بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.
عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 8/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.
تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -
خصائص المظهر : ج.
ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4
حالة الاستماع : فاپا
لسان : العربية.
ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).
ملحوظة : فهرس.
مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة
Islam - Miscellanea
ترتيب الكونجرس: BP11
تصنيف ديوي: 297/02
رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294
معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا
ص: 1
القطوف الدانية
---------
آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)
الناشر:دار العلم
المطبعة:إحسان
إخراج:نهضة اللّه العظيمي
كمية:500
الطبعة الأولى - 1441ه ق
---------
شابك (الدورة): 9-204538-964-978
شابك (المجلد الأوّل): 6-204539-964-978
---------
النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)
كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية
طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم
قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم
قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين
ص: 3
ص: 4
إن هداية الناس إلى الصراط المستقيم من أهم الواجبات التي فرضها اللّه عزّ وجلّ، فيلزم على كل أحد أن يسعى بمقدار وسعه في هداية المنحرفين عن اللّه وعن رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن أهل البيت(عليهم السلام) إلى الدين الصحيح والمذهب الحق.
وخاصة على الحوزات العلمية أن تبرمج للهداية حسب التخصصات العلمية، فمجموعة لهداية الملحدين، ومجموعة لهداية الكفار والمشركين من اليهود والنصارى وغيرهم، ومجموعة لهداية أبناء العامة وهكذا، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وبيان محاسن طريق الحق، ومساوئ طريق الباطل.
كما قال الإمام الرضا(عليه السلام): «رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا... يتعلم علومنا ويُعلّمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا»(1).
والقرآن الكريم والسنة الشريفة والسيرة المطهرة المروية عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والآل(عليهم السلام) خير دليل على لزوم الهداية، وأساليبها الصحيحة.
هناك آيات كريمة تتعرض لعقيدة التثليث وتعالجها بأسلوب علمي دقيق. قال اللّه تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن
ص: 5
يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}(1).
في معرض بيان معنى الآية الشريفة، علينا أن نذكر الآية التي سبقتها، وهي قوله تعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ سُبْحَٰنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا}(2).
لقد توجه السياق إلى أهل الكتاب، ويراد بهم هنا النصارى، قال سبحانه: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} الغلو: هو مجاوزة الحد والارتفاع، ومنه: غلا في دينه، أي: تجاوز الحد إلى الارتفاع، فقد كان المسيحيون يقولون بتعدد الآلهة: الأب والابن وروح القدس، ويريدون بالأول: اللّه، وبالثاني المسيح(عليه السلام)، وبالثالث جبرائيل(عليه السلام) {وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ} أي: لا تفتروا على اللّه بأن تقولوا: إن اللّه أمرنا بعبادة آلهة ثلاثة، أو المعنى: لا تقولوا بالنسبة إلى اللّه ما ينافي عظمته من قولكم إن له شريكاً، {إِلَّا الْحَقَّ} وهو أنه لا شريك له ولم يأمر إلّا بذلك {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} قيل: إنما سمي بالمسيح؛ لأنه كان يمسح الأرض ويسيح في البلاد، و(عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) بيان لقوله (الْمَسِيحُ) يعني: إنه ابن مريم، لا أنه ابن اللّه، و(رسول اللّه) خبر لقوله (المسيح) {وَكَلِمَتُهُ} أي: كلمة اللّه، وهذا تشبيه، فكما أن المتكلم إذا قال القول، حدث منه في الخارج شبه إلقاء، كذلك اللّه سبحانه يُلقي الأشياء إلى الخارج فهي كلماته، ولذا يقال للمخلوقات: كلمات اللّه، و(إِنَّمَا) هنا للحصر الإضافي مقابل البنوة والألوهية.
ص: 6
{أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ} أي: أوجدها في رحمها الطاهر بدون زواج واقتراب منرجل {وَرُوحٌ مِّنْهُ} سبحانه و(الروح) هي القوة - الطاقة - التي تتحرك وتُحرك، فعيسى(عليه السلام) روح من قبل اللّه سبحانه، ولذا يقال له: روح اللّه، ومن المعلوم أن الإضافة تشريفية نحو: بيت اللّه. أي روح خلقها اللّه تعالى.
{فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} إيماناً صحيحاً بالإذعان لوحدته، وأنه لاشريك له ولا ولد، وأن المسيح رسولٌ كريم {وَلَا تَقُولُواْ} أيها النصارى أن الإله {ثَلَٰثَةٌ} أب وابن وروح القدس {انتَهُواْ} عن هذا الكلام البشع، وائتوا {خَيْرًا لَّكُمْ} في دنياكم وآخرتكم من التوحيد والتنزيه {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} لا شريك له، فليس المسيح(عليه السلام) شريكاً له في الألوهية، فإن من كان له شريك لا يصلح أن يكون إلهاً؛ إذ الشركة تلازم التركيب، والتركيب يلازم الحدوث، فإن كل مركَّب لا بدّ له من مركِّب وأجزاء سابقة - ولو رتبةً - وما سبقه غيره ليس بإله {سُبْحَٰنَهُ} أي أُسبّحه سبحانه، بمعنى: أُنزهه تنزيهاً {أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌۘ} كما قال المسيحيون من أن المسيح ابن اللّه، فإنه لو أريد بالولد المعنى المتعارف مما يستلزم الولادة، فإن ذلك من صفات الممكن لا من صفات الإله؛ إذ لا يعتري الإله التغيير، وإلّا كان حادثاً، ولو أريد المعنى التشريفي كما يقول الشخص الكبير لبعض الناس - إذا أراد تشريفهم - : فلان ولدي، فإن ذلك لا يجوز بالنسبة إلى اللّه سبحانه؛ إذ شؤونه كلها توقيفية، فقد أذن أن يقال: فلان خليله، ولم يأذن أن يقال: ابنه أو ولده. والمراد بالآية هو المعنى الأول.
{لَّهُ} أي للّه تعالى {مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ومن يكون كل شيء ملكه لا يمكن أن يكون شيء ولداً له؛ إذ الولد من جنس الوالد، وليس للّه نظير ولا شبيه {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نفاذ أمره، وهو وعيد للقائلين بالتثليث.
ص: 7
ثم ذكر سبحانه أن المسيح(عليه السلام) هو بنفسه يعترف بأنه عبد اللّه، فلِمَ يقولهؤلاء بأنه ابن اللّه أو شريك اللّه؟
{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ} أي لن يأنف عيسى(عليه السلام) {أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ} بل اعترف هو(عليه السلام) حين ولادته بذلك {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ الْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}(1)، {وَلَا الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} الذين قربهم سبحانه من ساحة لطفه. ولعل هذا إشارة إلى رد من زعم أنهم أولاد اللّه كما حكى سبحانه بقوله: {وَجَعَلُواْ الْمَلَٰئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَٰدُ الرَّحْمَٰنِ إِنَٰثًا}(2) {وَمَن يَسْتَنكِفْ} يأنف ويمتنع {عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} فيرى نفسه أكبر وأعظم من أن يعترف للّه بالعبودية {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} الحشر هو الجمع، أي: يجمعهم يوم القيامة جميعاً ليُجازيهم باستكبارهم. و(إِلَيهِ) ليس للمكان لأنه سبحانه منزّه عنه، بل المراد: المحل المُعدّ لقضائه وجزائه(3).
وروي أن وفد نجران قالوا لنبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا محمد، لم تعيب صاحبنا؟
قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ومن صاحبكم؟».
قالوا: عيسى(عليه السلام). قال: «وأي شيء أقول فيه؟».
قالوا: تقول: «إنه عبد اللّه ورسوله». فنزلت الآية(4).
نعم، هكذا يعتقد المسيحيون بالتثليث، وإن للكون ثلاثة آلهة، اللّه الأب وهو إله السماء، واللّه الابن، أي: المسيح، واللّه الأم - عند بعضهم - ويقصدون بها مريم(عليها السلام)، لكن معظمهم لا يقول بالرب الأم، بل يعتقدون بأن جبرائيل(عليه السلام) هو
ص: 8
الرب الثالث ويسمونه: روح القدس؛ وبعض المسيحيين عندما يفتتحون الكلام يبدؤون بالبسملة، ولكن بطريقتهم الخاصة حيث يقولون: باسم الرب والابنوروح القدس(1).
وقد نهى القرآن الكريم - وكما ذكرنا آنفاً - عن التثليث حيث يقول سبحانه وتعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ سُبْحَٰنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا}(2).
والآية تصرح بأن المسيح(عليه السلام) عبد اللّه تعالى، وليس بإله كما يزعمون، وأن
ص: 9
الألوهية للّه وحده.
ومما يدل على خطأ عقيدة التثليث: أنه لا معنى لأن يكون الإنسان في مقامالربوبية والعبودية في آن واحد بأن يكون عبداً ويكون إلهاً. وهذا الأمر ظاهر للمتأمل - ولو قليلاً - حيث إن العقل يرفضه؛ لاستلزامه التناقض المحال عقلاً. مضافاً إلى سائر الأدلة المذكورة في علم الكلام.
وهكذا يخاطب القرآن من قال بأن الملائكة بنات اللّه، بل هم عباد اللّه، قال تعالى: {وَجَعَلُواْ الْمَلَٰئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَٰدُ الرَّحْمَٰنِ إِنَٰثًا}(1).
وقال تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَٰئِكَةَ إِنَٰثًا وَهُمْ شَٰهِدُونَ}(2).
فإذا لم يشهدوا خلق الملائكة كيف عرفوا بأنهم إناث؟
وفي آية أخرى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَٰنَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}(3).
وبهذا الأسلوب العلمي الواضح يتضح نفي تلك العقائد الباطلة من كون الملائكة بنات اللّه، ومن ألوهية المسيح(عليه السلام) مطلقاً، سواء فرض كونه ولداً، أو أنه ثالث الثلاثة، فإن المسيح(عليه السلام) بنفسه ينفي ذلك، ويقول إنه عبد اللّه لا غير، ولن يستنكف(عليه السلام) أبداً عن عبادته عزّ وجلّ، وهذا مما لا ينكره حتى النصارى، وقد صرحت بذلك الأناجيل الدائرة عندهم في أنه كان يعبد اللّه تعالى. فإذا كان يعبد اللّه فإنه عبد وليس رباً لأن الرب لا يَعبد بل يُعبد.
ومن هنا جاء في رواية الإمام الرضا(عليه السلام) عند احتجاجه مع الجاثليق كبير
ص: 10
النصارى، قال(عليه السلام): «يا نصراني واللّه إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما ننقم على عيساكم شيئاً إلّا ضعفه وقلة صيامه وصلاته»!!
قال الجاثليق: أفسدت واللّه علمك وضعفت أمرك وما كنت ظننت إلّا أنك أعلم أهل الإسلام.
قال الرضا(عليه السلام): «وكيف ذاك»؟
قال الجاثليق: من قولك إن عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة وما أفطر عيسى يوماً قط ولا نام بليل قط وما زال صائم الدهر وقائم الليل.
قال الرضا(عليه السلام): «فلمن كان يصوم ويصلي»؟
فخرس الجاثليق وانقطع(1).
ثم إن الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) بينوا لنا طرق الهداية وأساليبها ومصاديقها عبر رواياتهم الشريفة وسيرتهم العملية، كان منها تلك الأدعية ذات المضامين العالية التي وردت عنهم، فإنها مدرسة للهداية في مختلف جوانب الحياة، كما هو المشاهد في الصحيفة السجادية وأدعية سائر المعصومين(عليهم السلام).
قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «كان من دعاء أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه): إلهي، كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، إلهي، أنت لي كما أحب وفقني لما تحب»(2).
وهذا الدعاء يحتوي على كنوز من المعرفة والهداية كما لا يخفى على ذوي البصيرة.
ص: 11
ثم إن الهداية قد تكون تكوينية وقد تكون تشريعية، ومن هنا يكون تسبيحالكون للّه عزّ وجلّ، أما العبادة لغير اللّه، وجعل شركاء للّه(1)،
فهذه من الانحرافات والمشاكل التي تواجه العالم البشري ولا يزال يواجهها المليارات من الناس في مختلف الأماكن من العالم، ويلزم السعي لهداية هؤلاء المنحرفين نحو التوحيد والعبودية للّه عزّ وجلّ.
نعم في الجانب التكويني كل شيء ساجد للّه طوعاً أو كرهاً، كما يقول القرآن العظيم: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}(2).
وما يثبت ذلك أكثر هو أن أناجيلهم مشحونة بأن الروح طائع للّه ورسوله، وكذلك النبي عيسى(عليه السلام) حيث كان يطيع اللّه عزّ وجلّ، بالإضافة إلى ذلك فإنها مشتملة على أن المسيح(عليه السلام) كان يدعو إلى عبادة اللّه، وأن اللّه هو الذي بيده زمام أمره، وأن اللّه هو رب الناس، ولا تتضمن دعوة المسيح(عليه السلام) إلى عبادة نفسه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَىٰهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ}(3). ومن هذه المقدمات نحصل على نتيجة هي: إن جميع الناس والملائكة كلهم عبيدٌ للّه طائعون له (جل اسمه) ولا يستطيع أي مخلوق أن يفر من حكومة اللّه وسلطته، وقد وردت هذه الإشارة في دعاء كميل ابن زياد(رحمه اللّه) الذي علمه إياه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)
ص: 12
حيث جاء في هذا الدعاء:«ولا يمكن الفرار من حكومتك»(1).
ثم إن من أسباب الهداية تذكير الناس بالموت واليوم الآخر، وما أكثر ذلك في القرآن الكريم والروايات الشريفة، يقول اللّه تعالى في كتابه الكريم: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٖ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَٰلِ وَالْإِكْرَامِ}(2).
وهذا الكلام هو بمثابة الإيقاظ من الغفلة التي يعيشها الإنسان في أحضان هذه الدنيا؛ وتركيز على الهداية، ولذا يلزم على الإنسان أن يكون على حالتين، لكي يكون مستعداً لذلك اليوم الذي لا مفر منه وهي:
أولاً: العبودية للّه تعالى.
ثانياً: خدمة الناس.
فالعبودية للّه تعالى، لا تعني لقلقة اللسان فقط، بل على الإنسان أن يذعن بأنه عبدٌ للّه - في قلبه وقرارة نفسه - ويخاف اللّه في جوارحه وأعماله، عند ذلك يكون إنساناً مهتدياً إذا أطاع اللّه عزّ وجلّ في أوامره ونواهيه.
ومن أهم أسباب الهداية القيادة الربانية، دون القيادة الشيطانية.
قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(3).
فالعبودية للّه والطاعة لأوامره سبحانه وتعالى هي غنيمة الأكياس، ومفتاح كل
ص: 13
سداد، وصلاح كل فساد.
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «دعاكم ربكم سبحانه فنفرتم ووليتم، ودعاكمالشيطان فاستجبتم وأقبلتم»(1).
وقال(عليه السلام): «دعاكم اللّه سبحانه إلى دار البقاء وقرارة الخلود والنعماء، ومجاورة الأنبياء(عليهم السلام) والسعداء، فعصيتم وأعرضتم، دعتكم الدنيا إلى قرارة الشقاء ومحل الفناء وأنواع البلاء والعناء، فأطعتم وبادرتم وأسرعتم»(2).
فمن أراد الهداية عليه أن يطيع اللّه والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآل البيت(عليهم السلام) فإن قولهم الحق والصدق.
أما إذا ترك هؤلاء الأطهار(عليهم السلام) وتمسك بالشيطان وأولياء الشيطان فإنه يكون بعيداً عن الهداية كل البُعد.
تقع مسؤولية الهداية على الجميع ولكن العلماء والفضلاء وطلبة العلوم الدينية مسؤولون قبل غيرهم من الناس؛ لأنهم وظفوا أنفسهم لهداية الناس إلى طريق الحق ورفع غبار الباطل عن أعين الناس؛ ولذا فإن محاسبتهم سوف تكون غداً أشد، فيجب عليهم أن يكونوا حقاً أتقياء، ويخافون اللّه، لأن هداية الناس مرتبطة بأعمالهم، فإذا منعوا الطريق المؤدي إلى اللّه سبحانه وتعالى فسيكونون لصوصاً، بل أشد من اللصوص وقطاع الطرق؛ لأنهم إن ضلوا هذا الطريق (والعياذ باللّه)، فإنهم سوف لا يهلكون أنفسهم فقط، بل سوف يهلكون الآخرين أيضاً، لأن الناس قد ركنوا إليهم وأعطوهم حرية التصرف في رسم الطريق لهم
ص: 14
لهدايتم إلى اللّه سبحانه وتعالى، وبالتالي فإن اللّه (سبحانه وتعالى) سوف يحاسبهم أشد الحساب في الآخرة وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قولهتعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}(1).
حيث قيل: إن الأمر بالوقوف والسؤال إنما يقع في صراط الجحيم، فهناك يُسأل أولئك الذين وضعوا أنفسهم موضع المسؤولية، حيث ينتظرهم الحساب العسير، وهناك يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفَر للعالم ذنب واحد.
عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا حفص، ما منزلة الدنيا من نفسي إلّا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها - ثم قال: - فاز واللّه الأبرار، أتدري من هم؟ هم الذين لا يؤذون الذر. كفى بخشية اللّه علماً، وكفى بالاغترار باللّه جهلاً. يا حفص، إنه يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفر للعالم ذنب واحد. من تعلّم وعلم، وعمل بما علم، دعي في ملكوت السماوات: عظيماً، فقيل: تعلم للّه وعمل للّه، وعلم للّه...»(2).
وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال عيسى ابن مريم على نبينا وآله وعليه السلام: ويلٌ للعلماء السوء كيف تلظى عليهم النار»(3).
وعن جميل بن دراج قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إذا بلغت النفس هاهنا - وأشار بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة»، ثم قرأ(عليه السلام): {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَٰلَةٖ}»(4)(5).
ص: 15
وعن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُنَ}(1) قال:«هم قومٌ وصفوا عدلاً بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره»(2).
وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: يا طالب العلم، إن العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه التواضع، وعينه البراءة من الحسد، وأذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النية، وعقله معرفة الأشياء والأمور، ويده الرحمة، ورجله زيارة العلماء، وهمته السلامة، وحكمته الورع، ومستقره النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلمة، وسيفه الرضا، وقوسه المداراة، وجيشه محاورة العلماء، وماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف، وماؤه الموادعة، ودليله الهدى، ورفيقه محبة الأخيار»(3).
من مقومات الهداية: خدمة الناس، فإنها توفق الشخص للهداية، كما تمهد الطريق لهداية الآخرين.
وتتنوع الخدمة بتنوع الحاجات الروحية والمادية، فمنها الأمور التالية:
أولاً: الخدمة الثقافية، يلزم العمل وبكل إخلاص من أجل توعية الناس وتوجيه أفكارهم وجعلها تسير في مسارها المستقيم لا يشوبها شك وشبهة؛ وذلك لأن الإمبريالية العالمية في عصرنا الحاضر قد صممت وبكل ما أوتيت من قوة على سرقة وتلويث أفكار الناس وتضليل عقائدهم التي وضعها ورسمها
ص: 16
قائد البشرية الأعظم الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
ومن جملة هؤلاء الذين وضعوا تلك الخطط لسرقة أفكار الناس وتضليلهم هو (داروين)(1) وكان ذلك قبل (200 سنة)، فإن داروين بطرحه لنظريته القائلة: إن أصل الإنسان كان قرداً وللسير التكاملي بمرور العصور والأزمنة صار هذا القرد إنساناً، فقد تمكن بنظريته هذه من كسب بعض الشباب البسطاء إليه، مع العلم بأن الإسلام يعارض هذه النظرية بشدة، حيث يقول اللّه سبحانه وتعالى في سورة الرحمن: {الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(2).
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ * ثُمَّ جَعَلْنَٰهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا الْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(3).
مضافاً إلى الكثير من الروايات التي تبين كيفية خلق الإنسان.
هذه الآيات والروايات وغيرها تشير بوضوح إلى أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان لوحده بأحسن هيئة، لا كما يقول داروين والذين انتهجوا نهجه، من القائلين بأن الإنسان كان شيئاً غير ما هو عليه (أي القرد) ثم تطور ذلك المخلوق شيئاً فشيئاً إلى إنسان، وهذه النظرية باءت بالفشل وحتى علماء الغرب أثبتوا بطلانها، وقد صرح القرآن الكريم بكيفية خلق الإنسان، فإن الإنسان من أول خلقته كان إنساناً ومتطور الخلقة، حيث خلقه اللّه سبحانه آدمياً كاملاً عاقلاً متميز الصفات والطباع.
ص: 17
قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ * ثُمَّ رَدَدْنَٰهُ أَسْفَلَ سَٰفِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٖ}(1).
وقال عزّ وجلّ: {خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٖ كَالْفَخَّارِ}(2).
والإنسان بطبيعة الحال هو من أعجب مخلوقات اللّه سبحانه وتعالى، بل أكثر من ذلك، فإنه أعجبها، ويظهر ذلك بوضوح بقياس وجوده إلى وجود غيره من المخلوقات، وقد قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ}(3).
فالإنسان الذي كرمه الباري وجعله سيد مخلوقاته، لا بد وأن بيّن له طرق الهداية التكوينية والتشريعة، وإلّا لم يكن أفضل الخلق كما هو واضح.
نعم قد يطغى الإنسان ولا يأخذ بالهداية التي فرضها اللّه عليه، فيكون كالأنعام بل هم أضل. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَٰفِلُونَ}(4).
أما الشخص الآخر الذي وضع قدمه في ميدان تحريف أفكار الناس وتضليلهم فهو (فرويد)(5) الذي كان يعتقد أن جميع الأديان والعقائد وأعمال الأنبياء(عليهم السلام) كلها كانت من أجل إشباع الغرائز الجنسية، وإن الدنيا عنده تعني عبودية الإنسان للغريزة الجنسية في كل مجالات الحياة.
ص: 18
هذه النظرية واضحة البطلان؛ لأنها مما كذّبها الوجدان والبرهان والتجاربالإنسانية، وقد تطرق إلى ذلك بالتفصيل بعض علمائنا الأفاضل في كتبهم، ولا يخفى أن هذه النظريات تكون لفسح المجال أمام الغريزة الجنسية بحيث لا ترى حرمةً ولا حياءً للمرأة ولا للرجل.
وهذا الإفراط والإنحراف يسبب كثيراً من المساوئ للفرد والمجتمع الإنساني، ابتداءً من الأمراض الجسدية الفتاكة، والتي بدورها تترك مضاعفات خطيرة على عمل الدماغ وخلايا الفكر، فقد أكدت بعض الدراسات العلمية إن بعض الجراثيم المرضية تستطيع أن تصل إلى خلايا الدماغ عن طريق الدم. وهكذا الأمراض الروحية كالكآبة وغيرها.
بالإضافة إلى الانحلال الجنسي الذي يؤدي إلى الانحلال الخلقي، وتبعاً لذلك فإن أعمدة الأسرة تتساقط الواحدة تلو الأخرى، وتبدأ الأسرة رحلة التمزق والضياع. وهذا بالضبط ما وقع فيه الغرب، حيث امتدت فيه الحرية الجنسية، واستمرت حتى أهلكت الحرث والنسل، ولم تقف عند الزنا واللواط، وإنما بلغت من الانحراف الجنسي حداً لا يطاق. وضاعت المرأة الغربية في هذا الوادي السحيق، وضاعت بضياعها العفة والحياء.
وهكذا جاء (ماركس)(1) بنظريات مادية أخرى واهية وباطلة، وظفت لترويجها حملات إعلامية ودعائية ضخمة، وصرفت من أجلها مبالغ كبيرة وكثيرة، واستطاعت أن تغرّر بعدد كبير من الناس الذين انجذبوا نحوها.
ولسنا الآن بصدد الرد على هذه النظريات فقد كتبت في ذلك بعض الكتب
ص: 19
المفصلة يمكن مراجعتها(1).
إلّا أننا نقول بأن الهداية الناس بحاجة إلى التصدي للأفكار المنحرفة والآراء الفاسدة والعقائد الباطلة، بالحكمة والموعظة الحسنة وبالطرق العلمية والعملية الصحيحة.
وهناك نوع آخر من الأفكار الباطلة التي أتخذها الاستعمار وسيلة للتفرقة بين المسلمين وإبعادهم عن الهداية الإسلامية، كمسألة القومية التي أوجدها الغرب في بلادنا عن طريق شخصين مسيحيين(2) قبل خمسين عاماً تقريباً.
وقد تبع الغربَ بعضُ البلدان الإسلامية، علماً بأن الإسلام قام بمحاربة هذه الأفكار التي لا تنسجم مع الفطرة الإنسانية وتفرق بين إنسان وإنسان على أساس
ص: 20
القومية والعرقية واللون واللسان وما أشبه، قال تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).
وقال سيدنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلّا بالتقوى، قال اللّه تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}»(2).
وعن الأصبغ بن نباتة قال: أتى أمير المؤمنين(عليه السلام) عبد اللّه بن عمر، وولد أبي بكر، وسعد بن أبي وقاص، يطلبون منه التفضيل لهم!
فصعد المنبر ومال الناس إليه فقال: «الحمد للّه ولي الحمد... أما بعد أيها الناس، فلا يقولن رجال قد كانت الدنيا غمرتهم فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا أفره الدواب، ولبسوا ألين الثياب، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إن لم يغفر لهم الغفار، إذا منعتهم ما كانوا فيه يخوضون، وصيرتهم إلى ما يستوجبون، فيفقدون ذلك فيسألون، ويقولون: ظلمنا ابن أبي طالب، وحرمنا ومنعنا حقوقنا. فاللّه عليهم المستعان، من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، وآمن بنبينا، وشهد شهادتنا، ودخل في ديننا، أجرينا عليه حكم القرآن وحدود الإسلام، ليس لأحد على أحد فضلٌ إلّا بالتقوى. ألّا وإن للمتقين عند اللّه تعالى أفضل الثواب وأحسن الجزاء والمآب، لم يجعل اللّه تبارك وتعالى الدنيا للمتقين ثواباً، وما عند اللّه خيرٌ للأبرار. انظروا أهل دين اللّه في ما أصبتم في كتاب اللّه، وتركتم عند رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجاهدتم به في ذات اللّه، أبحسب، أم بنسب، أم بعمل، أم
ص: 21
بطاعة، أم زهادة، وفي ما أصبحتم فيه راغبين؟ فسارعوا إلى منازلكم رحمكم اللّه، التي أمرتم بعمارتها، العامرة التي لا تخرب، الباقية التي لا تنفد، التي دعاكم إليها، وحضكم عليها، ورغبكم فيها، وجعل الثواب عنده عنها. فاستتموا نعم اللّه عزّ ذكره بالتسليم لقضائه، والشكر على نعمائه، فمن لم يرض بهذا فليس منا ولا إلينا، وإن الحاكم يحكم بحكم اللّه، ولا خشية عليه من ذلك، أولئك هم المفلحون...»(1).
هذا ولا يخفى أن مقياس إنسانية الإنسان - في الشريعة الإسلامية - ليس باللون والانتماء القبلي أو القومي، ولا بالأموال والانتساب الملكي أو السلطوي، بل جميع الناس متساوون من هذه الجهات، كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمنون كأسنان المشط يتساوون في الحقوق بينهم، ويتفاضلون بأعمالهم...»(2).
فكما أنّ المشط ليست في أسنانه ارتفاع وانخفاض عادة، بل كلها متساوية، فكذلك الناس من منظار الإسلام كلهم متساوون.
نعم، هناك في الإسلام معيار واحد للتفاضل وهو: التقوى، وهذا المعيار ليس للتفاضل أمام القانون بل هو للتفاضل عند اللّه، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(3)، فيقيس الإسلام شخصيّة الإنسان بمقدار ما يتصف به من التقوى، ويكرمه بقدرها، ويفضله بحسبها، ويثيبه على ذلك.
إن الإسلام ينظر إلى الناس كل الناس بمنظار واحد، ويتعامل مع الجميع بصورة واحدة، فنظرته التصورية وتطبيقه العملي الخارجي متطابقان بالنسبة إلى الإنسان، فالنظرة نظرة واحدة، والتعامل تعامل واحد، لا تفاوت فيهما ولا تفاضل،
ص: 22
وإلى هذا المعنى يشير الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عدة من رواياته: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى»(1).
فالتفاضل إنما هو بالتقوى، وفي ما عدا ذلك فالناس فيه شرع سواء.
وبعبارة أخرى: كما أن الناس بالنسبة إلى الشمس سواسية، بحيث إنّ كل من يتعرض لأشعتها يحصل على نورها، وهكذا كل من يتعرض للأمور التكوينية الأخرى فإنه يفوز بالنيل منها، فكذلك الناس بالنسبة إلى رحمة الإسلام وهدى القرآن وقوانين الشريعة سواسية، وهم شرع سواء، كما إنهم أمام عدل الإسلام وحُكمه وقوانينه وقضائه وعطائه على نحو سواء أيضاً.
وقد ذكرنا أن التقوى هو معيار مهم للتفاضل عند اللّه عزّ وجلّ، لا أمام القانون، فالناس مختلفون في الثواب بحسب امتثالهم لأوامر اللّه تعالى ونواهيه، واتباع مناهجه وبرامجه، مع إزالة كلّ الفوارق الأخرى، ولكنهم يتساوون أمام القانون، فلا فرق في ذلك بين المتقي وغيره.
ومن هنا دعى الإسلام جميع الناس إلى الأخوة، لأنه لا يعتقد بنظام الطبقية بين البشر.
ولا يخفى أن الأخوة وعدم الطبقية من أهم عوامل الهداية، أما إذا كان الإسلام لا ينظر للناس بنظر سواسية من دون فرق وتمييز لما اهتدى إلى نور الإسلام الكثير من الشعوب.
وهنا سؤال يطرح نفسه ويطالب بالحل لهذه المشكلة، مشكلة الإنحراف
ص: 23
الفكري والعقائدي؟
فمن هو الذي يُنجي الناس من هذه الأفكار المنحرفة؟
وفي مقام الجواب نقول: إن تكليف هداية الناس وصدهم عن الانحراف يقع بالدرجة الأولى على عاتق الذين وضعوا أنفسهم في صدد خدمة المجتمع، فخدمة الناس قد تكون مادية وقد تكون معنوية، وأولئك هم علماء الدين وطلبة الحوزات العلمية، فيجب أن يقوموا بهداية الناس عبر مختلف الوسائل الممكنة، من نشر وتوزيع الكتب الإسلامية الصحيحة، في كل نقطة من نقاط العالم، وبمختلف اللغات، بحسب القدرات والإمكانات التي يمتلكونها، حتى يمكن إيصال الأفكار السليمة للناس وبشكلها الصحيح ليكون سببا لهدايتهم، فإنه ليس من الإنصاف أن تصل كتب الشيوعية والأديان والآراء المنحرفة الأخرى بأعداد هائلة إلى بلادنا الإسلامية- وإلى أية نقطة شاؤوا، ونحن لانستطيع أن نوصل كتبنا إليهم، بل لا نستطيع أن نوصلها حتى إلى أذهان شبابنا.
وهذا التقصير العلمي والثقافي والتربوي سيؤثر سلباً على هداية الناس.
فأكبر المكتبات الإسلامية حالياً لا يتجاوز عدد كتبها أل- (150) ألف كتاب كما في بعض التقارير، بينما نشاهد سابقاً أن مكتبة الشيخ نصير الدين الطوسي (رضوان اللّه تعالى عليه) قبل مئات السنين وحدها كانت تحتوي على (400) ألف كتاب، رغم أن كل الكتب في ذلك الزمان كانت مخطوطة! وأغلب الكتب الآن مطبوعة.
ومكتبة أحد الملوك الفاطميين في مصر كانت تحتوي على مليون وستمائة ألف كتاب كُلّها مخطوطة.
وفي المقابل نجد إن مكتبة واحدة في أحد بلاد الغرب تحتوي على (9) ملايين كتاب، ومكتبة أخرى في دولة أخرى غربية تحتوي على (36) مليون
ص: 24
كتاب!(1).
قارنوا بين (150) ألف كتاب! وبين (36) مليون كتاب كم هو الفارق!
ولذا فإن الثقافة الاستعمارية حلت محل الثقافة الإسلامية الأصيلة، فقد زرعت هذه الفئات الباغية التحلل واللامبالاة وعدم الإحساس بالمسؤولية في نفوس شباب المسلمين، وأظهر مصداق لذلك هم أولئك الذين صافحوا الغزاة وعملاءهم كحزب البعث العفلقي، ومن سار على شاكلتهم الذين ساروا على خط الظلم والضلال.
إن آباءنا حاربوا الاستعمار البريطاني كما في عراقنا المسلم(2)
لماذا؟ لأن ثقافتهم كانت ثقافة إسلامية، وكانوا مهتدين بنور القرآن، ولكن بعض الأبناء ركعوا لتلك السياسة الاستعمارية، ومهدوا لهم السبيل للعودة ثانية إلى البلد، لعدم ثقافتهم وهدايتهم.
إذن، فما هو الفارق في الموقفين: موقف الآباء المشرف، وموقف الأبناء المخزي؟
نقول: إن الفارق الأساسي هو الهداية، فإن الثقافة الاستعمارية دخلت في صفوف أولئك الشباب واستطاعت أن تتغلغل في أذهانهم، وعندما تغيرت الثقافة تغير كل شيء، فنحن لا نستطيع تحرير البلاد الإسلامية اليوم إلّا بتبديل ثقافة هؤلاء الرازحين تحت نير الظلم والاستبداد إلى ثقافة إسلامية أصيلة.
وعلى عاتق من يقع هذا الحمل الثقيل؟
لاشك ولا ريب أن هذا الحمل الثقيل يقع على عاتق كل إنسان مؤمن ففي
ص: 25
الحديث الشريف: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألّا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(1)
إلّا أن وظيفة علماء الدين وطلبة الحوزات العلمية أكثر بكثير؛ حيث إنهم جعلوا أنفسهم في موقع خدمة الناس والمجتمع، وفي سبيل هدايتهم وتوجيههم وحمايتهم من الانحراف، ففي رواية: خرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فإذا في المسجد مجلسان: مجلس يتفقّهون، ومجلس يدعون اللّه تعالى ويسألونه، فقال: «كلا المجلسين إلى خير، أما هؤلاء فيدعون اللّه، وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقّهون الجاهل، هؤلاء أفضل، بالتعليم اُرسلتُ»، ثم قعد معهم(2).
وعن سماعة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: قول اللّه عزّ وجلّ: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(3)؟ فقال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى، فكأنما أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها»(4).
سبق أن أشرنا إلى أن من مقومات الهداية قضاء حوائج الناس، فالخدمة العملية هي الأمر الثاني في هذا الباب.
وتتجلى في خدمة الإنسان بما هو إنسان في قضاء حوائجه وتسهيل أموره
ص: 26
وتقديم الخدمات له وهكذا، فلو أبى أحد من إسداء الخدمة إلى الناس فهو لا يسير في خط الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، والكثير من القائمين اليوم بالحركة الإسلامية يتوهمون أنه ليس المهم السعي لقضاء حوائج الناس، وإنما المهم هو الاشتغال بالحركة فقط، وهذا زعم خاطئ، فإن الحركة الإسلامية لا تتقدم إلّا بالتفاف الجماهير حولها، وهذا بدوره لايحصل إلّا بخدمة الناس ومساعدة الآخرين وقضاء حوائجهم. ومهما كانت الحاجة صغيرة فإنها في نظر المحتاج كبيرة، وفي المثل: صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلّا قضاها. ولذا فإن مسألة خدمة الناس وقضاء حوائجهم مسألة في غاية الأهمية.
ومن هنا نجد الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) كانوا يسعون دائماً في قضاء حوائج الناس وخدمتهم حسب قدرتهم وإمكاناتهم، حتى أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا لم يتمكن من قضاء الحاجة في وقت الطلب والسؤال كان يجعل قضاءها ديناً على نفسه فيقضيها عند تمكنه منها.
وكم في التاريخ الإسلامي شواهد عظيمة تبين مدى تواضع النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للناس جميعاً، والسعي لقضاء حوائجهم، وهذا الأسلوب كان مؤثراً في هداية كثير من الناس، عن جابر بن عبد اللّه قال: غزا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إحدى وعشرين غزوة بنفسه، شاهدت منها تسع عشرة غزوة، وغبت عن اثنتين، فبينا أنا معه في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي(1) تحت الليل فبرك، وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أخريات الناس يزجي الضعيف ويردفه(2) ويدعو لهم، فانتهى إلي وأنا أقول:يا لهف أماه، ما زال لنا ناضح سوء.
ص: 27
فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من هذا؟».
فقلت: أنا جابر، بأبي وأمي يا رسول اللّه.
قال: «وما شأنك؟».
قلت: أعيا ناضحي.
فقال: «أمعك عصا؟»، فقلت: نعم. فضربه ثم بعثه، ثم أناخه ووطئ على ذراعه، وقال: «اركب»، فركبت وسايرته، فجعل جملي يسبقه، فاستغفر لي تلك الليلة خمساً وعشرين مرة، فقال لي: «ما ترك عبد اللّه من الولد؟» يعني: أباه، قلت: سبع نسوة، قال: «أبوك عليه دين؟» قلت: نعم، قال: «فإذا قدمت المدينة فقاطعهم، فإن أبوا، فإذا حضر جداد(1) نخلكم فآذني». فقال: «هل تزوجت؟» قلت: نعم، قال: «بمن؟»، قلت: بفلانة بنت فلان، بأيّم(2) كانت بالمدينة. قال: «فهلا فتاة تلاعبها وتلاعبك؟» قلت: يا رسول اللّه، كن عندي نسوة خرق، يعني أخواته، فكرهت أن آتيهن بامرأة خرقاء، فقلت: هذه أجمع لأمري، قال: «أصبت ورشدت» فقال: «بكم اشتريت جملك؟». فقلت: بخمس أواق من ذهب، قال: «بعنيه ولك ظهره إلى المدينة» فلما قدم المدينة أتيته بالجمل، فقال: «يا بلال، أعطه خمس أواق من ذهب يستعين بها في دَين عبد اللّه، وزده ثلاثاً، ورد عليه جمله» قال: «هل قاطعت غرماء عبد اللّه؟»، قلت: لا يا رسول اللّه، قال: «أترك وفاءً» قلت: لا، قال:«لا عليك، فإذا حضر جداد نخلكم فآذني»، فآذنته، فجاءفدعا لنا فجددنا، واستوفى كل غريم ما كان يطلب تمراً وفاءً، وبقي لنا ما كنا نجد وأكثر، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ارفعوا ولا تكيلوا، فرفعناه وأكلنا منه زماناً»(3).
ص: 28
هذه القصة وكثير غيرها تعطينا أكثر من درس، فهي تدل على التواضع العظيم الذي كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتحلى به، حيث كان مع آخر مقاتل من جيشه ليتفقد رعيته ويرعى القافلة بأكملها، فيعين ضعيفها ومحتاجها، ويأخذ بأطراف الحديث مع جابر، فيسأله عن وضعه الاجتماعي والاقتصادي، ويقوم بإعانته على قضاء حوائجه.
والدرس الآخر الذي نستلهمه من القصة هو أن القائد الإسلامي مع مسؤولياته الجسام وكثرة انشغاله بكبريات الأمور، أمثال: الحرب والسياسة، فإنه يلزم عليه أن لا يترك الأمور الجزئية تحت ذريعة الانشغال بالأمور الكبيرة.
فالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يريد أن يعلّم كل واحد منا - فضلاً عن القائد الإسلامي - أنه لا بد من الاهتمام بحوائج الناس وخدمتهم، كالسؤال عن حال الأخ المؤمن، وهل هو في ضائقة مالية أو معيشية، وما أشبه، والاهتمام بالأخلاقيات والاجتماعيات، فضلاً عن بعض العبادات المستحبة مع الفرائض والواجبات؛ إذ أن البعض يتصور أن قيامه بالأمور الكبيرة يغنيه عن الاهتمام ببعض التفاصيل ومراعاة الجزئيات.
ولكن ترك بعض الجزئيات سبب لأن تصبح هذه الأمور الصغيرة شيئاً فشيئاً أمراً كبيراً لا يمكن معالجته، فبعض القياديين وبحجة الانشغال بالعلاقات العامة مع أقرانه من السياسيين، أو انشغاله بأمور الدولة المهمة، فإنهم - وللأسف - تراهم يعرضون عن طلبات الجماهير، ويصفونها بالأمور الصغيرة، بل في بعضالأحيان ينصبون من يقوم مقامهم للقيام بشؤون الناس، وربما يكون سلوك الأخير غير سلوك القائد، وتأثيره غير تأثير القائد، مما يؤدي إلى اتساع الهوة بين القيادة والقاعدة.
وفي رواية أخرى عن جابر بن عبد اللّه قال: لم يكن يسأل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)
ص: 29
شيئاً قط فيقول: لا(1).
وفي ما كتب أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولاه مصر، وهو أطول عهد وأجمعه للمحاسن: «... ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالد من ولده، ولا يعظمن في نفسك شي ء أعطيتهم إياه، ولا تحقرن لهم لطفاً تلطفهم به؛ فإنه يرفق بهم كل ما كان منك إليهم وإن قل، ولا تدعن تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على نظرك في جسيمها؛ فإن للطيف موضعاً ينتفع به، وللجسيم موضعاً لا يستغنى فيه عنه... واخصص أهل الشجاعة والنجدة بكل عارفةٍ وامدد لهم أعينهم إلى صور عميقات ما عندهم، بالبذل في حسن الثناء وكثرة المسألة عنهم رجلاً رجلاً، وما أبلي في كل مشهدٍ، وإظهار ذلك منك عنه؛ فإن ذلك يهز الشجاع ويحرض غيره... ولا تفسدن أحداً منهم عندك علةٌ عرضت له أو نَبوَةٌ كانت منه قد كان له قبلها حسن بلاءٍ؛ فإن العز بيد اللّه يعطيه إذا شاء ويكفه إذا شاء، ولو كانت الشجاعة تفتعل لافتعلها أكثر الناس، ولكنها طبائع بيد اللّه ملكها وتقدير ما أحب منها، وإن أصيب أحدٌ من فرسانك وأهل النكاية المعروفة في أعدائك فاخلفه في أهله بأحسن ما يخلف به الوصي الموثوق به، في اللطف بهم وحسن الولاية لهم؛ حتى لا يرى عليهم أثر فقده ولا يجدوا لمصابه، فإن ذلك يعطفعليك قلوب فرسانك ويزدادون به تعظيماً لطاعتك، وتطيب النفوس بالركوب لمعاريض التلف في تسديد أمرك، ولا قوة إلّا باللّه»(2).
وفيه أيضاً: «... وأما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك؛ فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبةٌ من الضيق وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع
ص: 30
عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشرٌ لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سماتٌ تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤٌ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مئونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة، ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثارٌ وتطاولٌ وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك، يحملون مئونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة، وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودةٌ، وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك؛ فإن في ذلك رياضةمنك لنفسك ورفقاً برعيتك وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق...»(1).
ومن كتاب لأمير المؤمنين(عليه السلام) إلى قثم بن العباس وكان عامله على مكة: «أما بعد، فأقم للناس الحج وذكّرهم بأيّام اللّه، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي وعلم الجاهل وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفيرٌ إلّا لسانك،
ص: 31
ولا حاجبٌ إلّا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجةٍ عن لقائك بها، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد في ما بعد على قضائها، وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيباً به مواضع الفاقة والخَلّات(1)، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه في من قبلنا، ومر أهل مكة ألّا يأخذوا من ساكنٍ أجراً؛ فإن اللّه سبحانه يقول: {سَوَاءً الْعَٰكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}(2)، فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحج إليه من غير أهله، وفقنا اللّه وإياكم لمحابه، والسلام»(3).
وقال علي(عليه السلام): «واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك، وآس(4) بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية؛ حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك، والسلام»(5).
وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «جاء رجل إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد بَلِيَ ثوبه، فحمل إليه اثني عشر درهماً، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا علي، خذ هذه الدراهم فاشتر لي بها ثوباً ألبسه، قال علي(عليه السلام): فجئت إلى السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فنظر إليه، فقال: يا علي، غير هذا أحب إلي، أترى صاحبه يقيلنا؟ فقلت: لا أدري، فقال: انظر، فجئت إلى صاحبه فقلت: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد كره هذا يريد غيره، فأقلنا فيه. فرد عليَّ
ص: 32
الدراهم، وجئت بها إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمشى معه إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وما شأنك؟ قالت: يا رسول اللّه، إن أهلي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم حاجة، فضاعت، فلا أجسر أن أرجع إليهم، فأعطاها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أربعة دراهم، وقال: ارجعي إلى أهلك، ومضى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى السوق فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه، وحمد اللّه عزّ وجلّ، فرأى رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه اللّه من ثياب الجنة، فخلع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قميصه الذي اشتراه وكساه السائل، ثم رجع(عليه السلام) إلى السوق، فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسه وحمد اللّه عزّ وجل، ورجع إلى منزله، فإذا الجارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما لك لا تأتين أهلك؟ قالت: يا رسول اللّه، إني قد أبطأت عليهم، أخاف أن يضربوني، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): مري بين يدي ودليني على أهلك، وجاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى وقف على باب دارهم، ثم قال: السلام عليكم يا أهل الدار، فلم يجيبوه! فأعاد السلام، فلم يجيبوه! فأعاد السلام، فقالوا: وعليك السلام يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما لكم تركتم إجابتي في أول السلام والثاني! فقالوا: يا رسول اللّه، سمعنا كلامك فأحببنا أن نستكثر منه،فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤذوها، فقالوا: يا رسول اللّه، هي حرة لممشاك، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الحمد للّه ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركة من هذه، كسا اللّه بها عاريين وأعتق نسمة»(1).
وعن الإمام الباقر(عليه السلام) - في خبر - : «أنه رجع علي(عليه السلام) إلى داره في وقت
ص: 33
القيظ، فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي، وحلف ليضربني؟ فقال(عليه السلام): يا أمة اللّه، اصبري حتى يبرد النهار، ثم أذهب معك إن شاء اللّه؟ فقالت: يشتد غضبه وحرده علي، فطأطأ رأسه ثم رفعه، وهو يقول: لا واللّه، أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟ فمضى إلى بابه، فقال: السلام عليكم، فخرج شاب، فقال علي(عليه السلام): يا عبد اللّه اتق اللّه؛ فإنك قد أخفتها وأخرجتها، فقال الفتى: وما أنت وذاك؟ واللّه، لأحرقنها لكلامك! فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف! قال: فأقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين، فسقط الرجل في يديه، فقال: يا أمير المؤمنين أقلني عثرتي؛ فو اللّه، لأكونن لها أرضاً تطؤني، فأغمد علي سيفه، وقال: يا أمة اللّه، ادخلي منزلك، ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه»(1).
وروي: أن أمير المؤمنين(عليه السلام) مر بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي، فقال: «يا جارية، ما يبكيك؟». فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً، فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما أتيته به أبى أن يقبله، قال: «يا عبد اللّه، إنها خادموليس لها أمر، فاردد إليها درهمها، وخذ التمر». فقام إليه الرجل فلكزه(2)، فقال الناس: هذا أمير المؤمنين، فربا الرجل واصفر، وأخذ التمر ورد إليها درهمها، ثم قال: يا أمير المؤمنين ارض عني، فقال: «ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك»(3).
نعم، هكذا كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقضي حاجات الناس ويتفقد أمورهم
ص: 34
الصغيرة والكبيرة. وبذلك تمكن من هداية الناس وجمعهم حوله، وأرسى دعائم الحكومة الإسلامية خلال ثلاث وعشرين سنة فقط، وكذلك كان أمير المؤمنين(عليه السلام) وسائر أهل البيت(عليهم السلام).
على عكس من غصب الخلافة وبني أمية وبني العباس والعثمانيين وحكام بلاد الإسلام وعملاء الاستعمار.
واليوم حيث ترك القائمون بالحركة الإسلامية الإقتداء برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنهم لم يصلوا إلى أي شيء خلال نصف قرن، وسوف لايصلون، إلّا إذا رجعوا إلى سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من خدمة الناس وقضاء حوائجهم، قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(1).
وكان لأمير المؤمنين(عليه السلام) بيت سماه بيت القصص يلقي الناس فيه رقاعهم(2) ومعنى ذلك أنه(عليه السلام) جعل في وسط الكوفة بيتاً في أيام خلافته، حتى إذا كان لإنسان حاجة واستحى من أن يواجهه بها، كتب ما يحتاجه وألقاه في ذلك المكان. والكلّ يعلم أن علي (صلوات اللّه عليه) كان في متناول كل الناسوبينهم. وكما يقول أحد تلاميذ الإمام(عليه السلام): كان فينا كأحدنا،(3) يدور في أسواق المسلمين ويقضي في المسجد بينهم، ويعطي حاجاتهم ويخطب لهم ويصلي بهم، ومع ذلك قد صنع ذلك البيت في وسط الكوفة، حتى إذا عجز إنسان من الوصول إلى الإمام أو استحى من مواجهته، كان يكتب حاجته في ورقة ويقذف بتلك الورقة في بيت القصص، ثم كان الإمام(عليه السلام) يأتي إلى ذلك البيت ويفتح
ص: 35
بابه المقفل، ويأخذ الأوراق ويطلع على الحاجات، ثم يقضيها.
قال معاوية لضرار بن ضمرة: صف لي علياً(عليه السلام)؟
قال: اعفني، قال: لتصفنه.
قال: أما إذ لا بد، فإنه واللّه كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، مجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن واللّه مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييئس الضعيف من عدله، فأشهد، لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، وهو اللذيع، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: «يا دنيا غري غيري، أ بي تعرضت أم إلي تشوقت، هيهات هيهات، قد بينتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه من قلة الزاد للسفر ووحشة الطريق». فبكى معاوية وقال: رحماللّه أبا الحسن! كان واللّه كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار، قال: حزن من ذبح ولدها بحجرها، فهي لا ترقأ عبرتها، ولا يسكن حزنها(1).
وروي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) اجتاز ليلة على امرأة مسكينة لها أطفال صغار يبكون من الجوع، وهي تشاغلهم وتلهيهم حتى يناموا، وكانت قد أشعلت ناراً
ص: 36
تحت قدر فيها ماء لا غير، وأوهمتهم أن فيها طعاماً تطبخه لهم، فعرف أمير المؤمنين(عليه السلام) حالها، فمشى ومعه قنبر إلى منزله، فأخرج قوصرة تمر وجراب دقيق وشيئاً من الشحم والأرز والخبز، وحمله على كتفه الشريف، فطلب قنبر حمله، فلم يفعل، فلما وصل إلى باب المرأة استأذن عليها، فأذنت له في الدخول، فرمى شيئاً من الأرز في القدر ومعه شي ء من الشحم، فلما فرغ من نضجه غرف للصغار وأمرهم بأكله، فلما شبعوا أخذ يطوف في البيت، ويبعبع لهم فأخذوا في الضحك.
فلما خرج(عليه السلام) قال له قنبر: يا مولاي، رأيت الليلة شيئاً عجيباً، قد علمت سبب بعضه، وهو حملك الزاد طلباً للثواب، أما طوافك في البيت على يديك ورجليك والبعبعة، فما أدري سبب ذلك!
فقال(عليه السلام): «يا قنبر، إني دخلت على هؤلاء الأطفال، وهم يبكون من شدة الجوع، فأحببت أن أخرج عنهم وهم يضحكون مع الشبع، فلم أجد سبباً سوى ما فعلت»(1).
ويُروى أن الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) حينما عادا من دفن أبيهما(عليهما السلام) سمعا - وهم في الطريق - من خربة صوت أنين وبكاء، وعندما اقتربا من ذلك الصوت وجداه فقيراً طاعناً في السن، وهو مريض يئن ويبكي ويقول: أين راح عني ذلك الشخص الذي كان يأتيني بكل ما أحتاج إليه كل ليلة، فإنه منذ ثلاث ليالٍ فارقني ولم يأت إليّ، في هذه الأثناء قرب منه الإمامان الحسن والحسين(عليهما السلام) وقالا له: «يا شيخ، إن ذلك الشخص الذي أنت تعنيه هو أبونا علي بن أبي طالب(عليه السلام) وقد
ص: 37
رجعنا الآن من دفنه»(1).
نعم، إن أمير المؤمنين(عليه السلام) أيام خلافته والتي كانت تشمل مساحة شاسعة من الأرض، تقوم عليها الآن أكثر من خمسين دولة، كان يدير كل أمور البلاد بأفضل صورة عرفها البشر، وكان(عليه السلام) يلبي طلبات الناس واحتياجاتهم، فلم يبق في عهده مسكين ولا فقير، وكانت هذه الحالة ظاهرة لكل إنسان في زمانه، وهناك أحداث كانت أكثر وضوحاً وأهمية إلّا إن التاريخ لم يشر إليها، أو لم تصل إلينا، بسبب التضليل وزرع الشبهات والشكوك وبظلم من أعداء أهل البيت(عليهم السلام) وأعداء الإنسانية ومن قبل تلك الأيدي غير الأمينة التي حاولت طمس معالم هذا الدينالحنيف وإبعاد الناس عن أئمتهم أئمة الحق(عليهم السلام)(2).
ونحن بحمد اللّه من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) كما نعتقد بذلك ونؤمن ونقول ذلك باللسان والبيان، فمن الواجب علينا أن نكون من شيعته في أعمالنا أيضاً، فنصبح نموذجاً وقدوة لسائر الناس، من خلال السير على هدى أهل البيت (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) وأن نكون للناس المعين والنصير كلّ بقدر طاقاته وإمكاناته. كما كان يفعل أئمتنا أئمة الهدى(عليهم السلام) وبذلك اهتدى
ص: 38
الكثير من الناس إلى الصراط المستقيم.
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كاف لك في الأسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوي عن زخارفها. وإن شئت ثنيت بموسى كليم اللّه(عليه السلام) حيث يقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٖ فَقِيرٌ}(1) واللّه ما سأله إلّا خبزاً يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه. وإن شئت ثلثت بداود(عليه السلام) صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفائف(2) الخوص بيده، ويقول لجلسائه: أيكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها. وإن شئت قلت في عيسى ابن مريم(عليه السلام) فلقد كان يتوسد الحجر ويلبسالخشن ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع وسراجه بالليل القمر وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه وخادمه يداه. فتأس بنبيك الأطيب الأطهر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن فيه أسوةً لمن تأسى وعزاءً لمن تعزى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره، قضم الدنيا قضماً ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا، فأبى أن يقبلها، وعلم أن اللّه سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقر شيئاً فحقره، وصغر شيئاً فصغره، ولو لم يكن فينا إلّا حبنا ما أبغض اللّه
ص: 39
ورسوله، وتعظيمنا ما صغَّر اللّه ورسوله، لكفى به شقاقاً للّه ومحادةً عن أمر اللّه، ولقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته، فتكون فيه التصاوير، فيقول: يا فلانة، لإحدى أزواجه، غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده، ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها؛ إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله، أكرم اللّه محمداً بذلك أم أهانه؟ فإن قال: أهانه، فقد كذب واللّه العظيم، بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه، فليعلم أن اللّه قد أهان غيره، حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه، فتأسى متأس بنبيه، واقتص أثره وولج مولجه، وإلّا فلا يأمنالهلكة، فإن اللّه جعل محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) علماً للساعة، ومبشراً بالجنة، ومنذراً بالعقوبة خرج من الدنيا خميصاً، وورد الآخرة سليماً، لم يضع حجراً على حجر حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه فما أعظم منة اللّه عندنا، حين أنعم علينا به سلفاً نتبعه، وقائداً نطأ عقبه، واللّه لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألّا تنبذها عنك؟ فقلت: اغرب عني، فعند الصباح يحمد القوم السرى»(1).
إن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرغم من تلك القدرة والثروة التي كانت تحت يديه
ص: 40
كان يعيش في غرفة واحدة وحينما يريد السجود - لصلاة الليل - كان على زوجته أن تجمع رجليها حتى تترك للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكاناً، يستطيع السجود عليه(1).
وهكذا استطاع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يهدي الناس إلى الصراط المستقيم حيث رأوا منه الوفاء والصدق، وعدم الانجرار إلى زخارف الدنيا.
نعم هذه هي المدرسة الإلهية وهذه سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخلاقيات أهل بيته(عليهم السلام)، فمن امتلأ قلبه محبة وطاعة لهم، فليسر على نهجهم وخطاهم ليكون معهم في الدنيا والآخرة.
إن علماءنا الأبرار تأسوا بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الأطهار(عليهم السلام) فتمكنوا من هداية الناس.
ورد في تاريخ قائد ثورة العشرين الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) أنهالتفت حوله الجماهير بصورة واسعة، من شيوخ وأفراد العشائر، كباراً وصغراً، سنة وشيعة، ضد بريطانيا، وكان الازدحام كبيراً حول الميرزا، ورغم تصديه لأمور الثورة والمرحلة الحساسة في تاريخ العراق والأمة الإسلامية، لم يكن ينسى طلبته وروّاد درسه، وكان يحاول دائماً أن لا يجعلهم يشعرون بأنه - ونتيجة لمسؤولياته الجسام - سوف لايجد الوقت الكافي لمداراتهم ومعرفة شؤونهم ومعالجة مشاكلهم التي كانت تعترضهم، فقال لهم مرة: أيها الطلبة، إني قبل الثورة كنت أتمكن من قضاء حوائجكم وألتقي بكم على انفراد، ولكنكم الآن ربما لا يمكنكم أن تصلوا إليّ للزحام الذي حولي، فإذا كانت لأحدكم حاجة
ص: 41
فإني أخرج في كل يوم بعد صلاة الصبح إلى الشارع الممتد بامتداد النهر(1) في أطراف كربلاء، ليتمكن كل طالب علم، أو أي شخص آخر يريد لقائي على انفراد أن يأتي في ذلك الوقت.
وأضاف الراوي للقصة وهو أحد العلماء قائلاً: إني شخصياً ذهبت إليه مراراً وتكراراً عندما كانت عندي حاجة، وكنت أرى الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) يمشي وحده على ضفاف ذلك النهر في الشارع الممتد بامتداده، فأعرض عليه حاجتي وأطلب منه قضاءها، وكان يلبي بكل رحابة صدر.
نعم، هكذا يلزم أن يكون القائد الإسلامي، أو المتصدي لإصلاح المجتمع، ذا روح جماهيرية، يحتوي قلبه كل الطبقات في الأمة. ويستوعب كل الآراء والتوجهات. هذا هو خط وسلوك ومنهج أهل البيت(عليهم السلام) فالرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو صاحب أكبر دولة عالمية آنذاك، كان يمشي في الأسواق ويتفقد أحوالالناس، وكذا الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكان(عليه السلام) يوصي عماله وولاته بهذا الأمر، وعدم الظلم وعدم الاحتجاب عن الجماهير.
يذكر عن أحد طلاب(2) السيد بحر العلوم (أعلى اللّه مقامه) أنه قال: كان يتعشى ليلة إذ طرق الباب عليه طارق، فعرف أنه خادم السيد بحر العلوم، فقام إلى الباب مسرعاً فقال له: إن السيد قد وضع بين يديه عشاءه وهو ينتظرك، فأسرع إلى جناب السيد(رحمه اللّه) فلما لاح له السيد قال له السيد: أما تخاف اللّه؟ أما تراقبه؟
ص: 42
أما تستحي منه؟ فقال: ما الذي حدث؟ فقال له(1): إن رجلاً من اخوانك كان يأخذ من البقال قرضاً لعياله كل يوم وليلة قسباً (التمر الزهدي)، ليس يجد غير ذلك، فلهم سبعة أيام لم يذوقوا الحنطة والأرز، ولا أكلوا غير القسب، وفي هذا اليوم ذهب ليأخذ قسباً لعشائهم فقال له البقال: بلغ دَينك كذا وكذا، فاستحيى من البقال ولم يأخذ منه شيئاً، وقد بات هو وعياله بغير عشاء، وأنت تتنعم وتأكل، وهو ممن يصل إلى دارك وتعرفه وهو فلان.
فقال: واللّه مالي علم بحاله.
فقال السيد: لو علمت بحاله وتعشيت، ولم تلتفت إليه لكنت في حكم الكفار، وإنما أغضبني عليك عدم تحسسك عن إخوانك، وعدم علمك بأحوالهم، فخذ هذه الصينية يحملها لك خادمي يسلمها إليك عند باب داره،وقل له: قد أحببت أن أتعشى معك الليلة، وضع هذه الصرة تحت فراشه أو حصيره، وابق له الصينية فلا ترجعها، وكان كبيرة فيها عشاء، وعليها من اللحم والمطبوخ النفيس ما هو مأكل أهل التنعم والرفاهية. وقال السيد: اعلم أني لا أتعشى حتى ترجع إلي فتخبرني أنه قد تعشى وشبع، وأخذ السيد بحر العلوم يردد قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع»(2).
فذهب ذلك الطالب ومعه الخادم، حتى وصلوا إلى دار المؤمن، فأخذ من يد الخادم ما حمله ورجع الخادم، وطرق الباب وخرج الرجل، فقال له السيد: أحببت أن أتعشى معك الليلة، فلما أكلا(3)، قال له المؤمن: ليس هذا زادك؛ لأنه
ص: 43
مطبوخ نفيس لا يصلحه العرب، ولا نأكله حتى تخبرني بأمره، فأصر عليه السيد جواد بالأكل وأصر هو بالامتناع، فذكر له القصة فقال: واللّه، ما اطلع عليه أحد من جيرتنا فضلاً عمّن بعد، وإن أمر هذا السيد لشيء عجيب!
نعم، علماؤنا (رضوان اللّه تعالى عليهم) هكذا كانوا ينبهون الطلبة باستمرار على تلك الأخلاق الرفيعة، التي جاء بها النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار (صلوات اللّه عليهم) لتكون لهم الميزان الأكمل في تعاملهم مع الناس ويهتمون بأمور الناس وخدمتهم، وهذه بدورها تكسب المحبة والإخلاص في قلوب الناس أجمعين وتوجب هدايتهم إلى الصراط المستقيم.
عن المفضل عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال لي: «يا مفضل، اسمع ما أقول لك، واعلم أنه الحق وافعله، وأخبر به عِلْية إخوانك»(1)، قلت: جعلت فداك، وماعِلْية إخواني؟
قال: «الراغبون في قضاء حوائج إخوانهم». قال: ثم قال: «ومن قضى لأخيه المؤمن حاجةً قضى اللّه عزّ وجلّ له يوم القيامة مائة ألف حاجةٍ من ذلك، أولها الجنة، ومن ذلك أن يدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنة، بعد أن لا يكونوا نُصاباً»(2)، وكان المفضل إذا سأل الحاجة أخاً من إخوانه، قال له: أما تشتهي أن تكون من عِلْية الإخوان(3).
وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ خلق خلقاً من خلقه انتجبهم لقضاء حوائج فقراء شيعتنا ليثيبهم على ذلك الجنة، فإن استطعت أن تكون منهم فكن»
ص: 44
ثم قال: «لنا واللّه رب نعبده لا نشرك به شيئاً»(1).
وعن إسماعيل بن عمار الصيرفي، قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): جعلت فداك، المؤمن رحمةٌ على المؤمن؟ قال: «نعم»، قلت: وكيف ذاك؟
قال: «أيما مؤمن أتى أخاه في حاجة، فإنما ذلك رحمة من اللّه ساقها إليه وسببها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها، وإن رده عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنما رد عن نفسه رحمةً من اللّه جلّ وعزّ ساقها إليه وسببها له، وذخر اللّه عزّ وجلّ تلك الرحمة إلى يوم القيامة، حتى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إن شاء صرفها إلى نفسه، وإن شاء صرفها إلى غيره. يا إسماعيل، فإذا كان يوم القيامة وهو الحاكم في رحمة من اللّه قد شرعت له، فإلى من ترى يصرفها؟».قلت: لا أظن يصرفها عن نفسه.
قال: «لا تظن، ولكن استيقن، فإنه لن يردها عن نفسه. يا إسماعيل، من أتاه أخوه في حاجةٍ يقدر على قضائها فلم يقضها له، سلط اللّه عليه شجاعاً ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة، مغفوراً له أو معذباً»(2).
وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «تنافسوا في المعروف لإخوانكم، وكونوا من أهله، فإن للجنة باباً يقال له: المعروف، لا يدخله إلّا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكل اللّه عزّ وجلّ به ملكين: واحد عن يمينه، وآخر عن شماله، يستغفران له ربه، يدعوان له بقضاء حاجته» ثم قال: «واللّه لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسر بحاجة المؤمن، إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة»(3).
ص: 45
وعن أبي جعفرٍ(عليه السلام) قال: «واللّه، لأن أحج حجةً أحب إلي من أن أعتق رقبةً ورقبةً ورقبةً، ومثلها ومثلها - حتى بلغ عشراً - ومثلها ومثلها - حتى بلغ السبعين - ولأن أعول أهل بيتٍ من المسلمين، أسد جوعتهم وأكسو عورتهم، فأكف وجوههم عن الناس، أحب إلي من أن أحج حجةً وحجةً وحجةً ومثلها ومثلها - حتى بلغ عشراً - ومثلها ومثلها» حتى بلغ السبعين(1).
وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال اللّه عزّ وجلّ: الخلق عيالي، فأحبهم إلي ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم»(2).
وعن أبي عمارة قال: رُوّينا: أن عابد بني إسرائيل كان إذا بلغ الغاية في العبادةصار مشاءً في حوائج الناس، عانياً بما يصلحهم»(3).
وعن الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إن للّه خلصاء من خلقه، عبدوه بخالصٍ من سره، وأوصلهم إلى سره، فهم الذين تمر صحفهم مع الملائكة فرغاً، فإذا وصلت إليه ملأها من سر ما أسروا إليه، وقال لهم: يا أوليائي، إن أتاكم عليلٌ من ضعفة عبادي فداووه، أو ناسٍ نعمتي فأذكروه، أو راحلٌ نحوي فجهزوه، ومن بعد منكم منكِراً ففقهوه، ومن قرب منكم فواصلوه، لكم يا أوليائي خاطبت ولكم عاتبت والوفاء منكم طلبت، لا أحب استخدام الجبارين، ولا مصافاة المتلونين، ومن عاداكم قصمته، ومن أبغضكم قليته»(4).
إذن، يلزم على كل فرد منا أن يكون خادماً واقعياً للناس، ينزل إلى ساحة العمل، إلى الميدان، لا أن يخدم الناس بالشعارات والمظاهر من دون عمل، ولا
ص: 46
يتم ذلك طبعاً إلّا إذا أصبح الفرد إنساناً بكل ما للكلمة من معنى، وسار صوب القيم الإنسانية ومعانيها السامية، وبذلك يمكن السعي لهداية الناس نحو الخير والفضيلة والتقوى والبر.
نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك إنه قريب مجيب.
«يا من ذكره شرفٌ للذاكرين، ويا من شكره فوز للشاكرين، ويا من طاعته نجاة للمطيعين، صل على محمد وآله، وأشغل قلوبنا بذكرك عن كل ذكر، وألسنتنا بشكرك عن كل شكر، وجوارحنا بطاعتك عن كل طاعة، فإن قدرت لنا فراغاً من شغل فاجعله فراغ سلامة، لا تدركنا فيه تبعة، ولا تلحقنا فيه سأمةٌ، حتى ينصرف عنا كُتّاب السيئات بصحيفة خالية من ذكر سيئاتنا، ويتولى كُتّابالحسنات عنا مسرورين بما كتبوا من حسناتنا...»(1).
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَٰجِعُونَ * أُوْلَٰئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ * وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(2).
وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَٰتِ}(3).
وقال عزّ وجلّ: {يَوْمَئِذٖ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْاْ أَعْمَٰلَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}(4).
وقال جلّ وعلا: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
ص: 47
إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(1).
قال عزّ وجلّ: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(2).
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(3).
وقال جلّ وعلا: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَىالنَّارِ}(4).
وقال سبحانه: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٖ سَحِيقٖ}(5).
قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(6).
وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(7).
ص: 48
وقال جلّ وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(1).
قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}(2).
وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}(3).وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(4).
وقال تبارك وتعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(5).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلّا أعطاه اللّه مثل عددهم خداماً في الجنة»(6).
وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أعان مؤمناً نفّس اللّه عزّ وجلّ عنه ثلاثاً وسبعين كربة، واحدة في الدنيا، وثنتين وسبعين كربة عند كربه العظمى. - قال: - حيث يتشاغل الناس بأنفسهم»(7).
ص: 49
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلّا ناداه اللّه تبارك وتعالى: عليّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة»(1).
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العبادة الخالصة أن لا يرجو الرجل إلّا ربه ولا يخاف إلّا ذنبه»(2).
وقال(عليه السلام): «أما بعد فإن اللّه تبارك وتعالى بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق، ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، ومن عهود عباده إلى عهوده، ومن طاعة عبادهإلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته...»(3).
وقال(عليه السلام): «ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب، ووقف على الموعود، إيماناً نفى إخلاصه الشرك، ويقينه الشك، ونشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبده ورسوله، شهادتين تصعدان القول وترفعان العمل، لا يخف ميزان توضعان فيه، ولا يثقل ميزان ترفعان عنه...»(4).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لولده محمد: «تفقه في الدين، فإن الفقهاء ورثة الأنبياء»(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أئمتكم قادتكم إلى اللّه عزّ وجلّ، فانظروا بمن تقتدون في دينكم وصلاتكم»(2).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(3)فقال(عليه السلام): «رسول اللّه المنذر، ولكل زمان منا هادٍ يهديهم إلى ما جاء به نبي اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ثم الهداة من بعده عليّ، ثم الأوصياء واحد بعد واحد»(4).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أئمتكم وفدكم إلى اللّه، فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم»(5).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في قول اللّه تبارك وتعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}(6) فقال: «ميت لا يعرف شيئاً، و: {نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} إماماً يؤتم به، {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا}(7) قال: الذي لا يعرف الإمام»(8).
ص: 51
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كن بالعمل بالتقوى أشد اهتماماً منك بالعمل، فإنه لا يقل عمل بالتقوى وكيف يقل عمل يتقبل، يقول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}»(1)(2).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «صفتان لا تُقبل الأعمال إلّا بهما: التقى والإخلاص»(3).وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى...»(4).
وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «أوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد»(5).
ص: 52
قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَٰجًا وَذُرِّيَّةً}(1).
طلب مني بعض الإخوة من الشباب المؤمنين أن أتحدث لهم عن الزواج في الإسلام.
في بداية الحديث لا بد من ذكر مقدمة حول هذا الموضوع، لرب سائل يسأل لماذا الزواج؟!
الجواب: أنه ما من شيء في الكون إلّا ويحتاج إلى مكمّله، والإنسان محاط بقوانين الطبيعة (البيئة) - السنن الكونية - وليس بخارج عن قوانينها فهو في تفاعل مستمر ودائب معها، حيث يتكيف معها أينما اتجهت وجهتها ويجري معها وفق قوانينها وسننها التكوينية، حتى أنه ليس في وسعه أن يخالف أنظمتها قيد أنملة، فللطبيعة بُعدان تكوينيان يشدّ بعضهما بعضاً وهذان البعدان التكوينيان هما الزوجية العامة.
أجل إن الطبيعة قائمة على أساس مبدأ الزوجية العامة، هذا المبدأ يملأ الكون كلّه.
لقد أثبت العلم أخيراً أن كل ما في الكون من كائنات تخضع لقانون الزوجية،
ص: 53
وهذه الحقيقة كشفها القرآن قبل (14 قرناً) حيث قال تعالى: {سُبْحَٰنَ الَّذِي خَلَقَالْأَزْوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}(1) وقال سبحانه: {وَخَلَقْنَٰكُمْ أَزْوَٰجًا}(2).
وكما أن الزوجية تجري في النبات والحيوان كذلك تجري في الإنسان، إضافة إلى العوالم الأخرى التي لا يعرف عنها الإنسان أي شيء.
ففي آية أخرى يقول الحق تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(3). وفي آية أخرى: {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}(4) وهكذا بقية الآيات حيث إنها تجري مجرى هذا السياق من الآيات التي ذكرناها.
إذن، كل شيء في الطبيعة خاضع لهذا المبدأ وهو الزوجية، وبما أن الإنسان محكوم بالطبيعة. إذن فلا مفر ولا مهرب من الزواج، وإلّا فالمأساة تكبر شيئاً فشيئاً حتى تصل كما يقول علماء النفس إلى محطة الجنون.
إن في الإنسان غريزة تسمى غريزة الجنس، وهي من أقوى الغرائز وأشدها كما يقول بذلك بعض العلماء وهي تلح دوماً على الإنسان أو صاحبها بالإشباع والممارسة!
والسؤال الذي يعترضنا هو: كيف يمكن للإنسان أن يشبع تلك الغريزة وعن أي طريق؟
فنقول: أمامنا ثلاثة طرق للتعامل مع الغريزة الجنسية وهي:
ص: 54
1- الزواج الطبيعي.
2- الكبت.
3- التحلّل الجنسي.
ومن المعلوم أن الطريق الصحيح والسليم لتلبية حاجة الإنسان الجنسية يكمن في الزواج؛ لأن الكبت يؤدي إلى الأمراض الجنسية والتفكك في المجتمع، وهذا بالضبط ما وقع فيه الغرب حتى أهلك الحرث والنسل، ومن أجل ذلك أكدت الشريعة الإسلامية السمحاء على الزواج المبكر واعتبرته الحل الأكمل والسريع للمشكلة الجنسية.
ومن جملة ما جاء في الشريعة قول اللّه تعالى: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(1).
وقوله تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا}(2).
وقول الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما بني في الإسلام بناء أحب إلى اللّه عزّ وجلّ وأعز من التزويج»(3).
وعن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «.. ولو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آية محكمة منزلة ولا سنة متبعة، لكان في ما جعل اللّه فيها من بر القريب وتألف البعيد، ما رغب فيه العاقل اللبيب وسارع إليه الموفق المصيب...»(4).
ص: 55
ولذا فإن الزواج هو الطريق المنطقي الصحيح لحل هذه المشكلة العويصة التي يعاني منها أغلب الشباب في الوقت الحاضر، ومن العجيب ما يذكر فيهذا المجال، أنه في بعض البلدان حزباً سرياً أراد أن يربي مجموعات إرهابية من الشباب، فكان أول شروط الانتماء إليه هو أن لا يكون ذلك الشاب متزوجاً؛ لأن العزوبة أرضية مساعدة على نمو الانحراف النفسي والميل إلى الإرهاب والرعب.
وفي مجتمعاتنا اليوم وبسبب تأثير الثقافة الغربية وقوانينها علينا نعاني من مشكلة الإعراض عن الزواج.
من الأمور التي تقف عقبة في طريق الزواج هو ارتفاع المهور، وقد جاء في الروايات عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى(عليهم السلام) ذم المهور الزائدة ومدح قلتها كثير جداً. فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) انه قال: «أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً»(1).
وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «.. فأما شؤم المرأة فكثرة مهرها وعقوق زوجها...»(2) كما أن بعض ما يحدث في معظم البلاد الإسلامية من مشاكل عائد إلى ارتفاع المهور، والذي بدوره يمنع من الزواج الذي حث عليه الكتاب والسنة. فمثلاً، أحياناً ترى الشاب الخاطب للبنت راضياً والبنت والآباء والأمهات من الطرفين كلهم راضون، يأتي أحد كبار العائلة مثلاً فيمنع الزواج أو يعرقله، بسبب بعض الطلبات والتوقعات الزائدة، ومع أننا نقول باحترام هؤلاء وضرورة
ص: 56
الاستماع إلى آرائهم، ولكن وفق الضوابط الشرعية التي سنّها اللّه سبحانه وتعالى؛ لأن المسلم يجب أن يسمع ما يقوله اللّه سبحانه وتعالى، لا ما يقولهالآخرون؛ لأنه يتبع أحكام اللّه تعالى في كل أموره.
واليوم، وبسبب الشروط التي تملى - من قبل حتى غير الزوجة والزوج - أحياناً، نرى أن آلافاً من الشباب والشابات لم يتمكنوا من الزواج؛ وذلك بسبب ما وضع أمامهم من عقبات ومتاعب في هذا الطريق، ومن أهمها كما قلنا غلاء المهور، وتعدد المتطلبات الإضافية كشراء الوسائل والتجهيز وتوفير الأثاث ووليمة الزواج... وغيرها، من الأمور التي تحول دون تسهيل مسألة الزواج؛ ولهذا يظل كل من الشاب والشابة يعانيان من تعب نفسي وعقد خاصة وأمراض شتى، لم تنشأ منهما بالخصوص بل من غيرهما. ونتيجة ذلك سيفشل الزواج مستقبلاً، وإذا كانا غير متدينين فسوف ينجرفان نحو الفساد - والعياذ باللّه - خصوصاً وإن الشيطان يهمز بالإغواء وتلويث مثل هذه الأجواء.
قال علي بن مهزيار: كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر(عليه السلام) في أمر بناته، أنه لا يجد أحداً مثله، فكتب إليه أبو جعفر(عليه السلام): «فهمت ما ذكرت من أمر بناتك، وأنك لا تجد أحداً مثلك، فلا تنظر في ذلك يرحمك اللّه، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(1).
فشرط الإسلام الأساسي في الزواج (الخلق والدين) وليس من الصحيح تعقيد هذه المسألة أكثر من اللازم فهذه سنة الحياة، وهذه الفطرة التي فطرنا اللّه عليها.
ص: 57
إن جميع مشاكل الزواج لم تكن سارية في المجتمعات الإسلامية السابقة بهذا الشكل والتعقيد، ولو سألنا الكبار والطاعنين في السن من الآباء والأجدادلأجابونا بالإيجاب وأيدوا هذا الكلام، ولكن عندما جاء المستعمرون ودخلوا البلاد الإسلامية زرعوا هذه العقد والمشاكل في المجتمع الإسلامي وبثوا هذه الأفكار الفاسدة.
كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحث أصحابه على الزواج ويسألهم، هل هم متزوجون أم لا؟
فعن جابر بن عبد اللّه قال: غزا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إحدى وعشرين غزوة بنفسه، شاهدت منها تسع عشرة غزوة، وغبت عن اثنتين، فبينا أنا معه في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي(1) تحت الليل فبرك، وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أخريات الناس يزجي(2) الضعيف ويردفه ويدعو لهم، فانتهى إلي وأنا أقول: يا لهف أماه، ما زال لنا ناضح سوء، فقال: «من هذا؟» فقلت: أنا جابر، بأبي وأمي يا رسول اللّه، قال: «وما شأنك؟» قلت: أعيا ناضحي، فقال: «أمعك عصا؟» فقلت: نعم، فضربه، ثم بعثه ثم أناخه ووطئ على ذراعه، وقال: «اركب» فركبت وسايرته، فجعل جملي يسبقه، فاستغفر لي تلك الليلة خمساً وعشرين مرة، فقال لي: «ما ترك عبد اللّه من الولد - يعني أباه -؟» قلت: سبع نسوة، قال: «أبوك عليه دين؟» قلت: نعم، قال: «فإذا قدمت المدينة فقاطعهم، فإن أبوا فإذا حضر جداد نخلكم(3) فآذني» فقال: «هل تزوجت؟» قلت: نعم، قال: «بمن؟»، قلت: بفلانة بنت فلان،
ص: 58
بأَيِّم(1)
كانت بالمدينة قال: «فهلا فتاة تلاعبها وتلاعبك»(2)... .هذه البساطة في الزواج سنّة جعلها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الحياة. ونحن المسلمين يجب أن يكون المعيار عندنا في كل الأشياء هو رضا اللّه سبحانه وتعالى، ورضا رسوله الكريم حتى لا نقع في المشاكل، ولا نستصعب في ذلك الأمور الحيوية المهمة.
