَّعات مهمَّة أخرى ذات تفاصيل تنقيحيَّة تجهِّز للمحقِّق المدقِّق أفضل ما ينبغي أو يجب أن يناله من تلك المعلومات النَّفيسة الشَّريفة ليمارس وظيفته.

ومع كلِّ ذلك التَّفاوت وعلى أساس من مبدئيَّة القول بتخطئة المجتهد وعدم عصمته كالإمام المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - كما هو رأي الإماميَّة - نرى الكثير من الفقهاء على اختلاف مشاربهم قد يتَّفقون من حيث الفتوى على شيء واحد، إذ أنَّ المجتهد منهم إن أصاب فله أجران وإن أخطأ بلا تقصير فله أجر واحد، على ما أفاده النَّص الشَّريف.

أمَّا نظرية التَّصويب الَّذي يقول به بعض الأخوة العامَّة بأنَّ (فتاوى المجتهدين - مهما اختلفت سواء كانت مصادفة لموافقة النَّص أو مخالفته - صائبة ومقبولة عند الله ولو في مورد واحد على اختلافها) فهي غير مقبولة، لإمكان خطأ المجتهدين عقلاً ووقوعه منهم في كثير الأحيان - فضلاً عن غيرهم - فعلاً، كما قد أعترف بعضهم بتحقُّق بعض المصاديق عند بعض رجالهم معتذراً بأنَّه أجتهد فأخطأ، والإصرار على التَّصويب دليل السَّطحيَّة في الاستدلال.

فإذا كان حال المجتهد هكذا قد يصيبه الخطأ فكيف بمن هو أقل علماً ؟ وإن نال بعض الفضائل.

إذن لابدَّ أن تكون الرِّسالة نابعة عن اجتهاد وتمحيص وتدقيق متناسب مع تلك القدرة والفعليَّة - بغضِّ النَّظر عن كيفية وأسلوب تدوينها - لتنبئ عن قدرة فقيه مجتهد يفرغ عن قول الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن الوحي المبين عن الله تعالى لتفترق عن أساليب ومضامين ما يكتب من الكتب الأخرى وإن كانت مضامين ثقافيَّة مفيدة في ظواهرها ممَّا قد يشوبها بعض الوضع والابتداع.

ومن تلك الأساليب المطلوبة ما اتَّبعه بعض الفقهاء القدامى كالشَّيخ الطُّوسي قدس سره في كتابه النِّهاية وإن كان بأسلوب اجتهادي بسيط يتناسب مع قربه من زمن المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وغير ذلك من مسهِّلات المآخذ الشَّريفة المتوفِّرة إضافة إلى من سبقه حيث جمع شتات الفقهيَّات الموجودة في نصوص الرِّوايات الشَّريفة - حسبما تأتَّى له من المصادر المرضية له

ص: 25

آنذاك - بإسقاط أسانيدها وإضافة بعض الرَّوابط اللفظيَّة من عنده لتظهر مسبوكة كرسالة عمليَّة.

بل لم يتقيَّد هذا بلزوم التَّدوين في الرِّسالة، بل يجب الأخذ عن المجتهد بأي وسيلة أخرى مضبوطة، وإنَّما ذكرنا هذا السُّؤال وعن خصوص الاجتهاد في الرِّسالة فلمألوفيَّة الرِّسالة حول هذا الأمر أكثر من غيرها كما مضى.

النُّبْذَة السَّادِسَة مَتىَ كَانَ الاجْتِهَاد

لو تفحَّص المتفحِّص في أقدم الكتب اللغويَّة تأريخيَّاً لوجدها حافلة بذكر معنى الاجتهاد الَّذي هو بذل الجهد لمعرفة المجهول للوصول إلى نتيجة إيجابيَّة أو سلبيَّة صافية من معينها بالنِّسبة إليه.

ومن ثمَّ أخذ هذا المعنى الفقهاء والمتشرِّعة - قديماً وحديثاً - فاصطلحوا له تعريفاً خاصَّاً حتَّى بدا ذلك لصالحهم من بعض الآيات وظواهر روايات الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الواردة في هذا المضمون وغيره - كما هو مذكور في بداية الموضوع السَّابق - حسب قواعدهم العلميَّة وإن تفاوتت بعض صيغ التَّعريف عندهم من حيث التَّعبير، لأنَّ خلاصته كيفيَّة فهم الحكم الشَّرعي صحيحاً عن مداركه المعتبرة مع إعطاء النَّتيجة سلباً أو إيجاباً على ما سيتَّضح أكثر.

إذن لم يكن الاجتهاد وليداً في خصوص زمن الغيبة الكبرى كما قد يتصوَّره البعض، بل إنمَّا كان في وقت استقامة الأمور بأقوم الحجج والأدلَّة كذلك للدِّفاع عن بيضة الإسلام الأصيل - أمام من يحارب عقائد الشَّريعة وفقهيَّاتها بالشُّبهات والأباطيل من الزَّنادقة والمسلمين المنافقين لئلاَّ تنطلي على المغفَّلين، أو أمام من تلوَّث ذهنه ببعض شبهات المنحرفين من الجهَّال في أمورها - عندما تحصل ضرورة للاجتهاد كحالة البعد المكاني عن المعصوم أو سفيره الخاص ونحو ذلك وحسبما دلَّت عليه بعض الأدلَّة الَّتي سنتطرَّق إليها إتماماً للفائدة، إذ نرى - في كثير من الرِّوايات - كيف كان الأئمَّة الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ يعلِّمون حواريهم قواعد الاحتجاج على خصومهم فيما إذا دعت الحاجة إلى شيء من أمور العقيدة والفقه - وبالأخص ما يخص المقام وهو الثَّاني - حين غيابهم عنهم، فعقدوا لهم

ص: 26

حلقات الدُّروس وفي مختلف العلوم ومن زمن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وبصورة مرتَّبة من حيث المبدأ - إن لم يُلتزم بالبناء على حصول مثل ذلك في الزَّمن الأسبق من عهد الأئمَّة السَّابقين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كعهد الأدعية الجامعة للسَّجَّاد عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ، وعهد عظمة علمي الحسنين عَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ ، وهكذا أبيهما عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ باب مدينة علم الرَّسول الأعظم صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لأنَّ مثل ذلك حصل منهم لأصحابهم ولكن ليس بعنوان الحلقات الدَّرسيَّة كزمن الإمام الباقر ومن بعده -، وذلك ليزرعوا فيهم هذه القدرة، وقد تنشَّطت هذه المساعي بسعة عظمى من قبل الإمام الصَّادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ومن بعده من الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فتوارثها منهم بعد ذلك العلماء والمجتهدون من تلامذتهم، فنرى كتبهم العقائدية والفقهيَّة حافلة بما أتحفوا به أمَّتهم من أفضل وأقوى حججها الرَّصينة وأدلَّتها المتينة المناسبة لها.

فمن تلك الأدلَّة هي الَّتي تحثُّ على التَّفقُّه في الدِّين - بما لا يمكن تعقُّله في أن يكون ذلك عن غير استيعاب للأدلَّة الصَّحيحة المتعلِّقة به كقدر متيقن غير قابل للتَّشكَّيك فيه، وهو معنى الاجتهاد الَّذي نريد إثباته - ما ورد في الكتاب الكريم من قوله تعالى ]فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيتَفَقَّهُوا في اَلدِّينِ وَليُنذِرُوا قَومَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلِيهِم[.

وقد أوضح ذلك الإمام الرِّضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كما ورد ذلك عن الفضل بن شاذان في علله في حديث قاله ((إنَّما أمروا بالحجِّ لعلَّة الوفادة إلى الله وطلب الزِّيادة والخروج عن كل ما اقترف العبد)) إلى أن قال ((ولأجل ما فيه من التَّفقُّه ونقل أخبار الأئمَّة إلى كل صقع وناحية كما قال تعالى ] فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [)) الآية.

ومن ذلك ما ذكره ابن الشَّهيد في ديباجة المعالم من رواية علي بن أبي حمزة قال سمعت أبا عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يقول ((تفقَّهوا في الدِّين فإن من لم يتفقَّه منكم في الدِّين فهو أعرابي، إنَّ الله عزَّ وجل يقول ]لِيتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَليُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِليهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون [)).

ومن ذلك ما رواه في الكافي في باب ما يجب على النَّاس عند مضي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في صحيحة يعقوب بن شعيب قال قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع النَّاس قال ((أين قول الله عزَّ وجل ]فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ [))، ثمَّ قال ((هم في عذر ما داموا في الطَّلب وهؤلاء الَّذين ينتظرونهم في عذر حتَّى يرجع إليهم أصحابهم)).

ص: 27

ومن ذلك صحيحة عبد الأعلى قال سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن قول العامة إنَّ رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال ((من مات وليس له إمام مات ميتة جاهليَّة)) قال ((حق و الله )) قلت ((فإنَّ إماماً هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيُّه لم يسعه ذلك)) قال ((لا يسعه إنَّ الإمام إذا مات وقعت حجَّة وصيِّه على من هو معه في البلد وحق النَّفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم إنَّ الله عز وجل يقول ] فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [)).

ومن ذلك صحيحة محمَّد بن مسلم عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وفيها قلت: أفيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرف الَّذي بعده فقال ((أمَّا أهل هذه البلدة - يعني أهل المدينة - وأمَّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرها، إنَّ الله عزَّ وجل يقول ] فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [)).

إلى غير ذلك من دلائل أهميَّة التَّفقُّه، وقد لاح من هذا وذاك أهميَّة إيجاد المصداقيَّة المثلى، وهي الاجتهاد فيه بمعنى القدر المتيقَّن للوظيفة الخطيرة لحاجة رجوع النَّاس إلى فقيه كامل عندما يموت إمام أو عالم، أو يحصل ابتعاد عن مواضع العلم الطَّبيعيَّة كالمدينة المنوَّرة آنذاك وغيرها.

وممَّا يشير إلى أهميَّة الاجتهاد أيضاً - لصالح النَّفس والغير في ذاته وفي قدمه الكاشف عن ذلك في أنَّه كان من زمن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، بل حتَّى زمن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لأهل الأماكن البعيدة عنه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في بعض المجالات وإلى بعض طرقه - ما رواه في البحار عن بصائر الدَّرجات عن محمَّد بن عيسى قال: أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثَّالث وجوابه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بخطِّه فكتب (عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك صلوات الله عليهم أجمعين قد اختلفوا علينا فيه فكيف العمل به على اختلاف فكتب بخطِّه ((ما علمتم أنَّه قولنا فآلموه وما لم تعلموه فردُّوه)))، ومثله عن مستطرفات السَّرائر.

ومن ذلك ما ورد في أكثر من خبر واحد على لسان أحدهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ((ما جاءكم عنِّي ممَّا لم يوافق القران فلم أقله)).

وقول أبي جعفر وأبي عبد الله عَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ ((لا يصدق علينا إلاَّ ما يوافق كتاب الله وسنَّة نبيِّه)).

وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ((إذا جاءكم حديث عنَّا فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله

ص: 28

فخذوا به وإلاَّ فقفوا عنده ثمَّ ردُّوه إلينا حتَّى نبيِّن لكم)).

وصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ((لا تقبلوا علينا حديثاً إلاَّ ما وافق الكتاب والسنَّة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدِّمة فإنَّ المغيرة بن سعيد (لعنه الله ) دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدِّث بها أبي فاتَّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربِّنا وسنَّة نبيِّنا)).

إلى غير ذلك من الرِّوايات الكثيرة في أمر الإشارة والتَّصريح بالحثِّ على الفقاهة وملازمة الاجتهاد والتَّنظر الصَّحيح فيما قد يستدعي الخلاف والتَّفاوت في النَّظر أو ما كان قد حصل فيه شيء من ذلك، وبالأخصِّ عند غيبة النَّاس عن حضرات الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّذين هم المعادن الصَّافية لتلك العلوم الإلهيَّة والَّذين هم الثِّقل الثَّاني في حديث الثَّقلين المشهور بين الفريقين.

فإذن قد تبيَّن من هذا وذاك قِدم الاجتهاد وأهميَّته وأنَّه من الوسائل الَّتي تعطي نصاعة أكثر أمام الغافلين والمغفَّلين وإن كان خفيفاً في أزمنة المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وما قارب عصورهم، وقد ازدادت أهمِّيته - كما لا ينكر - أوان الغيبة الكبرى وبدا ثقله وتشعَّب جوانبه وكثرة دقائقه، لأنَّ أوان الغيبة الصغرى هي أزمنة إمكان إرسال النُّصوص إلى المحتاجين عن الإمام الغائب عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ من قبل سفراءه الأربعة بلا حاجة كبيرة إلى الاجتهاد مثل هذه الغيبة، وقد ورد ثبوت كثير منها ممَّا أغنى المحتاجين إلى بعض المعلومات عن التَّحيُّر في تدبير أمر المسألة الفقهيَّة وإن كان الاجتهاد ما زال مطلوباً، حتَّى في ذلك الحين بالنِّسبة إلى المواقع البعيدة عن مواطن الإمام المألوفة وسفراءه (رضوان الله عليهم).

النُّبذة السَّابعة لمِاذَا يَجِبُ التَّقْلِيدُ لِلمُجتَهِد في الرِّسَالَة

قد يستفسر البعض بأنَّه: لماذا يجب التَّقليد للمجتهد في الرِّسالة في حين أنَّ العقل واحد والقدرة بين البشر واحدة والدِّين واحد ومصادر التَّشريع موحَّدة بالنِّسبة إلى فروع الدِّين ؟ ومع أنَّه يمكن استفادتها ممَّا يعرفه الآباء والأمهات دون غير ذلك،أو ممَّن يمكن توارثه عن رجال

ص: 29

الدِّين وغيرهم وإن لم يكونوا مجتهدين ممَّن يحفظ الفقهيَّات ؟، وإن كان قد يفضَّل حتَّى عند المستفسر لو يؤخذ ذلك من مجتهد أو أكثر لكن لا بنحو الوجوب.

فنجيب - باختصار رعاية لمقام هذه الرِّسالة - على هذا التَّوهم الكبير والمغالطة العمياء، بأمور: -

أوَّلاً : إنَّ كل ذي لب متبصِّر لابدَّ أن يعلم - عقلاً - بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم الَّذي هو - في مقام الفقهيَّات - المجتهد الكامل في قدرته وفعليَّته الاستنباطيَّة للأحكام - كما مرَّ -، والَّذي تبرأ ذمَّة المكلَّف بالرُّجوع إليه مع توفُّر بقيَّة الشَّرائط فيه - الَّتي ستأتي في محلِّها - كالعدالة للاطمئنان من كذبه في نقل الأحكام وبتورُّعه بتلك العدالة من أن يقول ما ليس بصحيح من الأحكام ومفرغة عمَّا هي فقاهة مبرئة للذمَّة بلا قياس مع ما يكون أقل من هذا المستوى.

ولا نقصد بالجاهل خصوص الجاهل المحض الَّذي لا يعرف كلَّ شي، بل نقصد به غير العارف بالأمور الفقهيَّة المفصلَّة، ليدخل معه المجتهد المتجزِّي ببعض الأحكام الفقهيَّة الَّذي لا يقوى على استنباط الإحكام الأخرى فعليه بالرجوع إلى غيره فيما ليس هو بمجتهد فيه وإن حرم على المتجزِّي أن يرجع إلى غيره من المجتهدين فيما اجتهد فيه، بلا فرق في علماءنا بين الأصوليين وغيرهم من أهل التَّحقيق والتَّدقيق كما ذكرناه سابقاً كما لا يخفى على المتتبِّع.

وقد ميَّز الله تعالى العالم عن غيره في قوله تعالى ] هَلْ يَسْتَوي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون[، وحثَّ على وجوب الآخذ من الفقيه في قوله تعالى ] فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَومَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِليهِم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون [، بما مرَّ إيضاحه من الرِّوايات وغيرها.

وظهر من كلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ما يفيد وجوب تقليده في رواية الاحتجاج ((وأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه تاركاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوامِّ أن يقلِّدوه)) بما سيتَّضح توجيهه في الرِّسالة الموسَّعة.

ثانياً: إنَّ التَّقليد - الَّذي هو (رجوع من لم يبلغ رتبة الاجتهاد وغير العارف بموارد الاحتياط إلى المجتهد العالم وجعل أحكامه الشَّرعيَّة قلادة في عنقه) كما مرَّ - في الواقع لم

ص: 30

ينحصر في خصوص الرِّسالة العمليَّة، بل يمكن تلقِّي الأحكام من المجتهد مباشرة وشفاهة أو بالاستفتاء التَّحريري أو بالوسائل الحديثة المتطوِّرة - كما مرَّ كلُّ ذلك -، ولكنَّ الرِّسالة قد تكون أقرب شيء يستفاد منه الحكم الشَّرعي من غيره ولذلك اشتهر أمر الاستفادة منها وتمَّ التَّركيز عليها، وعلى أساس قاعدة الاجتهاد الَّتي سببَّت تكوُّن هذه الرِّسالة أو تلك في عالم الوجود لحفظ الفقه من الضَّياع، إضافة إلى أنَّها قد تشتمل على أكثر عدد ممكن من المسائل الفتوائيَّة بحيث يمكن إيصالها إلى أبعد بقعة من الأرض بالوسائل الممكنة حاليَّاً وبشكل محفوظ، ممَّا لم يستحضر عدد مسائلها غيرها من وسائل الإيضاح الأخرى حسب المتعارف الآن.

بل لم ينحصر الأخذ بها من مقلِّده فقط، بل قد يرجع إليها غير المقلِّدين للإطِّلاع العام - مثلاً - وممَّا قد تتوفر فيها المتطابقات من الفتاوى المأخوذ بها من أكبر عدد ممكن، أو غيرها ممَّا يمكن فيه معرفة أحوط القولين، أو تكون للدِّراسة الَّتي لا تتقيَّد بأمر التَّقليد وما هو غيره، وقد تكون الرِّسالة مصدراً ومرجعاً للمجتهد نفسه ولغيره.

ثالثاً: إنَّ مسألة ذوي العقل الواحد - في السُّؤال - هي وإن كانت ثابتة في كل من أتحفه الله بعقل كامل من حيث القوَّة والفعل، إلاَّ أنَّ استخدام العقول بطبيعتها الَّتي منها الخضوع للشَّريعة وأدلَّتها الصَّحيحة لم يكن كما يرام - لاستفحال النُّفوس على العقول في كثير الحالات إن لم نقل أكثرها - وللتَّفاوت العلمي بين الطَّبقات ونحو ذلك، ولذا لا يلزم أن يكونوا متساوين في الفقاهة الَّتي هي فهم الأحكام الشَّرعيَّة من مداركها الحقيقيَّة كما هو حال المتجزِّي في الأحكام دون المستوعب على الأقل، والمثقَّف البسيط الَّذي لا يقوى على الاستنباط أصلاً، والسَّطحي في معلوماته كذلك، فضلاً عن الجاهل المحض كما تقدم ذكره.

ثمَّ إنَّ المقياس الأوَّل في الأدلَّة - الَّتي يرجع إليها المجتهد - هي الأدلَّة الاجتهاديَّة أوَّلاً (الكتاب والسنَّة وما يتبعهما) - كما مرَّ - ثمَّ الفقاهتيَّة - الَّتي هي الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل، على ما هو محرَّر في علم الأصول كالاستصحاب ونحوه -

لا العقل الخارج عن ذلك - وإن كان هو المدرك الأوَّل للاعتقاديَّات -، لما ورد من

ص: 31

((إنَّ دين الله لا يصاب بالعقول))، وورد أيضاً ((إنَّ السنَّة إذا قيست محق الدِّين))، وورد أيضاً ((ليس من مذهبنا القياس))، إذ لا اجتهاد في مقابل النُّصوص المذكورة في مصادرها، بل الاجتهاد في مضامينها - كما مرَّ -، لمحاولة فهمها بوضوح بواسطة الأدبيَّات المتقنة مع المعارف اللازمة الأخرى.

وأمَّا تفسير ما ورد من قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ(العقل ما عُبد به الرَّحمن واكتُسب به الجنان) فهو العقل الَّذي لا يخرج عن الصَّدد الشَّرعي الَّذي ذكرناه، والبعيد عن الانحرافات المستقلَّة عن الشَّريعة المقدَّسة، وهو الَّذي يرتبط به أمور المستقلاَّت العقليَّة مع ما يتوقَّف عليه من أمور الاعتقاديَّات الحقَّة في أصول الدِّين فلابدَّ إذن من الرُّجوع إلى المجتهد في الرِّسالة.

رابعاً: إنَّ مسألة مصادر التَّشريع الموحَّد لما تبيَّن التَّفاوت في فهمها في موضوع النُّبذة الخامسة كما لا يخفى من قبل أهل النَّظر والاجتهاد العلمي فلابدَّ إذن في أنَّه لا يمكن إدراك أمرها كذلك واستخلاص الزُّبدة الجيِّدة منها مع حدوث تلك الحوادث والعراقيل عليها إلاَّ من قبل الفقيه الكامل لا غير فلابدَّ إذن من الرجوع إليه في مثل هذه الرِّسالة الجامعة للشَّرائط لو حصلت من قبله.

النُّبذة الثَّامِنَة التَّقلِيدُ لِلمُجْتَهِد لاَ لِلإِمَام

بما أنَّ العالم المجتهد من غير الأئمَّة الاثني عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ هو الَّذي يتغيَّر فكره حينما يحصل بين يديه من الأدلَّة والأصول حتَّى في بعض المتقنة والمقبولة، منها ما قد يكون سبباً مناسباً لاستنباط الأحكام الفقهية المحتاج إليها وفيها إلى إعمال فكره دقيقاً، لعدم عصمته ولكون النُّصوص قد تحمل أكثر من وجه ولو بحسب الظَّاهر وإلى ما قد يوصله ذلك التَّدقيق في سبيل ذلك وببذل تمام الجهد إلى الاعتقاد بصحَّة فتواه من قبل نفسه كمجتهد.

وعلى هذا الأساس يجري العمل من قبل غيره من المقلِّدين له عن الطُّرق الَّتي تسبِّب الوثوق به، سواء كان بحسب الواقع أو الظَّاهر إذا لم يدرك الواقع، وبما أنَّه قد يختلف نظره في بعض الأوقات عن ذلك النَّظر الأوَّل وفي زمانكن - مثلاً - حول المسألة

ص: 32

الفرعيَّة الواحدة أو الأكثر عندما يتيسَّر لديه الدَّليل الَّذي قد يكون بحسب الظَّاهر أو الواقع مخالفاً للدَّليل الأسبق، لكون المجتهد المذكور لم ينل درجة العصمة وإن تفوَّق في اجتهاده، ولكون الفقه لم يكن عقليَّاً محضاً كالاعتقاديَّات، ولكون فقهنا مبنيَّاً على التَّخطئة لا التَّصويب كما مرَّ.

فلابدَّ من تعيُّن التَّقليد له من قبل المطمئنِّين به إذا اجتهد لا للإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ، لكون الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ينقل الحكم الإلهي الواقعي بتمامه لأنَّه حافظه وهو الحجَّة في ذلك، وبيده النَّص المتقن الَّذي لا يناقضه نص آخر غيره عنده ولم تتفاوت لديه الوجوه، سواء من الكتاب أو السنَّة، ولم يكن بحاجة إلى الأصول العمليَّة كما عليه المجتهد، والآخذ منه تبرأ ذمَّته بلا تقليد وإن كان هو فارس الميدان في باب التَّوجيه والتَّعليل والتَّعريف بالدَّليل ممَّا يلزم على المجتهد أن يعرفه وممَّا يجوز أن يسمَّى بالاجتهاد كذلك، بل هو الأسمى في مصاديقه إن صحَّ التَّعبير.

وإنَّما الَّذي ورد مختلفاً من النُّصوص إلى غير الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من العلماء الآخرين فلزمهم الاجتهاد فيها لذلك، فلا يصح إذن إلاَّ الأخذ المسلَّم به الَّذي لا يتفاوت عن ذلك الاجتهاد منهم، ولذا لا يقبل التَّقليد لأولئك الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ - لما مرَّ - ممَّن يعتقد بذلك خطأ وإن كان في نظره أنَّ ذلك هو عن صواب.

وما ورد في بعض الأخبار ممَّا ظاهره التَّقليد لهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حين الأخذ منهم كرواية أبي بصير قال دخلت أم خالد العبديَّة على جعفر بن محمد عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ((إنِّي قلَّدتك ديني فألقى الله عزَّ وجل حين ألقاه فأخبره أنَّ جعفر بن محمد عَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ أمرني ونهاني..)) الحديث، فهي محمولة على أخذ الحكم الواقعي منه لا غير، وهو نحو من التَّسامح في التَّعبير، لما بيَّنَّاه من الفرق المهم بين الإمام والمأموم - وإن كان عالماً أو مجتهداً بالمعنى الأسمى - لأنَّه الحاوي عين الصَّواب كما سبق.

ص: 33

النُّبذة التَّاسعَة ضَرَوُرَة إِتِّبَاع فَتَوَى الفَقَيه خَفَّت أَو ثَقُلَت

إنَّ ممَّا لا يمكن قبوله والمساعدة عليه ما قد يتصوَّره البعض - غفلة عن حقيقة الأمر - عن الفتوى الَّتي يستنبطها الفقيه من خلال اجتهاده الشَّرعي في الأحكام الفقهيَّة بأنَّه يمكنهم اختيار الفتوى السَّهلة المريحة للمكلِّفين من بين فتاوى الفقهاء والمجتهدين إذا اختلفت في بعض الحالات فرعيَّاً وتفاوتت بين السَّهلة والثَّقيلة بحريَّة تامَّة، كما لو أرادوا اختيار أيَّ سلعة أو فاكهة من بين سلع أو فواكه تخضع لأذواق هذا أو ذاك ولو من بين آراء مجموعة من الفقهاء، وكأنَّ أذواقهم هي الَّتي تحقِّق الأحكام التَّكليفيَّة لا قوَّة المدرك الشَّرعي أو قوَّة حنكة المجتهد في اجتهاده أكثر من غيره أو عدالته أو أعدليَّته حتَّى لو كانت الفتوى ثقيلة حسب المتصوَّر.

لأنَّ العناوين الشَّرعية الأوَّليَّة للفقه محدودة بحدود ثابتة شرعاً لا يمكن تغييرها بالأذواق ونحوها، فإذا احتاج الجاهل أو العامي إلى فتوى فقيه ومجتهد جامع للشَّرائط - وهي الآتي بيانها - فعيَّنه لنفسه أو تعيَّن عليه لانحصاره به أو نحو ذلك وجب عليه امتثال أوامره حتَّى لو كان في فقاهته شدَّة وثقل في أعمالها أو احتياطات ممَّا يمكن تحمله، وإن جاز في بعض الأحوال أن يقلِّد علَمين - مثلاً - لكون أحدهما أفقه من الآخر في العبادات فيرجع إليه فيها، ويرجع إلى الآخر في المعاملات حينما هو أفقه من صاحبه الآخر، لا لكون فتاوى أحدهما أسهل من فتاوى الآخر فيما هو أفقه فيه.

والمدارك المحذِّرة من إتِّباع الذَّوق النَّفسي في المقام كثيرة، نذكر منها على ما قد يدلُّ على المورد ولو من حيث العموم قوله تعالى ]تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا[، وقوله تعالى ]مَا آتَاكم اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[، وقوله تعالى ]إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[، أي حافظونه في ألفاظه ومعانيه ولو بمعونة السنَّة الشَّريفة، وقوله أيضاً ]وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلاَ مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرَاً أَنْ يَكَونَ لَهُمُ الخِيَرَة مِنْ أَمْرِهِم [.

وقول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ((حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة))، وقوله في حديث الثَّقلين ((وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا علي الحوض))، يعني

ص: 34

الكتاب والعترة المطهَّرة الَّتي تفرغ عن سنَّة رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ شرحاً للكتاب بما آتيانا به جميعاً، ومن ذلك الأحكام الشَّرعيَّة بلا تغيير أو تبديل إذا حفظها لنا فقهائنا وحفظناها لأنفسنا وغيرنا بالمسلك المعتدل إلى غير ذلك من الأدلَّة الكثيرة.

فلذلك لا يتحقَّق القول بذوقيَّة العوام وتشهِّياتهم في اختيار الأحكام، أو كون الشَّريعة تتبع الظروف فتتبدَّل أحكامها متى ما تبدَّلت طقوسها والتزامات من يعيش فيها وإن انحرفوا أو قالوا بنسخ الشَّريعة - والعياذ بالله - جملة أو تفصيلاً، ولذا حكم الفقهاء إتِّباعاً للنُّصوص الشَّريفة الَّتي لا مجال لسردها الآن بكفر أهل البدع وضلالهم.

اللهمَّ إلاَّ ما كان في بعض أمور خاصَّة، كما في مسائل الضَّرورات الَّتي تقدِّر بقدرها، ممَّا لم يكن فعله عن اعتقاد سيئ بها، ومنه التَّقيَّة التَّابعة لحينها الخاصِّ بها حماية للنَّفس والمال والعرض من تحدِّيات المعتدين، وكذلك الأمور ذات الطَّابع الثَّانوي في عناوينها الفقهيَّة الأخرى والمرتبطة ببعض النُّصوص العامَّة، ولكن الأخيرة ملازمة - عادة - لحالات الاحتياط الَّتي لا تحدث خللاً في الشَّريعة كحرمة الأكل في حالة المشي ولباس الشُّهرة وكل ما ينافي المروءة إصراراً عليه على ما سيتَّضح.

فإذن لابدَّ أن يكون المشروع الَّذي يجب إتباعه هو اختيار المجتهد الصَّالح في تقليده، سواء كانت فتاواه شديدة أو متوسِّطة أو خفيفة، وعلى هذا الأساس يجب الاستمرار في المطاوعة له إطاعة لله ورسوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في شرعه الشَّريف ونهجاً على هدي الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

النُّبذة العَاشِرَة فِكْرَةُ مُقَلِّدَةُ الشَّيخ وَأصْحَابُ النِّهَايَة

على الرَّغم من كون الشَّيخ الطُّوسي قدس سره هو شيخ الطَّائفة وله شأنه العظيم في توطيد دعائم الدَّين فقهاً وأصولاً ومعالم أخرى دينيَّة نفيسة، الأمر الَّذي من أجله سبَّب جعله من قبل تلامذته ومن تلاهم وهكذا وإلى فترة ليست بالقليلة مرجعاً لهم بالرجوع إلى مقرَّراته والبناء عليها كمدارك أو شبه مدارك، مع ضخامة وزنهم العلمي واجتهادهم بتلقٍّ تقليدي أو شبه تقليدي من دون مناقشة أو تحقيق إضافي مع وجود المجال الواسع في ذلك، فلا مجال لهذا السُّلوك حتماً مع وجود المجال الكافي لهم للتَّدقيق

ص: 35

والاجتهاد فيه، إلاَّ بإعمال تلك القدرات الاجتهاديَّة المهمَّة لصالح الواقع الشَّرعي - الَّذي قد يسطع نوره من خلاله - لاختلاف مسالك الأدلَّة والنُّضوج الفكري باختلاف جوانب السَّعي العميق في سبيل ذلك، ممَّا قد هيَّأ أمثال المحقِّق الحلِّي قدس سره وأضرابه بما أثبتوا فيه جدارة كونهم من أضراب شيخ الطَّائفة على الأقل أو أزيد ليحقِّقوا لا ليقلِّدوا، حيث عثروا على كثير من الأمور الَّتي تحتاج إلى شيء من التَّدقيق والتَّحقيق أو التَّدقيق والتَّحقيق الأكثر.

لأنَّ سلوك السَّير على المنهجيَّة التَّقليديَّة الواحدة أو شبهها فيما بين المجتهدين مع الحاجة إلى التَّدقيق في مواضعه اللازمة وفي ظروفه المحوجة له لا داعي له مع تلك القدرات والفعليَّات الَّتي يمكن إجراؤها مع الحاجة إليها، بل لا يصح لكونه يوصل على الأقل إلى الجمود مع الحاجة، وقد تقلب بعض موازين الشَّريعة لو انكشف الخطأ ولو بعد حين، فلا يجوز تقليد مجتهد لمجتهد آخر أبداً وإن اتَّفقا اجتهاداً على نتيجة فرعيَّة واحدة أو متشابهة، لأنَّه قد يأثِّر ذلك شيئاً أو بعض شيء من هذا الاتِّفاق على ما لو أدَّى إليه الدَّليل الصَّحيح عند كل منهما، ولذا لا يجوز الاعتماد اعتماد تقليد، وإنَّما اعتماد ركون إلى الدَّليل وبإتقان علمي خالص.

نظير ذلك رجوع ذوي النَّظر من الأخوة العامَّة ممَّن يعتقد بكفاءة نفسه فكراً وعلماً إلى مذاهبهم الأربعة أو الستَّة مدَّة طويلة وإلى حدِّ الآن، حينما أغلقوا على أنفسهم باب الاجتهاد مع كثرة الأخطاء والاشتباهات الَّتي حصلت أصولاً وفروعاً، على ما اعترفوا به كثيراً مسبقاً ومؤخَّراً قولاً وعملاً، ولتضاربهم العنيف في الآراء إلى أن أخذوا أمس واليوم يصرِّحون بوجوب فتح باب الاجتهاد للخلاص من مشاكل ما لا يمكن تحملُّه.

وإن كنَّا ننصح ذوي النَّظر من متأخِّريهم أن يراجعوا أصولهم ثانية لتنقيحها من حيث مشاكل الرِّجال والأسانيد والمتون والاستحسانات والقياسات، الَّتي قد تكون معرقلاً مهمَّاً للفقه الإسلامي الموحَّد لفتح باب الاجتهاد فتحاً مبنيَّاً على تماميَّة الأدلَّة وصحَّتها لا خارجاً عنها، كما رجَّحه بعض منهم أخيراً للحاجة إليه في كثير من الأمور وعلى ضوء أصول متقنة متَّفق عليها عند كافَّة المسلمين، نسأل الله تعالى أن لا تتفاوت مع أصولنا الشَّرعيَّة ليكون النتاج فقهاً موحَّداً موافقاً لشرع من خدم الشَّريعة من النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله

ص: 36

وخيرة أصحابه وأصحابهم.

بل إنَّه لا مجال لقبول مسلك من ظهر بعد مقلِّدة الشَّيخ قدس سره من حصول فكرة قد يطلق على أصحابها بأصحاب النِّهاية امتداداً من مقلِّدة الشَّيخ قدس سره وإن كانوا عوامَّاً، لوفرة المجتهدين في تلك الأزمنة وفي هذا العصر وبحمد الله مع جمعهم للشَّرائط الشَّرعيَّة وهكذا من غيرهم ممَّن يحاول غلق باب التَّقليد إلى مائة سنة أو غير ذلك، ممَّا قد يروِّجه البعض التزاماً ببعض الأفكار الخاصَّة الممزِّقة لأوصال المسلمين والمؤمنين والشَّاقَّة لعصاهم وللعثور على كثير من التَّفاوتات النَّظريَّة للمجتهدين بين ما كان قديماً وما كان حديثاً من تلك النَّظرات، ممَّا يجعل استنكار التَّقليد للقدامى أكثر فأكثر وإن قلنا بعلو شأنهم وأهميَّة علومهم للمتأخِّرين.

وسوف تعرض في الآتي بعض المسائل عن تقليد الميِّت استمراراً بإذن الله فلاحظ.

النُّبْذَةُ الحَادَيَة عَشْرة وُجُوبُ التَّعبُّدِ في الحُكْمِ الشَّرعِي لاَ لخِصُوصِ العِلَّة

اعلم أنَّ ما يظهر من الأحكام سواء كان تلقيَّاً مباشراً من النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أو نائبه الخاص أو الفقيه العام - تقليداً

له أو اجتهاداً في الحكم أو إحتياطاً فيه مع عدم توفُّر دليله تامَّاً أو حصول الإشكال والشُّبهة في صدق فتوى الأخير بكونها مبرئة للذمَّة مثلاً أم لا - لا يمكن الجزم فيه بكون كل ما يتلقَّى ويحصل من ذلك أنَّه موافق للعلَّة التَّشريعيَّة كي يدور المعلول معها في السَّلب والإيجاب ليتَّبع الحكم ما كان موافقاً لأحدهما، لعدم إمكان حصول كل العلل لكل الأحكام الشَّرعيَّة إلاَّ ما صحَّ فيه تحقُّق علَّته ولو اجتهاداً من قبل الفقيه، كما قد يستعمله بعض الأفاضل من كثرة ارتباطه ببعض قواعد الأحكام، أو ما تعارف من منصوص العلَّة لو كان صحيح السَّند ومعمولاً به، لكي يُقاس عليه ما يشترك معه في تلك العلَّة من المعلولات المماثلة، لأنَّ هذا نادر جدَّاً.

بل إنَّ القواعد الَّتي قد يبنى على بعضها ليس كلُّها صالحاً لأن يبنى عليه في كل المصاديق إلاَّ في بعضها لما قد عرف أنَّ لكل قاعدة شواذَّاً، وهذا ما قد ظهر لنا في أمور

ص: 37

محاولة الارتباط بأدلَّة التَّشريع للتَّدقيق فيها فوجد الكثير من المخالفات في ذلك ممَّا قد أثبت العدم.

فعليه لا يمكن البناء فيها إلاَّ على ما تيقَّن أنَّه داخل في صميم ما حوته القاعدة ولا مجال لتطبيقها في كل ما يحتمل أنَّه داخل فيها تجنُّباً عن القياس مع الفارق واحتفاظاً بوجوب استمرار سعي المجتهد في التَّفحص، لاحتمال عثوره ولو بعد حين على الدَّليل المتقن الأكثر قوَّة من ذلك وإن خالف بعض القواعد.

وعلى هذا الأساس لابدَّ من الانقياد إلى حالة التَّعبُّد في نوع تلك الأحكام، فإنَّه إن صادف وقوع العلَّة معها فلن يحرم المكلَّف في ذلك حتماً من الثَّواب الانقيادي ولو من دون دقَّة في سبب التَّكليف واقعاً لاحتمال وضوح الأمر للمستدل في أمر التَّكليف فقط، وإن لم تكن مصادفة في ظهورها فهو بقصده للتَّعبُّد - ولو كان وحده دون العلَّة - لم يحرم من أجره حتماً كذلك، وإن صادف حصول ذلك مع التَّعبُّد ظاهراً وواقعاً فهو نورعلى نور.

ولأنَّنا مع الدَّليل ولو ظاهراً نميل معه حيث يميل ولو لم تفهم علَّته ما دمنا من حيث المبدأ نثق ونطمئن بمداركنا الشَّرعيَّة.

نعم لا مانع من الارتباط بمحاولة تفهُّم بعض ما يظهر من الرِّوايات الشَّريفة من حِكَم الأحكام وفلسفاتها وفوائدها، ممَّا لم يكن علَّة حقيقيَّة لذلك الحكم الشَّرعي ممَّا قد تظهر عليَّته ولو بعد حين بمثل هذا النَّوع من التَّتبُّع والاستقراء أو لغرض إراحة النَّفس إضافيَّاً إن لم يعثر على العلَّة ممَّا قد يشجِّع بعض المتساهلين على المطاوعة للتَّطبيق أكثر وعلى الهداية للتَّدين بصورة أتقن إذا اتَّحدت العقول على هذا المستوى ولو نوعاً، والحِكم والفوائد والفلسفات على هذا المستوى كثيرة.

وإمَّا ما يشاع في بعض الأوساط من أنَّ لزوم العلَّة ثابت في كل حكم شرعي حتَّى ظاهراً فهو ممَّا لا يمكن قبوله لما مرَّ ذكره، ولانَّ ثبوت العلَّة - لكلِّ حكم - خاص بعلم الله - ومن خصَّه بذلك أو ببعضه من الرَّاسخين في العلم من خيرة عباده، وقد بيَّنَّا العراقيل الطَّبيعيَّة وغيرها في طرق الإيصال كما لا يخفى -، ولانَّ القول بوجوب العلم بذلك لو لم ينل قد يسبِّب البناء على التَّشكيك في الأدلَّة الشَّرعيَّة التَّعبديَّة المتقنة فيجب الانتباه إلى ذلك.

ص: 38

النُّبذة الثَّانية عشرة لِمَاذَا الاحتِيَاطُ في الرِّسَالَة وَغَيْرِهَا

لا يمكن الاعتماد على الاحتياط - الَّذي هو حالة تحفُّظيَّة يرجع إليها عند الشَّك في بعض حالاته - في أنَّه أصل عملي كبقيَّة الأصول الأربعة في مقابل بعض الأدلَّة وكمصدر تشريعي لتوفُّر الأدلَّة المغنية عن ذلك ، فلابدَّ في أمره من الرُّجوع إلى قسيميه أوَّلاً وهما (الاجتهاد والتَّقليد) إن اتَّضح تكليف المكلَّف الإلزامي بالنِّسبة إلى أحدهما - على ما سنبيِّنه في مسائل هذا الأمر مستقبلاً وإن كان الاحتياط مستحسناً حتَّى معهما باعتبار آخر - حتَّى الممكن منه و ما لا يعسر الالتزام به أو ما لا يحرم التَّمسك به فضلاً عن غير الممكن أو ما يعسر الالتزام به، لئلاَّ يصل في بعض الحالات إلى التَّشريع - ولذا قال البعض (الاحتياط في ترك الاحتياط) - إلاَّ إذا أوصل تركه إلى محاذير خطرة تفوت التَّدبير لأقل الواجب الممكن أو الميسور، لأنَّه قد يصل في هذه الحال إلى الوجوب حتماً إذا كان عن طريق الاجتهاد أو التَّقليد لو أمكن كل منهما مع الحاجة إلى ذلك الاحتياط بسبب التَّسرع المخيف عن طريقهما ونحوه.

ولذا لا ينكر حسنه - كما بيِّنَّا -، بل لزومه في مجال الإمكان أو اليسر أو عدم توفُّر أمري الاجتهاد أو التَّقليد لبعض العوارض في الطَّريق ولاحتمال حصول اليقين ببراءة الذمَّة عن طريقه، كالعمل بأحوط القولين أو الأقوال مع التَّحيُّر في إدراك أصوبها في حقِّه مع إمكانه، أو الاتِّجاه إلى أكثر من جهة في أمر القبلة مع كفاية الوقت، أو بترك العمل كالتَّيمُّم في بداية وقت العبادة مع احتمال وجود الماء في آخره، كما في الماء المشتبه بين إناءين كان ماء أحدهما متنجِّساً حتماً بلا تعيين، وإن جاء النَّص بالأعراق لهما، لأنَّ هذا من نوع يساعد عليه الاحتياط أيضاً ونحو ذلك.

بل لا ينكر حسنه حتَّى لو أمكن المكلَّف أمر الاجتهاد أو التَّقليد ولكنَّه في شبهة بسيطة يريد قطعها بما يحرز فيه البراءة لكن لا على أساس أن يتعيَّن أنَّ ذلك هو طريقه لا غير.

وقد يتصوَّر البعض كذلك أنَّ الاحتياط هو التزام خاص من قبل بعض الفرق الشِّيعيَّة غير الأصوليَّة، ولكنَّه أمر لم يختص بأحد على أساس أن يؤتى به من جهته دون الآخرين في الواقع - وإن عدَّ أصلاً عند أولئك - إذا لم يدرك فيه الحكم الشَّرعي تامَّاً اجتهاداً أو

ص: 39

تقليداً على النَّهج الصَّحيح لإبراء الذمَّة ما لم يتعيَّن أحدهما، بل حتَّى لو تعيَّن الاجتهاد أو التَّقليد فلم يذهب رجحان الاحتياط ولو استحباباً في كل مقام من مقاميهما كما مرَّ، ولأنَّه قد يحوي الواجب مثلاً في ضمن شيء أو أشياء أو بتكراره، ولطالما ذكر في الأدلَّة الشَّريفة كتاباً وسنَّة وأوصى به الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وأدام في الإيصاء به العلماء الأعلام في وصاياهم وإجازاتهم، قال تعالى ] فَلْيَحَذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَة [، وقال أيضاً ] إلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [، وورد عن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ قولهم ((أخوك دينك فاحتط لدينك)).

ويحسن الالتزام به حتَّى من المجتهدين كذلك تورُّعاً - فضلاً عن غيرهم - إذا أصابت المكلَّف منهم شبهة، وبالأخصِّ إذا تعادل المجتهدان في اجتهادهما وكفاءتهما واختلفا في الرَّأي وإن كان المكلَّف مقلِّداً أحدهما دون الآخر، فهنا يرجح منه أن يعمل بأحوط القولين، وكذا إذا كان كل منهما مشكوك الأعلميَّة كما سيتَّضح.

بل إن هناك نوعاً من الاحتياط وهو ما يمكن أن نسمِّيه بالتَّعبدِّي لذكره في الأدلَّة كثيراً كالتَّورع في أمر الدِّماء والأعراض واللحوم والأموال المحترمة على قول في الأخير، فلا ينبغي أن تخلو الرِّسالة وغيرها عن ذكره فهو ممَّا يجب الاٍلتزام به تورُّعاً للخلاص من محاذير مخالفة النُّصوص الشَّريفة وممَّا يستحب في المقامات الأخفض وبنحو مساير للأدلَّة لا الأصول العمليَّة.

فإذن أمر الاٍلتزام بالاٍحتياط في كونه أصلاً يرجع إليه عند الشَّك مع إمكان أو تيسُّر الاجتهاد أو التَّقليد لا يمكن قبوله، لما مرَّ وما سنفصِّله في الموسَّعات، نعم يمكن اعتباره كقاعدة حاكمة على بعض النُّصوص كما سيتَّضح هناك.

وعلى كلِّ من لم يحسن معرفة الاحتياط إن رجح فعله فضلاً عمَّا لو وجب عليه أن يراجع الفقيه لأنَّه أبصر وأتقن.

ص: 40

النُّبذة الثَّالِثَة عَشْرَة أهميَّة احتَرَامِ نَوْعِ العُلَمَاء مِنَ الأَتْقِياءِ مِمَّن قُلِّدَ وَغَيرِهِم

من

المؤسف حقَّاً أنَّه قد يبدو للوجدان جهاراً ممَّا لا يمكن نكرانه ولا السُّكوت

عليه أيضاً هو فكرة ينشرها جهلة ومن وراءهم دعاة التَّفرقة وهي لزوم إهانة غير

مرجع التَّقليد كائناً من كان، مع كون هؤلاء العوام الَّذين يحملون هذه الفكرة - هداهم الله - قد لا يعرفون عن العلماء الآخرين أيَّ شيء عن نزاهتهم المثلى وحسن نواياهم ومدى مثابرتهم في سبيل الدِّين بما يرونه في نظرهم الشَّريف، فتراهم يشهِّرون بهم بالباطل والادِّعاءات المزيَّفة ومن دون أن يعرفوا أو يوجَّهوا من قبل أصحابهم المسؤولين عنهم بالحمل على الصِّحَّة والمحامل الحسنة، وتراهم يُكبرون وحيدهم ويغالون فيه حسب .

مع أنَّ كلَّ المدركين يعلمون بأنَّ العالم المتهتِّك الَّذي يجب فضحه بين الملأ والَّذي هو مصداق علماء السُّوء - والمنبوذ بين المجتمع العلمي والدِّيني - لم يكن كهؤلاء الصَّفوة والحجج الكرام والمقتدون الفخام لو أنصفوا أنفسهم ولو بنزر يسير من الإنصاف وإن لم يعرف قدرهم الجهلة والمغفَّلون، لأنَّ الَّذي لم يعرف قدره ليس كالمتهتِّك والمنبوذ بحق في المجتمع.

في حين أنَّ هؤلاء المهرِّجين قد يحتاجون الباقين - من العلماء - في الحاضر والمستقبل وليس لخصوص التَّقليد، بل قد يحتاجونهم في العلوم العامَّة دراسة ونصحاً بل تطبيقاً، ولقلَّة العلماء وإن اعتقدوا بمقلدها دون غيره، فإن إثبات الشَّيء لا ينفي ما عداه ولو عند الآخرين فقط صيانة لوحدة المسلمين، ولأنَّ باب الاجتهاد مفتوح وما انحصر الأمر فيمن يختارونه إلى حين ظهور صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ، وقد يكون الآخرون خير ذخيرة لهم في المستقبل في علمهم وعملهم وتمسُّكهم بدينهم وورعهم ومثابرتهم في سبيل الدِّين وقيمه المثلى.

وهذه الفكرة المقيتة إن كانت من سذَّج وبسطاء - كما هو الملاحظ عن بعض الأجواء الملتهبة بهذه النَّماذج من المظاهر - فهو أمر سهل قد يتوصَّل إليه الغيارى من غيرهم - أو ممَّن يمكن اهتداؤه منهم لكونه سطحيَّاً في هذه الفكرة وعاقلاً في نفس الوقت - ببعض

ص: 41

المحاولات التَّوجيهيَّة والتَّعليميَّة فيقضون عليها وإن كانوا قد يمرُّون ببعض الصِّعاب لمواجهة حمقى ومركَّبين في جهالتهم أو لضخامة أعداء تولَّدوا عن ذلك ممَّن تنطلي عليهم بسائط الأمور من ذلك.

وإن كانت من أعداء ضالِّين مضلِّين قصدهم إثارة الفتنة - بين أفراد الأمَّة المرحومة الواحدة - عن طريق شبه يبثُّونها من مصادرهم الملوَّثة بسقم المبادئ، وهي أنَّ من قلَّد مجتهداً يجب أو يحسن به على الأقل أن يحارب الباقين، إلاَّ أن ينضووا تحت لواء مقلِّدهم لكون الباقين قد يخالفون صاحبهم في بعض الآراء الفقهيَّة، فهذه النَّاحية قد تكون بسيطة أيضاً لكلِّ ذي لب وألقى السَّمع وهو شهيد بعد تمهيد مقدِّمة، وهي: -

أنَّ الأمر لا كما يزعمون، بل إنَّ العلماء مهما حصل فيما بينهم من تفاوت - في بعض طرق الاستنباط أو في كيفيَّة ما ينتخبه الفقيه من الأدلَّة ليكون دليله على مسألة ما ممَّا حقِّق في محلِّه من الأصول - ليس معناه أن يلزم الاختلاف بينه وبين غيره في النَّتيجة، وإن حصل الاختلاف فليس معناه لزوم أن يقع بينه وبين غيره حدَّ السَّيف وما صنع الحداد، لأنَّ العلماء هم أهل وأصحاب مبدأ واحد، وعمَّال دين، يحمون ذماره كل بحسب طاقاته، ما داموا على الصَّفاء الموحَّد في مبدئه، وعلى الغاية السَّليمة لحفظ ذلك الدِّين من كل منهم، لو كان قد انتاب الدِّين شيء سلبي في واقعه،كالأوراد المختلفة في عطورها وكالفواكه المتفاوتة في مذاق طعومها.

والشَّيعة الأماميَّة وإن كانوا مخطِّئة - في فقههم وغير مصوِّبة كغيرهم - فليس معناه أن يتعادى المجتهدان فيما بينهما، لكون أحدهما يقول بوجوب شيء والآخر يقول بعدمه، أو يقول بطهارة شيء والآخر يقول بنجاسته، وليس من حقِّ أحدهما ذلك أصلاً ما دام كل منهما واثقاً باجتهاد نفسه أو موثوقاً به عند أصحابه والمحتكِّين به.

وهذه الطَّبيعة الأخويَّة غير غريبة فيما بين السَّلف الصَّالح، لما أوضحناه سلفاً من التَّكافؤ والتَّكاتف الجيِّد بين الكل من حيث المبدأ والغاية من التَّرسُّل وحسن النيَّة والإخلاص فيها، وعلى أساس حسن الظَّن بأيِّ جهة مقابلة ما لم يثبت الخلاف المعادي، ونحن في غنى عمَّا لو حصل من سوء نيَّة في بعض الأحيان ممَّن يدَّعي مرجعيَّة أو تدَّعى له وهو غير صالح لها أو ممَّن يرجع إليه للمصالح الخاصَّة أو من الاثنين، وهو من أشدِّ ما يمقته

ص: 42

الإسلام العزيز ما دمنا على وزن حُسن القصد وعلى نهج الاستقامة ولم نرَ مجوِّزاً لإيذاء أيَّ إنسان من منطلق الدِّين والمذهب والإنسانيَّة لأنَّ ((المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه)).

وقد ذمَّ الباري المستغيب بقوله تعالى ]أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتَاً فَكَرِهتُمُوه[ وغيره وورد في السنَّة الكثير، ولنختر ما يناسب المقام مختصراً من مقبولة عمر بن حنظلة قول الصَّادق عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في مقام وجوب احترام العلماء الفقهاء وحملة الحديث

((فإنِّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنَّما بحكم الله استخف وعلينا رد، والرَّاد علينا راد على الله وهو على حد الشِّرك بالله عزَّ وجل)).

فلابدَّ إذن من توقير العلماء الأتقياء ككلِّ لأنَّهم الدِّرع الحصين لهذه الشَّريعة المقدَّسة وخير واق لها من شرور أعدائها، نسأل الله تعالى هداية القلوب لنوع حماة شريعته، إنَّه سميع مجيب.

النَّبْذَة الرَّابِعَة عَشَرَة لمِاذَا تَعَدُّد المَرْجِعِيَّات

من منطلق وجوب طلب العلم المسلَّم عند كلِّ أحد، وبالأخصِّ طلب العلم الدِّيني ولزوم تحصيله سواء قلنا بالوجوب العيني في مورده أو الكفائي أيضاً - كما ذكره علماؤنا - على ما دلَّت عليه الأدلَّة الشَّريفة كتاباً وسنَّة - كما لا يخفى -، لكثرة الجهل ومضارِّه وعلى اتِّساع المعمورة، ولحاجة الكل إلى العلم حتَّى العلماء أنفسهم لاحتياجهم إلى مواصلة التَّحقيق فيه مهما بلغت درجتهم العلميَّة كحاجة المواصلة له لئلاَّ ينسى، أو الحاجة إلى التَّدقيق طمعاً في استحداث أمور لم تتَّضح سابقاً واستكشافها لاحقاً، أو للمحادثة العلميَّة المستمرَّة مع أمثالهم حتَّى تتم جوانب الأطروحات، لما فيه من منافع دنيويَّة وأخرويَّة، لأنَّ ذوي البصيرة مفضَّلون على غيرهم عند الله ، ولوجوب نفع النَّاس به الَّذي هو واجب مقدَّس على عواتق العلماء.

لأجل كلِّ هذا لا مانع من كثرة روَّاده وكثرة الحاصلين على رتبة الاجتهاد في العصر الواحد، بحيث لا يخضع كل منهم - علميَّاً - إلى رأي الآخرين لو حصل بعض التَّفاوت

ص: 43

الفكري في النَّتيجة الاجتهاديَّة، بل هو الرَّاجح، مع بقاء تمام الأخوَّة في التَّبادل بها بين الكلِّ في الكلِّ في أجلى معانيها، لاحتمال وضوح بعض الحقائق الشَّرعيَّة عن طريق مثل هذا التَّنافس البريء والمأدَّب بصورة أجود، ولأنَّه لا يلزم أن يكون كلُّ منهم - في العصر الواحد - مرجعاً في كل البقاع حتَّى يخشى من التَّزاحم، إذ أنَّ الخدمة من الجميع لا تتعذَّر ولو بأن يكون كل منهم معروفاً بين قبيل محدودين له وخاصِّين به، وهكذا الباقون.

بل إنَّ كلَّ النَّاس قد يحتاجون إليهم جميعاً مهما اختلفوا في أساليبهم العلميَّة ومؤدَّياتها كما ذكرنا، وفيما يحسنونه من عطاءاتهم، لأنَّ الإفادة لم تنحصر في مرجع التَّقليد ولخصوص من يقلِّده ما دام الكل على نهج الاستقامة في دين الله وكونهم يصبُّون في حوض واحد لحماية بيضة الإسلام كما مرَّ.

إذ أنَّ تنوَّع الإفادة قد يكون بعض أعلامها مرتبطاً بأن يستفاد منه توضيح الغوامض الشَّرعيَّة والمعارف المتنوِّعة في كلِّ العلوم أو أغلبها، وهذا ما قد لا يدركه بعض المختصِّين بخصوص أمر الفقاهة والتَّقليد لهم فيها، أو كونه مرجعاً في أمور التَّدريس العلمي الفقهي والأصولي فقط كما في مرجع خصوص دروس الخارج المؤهلة للاجتهاد لمن يحضر دروسه حتَّى لمن لم يرجع إليه في التَّقليد.

وقد يكون غير المقلَّد من هؤلاء ذخيرة للمستقبل مع منافعه الحاليَّة، فقد يكون المرجع أباً في العرفان والسُّلوك الإلهي الصَّحيح، وقد يكون خاصَّاً في أمور الحكم والقضاء، وقد يكون لسان الإسلام النَّاطق ضدَّ أعداء الدِّين والخطيب المسقع لذلك، وقد يكون لسان المحاججة النَّاجح ضدَّ أعداء المذهب - ومن يتآلف معه من المذاهب الأربعة - وإن ادَّعوا الإسلام نفاقاً - لتثبيت أواصر العلاقة الدِّينيَّة بين فرق المسلمين جميعاً -، وقد يكون المفسِّر، وقد يكون الفيلسوف إضافة إلى ما اختصَّ به أو عرفه وغير ذلك.

ومن ثمَّ أنَّه قد تداهم الأمَّة بعض المشاكل من أعداءها أو من دواخلها اعتياديَّاً ممَّا يحتاج إلى حلِّ ناجح قلَّما يحصل من مستبد في رأيه - وإن كان مجتهداً -، بل إنَّ في الاستبداد أكثر الهلكات، فسبيل الخلاص من السَّلبيَّات الخطيرة لا يمكن غالباً إلاَّ بالمشاورة ما بين أهل الحل والعقد من أمثال هؤلاء المجتهدين وذوي الرَّأي السَّديد منهم.

ومن ثمَّ أيضاً إنَّ الإسلام واسع الطَّاقات كمعجزة إلهيَّة في مداركه ودستوره وفي نبيِّه

ص: 44

صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأئمَّته الطَّاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، الَّذين لو ثنيت لهم الوسادة تماماً حين حلول أوقاتهم الشَّريفة لحلَّت جميع مشاكل العالم بأسلم أسلوب، ولما بقي ضيم في البشريَّة، ولحلَّت في الربوع جميع البركات.

وعلى طبق كثرة حاجة أبناء هذا العالم إلى نوع العلماء في داخله وخارجه وتنوِّعها فليس من السَّهل الإنفراد بالرَّأي في التَّطبيق، بل إنَّ التَّعاون والتَّكاتف هما دعامة النَّجاح التَّام حين إرادة التَّطبيق الصَّحيح.

ولو فرضنا إمكان اِنفراد المرجعيَّة في واحد فإنَّه لا يستغني ذلك الواحد عن مجلس المشاورة مع قبيل المجتهدين، الَّذين لا يخضعون لرأي صاحبهم تقليداً حتماً وكما هو الحق، إلاَّ بنحو التَّأييد له على أساس الاتِّفاق المبدئي على الدَّليل الموحَّد، أو ما أنتج موحَّداً وإن اختلف المبنى، ولو لم يكن معه هكذا مجلس فقد يكون كثير التَّعرض للخطأ والاشتباه، حتَّى لو قلنا إنَّه قد يحلُّ مشاكله بمراجعة المصادر لمن سبقه من المجتهدين المتقدِّمين، لكن هذا الأمر ليس بميسور له في كلِّ قضيَّة، إذ قد تكون أمور لا يمكن التَّداول فيها إلاَّ مع الأحياء كالمستحدثات الكثيرة، الَّتي قد لا تكون واردة في أيَّام الماضين موضوعاً وحكماً، فضلاً عن أنَّ فكرة الماضين قد تكون جامدة بلا مجال للتَّصرُّف فيها مع جلالة قدر أصحابها لعدم معرفة مداركها الَّتي بنوا عليها، إلاَّ بتأوُّل من قبل ذلك الحي، وهو مع وحدته باق على تلك المعاناة الَّتي يحذر منها ومن عواقبها، ما لم يتداول مع نظرائه المراجع الباقين على بساط التَّداول الإيماني البريء الصَّريح الخالي من كلِّ من يشكَّ فيه أمر زرع المشاكل.

النُّبْذَةُ الخَامِسَة عَشَرَة حَوَلَ الأَحْكَامِ مِنْ ذَوَاتِ العَنَاوين الثَّانَويَّة

إنَّ الأحكام تنقسم في دور من أدوارها إلى قسمين:

أوَّلهما:ما إذا كانت من ذوات العناوين الأوَّليَّة وهذه هي الأصيلة والَّتي لا يمكن تغيُّرها من أيِّ أحد إذا تمَّ دليلها الشَّرعي الخاص، إلاَّ ما يناسب الاضطرار في ذلك ومع ذلك فإنَّ الضَّرورة تقدَّر بقدرها ولا أن يكون ذلك التَّغير حاصلاً بتلك السُّهولة ومن ذلك بعض

ص: 45

حالات التَّقيَّة كما سيجيء.

ثانيهما: ما إذا كانت من ذوات العناوين الثَّانويَّة كحالات تغيُّر الوجوب إلى الحرمة أو الأقل وإلى حد ما دون الوجوب من الممكن في فعله بلا عقوبة على التَّرك في غيرها وانحصار العقوبة في مخالفة الحرمة، وحالات تغيُّر الحرمة إلى الوجوب أو الأقل وإلى حد ما دون الحرمة من الممكن في تركه بلا عقوبة على الفعل، بل قد يكون فيه رجحان وانحصار العقوبة في ترك الواجب وكانت تلك الأحكام مرتبطة بالمعقول المدرك فيه رجحان ذلك التَّغيُّر وتحت ظل النُّصوص العامَّة والمرتبطة أيضاً ببعض القواعد المصطيدة منها، كقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وقاعدة الميسور وأدلَّة التَّقيَّة ونحو ذلك، ممَّا أمكن تشكَّيل تلك الاعتبارات الفقهيَّة الثَّانويَّة عنه، ومن ذلك بعض المستحبَّات في الشَّريعة في بابها الأوَّلي لكونها ممَّن تنطبق عليه آية قوله تعالى ] ذَلَكَ وَمَنْ يُعَظِّمُ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقَوَى القُلُوب [ من بعض أعماله ولكنَّها لو لم يناسبها الزمان أو المكان أو كلاهما وكانت بفعلها توجب هتك الكرامة وإلى حيث ما يكون ضررها أكثر من نفعها لأمكن انقلاب حكمها إلى الحرمة للأدلَّة المذكورة ومتى ما انتفى ذلك رجعت مشروعيَّتها إلى حيث طبيعتها الأولى.

وعلى أساس هذا التَّقسيم والثَّابت لكل متتبِّع - ووصول الأمر في بعض الأحوال إلى القسم الثَّاني - لابدَّ من الاهتمام بمراعاة أحكامه إذا وصل بالمكلَّفين أمر الحاجة إلى التَّكلُّف بها للخلاص من مخاطرها سواء كانت مخاطر ترك واجب ثانوي أو فعل محرَّم ثانوي.

لكنَّ أمر تشخيص الخطر على المكلَّف من هذا القبيل مرتبط بحالتين: -

الأولى: وهي ما إذا كان المكلَّف نفسه عارفاً بمستوى التَّكليف المرسوم له من ذلك ومن دون اشتباه منه فيه مع محافظته التَّامة على التَّورع في الأمور من الوقوع في الشُّبهات فلا مانع له من إتِّخاذه بنفسه طريقه الشَّرعي من ذلك.

الثَّانية: وهي ما إذا كان من قبيل العامي المحض والَّذي تشتبك عليه الأمور حتماً لذلك أو العارف ببعض الأمور ولكن قد يخفى عليه حتَّى بعض الواضحات فضلاً عن

ص: 46

غيرها، ممَّا قد يصعب فهمه في أمر التَّطبيقات بسبب تراكم بعض الشُّبهات ونحو ذلك، فمثل هذا لابدَّ فيه أن يكون تشخيصه عن طريق الفقيه، لأنَّ ذوات العناوين الثَّانويَّة من الأحكام لم تكن هي الدَّائمة في التَّكلُّف بها كالأوَّليَّة، بل إنَّما هي تابعة لظروفها وأماكنها وموجباتها، والقادر على فهم المناسب للانتقال إلى هذا الحكم أو البقاء على الحكم الأوَّل وبصفته الدَّقيقة هو الفقيه في ذلك لا غير، بل حتَّى لو عرف العامي بعض الشَّيء فخبرة الفقيه الأكثر دقَّة توجب الاحتياط بمراجعته دون اتِّكال العامي على نفسه فإن ثبت العنوان الثَّانوي بذلك حقَّاً التزم به وإلاَّ رجع الحكم الأوَّلي إلى واقعه.

النُّبْذَةُ السَّادِسَة عَشَرَة فِيهَا تَنْبِيهٌ مُهِمٌ حَوَلَ المَسَائِل المُسْتَحَدَثَة

لا شكَّ في أنَّه قد ظهر في الآونة الأخيرة ومن تطوُّر الأحداث وفي مختلف الشؤون وممَّا لا يمكن ابتعاده عن أحكام الشَّريعة سواء بالمباشرة أو بالتَّسبيب ما قد يطلق عليه بالمسائل المستحدثة، ممَّا إستحدث من خلال أسئلة السَّائلين أو من خلال ما افترضه العلماء العاملون ممَّا قد ساعد عليه التَّطوُّر المعاصر كما في مسائل البنوك والصكوك والعملات المختلفة والتَّعاملات السُّوقيَّة الجديدة والسَّرقفليَّات والتَّشريح والتَّطورات الطِّبيَّة الأخرى وأحكام النَّاس في الجو والبحر وآخر المعمورة وفي الفضاء الخارجي وأمور العشائر وما يعتريها من مشاكل وغير ذلك من شتَّى الأمور الأخرى.

وهذا الإطلاق لا يمكن أن يكون على حقيقته في الواقع لأنَّ شرع الله تعالى كامل وفي جميع ميادين الحاجة البشريَّة ولم يكن الاستحداث والتَّجديد الفقهي بمعنى وجود شرع جديد لما قد دلَّت على ذلك الأدلَّة الكثيرة الكافية من الكتاب والسُّنَّة إضافة إلى المرتكز الذِّهني العام لكلِّ المسلمين إجماعاً في كمال الدِّين وإتمام النِّعمة في فقهه من قواعد وفرعيَّات كقوله تعالى ]اليَوَمُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينَا [ وغيره إذ لم تغمض عينا رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إلاَّ وأتحف الأمَّة بأئمَّة الهدى من أوصياءه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ليكملوا رسالته الَّتي أدَّاها وفيما أجمل فيها بإيضاحاتهم المهمَّة، لأنَّهم

ص: 47

الامتداد الطَّبيعي له وهم ثاني الثِّقلين الَّذين أوصى بهما صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ليؤخذ بكلامهما وليعُتزَّ به دون ما يخالفه، لأنَّهم أهل البيت الَّذي نزل الوحي فيه - وأنَّهم الأدرى بما فيه - في حديثه المتواتر والمعروف بين الفريقين وهو قوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ((إنِّي مخلِّف فيكم الثِّقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبدا وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)) وغيره ممَّا يقاربه.