ذكر أن سعيد بن المسيب الذي كان أحد تلامذة الإمام زين العابدين(عليه السلام)، كان شخصية بارزة بين عموم المسلمين، وله منزلة عظيمة بين الشيعة وغيرهم على حد سواء، وكانت له بنت جميلة، بل هي من أجمل بنات المدينة، فأرسل الخليفة عبد الملك إلى أبيها يخطبها لابنه الوليد، فرفض أبوها مع علمه بأن الخليفة يتمتع بمنصب وأموال وشأنٍ بين الناس، حتى أن عبد الملك استخدم ضغوطاً وأرسل وساطات إلّا أنها لم تجد نفعاً، ثم أرسل بعد ذلك لأبيها (سعيد بن المسيب) جماعة سألوه عن سبب عدم تزويج ابنته للخليفة؟ فقال سعيد: إن عبد الملك شارب خمر، وقد جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شارب الخمر لا يُزوّج إذا خطب»(3).
وإن في شرع الإسلام لا يصح أن يزوج الرجل ابنته لزانٍ؛ وذلك لأنه كما يزني فإنه كذلك قد لا يمانع أن تذهب زوجته مع رجل أجنبي للزنا.
وكذا الحال مع المقامر فإنه يخسر أمواله في المقامرة، وإنه في بعض الأوقات يضع زوجته في المراهنة، كما نسمع عن ذلك ونقرأ في بعض الصحف أو
ص: 59
المجلات أو الكتب.
فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «... وإياك أن تزوج شارب الخمر، فإن زوجته فكأنما قُدْت إلى الزنا»(1).
وعلى أي حال، قالوا لسعيد: إن عبد الملك يتوعدك ويهدّدك وإنْ لم تزوجه ابنتك فانه سيؤذيك، فقال سعيد بن المسيب: إنني أسمع كلام اللّه لا كلام عبد الملك، وليفعل ما يريد، فغضب عبد الملك وأمر بإلقاء القبض على سعيد بن المسيب وجلده أمام الملأ. وكان الخليفة إذا غضب على أحد فإن الكثير من ضعاف الإيمان يبتعدون عنه - عمن غضب عليه الخليفة -؛ خوفاً من العقاب أو من ذهاب المصالح، وكان هذا ما حصل لسعيد بن المسيب أيضاً، كان له طلاب يتلقون الدرس عنده، كما كان بعض علماء الدين يلتفّون حوله وجمع آخر كذلك من الكسبة كانوا إلى جانبه، وقد انفضّ الكثير من حوله بسبب هذه المشكلة التي حدثت له مع السلطان، ولكنه لم يأبه بكل هذه الأمور وأصرّ على موقفه، ارضاء لربه وعملاً بأحكام دينه. وفي يوم وبينما كان سعيد بن المسيب جالساً إذا التفت إلى شاب نجار فقال له: هل لك زوجة؟ فقال الشاب: لا، فقال له سعيد: لماذا، ألم يوصِ الإسلام بالزواج؟ فقال الشاب: في الحقيقة إني لا أملك مالاً أتزوج به، سوى أربعة دراهم.
فقال سعيد: هل أنت تقبل الزواج من ابنتي؟
فضحك الشاب في دهشة قائلاً: من ابنتك أنت؟
قال سعيد: نعم! وإن هذه الأربعة دراهم هي المهر، ثم ذهب سعيد إلى داخل الدار واستكشف موافقتها فكان جوابها: كما ترى أنت يا أبتاه.
ص: 60
فرجع سعيد، ولا يزال بعض طلابه لم يتفرقوا من مجلس الدرس، وقال لذلك الشاب: زوجتك ابنتي على أربعة دراهم فهل قبلت؟
قال الشاب: قبلت، فانعقد الزواج وتم.
ولو أن الناس اقتدوا بهذا العمل وبهذه الأساليب السهلة البسيطة للزواج، فسوف لا تبقى بنت ولا شاب يعاني من مشكلة تأخر الزواج والعنوسة، وما يصاحب ذلك من أزمات نفسية واجتماعية.
أخيراً عاد النجّار لأمه وأخبرها بما جرى، فلم تصدقه وقالت له: أجننت يا ولدي؟ أم صحيح ما تقول: أن سعيد بن المسيب الذي لم يزوج ابنته للخليفة عبد الملك سيزوجك منها.
فجاءت أمه (لأنه كان يتيم الأب)، وسألت سعيد بن المسيب عن صحة الخبر؟ فقال لها: نعم، وإن هذه الليلة هي ليلة زفافه، فرجعت وصعدت على سطح دارها ونادت: أيها الناس، إن سعيد بن المسيب زوج ابنته فلانة لولدي فلان النجار، فهلموا لمساعدته، فجاء الجيران وبعضهم يتهمها بالجنون وبعضهم بالهذيان، وإن البعض الآخر، قال لها: لربما شاهدت في منامها رؤيا، وعندما عرفت بذلك أجابتهم: إني لست مجنونة، اذهبوا وتقصوا الخبر من سعيد بن المسيب، فجاءوه وسألوه عن حقيقة الأمر فأجابهم بصحة ذلك(1).
وهذا من مصاديق قول الإمام الصادق(عليه السلام)، حيث قال: «من زوج أعزباً كان ممن ينظر اللّه إليه يوم القيامة»(2). وفي حديث آخر عن الإمام الكاظم(عليه السلام) أنه قال: «ثلاثة يستظلون بظل عرش اللّه يوم لا ظل إلّا ظله: رجل زوج أخاه
ص: 61
المسلم، أو أخدمه، أو كتم له سراً»(1).
نعم، هكذا هو الزواج في دين الإسلام.
إن الابتعاد عن الدين قد سبب الكثير مما نراه من الفواحش والمنكرات ودور الدعارة، وإن المجتمع هو المسؤول بالدرجة الأولى عن هذا الانحراف؛ لأن إغلاق الأبواب بوجه الإسلام وفتحها بوجه الأفكار الكافرة الهدامة التي قام بترويجها بعض المنحرفين من المسلمين سيؤدي حتماً إلى ظهور العقبات أمام الزواج وباقي مسائل الحياة، ويؤدي بالتالي إلى ارتكاب المحرمات والفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ لذا علينا أن نمد يد العون للرجل ونيسر أمر زواجه وكذلك بالنسبة للمرأة فإن اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(2).
وإن ما نراه اليوم فهو ليس من الإسلام، إلّا أن المجتمع هو الذي أنشأه بسبب تأثره بالأفكار الغربية البعيدة عن الإسلام.
نَقَلَ لي والدي(رحمه اللّه) وقال: إن السيد عبد الهادي(3) جاء فخطب أخته (أي عمتي) فقال له والدي: تعال وخذها بدون شرط، وعندما تم العقد قال السيد الوالد(رحمه اللّه): لم يكن يفترق حالهما بين ليلة زفافها والليالي الأخرى قبل زفافهما، سوى أنها بدلت غرفتها وانتقلت إلى غرفة ابن عمها (السيد عبد الهادي)،
ص: 62
وكذلك بدلت ثوباً واحداً وفراشاً واحداً وكأن شيئاً لم يكن، فالزواج يجب أن يكون بهذه البساطة واليسر ويكون عند أول البلوغ؛ حتى يعطي أكبر فوائده وثماره للزوجين بشكل خاص وللمجتمع بصورة عامة.
نقل أيضاً أن الملا صالح - وهو أحد كبار علماء الشيعة - كان قد ولد في بيت فقير في مدينة (مازندران)، وبعد أن بلغ سن الرشد سافر إلى أصفهان يطلب العلم من إحدى حوازتها. وكان راتبه آنذاك يسيراً جداً ويعيش في فقر شديد، حتى أنه كان في بعض الليالي لا يمتلك مصباحاً للمطالعة، فكان يطالع على ضوء المصابيح العمومية في المدينة، وبعد ذلك تدرج الملا صالح في الدرس حتى صار من الطلاب الجيدين عند المرحوم العلامة المجلسي(رحمه اللّه)، وعندما حان وقت زواجه لم يكن يملك شيئاً من المال، وفي أحد الأيام قال له العلامة المجلسي: هل تخولني في أن أختار لك زوجة؟ فأجاب الملا صالح بالقبول والإيجاب، فقام العلامة المجلسي من محل الدرس ودخل بيته وقال لابنته (آمنة) - التي كانت امرأة عالمة وفاضلة أيضاً - يا آمنة لقد اخترت لك زوجاً عالماً إلّا أنه يعيش منتهى حالات الفقر، فأجابته آمنة: يا أبه ليس الفقر بعيب.
فرجع العلامة المجلسي وأجرى لهما عقد الزواج.
وينقل عن ليلة زفافها، أن الملا صالح كان منشغلاً بالمطالعة في تلك الليلة حيث واجه مسألة تعذر عليه حلّها، وهنا فهمت آمنة ذلك الخبر، فكتبت له الحل مفصلاً وأرسلته له على ورقة وضعتها وسط كتاب، فحينما فتح الملا صالح الكتاب ورأى الجواب، اعجب كثيراً بمنزلتها العلمية.
جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «... من زوج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشد عضده ويستريح إليها، زوّجه اللّه من الحور العين، وآنسه بمن أحب من
ص: 63
الصديقين من أهل بيته وإخوانه، وآنسهم به...»(1).
نعم، لقد بني الإسلام على هذه المبادئ السهلة الخالية من العقبات والصعوبات، وهذه الروح الإسلامية الشريفة هي التي جعلت أمتنا تنال أعلى درجات التقدم والازدهار، وليس هناك دين جاء بمثل ما أتت به شريعتنا السمحاء من اليسر والسهولة {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(2) وهذا كله من فضل اللّه سبحانه وتعالى علينا.
وفي حديث للإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) - بخصوص التعجيل في تزويج البنات - قال: «نزل جبرئيل على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول: إن الأبكار من النساء بمنزلة الثمر على الشجر، فإذا أينع الثمر فلا دواء له إلّا اجتناؤه؛ وإلّا أفسدته الشمس وغيرته الريح. وإن الأبكار إذا أدركن ما يدركن النساء فلا دواء لهن إلّا البعول، وإلّا لم يؤمن عليهن الفتنة. فصعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنبر فخطب الناس، ثم أعلمهم ما أمرهم اللّه به، فقالوا: ممن يا رسول اللّه؟ فقال: من الأكفاء، فقالوا: ومن الأكفاء؟ فقال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض، ثم لم ينزل حتى زوج ضباعة بنت زبير بن عبد المطلب لمقداد بن أسود، ثم قال: أيها الناس إنما زوجت ابنة عمي المقداد ليتضع النكاح»(3).
نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يسهل أمر زواج العزاب والعازبات ببركة الصلاة على محمد وآله.
«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النية وعرفان الحرمة،
ص: 64
وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة... وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالإتباع والموعظة... وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة»(1).
قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ}(2).
وقال سبحانه: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(3).
وقال عزّ وجلّ: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(4).
وقال جلّ وعلا: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}(5).
قال تعالى: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَمِنَ الْأَنْعَٰمِ أَزْوَٰجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}(6).
ص: 65
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٖ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}(1).
وقال عزّ وجلّ: {عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَٰجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَٰتٖ مُّؤْمِنَٰتٖ قَٰنِتَٰتٖ تَٰئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٖ سَٰئِحَٰتٖ ثَيِّبَٰتٖ وَأَبْكَارًا}(2).
وقال جلّ وعلا: {لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَٰعَا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}(3).
قال تعالى: {وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٖ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِئًا مَّرِئًا}(4).
وقال سبحانه: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَٰتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَٰنِيَ حِجَجٖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّٰلِحِينَ}(5).
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... تزوجوا فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً ما كان
ص: 66
يقول: من كان يحب أن يتبع سنتي فليتزوج فإن من سنتي التزويج واطلبوا الولدفإني أكاثر بكم الأمم غداً»(1).
عن عبد الصمد بن بشير قال: دخلت امرأة على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فقالت: أصلحك اللّه إني متبتلة فقال: «وما التبتل عندك؟» قالت: لا أتزوج، قال: «ولم؟» قالت: ألتمس بذلك الفضل، فقال: «انصرفي فلو كان في ذلك فضلاً لكانت فاطمة(عليها السلام) أحق به منك، إنه ليس أحد يسبقها إلى الفضل»(2).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق اللّه في النصف الباقي»(3).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شرار موتاكم العزاب»(4).
وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شرار أمتي عزابها»(5).
وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لرجل اسمه عكّاف: «ألك زوجة؟» قال: لا يا رسول اللّه، قال: «ألك جارية؟»، قال: لا يا رسول اللّه، قال: «أفأنت موسر؟» قال: نعم، قال: «تزوج وإلّا فأنت من المذنبين»(6).
وفي رواية: «تزوج وإلّا فأنت من رهبان النصارى».
وفي رواية أخرى: «تزوج وإلّا فأنت من إخوان الشياطين»(7).
ص: 67
عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «ما تزوج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً من نسائه، ولا زوج شيئاً من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش، والأوقية أربعون درهماً والنش عشرون درهماً»(1).
عن كتاب نوادر الحكمة عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لا تغالوا في مهور النساء فيكون عداوة»(2).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تغالوا بمهور النساء فإنّما هي سقيا اللّه سبحانه»(3).
عن ابن بكير قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «زوّج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة(عليها السلام) على درع حُطَميَّة(4) يسوى ثلاثين درهماً»(5).
عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «الشؤم في ثلاثة: في المرأة والدابة والدار، فأما شؤم المرأة فكثرة مهرها وعقوق زوجها...»(6).
عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من زوج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشد عضده ويستريح إليها زوجه اللّه من الحور العين وآنسه بمن أحب من الصديقين من أهل بيته وإخوانه وآنسهم به»(7).
ص: 68
عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاححتى يجمع اللّه بينهما»(1).
عن الإمام موسى الكاظم(عليهما السلام) قال: «ثلاثة يستظلون بظل عرش اللّه يوم لا ظل إلّا ظله: رجل زوج أخاه المسلم، أو أخدمه، أو كتم له سراً»(2).
عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته يخطب إليكم فزوجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»(3).
جاء رجل إلى الإمام الحسن(عليه السلام) يستشيره في تزويج ابنته؟ فقال: «زوجها من رجل تقي؛ فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها»(4).
عن الإمام الرضا(عليه السلام): «.. وإن خطب إليك رجل رضيت دينه وخلقه فزوجه ولا يمنعك فقره وفاقته، قال اللّه تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ}(5)، وقوله: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(6)...»(7).
ص: 69
ولد الإمام الحسين(عليه السلام) في الثالث من شعبان سنة ثلاث أو أربع من الهجرة النبوية المباركة.
وفي الحديث: «لما ولد الإمام الحسين(عليه السلام) هبط جبرئيل(عليه السلام) ومعه ألف ملك يهنئون النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بولادته. وجاءت به فاطمة(عليها السلام) إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسر وسماه حسيناً»(1).
وعن إبراهيم بن شعيب قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إن الحسين بن علي(عليهما السلام) لما ولد أمر اللّه عزّ وجلّ جبرئيل أن يهبط في ألف من الملائكة فيهنئ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من اللّه ومن جبرئيل، قال: فهبط جبرئيل فمر على جزيرة في البحر فيها ملك يقال له فطرس كان من الحملة بعثه اللّه عزّ وجلّ في شيء فأبطأ عليه فكسر جناحه وألقاه في تلك الجزيرة، فعبد اللّه تبارك وتعالى فيها سبعمائة عام حتى ولد الحسين بن علي(عليهما السلام) فقال الملك لجبرئيل: يا جبرئيل أين تريد؟
قال: إن اللّه عزّ وجلّ أنعم على محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنعمة فبعثت أهنؤه من اللّه ومني.
فقال: يا جبرئيل احملني معك لعل محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدعو لي.
ص: 70
قال: فحمله.
قال: فلما دخل جبرئيل على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هنأه من اللّه عزّ وجلّ ومنه، وأخبره بحال فطرس.
فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): قل له: تمسّح بهذا المولود وعد إلى مكانك.
قال: فتمسح فطرس بالحسين بن علي(عليهما السلام) وارتفع.
فقال: يا رسول اللّه أما إن أمتك ستقتله وله عليّ مكافاة أن لايزوره زائر إلّا أبلغته عنه، ولا يسلّم عليه مسلّم إلّا أبلغته سلامه، ولا يصلي عليه مصلّ إلّا أبلغته صلاته، ثم ارتفع»(1).
عن ابن عباس قال: لما كان مولد الحسين بن علي (صلوات اللّه عليهما) وكانت قابلته صفية بنت عبد المطلب، فدخل عليها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «يا عمة ناوليني ولدي».
قالت: فداك الآباء والأمهات كيف أناولكه ولم أطهره بعد!
قال: «والذي نفس محمد بيده لقد طهّره اللّه من علا عرشه».
فمد بيده وكفيه فناولته إياه، فطأطأ عليه برأسه يقبل مقلتيه وخديه ويمج لسانه كأنما يمج عسلاً أو لبنا. ثم بكى طويلاً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما أفاق قال: «قتل اللّه قوما يقتلوك!»
قالت صفية: فقلت: حبيبي محمد من يقتل عترة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟
قال: «يا عمة تقتله الفئة الباغية من بني أمية»(2).
ص: 71
في ذكرى مولد الإمام الحسين(عليه السلام) علينا أن نتعلم من مدرسته المباركة، ونقتدي بسيرته الطاهرة فإن في ذلك سعادة الدنيا والآخرة، وخلاص للأمة من أزماتها ومشاكلها الكثيرة.
يروى أن الإمام الحسين(عليه السلام) أرسل أحد أولاده إلى عبد الرحمن السلمي(1)، ليعلمه القراءة والكتابة فعلّمه سورة الحمد، فلما عاد إلى المنزل، سأله(عليه السلام): «ماذا تعلمت؟».
قال: سورة الحمد.
فاستدعى (صلوات اللّه وسلامه عليه) عبد الرحمن السلمي وأعطاه ألف دينار، وألف حلة، وحشا فاه دراً.
فقيل له في ذلك، فقال(عليه السلام): وأين يقع هذا من عطائه، يعني تعليمه(2).
وقد ذكرت هذه القصة في البحار(3)، وكذلك في المستدرك(4)، وفي كتب أخرى أيضاً(5).
وإذا أردنا أن نعرف قيمة هذا العطاء، فإن ألف دينار يعني ألف مثقال من الذهب، والمثقال الشرعي من الذهب يعادل ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي.
يعني إذا كان المثقال الصيرفي يساوي 24 حمصة، فالمثقال الشرعي يساوي 18 حمصة. إذن ألف دينار يعادل سبعمائة وخمسين مثقالاً من الذهب اليوم، فإذا
ص: 72
حسبنا قيمة كل مثقال من الذهب اليوم، يتبين أن الإمام(عليه السلام) دفع له ما يعادل الملايين.
كما أن الإمام(عليه السلام) دفع له ألف حلة، وقيمة كل حُلة كانت تعادل ديناراً واحداً، فيعني أنه دفع من الحلل ما يعادل الملايين أيضا.
وأما بالنسبة إلى الدر حيث «وحشا فاه دراً»، فإنا لا نعلم حجم هذه الدرر، صغيرة كانت أم كبيرة؛ وما هي قيمتها، لأن الدر الصغير أقل قيمة من الدر الكبير، ولكن من الواضح أن هذه أيضا تعادل الملايين.
وهذا يعني أن الإمام(عليه السلام) كان قد أعطى هذا المعلم عشرات الملايين!
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا قام الإمام الحسين(عليه السلام) بهذا العمل؟
هل لأنه كان كريماً فقط، نعم إنه(عليه السلام) كان في قمة الكرم، فالإمام(عليه السلام) كريم وشجاع، وعالم وتقي، وجامع لكل الصفات الحسنة والخصال الحميدة.
فهل كان هدف الإمام هو العمل بمصداق من الجود والكرم، ومجرد أن الكريم يعطي المال للناس؟!
أم كان القصد هو تشجيع العلم والعلماء؟ وبيان دورهم في الحياة؟
الظاهر أن قصد الإمام الحسين (صلوات اللّه وسلامه عليه) هو تكريم العلم والعلماء، والتأكيد على دور العلم والعلماء في بناء المجتمع وتقدمه وتطوره.
وهذا ما نفتقده اليوم.
فإذا فهم المسلمون أهمية العلم والعلماء، وظهرت عندهم قيمة ذلك تقدموا، فإنه لم يحصل ما حصل اليوم للعالم الإسلامي من التأخر والتخلف في جميع مناحي الحياة إلّا بالابتعاد عن العلم والعلماء، حيث أصبحنا من الأمم التي هي في الدرجة الثانية أو الثالثة أو الأكثر تأخراً.
ص: 73
أما الغربيون فتقدموا علينا في العديد من مجالات الحياة، لأنهم عرفوا مكانة العلم والعلماء، وقدّروا العلم والعلماء، فإنكم تلاحظون اليوم أن أغلب الصنائع - وربما كلها - التي نستعملها في حياتنا اليومية ليلاً ونهاراً فهي من صنعهم.
فالكهرباء منهم، والثلاجة التي في منازلنا منهم، وكذلك الغسالة، والسيارة، وغيرها، وغيرها.
وإذا أراد أحدنا الذهاب إلى حج بيت اللّه، فالطائرة من صنعهم؟!
وإذا أردنا نشر المفاهيم الإسلامية عبر المذياع والتلفاز، فأيضا تعود إليهم.
وإذا ما مرض أحد - لا سمح اللّه - فعندما يذهب إلى المستشفى للمعالجة، فالدواء ووسائل العلاج والأجهزة الطبية منهم.
لماذا تقدموا وتأخرنا؟
لأنهم عملوا ببعض القوانين الإسلامية التي جاء بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام) ومنهم الإمام الحسين(عليه السلام)، والتي منها تكريم العلم والعلماء، فتقدموا.
وتركنا نحن المسلمين القوانين الإسلامية التي وردت في القرآن الكريم، وجاءت على لسان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام) فتأخرنا.
ومن تلك القوانين الحيوية، ما يستفاد من هذه القصة الصغيرة، حيث أكرم الإمام الحسين(عليه السلام) ذلك المعلّم بهذا التكريم الكبير.
ولكننا عند ما نقرأ هذا الحديث نعده مجرد فضيلة من فضائل الإمام الحسين(عليه السلام) وكرم من مصاديق جوده وكرمه، من دون أن نعرف ما الذي أراده الإمام الحسين(عليه السلام) بعمله هذا؟!
ص: 74
وهكذا كان القرآن الكريم والنبي العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤكدون على دور العلم والعلماء.
فبعد انتصار نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معركة بدر، وأسرِ عدد من المشركين، اقترح البعض بقتل الأسرى، لكن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يقبل بذلك.
في التاريخ: إن عمر قال: يا رسول اللّه، كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم، ومكّن علياً من عقيل فيضرب عنقه، ومكن حمزة من عباس، ومكّني من فلان أضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر(1).
فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه يلين قلوب رجال حتى يكون ألين من اللبن، ويقسي قلوب رجال حتى يكون أشد من الحجارة مثلك».
هذا وكان المشركون قد أرسلوا إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من يتوسط لإطلاق سراح الأسرى مقابل الفداء.
وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ما قال: من كان منكم يعرف القراءة والكتابة، فليعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، ثم ليذهب إلى مكة وإن بقي كافراً مشركاً(2).
فماذا أراد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذا العمل؟!
أراد أن يؤكد على ضرورة تحلي المسلمين بالعلم، ودور العلم والعلماء في تطور المجتمع وتقدمه.
وقد قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(3).
وهذا ما قام به الغربيون بعد الحرب العالمية الثانية، حيث طالبوا ألمانيا بدفع
ص: 75
الغرامات الحربية، وكانت الغرامة تسليم العلماء إليهم ليستفيدوا من علومهم في تطور بلادهم.
لقد كان هذا عمل نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نحن المسلمين، فهل تعلمنا منه ذلك؟!
إن كل من يسير على سنة اللّه في الكون وسيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) في الحياة سوف يتقدم، سواء كان مسيحياً أم يهودياً، فاللّه تعالى يقول في القرآن: {كُلًّا نُّمِدُّ}(1)، أي نعطي الجميع {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} وذلك للاختبار والامتحان، فإن الدنيا دار أسباب ومسببات.
إن علينا أن نتعلم في يوم الحسين(عليه السلام) - سواء في يوم مولده الشريف، أو يوم استشهاده - من مدرسته النيرة، وسيرته العطرة.
وقد أكد الإمام الحسين(عليه السلام) بسيرته وأقواله على دور العلم والعلماء في المجتمع، كما مر في قصة تكريم المعلم الذي علم ولده سورة من القرآن.
فهذه القصة وكذلك قصة نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في بدر، هي من أجل تعليمنا، لكننا لم نتعلم وتعلم غيرنا، فأصبحوا سادة الدنيا، وعادوا يملكون كل شيء، وأصبحت بلادنا في أشد الفقر وأتعس حالات الحرمان.
قال الإمام الحسين(عليه السلام) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان منزلة العلماء:
«... وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء، لو كنتم تشعرون ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء باللّه الأمناء علىحلاله وحرامه فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن
ص: 76
الحق، واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المئونة في ذات اللّه، كانت أمور اللّه عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم أمور اللّه في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم فمن بين مستعبد مقهور، وبين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلبون في الملك بآرائهم ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداء بالأشرار وجرأة على الجبار، في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول(1)، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، وذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لايعرف المبدئ المعيد، فيا عجباً وما لي لا أعجب والأرض من غاش غشوم ومتصدق ظلوم وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فاللّه الحاكم في ما فيه تنازعنا والقاضي بحكمه في ما شجر بيننا، اللّهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم وحسبنا اللّه وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير»(2).
هذا بالنسبة إلى الغربيين وتقدمهم في مجالات الحياة، وكذلك الحال - نسبياً -
ص: 77
بالنسبة إلى بعض الحركات المنحرفة كالوهابيين، فإنهم على رغم باطلهم يعملون ليل نهار لنشر أفكارهم ومبادئهم بين الناس.
الوهابيون مع أنهم قلة قليلة جداً، لكنهم أسسوا في العديد من بلاد العالم مؤسسات وجمعيات ومدارس كثيرة وكبيرة لتعليم مناهجهم العنيفة التي تخالف الشرع والعقل والفطرة، فتقدموا بقدر ما عملوا.
على عكسنا، حيث لا نعمل فلا نتقدم.
وقد قال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) مخاطبا أصحابه:
«فيا عجبا عجبا واللّه يميث القلبَ ويجلب الهمَّ من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحاً لكم وترحاً، حين صرتم غرضاً(1) يُرمى، يُغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تَغزون، ويُعصى اللّه وترضون»(2).
وقال(عليه السلام): «واللّه إنكم لعلى حق، وإن القوم لعلى باطل، فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم»(3).
وقال(عليه السلام): «فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم، والركون إلى سبيل الطاغوت، أشد اجتماعاً على باطلهم وضلالتهم منكم على حقكم»(4).
وقال(عليه السلام): «ولا أرى هؤلاء القوم إلّا ظاهرين عليكم لاجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، وطاعتهم لإمامهم ومعصيتكم لإمامكم، وبأدائهمالأمانة إلى صاحبهم، وخيانتكم إياي»(5).
ص: 78
وقال(عليه السلام): «فالعجب كل العجب، وكيف لا أعجب من اجتماع قوم على باطلهم، وتخاذلكم عن حقكم»(1).
وفي نهج البلاغة:
«إني واللّه لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون(2) منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب(3) لخشيت أن يذهب بعلاقته(4)، اللّهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني»(5).
وهكذا أصبحنا وأصبحوا.
حيث تفرقنا عن الحق، وتمسكوا بباطلهم.
هناك جمعية وهابية في الكويت تدعى: (جمعية الإصلاح)، أسسها مجموعة من التجار الوهابيين، وهي موجودة لحد الآن، وتصدر لها مجلة، اسمها (المجتمع). وقد جاء في عددها ما قبل الأخير: بأن الوهابيين اجتمعوا وقرروا للعام الجديد الميلادي طبع وتوزيع مائة مليون كتاب في العالم.
ومن الواضح أن هذا العمل بحاجة إلى مبلغ خيالي من الأموال، لتهيئة الكتب وطبعها وتوزيعها بين الناس. ولكنهم قد رصدوا كل المبلغ لذلك.
ص: 79
هكذا يعملون لنشر ثقافتهم.
ونحن نتعجب كيف سيطر الوهابيون على بلاد كثيرة!
أو كيف سيطر الغربيون على الدنيا.
إنهم عرفوا سنن الحياة فاتبعوها.
إنها سنن ذكرها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، ومن قبل بينها اللّه تعالى في القرآن الكريم، حيث قال عزّ وجلّ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1).
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).
وقال سبحانه: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَلَلْأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}(3).
وقال جلّ جلاله: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ}(4).
وخلاصة الأمر:
إنه راجع إلى العلم والعلماء والنشاط.
هذا وقد قال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته الأخيرة - ومن المعلوم أنالإنسان يؤكد في آخر وصاياه على أهم ما يراه - :
ص: 80
«اللّه اللّه في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(1).
وقد سبقنا غيرنا، فأصبح يملك العلم والصناعة والثروة والحكم وغيرها... ولم يبق للمسلمين شيء، وإن بقي فكان للوهابيين ومن أشبه، وأما نحن فلا.
حيث لم نتعلم من الإمام الحسين(عليه السلام) في الاهتمام بدور العلم والعلماء، ولم نأخذ بسيرته العطرة وسيرة أبيه وجده(عليهم السلام) في السير على هديهم.
هناك في الأدب الفارسي قصة تقول:
بأنه حصلت معركة في مكان ما، وانتصر القوم، وكانت هناك غنائم كثيرة، فأخذ كل نصيبه، وبقي شخص كان مهتماً بتصفيف شعره، وتجميل صورته، وترتيب ملابسه، بعدها ذهب ليأخذ من الغنائم فلم ير شيئاً، فعاد خائباً خاسراً، وقد سأله أحدهم: ما غنمت أيها الجميل في شعرك! فقال: لا شيء... لاشيء(2).
إننا أصبحنا كهذا الغافل، فلم نحصل على أي شيء.
القصة الثانية أيضاً من الوهابيين؛ حيث استغلوا فرصة الحج ووفود الملايين من المسلمين إلى بيت اللّه الحرام وزيارة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأجل تبليغ دينهم ونشر أفكارهم ومبادئهم.
فأنتم شاهدتم المسجد الحرام، وكذلك المسجد النبوي الشريف(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، كيف عمروها ووسعوها وبرمجوا لها، حيث يتسع لمليون مصلٍ، وكم يوزعون على الحجاج والزوار من الكتب والأشرطة والنشرات وما أشبه، وكم هناك من مبلغيهميدعون الناس إلى عقيدة الوهابية وأفكارها.
ص: 81
ثم انظروا إلى حرم الإمام الرضا(عليه السلام) وحرم السيدة معصومة(عليها السلام) وسائر مشاهدنا المشرفة ومزاراتنا المقدسة، حيث إنها لا تسع لعدد كبير من الزوار، ولا تشتمل على برامج تبليغية لنشر معارف أهل البيت(عليهم السلام) من نشر الكتب وتوزيع الأشرطة وما أشبه. فالزائر يأتي ويزور ثم يذهب من دون أن يقدّم له أي شيء.
وربما احتج البعض وقال بأن هذه أماكن أثرية قديمة لا يمكن توسعتها، ولكن هل كونها من الأماكن الأثرية جزء من الأدلة الشرعية، بأن نجعل الناس في ضيق وشدة ولا نواكب التطور والتقدم العصري بسبب ذلك!
فالقضية من باب الأهم والمهم، بالإضافة إلى أنه في كثير من الأحيان وعبر استشارة الأخصائيين والخبراء يمكن الاحتفاظ بالأماكن الأثرية القديمة مع إيجاد التوسعة المطلوبة.
لِمَ لا نتعلم من عمل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)! إذ قام بتوسيع مسجده المبارك بنفسه(1).
وأنتم تنظرون اليوم الشدة والضيق التي يعاني منها الناس عند زيارتهم للمشاهد المشرفة، سواء في الحر والبرد، مضافاً إلى مشاكل اختلاط النساء والرجال.
إذن يلزم علينا ونحن في يوم الحسين(عليه السلام) وفي ذكرى ميلاده المبارك، أن نهتم أكبر الاهتمام بما يرتبط بأهل البيت(عليهم السلام) من المشاهد المشرفة والروضات المقدسة، وأن نعمل بواجبنا من تبليغ رسالة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعاليم أهل البيت(عليهم السلام).
قيل إنه قبل فترة أمر فهد(2) ببناء ثلاثة آلاف مكتبة في الدول التي تحررت من
ص: 82
الإتحاد السوفيتي، وخصص لها المبالغ اللازمة وهي مبالغ كبيرة جدا.
فكم بنينا وكم خصصنا؟
هذا ما يعملون، ولكننا ما ذا نعمل؟
فكم مكتبة توجد في قم المقدسة؟!
وكم مؤسسة لإرشاد الزائرين، ونشر علوم أهل البيت(عليهم السلام) إلى العالم؟
وكم من مكتبة بنيت في أنحاء العالم بتوجيه ودعم من الحوزة العلمية بقم المقدسة؟
لا شيء يذكر!
مع أن قم المقدسة تعتبر ومنذ ألف سنة مركزاً للعلم والدين والتقوى والفضيلة.
فانظروا كيف يفكر غيرنا، وكيف يعمل، وكيف ينشر فكره وعقيدته، ونحن في واد آخر.
فإذا رأيتم طالبين، أحدهما مجد يتعب نفسه ويسهر الليل في الدراسة والمطالعة والبحث والتحقيق، والآخر ينام الليل ولايتعب، فمن منهما يتقدم ويتطور؟
النتيجة واضحة.
وهكذا الحال بالنسبة إلى الأمم المتطورة والمتأخرة.
إن لبنان بلد صغير، ونفوسه ضعف نفوس قم المقدسة أو أكثر بقليل، وقد ذهبت إلى لبنان وشاهدته عن قرب، يوجد في لبنان ثلاثمائة وخمسون محطةإذاعية وتلفزيونية(1)، مضافاً إلى المئات من الصحف والنشرات والمجلات و...؛ وهذه القوة الإعلامية هي من أسرار تقدمهم وتطورهم، فإن كل شخص أو جهة أو
ص: 83
حزب في لبنان حر في تأسيس محطة إذاعية وتلفزيونية، أو نشر صحيفة أو مجلة، من دون أن تمنعه الدولة.
فإذا أردنا أن نقيس على لبنان فيلزم أن تكون في قم المقدسة - حيث الحوزة العلمية المرتبطة بالدنيا، وهي عش آل محمد(عليهم السلام) كما في الروايات(1) - على الأقل مائة وسبعون محطة إذاعية وتلفزيونية.
ولكن لا توجد حتى محطة واحدة.
فانظروا لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟
من الواضح أن الذي لا يعمل يبقى متخلفاً.
هذا من جانب، ولكن الذي يجعل المسؤولية أكبر وأثقل ما ورد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قوله: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(2).
فإن الذي يُلزمنا به هذا الحديث: أن على الأمة الإسلامية، أن تكون أعلى من سائر الأمم وأكثر تطوراً وتقدماً. وهذا واجب شرعاً للحفاظ على قانون العلو.
ولكن إذا لم نكن أعلى من غيرنا، فعلى الأقل أن نكون كسائر الأمم ومثل باقي العالم، يعني أن تكون لنا صنعة كصنعتهم، وتكون لنا حريات كحرياتهم، وتكون لنا وسائل إعلام كوسائلهم من صحافة ومحطات إذاعية وتلفزيونية ودور نشر وما أشبه.
فأين نحن منهم؟
إن للطلبة والعلماء والحوزات العلمية الدور الأكبر في تطوير الأمة وإرشادها
ص: 84
نحو التقدم والرقي. فإن الطلبة في كل أمة هم الذين يرفعون من شأنها، أو يحطون من قدرها.
وإنني أقدر حتى أصغر الطلبة المبتدئين الذين يدرسون الأمثلة(1)
وما أشبه، فإنه يمكن لهذا الطالب المبتدئ أن يؤدي دوراً إيجابياً في تطوير الأمة.
فكيف بالذي تقدم أكثر كالذي يدرس (السيوطي)(2)، أو (شرح اللمعة)(3)؟
أو مكاسب الشيخ(4)، أو يحضر بحث الخارج(5).
وكيف بكبار العلماء والخطباء والفضلاء.
فعلينا أن ننظر إلى غيرنا ممن تقدم لنعرف أسباب تقدمه ولانتأخر عن الركب، فإن الأشياء تعرف بأضدادها وبأمثالها، كما قيل في الحكمة.
بعد مراجعة التاريخ الإسلامي والتدقيق والتحقيق في مختلف مراحلها يتبين بوضوح أن من أحد أهم أسباب تأخرنا نحن المسلمين في العالم هم: بنو أمية
ص: 85
وبنو العباس.
فالنبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وضع خطة محكمة - ربما نفصّل ذلك في كتاب آخر - لهداية الناس جميعاً نحو الإسلام، ولكي تسلم الدنيا بأسرها، لكن السر في تأخر المسلمين وتخلفهم هو تغيير المنهج الصحيح بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، قال تعالى: {أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ}(1).
فإن بني أمية وبني العباس ومن سبقهم ما أن وصلوا إلى الحكم حتى منعوا المسلمين من التقدم والتطور، بل كانوا يزجون بهم من حرب إلى حرب، ويقولون: إنها فتوحات. لم تكن فتوحات بل هو كذب محض، ربما نبحث عن ذلك في وقت آخر، فمقولة هارون عندما كان يخاطب السحاب: أينما تمطرين سيأتيني خراجكِ(2). كذب وتزوير للتاريخ وعدم إطلاع.
إن هؤلاء - من هارون، والمأمون، والمتوكل، ومعاوية - هم الذين وقفوا في وجه المسلمين وحدوا من نشاطهم وتقدمهم، ومما يدل على ذلك القصتان التاليتان:
كان خالد بن عبد اللّه القسري(3) كالحجاج في سفك الدماء، وارتكابالحرام، وانتهاك الحرمات، والحد من العلم، والضغط على العلماء ومحاربة أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم. فكان سوطاً من سياط بني أمية، وجلاداً من جلاديهم، وعاملاً مستبداً من عمالهم.
ص: 86
أما لماذا اشتهر الحجاج بالظلم والاستبداد وسفك الدماء ولم يشتهر خالد؛ فلأن الحجاج - وكما يذكر الحاج المولى هاشم في (منتخب التواريخ) - ثار أكثر ضد علي أمير المؤمنين(عليه السلام) وشيعته وفي وضح النهار، فأخذ يبحث عن قبر الإمام(عليه السلام) في الكوفة لينبشه، وقد نبش اثنين وعشرين ألف قبر لأجل ذلك ولكنه لم يعثر على قبر الإمام.