فلابدَّ أن تكون هذه المستحدثات إذن بمعاني أخر لا تخل بكمال الدِّين وتمام نعمته لأنَّ البيانات الشَّريفة في الأدلَّة المنيفة مرتبطة حتماً بهذا الثِّقل الأعظم الَّذي لولاه لانتهى كل شيء.

إلاَّ أنَّه قد اختفت أمور وأمور ممَّا نتج من المعانات من عصيبات الدُّهور من الكوارث الطَّبيعيَّة وغير الطَّبيعيَّة ممَّا أحوج إلى الاجتهاد كثيراً في الأحكام والموضوعات غير المبتعدة عن النُّصوص المألوفة جهد الإمكان، فأتعب الأعلام الماضون أنفسهم في ذلك - جزاهم الله خيراً - بما أوصلهم إلى بعض النَّتائج ولو بالأخذ ببعض العمومات والاطلاقات أو المفاهيم المقبولة ونحو ذلك.

ومع ذلك لم يكن كل شيء قد ساعد الحظ للوصول إليه بسهولة بنجاح تام على التَّحقيق للإجمال والإبهام ونحوهما من عوارض النُّصوص والابتلاءات الَّتي لابدَّ أن يُثاب على الصَّبر عليها والتَّحقيق فيها أولئك الأعلام وغيرهم من الَّذين أجهدوا أنفسهم في هذا السَّبيل ولكون بعضها ممَّا لا موضوع لها ظاهراً.

كما وقد عثر الفقهاء المحقِّقون قديماً وحديثاً على بعض الأمور ممَّا قد يوكل أمره إلى علم النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في أمور تطبيقه بسبب الإجمال الحاصل في رواياتها ونحو ذلك ممَّا لا يمكن فيه إنكار حصول مستحدثات من هذا وغيره ولو ظاهراً، وبالأخص في الآونة الأخيرة زمان التَّطوُّر العلمي من ذوات موضوعات جديدة، ولكن أحكامها قد لا تخفى على المتتبِّع فقهيَّاً كأحكام البنوك ونحوها، ممَّا يمكن ربطه بالأدلَّة المحرَّمة للرِّبا بالمباشرة أو التَّسبيب فيما يتناسب منها مع ذلك، فتكون ممَّا يمكن جعله من حالات التَّفريع عمَّا عرف من الأحكام الشَّرعيَّة النَّوعيَّة والمسائل الكليَّة، لعدم التَّلازم بين كون الموضوع جديداً ظاهراً وبين أن لا يكون له حكم شرعي أصيل في أدلَّته المتعارفة، ولو بأن يجتهد في

ص: 48

سبيل تحصيله بأكثر ممَّا ينبغي.

وقد تكون هناك موضوعات تحتاج إلى استنباط جديد لصالحها يشبه التَّأسيس لغرابته عن الأحكام تقريباً لا كالتَّفريعي، ولكنَّه أيضاً هو قابل لأن يكون منضمَّاً إلى بعض مصاديق العمومات أو الاطلاقات أو المفاهيم العامَّة المعتبرة، أو الرًّجوع إلى بعض الإمارات الظَّنيَّة الأقوى لو انسدَّ باب العلم جملة أو تفصيلاً كالرُّجوع إلى التَّشخيصات الفلكيَّة كالبوصلات المغناطيسيَّة أو الإلكترونيَّة لمعرفة الاتِّجاهات في قضايا الجو والأماكن الغريبة، أو العلميَّة الأخرى ممَّا يمكن إمضاؤه شرعاً من قبل الأدلَّة العامَّة أو العرفيَّات الأقرب إلى الواقع شرعاً جرياً على قاعدة (دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة) أو قاعدة الأهم فالأهم في كلِّ الأمور الأخرى كالعشائريَّات وغيرها ممَّا قد يسمَّى مستحدثاً ولو تسامحاً، وقد يتورَّع فيه البعض بالالتزام بالاحتياط فيه كما سيأتي توضيحه في رسالتنا المفصَّلة لكون بعض الفقهاء قد يأجِّل تشخيص الحكم على مراجعة أهل الخبرة في بعض الموضوعات.

ونظراً إلى خطورة البت ببعض هذه الأمور وصعوبته حتَّى بعض حالات أخذ الحكم العام وتطبيقه على الفرع الخاص حتَّى من بعض الأذكياء والملمِّين ببعض الأمور الفقهيَّة، فلابدَّ إمَّا من الاحتياط والتَّورع إن أمكن أو مراجعة الفقيه مباشرة حولها لتشخيص موضع التَّكليف الأقرب إلى الواقع من هذه الأمور.

النُّبْذَةُ السَّابِعَة عَشَرَة حَسَنَاتُ الأَبْرَارِ سَيِّئاتِ المُقَرَّبِين

قد يتصوَّر البعض - نتيجة لما قد يشيعه شذَّاذ الآفاق من المندسيِّن في كلِّ زمان ومكان تزداد فيه الصَّحوة الدِّينيَّة إلى حيث جادَّة الصَّواب، لتشويش أفكارهم من مثل هؤلاء الشُّذَّاذ وبالأخص في هذا الزَّمان من أمثال أرباب السُّلوك والعرفان الأهوج والمعادي للسُّلوك والعرفان الحقيقي - بأنَّ الصَّلاة وأمثالها عمل المذنبين لا المطيعين تماماً، بمعنى أنَّهم لو وصلوا إلى اليقين حسب ادعاءاتهم الباطلة لانتفى الموجب إلى تلك العبادة وأمثالها، تشبُّثاً بشبهة صوَّروها للنَّاس من قوله تعالى ]وَأُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقَين[، ونتيجتها حسب ما يفترون بأنَّ من صار على يقين من

ص: 49

أمره بأنَّه في طاعة تامَّة سقطت عنه التَّكاليف، بينما صريح الآية والأدلَّة الأخرى وسلوك الأولياء على نهج النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ما انفكَّ عن أداءها حتَّى الموت وأعمال خيار الأمَّة وبالإجماع المطلق يشهد لها التَّأريخ بأحرف من نور بأنَّهم وإلى آخر حياتهم ما تركوها ولا تركوا الإيصاء بها، وإنَّ الَّذي وصل إلى اليقين كما يتصوَّر ذلك البعض أو يصوِّره المصوُّرون مع الَّذي لم يصل إليه هو على حدٍّ سواء في التَّكليف، فيجب الاستمرار على عبادات الإسلام وتعاليم الشَّريعة وإلى حد الموت، ليغفر الله بذلك ذنب المذنبين ولترتفع درجات غيرهم إلى أعلى علييِّن، ولأنَّ اليقين هو يوم الحساب ونتيجة الامتحان، فهناك يحيى كل من يحيا عن بيِّنة ويهلك كل من يهلك عن بيِّنة، ونسأل الله حسن البداية وحسن الخاتمة وعلى نهج الشَّريعة المقدَّسة لا غير.

بل إنَّ أولياء الله

على قربهم من الله تعالى في إخلاصهم ودوام عباداتهم - وإلى حيث ما أنهوا حياتهم المثلى على هذه الوتيرة والأزيد منها - أعطونا دروساً عظيمة القدر لو تتبَّع لأسعدت البشريَّة، منها أن المستحبَّات في نظرهم عرفانيَّاً كالواجبات وأنَّهم في خجل من المولى تعالى، لتصوُّرهم عرفانيَّاً أنَّهم في ابتعاد عن حضرته المقدَّسة وعمَّا يناسبه وإن أتوا بكلِّ ما يحب ويستحب ولم يكونوا عصاة شرعاً لعصمة مثل الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فإذا كان نظرهم في المستحبَّات

هو هذا فكيف نظرهم إذن تجاه الواجبات، وإذا كان نظرهم للأمور عامَّة هكذا تجاهه فكيف بنا نحن إذن.

النُّبْذَةُ الثَّامِنَة عَشَرَة بَعْضُ المُصْطَلَحَات النَّافِعَة في الرِّسَالَة

إنَّ من المناسب جدَّاً قبل البدء بالمسائل الفقهيَّة لهذه الرِّسالة أن نذكر بعض شروح المصطلحات الَّتي وردت فيها، وبيان بعض التَّعاريف الأخرى وهي: -

1- الوجوب في هذه الرَّسالة: هو إلزام المكلَّف بفعل ما يحرم تركه شرعاً مع العقاب عليه إذا حصل التَّرك، وقد تستعمل لها كلمة لابدَّ.

2- الحرمة: هي إلزام المكلَّف بترك ما يحرم فعله شرعاً مع العقاب عليه إذا حصل ذلك الفعل، وقد تستعمل لها كلمة لا يجوز.

ص: 50

3- الاستحباب: هو ترجيح الفعل على التَّرك شرعاً مع الإثابة على فعله لو كان أخرويَّاً، ويجوز تركه بلا إثم فيه.

4- الكراهة: هي ترجيح ترك الشَّيء على فعله شرعاً مع الإثابة على التَّرك وتجويز فعله بلا إثمَّ فيه.

5- الإباحة: هي التَّخيير بين فعل الشَّيء وعدمه بلا ترجيح شرعي، لأنَّهما سواء في نظر الشَّرع الشَّريف، وإن رجحَّت أحدهما بعض النُّصوص غير المقبولة، لأنَّ المعيار هنا حكم الشَّارع لا غير.

6- التَّعبُّدي: وهو ما يجب الالتزام به بذاته لذاته كفريضة الصَّلاة وغيرها مع قصد القربة إلى الله .

7- التَّوصُّلي: وهو ما يجب الإلتزام به لغيره ولو عقلاً كغسل الثَّوب بالنسبة إلى الصَّلاة ومقدِّمة الواجب وإن لم تقصد القربة.

8 - العيني: وهو ما وجب على الإنسان عيناً، كالاجتهاد إذا انعدم المجتهدون والولد الأكبر في القضاء عن والده إذا مات.

9 - الكفائي: وهو ما إذا قام به البعض سقط عن الباقي، وإذا لم يقم به الجميع أثم الجميع.

10 - التَّعييني: وهو ما عيَّنه الشَّارع بنفسه وظيفة للمكلَّف، كالعبادات الواجبة على كل مكلَّف - ولو كانت أموراً متعدِّدة - كخصال الكفَّارة الثَّلاث جمعاً على قاتل النَّفس المحترمة عمداً والمفطر في شهر رمضان على حرام.

11 - التَّخييري: وهو ما لو خُيِّر الإنسان بين شيئين أو أكثر، كأحد خصال الكفَّارة الثَّلاث بالنِّسبة إلى من أفطر عمداً في شهر رمضان على حلال في أساسه مثلاً.

12- الجواز: بمعنى الإباحة، وقد تستعمل لها كلمة لا بأس.

13- الأقوى: فتوى يحرم ترك العمل بها - وإن كان في مقابلها قول آخر لكونه أضعف من الأقوى.

14- الأظهر: فتوى كذلك.

15- الأحوط وجوباً: كالفتوى.

ص: 51

16- الأحوط استحباباً: كالمستحب.

17- ابتداء المسألة بالاحتياط دليل على الوجوب تقريباً، وكذا انتهاؤها به إذا لم يبتدأ بها بفتوى غيره.

18- ذكر الاحتياط بعد الفتوى دليل استحبابه.

19- لا مانع: بمعنى الإباحة مثل لا بأس ويجوز.

20- الأحوط الأولى دليل الاستحباب.

21- يصح: بمعنى الإجزاء والاكتفاء بالعمل.

22- يفسد: بمعنى الحاجة إلى الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه، إذا كان ممَّا يكون كذلك، أو يحتاج إلى إبراء الذمَّة الماليَّة إذا كان من الماليَّات.

23- الإشكال: بمعنى وجوب التَّوقُّف إلى حين مراجعتنا للاستيضاح، ومقتضاه الفعلي هو الاحتياط بالتَّرك في العمل أو عكسه.

24- المستحبَّات المذكورة في الرِّسالة ينبغي أن يؤتى بها على أساس التَّسامح في أدلَّة السُّنن ولرواية من بلغه ثواب على عمل ولو بنحو رجاء المطلوبيَّة، لأنَّنا جمعنا فيها ما تأكَّد استحبابه وغيره لئلاَّ تفوت المنافع المرجوَّة.

25- كل كلام في هذه الرِّسالة ما بين خطَّين يعتبر جملة معترضة وذات فائدة وإن كانت من غير صميم الكلام في بعض الحالات.

وهناك أمور أخرى من المصطلحات استغنينا عن ذكرها في هذا المختصر، ولربَّما نذكر بعضها وما يعرِّفها فيما يأتي أثناء العرض.

هذا آخر ما بوسعنا من النُّبذ المفيدة قبل مقدِّمات الرِّسالة الأخرى، اقتصرنا على إيراده في هذه الرِّسالة استعجالاً، على أمل التَّوسُّع المناسب فيه في موسوعتنا الفقهيَّة القادمة بإذن الله تعالى.

ص: 52

مُقَدِّمَاتِ التَّفَقُّه في الدِّين مَسَائِلُ الاِجْتِهَاد والتَّقْلِيد والاِحْتِيَاط

ص: 53

ص: 54

القِسْمُ الثَّاني

وهي: -

مَسَائِلُ الاِجْتِهَاد والتَّقْلِيد والاِحْتِيَاط

لابدَّ من بيان مسائل مهمَّة - قبل البدء بمسائل الرِّسالة العمليَّة سواء ما كان من مقدِّماتها أو غاياتها - تتعلَّق بأمور الاجتهاد والتَّقليد والاحتياط الَّتي هي كمقدِّمات لمقدِّمات الرِّسالة المقبلة وإن أطلق على الجميع بالمقدِّمات العامَّة كما فيما مضى، لارتباطها بشؤون الأحكام الشَّرعيَّة المقبلة - وإن كانت الكتب الفقهيَّة القديمة خالية منها - ولما سيظهر من مسائلها الكثير من الفوائد.

وقد تقدَّم أنَّ مدارك هذه المسائل عقليَّة نوعاً - لانحصار أخذ المكلَّف أحكامه الشَّرعيَّة عن هذه الطُّرق الثَّلاثة لا غير، فيكون وجوبها وجوباً عقليَّاً انحصرت في جملتها أحكام الشَّريعة على كلِّ مكلَّف، وإن دلَّ على كلٍّ من الثَّلاثة - ممَّا يظهر أهميَّته ولزومه - أكثر بعض الأدلَّة الشَّرعيَّة الأخرى، على ما أوضحناه وعلى ما سيتَّضح في الموسوعة.

مَسَائِلُ الاِجْتِهَاد

(مسألة 1) يجب على كلِّ مكلَّف أن يحرز امتثال التَّكاليف الإلزاميَّة الَّتي عليه شرعاً،ويتحقَّق ذلك

بأحد أمور وفيما يتناسب مع كل منها وحسب مجاله الشَّرعي المفروض له، وهي: -

1- اليقين 2- الاجتهاد 3- التَّقليد 4- الاحتياط.

وبما أنَّ موارد اليقين في الغالب تنحصر في الضَّروريَّات وهي معلومة لا تقليد فيها، فلا مناص للمكلَّف في إحراز الامتثال في غيرها من الأخذ بأحد الثَّلاثة الأخيرة بنحو

ص: 55

الحصر العقلي - كما مرَّ -، وكلامنا الآن في الأوَّل منها، وما يخص الآخرَين يأتي قريباً في محلِّه، وقد ذكرنا معنى الاجتهاد سابقاً في النُّبذ الماضية.

وهو واجب كفائي في أصل الحكم، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا لم يقم به الجميع أثموا جميعاً، ولا يتعيَّن إلاَّ مع فقد المجتهد وفقد القدرة على الاحتياط - وإن لم يكن الاحتياط حكماً في الواقع - وعدم ظهور إمارة تدل على وجود أحد مؤهل للاجتهاد سواه يعطي النَّتاج من قبله وإن طالت مدَّة تحصيله لذلك.

(مسألة 2) المجتهد مطلق ومتجزِّيء، وقد أشرنا سابقاً إلى شيء من معنييهما.

فالمجتهد المطلق يلزمه العمل باجتهاده أو أن يعمل بالاحتياط، وكذا المتجزِّيء بالنِّسبة إلى الموارد الَّتي يتمكَّن فيها من الاستنباط أو أن يحتاط في مسائل قدرته على الاحتياط، وأمَّا فيما لا يتمكَّن فيه من الاستنباط فحكمه حكم غير المجتهد، فيتخيَّر فيه بين التَّقليد والعمل بالاحتياط الممكن، أو يواصل تحقيقه للاجتهاد في تلك المسائل الأخرى، ما لم تكن واجباته فيها فوريَّة لا تتوسَّع بسعة الوقت المحقِّق للاجتهاد، فإن كانت هناك واجبات فوريَّة ولم تكن يقينيَّة أو ضروريَّة فعليه التَّقليد أو الاحتياط فيها كما مرَّ.

(مسألة 3) يشترط في مرجع التَّقليد تحقُّق أمور: -

1 - البلوغ 2 - العقل 3 - الإيمان 4 - الذكورة

5 - طهارة المولد 6 - الاجتهاد

7 - العدالة

8 - الحياة إبتداءاً لا استدامة، فلا يجوز تقليد الميِّت إبتداءاً ويجوز استدامة.

9 - الضَّبط المتعارف، ولو بأن يراجع مصادره الاجتهاديَّة بعد فترة إعتياديَّة.

10 - الأعلميَّة - على الأحوط وجوباً - مع إمكانها وتحقُّقها كما سيأتي.

(مسألة 4) يشترط في القاضي الشَّرعي ما يشترط في مرجع التَّقليد عدا الأعلميَّة، فلا يجوز التَّقاضي عند من لم يبلغ رتبة الاجتهاد، نعم الأحوط استحباباً التَّرافع عند الأعلم مع إمكانه، بل لا ينبغي تركه والالتجاء إلى غير الأعلم، بل لا يجوز إحتياطاً ترك الأعلم لو أحرز الحكم العادل عنده أكثر من غيره.

وكذا الأحوط استحباباً كون الولاية على الأيتام والمجانين والأوقاف - الَّتي لا متولِّي

ص: 56

لها - والوصايا - الَّتي لا وصي معيَّن لها في أساسها، أو كان فيها وصي ومات، أو قصَّر في التَّطبيق وخرج عن الأهليَّة - ونحو ذلك من قبل الأعلم دون أن يكون واجباً، بل يكفي ذلك للمجاز من قبل الفقيه من وكلائه حسبة وإن لم يكن مجتهداً.

(مسألة 5) يحرم الإفتاء على من ليس أهلاً للفتوى، كما لا يجوز لمن ليس أهلاً للقضاء التَّصدي له، بل لا يجوز التَّرافع إليه ولا الشَّهادة عنده، بل لا يجوز للفئة الشَّرعيَّة العُليا تمكينه من ذلك، نعم إذا انحصر استنقاذ الحق بالتَّرافع إليه فلا مانع بعد الاستجازة من الحاكم الشَّرعي وأن يكون تحت إشرافه إحتياطاً.

(مسألة 6) العدالة هي (ملكة نفسانيَّة مؤدَّاها الاستقامة على جادَّة الشَّرع)، وأقل قراءنها عدم ارتكاب الكبائر - الآتي تعدادها في كتاب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر -، بحيث لو حصل أمامه شيء منها لارتدع عنه فوراً - بل استنكره -، وكذلك عدم الإصرار على الصَّغائر لو كان، وهي ثابتة في وجوبها لأن يتَّصف بها الفقيه المقلَّد والحاكم الشَّرعي العام والقاضي وإمام الجمعة والجماعة وشهود الإثبات في الدَّعاوى والبيِّنات الأخرى، وإن وجبت لأن يتحلَّى بها كل فرد مكلَّف.

ولو اتَّصف بها سائر النَّاس لما وصلوا لما لا يُحمد عقباه في أكثر حالات العيش المرير في عالمنا سابقاً ولاحقاً، ولحصلت الاستقامة في جميع أمورهم، وكما يحثُّنا عليه دوماً نبيِّنا وأئمَّتنا وأعلامنا المقدَّسون.

(مسألة 7) الأعلم هو (الأقدر على استنباط الأحكام من مظانِّها من غيره في المسائل الابتلائيَّة) على ما هو المعروف عنه بين الفقهاء نوعاً، وذلك لأنَّه أكثر احاطة بالمدارك الفقهيَّة العامَّة وتطبيقها من غيره، وبتحقُّق ذلك فيه تامَّاً مع بقيَّة الشُّروط اللاَّزمة في المرجع ممَّا مرَّ ذكره.

وبناءاً على ذلك يجب الإرشاد إليه من قبل المراجع الأقل منه والاستفادة منه من قبلهم واختياره في التَّقليد من قبل العوام - من بين بقيَّة المراجع - لدقَّته وكثرة تجاربه أو تكرارها متقنة عنده، وهذا كلُّه إذا فسِّر الأعلم بما ذكرناه.

وإن كان تفسيره بأكثريَّة احاطته في المسائل غير الابتلائيَّة، أو في بقيَّة العلوم، أو

ص: 57

معرفته المهمَّة بموضوعات الأحكام مع مساواته للآخرين اجتهاداً في المسائل الابتلائيَّة لا أكثر، فإنَّه لا يجب على المكلَّف ما ذكرناه من هذا الإلتزام، إلاَّ إذا أعطته أعلميَّته في تلك الأمور أعلميَّة في الابتلائيَّة أكثر من الغير للمناسبات المأديَّة إلى ذلك فهي كالأوَّل.

(مسألة 8) يثبت اجتهاد المجتهد أو أعلميَّته لدى المكلَّفين والمجتهدين بأمور: -

1- أن يحصل للمكلَّف اليقين، كما إذا كان من أهل العلم والتَّمييز في تشخيص المجتهد وتشخيص الأعلم من غيرهما بالاختبار في المعايشة العلميَّة من مختلف حالاتها.

2- شهادة العدلين من أهل العلم، مع تمكُّنهما مسبقاً من تشخيص المجتهد لإجتهادهما مثلاً، وكذا تشخيص الأعلم، بشرط أن لا يعارضهما مثلهما ضدَّ الشَّخص أو لصالح غيره.

3- قول جماعة مهمَّة من أهل العلم الَّذين يتمكَّنون من تمييز المجتهد والأعلم من غيرهما، مع حصول الاطمئنان بقولهم بحيث لا يعلم تواطؤهم على غير الحقيقة، وهذا ما يدعى بالتَّواتر ومع حصول الاطمئنان أيضاً، وكذا إذا لم يقيَّد بعدد كثير ممَّا قد يدعى بالشِّياع المفيد للعلم، وقد لا يكون هذا مرتبطاً بخصوص أهل العلم بل بهم وغيرهم من المؤمنين الثِّقات.

4- خبر الثِّقة المطمئن بقوله، كالزَّوج الأمين إذا أرشد عائلته إلى مجتهد للتَّقليد والمراجعة والاقتضاء عنده.

(مسألة 9) تثبت عدالة المجتهد بما يثبت به اجتهاده وأعلميَّته وبحسن الظَّاهر الموجب للوثوق به.

(مسألة 10) بناءاً على المعنى الأوَّل للأعلم في المسألة السَّابقة - وهو القدرة والفعليَّة الاستنباطيَّة للأحكام في المسائل الابتلائيَّة وما ألحق بذلك من ذوي القدرة الأوسع - يجب الرجوع في تعيينه إلى أهل الخبرة والاِستنباط أكثر من أمر ما اشترطناه في أصل الاجتهاد، ولا يجوز الرجوع في ذلك إلى من لا خبرة له بذلك، وإن كان أهل خبرة أصل الاجتهاد من الأفاضل والمراهقين، لأنَّهم قد لا يدركون معرفة مستوى الأعلم مثل ما لو كان أهل خبرته مجتهدين.

ص: 58

(مسألة 11) لا يجب على المجتهد اجابة العامي لو سأله عن فتوى شرعيَّة مع ذكر دليلها وإن طلب منه ذلك في سؤاله حتَّى لو لم يقلِّده، بل يكتفي بالفتوى، بل قد يحرم عليه ذلك إذا عرف بأنَّ العامي لو عرف الدَّليل لتورط فكره بشبهات تأثِّر فيه اعوجاجاً في سيرته، أمَّا إذا كان السَّائل من قبيل أهل العلم ولكنَّه من مستوى المقلِّدين مثلاً لكون المقلِّد لم ينحصر في مستوى العامي المحض وكان قد عرف المجتهد أنَّ هدفه من سؤاله كان لدفع شبهة مثلاً بذلك مع كونه بلا عمل ذلك الدَّليل فإنَّه جائز حتماً بل راجح بل واجب في بعض الحالات كانحصار دفع الشبهة به وقد يكون ذلك من مستلزمات التَّوسُّع العلمي حال التَّحصيل العلمي.

مَسَائِلُ التَّقلِيد

(مسألة 12) التَّقليد كما مرَّ هو عمل المكلَّف على طبق فتاوى المجتهد، على نحو الانقياد الشَّرعي في كلَّ

أعماله لكل أحكام المجتهد المستنبطة المناسبة لها وغيرها، وسواء كانت أعماله واقعة فعلاً أم لا.

(مسألة 13) يجب على كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد في عباداته ومعاملاته وسائر أفعاله وتروقه أن يكون مقلِّداً أو محتاطاً مع التَّمكُّن من الاحتياط، وإلاَّ فيتعيَّن عليه التَّقليد فقط كما سيأتي في مسائل الاحتياط، إلاَّ أن يحصل له العلم بالحكم، كما في بعض الواجبات المسلَّمة في صدورها والضَّروريَّات، وكثير من المستحبَّات والمباحات ممَّا لا يحتاج إلى تقليد فيها.

(مسألة 14) تعرف فتوى المجتهد - لمن يريد التَّعرُّف عليها - من طرق خمسة: -

1- أن يسمع العامي المسألة من المجتهد نفسه مباشرة أو بالوسائل الحديثة المطمئن بها كالهاتف السَّالم من التَّشويش ونحوه.

2- أن يخبره شاهدان عادلان بفتاواه.

3- أن يسمع من شخص يوثق بكلامه ولو بالهاتف لو لم يشتبه في صوته.

4- أن تكون المسألة موجودة في استفتاء تحريري مطمئن بصدوره من قِبل المجتهد نفسه

ص: 59

ككونه كان بواسطة توقيعه الصَّحيح.

5- أن تكون المسألة موجودة في آخر طبعة من رسالته العمليَّة، مع الاطمئنان بصحَّة ما فيها من الوسائل الخاصَّة.

(مسألة 15) يجب تقليد الأعلم مع إمكانه وحصوله مع ارتباطه بالشُّروط اللازمة الأخرى، ويجب الفحص عنه بما مضى ذكره.

(مسألة 16) يجب تقليد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم فإن أجاز تقليد غيره فللمكلَّف التَّحوُّل مع الإجازة، وإلاَّ فلا يجوز ويبقى مستمرَّاً على تقليد السَّابق.

(مسألة 17) إذا كان الأعلم منحصراً في فرد بين مجموعة ولم يتمكَّن من تعيينه تعيَّن الأخذ بالاحتياط أو أحوط القولين أو الأقوال مع التَّمكُّن، وإلاَّ تخيَّر بينهم لكون كل منهم أصبح مشكوك الأعلميَّة.

(مسألة 18) إذا كان أحد المجتهدَين أعلم من الأخر ففي حالة ما إذا لم يكن يعلم الاختلاف بينهما فلا مانع من الرجوع إلى غير الأعلم، وكذا إذا كانت فتاواه موافقة للمشهور الَّذي لا يعارضه مشهور في قباله، وكذا إذا كانت موافقة للاحتياط الممكن، وكذا إذا أحرزت عدالته ولم تحرز عدالة الأعلم.

وأمَّا في حالة وجود العلم بالاختلاف فلابُدَّ من الرجوع إلى الأعلم مع إحراز عدالته، بل وكذا في مسائل الوفاق إذا خالفت المشهور المذكور، وفي صورة التَّردد بين الاختلاف وغيره فعليه العمل بأحوط القولَين كما مرَّ.

(مسألة 19) إذا تعادل مجتهدان أو أكثر مع توفُّر الصِّفات اللاَّزمة الأخرى في كلِّ منهم فللمكلَّف اختيار أيهُّم شاء، إلاَّ إذا كانت فتاوى أحدهم أقرب للمشهور وللاحتياط من الآخرين.

(مسألة 20) إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة فقهيَّة ككونه أفتى سابقاً وافتقدت مسائله، أو كان أعلم في بحوثه الدِّراسيَّة العلميَّة فقط كالنَّظريَّات في دقَّتها من دون أن تحرز مجموعة فتوائيَّة كافية لديه فللمكلَّف أن يقلِّد أيَّ مجتهد كفوء غيره الأعلم فالأعلم.

(مسألة 21) للمكلَّف أن يبعِّض في تقليده بين اثنين أو أكثر إذا كان كل من هذين

ص: 60

المجتهدين أو الأكثر أعلم من غيره في أبواب خاصَّة من الفقه دون الباقي، كما لو كان أحدهما أعلم في العبادات والأخر أعلم في المعاملات وهكذا، فيقلِّد كلاًّ فيما فيه أعلميَّته مع إحراز تعادل المجتهدين أو الأكثر في أصل الاجتهاد من حيث المبدأ.

(مسألة 22) إذا قلَّد من ليس أهلاً للفتوى فعليه العدول عنه فوراً إلى المجتهد الكفء أو الاحتياط بالممكن إن لم يمكنه الاجتهاد فيما هو مبتلى به.

(مسألة 23) من لم يقلِّد في حياته مجتهداً أصلاً ولكن كانت أعماله عبادات ومعاملات مطابقة صدفة لفتاوى من يتعيَّن عليه تقليده فجميع أعماله صحيحة، مع رجحان الاحتياط استحباباً بالإعادة فيما يخالف احتياطاته الممكنة في أيَّامه السَّابقة، بل تعيَّن تلك الإعادة ولو إحتياطاً وجوبيَّاً إن كان ترك ذلك عن عناد.

(مسألة 24) إذا كان المكلَّف مقلِّداً لمجتهد في السَّابق وكان شاكَّاً في أنَّ تقليده له كان صحيحاً أم فاسداً بنى على الصحَّة.

(مسألة 25) يجب تعلُّم المسائل الابتلائيَّة جهد الإمكان، ليكون متهيأً للعمل الصَّحيح، ومن ذلك الضَّروريَّات من مسائل العبادات في مقدِّماتها وأجزائها وشرائطها وموانعها، وبالأخص مسائل الشَّك والسَّهو، ومن ذلك أيضاً ضروريَّات المعاملات لاستمرار الابتلاء بها بين أهل الكسب المعاشي، إلى غيرها من الابتلائيَّات الشَّرعيَّة، ولو كان ذلك التَّعلم بتعليم الغير إيَّاه لوجوبه ولو جملة حتَّى لو كان ببذل أموال في ذلك السَّبيل.

نعم لو علم إجمالاً أنَّ عمله كان واجداً لجميع الأجزاء والشَّرائط وفاقداً للموانع صحَّ وإن لم يعلمه تفصيلاً، ولكن مع الشَّك بسبب وجود الفرق بين الإجمال والتَّفصيل - إذ قد يسبِّب بعض الإجمال غفلة عن واجب من الواجبات - فالأحوط الاستئناف لتلك الأعمال العباديَّة مثلاً.

(مسألة 26) إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأً وجب عليه إعلام من تعلَّم منه.

(مسألة 27) إذا عرض للمجتهد ما يوجب فقده للشَّرائط كضعف الاجتهاد أو الجنون أو الفسق أو نحوهما سقط عن الاعتبار ووجب على العالم بذلك الفحص عن

ص: 61

مجتهد لائق آخر غيره.

(مسألة 28) إذا بلغ الصَّبي فعليه الفحص للتَّقليد مع إمكانه منه، وإن تعذَّر أو تعسَّر عليه ذلك وكان ولي أمره مقلِّداً لمجتهد جامع للشَّرائط وكان الصَّبي قبيل بلوغه مع وليِّه على عمل واحد باطمئنان تام فلا مانع من البقاء عليه عند بلوغه ولو مؤقَّتاً، مع وجوب الفحص الجديد عند تجدُّد القدرة عليه بعد ذلك، ولو اقتضى ذلك الفحص ما يوجب إعادة بعض الواجبات حينما قلَّد الصَّبي إذا بلغ مجتهداً غير الأوَّل.

(مسألة 29) يعرف بلوغ الصَّبي بثلاث إمارات، وهي: -

1 - الاحتلام.

2 - ظهور الشَّعر الخشن على العانة.

3 - إكمال خمس عشرة سنة هلاليَّة.

ويعرف بلوغ الصَّبية ببلوغها تسع سنين هلاليَّة.

(مسألة 30) يجوز تقليد الميِّت استمراراً لا إبتداءاً، بشروطٍ خمسة: -

1- أن يكون عالماً بالمسائل القديمة.

2 - أن يكون عاملاً بها.

3 - أن تكون الفتاوى موافقة للمشهور الَّذي لا يعارضه مشهور آخر ضدَّه.

4 - أن تكون موافقة للاِحتياط الممكن.

5 - أن نراجع في المسائل المستحدثة.

(مسألة 31) لا يجوز العدول إلى الميِّت الَّذي كان مقلِّداً له بعد تقليد الحي عنه إذا استقرَّ عليه، إلاَّ إذا انكشف عدم أهليَّة الحي للتَّقليد من أوَّله، لكن عليه أن يحاول الفحص عن حيٍّ آخر غير الَّذي قلَّده ليستند إليه في الرجوع إلى الميِّت إحتياطاً، وأمَّا إذا انكشف عدم أهليَّة ذلك الحي في الأثناء فعليه التَّفحص عن حي آخر لتقليده، ومن دون رجوع إلى ذلك الميِّت ولو كان بإمضاء من بعض الأحياء.

(مسألة 32) الوكيل في عمل الغير - كإجراء عقد كالزَّواج أو إيقاع كالطَّلاق أو قبض خمس أو زكاة أو كفَّارة أو نحوها - يجب عليه أن يعمل بمقتضى تقليد الموكِّل أو

ص: 62

اجتهاده، لا تقليد نفسه أو اجتهاده مع اختلاف الاثنين في فتوى تلك الأعمال.

بخلاف الوصي الَّذي أوصاه موصِّيه في تطبيق مواد الوصيَّة كاستيجار الصَّلاة عن الميِّت أو الصِّيام عنه أو نحوهما، فإنَّه يجب عليه أن يتصرَّف على طبق فتوى مقلِّده أو طبق اجتهاده إن كان مجتهداً مبرئاً للذمَّة، وكذا عمل الولي للصَّغير والمجنون لكن على أساس الغبطة في أمورهما.

(مسألة 33) إذا مات الموكِّل سقطت جميع وكالاته للآخرين سواء كان الموكِّل مجتهداً أو غيره.

مَسَائلُ الاِحْتِياط

(مسألة 34) الاحتياط الَّذي مضى معناه قد يقتضي العمل وقد يقتضي التَّرك وقد يقتضي التِّكرار:-

فالأوَّل: ففي كل مورد تردَّد الحكم فيه بين الوجوب وغير الحرمة فالاحتياط يقتضي الإتيان به، فعلى فرض أنَّ ذلك الشَّيء المكلَّف به كان واجباً مثلاً فقد أبرأ المكلَّف ذمَّته بأدائه، وإن لم يأدِّه كان مشغول الذمَّة ولو على الاحتمال.

الثَّاني: ففي كل مورد تردَّد الحكم فيه بين الحرمة وغير الوجوب فالاحتياط يقتضي التَّرك، فعلى فرض أنَّ ذلك الشَّيء المكلَّف به كان محرَّماً فقد أبرأ المكلَّف ذمَّته بتركه وإن كان فعله كان غير بريء الذمَّة على الاحتمال.

الثَّالث: ففي كل مورد تردَّد الواجب فيه بين فعلين، كما إذا لم يعلم المكلَّف في مكان خاص أنَّ وظيفته الإتمام في الصَّلاة أو القصر فيها، فإنَّ الاحتياط يقتضي حينئذ أن يأتي بها مرَّة قصراً ومرَّة تماماً.

(مسألة 35) كل مورد لا يتمكَّن المكلَّف فيه من الاحتياط يتعيَّن عليه إمَّا الاجتهاد - سواء كان في تشخيص الحكم الشَّرعي أو الموضوع له حسب حاجته منهما - أو التَّقليد لمن كان مجتهداً في ذلك اجتهاداً مطمئنَّاً به - كما إذا شكَّ في مال بين صغيرين أو مجنونين أو صغير ومجنون - فإنَّ الاحتياط في مثل ذلك متعذِّر، فلابدَّ فيه من الاجتهاد أو التَّقليد، بل يجب التَّوقُّف عن اتخِّاذ أيَّ قرار إذا تعسَّر ما لم يحصل أحدهما.

ص: 63

(مسألة 36) قد لا يسع العامي أن يميِّز ما يقتضيه الاحتياط، مثال ذلك أنَّ الفقهاء قد اختلفوا في جواز الوضوء والغُسل بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، فالاحتياط يقتضي ترك ذلك، إلاَّ إنَّه إذا لم يكن عند المكلَّف غير هذا الماء، فالاحتياط يقتضي أن يتوضأ أو يغتسل ويتيمَّم أيضاً إذا أمكنه التَّيمُّم، وقد يعارض الاحتياط من جهة احتياط

أخر ويعسر على العامي تشخيص ذلك، مثلاً إذا تردَّد عدد التَّسبيحة الواجبة في الصَّلاة في الرِّكعتين الأخيرتين من الرُّباعيَّات بين الواحدة والثَّلاث، فالاحتياط يقتضي الإتيان بالثَّلاث، لكنَّه إذا ضاق الوقت واستلزم هذا الاحتياط أن يقع مقدار من الصَّلاة خارج الوقت فهذا الاحتياط لا يقبل، ففي مثل ذلك ينحصر الأمر في التَّقليد أو الاجتهاد.

(مسألة 37) لا يجب العمل بالاحتياط المستحب، وأمَّا الاحتياط الواجب الَّذي يتميَّز فيه عن سابقه بما أوضحناه في باب إيضاح الاصطلاحيَّات لهذه الرِّسالة، فلابدَّ من العمل به في جميع موارده أو مراجعتنا جهد الإمكان.

(مسألة 38)

يجب على العامي في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم أن يعمل بالاحتياط الممكن كما مرَّ.

(مسألة 39) هناك أمور احتياطيَّة يجب مراعاتها، لورودها في الأدلَّة الشَّريفة بما يفيد الوجوب ولاعتناء الفقهاء رضي الله عنهم بها خلفاً عن سلف كما سبق شيء عنها، كالاحتياط في الدِّماء والفروج واللحوم والأموال المحترمة، وإن نوقش في الأخير، وسوف يظهر للمتابع الكريم ما لهذه الأمور من مصاديق مناسبة مستنتجة عن أدلَّتها عناية بها في مسائل هذه الرِّسالة الآتية إن شاء الله تعالى.

ص: 64

القِسْمُ الثَّالِث مُقَدِّمَات العِبَادَات وَغَيْرِهَا وَالطَّهَارَة

لم يكن الكلام عن الطَّهارة في فقه العبادات وغيرها - لو توسَّعنا في مفادها - منحصراً بالصَّلاة، وإن كانت مألوفة بين البعض بحسب الظَّاهر في أنَّها من مقدِّماتها وعلى الأكثر من غيرها أو هي عندهم من مقدِّماتها خاصَّة، كما ألف وعرف ترتيب ذلك في الرَّسائل العمليَّة من تقديمها المباشر عليها ولذلك حصل هذا الشعور، وإن كانت الصَّلاة هي أشرف العبادات ويعتبر في صحَّتها الطَّهارة كما سيأتي في أحكامها، بل هي محتاجة إلى كل ما يبعد صاحبها - بأحسن النيَّة والقصد والإخلاص - عن لوثة الرِّياء الَّذي هو الشَّرك الباطني المبعِّد لها عن الطَّهارة المعنويَّة المطلوبة كذلك أكثر من حالة التَّطهير بالماء وغيره، ولذا لا تصح عبادة الكافر وصلاته - وإن وجبت عليه كما هو محرَّر في محلِّه من بعض كتبنا - لعدم إمكان طهارته بالماء ونحوه ما دام كافراً.

وقد يستكشف بطلانها من قوله تعالى] لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [ من جهة التَّأثُّر الفكري بلوثة السُّكر المذهب للعقل وهو النِّجاسة الباطنيَّة حتَّى لو غسل فمه قبلها فالمسألة أبعد من ناحية التَّطهير المادِّي ولا في خصوص الصَّلاة كما سيجيء.

وهذا التَّوسُّع في الصَّلاة مقصود لدينا حتماً على أساس صحَّة التَّوسُّع في الطَّهارة في هذه المقامات وغيرها ولو على الأقل، ولعلَّ ظهور بعض هذا المعنى في خصوص الصَّلاة من تقديم الكلام عن الطَّهارة قبلها مباشرة إنَّما هو من جهة لزوم ديمومة الكون على الطَّهارة في جميع أمورها من التَّكبير إلى التَّسليم، ولتكرارها يوميَّاً لخمس صلوات ولما ورد ((لا صلاة إلاَّ بطهور)) ولكونها عمود الدِّين لا لكونها لم تكن شرطاً في أمور أخرى ولو في الجملة.

ولكن ليس الأمر في تقديم الكلام عن الطَّهارة كذلك لهذا الخصوص ومن جميع النَّواحي - كما قد يتوهَّم - دون الأخريات من بعض العبادات أو الأوسع منها، إضافة إلى

ص: 65

ما قد يزيد على الطَّهارة المادِّية من الماء والتُّراب من المعنى الأكثر لخصوص الصَّلاة كما مرَّ، لأنَّ الطَّهارة مرتبطة بالعبادات الباقية ولو في الجملة، مثل مراسيم تطهير الميِّت بتغسيله أو تيميمه مع عدم وجود الماء قبل تكفينه وتحنيطه والصَّلاة عليه لدفنه، الَّذي هو أهم غاية من حالة الصَّلاة عليه لستره وحفظ كرامته من الهتك والسِّباع.

ومثل الصَّوم باشتراط الطَّهارة فيه من الحدث الأكبر كالجنابة والحيض والنَّفاس وما ألحق به من الإستحاضة الكبرى والوسطى، إذا تمَّ الفراغ من ذلك الحدث ليلاً بوجوب الغُسل فيه قبل أن يصبح الصَّباح ليكون الصَّائم مهيَّأً لصوم صحيح منه بذلك الغُسل لرفع تلك الأحداث شرعاً على ما فصَّلناه في كتاب الصَّوم.

ومثل الاعتكاف المشروط فيه الطَّهارة في كثير من حالاته الَّتي هي مثل الصَّوم - لأنَّ الصَّوم من أعمال المعتكف - ولأجل المسجديَّة، لأنَّه يشترط أن يتواجد في المسجد حينما يريد أعماله.

ومثل الحج المشروط فيه الطَّهارة من تلك الواجبات، لاشتراطها في أمر دخول المسجد الحرام وللطَّواف وصلاته، المشروط فيهما الخلاص من الأحداث الكبيرة المذكورة أعلاه وما يلحق بهما، ومن الأحداث الصَّغيرة كالنَّوم والتَّبوُّل والإغماء والاستحاضة الصغرى، الَّتي لا ترتفع إلاَّ بالوضوء، الَّذي لا يصحُّ الطَّواف ولا صلاته إلاَّ به منها.

ومثل العمرة العائدة للمتمتِّع قبل الحجِّ وغيرها كالعمرة المفردة على ما فصلَّناه في كتابنا (غنية النَّاسكين).

بل قد يتَّسع معنى الطَّهارة إلى ما ذكرناه آنفاً بنحو الإشارة في الصَّلاة في العبادات المذكورة الأخرى لإدراك درجاتها الرَّوحانيَّة العالية إن صحَّ التَّعبير والمقصود.

فقد تتَّسع للزَّكاة أيضاً لتنقية أموال النَّاس المزكِّين لها من أوساخها، وكذلك إزالة ما يسبِّب معصية الخالق من ضمِّ أموال الغير - وخلطها بمال المكلَّف عدواناً - كالحقوق الشَّرعيَّة الشَّريفة من الخمس - العائد للإمام والسَّادات الكرام - ومن ديون النَّاس الآخرين إن فسَّرنا معنى الطَّهارة بمعنى النَّزاهة المناسبة كما لا يخفى قريباً.

بل وكذلك بعض المعاملات ممَّا قد يمسُّها شيء من معانيها بالاجتناب عن المحرَّمات فيها، كالمكاسب المحرَّمة لنجاستها ولو في الجملة، فتنجس بها أموالها المنضمَّة إليها، وإن

ص: 66

كانت بعض تلك الأموال محلَّلة في الأساس أو لا يحل تملُّكها أصلاً إن كانت بمعنى السُّحت والحرام كالرَّشوة والسَّرقة والاغتصاب والتَّعامل الرَّبوي أو ممَّا يختلط بحلال قابل للإفراز، لأنَّها فيما عدا الحلال كلًّها نجسة وغير قابلة لأن تعتريها الطَّهارة بالمعنى التِّجاري المالي النَّزيه بالطَّريق المصحِّح للإعمال الأخرى المشروطة بالطَّهارة بالمعنى الأوسع، فلابدَّ من اجتنابها أو إرجاعها إلى أهلها أو مراجعة الحاكم الشَّرعي فيها - وفي حالة ما يختلط من ذلك بالحلال الَّذي لم يمكن إفرازه -، فلابَّد من التَّخميس لإحراز معنى الطَّهارة في المقام أيضاً على ما سيجيء تفصيله في محلِّه.

وكذلك الاقتصار في التَّعامل مع الكفَّار الكتابييِّن على اليابسات وغير المعمولة بأيديهم برطوبة.

وكحالة التَّذكية لللحوم الَّتي لو لم تحصل تذكيتها لحصلت النَّجاسة المحرِّمة للأكل والتَّعامل والموجبة لعدم صحَّة بعض الأعمال الشَّرعيَّة بسبب ذلك.

وكالأطعمة والأشربة المشروطتين في اعتيادِّيَّتهما الشَّرعيَّة بالطَّهارة في كثير من الأمور العباديَّة، إلى غير ذلك ممَّا هو مفصَّل في محلِّه في مختلف المقامات كل بحسبه.

وممَّا ينبِّهنا على ذلك أو بعضه بالمعنى الأوسع من هذا المقصد المتعارف الظَّاهري هو تعداد النَّجاسات والمطهِّرات الآتي ذكرهما والَّتي عممَّ الفقهاء ذكرهم لها قديماً وحديثاً بما يؤدِّي إلى الأوسع كذلك، فلا ضير إذن أن تكون الطَّهارة مقدَّمة على الجميع للاستفادة منها في جميع ذلك وقبل الصَّلاة مباشرة لأشرفيَّتها كما سلف.

ولذا فلنبدأ بالكلام بياناً وكما سار عليه السَّلف الطَّاهر عن المطهِّرات جميعها بعد ذكر المسببِّات جميعها الموجبة لإحراز الطَّهارة فيما يجب والمحبِّبة فيما يستحب لذلك وهي النَّجاسات، الَّتي يراد التَّخلُّص منها لصالح عموم الفقه، بناء على ما ذكرناه من التَّوسُّع أو خصوص المألوف بين الفقهاء من السِّت المذكورة في العبادات على الأقل، إذا خصَّصنا الطَّهارة فيما يتعلَّق بالماء والتُّراب في الوضوء والغُسل والتَّيمُّم وغيرهما من المطهِّرات الأخرى المرتبطة بمقدِّمات التَّطهير المؤهلة لحصول تلك الأعمال السِّت صحيحة، وكما فسَّروا الطَّهارة بأنَّها اسم للوضوء والغُسل والتّيمُّم.

فنعرِّج عليها لكونها القريبة من المتعارف أكثر والأخصُّ منه تقريباً، وهي تجهيز الميِّت

ص: 67

ومواراته والصَّلاة والصِّيام والاعتكاف والحج والعمرة بعد تقديم المقدِّمة المناسبة، وهي الكلام عن معنى الطَّهارة فنقول: -

ص: 68

كِتَابُ الطَّهَارَة

اشارة

ص: 69

ص: 70

الطَّهارة لغة هي النَّظافة والنَّزاهة، وشرعاً هي حالات يحقِّقها المكلَّف بأعمال قد تجب عليه لأمور عباديَّة متوقِّفة عليها فلا يصح إلاَّ بها، أو معامليَّة إن توسَّعنا بمفادها لا يمكن أن تملك تلك الأموال حقَّاً إلاَّ بالتَّطهير الشَّرعي لتلك الأموال، وإن لم نتوسَّع بهذا المفاد فتلك أحكام تابعة فقهيَّاً لأبوابها لا تزيد ولا تنقص عمَّا شرَّعه الله تعالى فيها وإن كان في تلك المعاملات قيود شرعيَّة ثابتة توجب التَّنزُّه من الحرام فيها واقعاً شئنا أم أبينا.

وهناك حالات في الشَّرع يحقِّقها المكلَّف بأعمال قد تستحب - لعدم ذلك التَّوقُّف الموجب -.

ومحقِّقات الطَّهارة تدعى ب- (المطهِّرات) محصاة باثني عشرة مطهِّراً نذكرها بعد ذكر النَّجاسات المسبِّبة لها.

وإن كان الأهمَّ في البيان شيئان هما المطهِّر المائي والتُّرابي ارتباطاً بالمألوف كما مرَّ، لتحقيق إزالة النَّجاسات العرضيَّة (الأخباث)، والوضوء والغُسل والتَّيمُّم لرفع الأحداث - للصَّلاة والدَّفن والصَّوم والاعتكاف والحج والعمرة - كما بيَّنَّا وكما سيأتي من جهة الحاجة الغالبة.

والكلام عن عموم الطَّهارة وما يتعلَّق بأحكامها يستدعي بيانها بمقاصد: -

ص: 71

المَقَصَدُ الأَوَّل في أَسَبَابِ المُطَهِّرَات (النَّجَاسَات الخَبَثيَّة) وأَحْكَامُها

وفيه مباحث: -

المَبْحَثُ الأَوَّل في تِعْدَادِ النَّجَاسَات الأَحَد عَشَر

لابدَّ من ذكر النَّجاسات أوَّلاً لتحقيق الكلام تامَّاً عن الطَّهارة بالتَّخلِّي عن تلك النَّجاسات بعد ذكرها على اختلافها، وبممارسة الطَّهارات أو المطهِّرات المزيحة لها في موارد الحاجة الشَّرعيَّة لذلك بعده وإن كانت الطَّهارة لولا النَّجاسات الطَّارئة هي الأصل المتَّبع على ما يدركه العقلاء والأصوليون تماماً لأنَّ الأشياء في أصلها طاهرة، ولذا أُصِّلت قاعدة الطَّهارة ليرجع إليها عند الشَّك، لأنَّ التَّخلُّص من طارئ عارض لابدَّ وأن يكون بعد العلم به.

وهذه الإزاحة ثابتة في لزومها عند طروء النَّجاسة عيناً على الشَّيء الطاهر يقيناً وما يلحق باليقين من الظُّنون المعمول بها والعاديَّة منها - على الأحوط - فلا مجال إلاَّ بتحقيقها لكسب اليقين بعدم النَّجاسة ولو لخصوص ما يشترط فيه الطَّهارة من الأعمال.

وبتعداد النَّجاسات ومن بعدها المطهِّرات يظهر لك عدم اختصاص الطَّهارة بما ذكرناه من المألوف في فهمه عند البعض، بل بما هو بالأشمل كما لا يخفى على الفطن.

وهي (إحدى عشر)، وقد يسمَّى كلٌ منها بالخبث، وقد يصاحب خبثيَّتها حدثيَّة موجبة للاغتسال:-

الأولى والثَّانية: البول والغائط.

وهما عينان نجستان من كل حيوان ذي نفس سائلة غير مأكول اللحم حتَّى لو كان بالعارض كالجلل في الإبل والبقر والغنم والدَّجاج.

وأمَّا ما يأكل لحمه - من غير الجلاَّل - فهو طاهر وإن كان ذا نفس سائلة، وكذا ما لا

ص: 72

نفس له سائلة وإن كان غير مأكول اللحم، بل وكذا الطُّيور مطلقاً وإن كان غير مأكول اللحم حتَّى الخفَّاش، مع الاحتياط استحباباً بالاجتناب عنهما.

وهذان الخبثان النَّجسان لا يجوز إبقاؤهما على الجسم واللباس في ما يشترط فيه الطَّهارة من العبادات كالصَّلاة - على ما سيأتي - وأمور الدَّفن وما قبله والصَّوم والاعتكاف والحج والعمرة ولو في الجملة.

بل لا يجوز - أيضاً - إبقاء أثرهما الحدثي كما سيجيء في خصوص الصَّلاة والصَّوم والاعتكاف والحج والعمرة في حالتي طوافهما وصلاتيهما.

وكذا لا يجوز خلط هذين الخبثين بالأغذية المأكولة والمشروبة على كل مسلم، بل على كل كافر ذمِّي - إن أمكن التَّأثير عليه وعظاً - ولو بإجباره إذا كان يسبِّب اختلاط المسلمين معه مثلاً برطوبة مسرية، بل وكذا الأدوية والصَّوابين في جميع الصُّور الاعتياديَّة لاحتمال التَّورط باستطهارها عن غفلة.

وكذا لا يجوز المتاجرة بهما حتَّى لو يستفاد من بعضهما فائدة معتدَّاً بها كالعذرات للتَّسميد إلاَّ بنحو رفع اليد للمنفعة المذكورة، وكل ذلك سوف يأتي في محلِّه من المواقع المناسبة الآتية.

(مسألة 40) لو شكَّ في حيوان أنَّه محرَّم الأكل أو محلَّله فبوله ورجيعه طاهران وإن حرم أكله عملاً، لأجل وجوب إحراز الحليَّة في اللحوم ولو إحتياطاً، وكذا لو شكَّ أنَّ له نفس سائلة أم لا لمعرفة البول والرَّجيع.

الثَّالثة: المني.

من الإنسان رجلاً كان أم امرأة على الأحوط في الأخير، ومن كل حيوان ذي نفس سائلة سواء كان محلَّل الأكل أم لا، وأمَّا لو كان من غير ذي النَّفس السَّائلة فهو طاهر وإن كان يشكل أكله كحلبلاب السَّمك بل الأحوط اجتنابه.

والكلام حول هذه النَّجاسة يناط بأمور الصَّلاة والصِّيام والاعتكاف والحج والعمرة والمساجد والأضرحة المقدَّسة والميِّت من حيث الخبثيَّة والحدثيَّة على تفصيل يأتي.

وكذلك في أمر المتاجرة بالنُّطف، كما في بعض حالات التلَّقيح الصِّناعي المحرَّم لغير

ص: 73

أهلها كما سيجيء.

(مسألة 41) قد يخرج من قِبل الرَّجل ماء ليس بالبول ولا بالمني، بل قد يشبهه في بعض الوصف، وهو مياه ثلاثة، وهي: -

1 - المذي، وهو ما يخرج بعد المداعبة أو التَّفكير بالجماع.

2 - الودي، وهو ما يخرج بعد خروج البول أو بعد أن يستبرء بالخرطات التِّسعة منه أحياناً.

3 - الوذي، وهو ما يخرج بعد خروج المني أو بعد أن يستبرء بالبول منه ثمَّ بالخرطات.

فهي مياه طاهرة - لعدم وجود مواصفات المني فيها تامَّة - لا ينجس الموضع بها، ولا ينقض الوضوء والغُسل كذلك على تفصيل يأتي في محلِّه.

الرَّابعة: الميتة.

وهي كل حيوان مات بلا تذكية (ذبح أو نحر أو صيد شرعي) من ذي النَّفس السَّائلة وممَّا يؤكل لحمه، سواء كان موتاً طبيعيَّاً أو خنقاً أو كان مريضاً - أو كان ذبحه على غير الطَّريقة الإسلاميَّة - وكذا موت الحيوان الَّذي لا يؤكل لحمه إذا كان طاهراً في أساسه ولم يذَّك فلا يمكن أن يستفاد منه تماماً، أمَّا لو ذبح هذا الحيوان على النَّهج الشَّرعي الإسلامي يكون طاهراً - وإن لم يأكل لحمه - فيستفاد من جلده مثلاً، وأمَّا نجس العين من الحيوانات فلا تنفعه تذكية ولا يستثنى منه شيء.

ويتعلَّق الكلام عن هذه النَّجاسة في العبادات من الصَّلاة والصَّوم والاعتكاف والحجِّ والعمرة، وكذا الميِّت لئلاَّ تمسَّه أجزاء الميتة كجلدها ليكفَّن به أو يكون بعضها من أجزاء تكفينه، وكذا في الأطعمة والأشربة من لحومها وسوائلها وإن كانت للتَّداوي، إلاَّ في الضَّرورة الَّتي تتوقَّف الحياة عليها ولم يكن هناك محلِّل بديل له، وكذا في أمور التِّجارة والإجارة لعدم جواز وصحَّة التَّداول بها على ما سيتَّضح تفصيله في محلِّه، وكذا المواريث لكون الميتة ليست منها شرعاً إلاَّ ما استثني ممَّا يأتي.

(مسألة 42) ميتة ما ليس له نفس سائلة طاهرة كالسَّمك والعقرب والوزغ ونحوها، وكذا ما يشكَّ في أنَّه هل له نفس أم لا لمعرفة حكم ذاته.

ص: 74

(مسألة 43) المقصود من ذي النَّفس السَّائلة هو ما كان دمه يشخب ويسيل عند ذبحه أو نحره.

(مسألة 44) يلحق بحكم الميتة الجزء المقطوع من الحيوان الحي ممَّا تحلُّه الحياة وإن كان صغيراً، نعم الأجزاء الميتة - من الَّتي لا تحلُّها الحياة - من محلَّل الأكل أو محرَّمه لكونه ميتة غير النِّجس الذَّاتي طاهرة، كالعظم والقرن والسِّن والمنقار والظفر والحافر والشَّعر والصُّوف والوبر والرِّيش والأنفحة طاهرة كما سيأتي، لكونها مستثناة من بقية أجزائها شرعاً، وكذا البيض الَّذي اكتسى بالقشر الأعلى، لكن يجب غسل ظاهر المذكورات عند العلم بمماسَّتها لرطوبات المِيتة.

وكذا فأرة المسك المفصولة من بدن الظبي (الغزال) الحي الحاوية على مادَّة منجمدة كالدَّم - وهي ذات رائحة عطرة - تحت غطاء جلدي فهي ومادَّتها طاهرتان، أمَّا المفصولة من الميتة فالأحوط اجتنابها - وإن كانت المادَّة طاهرة -، وكذا لو أخذ دمها منها قبل قطعها.

(مسألة 45) ما ينفصل من بدن الإنسان في بعض الأحوال مثل البثور والثَّآليل والثَّفنات والمسامير اللحميَّة وما يعلو الشفَّه من القشور والقروح ونحوها عند البرء وعند الخروج من الحمام الحار وقشور الجرب وأمثالها طاهرة وليست من النَّجاسات.

(مسألة 46) الأنفحة - وهي المادَّة الصَّفراء المنجمدة الَّتي تستخرج من جوف الجدي والحمل ليصنع منها الجبن - طاهرة وإن كانت من الميتة، لعدم ارتباطها بما فيه عروق وأوردة، ولكن لابدَّ من غسل ظاهرها عند إرادة مسِّها - وإن استدعى ذلك عصرها -، لاحتمال دخول الرُّطوبات الأجنبيَّة فيها فتعصر بعد صبِّ الماء فيها كبعض المواد الإسفنجيَّة - لا كالجبن المتنجِّس - ليخرج منها كل ما فيها من شبه مشكلة ولو إحتياطاً.

وبهذا لابدَّ أن تكون من المستثنيات الطَّاهرة من الميتة مع ما سبق في المسألة (43) الماضية من المستثنيات الإحدى عشر، إلاَّ إذا اتَّصلت بمتنجِّس أو تلوَّثت بنجاسة غير قابلة للتَّطهير، ومن ذلك ما لو اختلطت هذه الأنفحة بأنفحة الخنزير، أو ما يسمَّى بالأنزيمات (الَّتي هي مجموعة مسحوقات يابسة منها مسحوق من أنفحة ما لا يؤكل لحمه أساساً وتخلط بالأنفحة الطَّاهرة ومنها مسحوقات مجهولة)، فإنها تعدُّ من النَّجِسات، ويلحق بها ما

ص: 75

يدعى بالأنفحة الحيوانيَّة المجهولة في حقيقتها، إلاَّ إذا كانت تلك المعمولة مصنَّعة نباتيَّاً أو مستوردة من بلاد المسلمين الَّذين يحصل في بلادهم الذَّبح الشَّرعي عاديَّاً فلا مانع من استعمالها.

(مسألة 47) استشكل بعض الفقهاء رضي الله عنهمفي اللَّبن المأخوذ من ضرع الميتة في أنَّه هل هو ملحق بمستثنياتها الطَّاهرة أم لا ؟، ومقتضى الإشكال هو التَّورع فيها والاحتياط عن إلحاقها بها وهو كذلك في شربه لا في طهارته بمسه.

(مسألة 48) الأغلفة التي توضع بها الأدوية المرَّة أو الممجوجة الَّتي لا تستساغ طعومها حين بلعها عن طريق الفم، وهي المسمَّاة طبيَّاً بالكبسول، قيل إنَّها من جلاتينيَّة خنزيريَّة، وقيل إنَّها من غير ذلك ممَّا قد يكون طاهراً في أساسه للشُّبهة، فهي إن صدق كونها من أجزاء الخنزير حقَّاً فلابدَّ من حرمتها ونجاستها، ويجب الاجتناب عنها لأنَّه ((لا شفاء في محرَّم))، إلاَّ إذا صدق عليها الاستحالة أو ما تتوقَّف الحياة عليه من ذلك بلا بديل، وبمقدار الحاجة لا أكثر - لأنَّ الضَّرورة تقدَّر بقدرها - وأمَّا إذا لم يعلم ذلك - ولو ظنَّاً لكون الظن كالعلم في بعض الحالات التَّحرجيَّة عن الحرام - فلا مانع منها لتيسير أمر الابتلاع.

(مسألة 49) كلُّ ما يؤخذ من يد المسلم أو سوق المسلمين - ولم يعلم سبق يد الكافر عليه - من اللحوم والشُّحوم والجلود فهو محكوم بالطَّهارة، إلاَّ إذا كان عملهم تجاهها غير شرعي في الذَّبح، أمَّا لو كان قد علم أنَّ ما في يد الكافر قد سبقته يد التَّذكية فلا مانع من أخذه بعد تطهيره ثمَّ أكله.

(مسألة 50) إذا أخذ الشَّيء من المذكورات من أسواق الكفَّار وكان من ذي النَّفس السَّائلة وممَّا يؤكل وحصل الظَّن المعتبر بتذكيته من قِبل الجاليات الإسلاميَّة الملتزمة هناك لكثرتهم أو لقرائن أخرى ولو ظنيَّة فهو محكوم بالطَّهارة، وإلاَّ فهو نجس - كما لا يخفى - لعدم وجود دليل يعيننا على الحمل على الصحَّة، وهو التَّذكية والطَّهارة.

وإذا لم يكن ذلك من ذي النَّفس ككونه مثل السَّمك فهو محكوم بالطَّهارة، حتَّى لو لم نعلم تذكيته، لأنَّ غير المذكَّى منه طاهر ولكن يجتنب أكله لموته في الماء مثلاً.

ص: 76

(مسألة 51) إذا أخذ المكلَّف شيئاً من بلاد الكفر استيراداً ونحوه ولم يعلم أنَّه من أجزاء الحيوان كالَّذي يشبه الجلد واللاستيك والإسفنج والمشمَّعات ونحوها فهي محكومة بالطَّهارة، ولا مانع من الصَّلاة فيها، ومن ذلك الجلود المصنوعة من المواد النِّفطية الشَّبيهة بالأصليَّة.

(مسألة 52) الأحوط وجوباً اجتناب السِّقط قبل ولوج الرُّوح من حيث الطَّهارة والنَّجاسة، وكذا الفرخ في البيض والمضغة والمشيمة وقطعة اللحم الخارجة مع الطِّفل حين الوضع، فعلى فرض حصول المماسَّة لها برطوبة يجب التَّطهُّر لذلك.

الخامسة: الدَّم.

من كل حيوان ذي نفس سائلة، سواء كان محلَّل الأكل أو محرمه، صغيراً أم كبيراً قليلاً أم كثيراً عدا ما يعفى عنه في الصَّلاة، وهو الأقل من الدَّرهم من مأكول اللحم كما سيأتي.

وأمَّا دم الحيوان غير ذي النَّفس السَّائلة فطاهر كدم السَّمك والبق والقمَّل والبرغوث وأمثالها، وكذا ما يشكَّ في أنَّه من ذي نفس سائلة أو لا.

والكلام عن هذه النَّجاسة يناط بأغلب موارد العبادات المشروطة بالطَّهارة كما سيأتي، وكذا المعاملات ولو في الجملة.

(مسألة 53) يستثنى من الدَّم النَّجس ما تخلَّف في داخل الذَّبيحة المحلَّلة المذكَّاة بعد خروج ما تعارف خروجه عند ذبحها وطهارة مذبحها، بشرط أن لا يتنجَّس بنجاسة خارجيَّة كالسَّكين المتنجِّسة، ولو شكَّ في التَّنجُّس بنى على الطَّهارة.

(مسألة 54) دم (العلق) الطِّبي الَّذي يستعمل في بعض الأوساط في امتصاص الدِّماء الفاسدة من الرَّأس عن طريق الأذن - وعلى نهج الطِّب اليوناني فإنَّه من علامته أنَّه إن امتلأ جوفه من ذلك ينتفخ - ومثله على الأحوط ما يدعى ب- (التَّخت كالوس) الَّذي هو أبيض اللون في أساسه وحجمه كالعدسة الكبيرة، ومن علامته أنَّه يحمر بامتصاص الدَّم، فإنَّ ذلك الدَّم منهما - إذا كان مأخوذاً من ذي النَّفس السَّائلة كدم البشر - فهو نجس.

وكذا دم العلقة المستحيلة من المني، وكذا ما يحصل في اللبن عند الحلب في بعض

ص: 77

الأحوال، وكذا العلقة في البيضة، وهي النُّقطة من الدَّم الَّتي تكون غالباً في الصَّفار ويعلوها جلد رقيق وإن صغرت، إلاَّ إذا كانت كالشَّامة المنجمدة كقشر يابس ويمكن إزالته بدون سريان منها إلى بقيَّة الأجزاء كالمادَّة الصَّفراء، بل حتَّى دم البعوض إذا ملأ وعاءه به من دم ذي النَّفس السَّائلة ثمَّ انبثق فوراً في يد الإنسان مثلاً ولطَّخها - على الأحوط وجوباً - كما سيجيء، لعدم البطء الماحي لحقيقته.

(مسألة 55) الدَّم الخارج من بين الأسنان نجس ولا يجوز بلعه، ولكنَّه إذا استهلك في اللعاب يكون اللعاب حينئذ باقياً على طهارته، لأنَّه في محلِّه وهو الفم بحكم الكر شرعاً، ولا يحتاج إلى تطهير الفم حينئذ بالمضمضة وغيرها، إلاَّ مع الشَّك في ذلك الاستهلاك.

(مسألة 56) الدَّم المنجمد تحت الأظفار أو الجلد بسبب الرَّض أو الضَّرب أو الصَّدمات نجس على المشهور، لخروجه عن مجراه الطَّبيعي، ما لم تعلم استحالته إلى بعض مواد صلبة قشرية، فلو انشقَّ الجلد مثلاً ووصل إليه الماء قبل الاستحالة تنجَّس ذلك الماء، ويشكل مع وجوده الوضوء والغُسل، والأحوط إخراجه مع الإمكان إذا لم يستحل، أمَّا مع عدمه فيضع عليه قطعة قماش ويمسح عليه في وضوءه واغتساله، هذا إذا علم من أوَّل الأمر أنَّه دم منجمد.

أمَّا إذا احتمل أنَّه لحم صار كالدَّم بسبب الرَّض كما في بعض الحالات الأخر فهو طاهر غير محتاج إلى هذا التَّدقيق، بل حتَّى لو كان دماً تحت الظُّفر أو الجلد ولم يتَّصل بالخارج فهو غير مضر.

(مسألة 57) لو خرج من الجرح شيء أصفر وشكَّ في أنَّه دم أو لا ؟ فهو طاهر، وكذا عند خروج رطوبة منه بسبب الحكِّ.

(مسألة 58) لا مانع من إضافة دم شخص إلى آخر مريض مسلم محتاج له، حتَّى لو كان من كافر مع الحاجة الماسَّة إليه، لكونه حين إضافته للجسم الجديد يصير منه لغلبة جسم المسلم عليه ولو بعد حين، أمَّا دم المسلم فلا يجوز سحبه لكافر إلاَّ إذا صار مسلماً وبالأخص إذا كان مؤثِّراً على صحَّة المسلم ولو بعد حين.

(مسألة 59) لا تجوز المتاجرة في الدِّماء - كما سيأتي في محلِّه -، بل إذا قيل بجواز أخذ

ص: 78

شيء بدلها فما هو إلاَّ في مقابل رفع اليد على الأصح.

(مسألة 60) يمكن جعل الدِّماء سماداً للأرض، فلا مانع - حينئذ - من استثمار الحاصل الزِّراعي بواسطته، وستأتي أحكام أخر حول هذا الموضوع في مجالات المواضيع الفقهيَّة الأخرى الآتية بإذن الله .

السَّادسة والسَّابعة: الكلب والخنزير البريَّان.

وهما نجسان عيناً بجميع أجزائهما حتَّى ما لا تحلُّه الحياة من الشَّعر والسِّن والظُّفر والعظم ونحوها، وكذا أنفحتهما ورطوباتهما وفضلاتهما، بلا فرق في الكلاب بين السَّائبة والمعلَّمة.

وأمَّا البحريَّان فهما طاهران بجميع أجزائهما وإن حرم أكلهما.

والكلام عن هذين النَّجسين لا يختص بأمور العبادات المذكورة - والموضحَّة في محلِّها، من وجوب اجتنابهما وعدم الملاصقة لهما برطوبة بأيِّ نحو من الأنحاء - بل يتَّسع في الأعمِّ من ذلك من البيع والشِّراء وسائر المتاجرات، وكما سيأتي في باب الأطعمة والأشربة وغيرها على ما سيتَّضح تفصيله هناك.

(مسألة 61) إذا اضطرَّ الإنسان إلى زرع عين فيه من الكلب أو الخنزير فلا بأس به، إذ لا يمنع من أن تكون بالانتقال كأجزائه الطَّاهرة لهجران تكوينها الأصلي بسبب هذا الالتحاق، لما يساعد عليها الصِّدق العرفي في كونها قد صارت جزءاً لا يتميَّز عن أي جزء من أجزائه الأخرى المتعارفة ولو بعد البرء والتآم الجرح.

(مسألة 62) الحيوانات الأخرى غير المأكولة - وما يلحق بها من الحشرات ما عدا هذين النَّجسين - طاهرة على اختلافها إذا كانت ذوات نفس سائلة فضلاً عن غيرها - كالثَّعلب والأرنب والفأرة والعقرب وغيرها - ما دامت حيَّة، وإن كان بعضها مبغوضاً لاعتبار آخر لا علاقة له بالنَّجاسة كحالة المسخ، وإن ماتت بلا تذكية وكانت ذات نفس سائلة فهي ميتة نجسة - كما مرَّ - ومع تذكيتها تكون طاهرة كما لو كانت حيَّة وإن حرم أكلها، وإن لم تكن لها نفس سائلة فهي طاهرة كحالة ما قبل موتها لكن يحرم أكلها.

الثَّامنة: المسكر المائع بالأصالة.

ص: 79

وهو نجس بجميع أقسامه، دون الجامد بالأصالة كالحشيشة والبَّنج، وإن صار مائعاً بالعارض فإنَّهما طاهران وإن حرم استعمال الحشيشة بالعادة القبيحة، وهي ما يسمَّى بالشُّرب للحشيشة.

(مسألة 63) الاسبيرتو إن كان من التُّمور والأعناب ونحوهما فهو نجس - وبالأخص لو كان مسكراً -، ومثله الكحول الَّتي تُحل بها المواد الثَّقيلة إلى مائعات خفيفة، وإن كان من الأخشاب أو الكيمياويَّات ولم يسكر فهو طاهر على الظَّاهر، ومع الإسكار فهو نجس على الأحوط وإن لم يصدق عليه أنَّه خمر اصطلاحاً.

(مسألة 64) العصير العنبي إذا غلى بالنَّار حرم استعماله ولكنَّه طاهر، إلاَّ إذا اشتدَّ مع غليانه وأسكر، فلابدَّ من اجتناب كماسته - كاجتناب شربه - على الأحوط وجوباً، فإن ذهب ثلثاه بذلك الغليان بالنَّار - دون غيره - طهر وحلَّ استعماله ما لم تلحقه نجاسة أخرى عارضة فلا ينتفع حتَّى بذهاب الثُّلثين حينئذ.

وأمَّا إذا غلى بغير النار كالنَّشيش فهو خمر نجس مأخوذ من العنب ويجب اجتنابه إلى أن ينقلب إلى خل في المدَّة المفروضة وهي الأربعون يوماً.

(مسألة 65) عصير التَّمر والزَّبيب والحصرم طاهر وحلال في أصله، سواء غلى في النَّار أم لا، ويجوز أيضاً وضع التَّمر أو دبسه أو الزَّبيب أو الكشمش في المطبوخات مثل المرق والمحشَّى وغيرهما، لكن يجب التَّورع من الأخيرين إذا حصل في داخلهما غليان لاحتمال الحرمة، كما في حالة وضعهما في المروقات الحارَّة جدَّاً، وعليه فمن أراد استعمال الزَّبيب أو الكشمش أن لا يعطِّلهما على النَّار كثيراً، مع رجحان الاحتياط بتجنُّب غليان التَّمر استحباباً.

(مسألة 66) لو شكَّ في أنَّه من الأقسام الطَّاهرة أو النَّجسة ؟، فهو طاهر ظاهراً ولا يجب الفحص عنه ، فإذا شكَّ في مائع في أنَّه مسكر أو لا ؟، فإنَّه يجوز شربه ولا يجب غسل ما لاقاه وإن كان الأحوط استحباباً تجنُّبه.

التَّاسعة: الفقَّاع.

وهو شراب مخصوص متَّخذ من الشَّعير غالباً فهو حرام ونجس، أمَّا المتَّخذ من غيره

ص: 80

ففي حرمته ونجاسته تأمُّل - وإن سمِّي فقاعاً -، ومقتضاه الاحتياط لزوماً بتركه، ومع ثبوت إسكاره ولو بخفَّه فهو نجس لا محالة مع حرمته.

(مسألة 67) الكلام حول النَّجس الثَّامن والتَّاسع - آنفي الذِّكر - لا يختصُّ بأمور العبادات المتوقِّفة في صحَّتها على الطَّهارة، بل يشمل كثيراً من أبواب الفقه الأخرى أيضاً كالمكاسب ونحوها كما سيتجلَّى ذلك للمتابعين لما سنعرضه لهم مستقبلاً إنشاء الله .

العاشرة: الكافر.

وهو من لم ينتحل ديناً أصلاً، أو انتحل غير الإسلام من الأديان الأخرى، أو انتحله وجحد ما يعلم من الدَّين ضرورة - كحالة الارتداد في كل الضَّروريَّات أو بعضها أو الخروج على الإمام أو جحود حقِّه أو صدر منه ما يقتضي كفره من قول أو فعل -، من غير فرق - في النَّجاسة - بين الكافر الأصلي والمرتد الفطري والملِّي والحربي والذِّمي، ويلحق بهم النَّاصبي والخارجي والغالي - كما سيأتي -، فإنَّ جميع هؤلاء محكوم عليهم بالنَّجاسة وتجنُّب مساورتهم برطوبة مسرية.

(مسألة 68) تقدَّمت الإشارة إلى حكم الكتابي في مطلع الحديث عن الكافر، ونوضِّح أكثر بأنَّ الأحوط وجوباً تجنُّب مساورة الكتابي - لتكافؤ دليلي من يقول بالطَّهارة الذَّاتيَّة ومن يقول بنجاستها في بعض الحالات مع رجحان دليل التَّنجيس الذَّاتي - لشهرة القول بالنَّجاسة، ولحالة الشِّرك - كالتَّثليث - الموجود في كثير من الكتابييِّن - من اليهود والنَّصارى على ما نصَّ عليه القران الكريم ] اتَّخَذُوا أحبَارَهُمْ وَرُهبَانَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحُ ابنُ مَريَم [ - ولقلَّة الموحِّدين منهم الضَّائعة بين جماهير فرقهم الكثيرة بنحو الشُّبهة غير المحصورة.

وثمَّ إنَّ هذا الحكم - حتَّى لو لم نقل بنجاستهم الذَّاتية - فهو لكثرة استعمال أكثرهم اليوم - إن لم نقل الكل - للنَّجاسات كالميتة ولحم الخنزير والخمور، وغيبتهم حين استعمالهم النَّجاسة غير المطهِّرة لهم، لأنَّهم غير مسلمين بما لا يناقش فيه أحد على الظَّاهر على تفصيل استقصيناه في موسوعتنا الفقهيَّة، فلابدَّ من القول بهذا الاحتياط الوجوبي على الأقل باجتنابهم.

ص: 81

(مسألة 69) الأحوط وجوباً عدم إلحاق المجوس الحالييِّن في الكتابييِّن وإن كانوا سابقاً كذلك، لأنَّهم قد قتلوا نبيَّهم وأحرقوا كتابهم، فلم تعلم حقيقة الموجودين اليوم أنَّهم على أساس إلهي كاليهود والنَّصارى ولو في الجملة أم لا ؟.

(مسألة 70) لم يثبت وجداناً في هذا الحين كون الصَّابئة من الكتابييِّن، وإن كانوا في السَّابق مرتبطين ببعض الملل السَّماويَّة السَّابقة كالمندائييِّن القدامى، لتطرُّفهم اليوم كثيراً إلى حدٍ لا تُعلم نظاميَّاتهم إلى أيِّ دين سماوي تعود.

(مسألة 71) لا ينبغي أن تكون هذه الأحكام - ضدَّ أهل الكفر ومن يلحق بهم في أمور الطَّهارة والنَّجاسة - منفِّرة للعلاقات معهم، كي لا تسبِّب أحقاداً وعداوات معهم، لأنَّ هذا شيء وأمور رجحان حسن الأخلاق الكاسبة لهم للانضواء تحت ظل الإسلام شيء آخر، حتَّى لو كانوا مع أخلاقنا الإسلاميَّة العالميَّة الواجبة علينا باقين على ذمَّتهم أو كفرهم وغير خاضعين للإسلام بالاعتقاد به، فينبغي أن تكون معاملاتنا معهم حسنة في غير ما ذكرناه لغرض كسبهم للدِّين ولو بدفع ضررهم عنه وعن أبناءه.

(مسألة 72) غير الإثنى عشريَّة من فرق الشِّيعة إذا لم يظهر منهم مغالاة فيمن يعتقدون بإمامتهم من الأوائل أو نصب ومعاداة لسائر الأئمَّة الآخرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وإن لم يعتقدوا بإمامتهم طاهرون ظاهراً، ما داموا يقرِّون بالشَّهادتين، وأمَّا مع ظهور ذلك منهم فهم مثل سائر النَّواصب والمغالين.

(مسألة 73) الحديث حول الكافر وما يلحق به ونجاستهم داخل في أمور كثيرة في الفقه منها العبادات، وهي وإن كانت واجبة عليه ممَّا هو واجب على كلِّ أحد ولكنَّها لا تصحُّ منه إلاَّ بالإسلام وكذا وجوب الابتعاد عنه بالمماسَّة برطوبة في الأمور المشروطة بالطَّهارة لدى المسلم،كما يرتبط الكلام عنه في مجالات كثيرة أخرى في الفقه المرتبطة بالمكاسب كالمتاجرة معه أو به إن كان مملوكاً وإن انقرض اليوم، وفي أمور النِّكاح قد أعدَّت أحكام خاصَّة حوله، وكذا في باب العتق كاشتراط الرَّقبة المؤمنة في بعض الأدلَّة، وغير ذلك ممَّا لم يحدَّد أمره في الفقه.

ص: 82

الحادية عشرة: عرق الإبل الجلاَّلة.

وهي الَّتي تقتات على عذرة الإنسان، ولكنَّ الأحوط استحباباً اجتناب عرق مطلق الحيوان الجلاَّل.

(مسألة 74) يلحق بنجاسة عرق الإبل الجلاَّل - على الأحوط - عرق الجنب من الحرام الذَّاتي - كالزِّنا ووطئ البهيمة والاستمناء ونحوهما -، بل حتَّى ما كانت حرمته عرضيَّة كوطء الحائض والجماع مع الزَّوجة في الصَّوم الواجب المعيَّن أو في الظِّهار قبل التَّكفير إحتياطاً.

(مسألة 75) لو خرج عرق من المجنب من الحرام حال اغتساله قبل الإتمام فهو نجس على الأحوط، وعليه فليغتسل بالماء البارد، فإن لم يتمكَّن فليرتمس في الماء الحار الكثير دفعة واحدة.

(مسألة 76) لو أجنب الصَّبي - غير البالغ - من الحرام - وإن لم ينزل منه مني كمجرَّد الإدخال ممَّا لا يحل فعله إلاَّ للمتزوِّجين من الكبار - وتعرَّق جسمه فالأحوط أمره بالغُسل إذ يصح منه قبل البلوغ على الأقوى.

ويجب التَّجنُّب عن ذلك عند ممارسة العبادات المشروطة بالطَّهارة، وما يرتبط بالسِّلع التِّجارية الملوَّثة بها، وموارد الأكل والشُّرب والأطعمة إذا اتَّصلت بها، وكذا اللحوم المأكولة الَّتي صارت جلالَّة بعد ذلك قبل الذَّبح، إلاَّ بعد استبراءها قبل تذكيتها كما هو مفصَّل في محلِّه.

المَبْحَثُ الثَّاني في كَيْفَيَّة سِرَايَة النَّجَاسَة إلى مُلاَقِيهَا

معنى السِّراية هي انتقال الرُّطوبة بين شيئين أو أكثر بمجرَّد الملاقاة بما يوصل بللاً أو نداوة ولو كان قليلاً.

فالنَّجاسات المتقدِّمة إذا لاقت جسماً طاهراً لا يتنجَّس هذا الطَّاهر بسببها، إلاَّ إذا كانت في أحدهما أو كليهما رطوبة مسرية آخذة أو معطية مع الالتصاق، فلو كان المتلاقيان يابسين أو رطبين برطوبة غير مسرية كما وصفناه

ص: 83

أعلاه لم يتنجَّس الطَّاهر منهما بملاقاة ذلك النَّجس، بلا فرق في وجود الرُّطوبة المسرية بين الميعان وغيره، فلو كان أحدهما مائعاً بلا رطوبة - كالذَّهب والفضَّة وغيرها من الفلزَّات إذا ذابت - ولاقاه شيء متنجِّس جاف فلا يتنجَّس لعدم المائيَّة وغيرها من السَّوائل المشابهة المؤثِّرة فيما بينهما.

(مسألة 77) يشترط في سراية النَّجاسة إلى المائعات أمران: -

الأوَّل: نفوذ النَّجاسة في المائع كليَّاً حتَّى ينجس، وإلاَّ اختَّصت النَّجاسة بموضع الملاقاة فقط، ولا تسري إلى ما اتَّصل به من الأجزاء، فلو صبَّ الماء من الإبريق على شيء نجس لم تسر النَّجاسة إلى عمود الماء فضلاً عمَّا في الإبريق، وكذلك الحكم لو كان التَّدافع من الأسفل إلى الأعلى كما في النَّافورة ونحوها.

الثَّاني: عدم كون المائع غليظاً (كثيفاً)، وإلاَّ فهو كالجوامد فتختص النَّجاسة بموضع الملاقاة فقط، فالدِّبس أو العسل أو السُّمن أو اللبن - مع الغِلظة والثَّخانة الشَّديدة كما في الأيَّام الباردة في بعضها - إذا أصابته النَّجاسة فلا تتسرَّى إلى جميع أجزائه، وإنَّما يتنجَّس موضع الاتِّصال بالنَّجاسة فقط، وهذا بخلاف ما لو كان المائع رقيقاً كالمذكورات في حال ذوبانها، كما يحصل ذلك عادة في أيَّام الصَّيف في بعضها أيضاً فإنَّ النَّجاسة تسري إلى تمام أجزائه بملاقاة النَّجس.

(مسألة 78) الحدُّ في معرفة الغلظة والرقَّة في المائعات أمر عرفي ولو حين حدوث الحادث فقط، فلو أخذ من المائع شيء وبقي مكانه خالياً حين الأخذ منه فهو غليظ حتَّى لو امتلأ بعد ذلك بفترة، وأمَّا إذا امتلأ مكانه حين الأخذ فهو رقيق.

(مسألة 79) لو شكَّ في الغلظة والرقَّة بنى على الطَّهارة، وكذلك لو شكَّ في السِّراية وعدمها والأحوط مستحبَّاً أن يؤيِّده غيره في شكَّوك هذه المسألة قبل أن يبني على الطَّهارة إن أمكن إذا كان هذا الغير طبيعيَّاً غير وسواسي.

(مسألة 80) الأجسام الجامدة - كبدن الإنسان أو البطِّيخ والخيار - إذا لاقتها النَّجاسة - مع الرُّطوبة المسرية - تنجَّس منها موضع الاتِّصال فقط، ولا تسري النَّجاسة إلى الأجزاء المجاورة له سطحاً وعمقاً وإن كانت رطوبة الجسم الطَّبيعيَّة مستوعبة لتمامها.

ص: 84

(مسألة 81) الفراش أو اللحاف - مثلاً - الموضوعان على أرض متنجِّسة لا يتنجَّسان بمجرَّد سراية رطوبة الأرض إليهما ما لم تعط بللاً وإن ثقلا بذلك بعد أن كانا خفيفين، فإنَّ مثل هذه السِّراية تسمَّى (رطوبة) لا بلل فيها ولا توجب تنجّسها بمجرَّد ذلك، وكذلك جدران المسجد المجاور لبعض المواضع النَّجسة مثل الكنيف ونحوه، فإنَّ الرُّطوبة الدَّاخلة إليها لا توجب تنجُّسها حتَّى لو كانت مؤثِّرة في الجدار أملاحاً وعلى نحو قد تؤدِّي إلى الخراب إلاَّ المياه الخارجة من داخل ذلك الكنيف حتَّى اليسير منها بحيث لو وضع الإنسان يده عليه لحصل بلل وماء عليه فهو منجِّس حينئذ.

(مسألة 82) المتنجِّس ينجِّس ما يلاقيه مع الرُّطوبة المسرية كالنَّجس، بلا فرق بين المتنجِّس بالواسطة أو بلا واسطة، ولا بين الملاقي للمتنجِّس بين أن يكون بماء قليل أو كثير قد تأثَّر بالملاقاة شرعاً على الأحوط وجوباً حتَّى لو انتقلت رطوبته عدَّة انتقالات مسرية.

(مسألة 83) المأخوذ من أيدي الكفَّار من الجوامد والمائعات - عدا اللحوم المحتاجة إلى التَّذكية - في بلادنا الإسلاميَّة كالخبز واللبن والعسل وغيرها محكوم بطهارته لعدم إحراز مباشرتهم له برطوبة لكونهم لعلَّهم اشتروه من الخبَّاز المسلم، وكذا اللَّبن أو العسل الحاصلين بالوسائل الحديثة البعيدة عن أيديهم أو كان ممَّا يمكن حمله على أخذهما من المسلم، أمَّا إذا علم مباشرتهم له مع الرُّطوبة المسرية - ككونهم قد خبزوا الخبز ونحوه من القرائن - فلابدَّ من الاجتناب عن أكله وغير ذلك، ويلحق بذلك ما لو كان ذلك في بلاد الكفر لو لم تكثر فيه الجاليات المسلمة، والظَّن بالنَّجاسة لوجود احتمال عقلائي بالمباشرة يحتاج إلى الاحتياط بالتَّجنُّب، وأمَّا اللحوم فقد تقدَّم حكمها في مسألة (48) وكما سيأتي في محلِّه.

(مسألة 84) طرق ثبوت النَّجاسة ثلاثة: -

1- اليقين، كالرؤية مثلاً.

2- شهادة البيِّنة العادلة، بل يكفي في ثبوت تلك النَّجاسة شهادة العدل الواحد إذا يطمئن به.

3- إخبار ذي اليد كالزَّوجة والخادم الَّذي يكون المال تحت يده وتصرُّفه.

ص: 85

(مسألة 85) إذا قامت البيِّنة على طهارة شيء وتعارضت مع إخبار ذي اليد على نجاسته قدِّمت البيِّنة عليه، أمَّا إذا تعارضت البيِّنتان بالعلم على شيء - أو بالأصل الواحد - تساقطتا، أمَّا إذا اختلف الأصل فيقدَّم الاستصحاب على أصل الطَّهارة.

(مسألة 86) إذا اختلف عدد إحدى البيِّنتين عن الأخرى - كما إذا شهد اثنان بأحد الأمرين وشهد أربعة بالآخر - فالأقوى تساقطهما بالتَّعارض.

(مسألة 87) العلم الإجمالي في الحكم كالتَّفصيلي، فإذا علم بنجاسة أحد الشَّيئين أو الأشياء - كلباس المصلِّي ومواضع السُّجود - مثلاً - يجب اجتنابها جميعاً إذا كانت شبهة محصورة بعدد معيَّن لا يمكن إفرازها في شيء معيَّن دون الباقي.

(مسألة 88) لا اعتبار باطمئنان صاحب الوسواس إلاَّ إذا كان على الوجه المتعارف.

(مسألة 89) إذا شكَّ في طهارة ما كان نجساً فيستصحب النَّجاسة، وإذا شكَّ في نجاسة ما كان طاهراً فيستصحب الطَّهارة، ولا يجب الفحص لإحراز الطَّهارة، وبالأخص إذا كان في ضيق وقت العبادة.

المَبْحَثُ الثَّالِث أَحْكَامُ النَّجَاسَة

(مسألة 90) لا يجوز أكل النَّجس أو شربه وكذا إعطاؤه للغير لذلك، وأمَّا بالنِّسبة إلى الأطفال فيجوز ذلك، إلاَّ أن يكون مسكراً أو مضرَّاً مع رجحان التَّورع في إطعامهم إلاَّ ممَّا لذ وطاب.

(مسألة 91) يجوز الانتفاع بالنَّجس فيما لا يشترط فيه الطَّهارة - من بيع وعارية - مع الإعلام لئلاَّ يشتبه فيستعمل فيما يشترط فيه الطَّهارة كلباس المصلِّي، وأمَّا مع عدم الإعلام فيحرم الانتفاع به إذا كان موجباً لترك واجب أو فعل حرام.

(مسألة 92) يشترط في صحَّة الصَّلاة - واجبة كانت أو مندوبة - وأجزائها المنسيَّة من غير الرُّكنيَّة طهارة بدن المصلِّي - من النَّجاسات والمتنجِّسات - حتَّى الشَّعر والظُّفر وغيرهما من توابع جسده، وكذا يشترط في صحَّتها طهارة لباس المصلي من دون فرق بين السَّاتر

ص: 86

وغيره، ممَّا قد يسبِّب تنجُّس المصلِّي في صلاته، وإلاَّ فلا مانع من الأخير على ما سيجيء حول الَّذي لا تتم الصَّلاة فيه من اللباس، وكذلك يشترط ما مرَّ في صحَّة الطَّواف حتَّى المندوب.

(مسألة 93) يشترط في صحَّة الصَّلاة طهارة موضع السُّجود (الجبهة) وهو الشَّيء الَّذي يسجد عليه المصلِّي من تراب أو حجر أو خشب وغيره ممَّا يصحُّ السُّجود عليه حتَّى مع عدم وجود الرُّطوبة، ويكفي طهارة مسمَّى وضع الجبهة عليه، ولا تشترط الطَّهارة في غيره من مواضع السُّجود إلاَّ إذا كانت النَّجاسة مسرية إلى بدن أو لباس المصلِّي بنجاسة غير معفو عنها في الصَّلاة.

(مسألة 94) من صلَّى بنجاسة متعمِّداً بطلت صلاته ووجب إعادتها في بقاء الوقت وقضاؤها في خارجه، أمَّا لو كان جاهلاً بالنَّجاسة - كعرق الجنب من الحرام - وعلم بعد الفراغ منها فلا يجب إعادتها في الوقت ولا القضاء خارجه وإن كان الأحوط استحباباً الإعادة ما لم يكن جهله عن تقصير والتفات فيكون الاحتياط بالإعادة وجوبيَّاً.

(مسألة 95) لو علم بالنَّجاسة - أو عرضت له - في أثناء الصَّلاة، فإن تمكَّن من إزالة النَّجاسة بتطهير أو بنزع أو تبديل مع التَّحفُّظ على الصَّلاة وجب ذلك، وإن لم يمكنه لعدم وجود ماء أمامه أو لبرد أو لعدم الأمن من النَّاظر بحيث انحصر السَّاتر به استأنف الصَّلاة من جديد إن كان الوقت موسَّعاً، وإن كان وقت الصَّلاة مع إحدى الطَّهارتين - المائيَّة أو التُّرابيَّة - مضيَّقاً حتَّى عن إدراك ركعة واحدة على الأقل صلَّى به ثمَّ يقضي على الأحوط وجوباً.

(مسألة 96) إذا شكَّ في نجاسة ثوبه أو بدنه فصلَّى فيه استصحاباً للطَّهارة ثمَّ ظهر - بعد الصَّلاة - أنَّه كان نجساً من البداية ولم يتفحَّص عن ذلك سابقاً فلابدَّ فيه من الإعادة احتياطاً بعد تطهره.

(مسألة 97) إذا طهَّر ثوبه النَّجس وتيقَّن بطهارته وصلَّى فيه، ثمَّ تبيَّن بعد الصَّلاة أنَّ فيه نجاسة، فلا يجب عليه الإعادة لاحتمال أنَّ النَّجاسة عارضة بعد الصَّلاة وإن كان الأحوط استحباباً إعادتها.

ص: 87

(مسألة 98) لو صلَّى بالنَّجاسة ناسياً ثمَّ التفت وجبت إعادتها في الوقت وقضائها خارج الوقت، بلا فرق في ذلك بين إمكان التَّبديل وعدمه، ولا بين ناسي الموضوع وناسي الحكم ولا بين الإلتفات في أثناء الصَّلاة وبعدها.

(مسألة 99) إذا تردَّدت النَّجاسة بين ثوبين ولم يكن عنده ثوب طاهر غيرهما وجب أن يصلِّي في كلٍّ منهما إن كان الوقت موسَّعاً لكليهما، وإلاَّ صلَّى عارياً مع عدم وجود النَّاظر أو كون الموجود أعمى، ومع ضيق الوقت ووجود النَّاظر يصلِّي إيماءاً حتَّى لو أمن من خطر النَّظر اعتقاداً، لاحتمال طروه صدفة عمداً أو غفلة لأنَّه في عرضة لا عصمة فيها، وأمَّا مع عدم الأمان أكتفي بأحدهما لأداء العبادة ثمَّ القضاء بعد نهاية الوقت بثوب طاهر.

(مسألة 100) إذا تنجَّس موضع من بدنه وموضع من ثوبه أو موضعان من بدنه أو من ثوبه وعنده ماء يكفي لتطهير أحدهما تخيَّر بين التَّطهيرين، إلاَّ أن تكون النَّجاسة في أحدهما أكثر من الأخر فيختار تطهير الأكثر.

(مسألة 101) يحرم تنجيس المصحف وكتابته سواء كانت بالمداد (الحبر) أو بأيِّ مادَّة نجسة ولو كان حرفاً واحداً، وإذا كتبه جهلاً أو عمداً يجب محوه أو تطهيره.

(مسألة 102) إذا تنجَّس جلد القرآن وجب تطهيره لاستلزامه الهتك على الأقل.

(مسألة 103) لا يجوز وضع القرآن على عين نجسة كالدَّم والميتة وإن كانا يابسين لاستلزامه الهتك غالباً، وكذا لا يجوز إعطاء القرآن للكافر، إلاَّ إذا كان لأجل هدايته واستبصاره، فحينئذ لابدَّ من تيسير المصحف المغلَّفة صحائفه بالورق الشَّفاف له جهد الإمكان، وإن لم يمكن المغلَّف فلا يفسح له مجال في ذلك إن كان بالإمكان كذلك، لئلاَّ يمس كتابته وهو على كفره، وإن أعطي مصحفاً فلابدَّ من مراقبته لئلاَّ يمسه وهو كافر، وإن كان قد فسِّر قوله تعالى ] لاَ يَمَسُّه إِلاَّ المُطَهَّرُون [ بأن لا ينال معانيه إلاَّ المسلم المؤمن بما لا علاقة لذلك ولو ظاهراً بالمماسَّة المباشرة الحسيَّة كما قد يدَّعى، لصدق ما يحمله من معنى عدم جواز مماسَّة المسلم غير المتوضئ أيضاً له فضلاً عن المحدث بالأكبر، بل عن الكافر النَّجس أيضاً لكفره إضافة إلى أدلَّة أخرى كاشفة، كما هو مفصَّل في محلِّه من آيات

ص: 88

الأحكام.

(مسألة 104) إذا وقع ورق القرآن أو شيء آخر محترم كالورق المكتوب فيه اسم الله أو النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في المرحاض أو نحوه والعياذ بالله، فلابدَّ من إخراجه ومع عدم الإمكان يجب ترك استعمال ذلك المرحاض مثلاً حتَّى يتيقَّن باضمحلاله، وكذا لو وقعت التُّربة الحسينيَّة الشَّريفة فيه والعياذ بالله.

(مسألة 105) لا يجب إعلام المصلِّي في اللباس النَّجس مع جهله بذلك وإن كان أحوط، وكذا الآكل للشَّيء النَّجس إذ لعلَّه كان معذوراً في ذلك واقعاً اجتهاداً أو تقليداً، إلاَّ إذا حصل يقين بعدم معذوريته وعُدَّ عدم التَّنبيه مساعداً على هذا الفعل أو ذاك على الأقل فيجب.

(مسألة 106) إذا كان جزء من بيته أو فراشه نجساً وعلم تنجُّس ضيوفه بذلك فيجب الإعلام في صورة ما إذا كان إذنه لدخولهم موجباً قطعيَّاً لوقوعهم في الحرام أو ترك الواجب، كما لو صار سبباً للصَّلاة بدون طهارة من الخبث الموجود فيه، وإلاَّ فلا يجب عليه الإعلام، كما لو صار سبباً للصَّلاة في اللباس النَّجس جهلاً من دون أن يكون عدم إخبارهم موجباً قطعيَّاً في وقوعهم في ذلك.

(مسألة 107) إذا علم صاحب الدَّار بتنجس الطَّعام أثناء أكل ضيفه وجب عليه إعلامه، ولا يجب على أحد الضيوف إعلام الآخرين إذا علم بذلك لما مرَّ وإن حرم عليه تناول الطَّعام المتنجِّس.

(مسألة 108) إذا استعار شيئاً طاهراً وتنجَّس ذلك الشَّيء عنده فالأقوى وجوب الإعلام إذا كان تركه موجباً لفعل حرام أو ترك واجب مثل الصَّلاة بلا طهارة من الخبث.

(مسألة 109) لا يعتنى بإخبار الطِّفل بتطهير الشَّيء أو تنجيسه إلاَّ إذا حصل من قوله الاطمئنان بسبب بعض القرائن، كالتَّجارب المثبتة لذلك أو تعويده من أهله على الإخبار الصَّحيح، أو أخبر بالطَّهارة الَّتي هي أصل في الأشياء من دون قرينة على العكس.

ص: 89

المَبْحَثُ الرَّابع في النَّجَاسَات المَعْفُوّ عَنْهَا في الصَّلاَة

(مسألة 110) يعفى في الصَّلاة عن نجاسات، وهي أمور: -

الأوَّل: دم الجروح والقروح - كالدَّماميل غير الملتئمة - الموجود في البدن واللباس، فهو معفو عنه ولا يضر بالصَّلاة بلا فرق بين قليله وكثيره وبلا فرق بين كون الجرح في ظاهر البدن أو في باطنه كالبواسير إذا سرى دمها إلى ظاهر البدن أو اللباس، ويلحق بهذا المعفو عنه القيح المتنجِّس به، وكذلك الدَّواء الموضوع عليه والعرق المتَّصل به.

(مسألة 111) يعتبر في المعفوّ عنه المذكور المشقَّة في الإزالة والتَّطهير أو تبديل الثَّوب، ومع عدم المشقَّة في ذلك لا عفو عن النَّجاسة المذكورة.

(مسألة 112) الدَّم المعفو عنه الموجود في البدن إن أمكن شدُّه بحيث لا يكون فيه ضرر - كبطء برئه مثلاً وغيره - وجب ذلك ليمنع سريانه إلى الملابس، وإن لم يمكن فلا يجب ذلك حتَّى لو سرى إلى ملابسه.

(مسألة 113) إذا شكَّ في برء الجرح أو القرح مع وجود المشقَّة في تطهيره بنى على العدم ويستمر العفو عنه إلى أن يحصل اليقين بعدم المشقَّة.

(مسألة 114) إذا شكَّ في دم في أنَّه من دم الجرح والقرح أو غيرهما لم يُعف عنه في الصَّلاة لوجوب إحراز كونه دم جرح أو قرح لا غير.

الثَّاني: الدَّم الأقل من الدِّرهم البغلِّي الموجود على البدن أو اللباس - وهو الَّذي سعته تساوي تقريباً قدر المنخفض من وسط الكف المعبَّر عنه ب- (الرَّاحة) الَّذي لا يمس الأرض عند وضعها عليها اعتياديَّاً إلصاقاً لا مثل الَّذي حول الرَّاحة من بقيَّة باطن الكف، أو ما يساوي عقد السبَّابة في الرَّجل المتوسِّط في حجم أصابعه وسبَّابته - فهو أيضاً ممَّا يعفى عنه في الصَّلاة أيضاً، والأحوط الاقتصار في العفو على أقل التَّحديدين إن أمكن إحرازه.

(مسألة 115) يشترط في العفو عن هذا المقدار المذكور أن لا يكون من الدِّماء الثَّلاثة - الحيض والاستحاضة والنَّفاس -، ولا من نجس العين كالكلب والخنزير والكافر والميتة،

ص: 90

بل ولا من الحيوان غير مأكول اللحم كالأرنب والقط ونحوها على الأحوط استحباباً في الطَّواهر غير المأكولة.

(مسألة 116) كل ما يتنجَّس بهذا المقدار من الدَّم أو المخلوط بالقيح في غير المعفوّ عنه الأوَّل وهو الجروح والقروح كعرق البدن والقيح أو الماء فيه بنجاسة خارجيَّة لا يلحق به في العفو عنه في الصَّلاة.

(مسألة 117) لو تفشَّى هذا الدَّم من أحد جانبي الثَّوب إلى الآخر فهو دم واحد، وكذا لو تفشَّى في قطعتي الظَّهارة والبطانة وكان الدَّم أيضاً متَّصلاً بحيث يراه العرف دماً واحداً فهو دم واحد، أمَّا لو تفرَّق في البدن واللباس أو فيهما أو تفشَّى في قطعتين منفصلتين فيلاحظ فيه ما كان مجموعه - على فرض اجتماعه - التَّقدير المذكور، فإن لم يبلغ هذا المقدار عفي عنه وإلاَّ فلا.

(مسألة 118) إذا شكَّ في مقدار الدَّم أنَّه يبلغ مقدار الدَّرهم أو لا، أو شكَّ - بعد العلم بالمقدار - في أنَّه من الدَّم المعفو عنه أم من غيره بنى على عدم العفو عنه على الأحوط وجوباً.

الثَّالث: اللباس المتنجِّس الَّذي لا تتم الصَّلاة فيه - وهو كل ما لا يقع ساتراً للعورتين كالجورب والقلنسوة والتركة والخاتم ونحوها - بنجاسة - ولو بنجاسة من غير مأكول اللحم إن لم يكن فيه شيء إضافي ممنوع من أجزاءه كشعر الأرنب مثلاً - فهو ممَّا يعفى عنه كذلك، وأمَّا مع وجود شيء من هذه الممنوعات في اللباس فلا يعفى عنه.

(مسألة 119) اللباس الَّذي لا تتم الصَّلاة فيه إذا كان متَّخذاً من نجس العين كأجزاء الميتة وشعر الكلب والخنزير لا يعفى عنه في الصَّلاة.

(مسألة 120) يجوز حمل المتنجِّس إذا كان ممَّا لا تتم الصَّلاة فيه كالجورب والمنديل الصَّغير وإن لم يلبس، إلاَّ ما أتُّخذ من نجس العين كشعر الكلب أو الخنزير ممَّا مرَّ فلا يعفى عنه، أمَّا حمل المتنجِّس ممَّا تتم الصَّلاة فيه بلا لبس فالأحوط وجوباً الاجتناب عنه.

الرَّابع: ثوب المربيَّة للطِّفل فهو ممَّا يعفى عنه كذلك، ولكن للعفو عنه في الصَّلاة شروط، وهي: -

ص: 91

أ. أن يتنجَّس ببوله فقط دون غائطه ولا يتعدَّى إلى بدنها دون الثَّوب.

ب. أن تكون المربيَّة هي الأم، ولا يتعدَّى من المربيَّة إلى المربِّي، وكذا لا تتعدَّى إلى المربيَّة لولد غيرها على الأحوط وجوباً.

ج. أن يكون الطِّفل ذكراً لا أنثى إحتياطاً وجوبيَّاً.

د. أن لا يكون للمربيَّة أثواب متعدِّدة حتَّى مع الحاجة إلى لبسها جميعاً، إلاَّ إذا كان حرجيَّاً عليها فيجوز من باب صلاة المضطر في الثَّوب المتنجِّس، كعدم تمكِّنها من بقيَّة أثوابها أو كانت كلُّها متنجِّسة.

ه. أن تغسله في اليوم والليلة ولو مرَّة واحدة مخيَّرة بين ساعاتهما.

المَبْحَثُ الخَامِس أَحْكَامُ الأَوَاني

(مسألة 121) أواني المشركين وسائر الكفَّار - بل كل ما بأيديهم من اللباس والفراش - طاهرة إذا احتمل أنَّها أو بعضها غير مستعمل من قبلهم، ككونها مشتراة من مسلمين ولم يستعملوها وكذا لو استعملوها أو بعضها بلا رطوبة مسرية، وأمَّا إذا علم - ولو إجمالاً - بملاقاتهم لها برطوبة مسرية فيجب الاجتناب عنها، ومع الشَّك في ملاقاتهم لها فالأحوط وجوباً اجتنابها لقرائن عدم المبالاة من قِبلهم كمبالاتنا في أحكامنا، بل الأحوط استحباباً ذلك الاجتناب مطلقاً، وبالأخص في الأمور الَّتي يكون أو يكثر استعمالها بالرُّطوبة كالأواني وإن لم يحصل شك .

(مسألة 122) يحرم استعمال أواني الذَّهب والفضَّة في الأكل والشُّرب وتحرم الطَّهارة بها من الحدث أو الخبث - بنحو الرَّمس فيها ولو كانت ممَّا يصح ذلك فيها لو كانت اعتياديَّة - وممَّا يعدُّ استعمالاً لها عرفاً، ولا يحرم نفس المأكول والمشروب بمجرَّد وضعها في تلك الأواني، كما لا بأس باقتنائها وبيعها وشراءها وصياغتها وأخذ الأجرة عليها، لكنَّ الأحوط عدم التَّزيين بها، لأنَّه قد يلحق بالاكتناز الَّذي لا فائدة فيه فيكره حتَّى لو أخرج خمسها، لأنَّ ذلك من تصرُّفات المترفين، وأمَّا مع عدم إخراج خمسها فهي ممَّا يحرم حتماً لو حال الحول عليها وهي على هذه الحال كما سيأتي في محلِّه.

ص: 92

(مسألة 123) المراد من الأواني المذكورة ما كان يُعد لأن يحرز فيه المأكول أو المشروب ونحوهما، على نحو تقبل الإنفكاك عن مظروفها - كالكأس والكوز والصِّينيَّة والقدر والسَّماور والفنجان وغيرها -، فمثل رأس الغرشة ورأس الشطب وقراب السَّيف والخنجر والسَّكين وقاب السَّاعة ومحل فص الخاتم ورأس ملعقة الشَّاي وبيت المرآة وأمثالها خارجة عن الآنية فلا بأس باستعمالها كلبس الخاتم الفضِّي للرِّجال مثلاً أو الذَّهبي للنِّساء كذلك وهكذا.

(مسألة 124) لا بأس باستعمال المموَّه (المطلي) بماء الذَّهب والفضة، كما لا بأس باستعمال المخلوط من أحدهما بغيرهما من الفلزَّات الأخرى ممَّا لا يصدق عليه آنية الذَّهب والفضَّة واقعاً، وأمَّا المخلوط منهما فقط فهو حرام.

(مسألة 125) لا فرق في الذَّهب والفضَّة بين الجيِّد والرَّديء والخالص والمغشوش بما لا يخرجه عن صدق الذَّهب والفضَّة عليه، كما لا فرق بين الأواني الكبيرة والصغيرة.

(مسألة 126) لا بأس بما يصنع بيتاً للتَّعويذ من الذَّهب والفضَّة كحرز الإمام الجواد عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ونحوه في بعض البلدان الإسلاميَّة.

(مسألة 127) يكره استعمال القدح المفضَّض في حاشيَّته، بل قد يحرم الشُّرب منه إذا وضع فمه على موضع الفضَّة.

المَبْحَثُ السَّادس في أَحْكَامِ المَسَاجِد

للبحث عن المساجد في الفقه أكثر من مقام واحد مناسب، وهي من المواقع الَّتي ترتبط بأكثر من عبادة وفي الأعم من الوجوب كالصَّلاة، والصِّيام، والاعتكاف والحج والعمرة وإن كان الأخيران في خصوص المسجد الحرام، بل الأكثر من ذلك ككراهيَّة البيع والشِّراء فيها وإنشاد الشِّعر ونحو ذلك، فهي حريَّة لأن يتكلَّم عنها في المقدِّمات العامَّة الحاليَّة، وإن كانت الصَّلاة أقرب إليها من كل شيء.

(مسألة 128) يحرم تنجيس المسجد من دون فرق في ذلك بين أرض المسجد وسقفه وسطحه وجدرانه وبنائه من داخل المسجد، وكذا فراشه وسائر آلاته، ويجب تطهيرها عند

ص: 93

العلم بالتَّنجس،

والأحوط وجوباً ترك تنجيس الجدران من الخارج ولزوم التَّطهير لها عند تنجسها.

(مسألة 129) لو لم يتمكَّن من تطهير المسجد منفرداً يجب عليه أخذ المساعد على ذلك ولو ببذل مال إليه في سبيل ذلك مع التَّمكُّن، أمَّا إذا لم يتمكَّن أو لم يوجد المساعد بتاتاً فالأحوط وجوباً أن يخبر من يتمكَّن من التَّطهير بنحو من الإنحاء مع الإمكان على الأقل.

(مسألة 130) لو تنجَّس جزء من المسجد وتوقَّف تطهيره على تخريب مقدار منه كالحفر أو الهدم وجب ذلك - إذا كان يسيراً لا يعتدُّ به - وإعادة المهدوم مع الإمكان على الأحوط، كما لو تنجَّست لبنة (طابوقة) أو ما يشابهها وقلعت للتَّطهير فيجب إرجاعها بعده إلى مكانها، وأمَّا إذا كان التَّخريب كثيراً بحيث يضر بالوقف فلا يجب التَّطهير وعند ذلك يجب التَّحفُّظ من تلك الأماكن المتنجِّسة، إلاَّ أن يوجد باذل يعمره فعندئذ يجب ذلك.

(مسألة 131) لو أغتصب مسجد وجعل طريقاً أو بيتاً أو متَّجراً وما شابهه - أو انهدم أو أصبح خربة - بحيث لا يمكن الصَّلاة فيه، ففي هذه الصُّور أيضاً يحرم تنجيسه ويجب تطهيره لبقاء الوقفيَّة على حالها إلاَّ في بعض الضَّرورات ككون بعض تلك الَّتي قد صارت طريقاً مثلاً لا منفذ إلى المقصد الأهم سواه فلا مانع من المرور السَّريع عليها مع الإمكان دون البقاء أو المسير البطيء، ويخف هذا الأمر عن شدَّته فيما لو كانت الأرض مفتوحة عنوة كبعض أراضي العراق عدا ما تعيَّن من قِبل الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من بعض المساجد كما لو إنهدمت لوحدها وصارت أرضاً، مع الاحتياط بالتَّحرُّج عنه كذلك حتَّى في هذا المورد.

(مسألة 132) المشاهد المشرَّفة والأضرحة المقدَّسة ملحقة بالمساجد، فيحرم تنجيس داخلها وما فيه، ويجب تطهيرها لاستلزامه هتكاً وإهانة للإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ المدفون فيها، وكذا المصحف الشَّريف وتربة الرَّسول صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والتُّربة الحسينيَّة وسائر الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

(مسألة 133) لو تنجَّس ما في المسجد من فرش وغيره لابدَّ من تطهيره، ولكن إذا كان قطع المقدار المتنجِّس أقل ضرراً من تطهيره مع بقاء الباقي الطَّاهر على نفس الفائدة وإن قلَّت فيتعيَّن القطع كما في بعض الفرش الرَّخيص.

ص: 94

(مسألة 134) يحرم إدخال النَّجاسة إلى المسجد، من غير فرق بين المتعدِّية منها أو غيرها، لاستلزامها الهتك لحرمة المسجد كإدخال الدَّم أو العذرة أو الميتة أو الكلب فيه، وكذا إدخال نجس العين البشري كالكافر وما يلحق به مع التَّمكن ما لم يكن استبصار وهداية مضمونة تحفظ بها الحرمة لو توقَّف الأمر على ذلك، ويمكن استفادة ذلك من قوله تعالى ] فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا[ في أنَّ النَّهي كان بدخولهم باختيارهم لا بإدخالهم من قبل المسلمين لغرض ما ذكرناه مع مساعدة بعض الأدلَّة، وكذا إدخال ذوي النَّجاسات المعنوية كالجنب والحائض والنُّفساء إلاَّ اجتيازاً ما عدا المسجدين الأعظمين على ما سيجيء.

نعم لا مانع من إدخال ما لا يعتد به من النَّجاسات في المسجد لكونه تابعاً للدَّاخل فيه مثلاً، كما إذا كان على ثوب الدَّاخل أو بدنه شيء من النَّجاسة المعفو عنها في الصَّلاة كدم القروح والجروح ونحوه، وكذا يجوز إدخال المتنجِّس إذا لم يكن مشتملاً على عين النَّجس مع عدم تأثيره على المكان.

(مسألة 135) وجوب تطهير المساجد - من النَّجاسة - كفائي، فلا يختص وجوب إزالتها عن المسجد بمن صار سبباً في تنجيسه، لاحتمال أن يكون غير عامد في هذه السَّببيَّة، أو صار غير قادر على الإزالة بعد أن تعمَّد ذلك، أو تعمَّد ولم يقدر عليه أحد في أن يلزمه بالإزالة، كما أنَّه غير ضامن للمال الَّذي يتوقَّف تطهير المسجد عليه، إلاَّ مع عمده في إيجادها أو تعمُّده في عدم إزالتها مع قدرته وإن لم يوجدها هو، لكونه كان ممَّن يجب عليه الإزالة كفائيَّاً ثمَّ انحصر الأمر فيه فأثَّرت أثرها في هتك الحرمة، ولكن لا ينكر أنَّ المسبِّب المتعمِّد والقادر على الإزالة هو الأولى من غيره فيها إضافة إلى الوجوب الكفائي المشمول به، بل قد يتعيَّن عليه ذلك لو انحصر الأمر فيه.

(مسألة 136) لا يحرم تنجيس معابد الكفَّار كالكنائس وعلى ما تعارف بين الكفَّار أنفسهم ذلك التَّنجيس في عرفنا وإن لم يكن ذلك تنجيساً في عرفهم فلا يجب منعهم من ذلك لو مارسوه، وكذا لا تجب إزالة تلك النَّجاسة عنها، نعم لو أخذها ولي الأمر وجعلها مسجداً جرت عليها أحكام المساجد الَّتي منها حرمة تنجيسها ووجوب تطهيرها إذا

ص: 95

تنجَّست، بل وكذا لو كانت مشتركة يستفيد منها المسلمون أيضاً، كبعض مواقع فلسطين المقدَّسة إسلاميَّاً، وإن اعتبرها الأعداء مواقع لهم دون المسلمين، فيجب على المسلمين المحافظة على تلك المواضع بعدم فسح المجال للأعداء أن ينجِّسوها، وتلحق بها معابدهم لو اضطرَّ إلى تواجد المسلمين فيها مثلاً وأمكنهم مزوالة عباداتهم الإسلاميَّة هناك في عدم جواز فسح المجال منهم لأيِّ أحد بإيصال النَّجاسات إلى مواقع العبادات الإسلاميَّة إن أمكن.

(مسألة 137) يجوز إقامة الشَّعائر الدِّينيَّة في المساجد، كمجالس الوعظ والإرشاد وإحياء ذكريات النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله في أفراحهم وأتراحهم المعظِّمة للشَّعائر الدِّينيَّة، ومن أهم ذلك إقامة مجالس العزاء لسيِّد الشُّهداء أبي عبد الله الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وكذلك إنشاء مجالس فواتح العلماء والمختومة بمجالس العزاء الحسيني كذلك.

وكذلك يجوز تغطية المسجد بالسَّواد ونصب الخيم وإدخال أدوات الشَّاي والقهوة وغيرهما فيه لصالح العزاء الحسيني، لكون ذلك من حالات تعظيم الشَّعائر الدِّينيَّة، بشرط أن لا يضر بالمسجد ولا يزاحم المصلِّين، والأحوط وجوباً ترك فواتح سائر النَّاس فيه إلاَّ ما نصَّ عليه في وقفيَّات المساجد بإقامة مثل تلك مع اشتراط ختمها بمجالس العزاء الحسيني حسب ما هو المألوف شرعاً فيها بشرط عدم مصاحبة المتنجِّسات بما هو مسري أو الكافر لنجاسته المنهي عنها هناك بحجَّة عدم لزوم التَّقيُّد بذلك شرعاً في العزاء الحسيني، ولكن مع وجود الإضرار بها في ذلك فلا مانع من تعيُّن هذه الأمور في مواقع الحسينيَّات المعدَّة لها حسب لو كانت ممَّا يختم في آخره بالمجلس الحسيني وإن كان التَّطهُّر راجحاً في هذه المواقع ولما يقام فيها كذلك.

(مسألة 138) تحرم زخرفة المسجد بالذَّهب، ونقشه بصور ذوي الأرواح، وأمَّا غير ذلك كصور الورود والأشجار فمكروه لا غير.

(مسألة 139) يحرم بيع المسجد، أو إتِّخاذه ملكاً، أو جعله جزء من الطَّريق اختياراً حتَّى لو انهدم وأصبح أرضاً مهملة، لأنَّه مسجد من تخوم الأرض إلى عنان السَّماء، ما عدا الأراضي المفتوحة عنوة كما مرَّ، فإنَّ مسجديَّتها ثابتة ما دامت أبنيتها موجودة، ولو

ص: 96

شكَّ في مصداقيَّة كون أرض مسجداً بعد انهدامه - مثلاً - أنَّها هل هي من المفتوحة عنوة أم لا ؟ كبعض أراضي العراق، مع وجود قرائن للمسجديَّة عرفاً، كأوراق الطَّابُّو والمؤيدة من جهة شرعيَّة، ونحو آثار دالَّة أخرى على ذلك ولو ببعض أحجار مسوَّرة ؟ فالأحوط وجوباً بقاؤها على المسجديَّة.

(مسألة 140) يحرم بيع أبواب المسجد وشبابيكه وكل ما يتعلَّق به، ولو خرب المسجد فلابدَّ من حفظها وجعلها في نفس المسجد عند إعادة بنائه، وأمَّا إذا لم تصلح لذلك المسجد بأي نحو فلابدَّ من جعلها في مسجد آخر قريب منه، وإذا لم تصلح لغيره من المساجد أيضاً فيجوز بيعها ويجب صرف ثمَّنها في نفس المسجد الَّذي كانت فيه - وإن لم يمكن ففي المساجد الأخر، على أن يكون ذلك بإشراف الحاكم الشَّرعي أو من ينيبه، لإتقان الأمر أكثر ولرعاية الأهم فالأهم.

هذا إذا كانت من أجزاء المسجد، وأمَّا إذا كانت وقفاً على المسجد وسقطت عن الاستفادة فيه خاصَّة وأريد صرفها في مسجد آخر فلا مانع إذا تشترى لأجل المسجد الآخر ويصرف ثمَّنها في شؤون المسجد الأوَّل للعائديَّة الأصليَّة.

(مسألة 141) يستحب إنشاء المساجد وتعميرها، كما يستحب ترميمها وتصليحها، ويجوز هدمها وتأسيسها من جديد إن كانت خربة جدَّاً بحيث لا يمكن ترميمها، بل يجوز هدم المسجد العامر لغرض توسيعه على المصلِّين بشرط أن يكون ذلك بإضافة على أرضه لا ببناء اسطواناته وحيطانه بقطر أقل كي يصبح داخله أوسع ومن خالص مال التَّبرع لا من الحقوق الشَّرعيَّة في خصوص الهدم المذكور أخيراً.

وكذا يجوز هدم العامر إذا كان على أسس بالية غير قابلة للدَّوام وخطرة في نفس الوقت على المصلِّين لبنائها حتَّى من الحقوق الشَّرعيَّة إن اقتضى الأمر وتحت إشراف الفقيه أو نائبه كذلك، لكن لابدَّ من مراعاة كون أرض المسجد في جواز الهدم من غير الأراضي المفتوحة عنوة فقط جهد الإمكان، وأمَّا فيها لو اقتضى الأمر ولم يمكن التَّرميم وقوِّمت مسجداً من جديد فالأحوط تجديد الوقفيَّة للمسجديَّة من الفقيه، وإن كانت في تلك الأراضي بعض العلائم فضلاً عمَّا لو لم تكن.

ص: 97

(مسألة 142) يستحب تنظيف المساجد وإنارتها والاهتمام بشؤونها.

(مسألة 143) يستحب لمن رام الذَّهاب إلى المسجد مراعاة الأمور التَّالية: -

1 - استعمال الطِّيب.

2 - لبس الثَّوب النَّظيف الفاخر.

3 - الفحص عن حذائه، مخافة وجود النَّجاسة فيه.

4 - تقديم الرِّجل اليمنى عند الدُّخول واليسرى عند الخروج.

5 - أن يكون أوَّل من يدخل إلى المسجد وآخر من يخرج.

(مسألة 144) يستحب عند الورود إلى المسجد بعد التَّطهُّر أن يصلِّي ركعتين تحيَّة واحتراماً للمسجد، بل لا ينبغي تركها، وإذا صلَّى ركعتين وجوباً أو لغير التَّحيَّة من المستحبَّات فيكفي ذلك عن صلاة التَّحيَّة.

(مسألة 145) يكره أن تقع الأمور التَّالية في المسجد: -

1 - النَّوم، إلاَّ في حال الاضطرار.

2 - التَّكلم حول أمور الدُّنيا.

3 - الاشتغال بالصِّناعة.

4 - إنشاد الشِّعر إلاَّ في المناسبات الدِّينيَّة والمتضمِّنة للحكمة والموعظة.

5 - البصاق الإمتخاط وإلقاء النُّخامة وأخلاط الصَّدر في أرضه.

6 - إنشاد الضَّالة (الضَّائع)، إلاَّ عند بابه من جهة الخارج.

7 - رفع الصَّوت لغير الأذان.

(مسألة 146) يكره فسح المجال للمجانين والأطفال في المسجد إلاَّ لتربية الأطفال المميِّزين بمصاحبتهم وتحت إشراف كبارهم، كما ويكره الدُّخول في المسجد لمن أكل البصل أو الثُّوم أو كل ما يورث رائحة كريهة تؤذِّي الآخرين، ولمثل هذا أستحبَّ استعمال السُّواك إضافة إلى التَّطيُّب.

ص: 98

المَقْصَدُ الثَّاني المُطَهِّرَات الإِثْنَي عَشَر

تمهيداً لكل ما يحتاجه المسلم من أمر الطَّهارة فقهيَّاً لجميع الحالات العباديَّة - كما مرَّ التَّنبيه عليه - وغيرها المتمثِّلة بلزوم إزالة النَّجاسات العارضة عليها أو انقلاعها ذاتيَّاً ومعنويَّاً وحكميَّاً أوَّلاً، لابدَّ وأن نذكر بعد ذلك جميع المطهِّرات لما قد يطرأ على الشَّيء من أمور النَّجاسات الماضية ما يحوج إلى هذا الذِّكر لأجل أن يفهم كيفيَّة الطَّهارة بها - ولو باستطراد مختصر -.

وتلك المطهِّرات هي إثنا عشر، ليتسنَّى للمكلَّف ما يجب عليه وما ينبغي له حول هذا الأمر، ولتعقبها التَّفاصيل في الفقه في مواضيع الرِّسالة كلٍ بحسبه، وفي مقدِّمتها ما يتعلَّق بالطَّهارات الثَّلاث (الوضوء والغُسل والتَّيمُّم) الثَّابت أمرها لأسباب الأحداث الصَّغيرة والكبيرة والآتي ذكر جميعها في آخر هذا الكتاب، لأنَّها من المقدِّمات على ما مرَّ بيانه وما سيجيء إن شاء الله تعالى.

الأَوَّل: المَاء

فالماء أهم المطهِّرات وأبلغها في التَّطهير في أغلب مقامات الفقه المناسبة له، من جهة قابليَّته لإزاحة

النَّجاسات العارضة على جسم المكلَّف - وفي أوانيه وألبسته وأفرشته ومأكولاته ومشروباته، وفي الوضوء من الأحداث الصغيرة الآتية، وفي الاغتسال من الأحداث الكبيرة الآتية كذلك وما يلحق بها - وفي تغسيل الموتى من أمور الواجبات والمستحبَّات - كما سيأتي -، إلاَّ نجس العين فلا ينفعه تطهير أبداً إلاَّ إذا استحال أو انقلب أو نحوهما - كما مرَّ وكما سيأتي - عدا الكافر فيما إذا دخل الإسلام وأقرَّ بالشَّهادتين فإنَّه سرعان ما يطهر - على ما سيجيء -، ولهذا وأمثاله نقدِّم الماء في الذِّكر.

(مسألة 147) يطهِّر الماء المطلق الطَّاهر - دون المضاف - كل ما يعرض على الشَّيء

ص: 99

من النَّجاسات العرضيَّة الماضية بإزالتها به، وكذا الحكميَّة الَّتي لم يبق لها عين وإنَّما بقي الأثر الحكمي فقط بغسل مواقعها، بشرط استيلاء الماء عليها سواء كان قليلاً أم كثيراً وحسب الكيفيَّة المرسومة شرعاً على ما سيجيء تفصيله.

وأمَّا إذا كانت عينها باقية فلا تنمحي النَّجاسة عنها،كنجاسة الكلب إلاَّ باستحالته ملحاً والكافر إلاَّ بإسلامه، ويلحق بحكم النَّجاسات الماضية المتنجِّسات المتأثِّرة بملاقاتها برطوبة وإن كانت طاهرة في نفسها.

(مسألة 148) ضمان صحَّة التَّطهير بالماء المطلق بالدَّرجة الأعلى لا يحصل إلاَّ إذا كان كثيراً معتصماً واستولى الماء على المتنجِّس تماماً - على ما سيتَّضح في أقسام المياه -، وأمَّا القليل منه فليس بممكن إلاَّ بأمور: -

1 - طهارة الماء قبل استعماله في التَّطهير، فلو لم يكن كذلك فلا يكون صالحاً للتَّطهير لأنَّه هو المحتاج إلى الطَّهارة فكيف يكون مطهِّراً.

2 - سكب الماء الطَّاهر على المتنجِّس وانفصال ماء الغسالة على النَّحو المتعارف فيه، كسكب ذلك الماء فوراً عن الإناء مثلاً بعد صبِّه ظاهراً عليه، أمَّا فيما ينفذ نفوذاً في الشيء كالقطن والصُّوف والفراش والملابس المتنجِّسة فلابدَّ من عصرها أو غمزها بالكفِّ - مثلاً - حتَّى ينفصل عنها ماء الغسالة النَّجسة.

3 - زوال عين النَّجاسة دون أوصافها الَّتي لا تلحظ بالاعتبار كحالة عدم وجود أيِّ جرميَّة من تلك العين في الموقع المتنجِّس، كبعض الألوان والرَّوائح ذات الأثر الطَّفيف جدَّاً، وإن كان الأحوط سكب الماء على المتنجِّس باستمرار إلى زوال عين النَّجاسة مع أوصافها تماماً مع الإمكان.

4 - تعدُّد الغَسل بهذا الماء فيما يشترط فيه التَّعدُّد، كالمتنجِّس بالبول وبولوغ الكلب والخنزير كما سيأتي، وكذا في الأفرشة والملابس المتنجِّسة بالبول إلى أن تزول النَّجاسة بعصرها - ولو مرَّات - بتطهيرها بمرَّتين على الأقل، وإن لم تكن بالبول فيكفي فيه استيلاء الماء عليه - بعد إزاحة النَّجاسة - مرَّة واحدة مع الاحتياط بالمرَّة الثَّانية.

(مسألة 149) لا يعتبر التَّوالي فيما يعتبر فيه التَّعدُّد بمعنى أنَّه يجوز غسل المتنجِّس في وقت مرَّة وفي وقت آخر المرَّة الأخرى، نعم يعتبر - على الأحوط - المبادرة إلى العصر فيما

ص: 100

يشترط فيه ذلك.

(مسألة 150) يجب في تطهير أواني الطَّعام والشَّراب المتنجِّسة غسلها - بالماء القليل - ثلاث مرَّات إحتياطاً، إلاَّ في الإناء المتنجِّس من شرب الخنزير فإنَّه لابدَّ من غسله سبع مرَّات، وكذا من موت الجرذ - وهو كبير الفئران البريَّة - على الأحوط في الأخير.

(مسألة 151) يجب غسل أواني الخمرة ثلاث مرَّات بالماء الكثير أو القليل، وإن كان الأولى سبع مرَّات.

(مسألة 152) يجب في تطهير الآنية المتنجِّسة بولوغ (شرب) الكلب تعفيرها بالتُّراب الطَّاهر المخلوط بشيء من الماء، ثمَّ غسلها بالماء الكثير مرَّة واحدة، وإلاَّ فمرَّتين، وبذلك تكون مع تعفير التُّراب ثلاث مرَّات، وكذا الحكم في (لطع) الكلب بدون شرب على الأحوط.

فإن لم يجد التُّراب لتعفيرها بقيت على نجاستها إلى حين حصوله، أمَّا لو وجد التُّراب لكن لا يتمكَّن من تعفيرها كالآنية الَّتي فوَّهتها ضيِّقة فيكفي إدخال التُّراب الممزوج بشيء من الماء إلى داخلها وتحريكها - ليستوعب تمام الإناء - ثمَّ تطهيرها بالماء الخالص.

(مسألة 153) إذا ولغ الكلب في آنية ثمَّ صبَّ ماؤه الَّذي ولغ فيه الكلب في آنية أخرى وجب تعفير الثَّانية بالتُّراب وتطهيرها أيضاً احتياطاً.

(مسألة 154) إذا تنجَّس الإناء بوقوع لعاب الكلب فيه أو عرقه أو سائر فضلاته أو بملاقاة بعض أجزائه غير حالة الولوغ لم يجب تعفيره بالتُّراب، بل حكمه حكم بقيَّة النَّجاسات.

(مسألة 155) الأرض الصلبة وأمثالها ممَّا لا ينفذ الماء إلى داخله كالحديد والأحجار والبلاستك والبلاسكو وما يلحق بذلك كالنَّايلون يكفي في تطهيرها - بعد إزالة النَّجاسة - إجراء الماء عليها، وإن كان ممَّا ينفذ إلى الدَّاخل كالأرض الرخوة وغيرها فلابدَّ من سحب الماء منه كما في عملية البزل في الأرض اذا احتيج إلى طهارة شيء من أعماقها، لئلاَّ تبقى فيه آثار النَّجاسة أو عصره إن كان ممَّا يعصر كالإسفنج - كما مرَّ في مسألة (147) فرع (2).

وكذا ما إذا نفذت رطوبة المتنجِّس إلى داخلها كالصَّابون والطَّين الجامد والخزف

ص: 101

والخشب ولو بطيئاً، فلا يكفي في تطهير ظاهرها بمجرَّد إجراء الماء عليه، كما في الأرض الصلبة والحديد والأحجار والنَّايلون - كما مرَّ - مع وجود تلك الرَّخاوة فيها، بل لابدَّ أن تخرج تلك النَّجاسة إلى الظاهر كما دخلت إن أمكن بإرسال المياه الطَّاهرة لتدخل وتنفذ حتَّى الوصول إلى الخارج بمقدار نفوذ المتنجِّس وزيادة حتَّى يستولي على المحل وإذا لم يمكن ذلك يكون المتنجِّس كالمعدوم، إلاَّ ما كان ممَّا يقبل العصر كما مرَّ سابقاً على الأحوط، من غير المأكول والمشروب كالقطن والإسفنج والطِّين ونحوه فهو باق على إفادته بعد التَّطهير والعصر.