إن اشتهار الحجاج كجلاد لبني أمية جاء لكثير ظلمه في هذا الباب. أما خالد بن عبد اللّه القسري، والذي نريد نقل قصة عنه، فقد كان من ظلمه أنه اتخذ سياسة محاربة العلم والعلماء، لأن بني أمية وبني العباس كانوا يقضون على العلم والعلماء ليقولوا: نحن السادة.
ففي أحد الأيام صعد خالد القسري المنبر في مسجد الكوفة - ومسجد الكوفة آنذاك كان أكبر بكثير مما عليه المسجد الآن - وكان عيد الأضحى، فخطب خطبته ثم قال: أيها الناس، اليوم يوم الأضحى، والأضحية فيه مستحبة، وكل منكم سيضحي بشاة أو بقرة أو ناقة، ولكني سأضحي بأضحية خاصة تختلف عن أضحياتكم.
فتوجهت أنظار الجميع إليه، ماذا سيفعل. وكان رجل في ذلك الوقت حاضراً في المسجد يدعى (جَعْد)(1) فأمر خالد جلاوزته وجلاديه بالقبض على جَعْد،ثم قال: ألقوه أرضاً، ثم أخرج سكيناً وذبحه في المسجد(2).
ص: 87
فهل يمكن لهذه الأمة أن تتقدم!
الأمة التي تقطع رؤوس علمائها في المسجد؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر! كيف يمكنها أن تتقدم؟
فهؤلاء (بنو أمية وبنو العباس ومن شاكلهم) وقفوا أمام العلم، وإلّا لما كانت الأمة الإسلامية كما هي عليه الآن من التأخر والحرمان.
هذه هي القصة الأولى.
أما القصة الأخرى فهي عن بني العباس وعمالهم، فقد كان شخص إيراني في العراق يدعى عبد اللّه بن المقفع، وليس الكلام في تقييمه وبما قاله المؤرخون حوله؛ لأننا لسنا في صدد تحليل شخصيته، فإن هناك خلافاً حول عبد اللّه بن المقفع، ولم يكن لي تحقيق في هذا الباب حتى أبينه. لكن عبد اللّه بن المقفع كان أديباً مرموقاً، ربما لا نملك اليوم أديباً مثله بين الإيرانيين.
لقد كان قمة في الأدب العربي، والدليل على ذلك أن كتبه موجودة لحد الآن وتطبع في مصر وغيرها باستمرار، ومن كتبه (كليلة ودمنة)(1)، وهو كتاب أدبيرفيع المستوى في اللغة العربية، وقد ترجم إلى العربية من نسخة فارسية، علماً بأن أصل الكتاب يعود إلى الهند في زمان (أنو شيروان)(2)، فترجم إلى الفارسية من الهندية، ثم قام عبد اللّه بن المقفع بترجمته إلى العربية، لكن نسخته العربية رفيعة المستوى جداً، وقد طالعته مرتين ونصف.
ص: 88
لقد كان عبد اللّه بن المقفع رجلاً عالماً مشهوراً في الأوساط، وقد جاء يوماً إلى منزل والي العباسيين في البصرة وكان اسمه سفيان بن معاوية - فالمنصور العباسي كان حاكماً في بغداد، وله والٍ في البصرة - فدخل عليه وترك فرسه عند غلامه في الباب، وكان منزل الوالي واسعاً جداً، والناس يدخلون ويخرجون. فبقي الغلام منتظراً ساعة وساعتين وثلاث ساعات، فلم يخرج عبد اللّه، فحل وقت الظهر وكذلك العصر، ولم يخرج عبد اللّه بن المقفع!
فاستغرب الغلام وأحس بالشر، فعاد إلى أصدقائه وأخبرهم بأمره. فجاءوا إلى منزل الوالي، وقالوا له: أين عبد اللّه بن المقفع؟
قال: لم يأت إليَّ أصلاً.
فقال الغلام: هذا فرسه وقد دخل إلى منزلكم.
فقال: لا علم لي به.
فذهبوا إلى المنصور العباسي في بغداد؛ لأن عبد اللّه كان شخصية مهمة، فلا يمكن أن يبقى حاله مجهولاً هكذا. فما الذي حدث له!
فقال المنصور: لا علم لي بذلك.
فقالوا: أنت الحاكم وهذا واليك، فاسأل ماذا جرى له.
فقال: سوف أسأل عنه.
ومر يوم ويومان وعشرة أيام، ثم أسبوع وأسبوعان، وبعدها شهر وشهران. ثم ذهبوا إليه مرة أخرى، فأنكر الحاكم علمه بالموضوع أصلاً.
فقالوا: لا يمكن أن يكون الحاكم بلا علم عن واليه بالبصرة، وما يجري على العلماء والشخصيات.
والمسافة بين بغداد والبصرة لم تكن إلّا أربعمائة كيلومتر.
فقال الحاكم: لا علم لي بالموضوع.
ص: 89
فقالوا: اسأل عنه.
قال: سأسأل عنه.
مر على القصة يوم ويومان، ثم أسبوع وأسبوعان، وبعدها شهر وشهران، ولا يعلم ما حل بعبد اللّه بن المقفع، هل طار إلى السماء، أم غار في الأرض.
فأيس الناس وقاموا بالتحقيق بأنفسهم.
يقول الشاعر(1):
ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
نعم لا يمكن للإنسان أن يخفي صفاته دائماً، فإن الناس يوماً ما سيطلعون عليها، وقد قال اللّه قبل هذا الشاعر: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2)، فإن المؤمنين يرون أعمال الناس.
وهذا ما يرى في المجتمع فإن الناس عادة يعرفون بأن الشخص الفلاني عالم، والشخص الفلاني جاهل، والطبيب الفلاني أفضل، والطبيب الفلاني علمه أقل، وهكذا.عند ما يئس الناس من الحاكم العباسي في تحقيق مصير عبد اللّه بن المقفع، حققوا بأنفسهم عنه، من مقربي الوالي، فتبين أن المنصور العباسي أمر واليه بالبصرة بقتل عبد اللّه بن المقفع شر قتلة(3)، وذلك لأن هذا الشخص كان عالماً، ومن البديهي أن العالم لا يرضى بمنكرات الحكام، فيقول: هذا ليس بصحيح، هذا ظلم لا يجوز، هذا اعتداء وزور، هذا قتل وسفك للدماء، و... .
وكان الوالي يعلم بأن عبد اللّه بن المقفع يأتيه يوم كذا، فأمر بسجر تنور، فلما
ص: 90
جاء ابن المقفع أمر بالقبض عليه، وتقطيع بدنه قطعة قطعة، وإلقائها في التنور حتى أتى على جميع جسده بأمر الحاكم العباسي(1).
نعم هؤلاء الحكام من بني أمية وبني العباس كانوا السبب في تأخر الأمة الإسلامية حيث حكموا بالظلم والاستبداد، وقضوا على العلم والعلماء.
ولكن مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) هي مدرسة العلم والعلماء، ومن هنا نرى الإمام الحسين(عليه السلام) ونحن في يومه المبارك، ذكرى مولده الشريف، قام بتكريم المعلم الذي علم ولده سورة من القرآن أيما تكريم، تعظيماً للعلم والعلماء.
إننا نملك شيئين مهمين وهما بأيدينا:
الأول: الكتابة والتأليف.
الثاني: الخطابة والبيان.
وهما من أسس العلم ونشر الثقافة والوعي.
فعلينا أن نكتب عن الإمام الحسين(عليه السلام) وننشر فكره(عليه السلام) وعلومه في جميعالعالم. فإن اللّه عزّ وجلّ خلق هؤلاء الأطهار(عليهم السلام) سفناً لنجاة الأمة، ومصابيح لهداية الخلق.
كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»(2).
ولكن كم كُتب عن الإمام الحسين(عليه السلام)؟
نعم كتب عن الإمام الحسين(عليه السلام) أكثر من باقي الأئمة والأنبياء (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) ولكنه قليل، فقد كُتب عن إقبال اللاهوري أكثر مما
ص: 91
كتب عن الإمام الحسين(عليه السلام)!
كان إقبال اللاهوري شخصاً عالماً وشاعراً، وأشعاره جميلة، وكان يدعو لاستقلال باكستان. فكتبوا عن شخصيته خمسة آلاف كتاب وكراس، ولكن هل تتمكنون من جمع خمسة آلاف كتاب حول الإمام الحسين(عليه السلام) منذ ألف وثلاثمائة سنة مضت وإلى الآن.
فهذا يعني أننا مقصرون!
فمن يتحمل عبء التقصير هذا؟
نحن لدينا القدرة على الكتابة والتأليف، فليس من الصحيح أن ندع الكتابة والتأليف جانباً، بل علينا أن نكتب وننشر تعاليم أهل البيت(عليه السلام) وعلومهم للعالم، فنكتب حول اللّه عزّ وجلّ، وحول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وحول أمير المؤمنين(عليه السلام) وحول الإمام الحسين(عليه السلام) وحول الإمام الصادق(عليه السلام) وحول سائر الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) وحول الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وحول السيدة المعصومة(عليها السلام) وهكذا.
كل شخص منا يلزم عليه أن يكتب كتاباً، ففي قم المقدسة - وكما يقولون -يوجد ثلاثون ألف رجل دين، فإذا كتب كل واحد منهم كتاباً يصبح لدينا ثلاثون ألف كتاب، ومن الواضح تأثير هذه الكتب في رفع المستوى الثقافي.
كما علينا أن نسعى لتأسيس المكتبات العامة والخاصة، ففي كل مكان وفي كل بيت مكتبة وهكذا.
كان أحد التجار في الكويت يدعى الحاج عبد الصمد، وكان يذهب إلى اليابان للتجارة. فسألته يوماً: كيف تقدمت اليابان هذا التقدم الهائل في العلم والصناعة؟
ص: 92
قال: إن الشعب الياباني مثقف وواع، وهذا ما شاهدته بعيني، حيث إنك ترى في القطار الذي تسافر به مكتبة خاصة، وفي الحافلة التي تستقلها مكتبة، وفي الباخرة التي تسافر بها مكتبة، وفي جميع الأماكن العامة والخاصة مكتبة، فلا ترى إنساناً لا يطالع، الكل مشغولون بالمطالعة والقراءة.
قال: والأعجب من هذا أنك إذا ما دخلت بيت الياباني، تجد في غرفة استقباله مكتبة، وفي غرفة نومه مكتبة، وفي غرفة الطعام مكتبة، وفي المدخل مكتبة. وحتى في المطبخ والحمام مكتبة وهكذا، فهذا هو من أسباب تقدمهم وتطورهم.
نعم علينا أن نوجد في كل بيت من بيوت الناس مكتبة منزلية، فلا يقال هذا رجل قروي لا يقرأ ولا يكتب. فليكن قروياً لكن أبناءه يعرفون القراءة والكتابة وهم سيقرؤون الكتب.
أ تعلمون ماذا سيحدث لو وجدت في كل منزل مكتبة؟!
فلو كان في كل بيت عشرة أو عشرون أو خمسون كتاباً - على الأقل - فسوفيقرأ ويتعلم ويتثقف كل من هو في البيت أو يرتبط بهم، من الابن والبنت والأب والأم والصهر والضيف و... وهكذا يرتفع مستوى الثقافة.
عند ذلك يمكن أن نكون في مستوى التقدم العالمي.
علماً بأنه لا يكفي ذلك إذ على الأمة الإسلامية أن تكون الأعلى من سائر الأمم، حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(1).
عندما تحررت البلاد الإسلامية في الإتحاد السوفيتي قبل ثلاث سنوات، وحصلت فيها بعض الحرية، أرسل السعوديون لهم سبعة وستين مليون نسخة من
ص: 93
القرآن الكريم - حسب ما ورد في بعض التقارير - فكانت الطائرات تقلع بالمصاحف الشريفة لهم. وفي ذلك الوقت كان الأذربيجانيون الشيعة يأتون إلينا ويطلبون منا المصاحف فربما هيأنا لهم عشرين أو ثلاثين أو ما أشبه.
فانظروا كيف تقدم هؤلاء، وتأخرنا.
والدنيا دار العمل لمن أراد التقدم في الحياة، والمجال مفتوح لكل من يعمل، قال اللّه تعالى في القرآن المجيد: {وَقُلِ اعْمَلُواْ}(1)، فكل من يعمل يصبح سيداً، إذا عملنا نحن نصبح سادة العالم، وإذا عمل غيرنا فهو السيد لا محالة.
الأمر الثاني مما يمكننا العمل به في سبيل نشر الثقافة والوعي: هو البيان والخطابة، فعلينا أن نستفيد من هذه القوة لنشر معارف الإمام الحسين(عليه السلام) وعلومه وأهدافه، ومن مصاديق البيان، البث الإذاعي والتلفزيوني، حيث سبق أن مدينة قم المقدسة يلزم أن يبث منها مئات القنوات الإذاعية والتلفزيونية لنشرعلوم الإسلام وعلوم أهل البيت(عليهم السلام) إلى العالم.
وعليه يلزم أن يكون لكل عالم، وكل مرجع تقليد، وكل خطيب مهم، محطة إذاعية أو تلفزيونية، يتكلم ويتحدث فيها عن الإسلام وأهله، والقرآن وحملته، وهذا ما يوجب رفع المستوى الثقافي عند الأمة، وهو من مقومات الوصول إلى ركب التقدم والحضارة.
نحن متمكنون ببركة ما نملك من مقومات القوة والقدرة المعنوية، بواسطة الإمام الحسين(عليه السلام) والنبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسائر الأئمة المعصومين(عليهم السلام) وببركة
ص: 94
علومهم وباتخاذ الفضيلة والتقوى والأخلاق، أن نتقدم على جميع الأمم بإذن اللّه تعالى.
وهذا ما نتعلمه من يوم الإمام الحسين(عليه السلام) في ذكرى مولده الشريف، حيث مكانة العلم والعلماء عند الإمام(عليه السلام).
«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز به الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).
ص: 95
إن المجتمع الذي تتكاتف أجزاؤه ويسوده التعاون وروح الأخوة يسوده التكامل الاقتصادي أيضاً.
والتكامل الاقتصادي أهم عيار لقياس مدى تقدم أي مجتمع، فعلى سبيل المثال عندما يجد إنسان أن جاره ينتج محصولاً معيناً فهو ينتقل إلى محصول آخر كي تتكامل المحصولات، وذلك لسدّ جميع احتياجات المجتمع من المحاصيل، ولا تبقى للمجتمع أي حاجة لم تسد، أو لم يتوفر من يقوم بأعبائها، هذه الروح هي التي تقاس على أساسها قوة المجتمع وضعفه.
والمجتمع الإسلامي في صدر الإسلام قام على هذا المبدأ، خاصة في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذلك كانت تلك الروح موجودة في زمان الأئمة المعصومين(عليهم السلام).
فالإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام) الذي صب المعارف الإسلامية وآدابها وسننها في قالب الأدعية وقدمها إلينا سهلة يسيرة، من هنا أصبحت هذه الأدعية ذات أهمية مرموقة وهي عبارة عن مدرسة متكاملة للمسلمين.
ومن جملة تلك الأدعية التربوية هو دعاء مكارم الأخلاق، حيث ذكر في عشرة مواضع من هذا الدعاء تقريباً موضوع (الاقتصاد)، في مورد واحد ذكر لفظ الاقتصاد بالنص، وفي بقية الموارد لمّح وأشار إلى معنى الاقتصاد.
ص: 96
فمثلاً جاء في هذا الدعاء: «اللّهم صلّ على محمد وآله ومتّعني بالاقتصاد»(1).
قد يتبادر إلى الذهن سؤال وهو: لماذا يذكر الإمام(عليه السلام) لفظ الاقتصاد في الدعاء الذي هو عادة يتضمن معنى العبادة التي يناجي بها الإنسان ربه سبحانه وتعالى في عشرة موارد؟
قد يجاب عن هذا السؤال: بأن الحياة فيها شدة ورخاء وينبغي للإنسان أن يقتصد في كل مجال من مجالات حياته.
والجدير بالذكر هو أن هذا الدعاء وبقية أدعية الصحيفة السجادية هو من أجل تعليم الإنسان وهداية البشر ككل.
إن الذين يقولون إن الحياة مبنية على الاقتصاد(2) يخطأون في الواقع، نعم إن الاقتصاد هو أحد الدعائم الرئيسية للحياة، حيث يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): (من لا معاش له لا معاد له)، وهذا عين الواقع لأن الذي يفقد القدرة الاقتصادية لم يكن بإمكانه تضمين آخرته، ولا فرق بين أن يكون المعاش جماعياً أو فردياً.
وقد جاءت روايات كثيرة تمدح الغنى وتذم الفقر ومنها:
«سلوا اللّه الغنى في الدنيا والعافية، وفي الآخرة المغفرة والجنّة»(3).
وعن مولانا أمير المؤمنين لابنه الحسن(عليهما السلام) حيث قال: «لا تلم إنساناً يطلب قوته، فمن عدم قوته كثر خطاياه، يا بني الفقير حقير لا يسمع كلامه، ولا يعرف مقامه، ولو كان الفقير صادقاً يسمونه كاذباً، ولو كان زاهداً يسمونه جاهلاً، يا بني من ابتلي بالفقر فقد ابتلي بأربع خصال: بالضعف في يقينه، والنقصان في عقله،
ص: 97
والرقة في دينه، وقلة الحياء في وجهه، فنعوذ باللّه من الفقر»(1).
لقد أفتى الفقهاء بأن الذي من يذهب إلى سفر الحج، فبعد عملية الإحرام في الميقات، عليه أن لا يلبس الملابس المخيطة، ولكن قالوا أيضاً إنه بإمكان المحرم في حال الإحرام أن يحمل معه كيس نقوده (أي هميانه) حتى إذا كان هذا الكيس مخيطاً.
وفي الرواية عن أحد الأئمة(عليهم السلام) حيث قال:
إنه سئل سائل: يا ابن رسول اللّه، لماذا يجوز للحاج بعد الإحرام أن يحمل معه هميانه المخيط؟
فأجاب الإمام(عليه السلام): لأن الإنسان بعد ثقته واعتماده على اللّه سبحانه وتعالى يعتمد على ماله في مختلف مجالات الحياة(2).
وإن الإنسان إذا صرف النظر عن (العمل والمعاش) لم يكن بإمكانه أن يعيش في أي مجتمع برفاه وطمأنينة.
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقر أشدُّ من القتل»(3).
وفي رواية قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقر سواد الوجه في الدارين»(4).
وكان أحد أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعاني من فقر شديد، ذات يوم حدثته
ص: 98
زوجته قائلة له: اذهب إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأشكو إليه فقرنا، عسى أن يعيننا عليه، فجاء الصحابي إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واشتكى أمره واستعانه فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) له:
«من سألنا أعطيناه ومن أستغنى أغناه اللّه».
فعاد الرجل إلى داره ولكن الفقر لم يفارقه وأخذ يشتد عليه، فجاء ثانية إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وطلب مساعدته مرة ثانية، فقال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل ما قال له في المرة الأولى.
وجاء مرة ثالثة وكان الرد بمثل الأول، فصمم الرجل على العمل الجدّي وذهب واستأجر فأساً وأخذ يعمل حطاباً، حتى تمكن من شراء فأس وأعاد الفأس الذي استأجره إلى صاحبه، وهكذا أغناه اللّه سبحانه حتى اشترى عبداً، وتحسن وضعه المعاشي بسبب تلك الهمّة العالية والمثابرة التي أبداها في هذا المجال.
وبعد ذلك أتى إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقصّ عليه ما جرى، فقال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ألم أقل لك: «من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه»(1).
إذن الدين الإسلامي يؤكد على (العمل والمعاش)، وقد جاء في الروايات عن الإمام الكاظم(عليه السلام) أنه قال: «من طلب هذا الرزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه»(2).
وبعض أهل الاقتصاد يقولون: الكرامة الاقتصادية موجبة للكرامة الاجتماعية، وهذا من أهم قوانين الاقتصاد الإسلامي.
نعم إن الاقتصاد يلعب دوراً هاماً في حياة البشر.
واللّه سبحانه وتعالى يخاطب الذين لا يملكون مالاً ويريدون النكاح:
ص: 99
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(1).
وكذلك قال: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(2).
ومن هنا يشترط بعض الفقهاء الكفاءة في المؤونة للذي يريد النكاح والتزويج، لأهمية المال والاقتصاد في إدارة شؤون الأسرة(3).
جميع هذه الآيات والروايات تدل على أهمية الاقتصاد، فلولا الاقتصاد في العيش لاختلّ نظام الحياة، وكثير من الأدعية تشير إلى هذا الجانب مثل: (فنعوذ باللّه من الفقر)(4).
كما أود الإشارة إلى نقطة رئيسية، التي استعملها المستعمر ولا يزال يستخدمها كورقة رابحة للضغط على حرية بعض الشعوب الإسلامية ونهب الثروات الطبيعية وتسيير البلاد حسب ما يروق لهم.
حيث إن الإسلام العظيم لا يقتصر على العبادة في المسجد، والصيام لدى حلول شهر رمضان، ومزاولة المناسك أيام الحج، ودفع الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة، وتحسين الأخلاق وتهذيب السلوك وروحانية القلب، كما يحلو للمستعمرين في الشرق والغرب تفسير الإسلام بذلك، والتأكيد عليه حتى يسهل عليه تفريغ المجتمع الإسلامي من محتوياته ومعطياته وتغيير مساره الصحيح الباعث على استقلال المجتمع وكرامة الإنسان ورضاء العيش وسعادة كل واحدمن أفراد المجتمع المسلم، لنهب تلك الثروات الطبيعية ووضع الشعوب
ص: 100
الإسلامية في أدنى مستوى من التخلف والتبعية والشعور بالنقص تجاه الدول الغربية المتطورة.
بل الإسلام وكما جاء به الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو نظام شامل ومتكامل يعالج جميع شؤون الإنسان، ويتدخل في كافة المجالات التي هي ضرورية للحياة.
وفي مقدمة المسائل الحيوية الباعثة على الرفاه والرخاء: القضايا الاقتصادية التي تعتبر بمثابة العمود الفقري للمجتمع الإنساني المعاصر.
إن الاستعمار المتمثل بالشرق والغرب مثلهم كمثل السارق الذي يتستر في الليل ويتسلل عبر جدار البيت، حيث يجدون في الاقتصاد المتخلف خير باب للدخول والنفوذ إلى البلاد الإسلامية والتسلط عليهم.
وعالم اليوم مقسم إلى نظامين: النظام الشيوعي والنظام الرأسمالي.
فالنظام الشيوعي: كما تعلمون يعمل الناس في ظله وهم في الوقت نفسه يعانون من الفقر والجوع، ولكن القلة القليلة الحاكمة هي التي يحق لها أن تعيش برغد ورفاهية.
والنظام الرأسمالي: يوسع هذه الدائرة قليلاً، ويشارك معه في الحياة المرفهة بعض أصحاب المال والشهرة.
ولكن كلا النظامين يعملان على تحطيم الاقتصاد العام، في قضايا مفصلة مبحوثة في كتب الاقتصاد.
ينبغي على طلبة الحوزات العلمية أن يدرسوا إلى جانب دروسهم الفقهية والأصولية: درس الاقتصاد، ويهتموا به كثيراً.
ويبدأ هنا الاهتمام بتأليف الكتب الاقتصادية والبحث في مختلف جوانبه من
ص: 101
المنظار الإسلامي، لأن الاقتصاد هو عصب الحياة في المجتمع الإنساني.
ومن إحدى قوانينه هو ما يتعلق بالإسراف، حيث قال اللّه تعالى:
{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(1).
وينقل أن الإمام الرضا(عليه السلام) رأى رجلاً أكل نصف تفاحة ورمى بالنصف الآخر، فقال له الإمام(عليه السلام): لماذا تسرف؟ وذكر الآية: {يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(2)(3).
وهذا الخطاب من اللّه سبحانه وتعالى خطاب للجميع، وهو نهي لهم عن الإسراف، والمراد منه الخروج عن الحلال إلى الحرام، فالإسراف والإقتار مذمومان، وقوله {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} معناه يبغض المسرفين، لأنه ذم لهم، ولو كان بمعنى لا يحبهم ولا يبغضهم لم يكن ذماً لهم ولا مدحاً.
في الأزمنة الماضية كان العلماء يصبّون الفقه في قالب يناسب ويتلاءم مع ظروف زمانهم، في سبيل تعريف الناس بالإسلام وأحكامه الإلهية، من أمثال شيخ الطائفة(رحمه اللّه)(4) الذي كان يعيش قبل ألف سنة، والسيد المرتضى والسيد الرضي والمحقق والعلاّمة والشهيدين والمجلسي والشيخ البهائي والفيض الكاشاني وصاحب الجواهر والشيخ المرتضى الأنصاري (قدس اللّه أسرارهم)،هؤلاء كانوا في قمة العلم والفقه وهم أهم علماء عصرهم، وقد قدموا الإسلام
ص: 102
بشكل جيد في ذلك الزمان.
لكن اليوم وفي عصرنا الحاضر يأتي الدور إلينا لكي نعرف الإسلام والفقه الإسلامي والاقتصاد الإسلامي بلسان العصر الذي نعيشهُ نحن، وبما يلائم ظروفنا الحالية، لكي يتعرف الناس على الأحكام الإسلامية وقوانينها بشكل أفضل.
لا إشكال ولا ريب أن الجوهر والأصل هو الكتاب والسنّة، ولكن الصورة تتغير حسب تغير الزمان.
ومن الجدير بالذكر أن الذي يتعلم عليه أن ينزل علمه إلى ميدان العمل، لأن القول بلا عمل كالهواء في شبك، والطبيب الذي يتخرج من الجامعة ينبغي عليه أن يفتح عيادته ليداوي المرضى.
فتعلم الاقتصاد بحاجة إلى تطبيق عملي، وإن الشخص الذي يتعلم الاقتصاد الإسلامي عليه أن يطبق نظرياته وقوانينه في المجتمعات الإسلامية أيضاً، وإلاّ أصبح تعلمه لغواً.
لننظر قليلاً إلى إسرائيل الغاصبة، إنها زهاء خمسين عاماً وهي تتوسع أكثر فأكثر، وسبب ذلك واضح كل الوضوح، لأنها تنزل شعاراتها إلى ميدان العمل في أغلب الأحيان.
ولكن الحكّام في البلاد الإسلامية يكتفون فقط بالوقوف خلف المنصّات واللاقطات ويطلقون الشعارات البراقة دون أن يخطوا خطوة واحدة في الميدان العملي.
نحن لا ننكر فضل الشعار، ولكن إنما يصبح الشعار مهماً وممدوحاً في الوقت الذي يتبعه العمل.
ومن هنا يجب الاهتمام بطرح منهجية كاملة للاقتصاد الإسلامي من مصادره
ص: 103
الأصلية لتعريف المسلمين والعالم بمناهج الإسلام وقوانينه الحيوية الصالحة لقيادة البشرية إلى شاطئ الأمن والحرية والرفاه، ومن اللّه نستمد العون والسداد.
ربنا فقّهنا في كتابك، واكشف عن قلوبنا ظلمات الذنوب لكي نتفهم آياتك، وأزح عن بصائرنا غشاوة الدنيا وبريقها الكاذب لكي تملأ قلوبنا بهداك، واجعلنا من حملة قرآنك وسنة نبيك، والسائرين على طريق طاعتك، ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
قال اللّه تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوٰةُ فَانتَشِرُواْ فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).
وقال سبحانه: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}(2).
وقال عزّ وجلّ: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَٰلِ وَالْأَوْلَٰدِ}(3).
وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا}(1).
وقال جلّ ذكره: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ}(2).
قال عزّ وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(3).
وقال سبحانه: {ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}(4).
وقال تعالى: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ}(5).
وقال جلّ وعلا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(6).
وقال عزّ من اسمه: {كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ وَلَا تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}(7).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علامة رضا اللّه تعالى في خلقه، عدل سلطانهم ورخص أسعارهم، وعلامة غضب اللّه تبارك وتعالى على خلقه، جور سلطانهم وغلاء أسعارهم» (8).
ص: 105
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «في قول اللّه: {إِنِّي أَرَىٰكُم بِخَيْرٖ}(1) قال: كان سعرهم رخيصاً»(2).
وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «غلاء السعر يسيء الخلق ويذهب الأمانة ويضجر المرء المسلم» (3).
وعنه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): السماحة من الرَّباح، قال ذلك لرجل يوصيه ومعه سلعة يبيعها». (4).
عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الاقتصاد نصف المؤونة»(5).
وقال(عليه السلام): «الاقتصاد ينمي القليل، الإسراف يفني الجزيل» (6).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) عند وفاته: «اقتصد يا بني في معيشتك، واقتصد في عبادتك» (7).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من اقتصد أغناه اللّه»(8).
وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر»(9).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اقتصد في الغنى والفقر فقد استعد لنوائب
ص: 106
الدهر» (1).
عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من نفقة أحبُّ إلى اللّه من نفقة قصد»(2).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الاقتصاد وحسن السمت والهدي الصّالح جزء من بضع وعشرين جزءاً من النبوة»(3).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المؤمن سيرته القصد، وسنّته الرشد»(4).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن القصد أمر يحبه اللّه عزّ وجل، وإنّ السرف أمر يبغضه اللّه»(5).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «غاية الاقتصاد القناعة»(6).
وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «للاقتصاد مقداراً، فإن زاد عليه فهو بخل»(7).
عن عليّ بن شعيب قال: دخلت على أبي الحسن الرضا(عليه السلام) فقال لي: «ياعليّ، من أحسن الناس معاشاً؟»، قلت: أنت يا سيّدي أعلم به منّي، فقال: «يا علي، من حسن معاش غيره في معاشه. يا علي من أسوأ الناس معاشاً؟»، قلت:
ص: 107
أنت أعلم، قال: «من لم يعش غيره في معاشه»(1).
وفي الدعاء عن الإمام الباقر(عليه السلام): «ولا تشغل قلبي بدنياي وعاجل معاشي عن آجل ثواب آخرتي»(2).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أطيب العيش القناعة»(3).
وقال(عليه السلام): «قوام العيش حسن التقدير، وملاكه حسن التدبير»(4).
ص: 108
«الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1).
الحديث المتقدم مروي عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولا نريد البحث هنا عن جوانب هذا الحديث المتعددة، وإنما الإشارة إلى جانب واحد بشيء من الإيجاز.
وقبل أن ندخل في صلب الموضوع، لابد أن نقدم مقدمة وهي:
إن الإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام)، كان دورهما تخطيطاً من اللّه سبحانه وتعالى، ومن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تبعاً للّه، لإنقاذ الأجيال الصاعدة إلى يوم القيامة، لا من جهة أنهما إمامان وخليفتان، فإن هذا شيء محرز واضح، وإنما من جهة أنهما كانا عبرتين ودرسين ومثالين لكل الأشخاص الذين يريدون إنقاذ البلاد والعباد من جور الطغاة، في أي زمان كانوا وفي أي مكان.
فقد ورد في الحديث: أن اللّه سبحانه وتعالى بواسطة جبرائيل أرسل إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اثنى عشر ظرفاً، كل ظرف مختوم بختم من اللّه تعالى، لكي توزّع تلك الظروف على الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) وفي هذه الظروف مكتوب كل ما يجب على الإمام أن يقوم به من دور ويؤدي من مهمة، فإذا وصلت النوبة لكل إمام من الأئمة(عليهم السلام) فض ظرفه ونظر ما فيه وعمل بحسب ما يقرره محتوى هذا
ص: 109
الظرف(1).
هذا حديث صغير مشهور، لكنه عميق في المعنى، ويحتاج - على أقل تقدير - إلى أربعة عشر مجلساً مفصلاً كل مجلس يستوعب جوانب المعصوم(عليه السلام) وأبعاد الظرف الذي عاشه، وأنه كيف اقتضى هذا الظرف هذا الجانب، وكيف قام الإمام بهذا الجانب في هذا الظرف؟
ومن جملتهم: الإمامان الحسن والحسين(عليهما السلام)، إنّا نريد إيجازاً عن هذا المبحث أن نبيّن هذا التخطيط الإلهي كيف كان دقيقاً، بحيث لا ينقص شعرة ولا يزيد شعرة حتى بحسب أفهامنا، فضلاً عن كونهم معصومين(عليهم السلام)، وأننا نعتقد بهم اعتقاداً بالإمامة والخلافة عن اللّه عزّ وجلّ، لأن ذلك شيء واضح.
والذي نريد أن نتوصل إليه فهم بعض الأبعاد عن حال هذين الإمامين(عليهما السلام) بحسب هذا الحديث الشريف: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا».
ذلك لأنهما(عليهما السلام) ليسا إمامين لزمانهما فحسب، وإنما إمامان للأجيال كلها إلى يوم القيامة.
وهنا ثلاثة مواضيع، لابد أن نتكلم عنها:
الموضوع الأول: أن المجتمع كيف يفرز الطغاة؟
الموضوع الثاني: نفسية الطغاة.
الموضوع الثالث: كيف يجب أن يقابل الطغاة؟
ثم بيان أن الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) قاما بهذا الدور بأفضل ما يمكن، وكان كل منهما يكمل دور الآخر، حتى أن الإمام الحسن(عليه السلام) إذا لم يكن، كانالدور ناقصاً، وكذلك الإمام الحسين(عليه السلام) إذا لم يكن، كان الدور ناقصاً أم لا؟
ص: 110
المجتمعات التي ضعف فيها المصلحون وشرس فيها المفسدون تفرز الطغاة، فإن في المجتمع الذي خمل فيه المصلح، ونشط فيه المفسد، من الطبيعي أن يأتي الطاغي ويتحكم به، وحيث المفسدون كثيرون فمن الطبيعي أن يستولي هؤلاء على البلاد ويتحكمون على رقاب العباد، ولذا ورد في الحديث عن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي اللّه أمركم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم»(1).
وهذا شيء عقلي ومنطقي، لأن المصلح إذا لم يصلح فذلك يعني أن المجتمع صار مجتمعاً فاسداً، بل بؤرة للفساد، وعندها من يأتي على الحكم؟ حتماً أحد الفاسدين، فإنه قد ورد: «كيف ما تكونوا يولى عليكم»(2).
فإذا جاء أحد الفاسدين وتحكم وحكم المجتمع، وأنت دعوت اللّه، هل تتغير تلك الموازين بهذا الدعاء المجرد؟
كلا، ففي هذا الحديث الشريف، وهو «لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي اللّه أمركم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم» الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيّن قانونين كونيين، قانون مجيء الطغاة، وقانون أن الدعاء لا يرفع الطغاة، وكلاهما قانونان من سنن الحياة.
وهذا لا يعني أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كشف إلينا قاعدة شرعية، أو أن هذا موضوع غيبي، أو إخبار عن المغيبات، بل هو قانون تكويني، يعرفه كل إنسان حكيموعاقل - والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيد الحكماء وسيد العقلاء - .
ص: 111
فالقاعدة الاجتماعية تقول: إن المجتمع الذي فيه المصلح قد خمل، والمفسد قد نشط، تلقائياً يأتي الطاغي إلى الحكم ويفرض تحكمه وسيطرته واستبداده على رؤوس الناس، وإذا جاء الطاغي إلى الحكم فإن عملية تغيير ذلك الوضع والواقع الفاسد لا تتم بالدعاء وحده، وإنما تتم بواسطة الدعاء والعمل معاً، لأن لكل واحد منهما مقامه وشأنه.
وللمثال على ما ذكر: إن المجتمع الروماني كان مجتمعاً فاسداً منحطاً، والمجتمع الإسلامي بعد ما غصبوا الخلافة فيه أصبح مجتمعاً هشاً بعيداً عن التعاليم الحقة الإسلامية والقيادة الربانية، فكان يزيد بن معاوية وليد هذا المجتمع.
إن يزيد وُلد في بلاد الشام والروم، لا في مكة ولا في المدينة، ولا في الكوفة ولا في البصرة، وكان الرومان قبل الإسلام أناساً فاسدين متخلفين إلى أبعد الحدود، ولذا لما جاء الإسلام أزاحهم كهشيم محتضر، فإنه إذا كان المجتمع الروماني مجتمعاً متماسكاً قوياً متحضراً، كانوا يقابلون المسلمين بأشد أنواع المقابلة.
لا شكّ أن اللّه سبحانه وتعالى نصر الإسلام، لكن نصرة اللّه للإسلام كانت بأسباب غيبة ومادية، فالمجتمع الروماني قبل الإسلام كان مجتمعاً ضعيفاً غير مستقيم، ولذا لما اصطدم بالإسلام على قلة عدة المسلمين وعددهم، انهزم الكفر وانتصر الإسلام.
الشاعر يقول في شعر مشهور:
لم أدر أين رجال المسلمين مضوا *** وكيف صار يزيد بينهم ملكاً(1)
ص: 112
والجواب عن سؤال الشاعر واضح.
فالمجتمع الروماني الفاسد من ناحية المفسدين، والمجتمع الإسلامي الهش المتفكك من ناحية المصلحين، لهذا الشيء ولد يزيد في المجتمع غير المستقيم.
وكان سبب هذا التفكك والهشاشة في المجتمع الإسلامي آنذاك هو أولاً مجتمع ناشئ، ومعلوم أن المجتمع الناشئ يحن بسرعة ويرجع إلى أنسابه وأحسابه وقبائله وأفكاره مع فقد القيادة الإلهية الربانية، ودور الإصلاح والتغيير في كثير من أفراده لم يتجاوز الصبغة والظاهر، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}(1).
والنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صبغ ذلك المجتمع الوليد بالصبغة الإسلامية الرسالية الصحيحة كي تتعمق مستقبلاً وتصبح قيمة حقيقية تكمن في أعماق القلوب السليمة. ولكن غصبوا الخلافة من بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجاء الخليفة الأوّل والثاني ومضيا، وجاء الخليفة الثالث وتفكك المجتمع الإسلامي تفككاً ذريعاً بسبب تصرفه وتصرف حواشيه.
وفي هذا المجتمع المتفكك، لم يتمكن المصلحون من تقويم المعوج، فقلّ المصلحون وكثر المفسدون، فتولد من ذلك حكم معاوية ويزيد.
هذا منشأ ولادة حكم هذين الرجلين في مجتمع ليس معروفاً بالصلاح ولا بالإسلام ولا بالسوابق الحسنة.
فقد جاء المسلمون وفتحوا البلاد، وتم تسليمها إلى معاوية، ورجع المسلمونإلى بلادهم، فكم مسلم بقي في المجتمع الروماني وفي بلاد الشام؟ أعداد قليلة من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
ص: 113
ولذا خاف معاوية من أبي ذر وحده، لأن المجتمع ما كان يعرف الموازين الإسلامية والقيم الإسلامية، فكان يخشى أن يقلب عليه الأوضاع.
فهو كما لو ذهبت إلى نيويورك، وبدلت نيويورك إلى صبغة إسلامية، ثم خرجت من نيويورك، فهل سيكون مجتمع نيويورك مجتمعاً مسلماً عميق الإيمان والإسلام؟
كلا، وإنما الصبغة والصورة فقط هي التي تغيرت، لا أكثر ولا أقل.
وكان الناس آنذاك في بلاد الشام لم يرو سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا يعرفون تعاليم الإسلام الحقيقية، ولذا فإن أي إنسان حكمهم بالاستبداد وقال هذا هو طريق الفاتح، كانوا يخضعون له ويسلمون إليه، فمجتمع سوريا أو مجتمع الرومان، ولّد حكم معاوية ويزيد الطاغيين.
وهكذا يتولد الطغاة في المجتمعات، حيث إن العامل الأساس في تربية نماذج الطاغوت هو الجهل والحالة الاجتماعية الفاسدة القائمة في المجتمع، وأما المجتمع الذي يكثر فيه المصلحون ويتنعم بالعلم والمعرفة، فإنه يكون مرتعاً لتنامي الخير والإصلاح، بل ربما يستحيل أن يولد فيه الطغاة.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن أي طاغ رأيت نشأ في منطقة، سواء في العراق، أو في مصر، أو في أي بلد كان، اعرف أن له مقومات، والمقوم الأوّل هو الجهل والحالة الاجتماعية المنحرفة والفاسدة في ذلك المجتمع.