وأمَّا لو لم يقبل العصر كالَّذي لا يمكن الاستيلاء عليه إلاَّ باضمحلاله غالباً كالمضافات فهو مشكل في تطهيره والأحوط اجتنابه كبعض الصَّوابين إلاَّ أن يلتزم باستعماله في الغَسل على هذه الحالة من غير أن يدخل إلى الجوف ولا أن يلتزم باستعماله على طهارة، بل للدَّلك ومحو الدُّسومة والوسخ فقط فلا مانع حينئذ ثمَّ يعقِّبه المكلَّف بعمليَّة التَّطهير منه بالماء الطَّاهر الكافي وحده، وأمَّا الخشب المتنجِّس فبالإمكان ان لم يرد طهارة عمقه الاستفادة منه في غير موارد ما يجب فيه الطَّهارة كذلك ولو بغسل ظاهره وان أريد ذلك فالإشكال واقع إلاَّ بنحو الشَّرح لا غير ولو احتياطاً.

(مسألة 156) الغسالة المتَّصلة الَّتي كانت على الأرض المتنجِّسة واندفعت بالمياه الطَّاهرة المستحوذة عليها طاهرة ما لم تحمل تلك النَّجاسة معها، والغسالة المنفصلة عن المياه الطَّاهرة باقية على نجاستها لو لم تتأثَّر وتزول حالتها باتِّصالها الأوَّل، من غير فرق بين انفصالها عن البدن وغيره إن ثبت مصاحبتها للنَّجاسة.

(مسألة 157) الدُّسومة الطَّبيعيَّة في اللحم أو الجسم إن كانت تحول دون وصول الماء إلى الظَّاهر الطَّبيعي عند تنجُّسه لابدَّ من إزالتها لأنَّها تعتبر حاجباً على الأحوط، كالَّذي يخرج من المسامات دوماً، لكونه يحجب عن وصول الماء إلى البشرة المتنجِّسة بحيث لو سكب الماء على تلك البشرة الدِّهنيَّة لتفرق وانتشر رأساً، وإن كانت قليلة بحيث لا تحول فلا تمنع من التَّطهير.

وأمَّا الدُّسومة والحواجب الأخرى غير الطَّبيعيَّة من الشُّحوم الأخرى وكالبوية وصبغ الأظافر والأحبار الجافَّة والمواد الدِّهنيَّة التَّجميليَّة أو الدِّهنيَّة الطِّبيَّة إذا لم تكن من

ص: 102

نوع سريع الانتشار المعروف ب- (الكِريم) فلابدَّ من إزالتها كثيرة كانت أم قليلة، لغرض تطهير ما يحتاج إليه الجسم المتنجِّس، وأمَّا خصوص الكِريم إن حصل بطء في زواله بعض الأحيان، فلابدَّ من مسحه بقماش أو منديل (ورقي) مثلاً لغرض سرعة الإزالة أوَّلاً ثمَّ الإلتزام بالتَّطهير بالماء، وإلاَّ فلا مانع من ممارسة التَّطهير معه فوراً.

(مسألة 158) لا يطهر العجين المتنجِّس بخبزه وتجفيفه ووضعه في الماء الكثير بحيث قد يفهم منه نفوذ الماء إلى أعماقه ظاهراً، وكذا الحليب اذا تنجَّس لا يطهر بتجبينه ووضعه في الماء الكثير حتَّى لو عصر ذلك الخبز أو ذلك الجبن من الماء الَّذي تعلَّقت فيه النَّجاسة الحكميَّة على الأقل الَّتي كانت لأنَّها لن تزول بذلك ولو احتياطاً اذا كان كل من الحالتين حالة عائدة إلى الأكل لا غير وليست كما ذكرناه في الأنفحة لأنَّها مستثناة وقد نبَّهنا عن أمر لزوم استثناء المأكولات من هذا القبيل، وكذا المشروبات المضافة عن عمليَّة إمكان التَّطهير، وكما سيجيء في باب الأطعمة والأشربة.

(مسألة 159) يكفي في تطهير الحبوب اليابسة المتنجِّسة كالرز والعدس مع أوانيها إذا كانت متنجِّسة بعد إزالة عين النَّجاسة بصورة إدخال الماء القليل مثلاً فيها واستغراق الأواني به ثمَّ سكبه ثمَّ إدخاله واستغراق الإناء بالماء مرَّة أخرى إن كانت النَّجاسة بالبول، ما لم يكن ذلك الإناء إناء أكل وشرب وقد أصابته النَّجاسة، فإنَّه يحتاج إلى تثليث ذلك العمل، وفي الكثير تكفي الإفاضة المستوعبة للجميع بعد تلك الإزالة، ما لم تكن تلك الحبوب مستنفعة بالنَّجاسة إلى أعماقها فلا فائدة بهذا الأسلوب من التَّطهير حينئذ.

(مسألة 160) كيفيَّة تطهير الأواني الضَّيقة من حيث الرَّأس صغرت أم كبرت بالماء الكثير هو وضعه فيها بحيث يستولي عليها إلى حد ما يطفح على الفوَّهة مرَّة واحدة.

وأمَّا القليل فهو بوضعه في دواخلها مع إدارة الإناء ليستغرق جميع أجزائه ثمَّ سكبه فوراً ليفعل ذلك ثلاث مرَّات.

(مسألة 161) المصوغات الَّتي يصوغها الكافر - بأنواعها بحيث علمت مباشرته لها برطوبة - نجسة إحتياطاً إلاَّ أنَّه يجوز استعمالها بعد تطهير ظاهرها، والأحوط لمستعملها تطهير ظاهرها بالغسل عند استعماله إذا حصل احتكاك فيها مع شيء يوجب زوال شيء

ص: 103

قشري من ظاهرها ونحو ذلك، لاحتمال ظهور باطنها عند كثرة استعمالها مع الاحتياط الاستحبابي بترك مثل تلك المصوغات.

(مسألة 162) التَّنور المتنجِّس بكل جوانبه وأطرافه يكفي في تطهيره صبُّ الماء القليل من الإبريق عليه بحيث يستوعب تمام أجزائه ومن أعلاه إلى أدناه ولا يحتاج إلى التَّعدُّد مرَّة أخرى إلاَّ إذا كانت النَّجاسة بولاً مع رجحان الاحتياط بالتَّعدد حتَّى في غير البول.

الثَّاني:الأَرْض

فإنَّها تطهِّر باطن القدم وكل ما يوقَّى به من النَّعل والخف والحذاء بالمشي عليها أو المسح بها بشروط وهي:-

1 - أن تكون النَّجاسة حاصلة من الأرض النَّجسة، مشياً أو وقوفاً على الأحوط وجوباً.

2 - طهارة الأرض وجفافها.

3 - زوال عين النَّجاسة بالمشي عليها أو المسح بها، ولا تكفي المماسَّة وحدها وإن زالت النَّجاسة قبلها.

(مسألة 163) لا فرق في الأرض بين التُّراب والرمل والحجر، وفي إلحاق الجص والآجر بها إشكال يوجب الاحتياط باجتنابهما في عملية التَّطهير، وكذا يجب اجتناب ما يشكَّ في أن ما تحت قدمه كان أرضاً أو شيئاً آخر، لأنَّه لابدَّ من إحراز كونه أرضاً.

(مسألة 164) إذا كان المشي على ظاهر القدم أو على عيني الرُّكبتين أو على اليدين وحصلت النَّجاسة فيها فلا تطهر بالأرض - على الأحوط - بل بالماء، وكذا أسفل خشبة الأقطع وحواشي القدم القريبة من الباطن.

(مسألة 165) إذا شكَّ في طهارة الأرض بنى على طهارتها، إلاَّ إذا علم بسبق النَّجاسة عليها فيستصحبها، وكذا إذا شكَّ في جفاف الأرض ورطوبتها فلا يحكم بمطهِّريتها إلاَّ مع سبق الجفاف فيستصحبه، بل وكذا إذا شكَّ في أنَّ نجاسة القدم أو ما يوقَّى به كالحذاء حصلت من المشي أو الوقوف عليها أو من مكان آخر فلا يكتفى بتطهيرها بالأرض، بل لابدَّ من غسلها بالماء.

ص: 104

الثَّالِث: الشَّمْس

فإنَّها تطهِّر الأرض وكل ما لا ينقل من الأبنية وما اتَّصل بها من الأخشاب والأبواب والأعتاب والأوتاد،

وكذا الأشجار والنَّباتات والأثمَّار والخضروات على منابتها وإن حان قطافها وغير ذلك حتَّى الأواني الكبيرة المثبَّتة ونحوها، بل حتَّى ما يعد جزءاً من الأرض كالحصى والطَّين والتُّراب والأحجار وإن كانت في أنفسها منقولات، بخلاف ما إذا لم تكن معدودة من الأرض.

وفي تطهير الحصر والبواري ونحوها ممَّا ينقل بها إشكال مقتضاه الاحتياط وجوباً بالاجتناب عن اعتبار تطهير الشَّمس لها إذا تنجَّست ويتعيَّن بالماء فقط.

(مسألة 166) يعتبر في طهارة المذكورات ونحوها بالشَّمس أمور: -

1- زوال عين النَّجاسة عنها إن كانت لها عين.

2- أن تكون رطبة برطوبة مسرية ثمَّ تجفِّفها الشَّمس تجفيفاً يستند إلى إشراقها بدون واسطة، ولا يضر مشاركة غيرها - كالرَّيح - في التَّجفيف.

ويطهر بذلك باطن الشَّيء الواحد تبعاً لظاهره بإشراقها عليه على الوجه المذكور.

(مسألة 167) لو أراد تطهير المتنجِّس من المذكورات بالشَّمس وكان جافَّاً صبَّ عليها سائلاً سواء كان طاهراً أو نجساً لترطيبها حتَّى تجفِّفها الشَّمس بإشراقها.

(مسألة 168) لو تنجَّس ما لا ينقل بالبول كفى في تطهيره جفافه بإشراق الشَّمس عليه من دون حاجة إلى الماء.

(مسألة 169) المسامير المتنجِّسة الثَّابتة في الأرض أو البناء حكمها حكم الأرض في تطهير الشَّمس لها ما لم تقلع، وإن كان الأحوط تطهيرها بالماء أيضاً.

الرَّابع:الاسْتِحَالَة

وهي تبدُّل حقيقة الشَّيء وتغيُّرها إلى حقيقة أخرى تخالفها في حكم الشَّارع المقدَّس عليها، فيطهر

النَّجس أو المتنِّجس بإستحالته إلى شيء أخر كإستحالة الكلب إلى ملح، أو العذرة إلى

ص: 105

تراب، أو النُّطفة إلى حيوان أو الخشبة المتنجِّسة تصير رماداً بالإحتراق أو الماء المتنجِّس إلى بخار.

أمَّا إذا إستحال البخار النَّجس إلى عرق فيبقى على نجاسته كالعرق المتَّخذ من الخمرة لإنَّه مسكر مائع.

وأمَّا ما أحالته النَّار من تلك الذَّوات النَّجسة أو المتنجِّسة فحماً أو خزفاً أو آجرَّاً أو جصَّاً أو نورة فهو باق على النَّجاسة أيضاً، وكذا الزُّيوت المتنجِّسة فضلاً عن النَّجسة إذا استصبح بها وصعدت إلى سقف البيت فإنَّها باقية على نجاستها على الأحوط وجوباً.

(مسألة 170) يطهر كل حيوان أو حشرة تكَّون من نجس أو متنجِّس، كالدود المتكِّون من العذرات والميتة والدَّم.

(مسألة 171) إذا تغذَّى حيوان مأكول اللحم على الأطعمة والأشربة النَّجسة أو المتنجِّسة فلحمه ولبنه وبوله وخرؤه محكوم بالطَّهارة، عدا الَّذي تغذَّى على عذرة الإنسان وما يلحق بها إحتياطاً، لأنَّه جلاَّل وهو نجس ولا يطهر إلاَّ باستبراءه بالمقدار المحدَّد له شرعاً كما سيأتي.

وكذا لو صار الطَّعام النَّجس أو المتنجِّس جزءاً من الأشجار والخضروات والنَّباتات والأثمار فهي محكومة بطهارتها.

الخَامِس: الاِنْقِلاَب

وهو التَّبدُّل في الحالات لا في الحقيقة ولها مصداق واحد، وهو انقلاب الخمر خلاًّ، سواء كان بنفسه أو بعلاج، ولكنَّ الأحوط وجوباً الاقتصار على ترك الخمر المراد انقلابه إلى خل لمدَّة أربعين يوماً ثمَّ استعماله لا أن يُلتزم بالخَليَّة بواسطة العلاج السَّريع على ما يتعارف عمليَّاً في هذا الزَّمان.

(مسألة 172) يشترط في الطَّهارة بالانقلاب عدم تنجُّس الخمرة بنجاسة خارجيَّة فلو وقع فيها - أو لاقاها - نجس من النَّجاسات ثمَّ انقلبت إلى خل لم تطهر بالانقلاب.

ص: 106

(مسألة 173) إذا أضيف إلى الطُّرشي شيء يسير من الدِّبس أو التَّمر لأجل أن يكون طعمه مزَّاً كما هو متعارف في بعض البلدان - كالنَّجف الأشرف - فلا ضير في استعماله بشرط أن لا يسبِّب ذلك تحوُّله إلى الخمرة من جديد، كما لو أريد استعماله للاستهلاك السَّريع ممَّا مرَّ ذكره على أن يحتفظ به في أماكن باردة ولمدة غير طويلة بحيث يخاف منها انتشار البكتريا في ذلك الطُّرشي مرَّة أخرى وتخميره وسيأتي تفصيل أخر عن ذلك في باب الأطعمة والأشربة بإذن الله تعالى.

السَّادِس: ذِهَابُ الثُّلَثَين

بناءاً على ما ذكرناه من نجاسة العصير العنبي إذا اشتدَّ في غليانه بالنَّار وأسكر فلا يطهر حينئذ، ولا يجوز

استعماله إلاَّ بعد ذهاب ثلثيه ويبقى الثُّلث الثَّالث طاهراً لا غير، وإن كان الأحوط استحباباً تجنُّب طهارته في حالة عدم اشتداد الغليان أيضاً، أمَّا الحرمة في الاستعمال فباقية سواء حصل الاشتداد أم لا، ولا ترتفع إلاَّ بعد ذهاب الثُّلثين إلى غير ذلك ممَّا مرَّ في مسألة 64 ص80.

السَّابِع: الاِنْتِقَال

وهو موجب لطهارة المنتقل إذا أضيف إلى المنتقل إليه وعُد جزءاً منه، كانتقال دم الإنسان وغيره ممَّا له

نفس إلى جوف ما لا نفس له كالبقِّ والقمَّل على ما وصفناه، وكانتقال فضلات الإنسان إلى النَّبات والشَّجر ونحوهما بالتَّسميد مثلاً.

(مسألة 174) يشترط في الإنتقال أن يكون على وجه لا يسند إلى المنتقل عنه بعد ذلك، وإلاَّ لم يطهر، كما مرَّ ذكره عن البق إذا وقع على جسد الشَّخص فقتله بعد مصِّدمه فوراً في أنَّ حكمه كدم العلق إحتياطاً ما لم يتعطَّل فترة.

ص: 107

الثَّامِن: الإِسْلاَم

فإنَّه مطهِّر للكافر بجميع أقسامه حتَّى المرتد الفطري على الأقوى من جهة قبول توبته باطناً وظاهراً وغير

المرتبطة بوجوب قتله، فحين بقاءه على قيد الحياة - كما لو كانت الحدود معطَّلة بسبب بعض الموانع الشَّرعية كعدم القدرة أو اقتضت المصلحة إبقاءه من قِبل الحاكم الشَّرعي حتَّى لو كان مبسوط اليد لحاجة الإسلام إليه في علمه ونحو ذلك أو انفلاته لشبهة وغيرها - تصح عباداته لو أسلم ويطهر بدنه، وأنَّ توبته لا علاقة لها بوجوب قتله على الغير سواء الآن أو بعد حين مع القدرة أو عدمها، كما أنَّه يجوز له ممانعة نفسه من قتله إذا لم يصدر في حقه القتل شرعاً وبالأخص ما إذا كانت الممانعة لشبهة حصلت له.

وأمَّا اعتداد زوجته منه - حال الارتداد - وانتقال أمواله إلى ورثته فيجوز له بعد التَّوبة إرجاع زوجته بعقد جديد حتَّى قبل خروج العدَّة، وأمَّا الأموال فيملكها بعد توبته مع عدم الحكم عليه.

وأمَّا المرتدَّة فهي أهون من الرَّجل لأنَّه لا قتل عليها، بل تحبس ويضيَّق عليها في المطعم والمشرب وتضرب أوقات الصَّلاة لأجلها حتَّى تتوب وتأدِّيها.

ويكفي في قبول توبة الكافر بأقسامه الإقرار بالشَّهادتين ولو من جهة ظاهريَّة فقط في بعض الحالات وكان لم يعلم مخالفة قلبه للسانه لقوله تعالى ]لاَ تَقُولُوا آمَنَّا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ[، لترحيب الإسلام العزيز بالمهتدين والمستغفرين من ذنوبهم - حتَّى عند خروج بعضهم من الإسلام ارتداداً كما قلنا إذا رحَّبوا بدعوته لهم انصياعاً إليه - ولو للاستفادة منه إبتداءاً إلى حين التَّعود على تعاليم الإسلام وأحكامه الَّتي قد يصل تطبيقها مستمرَّاً إلى حدوث الإيمان المطلوب في هذه الآية وغيرها.

فإن علم مخالفة قلبه للسانه وتجلَّى النِّفاق بوضوح كالخروج على الإمام - مثلاً - أو نصب العداء له أو الزَّندقة ضدَّه لكونه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يمثِّل النُّبوَّة والشَّريعة المقدَّسة فترجع النَّجاسة لا محالة إلى واقعها، ولأنَّها قد تفوق حالات الكفر في ترتيب أثر النَّجاسة على صاحبها ربطاً بواقعيَّته الخسيسة.

(مسألة 175) إذا أسلم الكافر تتبعه فضلاته المتَّصلة به من شعره وظفره وبصاقه

ص: 108

وفضلاته الطَّعاميَّة كالقيء لجواز مساورته، وكذا نخامته وقيحه ما عدا النَّجاسات العينيَّة الَّتي كان يستعملها أو هي في جسمه أو أكله وشربه الَّذي يمارسه أو أوانيه، إذ لابدَّ له من أن يطهِّر أشياءه منها عند قبولها للتَّطهير، وكذا جسمه ولو بالإلتزام بغسل التَّوبة المستحب والمشرع دينيَّاً لهذا وأمثاله.

التَّاسِع: التَّبَعيَّة

إذا أسلم الكافر تبعه ولْده في الطًّهارة أباً كان أو جدَّاً أو أمَّاً، فلو كان المسلم أحد الأبوين فإنَّه يتبع أشرفهما، فضلاً عمَّا لو كان كلاهما كذلك، بشرط عدم إظهار الطِّفل المميِّز الكفر.

كما أنَّ الطِّفل الأسير يتبع المسلم الَّذي أسَّره إذا لم يكن معه أحد آبائه وإن كان الأسير محسوباً من عبيد المأسِّر، لكن فيه إشكال، وهو أنَّه إذا عدَّ مسلماً حين تأسيره فلا يصح استملاكه حينذاك، ولذا فالأحوط اجتناب مساورته إلى حين بلوغه فلو أسلم كان من الطَّاهرين حينئذ، أمَّا لو كان معه أحد آبائه فإنَّه يتبعه كما هو.

(مسألة 176) يتبع الميِّت بعد طهارته بالتَّغسيل آلات تغسيله من السدَّة والخرقة الموضوعة عليه وثيابه الَّتي غُسِّل فيها ويد الغاسل إذا غمرتها مياه التَّغسيل مرَّة في الكثير ومرَّتين في القليل.

وأمَّا باقي بدن الغاسل وثيابه الَّتي لم تتَّصل بحالة التَّغسيل فإشكال، أحوطه عدم التَّبعيَّة بل الأولى الاحتياط فيما عدا يد الغاسل حسب.

العَاشِر: زَوَال عَيْنِ النَّجَاسَة

وتتحقق الطَّهارة بذلك في ثلاثة مواضع: -

الأوَّل: بواطن الإنسان، كباطن الأنف والأذن والعين ونحو ذلك، فإذا خرج الدَّم من داخل الفم أو أصابته نجاسة خارجيَّة فإنَّه يطهر زوال عينها، فملاقاة الطَّاهر للنَّجس في واقعه برطوبة إذا كانت في الباطن دون الظَّاهر لا توجب سراية النَّجاسة إلى الظَّاهر كملاقاة المذي للبول في الباطن حينما خرج المذي وحده.

(مسألة 177) إذا شكَّ في كون الشَّيء من الباطن أو الظاهر يحكم ببقائه على

ص: 109

النَّجاسة شرعاً وتورُّعاً بعد زوال العين فضلاً عن عدمه.

(مسألة 178) مطبق الشَّفتين من الباطن، وكذا مطبق الجفنين، فالمناط في الظَّاهر فيهما ما يظهر منهما بعد التَّطبيق الطَّبيعي.

الثَّاني: بدن الحيوان، فإذا أصابته نجاسة خارجيَّة أو داخليَّة كمنقار الدَّجاج إذا تلوَّث بالعذرة فإنَّه يطهر بزوال عينها، وهكذا الحشرات الطَّاهرة من باب أولى كالذُّباب ونحوه، لأنَّه ممَّا لا تظهر عليه آثار التَّلوُّث.

الثَّالث: مخرج الغائط فإنَّه يطهر بزوال عين النَّجاسة، ولا حاجة معه إلى الغُسل كما سيأتي في أحكام التَّخلِّي إذا لم يتجاوز المخرج، ولذا يكتفي بالاستجمار.

الحَادِي عَشَر: غَيْبَةُ المُسلِم

فإنَّها مطهِّرة للإنسان البالغ العاقل إذا حضر أمام مسلم آخر، وإن كان بحسب عقيدة الثَّاني أنَّه كان ملوَّثاً بنجاسة أو مباشراً لمتنجِّس برطوبة مسرية عن عمد أو غير عمد في حالة ما قبل الغيبة، بل مطهِّرة لثيابه وفرشه وأوانيه وغيرها من توابعها أيضاً ولكن بشروط: -

1 - علم المسلم الغائب بملاقاة بدنه - أو ثيابه أو غيرهما - للنَّجاسة كما مرَّ، فلو جهل ذلك فلا قرينة على احتمال التَّطهير من قبله.

2 - أن يكون صاحبه معتقداً بتنجُّس ذلك الشَّيء الَّذي فيه، كما إذا وصل إلى ثيابه عرق الجنب من الحرام، فإذا لم يعتقد بنجاسة ذلك العرق اجتهاداً أو تقليداً لا يحكم بها عنده فلا تنفع الغيبة لانتفاء موضوعها.

3 - استعماله فيما يشترط فيه الطَّهارة بعد إعتقاده بشرطيَّة ذلك فيما يستعمل فيه، فلو لم يعتقد بذلك فلا موضوع كذلك.

4 - أن يكون ممَّن يهتم بالطَّهارة والنَّجاسة، وإلاَّ كمن كان ضعيفاً في دينه فلا يهتم بهما فلا يمكن اعتبار طهارته.

5 - أن يكون تطهيره لذلك الشَّيء محتملاً، وأمَّا مع العلم بعدم التَّطهير فلا تكفي الغيبة فيه.

ص: 110

ومن تقييدنا الأمر بالمسلم - وأنَّه هو الَّذي قد يهتم بهذه الأمور ولو احتمالاً دون من لم يكن مسلماً - لابدَّ أن يفهم منه أنَّ غيبة الكافر غير مطهِّرة، فهي مبقية له على نجاسته بالنِّسبة إلى ما يتبعه، لأنَّ ذاته نجسة إحتياطاً كما لا يخفى ممَّا سبق ذكره.

(مسألة 179) يعتبر في حكم الغياب العمى والظُّلمة في الشَّخص الأخر إذا مضت على ذلك مدَّة بعد حصولهما يحتمل عادة فيها إمكان تطهير المتنجِّس مع العلم بسلامة دينه والتزامه.

الثَّاني عشر اِسْتِبْرَاء الحَيَوَان الجَلاَّل

وهو الحيوان المأكول اللحم الَّذي يعتاد في غذائه على أكل عذرة الإنسان - كما مرَّ - ولأجله يحرم أكله وينجس بوله وخرؤه، وكذا أكل الجيف على الأحوط - كما مضى - ولا يطهر إلاَّ باستبراءه بما يخرجه عن اسم الجلل.

ومعنى الإستبراء هو منع الحيوان عن أكل العذرات وتغذيته بالعلف الطَّاهر مدَّة عيَّنها الشَّارع المقدَّس وهي في: -

الواحد من الإبل أربعين يوماً، وفي البقر عشرين يوماً والأحوط ثلاثين، وفي الغنم عشرة أيَّام، وفي البط خمسة أيَّام والأحوط سبعة، وفي الدَّجاج ثلاثة أيَّام.

ص: 111

المَقْصَدُ الثَّالِث في الطَّهَارَة المَائيَّة والتُّرَابِيَّة

بعد الفراغ من الأمور العامَّة للطَّهارة - وموجباتها للفقه نوعاً وللعبادات المشروطة بها بصورة أخص وبيان المطهِّرات بصورة مجملة - ناسب - أوَّلاً - أن نذكر ما يتعلَّق بالأمور الخاصَّة القريبة لحاجة المكلَّف الماسَّة لمبحثي الطَّهارة المائيَّة والتُّرابيَّة، ثمَّ بعد ذلك نتعرض إلى ما يناط بالأمور العامَّة حول ذلك.

فنقول: إنَّ هاتين الطَّهارتين (المائيَّة والتُّرابيَّة) تجبان لأمرين هما الخبث والحدث في موارد وجوبهما ومستحبَّان في موارد استحبابهما.

أمَّا الخبث فهو النَّجاسات الطَّارئة على الجسم من بدن الإنسان وغيره كما مرَّ، إذا تلوث بها بدنه وتلحق به ثيابه وكل ما يرتبط بهما من الأشياء المرتبطة بهما عادة مثل الأواني وغيرها، ولا يرتفع ذلك إلاَّ بغَسله بالماء وحده في مقاماته أو مع غيره من المطهِّرات الماضية في بعض الأحوال كالتَّعفير أو الإستجمار إن كان الماء غير موجود في بعض الأحوال ونحوه كما سيأتي تفصيله.

وأمَّا الحدث، فهو القذارة المعنويَّة الَّتي توجد في الإنسان فقط بأحد أسبابها وهو قسمان: -

أصغر وأكبر، والأصغر يوجب الوضوء بالماء وقد يوجب الغُسل إلحاقاً كما في الإستحاضة كما سيجيء، والأكبر يوجب الغُسل فقط بالماء، ومع فقد الماء في الحدثين يجب التَّيمُّم بالتُّراب بدلاً عن الماء على تفصيل آتٍ في محلِّه.

ص: 112

المَبْحَثُ الأَوَّل في الطَّهَارَة المَائيَّة

بما أنَّ الماء هو العمدة في كثير من الأمور ومفضَّل في الإزالة والتَّطهير أقوى من غيره كما سبق ذكره وأوَّل المطهِّرات ناسب ذكر شيء عنه وما له من أقسام، ومن خلال بيانها يظهر ما يصلح منها للتَّطهير ممَّا لا يصلح، ثمَّ إنَّ بيان الطَّهارة المائيَّة يقع في فصول وهي: -

الفَصْلُ الأَوَّل أَقْسَامُ المِيَاه وَأَحْكَامُهَا

الماء قسمان: إمَّا مطلق أو مضاف.

والمضاف ما لا يصحُّ إطلاق لفظ الماء عليه بلا إضافة شيء إليه كالمعتصر من الأجسام مثل ماء الرَّقِّي والرُّمَّان والممتزج بغيره بشكل يخرجه عن صدق اسم الماء عليه كماء السُّكَّر والملح ولو ظاهراً وماء المرق ولو بشكل أعمق، والمصعَّد مع شيء يخرجه عن إطلاقه الطَّبيعي كماء الورد.

والمطلق عكس ذلك وهو ما يصح استعمال لفظ الماء فيه بلا إضافة منه إلى شيء آخر.

وما يستعمل في أقسام المطلق - الأتي ذكرها - من الإضافات اللَّفظيَّة - كقولنا ماء الجاري ونحوه من المياه المطلقة - فهو للتَّعيين لا لتصحيح استعماله.

(مسألة 180) المطلق أو المضاف النَّجس أو المتنجِّس كالبول والخمر والميتة يطهر بالتَّصعيد، لأنَّه استحالة إلى البخار ثمَّ إلى الماء حسب الدَّرجة الحراريَّة المجرِّدة للشَّيء النَّجس أو المتنجِّس عن أصول موادِّه الأخرى، ما لم يكن واصلاً عرقه إلى حدِّ عرقيَّة الخمريَّة والمسكريَّة، وعينيَّة الأعيان المتنجِّسة الأخرى كالمضاف المتنجِّس، حسب الدَّرجة الحراريَّة القصوى المبقية للمواد النَّجسة والمتنجِّسة على حالها.

ص: 113

القسم الأوَّل الماء المطلق

(مسألة 181) الماء المطلق - بجميع أقسامه المتقدِّمة وغيرها كالجاري والرَّاكد والقليل والكثير - يتنجَّس فيما إذا تغيَّر - بسبب ملاقاة النَّجاسة - بأحد أوصافها الثَّلاثة من اللَّون والطَّعم والرَّائحة ولو بشيء جزئي.

وكذلك يتنجَّس بملاقاة المتنجِّس المتأثر بأوصاف النَّجاسة الثَّلاثة، بل حتَّى بغير المتأثِّر إذا كان الماء قليلاً لتأثّره بمجرَّد الملاقاة من النَّاحية الحكميَّة - كما سيأتي -.

ولا ينجس فيما إذا تغيَّر بسبب المجاورة في قليله وكثيره كما إذا كان قريباً من جيفة فصار ذا رائحة كريهة ولو كانت بقوَّة.

(مسألة 182) لا يتنجَّس الماء بخصوص أوصاف المتنجِّس الأصليَّة إذا تغايرت مع أوصاف النَّجاسة العالقة بها إذا كان الماء كثيراً كالكر فما فوق، بل بأوصاف النَّجاسة، وإن كان لا يصح التَّطهير به لناحية ذلك التَّغيُّر، كما إذا وقع متنجِّس كان لونه الطَّبيعي أحمر مثل الدَّواء أو الحبر الأحمرين وكانت النَّجاسة الواقعة فيه غريبة عنه كالبول، فإنَّ ذلك الماء باق على طهارته لعدم تأثُّره بأوصاف النَّجاسة نفسها، إلاَّ ما إذا كان قليلاً في نسبته كالأقل من الكر فإنَّه يتأثَّر كما مرَّ.

(مسألة 183) المناط في التَّغير بالنَّجاسة هو حصوله بسببها - كما مرَّ - وإن كان التَّغير من غير سنخ أوصاف النَّجس تماماً، فيكفي في نجاسة الماء بوقوع الدَّم الأحمر فيه اصفراره.

(مسألة 184) إذا تغيَّر الماء بما عدا الأوصاف المذكورة في النَّجس، كالحرارة والبرودة والخفَّة والثِّقل والغلظة والرقَّة ونحوها، فلا يؤثِّر فيه نجاسة ما لم يتحوَّل إلى كونه مضافاً فيتأثَّر لذلك إن وقعت النَّجاسة فيه، وإن لم تقع فيه وحصلت الإضافة فقط فهو طاهر ولكنَّه لم يكن مطهِّراً.

(مسألة 185) لو وقع مقدار من النَّجاسة على ماء ولم يتغيَّر لونه ولا طعمه ولا رائحته، فإن كان عدم التَّغيُّر مستنداً إلى سبب في عين النَّجاسة كما لو كانت فاقدة لتلك الأوصاف كشعر الميتة أو عظمها فحينئذ لا مقتضي لنجاسة الماء إذا كان كثيراً، وكذا لو كان

ص: 114

عدم تغيُّره مستنداً إلى أمر خارجي لا إلى عين النَّجاسة كالبرودة أو الخفَّة ونحوها.

وأمَّا إذا كان عدم التَّغيُّر غير مستند إلى سبب في عين النَّجاسة ولا إلى سبب خارجي، بل إلى سبب في الماء ككونه أحمر اللون - بسبب وقوع كميِّة من الصُّبغ الأحمر فيه - ووقع فيه دم فحينئذ يتنجس الماء - على الأحوط - على احتمال كونه متغيِّراً بأحد أوصاف النَّجس واقعاً وكان اللون الأحمر مانعاً من ظهوره في الخارج، بل هو الأقوى حتَّى إذا كانت قطرة منه قد وردت على الماء بعد إضافته بالصُّبغ، أمَّا ورودها قبلها وكان كثيراً فهو باق على طهارته لعدم تأثير القطرة في الكثير عادة، الاَّ أنَّه لا يُطهِّر لإضافته.

(مسألة 186) لا يخرج المطلق عن إطلاقه بالتَّصعيد، لأنَّه يبدأ بخاراً وهو ما يسمَّى بعده بالماء المقطَّر، إلاَّ إذا صاحبه ما يخرجه عن إطلاقه - على الأحوط - كالأوراد الَّتي تضم إليه الرَّوائح الغريبة المنعشة، بحيث تخرجه عن طبيعة القراحيَّة، فإنَّ لم يكن كذلك فهو طبيعي في طهارته ومطهِّريَّته.

المِيَاه الَّتي لهَا مَادَّة

(مسألة 187) ينقسم الماء المطلق إلى ما له مادَّة، وإلى ما ليس له مادَّة.

والثَّاني ينقسم إلى كثير كالكر فما فوق، وقليل كماء الإبريق وستأتي أحكامهما.

والأوَّل ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:

الأوَّل: الجاري.

وهو السَّائل دائماً أو غالباً فوق الأرض كالأنهار أو تحتها كالقنوات، وكذا المنحدر من الجبال النَّاشئ جريانه من ذوبان الثُّلوج الكثيرة شيئاً فشيئاً.

ويسمَّى أيضاً - كل هذا وأمثاله كالمطر والبئر والكر - بالماء المعتصم، لاعتصامه عن النَّجاسة بمجرَّد وقوعها فيه أو ملاقاتها له.

فلا ينجس الجاري وما بحكمه بمجرد ملاقاة النَّجس - فضلاً عن المتنجِّس كثيراً كان أو قليلاً - بل إنَّما ينجس بالتَّغير كما مرَّ، ويلحق به النَّابع الواقف كبعض العيون المتَّصلة بما

ص: 115

تحت الأرض من مخزونها الإلهي بحيث لو أخذ من ذلك الواقف شيء لنبع مكانه ما يعيد الواقف إلى نسبته في حوضه وهو الَّذي يشبه حالة البئر، بل حتَّى الصِّناعي إذا أدَّى نفس المؤدَّى وله نفس المنبع، لكنَّ الأحوط في عصمة النَّابع الواقف كونه بكثرة لا بقلَّة على احتمال ضعف النَّبع في بعض الأحيان كما سيأتي.

(مسألة 188) الرَّاكد المتَّصل بالجاري حكمه حكم الجاري، فالغدير المتَّصل بالنَّهر - بواسطة ساقية - كالنَّهر في حكمه، وكذا أطراف النَّهر، وإن كان ماؤها واقفاً بسبب انحصارها في زواياه وحفائره الجانبيَّة مع بقاء الاتِّصال.

(مسألة 189) الرَّاكد المتَّصل بواسطة النَّاعور أو بالوسائل الحديثة ك- (الماطور) بذي المادَّة في حالة استمراره حكمه حكم الجاري المعتصم وإن كان اتِّصاله من الأسفل إلى الأعلى.

(مسألة 190) لا يعتبر في الجاري النَّابع عن المادَّة الدَّفع والفوران، بل يكفي أن يكون على نحو الرَّشح الطَّبيعي، وكذلك الحال في النَّابع الواقف.

(مسألة 191) يعتبر في اعتصام الجاري النَّابع أن يتَّصل بمادَّته، فلو انفصل منها اندرج في الماء القليل، فالعيون في غير الجاري الَّتي تنبع في وقت وتنقطع في وقت آخر تلحق بالجاري حين نبعها فقط لا حين عدمه إلاَّ أن يعتصم بالكثرة.

(مسألة 192) لا يعتبر في المادَّة دوام النَّبع والجريان بالفعل، بل يكفي كونها بحيث لو أُخذ منها مقدارٌ من الماء لنبعَ وجرى بذلك المقدار كما في البئر ولكن هذا يحتاج إحتياطاً لأن يكون موجوده الأساسي كثيراً لا قليلاً كي يتم اعتصامه.

(مسألة 193) المياه المعتصمة - كالجاري والبئر ونحوهما - مطهَّرة للمياه المتنجِّسة بالاتِّصال بها، من دون فرق بين أنحاء الاتِّصالات، ككون المعتصم محاذياً للمتنجِّس بمباشرة - كما في كيفيَّة الأواني المستطرقة - أو كونه أعلى منه فينزل عليه، أو كون الاتِّصال على نحو الامتزاج،أو بمجرَّد الاتِّصال ولو بأن يكون المعتصم في الأسفل والمتنجِّس في خزَّان فوقي ويسحب من الأرض إلى ما فوق بواسطة (الماطور) مستمرَّاً ومأثِّراً.

أمَّا في صورة ما إذا كان المعتصم في الأسفل كذلك والمتنجِّس في الأعلى أيضاً

ص: 116

وينسكب ماؤه على المعتصم، ويودع هذا الاتِّصال بالمعتصم طهارة في ذلك المتنجِّس الباقي الَّذي لم ينزل بعد فهو غير معقول حتماً.

(مسألة 194) الأنابيب (الحنفيَّات) المتعارف وضعها في الدور حكمها حكم الجاري إن كان ماءها مستمَّداً من الجاري المستحدث (الإسالة) أو الخزانات الكبيرة الَّتي مقدار ماءها كر أو أكثر من الكر - الأتي بيانه - والَّتي يتعارف وضعها في أعالي الدور والمواقع المرتفعة للاستفادة منها حين انقطاع ماء الإسالة مثلاً.

وبهذا يظهر حكم (الدُّوش) المتداول استخدامه في العصر الحاضر في الحمَّامات المستمد ماءه من الجاري - وما بحكمه - فإنَّ الماء النَّازل منه - بقطرات قوية متلاحقة - على البدن المتنجِّس ماء معتصم، وإلاَّ - كما إذا انقطع اتِّصاله أو كانت القطرات غير متلاحقة - فهو في حكم الماء القليل وكالمطر القليل في قطراته.

(مسألة 195) الأحواض الصِّغار المتعارف وضعها في الحمَّامات إذا كانت مستمدِّة في مياهها من الحنفيَّات المتَّصلة بالجاري أو بالخزَّانات ذات الكريَّة كان ماءها معتصماً ولا ينفعل بملاقاة النَّجاسة وما دامت الخزَّانات في الأخير باقية على كميَّاتها لاحتوائها على الماء الأكثر من الكر.

(مسألة 196) الإناء المملوء من الماء المتنجِّس إذا وضع تحت الحنفيَّة المفتوحة أو أغمس في الحوض يطهر ولا يحتاج إلى سكب مائه وغسله ما لم يتغير بأوصاف النَّجاسة.

(مسألة 197) إذا تغيَّر بعض الجاري دون بعضه الآخر فإن كان هذا التَّغيُّر في تمام قطر (عرض وعمق) ذلك البعض حكم للطَّرف المتَّصل بالمادَّة ممَّا عدا المتغير بعدم تنجُّسه بالملاقاة وإن كان قليلاً لكونه ذا مادة، والطرف الآخر حكمه حكم الرَّاكد سواء من حيث كثرته أو قلَّته كما سيأتي.

وأمَّا إذا كان التَّغيُّر في بعض من عرض وعمق ذلك فيحكم بنجاسة ذلك المقدار المتغيِّر فقط وقوَّة اعتصام الباقي بأجمعه.

(مسألة 198) إذا شكَّ في الجاري - وما بحكمه - في أنَّه متِّصل بمادَّة أم لا لقلَّته - مثلاً -

ص: 117

فحينئذ يستصحب الحالة السَّابقة له، فإن كان مسبوقاً بالاتِّصال بالمادَّة حكم بعدم التَّنجُّس بالملاقاة، وإن كان مسبوقاً بالانقطاع حكم بتنجُّسه وعدم الاتِّصال.

وإن كان له حالتان متضادَّتان من الاتِّصال بالمادَّة في زمان والانقطاع عنها في زمان آخر مع اشتباه المتقدِّم منهما بالمتأخِّر حكم بطهارته ولو ظاهراً.

أمَّا إذا لم يحرز حالته السَّابقة من اتِّصال أو انقطاع حكم بانفعاله بالملاقاة وعدم الاتِّصال على الأحوط وجوباً للزوم الإحراز.

الثَّاني: المطر حين نزوله من السَّماء.

كثيراً كان أم قليلاً، بشرط أن يصدق عليه المطر عرفاً، لا مثل القطرات الطَّفيفة، فلا ينجس إلاَّ إذا تغيَّر بأحد أوصاف النَّجاسة - كما مرَّ -، سواء جرى في الميزاب من على السَّطح أو على وجه الأرض أم لا.

(مسألة 199) يطهِّر المطر كل المتنجِّسات القابلة للتَّطهير بالماء من الماء والأرض والفراش والأواني، أمَّا إذا توقَّف تطهيره على غير الماء كالاستحالة والإسلام والتُّراب وغيرها فلا ينفعه حينئذ المطر، فإذا كانت الآنية متنجِّسة بولوغ الكلب فلا تطهر بدون التَّعفير أوَّلاً بالتُّراب ثمَّ بالماء تحت ذلك المطر المستمر وإن لم يتعدَّد كما مضى وكما سيتَّضح.

(مسألة 200) الأواني المتنجِّسة كبيرة كانت أم صغيرة كالقدور والحباب تطهر باستيلاء ماء المطر عليها وعلى ظهورها وجوانبها كل بحسبه، وكذا لو كانت الأواني محتوية على ماء متنجِّس فتطهر نفس الأواني وظهورها وجوانبها بمجرد تساقط ماء المطر عليها، ولا يتوقَّف على استيعاب المطر لتمام سطح الإناء، وإن كان هو الأحوط.

(مسألة 201) تطهر الأراضي المتنجِّسة ونحوها بتساقط المطر عليها، سواء كان تساقطه مستقيماً - كالحوض المتنجِّس الواقع تحت السَّماء - أو منحنياً بشرط أن يكون وصوله إلى المتنجِّس باتِّصال ولو كان بإعانة الرِّيح ، بخلاف ما إذا أطارت الرَّيح القطرات المتساقطة وفصلتها عن المطر وأدخلته مكاناً مسقَّفاً وأصابت الموقع المتنجِّس فلا يطهر حينئذ.

(مسألة 202) إذا استوعب ماء المطر جميع أجزاء الفراش بحيث نفذ مع النَّجاسة إلى

ص: 118

الخارج فلا يحتاج إلى العصر والتَّعدُّد. بل حتَّى الأواني لا تحتاج أيضاً إلى التَّعدُّد.

(مسألة 203) الفراش المتنجِّس إذا وصل المطر إلى بعضه يطهر ذلك البعض دون الباقي وإذا أصاب ظاهره ولم يصب باطنه أو ينفذ فيه فيطهر ظاهره فقط ما لم يتأثَّر ذلك الظَّاهر برطوبة الباطن المتنجِّسة السَّارية بالنَّداوة مثلاً بانعكاس.

(مسألة 204) لو نزل المطر على جسم كأوراق الأشجار وتقاطر منها على ما تحتها من الأرض المتنجِّسة أو الماء المتنجِّس كان مطهِّراً لما أصابه حين نزول المطر لا ما نزل بعدانقطاعه كما أشرنا.

(مسألة 205) لو نزل المطر على سقف ثمَّ تقاطر منه على أرض متنجِّسة أو ماء متنجِّس، فإن كان التَّقاطر حال نزول المطر عليه حكم بتطهيره لذلك، وإلاَّ فلا يكون التَّقاطر من ذلك السَّقف مطهِّراً.

(مسألة 206) ماء المطر إذا تقاطر على عين النَّجس ثمَّ ترشَّح منه ووقع على شيء طاهر فإذا لم يكن حاملاً لعين النَّجس ولم يكن متغيِّراً لونه أو طعمه أو رائحته فهو طاهر باستمرار نزوله وإلاَّ فهو نجس وينجس معه ما وقع عليه.

(مسألة 207) ماء المطر إذا تقاطر على التُّراب المتنجِّس وجعله طيناً أو وحلاً يصبح طاهراً، ولكن الأحوط أن يكون ذلك الماء غير قليل.

الثَّالث: البئر.

البئر هو المحل المنخفض من الأرض بحيث له مادَّة مائيَّة مترشِّحة أو نابعة منها باستمرار بمعنى أنَّه كلَّما أخذ منه مقدار خرج مكانه مقدار مثله عادة كما مضى ذكره فهو كالجاري في اعتصامه عن التَّنجُّس إلاَّ بالتَّغيُّر سواء كان قليلاً أم كثيراً مع الاحتياط بترجيح الكثرة حتَّى في حال عدم التَّغيُّر.

وأمَّا في حالة وقوع النَّجاسة وعدم تغيُّره أو تغيَّر بها ثمَّ زال عنه التَّغيُّر من قِبل نفسه حكم بطهارته ولكن مع كثرته على الأحوط من دون حاجة إلى إلقاء كر عليه لاتَّصاله بمادَّته المذكورة سابقاً، إلاَّ أنَّه يستحب النَّزح بما قدِّر لها في بعض الرِّوايات وهي المذكورة في كتبنا الموسَّعة.

ص: 119

بل قد يجب في حالات أخرى، ومنها ما لو تغيَّر ماؤها جميعاً أو غالباً وما بقي إلاَّ القليل ولم يذهب التَّغيُّر الَّذي كان بالأوصاف الثَّلاثة كنزح الكل فيما لا نصَّ فيه ولا شهرة معتبرة عليه أو المقدر الوارد في النُّصوص أو الشهرة المعتبرة.

وهذا ما يتعلَّق بالآبار التَّقليديَّة ولكنَّها نادرة في هذا الزَّمان فتقلُّ الفائدة في التَّوسع فيها ونوكلها إلى الموسَّعات.

وأمَّا الارتوازيَّة المتعارفة اليوم فلم يصبها ما يصيب النَّادرة القديمة عادة فلابدَّ من إغلاق الكلام عنها من جهة أولى.

(مسألة 208) إذا لم يكن للبئر مادَّة واجتمعت فيها مياه الأمطار ونحوها فهو راكد ينفعل بملاقاة النَّجاسة، إلاَّ أن يكون بقدر الكر.

المِيَاهُ الَّتي لَيْسَتَ لَهَا مَادَّة

وهي قسمان: -

الأوَّل: الكر.

وهو مقدَّر محدود بمقدار خاص من قِبل الشَّارع المقدَّس ليستفاد منه في مجالاته.

(مسألة 209)

الرَّاكد إذا بلغ كرَّاً أو أكثر لا ينجس بالملاقاة فقط، بل ينجس بتغيُّره بأوصاف النَّجاسة كالجاري، وإذا تغيَّر بعضه فإن كان الباقي بمقدار الكر فإنَّه يبقى غير المتغيِّر على طهارته، ويطهر المتغيِّر إذا زال تغيُّره لأجل اتِّصاله بذلك الباقي المقدَّر بالكر كما مرَّ فيالجاري، وإذا كان الباقي دون الكر يتنجَّس الجميع، وهما المقدار المتغيِّر والباقي المتأثِّر بالملاقاة.

(مسألة 210) الكر بحسب الوزن الشَّرعي ألف ومائتا رطل بالعراقي القديم، والرَّطل يساوي مائة وثلاثين درهماً شرعيَّاً، والدِّرهم يساوي سُبعَ المثقال الشَّرعي، فكل عشرة دراهم تساوي سبعة مثاقيل شرعيَّة، والمثقال الشَّرعي يساوي ثلاثة أرباع الصَّيرفي، فالرَّطل يساوي بالمثقال الشَّرعي واحداً وستِّين مثقالاً، وبالصَّيرفي ثمانية وستِّين مثقالاً ورُبع

ص: 120

المثقال، وعليه يكون مجموع الكر بالمثقال الشَّرعي مائة وتسعة آلاف ومائتي مثقالاً، وبالصَّيرفي واحداً وثمانين ألفاً وتسعمائة مثقالاً.

والدِّرهم القديم بحسب الوزن الوافي - في زماننا - بالغرام يساوي 2,98 غراماً حسب ما هو موجود في بعض المتاحف الأجنبيَّة والدَّاخليَّة، فيكون مجموع الكر ما يساوي 880, 464 كغم على الأحوط، وهو الحاصل من ضرب ألف ومائتي رطل في مقدار الرطل من الدَّراهم وهو المائة والثلاثون درهماً من مقدار الدِّرهم من الغرام.

(مسألة 211) مقدار الكر بحسب الأشبار المعتدلة ما مكعَّبه (الطول في العرض في العمق) ثلاثة أشبار ونصف على الأحوط، فيكون المجموع ثلاثة وأربعون شبراً إلاَّ ثمن الشِّبر.

(مسألة 212) إذا قلَّ مقدار الكر عن هذا التَّقدير ولو برُبع المثقال فهو قليل ينجس بملاقاة النَّجس والمتنجِّس إحتياطاً.

(مسألة 213) تثبت كريَّة الماء إضافة إلى ما مضى بطرق ثلاثة: -

1- أن يتيقَّن الإنسان بالكريَّة.

2- شهادة العَدلَين.

3- حصول الاطمئنان من قول ذي اليد كصاحب الحمَّام السوقي أو صاحب الدَّار.

(مسألة 214) إذا جمد الماء الكثير كالكر خرج عن اعتصامه فيتنجَّس بالملاقاة في كل جهة من جهاته، فلو جمد بعض الحوض وإصابته نجاسة وكان المقدار الباقي أقل من الكر تنجَّس بالملاقاة، ما دام ذلك الإنجماد موجوداً، بل إذا ذاب تدريجاً ينجس أيضاً على الوتيرة المذكورة حتَّى لو كان الجميع كرَّاً على الأحوط فضلاً عن الأقل.

(مسألة 215) إذا كان الماء بقدر كر ثمَّ شككنا في نقصانه أثناء الاستعمال، فإن كانت هناك أمارات دالَّة على نقصانه ولو ضعيفة جدَّاً بسبب كثرة الاستعمال فالأحوط البناء على ذلك النُّقصان ولو احتمالاً للكثرة الاعتياديَّة، فينفعل بالملاقاة وحدها فضلاً عن التغيُّر.

وإن لم تكن تلك الاحتمالات موجودة وبما لا دليل على ذلك النُّقصان أبداً بعد

ص: 121

إحراز تلك الكريَّة سابقاً فهو طاهر ومطهِّر.

أمَّا إذا فرض كون الخزَّان يكفي للأكثر من الكر وكان ماؤه فعلاً كذلك ثمَّ حصل ذلك الشَّك بين النُّقصان وبين مساواة الكر على الأقلِّ بعد ذلك الاستعمال فلا مانع فيه من البناء على بقاء الكريَّة وهو كذلك وعلى القاعدة، وأمَّا مع فرض كون الماء سابقاً أقل من الكر ثمَّ شككنا في بلوغه كرَّاً وكان الخزَّان قد يساعد على ذلك البلوغ، لاحتمال صعود ماء الإسالة إليه كالمألوف فهو كالماء القليل لوجوب إحرازه كرَّاً على الأقل لا للاحتمال.

(مسألة 216) لو طرأ على الماء - المسبوق بالكريَّة - حالتان إحداهما القلَّة وثانيتهما الملاقاة للنجاسة وشكَّ في المتقدِّم والمتأخِّر منهما حكم ببقاء أثر الكريَّة وهو طهارة الماء وعدم انفعاله بالملاقاة لاحتمال كونها أثناء الكريَّة، سواء علم تأريخ الملاقاة دون القلَّة، أو علم تأريخالقلَّة دون الملاقاة، أم لم يعلم تأريخهما معاً إلاَّ إذا كانت الملاقاة قد سبَّبت تغيُّراً أو بقي إلى حين طرؤ الاثنين.

أمَّا لو طرأ على الماء - المسبوق بالقلَّة - حالتان إحداهما الكريَّة وثانيتهما الملاقاة واشتبه السَّابق منهما عن اللاحق فيحكم - على الأحوط - ببقاء القلَّة وانفعاله بالملاقاة في الصور المتقدِّمة كلِّها.

(مسألة 217) لو شوهدت نجاسة في كر كامل مسبوق بالقلَّة وشكَّ في وقوعها فيه قبل الكريَّة أم بعدها ؟ حكم ببقاء الكريَّة وطهارة الماء.

(مسألة 218) إذا حدثت الكريَّة والملاقاة في آن واحد فالأحوط فيه الاجتناب لوجوب إحراز حالة الاعتصام في تلك الحال.

(مسألة 219) الماء القليل المتنجِّس لا ينفع في تطهيره إتمامه كراً، بل يبقى على نجاسته سواء أتمَّه بالطَّاهر أو بالمتنجِّس، بل الَّذي يطهره إلقاء كر كامل طاهر عليه.

الثَّاني: الماء القليل.

الرَّاكد بلا مادَّة إذا كان أقل من الكر يتنجَّس بملاقاة النَّجس والمتنجِّس، سواء كان وارداً على النَّجاسة كنزوله في الحفيرة المتنجِّسة أو كانت النَّجاسة واردة فيها.

ص: 122

ويطهر بالاتِّصال بالماء المعتصم كالجاري والكر الماضي في تقديره، وماء المطر حال نزوله ولو لم يحصل الامتزاج سريعاً على الأقوى إذا فرض عدم وجود تغيُّر بيِّن يختلف عن أوصاف الماء.

وأمَّا في حالة فرض وجود تغيُّر بأوصاف غريبة عن أوصافه، فلابدَّ من التَّفاعل بمدَّة حتَّى يحصل الامتزاج ويظهر التَّأثير بغلبة الماء الكثير عليه حتَّى يطهر ولو بإلقاء ماء أكثر ممَّا ألقي سابقاً.

(مسألة 220) سطوح الماء القليل إذا اختلفت في حجمها ينجس العالي منها بملاقاة السَّافل كالعكس بحيث كان مجموع ما في جميعها أقل من الكر مع امتلائها، كما إذا كان هناك ماء متجمِّع في حفر متعدِّدة متلاصقة فيما بينها ومختلفة في أحجامها.

القِسْمُ الثَّاني المَاءُ المُضَاف

(مسألة 221) الماء المضاف طاهر في نفسه إذا لم يتنجَّس بنجس أو متنجِّس، ولكنَّه غير مطهِّر لغيره لا من الحدث ولا من الخبث، وإن أجاز بعض القدامى وغيرهم ذلك في ماء الورد، كما أنَّه لو لاقى نجساً أو متنجِّساً ينجس جميعه حتَّى لو كان قدر كر وكان النَّجس أو المتنجِّس قدر أنملة.

نعم إذا كان جارياً من العالي إلى الدَّاني ولاقى أسفله النَّجاسة أو ما بحكمها فإنَّ النَّجاسة تختص بموضع الملاقاة فقط ولا تسري إلى ما فوق ومنه العمود، كما يفعله باعة العصير (الشَّربت) من صبِّ تلك السَّوائل من فوَّهات مخازنها الطَّاهرة في بعض الكؤوس المتنجِّسة مثلاً وقد مرَّ ما يشبه هذا.

(مسألة 222) الماء المضاف إذا صُعِّد وصدق عليه عنوان المضاف بعد ذلك كذلك وجداناً جرى عليه حكمه كما ذكرنا ذلك في المصعَّد المسكر حسب الدَّرجة الحراريَّة.

(مسألة 223) إذا شكَّ في مائع أنَّه مطلق أو مضاف فإن كان قليلاً فلا أثر فيه للإطلاق والإضافة، لأنَّه ينفعل بملاقاة النَّجس أو المتنجِّس، وإن كان كثيراً بمقدار الكر فإن لم يكن لهحالة سابقة أصلاً أو كانت له حالة لكن لا يعلم السَّابق من اللاحق فيما بين

ص: 123

الإطلاق والإضافة فالأحوط حينئذ الحكم بانفعاله بملاقاة النَّجس أو المتنجِّس كذلك لوجوب إحراز ما يساعد على حكم عدم الانفعال.

أمَّا لو كان فيه حالتان سابقتان متضادَّتان بأن يكون في وقت مطلقاً وفي آخر مضافاً من دون تعيُّن الأسبق منهما فيبنى على طهارة الماء في نفسه فقط من دون أن يكون مطهِّراً للحدث أو الخبث لوجوب إحراز الإطلاق في هذه الحالة.

(مسألة 224) إذا انحصر الماء في المضاف لاختلاطه بالطِّين من دون إمكان صفاءه، فعند ضيق وقت الصَّلاة يتيمَّم لها، لصدق أنَّه فاقد للماء، ومع سعة الوقت فالأحوط الانتظار إلى أن يصفو الماء ليتوضأ به حتَّى لو كان كماء النَّهر وإن لم يصف تماماً مثل ماء الإسالة.

تَتِمَّةٌ في أَسْئَارِ الحَيوَانَات

(مسألة 225) أسئار الحيوانات (فضلات الطَّعام أو الشَّراب) كلُّها طاهرة، عدا نجس العين (الكلب والخنزير والكافر بأنواعه وما يلحق به) والجلاَّل على الأحوط، نعم يكره سؤر الحيوان غير مأكول اللحم، بل وكذا يكره سؤر مكروه اللحم وإن كان مأكولاً في أساسه لاستغلاله على الأكثر في الرُّكوب وحمل السِّلع، بل وكذا يكره سؤر مكروه اللحم كالخيل والبغال والحمير وإن أُلف أكلها في بعض الأوساط، وكذا سؤر الحائض غير المأمونة، بل مطلق غير المأمون عدا ما استثني في الرِّوايات وهو الهرَّة والمؤمن ففي بعضها أنَّ ((سؤر المؤمن شفاء من سبعين داء)).

الفَصْلُ الثَّاني المَاءُ المُسْتَعْمَل

(مسألة 226) الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر - كما في الوضوء الواجب لغيره بالأصالة كالواجب للفريضة وإن رجح في نفسه استحباباً - طاهر ومطهِّر، فيصح الغسل والوضوء به ثانياً، وكذا إذا لم يكن رافعاً بل كان مبيحاً - كما اخترناه - كالمستعمل في الغسل أو الوضوء المندوب أو كان واجباً لعارض كالنَّذر

ص: 124

وشبهه من العهد واليمين، فيجوز استعماله لرفع الحدث (الأكبر والأصغر) وفي الخبث كذلك حتَّى في مرَّات ما لم يتأثَّر بالنَّجاسة.

(مسألة 227) الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر - وكان البدن طاهراً - يرتفع به الخبث، وأمَّا رفع الحدث به فالأحوط اجتنابه إذا تمكَّن من ماء آخر، وإلاَّ - كمن احتاج إلى إكمال رفع الحدث بنفس القطرات الَّتي تسقط من غسله أو وضوءه - فعليه الجمع بين الغسل أو الوضوء به والتيمُّم.

(مسألة 228) الأحوط وجوباً - إن لم يكن أقوى - الاجتناب عن الماء المستعمل في رفع الخبث المسمَّى بالغسالة وماء الاستنجاء والَّذي تتبعه طهارة المحل، إذا لم يحرز فيه عدم التَّلوث والطَّهارة المشروطين في صحَّة التَّطهير كما مرَّ الكلام عليه.

الفَصْلُ الثَّالِث المَاءُ المُشْتَبَه

(مسألة 229) الماء المعلوم نجاسته سابقاً مع الشَّك في الطَّهارة نجس، وأمَّا الماء المعلوم طهارته سابقاً، والمشكَّوك في طهارته ونجاسته بنحو التَّردُّد الكامل فعلاً فهو طاهر - كما مرَّ -.

(مسألة 230) لو علم - ولو إجمالاً - بنجاسة أحد الإناءين وطهارة الآخر فلا يجوز له استعمالهما في رفع الخبث أو الحدث بكلا قسميه، ويحكم لملاقيه بحسب حالته السَّابقة فإن كانت النَّجاسة تنجَّس وإلاَّ فهو طاهر.

(مسألة 231) إذا اشتبه المطلق بالمضاف كماء قراح بماء ورد وكان المكلَّف فاقداً للشامة أو مزكوماً ولم يحصل مميَّز غيره جاز رفع الخبث بالغسل بأحدهما، ثمَّ الغسل بالآخر، وكذلك رفع الحدث - بأن يتوضأ أو يغتسل مرَّتين بكل منهما - لإحراز المطلق في أحدهما لا على التَّعيين .

(مسألة 232) إذا اشتبه الماء المباح بالمغصوب فلا يجوز التَّصرف بكل منهما في رفع الحدثين، وكذا في رفع الخبث، ولكن إن تصرَّف في أحدهما في رفع نجاسة خبثيَّة - فقد حصل وإن كان آثماً - وتحققت الطَّهارة إلاَّ الطَّهارة من الأحداث فلا تتم.

ص: 125

(مسألة 233) إذا اشتبه نجس أو مغصوب في عدد محصور - كإناء في عشرة - وجب الاجتناب عن الجميع، أمَّا إذا اشتبه في غير المحصور - كالواحد في ضمن مليون - فلا يجب الاجتناب عن شيء منه للزوم العسر والحرج.

والفرق بين المحصور وغيره: هو أنَّ غير المحصور ما بلغت كثرة أطرافه حدَّاً يوجب الاطمئنان بالخروج عن عهدة التَّكليف ومحل الابتلاء لو التزم به لضياعه بين تلك الأفراد كما فيما نحن فيه وإن كان في الواقع غير المعيَّن بعض الموانع الشَّرعية للزوم الحرج والضَّرر بمتابعتها ولو في بعض الأحوال.

والمحصور بخلافه وإن كان مجملاً في الظاهر لعدم ذلك محرزاً في الواقع كصورة عدم الحصر ولإمكان التَّخلُّص منه بلا عسر وحرج ولو من جهة شرعيَّة تعبديَّة.

(مسألة 234) إذا شكَّ في ماء أنَّه مطلق أو مضاف لحالة من الحالات ولم يعلم السَّابق منهما فالأحوط الجمع بين الوضوء به والتَّيمُّم.

(مسألة 235) إذا علم - ولو إجمالاً - أنَّ هذا الماء إمَّا نجس أو مضاف جاز شربه، ولكن لا يجوز التَّوضؤ به، وكذا إذا علم أنَّه إمَّا مضاف أو مغصوب ما لم تكن الإضافة سامَّة ولو في جملة احتمال السُّميَّة عقلائيَّاً، أمَّا إذا علم أنَّه إمَّا نجس أو مغصوب، فلا يجوز شربه أيضاً فضلاً عن التَّوضؤ به.

(مسألة 236) لو أريق أحد الإناءين المشتبهين من حيث النَّجاسة أو الغصبيَّة فلا يجوز التَّوضؤ بالآخر لإحراز عدم صحَّة التَّوضؤ به من الأوَّل، أمَّا لو أريق أحد المشتبهين من حيث الإضافة والإطلاق فلا يكفي الوضوء بالآخر، بل الأحوط الجمع بينه وبين التَّيمُّم.

ص: 126

المَبْحَثُ الثَّاني في الطَّهَارَة التُّرَابِيَّة

وهي الواجب الثَّانوي بعد الماء في مقام الوضوء والغُسل، حتَّى في الموتى إذا افتقدت المياه أو بعضها على ما سيجيء بالنِّسبة إلى أحكامهم، وتسمَّى هذه الطَّهارة في هذه المقامات بالتَّيمُّم، ويلحق به التَّيمُّم المستحب في مقامات مستحبَّة آتية.

ويلحق بالطَّهارة التُّرابيَّة التَّعفير على ما مضى، وكذا يلحق بالتُّراب الإستجمار بالأحجار في حال التخلي بدل الاستنجاء بالماء بعد فقده لكون الأحجار أصلها من التُّراب كما مرَّ وكما سيأتي.

وسيأتي الكلام عن تفاصيل هذه الطَّهارة في خصوص التَّيمُّم بعد الكلام عن الوضوء والغُسل لأنَّه بعدهما في المرتبة ذكراً تكليفيَّاً عمليَّاً - كما مرَّ -.

ص: 127

المَقْصَدُ الرَّابِع في التَّخَلِّي وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ

بما أنَّ استمرار الطَّهارة من الحدث بكلا نوعيه - لما يتوقَّف عليها أمر العبادات وغيرها - قد يحتاج إلى إحراز عدم مضايقة المكلَّف في نفسه أوقات ما ينبغي كونه على طهارة من خبثي وحدثي البول والغائط، فذلك لا يتم إلاَّ بأمور ولو في رجحان لا وجوب فيه شرعاً، كمن يقدر أن يتحمَّل بعض حالات الضِّيق في نفسه فيترك فعل ما يكون ناقضاً، وهذه الأمور الَّتي يرجح فعلها على الأقل هي: -

1 - محاولة التَّخلِّي في بعض الحالات لو كان هناك شيء عنده يحوج إليه ولو يسيراً.

2 - الاضطرار إلى دفع الخبثين البول والغائط في خروجهما ونحوهما في بعض الحالات.

3 - استكشافه لو كان للاطمئنان بحالته، فلو لم يكن فلابدَّ أن تبقى الطَّهارة معه مدَّة أطول.

4 - الإستبراء من الجنابة بالبول لما فيه من الفائدة على ما سيجيء.

5 - الإستبراء من البول بالخرطات التِّسعة في حال التَّخلِّي والجنابة ممَّا قد يخرج من البقايا البوليَّة وغيرها بعادة غير مستغربة ولو في الجملة.

6 - الاستنجاء.

7 - الإستجمار بالأحجار أو الخرق الثَّلاث لو فقد الماء.

فلهذا كلِّه ناسب ذكر شيء من هذه الأحكام - قبل البدء بالكلام عن الطَّهارتين المائيَّة والتُّرابيَّة (وضوءاً وغسلاً وتيمُّماً) - في مباحث: -

ص: 128

المَبْحَثُ الأوَّل في أَحْكَامِ التَّخلِّي

لا يخفى أنَّ في هذا الموضوع قد يتجاوز الكلام حوله عن خصوص الطَّهارة بمعناها الخاص إلى ما هو العام كذلك وهو الَّذي بمعنى النَّزاهة، كوجوب السَّتر والسَّاتر وعدم جواز النَّظر إلى عورة الغير وحرمة استقبال القبلة واستدبارها، وهو ما يتناسب وطرحه في هذا الكتاب أكثر من كون البحث لخصوص الصَّلاة وما يشترط فيه الطَّهارة بالمعنى الخاص من غيرها.

(مسألة 237) يجب في حال التَّخلِّي - بل جميع الأحوال - ستر العورة عن المكلَّفين - رجلاً كان أو امرأة - حتَّى مثل الأم والأخت أو أي محرم، بل وكذا المجنون والطفل بتعليمهما وتعويدهما الأدب والحشمة إحتياطاً أن توقَّف أمر عدم تساهلهما عليه إلى حين العقل والبلوغ كما يحرم النَّظر إلى عورة الغير ولو كان مجنوناً أو طفلاً مميزاً على الأحوط، أمَّا الزَّوج والزَّوجة فيجوز لكل منهما النَّظر إلى عورة الآخر.

والمراد من العورة في المرأة هنا القبل والدُّبر فقط، لكن لا بمعنى جواز أن تبدي نفسها من غير العورتين أو أن ينظر إليها الأجنبي من غير المحارم، وأمَّا في غير حالة التَّخلِّي فكلها عورة عن كلِّ ناظر أجنبي، ولنا موضوع ذو مسائل تخص حجاب المرأة سيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى في السَّتر والسَّاتر من كتاب الصَّلاة وفي إحرام الحج وفي كتاب النِّكاح فليراجع.

وفي الرَّجل القبل والدُّبر مع البيضتين، والأحوط له مع ذلك ستر ما بين السُّرَّة والركبة، وستر العورة واجب في جميع الأحوال ولا يختص بحالة التَّخلِّي.

والمراد بستر العورة مطلق ما يمنع وقوع النَّظر إلى البشرة فيه ولو كان بيده أو بيد زوجته أو مملوكته.

(مسألة 238) لا يجوز النَّظر إلى عورة الغير من وراء الزُّجاج أو في المرآة أو الماء الصَّافي ونحوها ممَّا قد يكشفها ذلك.

(مسألة 239) يحرم النَّظر إلى عورة الغير اختياراً لكنَّه لا يمنع اضطراراً كما في مورد

ص: 129

العلاج الطِّبي لإجراء العمليَّات المتوقِّفة على النَّظر ونحوه إذا لم تكن هناك مرآة يكتفى بها بالنَّظر إليها عن النَّظر إلى العورة كمرتبة أقل المحذورين، فإن كانت المرآة كافية مثلاً فضلاً عن (السُّونار) فالحرمة المباشرة باقية لا محالة وإن كانت المرآة في نفسها محرَّمة للنَّظر أيضاً ولكن الفرق واضح بين المباشرة والواسطة فلابدَّ من مراعاته في مجالاته.

(مسألة 240) لا يجوز في حال التَّخلِّي استقبال القبلة واستدبارها وإن أحال العورة عنها، بل الأحوط وجوباً ترك الاستقبال بالعورة وإن لم تكن مقاديم البدن إلى القبلة.

وهذا التَّحريم لا فرق فيه بين الفضاء المكشوف أو المرافق المبنيَّة المتعارفة، ولو اضطرَّ إلى الاستقبال أو الاستدبار لضيق المكان تخيَّر، وكذا لو جهل وجهة القبلة ولم يتمكَّن من الفحص والسُّؤال أو استلزم الحرج أو الضَّرر والضَّرورة تقدر بقدرها.

(مسألة 241) يحرم التَّخلِّي في أربعة أمَّاكن وهي: -

1- في الطَّريق النَّافذ مع الإضرار بالمارَّة، وفي غير النَّافذ الَّذي يكون ملكاً لملاَّك البيوت حتَّى مع عدم الضَّرر إذا لم يُرض المالكين.

2- في ملك الغير إلاَّ مع رضاه بدلالة قرائن الإباحة المقبولة، وأهمُّها وأحوطها الاستئذان، وإن أستكشف فحوى أنَّ صاحب الدَّار قد يرضى من الضَّيف أن يفعل ذلك إذا كان قد بذل له الأكثر وهو الطَّعام والرَّاحة.3- في الأوقاف الخاصَّة لطوائف معيَّنة كبعض مدارس طلاَّب العلوم الحوزويَّة، إلاَّ إذا كان في تلك المدارس أو بعضها من النُّصوص الشَّرعيَّة كالمدوَّنات في الوقفيَّات الخاصَّة ما يسمح للضِّيافة ثلاثة أيَّام مثلاً أو نحو ذلك فعند ذلك لا مانع.

4- على قبور المؤمنين إذا كان موجباً للهتك، بل حتَّى غير الهتك إذا كانت بقاعها مملوكة لأهاليهم، بل حتَّى لو لم تكن مملوكة، لأنَّها حصَّة أرضيَّة اختصَّت لدفين مسلم مؤمن لا تجوز إهانة كرامته حيَّاً وميِّتاً ونحو ذلك.

ص: 130

المَبْحَثُ الثَّاني الاسْتِنْجَاء

(مسألة 242) يجب غسل مخرج البول مرَّتين إن كان بالماء غير المعتصم كماء الإبريق، وإلاَّ يكفي المرَّة، ولا يجزي في البول غير الماء، ويتخيَّر في محلِّ الغائط بين الغسل بالماء أو المسح بشيء قالع للنَّجاسة كما سيتَّضح كالحجر والمدر والخرق والمناديل الورقيَّة المتعارفة وذلك بشروط: -

أ - إن لم يتعدَّ الغائط عن المخرج.

ب - إن لم تخرج معه نجاسة أخرى كالدَّم.

ج - إن لم تحصل نجاسة خارجيَّة في الموقع نفسه.

فإن فقد أحد هذه الشُّروط تعيَّن الغَسل بالماء.

ولا يعتبر في غسل محلِّ الغائط التَّعدُّد بخصوص المرَّتين في القليل، بل المناط هو النَّقاء وزوال العين النَّجسة، فلو احتاج إلى الأكثر لوجب في الماء القليل، بل حتَّى الكثير عند الحاجة إلى الإكثار وإن حصل ذلك بالمرَّة في الكثير كان مجزياً.

(مسألة 243) يجب في الغسل بالماء إزالة عين النَّجاسة وأثرها، حتَّى اللَّون والرَّائحة إن ارتبطا بشيء من عينها ولو طفيفاً، أمَّا المسح كما سيأتي فتجزي فيه إزالة العين، ولا تجب إزالة الأثر لكونه لا قيمة له ظاهراً وشرعاً بعد إزالة العين بتلك الأحجار مثلاً، ولكن لابدَّ من التَّكميل بثلاثة أحجار ونحوها وإن حصل الَّنقاء بالأقل على ما سيتَّضح أكثر آتياً في أمور الإستجمار.

(مسألة 244) لو شكَّ في أنَّه استنجى أم لا ؟ بنى على العدم.

المَبْحَثُ الثَّالِث أَحْكَامُ الاِسْتِجْمَار

(مسألة 245) لا يجوز الإستجمار بالأشياء المحترمة كالخبز والعظام، ولكن لو فعل آثمَّاً طهر المحل ولابدَّ له من الاستغفار، مع رجحان الاحتياط بإعادة التَّطهير بالمشروع.

ص: 131

(مسألة 246) يجب عند المسح بالأحجار أن يكون بثلاثة، وكذا غيرها من الخرق والمدر والمناديل الورقيَّة كما مرَّ، حتَّى لو حصل النَّقاء بالأقل فلا يكفي الحجر الواحد وإن كان الإستجمار به ممكناً من جوانب ثلاثة، وإذا لم يحصل النَّقاء بالثَّلاثة فلابدَّ من الزِّيادة حتَّى يحصل النَّقاء.

(مسألة 247) يجب فيما يمسح به عند الإستجمار: -

1 - الطَّهارة، فلا يجزي النَّجس أو المتنجِّس، حتَّى لو كان الحجر مثلاً بكراً في الاستعمال، بل لابدَّ من كونه بكراً طاهراً أو متنجِّساً وقد طُهِّر، وكذا بقيَّة القوالع.

2 - أن يكون الماسح جافَّاً، فلا يجزي الطَّين والخرقة المبلولة المسرية، إلاَّ إذا أزيلت الرُّطوبات المسرية منها، نعم لا تضر الرُّطوبة الَّتي لا تسري كما لا يخفى.

3 - أن يكون الجسم قالعاً للنَّجاسة، فلا تجزي الصَّقيلة كالُّزجاجيَّات والحصى الصَّيقل.

(مسألة 248) إذا شكَّ في خروج نجاسة أخرى مع الغائط بنى على العدم، فيتخيَّر بينالغسل والمسح بالأحجار.

المَبْحَثُ الرَّابع الاِسْتِبْرَاء

وهو محاولة استكشاف النَّقاوة من بقايا البول من مجراه الطَّبيعي وفيه مسائل: -

(مسألة 249) يستحب الإستبراء، وله طرق والمشهور فيها أن يمسح ما بين المقعد إلى أصل القضيب ثلاثاً، ثمَّ منه إلى رأس الذَّكر ثلاثاً ثمَّ ينتره ثلاثاً.

وفيه فائدة مهمَّة: وهي أنَّه إذا رأى بعد ذلك رطوبة مشتبهة لا يدري أنَّها بول أو غيره كالمذي فإنَّه يحكم بطهارتها وعدم ناقضيَّتها للوضوء لو كان قد حصل بعده.

وبتركه ضرر: وهو فيما إذا لم يستبرء وخرجت فإنَّه يحكم بنجاستها وناقضيَّتها للوضوء.

ولكن لو شكَّ من لم يستبرء في خروج أصل بلل بنى على عدمه، وكذا لو علم أنَّ

ص: 132

الخارج منه الودي وهو الَّذي يخرج بعد البول، ولكن شكَّ في أنَّه خرج معه بول أم لا يحكم بالطَّهارة وعدم النَّاقضيَّة.

(مسألة 250) لا يلزم المباشرة في الإستبراء بل يكفي وإن باشره غيره كزوجته أو مملوكته.

(مسألة 251) لو شكَّ في الإستبراء بنى على عدمه فإذا خرجت منه رطوبة تكون ناقضة للوضوء.

(مسألة 252) إذا بال واستبرأ واستنجى وتوضَّأ ثمَّ خرجت منه رطوبة مشتبهة بين البول والمني يجب عليه الجمع بين الغُسل والوضوء إحتياطاً، لكونه تجاوز في شكَّه هذا عن شكل الشَّك الماضي وهو البول والمذي بجعل المني مكانه.

(مسألة 253) لا استبراء للنِّساء وإنَّما يصبرن ويعصرن المحل عرضاً فإن خرجت منهنَّ رطوبة بعد ذلك وشكَّ في بوليَّتها يحكم بطهارتها وعدم ناقضيَّتها للوضوء لو أجرينه بعد العصر وخروج الرُّطوبة.

المَبْحَثُ الخَامِس مُسْتَحَبَّات التَّخلِّي وَمَكْرُوهَاتِه

(مسألة 254) يستحب في التَّخلي أمور: -

1- تقديم الرِّجل اليسرى عند الدخول في مكان التَّخلِّي وتقديم اليمنى عند الخروج.

2- الجلوس في مكان لا يراه فيه أحد.

3- تغطية الرَّأس عند التَّخلِّي.

4- أن يتَّكئ حال الجلوس على رجله اليسرى لتسهيل خروج الغائط، ومن حكمته أنَّه بالإتِّكاء على اليسرى يحصل ضغط على الأمعاء وبه يتحقَّق هذا التَّسهيل.

(مسألة 255) يكره في التَّخلي أمور: -

1- استقبال قرص الشَّمس أو القمر بوجهه.

2- استقبال الرِّيح بالبول، وكذا التَّطميح به، لئلاَّ يرجع البول على جسمه.

3- الجلوس في الشَّوارع.

ص: 133

4- الجلوس في مشارع الأنهار، لأنَّها مواقع قد يستسقى فيها الماء، أو تغسل عندها الأواني.5- الجلوس عند أبواب الدور بلا إيذاء لأصحابها، وإلاَّ فيحرم.

6- الجلوس في أماكن فيء النُّزَّال من أهل القوافل.

7- الجلوس تحت الأشجار المثمَّرة.

8- الجلوس في أي موقع يسبِّب اللَّعن.

9- الجلوس في الأراضي الصُّلبة، لئلا يتطاير بعض البول مثلاً على جسمه.

10- التَّبول في ثقوب الحيوانات، لئلاَّ تهيج.

11- التَّبول في الماء، وبالأخص الرَّاكد لكونه ينافي الصحَّة.

12- الأكل أثناء التَّخلِّي.

13- التَّكلُّم حالة التَّخلِّي بغير ذكر الله ولغير الضَّرورة.

14- البول واقفاً، إلاَّ ما قد يحصل حالة استعمال النُّورة.

15- مدافعة الأخبثين، بل يحرم مع الضَّرر.

(مسألة 256) يستحب البول قبل الصَّلاة وقبل النَّوم وقبل الجماع وبعد خروج المني.

ص: 134

مُلاَحَظَةٌ مُهِمَّة

إلى هنا انتهى ما يلزم بيانه ملخَّصاً ممَّا يتعلَّق بالتَّخلِّي الرَّاجح قبل التَّطهير، الَّذي قد يحتاجه المكلَّف للوضوء أو الغُسل أو التَّيمُّم - الآتي كلٌ منها وما يلحق به -، كي تدوم طهارته لمدَّة أطول، إلاَّ ما قد يُتحمَّل من ذلك ولو كان مكروهاً لأنَّه قد ترفع كراهيَّته لضيق وقت العبادة.

وهناك أمور أخرى - تدعى بالأحداث الصغرى المشابهة لحالة التَّخلِّي كالنَّوم والرِّيح والإغماء ونحوها - قد أعرضنا عن ذكرها الآن، لأنَّها سوف تأتي في المطهِّرين المائي والتُّرابي في الحديث عن الأحداث الصغرى وهما الوضوء أو التَّيمُّم بدلاً عنه، سواءاً كانا للعبادات أو للكون على الطَّهارة وعلى التَّفصيل الآتي في محلِّه بعون الله .

وكذلك هناك أحداث كبرى أعرضنا عن ذكرها في هذه المقدِّمات الخاصَّة إلى مواقع آتية أنسب، لاختيارنا في أن تكون في ضمن بيان الطَّهارتين الآتيتين وهما الغُسل والتَّيمُّم، وأشرنا إلى ذكرها استطراداً في ضمن الكلام عن معنى الطَّهارة وأنواع مصاديقها ومسبِّبات مشروعيَّتها، ليستفاد من ذكرها في بحوث الفقه العامَّة الأخرى، نهجاً على ديدن أعلامنا من فقهاء السَّلف الصَّالح.

ص: 135

المَقْصَدُ الخَامِس في الوُضُوء

الوضوء اسم مصدر يطلق ويراد منه إجراء كيفيَّة شرعيَّة خاصَّة للخلاص من أحداث صغرى خاصَّة أيضاً سوف تأتي، إمَّا للكون على الطَّهارة أو لتصحيح بعض الأعمال المتوقِّفة عليها شرعاً مشروطة بها كالصَّلاة مثلاً أو لاستباحة بعض الحالات وإن لم تكن شرطاً، على ما سيجيء تفصيله.

والوضوء يعطي طهارة معنويَّة ووضاءة نورانيَّة، يرجح الإتيان به للواجبات والمستحبَّات حتَّى لو تكرَّر، ولذا ورد الحثُّ على تكراره من قِبل المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لكونه ((نوراً على نور)).

(مسألة 257) الوضوء في نفسه مندوب شرعاً في جميع الأحوال، بل هو طاعة وعبادة للمعبود وهو الله تعالى لمحبوبيَّته، ولكنَّه قد يكون شرطاً لتحقُّق بعض الأعمال الواجبة والمستحبَّة به صحيحة كما سيأتي، فهو واجب لغيره للواجبات المتَّفق عليها مع اشتداد وجوبه عند وقت الضِّيق وكأنَّه يكون واجباً في نفسه، له شأنه المهم في المستحبَّات بما يناسبها من جهة شرطيَّة صحَّتها المتوقِّفة على الطَّهارة.

وهذه الكيفيَّة موجزاً هي غسلتان ومسحتان بمعنى (غسل الوجه واليدين ومسح الرَّأس والرِّجلين)، ويلحق بها بعض الشُّروط والحالات المستحبَّة.

فهو إذن - مركَّب من أفعال واجبة وشرائط وأحكام وآداب - فيلزم أو ينبغي بيانه في ضمن مباحث:

ص: 136

المَبْحَثُ الأوَّل أفعال الوُضُوء الوَاجِبَة تَفْصِيلاً

الوضوء الواجبة أربعة، وهي: -

الأوَّل:غسل تمام الوجه طولاً وعرضاً، أي من قصاص شعر الرَّأس - لمستوي الخلقة - إلى طرف الذقن طولاً وما اشتملت عليه الإبهام والوسطى عرضاً.

وأمَّا غير مستوي الخلقة بحيث لا تناسب بين الوجه والكف فيه - لطول أصابعه أو قصرها - مثلاً - أو لكبر الوجه وصغره مع التَّفاوت المذكور - فيرجع في الحدِّ الواجب عليه إلى ما لو كانت خلقته متساوية وطبيعيَّة في كلٍّ من الوجه واليد فيقيس مقياسهما المستوي.

وكذا الأصلع - وهو ما انحسر الشَّعر عن مقدَّم رأسه - والأغم - وهو من نبت الشَّعر على جبتهه - فإنَّه يرجع إلى المتعارف الطَّبيعي كذلك.

ولا يجب غَسل الخارج عن الحدِّ - بمعنى عدم وجوب غَسل الأكثر ممَّا زاد على دورة الوجه - إلاَّ لغرض الاطمئنان المفيد بحصول تمام ما يجب غسله من هذا المحدود من باب المقدِّمة العلميَّة فلا مانع، بل قد يرجح إحتياطاً وجوبيَّاً عند حصول الشَّك في استيعاب ما يجب للزوم إحرازه.

(مسألة 258) يعتبر في غسل الوجه أمور: -

1 - أن يبتدأ بأعلى الوجه إلى الأسفل ولا يسوغ العكس (النَّكس) لخلو الأدلَّة الشَّريفة عن اعتبار صحَّته لو كان مقصوداً في ذلك من الأوَّل، نعم لو سكب الماء بحالة النَّكس (من أسفل الوجه) ولكن لم يقصد بذلك غسله وضوءاً من ذلك المكان الأسفل، بل قصد بدايته حين إدارة ذلك الماء من الأعلى إلى الأسفل لو كان باقي الماء حين الإرجاع كافياً للغسل ففعل ذلك فلا مانع منه.

2 - أن يكون الغسل مستوعباً لتمام الوجه ممَّا بين المبدأ والمنتهى، ولا يسوغ ترك ما كان داخلاً في دورة الوجه عرضاً ولو بمقدار ذرَّة، ولكن يجب غسل ظاهر الشَّعر دون الباطن، بلا فرق في ذلك بين الشَّعر المحيط بالبشرة - كما في اللحية الكثيفة - وبين غير المحيط بها، ولا يجب غسل ذات البشرة المستورة بالشَّعر الكثيف مع استحباب التَّخليل إحتياطاً، إلاَّ إذا كان الشَّعر من نوع الخفيف الَّذي لا يمنع من وصول الماء إلى البشرة عادة فيجب.

ص: 137

3- إزالة الموانع - عن وصول الماء إلى ما في داخل الحد المذكور - من كحل أو قيح طافح في آماق العيون وجوانبها أو الحواجب من الأوساخ والوسمات وغيرهما ممَّا يمنع عن غسل ما تحتها.

(مسألة 259) لا يجب غسل باطن العين وباطن الأنف (ثقبه) وموضع الحلقة (الخزامة) - وإن لم تكن فيه إذا لم يظهر داخله - والفم ومطبق العينين والشَّفتين والشَّعر النَّابت خارج الحدِّ المتدلِّي على داخله، وكذا ما تجاوز شعره بمدِّه عن حدِّه (أي المقدار النَّابت في داخل الحدِّ وزاد عن حدِّه)، وكذا لا يجب غسل ما تحت الأظفار إلاَّ ما كان معدوداً من الظَّواهر.

الثَّاني: غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع وباستيعاب كالأوَّل، بل يجب إحتياطاً ضمِّ شيء من العضد بالغَسل من باب المقدِّمة لإحراز ذلك الاستيعاب.

(مسألة 260) إنَّما البداية في غسل اليدين من المرفقين (وهو مجمع عظمي الذِّراع والعضد)، لأنَّهما أقرب إلى الطَّبيعة التَّكوينيَّة في إسبال اليدين حين الولادة إضافة إلى كونها البادية من الأعلى إلى الأسفل فيه شرعاً كذلك، بحيث لم يرد في الكتاب والسنَّة الصَّحيحةالواردة عن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ما يُجوِّز العكس وعلى ما أفادته المعارف الأدبيَّة المتقنة نحويَّاً تجاه المضمون القرآني الوارد في المقام.

فقوله تعالى في آية الوضوء ] وَأَيدِيكُمْ إِلى اَلمَرَافِقِ [ لا يراد من كلمة (إلى) فيه سوى تحديد المغسول لا الغسل، ولكون المذاهب الإسلاميَّة قد اختلفوا في يد السَّارق في أنَّها هل هي كل الطَّرف حتَّى العضد، أم أنَّها إلى المرفق أم الكف مع الأصابع أم الأصابع فقط، على ما هو مفصَّل في يد السَّارق، وكذا ما يدل عليه قوله تعالى في المقام ] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [ أي بأناملهم، ففي المقام لمَّا كان الغرض هو التَّحديد النَّافع الَّذي لا اختلاف فيه جاء النَّص كما يصح.

(مسألة 261) يجب رفع جميع ما يمنع الماء - أو تحريكه - عن البشرة المغسولة - كالخاتم الضَّيق أو الحلقة - أثناء ذلك الغسل دون الواسع من ذلك ولو بعض الشَّيء، فإنَّه يكفي التَّحريك والفر المحقِّق لجريان الماء على ما تحته من البشرة وهو مستحب حينذاك.

ص: 138

الثَّالث: مسح مقدَّم الرَّأس، ويكفي مسمَّاه طولاً وعرضاً ولو بمقدار إصبع واحد، والأحوط الأولى أن يكون بمقدار ثلاثة أصابع عرضاً وبمقدار إصبع طولاً، وعليه يكون المسح بمقدار ربع الرَّأس طولاً أو عرضاً تقريباً.

(مسألة 262) يعتبر في مسح الرَّأس أمور: -

1 - أن يكون الممسوح جافَّاً من الرُّطوبة والبلل، وجفافه يكون على وجه لا ينتقل البلل من أجزاءه إلى يد الماسح لئلاَّ يختلط البلل مع ماء الوضوء.

2 - أن يكون المسح بباطن الكف، ويمرُّها امراراً على الممسوح، فلو انعكس بأن أوقف الماسح وجرَّ الممسوح إلى الوراء لم يصح، نعم الحركة اليسيرة الَّتي لا تمنع من صدق المسح عرفاً لا تضر وبالأخص إذا لم تكن الحركة مقصودة.

3 - أن تكون باليمنى - على الأحوط - لا اليسرى إلاَّ إذا كانت مقطوعة أو معوقة أو مصابة بأذى مانع.

4 - أن يكون المسح بما بقي في يده من نداوة الوضوء بلا أخذ ماء جديد، ولو جفَّ ما فيها من الماء - بالهواء مثلاً أو بغيره - فليس له حينئذ إلاَّ الأخذ من أطراف وجهه وحاجبيه ولحيته الدَّاخلة فيه - لا من غيره - تعويضاً عمَّا حصل، ولو لم يكن فلابدَّ له من إعادة وضوءه.

(مسألة 263) لا يجب المسح على بشرة الرَّأس دائماً، بل يكفي المسح على الشَّعر النَّابت على مقدَّمه لو كان كثيفاً، وأمَّا إذا كان خفيفاً فلابدَّ فيه من الحرص على مسح البشرة ولو إحتياطاً إن احتمل الكثافة مع ذلك، هذا في المقدار الاعتيادي من الشَّعر.

وأمَّا لو كان طويلاً يتجاوز بمدِّه عن حدِّ مقدَّم الرَّأس - كما في أغلب النِّساء - فلا يجوز المسح على الزَّائد المتجاوز عن الحدِّ، بل يجب المسح على ما كان فوق البشرة فقط وللاحتفاظ ببقيَّة البلل لمسح الرِّجل.

(مسألة 264) لا بأس بمسح الرَّأس منكوساً أي من الأسفل إلى الأعلى.

الرَّابع: مسح القدمين اليمنى واليسرى بمسح ظاهرهما من أطراف الأصابع إلى المفصل على الأحوط طولاً وعرضاً بما يتحقَّق به اسم المسح، والأفضل بل الأحوط أن

ص: 139

يكون بتمام الكف، ولا يكفي وضع تمام الكف على تمام ظهر القدم من طرف الطول إلى المفصل بلا جر الماسح على الممسوح، بل لابدَّ أن يجرها جرَّاً طبيعيَّاً، ولا يكفي الجر القليل إحتياطاً، فيجرُّها من أطراف الأصابع إلى المفصل، ويجوز العكس.(مسألة 265) الأحوط وجوباً مسح اليمنى باليمنى أوَّلاً، ثمَّ مسح اليسرى باليسرى ثانياً، وإن جوَّز بعض الأعلام المصاحبة الزَّمنيَّة في المسحتين .

(مسألة 266) أحكام مسح القدمين نفس أحكام مسح الرَّأس.

(مسألة 267) حكم المسح على الرِّجلين في الوضوء تعبُّدي، على ما يظهر من آي الذِّكر الحكيم الخاصَّة في الوضوء - وفي آخر عمل فيه - مع تأييد النُّصوص الكثيرة الصَّحيحة الواردة عن أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حول ذلك.

فإنَّ قوله تعالى ] وَامْسَحُوا بِرُؤسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلى اَلكَعْبَينِ [ - بناء على قراءة كسر (أرجلِكم) عطفاً على (رؤسكِم) المكسورة بالباء ظاهراً أو باطناً - تدل بوضوح على لزوم المسح بناءاً على جعل الباء زائدة عربيَّاً وتفسيريَّاً، بل حتَّى على قراءة (أرجلكم) بالنَّصب، على اعتبار أن الباء في (برؤسكم) زائدة أيضاً، فيكون (أرجلكم) معطوفاً على محلِّ (رؤسكم) المنصوب وبهذا يكون واضح الدِّلالة أيضاً وأكثر على لزوم المسح، وكذا لو لم تكن زائدة - بمعنى أنَّها للتَّبعيض - لكون العطف حاصلاً على محلِّها في الآية.

وأمَّا حالة العطف على (اغسلوا وجوهكم) المنصوبة - ليلتزم بغسل الأرجل كما هو رأي كثير من المذاهب الأخرى - فهو مرفوض عند النَّحوييِّن - كما هو مدَّون في كتبهم - لأنَّه عطف على البعيد مع إمكان العطف على القريب.

فلكون العطف على رؤسكم أنسب وللأقربيَّة - ولو على المحل مع المحافظة على نصب الأرجل - لابدَّ من أن يُتعبَّد حينئذ بالمسح.

أمَّا لو كانت الأرجل وسخة -

كما هي شبهة بعض من يلتزم بترجيح غَسلها في الوضوء لكونه رفعاً للأوساخ - فلتغسل قبل البدء بالوضوء ثمَّ تجفَّف لتهيأ لذلك المسح التَّعبُّدي.

وهناك تفاصيل أخرى نافعة نتركها للمفصَّلات من كتبنا الأخرى.

ص: 140

(مسألة 268) لا يجب على مقطوع القدم شيء إلاَّ إذا كان المقطوع بعض من القدم فيجب المسح على الباقي.

(مسألة 269) لو عجز عن المسح بباطن الكف - لقطع أو غيره - مسح ببقيَّتها إن كانت موجودة وإلاَّ مسح بظاهرها إن أمكن وإلاَّ فبالذِّراع.

(مسألة 270) لا يجزئ المسح على الحائل - كالخفِّ والجورب - وإن كان تقيَّة، بل حتَّى مع الضَّرورات الأخرى، والأحوط وجوباً ضم التَّيمُّم إليها لو كان شيء من ذلك.

نعم لو دار الأمر بين المسح على الخف والغَسل للرجلين حال التَّقيَّة، اختار الثَّاني على شكل مسح في بداية الأمر ثمَّ يغسلها.

(مسألة 271) يعتبر عدم المندوحة (المجال) في مكان التَّقيَّة، فلو تمكَّن من ترك التَّقيَّة وإراءة المخالف عدم المخالفة لم تشرع تلك التَّقيَّة، بل يعتبر عدمها في الحضور في زمانها كالمكان أيضاً كالحضور أمام شخص مخيف في وقت خاص في مكان لا حرج فيه أصلاً كأماكننا، ولا يترك الاحتياط حتَّى ببذل المال لرفع الاضطرار وإن كان عن تقيَّة ما لم يستلزم الحرج.

(مسألة 272) لا يبعد عدم وجوب الإعادة فيما لو توضأ على خلاف التَّقيَّة، وإن كان الأولى ذلك مع الاستغفار.

(مسألة 273) لو شكَّ في شيء - موجود على عضو من أعضاء الوضوء - أنَّه حاجب أم لا وجب إزالته أو إيصال الماء إلى ما تحته كالخاتم وسير السَّاعة ومعاضد النِّساء المشكوك في حاجبيَّتها.لكن لو شكَّ في أصل وجود الحاجب على العضو لم يلتفت إليه، إذا لم يكن هناك منشأ عقلائي لاحتمال وجوده، وأمَّا إذا كان هناك هذا المنشأ لكثرة أعمال له تسبِّب وجود حواجب على تلك الأعضاء - وإن لم يحس بها أثناء الوضوء - ككونه صبَّاغاً أو ذا أعمال ترابيَّة قد يكثر منها ما يلصق على جسده وهو لم يعرف، فعند ذلك يجب عليه التَّفحص عنها قبل الوضوء لإزالتها لو كانت.

ص: 141

المَبْحَثُ الثَّاني في شَرَائطُ الوُضُوء

يشترط في تحقُّق الوضوء أمور وهي: -

الأوَّل:طهارة الماء.

فلا يصح بالماء المتنجِّس من قبل الجاهل والنَّاسي والغافل فضلاً عن العالم، وفي حكمه المشتبه بالمتنجِّس في الشُّبهة المحصورة ككون الماء بين ماءين في إناءين أحدهما طاهر والآخر متنجِّس ولكن كلٌ منهما غير معلوم بشخصه.

الثَّاني: عدم استعماله في إزالة الخبث على الأحوط، كما تقدَّم في الماء المستعمل في الاستنجاء ولو في المرَّة الثَّانية، فضلاً عمَّا لو احتمل التَّلوُّث فيها.

الثَّالث: إطلاق الماء.

فلا يصح الوضوء بالماء المضاف حتَّى لو كان ماء ورد وإن قال به بعض القدامى - كما مرَّ -، وفي حكمه المشتبه به حتَّى لو كان في ضمن شبهة محصورة لو احتمل عقلائيَّاً وقوعه فيها - وقد تقدَّم حكمه في الماء المشتبه - لوجوب إحراز إطلاقه في الوضوء عند سعة الوقت.

(مسألة 274) لا فرق في بطلان الوضوء بالماء المضاف في صورة العمد وغيره.

الرَّابع: إباحة الماء.

فلا يصح بالمغصوب، وفي حكمه المشتبه بالمغصوب في الشُّبهة المحصورة - كما تقدَّم في الماء المشتبه -.

(مسألة 275) إذا توضأ بماء فانكشف بعد الفراغ أنَّه كان مغصوباً فالظَّاهر أنَّه باطل، وإن اشتهر بين الفقهاء رضي الله عنهم صحَّته، لكونهم أدرجوه في باب الصَّلاة في (اللِّباس المغصوب جهلاً) وعدم الفرق بين الحالتين فيه تأمُّل، ولا أقل من الاحتياط بالإعادة، نعم لا مانع من تصحيح الوضوء به ولو كان مغصوباً إذا كان المتوضئ به غير الغاصب فقط إذا كان عن نسيان مع رجحان الإعادة إحتياطاً.

ص: 142

الخامس: إباحة الأواني الموجود فيها الماء.

وكذا المصب في خزانه أو في الإبريق، فلو كان أحدهما مغصوباً ولو في شبهة محصورة بين فردين مثلهما فإنَّ الماء لا يكون الوضوء منه صحيحاً إذا انحصر الأمر فيهما، ولا يجوز إخراجه منهما حتَّى إذا كان مباحاً في ذاته، ولذلك لا يتم الأمر العبادي إلاَّ بالتَّيمُّم مع عدم وجود ماء آخر مباح في آنية مباحة.

السَّادس: إباحة محل الوضوء الأرضي مثلاً.

ويتبعه فضاؤه ولو في شبهة محصورة كالحصص الأرضيَّة أو حصص الدَّار المشتركة المستغلَّة من بعض الشُّركاء دون البعض الآخر مع عدم رضاهم في ذلك الاستغلال أو لكون تلك الأرض بدون تصفية عادلة أو نحو ذلك فلو كان كذلك كان الوضوء باطلاً.السَّابع: طهارة أعضاء الوضوء المغسولة والممسوحة.

بمعنى أن يكون كل عضو طاهراً حين غسله أو مسحه، ولا يعتبر طهارة جميع الأعضاء عند الشُّروع فيه، بل تكفي طهارة كل عضو حين غسله ولو بماء الوضوء المصبوب نفسه - إذا كان من الماء الكثير المنصب على العضو - المطهرِّ من أوَّله والموضئ من آخره.

وإن كان في الماء القليل فإنَّه يغسل الموقع مرَّتين أوَّلاً ثمَّ يثلِّثه للوضوء، على شرط أن لا يخل ذلك بالموالاة العرفيَّة - الآتي ذكرها - إذا كان هذا العضو من الوسطيَّات المغسولة لا العضو الأوَّل، أمَّا لو كانت الأعضاء باقية على تنجُّسها ولم يتبع ما ذكرناه على الأقل فإنَّ الوضوء باطل إلاَّ أن يسبقه التَّطهير المذكور.

الثَّامن: عدم وجود حواجب على شيء من أعضاء الوضوء.

بحيث يمنع وصول الماء إليه كالبوية والأصباغ الأخرى - إذا كانت فيها جرميَّة - والوارنيش وآثار الدَّملوك والأحبار الجافَّة، وكذا ميش الشَّعر للنِّساء إذا كان فيه مادَّة قشرية، فلا يصح الوضوء مع وجود هذه الأَمور إلاَّ بقلعها بالأشياء القالعة، ولو لم يجد المتوضئ قالعاً يصبر في سعة الوقت مع بذل الجهد المستمر للتَّفحص عن القالع إلى ضيق

ص: 143

الوقت الكافي للصَّلاة مثلاً، لاحتمال أن يجده فإن وجده توضأ، ومع عدمه يتوضأ بالميسور مع ما فيه مع إضافة التَّيمم إحتياطاً ويصلِّي، ويلحق بذلك الجبائر واللطوخ الدِّهنيَّة العلاجيَّة أو ما يبتلي أهل الصَّنائع الدِّهنيَّة به على ما سوف يأتي أيضاً، وإن كان يفضَّل لمثل هؤلاء بل قد يجب في بعض الحالات - ممَّن يعرف بأنَّه يريد أن يزاول هذه الأمور وعليه صلاة الفريضة المحتاجة إلى الطَّهارة المشروطة بعدم الحاجب - أن يتوضأ قبل ذلك.

التَّاسع: أن لا يكون مانع من استعماله شرعاً.

كالمرض الجلدي المانع أو الإستبراد المضر - لضعف مزاجه - إذا توضأ بالماء أو لمانع العطش بحيث تتوقَّف حياته أو حياة غيره من الأرواح المحترمة على ذلك الماء أو نحو ذلك، ومع حصول تلك الموانع لا يجوز الوضوء به ويتيمَّم المكلَّف حينئذ بدل الوضوء، على أن يختار ضيق وقت العبادة إذا احتمل ارتفاع المانع عند التَّأجيل على تفصيل يأتي.

العاشر: النيَّة.

وهي القصد إلى الفعل بعنوان الامتثال للأمر الإلهي ولو بنحو الامتثال للأمر الاستحبابي، وهو المراد بنيَّة القربة خطيرا، أو أن يكون بنحو الدَّاعي إلى ذلك الفعل مع القربة، وستأتي بعض تفاصيل عنها في نيَّة الصَّلاة.

الحادي عشر: الإخلاص في النيَّة.

بحيث لو ضم إليها ما ينافيه من الرِّياء أو نيَّة التَّنظيف أو نيَّة التَّبرد لبطل.

الثَّاني عشر: استدامة حكم النيَّة فيه إلى الفراغ منه.

بمعنى أنَّه لا يتردَّد في نيَّته ولا ينوي العدم، فلو تردَّد أو نوى العدم وأتمَّ الوضوء على هذا الحال لكان باطلاً، ولكن لو عدل إلى النيَّة بعد ذلك التَّردُّد قبل فوات الموالاة الآتي معناها وضمَّ إلى ما أتى به مع تلك النيَّة من البدائيَّات باقي الأفعال الَّتي بعدها صحَّ وضوءه مع الاحتياط بالإعادة.

ص: 144

الثَّالث عشر: المباشرة.

بأن يباشر المكلَّف بنفسه أفعال الوضوء إذا أمكنه ذلك، بحيث يبطل الوضوء لو قام بالعمل غيره، ومع عدم الإمكان يجوز أن يوضأه الغير لكنَّه يتولى النيَّة بنفسه.

وفي حالتي مسح الرَّأس والرِّجلين فيلزم أن يكون ذلك بيد نفس المتوضئ إن أمكنه ذلك أيضاً أولاً، فإن لم يمكنه ذلك فلا مانع من أن يجرَّ يديه غيره للمسح حينئذ كما في حالتي غسل الوجه واليدين.

الرَّابع عشر: التَّرتيب.

بأن يغسل المتوضئ الوجه أوَّلاً، ثمَّ اليد اليمنى، ثمَّ اليد اليسرى، ثمَّ يمسح الرَّأس ثمَّ الرِّجلين بلا تقديم أو تأخير فيما بينها، فإن قدَّم أو أخَّر يكون الوضوء باطلاً، والأحوط وجوباً كذلك رعاية التَّرتيب نفسه فيما بين مسح الرِّجلين كما أشرنا من دون أن يمسحهما معاً.

الخامس عشر: الموالاة.

ويتحقَّق ذلك بالشُّروع في غسل كل عضو أو مسحه من أعضاء الوضوء قبل أن تجفَّ الأعضاء السَّابقة عليه، فإذا أخَّره إلى مدَّة حتَّى جفَّت جميعها بل حتَّى بعضها بطل الوضوء، وكذا لو مضت مدَّة - مأخِّرة للعمل - غير طبيعيَّة وإن لم تجف بعض تلك الأعضاء، نعم لا بأس بالجفاف السَّريع من جهة الحر أو البرد أو الرِّيح أو تجفيف الغير لبعض أعضاءه بمنديل إذا كانت الموالاة العرفيَّة موجودة.

السَّادس عشر: سعة الوقت الكافي لوضوئه وصلاته.

بحيث لم يلزم من ذلك الوضوء وقوع الصَّلاة أو بعضها في خارج الوقت، وإلاَّ فعليه أن يتيمَّم، وهذه الحالة لا تفرض بحسب العادة والغالب في سعة الوقت كلِّها، لإمكان سرعة التَّخلص، وإنَّما هي في حالة من حالات ضيقه.

ص: 145

المَبْحَثُ الثَّالِث في أَحْكَامِ الوُضُوء

يتحقَّق بيان أحكام الوضوء في مسائل ذات عناوين مختلفة في فصول، وهي: -

الفَصْلُ الأوَّل في أَحْكَامِ الخَلَل

(مسألة 276) من تيقَّن الوضوء وشكَّ في الحدث بنى على الطَّهارة، ومن تيقَّن الحدث وشكَّ في الوضوء بنى على الحدث، ومن تيقَّنهما معاً وشكَّ في المتقدِّم والمتأخِّر منهما وجب عليه الوضوء، سواء علم بتأريخ الوضوء ولم يعلم الثَّاني أو بالعكس أولم يعلم تأريخهما معاً.

(مسألة 277) لو شكَّ في أثناء الوضوء في غسل عضو أو مسحه أتى به وبما بعده مراعياً التَّرتيب والموالاة وبقيَّة الشَّرائط، كالشَّك في غسل الوجه وغيره.

(مسألة 278) لو شكَّ أثناء الوضوء في أنَّه هل غسل العضو كاليد اليمنى - مثلاً - بصورة صحيحة وجب - على الأحوط - أن يعود إلى ما شكَّ فيه ليأتي به بصورة صحيحة، إلاَّ إذا كان الشَّك في الجزء الأخير وكانت هناك إمارة تطمئن على انتهائه من الوضوء، أو كان شكَّه بعد الدُّخول فيما يشترط فيه الطَّهارة كالصَّلاة فحينئذ يبني على الإتيان به.

(مسألة 279) من شكَّ في أصل الوضوء بعد الفراغ من الصَّلاة واحتمل الإلتفات إلى وجوب إحراز الطَّهارة قبل الصَّلاة وكان ليس من عادته إلاَّ الوضوء في ذلك بنى على صحَّتها، وهو مبني على ما يسمَّى بقاعدة الفراغ، ولكنَّه يتوضأ للصَّلوات الآتية حتماً، ولو كان من حالته الغفلة عنه فالأحوط الوضوء لإحراز الصَّلاة عن الطَّهارة، ومن شكَّ في أثنائها قطعها وأعادها بعد الوضوء، وبالأخص إذا كان ممَّا يصادفه عدم الوضوء أحياناً.

(مسألة 280) إذا علم إجمالاً بعد الصَّلاة ببطلان صلاته لنقصان ركن فيها مثلاً أو بطلان وضوئه وجبت عليه إعادة الصَّلاة فقط في المثال الأول، مع وجوب إعادة الوضوء

ص: 146

للصَّلوات الأخرى في المثال الثَّاني لوجوب إحراز الطَّهارة.

(مسألة 281) الوسواسي - وهو الَّذي يحصل له الشَّك كثيراً - لا اعتبار بشكَّه مطلقاً إلاَّ إذا كان على الوجه المتعارف عند سائر النَّاس.

(مسألة 282) من شكَّ في الوضوء بعد الحدث وجب عليه الوضوء - كما مرَّ - فمن نسي شكَّه وصلَّى بطلت صلاته ووجبت عليه الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه.

(مسألة 283) لو توضَّأ وضوءين وصلَّى بعدهما ثمَّ علم بحدوث حدث بعد أحدهما لا على التَّعيين وجب الوضوء للصَّلوات الآتية، وأعاد الصَّلاة على الأحوط وجوباً.

(مسألة 284) لو تيقَّن بعد الفراغ من الوضوء أنَّه ترك جزءاً منه لكن لا يدري هل أنَّه الواجب أو المستحب فالظَّاهر الحكم بصحَّة وضوءه إن كان ممَّن تعوَّد على إتيان الأجزاء المستحبَّة وعدم التَّقصير أو القصور في الواجبات حسب العادة، وإلاَّ فالأحوط الإعادة.

(مسألة 285) لو علم بوجود الحاجب قبل الوضوء وشكَّ بعد الفراغ منه أنَّه هل أزاله أثناء الوضوء أو أوصل الماء إلى ما تحته حينذاك بنى على صحَّة وضوءه لاحتمال الإزالةالمذكورة مع الإمكان العقلي وقاعدة الفراغ.

(مسألة 286) من كان متوضِّأً وكان يعلم بعدم إمكان الوضوء بعد ذلك مرَّة أخرى إلى حين نهاية وقت الفريضة الآتية مثلاً فلا يجوز له نقض وضوءه بعد دخول وقت الصَّلاة مع القدرة على تحمُّل عدم النَّقض.

الفَصْلُ الثَّاني في دَائِمِ الحَدَث وَمَا يُلْحَقُ بهِ

(مسألة 287) المبتلى باستمرار الحدث كالمبطون وهو (الَّذي لا يتمكَّن من إمساك غائطه أو ريحه)، والمسلوس وهو (الَّذي لا يتمكَّن من إمساك بوله) لوضوئه صور: -

الأولى: أن تكون له فترة تسع الطَّهارة (الوضوء) مثلاً والصَّلاة بجميع شرائطهما وأجزائهما - ولو بمقدار الإتيان بالواجبات فقط وترك جميع المستحبَّات - فلابدَّ له من

ص: 147

إتيانهما في تلك الفترة إن حصل الإمكان سواء كان أوَّل الوقت أو وسطه أو أخره، ويحرم عليه الإتيان بالمستحبَّات كالقنوت وغيره إذا كان يخاف عقلائيَّاً طرؤ الحدث المذكور بسبب التَّعطيل لأجل تلك المستحبَّات، لئلاَّ تزاحم الواجبات، وأمَّا مع عدم خوفه فلا مانع منها.

الثَّانية: أن تكون للحدث فترة انقطاع تسع الوضوء وبعض الصَّلاة فلابدَّ له من انتظار هذه الفترة والتَّوضؤ والصَّلاة فيها مع وضع الماء عنده لتجديد الوضوء - حين مفاجأة الحدث له وهو في أثناء الصَّلاة - إذا لم يكن حرجيَّاً عليه بشرط عدم الإتيان بالمنافي كالانحراف عن القبلة والتَّكلم ونحوهما، أمَّا لو كان تجديد الوضوء حرجيَّاً فيجتزئ بوضوء واحد كما سيجيء في الصُّورة الثَّالثة ويتم صلاته ما لم ينقضه بحدث آخر غير الحدث المستمر معه ممَّا عفي عنه كالنَّوم أو الإغماء فلابدَّ من استئناف الطَّهارة والصَّلاة حينئذٍ.

الثَّالثة: أن يكون الحدث مستمرَّاً بلا انقطاع، بحيث لا يتمكَّن من الوضوء الرَّافع للحدث والإتيان حتَّى بجزء من الصَّلاة بلا حدث فيه فيجب عليه - في هذه الصورة - الوضوء لكلِّ صلاة وفي أي وقت شاء على الظَّاهر، بل هو الأقوى، لأنَّ الصَّلاة لا تترك بحال، إلاَّ مع احتمال خفَّته في آخر وقتها وبلا حاجة أيضاً إلى إعادته في أثنائها وإن حصل النَّاقض فيه بعد ذلك الوضوء إلاَّ أنَّه إذا حصل النَّقض قبلها وبعد ذلك الوضوء فلابدَّ من الإعادة ولو إحتياطاً.

(مسألة 288) إنَّ مستمر الرِّيح يعتبر من المبطون في الأدلَّة الشَّريفة فحكمه حكمه، وكذا المسلوس.

(مسألة 289) يجب على من استمرَّ به الحدث (كالمبطون والمسلوس) التَّحفظ من وصول النَّجاسة إلى بدنه أو ثوبه مهما أمكنه - بوضع حفَّاظة للأوَّل إذا كان من الغائط وقاية من نجاسته وكيس (نايلون) لاحليله وقاية من نجاسة إدراره -.

(مسألة 290) إذا برء المسلوس ومن بحكمه لا يجب عليه قضاء ما صلَّى حال ابتلائه بهذا المرض، نعم إذا برء في داخل الوقت يجب عليه إعادتها فضلاً عمَّا لو صلَّى أوَّل الوقت مع احتمال زوال عذره في آخره.

ص: 148

الفَصْلُ الثَّالث في أَحْكَامِ الجَبَائِر

الجبيرة هي الألواح الَّتي توضع على الكسور العظميَّة، وألحق بها حكماً الخرق والأدوية الَّتي توضع على الجروح والقروح والدَّماميل.

(مسألة 291) من كان على بعض أعضاء وضوئه جبيرة، فإن أمكن نزعها وغسل ما تحتها من العضو المغسول أو مسحه من الممسوح - أو غمسها في الماء لو لم يمكن النَّزع مع كون الغسل من الأعلى إلى الأسفل في المغسول، بل حتَّى الممسوح لو شمله عدم الإمكان - إذا لم تكن مشقَّة أو ضرر في الحالتين وجب ذلك وإن لم يتمكَّن منهما أو كانت في ذلك مشقَّة أو ضرر مسح عليها في المغسول والممسوح مع الاحتياط بالتَّيمُّم في صورة عدم إمكان ما مضى من الحالتين.

(مسألة 292) الجروح والقروح والكسور الموجودة في الأعضاء المغسولة - كالوجه واليدين إذا كانت مكشوفة - إن لم يضر بها الماء وجب أن يتوضأ لها بالصُّورة الطَّبيعيَّة، وإن كان يضر بها الغَسل ولكن لا يضرها المسح عليها ببلل اليد فلابدَّ أن يمسح عليها ببللها على الأحوط وجوباً.

وإن كان يضر بها الماء بتاتاً - أو كان الموضع نجساً ولا يمكن تطهيره - وجب غسل أطرافه من الأعلى ومن الأسفل وبقيَّة ما حولها ويضع عليه خرقة طاهرة ويمسح عليها، وإذا لم يتمكَّن من ذلك أيضاً وجب غسل الأطراف فقط مع ضمِّ التَّيمُّم إليه على الأحوط وجوباً.

(مسألة 293) إذا كانت الجروح أو القروح أو الكسور في موضع المسح كالرَّأس والرِّجلين وكانت مكشوفة فإن أمكن المسح عليها مسح، وإن لم يمكن وَضعَ خرقة طاهرة على الموضع ويمسح عليها بالبلل الموجود في اليد - كما مرَّ -، فإن لم يتمكَّن سقط المسح فقط من وضوئه ووجب عليه التَّيمُّم بعد الانتهاء من هذا الوضوء إحتياطاً.

(مسألة 294) إذا كان الجرح والجبيرة نجسين وأمكن تطهيرهما مع عدم الضَّرر وجب التَّطهير وغسل الموضع، وأمَّا مع الضَّرر - أو عدم إمكان وصول الماء - وجب غسل

ص: 149

الأطراف والمسح على الجبيرة إذا كانت طاهرة، أمَّا مع نجاستها فيشد عليها خرقة طاهرة ويمسح عليها، وإذا لم يمكن ذلك أيضاً وجب عليه أن يضم إليه التَّيمم إحتياطاً، بل يضم حتَّى مع وجود الخرقة الطَّاهرة والمسح عليها.

(مسألة 295) لو كانت وظيفته المسح على الجبيرة وجب عليه أن يستوعب المكان الممسوح، فإن تعسَّر الاستيعاب فالأحوط أن يضم إليه التَّيمُّم، بل يضمُّه حتَّى مع قدرته على الاستيعاب.

(مسألة 296) ما يعصَّب به العضو لا لجرح أو قرح بل لوجع أو ورم فلا يجري عليه حكم الجبيرة، وكذلك الحاجب اللاصق - اتِّفاقاً - كالقير ونحوه، فإن تمكَّن من دفعه أو غسل المحل وجب عليه ذلك، وإن لم يتمكَّن فيتعيَّن عليه مع الوضوء التَّيمُّم كما سبق.

(مسألة 297) من كانت على بعض أعضاء تيمُّمه أو غُسله جبيرة فحكمها حكم جبيرة الوضوء، ولكنَّ الأحوط وجوباً في الغُسل أن يكون ترتيبيَّاً كما سيتَّضح.

(مسألة 298) إذا استوعبت الجبيرة جزءاً آخر من أعضاء الوضوء - كالوجه والرَّأس - أو جميعها وجب إزالتها عند الوضوء إن تمكَّن، فإن كانت حرجيَّة توضأ جبيرة وضمَّ إليه التَّيمُّم أيضاً.

(مسألة 299) إذا كانت في العضو جبائر متعدِّدة بينها فواصل وجب غسل تلك الفواصل -إن كانت من الأعضاء المغسولة - أو مسحها - إن كانت من الممسوحة -.

(مسألة 300) ما دام خوف الضَّرر باقياً تبقى الجبيرة في محلِّها، فإن ارتفع الضَّرر يجب نزعها، ولا يجب عليه إعادة الصَّلوات الَّتي صلاَّها بوضوء الجبيرة، بل يتوضأ للصَّلوات الآتية.

(مسألة 301) إذا استلزم في رفع الجبيرة وغسل المحل في حال الوضوء - عند التمكَّن منه - فوات الوقت ينتقل إلى التَّيمُّم ولا يجوز الوضوء، لأنَّ الصَّلاة مرهونة بأوقاتها وإن استلزم ذلك الإلزام بالمطهِّر الأدنى.

(مسألة 302) لو كان الماء مضرَّاً للعضو وإن كان من غير جرح ولا قرح ولا كسر كما في بعض الأمراض الجلديَّة وجب عليه التَّيمُّم دون الوضوء - كما مرَّ في الشَّرط التَّاسع

ص: 150

من شرائط الوضوء -، وكذا لو كان الجرح أو القرح أو الكسر في غير محال الوضوء، إلاَّ أنَّ استعمال الماء في مواضعه يكون مضرَّاً به للمجاورة مثلاً، فإنَّ الوظيفة هي التَّيمُّم، وكذا لو كان العضو خالياً عن الأمور المذكورة ولكنَّه كان نجساً ولم يمكن تطهيره فالمتعيِّن عليه التَّيمُّم أيضاً كما مرَّ.

(مسألة 303) الأرمد - وهو المصاب بعينيه لعارض خاص - لو أضرَّه استعمال الماء تعيَّن عليه التَّيمُّم مع وضوء الجبيرة على الأحوط وجوباً إن أمكن، كوضع قطن عليهما أو على أحدهما من موقعي الحاجة مع اللاصق الطبِّي.

(مسألة 304) لا يشترط في الجبيرة أن تكون ممَّا تصح فيه الصَّلاة، فلا مانع من أنَّ تكون حريراً أو ممَّا لا يؤكل لحمه لو احتاج إليه.

(مسألة 305) الأدوية الَّتي توضع على الجرح أو القرح إذا اختلطت مع الدَّم وصارا كالشَّيء الواحد ولم يمكن رفعه بعد البرء - كما إذا استلزم عدم الإمكان جرح العضو وخروج الدَّم -، فإن استحالت إلى مادَّة أخرى بحيث لا يصدق عليها أنَّها دم - كما لو صارت كالجلد - جرى عليها حكم الجبيرة فيمسح عليها بعد غسل موضعها إحتياطاً إن أمكن، وإن لم تكن مستحيلة كانت كالجبيرة المتنجِّسة فيضع عليها خرقة طاهرة ويمسح عليها، والأحوط وجوباً في كلتا الحالتين ضم التَّيمُّم إلى مثل هذا الوضوء.

(مسألة 306) إذا كانت الجبيرة على العضو الماسح - كما إذا كانت على الكف أو الأصابع - يجب المسح ببلها الحاصل من المسح عليها بدل الغسل لكونها جبيرة وهو ما يستلزم المسح عليها ببلل كاف ليمسح به.

(مسألة 307) ما تقدَّم من الأحكام الرَّاجعة إلى الجبيرة لا يفرق فيها بين استناد الجرح إلى الصدفة والاتِّفاق أو إلى سوء الإختيار ولو جهلاً، أو على وجه العصيان والعمد.

(مسألة 308) إذا شكَّ في مورد أنَّ وظيفته وضوء الجبيرة أو التَّيمُّم، وجب الجمع بينهما على الأحوط.

ص: 151

الفصل الرَّابع في أحكام عامَّة للوضوء

تقدَّم الكلام عن أحكام الوضوء في المواضع الخاصَّة له وبقي الكلام عن الأحكام العامَّة الَّتي لا يمكن دخولها في تلك المواضع من حيث الخصوص، فنقول: -

الوضوء في نفسه مندوب - كما مرَّ -، لكنَّه تتوقَّف عليه صحَّة الصَّلاة - واجبة كانت أو مندوبة كما مرَّ وكما سيأتي -، وكذا أجزاؤها المنسيَّة، - بل سجود السهَّو أيضاً على الأحوط، وكذلك تتوقَّف عليه صحَّة الطواف الواجب - كما سيأتي حتَّى المنذور على الأحوط - دون المندوب، إلاَّ أنَّه قد يجب بالعارض كالنَّذر وشبهه.

بل هو شرط في كمال بعض المستحبَّات - كالطَّواف المندوب وقراءة القران - وإحراز تمام ثوابها، كما أنَّه رافع لكراهة بعض الأعمال كالأكل على الجنابة وإن لم يرفع الحدث لو كان بهذه النيَّة، وقد يكون مبيحاً لا رافعاً في مقامات أخرى قد يمر بعضها أو تذكر في المفصَّلات.

(مسألة 309) لا يجوز للمحدث - بالأكبر أو الأصغر - مسُّ كتابة القران حتَّى المد والتَّشديد ونحوهما من التَّوابع، ولا مسِّ اسم الجلاَّلة، بل حتَّى سائر أسمائه وصفاته، ويلحق به - على الأحوط وجوباً - أسماء الأنبياء والأوصياء، بل حتَّى سيدة النِّساء فاطمة الزَّهراء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

بلا فرق في كتابة القران بين العربيَّة والفارسيَّة واللاتينيَّة وغيرهما، ولذا حرمت التَّرجمة الَّتي هي ليست من التَّفسير، ولا بين كتابته بالمداد والحفر والتَّطريز وغيرهما، كما لا فرق في المكتوب عليه بين الكاغد واللوح والأرض والجدار والثَّوب، بل وبدن الإنسان، فإذا كتب على يده لا يجوز مسُّه عند الوضوء، بل يجب محوه أوَّلاً ثمَّ الوضوء.

كما لا فرق في الماسِّ بين ما تحلُّه الحياة وغيره، حتَّى الشَّعر غير التَّابع للبشرة لطوله إن كان موصولاً طبيعيَّاً بالتَّابع - على الأحوط -.

(مسألة 310) لو كانت الكلمة أو الآية القرآنيَّة - أو الكلمات الملحقة بها - مكتوبة في

ص: 152

غير المصحف الشَّريف - كالكتاب العادي أو الرِّسالة أو الخاتم أو غيرها - فلا يجوز مسها على الأحوط.

(مسألة 311) لا يحرم المس من وراء الزُّجاج (الجام) كشاشة أجهزة المرئيَّات - وإن كان الخط مرئيَّاً - إلاَّ إذا استلزم الهتك، وكذا إذا وضع عليه كاغد رقيق ليرى ما تحته من الخط كما يصنع في بعض المصاحف، بل وكذا المنطبع في المرآة.

نعم لو نفذ المداد في الكاغد حتَّى ظهر الخط من الطَّرف الآخر فلا يجوز مسُّه، خصوصاً إذا كتب بالعكس فظهر من ذلك الطَّرف الآخر مكتوباً معتدلاً أنَّه من تلك الألفاظ بالكلمات المخطوطة ومن تلك الآيات ونحوها كما فيما يسمَّى بالمهر أو الأوسع منه لا ما يلمس معكوساً.

(مسألة 312) الأحوط للمحدث اجتناب كتابة آية من القرآن بإصبعه على الأرض أو غيرها، لأنَّه يوجد بين بدن المحدث والخط مصاحبة وارتباط في الزَّمان غير المبيح.

وأمَّا الكتابة على بدن المحدث - وإن كان الكاتب على وضوء - فلا يجوز خصوصاً إذا كان ممَّا يبقى أثره والمحدث باق على حدثه.

(مسألة 313) لا يجب منع الأطفال والمجانين من المسِّ إلاَّ إذا عدَّ هتكاً أو منافياً للتَّربيَّة الَّتي لو لم تكن لكانت خطرة على مستقبلهما حتماً، نعم الأحوط عدم التَّسبيب لمسِّهم، ولو توضأالصَّبي الممِّيز فلا إشكال في مسِّه، بناءاً على القول بصحَّة وضوئه وسائر عباداته.

(مسألة 314) يجوز الإتيان بالوضوء بقصد فعل الفريضة لو دخل وقتها - كما سيأتي - كما يجوز بقصد الكون على الطَّهارة وإن لم يدخل وقتها، أو بقصد قراءة القران ويقرأ منه ولو يسيراً، أو بقصد دخول المسجد ولو بأن يصلِّي ركعتين تحيَّة له.

(مسألة 315) يجوز الوضوء والشُّرب من الأنهار الكبيرة - والجداول والسَّواقي والعيون النَّابعة - المملوكة ممَّا جرت عليه عادة النَّاس بالتَّصرف فيها ولو بالفحوى، ما لم يعلم عدم رضا أصحابها، بل إن الأحوط استحباباً لأصحابها عدم المنع من تلك التَّصرفات.

ص: 153

(مسألة 316) لا يجوز التَّصرف في الموقوفات - كالحياض الواقعة في المساجد والمدارس - إلاَّ إذا عُلمت كيفيَّة وقفها، فإن كانت خاصَّة على فئة معيَّنة كالطُّلاب السَّاكنين في المدارس أو المصلِّين في خصوص هذا المسجد - مثلاً -، فلا يجوز لغير هؤلاء الوضوء منها، فلو خالف - غير الموقوف عليه - وتوضَّأ منها - وإن كان عن غفلة - بطل وضوءه مطلقاً، وكذا ما خُصِّص من المياه للشُّرب - في الآونة الأخيرة - كما في بعض البرَّادات، فلا يجوز التَّصرف في غير المخصَّص له ويجري عليه حكم الغصب حينذاك.

ص: 154

المَبْحَثُ الرَّابع في نَوَاقِضِ الوُضُوء

ينتقض الوضوء بسبعة أمور: -

الأوَّل والثَّاني: خروج البول والغائط من الموضعين المعتادين، وكذا من غيرهما كما إذا كان لعارض بعد إحراز أنَّهما بول أو غائط، ولو خرج شيء من أحد الموضعين كالدود أو نوى التَّمر أو حصى المثانة ولم يكن متلطِّخاً أو ملوَّثاً بأحدهما - البول أو الغائط - فلا ينتقض الوضوء.

الثَّالث: خروج الرِّيح من محل الغائط (الدُّبر)، أو من منفذ آخر قد صار اعتياديَّاً بدله، بل الأحوط النَّقض لو كان بدله وقتيَّاً كذلك.

الرَّابع: النَّوم الغالب على العقل، ويعرف بغلبته على السَّمع والبصر، سواء وقع النَّوم حال الجلوس أو القيام أو الاضطجاع، فلو غلب النَّوم على البصر فقط وكان يسمع الأصوات فلا ينتقض الوضوء.

الخامس: كل ما يزيل العقل كالسُّكر والجنون والإغماء أو غير ذلك.

السَّادس: الإستحاضة على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله إضافة إلى الغُسل في بعض الحالات.

السَّابع: ما يوجب غسل الجنابة كالجماع أو خروج المني وإن كانت توجب الغُسل لا الوضوء لكونه مغنياً عنه.

(مسألة 317) لا ينتقض الوضوء بخروج القيح الخارج من مخرج البول أو الغائط، ولا بالدَّم الخارج منهما وإن كان الأحوط ذلك، إلاَّ إذا أحرز أن بوله أو غائطه صار دماً

ص: 155

أو مخلوطاً به كما لا ينتقض بخروج المذي والوذي والودي وقد مرَّت معاني الثَّلاثة ص74.

(مسألة 318) لا ينتقض الوضوء بما يخرج بعد استبراءه من البول أو الجنابة من البلل المشتبه به، وأمَّا إذا خرج قبل الإستبراء منهما فهو ناقض للوضوء، بل محكوم بالنجاسة أيضاً، وهذه فائدة الإستبراء كما مرَّ في أحكامها.

(مسألة 319) إذا خرج ماء الاحتقان ولم يكن معه شيء من الغائط أو غيره ممَّا في الدَّاخل لم ينتقض الوضوء إلاَّ أن يندفع بالهواء، وكذا لو شكَّ في خروج الغائط معه، إلاَّ أنَّ الأحوط إعادته.

(مسألة 320) إذا شكَّ في خروج أحد النَّواقض بنى على العدم.

ص: 156

المَبْحَثُ الخَامِس في مُسْتَحبَّات الوُضُوء

مستحبَّات الوضوء ستَّة عشر، وهي: -

1 - التَّسمية.

2 - الدُّعاء حين النَّظر إلى الماء قائلاً (بِسْمِ الله وَبِالله وَاَلحَمْدُ للهِ اَلَّذِي جَعَلَ المَاَءَ طَهُورَاً وَلَمْ يَجْعَلْهُ نَجِسَاً).

3 - وضع الإناء الَّذي يغترف منه على اليمين.

4 - غسل اليدين ويستحب أن يقول حين الغَسل بعد التَّسمية، (اللَّهمَّ اجعَلْنِي مِنَ التَّوابِين واجعَلْنِي مِنَ المُتطهِّرِين).

5 - الإستياك ولو بالإصبع، والأفضل بعود الأراك.

6 - المضمضة وهي إدارة الماء في الفم، ويستحب أن يقول حينذاك (اللَّهمَّ لَقِّنِي حُجَّتِي يَوَمَ ألقَاكَ وَأطْلِق لِسَانِي بِذِكرِكَ).

7 - الاستنشاق وهو جذب الماء بالأنف، ويستحب أن يقول (اللَّهمَّ لاَ تَحِرمْ عَلَيَّ رِيحَ الجَنَّةِ وَاجعَلْنِي مِمَّنْ يَشَمُّ رِيحَهَا وُروحَهَا وَطِيبَهَا).

8 - الاغتراف باليمنى ولو لأجل غسل اليمنى بأن يغترف بها ثمَّ يصب ماءها في اليسرى ثمَّ يغسل اليمنى بها من الماء الَّذي فيها فضلاً عن الاغتراف باليمنى لغسل اليسرى بها.

9 - الدُّعاء عند غسل الوجه ويقول (اللَّهمَّ بَيِّضْ وَجْهِي يَوَمَ تَسْوَدُّ فِيهِ اَلوُجُوهُ وَلاَ تُسَوِّدْ وَجْهِي يَوَمَ تَبْيَضُّ فِيهِ اَلوُجُوه).

10 - أن يقول حين غسل اليد اليمنى (اللَّهمَّ أَعْطِنِي كِتَابِي بِيَمِينِي وَالخُلْدَ فِي الجِنَانِ بِيَسَارِي وَحَاسبنِي حِسَابَاً يَسِيَرَاً).

11 - ويقول حين غسل اليد اليسرى (اللَّهمَّ لاَ تُعْطِنِي كِتَابِي بِشِمَالِي وَلاَ مِنْ وَرَاءِ

ص: 157

ظَهْرِي وَلاَ تَجْعَلْهَا مَغْلُولَة إِلى عُنُقِي وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ مقْطِعَاتِ النِّيرَان).

12 - ويقول عند مسح الرَّأس (اللَّهمَّ غَشِّنِي بِرَحْمَتِكَ وَبَرَكَاتِكَ وَعَفْوَك).

13 - ويقول عند مسح الرِجلين (اللَّهمَّ ثَبِّتْنِي عَلَى الصِّرَاطِ يَوَمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقَدَام وَاجْعَلْ سَعْيِي في مَا يُرْضِيكَ عَنِّي يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَام).

14 - تثنية الغسلات، مع كون الأحوط في اليد اليسرى ترك الغسلة الثَّانية.

15 - أن يبدأ الرَّجل بظاهر الذِّراع، والمرأة تبدأ بالباطن.

16 - ويكره الإستعانة في الأفعال غير الواجبة فضلاً عن الواجبة إذا كان ممَّن لا يعجزه شيء، وقد ترتفع الكراهيَّة مع الحاجة والعجز.

ص: 158

المَقْصَدُ السَّادِس في الغُسْل

وهو أسم مصدر يطلق ويراد منه شرعاً الكيفيَّة المعهودة الآتية بواجباته، والغُسل بعمومه مستحب في نفسه - وسيأتي تعداد الأغسال المستحبَّة -.

وقد يجب لنفسه لأمور تصل إلى تسعة، خمسة منها تدعى بالأحداث الكبيرة واثنان ملحقان بها واثنان ليسا بحدثين، وإنَّما يجبان بمُلزم شرعي خاص سيأتي بيانها.