وطبعاً لا نقصد بالمصلح: مجرد من يخطب ويأمر المعروف وينهى عن المنكر في مجتمع متدين صغير أو أكبر، وإنما المصلح يعني الذي يغير ويبدل،الذي يقابل الطغاة ويغير المجتمع نحو الخير والفضيلة.
أما في المجتمع الذي قلّ فيه المصلحون وكثر فيه المفسدون، فإن ذلك يتولد فيه الطغاة، جمال عبد الناصر أين ولد، ولد في بيئة كثرت فيها الفاسقات
ص: 114
والفاجرات ومطربات الباشوات(1)، حيث كانوا يأتون إليها ويقبلون رجليها ويشربون الخمرة التي تصب في حذائها تبركاً بها، هذا المجتمع يولد جمال عبد الناصر وغيره من الدكتاتوريين.
وهذا وفق ما تقدم أمر طبيعي، ومن سنن الحياة، فلا يقال: كيف يقع كل ذلك؟ وكيف ولد هؤلاء الطغاة في المجتمعات الإسلامية، لأن ذلك قانون جار في كل مجتمع فاسد ومنحرف، وبعيد عن التعاليم الإسلامية الحقة.
أحد أشباه العلماء في مصر يبرق إلى ملك فاسد يقول: أبرقت إلى أطهر مكان، وأي مكان، مكان هذا الملك، وهو المشهور بالفسق والفجور و... فيصبح مكانه أشرف بقاع الأرض وأطهرها،
راجعوا التاريخ وانظروا أن المجتمع الذي يولّد الطاغي، يكون المصلح فيه قليلاً والمفسد فيه كثيراً، ومن الطبيعي عندما يكون المفسد هو الأقوى فإنه يصل إلى قمة الحكم فيعمل ما يشاء، وقد ورد في الحديث الشريف: «كيف ما تكونوا يولّى عليكم»(2).
هذا موجز عن كيفية ولادة الطغاة في المجتمعات غير المستقيمة.
ونأتي إلى الموضوع الثاني، وهو أن نفسية الطغاة على قسمين عادةً، فالطاغيإما أن يكون طاغياً ماكراً، وإما أن يكون طاغياً بليداً.
وعلامة هذين الطاغيين: هي أن الطاغي الماكر مخادع في الحرب ودنيء في السلم، بينما الطاغي البليد شرس في الحرب ومستهتر في السلم، ولنمثل
ص: 115
بمعاوية ويزيد:
القسم الأول: الماكر الدنيء، فمعاوية من النوع الطاغي الماكر، لأن طبيعة معاوية طبيعة الولد غير الحلال(1)، وفي بعض بحوث العلم الحديث والعلماء وعلم النفس أن ولد الزنا يخرج ماكراً في طبيعته، ولا يسمى ذكياً، لماذا؟
لأن الزنا يقع مع اضطراب النفس في المرتكبَين عادة، فالتي تزني مضطربة وتسعى أن لا يعرفها أحد، ولا يراها أحد، ولا يسمع حسيسها أحد، وهذه الطبيعة تنطبع في الولد، حتى علم النفس يقول: إنك إذا نظرت إلى صورة في دارك، الولد يخرج بهذه الصورة، عند المجامعة والوقاع، ولذا في الإسلام من المكروه أن يقارب الرجل زوجته وهو يفكر بامرأة أخرى، وهناك أحاديث مذكورة في كتاب النكاح تنهى عن هذا الشي(2).
فطبيعة معاوية هذه طبيعة ماكرة مخادعة، فهو منسوب إلى أبي سفيان وهند، وكلاهما زانيان، فكيف يخرج ولدهما؟ فهو بطبيعته ماكر.
وطبيعة المكر كما قلنا خداع في الحرب، ودناءة في السلم، وقد ظهر هذا المخادع على حقيقته في حروبه، في حربه ضد أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام)، حيثمارس دور المخادعة، وكذلك في حربه ضد الإمام الحسن(عليه السلام) حيث قام بنفس العمل الخداعي، ففي كل حروب معاوية كانت للخدعة دور كبير ومهم.
وهذه طبيعة المكر، وكذلك كان في سلمه دنيئاً، فالإمام الحسن(عليه السلام) صالحه وهادنه حقناً لدماء المسلمين ضمن شروط معينة، وبعده صعد معاوية المنبر
ص: 116
قائلاً: وضعت كل شروط الإمام الحسن(عليه السلام) في الصلح تحت قدمي(1).
وهذه دناءة ذاتية متأصلة في النفس، حيث أعلن عن ذلك، وإلّا فبإمكان الرجل الماكر إذا أراد أن لا يفي بشروطه أن لا يعمل بها من دون أن يعلن عنه، فبأي داع يقول ذلك فوق المنبر وعلى رؤوس الأشهاد.
أو يقول: و القائل لمّا دخل الكوفة: إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون(2).
وليست هذه كلمة صدرت خطأً لتسجل على شخص، لكن هذه طبيعة المكر وطبيعة الدناءة، فالماكر مخادع في الحرب دنيء في السلم.
ثم إنه كان يعلم بأن الإمام الحسن(عليه السلام) يبقى وفياً بالشروط، ولا يحاربه بعد ذلك، فهو أعرف بشخصية الإمام الحسن(عليه السلام) وخلقه ووفائه، ولكنه مع ذلك سمّ الإمام الحسن(عليه السلام)، لكن طبيعة الدناءة لا يمكن أن تصبر على ذلك.
هذا صنف من الطغاة، وهؤلاء ماكرون دنيئون.
القسم الثاني من الطغاة: الطاغي البليد
وذلك كيزيد بن معاوية، فهو طاغ بليد، والبليد شرس في الحرب، والكليعلم قصة الإمام الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء وشراسة يزيد، وهكذا قصة مكة المكرمة وشراسة يزيد، وغير ذلك من المواقف التي اتخذها يزيد، فهذا دليل على أنه شرس في الحرب، لأن الطغاة لا يستجيبون للموازين والقوانين والأفكار والتعقل بل يطغون على جميع ذلك، ومن هنا يطلق طغيان النار مثلاً، يعني أنها
ص: 117
لا تعرف الموازين والقوانين والاحترام والزيادة والنقيصة.
هذا الطاغي وهو يزيد، أو الطاغية، والتاء للمبالغة مثل تاء (علامة)، لأنه كما يقول السيوطي: التاء على أربعة عشر قسماً في اللغة العربية، منها تاء المبالغة، مثل تاء الطاغية(1).
إنه طاغ بليد، من طبيعته الشراسة في الحرب، كما أن من طبيعته الاستهتار بالدين والقيم والأخلاق والآداب، ولذا كان يقوم بمصاحبة القرد، وممارسة العهر، وشرب الخمر، وارتكاب الزنا والفواحش، والاستهتار بحقوق الناس، وعدم الالتفات إليهم وعدم تقديرهم(2).
حتى أن أحد علماء السنة (في قصة طويلة)، قال: كنا نخاف أن تمطر السماء بالحجارة، ذلك لأن يزيد كان يزني بالمحارم، أمثال أخته وعمته وما أشبه(3).
هذان نموذجان من الطغاة، وعلى طول الخط يكون الطاغي إما هكذا وإما هكذا عادة، فهو إما طاغ ماكر مخادع دنيء، وإما طاغ بليد شرس مستهتر.
وقد قام الإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام) بأمر من اللّه بأحسن القيام واتخاذ المواقف الحكيمة ضد هذين الطاغيين، وهما درس للبشرية في كيفية مقابلةالطغاة بقسميها.
فالإمام الحسن(عليه السلام) قيظهُ اللّه سبحانه وتعالى لمقابلة الطاغي من القسم الأوّل، بينما الإمام الحسين(عليه السلام) قيظهُ اللّه سبحانه وتعالى لمقابلة الطاغي من القسم الثاني.
فالمصلحون في العالم يلزم أن يقتدوا إما بالإمام الحسن(عليه السلام) إذا كان أمامهم
ص: 118
مثل معاوية، وإما أن يقتدوا بالإمام الحسين(عليه السلام) إذا كان أمامهم مثل يزيد.
والحديث الشريف يقول: «الحسن والحسين إمامان، إن قاما وإن قعدا».
فيبيّن الدور البارز للإمام الحسن(عليه السلام) وأنه كيف يجب أن يحارب وكيف يجب أن يسالم، حتى أن الإمام(عليه السلام) إذا لم يكن يسالم معاوية، لكان ذلك نقصاً في دوره، لأن معاوية كان كالعملة المزيفة التي لها وجهان:
وجه حرب ووجه سلم، وعلى الإمام الحسن(عليه السلام) أن يظهر الوجهين ويفضحه، فإذا كان الإمام يحارب فقط لكان يظهر وجه معاوية الحربي والمخادع فحسب، أما وجهه السلمي فما كان يظهر ولا ينجلي.
وكذلك العكس أيضاً حيث أن الإمام الحسن(عليه السلام) إذا لم يحارب لكان نقص في دوره، لأنه كان يظهر وجه سلم معاوية فقط، أي وجه دنائته دون أن يكشف وجهه الحربي.
من هنا كان الإمام الحسن(عليه السلام) دقيقاً في تخطيطه الذي هو تخطيط من اللّه سبحانه وتعالى، حسب المنطق والعقل - بقطع النظر عن العصمة، واعتقادنا نحن به كإمام مفترض الطاعة والولاية - لذا فإن الإمام(عليه السلام) حارب فترة من الزمن لإظهار وجه معاوية الحربي ثم هادنه، يعني أظهر وجه الخداع وأظهر وجه الدناءة.
ولو كان قد حارب الإمام(عليه السلام) حتى يُقتل مثلاً، لما كان يظهر وجه دناءة معاوية، حيث كان يقوم بسباب علي(عليه السلام) على المنابر والإمام الحسن(عليه السلام) جالس تحته، في الوقت الذي كان من شروط الصلح أن لا يسبّ علياً(عليه السلام)؟(1).
وما كان ينكشف وجه معاوية في تجاوزه الشروط الأخر التي شرطها الإمام
ص: 119
في الصلح، من عدم التعرض للإمام الحسن وأقربائه وشيعة علي(عليه السلام)؟
وكذلك ما كان يظهر قول معاوية على المنبر: (إني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها)(1).
هذه كلها لم تكن تظهر لو لم يسالم الإمام الحسن(عليه السلام) مع معاوية ويتصالح معه، فصلحه معه بين حقائق الأمور ووقائعها، ووضعها أمام أعين الناس، ليعرفوا من هو الإمام(عليه السلام) ومن هو معاوية، ليمزوا من هو خليفة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حقاً؟
وإن لم يكن هناك مصلح كالإمام الحسن(عليه السلام)، لما كان يظهر وجها معاوية وجه سلمه ووجه حربه، لذا فالإمام الحسن(عليه السلام) سيبقى نهجاً وخطاً يقف أمام كل من يأتي من الطغاة إلى يوم القيامة وهو يتمثل بصورة معاوية، وبذلك يتعلم المصلحون طريق المقاومة وفضح الظالم.
وفي هذا المجال أحاديث عديدة، فبعض الأحاديث محتواه أكبر من دلالته الظاهرية، وبعض الأحاديث محتواه بقدر دلالته، وبعبارة أخرى: بعض الأحاديث رمز، وبعض الأحاديث تطبيق، ومن باب المثال نقول: لو فرضنا أن هناك مقداراً من الماء وكان ظاهره بقدر باطنه وليس أكثر، فظاهره خمسون لتراً وباطنه كذلك، وقد يكون هذا المقدار منفذ إلى عين فيها ملايين اللترات من الماء، فالسطحواحد، ولكن العمق والامتداد يختلف.
نعود إلى أصل البحث، وهو أن الطغاة على نوعين:
1- طاغٍ مخادع ودنيء، ونسميه بالطاغي الماكر، فهو يجمع بين الشيئين الخداع والدناءة، وهكذا طاغٍ واجهه الإمام الحسن(عليه السلام)، فهو إمام لمن واجه مثل
ص: 120
هذا القسم من الطغاة إلى الأبد، لأنه يأتي في التاريخ الطغاة من نماذج معاوية، ويحتاج إلى المصلحين من نماذج الإمام الحسن(عليه السلام).
أما الطغاة من نماذج يزيد، فهو يحتاج إلى المصلحين من نماذج الإمام الحسين(عليه السلام). وهو القسم الثاني:
2- طاغٍ بليد، يعني الشرس في الحرب، والمستهتر في السلم.
ومن أدق الأعمال التي قام بها الإمام الحسين(عليه السلام) أمام يزيد، أنه أرسل مسلم بن عقيل(عليه السلام) وحده إلى الكوفة. فإنه كان يريد فضح يزيد وأعوانه.
قسم من الناس يتعجبون من ذلك، كما أنهم يتعجبون لماذا فرّق الإمام الحسين(عليه السلام) أصحابه وقال: من أراد منكم أن يذهب فليذهب، لأنني سوف أُقتل والقوم لا يريدون سوى قتلي - بعكس ما يفعله القادة العسكرييون دائماً وفي جميع الحروب حيث يجمعون الأصحاب - ، ولكن الإمام الحسين(عليه السلام) ومن مكة المكرمة كان يقول لهم: إذهبوا، إذهبوا، إذهبوا... وتفرقوا، تفرقوا... واستمر ذلك حتى ليلة عاشوراء(1)، عجباً هل هذا الإنسان يريد الحرب؟
نعم، هذا الإنسان يريد الحرب بصورتها الصحيحة، ويفهم كيف يحارب، ليفضح عدوه على طول التاريخ؟وفي الحقيقة إذا كان الإمام الحسين(عليه السلام) يفعل غير ذلك، كنا نسأل لماذا الإمام الحسين(عليه السلام) حارب في الوقت الذي كان يعلم أنه بكل الصور مقتول؟
فإن دولة بني أمية كانت دولة قوية، وسيعة عريضة، ضاربة بأجرانها مناطق مما يعرف اليوم بالاتحاد السوفيتي، إلى أواسط أفريقيا، هذه الدولة الضخمة خرج ضدها الإمام(عليه السلام) في فئة قليلة وحارب هيبتها وسلطانها.
ص: 121
وذلك لأن الإمام الحسين(عليه السلام) كان في مواجهة طاغ هو يزيد، وقلنا سابقاً أن يزيد كان شرساً في الحرب، وفي نفس الوقت مستهتر في السلم، استهتاره واضح لأنه يزيد الخمر وأبي قيس(1) ولعب القردة والزنا والاستهتار والفواحش وما أشبه.
حتى أن المؤرخين ذكروا أن معاوية كان مريضاً شديد المرض وفي حالة الاحتضار، وكان يزيد في بعض القرى يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب، فهو إلى هذا الحد كان مستهتراً، كان خارج البلد(2) لا يقيم لأبيه وزناً وهو في حال الموت، ولا لخلافته، ولا لأنه خلّفه وولاّه عهده، فاستهتاره في السلم وعدم الحرب معروف لا يحتاج إلى الكشف.
وإنما حرب يزيد كان يحتاج إلى الكشف، لأن فيه درساً لجميع الأجيال التي تواجه طغاة كأمثاله.
والدرس هنا كيف يلزم أن تقاوم الشراسة، وأين تظهر الشراسة؟
الشراسة تظهر إذا كان المصلح قليل العدد، فالشراسة لا تظهر عادة مع كثرة العدد، بل مع قلة العدد، كما يقول الشاعر على ما ذكره السيوطي(3):
والذئب أخشاه *** إن مررت به وحدي
الذئب شرس، لكن أين تظهر شراسته إذا كنت وحدك، أما إذا كنت مع جماعة لا تظهر شراسته.
فإذا كان مع الإمام الحسين(عليه السلام) عشرة آلاف إنسان، وحاربوا الأمويين، لم تظهر شراستهم، فالأمويون آنذاك لم يتمكنوا من أن يصنعوا بالإمام الحسين(عليه السلام) هذا الصنيع الذي صنعوا به، وإن كانوا يتمكنون من قتله، فما
ص: 122
كانت تظهر شراسة يزيد.
وهكذا إذا كان مع مسلم بن عقيل(عليه السلام) حين جاء إلى الكوفة، ألف إنسان أو أكثر، فلم يكن ابن زياد يتمكن أن يشنقه مقلوباً في كناسة الكوفة، إنما تظهر هذه الشراسة مع قلة عدد المصلحين، فإن كثرة المصلحين تلقي الرعب في نفوس الطغاة، انظروا يزيد نفسه لما رأى الإمام(عليه السلام) في الشام وبعد خطبته الشريفة حيث تغيرت آراء الناس، وأصبحوا بصدد نصرة الإمام، بدّل الأمر وقال: إني ما فعلت هذا الشيء.
فالإمام الحسين(عليه السلام) كان متعمداً في أن يكون جيشه قليل العدد، حتى يظهر آخر قطرة من شراسة الحكام الطغاة ويفضحهم.
وهذا خطاب للمصلحين إذا كان أمامهم مثل يزيد، وكان عدد الأنصار قليلاً، فلا يقول المصلح: إن هذا الحاكم الطاغي شرس فلا أقاومه.
الإمام الحسين(عليه السلام) بصورة دقيقة، وبتخطيط إلهي من أعجب وأدق التخطيطات، فضح يزيد وبني أمية وجميع الطغاة على طول التاريخ، فأظهر كل الشراسة التي كانت في قلب يزيد، حتى يكون إماماً للذين يأتون من بعده، ويقابلهم طاغ بليد من قبيل يزيد.
إذن فقول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1)، ليس بمعنى التقديس فقط، وليس أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يريد أن يبين أنهما سيدان عالمان جليلان، وأنه تعلموا منهما المسائل والأحكام فقط، وإن كان هذا الشيء صحيحاً أيضاً.
ص: 123
قسم من الناس قد يتعجب لقلة نقل الروايات الفقهية عن الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام)، فالإمامان الحسن والحسين(عليهما السلام) دورهما الأهم ليس دور الفقه، بل كان دور الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) دور مقابلة الطغاة من هذا القبيل.
وكان دور الإمام الباقر والصادق(عليهما السلام) دور الفقه، لماذا؟
لأنه كان مقابل الإمام الصادق(عليه السلام) الفقهاء الذين كانوا يريدون تحريف الفقه الإسلامي، ولذا كان على الإمام الصادق(عليه السلام) أن يظهر الفقه.
وقد أشرنا سابقاً إلى أننا بحاجة إلى الكثير من البحث، حتى نبيّن بقدر فهمنا أدوار المعصومين(عليهم السلام) ونتكلم حول كل واحد واحد من المعصومين الأربعة عشر، الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والزهراء(عليها السلام) والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) وأنه كيف كان كل واحد من هؤلاء الأطهار قائداً ومعلماً إلى الأبد، وأن كل دور يشبه دور الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو فاطمة الزهراء أو دور علي أمير المؤمنين أو دور الإمام الحسن، أو دور الإمام الحسين(عليهم السلام)، أو دور سائر الأئمة إلى دور الإمام المهدي(عليه السلام) فعلى المصلح أن يتخذهم قدوة وأسوة، ويعمل مثل ذلك المعصوم(عليه السلام) المشابه دوره لدوره، وإلّا فإن خالفهم(عليهم السلام) فقد أخل الإنسان بواجبه وأخطأ.
وبذلك ظهر:
1- أنه كيف تفرز المجتمعات الطغاة؟
2- نفسية الطغاة وأقسامهم.
3- كيف يجب أن يقابَل كل طاغ.
وحديث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»، لعله يشير إلى بعض ما ذكرناه.
ص: 124
في الإسلام لا تنحصر مسؤولية المسلم في حدود مدينة أو إقليم معين، بل أينما يكون فإنه مكلف بخارج حدود ذلك المكان أيضاً، لأن الإسلام دين عالمي، وهداية جميع البشر من وظيفة المسلمين.
نعم المسؤولية الأولى تكون بالنسبة إلى من يرعاهم والمكان الذي يعيش فيه المسلم.
يقول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، فالمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم...»(1).
نحن عندما كنا في مدينة كربلاء المقدسة كان علينا أن نعمل ونتحرك ونقوم بالوعي والهداية في مدينة كربلاء، وتطويرها حتى تصل هذه المدينة المقدسة إلى الدرجة التي تليق بها.
أما الآن ونحن في مدينة قم المقدسة، فإن الواجب يحتم علينا أن نقوم بالتحرك اللازم والعمل المناسب في تطوير حوزة قم «عش آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(2)،
ص: 125
المدينة التي ينبغي أن ترتقي إلى مستوى التحدي الحضاري الذي يواجهها، من الجهة الكمية والكيفية معاً.
فنجعل عدد طلاب العلوم الدينية فيها مثلاً يتصاعد من عشرين ألفاً إلى مائة ألف طالب بل أكثر، وذلك لأن الدنيا دار الأسباب والمسببات، هكذا خلقها اللّه سبحانه حيث قال تعالى: {وَءَاتَيْنَٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٖ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا}(1).
ومعناه: (آتيناه) أي: ذي القرنين علماً يتسبب به إلى ما يريده {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} وسلك هو هذا السبيل، سبيل المقدمات والنتائج والأسباب والمسببات.
فهذه الدنيا هي دنيا الأسباب والمسببات، لا دنيا العبث والصدفة.
ومن هنا ينبغي علينا أن نشعر بالقصور والتقصير، الذي يلفنا بعباءته الثقيلة علينا.
فإذا كان في قم المقدسة عشرون ألف طالب، فإن في الباكستان مائة وخمسين ألف طالب بل أكثر، تابعين للمدرسة الوهابية.
وبعد هذا يمكن أن نتصور النتيجة بين عملنا وعملهم، فتكون أعمالنا ونشاطاتنا في مقابل النشاط الوهابي ضعيفاً، وربما تكون ما نقوم به كنهر جارف أمام تيار كبير واسع، وتتضح الحقيقة أكثر لدى أول اصطدام بلغة الأرقام.
كما أن الوهابيين في الباكستان فقط يمتلكون إثني عشر ألف مدرسة مجهزة بكل وسائل التعليم والثقافة الحديثة، ونتيجة هذا النشاط - بطبيعة الحال - هو امتداد جذور الوهابية المنحرفة في العالم أكثر وأكثر.
ومما يذكر أن للمسيحيين أربعة ملايين(2) مبلّغ، يطوفون العالم ويجوبون
ص: 126
البقاع البعيدة والنائية من أجل التنصير.
أخيراً أصبح عطاء الحوزات العلمية قليلاً وضعيفاً بالنسبة للعطاء الكبير الذي كانت تقدمه للإسلام والمسلمين في الأزمنة السابقة، ولو ألقيتم نظرة دقيقة وفاحصة فستصلون إلى هذه النتيجة، وهي أنه لابد أن يكون في قم المقدسة: مائة مرجع تقليد صاحب رسالة عملية كحد أدنى، كما كان هذا في بعض الأزمنة السابقة.
يقول المرحوم والدي(رحمه اللّه): ظهر في النجف الأشرف وحدها بعد وفاة المرجع السيد محمد كاظم اليزدي(رحمه اللّه) صاحب العروة الوثقى، تسعون مجتهداً جامعاً للشرائط من ذوي الرسائل العملية.
وإني أتذكر أنه ظهر بعد المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) في العراق خمسة وعشرين مجتهداً صاحب رسالة عملية.
هذا غير الخطباء والمبلّغين والكتّاب والمحققين وأمثالهم من أعلام الأمة وفحولها.
إذن يجب العمل في هذا المجال بشكل مكثف، حتى نحصل على النتيجة التي نهدف إليها.
ربما يسأل سائل: أنه ماذا نستطيع أن نفعل بقلتنا القليلة هذه الفاقدة لأبسط مقومات العمل التقني الحديث، في مقابل الحافل بالنشاط والعمل والخطط الكبيرة الواسعة والتقنية الحديثة والأموال الطائلة في عالم اليوم؟
والجواب هو قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(1).
ص: 127
والسعة هو ما تتسع له قدرة الإنسان، وهو فوق المجهود واستفراغ القدرة، يقول القائل: ليس هذا في وسعي، أي لا أقدر عليه وأن قدرتي لا تتسع لذلك.
إذن، فعلى رجل الدين أن يسعى ويعمل بقدر طاقته واستطاعته، حتى تتجمع هذه الطاقات المنفردة لتولد سيلاً من النشاط، لتثمر الثمر اللازم، وتعطي النتيجة المقصودة في تطوير المجتمع الإسلامي وتبليغ التعاليم الدينية.
حالياً يعيش الشيعة في كل العالم تحت الضغوط والتضييقات والأصفاد المادية والنفسية من قبل الظالمين والأعداء، في العراق ولبنان وأفغانستان وغيرها.
وفي العراق فقط مئات الآلاف من الشيعة رجالاً ونساءً يقبعون في زنزانات البعث الصدامي وسجونه، وعلى الحوزات العلمية مسؤولية إنقاذ هؤلاء المظلومين، كل بقدر طاقته يسعى في هذا السبيل، من طريق التأليف ونشر الكتب وبيان مظلومية الشيعة في كل العالم، وبشتى وسائل التبليغ المختلفة، وإلّا فنحن جميعاً مسؤولون أمام اللّه عزّ وجلّ، وأمام هذه المظالم.
ينقل أنه كان هناك رجل متقٍ جداً، ذات يوم وافته المنية، فرؤي في المنام وسُئِل عن حاله في القبر وكيف عومل؟
فقال: جاءني ملكان وأخذا يضرباني بالسياط، فسألتهما: إني كنت رجلاً صالحاً ومتقياً، فما هو ذنبي حتى تضرباني؟
قالا: في يوم وقع مظلوم في يد ظالم، وكانت عندك القدرة على نصرته وإنقاذه منه فلم تفعل!
لذلك يجب العمل في سبيل إنقاذ المسلمين والشيعة في كل العالم.
ص: 128
فعلى هذا نحن بحاجة إلى أن نؤسس للحوزة ما لا يقل عن ستمائة مدرسة، وهكذا إلى مائة مجلة إسلامية تصل إلى كل أنحاء العالم وبشتى اللغات.
فالوهابيّون قد لا يتجاوز أتباعهم الخمسة آلاف فرداً، لهم مجلة باسم (المجلة) تصدر في خمس عواصم لأكبر دول العالم، وتنشر على صعيد كل العالم، وقد رصدوا لتأسيس هذه المجلة نصف مليار، وهكذا باقي المجلات والجرائد الأخرى التي تنتمي إلى الوهابية بشكل أو بآخر، وغيرها من المؤسسات التابعة لباقي المذاهب الباطلة الأخرى.
فيجب أن يكون لمدينة قم المقدسة التي هي مركز التشيع في العالم الإسلامي فعلاً - بعد أن كبت صدام وحزب البعث الأنشطة الدينية التي كانت تتمتع بها الحوزات العلمية في النجف وكربلاء - شهرياً مائة مجلة وصحيفة، تصدر إلى كل العالم وبلغات مختلفة.
فإن الإسلام وعلوم أهل البيت(عليهم السلام) إنما انتشرت وأثارت في بقاع العالم بالقلم والبيان والتبليغ والوعظ والإرشاد والتوجيه المستمر.
فمن صفات الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه: «طبيب دوّار بطبه قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه: من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة»(1).
وهذا يتضح جلياً في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، فالإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)قال: «رسل اللّه سبحانه تراجمة الحق والسفراء بين الخالق والخلق»(2).
ص: 129
وفي كلام آخر له(عليه السلام) قال: «ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا»(1).
وهكذا يجب العمل في مدينة قم المقدسة لتأسيس المكتبات الضخمة والكبيرة، لتضم أكبر عدد من الكتب في شتى المجالات، لأننا في هذا المجال ضعفاء جداً، ولتقريب ذلك إلى الأذهان نذكر لكم بعض الإحصاءات العالمية:
نقل أن في ألمانيا الغربية مكتبة تحتوي على اثني عشر مليون كتاب، بينما أكبر مكتباتنا اليوم قد لا تجاوز عدد الكتب فيها ربع هذا العدد.
أو أن في لبنان ذات الثلاثة ملايين نسمة، ألفاً ومائتي مطبعة، بينما في دولة أخرى التي عدد نفوسها عشرون ضعف نفوس لبنان، ليس فيها من المطابع إلّا القليل القليل.
ما ذكرناه كان يرتبط بالعدد والكم في نشاطات الحوزة العلمية.
والمسألة الأخيرة التي يجب الإشارة إليها هي كيفية الحوزة، حيث يجب أن تتهذب النفوس حتى يكون طلاب العلوم الدينية أسوة ونماذج لعصرهم، لأن فضيلة الإنسان إنما هي في طهارة النفس وتزكيتها، والإسلام الذي وصل إلينا إنما كان من أثر الفضائل النفسانية والأخلاق الكريمة للنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام).
فيجب أن يتحلى أي قائد إسلامي، بأكبر ما يمكن من الخلق الرفيع،والمعاملة العطوفة المحببة مع مختلف الناس، لكي يجلبهم إلى نور الإسلام، أو يبقيهم في الإسلام، فإن أفضل وأسهل وأسرع وأعمق العوامل لزرع المحبة في
ص: 130
القلوب هي الأخلاق الفاضلة والمعاملة الطيبة العطوفة.
هكذا كان يتعامل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع مجتمعه وأصحابه، وهكذا أيضاً سار على نهجه الأئمة المعصومون(عليهم السلام) وأصحابهم البررة، أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد، وهكذا كان العلماء الصالحون، وهكذا يلزم أن نكون.
ومن الشواهد على ذلك: عندما اشتد أذى المشركين للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم أُحُد، إذ قُتل عمه الحمزة(عليه السلام) ومُثِلَ بجسده الشريف، وقطع كبده، وأصابع يديه ورجليه، وجدع أنفه وأذنيه... وفُعل به ما فعل، وقُتل العشرات من المسلمين، فتقدم بعض الصحابة إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واقترح عليه أن يدعو عليهم ليعذبهم اللّه بعذاب شديد كما كان يعذب المشركين الأولين بدعوة أنبيائهم عليهم، لكن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخلقه الرفيعة وسياسة عفوه العظيمة، امتنع من ذلك فقال: «إني لم أبعث لعّاناً ولكني بعثت داعياً ورحمة»(1).
روي أن سلمان المحمدي (رضوان اللّه عليه) عندما وُليّ على المدائن، دخلها ولم يعرفه أحد من أهل المدينة، بسبب بساطته في معيشته وملبسه، وزهده وتهذيبه لنفسه، ولأنه كان منفرداً عندما دخل المدينة ولم يجلب معه أي خادم أو أعوان(2) أو عسكر أو حماة.
وعندما عرفه الناس بأنه هو سلمان، تعجبوا كثيراً، بأنه كيف يكون الشخص الوالي على المدائن زاهداً وبسيطاً في معيشته وحياته، ولا يعتني بالدنيا قيد أنملة.
وهكذا بقي سلمان فترة ولايته على المدائن إلى أن توفي فيها، فلم يتغير في
ص: 131
فترة حكمه وسلطته عمّا كان عليه قبل ذلك، فكان يلبس الخشن، ويذهب في حاجاته ماشياً غير راكب، ويشتري وسائل بيته وما يحتاج إليه بنفسه، ويأكل شيئاً قليلاً وبسيطاً.
وذات يوم كان في السوق فرآه أحد الناس ولم يعرفه، وكان هذا الرجل قد اشترى ما يحتاج إليه حتى امتلأ زنبيله، فقال لسلمان: احمل عني هذا الزنبيل إلى بيتي!
فتقدم إليه سلمان بكل حلم وتواضع، وحمله وذهب مع الرجل نحو بيته.
وفي أثناء الطريق عرفه رجل من المارة فسلّم عليه، وقال السلام عليك يا أمير المدائن، إلى أين تذهب بهذا الزنبيل المملوء؟
فعرف الرجل الأول أنه استخدم سلمان والي المدائن وحاكمها، فتأثر كثيراً وخجل من عمله هذا، فقال لسلمان معتذراً: يا أمير اجعلني في حل، فإني لم أعرفك.
ولكن سلمان مع ذلك أوصل زنبيل هذا الرجل إلى بيته(1).
نعم لما كان أهل المدائن قد رأوا سابقاً حكومة الساسانيين، وجبروت حكامهم، ولمسوا منهم تكالبهم على الدنيا واقتنائهم للخدم والعبيد والوصائف، ورأوا رياشهم وترفهم، وكثرة ظلمهم للناس، وفي المقابل عندما رأوا طريقة معيشة سلمان وبساطته يوماً فيوماً وعدله وتواضعه، أخذوا يعتقدون بالإسلامونظامه أكثر فأكثر ويترسخ ذلك فيهم.
ولا عجب في ذلك فإن سلمان المحمدي (رضوان اللّه عليه) هو فرع من
ص: 132
مدرسة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) التي لم تكن الدنيا بأجمعها وبكل زخرفتها وزبرجها تساوي عنده أكثر من جناح بعوضة وما دونها، وما كان شيء أهون عند علي بن أبي طالب(عليه السلام) من الدنيا وما فيها، فالمال والحكم والسلطة والفرش واللباس والقصور والأكل والشرب كلها عند علي(عليه السلام) لا شيء، ولم يكن يستعمل شيئاً منها إلّا بمقدار الحاجة الضرورية.
ولعل أعمق مثال للدنيا في منظار أمير المؤمنين(عليه السلام) ما جاء عنه قائلاً: «واللّه لدنياكم هذه أهون في عيني من عِراق(1) خنزير في يد مجذوم»(2).
والخنزير لا يرغب فيه، فكيف بعراقه وعروقه.
والمجذوم لا يرغب في ما بيده ولو كانت الدنيا برمتها، لأن الدنيا برمتها لا تسوي عدوى الجذام الأكيد.
فكيف بِعْرِقٍ من خنزير وفي يد مجذوم؟!
من يرغب في مثل ذلك؟!
الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) يعتبر الدنيا أهون من ذلك.
وجاء في رواية أخرى أنه دخل أحد الأصحاب على الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في أيام حكومته وخلافته على أكثر من خمسين دولة على خارطة اليوم، فرآه جالساً على حصيرة صغيرة، ولم يكن في البيت شيء آخر، فقال متعجباً: يا أميرالمؤمنين هذا بيت المال في يدك، لماذا تترك بيتك خالياً من الأثاث؟
فقال(عليه السلام): لا يجمع العاقل الحطام في بيت لا يبقى فيه يعني الدنيا، والبيت الذي أجمع له الأثاث الحسن والجيد هو البيت الذي سأنتقل إليه يعني
ص: 133
الآخرة(1).
قال اللّه سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(2).
قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَٰفِلُونَ}(3).
وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ * أُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(4).
قال اللّه جلّ وعلا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(5).
وقال جلّ شأنه: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ}(6).
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ
ص: 134
وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1).
وقال عزّ اسمه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المتعبّد على غير فقه، كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح»(3).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لو أتيتُ بشابٍ من شباب الشيعة لا يتفقّه لأدّبته»(4).
وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «تفقهوا في دين اللّه، فإنّ الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرتب الجليلة في الدين والدنيا»(5).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إيّاكم والغفلة، فإنه من غفل فإنّما يغفل عن نفسه...»(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... بالتعليم أرسلت»(2).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته... ويثيروا لهم دفائن العقول...»(3).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... وأنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق ودين الهدى ليزيح به علّتكم وليوقظ به غفلتكم...»(4).
وقال(عليه السلام):
1- «العلم خيرُ دليل».
2- «العلم أفضل هداية».
3- «العلم يرشدك إلى ما أمرك اللّه به، والزهد يسهّل لك الطريق إليه».
4- «ثروة العلم تنجي وتبقى».
5- «فكرك يهديك إلى الرّشاد، ويحدوك(5) على إصلاح المعاد».
6: «نعم دليل الإيمان العلم»(6).
ص: 136
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ركعتان من عالمٍ خير من سبعين ركعة من جاهل، لأن العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه، وتأتي الجاهل فينسفه نسفاً...»(1).
وعن الإمام الصادق(عليه السلام) في ما رواه عن آبائه(عليهم السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً، وأقلّ الناس قيمةً أقلهم علماً»(2).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي ساعة العالم يتكئ على فراشه ينظر في العلم خيرٌ من عبادة سبعين سنة»(3).
وقال الإمام محمد الباقر(عليه السلام): «العالم كمن معه شمعة تضيء للناس، فكل من أبصر بشمعته دعا له بخير. كذلك العالم معه شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة...»(4).
وأخيراً نتضرع إلى اللّه تعالى أن يوفقنا لخدمة الدين ولتقوية الحوزات العلمية الشيعية في العالم، وللتأسّي بالنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) في حياتنا وأعمالنا، لنكون أسوة صادقة للمسلمين، نقودهم إلى جادة الحق والصواب،والسعادة الدائمة في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب.
ص: 137
عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ثلاث من أبواب البر، سخاء النفس، وطيب الكلام، والصبر على الأذى»(1).
وهذا تأكيد على ضرورة أن يكون كلام الإنسان ليناً.
وقد أرسل اللّه تعالى النبي موسى(عليه السلام) إلى فرعون الطاغية، الذي يقول عنه القرآن الكريم: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ}(2)، ومحصل المعنى أن فرعون علا في الأرض ببسط السلطة الجائرة على الناس، وإنفاذ القدرة فيهم، وجعل أهلها شعباً وفرقاً مختلفة، لا تجتمع كلمتهم على شيء، وبذلك ضعفت عامة قوتهم على المقاومة دون قوته، وهو يستضعف طائفة منهم وهم بنو إسرائيل وهم أولاد يعقوب(عليه السلام) وقد سكنوا مصر منذ أن أحضر يوسف(عليه السلام) أباه وأخوته، فسكنوها وتناسلوا بها حتى بلغوا الألوف.
وكان فرعون يعاملهم معاملة الأسراء الأرقاء، ويزيد في تضعيفهم حتى وصل الأمر بذح أبنائهم واستبقاء نسائهم وظلمهم.
يذكر أحد المؤرخين بأن فرعون كان يأخذ النساء الحوامل ويبقر بطونهن،
ص: 138
ويستخرج الأجنة، فإذا كان ولداً قطع رأسه، بل حتى إذا كانت امرأة تضع طفلها ميتاً كان يأمر بذبحه وفصل رأسه عن بدنه، وبهذه الكيفية قتل آلاف الأطفال، وهو الذي كان يدعي الألوهية فكان يقول: {أَنَا۠ رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}(1).
ومع كل هذه الجرائم والجنايات، والظلم والطغيان، يقول اللّه تعالى لموسى وأخيه هارون(عليهما السلام):{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا}(2)، أي تكلّما معه برفق وبلا خشونة.
فعلى الجميع، في كل مكان، كبير أو صغير، شاب أو طاعن في السن، دائماً أن يتكلموا مع الآخرين بلين ورفق.
يقول اللّه تعالى مخاطباً رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(3).
إن اللين والرفق يفعلان ما لا يفعله الدينار والدرهم، وأن اللفظ العنيف لا صديق له وإن أُنفق حتى أسرف، وذو اللين والرفق يجتمع حوله الأخلاء وإن كان فقيراً، كيف لا والدينار حظ الجسم، واللين حظ الروح.
وفي كثير من أحاديث النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) يحثون فيها على الرفق واللين، لأنهما أساس كثير من السعادات الدنيويّة والأخروية.
حيث قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لو كان الرفق خلقاً يُرى، ما كان مما خلق اللّه شيء أحسن منه»(4).
وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أتدرون من يُحرم على النار؟ كل هين لين سهل قريب»(5).