أمَّا الأحداث فهي الَّتي يتوقَّف على الخلاص منها كل العبادات المشروطة بالطَّهارة، وهذه الأمور هي المسمَّاة بالأحداث الكبيرة أو ما يلحق بها كما في ضيق الوقت.

ويسمَّى الغُسل - لهذا - واجباً لغيره، وسيأتي تعداد أنواعه وبيان كل واحد منها ببيان مناسب أكثر.

والعبادات المشروطة - بالطَّهارة (الغُسل) من الحدث الأكبر وما يلحق به - هي أمور: -

الأوَّل: الصَّلاة وأجزائها المنسيَّة واجبة كانت أو مستحبَّة، أدائيَّة أو قضائيَّة، وكذا صلاة الاحتياط وسجود السَّهو عدا ما يستثنى في محلِّه.

الثَّاني: الصَّوم على تفصيل يأتي في كتاب الصَّوم - من هذه الرِّسالة - إنشاء الله تعالى.

الثَّالث: الاعتكاف لعلاقته بالصَّوم والمسجد، كما سيتَّضح.

الرَّابع: الطَّواف واجباً كان أو مستحبَّاً إذا كان الطَّائف للمستحب أراد أن يتبعه بصلاته سواء كان ذلك الطَّواف للحج أو العمرة.

كما قد يجب الغُسل - للخلاص من الأحداث الكبيرة فقط - لإباحة فعل من الأفعال الآتية، أي إن المحدث بالأكبر قبل اغتساله لا يجوز أن يفعل أموراً إلاَّ بالغُسل وهي: -

1 - مس لفظ الجلاَّلة، وهو ( الله ) جلَّ جلاله، وسائر أسمائه وصفاته الخاصَّة به.

ص: 159

2 - مس كتابة المصحف الشَّريف.

3 - دخول المسجد الحرام (مكَّة) ومسجد النَّبي 2 ولو اجتيازاً.

4 - المكث في سائر المساجد الأخرى، وأمَّا الاجتياز فيها فيجوز بأن يدخل من باب ويخرج من باب آخر، وكذا يجوز دخوله بقصد أخذ شيء منه مع الاجتياز.

5 - وضع - المحدث بالأكبر - شيئاً في المساجد بالدخول أو بغيره.

6 - قراءة آية السَّجدة من سور العزائم الأربع وهي: -

أ. سورة ألم السَّجدة آية 15.

ب. سورة فُصلِّت آية 37.

ج. سورة النَّجم آية 62.

د. سورة العلق آية 15.

(مسألة 321) لا فرق في حرمة دخول الجنب في المسجد بين المعمور والخراب وإن لم يُصلِّ فيه أحد.

(مسألة 322) من شكَّ في مسجديَّة مكان - كصحن المسجد -، فلا يجري عليه حكم المسجد.

وللغُسل واجبات وأحكام يأتي الكلام عنها في ضمن مباحث: -

المَبْحَثُ الأوَّل في وَاجِبَات الغُسْل

يجب حين الغُسل تحقُّق أمور، تسمَّى واجبات الغُسل أو شروطه، وهي نفس واجبات الوضوء، ولكن لا بأس بذكرها هنا إجمالاً وهي: -

1 - إطلاق الماء وطهارته، فلا يصح بالمضاف أو المتنجِّس.

2 - إباحة الماء، بل ومكانه ومصبُّه، فلا يصح بالماء والمكان المغصوبين.

3 - سعة الوقت، فلو كان مضيَّقاً - بحيث لو اغتسل وقع بعض صلاته أو كلُّها خارج الوقت - تبدلَّت وظيفته إلى التَّيمُّم.

4 - المباشرة كما مرَّ في الوضوء.

5 - عدم المانع من استعماله لمرض أو ضرر ونحوهما، وإلاَّ تبدلَّت وظيفته إلى التَّيمُّم.

6 - طهارة العضو قبل الغُسل في التَّرتيبي على التَّفصيل المتقدِّم في الوضوء.

ص: 160

7 - النيَّة تقربُّاً إلى الله تعالى باستمرار إلى نهاية العمل، بحيث لو سأله سائل أثناء العمل لأجابه على طبق نيَّته .

8 - الإخلاص، فلو ضم إليه الرِّياء بطل، لأنَّه من العبادات المشروطة بذلك الإخلاص.

9 - غسل ظاهر البشرة على وجه يتحقَّق به مسمَّاه، فيجب رفع الحواجب الواقعة على الأعضاء وتخليل ما لا يصل إليه الماء إلاَّ بالتَّخليل.

المَبْحَثُ الثَّاني في كَيفِيَّة الغُسْل

للغُسل بعمومه كيفيَّتان، وهما التَّرتيبي والإرتماسي، والأوَّل أفضل في الحالات الاعتياديَّة، لكن قد يتَّعين كما لو أراد أن يغتسل وهو في نهار شهر رمضان فلا يجوز له الإرتماس حينئذ لأنَّه مبطل للصَّوم حال العلم كما سيأتي، أو في حالة كون حوض الماء للغير ولا يرضى بالإرتماس،كما في بعض وقفيَّات المدارس الدِّينيَّة فيجب عليه الغسل التَّرتيبي.

وقد يتعيَّن الإرتماس كما في حالة ضيق الوقت عن التَّرتيبي إلاَّ إذا كان الحوض مغصوباً فيتعين التَّيمُّم، والكيفيَّتان هما: -

الكَيفِيَّة الأولى الغُسْل التَّرتِيبِي

وهو عبارة عن غُسل تمام الرَّأس والرَّقبة - أوَّلاً - بعد التَّوجه بالنيَّة، ثمَّ غسل تمام الطَّرف الأيمن،ثمَّ غسل تمام الطَّرف الأيسر.

فلابدَّ من رعاية التَّرتيب في هذه الكيفيَّة، فلو ترك التَّرتيب عمداً أو نسياناً أو جهلاً فغُسله باطل، كما لو قدَّم الطَّرف الأيسر على الأيمن، إلاَّ أن يتدارك التَّرتيب بأن يغسل الأيسر من جديد بعد الأيمن المغسول.

(مسألة 323) لا يعتبر في الغُسل التَّرتيبي الغُسل من الأعلى إلى الأسفل، بل يجوز العكس، كما لا يعتبر فيه كيفيَّة خاصَّة، بل يكفي المسمَّى بأيِّ استيعابيَّة حصلت في

ص: 161

الأعضاء.

(مسألة 324) الأحوط وجوباً في غُسل السُّرَّة والعورتين أن يكون مع كلا الجانبين الأيمن والأيسر.

(مسألة 325) لابدَّ في غُسل كل طرف من الأطراف من إدخال شيء من غيره من بابالمقدِّمة العلميَّة إحتياطاً حتَّى يحصل العلم بغُسل تمام الطَّرف.

(مسألة 326) لابدَّ من تحقُّق التَّرتيب بعد العلم بعدم وصول الماء إلى جزء من بدنه، فلو علم بعد غسله الطَّرف الأيمن عدم غسل الرَّأس والرَّقبة فيجب عليه الرجوع وإعادة الترتيب، وكذا لو علم بعد غسله الطَّرف الأيسر عدم غسله الطَّرف الأيمن فيرجع ويحقِّق التَّرتيب.

(مسألة 327) لو علم بعد الانتهاء من الغُسل بعدم وصول الماء إلى جزء من البدن ولا يعرف موضعه فيجب عليه إعادة الغُسل.

(مسألة 328) من شكَّ قبل إتمام الغُسل في غسل جزء من البدن فلابدَّ من أن يحقِّق التَّرتيب بإعادة غسل المشكَّوك وما بعده - كما مرَّ -، أمَّا من شكَّ بعد الإتمام فلا يعتني بشكِّه لقاعدة الفراغ.

(مسألة 329) لا تشترط الموالاة في الغُسل التَّرتيبي لغسل الأعضاء، فيجوز الفصل الطَّويل بأن يغسل رأسه في زمان ويغسل بقيَّة أعضائه في زمان آخر متأخِّر، كما في حالة انعدام بعض الماء المكمِّل للغُسل فجأة واحدة، لكن بلا أن يعتريه حدث صغير في الأثناء إحتياطاً.

الكَيفيَّة الثَّانِية الغُسْل الإِرْتِمَاسِي

وهو عبارة عن تغطيس تمام بدنه - في الماء الكثير أو القليل المستوعب لكل البدن الَّذي ليس فيه نجاسة خبثيَّة - غطسة واحدة، على نحو يتحقَّق بها غسل جميع البدن فيخلِّل شعره وما يحتاج إلى التَّخليل، ويرفع قدمه عن الأرض إن كانت موضوعة عليها، ليحرز وصول الماء إلى جميع جسمه مع مصاحبة النيَّة الواجبة أثناء الإرتماس.

ص: 162

(مسألة 330) الأحوط وجوباً أن ينوي للغُسل الإرتماسي قبل الابتداء به مقارناً لأوَّل جزء منه ويستمر بها إلى حين تغطية جميع بدنه، وهو ما إذا كان بنحو الخطور، وأمَّا بنحو الدَّاعي فهو المحرز فيه ذلك.

(مسألة 331) من كان في داخل الماء وأراد الاغتسال إرتماساً فعليه إخراج جزء من بدنه ولو قليلاً من الماء قبل الغُسل، ثمَّ يغطس فيه مرَّة أخرى بقصد ذلك الغُسل الإرتماسي إحتياطاً.

(مسألة 332) لو تيقَّن بعدم وصول الماء إلى موضع من بدنه في الغُسل الإرتماسي وجب عليه إعادة الغُسل سواء علم الموضع أو لم يعلم.

(مسألة 333) تعمُّد الإرتماس مفطِّر للصَّائم كما سيأتي، وكذلك لا يجوز للمُحرِم الإتيان به في الحج والعمرة، لأنَّه تغطية للرَّأس وهو ترك من تروك الحج والعمرة كما سيأتي، ولو نسي وارتمس فغُسله صحيح.

المَبْحَثُ الثَّاني في أَحْكَامِ الغُسْل

(مسألة 334) يجب على المرتمس قبل البدء بالإرتماس أن يطهِّر جميع بدنه، أمَّا المغتسل بالتَّرتيبي فيكفي أن يطهِّر كل عضو قبل غسله.

(مسألة 335) يجب غسل داخل ما يرى من ثقب الأذن المعد لوضع القرط (التِّرجيَّة)، وأمَّا ما لا يرى من البدن - كباطن الأنف والأذن أو ثقب الأذن نفسه إذا لم ير - فلا يجب، أمَّا لو شكَّ في أنَّه من الظَّاهر أو الباطن فالأحوط وجوباً غسله، لوجوب إحراز ما يقطع الشكَّ في ذلك إحتياطاً.(مسألة 336) يجب الفحص قبل الغُسل حين الشَّك في وجود مانع من موانع وصول الماء إلى البشرة، لكسب الاطمئنان بعدمه للعثور على بعض الموانع، بسبب بعض الغفلات، ولا تظهر إلاَّ بالفحص.

(مسألة 337) الشَّعر إن كان يُعد من توابع البدن - كالقصير - يجب غسله وخصوصاً إذا كان كثيفاً لعدم السَّيطرة عليه لو ترك، أمَّا ما كان خفيفاً فأمر السَّيطرة عليه

ص: 163

أهون في وصول الماء إليه وإن ترك، أمَّا ما لا يُعد من توابعه (كالطَّويل) فلا يجب.

(مسألة 338) لو أحدث أثناء سائر الأغسال التَّرتيبيَّة بالحدث الأصغر فالأحوط وجوباً إتمامه وإعادة الغُسل بقصد ما في ذمته والإتيان بالوضوء بعده.

(مسألة 339) لو أحدث بالأكبر في أثناء الغُسل، فإن كان مماثلاً للحدث السَّابق - كالجنابة في أثناء غُسلها، أو مسِّ الميِّت في أثناء غُسله - فلا إشكال في وجوب الاستئناف، وإن كان مخالفاً له - كالجنابة في أثناء غُسل المس - فالأحوط له إتمام الغُسل برجاء احتمال أن واجبه الإتمام، ثم إعادة الغُسل بقصد ما في الذمة.

(مسألة 340) إذا اغتسل باعتقاد سعة وقت ما يشترط له الغُسل - كالصَّلاة - ثمَّ انكشف ضيقه إلاَّ بمقدار الاغتسال مع ركعة واحدة من الصَّلاة فغسله صحيح ويدرك صلاته بمقدار ما وصل إليه، وإن كان الوقت أقل من ذلك فغُسله باطل على المشهور، وعليه الإعادة مع قضاء الصَّلاة.

(مسألة 341) إذا اجتمعت عليه أغسال واجبة متعدِّدة كالجنابة ومسِّ الميِّت كفى غسل واحد بنيَّة المجموع للكون على الطَّهارة، وكذا إذا نوى غُسل الجنابة كفى عن الجميع، ولا تُغني هذه الأغسال المتعدِّدة عن الوضوء إلاَّ إذا كان معها غسل الجنابة - كما سيأتي.

(مسألة 342) لو شكَّ المكلَّف في أنَّه اغتسل من الحدث أم لا بنى على العدم واغتسل، أمَّا لو اغتسل وشكَّ بعده في صحَّته بنى على الصحَّة لأنه بعد الفراغ.

(مسألة 343) إذا شكَّ في الغُسل بعد الفراغ من الصَّلاة فإن كان شكُّه بعد انتهاء وقتها فلا يجب عليه إعادة الصَّلاة قضاء، بل يغتسل للصَّلوات الآتية، وإن كان شكُّه في داخل وقتها فالأحوط وجوباً إعادة غسله وصلاته.

(مسألة 344) إذا اعتقد المحدث بالأكبر بأنَّه اغتسل فدخل في الصَّلاة، ثمَّ شكَّ في أثنائها، هل أنَّه اغتسل ؟ أم لا وجب عليه الاغتسال وإعادة الصَّلاة من جديد، إذا كان شكُّه اعتياديَّاً لا عن وسوسة.

ص: 164

(مسألة 345) لو دخل إلى حمام السُّوق للاغتسال من الحدث وكان قاصداً عدم دفع الأجرة لصاحب الحمَّام - أو قاصداً تأجيل الثمَّن مع عدم علمه برضاه - فغُسله باطل وإن استرضاه بعد ذلك.

(مسألة 346) لو طلب المحدث تأجيل الثمَّن مع قصده عدم دفعها ورضي صاحب الحمَّام بالتَّأجيل واغتسل فغسله باطل، إلاَّ إذا علم بذلك، وكذا لو قصد دفعها من المال الحرام أو من مال غير مخمَّس على الأحوط وجوباً.

ص: 165

المَقْصَدُ السَّابع مُوجِبَات الغُسْلِ وَأَحْكَامُهَا من أَحْدَاث وغيرها

الأحداث الَّتي توجب الاغتسال منها تسعة وهي: -

1 - الجنابة 2 - الحيض 3، 4 - الإستحاضة الكبرى والوسطى

5 - النَّفاس 6 - غُسل الميِّت 7- غُسل مسِّ الميِّت.

وسنتعرَّض لإحكام هذه الأحداث كلاً على إنفراد وفي مباحث.

8- الغُسل الواجب بالنَّذر وشبهه

9- غُسل من فاتته صلاة الآيات عمداً منه مع احتراق تمام القرص على الأحوط وجوباً.

فالجنابة والحيض والنَّفاس والميِّت والمس له تدعى بموجبات للغُسل، لكونها أحداث كبيرة لا تصح العبادات المشروطة بالطَّهارة إلاَّ بالاغتسال منها، وكذا لا يجوز الممارسة لأمور اختصَّت بستة مرَّت ص 159 ، 160، إلاَّ به ما عدا حدث المس فهو أخف من وطأة غيره من الأحداث الكبيرة في بعض الممنوعات الستَّة كما لا يخفى.

والاستحاضة الكبرى والوسطى فهما حدثان صغيران ملحقان بالكبيرة في أحكامها وممنوعاتها إلاَّ بالاغتسال وما يلحق به كما سيأتي.

والغُسل المنذور وما يشبهه من العهد واليمين وما وجب لمن فاتته صلاة الآيات عمداً فهما ليسا واجبين لحدثيَّة، وإنَّما لعارض شرعي فقط ألزم المكلَّف نفسه به بدون أيِّ سبب طبيعي أو عادي.

ص: 166

المَبْحَثُ الأوَّل الجَنَابَة وَأَحْكَامُهَا

الجنابة شرعاً هي البُعد أو الابتعاد عن الطَّهارة بسبب أحد موجباتها كما سيجيء، وهي من الأحداث الكبيرة، ويتعلَّق الكلام عنها وعن أحكامها في فصول: -

الفَصْلُ الأوَّل في أَسْبَابِ غُسْلِ الجَنَابَة

وهي أمران، وهما: -

الأوَّل: خروج أو إخراج المني من الموضع المعتاد إلى خارج الجسد، سواء كان اختياراً أو اضطراراً، وسواء كان في اليقضة أو النَّوم، قليلاً أو كثيراً وبالصُّورة المباحة أو غيرها، فلو تحرَّك عن محلِّه ولم يخرج لا يجب الغُسل كما سيجيء، وكذا يلحق بهذا السَّبب خروجه من غير الموضع المعتاد - كثقب أو منفذ للخروج مستحدث بإجراء عمليَّة أو تكوينيَّاً - بشرط أن يصدق عليه الإنزال والإمناء، وإلاَّ فعليه الجمع بين الغُسل والوضوء لو كان محدثاً بالأصغر إضافة إلى ما حدث من ذلك.

(مسألة 347) علامة المني في الرَّجل السَّليم اجتماع ثلاثة أمور: -

1- الشَّهوة 2- الدِّفق 3- فتور الجسد حين خروجه

ومع انتفاء واحد منها لا يحكم بكونه منياً، وإن كان الأحوط استحباباً مع عدم اجتماع الثَّلاثة - كلِّها بل بعضها - الغُسل والوضوء إذا كان مسبوقاً بالطُّهارة، إلاَّ المريض فلا يعتبر فيه الدِّفق، بل يكفي الشَّهوة والفتور وإن كان في الأخير محل تأمُّل، لأنَّ الفتور قد يعتري المريض أحياناً.

أمَّا النِّساء فالدِّفق غير معتبر فيهن أيضاً وإن لم يكنَّ مريضات، بل يعرف مني المرأة من وصول هيجانها وشهوتها الجنسيَّة حدَّ الذروة، فإن خرج وكانت محدثة بالحدث الأصغر وجب - على الأحوط - الجمع بين الغُسل والوضوء، وإلاَّ فعليها الغُسل فقط.

ص: 167

وإن لم يحصل لها شهوة وخرجت منها رطوبة مشتبه فيها فلا شيء عليها وإن كان الأحوط لها استحباباً الاغتسال.

هذا كلُّه فيما لو لم يكن معها عمليَّة الجماع، وأمَّا لو كان ذلك معها فالحدث ثابت والغُسل واجب كما سيجيء.

(مسألة 348) لو خرجت رطوبة من السَّليم وعلم بوجود إحدى العلامات الثَّلاث فيه كالشَّهوة وشكَّ في وجود البقيَّة، فإن لم يحدث بالحدث الأصغر وجب عليه الغُسل لعدم احتمال وجود تلك العلامة في كونها من الحدث الأصغر، وإنَّما هي من الأكبر على الاحتمال - على الأحوط - وإلاَّ فيأتي بالوضوء بعد الغُسل إحتياطاً.

(مسألة 349) لو خرج المني على غير صورته المتعارفة لمرض - مثلاً - كاصفراره، فإذا علم أنَّه مني وجب عليه الغُسل، وأمَّا مع الشكَّ في كونه منياً فلا يجب.

الثَّاني: الجماع وإن لم ينزل، ويتحقَّق بدخول الذَّكر - ولو بمجرَّد الحشفة إن كانت سليمة، أو مقدارها من الذَّكر إن كانت مقطوعة - في قبل المرأة فيجب الغُسل، والأحوط إلحاق بعضالحشفة في صدق الجماع كذلك.

(مسألة 350) يجب الغُسل حالة وطئ دبر المرأة أو الرَّجل أو البهيمة على الأحوط، مع إضافة الوضوء إن كان محدثاً بالحدث الأصغر قبل الغُسل إحتياطاً كذلك.

(مسألة 351) لا فرق في تحقُّق الوطء بين الكبير والصَّغير والفاعل والمفعول والميِّت والحي والعاقل والمجنون والمختار وغيره، إلاَّ أنَّ الصَّغير والميِّت والمجنون والمغتصب لا إثم عليهم إذا فعل فيهم ذلك وإن تحققَّت الجنابة في بعضهم وحسن تأديب الصَّبي والصَّبيَّة، بل قد يلزم التَّعزير لهما لو كان عن قرب من البلوغ، بل حتَّى الأقل من ذلك من حالات التَّمييز لو انتفى التَّأثير فيهما بمجرَّد النُّصح لو اختارا ذلك، بل حتَّى المجنون في بعض أدواره، بل لو فعل المجنون نفسه ذلك رتِّب شرعاً عليه بعض حالات الحدِّ وغيره كما سيأتي في محلِّه.

(مسألة 352) يجب الغُسل حالة وطئ دبر الخنثى المشكل اعتياديَّاً ولو إحتياطاً - كالوطء في قبلها - ، سواء حصل إنزال للمني أم مجرَّد الإدخال، فضلاً عمَّا لو كانت غير

ص: 168

مشكل، لكونها ممَّن يلحق شرعاً بالإناث بالإمكان المعقول ولو احتمالاً على الأحوط.

وأمَّا غير المشكل ممَّن يلحق شرعاً بالذُّكور فلا تتحقَّق الجنابة من القبل بمجرَّد الدُّخول إلاَّ مع مصاحبته بنزول المني من قبل الواطئ، وأمَّا خصوص الموطوءة المشكل فيلزمها رعاية الاحتياط وإن لم تنزل للعلم الإجمالي بتوجُّه تكاليف الرِّجال والنِّساء إليها لكونها لم تفحص مثلاً لتعرف من أيِّ جنس كانت، بل يجب عليها حتماً لو كانت ملحقة بالإناث شرعاً.

وأمَّا حالة إلحاقهنَّ الشَّرعي بالرِّجال فليس له علاقة بالجنابة، إلاَّ فيما ذكرناه من اللَّواط بالدُّبر، لأنَّ القبل فيه شكلي لو ثبت تعطُّل عضوه حسب الفحوص أنثويَّاً وكان لم ينزل منه ماؤه المتعارف جنسيَّاً فلا جنابة عليه، إلاَّ بنحو احتياطي استحبابي ومع إنزال تلك الخنثى بالصُّدفة غير المتوقَّعة ماء فعليها الاغتسال وجوباً لانكشاف أنوثتها.

(مسألة 353) لو خرج ما يشبه المني ممتزجاً بشيء من الدَّم، فإن علم أنَّه مني قبل ابيضاضه وجب الغُسل وإلاَّ فلا.

الفَصْلُ الثَّاني في أَحْكَامِ غُسْلِ الجَنَابَة

(مسألة 354) لو وجد في لباسه أو بدنه منياً وعلم أنَّه منه ولم يغتسل فيجب عليه إعادة الصَّلوات الَّتي علم إتيانها بعد حصول ذلك المني أداءاً أو قضاءاً - بعد الغُسل -، وأمَّا في حالة شكَّه بإتيانها بعد ذلك المني فلا يجب عليه شيء.

(مسألة 355) يجوز للرَّجل مقاربة زوجته ووطؤها بعد دخول وقت الصَّلاة وإن لم يقدر على الغسل لحاجته، فيكون حكمه حينئذ التَّيمُّم بدل الغُسل، إلاَّ إذا لم يتمكَّن حتَّى من التَّيمُّم فلا يجوز، بخلاف الوضوء فلا يجوز له إبطال الوضوء بعد دخول الوقت - كما مرَّ -.

(مسألة 356) لو شكَّ في تحقُّق الدُّخول لا يجب عليه الغُسل.

(مسألة 357) إذا تحرَّك المني عن محلِّه بالاحتلام ولم يخرج إلى الخارج فلا يجب عليه الغُسل.

ص: 169

(مسألة 358) غُسل الجنابة يُغني عن الوضوء حتماً دون سائر الأغسال الواجبة والمستحبَّة احتياطاً ، إلاَّ إذا حصلت حالة الجنابة وحصل الغُسل وكانت قد نويت تلك الأغسال الأخرى أو بعضها تابعة لغُسل الجنابة بنحو الضمينة، أو كان غُسل الجنابة منضمَّاً إلى الأغسال الواجبة.

الفَصْلُ الثَّالِث فيمَا يُكْرَه ويُسْتَحَبُّ لِلمُجْنِب فِعْلُه

(مسألة 359) يكره للمجنب فعل أمور، وهي:

1-2 - الأكل والشُّرب إلاَّ بعد الوضوء أو غَسل اليدين والمضمضة وغَسل الوجه.

3- قراءة ما زاد على سبع آيات من غير سور العزائم، والأحوط استحباباً عدم قراءة شيء من القرآن ما دام جُنباً.

4 - مسُّ ما عدا كتابة القران من جلده وحاشيته وبين الخطوط بأيِّ جزء من بدنه.

5 - حمل القرآن.

6 - النَّوم إلاَّ بعد الوضوء أو التَّيمم إن لم يجد ماء بدلاً عن الغُسل.

7 - الخضِّاب بالحنَّاء وغيرها رجلاً كان الفاعل أو امرأة.

8 - التَّدهين.

9 - الجماع بعد الاحتلام، وترتفع بعض الكراهيَّة بالبول قبل ذلك الجماع وكمالاً بالاغتسال.

(مسألة 360) يستحب للمجنب فعل أمور قبل الاغتسال، وهي: -

1 - الإستبراء من المني بالبول قبل الغُسل، لحصول الاطمئنان بنقاء المجاري الخاصَّة من بقايا المني - كما مرَّ - في الإستبراء من البول، فإن خرجت رطوبة بعد الغُسل - وبعد الإستبراء بالبول - وشكَّ في أنَّها مني أو بول حكم بالطَّهارة ولا شيء عليه، أمَّا لو لم يستبرء وخرجت رطوبة مشتبهة فهي بحكم المني وعليه الاغتسال.

أمَّا لو استبرأ ولم يخرج منه بول فيكفي الاطمئنان بعدم بقاء المني الإستبراء بالخرطات التسعة - المارَّة في بيانها - ولا شيء عليه.

ص: 170

2 - غسل اليدين ثلاثاً إلى المرفقين، أو إلى نصف الذِّراع، أو إلى الزَّندين.

3 - المضمضة والاستنشاق بعد غَسل اليدين ثلاث مرَّات ويكفي مرَّة أيضاً.

4 - أن يكون ماؤه في التَّرتيبي بمقدار صاع (ثلاث كيلوات وستمائة غرام تقريباً).

5 - إمرار اليد على الأعضاء لزيادة الاستظهار.

6 - تخليل الحاجب غير المانع.

7 - غسل كل من أعضاء الجسم الثَّلاثة ثلاثاً.

8 - التَّسمية.

9 - الدُّعاء بالمأثور حال الاشتغال، وهو (اللَّهمَّ طَهِّرْ قَلَبِي وَتَقَبَّلْ سَعْيي وَاجْعَلْ مَا عِنْدَكَ خَيرَاً لي، اللَّهمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطهِّرِين).

أو يقول (اللَّهمَّ طَهِّرْ قَلَبِي وَاشْرَحْ صَدَرِي وَأَجْرِ عَلَى لِسَانِي مِدْحَتَك وَالثَّنَاءَ عَلَيْكَ، اللَّهمَّ اجْعَلْهُ لي طَهُورَاً وَشِفَاءَاً وَنُورَاً، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير)، ولو قرأ هذا الدُّعاء بعد الفراغ أيضاً كان أولى.

10 - الموالاة والابتداء بالأعلى في كل عضو من الأعضاء في التَّرتيبي.

ويكره عند الاغتسال الإستعانة بالغير في المقدِّمات.

ص: 171

المَبْحَثُ الثَّاني الحَيْضُ وَأَحَكَامُه

الحيض لغة هو السَّيل، وشرعاً هو الدَّم الَّذي يقذفه رحم المرأة البالغة بطبيعتها إلى الخارج في كل شهر أيَّاماً مخصوصة حسب عادتها وإن كان قليلاً، لكن لا يقل عن ثلاثة أيَّام.

وتسمَّى هذه الأيَّام ب- (الدَّورة أو العادة الشَّهريَّة) - وسيأتي بيان كيفيَّة معرفتها -.

وهذا الحدث يعتبر من الأحداث الكبيرة الَّذي يشترك مع الجنابة في جملة من الأحكام، فيجب الغسل عند انقطاع هذا الحدث (الدَّم)، ويسمَّى ب- (غسل الحيض).

وقد تعرضنا إلى أكثر مسائل هذا الحدث وبقيَّة الأحداث الَّتي تخص النساء في كتابنا (دليل المرأة المسلمة)، وكما أنَّ هناك حواريَّة بين الأم وابنتها - تخص هذه الأحداث نظَّمها بعض المؤمنين (وفَّقهم الله تعالى لمراضيه) مع إرشاداتنا في تنسيق الأجوبة وتعديل الأسئلة وبعض الإضافات - طبقاً لفتاوانا لابدَّ أن تجد المرأة المسلمة فيها ضالَّتها بإذن الله على اختصارها.

وفي هذه الرِّسالة نتعرَّض لجملة وافية من مسائل (الحيض)، وكذا بقيَّة الأحداث التي تتعلَّق بالنِّساء - تعميماً للفائدة وللمناسبة المناسبة للمقام - في فصول: -

الفصل الأوَّل في أوصاف الحيض

(مسألة 361) دم الحيض في الغالب أسود أو أحمر غليظ حار يخرج بحرقة ودفع، وهذه الصِّفات مع الشَّرائط - الآتية - تعتبر كقواعد أساسيَّة في تمييز حالة المرأة كما سيتَّضح من خلال بيان المسائل الآتية.

(مسألة 362) الأظهر إجراء أحكام الحائض فيما إذا انصبَّ الدَّم من الرَّحم إلى فضاء الفرج ولم يخرج منه، إلاَّ أنَّ الأحوط وجوباً الجمع بين أحكام الطَّاهر والحائض

ص: 172

لعدم خروج الدَّم إلى الخارج حتَّى يلتزم بالوظيفة الخاصَّة فقط.

(مسألة 363) الدَّم الخارج من فرج المرأة على أقسام، فلابدَّ من تمييزه لرفع الاشتباه إن حصل وهي: -

الأوَّل: دم العادة الشَّهريَّة وهو (دم الحيض)، وقد تقدَّمت أوصافه، وعند الاشتباه وفقد الأوصاف تختبر نفسها بما سيأتي إن شاء الله .

الثَّاني: دم يخرج من الباطن ليس بحيض ولا نفاس ولا بكارة ونحوها، ويسمَّى (استحاضة).

الثَّالث: دم يخرج حال الولادة ويسمَّى ب- (دم النَّفاس).

الرَّابع: دم يخرج بسبب افتضاض البكر ويسمَّى ب- (دم البكارة أو العذرة) ويلحق به دم الجرح أو القرح بسبب إجراء عمليَّة جراحية لرحم المرأة، ولا شيء على المرأة في هذا الحال سوى إحراز طهارة موضع الدَّم بتطهيره بعد انقطاع ذلك الدَّم.

ولكل من الثَّلاثة الأُول أحكام تخصُّه يأتي بيانها في محلِّها.(مسألة 364) يجتمع الحيض مع الحمل إن تحقَّقت صفاته أو كان في أيَّام عادتها وإن لم تتحقَّق كلُّها - وإن كان اجتماعه مع الحمل نادراً - وإن لم يكن من الحيض في جميع علاماته يعتبر استحاضة، وكذلك يجتمع الحيض مع الإرضاع وهنا يكون اجتماعه أكثر وبالأخص إذا قلَّ الإرضاع تكويناً أو قللَّته المرضعة برغبتها أو مجَّه الطِّفل لأسباب أخرى.

(مسألة 365) إذا شكَّت المرأة في الخارج منها في أنَّه هل هو دم أو لا ؟، أو علمت أنَّه دم لكن لا تدري أنَّه خرج من رحمها أو من غيره ؟، فلا تجري عليها أحكام الحيض ولا شيء عليها، وإن حسن منها الاحتياط في بعض الأمور مع الإمكان إلى حين انكشاف الواقع.

(مسألة 366) لو خرج دم من رحم المرأة حال افتضاض بكارتها أو إجراء عمليَّة جراحيَّة في رحمها وأشتبه عليها هذا الدَّم في أنَّه حيض أو بكارة ونحوه حيث كانت فاقدةً في فترة من الفترات مثلاً لصفات الحيض - المتقدِّمة الذِّكر -؟، فيجب أن تختبر نفسها بإدخال

ص: 173

قطنة في موضعها وتركها فيه مليَّاً ثمَّ تخرجها برفق، فإن كانت مطوَّقة بالدَّم فهو بعدُ دم بكارة وعذرة، وإن كانت مستنقعة فهو حيض.

(مسألة 367) لو تعذَّر عليها الاختبار المذكور لسبب من الأسباب رجعت إلى حالتها السَّابقة فإن كانت حيضاً بنت عليه، وإن لم تكن أو كانت جاهلة بها فعليها الاحتياط بالجمع بين أفعال الطَّاهرة وتروك الحائض، بأن تؤدِّي صلاتها وصيامها، وتترك ما يحرم عليها كالمكث في المساجد ومسِّ القرآن وغيرهما من الأمور الآتية في محلِّها.

(مسألة 368) لو اشتبهت بالدَّم الخارج منها في أنَّه حيض أو قرح ؟، فالأحوط لها الجمع بين أفعال الطَّاهرة وتروك الحائض.

(مسألة 369) لو اشتبهت بالدَّم الخارج من رحمها في أنَّه حيض أو استحاضة فإن كان بصفات الحيض فهو حيض سواء كان في أيَّام عادتها أو لم يكن كما إذا كانت مضطربة أو كانت عادتها عدديَّة فقط، وإن لم يكن بصفات الحيض ولم يكن في أيَّام عادتها فهو استحاضة وسيأتي تفصيل ذلك.

الفَصْلُ الثَّاني في شَرَائِطُ تَحَقُّقِ الحَيْض

يعتبر في تحقق الحيض توفر أمور خمسة: -

1- أن تكون المرأة بالغة، ويتحقق بلوغها بإكمال تسع سنين هلاليَّة، فلو رأت الدَّم

قبله ولو بلحظة لا يجري عليه أحكام الحيض وإن كان فيه صفاته سواء كانت قرشيَّة أم لا، والمشكَّوك في بلوغها يحكم بعدمه.

2- أن لا يتجاوز عمرها سن اليأس وهو ستِّين سنة إن كانت قرشيَّة، وخمسين إن كانت غير قرشيَّة، وفي حال الشَّكَّ بكونها قرشيَّة فإن كان خروجه في أيَّام عادتها وبصفات الحيض فهو حيض، وإلاَّ فالأحوط وجوباً الجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة، كما سيأتي بيانها.

3- أن يستمر خروج الدَّم ثلاثة أيَّام استمراراً عرفيَّاً ولو في باطن الفرج على الأحوط، فلا يضر انقطاعه في فترات وجيزة لا تتجاوز الحد المألوف للنِّساء.

ص: 174

(مسألة 370) ليلة اليوم الأوَّل والرَّابع خارجتان عن حكم الحيض، ويبقى حكمها في الليلتين المتوسطتين، فلو رأت الدَّم في أيِّ ساعة من النَّهار - مثلاً - يستمر إلى نفس تلك الليلة من نهار اليوم الرَّابع فقط بحيث إذا دخلت لم تحسب منه.4- أن لا يتجاوز استمرار خروج الدَّم عن عشرة أيَّام، فإذا استمرَّ فلا يكون حيضاً من ابتدائه، إلاَّ إذا كان بصفة الحيض ويكون الزَّائد استحاضة، وعليه تكون أيَّام العشرة الأولى أو بعضها من الإستحاضة مع عدم الاتِّصاف بصفات الحيض، كما في العادة العدديَّة، لا الوقتيَّة الآتية أو المبتدئة أو المضطربة كما سيجيء.

(مسألة 371) لو رأت الدَّم ثلاثة أيَّام وانقطع ثمَّ رأته يوم العاشر ولم يتجاوز عن اليوم العاشر فمجموع الدَّم والنَّقاء المتخلِّل يكون بحكم الحيض.

5- أن لا يكون نقاءها من الدَّم بين الحيتين - إن حصل - أقل من عشرة أيَّام، وهي ما يسمَّى بأقل الطُّهر، والأحوط استحباباً في حالة انقطاعه بأقل من هذا المقدار العمل بتروك الحائض وأعمال المستحاضة الآتي بيانها.

الفَصْلُ الثَّالث في أَحْكَامِ المُبْتَدِئَة

هناك أحكام خاصَّة تتعلَّق بالمرأة المبتدئة بالحيض - وقبل أن تصبح ذات عادة - ينبغي بيانها قبل الدخول بأقسام العادة وأحكامها، لما في ذلك من منافع مهمَّة، فنقول: -

المبتدئة وهي (الَّتي ترى الدَّم لأول مرَّة في حياتها من محلِّها الخاص) فلابدَّ لها أن تتحقَّق من توفر صفات وشرائط الحيض الَّتي مرَّت آنفاً، وإلاَّ تتَّبع أحكام المستحاضة.

(مسألة 372) لو تجاوز العشرة أيَّام وكان كلُّه بصفات الحيض فلابدَّ أن ترجع في وظيفتها إلى عادة أقربائها من النِّساء عدداً ووقتاً - إن اتَّفقن - فتجعلها حيضاً والزَّائد استحاضة، وإن اختلفن - في العدد والوقت - أو لم يوجد لها أقارب فلها أن تتحيَّض بستَّة أو سبعة أيَّام في كل شهر إن استمرَّ عندها إلى أن يستقر، إلاَّ أن الأحوط وجوباً اختيار

ص: 175

السَّبعة أيَّام.

(مسألة 373) لو اختلف لون الدَّم عندها في فترات خروجه - كما لو خرج فترة من الزَّمن بلون الحيض وأخرى بلون الإستحاضة - فتجعل ما بصفات الحيض حيضاً إن توفرت شرائطه الماضية، وما بصفات الإستحاضة استحاضة، وإلاَّ تجعل الدَّم كلَّه استحاضة، لأنَّها مبتدأة وقد لا تكون مكلَّفة بعدُ.

(مسألة 374) لو اختلفت صفات الدَّم في فترات خروجه - كما لو خرج فترة من الزَّمن لونه أسود وأخرى أصفر وأخرى حارَّاً - فتجعل ما يغلب عليه صفات الحيض حيضاً وإلاَّ فيعتبر استحاضة.

الفَصْلُ الرَّابِع في عَادَةِ الحَائِضِ وَأَقْسَامُهَا

لو تكرَّر خروج الدَّم (الحيض بصفاته) من المرأة - المبتدئة أو المضطربة - مرَّتين متماثلتين - أصبحت ذات عادة مستقرَّة، وهي على أقسام: -

الأوَّل: ما لو تماثلت مرَّتين في الوقت والعدد معاً، بأن ترى المرأة الدَّم - مثلاً - في أوَّل كل من الشَّهرين أو في وسطهما أو في آخرهما ستَّة أيَّام، وهذه لابدَّ وأن تتحيَّض بمجرَّد رؤية الدَّم في موعده - في الأشهر اللاحقة - وإن لم يكن بصفات الحيض في بعض الحالات كالمرض، وتسمَّى بذات عادة وقتيَّة وعدديَّة.

الثَّانية: ما لو تماثلتا في الوقت فقط، بأن ترى المرأة الدَّم في كل شهر وقتاً واحداً كأوَّله فقط أو وسطه كذلك أو آخره مستمرَّاً باختلاف في العدد، وهذه تتحيَّض برؤية الدَّم - حتَّى لوتقدَّمت رؤيته على الوقت بيوم أو يومين أو تأخَّرت كذلك -، سواء كان الدَّم واجداً لصفات الحيض أم لا في بعض الحالات، بشرط أن لا يقل عن ثلاثة أيَّام، وتسمَّى بذات عادة وقتيَّة فقط.

الثَّالثة: ما لو تماثلتا في العدد فقط، بأن ترى المرأة الدَّم في كل شهر عدداً واحداً مع اختلاف الوقت فيه - فمثلاً خمسة أيَّام في أوَّل شهر أو خمسة في وسطه أو مثلها في آخره -، فهذه تتحيَّض بمجرَّد رؤية الدَّم بصفاته المتقدِّمة، وإن كان فاقداً لصفاته تتحيَّض بعد ثلاثة

ص: 176

أيَّام، والأحوط وجوباً في الأيَّام الثَّلاثة الجمع بين أحكام الحائض والمستحاضة الآتي بيانهما، وتسمَّى بذات عادة عدديَّة فقط.

(مسألة 375) لو رأت الدَّم من أيَّام عادتها ثلاثة أيَّام - مثلاً - ثمَّ انقطع ثمَّ رأته ثلاثة أيَّام أخرى أو أزيد فإن كان المرئي الثَّاني واجداً للصِّفات أو كان أحدهما واجداً والآخر كان في أيَّام العادة، وان لم يكن واجداً لها وكان مجموع الدَّمين والنَّقاء الَّذي بينهما عشرة أيَّام أو أقل كان الكل حيضاً حتَّى النَّقاء المتخلِّل بينهما فيجب - مثلاً - قضاء الصَّوم لو صامت في هذا النَّقاء.

أمَّا لو لم يكونا معاً واجدين للصِّفات أو كان أحدهما واجداً لها ولكن لم تكن الأيَّام أيَّام عادة فيكون الفاقد للصِّفات دم استحاضة، هذا كلُّه في حالة عدم تجاوز الدَّمين والنَّقاء عشرة أيَّام.

فإن تجاوز المجموع العشرة فإن تخلَّل بين الدَّمين أقل الطُّهر - وهو عشرة أيَّام - كان كل من الدَّمين حيضاً مستقلاًّ إذا كان كلٌّ منهما في العادة أو واجداً للصِّفات أو كان أحدهما في العادة والآخر واجداً للصِّفات مع اشتراط كون كل من الدَّمين المرئيين ثلاثة أيَّام على الأقل، إذ فاقد الصِّفات في غير أيَّام العادة استحاضة.

وإن لم يتخلَّل بينهما أقل الطهر جعلت ما في عادتها حيضاً والآخر استحاضة، وإذا لم تعرف أيَّام عادتها جعلت الواجد للصِّفات حيضاً والفاقد استحاضة، ومع التَّساوي جعلت الحيض أوَّل زمان رؤية الدَّم.

الفَصْلُ الخَامِس في أَحْكَامِ المُضْطَرِبَة

وهي من لم تستقم لها عادة لا وقتاً ولا عدداً، بأن كانت سابقاً منتظمة ثمَّ اضطربت، بسبب بعض العوارض الطَّارئة عليها - كمن ترى الدَّم في خمسة أيَّام من العشرة الأولى في شهر، ثمَّ رأته أربعة أيَّام في العشرة الأخيرة من شهر آخر، ثمَّ رأته سبعة أيَّام في العشرة الوسطى من الشَّهر الثَّالث وهكذا، واستمرَّ هذا الاضطراب - فحكمها حينئذ حكم المبتدئة، إلاَّ أنَّ الفرق بينهما أنَّ المضطربة تختبر حالتها أوَّلاً بالصِّفات

ص: 177

والشَّرائط - المتقدِّمة - فإن لم يكن الدَّم واجداً لهما فتتحيَّض بسبعة أيَّام على الأحوط وجوباً، والمبتدئة - الَّتي لم تره سابقاً حتَّى تكون لها عادة - ترجع إلى عادة أقاربها أوَّلاً ثمَّ مع عدم الإمكان فإلى العدد وهو السَّبعة كما مرَّ.

الفَصْلُ السَّادس في أَحْكَامِ نَاسِيةِ العَادَة

ناسية العادة الشَّهريَّة على حالات ثلاث، وهي: إمَّا ناسية للعدد فقط، أو للوقت فقط، أو للعدد والوقت كليهما.

الأولى: وهي الَّتي تعرف وقت عادتها ولكن لا تدري - مثلاً - أنَّها ثلاثة أيَّام أو أربعة أيَّام أو خمسة أو أكثر، فحكمها أن ترجع إلى صفات الحيض، فإن كان واجداً له في كل الأيَّام بشرط أن لا تتجاوز العشرة اعتبرت الكل حيضاً، وإن تجاوز حيضها العشرة أخذت بأكثر الاحتمالاتمن عدد عادتها، كما إذا احتملت ما بين الخمسة أيَّام أو الستَّة أو السَّبعة فتجعل حيضها سبعة أيَّام والزَّائد استحاضة.

الثَّانية: وهي الَّتي تعرف عدد أيَّام حيضها ولكن نسيت وقته في أنَّه هل هو في أوَّل الشهر - مثلاً - أو وسطه أو آخره ؟، وخرج الدَّم حال احتمالها أنَّ بعض هذه الأيَّام كان يصادف أيَّام حيضها فحكمها كالحكم السَّابق فيما لم يتجاوز العشرة وكان بصفات الحيض فهو حيض حينئذ.

أمَّا لو لم يكن عندها واجداً للصِّفات فيجب عليها الاحتياط في جميع الأيَّام الَّتي رأت الدَّم فيها بالجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة.

وكذلك يجب عليها الاحتياط لو تجاوز - عند هذه النَّاسية - الدَّم الأكثر من العشرة ولم يكن بمقدورها تحديد أيَّام حيضها ولو بالقرائن، وإن لم يكن بصفات الحيض لكونها قد تكون مريضة.

أمَّا لو لم تكن النَّاسية للوقت تحتمل مصادفة أيَّام الحيض خلال رؤيتها للدَّم فيجب عليها إن رأته ولم يكن بصفات الحيض أن تعمل - في كل الأيَّام - عمل المستحاضة حتَّى لو تجاوز خروج دمها العشرة، وفي حال تجاوزه ووجدانه للصِّفات تجعل عدد أيَّام عادتها

ص: 178

حيضاً والباقي استحاضة.

وإن كان متجاوزاً العشرة وكان مختلفاً في ألوانه - بأن كان في فترة بصفة الحيض وفي فترة أخرى بصفة الإستحاضة - فحكمها أن تعتبر ما بصفة الحيض حيضاً - بشرط أن لا يقل عن ثلاثة أيَّام ولا يزيد على عشرة -، وما بصفة الإستحاضة استحاضة.

الثَّالثة: وهي الَّتي لا تعرف وقت عادتها ولا عددها، وهذه حكمها كسابقتها، فلو خرج الدَّم وكان واجداً لصفات الحيض تجعله حيضاً - بشرط أن لا يزيد على العشرة -، بلا فرق بين احتمالها بمصادفة رؤية الدَّم لوقت عادتها الاعتيادي وعدمه، فإن تجاوز العشرة وكان بصفة الحيض وكانت لا تحتمل مصادفته لأيَّام عادتها الطَّبيعية فحكمها أن تأخذ بأكثر الاحتمالات وتجعله حيضاً والزَّائد استحاضة، وإن كانت تحتمل مصادفة الحيض لعادتها فيجب عليها أن تحتاط في تمام مدَّة خروج الدَّم بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة.

الفَصْلُ السَّابع في اِسْتِبَراء الحَائِضِ وَاِسْتِظَهَارُهَا

مرَّ الكلام حول الإستبراء في أحكام التخلِّي بخصوصه، وكذلك في أحكام المجنب، أمَّا الحائض ففيها أمران هما الاستظهار والإستبراء.

أمَّا الاستظهار فهو معرفة حالها وما عليها من الأحكام حين اضطرابها أو نسيان عادتها بواسطة الصِّفات والعدد وقد بيَّنَّا بعض الحالات.

والإستبراء هو اختبار حالها في حالة انقطاع الدَّم ظاهراً واحتمال بقاءه في رحمها، فيجب عليها الإستبراء إذا لم تتمكَّن من الاحتياط حال تركها الإستبراء.

ويتحقَّق استبراءها بإدخال قطنة في داخلها إن كانت ثيِّباً أو تقريبها من موضع الدَّم جيِّداً إن كانت بكراً، فإن خرجت ملوَّثة - ولو بصفرة -، فحكمها أن تبقى على التَّحيُّض إن كانت مبتدئة، أو لم تستقر لها عادة، أو كانت عادتها عشرة مع مراعاة الأمور الشَّرعية الأخرى لكون العشرة لم تكن في وقت معيَّن.

وإن استبرأت بعد انقضاء العادة وخرجت القطنة ملوَّثة بقيت على التَّحيُّض في

ص: 179

داخل العشرة استظهاراً يوماً أو يومين، فإن انقطع على العشرة اغتسلت وعملت أعمال الطَّاهرة، وإلاَّ يجب عليها أحكام الإستحاضة.وتظهر فائدة الإستبراء هنا أنَّه لو تركته عمداً واغتسلت فغُسلها باطل إلاَّ إذا ثبت لديها أنَّها كانت نقيَّة تماماً.

الفَصْلُ الثَّامِن في أَحْكَامِ الحَائِض

(مسألة 376) يحرم على الحائض أمور، وهي: -

1- كل ما يحرم على المجنب إتيانه، إلاَّ أن يغتسل كجميع العبادات الَّتي يشترط فيها الطَّهارة كالصَّلاة والصَّوم وغيرهما - كما مرَّ - إلاَّ أنَّ الحائض لا تغتسل إلاَّ بعد نقاءها من الدَّم دون ما لا يشترط فيه كصلاة الميِّت فلا تسقط حتَّى لو كانت المرأة حائضاً.

2- الجماع وطئاً في القبل - ولو كان بالحشفة فقط، بل حتَّى الأقل إحتياطاً - حتَّى ولو لم ينزل، والأحوط وجوباً ترك وطئها دبراً كذلك.

(مسألة 377) لا بأس بالاستمتاع بها بغير الوطء كالتَّقبيل والتَّفخيذ والضَّم، كما لا بأس بوطيها حال نقاوتها من الحيض - بعد غسل موضع الدَّم على الأحوط وجوباً - وإن لم تغتسل ولا شيء عليها أو على زوجها، وإن كان الأحوط استحباباً ترك وطئها مطلقاً حتَّى تغتسل.

(مسألة 378) تجب الكفَّارة احتياطاً على الزَّوج لو غلبته الشَّهوة ووطأ زوجته في أيَّام حيضها، ولا شيء على السَّاهي والنَّاسي والمجنون والجاهل بالموضوع والجاهل بالحكم القاصر دون المقصِّر فتجب عليه إذا كان ملتفتاً على الأحوط.

(مسألة 379) مقدار الكفَّارة في الثُّلث الأوَّل من أيَّام الحيض دينار ذهبي وهو (مثقال شرعي) مع الإمكان أو قيمته من غيره، وفي الثُّلث الثَّاني نصف دينار، وفي الثُّلث الثَّالث ربع دينار، والاعتبار بقيمة يوم الدَّفع لو اختلفت القيم إلاَّ إذا كانت يوم الاستحقاق أكثر مع تقصيره بالتَّأخير فيجب دفع الأكثر حينئذ.

ص: 180

(مسألة 380) لو اتَّفق حيضها مع مقاربتها جماعاً وجب على زوجها الابتعاد عنها فوراً، وإلاَّ وجبت عليه الكفَّارة.

(مسألة 381) تتكرَّر الكفَّارة بتكرُّر الجماع في حال الحيض على الأحوط وجوباً، فلو جامعها في وقت واحد - كالثُّلث الأوَّل مثلاً - مرَّتين فيجب عليه أن يدفع دينارين.

وكذا لو جامعها في الحالات الثَّلاث فتجب الكفَّارات الثَّلاث المذكورة (دينار وثلاثة أرباع الدِّينار).

(مسألة 382) تصرف الكفَّارة - المذكورة - إلى المساكين.

(مسألة 383) لا يجب على الحائض قضاء ما فاتها من الفرائض اليوميَّة أيَّام حيضها إلاَّ في حال دخول وقت الصَّلاة ومضي مقدار أدائها منه ولم تصلِّ وجاءها الحيض، أو نقت من الدَّم وبقي من وقت الصَّلاة ولو ركعة ولم تُصلِّ فعليها القضاء، وكذا لا يجب قضاء مثل صلاة الطَّواف والصَّلاة المنذورة في وقت خاص وصلاة الآيات مع وجود هذا الحدث.

نعم يجب قضاء ما فاتها من الصِّيام الواجب في حيضها، وكذا الاعتكاف المنذور إعادة لو كان مطلقاً أو قضاءاً لو كان معيَّناً، وكذا طواف الحج والعمرة بعد أيَّام نقائها في بعض الموارد كما هو موضَّح في محلِّه.

(مسألة 384) لا يصح طلاق المرأة - ولا ظهارها حال الحيض - فيما لو توفَّرت فيها الأمور الآتية: -1 - أن تكون مدخولاً بها ولو في الدُّبر.

2 - أن لا تكون حاملاً إلاَّ إذا مضى عليها ثلاثة أشهر.

3 - أن يكون زوجها متمكِّناً من استعلام حالها بسهولة، سواء كان حاضراً أو غائباً.

فلو لم تكن مدخولاً بها أو كانت حاملاً ومضى عليها ثلاثة أشهر أو كان زوجها غير متمكِّن من استعلام حالها صحَّ طلاقها في خصوص ما لو كان غائباً عنها على الأحوط، وكذا يصحَّ حال نقاءها وإن لم تغتسل.

(مسألة 385) لو طلَّقها باعتقاد أنَّها طاهرة فبانت حائضاً كان الطَّلاق باطلاً، وإن

ص: 181

طلَّقها باعتقاد أنَّها حائض فبانت طاهرة كان صحيحاً.

(مسألة 386) يستحب للحائض التَّنظيف، وتبديل القطنة أو الخرقة، والوضوء في أوقات الفرائض اليوميَّة، والجلوس في مصلاَّها، والاشتغال بذكر الله تعالى والصَّلاة على محمد وآل محمد صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، وقراءة القران وإن كانت مكروهة في غير هذا الوقت وبمقدار لا يزيد على سبع آيات، والأولى اختيار التَّسبيحات الأربع.

(مسألة 387) يكره للحائض كل ما يكره للمُجنب فعله راجع ص170.

الفَصْلُ التَّاسِع في أَحْكَامِ غُسْلِ الحَيْضِ

(مسألة 388) غُسل الحيض كغُسل الجنابة مستحب نفسي حال النَّقاء، وكذلك غيري لكل ما يستحب فيه الطَّهارة، أمَّا الأعمال الَّتي يشترط فيها الطَّهارة - عباديَّاً كان كبعض الواجبات أو ما يحرم مسُّه أو غير عبادي كدخولها المسجد لغرض غير عبادي - فيجب عليها الاغتسال كالصَّلاة ومسِّ كتابة القرآن كما تقدَّم، مع التَّصميم على فعل هذه الأعمال.

(مسألة 389) كيفيَّة غسل الحيض ككيفيَّة غُسل الجنابة وبقيَّة الأغسال الأخرى من التَّرتيب والإرتماس فراجع ص161 - 162.

(مسألة 390) غسل الحيض لا يُغني عن الوضوء على الأحوط وجوباً، والأفضل أن يقدِّم الوضوء على الغُسل.

(مسألة 391) يصح اغتسالها من الحدث الأكبر أي كان نوعه - غير الحيض - لو وجب عليها، فلا يحتاج إلى إعادة غُسل الجنابة مثلاً لو أدته - بعد نقاءها من الدَّم - بل حتَّى لو احتملت خروج شيء من الدَّم مع التَّحشي، وكذا يصحُّ منها الأغسال المندوبة والوضوء في بعض القضايا على ما مرَّ، لكن لا ينفعها في الأخيرة فيما يشترط فيه الطَّهارة من العبادات إلاَّ الغُسل الرَّافع كغُسل الجنابة أو غُسل الحيض مثلاً.

ص: 182

المَبْحَثُ الثَّالث الإِسْتِحَاضَة وَأَحْكَامُهَا

(مسألة 392) دم الإستحاضة غالباً أصفر بارد رقيق يخرج بفتور من غير قوَّة ولا دفع ولا حرقة - بعكس دم الحيض - وقد يأتي بصفاته في بعض الحالات نادراً، ولا حدَّ لقليله ولا لكثيره.

(مسألة 393) كل دم تراه المرأة قبل بلوغها أو بعد اليأس أو كان أقل من ثلاثة أيَّام أو أكثر من عشرة أيَّام ولم يكن دم قرح أو جرح أو نفاس أو بكارة فهو محكوم بحكم الإستحاضة.

(مسألة 394) خروج دم الإستحاضة ولو كان بمقدار أبرة ناقض للطَّهارة وموجب للحدث.

(مسألة 395) تنقسم الإستحاضة إلى ثلاثة أقسام وهي: -

1 - القليلة، وهي ما يلوِّث دمها القطنة فقط - حال وضعها في المحل الخاص - ولا يغمسها.

2 - المتوسِّطة، وهي الَّتي دمها أكثر من السَّابقة بحيث يغمس دمها القطنة - ولو من بعض جوانبها - ولكن لا يسيل منها إلى الخارج.

3 - الكثيرة، وهي ما كان دمها كثيراً بحيث يغمس دمها القطنة ويسيل منها إلى الخارج.

(مسألة 396) لو أرادت المستحاضة العبادة - كالصَّلاة أو الصَّوم أو الاعتكاف أو الطَّواف - ولا تعرف من أيِّ أقسامها هي، فلابدَّ لها - قبل أن تبدأ بعبادتها - أن تختبر نفسها، وذلك بأن تُحشِّي (تدخل) في فرجها قطنة وتنتظر حالها أو تقرِّب القطنة منه جيِّداً لو كانت بكراً - كالحائض -، لكي تعرف وتتيقَّن من حكمها، فإن لم تختبر نفسها - عمداً أو سهواً - وأتت بأعمال المستحاضة فلا يجزي عنها إلاَّ إذا طابق عملها الواقع المقرَّر لها كما

ص: 183

لو عرضت عملها على الحاكم الشَّرعي فأمضى لها ذلك.

(مسألة 397) لو لم تتمكَّن من اختبار نفسها - لضيق الوقت مثلاً - أخذت بما تعرف من حالتها السَّابقة لها من القلَّة أو التَّوسط أو الكثرة، وإن لم تعرف حالتها السَّابقة - أو كانت قد تردَّدت - أخذت بحكم القدر المتيقَّن به وهو القسم الأقل.

(مسألة 398) حكم الإستحاضة القليلة تبديل القطنة - أو تطهيرها - وتطهير الموضع الظَّاهري إن تنجَّس بالدَّم، ثمَّ الوضوء لكل صلاة فريضة كانت أو نافلة على الأحوط وجوباً، دون الأجزاء المنسيَّة وسجود السَّهو وصلاة الاحتياط ولكنَّه أحوط.

(مسألة 399) حكم الإستحاضة المتوسِّطة كالحكم السَّابق مع وجوب غسل واحد في اليوم، فإن كان حدثها قبل أو أثناء صلاة الفجر اغتسلت ثمَّ صلَّت ويستفاد منه للظُّهرين، وإن كان قبل أو أثناء الظهرين كفى غسل واحد لهما وللعشاءين ثمَّ صلَّت، وإن كان قبل أو أثناء العشاءين اغتسلت ثمَّ صلَّت والأحوط أن تتوضَّأ بعد الاغتسال.

(مسألة 400) حكم الإستحاضة الكثيرة كالحكمين السَّابقين بإضافة غُسلين آخرين، أحدهما للظهرين تجمع بينهما، وثانيهما للعشاءين تجمع بينهما أيضاً، ولا يجوز لها الجمع بين أكثر من صلاتين في غُسل واحد.

(مسألة 401) إذا أرادت المستحاضة بالكبيرة عدم الجمع بين الصَّلاتين فلابدَّ لها من أن تغتسل لكلِّ صلاة تؤدِّيها.(مسألة 402) يرتفع حدث الإستحاضة بانتهاء الدَّم وبنقاء باطن المحل الخاص من الدَّم وإلاَّ - بأن كان فيه شيء - فالحدث مستمر والحكم باقي وإن لم يكن خارجاً على الأحوط.

(مسألة 403) وجوب تجديد الوضوء في الأحكام الماضية إنَّما يكون عند استمرار الدَّم للمستحاضة، وإلاَّ فلو علمت بأنَّ لها فترة تسع الطَّهارة والصَّلاة وجب تأخير الصَّلاة إليها، ولو قدَّمت الصَّلاة بطلت ووجبت الإعادة.

(مسألة 404) يجب على المستحاضة بعد الوضوء أو الغُسل - على اختلاف نوعيَّة الإستحاضة - المبادرة إلى الصَّلاة إن لم ينقطع الدَّم بعدهما أو خافت عوده قبل

ص: 184

الصَّلاة أو أثنائها لو انقطع وأرادت التَّأخير.

(مسألة 405) يجب على المستحاضة - بعد إتيانها الوضوء أو الغُسل - التَّحفُّظ من خروج الدَّم - مع عدم خوف الضَّرر - بحشو المحل بقطنة أو نحوها وشدها بخرقة أو نحوها أو تشميل نفسها بما ينفع لو كانت بكراً، فإن قصَّرت في التَّحفظ وخرج الدَّم قبل الصَّلاة أو أثنائها وجبت إعادة الغُسل والصَّلاة، نعم لو كان خروج الدَّم لغلبة كالنَّزف لا لتقصير منها في التَّحفظ فلا بأس.

(مسألة 406) إذا تبيَّن - حال الاختبار - انتقال استحاضتها من القليلة إلى المتوسِّطة أو الكثيرة أو من المتوسِّطة إلى الكثيرة صحَّت عبادتها الماضية إن كانت عاملة على طبق ما يجب عليها من الأحكام المتقدِّمة.

وأمَّا الصَّلوات المستقبليَّة فيجب عليها - قبل أدائها - أن تعمل على طبق حكم الحدث الجديد الَّذي انتقلت إليه.

(مسألة 407) يصحُّ الصَّوم من المستحاضة القليلة حتَّى لو لم تتوضأ، وأمَّا المتوسِّطة فيتوقَّف صحَّة صومها على غسل الفجر مقدِّمة له عليه، وأمَّا الكثيرة فيتوقَّف على الأغسال النَّهاريَّة مع غسل الغداة تقدِّمه على الفجر للصِّيام كذلك كما سيأتي في كتاب الصَّوم.

(مسألة 408) المستحاضة تجب عليها صلاة الآيات وتفعل لها كما تفعل لليوميَّة، ولا تجمع بين الآيات واليوميَّة بغُسل وإن اتَّفقت في وقتها.

(مسألة 409) يجب على المستحاضة حين انقطاع الدَّم الاغتسال - حتَّى لو كانت مغتسلة قبله بفترة يسيرة لفرائضها - وذلك لرفع الحدث تامَّاً كي تكون جاهزة لأداء ما يجب من العبادات المشروطة بالطَّهارة كالأوَّل.

(مسألة 410) إذا أحدثت بالحدث الأصغر أثناء غُسل الإستحاضة، فالظَّاهر أنَّه كغسل الجنابة فتتمُّه وتعيده و يجب عليها الوضوء بعده وإن توضأت قبله على الأحوط.

(مسألة 411) الأحوط للمرأة عدم قضاء الفوائت الموسَّعة حال الإستحاضة، وأمَّا المضيَّقة فلا إشكال في وجوب إتيانها بعد الإلتزام بما يجب عليها كقضاء الصَّوم المضيَّق.

(مسألة 412) يتوقَّف أداء الفرائض المشروطة بالطَّهارة كالصَّلاة والصِّيام والاعتكاف

ص: 185

والحج والعمرة وغيرها كدخول المساجد - للمستحاضة - والمكث فيها والوطء للزَّوجة وقراءة العزائم - عدا مسِّ القران واسم الجلالة من المكتوبات المباركة إحتياطاً - على الاغتسال - كما مرَّ -، فلو أخلَّت بالأغسال الصَّلاتيَّة ومنها تبديل القطنة لا يجوز لها ذلك واجتنبت ما أبيح لها حتَّى تطهر إحتياطاً.

وأمَّا مسُّ القرآن وما يتبعه فيتوقَّف على الغُسل والوضوء الَّذي بعد النَّقاء - لحرمة المسِّ على المُحدث بالأكبر أو الملحق به أو الأصغر -، لصدق الحدثيَّة، وهو استمرار الدَّم ولعدمالحاجة إلى المس بصفة أكثر، بل حتَّى من دخول المساجد مع الاحتياط أيضاً بعدم دخولها في حالة عدم الحاجة إليه.

ص: 186

المَبْحَثُ الرَّابِع النَّفَاس وَأَحْكَامُه

وفيه فصول: -

الفَصْلُ الأوَّل في صِفَةِ دَمِ النَّفَاس

النَّفاس دم يقذفه الرَّحم عند الولادة بظهور أوَّل جزء من الولد أو بعده، على نحو يُعلم استناد خروج الدَّم إليها، سواء كان الولد تامَّ الخلقة أم لا، كالسِّقط وإن لم تلج فيه الروح، بل ولو كان مضغة أو علقة بشرط أن يعلم بكونها مبدأ نشوء الإنسان.

(مسألة 413) لا حدَّ لأقل النَّفاس فيمكن أن يكون لحظة بين العشرة، وأكثره عشرة أيَّام، وإن كان الأولى استحباباً رعاية الاحتياط فيما لو استمرَّ الدَّم بعدها أو بعد العادة إلى ثمانية عشر يوماً من الولادة، ويكون مبدأ حسابها من تمام الولادة فتجتنب عمَّا يجب اجتنابه على النُّفساء مع الإلتزام بوظيفة المستحاضة حين أداء العبادات.

(مسألة 414) بما أنَّه يحتمل أن لا ترى المرأة دماً عند ولادتها، فحينئذ لو لم تره إلى انتهاء عشرة أيَّام من حين الولادة فليس لها نفاس أصلاً.

(مسألة 415) إذا رأت المرأة الدَّم بعد العشرة من ولادتها فهو استحاضة إن لم يكن فيه صفات الحيض ولم يكن مصادفاً لذلك في أيَّام عادتها الحيضيَّة، وكذا إذا رأت الدَّم قبل العشرة منفصلاً عن الولادة وتجاوز العشرة، أمَّا لو رأت الدَّم قبل العشرة وانقطع إلى العشرة فهو نفاسها.

(مسألة 416) لو ولدت أثنين (توأماً) بفاصل زمني بينهما بلا قيد في مدَّته كان لها نفاسان، أي أنَّ النَّقاء الحاصل بينهما يعتبر طهراً فيجب العمل بأحكام الطَّاهرة، وحينئذ لا فصل بعشرة أيَّام ليكون أقل الطهر بين النَّفاسين كما في الحائض حتَّى يلزم التَّقيُّد به، فإذا

ص: 187

ولدت - مثلاً - ورأت الدَّم إلى عشرة أيَّام ثمَّ ولدت مولوداً آخر بعد يوم أو يومين أو أكثر من تلك العشرة ورأت الدَّم الثَّاني إلى عشرة أخرى أو الأقل فالدَّمان جميعاً نفاسان وإن لم يفصل بينهما عشرة أيَّام تامَّة في الطُّهر، بل يمكن حتَّى الأقل بل قد يتواليا بلا فاصل.