ص: 139
وهكذا كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تعامله حتى مع الأعداء، من أمثال أبي سفيان:
فأبو سفيان كان في حالة حرب مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمدة عشرين سنة، وبواسطة أبي سفيان وأتباعه استشهد كثير من المسلمين والمسلمات:
استشهدت بنت وحفيدة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1)، واستشهد عمه الحمزة (رضوان اللّه تعالى عليه) وغيرهم من الأبرياء.
وأيضاً كان لأبي سفيان الدور الأساس في تربية أعداء النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعبئة الأجواء ضد الإسلام والمسلمين، مثلاً أحد أسباب عداء أبي لهب - عمّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - للنبي، كان بتأثير زوجة أبي سفيان: أم جميل بنت صخر.
وكانت هي بنفسها تؤذي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً جداً، حتى أنها كانت تملأ ثوبها من الأشواك الحادة(2)، والعاقول المدبب، وتلقيه في طريق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مساءً، لكي تؤذيه عندما يذهب النبي إلى المسجد الحرام للعبادة، وكم دخلت هذه الأشواك والعاقول في قدمي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المباركتين، وأُدميتا بسبب فعل أم جميل هذه، وقد ذكرها اللّه تعالى في القرآن بالسوء في سورة المسد، فقال عزّ وجلّ: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدِ}(3).
ولكن في المقابل عندما دخل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكة فاتحاً منتصراً، خاطب أبا سفيان بكلام جميل ولين حيث قال له: أما آنَ أن تشهد أن لا إله إلّا اللّه؟
فقال أبو سفيان: ما أحلمك يا محمد؟
ثم سأل أبو سفيان: ما أصنع بلات ومنات؟
ص: 140
وكان عمر حاضراً، فثارت عصبيته وأراد أن يبطش به، وقال: ائذن لي يا رسول اللّه في قطع رأسه.
فقال أبو سفيان لعمر: كم أنت سيء الكلام؟ وما الذي جعلك تلقي البغضاء بيني وبين ابن عمي، وهو يقصد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟
فأعاد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أبي سفيان قوله الشريف: أما آن أن تشهد أن لا إله إلّا اللّه؟
وأخيراً تحت ضغط العباس وأصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسلم أبو سفيان ظاهرياً من دون أن يذعن في قلبه بذلك، وقبل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا الإسلام الظاهري من أبي سفيان ولم يقابله بأي شيء سوى الرفق والإحسان إليه(1).
في زمن حكومة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وخلافته الظاهرية، كان(عليه السلام) بنفسه يهتم بجميع الناس ويلبي احتياجاتهم حتى أنه(عليه السلام) كان يمرّ على الأسواق ويطّلع على ما يجري فيها بنفسه، ويحل المشاكل التي تعترض الناس في مختلف المجالات.
وذات يوم كان أمير المؤمنين(عليه السلام) في سوق التمارين، فرأى فتاة واقفة على جانب السوق وتبكي، فتقدم(عليه السلام) وسألها عن سبب بكائها، فقالت: إنني أمة لرجل أعطاني درهماً لأشتري له به تمراً، فاشتريت تمراً من هذا الرجل - وأشارت إلى بائع التمر - وذهبت إلى المنزل فلم يستحسنه مولاي، وأمرني بردّه، ولكن هذا البائع لم يقبل بردّه، وأنا حائرة في أمري لا أدري ماذا أصنع؟
عند ذلك تقدم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى التمّار وقال له: هذه أمة وليساختيارها بيدها، خذ منها التمر و رّد عليها درهمها، عندما سمع البائع ذلك، قام
ص: 141
من مكانه غاضباً - وكان لا يعرف الإمام - فأخذ بتلابيب الإمام(عليه السلام) ودفعه بعنف وقال: ما أنت والتدخل فيما بين الناس!؟
ولما رأى الناس ذلك، قالوا للبائع وهم يزجرونه: ماذا تفعل، ثكلتك أمك، إنّه أمير المؤمنين؟
عندما أدرك البائع أنه تعامل هكذا مع أمير المؤمنين(عليه السلام) اضطرب وخاف، وراح يعتذر إلى الإمام(عليه السلام) ويطلب منه العفو والصفح.
ولكن خاطبه الإمام(عليه السلام) بكل لطف ومحبة: لا بأس عليك، ولكن أصلح أخلاقك وتعامل مع الناس بلين ورفق، ولا تعنّفهم أو تتعامل معهم هكذا كما رأيت منك اليوم(1).
وروي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) ولّى أبا الأسود الدؤلي القضاء، ثم عزله، فقال له أبو الأسود: لِم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟
فقال(عليه السلام): «إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك»(2).
نعم هكذا يلزم أن يكون القائد الإسلامي متصفاً بالأخلاق الطيبة، والعفو والصفح ومداراة الناس، وأن يبتعد عن الظلم والجور والحقد والبغضاء.
جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في ذم الحقد قوله:
«الحقد خلق دنيء ومرض مردي».
و: «الحقد من طبائع الأشرار».
و: «أشد القلوب غلاً قلب الحقود».
ص: 142
و: «من أطرح الحقد استراح قلبه ولُبه».
و: «رأس العيوب الحقد»(1).
سبَّ أحد الأشخاص الإمام السجاد(عليه السلام)، فلم يعتن به الإمام(عليه السلام).
فعاد على الإمام السباب في المرة الثانية، فلم يعتن الإمام(عليه السلام) به أيضاً.
وفي المرة الثالثة عندما أخذ بسبّ الإمام(عليه السلام) قال: إياك أعني.
فأجابه الإمام(عليه السلام): «وعنك أُغضي»(2).
نعم إن موقف الإمام(عليه السلام) يعلمنا ويرشدنا إلى أسلوب ناجح في معاملة الناس، بحيث يقابل هذا الشخص العنيف وحدّته بإغضائه ولين كلامه ورفقه فيقول: «وعنك أُغضي» وذلك بكل رفق ولطف وهدوء، فيبدّل عنفه ليناً ورفقاً، وأشواكه أوراداً وأزهاراً، لا يصدر عنها إلّا العطر الفوّاح والأريج الهادئ المنعش.
ينقل عن حياة العلاّمة الكبير الشيخ نصير الدين الطوسي(رحمه اللّه) أنه كتب أحد الأشخاص من ذوي الألسنة اللاذعة، رسالة إليه تفيض بالشتم والسباب والكلام السيء الذي تعافّه النفوس العادية، فضلاً عن النفوس الأبية.
وكان من ضمن السباب أنه خاطبه بالكلب!
فكتب الشيخ الطوسي(رحمه اللّه) جواباً ليناً وهادئاً على هذه الرسالة، وقال له فيها:إنني لست بكلب، وذلك لأن الكلب يمشي على أربع ولا يستطيع التكلم
ص: 143
والكتابة وله مخالب وهو يعوي! أما أنا فأمشي على رجلين، وأستطيع أن أتكلم واكتب، وليست لي مخالب، بل لي أظافر حسنة، ولا أعوي!
هذا كان كل جواب الشيخ الطوسي(رحمه اللّه).
كان في مدينة كربلاء المقدسة شخص قد أضمر العداء ضد أحد العلماء الأبرار(1)، وأنشأ قصيدة كاملة ضد هذا العالم، فكان يقرؤها في كلّ محفل ومجلس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
يقول صاحب القصيدة إنه في ذات يوم حار وعند الظهيرة، طرق الباب عليَّ، وقد انتهيت من تناول الغداء توّاً، فعندما فتحت الباب فوجئت بهذا العالم بشخصه، الذي أنشأت القصيدة ضده جاء على باب داري.
فخجلت منه ودعوته إلى الدخول، وعندما استقر بنا المجلس، طلب العالم مني مترجياً أن اقرأ عليه القصيدة، فامتنعت عن ذلك، فلم يرض إلّا بقراءتها عليه، فاستسلمت للأمر وقرأتها عليه، ولكن عندما انتهيت منها أخرج من جيبه ظرفاً فيه مقدار من المال وأعطانيه وقال: جرت العادة إذا قرأ شخص قصيدة لشخص، أن يعطوه هدية، فأرجو منك قبول هذه الهدية مني.
ومن شدة دهشتي لم أعرف بماذا أجيبه، فوضع المال في يدي وخرج، فكان موقفه هذا الكريم، واللين والرفق في تعامله، بدّل كل الحقد الدفين من قلبي إلى محبة له وعلاقة به واتّباع أخلاقه.
نعم، رفق هذا العالم ولينه وعدم عنفه جعل أغلب الناس يلتفون حولهويتعلموا منه الأخلاق الطيبة والأسلوب الذي استلهمه هو من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة
ص: 144
الأطهار(عليهم السلام).
أما في حياتنا المعاصرة، فنشاهد العكس من ذلك، حيث المسلمون متفرقون هنا وهناك بسبب الغلظة والعنف وسوء المعاملة المتفشية بينهم، الأمر الذي ساعد على وقوع الهزيمة بينهم، وظفر الغرب والشرق وغيرهم من أعداء الإسلام بهم.
يقول سيد المرسلين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم»(1).
فعلى المسلمين أن ينتبهوا من غفلتهم هذه، ولنتعظ جميعاً بوصايا أئمتنا الأطهار(عليهم السلام)، فمن وصايا أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية يقول له:
«... أحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك، وارض لهم ما ترضاه لنفسك، واستقبح ما تستقبحه من غيرك، وحسّن مع جميع الناس خلقك، حتى إذا غبت عنهم حنّوا إليك، وإذا متّ بكوا عليك، وقالوا: إنا للّه وأنا إليه راجعون، ولا تكن من الذين يقال عند موته: الحمد للّه ربّ العالمين، واعلم أن رأس العقل بعد الإيمان باللّه عزّ وجلّ: مداراة الناس، ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف من لا بد من معاشرته»(2).
كان في كربلاء المقدسة مدرس ذو أخلاق سيئة، وكان إذا سُئل سؤالاً في الدرس ينزعج بسرعة، وتنفعل أعصابه، وتضطرب أوقاته، وربما يعطل الدرس ويخرج!
ص: 145
بالرغم من أنه كان مدرساً كبيراً ومهماً في نفس الوقت، ولكن نتيجة سوء خلقه وفضاضة معاملته، انفض عنه الناس والطلاب، وكان لا يلتفت أحد حوله ولا يستمعون إليه.
وهكذا أي إنسان آخر، إذا لم يتمتع بحسن الخلق ولين الجانب، فإنّه لا يحظى بأي احترام ومحبة من قبل الناس، ومن ثم لا يستطيع أن يخدم الإسلام والمسلمين كما ينبغي ويلزم.
إذن على كل إنسان - وخاصة طلبة العلوم الدينية - أن يعوّد نفسه على الكلام اللين واللطيف حتى مع أعدائه، ولا يستعمل السباب واللعن والشتم وما أشبه.
يقول المثل: المنهل العذب كثير الزحام(1).
وهكذا يكون القول اللين الطيب، حيث يلتف الناس حوله، ويجتمعون حول صاحب الخلق الحسن، والكلام الجميل، والأسلوب اللين.
نسأل اللّه العلي القدير أن يحلينا بحلية الصالحين، ويلبسنا زينة المتقين، في بسط العدل وكظم الغيض، وترك العنف وإطفاء النائرة، وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين.
قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْحَوْلِكَ}(2).
ص: 146
وقال عزّ وجلّ: {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ}(1).
وقال سبحانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(2).
قال عزّ اسمه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَٰنِ عَدُوًّا مُّبِينًا}(3).
وقال جلّ وعلا: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(4).
وقال عزّ من قائل: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَٰهِلِينَ}(5).
وقال جلّ شأنه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(6).
وقال جلّ ثناؤه: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نجاة المؤمن في حفظ لسانه»(2).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قلت أربعاً أنزل اللّه تصديقي بها في كتابه، قلت: المرء مخبوءٌ تحت لسانه، فإذا تكلم ظهر فأنزل اللّه تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(3)(4).
وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لا يزال العبد المؤمن يكتب محسناً مادام ساكتاً، فإذا تكلم كتب محسناً أو مسيئاً»(5).
وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «حق اللسان إكرامه عن الخنا(6)،
وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبر للناس، وحسن القول فيهم»(7).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «والذي نفسي بيده ما أنفق الناس من نفقة أحبُّ من قول الخير»(8).
ص: 148
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألّا وقولوا خيراً تُعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله»(1).
وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه»(2).
وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «القول الحسن يثري المال، وينمي الرزق وينسي في الأجل، ويحبب إلى الأهل ويدخل الجنة»(3).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما اصطحب اثنان إلّا كان أعظمهما أجراً وأحبهما إلى اللّه عزّ وجلّ: أرفقهما بصاحبه»(4).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(5).
ومن كتاب لأمير المؤمنين(عليه السلام) لبعض عماله: «واخلط الشدة بضغث من الليّن، وارفق ما كان الرفق أرفق»(6).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس»(7).
ص: 149
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر! ما زهدَ عبدُ في الدّنيا إلّا أنْبَت اللّه الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصَّره بعيوب الدنيا ودائها ودوائها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام»(1).
الزهد من المفاهيم الإسلامية السامية التي إذا ما طبقت في أي مجتمع فإنه بلا شك سوف تسوده العدالة والمواساة، ويصبح مجتمعاً مثاليّاً. لذا حثّ الإسلام الإنسان على تطبيق هذا المفهوم في حياته، وذلك للآثار المهمّة المترتبة على الزهد، ومنها:
فعندما تتعارض مصلحة الإنسان المتصف بالزهد مع مصلحة الأمة أو الجماعة. فهو يقدِّم مصلحة الأمة والجماعة على مصلحته، فيحرم نفسه من الأكل والشرب والراحة لمصلحة الآخرين، فالإيثار من العوامل المهمة لتكامل الإنسان وسمّوه.
فالمجتمع الذي يطبّق أفراده هذه الخصلة الحميدة - الزهد - تلاحظ أفراده
ص: 150
يتشاركون في ما بينهم في الأحاسيس والمشاعر في الظروف القاسية، أي يواسيأحدهم الآخر، فإذا ساد مفهوم المواساة في مجتمعٍ ما، فإنه بلا شك سوف تنقرض فيه الطبقية، والمحسوبية، وتنتشر العدالة وتسود البركات. فالزهد يوصل الإنسان إلى مرحلة التكامل، ويصبح متحرراً من غواشي المادة وقيودها، فيتحرر من جميع العوامل المادية التي تشدّه إلى البطر والراحة والشهوة وحبّ الذات، وكذلك تهون عليه المصاعب والمهمات. قال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب...»(1).
قال تعالى: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(2).
جاء في بعض التفاسير: أنّ هذه الآيه الكريمة فيها إشارة إلى أربعة أشياء:
الأول: حسن الخلق: لأنّ من استوى عنده وجود الدنيا وعدمها لا يحسد ولا يعادي ولا يشاحّ.
وثانيها: إستحقار الدنيا وأهلها إذا لم يفرح بوجودها ولم يحزن لعدمها.
وثالثها: تعظيم الآخرة، لما ينال فيها من الثواب الدائم الخالص من الشوائب.
ورابعها: الإفتخار باللّه دون أسباب الدنيا.
ويروى أن علي بن الحسين(عليهما السلام) جاءه رجل، فقال له: ما الزهد؟ فقال: «الزّهد عشرة أجزاء... وإن الزّهد كلّه في آية من كتاب اللّه: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(3)» وقيل (لبزرجمهر): ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات، ولا تفرح بما هو آت؟ فقال: إن الفائت لا يُتلافى بالعبرة، والآتي لا
ص: 151
يُستدام بالخبرة...(1).
ولا بدّ للإنسان أن لا يربط مصيره بالصفات الزائلة، ولا يكون هدفه قريباً مشدوداً بأواصر الدنيا، حتى لا تنطبق الآية الكريمة عليه، ويكون مختالاً فخوراً كما جاء في ذيل الآية: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٍ}(2). لأن الفرح بما أعطاه اللّه تعالى منها، يؤدي إلى الإختيال والفخر.
ولكن الإنسان إذا ترك الخيلاء والفخر، وتوجَّه إلى اليقين، وزهد في الدنيا، يعلم أن ما أصابه مقدّر له لا محالة، وما أُوتي به من النعم وديعة عنده إلى أجل مسمّى، فلا يعظم حزنه لما فاته ولا يفرح لما أُوتي به، وقد يقع في مزالق تؤدي به إلى الخسران.
كتبوا في أحوال عبد الملك بن مروان: أنه كان عابداً زاهداً ناسكاً بالمدينة قبل الخلافة... وقال نافع: لقد رأيت المدينة، وما بها شابُّ أشدُّ تشميراً، ولا أفقه، ولا أنسك، ولا أقرأ لكتاب اللّه، من عبد الملك بن مروان...(3).
وكان عبد الملك يتأسّف من أعمال يزيد المشينة، وكان له حينئذٍ صديق يهودي كان قد أسلم، واسمه يوسف، وقد قرأ الكتب فضرب يوسف يوماً على منكب عبد الملك، وقال: اتّق اللّه في أمّة محمد إذا ملكتهم، فقال: دعني ويحك ماشأني وشأن ذلك؟ فقال: أتّق اللّه في أمرهم، قال: وجهَّز يزيد جيشاً إلى أهل مكّة فقال عبد الملك: أعوذ باللّه! أيبعث إلى حرم اللّه؟ فضرب يوسف منكبه، وقال: جيشك إليهم أعظم! وفعلا وجّه عبد الملك أثناء خلافته جيشاً بقيادة
ص: 152
الحجاج، أعظم من جيش يزيد... وقال ابن أبي عائشة: أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره، فأطبقه، وقال: هذا آخر العهد بك...
وعندما أدرك عبد الملك الموت، كان يتمنى أن يكون حمّالاً منذ ولادته إلى وفاته(1)،
ومن شعره:
فياليتني لم اعْنَ بالملك ساعة *** ولم ألهَ في لذّات عيش نواضرِ
وكنت كذي طمرين عاش ببلغة *** من الدهر حتى زار ضنك المقابرِ
ولقد إنزلق عبد الملك إلى تلك الهاوية التي حذّرنا اللّه تعالى منها، وهي الفرح والإختيال بما أوتي الإنسان من النعم، وهي مرتبطة بقدرة الخالق تعالى. لذا فإنّ الإختيال يوهن الإنسان، ويحرفه عن جادة العقل والصواب. ولامناصّ - حينئذٍ - إلّا بالتفكر في عواقب الأمور، والزهد في الحياة الدنيا... ومهما أُوتي الإنسان في هذه الدنيا فهو قليل؛ {قُلْ مَتَٰعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ}(2). وهل أُوتي شخص مثل ما أُوتي سليمان (عليه الصلاة والسلام)، حيث ملك الدنيا بما فيها من إنس وجنّ، وسُخّر له الريح والطير والوحوش، ثم زاده اللّه تعالى أحسن منها، حيث قال: {هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٖ}(3). فخاف سليمان(عليه السلام) على آخرته، فقال: {هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}(4).
ومن الواضح أنّ الذين خسروا الآخرة لم يفهموا حقيقة الدنيا ومعناها، فعملوا لها ولم يزهدوا فيها. ومن المعاني الرائعة في وصف الدنيا وبيانها وهوانها على
ص: 153
الأولياء الصالحين ما قاله رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مالي والدنيا، إنّما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب، مرّ للقيلولة في ظلّ شجرة، في يوم صيف، ثم راح وتركها»(1).
وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) «ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع»(2).
ففي حساب الزمن: لا تساوي الدنيا أمام الآخرة سوى لحظات، ولا قيمة لها سوى العمل الصالح.
ولقد عبّر الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بمعانٍ بلاغيّة عظيمة، تحتاج إلى تأمّل وتدبّر في كلامه، تصوّر الدنيا وحقيقتها، ومنها قوله: «واللّه لدنياكم هذه أهون في عيني من عُراق خنزير في يد مجذوم»(3). والعِراق أو العُراق هو من الحشا ما فوق السرة معترضاً البطن (الكرش)، وهو العظم الذي أُكل لحمه، وهو نوع من الديدان. فعلى جميع الوجوه؛ كيف تكون الصورة والحامل لها مصاب بمرض الجذام؟
وفي خطبة الإمام(عليه السلام) المعروفة بالشقشقية يقول: «ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»(4). وعفطة العنز: ما تنثره من أنفها... وأكثر ما يستعمل ذلك في النعجة.
ولو قابلنا ما جاء من بعض ما قيل في حقيقة الدنيا مع الحياة الآخرة، لم يبق أمام العاقل الراجي سبيل النجاة سوى الابتعاد عن ملذّات الدنيا وزخارفها،
ص: 154
والاجتهاد في الزهد، والاكتفاء من العيش في هذه بما يساعده على بلوغ الآخرة؛ قال تعالى: {وَالسَّٰبِقُونَ السَّٰبِقُونَ * أُوْلَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّٰتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْأخِرِينَ * عَلَىٰ سُرُرٖ مَّوْضُونَةٖ * مُّتَّكِِٔينَ عَلَيْهَا مُتَقَٰبِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٖ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٖ مِّن مَّعِينٖ * لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَٰكِهَةٖ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٖ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَٰلِ اللُّؤْلُوِٕ الْمَكْنُونِ * جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1).
فلاشك أن العاقل يختار النعيم المقيم على النعيم الزائل، ولا يفرح ولا يحزن بما آتاه اللّه تعالى في هذه الدنيا. كما حصل على ذلك النعيم المقيم أولياء اللّه تعالى - وخاصة الأئمة المعصومون(عليهم السلام) بعد أن عاشوا حياة الزهد، لا لأجل الفوز الأخروي فقط، وإنما لاقتداء الأجيال القادمة بهم، وهدايتهم إلى الطريق القويم. فلذا كان باطنهم كظاهرهم لا يحمل شيئاً من المفارقة والغش، وكما جاء في الدعاء: «اللّهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك، الذين إستخلصتهم لنفسك ودينك، إذ إخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم، الذي لا زوال له، ولاإضمحلال بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة، وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقرّبتهم...»(2).
ومن الأمور المهمة في مسألة الزهد، هي مطابقة الظاهر للباطن أو بالعكس، لذا جاء في الدعاء المتقدم «بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا
ص: 155
الدنيّة، وزخرفها وزبرجها». والزخرف والزبرج هما الزينة والغرور، بما يعمّ الظاهر والباطن. فإذا عاش الإنسان حياة الزهد الظاهري وباطنه يحمل نوايا مضادة لما يعيشه، ويريد بذلك الجاه والطمع والرياء فقد عاش زخرف الدنيا وزبرجها لمخالفته الباطن وهو كمن تراه يصوم ويصلي، ويحضر صلاة الجماعة، والتعازي، ويحج، ولكنه يحمل قلباً حسوداً وحقوداً، لا يعطف على الصغير ولا يساعد الفقير وما شابه. والبعض الآخر ترى لسانه يقطر عسلاً، وهو شيء جميل، ولكنه عند النائبات يكشّر عن أنيابه، ويظهر ما في قلبه من عداوة وبغض، كما في قول الشاعر:
أما الّلسان فمطلي به عسل *** أما القلوب زنابير وحيّات
أما المعصومون صلوات اللّه عليهم، وأولياء اللّه المخلصون فقد أصلحوا باطنهم قبل ظاهرهم، لأنه هو الأساس، وإذا سلم الباطن سلم الظاهر.
ومن وصية الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى كميل بن زياد، قال: «ياكميل ليس الشأن أن تصلّي وتصوم وتتصدّق، إنما الشأن أن تكون الصلاة فعلت بقلب تقي، وعمل عند اللّه مرضيّ، وخشوع سوي»(1).
وفي وصية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر (رضوان اللّه تعالى عليه) يقول فيها: «يا أبا ذر إن اللّه تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»(2).
والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) خير مقتدىً لنا في هذا المجال. فقد كان خليفة
ص: 156
المسلمين، ورئيساً على ما يقارب بحساب اليوم خمسين دولةً، ومع ذلك تراه(عليه السلام) يقول لأحد العراقيين، وهو الأصبغ بن نباتة: «دخلت بلادكم بأشمالي هذه ورحلتي، وراحلتي هاهي، فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت، فإنني من الخائنين!» وفي رواية: «يا أهل البصرة ما تنقمون مني؟ إنّ هذا لمن غَزْل أهلي» وأشار إلى قميصه(1).
وهذا الدرس من أعظم الدروس التي يجب على حكّام الإسلام أن يستفيدوا منها، للخروج من الامتحان الدنيوي بنجاح، وفضلاً عن الفوائد الدنيوية، من مواساة، وإزالة الفقر المنتشر بين المسلمين اليوم بسبب سرقة الثروات، والمحسوبيّات التي لا تعرف قانوناً ولا حدوداً، ولا ترعى إلاًّ ولا ذمّة.
وفي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام): «أن الامام على(عليه السلام) أراد أن يشتري قميصاً فقال لرجل: بعني ثوبين، فقال الرجل، صاحب الأقمشة، للإمام(عليه السلام): يا أمير المؤمنين عندي حاجتك، فلما أن عرف الإمام بأن صاحب الأقمشة يعرفه، إنصرف من محلِّه. فقال قنبر للإمام(عليه السلام): يا أمير المؤمنين لماذا لم تشترِ منه؟ فقال الإمام(عليه السلام): لا أريد الشراء من شخص يعرفني، فيحابيني على أني أمير المؤمنين ولا اُريد أن أجعل مقامي ومنصبي وسيلة وواسطة للوصول إلى الملذات. يقول قنبر: فلما مشينا قليلاً وصلنا إلى دكانٍ آخر فيه شابّ لم يعرف الإمام(عليه السلام)، فاشترى الإمام منه قميصين أحدهما بدرهمين والآخر بثلاثة، فأخذ القميص الذي قيمته درهمان لنفسه، وأعطى الآخر الذي قيمته ثلاثة دراهم لي،فقلت له: أنت أولى به تصعد المنبر وتخطب الناس، فقال(عليه السلام): أنت شابّ ولك
ص: 157
شره الشباب، وأنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليك...»(1).
هذا هو معنى الزهد، وهذا هو خط ومنهج الامام علي(عليه السلام)، والنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وسائر الأئمة المعصومين(عليهم السلام) فلا بدّ علينا أن نسير في هذا المنهج أيضاً، ولو أنّ فيه الكثير من الصعوبات، مثل محاربة الهوى، وميول النفس، وتقوية إرادة الإنسان، والصبر، لكي نكون زاهدين قلباً وقالباً.
ينقل عن أحد الباحثين، أنه ذهب الى أحد المصانع في ايران، زمن انتشار الشيوعية فيها، فلفت انتباهه أفراد ذلك المصنع من العمال وكان عددهم حوالي خمسمائة شخص، لم يتأثروا بالغزو الشيوعي - لأن أفكار الشيوعية كانت تبث في أوساط العمال - وكانوا يعيشون حالة الإيمان والصلاح والأخلاق الإسلامية الرفيعة، فأخذ يبحث عن السبب فتوصل إلى حقيقة، وهي أن عمّال هذا المصنع من المتمسّكين بالمرجعية، ولا يعصون لها أمراً. فسأل العمّال: من هو مرجعكم وعالمكم الذي ترجعون إليه في أمور دينكم؟ فقالوا له: إنه فلان، قال: فذهبت إلى بيت ذلك العالم، بعد أن أخذت العنوان، لكي أرى حياته المعاشية من قريب، فلما دخلت في بيته رأيت بيته صغيراً جداً، وليس فيه أثاث إلّا النادر، فكان هذا العالم يعيش في منتهى البساطة، والشيء الذي جلب نظري أكثر أنه قدَّم لي قدراً وقد صنع فيه لي شيئاً من الشراب وإعتذر لي، وقال: يا أخي العزيز، أعتذر لعدم امتلاكي للكأس الجيد، لأني فكّرت أني لا أحتاج إلى ذلك، وقلت: بدل أن أشتري الأقداح والكؤوس، أعطي ثمنها للفقراء. عندها أدركت بأن هذاالشخص بسبب امتلاكه للقلب المملوء بالزهد والإيمان. استطاع أن يكسب
ص: 158
القلوب ومنهم عمّال ذلك المعمل، وأن يربيهم تلك التربية الإسلامية الصالحة وذلك لأن أعمال الإنسان وتصرفاته لها تأثير كبير جداً. فالناس عادة ينظرون ويتوجهون إلى الرجل الصادق في أعماله وسلوكه، فهم ينظرون ويقتدون بالأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، ولا ينظرون إلى أبي جهل ومعاوية وهارون والمنصور وصدام وغيرهم، وهكذا الأمر بالنسبة لرجل الدين، فالناس ينظرون إلى أعماله جيداً، فإذا كانت صالحة فسوف يقتدون به، وإلّا فإن كلامه لا يُسمع. لذا يجب أن نجعل قلوبنا زاهدة، بالإضافة إلى ظاهرنا، وهذا الأمر ليس بهيّن، لأنه يتطلب أن نبذل مجهوداً كبيراً لترويض أنفسنا، وتنزيهها عن الآهواء والمغريات، وتحبيبها لأعمال الخير والطاعة والعبادة، من قبيل صلاة الليل وأداء النوافل اليومية، بالإضافة إلى البكاء والتضرع للّه سبحانه وتعالى بصورة مستمرة، والمداومة على ذكره جلّ وعلا، وهكذا نذكر الموت ولا نهتم بأمور الدنيا. كل ذلك من أجل ترويض النفس وكبح جماحها، والارتقاء بها نحو مقامات الأخيار والزاهدين، الذين يرون الدنيا على حقيقتها، فيتعاملون معها ومع زخارفها من هذا المنطلق، مصداقاً لما قال اللّه تعالى في كتابه: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٍ}(1).
اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، «إلهي فزهِّدنا فيها، وسلِّمنا منها بتوفيقك وعصمتك، ... وتوَّل أمورنا بحسن كفايتك، ... وأخرج حُبَّ الدنيا من قلوبنا، كما فعلت بالصالحين من صفوتك، والأبرار من خاصَّتك، برحمتك يا أرحمالراحمين، ويا أكرم الأكرمين» بحق محمد وآله الطاهرين(2).
ص: 159
قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}(1).
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ إِلَٰهًا وَٰحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ}(2).
وقال عزّ وجلّ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(3).
وقال جلّ شأنه: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ}(4).
قال عزّ اسمه: {وَلَدَارُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْاْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(5).
وقال جلّ وعلا: {وَلَلْأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}(6).
وقال سبحانه: {وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(7).
وقال تعالى: {وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(8).
وقال جلّ شأنه: {قُلْ مَتَٰعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}(1).
وقال عزّ اسمه: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}(2).
وقال جلّ وعلا: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا}(3).
قال سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ}(4).
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}(5).
وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ}(6).
وقال عزّ اسمه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}(7).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضل الناس من عشق العبادة، فعانقها، وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده وتفرَّغ لها، فهو لا يُبالي على ما أصبح من الدنيا، على عُسرٍ أمعلى يُسرٍ»(8).
ص: 161
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل العبادة الزَّهادة»(1).
سُئل الإمام الباقر(عليه السلام) أيّ العبادة أفضل؟ فقال: «ما من شيء أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من أن يُسأل ويُطلب مما عنده»(2).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «في التوراة مكتوب: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، ولا أكلك إلى طلبك، وعليَّ أن أسُدَّ فاقتك»(3).
وقال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مَن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همّه جعل اللّه الغِنى في قلبه وجمع له أمره ولم يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه»(4).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «صلاحُ الآخرةِ رفض الدنيا»(5).
وقال(عليه السلام): «مَن جعل كلَّ همِّه لآخرته ظَفَرَ بالمأمول»(6).
وقال(عليه السلام): «مَن حَرَصَ على الآخرة مَلَكَ»(7).
قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس: هذه (الدنيا) دار نزح لا دار فرح، ودارالتواء لادار استواء، فمن عرفها لم يفرح لرجاء ولم يحزن لشقاء»(8).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا دُنيا يا دُنيا، إليك عنّي... فعيشُك قصير، وخَطَرُكِ
ص: 162
يسير، وأمَلُكِ حقير...»(1).
وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «... فإنها (الدنيا) المُهلكة طلّابها، المتلِفَة حُلّالها، المحشُوَّةُ بالآفات، المشحونة بالنكبات»(2).
وقال الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليهما السلام): «يا هشام: ... ومَن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته»(3).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المجاهد مَن جاهد نفسه في طاعة اللّه عزّ وجلّ»(4).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «مَن أطاع هواه هلك»(5).
وقال(عليه السلام): «مَن غَلَبَ هواه على عقله ظَهَرَت عليه الفضائح»(6).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من إتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم»(7).
ص: 163
عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو»(1).
يتصور البعض أن الركون إلى الأمور المادية يزيد الإنسان عزّةً وشرفاً ومنعةً وقوةً وسلطاناً، على الرغم من أن نصوص القرآن والسنّة مستفيضة في بيان هذا المعنى، وكشف القناع عن حقيقة الرقي الإنساني والسمو الروحي، وأن الدنيا وجميع متعلقاتها إنما هي عرض زائل في معرض التلف والتبدّل، وإنما يكمن نجاح الإنسان وتقدمه في الجانب المعنوي، وما الأمور المادية الّا سبب للوصول إلى عالم المعنويات التي إهتم بها الدين كثيراً، والإنسان الحضاري هو ذلك الإنسان الذي يحمل أكبر قدر ممكن من الملكات الخيّرة، والصفات الحميدة، والسلوك المتوازن. وكلما كان الإنسان بعيداً عن منطق الظلم والعنف، كان أكثر تحضراً، وأشد تسامياً، وأرقى درجةً. فالإسلام يرى أن سمو البشر إنما هو في تقدمهم وتفوقهم الأخلاقي وارتفاع رصيد ملكات الخير فيهم، وبقدر ما يكون المجتمع عادلاً يكون أقرب إلى التقدم والرقي والخلود.
وعادة هذا المعنى لا يتحقق في الأجواء الفارهة والثريّة، وإنما تتحقق وتتفجر
ص: 164
ملكات الإنسان في الأجواء المتوسطة أو المسحوقة. ولذلك أكد الدين الإسلامي على حالة التواضع والبساطة في التصرف والعيش، لأن حالة الثراء والكبر والترف تمنع الإنسان من التقدم، بل تقف حائلاً دون رقيّه وتنامي رصيده الروحي. أما حالات التواضع والزهد والبساطة واللين فهي تجعل الإنسان حريصاً على الآخرين، خدوماً للناس، معيناً للضعفاء، مما يرقّق قلبه، ويطهر ضميره، وينظف دواخله. ولذلك جاء في إحدى الروايات عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى(عليه السلام) أن: يا موسى أتدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال: يا رب ولم ذاك؟ قال فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه أن: يا موسى، إني قلّبت عبادي ظهراً لبطن فلم أجد فيهم أحداً أذلّ لي نفساً منك. يا موسى، إنك إذا صلّيت وضعت خدّك على التراب»(1).
بل إننا لو تتبعنا أحوال الأنبياء لرأيناهم جميعاً يمتازون بصفة التواضع والبساطة والاهتمام بالناس وليس الأنبياء فحسب، بل الأولياء والأوصياء. وحتى العلماء المفكرون لو تفحصنا أحوالهم لرأينا آثار الزهد واضحة وطاغية عليهم. فبالزهد وبالابتعاد عن زخارف الدنيا، سوف يكون هناك متسع من الوقت والعمر، للتفكير والعمل والجدّ والإجتهاد والتكامل.
لا يخفى أن العزوف عن الدنيا، أو بالأحرى عن حياة الترف يوفر للإنسان رصيداً عظيماً من الفوائد. ولا بأس بذكر شطر من هذه الفوائد الجليلة:
إن الجري وراء زخارف الدنيا؛ من بيت فاره أو مركب حديث أو ملبس جديد
ص: 165
أو مأكل متنوع، كل ذلك يأخذ وقتاً ليس بالهيّن، وعمراً ليس بالقصير، باعتبار أن هذه الأمور لا تتحقق في يوم وليلة، وباعتبار أن طبيعة الإنسان لا ترضى بواحدة منها بل تظل تطلب أكثر من ذلك، وهكذا حتى ينتهي به العمر ولم يقدم لآخرته شيئاً.
إذن، ترك الركض وراء الحالات المترفة يوفر للإنسان متسعاً من الوقت، فيه يعمل ويفكر ويعبد، وإلّا فإن السعي المستمر اللاعقلائي وراء الثراء وطلب الرفاهية سوف يجعل من الإنسان آلة تحركه المباهج والزخارف والملذات، ويمضي وقت من بين يديه دون أن يشعر إلّا حين الموت. يقول أمير المؤمنين(عليه السلام)، في وصف حال هذا الإنسان: «فإنها - الدنيا - واللّه عمّا قليل تزيل الثاوي(1) الساكن، وتفجيع المترف الآمن... سرورها مشوب بالحزن وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن، فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها»(2). ثم يذكر(عليه السلام) العلاج لهذا المرض، وطريقة التخلص منه، يقول: «رحم اللّه امرءً تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر، فكأن ما هو كان من الدنيا عن قليل لم يكن...»(3).
إذن التفكير السليم في الأجواء التي يحكمها العقل يصل بالإنسان إلى حقيقة هذه الزبارج الدنيوية الزائلة.
ولا يتأتى هذا النوع من التفكير إلّا حين يكون الإنسان في وضع يسمح له بذلك، ولا يكون ذلك أيضاً إلّا عندما يكون الإنسان بعيداً عن حالات الترف والركض وراء الدنيا وزخارفها، لكي لا تأخذ وقتاً وعمراً منه، ولا تشغل حيّزاً من
ص: 166
عقله. أما العيش بصورة معتدلة أو بسيطة وهو المعبر عنه بحياة، فكل ذلك الزهد يجعل من الإنسان خلّاقاً في أفكاره، لأنه أولاً سيجد وقتاً واسعاً للتفكير، وسيجد العناية الإلهية التي تفيض عليه بالتسديد في الأفكار والأعمال، بعكس الإنسان طالب الدنيا ومتعلقاتها.
الفائدة الأولى إذن هي أن الحياة البسيطة تغني الإنسان من ناحية الوقت، ومن خلاله يتصل الإنسان باللّه عزّ وجلّ، أو لا أقل من أن يشغله ذلك بالتفكير المثمر.
إن مجانبة الدنيا وزخارفها المترفة تجعل من الإنسان قريباً من اللّه عزّ وجلّ، وقريباً من الناس، لأن الإنسان الذي يكتفي باليسير من حطام الدنيا، ويقنع بالقليل، سوف يساعده هذا السلوك على الانقطاع للّه عزّ وجلّ، لأن قلبه سوف لا يتعلق بشيء من حاجيات الدنيا، بل يظل الفؤاد والفكر مشغولين بذكر اللّه مما يقربه أكثر فأكثر من ربّه، ويكون وليّاً من أوليائه. لأن الإنسان إنما يبتعد عن طريق الهداية، لأجل تعلق قلبه بالأمور الدنيوية، فتحتل منه أكبر مساحة، فلا يبقى مجال لذكر اللّه وعبادته ثم إن الإنسان البسيط في عيشه غير المتكلف في سلوكه وكلامه وتعاملاته مع الناس يكون قريباً جداً من قلوبهم، لأنه يكون قد حافظ على سلامة فطرته، والناس عادة يميلون إلى هذا النموذج من البشر، لأنه موافق لفطرتهم، ولذلك نرى أن الناس في الأعم الأغلب تلتف حول القائد المتواضع البسيط العيش، البعيد عن الترف والثراء. والتاريخ مليء بالشواهد على ذلك. وأبرزها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة من بعده(عليهم السلام) فقد كانوا قمّة التواضع والبساطة ولذلك التفّ حولهم الناس وأذعنوا لهم، بما فيذلك حتى أعداؤهم.
ص: 167
إذن كلما ابتعد الإنسان عن الترف كان قريباً من اللّه وقريباً من قلوب الناس، لأنه الوحيد الذي يتحسس آلامهم ومعاناتهم، فيضحي من أجلهم، ويدافع عن حقوقهم، بعكس الغني المترف الذي لا تهمه سوى نفسه، لذلك كان بعيداً عن قلوب الناس، ومحارباً حتى من قبل الشريعة.
بالطبع كلامنا يدور حول الغني الجاحد لحقوق اللّه والناس، أما الغني المؤمن المؤدي لحقوق اللّه تعالى وحقوق الناس فكلامنا لا يشمله، وهذا واضح لذوي البصائر.
يمكن القول: إن الذي يقضي حياته بالبساطة بعيداً عن المترفات وحالات الثراء والترف، هو الإنسان الذي يعرف معنى الحرية بصورة تامة، لأنه سوف يتخلص من كل القيود التي من شأنها أن تذله، أو تعيقه عن الحركة، أو التفكير، أو العمل، من قبيل قيود الشهوات النفسانية غير المنقطعة التي تدفع بالانسان نحو المهالك، وتجرّه إلى المطبات وتعكّر صفو العيش عنده، وتسوّد صفحاته النورانية.
وأوضح مثال في هذا المقام هو عمر بن سعد، قاتل الحسين(عليه السلام)، عندما ضغطت عليه رغباته وميوله اللامنتظمة، ففضّل قتل سيد الشهداء إجابة لتلك الرغبات الحقيرة في الحصول على ملك الريّ... فلم يحصل على ملك الري، ولم يكن من أهل الجنة، فاشترى الحريق برغباته التي قيّدته، وقادته نحو النار.
وعلى العكس من ذلك، عندما نلاحظ سيرة الرسول والأئمة(عليهم السلام) أو أصحابهم المنتجبين، أمثال: مالك الأشتر، وأبي ذر، وهشام، وعمّار، ومؤمن الطاق، ورشيد الهجري، الذين خلّدتهم كتب الطائفتين. وعندما نبحث عن السبب نجد أنمقدمتهم الأساسيه والرئيسية هي الرضا بالقليل من الدنيا، ومجانبة الثراء والغنى
ص: 168
والترف، بل كانوا يزهدون في حياتهم ترويضاً لأنفسهم، وتنظيماً لرغباتهم. فكلما تخلّص وتحرر الإنسان من القيود قويت الإرادة والإيمان في المقابل، وازدادت في التقوى رسوخاً. وعن إمامنا الصادق(عليه السلام) قال: «جعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا». ثم قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا».
ثم قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا»(1).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن في طلب الدنيا إضراراً بالآخره، وفي طلب الآخرة إضراراً بالدنيا، فأضروا بالدنيا فإنها أولى بالإضرار»(2). ولكن عادة الجهال وطلاب الدنيا جرت على أن يعكسوا المعادلة، فيضروا بآخرتهم لأجل دنياهم، فهم على طرفي نقيض مع الزهاد والناس العقلاء.
شُريك بن عبد اللّه النخعي كان عالماً تقياً زاهداً، وهو من أبناء العامة في زمن المهدي بن المنصور العباسي. وكانت الناس ملتفة حوله لزهده وعلمه وتقواه. وفي نفس الوقت كان المهدي العباسي يرغب لو أنّ شريكاً يقبل العمل في أحد أجهزة الدولة، ليكسب بواسطته الرأي العام، والتحاق الناس بركب الخليفة. وفي أحد الأيام أرسل خلفه، وقال له: لا بدّ لك أن تقبل هذه الثلاثة: أن تعمل قاضياً للقضاة، أو تربّي وتعلم أولادي، أو تكون مشاوراً لي. فأبى شريك كل ذلك، وفكّر إن هوتعاون مع الخليفة، فسوف يسقط أولاً من رحمة اللّه عزّ وجلّ لما اشتهر عن
ص: 169
الخلفاء العباسيين من الظلم وإراقة الدماء، ويسقط ثانياً من أعين الناس، ويفقد ذلك الإجلال والإكرام. ولذلك فقد رفض كل مطالب المهدي العباسي، إلّا أن الخليفة حاول كسبه بغير هذه الطريقة، فدعاه إلى مائدة طعام، وأمر الخدم بأن يحضروا كل ما لذّ وطاب، وكل ما يلفت النظر، ويدغدغ الشهوة. وفعلاً حضر شريك، وتفاجأ بالأمر، لأنه لم يذق هذه الأطعمة طيلة حياته، ولعله لم ير بعضها. فبدأ شريك يأكل بكل شهية، وانفتح على المائدة، فلما شاهده رئيس الخدم، وهو يأكل بهذه الطريقة، جاء إلى الخليفة وهمس في اُذنه قائلاً: إن شريكاً لم يردّ لك طلباً بعد الساعة. فلم يمض من الوقت كثيراً بعد وجبة الطعام الفاخرة، حتى قال شريك للخليفة: في الحقيقة إني فكرت في اختياركم لي منصب قاضي القضاة فرأيته في محله، لأن القضاة غالباً من يظلمون، ثم إن المظالم كثيرة، فلا بدّ أن يتصدى للأمر رجل عادل وشجاع، وكذلك فكرت في مسألة تربية أولادكم فرأيت الأمر أكثر أهمية، إذ أن تربيتهم على يد العلماء الزّهاد يضمن للأمة مستقبلها، وكذا فكرت في أمر اختياركم لي مشاوراً لكم فرأيت أنه أمر ضروري لأن رسول اللّه قال: «الدين النصيحة»(1)، ومشاورتكم لنا يضمن سلامة السلوك عند الخليفة، وبهذه التبريرات دخل شريك إلى جوف الدنيا، وجذبته زينتها وبروقها، وليس هذا فحسب وإنما صار عوناً من أعوان الظلمة وقيل سبب استجابته لتلك المطالب هو: تأثير لقمة الحرام مضافاً إلى ما ذكر.
ثم إن المهدي العباسي عيّن له ثلاثة رواتب، لكل عمل راتب خاص. وفي أحد الأيام حدثت بين شريك والمتصدي لتوزيع المال مجادلة بسبب تأخره عندفع الرواتب لشريك، فقال له المتصدي للتوزيع: إنك يا شريك لم تبع لنا حنطة
ص: 170
حمراء كي تصرّ وتلحّ علينا بالاسراع. فقال شريك: بل بعث لكم أكبر من ذلك... لقد بعت لكم ديني(1)! وبالفعل فلقد باع كل أيام الزهد والورع حين حضر تلك المائدة، ورضي بالعمل مع الخليفة، مع علمه بالظم، مما يدلل على أن زهادته وورعه وتقواه كلها كانت سطحيّة وقشرية، تميل أينما مالت مصالحه الشخصية. وهذا حال من لا يعرف الدين حق معرفته، فكثير من الناس تفهم الدين طقوساً لا أكثر... فهي لا تفهم أن الدين المعاملة، وأن الدين النصيحة، وأن الدين السلوك المتوازن، وأن الدين الإنسانية. فعبادة شريك كانت طقوساً بلا روح، وشكلاً بلا معنى أو مضمون.
لا يخفى على كل إنسان ما أودعه اللّه عزّ وجلّ في هذه الدنيا من نِعَم - فضلاً عمّا أودعه في ذات الإنسان من نِعَم - وزينة لا تعد ولا تحصى، كما قال هو عزّ وجلّ: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}(2)، من مأكول ومشروب ومركوب وملبوس وثروات هائلة...
فلا يعقل أن اللّه عزّ وجلّ خلق كل هذه النعم في هذه الدنيا، ثم يأمر الناس بالابتعاد عنها، أو أن الإسلام يطلب من المسلم أو من الإنسان أن يبتعد عن زينة الدنيا، فإذا كان ذلك فلمن جعلت هذه الزينة؟ ومن الذي سوف يتمتع بمتع الدنيا؟ وقطعاً إن وجودها ليس عبثاً فكيف يمكن التوفيق في ذلك؟
لا شك أن الدنيا ليست هي الغاية من الخلق، ولا هي المكان الختاميللإنسان، وإنما هي وسيلة وسبب موصل إلى عالم آخر، وهو المكان النهائي
ص: 171
لاستقرار الإنسان، فكانت الجنة التي تمثل كمال الإنسان هي النهاية له، وعلى الإنسان أن يعمل في دنياه وصولاً إلى مقعده النهائي، ولكن المفارقة في الأمر أن الناس نوعان:
النوع الأول: هم أولئك الذين عرفوا حقيقة الدنيا، وكان ظاهرها كباطنها بالنسبة إليهم، فعلموا ما بوسعهم في هذه الدنيا ضماناً لآخرتهم، ولم يخدعهم بريقها، لأنهم علموا أنها دار تبدل وتغير، ولا شيء ثابت فيها، فعزفوا عنها، لأنه عادة الإنسان إنه يحب الأمور المستقرة الثابتة، لا سيما مصالحه. فهؤلاء رأوا أن الآخرة هي المستقر الحقيقي، وأن الدنيا في معرض الزوال والفناء، ففضلوا الصبر على مكاره الدنيا من أجل الآخرة.
النوع الثاني: هم الناس الذين أدركوا حقيقة الدنيا والآخرة، ولكنهم فضلوا النعم الآنية، والمتع الدنيوية على نعيم الآخرة، فتعلّقوا بالمقدمات والأسباب على نحو الدوام. وهذا ناتج من أمرين: إما لجهلهم وغفلتهم وانغماسهم في الماديات، فعموا عن الرؤية الصحيحة والتفكير السليم، أو لأنهم يعلمون أن هذه الدنيا مقدمة وسبب ليس بدائم، وأن نعيمها زائل. ولكن حبهم للمادة وغلبة شهوتهم على عقلهم دعاهم لذلك. فالإسلام يرى أن الدنيا ونعيمها يجب أن يلاحظهما الإنسان من زوايتين:
الأولى: من حق كل إنسان أن يأخذ من هذه الدنيا ما يكفيه ويسدّ حاجته، وما يكمله ويقربه من ربه، من مأكل يتقوّى به على العبادة، والعمل وخدمة الناس، ومن ركب يقضي به حاجته، ومن مسكين يحفظ فيه نفسه.
الثانية: أن هذه النعم وهذه الدنيا كلها بمثابة الوسيلة والفرصة، التي يهددها الفناء، فيجب على الإنسان أن لا ينخدع بها فيتمسك بها، ويتعلق بها على نحوالدوام والتأبيد، لأنه سيفقد آخرته (الجنة) باعتبار أن الحصول على الجنة مرهون
ص: 172
بالعمل الصالح والعبادات والطاعات، وبينما التعلق الدنيوي يحول دون ذلك. يقول مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في صفة الدنيا: أنها «تغرّ وتضرّ وتمرّ، إن اللّه تعالى لم يرضها ثواباً لأوليائه، ولا عقاباً لأعدائه، وإن أهل الدنيا كركب بَيْناهم حلّوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا»(1)
المعروف من سيرة أهل البيت(عليهم السلام) أنهم أعرضوا عن كل ألوان الترف في هذه الدنيا، واختاروا جانب الزهد والبساطة في كل شيء... ولكنهم وضعوا أمراً شديد الأهمية، وهو الفكر الوقاد، فطرحوا الأفكار الإسلامية، بكل جلاء، ولم يتركوا أمراً إلّا قالوه، وتكلموا عنه، مما دعا الناس للالتفات حولهم باعتبارهم المنظّرين لنجاة البشرية جمعاء سلوكاً ونظراً، فوضعوا طرائق النجاة من غوائل هذه الدنيا وزخارفها، ورسموا طريق الوصول إلى اللّه عزّ وجلّ. وعظمة أهل البيت في هذا المجال (مجال انتشال البشرية) تظهر يوماً بعد يوم. ولذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها(2)
عطف الضروس(3) على ولدها». ثم تلا قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَٰرِثِينَ}(4)(5) وهذا واضح من خلال ما ثبت عند الفريقينحول خروج الإمام المهدي(عليه السلام)، من ولد فاطمة(عليها السلام)، وانقياد العالم له، وإقامة الحكومة الإسلامية العالمية. فكلما ابتعد الإنسان عن الدنيا انقادت له، وبالعكس كلما
ص: 173
ركض المرء وراء المترفات الدنيوية ازداد ركضاً دون أن يشبع منها، ودون أن يحقق غايته منها. فأئمتنا(عليهم السلام) كانوا أبعد الناس عن الدنيا ولكن ذلك لم يزدهم إلّا علّواً وشرفاً ومكانة ومجداً. فهذه السيرة العطرة تكشف عن واقعية وحقيقة، لا يمكن لأحد أن يدعي خلافها، بل نحن نرى اليوم من شيوع الاتجاه المادي، المتعلق بكل ألوان المترفات الدنيوية، فكلما ازاد الناس تمسكاً بالدنيا وزخارفها ازدادت مشاكلهم، وقلّت مكانتهم، وهووا إلى الحضيض.
وبالعكس نشاهد المجتمعات المؤمنة، المحافظة على علاقتها مع اللّه، المتزنة في تعاملها مع الدنيا والماديات، كم هي ثرية بعلمها وأخلاقياتها ومكانة أفرادها وتقدم حضارتها... .
«اللّهم إنا نرغب إليك في دولةٍ كريمة. تُعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة» بحقّ محمّد وآله الطاهرين(1).
قال جلّ وعلا: {... لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ}(1).
وقال عزّ اسمه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(2).
وقال جلّ شأنه: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ...}(3).
قال عزّ من قائل: {وَلَدَارُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْاْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(4).
وقال جلّ ثناؤه: {وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(5).
وقال تعالى: {... وَإِنَّ الْأخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}(6).
وقال سبحانه: {وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(7).
بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَٰحُ}(1).
وقال جلّ شأنه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَئًْا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(2).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما تواضع أحد إلّا رفعه اللّه»(3).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن(عليه السلام): «وأوصيك يا بني... والتواضع فإنه من أفضل العبادة»(4).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «التواضع أصل كل خير نفيس ومرتبة رفيعة...»(5).
وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «التواضع نعمة لا يُحسد عليها»(6).
ولم يكرهها»(1).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الزهد مفتاح باب الآخرة، والبراءة من النار، وهو ترك كل شيء يشغلك عن اللّه تعالى، من غير تأسف على فوتها، ولا إعجاب في تركها، ولا انتظار فرج منها، ولا طلب محمدة عليها، ولا غرض لها...»(2).
قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل اللّه الغنى في قلبه وجمع له أمره ولم يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه»(3).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عجبت لمن عرف ربه كيف لا يسعى لدار البقاء»(4).
وقال(عليه السلام): «مَن جعل كل همّه لآخرته ظفر بالمأمول»(5).
وقال(عليه السلام): «من حرص على الآخرة ملك»(6).
قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ومن أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل اللّهالفقر بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولم ينل من الدنيا إلّا ما قسم له»(7).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أما بعد، فاني اُحذركم الدنيا، فانها... غرّارة ضرّارة،
ص: 177
حائلة(1) زائلة، نافِدَة بائدة، أكّالة غَوّالة(2)»(3).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «في مناجاة موسى(عليه السلام): يا موسى إن الدنيا دار عقوبة، عاقبت فيها آدم عند خطيئته وجعلتها ملعونة، ملعون ما فيها إلّا ما كان فيها لي...»(4).
وقال عيسى بن مريم(عليهما السلام): «يا بني آدم اهربوا من الدنيا إلى اللّه... هي الخدّاعة الفجّاعة، المغرور من اغتر بها، المفتون من اطمأنّ إليها، الهالك من أحبها وأرادها...»(5).
ص: 178
ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «رأس كل خطيئة حبّ الدنيا»(1).
بمعنى أن حبّ الدنيا هو مصدر جميع الخطايا والشرور، بما في ذلك جريمة الانتحار التي يقدم عليها أُناس هم أشد وأعظم تعلّقاً بالدنيا من غيرهم، فتراهم يقدمون على الانتحار عندما يعجزون عن تحقيق أحلامهم والحصول على أمانيهم وبهذا فهم لا يختلفون كثيراً من هذه الناحية عن الأشخاص الذين يظلمون الآخرين بدافع حبّ الدنيا وتأمين مصالحهم وملذاتهم الدنيوية. ومهما يكن من أمر، فإن المعاصي برمّتها ترجع أسبابها إلى حبّ الدنيا إلّا ما ندر. وخصال الشرّ مطويّة فيها سواء كانت الدنيا متمثلة في الأموال أو الجاه أو الزوجة أو الأولاد أو ما أشبه ذلك، على أنه ينبغي التذكير بأنه ليس كل حبٍّ للدنيا منبوذاً، بل إن الضارّ هو الذي يكون رأس كل خطيئة وهو المرفوض، أما حبّ الدنيا الخالي عن الضرر فلا إشكال فيه. فلا بأس بحبّ الدنيا بمقدار لا يخرج الإنسان عن جادة الصواب، ويسقطه في المحرمات، كحبّ الزوجة بلا قيد أو شرط. ولا ضرر ولا إشكال في أن يطمح الإنسان إلى الغنى لأجل مساعدة الناس المحتاجين، وهكذا حبّ الجاه الذي يستطيع الإنسان من خلاله خدمة الناس
ص: 179
وتسهيل أمورهم. أي إنه يجعل الدنيا قنطرة يعبر بها إلى الآخرة، وإلى هذا يشير نبي اللّه المسيح(عليه السلام) للحواريين بقوله: «إنما الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها»(1). وعلى أية حال فما هو ذلك الحب الذي يكون رأس كل خطيئة؟ وفي معرض الإجابة نورد أمثلة لبعض أنواع ذلك الحب الممنوع، كمن يطمح إلى السلطة بوسائل غير مشروعة مرتكباً في سبيل الوصول إليها شتى الجرائم والمنكرات أو كمن يريد أن يكون غنياً فيجيز لنفسه اتباع الوسائل الباطلة من غشّ أو احتيال وغير ذلك وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من سلم من أمتي من أربع خصال فله الجنة: من الدخول في الدنيا، واتّباع الهوى، وشهوة البطن، وشهوة الفرج»(2).
ومن الأمور التي بسبّبها يسقط الإنسان في حبّ الدنيا الضار كاتباع الأساليب الملتويه للوصول إلى ما يطمح إليه، أو إشباع شهواته، وارتكاب المحرمات؛ أنه يتصور أن الدنيا باقية لا زوال لها، أو أن الآخرة بعيدة جداً، كما في قوله تعالى: {يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا}(3). والحال أن الدنيا فانية، ومتاعها قليل، والآخرة قريبة، إذ أن الإنسان مهما بلغ به العمر فلا يتجاوز المائة سنة على أبعد التقادير إذ أن معدّل الأعمار في الوقت الحاضر لا يتجاوز الستين أو السبعين سنة، وإن كانت هناك أعمار تتجاوز المائة فهي قليلة، وعلى كل التقادير فإن هذه الدنيا زينة كاذبة لمن عمل لأجلها، وليست دار قرار. وكما جاء في قوله تعالى: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا
ص: 180
الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَٰلِ وَالْأَوْلَٰدِ}(1). وقد جاء في تفسير الآية الكريمة: إن الحياة الدنيا عرض زائل، وسراب باطل، لا يخلو من هذه الخصال الخمس المذكورة؛ اللعب، واللّهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر. وهي التي يتعلق بها هوى النفس الإنسانية أما ببعضها أو بجميعها، وهي أمور وهمية وأعراض زائلة لا تبقى للإنسان، ولا يجني الإنسان كمالاً ولا خيراً من أيّ منها. وعن شيخنا البهائي(رحمه اللّه) أن الخصال الخمس المذكوره في الآية مترتبة بحسب سني عمر الإنسان، ومراحل حياته، فيتولع أولاً باللعب وهو طفل أو مراهق، ثم إذا بلغ واشتد عظمه تعلّق باللّهو والملاهي، ثم إذا بلغ أشدّه اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية وتولّه للحسن والجمال، ثم إذا إكتهل أخذ بالمفاخرة بالأحساب والأنساب، ثم إذا شاب سعى في تكثير المال والولد.
ولذا فإن الحياة الدنيا زائلة بزوال المراحل الخمس، وإن البقاء للآخرة، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}(2). فالأصل أن الحياة الدنيا متعلقة بالآخرة ومرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً؛ إذ إن العمل الصالح والخيّر هو الذي يوصل الإنسان إلى الغاية الحقيقية، وهي الفوز بالآخرة حيث الحياة الواقعية التي هي أرقى وأكمل من حياتنا هذه ولا شك في أن الحياة الأخرى هي أسمى وأرقى وأجل من هذه الحياة الفانية وإن إدراكها بالنسبة لنا كنسبة إدراك هذه الحياة التي نعيشها بالنسبة للأعمى الذي لايبصر شيئاً وهذا هو المراد من قوله عزّ وجلّ في الحديث القدسي: «أعددت
ص: 181
لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر بقلب بشر»(1). نعم الحياة الأخرى شيء لا يمكن تصوره ولا يمكن أن يخطر على قلب بشر، كيفيتها أو مواصفاتها تماماً كحال الإنسان الأعمى لأنها حياة أخرى غير التي نعيشها. جاء عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لو عدلت الدنيا عند اللّه عزّ وجلّ جناح بعوضة لما سقى الكافر منها شربة»(2).
فالدنيا في مقابل الآخرة لا قيمة لها قطعاً، وإنما هي جسر وطريق للوصول إلى الآخرة.
ومن كلام للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول فيه:
«أيها الناس، إنما الدنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا استاركم عند من يعلم أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها اختبرتم، ولغيرها خلقتم»(3).
في رواية عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «دخل على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل، وهو على حصير قد أثّر في جسمه، ووسادة ليف قد أثرّت في خدّه، فجعل يمسح ويقول: مارضي بهذا كسرى ولا قيصر، إنهم ينامون على الحرير والديباج، وأنت على هذا الحصير؟ قال: فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لأنا خير منهما واللّه، لأنا أكرم منهما واللّه؟ ما أنا والدنيا؟ إنما مثل الدنيا كمثل رجل راكب مرّ على شجرة ولها فيء، فاستظل تحتها، فلما أن مال الظل عنها إرتحل فذهب وتركها»(4). كان هذاما قاله النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للرجل وهو توجيه واضح للمسلمين، وبيان لحقيقه الدنيا،
ص: 182
بأنها زائلة بزوال الظل، قياساً بأمر الآخرة، وإلّا فإن الظل بحساب الدنيا لا يتعدى الساعة، أما عمر الإنسان المتوسط في الدنيا بقدر السبعين أو الثمانين من السنوات، ولكن الدنيا بحساب الآخرة مهما عمّرت بها فإنها لا تتعدى أمد الظل، فلذا توجّب على الإنسان أن لا يسمح لحب الدنيا الضار أن يترسخ في نفسه، بل ينتزعه من ذاته انتزاعاً. ففي رواية عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): «يا علي، أربع خصال من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وبُعد الأمل، وحبّ البقاء»(1). ولذا فإن من الأسباب الرئيسية التي أوقعت بعض المسلمين في أوحال الفقر والجهل هي انصرافهم نحو الترف واللّهو وحب الدنيا.
وحبّ الدنيا الفانية جعل بعض الحكّام المسلمين على مرّ التاريخ يستبدون بالحكم، ويظلمون الناس لأجل الحفاظ على مصالحهم وهم يعلمون بذلك. وهذا ما نطقت به شواهد التاريخ:
فقد دخل ابن السماك على (هارون العباسي) يوماً فبينا هو عنده إذ استسقى ماءً، فأتي بقلّة من ماء، فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها، قال له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين... لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب... فلما شربها، قال له: أسألك... لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي، قال ابن السماك: إن ملكاً قيمته شربة ماء لجدير ألّا ينافس فيه(2).
فعلى الإنسان أن يفكر دائماً في التخلص من حب الدنيا والاحتراز عنه، فلا
ص: 183
يريد منها الزينة ولا الأموال، ولا اللذات ولا الجاه ولا المنصب، حتى تحصل في نفسه ملكة الرغبة عن الدنيا، فإن اللّه تعالى لا يحب من يحب الدنيا، ولا يستجيب لدعائه، ولا يقضي حوائجه، ولا يعتني به كما اعتنائه بالمؤمنين ونتيجة ذلك أن يخسر هذا الفرد الدنيا والآخرة لأن خاتمة الجميع أن يذهبوا وتذهب معهم دنياهم أيضاً، وحينئذ يتحسر المفرطون ويندمون، لأنهم فرّطوا بأعمارهم ولم يعملوا صالحاً، حين كان في العمر فسحة وفرصة سانحة.
وفي روايه عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «مرّ عيسى بن مريم(عليه السلام) على قرية، وقد مات أهلها وطيرها ودوابّها، فقال: أما إنهم لم يموتوا إلّا بسخطة، ولو ماتوا متفرقين لتدافنوا، فقال الحواريّون: يا روح اللّه وكلمته، ادع اللّه أن يحييهم لنا فيخبرونا ما كانت أعمالهمن فنجتنبها. فدعا عيسى(عليه السلام) ربه، فنودي من الجو أن نادهم، فقام عيسى(عليه السلام) بالليل على شرف من الأرض، فقال: يا أهل هذه القريه، فأجابة منهم مجيب: لبيك يا روح اللّه وكلمته، فقال: ويحكم! ما كانت أعمالكم؟ قال: عبادة الطاغوت، وحب الدنيا، مع خوف قليل، وأمل بعيد، في غفلة ولهو ولعب، فقال: كيف كان حبكم للدنيا؟ قال: كحب الصبي لأمّه، إذا أقبلت علينا فرحنا وسررنا، وإذا أدبرت عنّا بكينا وحزنّا. قال: كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال: الطاعة لأهل المعاصي. قال: كيف كان عاقبة أمركم؟ قال: بتنا ليلة في عافية، وأصبحنا في الهاوية، فقال: وما الهاوية؟ فقال: سجّين، قال: وما سجّين؟ قال: جبال من جمر توقد علينا إلى يوم القيامة، قال: فما قلتم، وما قيل لكم؟ قال: ردّنا إلى الدنيا فنزهد فيها، قيل لنا: كذبتم، قال: ويحك! كيف لميكلمني غيرك من بينهم؟ قال: يا روح اللّه، إنهم ملجمون بلجام من نار، بأيدي
ص: 184
ملائكه غلاظ شداد، وإني كنت فيهم ولم أكن منهم، فلما نزل العذاب عمّني معهم، فأنا معلق بشعرة على شفير جهنم، لا أدري اُكبكب فيها أم أنجو منها، فالتفت عيسى(عليه السلام) إلى الحواريين، فقال: يا أولياء اللّه، أكل الخبز اليابس بالملح الجريش(1)، والنوم على المزابل خير كثير، مع عافية الدنيا والآخرة»(2).
ولحب الدنيا آثار أخرى، إذ إنه لم يدمّر حياته فقط، بل يُخرّب ويدمّر حياة الآخرين، كالسارق الذي يدمّر حياته، ويؤذي الآخرين بفعله. وفي الدنيا زبارج ومفاتن كثيرة تدعو الإنسان إلى الميل والوقوع في أحضانها وأهوالها، والمعروف بين علماء الحيوان وأصحاب المعرفة، بأن الحيوانات التي تصاد عبر الوسائل الخاصة لذلك، فإنها تعرفها جيداً، فهي تتجنبها حتى لو كان فيها طعام، لأنها تدرك أن نهايتها في ذلك الطعام. وبالرغم من ذلك، فإننا نرى وقوع بعض الحيوانات والطيور في شبكة الصياد، أو الفخ المنصوب لها، وذلك بسبب تغلب شهوتها عليها، فلهذا تقدم على منيتها بنفسها. وهذا الأمر منطبق على حياة أغلب البشر في الدنيا، إذ أنه يعلم أن هذا العمل الذي يقوم به ظلم أو احتكار، أو زنا، وما شابه، ولكن شهوته تغلب عليه فتكون النتيجة هلاكه وخسرانه المبين.
وفي ذكر الدنيا وأحوالها وتقلبها بأهلها قصص وعبر نذكر طُرفاً منها:
فقد قال عبد اللّه بن المعلّم: خرجنا من المدينة حُجّاجاً، فإذا أنا برجل من بنيالعباس بن عبد المطلب قد رفض الدنيا، وأقبل على الآخرة، فجمعتني وإيّاه الطريق،
ص: 185
فآنست به، وقلت له: هل لك أن تعادلني، فإن معي فضلاً من راحلتي، فجزّاني خيراً، وقال: لو أردت هذا لكان سهلاً، ثم أنس إلي، فجعل يحدثني فقال: أنا رجل من ولد العباس، كنت أسكن البصرة، وكنت ذا كبر شديد، ونعمة طائلة، ومال كثير، وبذخ زائد، فأمرت يوماً خادماً لي أن يحشو لي فراشاً من حرير، ومخدّة بورد نثير، ففعل، فإني لنائم، إذا بقُمْعِ وردة قد نسيه الخادم، فقمت إليه فأوجعته ضرباً، ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدّة، فأتاني آتٍ في منامي في صورة فظيعة، فهزّني وقال: أفِق من غشيتك، وانتبه من رقدتك، ثم أنشأ يقول:
يا خِلُّ إنّك إن تَوسَّدْ ليَناً *** وُسِّدت بعد اليوم صُمَّ الجندلِ(1)
فامْهَد لنفسك صالحاً تسعد به *** فلتندمنَّ غداً إذا لم تفعل
فانتبهت مرعوباً؛ وخرجت من ساعتي هارباً إلى ربي، كما تراني، ثم أنشأ يقول:
من كان يعلم أن الموت يدركه *** والقبر مسكنه والبعث يخرجه
وأنه بين جنات مزخرفة *** يوم القيامة أو نار ستنضجه
فكلُ شيء سوى التقوى به سمجُ *** ومن أقام عليه منه أسمجه(2)
ترى الذي اتخذ الدنيا له وطناً *** لم يدر أن المنايا سوف تزعجه(3)
وإننا لم نذكر ما ذكرنا من قصص وأحداث، لنوصي بترك الدنيا الممدوحة، وطلب الحلال، والعمل الصالح في الدنيا، والتمتع بما أحلّه اللّه تعالى على البشرية، كما عمل الأنبياء والأئمة الطاهرون(عليهم السلام). حيث كانوا يقتنون من طيباتهاباعتدال بلا تفريط ولا إفراط، والطيبات من الثمرات والأمتعة وما خلق اللّه تعالى
ص: 186
من زينة ودواب وزبارج... كلها من نعم اللّه تعالى على البشرية، ولكن بشرط الإعتدال أو عدم الوقوع في الحرام، وقد جاء في قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ}(1). وقد جاء في معنى الإسراف «أي لا تجاوزوا الحلال إلى الحرام، قال مجاهد: لو أنفقت مثل أُحد في طاعة اللّه لم تكن مسرفاً، ولو أنفقت درهماً أو مدّاً في معصية اللّه، لكان إسرافاً. وقيل: معناه: لا تخرجوا عن حدِّ الاستواء في زيادة المقدار...»(2).
ثم إن الشيخ الطبرسي(رحمه اللّه) ينقل في مجمع بيانه قصة أو حكاية تعدّ كشاهد على الأمر وننقلها نحن عنه للفائدة: حيث كتب: «أن - هارون العباسي - كان طبيب نصراني حاذق، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان، فقال له علي: قد جمع اللّه الطب كله في نصف آية في كتابه، وهو قوله: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ}(3). وجمع نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الطبّ في قوله: «المعدة بيت الداء، والحميه رأس كل دواء، وأعط كل بدن ما عودّته» فقال الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً»(4).
ولذا فإن الإفراط في الأكل والشرب مثلاً، يسبّب العديد من الأمراض، ومنها السُّمنة، وهو في الواقع مرض يحدّ من إمكانات الفرد ونشاطه بشكل كبير، كمايجعل الجسم مستعداً لقبول أمراض خطيرة اُخرى، كاحتشاء العضلة القلبية وخناق الصدر، والداء السكري، وتصلّب الشرايين، وأيضاً يسبب نخر الأسنان
ص: 187
والحصيات الكلوية والنقرس (داء الملوك).
هذا الأخير يشاهد عند من يتناولون كميات كبيرة من اللحوم، لذا سمّي بداء الملوك...
لو أردنا إحصاء الأمراض التي تنجم عن الشره في الأطعمة لتجاوز السبعين داءً وكذلك الإفراط في الجنس، وغيره من الطيبات والنعم... ، وعلى هذا يكون لكل شيء حد في الاستفادة دون الإفراط أو التفريط. فالتفريط عكس الإفراط، ويعني عدم الاستفادة من الطيبات أو الأطعمة أو النعم التي أحلّها اللّه تعالى، إذ الإنسان مثلاً يحتاج في حياته اليومية إلى أن يأكل مقداراً كحدٍّ أدنى على الأقل من الطعام والشراب، وترك ذلك المقدار يؤدي إلى هلاكه.
«الهي أسكنتنا داراً حفرت لنا حُفر مكرها... إلهي فزهِّدنا فيها. وسلِّمنا منها، بتوفيقك وعصمتك، وانزع عنّا جلابيب مخالفتك... وأذقنا حلاوة عفوك، ولذة مغفرتك، وأقرر أعيننا يوم لقائك برؤيتك، وأخرج حب الدنيا من قلوبنا، كما فعلت بالصالحين من صفوتك، والأبرار من خاصّتك، برحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين»(1).
قال سبحانه: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِنفَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}(2).
وقال تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ
ص: 188
وَكَانَ الْإِنسَٰنُ قَتُورًا}(1).
وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(2).
وقال جلّ وعلا: {مَّنَّاعٖ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلِّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٖ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ}(3).
قال عزّ اسمه: {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُم}(4).
وقال جلّ شأنه: {وَقَالَ الشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}(5).
وقال سبحانه: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا}(6).
وقال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(7).
قال عزّ من قائل: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَالْبَٰقِيَٰتُ الصَّٰلِحَٰتُ خَيْرٌ عِندَ
ص: 189
رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}(1).
وقال عزّ وجلّ: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}(2).
وقال جلّ وعلا: {شَغَلَتْنَا أَمْوَٰلُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا}(3).
وقال عزّ اسمه: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}(4).
قال جلّ شأنه: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَءَاثَرَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}(5).
وقال سبحانه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ}(6).
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنِ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَٰغِينَ}(7).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أعجبُ لمن يبخل بالدنيا وهي مقبلة عليه، أو يبخل عليها وهي مدبرة عنه، فلا الإنفاق مع الاقبال يضرّه، ولا الامساك مع الإدبار ينفعه»(1).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القز، كلما ازدادت من القز على نفسها لفاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً»(2).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه»(3).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «سبب صلاح النفس العزوف عن الدنيا»(4).
وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «ابن آدم إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك وما كانت المحاسبة لها من همك وما كان الخوف لك شعاراً»(5).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم»(6).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذله»(1).
وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس»(2).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا البغي والعقوق»(3).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من جارَ في سلطانه وأكثَرَ عداوته هدم اللّه بنيانه وهدّ اركانه»(4).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن أسرع الشرّ عقوبة البغي»(5).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم»(6).
ص: 192
كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: «طوبى لِمَن أخْلَص للّه العِبادة والدُعاء، ولَم يشغل قلبه بما ترى عَيناه، ولم يَنْس ذكر اللّه بما تَسمع اُذناه، ولَم يَحزن صَدره بِما أُعطي غيره»(1).
لا ريب في أن الإخلاص قوام كل عملٍ ورافده. وهو غير منحصر قطعاً في الأمور العباديّة أو الخيريّة، لأن الإخلاص يعني التفاني وعدم التواني في سبيل الوصول إلى الهدف المقصود، ويعني استنفاد كامل الوسع والجهد من أجل تحقيق العمل المنشود، إنْ من ناحية الكمّ أو من ناحية الكيف. فيكون العمل بالنسبة لصاحب الإخلاص بمثابة الهواء الذي يستنشقه بلا حاجة إلى رقيب، أو كمثل رأس المال له الذي يتعهده ويحرسه دون كلل أو ملل. وبذلك تنتج الجهود، وتؤتي الثمار أُكُلها كل حين بإذن ربّها.
وبذلك ندرك أن الإخلاص ليس أمراً مطلوباً في الأمور العبادية فحسب، وإنما هو قوام كل عمل وراعيه وحارسه. وبعكس ذلك كله العمل الذي يفتقد الإخلاص.
كل ذلك واضح ومعلوم لا نقاش فيه. ولكن ماذا لو سئلنا عن حقيقة ذلك
ص: 193
الإخلاص الذي يحدو بالمرء إلى مواصلة السير نحو الهدف؟ وكيف نوجده في أنفسنا؟
فالإخلاص(1).
هو التوجه إلى اللّه عزّ وجلّ، والانصياع والتسليم لأوامره ونواهيه، وتذويب الهوى والشهوات، وتفعيل حبّ اللّه في السلوك العملي مع الناس، ومع الأعمال الشخصية أيضاً. فالمخلص ذلك الذي يكون نظره وهدفه هو اللّه عزّ وجلّ، ويقرن كل أعماله وكلامه وسلوكه مع ذلك الهدف المقدس الشريف. وبما أن هدفه غير متناهٍ في الشرف والقداسة والكمال، فهو يستمد الاستقامة في السلوك، والصدق في الكلام، والإتقان في العمل من ذلك المثل الأعلى والهدف السامي... فالمخلص هو الإنسان الذي تتجلى فيه كل معاني الإنسانية والحب والخير، ويكون مظهراً تتجسد فيه معاني الاستقامة والاعتدال والعدالة و... وهو لا يعرف الازدواجية في العمل أو الكلام، ولا الانحراف والتنازل عن المبادئ والأهداف، فهو يعمل العمل ويتقنه، ويكمله لالأجل شيء وإنما لأجل اللّه. فحب اللّه ملأ قلبه ونوّر باطنه، فترى كلامه وسلوكه وكل حياته وكل ما يصدر منه باطنه كظاهره، لا يطلب من وراء سلوكه المستقيم وكلامه الصادق إلّا رضا اللّه عزّ وجلّ. فطالب العلوم الدينية - مثلاً - لو كان هدفه من التعليم الحصول على مال أو زوجة توافق مزاجه، أو أنه يقصد من طلب العلم الوصول إلى المنصب - الكرسي - ، فيتظاهر بطلب العلم لأجل ذلك، فمثل هؤلاء الناس هدفهم من الدرس هو المال والزوجة والمنصب وليس العلم، فهم يدرسون لكي يصلوا إلى أهدافهم الدنيوية. وعندما يصلون إليها يتركون العلم والدرس وصاحب هذا السلوك بعيد من اللّه بعيد من الناس.
ص: 194
ثمة طرق تساعد الإنسان على التحلّي بصفة الإخلاص، ونحن نذكر منها طريقين:
الأول: السير إلى اللّه عزّ وجلّ بشكل مستمر ومنظم، وبلا توتر وانقطاع. فالعبد يجب عليه أن يحثّ الخطى إلى ربّه، ويكدح في هذا الطريق، وينشئ عدة أبواب يلتقي من خلالها مع ربه، مثل باب الدعاء، وباب الذكر، وباب الاستغفار، وباب الإنفاق. وهكذا حتى يَهِبَ له ربّه كمال الانقطاع والتوجه إليه سبحانه وتعالى. فإن هذا التوجه الموسوم بالعبادة، الذي يتم في خلوات، وفي حالات منفردة بين العبد وربّه، يضفي على الإنسان إحساساً فريداً من نوعه وهو الإخلاص والصدق، لأنّ أكثر الحالات العبادية يفعلها العبد بمعزل عن الناس، دون أن يشعر به أحد. فلو أراد أن يترك العبادة في الخلوات لاستطاع، ولكنه يأتي بها ويتعب نفسه طلباً لرضا اللّه عزّ وجلّ وحبّه. فهذه الطريقة التي نسميها الإخلاص في العبادة سوف تنعكس أشعتها النورانية على كل حركات وسكنات الإنسان في المجتمع، فترى كل أعماله فيها هذه الصفة، وهي الإخلاص في تأدية الأعمال والأقوال. قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1). فهذه الهداية هداية إرشاد ودليل وعناية وتسديد وتأييد للعبد المؤمن، الذي يجاهد شهواته ورغباته، ويجاهد أعداء اللّه أيضاً، من أجل المحافظة على علاقته الطاهرة مع ربّه العزيز، ومن أجل تطوير هذه العلاقة المقدسة الشريفة، والارتقاء في سلّم الكمال الإنساني. ومما يُحكى أنه قيل لأويس القرني: إنك تُجهد نفسك في العبادة. فكان يقول في بعض الليالي: الليلة ليلة الركوع، فيظل راكعاً حتى
ص: 195
الفجر،ويقول في ليلة أخرى: الليلة ليلة السجود فيظل ساجداً إلى الفجر، فقيل له: لِمَ تؤذي نفسك؟ قال: وددت أن تكون الدنيا من الأزل إلى الأبد ليلة واحدة فأمضيها بسجدة(1).