(مسألة 417) لو لم تر المرأة دماً حين ولادتها بل رأته قبل مضي عشرة أيَّام ثمَّ انقطع عنها بالمرَّة كان هذا الدَّم نفاساً، أمَّا لو رأته حين الولادة ثمَّ انقطع ثمَّ رأته قبل العشرة وانقطع عنها بعد العشرة فيكون الدَّمان والنَّقاء المتخلِّل بينهما نفاساً واحداً ما لم تكن الرؤية أزيد من العشرة كما مضى.

الفَصْلُ الثَّاني في أَقْسَامِ النَّفَاس

(مسألة 418) دم النَّفاس باعتبار عدد أيَّامه على ثلاثة أقسام: -

الأوَّل: أن لا يتجاوز خروج الدَّم عشرة أيَّام فهذا نفاس يجري عليه أحكامه.

الثَّاني: أن يستمر خروج الدَّم ويتجاوز العشرة أيَّام وكانت لها عادة عدديَّة في حيضها فهذه حكمها الرجوع إلى مقدار أيَّام الحيض فتجعل النَّفاس بعدد أيَّام عادتها،والزَّائد على أيَّامحيضها تعمل فيه عمل المستحاضة وإلاَّ فسيأتي حكمه.

الثَّالث: أن يتجاوز استمرار الدَّم العشرة أيَّام ولم يكن لها عادة عدديَّة، أو كانت مضطربة ناسية فحكمها النَّفاس في تمام العشرة والزَّائد عليها يجري عليها فيه حكم الإستحاضة.

(مسألة 419) لو انقطع دم النَّفاس ظاهراً وكانت تحتمل بقاءه وجب عليها حينئذ الإستبراء، وقد تقدَّمت كيفيَّتها ص179.

(مسألة 420) النُّفساء بعد انتهاء مدِّة نفاسها لو إستمرَّ بها الدَّم إلى أن تجاوز العشرة فإن كانت لها عادة مستقرِّة معروفة وكان بين النَّفاس وعادتها عشرة أيَّام اعتبرت أيَّام العادة حيضاً والزَّائد استحاضة، وإن لم يكن لها عادة كالمضطربة فترجع هنا إلى التَّمييز، فإن كان الدَّم بصفات الحيض فتتحيَّض بعشرة أيَّام والزَّائد استحاضة.

ص: 188

أمَّا لو لم يكن لها عادة ولا تمييز أو كان لها إحدى الحالتين ولكن لم يكن بين عادتها وبين النَّفاس عشرة أيَّام، فهذه لابدَّ لها من الرجوع إلى العدد كما مرَّ في الحيض.

الفَصْلُ الثَّالث في أَحْكَامِ النَّفَاسِ

(مسألة 421) النُّفساء بحكم الحائض في الاستظهار عند تجاوز الدَّم أيَّام العادة، وفي لزوم الإستبراء عند ظهور انقطاع الدَّم.

(مسألة 422) النُّفساء كالحائض في الواجبات والمحرمَّات وبقيَّة الأحكام كعدم صحَّة طلاقها فلتراجع هناك.

(مسألة 423) يجب على النُّفساء الاغتسال من نفاسها حال نقائها من الدَّم للواجبات المتوقِّفة على الطَّهارة.

ص: 189

المَبْحَثُ الخَامِس غُسْلُ مَسِّ الميِّت

(مسألة 424) يجب الغُسل على من مسَّ الميِّت الإنسي - دون غيره - سواء كان الماسُّ - عاقلاً أو مجنوناً - يُأمر به بعد إفاقته ووجوبه، في حال الإختيار أو الاضطرار، في اليقضة أو في المنام، وسواء كان الميِّت مسلماً أو كافراً كبيراً أو صغيراً، حتَّى السِّقط إذا تمَّ له أربعة أشهر، وإذا لم يتم له أربعة أشهر فالأحوط إستحباباً الغُسل، وسواء كان الممسوس ظاهراً كاليد والوجه أو باطناً كاللسان وذلك بشرطين: -

1- أن يكون المس بعد برد تمام جسد الميِّت، فلا يجب الغُسل قبل البرد، نعم يتنجَّس العضو الماس مع الرطوبة المسرية في أحدهما فيجب تطهيره، أمَّا مع الجفاف فالأحوط إستحباباً غسل الموضع أيضاً.

2- أن يكون المس قبل الفراغ من الأغسال الثَّلاثة للميِّت، فلو مسَّه بعدها لا يجب الغُسل، أمَّا إذا كان المس بعد تيميم الميِّت عوضاً عن الغُسل، أو كان المغسِّل كافراً لفقد المماثل، أو غُسِّل الميِّت بالماء القراح فقط - لفقد السِّدر والكافور - فالأحوط وجوباً الاغتسال رعاية لتكليف الماس لا الميِّت الَّذي لم يتوفَّر في أمره الأوليَّان أو ما سبق كتيميم الميِّت وتغسيل الكافر.

(مسألة 425) لا فرق بين الماس والممسوس بعد صدق المسِّ بين أن يكون ممَّا تحلُّه الحياة وما لا تحلُّه الحياة كالظفر والعظم فيجب الغسل بمس ظفر الميِّت ولو بظفره.

ويستثنى من ذلك الشَّعر الطَّويل، فلا يجب الغُّسل بمسِّ شعر الميِّت، بخلاف من مسَّ أصول الشَّعر من المتعلِّق ب- (البشرة) مباشرة، أو كان الشَّعر قصيراً جدَّاً بحيث يطلق عليه عرفاً، أنَّه مسَّ جسد الميِّت فيجب عليه الغُسل ولو إحتياطاً.

(مسألة 426) يجب الغُسل بمسِّ القطعة المبانة من الحي أو الميِّت - ولم تُغسل - إذا كانت مشتملة على العظم ، وأمَّا مسُّ غير المشتملة على العظم أو كان العظم مجرَّداً أو

ص: 190

مسَّ السِّن المنفصل منه دون المنفصل من الحي - قبل غُسله - فالأحوط الغُسل بمسِّه.

(مسألة 427) ليس على الطِّفل أو المجنون الماسِّين لجسد الميِّت غُسل، بل بعد بلوغه أو إفاقته.

(مسألة 428) غُسل مسِّ الميِّت لا يُغني عن الوضوء - على الأحوط وجوباً -، فيجب الوضوء مع الاغتسال لكل عبادة مشروطة بالطَّهارة.

(مسألة 429) لا يجب تكرار الغُسل حال تعدُّد مسِّ الأموات أو الميِّت الواحد عدَّة مرَّات فيكفيه غُسل واحد.

(مسألة 430) مسُّ الميِّت قبل الاغتسال منه ليس كالجنابة والحيض، بل هو كالحدث الأصغر في بعض الأمور، فيجري عليه أحكامه كجواز دخول المساجد وما بحكمها وعدم جواز مسِّ كتابة القران ونحو ذلك إلاَّ بعد الاغتسال منه والوضوء.

ص: 191

المَبْحَثُ السَّادس أَحْكَامُ الأَمَوَات

وفيه فصول: -

الفَصْلُ الأوَّل فيمَنْ ظَهَرَتْ عِنْدَهُ إِمَارَاتُ المَوْت

(مسألة 431) يجب على من ظهرت عنده إمارات الموت أداء الحقوق الواجبة الرَّاجعة إلى النَّاس أو إلى الله تعالى، بل حتِّى من كان صحيحاً على الأحوط إستحباباً، وأنفع له من أن يُناب عنه بعد وفاته.

فالأول: كرد الأمَّانات الَّتي عنده أو الإيصاء بها إذا إطمئنَّ بالوصي، وكذلك الدُّيون المترتِّبة عليه من حقوق النَّاس الأخرى والخمس - وإن كان منه حق الله - والزَّكاة - وإن كان منها سبيل الله - وكذلك ردود المظالم واللقطات ومجهول المالك ونحو ذلك.

والثَّاني: كقضاء الواجبات العباديَّة من الصَّلاة والصَّوم والحج ممَّا لا نيابة فيه في قيد الحياة حتَّى الحج مع القدرة وكالتَّوبة عن المعاصي، وأمَّا الحج مع عدم القدرة ففيه النِّيابة على التَّفصيل في محلِّه من كتابنا (غُنية النَّاسكين) وفيما يأتي هنا مناسباً.

(مسألة 432) حقيقَّة التَّوبة النَّدامة والرجوع إلى الله محمد، وهي من الأمور القلبيَّة، مع الاحتياط الواجب في إبرازها بالتَّلفُّظ بقول (أستغفر الله ) أيضاً.

(مسألة 433) إذا كان عليه واجب لا يقبل النِّيابة كالصَّلاة والصَّوم والحج حال الإستطاعة، فيجب المبادرة لأدائها، وإن لم يتمكَّن فيجب الإيصاء بها إذا خاف الفوت وخاف أن لا يعتنى بأمره لولا الوصيَّة إذا كان له مال، وفي حال وجود الولد الأكبر يتخيَّر بين إعلامه للنِّيابة وبين الإيصاء به من ماله الخاص.

(مسألة 434) لا يجب عليه نصب القيِّم على أطفاله الصِّغار إلاَّ إذا كان تركه تضييعاً لهم ولحقوقهم ويجب أن يكون القيِّم أميناً.

ص: 192

الفَصْلُ الثَّاني الإِحْتِضَار

(مسألة 435) يجب توجيه المسلم حال الإحتضار إلى القبلة وجوباً كفائيَّاً، بأن يُلقى على ظهره ويجعل باطن قدميه ووجهه إلى القبلة، بشكل ما لو أُجلس لكان وجهه إلى القبلة، بل يجب ذلك على نفس المحتضر إذا تمكَّن منه، رجلاً كان المحتضر أو امرأة، صغيراً كان في وجوب توجيهه أو كبيراً، كما يعتبر في التَّوجيه إذن الولي إذا كان الموجِّه غيره.

(مسألة 436) الأحوط مراعاة الاستقبال بالكيفيَّة الَّتي ذكرناها في جميع الحالات إلى ما بعد الفراغ من الغُسل، وأمَّا في فترة ما بعد الغُسل إلى الدَّفن فالأولى وضعه بنحو ما يوضع حال الصَّلاة عليه.

(مسألة 437) المشهور بين العلماء (رضوان الله عليهم) استحباب الأمور التَّالية عند الإحتضار، وهي: -

1 - نقل المحتضر إلى مصلاَّه إن إشتدَّ عليه النَّزع ليسهل عليه.

2 - تلقينه الشَّهادتين والإقرار بالأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وسائر الإعتقادات الحقَّة، وكذلك كلمات الفرج الَّتي تبدأ بقول (لا إله إلاَّ الله الحليم الكريم) إلخ.

3 - قراءة القران عنده، والأولى (سورة يس والصَّافات) لكي يسهل عليه الإحتضار.

كما يكره الأمور التَّالية: -

أ - أن يحضره جُنب أو حائض، لإنَّ المُحتضر تحضر عنده الملائكة، فتتأذَّى بحضورهما.

ب - أن يُمسَّ حال النَزع.

فينبغي تطبيق هذه الأمور.

(مسألة 438) يستحب بعد الموت إجراء الأمور التَّالية وهي: -

1- تغميض عينيه، وتطبيق فمه، وشد فكَّيه، ومدِّ يديه إلى جنبيه، ومدِّ رجليه، وتغطيته بثوب.

ص: 193

2- الإسراج في مكان الموت إن مات في الليل.

3- إعلام المؤمنين بموته للقيام بتشييعه.

4- التَّعجيل في دفنه، فلا يؤخَّر إلى الليل إن مات نهاراً، إلاَّ إذا لم يُعلم موته فينتظر حتَّى اليقين.

كما يكره الأمور التَّالية وهي: -

1- تثقيل بطنه بحديد وغيره لئلاَّ تخرج أحشاؤه.

2- أن يترك وحده.

3- كثرة الكلام والبكاء عنده.

4- حضور الجُنب والحائض عنده، بل إختلاء النِّساء عنده.

الفَصْلُ الثَّالث الغُسْلُ وَشَرَائِطُه

(مسألة 439) يجب - كفائيَّاً - تغسيل الميِّت المسلم، من أيِّ المذاهب كان، نعم يجب أن يكون التَّغسيل على طريقة المذهب الإثنى عشري، وإن لم يكن الميِّت منهم، لإنَّه مبرئ للذمَّة أكثر، على كل التَّقادير الإختلافيَّة المذهبيَّة الأخرى، وعلى ما هو محقَّق.

(مسألة 440) أطفال المسلمين - حتَّى ولد الزِّنا - بحكم آبائهم في وجوب تغسيلهم، وكذا السِّقط إذا تمَّ له أربعة أشهر، أمَّا إذا لم يتم له أربعة أشهر فإن ولجته الروح ولو نادراً يجب تغسيله، وإلاَّ فلا يجب، بل يُلف في خرقة كيف إتَّفق ثمَّ يدفن.

(مسألة 441) لا يجوز تغسيل الكافر - وإن كان من زنا لا ذنب له في الأساس لثبوت الأدلَّة لهذا الحكم التَّعبُّدي - من بحكمه من المسلمين كالنَّواصب والخوارج والغلاة.

والنَّواصب هم الَّذين يتظاهرون بعداوة الأئمَّة المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

والخوارج هم الَّذين خرجوا على إمام معصوم مفترض الطَّاعة كأهل النَّهروان الَّذين خرجوا على أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ .

والغُلاة هم الَّذين رفعوا الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إلى مصافِّ الإلوهيَّة، وأخرجوهم عن مرتبة الإنسانيَّة.

ص: 194

(مسألة 442) يستثنى من وجوب التَّغسيل حالات وهي: -

1- الشَّهيد المقتول في المعركة عند الجهاد مع الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أو نائبه الخاص، بشرط أن لا يدركه المسلمون وبه رمق.

2- من وجب قتله برجم أو قصاص، فيجب أن يُأمر بالاغتسال قبل إجراء القتل عليه فإذا اغتسل لا يجب تغسيله - والأحوط أن يُغسل بعد القتل أيضاً إستحباباً -، ويُجهَّز ببقية التجهيزات عليه كذلك.

3- السِّقط الَّذي لم يصل إلى أربعة أشهر لكونه لم تلجه الروح.

(مسألة 443) يجب قبل الشُّروع بالتَّغسيل إزالة النَّجاسة عن كل عضو من أعضاء الميِّت، والظَّاهر كفاية غسل كل عضو متنجِّس قبل الشُّروع في تغسيله، إلاَّ أنَّ الأحوط إستحباباً تطهير تمام الجسد قبل الشُّروع في التَّغسيل.

(مسألة 444) الأحوط ترك تقليم أظافر الميِّت وقص شاربه وحلق رأسه أو عانته، وكذا نتف شعر إبطيه، فإن إنفصل منه شيء فليدفن معه حتَّى السِّن، بل الأحوط عدم التَّخليل إلاَّ فيما لا يصل الماء إلى ظاهر البشرة.

(مسألة 445) لا يجوز ختان الرَّجل بعد موته.

(مسألة 446) يشترط قبل تغسيل الميِّت توفُّر أمور وهي: -

1- إزالة الحاجب والمانع من وصول الماء إلى البشرة.

2- طهارة الماء وإباحته.

3- إباحة السِّدر والكافور.

4- إباحة المحل بل الفضاء.

5- إباحة مجرى الغسالة، والسَّدة الَّتي يُغسَّل عليها الميِّت.

(مسألة 447) يجب تغسيل الميِّت بثلاثة أغسال - مع النيَّة - بالتَّرتيب التَّالي: -

1- ماء السِّدر 2- ماء الكافور 3- ماء القراح

(مسألة 448) كيفيَّة التَّغسيل في المياه الثَّلاثة ككيفيَّة الأغسال الأخرى - الجنابة

وأخواتها - التَّرتيبيَّة، وفي كفاية الإرتماس في هذا الغُسل إشكال سواء أمكن التَّرتيبي أم لا

ص: 195

والأحوط المنع.

(مسألة 449) يشترط في كل من الخليطين - السِّدر والكافور - أن لا يكون كثيراً بمقدار يخرج الماء عن كونه مطلقاً، كما يشترط أن لا يكون قليلاً بمقدار لا يصدق عليه أنَّه مخلوط.

(مسألة 450) إذا كان الميِّت محرماً - للحجِّ أو العمرة - فلا يُغسَّل بالكافور لإنَّه طيب فلا يقرب المحرم، بل يُغسَّل بالماء القراح عوضاً عنه.

(مسألة 451) إذا تعذَّر خلط السِّدر والكافور وجب تغسيله ثلاث مرَّات بالماء القراح (المطلق)، ويكون الأوَّلان بدلاً من السِّدر والكافور، وإذا تعذَّر أحدهما قام ماء القراح مقامه وينوي به بدل السِّدر أو الكافور، مع الاحتياط في الموضعين بتيميمه أيضاً بدل الخليط المتعذِّر.

(مسألة 452) لو فُقد ماء القراح ووجد ماء الخليطين غُسِّل بما هو موجود بإضافة التَّيمم ثلاث مرَّات بدلاً عن الأغسال الثَّلاثة على التَّرتيب.

(مسألة 453) إذا تنجَّس بدن الميِّت بعد انتهاء الغُسل أو في أثنائه - سواء كان التَّنجُّس من بدنه أو من الخارج - وجب تطهير الموضع المتنجِّس - فقط - ولو بعد الوضع في القبر قبل الدَّفن، وأمَّا بعد الدَّفن فلا يجب.

إلاَّ أنَّ الأحوط إعادة الغُسل فيما لو خرج منه - في أثناء الغُسل - بول أو مني، خصوصاً إذا كان في أثناء الغُسل بالقراح.

(مسألة 454)

إذا دفن الميِّت من دون تغسيل تام - عمداً كان أو غير عمد أو كان تغسيلهباطلاً - وجب نبش قبره لتغسيله أو تيميمه إذا لم يستلزم محذوراً من هتكه أو الإضرار ببدنه أو الإضرار بالإحياء، وكذا الحكم في ترك السِّدر أو الكافور أو تبين بطلانها.

(مسألة 455) إذا وجد بعض الميِّت وفيه الصَّدر والقلب جُهِّز تجهيزاً كاملاً من تغسيل وتحنيط وتكفين والصَّلاة عليه ثمَّ الدَّفن، وكذا لو كان الصَّدر وحده أو بعضه على الأحوط وجوباً، وفي الأخيرتين يقتصر في التَّكفين على القميص والإزار، وإن وجد غير

ص: 196

عظم الصَّدر مجرَّداً كان أو مشتملاً على اللحم غُسِّل وحُنِّط ولُفَّ في خرقة ودفن على الأحوط وجوباً، ولا تجب الصَّلاة عليه وإن لم يكن فيه عظم لُفَّ في خرقة.

شُروطُ المغُسِّل

يعتبر في المُغسِّل توفُّر أمور وهي: -

الأوَّل: البلوغ فلا يجزئ تغسيل الصَّبي للبالغ - مع وجود البالغ - وإن كان تغسيله على الوجه الصَّحيح إلاَّ في حالة إنحصاره به، فالصَّبي المسلم - مع معرفته بطريقة التَّغسيل - مقدَّم على الكتابي، وكذا الصَّبي المؤمن مقدَّم على المخالف.

الثَّاني: العقل، فلا يجزئ تغسيل المجنون أو السَّكران.

الثَّالث: الإسلام، والإيمان، بمعنى أن يكون إماميَّاً إثنى عشريَّاً.

(مسألة 456) لا يجزئ تغسيل الكافر للميِّت المسلم ومن بحكمه، إلاَّ في صورة انحصار المماثل للميِّت - المسلم - في الكافر أو الكافرة الكتابيَّة، بأن يأمر المسلم المرأة الكتابيَّة - أو تأمر المسلمة الرَّجل الكتابي - أن يغتسل أوَّلاً ثمَّ بعدها يُغسِّل الميِّت - المسلم -، ولا يمس الماء ولا بدن الميِّت إن أمكن - على الأحوط وجوباً - مع لبس الكفوف المطَّاطيَّة المتعارفة اليوم، وإلاَّ غسَّله بالماء المعتصم كالجاري والكر، والأحوط وجوباً أن ينوي الغُسل كل من الآمر والمُغسِّل نفسه.

(مسألة 457) إذا انحصر المماثل للميِّت المسلم في المخالف، فيقدَّم من أصنافه الرَّحم وإن كان رضاعيَّاً، والأحوط أن يأمر المؤمن المخالفة - أو تأمر المؤمنة الرَّجل المخالف - بتغسيل الميِّت وينوي الآمر النيَّة مع المغسِّل، ولا حاجة إلى اغتساله قبل التَّغسيل.

(مسألة 458) المخالف مقدَّم على الكتابي، ولو لم يوجدا سقط الغُسل.

(مسألة 459) الأحوط وجوباً عند تغسيل غير المماثل في الدِّين - كالكافر - أن يكون من وراء الثِّياب - إذا يستلزم نزعها النَّظر ونحوه - ومن غير لمس ونظر، ثمَّ ينشِّف بدنه بعد التَّغسيل قبل التَّكفين لاحتمال بقاء نجاسته، ويفضَّل في المقام الأعمى الماهر مع لبس

ص: 197

القفَّازين.

الرَّابع: المماثلة مع الميِّت في الأنوثة والذكورة، فلا يجزئ تغسيل الذَّكر للأنثى، ولا الأنثى للذَّكر كما بيَّنَّا - ولو كان من فوق اللباس ولم يلزم لمس أو نظر - إلاَّ في حالات وهي:-

الأوَّلى: إذا كان الميِّت ذكراً لا يزيد سنُّه عن ثلاث سنين، فيجوز لكل من الذَّكر والأنثى تغسيله ولو مع وجود المماثل، أمَّا الصَّبيَّة ففيه إشكال مع وجود المماثل فالأحوط إجراؤه من قبل المماثل فقط.

الثَّانية: الزَّوج والزَّوجة، فيجوز لكل منهما تغسيل الآخر - ولو مع وجود المماثل -، سواء كانت الزَّوجة دائمة أم منقطعة، أمَّا المطلَّقة الرَّجعيَّة في عدَّتها فيجوز مع الاحتياط بعدم النَّظرإلى العورة.

الثَّالثة: المحارم بالنَّسب أو الرَّضاع أو المصاهرة، وهم من لا يجوز التَّزاوج فيما بينهم، والأحوط وجوباً اعتبار فقد المماثل وأن يكون من وراء الثَّياب مع وجوب التَّحفُّظ عن نظر ولمس العورتين حتَّى في المماثل.

الشَّرط الخامس: قصد القربة، ولو إشترك اثنان يجب على كل واحد منهما النيَّة.

الشَّرط السَّادس: أن لا يأخذ أجراً على تغسيل الميِّت، لكن يجوز أخذ العوض على بذل الماء ونحوه - كمكان التَّغسيل - ممَّا لا يجب بذله مجَّاناً.

(مسألة 460) يجوز تغسيل الميِّت من وراء الثِّياب حتَّى لو كان المُغسِّل مماثلاً، وإن كان الأفضل أن يكون الميِّت - في غير ما ذكرناه من المُستثنيات - عارياً ما عدا العورتين.

(مسألة 461) يحرم النَّظر إلى عورة الميِّت، ولكنَّه لا يبطل الغُسل بذلك.

(مسألة 462) يجب الإستئذان من ولي الميِّت لو أراد غيره التَّغسيل، وإذا إمتنع الولي عن المباشرة والأذن سقط اعتبار إذنه، ومراتب الأولياء على التَّرتيب الآتي: -

1 - الزَّوج أولى بزوجته من جميع أقاربها.

ص: 198

2 - المالك أولى بعبده ومملوكته من غيره.

3 - طبقات الأرحام بترتيب الإرث، الطَّبقة الأولى (الأبوان والأولاد)، والطَّبقة الثَّانيَّة (الأخوة والأجداد)، والطَّبقة الثَّالثة (الأعمام والأخوال).

4 - مولى المُعتق، وهو من ملك عبداً ثمَّ أعتقه على فرض وجوده.

5 - ضامن الجريرة، وهو من عاقد غيره على أن يتَّحمل كل منهما جناية الآخر بشرائطه المذكورة في محلِّه.

6 - الحاكم الشَّرعي، فإنَّه ولي من لا ولي له.

7 - عدول المؤمنين لو لم يكن أحد الطَّبقات الماضية ولا حاكم شرعي.

آدَابُ غُسْلِ الميِّت

يستحب في غسل الميِّت أمور وهي: -

1 - جعل الميِّت في مكان مرتفع من سرير أو دكَّة.

2 - وضعه مستقبل القبلة كحالة الإحتضار.

3 - أن يُنزع قميصه من طرف الرِّجلين، وإن استلزم فتقه فيجوز بإذن الوارث.

4 - أن يكون تحت الظِلال من سقف أو خيمة.

5 - أن يكون عارياً مستور العورة.

6 - ستر عورته وإن كان الغاسل والحاضرون ممَّن يجوز لهم النَّظر إليها كعورة الطِّفل أو كان النَّاظر زوجة.

7 - تليين أصابعه برفق، وكذا جميع مفاصله إن لم يتعسَّر.

8 - غسل رأسه برغوة السِّدر أو الخطمي.

9 - غسل فرجيه بالسِّدر أو الأشنان ثلاث مرَّات قبل التَّغسيل.

10 - مسح بطنه برفق ما لم يكن إمراة حاملاً، لإنَّها لو كانت حاملاً يخشى على حملها أن يخرج بذلك المسح إلاَّ إذا عرفت حياته فلا مانع، بل قد يجب في حالات لإنقاذ حياته.

11 - غسل كل عضو من الأعضاء من الرَّأس والجانب الأيمن والأيسر في كل غُسل من الأغسال الثَّلاثة ثلاث مرَّات.

ص: 199

12 - غَسل الغاسل يديه إلى المرفقين، بل إلى المنكبين ثلاث مرَّات في كل من الأغسال الثَّلاثة.

13 - تنشيفه بعد الفراغ بثوب طاهر نظيف، وغير ذلك من المستحبَّات.

ويكره في غُسل الميِّت أمور، وهي: -

1 - إقعاده حال الغُسل.

2 - جعل الغاسل إياه بين رجليه.

3 - غسله بالماء الحار بالنَّار أو مطلقاً إلاَّ مع الاضطرار.

4 - التَّخطي عليه حين التَّغسيل.

5 - إرسال غسالته إلى بيت الخلاء والبالوعة، بل يستحب أن يحفر لها حفيرة خاصَّة.

تَيمِيمُ الميِّتِ بَدَلَ تَغْسِيلِهِ

(مسألة 463) إذا تعذَّر وجود الماء أو خيف من تناثر لحم الميِّت بالغُسل - لكثرة جروحه أو شدَّة

حروقه أو نحوها - يُمَّم ثلاثاً، ونوي بكلِّ واحد منها ما في الذمَّة.

(مسألة 464) يجب أن يكون التَّيمُّم بيدَي الحي، بأن يضرب يديه على الأرض ويمسح بهما وجه الميِّت وظهر يديه، مع الاحتياط الوجوبي بالتَّيمُّم بيدَي الميِّت أيضاً مع الإمكان، وسيأتي كيفيَّة التَّيمُّم وما يشترط فيه تفصيلاً في أحكام التَّيمُّم.

(مسألة 465) لو لم يكن للميِّت مواضع التَّيمُّم - الوجه واليدين - سقط وجوب

التَّيمُّم، وثمَّ لو لم يمكن تغسيله ولا تيميمه دُفن من غير ذلك.

(مسألة 466) لو احتمل تجدُّد القدرة على التَّغسيل فلا يجوز الإنتقال إلى التَّيمُّم إلاَّ بعد حصول اليأس من القدرة، ولو إتَّفق تجدُّد القدرة قبل الدَّفن وجب التَّغسيل، وأمَّا بعد الدَّفن فسيأتي في موارد جواز النَّبش ما يخص ذلك.

(مسألة 467) من مات وعليه غُسل واجب - كالجنابة والحيض - يجزي عنه غُسل الميِّت أو تيميمه مع تعذُّر المياه بإشراكه في النِّية على الأحوط.

ص: 200

الفَصْلُ الرَّابع التَّحْنِيط

التَّحنيط هو مسح الكافور على بدن الميِّت.

(مسألة 468) يجب تحنيط الميِّت - إلاَّ المُحرم بالحج أو العمرة - بعد التَّغسيل - أو التَّيمُّم - وقبل التَّكفين أو في أثنائه أو بعده بإمساس مساجد الميِّت السَّبعة بالكافور، وهي: -

1- الجبهة 2،3 - باطن الكفَّين 4،5 - الرُّكبتان 6،7 - إبهاما الرِّجلين

ويكفي المسمَّى منه، والأحوط وجوباً أن يكون بالرَّاحة ومراعاة التَّرتيب في المساجد، سواء كان الميِّت صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثى أو خنثى وعلى ما هو عليه من الحكم الخاص به حراً كان الميِّت أو عبداً.

(مسألة 469) يشترط في الكافور الطَّهارة والإباحة وأن يكون مسحوقاً له رائحة، فيسقط وجوبه إن لم يتمكَّن من الكافور الطَّاهر أو المباح أو ما لا رائحة له، ولا يجزئ عنه مطلق الطِّيب كالمسك والعنبر والعود وغيرها، بل الأحوط وجوباً تركها.

(مسألة 470) لا يعتبر في التَّحنيط قصد القربة لكونه واجباً على كل حال وإن توقَّف الثَّواب عليه.

(مسألة 471) إذا ماتت المرأة في حال عدَّة وفاة زوجها يجب تحنيطها، وإن وجب عليها اجتناب التَّطيب في حال حياتها حداداً.

(مسألة 472) لو لم يوجد الكافور أو وجد بمقدار الغُسل فقط سقط التَّحنيط، ولا يقوم طيب آخر عوضاً عنه.

(مسألة 473) لو زاد الكافور عن الغُسل ولكنَّه لا يكفي لإمساس المساجد السَّبعة، بل يكفي بعضها فالأحوط وجوباً تقديم الجبهة على غيرها.

(مسألة 474) إذا شكَّ في صحَّة التَّحنيط بعد الفراغ منه بنى على الصحَّة.

(مسألة 475) يستحب في التَّحنيط أمور وهي: -

1- أن يكون مقدار الكافور وزناً ثلاثة عشر درهماً وثلث، وهو ما يعادل بحسب الدرهم الوافي أربعين غراماً إلاَّ ربع الغرام.

ص: 201

2- إمساس طرف الأنف ومفاصله.

3- خلط الكافور بشيء من التُّربة الحسينيَّة، بمقدار لا يخرجه عن اسم الكافور، ولكن لا يمسح به المواضع المنافية للإحترام بل يوضع عليها الكافور وحده.

(مسألة 476) يكره إدخال الكافور في عين الميِّت أو أنفه أو أذنه.

الفَصْلُ الخَامِس التَّكْفِين

(مسألة 477) يجب تكفين الميِّت المسلم وجوباً كفائيَّاً سواء كان رجلاً أو امرأة أو خنثى أو صغيراً أو كبيراً بإلباسه

ثلاثة أثواب وهي: -

الأوَّل: المئزر، ويستر به ما بين سرَّة الميِّت وركبتيه، والأولى أن يستر به من الصَّدر إلى ما فوق القدم.

الثَّاني: القميص، ويستر به ما بين المنكبين إلى نصف السَّاق، والأولى وصوله إلى ظهر القدم.الثَّالث: الإزار، ويستر به تمام البدن، ويجب أن يكون طوله زائداً على الجسد بمقدار يمكن عقده من طرف الرَّأس والرِّجلين، وأن يكون عرضه بمقدار يمكن أن يوضع أحد الجانبين على الآخر ويلف عليه.

(مسألة 478) يجب - على الأحوط - أن تكون كل واحدة من القطع الثَّلاثة ساترة لما تحتها غير حاكية عنه، وإن حصل السَّتر بالمجموع.

(مسألة 479) يشترط في التَّكفين إذن الولي كما في التَّغسيل، لكن لا يشترط فيه قصد القربة مع الاحتياط بالإتيان به.

(مسألة 480) إذا تعذَّر الحصول على القطع الثَّلاثة، فلا مانع من الاقتصار على ما يتيَّسر من الأثواب السَّاترة، فلو دار الأمر بين أحد الثَّلاث قدَّم الأزار، وإذا دار الأمر بين المئزر والقميص قدَّم القميص، فإذا لم يكن لديه إلاَّ ما يستر به العورة فقط تعيَّن السَّتر به، وإذا دار الأمر بين ستر القبل والدبر تعيَّن ستر القبل.

ص: 202

(مسألة 481) القدر الواجب من الكفن يخرج من أصل التَّركة مقدَّماً على الدُّيون والوصايا والميراث، وهكذا مؤونة سائر التَّجهيزات الواجبة من الدَّفن والسِّدر والكافور وقيمة الأرض وغيرها، ويشترى بأقل القيمة إن أمكن لرعاية مصلحة الوارث في الباقي إذا لم يكن ديون أخر.

وفي إستخراج الزِّيادة من أصل التَّركة لابدَّ من رضا جميع الورثة إذا لم يكن فيهم صغير أو غير رشيد، وإلاَّ تعيَّن إخراجه من حصَّة البالغين الكاملين برضاهم.

(مسألة 482) تنفَّذ الوصية - بالمقدار المستحب من الكفن - من ثلث ماله.

(مسألة 483) كفن المملوك على سيِّده، والزَّوجة على زوجها - ولو كانت غنيَّة - ما لم يتبرع لها متبِّرع، سواء كانت صغيرة أو كبيرة مدخولاً بها أو لا، وكذا المطلَّقة الرَّجعيَّة والمنقطعة والنَّاشز، بلا فرق في الزَّوج بين أن يكون عاقلاً أو مجنوناً، صغيراً أو كبيراً، فيجب على ولي المجنون والصغير إخراجه من مالهما.

(مسألة 484) الأحوط وجوباً للزِّوج إخراج مؤونة سائر تجهيزات زوجته الآخرى.

(مسألة 485) يشترط في وجوب كفن الزَّوجة على الزَّوج أمور وهي: -

1 - تمكُّنه من ذلك، ولو ببيع ما هو زائد على مؤونته الفعليَّة، أو الإقتراض بحيث لا يكون ذلك محرجاً.

2 - أن لا يكون محجوراً عليه قبل موت الزَّوجة بالفلس.

3 - أن لا يكون ماله متعلِّقاً لحق الغير برهن أو غيره.

4 - أن لا يقترن موتها بموته.

5 - أن لا يكون الكفن متعيِّناً بوصيَّة منها، ككونه من ثلث مالها أو غيرها ككونه من ثلث مال غيرها.

(مسألة 486) كفن واجب النَّفقة - عدا الزَّوجة - من الأقارب يخرج من ماله.

(مسألة 487) تكفين المُحرم كغيره، فلا بأس بتغطية رأسه ووجهه، فليس حالهما حال الطِّيب في حرمة تقريبه من الميِّت المُحرم.

ص: 203

شُروطُ الكَفَن

(مسألة 488) يشترط في كفن الميِّت - القطع الثَّلاثة - أمور: -

الأوَّل: أن لا يكون رقيقاً بحيث يحكي البدن كما مرَّ.

الثَّاني: أن يكون طاهراً حتَّى من النَّجاسة المعفو عنها في الصَّلاة.

الثَّالث: أن يكون مباحاً، فلا يجوز بالمغصوب - ولو مع الإنحصار به، فإن لم يرض المالك ببقائه جاز نبش القبر لإخراجه كما سيأتي -، ولو لم يوجد غيره يدفن عارياً.

الرَّابع: أن يكون ممَّا تجوز فيه الصَّلاة إختياراً، فلا يجوز بالذَّهب أو الحرير الخالص وإن كان طفلاً أو امرأة، و لا بما لا يؤكل لحمه، أمَّا في حالة الاضطرار والعجز عن غيره فلا بأس.

الخامس: أن لا يكون من جلد المأكول على الأحوط وجوباً، وأمَّا شعره ووبره فيجوز التَّكفين به.

(مسألة 489) لو تنجَّس الكفن - بنجاسة من الميِّت أو من الخارج - وجبت إزالتها - بتطهير أو قرض - ولو بعد وضعه في القبر، ما لم يَخل بالمقدار الواجب، وإلاَّ فلابدَّ من تبديله مع الإمكان.

(مسألة 490) لو دار الأمر بين ثوب متنجِّس من غير الحرير وبين الحرير غير المتنجِّس فإن أمكن الجمع بينهما وجب على الأحوط - كإلباسه أثواباً من غير المتنجِّس وأثواباً أخرى من المتنجِّس أو قميصاً من شيء ومئزراً من آخر وهكذا - وإلاَّ قدَّم الأوَّل.

مُسْتَحَبَّاتُ الكَفَنِ وَمَكْرُوهَاتِه

يستحب في الكفن توفُّر أمور: -

1- أن يكون من خالص المال.

2- أن لا يكون من الكتِّان أو ممتزجاً به، بل يكون قطناً.

ص: 204

3- أن يكون أبيض.

4- أن يكون من الثَّوب الَّذي أحرم أو صلَّى فيه.

5- أن يكتب على حواشي قطع الكفن الواجبة والمستحبَّة، حتَّى العمامة: -

(فلان بن فلان - ويذكر إسمه وإسم أبيه - يشهد أن لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له، وأن محمداً صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ رسول الله ، ثمَّ يذكر الأئمَّة الإثني عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ واحداً بعد واحد وأنَّهم أولياء الله وأوصياء رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأئمَّتي، وأنَّ البعث والثَّواب والعقاب حق).

6- أن يكتب على الكفن القرآن ودعاء الجوشن الكبير والصَّغير، وكذا كتابة السَّند المعروف المسمَّى ب- (سلسلة الذَّهب).

7- إضافة عمامة للرَّجل، ويكفي فيها المسمَّى طولاً وعرضاً.

8- إضافة مقنعة للمرأة بدلاً عن العمامة مع كفاية المسمَّى أيضاً.

9- إضافة لفَّافة لثدي المرأة.

10- إضافة خرقتين للميِّت - ذكراً أو أنثى -، واحدة يعصِّب بها وسطه، والثَّانية يلفُّ بها فخذاه.

11- إضافة بردة يمانيَّة فوق الأزار يلف بها تمام البدن.

12- جعل شيء من القطن أو نحوه بين رجليه بحيث يستر عورتيه، ووضع شيء من الحنوط عليه، ولو خيف خروج شيء من دبره - أو دم من منخريه - يحشِّيهما بالقطنة.

13- أن يلقى عليه شيء من الكافور والذَّريرة، بل يستحب التَّبرُّك بتربة الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ومسحه بالضَّريح المقدَّس أو بضرائح سائر الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بعد غسله بماء الفرات أو بماء زمزم إن أمكن.

14- أن يجعل الطَّرف الأيمن من اللفَّاف على الأيسر، وبالعكس.

15- إجادة الكفن، فقد ورد أنَّ ((الأموات يتباهون يوم القيامة بأكفانهم ويحشرون بها)) ولذا يستحب أعلاه خيطاً ونسجاً.

16- أن لا يكون مخيطاً، وإن احتاج إلى الخياطة يخاط بخيوطه.

17- أن يكون المباشر للتَّكفين على طهارة.

18- أن ترفق معه جريدتان على ما سيجيء قريباً ما يخصُّه بإستقلال.

ص: 205

كما يكره في الكفن أمور: -

1- قطعه بالحديد.

2- عمل الأكمام والأزرار إذا كان جديداً، ولو كفِّن في قميصه الملبوس له حال حياته قطع أزراره، ولا بأس بأكمامه.

3- بلِّ الخيوط الَّتي يخاط بها بريقه.

4- تبخرُّه بدخان الأشياء الطِّيبة الرِّيح.

5- كونه أسود، وأن يكتب بالسَّواد.

6- الممَّاكسة في شرائه.

7- كونه وسخاً غير نظيف.

الجَرَيدَتَان

(مسألة 491) يستحب - عند الإماميَّة - إستحباباً مؤكَّداً وضع جريدتين رطبتين مع الميِّت ذكراً كان أو

أنثى صغيراً أو كبيراً، فقد ورد أنَّ الجريدة تنفع المؤمن والكافر والمحسن والمسيء، وما دامت رطبة يرفع عذاب القبر عن صاحبها.

(مسألة 492) كيفيَّة وضع الجريدتين: -

أن توضع إحداهما في الجانب الأيمن من التُّرقوة إلى حيث تبلغ ملتصقة بجسده، والأخرى في الجانب الأيسر من التُّرقوة إلى حيث تنتهي تحت اللفَّافة وفوق القميص.

(مسألة 493) الأولى أن تتوفَّر في الجريدتين أمور: -

1 - أن تكون من النَّخل، فإن لم يتيسَّر فمن السِّدر، وإلاَّ فمن الخلاف (الصَّفصاف) أو الرُّمان، وإلاَّ فمن كل عود رطب.

2 - أن يكون طولها بمقدار ذراع اليد.

3 - أن يكتب عليهما ما يكتب على حواشي الكفن من اسم الميِّت وإسم أبيه، وأنَّه يشهد الشَّهادتين، وأنَّ الأئمَّة من بعد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أوصياؤه ويذكر أسمائهم واحداً بعد واحد.

ص: 206

(مسألة 494) لو تركت الجريدتان لنسيان أو نحوه، فالأولى جعلهما فوق القبر واحدة عند رأسه، والأخرى عند رجليه.

الفَصْلُ السَّادِس التَّشِييع وَمُسْتَحَبَّاته وَمَكْرُوهَاته

(مسألة 495) يستحب إعلام المؤمنين وإخبارهم لكي يحضروا تشييع المتوفَّى والصَّلاة عليه والإستغفار له، كما يستحب للمؤمنين المبادرة إلى ذلك، والأخبار في فضله كثيرة ومتظافرة.

ففي بعضها (مَنْ شيَّع جنازة مؤمن فله بكلِّ قدمٍ مائتا أَلف حسنة ويمحى عنه مائة أَلف سيئة ويُرفع له مائة أَلف درجة، وإن صلَّى عليه يشيِّعه حين موته مائة أَلف مَلك يستغفرون له إِلى أن يُبعث).

(مسألة 496) يستحب في التَّشييع أمور وهي: -

1- قول (إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون) عند رؤية الجنازة، وقول ( الله أَكْبَرُ هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُه، وَصَدَقَ الله وَرَسُولُه، اللَّهمَّ زِدْنَا إِيمَانَاً وَتَسْلِيمَاً، الحَمْدُ للهِ الَّذِي تَعَزَّزَ بالقُدْرَةِ وَقَهَرَ عِبَادَهُ بِالمَوتِ وَالفَنَاءِ) وغير ذلك من الأدعية.

2- أن يقول حين حمل الجنازة (بِسْمِ الله وَبِاللهِ وَصَلَّى الله عَلَى محمد وَآلِ محمد، اللَّهمَّ إِغفْرِ لِلمُؤمِنِينَ وَلِلمُؤمِنَات).

3- أن يمشي ولا يركب إلاَّ لعذر.

4- أن يحملوه على أكتافهم.

5- أن يكون المشيِّع خاشعاً متفكِّراً متصوِّراً أنَّه هو المحمول.

6- أن يمشي خلف الجنازة، أو طرفيها، ولا يمشي أمامها كما يفعله البعض.

7- أن يلقى عليها ثوب غير مزَّين.

8- أن يكون حامل الجنازة أربعة.

9- تربيع الشَّخص الواحد، وهو حمله الجنازة من جوانبها الأربعة، فقد روي عن الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه ((من حمل جنازة من أربع جوانبها غفر الله له ذنوب أربعين

ص: 207

كبيرة)).

والأولى الابتداء بيمين الجنازة يضعها على عاتقه الأيمن، ثمَّ مؤخَّرها الأيمن يضعها على عاتقه الأيمن كذلك، ثمَّ مؤخَّرها الأيسر يضعه على عاتقه الأيسر، ثمَّ ينتقل إلى مقدَّمها الأيسر أيضاً واضعاً لها على عاتقه الأيسر.

10- أن يكون صاحب المصيبة حافياً بلا رداء، أو يغيِّر زيَّه بحيث يعلم أنَّه صاحب المصيبة.

(مسألة 497) يكره في التَّشييع أمور وهي: -

1- الضَّحك واللعب واللهو.

2- المشي بلا رداء من غير صاحب المصيبة.

3- الكلام بغير ذكر الله والدُّعاء والإستغفار.

4- إشتراك النِّساء في التَّشييع.

5- الإسراع في المشي على وجه ينافي الرِّفق بالميِّت.

6- ضرب اليد على الفخذ أو على الأخرى.

7- أن يقول المصاب: ((ترحَّموا عليه)) أو ((إستغفروا له)) وأمثال ذلك.

8- حمل النَّار خلف الجنازة كالمجمرة وما أشبهها إلاَّ في الليل للإنارة.

9- قيام الجالس عند مرور الجنازة عليه.

الفَصْلُ السَّابع الصَّلاةُ عَلَى الميِّت

ملاحظة مهمَّة:-

لم يكن الكلام عن صلاة الميِّت خروجاً عن المقدِّمات الَّتي مهَّدنا الكلام سابقاً، للتَّنبيه على ملازمة الكلام عنها حتَّى النِّهاية ولو مختصراً إلى الغايات كالصَّلوات والصِّيام والاعتكاف والحج والعمرة ودفن الموتى للتَّفرُّغ إلى أمورهم الواجبة بعد ذلك، وإنَّما الكلام عن هذه الصَّلاة إضافة إلى كونها لغوية بمعنى الدُّعاء لا كالصَّلوات الشَّرعيَّة المتعارفة ما زال مستمرَّاً عن كونها من المقدَّمات، لكونها من المهيَّئات لموارات الموتى للتَّفرغ إلى تنفيذ وصاياه

ص: 208

وقضاء ما عليهم وتقسيم مواريثهم ونحو ذلك.

(مسألة 498) تجب الصَّلاة - وجوباً كفائيَّاً - على كل ميِّت مسلم، سواء كان ذكراً أو أنثى أو خنثى مؤمناً أو مخالفاً عادلاً أو فاسقاً حتَّى الشَّهيد، وكذا لو وجد في بلد الإسلام ولم يعلم حاله - ولو بالقرائن -، لملاحظة الأغلبيَّة السَّاحقة بالاعتبار الإسلامي ولو ظاهراً.

(مسألة 499) لا تجب الصَّلاة على أطفال المسلمين إلاَّ بعد بلوغهم ست سنوات.

(مسألة 500) يعتبر في الصَّلاة على الميِّت أمور وهي: -

1 - أن تكون بعد الغُسل والتَّحنيط والتَّكفين، فلا تجزي قبلها ولو كان ناسياً أو جاهلاً.

2 - إذن الولي كما مرَّ في التَّغسيل، إلاَّ في الوصية بشخص معيَّن فلا يحتاج إلى الإذن حينئذ وإن منعه الولي وإن حرم عليه ذلك وتقدَّم آخر، فالأحوط وجوباً الاستئذان من الولي حينئذ.

3 - البلوغ، فلا تجزي صلاة الصَّبي المميِّز في أصل الباب عن البالغين - على الأحوط - وإن كانت صلاته صحيحة - كما مرَّ -.

4 - الإيمان في المصلِّي ككونه موالياً للنَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأهل بيته من الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

5 - استقبال المصلِّي القبلة.

6 - أن يكون المصلِّي قائماً، إلاَّ في حالة عدم التَّمكُّن من القيام فيصلِّي من جلوس.

7 - أن يكون مكان الصَّلاة مباحاً على الأحوط.

8 - أن لا يكون حائل بينهما من ستر أو جدار، ولا يضر السَّتر بمثل التَّابوت.

9 - أن يكون الميِّت مستور العورة بأكفانه، وإن لم يوجد فبأيِّ شيء آخر.

10 - حضور الميِّت ووضعه أمام المصلِّي، إلاَّ إذا كان مأموماً وكان في أحد جانبي صف طويل، فلا يضر ذلك.

11 - إستواء مكان المصلِّي مع موضع الميِّت، ولا يضر التَّفاوت القليل في الإنخفاض والإرتفاع.

12 - أن يكون موضع المصلِّي قريباً من الميِّت، إلاَّ في حالة الجماعة فلا يضر بُعد المأمومين عنها.

ص: 209

13 - أن يكون الميِّت مستلقياً على قفاه.

14 - أن يكون رأس الميِّت إلى جهة يمين المصلِّي، ورجلاه إلى يساره.

15 - أن يعين الميِّت عند تعدُّده.

16 - النيَّة، وقصد القربة لكون الصَّلاة هذه عبادة من العبادات المشروطة بهما.

17 - الموالاة بين التَّكبيرات والأدعية على نحو لا تنمحي صورة الصَّلاة.

(مسألة 501) لا تعتبر في صلاة الميِّت الطَّهارة من الحدث والخبث، وإباحة اللباسوطهارته، والأحوط إستحباباً مراعاة جميع ما يعتبر في بقيَّة الصَّلوات الواجبة الإعتياديَّة.

(مسألة 502) لا تعتبر الذُّكورة في الصَّلاة،فيجوز للمرأة مباشرة الصَّلاة على الميِّت.

كَيفِيَّة صَلاَةِ الجَنَائِز

(مسألة 503) يجب في الصَّلاة على الميِّت خمس تكبيرات، ولا يجوز أقل من ذلك إلاَّ للتَّقيَّة، وليس

فيها أذان ولا إقامة ولا ركوع ولا سجود، وهي: -

1 - يأتي بالشَّهادتين بعد الأولى.

ويكفي أن يقول (أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله ).

والأولى أن يضيف بعد الشَّهادة الأولى (إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً حياً قيوماً دائماً أبداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً) وبعد الشَّهادة الثَّانية (أَرَسَلَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لُيظِهَرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه وَلَو كَرِهَ المُشْرِكُون).

2 - الصَّلاة على النَّبي وآله بعد الثَّانية.

ويكفي أن يقول (اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى محمد وَآلِ محمد).

والأولى أن يضيف (وَبَارِكْ عَلَى محمد وَآلِ محمد وَتَرَّحَمْ عَلَى محمد وَآلِ محمد كَأَفْضَلِ مَا صَلَّيتَ وَبَارَكْتَ وَتَرَحَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيم وَآلِ إِبْرَاهِيم إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد وَصَلِّ عَلَى جَمِيعِ الأَنْبِياءِ وَالمُرْسَلِين).

3 - الدُّعاء والإستغفار للمؤمنين والمؤمنات بعد الثَّالثة.

ويكفي أن يقول (اللَّهمَّ إِغْفرْ لِلمُؤمِنينَ وَالمُؤمِنَات).

ص: 210

والأولى أن يضيف (وَالمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ الأَحيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ تَابِعْ اللَّهمَّ بَينَنَا وَبَينَهُم بِالخَيْرَاتِ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير).

4 - الدُّعاء والإستغفار للميِّت بعد الرَّابعة.

ويكفي أن يقول (اللَّهمَّ إغفر لهذا الميِّت).

والأولى أن يضيف (اللَّهمَّ إنَّ هَذَا المُسَجَّى قُدَّامُنَا عَبْدُكَ وَأبْنُ عَبِدْكِ وَأبنُ أَمَتِكَ وَقَدَ نَزَلَ بِكَ وَأَنْتَ خَيرُ مَنزُولٍ بِهِ، اللَّهمَّ إِنَّكَ قَبَضْتَ رُوحَهُ إِلَيكَ وَقَدْ إِحتَاجَ إِلى رَحْمِتَكَ وَأَنْتَ غَنِيٌ عَنْ عِقَابِهِ، اللَّهمَّ إنَّا لاَ نَعْلَمُ مِنْهُ إِلاَّ خَيْرَاً وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، اللَّهمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنَاً فَزِدْ في إِحْسَانِهِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئَاً فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئاتِهِ وَإِغْفِرْ لَنَا وَلَهُ، اللَّهمَّ أُحشرْهُ مَعَ مَنْ يَتَوَلاَّهُ وَيُحِبُّهُ وَأبْعِدْهُ عَمَّنْ يَتَبَرأ مِنْهُ، اللَّهمَّ أَلْحِقُهُ بِنَبيِّكَ وَعَرِّفْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَأرحَمْنَا إِذَا تَوَفَّيتَنَا يَا إِلَهَ العَالَمِينَ، اللَّهمَّ أُكتْبُهُ عِنْدَكَ في أَعَلَى عِلِيِّين وَأُخلُفْ عَلَى عَقَبهِ في الغَابِرين وَإِجعَلْهُ مِنْ رُفَقَاءِ محمد وَآلِهِ الطَّاهِرِين، وَإِرحَمْهُ وَإِيَّانَا بِرَحمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ اللَّهمَّ عَفَوَكَ عَفَوَكَ عَفَوَكَ.

هذا ويراعى في الدُّعاء للميِّت، التَّذكير إن كان مذكَّراً أو التَّأنيث إن كانت مؤنَّثة.

5 - ثمَّ يكبِّر الخامسة فيقول ( الله أَكْبَر) وينصرف.

(مسألة 504) لو شكَّ في التَّكبيرات بين الأقل والأكثر بنى على الأقل.

أَحْكَامُ صَلاَة الجَنَائِز

(مسألة 505) لو شكَّ في أنَّه صلَّى على الميِّت أم لا بنى على العدم، أمَّا لو شكَّ في صحَّتها وفسادها

بعد العلم بأصل إتيانها وبعد الفراغ منها بنى على الصحَّة، ومع العلم ببطلانها تجب الإعادة.

(مسألة 506) لو اعتقد شخص بطلان الصَّلاة، من جهة مخالفة رأيه لرأي المصلِّي - إجتهاداً أو تقليداً - وجب عليه الصَّلاة أيضاً لبقاء إنشغال الذمَّة بالنِّسبة للآخرين على أساس الوجوب الكفائي المتشعِّب بين كل المكلَّفين إذا إعتقدوا مثله ذلك بعد علمهم

ص: 211

بالوفاة، إلاَّ أن يحرز عدم الإنشغال بسبب الإكتفاء بالعمل الصَّحيح من قِبل المصلِّي الأوَّل والثَّاني فينحصر التَّكليف فيمن يعتقد البطلان فقط.

(مسألة 507) لو دفن الميِّت بلا صلاة - عمداً أو نسياناً أو لعذر أو علم بطلان الصَّلاة - صلَّى على قبره ما لم يتلاش جسده.

(مسألة 508) يجوز تكرار الصَّلاة على الميِّت الواحد إذا كان من أهل الشَّرف والكرامة والعلم والتَّقوى، وأمَّا غيره فمكروه.

(مسألة 509) إذا اجتمعت جنائز متعدِّدة جاز تشريكها بصلاة واحدة وهي على طريقتين: -

الأولى: أن توضع جميع الجنائز أمام المصلِّي بأن يكون محاذياً لأقرب جنازة إليه ثمَّ تليها بقيَّة الجنائز مبتعدة عنه على نفس الخط الأمامي وإلى الآخر بلا بعد فاحش بين كل منها، والأفضل في حالة إجتماع الرَّجل والمرأة أن يجعل الرجل أقرب إلى المصلِّي، وصدر المرأة محاذياً لوسط الرَّجل كما سيجيء.

الثَّانية: أن تجعل الجنائز صفَّاً واحداً وإلى أمام ويقوم المصلِّي وسط الجنازة الَّتي تليه من مقدِّمه بأن يجعل رأس كل واحدة عند إلية الأخرى شبه الدَّرج والمشهور عمليَّاً هو الأولى.

هذا ويراعى في الدُّعاء لهم بعد التَّكبير الرَّابع، تثنية الضَّمير أو جمعه وتذكيره أو تأنيثه، ويجوز التَّذكير في الجميع بلحاظ لفظ الميِّت، كما يجوز التَّأنيث بلحاظ لفظ الجنازة.

(مسألة 510) يستحب في صلاة الميِّت الجماعة، وحينئذ يعتبر في الإمام والجماعة مراعاة شرائطهما على الأحوط وجوباً، نعم لا تعتبر العدالة.

(مسألة 511) لا يتحمَّل الإمام في صلاة الميِّت شيئاً عن المأموم، فلابدَّ من إتيانه جميع التَّكبيرات والأدعية.

(مسألة 512) إذا أراد الإلتحاق بالإمام في أثناء الجماعة، كبَّر معه وجعله أوَّل صلاته ويتشهَّد الشَّهادتين بعده، ثمَّ يستمر ويأتي بوظيفة نفسه، فإن انتهى الإمام أتى ببقيَّة التَّكبير بدون دعاء رجاءاً للمطلوبيَّة، وإن كان الدُّعاء أحوط وأولى.

ص: 212

آدَابُ صَلاَةِ الميِّت

(مسألة 513) يستحب في صلاة الميِّت أمور وهي: -

1 - أن يكون المصلِّي متطهِّراً من الحدث الأصغر والأكبر - ولو بالتَّيمم - إذا خاف فوت الإلتحاق بالصَّلاة إذا إستعمل الماء في التَّطهير.

2 - أن تكون في المواضع الَّتي يكثر فيها إجتماع النَّاس كالمساجد العامَّة ونحوها من العتبات المقدَّسة.

3 - أن تكون الصَّلاة جماعة.

4 - أن يكون المصلِّي حافياً.

5 - أن يقف إمام الجماعة أو المنفرد مقابلاً لوسط الميِّت إن كان رجلاً ومقابل صدر الميِّت إن كان أنثى.

6 - أن تكون الفاصلة بينه وبين الميِّت قليلة، بحيث لو حرَّكت ثيابه لوصلت إلى بدن الميِّت أو ما حواه وهو التَّابوت المتعارف.

7 - أن يقف المأموم خلف الإمام وإن كان نفراً واحداً.

8 - إن أرادت المرأة الإقتداء - بالجماعة في صلاة الميِّت - وكانت حائضاً وقفت في صف وحدها، بل حتَّى لو لم تكن حائضاً على الأحوط إن كان هناك مجال واسع في المكان إرتباطاً بالصَّلوات الإعتياديَّة.

9 - أن يقول قبل الصَّلاة (الصَّلاة) ثلاث مرَّات.

10 - أن يرفع يديه عند كل تكبيرة.

11 - أن يجهر إمام الجماعة بالتَّكبيرات والأدعية ويخفت المأموم.

12 - أن يكثر من الدُّعاء للميِّت والمؤمنين.

ص: 213

الفَصْلُ الثَّامِن الدَّفْن

الدَّفن هو (مواراة الميِّت في حفيرة في الأرض بحيث يُؤمن على جسده من السِّباع وإيذاء رائحته للنَّاس وعلى أساس تكريمه)، فلا يجزي البناء عليه فوق الأرض أو وضعه في تابوت ولو كان من الصَّخر أو الحديد إلاَّ إذا لم يتمكَّن من الحفيرة وتوقَّف حفظه على هذه الصُّورة، ولذا جوَّز بعض الفقهاء مؤقَّتاً ما يسمَّى بالإيداع إلى أن يحين وقت ترحيل الجثمان إلى مدفن تكريمه الأرضي - كوادي السَّلام - أو يحين وقت دفنه المناسب من ذلك الموقع وإن لم يكن في المقابر المكرَّمة الإعتياديَّة لو لم يمكن.

(مسألة 514) يجب - كفاية - دفن الميِّت المسلم ومن بحكمه، وكذا كل جزء إنفصل عن الجسم - من شعر أو ظفر أو سن ونحوها - بعد الممات كما مرَّ، بخلاف ما لو إنفصل حال الحياة فلا يجب.

(مسألة 515) يجب أن تكون مواراة الميِّت مستقبل القبلة بأن يضجعه على جنبه الأيمن، موجِّهاً وجهه ومقاديم بدنه إليها، بحيث يكون رأسه إلى المغرب ورجلاه إلى المشرق - في العراق وما على جهته -، وكذا الحكم في الجسد الَّذي لا رأس له أو الرَّأس الَّذي لا جسد له أو الصَّدر وحده.

(مسألة 516) يجب الإستعلام عن القبلة عند إشتباهها، وإن لم يتمكَّن من الإستعلام العلمي الشَّرعي لئلاَّ يتأخَّر دفن الميِّت فيكفي حصول الظَّن بإتِّجاهها كالمقابر ومحاريب البلد في مساجدها وإتِّجاه العتبات المقدَّسة ونحو ذلك ممَّا إنضبط معتبراً من البوصلات الحديثة، وإذا لم يكن فإلى ما بين المشرق والمغرب بإتِّجاه الجنوب في مثل بلادنا، وإلاَّ فيسقط وجوب الاستقبال وما يلحق به، وفي حالة التَّعرف عليها بعد الدَّفن يجب تعديل الجثمان إلى حيث الصَّحيح مع إمكانه وعدم صدق إهانته في ذلك، ولكنَّ الأحوط في ذلك لو حصل اشتباه وأمكن (الإيداع) - كما مرَّ - في مكان مسوَّر من منخفض أرضي - كما هو متعارف في بعض الأماكن البعيدة عن البقاع المقدَّسة - للدَّفن في تلك الأماكن مؤقَّتاً وعلى أيِّ جهة حصلت ثمَّ علمت جهة القبلة فلابدَّ من الدَّفن إليها بعد ذلك دفناً أصليَّاً في تلك

ص: 214

الأرض لو لم يمكن الدَّفن في البقاع المقدَّسة بعد ذلك.

(مسألة 517) لو مات الإنسان في السَّفينة فإن أمكن تأخير الجثمان لإيصاله إلى السَّاحل ودفنه في الأرض - بالصُّورة المطلوبة الماضية - وجب ذلك.

وإن لم يتمكَّن - كما لو خيف فساده أو خيف عليه من نبش عدو أو حيوان - جهِّز بتجهيزات الميِّت المتقدِّمة ووضع في خابية ويُشد رأسها ويلقي في البحر، أو يثقَّل جسد الميِّت بشدِّ حجر أو نحوه برجليه ويلقى في البحر.

(مسألة 518) مصارف إلقاء الميِّت في البحر من الحجر أو الحديد وإحكام قبره لو مسَّت الحاجة إليه لحفظه من السِّباع مثلاً تكون من أصل المال.

(مسألة 519) لا يجوز الدَّفن في أمَّاكن وهي: -

1 - مقبرة الكفَّار - لو كان الميِّت مسلماً - إلاَّ عند الاضطرار والحرج، وكذا لا يجوز العكس بأن يدفن الكافر في مقبرة المسلمين، ولا إضطرار هنا، لإنَّه لا كرامة للكافر حينما يقابل بالمسلم، إلاَّ الكافرة الحامل من مسلم فتدفن هناك على خلاف القبلة، ليكون ما في أحشائها مواجهاً لها.

2 - المكان الموجب لهتك حرمته، كالمزبلة والبالوعة وسيلان سيل عليه، أو خيف عليه من سبع أو عدو.

3 - المكان المغصوب، ولا في أي مكان مملوك بغير إذن المالك.

4 - في المسجد إذا وقِّف خصيصاً للمسجديَّة، أمَّا لو وقفت قطعة من أرض مجاورة له للدَّفن، كما في مسجد براثا أو ما حصل في مجاور المسجد النَّبوي وأضرحة أئمَّة الهدى الَّتي جاورتها الأروقة الَّتي هي بحكم المساجد فضلاً عن حرمهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وكذا يلحق في المسجد بقيَّة الموقوفات كالمدارس والحسينيَّات والخانات، بلزوم تطبيق شروط وقفيَّاتها حول ذلك.

5 - في قبر ميِّت آخر قبل إندراسه وقبل تبدُّله بالتُّراب.

(مسألة 520) لو مات شخص في البئر ولم يمكن إخراجه، فلابدَّ من طمِّه ويجعل البئر قبره.

(مسألة 521) لو مات الجنين في بطن أمه وخيف عليها من بقائه وجب إخراجه

ص: 215

بأسهل الطرق الممكنة، ومع التَّعذُّر يجوز إخراجه بأي نحو ولو بتقطيعه إحتفاظاً بحياة الأم.

(مسألة 522) لو ماتت الأم وكان الجنين حيَّاً وجب إخراجه ولو بشق بطنها، فيشق جنبها الأيسر، ثمَّ يخرج الطفل ويخاط الموضع بعد الإخراج، ولا فرق في وجوب الإخراج بين رجاء حياة الطَّفل بعده وعدمه إحتراماً للحياة المحتملة وإن ظهر أنَّه ميِّت بعد ذلك.

(مسألة 523) يجب أن يكون المباشر لعملية الإخراج هو الزوج إن كان ماهراً أو النِّساء، وإلاَّ فالمحارم من الرِّجال ومع التَّعذُّر فالأجانب حفظاً لنفسها المحترمة مع التَّحفُّظ من النَّظر والمس باليد مباشرة جهد الإمكان.

مُسْتَحَبَّاتُ الدَّفن

يستحب في الدَّفن أمور: -

1- أن يكون عمق القبر بمقدار طول رَجل إعتيادي.

2- أن يدفن في أقرب مكان من المقبرة الَّتي تعارف الدَّفن فيها بين المؤمنين، إلاَّ أن يكون للبعد مزيَّة، بأن تكون مقبرة للصُّلحاء، أو لأجل كثرة الزَّائرين كما في وادي السَّلام في النَّجف الأشرف.

بل وردت روايات شريفة في إستحبابه في الأماكن المقدَّسة كالحرم المكِّي قرب المسجد، والبقيع قرب المسجد النَّبوي وإستحبابه جوار قبور المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وبالأخص في وادي السَّلام جوار قبر أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في النَّجف الأشرف، وأنَّه ((فيه أمان من عذاب البرزخ)) وفي كربلاء المقدَّسة جوار قبر سيد الشُّهداء الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وأنَّه ((فيها أمان من ضغطة القبر)).

3- أن يجعل له لحد في الأرض الصُّلبة.

4- أن توضع الجنازة دون القبر بفاصلة أذرع، ثمَّ تنقل قليلاً فتوضع أيضاً، ويتكرَّر العمل ثلاث مرَّات، ليأخذ الميِّت إستعداده للدُّخول في القبر.

5- يوضع رأس الميِّت إن كان رجلاً عند طرف الرِجل من القبر، ثمَّ يُنزل في القبر من طرف رأسه، وإن كان الميِّت امرأة فتوضع إلى جانب القبلة، ثمَّ تنزل عرضاً.

6- أن يغطي القبر بثوب عند إدخال المرأة.

ص: 216

7- إخراج الجنازة من التَّابوت بسهولة ورفق.

8- الدُّعاء عند الإخراج من التَّابوت وعند الدَّفن بالأدعية الخاصَّة المذكورة في كتب الأدعية.9- أن يحل عقد الكفن بعد الوضع في القبر.

10- أن يكشف عن وجهه ويجعل خدَّه على الأرض، ويصنع له وسادة من التُّراب.

11- أن يسند ظهره بلبنة أو تراب لكي لا ينتقل إلى قفاه.

12- وقد ذكر استحباب جعل مقدار لبنة من تربة الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أمام وجهه بحيث لا تصل إليها النَّجاسة بعد الإنفجار.

13- تلقين الميِّت في اللحد قبل السَّتر باللبن، وذلك بأن يضرب بيده اليمنى على منكبه الأيمن، ويضع يده اليسرى على منكبه الأيسر بقوة، ويُدني فمه إلى أذنه، ويحركه تحريكاً عنيفاً.

ثمَّ يقول: إسمع إفهم ((يافلان بن فلان)) ثلاث مرَّات، ويذكر مكان ((فلان بن فلان)) اسم الميِّت وأبيه، ثمَّ يقول:

((هل أنت على العهد الَّذي فارقتنا عليه من شهادة أن لا إله إلاَّ الله ، وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عبده ورسوله وسيِّد النَّبيين وخاتم المرسلين، وانَّ عليَّاً أمير المؤمنين وسيِّد الوصييِّن وإمام إفترض الله طاعته على العالمين، وأنَّ الحسن والحسين، وعلي بن الحسين، و محمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، و محمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والقائم الحجَّة المهدي - صلوات الله عليهم - أئمَّة المؤمنين، وحجج الله على الخلق أجمعين، وأئمَّتك أئمَّة هدى أبرار.

يا فلان بن فلان (ويذكر أسمه وأسم أبيه أيضاً) إذا أتاك الملكان المقرَّبان، رسولين من عند الله تبارك وتعالى، وسألاك عن ربِّك، وعن نبيِّك، وعن دينك، وعن كتابك، وعن قبلتك، وعن أئمَّتك، فلا تخف ولا تحزن، وقل في جوابهما: الله ربِّي، و محمد صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نبييِّ، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، والكعبة قبلتي، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب إمامي، والحسن بن علي المجتبى إمامي، والحسين بن علي الشَّهيد بكربلاء إمامي، وعليَّاً

ص: 217

زين العابدين إمامي، و محمد الباقر إمامي، وجعفر الصَّادق إمامي، وموسى الكاظم إمامي، وعلي الرِّضا إمامي، و محمد الجواد إمامي، وعلي الهادي إمامي، والحسن العسكري إمامي، والحجَّة المنتظر إمامي، هؤلاء - صلوات الله عليهم أجمعين - أئمَّتي وسادتي وقادتي وشفعائي بهم أتولى ومن أعدائهم أتبرء في الدُّنيا والآخرة.

ثمَّ إعلم يا فلان بن فلان (وتذكر مكانه إسمه وأسم أبيه كذلك) إنَّ الله تبارك وتعالى نعم الرَّب وأنَّ محمداً صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نعم الرَّسول، وأنَّ علي بن أبي طالب وأولاده المعصومين الأئمَّة الأثنى عشر نعم الأئمَّة، وأنَّ ما جاء به محمد صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حق، وأنَّ الموت حق، وسؤال منكر ونكير في القبر حق، والبعث حق، والنُّشور حق، والصِّراط حق، والميزان حق، وتطاير الكتب حق، وأنَّ الجنَّة حق، والنَّار حق، وأنَّ السَّاعة آتية لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث من في القبور)).

ثمَّ يقول: ((أفهمت يا فلان)).

وجاء في الحديث أنه يقول: ((أفهمت))، ثمَّ يقول: ((ثبتَّك الله بالقول الثَّابت، وهداك الله إلى صراط مستقيم، عرَّف الله بينك وبين أوليائك في مستقرٍّ من رحمته)).

ثمَّ يقول: ((اللَّهمَّ جاف الأرض عن جنبيه، وأصعد بروحه إليك، ولقِّه منك برهاناً، اللَّهمَّ عفوك عفوك)).

والأولى أن يكون التَّلقين عربيَّاً - كما تقدَّم - وإن كان الملقِّن أعجميَّاً لمطابقة ألفاظ الرِّوايات الشَّريفة، وإن لم يكن الميَّت عربيَّاً فيكرِّر التَّلقين بلسانه أيضاً،

لإنسجامه النَّفسي معمعاني ألفاظه الخاصَّة إضافة إلى تلك الألفاظ العربيَّة الَّتي قرأت.

(مسألة 524) يستحب أن يكون الدَّافن على طهارة مكشوف الرَّأس حافي القدمين وأن يخرج من القبر من طرف الرِّجلين.

(مسألة 525) يستحب أن يهيل الحضور - غير الأقرباء - التُّراب بظهر الأكف، قائلين: ((إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون)).

(مسألة 526) يستحب أن يكون المباشر لدفن المرأة محارمها، ولو لم يوجد المحارم

ص: 218

يقوم مقامهم أقربائها.

(مسألة 527) يستحب تربيع القبر مربَّعاً حقيقيَّاً، أو مربَّعاً إلى إستطالة، وأن يرفع عن الأرض بمقدار أربع أصابع، وأن يجعل للقبر علامة لكي يتميَّز عن بقيَّة القبور، وأن يرشَّ الماء على القبر، ثمَّ يضع الحاضرون - بعد الرَّش - أيديهم على القبر مفرَّجات الأصابع، بحيث يبقى أثرها.

(مسألة 528) يستحب بعد الدَّفن أمور، وهي: -

1 - قراءة سورة القدر - على القبر - سبع مرَّات، وأن يطلب للميِّت الرَّحمة قائلاً:

((اللَّهمَّ جاف الأرض عن جنبيه وأصعد إليك روحه، ولقِّه منك رضواناً، وأسكن قبره من رحمتك ما تغنيه به عن رحمة من سواك)).

2 - أن يقرأ ولي الميِّت - أو من يأذن له بعد تفرُّق المشيعيِّن - الأدعية، مع التَّلقين للميِّت.

3 - تعزية أهل الميِّت إلاَّ إذا مضت مدة تكون تعزيتهم سبباً لتذكُّرهم المفجع لهم وتجديد أحزانهم.

4 - إرسال الطَّعام إلى بيوت أهل الميِّت إلى ثلاثة أيَّام، ويكره الأكل عندهم.

5 - الصَّبر عند موت الأقرباء وخصوصاً الأولاد وأن يقول عند التَّذكُّر: (إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون).

6 - يستحب قراءة القرآن للميِّت، وطلب الحاجة عند قبر الأبوين.

الفَصْلُ التَّاسع صَلاَةُ لَيْلَةُ الدَّفن (الوَحْشَة)

(مسألة 529) يستحب في ليلة دفن الميِّت الصَّلاة ركعتين، وتسمَّى ب- (صلاة الهديَّة) أو (الوحشة) لإستيحاشه في القبر في تلك الليلة كي يدفع ذلك بها، فعن النَّبي الأعظم صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنَّه قال (لا يأتي على الميِّت ساعة أشد من أوَّل ليلة فإرحموا موتاكم بالصَّدقة، فإن لم تجدوا فليصلِّ أحدكم ركعتين)، وقد ورد في كيفيَّتها ثلاث روايات: -

ص: 219

الكيفيَّة الأولى: وهي المشهورة: -

1- أن يقرأ بعد الحمد في الرَّكعة الأولى (آية الكرسي) مرَّة واحدة.

2- أن يقرأ في الثَّانية بعد الحمد سورة القدر عشر مرَّات.

3- أن يقول المصلِّي بعد الانتهاء من الصَّلاة (اللَّهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد، وأبعث ثوابها إلى قبر فلان) ويسمِّي الميِّت بدل كلمة (فلان).

الكيفيَّة الثَّانية: وهي: -

1- أن يقرأ بعد الحمد في الرِّكعة الأولى سورة الإخلاص مرَّتين.

2- أن يقرأ في الثَّانية بعد الحمد سورة (ألهاكم التَّكاثر) عشر مرَّات.3- أن يقول بعد الانتهاء من الصَّلاة (اللَّهمَّ … ألخ الدُّعاء).

الكيفيَّة الثَّالثة: وهي: -

كالكيفيَّة الثَّانية مع إضافة آية الكرسي في الرَّكعة الأولى.

(مسألة 30) وقت صلاة الوحشة من أوَّل ليلة الدَّفن إلى الفجر، والأحسن إتيانها أوَّل الليل.

(مسألة 531) لو نقل الميِّت إلى بلده الخاص أو تأخَّر دفنه لمانع، فلابدَّ من تأخير صلاة الوحشة إلى ليلة الدَّفن.

(مسألة 532) لا بأس بالإستيجار لهذه الصَّلاة، والأولى دفع المال إلى المصلِّي بقصد التَّبرع أو التَّصدق إن كان فقيراً، وهو يأتي بالصَّلاة بعنوان الإهداء والإحسان إلى الميِّت.

الفَصْلُ العَاشِر فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالمُعَزَّى (صَاحِبِ المُصِيبة)

(مسألة 533) يجوز البكاء على الميِّت - خصوصاً إذا كان مسكناً للحزن وحرقة القلب - بشرط أن لا يكون منافياً للرِّضا بقضاء الله تعالى، ولا يستلزم شيئاً من المحرَّمات الشَّرعيَّة، وكما ورد عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لمَّا فجع بولده إبراهيم أنَّه قال ((العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يغضب الرَّب))، وأمَّا

ص: 220

الجزع وعدم الصَّبر إن لم يكن منافياً للرِّضا والتَّسليم فقد يوجب إحباط الأجر، كما في بعض الرِّوايات، وأمَّا لو كان منافياً للرِّضا والتَّسليم فهو من أشدِّ المحرَّمات كما لا يخفى.

(مسألة 534) لا يجوز في حال المصيبة اللطم والخدش وجزِّ الشَّعر، وكذا الصُّراخ الخارج عن حد الإعتدال خصوصاً النِّساء على الأحوط وجوباً.

(مسألة 535) لا يجوز شقِّ الثَّوب في المصيبة إلاَّ على الأب والأخ لو لم يصلا إلى حدِّ ما بيَّنَّاه من النَّهي المحرَّم.

(مسألة 536) كفَّارة جزِّ الشَّعر وخدش الوجه في المرأة عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، وكذا لو شق الرَّجل جيبه في موت زوجته أو إبنه، وكما سيأتي التَّفصيل في ذلك أكثر في كتاب الكفَّارات.

الفَصْلُ الحَادِي عَشَر نَبْشُ القُبُور

(مسألة 537) يحرم نبش قبر المسلم على نحو يظهر جسده وإن كان طفلاً أو مجنوناً، إلاَّ إذا مضت مدَّة بحيث علم إندراسه وصيرورته تراباً فلا مانع، ولا يكفي الظَّن بذلك.

(مسألة 538) يحرم نبش قبر أولاد الأئمَّة والشُّهداء والعلماء والصلحاء المعلومين والمقتدى بهم في حياتهم وبعد وفاتهم وإن مضت عليها سنين متمادية، فضلاً عن قبور الأنبياء والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لعلاقة هذه الأمَّاكن بالدِّين وشعائره ومواطنها الَّتي ينبغي أن تعظَّم فيها دوماً بلا أن يتجرَّأ على هدمها، فلو حصل ما حصل - إضافة إلى المس بكرامتهم - لضعفت معالم الدِّين وإندرست آثاره بسببه ولو بعد حين، ولوجب على المؤمنين أن يضعوا البديل والمعوِّض ولو بعد النَّبش والإندراس، لإعادة بناء تلك المواقع من جديد، وبالأخص قبور الأنبياء والأئمَّة.

(مسألة 539) يجوز نبش القبر في الموارد التَّالية، ما لم يستلزم الهتك، وإلاَّ فيجبمراعاة الأهم، وهي: -

1 - ما لو دفن في أرض مغصوبة ولم يرض المالك ببقائه كما مرَّ.

ص: 221

2 - ما لو دفن في مسجد بعد توقيفه مسجداً، وأمَّا لو كان قبل ذلك ثمَّ صارت الوقفيَّة فلا ضير كما في بعض الأضرحة المقدَّسة.

3 - ما إذا كان كفن الميِّت مغصوباً، أو دفن معه مال لغيره، ولم يرض المالك بالبقاء.

4 - ما إذا لزم من ترك النَّبش ضرر مالي، كما لو دفن معه شيء من ماله ولم يرض الورثة ببقاءه.

5 - ما لو أوصى بدفن شيء معه لا يزيد على الثُّلث، كما إذا أوصى بأن يدفن معه قرآن أو خاتم مثلاً ولم يدفن معه.

6 - ما لو دفن بغير غسل أو تكفين أو تحنيط، أو تبين بطلانهما، أو كان دفنه على غير الوجه الشَّرعي كما لو وضع في القبر بغير إتِّجاه القبلة أو مع شخص آخر أو نحوهما.

7 - ما إذا توقَّف على نبشه أمر راجح جدَّاً، كما لو توقَّف إثبات حق من الحقوق أو نفي ظلامة على مشاهدة جسده.

8 - ما لو دفن في موضع موجب لمهانته كالمزبلة أو مقبرة الكفَّار.

9 - ما إذا دفن في موضع يُخاف عليه من سيل أو سبع أو عدو.

10 - ما إذا توقَّف واجب أهم على إخراجه، كما إذا دفنت الحامل وكان الجنين حيَّاً فيجب إخراجه.

11 - ما لو دفن على خلاف القبلة عمداً أو جهلاً أو سهواً أو نسياناً ثمَّ حصلت الهداية أو العلم أو الإنتباه وأمكن ذلك.

12 - ما لو بقيت قطعة من بدنه لم تدفن معه، لكنَّ الأحوط وجوباً في هذا المورد أن تدفن بصورة لا يرى فيها الجسد.

13 - ما إذا أريد نقله إلى المشاهد المشَّرفة إلاَّ في صورة الهتك كما إذا كان إخراجه مستلزماً لتقطيع بدنه أو إنتشار رائحة كريهة منه.

ص: 222

الأَغْسَالُ المَنْدُوبَة

وهي أقسام ثلاثة: زمانيَّة ومكانيَّة وفعليَّة، أمَّا الزَّمانيَّة فهي: -

1- غسل يوم الجمعة، وهو من المستحبَّات المؤكَّدة، بل قيل بوجوبه، وله آثار وفوائد جمَّة، ووقته من أذان الفجر إلى الزَّوال، وأفضل أوقاته ما يقرب من الزَّوال.

(مسألة 540) لو لم يغتسل المكلَّف قبل الزَّوال فالأحسن أن يأتي به بقصد القربة المطلقة بدون نيَّة الأداء ولا القضاء ما بين الزَّوال والمغرب.

(مسألة 541) لو فاته غُسل الجمعة فيستحب أن يقضيه يوم السَّبت من الفجر إلى الغروب.

(مسألة 542) يجوز تقديمه يوم الخميس لو خاف إعواز الماء يوم الجمعة، وإذا تمكَّن في يوم الجمعة يعيده بنحو رجاء المطلوبيَّة، وبالأخص لو انكشف عدم إعوازه فيه، بل يرجح في الأخير حتَّى الأتيان له مستحبَّاً تامَّاً.

(مسألة 543) يستحب الدُّعاء عند غُسل الجمعة، فقد ورد في حديث موثَّق عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أن تقول حين غُسل الجنابة (اللَّهمَّ طَهِّرْ قَلَبِي، وَتَقَبَّلْ سَعيِي، وَإِجْعَلْ مَا عِنْدَكَ خَيْرَاً لِي، اللَّهمَّ إِجْعَلْنِي مِنَ التَّوابِينَ، وَإِجْعَلْنِي مِنَ المُتَطهِّرِينَ).

وتقول حين غُسل الجمعة (اللَّهمَّ طَهِّرْ قَلَبِي مِنْ كُلِّ آفَةٍ تَمْحَقُ دِينِي وَتُبْطِلُ بِهِ عَمَلَي، اللَّهمَّ إِجْعَلْنِي مِنَ التَّوَابِينَ، وَإِجْعَلْنِي مِنَ المُتَطهِّرِين).

2- غُسل اليوم الأوَّل، والخامس عشر، والسَّابع والعشرين، واليوم الأخير من شهر رجب المرجَّب.

3- غُسل اليوم الخامس عشر من شهر شعبان المعظَّم، وهو يوم ولادة صاحب العصر والزَّمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ ويوم الليلة الَّتي يفرق فيها من كل أمر حكيم.

4- غُسل الليلة الأولى من شهر رمضان وكل ليلة فرد، كالثَّالث والخامس والسَّابع، كما يستحب الغُسل في جميع ليالي العشرة الأخيرة، وورد التَّأكيد بالنِّسبة إلى الليلة الأولى، والخامسة عشرة، والسَّابعة عشرة، والتَّاسعة عشرة، والواحدة والعشرين، والثَّالثة

ص: 223

والعشرين، والخامسة والعشرين، والسَّابعة والعشرين، والتَّاسعة والعشرين.

ووقتها تمام الليل والأحسن بين صلاتي المغرب والعشاء، وتزيد الليلة الثَّالثة والعشرون بغسل آخر في آخر الليل.

5- غُسل ليلة عيد الفطر، ووقته من أوَّل المغرب إلى الفجر، والأفضل في أوائل الليل.

6- غُسل يومي العيدين (الفطر والأضحى) ووقته من الفجر إلى الغروب وأفضل أوقاته قبل صلاة العيد.

7- غُسل اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام، وهو يوم دحو الأرض.

8- غُسل يوم التَّروية وهو الثَّامن من ذي الحجَّة الحرام ووقته من الفجر إلى الغروب.

9- غُسل يوم عرفة وهو التَّاسع من ذي الحجَّة الحرام، والأحسن الإتيان به قبل الظُّهر.

10- غُسل يوم الغدير، وهو اليوم الثَّامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام، وهو يوم تنصيب علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أميراً للمؤمنين، والأحسن الإتيان به قبل الظُّهر.

11- غُسل يوم المباهلة، وهو اليوم الرَّابع والعشرون من شهر ذي الحجَّة الحرام، وهو اليوم الَّذي باهل فيه النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نصارى نجران.

12- غُسل يوم مولد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وهو اليوم السَّابع عشر من شعر ربيع الأوَّل.

13- غُسل يوم عيد النَّيروز، وهو يوم رأس السَّنة الشَّمسيَّة الهجريَّة لبعض المناسبات الإسلاميَّة الَّتي فيه.

14- تغسيل الطِّفل في أوَّل ولادته.

وأمَّا المكانيَّة فأهمُّها هي: -

1- عند دخول حرم مكَّة المكرَّمة.

2- عند دخول بلدة مكَّة المكرَّمة.

3- عند دخول الكعبة المشرَّفة.

4- عند دخول حرم المدينة المنوَّرة.

ص: 224

5- عند دخول المدينة المنوَّرة، وقد حدَّدناه في كتابنا (غُنية النَّاسكين).

6- عند دخول مسجد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، ومشاهد الأئمَّة الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

أمَّا الفعليَّة فهي قسمان: -

أ- ما لو كان الغُسل بعد وقوع فعل من الأفعال وهو: -

1- غُسل المرأة الَّتي إستعملت الطِّيب لغير زوجها.

2- غسل من نام سكراناً والعياذ بالله.

3- غسل من مسَّ ميِّتاً بعد تغسيله.

4- غسل من ذهب قاصداً إلى مشاهدة المصلوب ورآه، بل الأحوط الإلتزام به لو قصده بعد ثلاثة أيَّام وعدم التَّساهل فيه ولكن لو رآه صدفة أو إضطراراً، أو لأداء الشَّهادة فلا رجحان للغُسل.

ب - ما لو كان الغُسل لأجل إيقاع فعل من الأفعال وهو: -

1- الغُسل للإحرام.

2 - الغُسل للطواف.

3- الغُسل للوقوف بعرفات، أو المشعر الحرام، أو الذَّبح .

4- الغُسل لزيارة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من قرب أو بعد.

5- الغُسل لطلب الحاجة من الله تعالى.

6- الغُسل للتَّوبة ولأجل النَّشاط في العبادة.

7- الغُسل للسَّفر، سيَّما سفر زيارة الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ .

إلى غير ذلك من الأغسال المستحبَّة، فلتطلب توسُّعاً من مظانِّها.

(مسألة 544) يكفي الغُسل مرَّة واحدة وإن تكرَّر الدُّخول في يوم واحد، وإذا أراد دخول حرم مكَّة والمسجد الحرام والكعبة في يوم واحد، فإنَّه يكفي غُسل واحد بنيَّة الجميع، وكذا لو رام الدُّخول في حرم المدينة وبلدة المدينة ومسجد الرسول صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في يوم واحد.

وإذا أتى بأحد الأغسال المكانيَّة ثمَّ أحدث (أي أتى بما يوجب بطلان وضوءه) كما

ص: 225

لو نام مثلاً، فإنَّه يبطل غسله فيستحب إعادته لأجل الدُّخول في الأمكنة المذكورة.

(مسألة 545) قد عدَّ من المستحبَّات غُسل من ترك صلاة الآيات متعمِّداً، عند احتراق القرص كلِّه، ولكنَّ الأحوط وجوباً الإتيان به كما مرَّ.

(مسألة 546) الأغسال المستحبَّة لا تُغني عن الوضوء فلا يجوز معها الإتيان بالأعمالالمشروطة بالوضوء إلاَّ بعد الإتيان به.

(مسألة 547) إذا كان عليه أغسال مستحبَّة يكفيه غسل واحد بنيَّة الجميع.

(مسألة 548) الأغسال المستحبَّة تصبح واجبة بسبب النَّذر وشبهه.

ص: 226

المقصد الثَّامن في التَّيمُّم

وفيه فصول: -

الفَصْلُ الأوَّل مُسَوِّغَاتُ التَّيمُّم

الأسباب المجوِّزة أو الموجبة للتَّيمُّم سبعة أمور، ضابطها (العذر الشَّرعي المسقط لوجوب الطَّهارة المائيَّة) وهي:

الأوَّل: عدم وجدان كميَّة من الماء تكفيه لوضوئه أو غسله.

(مسألة 549) إذا حصل العلم بفقد الماء والى نهاية الوقت للصَّلاة مثلاً فلا يجب الفحص عنه، فينتقل حكم طهارته المائيَّة إلى التَّيمُّم، أمَّا لو احتمل الحصول عليه بحسب إمكانه - ولو بتعب كمن كان الماء في داخل بيته مقطوعاً عن أنابيبه واحتمل رجوعه أو احتمل وجود الماء في الخزَّانات الكبيرة الضَّخمة الَّتي في البلد، أو كان في الفلاة واحتمل وجود الماء عند رفاقه في القافلة - فالَّلازم عليه أن يفحص عنه إلى أن يحصل اليأس أو الاطمئنان بعدمه.

(مسألة 550) إذا كان المكلَّف في الفلاة مثلاً واحتمل وجود الماء لو طلبه، فيجب عليه أن يكون طلبه بمقدار غلوة سهم - من السِّهام القديمة الَّتي كانت ترمى بالقوس ضدَّ الأعداء - في الأرض الحزنة (الوعرة)، وسهمين في الأرض السَّهلة، وفي الجوانب الأربعة لو احتمل وجوده في واحد من الجميع لا بعينه، ويسقط من الجانب الَّذي يعلم بعدم وجود الماء فيه بتاتاً.

(مسألة 551) قد حدَّد بعض الأساطين غلوة السَّهم ب- (مائتي خطوة إعتياديَّة)، ولكنَّ الإحتياط لا يترك بالزِّيادة عن هذا المقدار لو احتمل وصول بعض أنواع السِّهام إلى ما هو أبعد ولو بحسب قوَّة دفع الرَّامي الطَّبيعيَّة.

ص: 227

(مسألة 552) لو احتمل وجود الماء فوق المقدار المذكور وكان بإمكانه الفحص عنه بسهولة قد تكون أكثر وفي نفس المدَّة المضروبة لغلوة السَّهم أو السَّهمين عن طريق بعض الوسائط الحديثة - كمن كانت لديه سيَّارة أو درَّاجة على الأقل يمكن أن يستفاد منها لسرعتها أكثر - ولم تكن لديه أعذار أخرى تمنعه كضيق الوقت - مثلاً - وجب عليه ذلك.

(مسألة 553) لا تجب المباشرة في الفحص عن الماء، بل يجوز إستنابة من يُطمئن بقوله، فيمكن إستنابة شخص واحد عن جماعة كالرَّجل عن النِّساء، إلاَّ إذا احتمل توقَّف الحصول على الماء بفحص أكثر عدد من الأشخاص لهم بنحو التَّعاون فيجب في نفس المدَّة المضروبة.

(مسألة 554) من فحص عن الماء قبل دخول وقت الفريضة وكان مطمئناً بفحصه وحصل اليأس من الحصول عليه، فلا يجب عليه الفحص ثانياً عند دخول الوقت ما دام اليأس مستمرَّاً وهو في ذلك المكان.

(مسألة 555) لو صلَّى فريضة - متيمِّماً - بعد الفحص عن الماء وبقي في نفس المكان ودخل وقت الفريضة الأخرى فلا يجب إعادة الفحص مرَّة ثانية، إلاَّ إذا احتمل وجدان الماء، بل الأحوط وجوباً إعادة التَّيمُّم مع سعة الوقت له وفقد الماء.

(مسألة 556) يسقط وجوب الفحص عند ضيق الوقت، أو الخوف على النَّفس أوالعرض، أو المال من لص أو سبع، وكذلك يسقط لو كان في فحصه حرج أو مشقَّة لا تتحمَّل عادة.

(مسألة 557) يحرم تأخير الفحص عن الماء حتَّى يضيق وقت الفريضة، لكن لو تيمَّم بعد ضيق الوقت فتيمُّمه صحيح وعليه الإستغفار من إثمه، الَّذي حصل بسبب تساهله لو كان.

(مسألة 558) إذا ترك الفحص عن الماء فصلَّى متيمِّماً فإن كان الماء غير موجود واقعاً فتيمُّمه صحيح، أمَّا لو طلب الماء ولم يجده فتيمَّم وصلَّى ثمَّ انكشف وجوده في محل الطَّلب أعاد صلاته إذا كان الإنكشاف في الوقت، وإذا كان بعد الوقت لم يجب عليه قضاؤها مع الاحتياط الاستحبابي بالقضاء في ذلك، ويشتدَّ الاحتياط لو تسبَّب الإنكشاف

ص: 228

عن تقصيره في الطَّلب.

(مسألة 559) من اعتقد بأنَّ الوقت لا يسع للفحص فتيمَّم وصلَّى ثمَّ بعد ذلك علم سعته لذلك، فالأحوط الوجوبي أن يعيد تلك الصَّلاة وإن مضى الوقت قضاها، وبالأخص لو كان هذا ناتجاً عن تقصير في البداية.

(مسألة 560) إذا دخل وقت الفريضة وكان الشَّخص على وضوء وهو يعلم بأنَّه إذا أبطل وضوءه لا يقدر أن يتوضَّأ مرَّة ثانية فحينئذ يجب عليه أن يحفظ ذلك الوضوء للصَّلاة وإن نقضه وجب عليه التَّيمُّم، وأمَّا قبل دخول الوقت فالأحوط الاستحبابي حفظه، هذا إذا تمكَّن من حفظ الوضوء بدون ضرر، وأمَّا معه فيرتفع التَّكليف به وينتقل إلى المعوِّض وهو التَّيمُّم.

الثَّاني: عدم التَّمكُّن من الوصول إلى الماء الموجود شرعاً أو عقلاً.

(مسألة 561) من لم يتمكَّن من الوصول إلى الماء لعجز، كضعف بدنه، أو عدم وجدانه لما يستخرج به الماء من البئر، أو خاف على نفسه أو عرضه أو ماله من وجود لص أو سبع في طريقه إلى الماء، وكذا لو كان المانع شرعيَّاً ككون الماء في الأرض المغصوبة أو الظرف المغصوب ولم يوجد ماء آخر غيره فيجب في جميع هذه الموارد التَّعويض عن الوضوء بالتَّيمُّم.

الثَّالث: ما إذا توقَّف تحصيل الماء على بذل مال يضر بحاله.

(مسألة 562) لو توقَّف تحصيل الماء - أو ما يستخرج به - على بذل مال بأزائه وكان متمكِّناً من الحصول على هذا المال - ولو بالإقتراض - بحيث لا يضر بحالته الماديَّة فيجب شراءه ولو بأضعاف القيمة، نعم لو كان يعلم بأنَّه لا يتمكَّن من أدائه لو إقترض فينتقل حكمه إلى التَّيمُّم.

(مسألة 563) من لم يجد الماء فإن أمكن حفر بئر ببذل مال أو غيره وبلا عسر وحرج - كما في بعض الأماكن الَّتي يُحفر فيها بعمق مترين مثلاً فيصل إلى الماء - وجب عليه ذلك الحفر.

ص: 229

الرَّابع: خوف الضَّرر من استعمال الماء.

(مسألة 564) لو خاف من إستعمال الماء لأجل حدوث المرض أو زيادته أو بطؤ برئه كصعوبة معالجته، أو خاف الضَّرر على نفسه أو بعض جسده كالرَّمد المانع من استعمال الماء، وكذا من خاف الشَّين الَّذي يعسر تحمله، كالخشونة المشوِّهة للخلقة والموجبة لتشقُّق الجلد في بعض الأبدان المتحسِّسة من أصل الماء إنتقل حكمه إلى التَّيمُّم.

(مسألة 565) من لم يستطع من استعمال الماء البارد في فصل الشِّتاء لرفع الحدث - الأصغر أو الأكبر - فيتعيَّن عليه الماء الفاتر، فإن تعذَّر الحصول عليه إنتقل إلى التَّيمُّم.

(مسألة 566) لا يلزم على المكلَّف دائماً أن يتيَّقن بضرر الماء لرفع حدثه، بل يكفي الاحتمال كحصول بعض الإمارات العقلائيَّة ولو كانت ظنيَّة مخيفة، لكن لا يكفي لو كان من نوعالطَّفيف الَّذي يداهم أهل الوسوسة والخيال الوهمي.

(مسألة 567) إذا تيقَّن المكلَّف أو خاف الضَّرر من استعمال الماء فتيمَّم ثمَّ التفت قبل الصَّلاة بأنَّ الماء لا يضرُّه فيجب عليه الوضوء أو الغُسل للصَّلاة، أمَّا إذا عرف ذلك بعد الصَّلاة فالأحوط وجوباً أن يتوضأ أو يغتسل ويعيد الصَّلاة أداءاً في داخل الوقت وقضاءاً في خارجه.

(مسألة 568) من علم بعدم الضَّرر في استعمال الماء فتوضَّأ ثمَّ بعد ذلك التفت إلى الضَّرر فوضوءه صحيح ولا يحتاج إلى التَّيمُّم لعدم تعمده على أساس العلم بالضرر.

الخامس: الخوف من استعمال الماء على نفسه وعياله.

(مسألة 569) إذا خاف - فعلاً أو في المستقبل - من استعمال الماء على نفسه من العطش أو على غيره ممَّن يجب عليه حفظه - كأولاده وعياله أو بعض متعلِّقيه وأصدقائه وغلمانه -، يجب عليه التَّيمُّم، وكذا لو خاف على نفس محترمة أو على دابَّته.

(مسألة 570) إذا كان عنده ماءان طاهر ونجس ويخاف على نفسه من العطش يجب عليه حفظ الماء الطَّاهر وينتقل حكمه إلى التَّيمُّم، لعدم جواز شرب النَّجس ولا استعماله في الوضوء أو الغسل، نعم لو كان الخوف على دابِّته وجب عليه الوضوء أو الغُسل

ص: 230

وصرف الماء النَّجس في حفظ الدابة.

السَّادس: معارضة استعمال الماء في الوضوء أو الغسل لواجب أهم.

(مسألة 571) لو دار الأمر بين إزالة الحدث وإزالة الخبث عن بدنه أو لباسه فيجب عليه التَّيمُّم وصرف الماء في إزالة الخبث، والأولى صرف الماء فيه ثمَّ إذا لم يبق ما يكفي للوضوء يتيمَّم، بل لا يجوز إلاَّ في حال ضيقه على الأحوط حتَّى لو حصل عنده اليأس في أوَّله.

السَّابع: ضيق الوقت عن تحصيل الماء أو عن استعماله.

(مسألة 572) لو ضاق وقت الفريضة بحيث إذا توضَّأ أو اغتسل وقعت أو بعضها خارج الوقت وجب عليه التَّيمُّم، بل لا يجوز الاَّ في حال ضيقه على الأحوط حتَّى لو حصل عنده اليأس في أوَّله.

(مسألة 573) من كان واجداً للماء وأخَّر صلاته عمداً بحيث ضاق وقتها وجب عليه التّيمُّم وعليه الإستغفار.

(مسألة 574) من شكَّ في بقاء الوقت بسعة أو ضيق توضأ أو اغتسل إستصحاباً للبقاء.

(مسألة 575) من تيمَّم - لأجل عذر ضيق الوقت فقط - للصَّلاة الحاضرة فلا يكفيه للصَّلوات الأخرى ولا أي غاية أخرى كدخول المساجد، بل لابدَّ من إعادة التَّيمُّم إحتياطاً لو حصل عذر آخر كفقد الماء لأنَّه مبيح لا رافع كالماء.

(مسألة 576) يُشترط في عذر ضيق الوقت أن يكون عن أداء الواجبات فقط، فإذا لم يكف المستحبَّات معها مثل القنوت ونحوه وجب الوضوء للواجبات فقط نيَّة وعملاً، بل لو لم يكف لقراءة السُّورة تركها وتوضَّأ وصلَّى بلا سورة.

(مسألة 577) إذا كان الوضوء حرجيَّاً أو ضرريَّاً بحيث لا يبلغ مرتبة الحرمة وتوضأً المكلَّف ولم يتيمَّم حكم بصحَّة وضوئه، وإذا بلغ الضَّرر مرتبة الحرمة بطل وضوؤه ووظيفته التَّيمُّم فقط.

ص: 231

(مسألة 578) إذا ترك التَّيمُّم في الموارد المذكورة لعذر كالغفلة أو النِّسيان وتوضَّأ صحَّوضوءه، وكذا لو تركه جهلاً بوجوب التَّيمُّم، إلاَّ أن يكون الوضوء محرَّماً في حقِّه، وإذا ترك التَّيمُّم عند ضيق الوقت وتوضَّأ وقصد به القربة المطلقة دون الأمر الفعلي بالوضوء حكم بصحَّة وضوئه.

الفَصْلُ الثَّاني في بَيَان مَا يَصُحُّ التَّيمُّم بهِ

(مسألة 579) يصح التَّيمُّم بكل ما يصحُّ إطلاق اسم الأرض عليه من أجزاءها التُّرابيَّة وملحقاتها، والأحوط إستحباباً

الإقتصار على التُّراب الخالص أوَّلاً ثمَّ الرَّمل والمدر والحجر والطَّين اليابس والحصى، ولا فرق في صحَّة التَّيمُّم بين أن يكون في الأرض أو في الحائط.

(مسألة 580) يجب ترك الأسمنت والجص والنُّورة بعد الإحراق، وكذا الطِّين المطبوخ كالخزف والطَّابوق والكاشي والموزائيك وغيرها وإن أعطت فتيتاً لإنَّه مفخور.

(مسألة 581) لا يصح التَّيمُّم بما لا يصدق عليه اسم الأرض وإن كان أصله منها كالرَّماد والنَّبات والمعادن - مثل الذَّهب والفضَّة والقير - ونحوها ممَّا لا يسمَّى أرضاً بالاعتبار الخاص حتَّى الأحجار الكريمة كالعقيق والفيروزج على الأحوط وجوباً وإن كان منها فعلاً.

(مسألة 582) إذا عجز عن التَّيمُّم بالأرض تيمَّم بغبارها المتجمِّع في ثوبه أو في عرف دابَّته أو لبدها بعد نفضه وجمعه إن أمكن وإلاَّ تيمَّم عليها.

(مسألة 583) إذا عجز عن التَّيمُّم بالغبار تيمَّم بالوحل (الطِّين) بعد تجفيفه إن أمكن، وإلاَّ تيمَّم به.

(مسألة 584) إذا عجز عن التَّيمُّم بالأرض والغبار والوحل، فيتيمَّم بما يتيسَّر له - كالطِّين المطبوخ مثلاً ويفضَّل المطبوخ طبخاً جزئيَّاً على المطبوخ طبخاً كاملاً - ويصِّلي ثمَّ يعيدها في داخل الوقت - عند وجدان الماء أو التُّراب - و يقضيها في خارجه على الأحوط وجوباً.

ص: 232

(مسألة 585) إذا وجد ثلجاً وأمكن إذابته تعيَّن الوضوء أو الغُسل به، وإلاَّ فيمسح أعضاء الوضوء أو الغُسل به بمهلة، بنحو تبتل به الأعضاء تماماً بسبب بعض الذَّوبان الَّذي يحدث، وإن لم يتمكَّن جمع بين التَّيمُّم والمسح به.

(مسألة 586) يجب تحصيل ما يُتيمَّم به إذا انحصر الأمر به ولو بالشِّراء مع الإمكان.

(مسألة 587) لو تيمَّم بما يعتقد جواز التَّيمُّم به فبان خلافه كان باطلاً، ولو صلَّى به أعاد صلاته في الوقت وخارجه كالجص المطبوخ.

(مسألة 588) لا يجوز التَّيمُّم بالأمور التَّالية: -

1- المأكول والملبوس وإن كانت حقيقتهما من الأرض، وكذا الخشب والحطب.

2- النَّجس، فلو لم يجد شيئاً طاهراً ممَّا يصح التَّيمُّم به كان فاقداً للطَّهورين، ولو اشتبه الطَّاهر بالنَّجس تيمَّم بكل منهما، وبالأخص حالة الإنحصار لا كما مرَّ في الماءين لأجل جفاف الإثنين هنا، ولكن عليه أن ينقِّي يديه من التُّرابين لئلاَّ يعلق المتنجِّس منهما في جسمه فيعرق أو يصيبه بلل آخر ويأثِّر ذلك فيه.

3- المغصوب، بل في المكان المغصوب كذلك، إلاَّ عند الإكراه في المكوث فيه وإنحصار التَّيمُّم فيه كالمحبوس فيتيمَّم ويصلِّي، ثمَّ عليه الإعادة أو القضاء في خارجه على الأحوط مع الإمكان، وفي حالة الاشتباه بالمباح يجب الاجتناب عنهما مع إمكان الإستغناء عنهما.(مسألة 589) لا يجوز التَّيمُّم في الفضاء المغصوب، بل لو ضرب بيديه الأرض في ملكه ودخل في ملك الغير ومسح بهما وجهه فتيمُّمه باطل على الأحوط الوجوبي، لإنَّ إثارة التُّراب إلى ملك الغير تسبَّبت من ضربته على الأرض وإن كانت في ملكه.

(مسألة 590) من تيمَّم جاهلاً أو ناسياً بالغصب صحَّ تيمُّمه إلاَّ إذا كان هو الغاصب، فالأحوط إعادة التَّيمُّم ثمَّ إعادة الصَّلاة فيما لو صلاَّها بهذا التَّيمُّم، بل حتَّى لو لم يكن هو الغاصب إذا كان يظن تحريم المغصوب منه له تحريماً نوعيَّاً، وكذا من يصدق عليه أنَّه جاهل مقصِّر ملتفت.

4- الممتزج بما يخرجه عن اسم الأرض، كما إذا إمتزج التُّراب بالتِّبن أو الرَّماد أو الملح بحيث يخرجه عن اسم التُّراب، نعم لو كان قليلاً مستهلكاً في الخالص جاز

ص: 233

ذلك.

(مسألة 591) يستحب في التَّيمُّم أمور: -

1- أن يكون التَّيمُّم من رُبى الأرض وعواليها.

2- أن يكون عليه غبار يلصق باليد.

3- أن ينفض الغبار بعد الضَّرب، ويجب لو كان الغبار كثيراً حاجباً عن مباشرة المسح على البشرة.

(مسألة 592) يكره التَّيمُّم بأمور: -

1- إن كان من مهابط الأرض.

2- إن كان من تراب يوطأ كتراب الطَّريق.

3- إن كانت الأرض سبخة إذا يعلوها الملح مع غالبيَّة التُّراب، إلاَّ إذا صفت من ذلك فلا كراهيَّة.

الفَصْلُ الثَّالث في كَيفَيَّة التَّيمُّم

ويجب فيها أمور: -

الأول:أن يضرب - بعد النيَّة - باطن يديه معاً دفعة واحدة على ما يتيمَّم به، ولا يكفي الوضع بدون الضَّرب، ولا الضَّرب بأحدهما، ولا بهما على التَّعاقب، ولا الضَّرب بظاهرهما إختياراً.

الثَّاني: أن يمسح بهما الجبهة بتمامها والجبينين من قصاص الشَّعر إلى طرف الأنف الأعلى والحاجبين، بل الأحوط مسح الحاجبين أيضاً.

الثَّالث: أن يمسح تمام ظاهر كفِّه اليمنى من الزَّند إلى أطراف الأصابع بباطن اليد اليسرى، ثمَّ مسح تمام ظاهر كفِّه اليسرى بباطن يده اليمنى كذلك.

(مسألة 593) يعتبر في مسح الجبهة واليدين إمرار الماسح على الممسوح، فلا اعتبار بجر الممسوح تحت الماسح، نعم الحركة اليسيرة المصادفة في الممسوح غير مضرِّة بصحته.

(مسألة 594) يجب المسح في الجبهة أن يكون على البشرة بعد رفع الشَّعر المسترسل

ص: 234

من الرَّأس عليها، أمَّا الشَّعر النَّابت عليها وعلى ظهر اليد فهو غير مانع من المسح.

(مسألة 595) لا يجب المسح بتمام الكفَّين، بل يكفي المسح ببعضهما على نحو يستوعب الجبهة والجبينين.(مسألة 596) يكفي الصِّدق العرفي في المسح ولا تجب الدِّقة أكثر من الواجب، نعم لو بقي جزء يسير - من الممسوح - متروكاً بطل التَّيمُّم بلا فرق بين العمد والجهل بالحكم والنِّسيان.

(مسألة 597) يجب مسح مقدار زائد على الحد من ظهر اليد - من باب المقدِّمة - حتَّى يتيقَّن بتماميَّة المسح بمقدار الواجب.

(مسألة 598) إذا تعذَّر الضَّرب والمسح بباطن الكفَّين إنتقل إلى ظاهرهما، وكذا إذا كان نجساً بنجاسة متعديَّة وغير قابل للإزالة، أمَّا إذا لم تكن متعديَّة أو أمكن الإزالة ضرب به ومسح.

(مسألة 599) إذا كان على الممسوح (الجبهة أو الجبين أو ظاهر الكفَّين) حائل كالجبيرة أو القير فإن أمكن رفعه وجب ذلك، وإلاَّ مسح عليها، وإذا كان على باطن الماسح حائل لا يمكن إزالته إحتاط بالجمع بين الضَّرب والمسح بظاهر الكفَّين وباطنهما.

(مسألة 600) الأحوط تعدُّد الضَّربات خصوصاً إذا كان التَّيمُّم بدلاً عن الغُسل، بأن يضرب ضربة للوجه وضربة للكفَّين، أو يضرب بيديه تارة ويمسح بهما جبهته ويديه معاً ثمَّ يضرب مرَّة أخرى ويمسح بهما يديه.

الفَصْلُ الرَّابع شُروط المتَيمِّم

(مسألة 601) يشترط في التَّيمُّم أمور: -

الأوَّل: النيَّة والإخلاص كما تقدَّم في الوضوء، ولا يجب فيها سوى القصد إلى التَّيمُّم متقرِّباً إلى الله تعالى ومقارنة لضرب اليدين على الأرض، وعلى هذا فإنَّ الأحوط تقديم هذه النِّيَّة على الضَّرب من باب المقدِّمة لو كانت بنحو الخطور، وأمَّا كونها بنحو الدَّاعي لو كان فهي حاصلة من طبيعتهامع استمرار ذلك الدَّاعي.

ص: 235

الثَّاني: المباشرة، حال الإختيار والتَّمكُّن.

الثَّالث: التَّرتيب بين أعضاء التَّيمُّم كما تقدَّم، فإن خالف وفات المنسَّق المرتَّب بطل سواء عن جهل أو نسيان، وكذا مع فوات المولاة أيضاً، بمعنى مرور مدَّة زمنيَّة لا يمكن فيها التَّدارك لتصحيح التَّرتيب، أمَّا إذا لم تفت أعاد على ما يحصل به التَّرتيب.

الرَّابع: الموالاة، وهي عدم الفصل بين أفعال التَّيمُّم بأزيد من المتعارف بحيث يخل بهيئته ويكون ماحياً لصورته كما مرَّ.

الخامس: الابتداء بالمسح من الأعلى إلى الأسفل.

السَّادس: عدم الحائل بين الماسح والممسوح كالخاتم فيجب نزعه، وكذا يجب رفع كل ما لصق بالوجه أو ظاهر اليدين.

السَّابع: طهارة الماسح والممسوح.

(مسألة 602) لا يجب قصد البدليَّة عن الوضوء أو الغسل، ولكن يجب قصد التَّعيين عند تعدُّد الأحداث والإشتباه في حالته، فلو عيَّن عوض رفع الجنابة - إشتباهاً - رفع حدث المسِّ للميِّت مثلاً قاصداً الأمر الواقعي فتيمُّمه صحيح.

(مسألة 603) الأقطع بإحدى اليدين يكتفي بضرب الأخرى على الأرض ويمسح بهاجبهته ثمَّ يمسح ظهرها بالأرض، وأمَّا الأقطع بكلتا اليدين فيمسح بجبهته على الأرض.

(مسألة 604) المكلَّف العاجز عن المباشرة يتيمَّم بواسطة غيره، بأن يأخذ الغير بيدي العاجز ويضرب بهما الأرض ثمَّ يمسح بهما لما وظِّف له، وإن لم يتمكَّن ضرب المباشر بيدي نفسه على الأرض ويمسح وجه العاجز وكفيه.

(مسألة 605) إذا شكَّ المتيمِّم في إتيان جزء من التَّيمُّم أو نسيانه بعد الفراغ لم يلتفت، ولو شكَّ في أثناء العمل وجب عليه الإلتفات، فيبدأ بمسح الجزء المشكوك ثمَّ بما بعده من الأجزاء، أمَّا لو شكَّ في الجزء الأخير (مسح اليد اليسرى) ولم تفت الموالاة ولم يدخل في الأمر المترتِّب عليه من صلاة ونحوها فالأحوط وجوباً الإلتفات إلى ذلك الشَّك

ص: 236

وإعادة مسحها.

الفَصَلُ الخَامِس أَحْكَامُ التَّيمُّم

(مسألة 606) بعد أن عرفنا أنَّ من مسوِّغات التَّيمُّم هو ضيق الوقت، فلا يصح التَّيمُّم لصلاة مؤقَّتة قبل دخول وقتها،وإنَّما يصحُّ بعد دخول وقتها وإلى أواخره إن حصل اليأس عن التَّمكن من الماء للوضوء أو الغُسل كما مرَّ، ولو إتَّفق التَّمكن منه بعد الصَّلاة فالأحوط إعادتها في داخل الوقت ولا يجب القضاء كما مرَّ.

(مسألة 607) يجوز للمكلَّف أن يتيمَّم - قبل دخول وقت الصَّلاة - لغاية أخرى غيرها وجوبيَّاً - كالطَّواف الواجب - أو إستحبابيَّاً - كالطَّواف المستحب - على حسب القضايا المختلفة، وكذا يجوز الاستفادة من هذا التَّيمُّم بعد دخول وقتها مع تقدير استمرار حالة العجز عن الماء للوضوء وإفتقاد التُّراب أيضاً لغرض التَّجديد، فلو بقي عذره إلى ما بعد الوقت مع ضيقه في المقام أو مع اليأس فله أن يصلِّي بذلك التَّيمُّم، لقاعدة الميسور مع الاحتياط بالقضاء في خارج الوقت لو تيسَّر الماء أو التُّراب حسب التَّكليف الشَّرعي المرتَّب في أمر هذين المطهِّرين.

أمَّا لو تمكَّن من التُّراب على الأقل في داخل الوقت فعليه التَّجديد للقيام بوظيفة الوقت عند تعذُّر أو تعسُّر الماء، ومع وجوده فهو مقدَّم لا محالة، بل هو مقدَّم كذلك ولا يجوز التَّفريط به لو أمكن حصوله لفريضة الوقت وأراد المكلَّف الطَّهارة قبله للأغراض الأخرى كما مرَّ لو أراده لما قبل ذلك الوقت، فإنَّه يتعيَّن عليه التَّيمُّم ويبقى الماء لوضوء فريضة الوقت.

(مسألة 608) يجوز المبادرة إلى الصَّلاة متيممَّاً في حال العلم ببقاء العذر إلى آخر الوقت، إما إذا ظنَّ زوال العذر وجب الصَّبر عن التَّيمُّم إلى إرتفاعه للصَّلاة مع الوضوء أو الغُسل.

(مسألة 609) التَّيمُّم بدلاً عن غُسل الجنابة لا يُغني عن الوضوء إحتياطاً لا كغُسل الجنابة، فضلاً عن التَّيمُّم بدلاً عن سائر الأغسال الأخرى، فيحتاج إلى الوضوء إن تمكَّن

ص: 237

من الماء وإلاَّ تيمَّم ثانياً بدلاً عنه، ولو تمكَّن من الوضوء دون الغُسل أتى به وتيمَّم عن الغُسل.

(مسألة 610) ينتقض تيمُّم الجنب بدلاً عن غسل الجنابة بالحدث الأصغر كالنَّوم والبول فيتيمَّم ثانية عن الغُسل مع استمرار عذره على الأحوط، ويتيمَّم بعده لرفع الحدث الأصغر مع عدم القدرة على الوضوء، وأمَّا مع القدرة عليه فعليه أن يتوضأ، وكذا إذا تيمَّمت المرأة بدلاً عن الحدث الأكبر - غير الجنابة - كالحيض، ثمَّ أحدثت بالأصغر وكذا غيرهما من الأحداث.

(مسألة 611) المستحاضة الوسطى إن تمكَّنت من الاغتسال فقط وجب عليها التَّيمُّم بدلاً عن الوضوء.(مسألة 612) ينتقض التَّيمُّم الواقع بدلاً عن الوضوء بكل ما ينتقض به الوضوء كما مرَّ، كما أنَّه ينتقض بالتَّمكُّن من الوضوء.

(مسألة 613) ينتقض التَّيمُّم البديل عن الغُسل بما ينقض به الغُسل كالجنابة والحيض والنَّفاس ومسِّ الأموات والاستحاضة الكبرى والوسطى.

(مسألة 614) لا تجوز إراقة الماء الكافي للوضوء أو الغسل بعد دخول الصَّلاة وبالأخص إذا علم بأنَّه إذا أتلفه لم يتمكَّن من تحصيله، ولو تعمَّد إراقته بعد دخول الوقت أثم ووجب عليه التَّيمُّم مع اليأس من حصوله على الماء، ولو تمكَّن من الماء بعد الصَّلاة وجب على الأحوط إعادتها في داخل الوقت دون خارجه كما تقدَّم، وأمَّا لو لم يدخل وقتها فلا يجب حفظه وإنَّما يستحب إحتياطاً.

(مسألة 615) من تيمَّم مرَّتين عن الغُسل وعن الوضوء ثمَّ وجد ماء يكفيه للوضوء فقط إنتقض تيمُّمه البديل عن الوضوء، ومن وجد ماءاً يكفيه للغُسل إنتقض تيمُّمه بدلاً عن الغُسل، ثمَّ لو إفتقد الماء بعد وجدانه أعاد التَّيمُّم بنية البدل عن الغسل، إذا كان ما وجده كافياً له، وبنيَّة البدل عن الوضوء إذا كان ما وجده كافياً له.

(مسألة 616) إذا وجبت على المكلَّف أغسال متعدِّدة ولم يتمكَّن من الماء أجزئه تيمُّم واحد عن الجميع، وعليه بالوضوء مع توفُّر مائه، وإلاَّ تيمَّم إحتياطاً بدلاً عنه في

ص: 238

جميع الأغسال إحتياطاً.

(مسألة 617) يستحب إعادة الصَّلوات، الَّتي صلاَّها مع التَّيمُّم في موارد: -

1- تعمُّد الجنابة مع خوف استعمال الماء.

2- لو أجنب نفسه مع العلم بعدم وجود الماء أو إحتماله.

3- خوف عدم التَّمكُّن من الصَّلاة بواسطة الإزدحام وصلَّى الجمعة مستعجلاً مع التَّيمُّم والماء موجود، ولكن الأقوى لزوم إعادته ظهراً مع الوضوء.

(مسألة 618) على فاقد الطَّهورين في الأحداث الكبيرة يجب ترك ما يجب تركه أثنائها إلى حين حصول إحدى الطَّهارتين في مرتبتها، وكذا فاقدهما في الأحداث الصَّغيرة إلى حين حصول طهارتيه كل بحسبه وإن وجبت عليه الواجبات إحتياطاً كما سيتَّضح في أجزاء العبادات.

ص: 239

خاتمة

ربَّما تمر في جزء العبادات الآتي أمور هي أنسب ما تكون أن يبحث عنها في هذا الكتاب الحالي، لكونها أقرب ما تكون إلى المقدِّمات العامَّة، كالقبلة والسَّتر والسَّاتر وإباحة المكان ونحوها، لكون هذه الأمور يجب إحرازها في الصَّلاة وغيرها وكوسيلة لغاية.

فالقبلة مثلاً يجب إحرازها للدفن، والصَّلاة، والاعتكاف، والحج، والذبح، والنحر.

والسَّتر والسَّاتر يجب توفُّرهما في التَّخلِّي وتجهيز الموتى، والصَّلاة، والحج ونحوهما من أمور الحجاب الإسلامي العام للنِّساء، وأقلُّه ستر العورتين للرجل مع الاحتياط بستر ما بين السُّرَّة والرُّكبتين له.

وإباحة المكان يجب توفُّرها لحالات الطَّهارة ولدفن الموتى وللصَّلاة والاعتكاف والحج ونحو ذلك من جميع حالات تصرُّفات النَّاس الشَّرعيَّة المتوقِّفة على المكان.

ولكن أعرضنا عن الإسهاب فيها في جزء المقدِّمات هذا إكتفاء بالبيان المختصر في هذه الخاتمة لتحقيق معروضنا الآن وبسرعة وسيراً على نهج قد سار عليه أساتذتنا (رفع الله شأنهم) على أساس ذكرهم لها للمقامات الخاصَّة المتعدِّدة الَّتي جعلت مقدِّمة لها موزَّعة على كلٍّ منها وللمناسبة الغالبة في باب العبادات أكثر من خصوص ما مرَّ في المقدِّمات.

حيث ذكروا القبلة ولو إشارة قبل الدَّفن مع كون ذلك متناسباً مع المقدِّمات المذكورة، لوجوب تحقيق دفن الموتى إليها مثلاً، وذكروها مع أحكام التَّخلِّي للاحتفاظ من الاتِّجاه إليها أثناءه أو من استدبارها كذلك، وكذلك ذكروها قبل الصَّلاة لتكون مقدِّمة للإتِّجاه إليها في عبادته تعالى فيها في كتاب العبادات، وذكروها قبل الاعتكاف إشارة، لإنَّه لا يمكن للمعتكف أن لا يصلي في كتاب العبادات، وذكروها قبل الحج لإنَّها مقصد الحجَّاج في حجِّهم طوافاً وصلاة وكذا العمرة في كتاب العبادات، وذكروها في باب الذِّباحة ليكون الإتِّجاه إليها حين إيقاعها للذَّبح والنَّحر في الجزء الثَّاني والثَّالث من العبادات في مقام الحج والمعاملات في كتاب الصَّيد والذِّباحة.

وذكروا السَّتر والسَّاتر في المقامات التنوِّعة المذكورة لرعاية الحالة الأكثر هناك، وكذا

ص: 240

اباحة المكان لتلك الغلبة، وإن كنَّا نبتغي ذكرهما في جزء المقدِّمات لما مرَّ ذكره.

أمَّا ما يتعلَّق بالمقدِّمات الأخرى كتعداد الفرائض ومواقيتها والآذان والاقامة وحالة التَّوجُّه فهي وان كانت على الأكثر معدَّة من المقدِّمات الخارجيَّة ممَّا يتناسب وذكرها في هذا الكتاب بنحو من الأنحاء، الاَّ أنَّ اختصاصها بالصَّلاة أو اشتراك غيرها من العبادات الآتية بعدها معها كحالة التَّوجُّه (الأخيرة) الَّتي ترتبط بأمر روح كل عبادة وهي النِّيَّة وآدابها يقتضي التحاقها بكتاب العبادات أكثر.

هذا آخر ما أردنا بيانه في هذا الجزء، وهو جزء ما يتعلَّق بالمقدِّمات العامَّة للفقهيَّات نوعاً من المسائل المنتخبة من رسالتنا الفقهيَّة القادمة الموسَّعة المسمَّاة ب- (غُنية المتَّقين في أحكام الدَّين)، تصريحاً أو إشارةً كأطروحة نأمل منها الإفادة ولو للسَّعي إلى ما هو أوسع في المستقبل القريب، لما سنوضِّحه فيها بإذن الله تعالى حول ما لخَّصناه في هذا الجزء عسى أن تكون حائزة رغبة الأفاضل والمحصِّلين (وفَّقهم الله تعالى)، ومن الله نستمدُّ العون والتَّوفيق، ومن صاحب الأمر (عجَّل الله تعالى فرجه الشَّريف) نبغي السَّماح والدُّعاء.

ويليه الجزء الآخر وهو كتاب العبادات ومن بعده المعاملات.

وقد تم إنجاز هذا الجزء في النَّجف الأشرف في الأوَّل من جمادى الآخرة لعام ألفوأربعمائة وعشرين من الهجرة النَّبوية الشَّريفة على مهاجرها وآله الأطهار ألاف الصَّلاة والسَّلام.

وقد تمَّ تصحيحه وتنقيحه في النَّجف الأشرف في غرَّة شوَّال من عام ألف وأربعمائة واثنين وعشرين من هجرة النَّبي الأعظم 5 و الله ولي التَّوفيق.

وَالحَمْدُ للهِ أَوَّلاً وَآخِرَاً

ص: 241

فهرس

توثيق سماحة السَّيِّد (دام ظلُّه)....... 4

المقدِّمة العامَّة للمسائل المنتخبة ....... 5

المقدَّمة الخاصَّة بأمر المقدِّمات العامَّة ....... 7

نبذ من مقدِّمات الرِّسالة العمليَّة ....... 9

القسم الأوَّل / في نبذ من مقدِّمات الرِّسالة الفقهيَّة العمليَّة ....... 11

النُبذة الأولى / في ما يجب إحرازه على المتفقِّهين من الإعتقاديَّات ....... 11

النُبذة الثَّانية / ما هي الرِّسالة ....... 17

النُبذة الثَّالثة / لماذا كانت الرِّسالة العمليَّة ....... 19

النُبذة الرَّابعة / متى كانت الرِّسالة العمليَّة ....... 21

النُبذة الخامسة / لماذا الإجتهاد في الرِّسالة ....... 23

النُبذة السَّادسة / متى كان الإجتهاد ....... 26

النُبذة السَّابعة / لماذا يجب التَّقليد للمجتهد في الرِّسالة ....... 29

النُبذة الثَّامنة / التَّقليد للمجتهد لا للإمام علیه السلام ....... 32

النُبذة التَّاسعة / ضرورة إتِّباع فتوى الفقيه خفَّت أو ثقلت ....... 34

النُبذة العاشرة / فكرة مقلِّدة الشَّيخ وأصحاب النِّهاية ....... 35

النُبذة الحادية عشرة / وجوب التَّعبُّد في الحكم الشَّرعي لا لخصوص العلَّة ....... 37

النُبذة الثَّانية عشرة / لماذا الاحتياط في الرِّسالة وغيرها ....... 39

النُبذة الثَّالثة عشرة / أهميَّة إحترام نوع العلماء من الأتقياء ممَّن قلِّد وغيرهم ....... 41

النُبذة الرَّابعة عشرة / لماذا تعدُّد المرجعيَّات ....... 43

ص: 242

النُبذة الخامسة عشرة / حول الأحكام من ذوات العناوين الثَّانويَّة ....... 45

النُبذة السَّادسة عشرة / فيها تنبيه مهم حول المسائل المستحدثة ....... 47

النُبذة السَّابعة عشرة / حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين ....... 49

النُبذة الثَّامنة عشرة / بعض المصطلحات النَّافعة في الرِّسالة ....... 50

القسم الثَّاني / مقدِّمات التَّفقُّه في الدِّين ....... 53

مسائل الإجتهاد ....... 55

مسائل التَّقليد ....... 59

مسائل الاحتياط ....... 63

القسم الثَّالث / مقدِّمات العبادات وغيرها والطَّهارة ....... 65

كتاب الطَّهارة ....... 71

المقصد الأوَّل / في أسباب المطهِّرات (النَّجاسات الخبثيَّة) وأحكامها....... 72

المبحث الأوَّل / في تعداد النَّجاسات الأحد عشر ....... 72

المبحث الثَّاني / في كيفيَّة سراية النَّجاسة إلى ملاقيها ....... 83

المبحث الثَّالث / أحكام النَّجاسة ....... 86

المبحث الرَّابع / في النَّجاسات المعفوِّ عنها في الصَّلاة ....... 90

المبحث الخامس / في أحكام الأواني ....... 92

المبحث السَّادس / في أحكام المساجد ....... 93

المقصد الثَّاني / المطهِّرات الإثني عشر ....... 99

الأوَّل / الماء ....... 99

الثَّاني / الأرض ....... 104

الثَّالث / الشَّمس ....... 105

الرَّابع / الاستحالة ....... 105

الخامس / الإنقلاب ....... 106

السَّادس / ذهاب الثُلثين ....... 107

السَّابع / الإنتقال ....... 107

الثَّامن / الإسلام ....... 108

ص: 243

التَّاسع / التَّبعيَّة ....... 109

العاشر / زوال عين النَّجاسة ....... 109

الحادي عشر / غيبة المسلم ....... 110

الثَّاني عشر / إستبراء الحيوان الجلاَّل ....... 111

المقصد الثَّالث / في الطَّهارة المائيَّة والتُّرابيَّة ....... 112

المبحث الأوَّل / في الطَّهارة المائيَّة ....... 113

الفصل الأوَّل / أقسام المياه وأحكامها ....... 113

القسم الأوَّل / الماء المطلق ....... 114

المياه الَّتي لها مادَّة ....... 115

المياه الَّتي ليست لها مادَّة ....... 120

القسم الثَّاني / الماء المضاف ....... 123

تتمَّة في أسئار الحيوانات ....... 124

الفصل الثَّاني / الماء المستعمل ....... 124

الفصل الثَّالث / الماء المشتبه ....... 125

المبحث الثَّاني / في الطَّهارة التُّرابيَّة ....... 127

المقصد الرَّابع في التَّخلِّي وما يتعلَّق به ....... 128

المبحث الأوَّل / في أحكام التَّخلِّي ....... 129

المبحث الثَّاني / الاستنجاء ....... 131

المبحث الثَّالث / أحكام الإستجمار ....... 131

المبحث الرَّابع / الإستبراء ....... 132

المبحث الخامس / مستحبَّات التَّخلِّي ومكروهاتها ....... 133

ملاحظة مهمَّة ....... 135

المقصد الخامس / في الوضوء ....... 136

المبحث الأوَّل / أفعال الوضوء الواجبة تفصيلاً ....... 137

المبحث الثَّاني / في شرائط الوضوء ....... 142

المبحث الثَّالث / في أحكام الوضوء ....... 146

ص: 244

الفصل الأوَّل / في أحكام الخلل ....... 146

الفصل الثَّاني / في دائم الحدث وما يلحق به ....... 147

الفصل الثَّالث / في أحكام الجبائر ....... 149

الفصل الرَّابع / في أحكام عامَّة للوضوء ....... 152

المبحث الرَّابع / في نواقض الوضوء ....... 155

المبحث الخامس / في مستحبَّات الوضوء ....... 157

المقصد السَّادس / في الغُسل ....... 159

المبحث الأوَّل / في واجبات الغُسل ....... 160

المبحث الثَّاني / في كيفيَّة الغُسل ....... 161

الكيفيَّة الأولى / الغُسل التَّرتيبي ....... 161

الكيفيَّة الثَّانية / الغُسل الإرتماسي ....... 162

المبحث الثَّاني / في أحكام الغُسل ....... 163

المقصد السَّابع / مُوجِبَات الغُسْلِ وَأَحْكَامُهَا من أَحْدَاث وغيرها ....... 166

المبحث الأوَّل / الجنابة وأحكامها ....... 167

الفصل الأوَّل / في أسباب غُسل الجنابة ....... 167

الفصل الثَّاني / في أحكام غُسل الجنابة ....... 169

الفصل الثَّالث / في ما يكره ويستحب للمجنب فعله ....... 170

المبحث الثَّاني / الحيض وأحكامه ....... 172

الفصل الأوَّل / في أوصاف الحيض ....... 172

الفصل الثَّاني / في شرائط تحقُّق الحيض ....... 174

الفصل الثَّالث / في أحكام المبتدئة ....... 175

الفصل الرَّابع / في عادة الحيض وأقسامها ....... 176

الفصل الخامس / في أحكام المضطربة ....... 177

الفصل السَّادس / في أحكام ناسية العادة ....... 178

الفصل السَّابع / في إستبراء الحائض وإستظهارها ....... 179

الفصل الثَّامن / في أحكام الحائض ....... 180

ص: 245

الفصل التَّاسع / في أحكام غُسل الحيض ....... 182

المبحث الثَّالث / الإستحاضة وأحكامها ....... 183

المبحث الرَّابع / النَّفاس وأحكامه ....... 187

الفصل الأوَّل / في صفة دم النَّفاس ....... 187

الفصل الثَّاني / في أقسام النَّفاس ....... 188

الفصل الثَّالث / في أحكام النَّفاس ....... 189

المبحث الخامس / غُسل مسِّ الميِّت ....... 190

المبحث السَّادس / أحكام الأموات ....... 192

الأوَّل / في من ظهرت عنده إمارات الموت ....... 192

الفصل الثَّاني / الإحتضار ....... 193

الفصل الثَّالث / الغُسل وشرائطه ....... 194

شروط المغسِّل ....... 197

آداب غُسل الميِّت ....... 199

تيميم الميِّت بدل تغسيله ....... 200

الفصل الرَّابع / التَّحنيط ....... 201

الفصل الخامس / التَّكفين ....... 202

شروط الكفن ....... 204

مستحبَّات الكفن ومكروهاته ....... 204

الجريدتان ....... 206

الفصل السَّادس / التَّشييع ومستحبَّاته ومكروهاته ....... 207

الفصل السَّابع / الصَّلاة على الميِّت ....... 208

كيفيَّة صلاة الجنائز ....... 210

أحكام صلاة الجنائز ....... 211

آداب صلاة الميِّت ....... 213

الفصل الثَّامن / الدَّفن ....... 214

مستحبَّات الدَّفن ....... 216

ص: 246

الفصل التَّاسع / صلاة ليلة الدَّفن (الوحشة) ....... 219

الفصل العاشر / فيما يتعلَّق بالمعزَّى (صاحب المصيبة) ....... 220

الفصل الحادي عشر / نبش القبور ....... 221

الأغسال المندوبة ....... 223

المقصد الثَّامن / في التَّيمُّم ....... 227

الفصل الأوَّل / في مسوِّغات التَّيمُم ....... 227

الفصل الثَّاني / في بيان ما يصح التَّيمُّم ....... 232

الفصل الثَّالث / في كيفيَّة التَّيمُّم ....... 234

الفصل الرَّابع / في شروط المتيمِّم ....... 235

الفصل الخامس / أحكام التَّيمُّم ....... 237

خاتمة ....... 240

الفهرس ....... 242

ص: 247

ص: 248

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.