وهكذا كان أُويس يتعبد ويرى كمال إنسانيته في ذلك، حتى حصل على أعظم الأوسمة عن الرسول وعن أمير المؤمنين(عليهما السلام). فقد قال عنه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تفوح روائح الجنة من قِبَل قَرَن(2)، واشوقاه إليك يا أويس القرني، ألّا ومن لقيه فليقرأه منّي السلام»(3).
الطريق الثاني: هو الإلتزام عملياً بالمبادئ، ولو كانت صغيرة في نظر الإنسان، لأن المبدأ هو الذي يحرّك الإنسان ويدفعه نحو التضحية، وتحمّل الخسائر والمتاعب. وهذا الأمر يجعل المرء أكثر تفاعلاً وانسجاماً مع أهدافه ومبادئه، مما يجعله مخلصاً لها ومعها. وكلما كانت المبادئ مقدسة وكبيرة وجليلة انعكس ذلك على مستوى إخلاصه في سلوكه، وصولاً إلى أهدافه، وتحقيقاً للصيغة العملية لمبادئه.
هذا الأمر يجعل الإنسان مخلصاً في كل أعماله وسلوكه مع الناس ومع نفسه، حفاظاً على قدسية المبدأ وشرافة الهدف. والعكس هو الصحيح إذ كلما تنازل الإنسان عن مبادئه، أو استهان واستخف بها فَقَدَ حلقات الإخلاص، إلى أن يتجرّد منه تماماً، فيعيش حياة الازدواجية. والتنازلات عن الحق والأهداف، وهي حياة سلبية فاقدة لكل معاني الإنسانية، لأن الإنسان لو جُرِّد من أهدافه ومبادئه، لا يكون له أي ثقل بين الناس، ويتحول إلى إنسان تابع للغير، فاقد للإرادة والفعالية. إذن فالالتزام بالمبادئ يضفي إخلاصاً مستمراً للإنسان.
ص: 196
أرأيت كيف يذوب فصّ الملح في الماء؟ فهكذا تذوب الملكات والصفات الإنسانية وصفة الإخلاص، أساس وركن قويّ يعتمد عليه الإنسان في نجاحه في الحياة، من خلاله يكون له وقع ومقام خاصّ في قلوب الناس، فينسجمون ويتفاعلون أكثر مع صاحب الإخلاص، لأنهم يأمنون غائلته وشرّه. ولأنه لا يتوافق الإخلاص مع الشر، لذلك ترى الناس تحب وتميل نحو الإنسان المخلص.
ونحن إلى هنا قد علمنا كيف نسعى لنكون مخلصين، ولكن حتى هذه الصفة الرائعة تذوب أحياناً، وتنعدم ولا تكاد ترى لها أثرأ في الإنسان. وأسباب ذوبانها وانصهارها كثيرة، ولكنّا نشير إلى أهمها وأعظمها أثراً، ألّا وهي مسألة الركون إلى الظالمين. فلنتأمل بدقة حركة ذوبان الإخلاص تحت هذا المؤثر.
إن واحدة من فوائد العبادة هي تقوية الإرادة الإنسانية والعزم البشري، فعندما يصل المرء إلى درجة اليقين بأنه لا مؤثر في الوجود سوى اللّه، فإنه سوف يرتبط ويربط نفسه وأموره باللّه، وفي المقابل فاللّه عزّ وجلّ أراد للمؤمن أن يعيش حرّاً لا ذليلاً ولا مقيّد الإرادة، بل يعيش أجواء الإنسان الإلهي المؤمن الذي يكون هدفه ومثله الأعلى في الوجود هو اللّه عزّ وجلّ. وهذا الأمر يعكس قوة في الإرادة، وبالتالي إخلاصاً منقطع النظير. لأنه لا يحتاج إلى التلوّن والازدواجية أو الخضوع والخنوع لأحد، لأنه يعيش الغنى الروحي بعبادته الواعية للّه عزّ وجلّ. ولكن بمجرداً أن يعيش الإنسان أجواء الضغط والكبت والخنوع للغير، فإن إرادته القويّة تبدأ تضعف إلى أن يتحول إلى إنسان تابع، لا يملك لنفسه قراراً ومكانة، بل يكون وجوده معلقاً بالغير، بحيث لا يعرف للاستقلال معنىً. وهكذا تكون بداية ظهور الظلمة على السطح الاجتماعي، لأنهم يجدون من يخاف منهم، أو يساعدهم، أو يكتم عليهم انحرافهم، أو يتملق لهم لأجل غرض، وهكذا ينعدم
ص: 197
الإخلاص ويذوب مع ذوبان الإرادة، واضمحلال العبادة الحقة، والتوجه الصادق للّه عزّ وجلّ. إن مسألة الركون أو المساعدة للظالمين من أخطر المسائل على الصعيد الشخصي والاجتماعي، لأنها تخلق الطواغيت والدكتاتوريين، الذين يشيعون الفساد في الأرض.
وقد ذكروا أن شخصاً إلتقى بأحد الأكابر وكان يعمل خيّاطاً لأحد خلفاء الجور الظلمة، فسأل في ما إذا كان عمله هذا حراماً أم لا؟ وكذلك مكسبه ومكسب عياله من هذا العمل؟ فقال له: إن بائع الخيوط والإبر في السوق الذي يبيع للظالم، إنما هو واحد من الظلمة، فكيف بك أنت. فأنت من باب أولى تكون عوناً لهم بل وظالماً.
إن للمخلصين مقامات نورانيّة عالية في يوم القيامة، ولو تأملّنا في الرواية التي صدّرنا بها حديثنا لرأينا شيئاً من ذلك فأمير المؤمنين(عليه السلام) يقول في حديثه: «طوبى لِمَن أخلص للّه العبادة والدعاء...»(1).
وهو طريق تحصيل الإخلاص.
وأحد المعاني لطوبى أنها شجرة في الجنة(2). فكأنما يقول: إن الجنة للمخلص. والقرآن الكريم أيضاً يشير إلى هذا المعنى حيث يقول تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(3). والقلب السليم هو القلب المخلص الذي لا يعرف إلّا اللّه. والإمام الصادق(عليه السلام) عندما يوضح ويفسِّر هذه الآية يقول: «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه...»(4). ولا يتصور
ص: 198
أن النتائج فقط في الآخرة، بل في الدنيا أيضاً هناك مقامات خالدة للمخلصين.
فيُحكى أنه كان شخص يُدعى (بوريا ولي). وكان مصارعاً بطلاً لا يقوى عليه أحد، وذات مرّة، تقرر أن تجري مسابقة بينه وبين مصارع آخر من دولة أخرى. وقد كان الأخير مقرّباً من رئيس تلك الدولة، بحيث كان يجري له من وراء ذلك رزق يعيل به نفسه وأمّه وباقي أهله، فلما وصل بوريا ولي إلى بلد المصارع، صادف أن ذات ليلة جلس في مقهى قريب، وإذا به يفاجأ بامرأة عجوز تحمل قدراً، فأخذت تدور على الجلساء وتغرف لهم منه الحساء، ثم لا تريد من وراء ذلك أجراً سوى الدعاء لولدها. جاء دوره، فغرفت له حصته دون أن تعرفه، ثم سألته الدعاء لولدها بالفوز. سألها عن الأمر. فقالت: إن لي ابناً يعمل عند رئيس الدولة وهو مقرّب عنده. وفي هذه الأيام سوف ينازل بطلاً معروفاً، فأخشى أن لا يحالف ولدي النصر، فينقطع بذلك رزق مجموعة كبيرة من العوائل، فصممت أن أقوم بما أنت تراه الآن لوجه اللّه، عسى أن يفوز ولدي في المسابقة. فلما سمع بوريا ولي ذلك تأثّر كثيراً لأنه سيكون سبباً في حرمان جمع من العوائل من العيش والرزق. عندها فكّر في نفسه وقال: إن كل النزالات السابقة، كانت من أجل الشهرة والأوسمة والجوائز، ولكن ماذا يحدث لو سمحت لهذا المضارع بأن يفوز عليَّ هذا اليوم فيحفظ بذلك رزقه وماء وجهه، ويكون عملي خالصاً للّه عزّ وجلّ، وأترك الشهرة ولو لمرة واحدة. وهكذا ظل بوريا ولي طوال الليل يفكّر بهذا الموضوع، وهو بنفس الوقت موقف صعب على سمعته وشهرته، ولعله يضرّ بمستقبله الرياضيّ، ولكنه صمَّم على الإخلاص للّه، وأن يكون عمله هذا من أجل اللّه عزّ وجلّ. وفعلاً فقد جعل منافسه يفوز عليه بطريقة ذكيّة، وفي اللحظة التي كان كتفه على الأرض نظر إلى الأعلى، وإذا به يرى ملكوت السماوات والقصور والجنان، لقد رأى كل ذلك عندما تغلب على هواه، وأخلص النيّة
ص: 199
والعمل للّه فقط. ثم لم يعمّر بوريا ولي بعد تلك المصارعة طويلاً، إذ ما لبث أن أصيب بوعكة صحيّة في جسده توفي على إثرها في نفس المدينة الغريبة، ودفن هناك. لقد دُفن بوريا ولي لكن حقيقته أبت إلّا أن تظهر للناس، فَعَظُمَ مقامه في قلوبهم وكبر في عيونهم، ولهذا أخذوا يقصدون قبره للتبرك وطلب الحاجة.
وإذا كان بوريا ولي مثالاً، فإن أمثاله كثيرون متناثرون بين أرجاء المعمورة، أبى اللّه إلّا أن يعطيهم المقامات العالية في الدنيا، قبل أن يجزيهم في الآخرة الجزاء الأوفى.
وحُكيَ في قصة أخرى بأن وصال الشيرازي أحد الشعراء البارعين والجيدين جداً، له ديوان شعري جميل ومتين من حيث المعنى والوزن والمحتوى الفكري، وكانت من عادة الشعراء الشيعة المخلصين أنهم إذا كتبوا قصيدة جديدة يأتون إلى مراقد الأئمة المعصومين(عليهم السلام) ويقفون أمام الضريح أو القبر فيقرؤنها، فإما يقف الشاعر أمام ضريح الإمام الحسين(عليهم السلام) أو أمام ضريح الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو الإمام علي(عليه السلام) وهكذا بالنسبة للأئمة المعصومين الآخرين، فيقرؤن القصائد التي كتبوها في حقهم، وذلك لأنه كما قلنا بأن الأئمة(عليهم السلام) كما أنهم كانوا يسمعون ويجيبون في حياتهم الدنيا فهم أيضاً يسمعون ويجيبون بعد رحليهم من هذه الدنيا، فعندما يقرأ الشاعر قصيدته يطلب من الإمام(عليه السلام) الجائزة، والأئمة(عليهم السلام) كانوا يعطونهم الجائزة، ولا شك أن الإمام(عليه السلام) لا يخرج له من القبر جائزة بصورة مباشرة ويعطيها للشاعر، ولكن عندما يقف الشاعر قليلاً بعد انتهائه من القصيدة، يأتي إليه أحد الأشخاص الصالحين فيعطيه مبلغاً بعد ما يستحسن منه القصيدة التي ألقاها، وذلك بعد أن ألقى اللّه عزّ وجلِّ ذلك في قلبه، ففي أحد الأيام وقف الشاعر وصال الشيرازي أمام ضريح الإمام علي(عليه السلام) وقرأ قصيدة رائعة من قصائده في مدح الرسول(عليه السلام) والأئمة المعصومين(عليهم السلام)، فلما قرأ
ص: 200
القصيدة وأكملها وهو أمام مرقد الإمام علي(عليه السلام) وانتهى منها، انتظر من الإمام(عليه السلام) جائزة، ولكنه لم يحصل على شيء، فجاء في اليوم الثاني والثالث فلما أكمل من القراءة في اليوم الثالث، جاء أحد الأعراب(1)
الأُميين ووقف أمام مرقد الإمام علي(عليه السلام) وقرأ هذا البيت الشعري:
أصنع لك شمعة يا أمير المؤمنين *** بحجم منارتك يا أمير المؤمنين(2)
في تلك الأثناء سقط أحد القناديل الذهبية التي كانت معلّقة فوق الضريح، سقط في حضن هذا الأعرابي بعد أن إنفتحت عقدته، فجاء الخدمة مسرعين ليأخذوا القنديل من الأعرابي لكي يعلقوه في مكانه مرة أخرى، ولكن الأعرابي قال لا أعطيكم القنديل إنه جائزة لي من الإمام علي(عليه السلام) لأني قرأت شعراً في مدحه، ولكن الخدم أخذوا القنديل وعلّقوه في مكانه، وقرأ الأعرابي شعره مرة أخرى فسقط القنديل مرة أخرى فأخذوه وعلّقوه، وسقط مرة ثالثة في حظن الأعرابي بعد أن أعاد شعره أيضاً، فلما نظر الشاعر وصال الشيرازي إلى الأمر الذي يجري أمام عينيه تأثّر كثيراً فتوجّه إلى مرقد الإمام علي(عليه السلام) قائلاً له: يا أمير المؤمنين كلكم خير ورحمة وكمال وأنت في قمة الفصاحة والأدب ولكن لماذا لم تُميز بين قصيدتي التي قرأتها في مدحك وبين قصيدة هذا الأعرابي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، ثم خرج من عند الإمام، في تلك الليلة رأى في منامه الإمام علي(عليه السلام) قائلاً له: أنا عندي ذوق شعري، ولكن الفرق بين شعرك وبين شعر ذلك الأعرابي الأمي هو أن ذلكالأعرابي كان يملك الاخلاص الكبير في شعره، وشعرك كان جميلاً جداً ولكنك كتبته لكي يقول الناس لك أحسنت أحسنت.
ص: 201
إن سورة التوحيد التي تعدّ من عظائم السور القرآنية، والتي تعدل ثلث القرآن الكريم - كما في الروايات(1) - اسمها الآخر هو سورة الإخلاص. وإن أجواء السورة كلها تحكي عن عقيدة مهمة في حياة الإنسان، وهي توحيد اللّه عزّ وجلّ، وإعلان أحديّته ووحدانيته، ونفي الشريك والمثيل والأب والإبن وكل ما يصدق عليه ثانٍ عنه تعالى. فالسورة تدعو الإنسان نحو التوحيد على مستوى العقيدة والعبادة لينعكس أثر ذلك الاعتقاد على السلوك العملي من خلال تحرك الإنسان واحتكاكه مع الناس، ولذلك قال تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ}(2). لأن الصمد هو المقصود في جميع الأشياء والحوائج، فكل ما صدق عليه شيء فهو بحاجة إلى اللّه عزّ وجلّ باعتباره الخالق الرازق المدبّر. وقد قيل: إن دخول الألف واللام على (صمد) تفيد الحصر أي: حصر التوجه والانقطاع إلى اللّه فقط لا غير، بل إن آيات السورة تنفي أدنى تصوّر يخطر في ذهن الإنسان؛ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}(3). وواضح أنه نفي تام لكل معاني التجزئة والاشتقاق والتولّد، لأنها جميعاً تعني الاحتياج، فالجزء يحتاج إلى جزء آخر والاشتقاق يحتاج إلى الأصل، والتولد يحتاج إلى السبب الأب أم الأم. وقد نفت الآيات كل هذه المعاني، وطلبت من الإنسان أن يفهم ذلك، وينقطع إلى اللّه بتوحيد واعٍ ينسجم مع الآيات القرآنية.ولذلك سميت السورة أيضاً بسورة النسب(4). فقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «إن اليهود سألوا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: أنسب لنا ربّك، فمكث ثلاثاً لايجيبهم،
ص: 202
ثم نزلت السورة (الإخلاص)»(1). وهكذا فالمتأمل في أجواء سورة الإخلاص يستفيد أموراً منها:
1- الانقطاع للّه فقط.
2- استلهام الإخلاص من عالم التوحيد الذي تحكيه السورة.
3- الفهم التام لمعنى التوحيد.
لذا تكون أهداف الإنسان وغاياته في كل عملٍ صغيراً أو كبيراً على درجة من الخطورة والأهمية. إذ قد يجهد الإنسان نفسه ويرهقها في عملٍ ما دون هدف أو غايه نبيلة، فيجني المال، أو رضا رئيسه، أو تحصيل الجاه والمنصب، أو ما شابه، ولكنها من الأمور والاعتبارات الزائلة، ولا حظّ لها من البقاء... وقد ينتبه الإنسان لحظة واحدة إلى تصرفاته وأعماله فينتحي بها إلى طريق البقاء والأزل، حتى مع صغر العمل وسهولته، لينال من ذلك رضا للّه تعالى والقرب منه، فهو أفضل مطلوب ومرغوب، وفي ذلك صلاح الدنيا والآخرة معاً.
أما في الدنيا فهو نيل المقامات الشريفة والعالية، كما هو واضح من شموخ مقامات الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، والصالحين من العباد، على اختلاف قصصهم ونوادرهم، فضلاً عن الفوز الأخروي...
أما العكس من ذلك ففيه خسارة الدنيا والآخرة أيضاً، فكم من عاملٍ لأجل المال والمنصب والجاه قد لفظه التاريخ، ورمى به إلى منازل الملعونينوالمنبوذين، إن لم يجعلهم في خانة النسيان. إذ لا مقام ولا علوّ. وكما خسروا الدنيا فإنهم خسروا الآخرة... والأدهى من ذلك أن الإنسان الذي يخلص العمل لأجل منصب أو جاه في سبيل خدمة الظالم، لا يأمن على حياته بعد أن يعيش
ص: 203
لحظات يسيرة من الترف الواهي تحت خدمة أسياده، وبمجرد انتهاء دوره يجد طريقه إلى الموت، وخلاصه على يد الظالم نفسه. لذلك ورد في الحديث الشريف، عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): «ما انتصر اللّه من ظالم إلّا بظالم، وذلك قوله عزّ وجلّ: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا}(1)»(2).
بالإضافة إلى سخط الناس وابتعادهم عن المخلص لدين الظالم، ولذا على العاملين في سبيل هداية الناس الإشارة إلى تلك المعاني، وتوضيح أبعادها، لأجل النجاة قبل فوات الأوان.
عن علي بن أبي حمزة قال:
كان لي صديق من كُتّاب بني اُمية، فقال لي: استأذن لي على أبي عبد اللّه (الصادق)، فاستأذنت له عليه فأذن له، فلما أن دخل سلَّم وجلس ثم قال: جُعلت فداك، إني كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً، وأغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد اللّه: «لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم، ويجبي لهم الفيء(3)، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم»، فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟
قال(عليه السلام): «ان قلت لك تفعل؟» قال: أفعل.
قال له: «فاخرج من جميع ما اكتسبت في دواوينهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدّقت به، وأنا أضمن لك على اللّه عزّ وجلّ الجنة»،
ص: 204
قال: فأطرق الفتى رأسه طويلاً، ثم قال: قد فعلت جعلت فداك.
قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه، قال: فقسمت له قسمة، واشتريناله ثياباً، وبعثنا له بنفقة، قال: فما أتى عليه إلّا أشهر قلائل حتى مرض فكنّا نعوده، قال: فدخلت عليه يوماً وهو في السَّوْق(1)، ففتح عينيه ثم قال: يا عليّ وفي لي واللّه صاحبك.
قال: ثم مات، فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام)، فلمّا نظر إليّ قال: «يا علي وفينا واللّه لصاحبك»، قال: فقلت: صدقت جُعلت فداك، هكذا واللّه قال لي عند موته(2).
فلم يبق للإنسان طريق للنجاة والحصول على المقامات العالية، سوى الوقوف أمام الذات ومحاسبتها، والخروج من أدناس الدنيا، عروجاً نحو الخالق تعالى والقرب منه...
«اللّهم صلّ على محمّد وآله، وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال، اللّهم وفِّر بلطفك نيّتي، وصحّح بما عندك يقيني»(3).
ص: 205
قال سبحانه: {فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ}(1).
وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ}(2).
وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ}(3).
قال جلّ وعلا: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(4).
وقال عزّ من قائل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(5).
وقال جلّ شأنه: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا}(6).
وقال عزّ اسمه: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(7).
قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا۠ فَاعْبُدُونِ}(8).وقال تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَٰحِدُ الْقَهَّارُ}(9).
وقال عزّ وجلّ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ}(10).
ص: 206
وقال جلّ وعلا: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(1).
قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «واعلموا أنه ما من طاعة اللّه شيء إلّا يأتي في شهوة فرحم اللّه رجلاً نزع عن شهوته. وقمع هوى نفسه»(2).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كيف يستطيع الإخلاص من يَغلِبُهُ الهوى!»(3).
وكان الإمام زين العابدين(عليه السلام) يقول في إحدى مناجاته: «اللّهم... وأخلص سريرتي عن علائق الأهواء»(4).
وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) لهشام: «فإن كثير الصواب في مخالفة هواك»(5).
قال النبي الأطهر(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نيّة المؤمن خيرٌ من عمله ونيّة الكافر شرٌ من عمله، وكل عامل يعمل على نيَّته»(6).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا شيء أفضل من إخلاص عملٍ في صدق نيّةٍ»(7).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إذا علم اللّه تعالى حسن نيّة من أحد اكتنفه بالعصمة»(8).
ص: 207
وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) لهشام: «وكما لا يقوم الجسد إلّا بالنفس الحية، فكذلك لا يقوم الدين إلّا بالنيّة الصادقة: ولا تثبت النية الصادقة إلّا بالعقل»(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «التوحيد نصف الدين»(2).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وكمالُ التصديق به (باللّه) توحيدُهُ، وكمالُ توحيده الإخلاصُ له...»(3).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من قال له إله إلّا اللّه مخلصاً دخل الجنة وإخلاصُهُ أن تحجزه لا إله إلّا اللّه عمّا حرَّم اللّه عزّ وجلّ»(4).
وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أتاني جبرئيل بين الصفا والمروة، فقال: يا محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) طوبى لمن قال من اُمتك: لا إله إلّا اللّه وحده مخلصاً»(5).
ص: 208
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليكم بالعفو فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عِزّاً، فتعافوا يعزّكم اللّه»(1).
من المعلوم أن ملكات الخير تضفي على الإنسان كمالاً روحياً، ثم ينعكس هذا الكمال من الروح على كيان الإنسان ومظهره الخارجي، فنرى إتزاناً عظيماً في الشخصية، وعدالة خالصة في السلوك، وبياناً وحكمة في المنطق، ورأفة ورحمة في التعامل. وهذا هو هدف الإسلام وهدف كل الرسالات السماوية، أي: خلق وصناعة الإنسان بالصياغة والأسلوب الذي يؤدي إلى رقيّه وكماله وتقدمه.
ولهذا نرى التركيز على كل مفردة من مفردات الكمال.
ومن هذه المفردات: العفو، لا سيما العفو عند المقدرة. بل نرى أن اللّه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه صفة العفو، وأنه سبحانه يحب كل من تحلى بهذه الصفة، لأنه سوف يلتقي مع اللّه عزّ وجلّ بواسطة هذه الكمالات، وسيكون اتصاله وعلاقته مع اللّه من أشرف العلاقات وأكثرها روحانية. لذلك نرى التركيز من القرآن الكريم على هذه الصفة؛ قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
ص: 209
إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(1). وقال تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}(2). وقال: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(3). ومن هذا يتبين لنا أن صفة العفو من مهمات مكارم الأخلاق، ومن النقاط الأساسية في الشخصية المؤمنة، بل من الجوانب المشرقة التي يحبّها اللّه عزّ وجلّ، ويدعو لها، وكذلك جاء أنبياء اللّه ورسله كلهم متحلين بهذه الصفة. ولعلها من أبرز أخلاقهم، وبواسطتها استقطبوا الناس حولهم، ووجهوهم نحو العبودية الخالصة للّه عزّ وجلّ. وقصة عفو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، عن أهالى مكة بعد الفتح، كالنار على العلم، وكالشمس في رابعة النهار، بعد أن ارتسم الموت في مخيّلة كل واحد من القرشيين. إذ اعتقدوا أن الرسول سوف يقتلهم، ولكنهم فوجئوا بعفو النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهم، مع ما لاقاه منهم من حرب ومشاغبة ومحاولات عديدة لقتله وتعذيب أصحابه... ولكن في الوقت نفسه كان عفوه عنهم بمثابة التبليغ للدين الإسلامي، بل إن صدى العفو بقي حتى في أجيال الذين عفا الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهم، فكانوا يسمون ب- (أولاد الطلقاء)(4).
هناك مراتب للعفو والمغفرة تعدّدت بسبب اختلاف وتعدد مراتب الذنب والجرم. إذ كلما اختلف وتعدد الأخير اختلفت مراتب العفو بمقتضاه. فالمتبادر إلى أذهان الناس أن الذنوب نوعان:
ص: 210
الأول: هو مخالفة الأحكام الشرعية وعدم تطبيق ما أمر اللّه به.
والثاني: هو التعدي على حقوق الناس سلباً ونهباً وغصباً.
وهذه الحقوق حقوق مادية أو فكرية أو اعتبارية، كالغيبة التي تسقط اعتبار الإنسان في الوسط الإجتماعي، فيعد ذلك ذنباً عرفاً وتعدياً إلى جانب حرمته. ولكن بنفس الوقت هناك تفاوت في كل مرتبة من هذه الذنوب؛ فمن سرق حبة الحنطة غير الذي سرق الملايين، ومن سلب قميصاً من أحد غير الذي سلبه ملكه كله. ومن أخلّ بالصوم أو ارتكب كبيرة غير الذي ارتكب الكبائر، وترك جميع الواجبات، وأتى بجميع المفاسد، وأراق الدماء، وهتك الأعراض... ، فهذا التفاوت في الذنوب يوجب التفاوت في مراتب العفو والمغفرة أيضاً. ففي القسم الأول تكون المغفرة والعفو الإلهي، والثاني هو عفو الناس بعضهم عن البعض.
الإنسان في هذه الحياة لا ريب من أنه يحتاج إلى لطف اللّه عزّ وجلّ ورحمته، ويطمع في النجاة من كل ألوان العذاب، لا سيّما عذاب الآخرة. والذنوب والمعاصي والشرك والكفر... كلها تبشر الإنسان بما لا يحب، فهي ظلمات وعذابات في الآخرة، وشقاء في الدنيا، بسبب تبعاتها، يقول تعالى: {أَوْ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحْرٖ لُّجِّيّٖ يَغْشَىٰهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَٰتُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَىٰهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}(1) بعكس الإيمان والطاعات التي هي نور في الآخرة، قوله سبحانه: {نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا}(2).
ص: 211
فالعفو من اللّه عزّ وجلّ بمنزلة إزالة كل الأسباب والدواعي التي تكوّنالظلمات للإنسان، وتؤدي به إلى العذاب. وبمعنى آخر: إن المذنب بعد أن ابتعد عن لطف اللّه ورحمته يغفر له ويعفى عنه، ويردّه مرة أخرى إلى ألطاف اللّه ورفقه به، بعد أن تولدت عنده أسباب كانت بمثابة الموانع من التنعم بألطاف اللّه، فيكون العفو مزيلاً لكل الموانع التي من شأنها أن تبعد الإنسان عن قبول الفيض الإلهي. وكلما انكشفت تلك الموانع (الذنوب) عن الإنسان إزداد إشراقاً وإيماناً، بسبب قبوله لعناية اللّه له وفيضه عليه، ولذلك قالت الآية: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا}(1). فهؤلاء لديهم نور، ولكن بقي هناك شيء من الموانع والأسباب، فيطلبون من اللّه أن يزيل عنهم كل الأسباب والموانع بالمغفرة، لكي يتم نورهم ويدخلوا الجنة.
أما عفو الإنسان فهو بمعنى عدم ترتب الأثر، وهذا على نحوين:
الأول: عفو مع عتاب ومساءلة وكلام، مع عدم ترتب الأثر.
الثاني: عفو مطلق بلا عتاب، وخال من كل شيء، بل أحياناً يكون مع المكافأة على نفس طريقة المولى عزّ وجلّ، والذي أطلق عليه القرآن مصطلح (الصفح الجميل)(2).
أي: بلا عتاب أو مساءلة، وأيضاً قوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}(3). وهذا نلمسه بوضوح عند الرسول الأكرم والأئمة الكرام صلوات اللّه وسلامه عليهم، فيروى أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام)، ويسبه إذا رآه، ويشتم علياً(عليه السلام)، فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن
ص: 212
ذلك أشدّ النهي، وزجرهم أشد الزجر، فسأل عن العُمري، فذكر أنه يزرع بناحيةمن نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن(عليه السلام) بالحمار حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له: «كم غرمت في زرعك هذا؟» فقال له: مائة دينار، قال: «وكم ترجو أن تصيب فيه؟» قال: لست أعلم الغيب، قال له: «إنما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟» قال: أرجو أن يجيئني فيه مائتا دينار، قال: فأخرج له أبو الحسن(عليه السلام) صرّة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: «هذا زرعك على حاله واللّه يرزقك فيه ما ترجوه»، قال: فقام العمري فقبل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن(عليه السلام)، وانصرف(1). وغير ذلك كثير من أخلاق أئمتنا العظام سلام اللّه عليهم أجمعين.
نعم يتسامى الإنسان، ويرتقي في سلم الكمال، عندما يصفح ويعفو ويغفر، وهو في موقع القدرة. يحكى أن الوليد بن عبد الملك عندما تسلم مقاليد الحكم بعد عبد الملك، حاول أن يكسب الناس، ويمحو الآثار السيئة لعبد الملك، فعزل والي المدينة هشام بن اسماعيل الذي كان دأبه مضايقة العلويين، لا سيما الإمام زين العابدين(عليه السلام)، وإيداعهم السجن واتهامهم، ومنعهم بعض الحقوق...
فعندما عُزل وجرّد من أسباب القدرة أمر الوليد أن يوقف للناس ونادى في الناس أن كل من كانت له مظلمة عند هشام فليأته ويفعل به ما يشاء، فكان الناس يأتون ويبصقون في وجهه ويضربونه، وكان هشام يقول ما أخاف إلّا من علي بن الحسين، ولكن الإمام(عليه السلام) كان قد تقدم إلى خاصته ألّا يعرض له أحد منهم
ص: 213
بكلمة... وقد مرّ الإمام(عليه السلام) أمام هشام مسلّماً عليه، وأبدى له الاستعدادبمساعدته دون أي إهانة أو إيذاء لذا نادى هشام حينها: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته(1). لهذا ترك الناس إهانة هشام عندما شاهدوا فعل الإمام(عليه السلام) معه.
لا يخفى أن لِكلّ ملكة من ملكات الخير والكمال فوائد عديدة كالشجاعة والصدق والكرم والعلم... والعفو بما أنه واحد من تلك الكمالات وقد نعت اللّه عزّ وجلّ به نفسه، فبلاشك تقع وراء صفة العفو العديد من الفوائد والمنافع والمصالح الحسنة، وإلّا كيف نفسر اتصاف المولى بها وأمره بها أيضاً.
ومن هذه الفوائد نذكر:
1- العفو يفتح آفاقاً جديدة مع الآخرين، ويوفر لنا فرص الإلتقاء معهم بدل أن نفقدهم بالعقاب أو العتاب المُرّ، فوجود الناس بعضهم حول بعض أفضل بكثير من تشتتهم، فإن القصاص والعقاب حق، ولكنه يؤدي إلى نهاية العلاقات عادةً، أما العفو فإنه يجرد العلاقات، ويقوي العواطف، ويرفع الضغائن التي في القلوب، ويحسّن صورة الشخص عند الطرف المقابل. ولذلك كان الاستغفار أماناً لأهل الأرض، لأنه يرفع تبعات الذنوب، فتتجرد فرصة أخرى للعبد، ويعطي اللّه عزّ وجلّ أملاً جديداً للمكلف بعفوه عنه. وصفة العفو التي امتاز بها اللّه عزّ وجلّ هي التي تُلهم العباد الحركة والسعي والجد والاستغفار وتجديد الأمل وعدم اليأس من روح اللّه. وهكذا العفو بين الناس، فإنه مدعاة لأن يتناقص عدد الأعداء، ويأخذ رقم الأصدقاء والأصحاب بالصعود، وهكذا كان الأئمة(عليهم السلام) يعملون، فبعفوهم كانوا يجذبون الناس حولهم لا سيّما أعداءهم.
ص: 214
2- العفو يزيد الإنسان عزّاً ويرفع من مقامه ومكانته في قلوب الناس، لأنجنبة الإيثار سوف تكون واضحة المعالم في الشخص العافي، وهي مما يحبّها الناس، لأن الذي يعفو عن خصمه وعدوه، معنى ذلك أن يتنازل عن حقه، ولا يهتم بنوازع نفسه، وهمسات الشيطان، بل يكون ناظراً إلى مصالح الشخص المقابل، فيعفو عنه ليفتح له نافذة جديدة في الحياة وأملاً جديداً. فمن المعلوم أن القصاص أو العتاب أو العقاب أمر يرضي النفس، لأنها تشعر بالارتياح مقابل ما أخذ منها أو أعتدي عليها، وكذلك القصاص يرضي القوة الغضبية، ويرضي باقي الشهوات النفسية.
ومع ذلك يخالف الإنسان العافي هواه ويصفح عن الخصم، ليدلّل على سموه وكماله وتحرره من قبضة الشيطان أو قبضة الشهوات، وبهذا الأسلوب يزداد عزّاً في نفسه ومكانة عظيمة في قلوب الناس، ولذلك قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديثه: «... فإن العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً...»(1).
3- وبهذا الشكل يكون العبد قد إتصف بالصفة التي يحبها اللّه، والتي إتصف هو بها - ولكن لا يخفى الفرق بين الأمرين - فيزداد قرباً من اللّه تعالى، لأنه تخلّق بأخلاق اللّه وأخلاق رسله وأوليائه. وإلى هذا المعنى أشار الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ختام حديثه «... فتعافوا يعزّكم اللّه»(2).
إنزال العقوبة على المعتدي من ألذّ الأمور للنفس، وكثيراً ما تأنس القوة الشهوية بالمجازاة أو القصاص، إذ أن أغلب النفوس تحب مظهر الظهور بالقوة
ص: 215
والغلبة والتأثير والتعالي على الغير ولو بالظلم، فالمظلوم دائماً تحدِّثه نفسه بالثأرأو القصاص، لأنها ترى في ذلك كمالاً وظهوراً لها. إلّا أنه يخفى على ذلك الإنسان أن العفو عن المعتدي يزيد النفس كمالاً ونقاوة ورقيّاً أكثر مما تتصوره في إنزال العقاب. فإن العقوبة غالباً ما تكون من نتائج القوة الغضبية التي توقع الإنسان في متاهات، في بعض الأحيان، بينما العفو دائماً يكون من نتائج الفكر السليم، والقلب الطاهر، والإيمان المتكامل. ويمكن الاستدلال بعمل أئمتنا(عليهم السلام) بالعفو وأمرهم إيّانا به، بأن العفو أفضل بكثير من العقوبة.
نعم في بعض الموارد تتعين العقوبة للحدّ من الجريمة مثلاً. ولكن بصورة عامة نقول: العفو كمال، وكماله روحي يستمر في أعماق الإنسان، بينما العقاب ليس فيه كمال روحي للإنسان، ولذلك جاءت أخبار الهداة(عليهم السلام) مؤكدة على جانب العفو أكثر من العقوبة. يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم»(1)، أي: مسامحتهم والعفو عنهم. بل أحياناً يكون العقاب من أجل التشفي لا غير، وهو الغالب على طبع الإنسان، لأنه مما تميل إليه النفس بسبب القوة الغضبية، التي غالباً ما يحرّك أوتارها إبليس لعنه اللّه، ولذلك كان العفو كمالاً، لأنه يخالف هوى الإنسان، وكل ما يخالف الهوى فيه خير للإنسان، لأن الهوى يتحرك بإيحاءات الشيطان.
ولا بأس بنكتة مهمة في البين، وهي: متى يتحقق العفو؟ أحياناً عندما يضعف الإنسان عن أخذ الحق أو إنزال العقاب بالمعتدي، يقول عفوت عنه. ولكن في الواقع هذا بعيد عن العفو، وليس فيه أيّ ثمرة، إنما الكلام والثمرة تكون عندما يقدر الإنسان على العقاب أو القصاص، ولكنه يعفو. هنا يكون العفو فيه ثمار
ص: 216
تصب على روح الإنسان، فتجعلها مشرقة ظاهراً وباطناً. ولهذا يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة»(1).
لقد ثبت عند كل ذي لبّ أن طرف عائشة في معركة جمل كان يمثل جانب الباطل، وعائشة بنفسها كانت تعلم بذلك يقيناً، ولكن جرت الأحداث ومضت، وليس المقام في بيان الدوافع والأسباب، ولكن نريد أن نقول: بعد أن انتهت المعركة حاول بعض الأفراد، من جيش الإمام، أن يأخذوا ما بقي من جيش عائشة من سلاح وما شابه ذلك، فنهاهم الإمام عن ذلك. والسبب واضح، إذ ليس هدف الإمام في حروبه كلها هو صناعة جيش مسلح بالعدّة والعدد، بل صناعة جيش يتحرك دائماً من أجل إحقاق الحق، بغض النظر عن عدده وجنسه وسلاحه.
كان(عليه السلام) يغذيهم بالفكرة والمبادئ الإسلامية، لكي تكون دائماً هي الضوابط في حركتهم. والأمر الآخر هو بعد انتهاء المعركة وملابساتها، وأفعال عائشة وتحريضها الجيش، ومحاولتها لشقّ عصا المسلمين، وتعدّيها على إمام الزمان، وخليفة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وتجرؤها على النيل من الإسلام، بل القضاء على الإسلام في ما لو قدر وأن الإمام كان قد قتل، فمع كل هذا وذاك أرسل أمير المؤمنين(عليه السلام) معها بعض النسوة لخدمتها، وعدداً من الرجال لحراستها(2) في طريق عودتها إلى المدينة مخافة أن يُعتدى عليها، أو يقدم أحد على الإساءة إليها. ووصلت إلى المدينة بسلام وأمان، معزّزة ومكرّمة. هذا العمل لم نجده في غير آل علي(عليهم السلام)، فهو تعبير صارخ، ولعله أعلى درجة من درجات العفو عند المقدرة.
ص: 217
ولكن علياً(عليه السلام) لم يفعله ليزداد كمالاً، فهو كامل ومعصوم، بل ليضع درساً للأجيالوللقادة، كي يتخذوا هذا النهج، وهذا المسار الذي يؤمّن لهم النجاح والنصر والكمال في الحياة الدنيا، والفوز والقرب إلى اللّه عزّ وجلّ في الآخرة.
هناك بعض الحالات تتعين العقوبة فيها، وتكون أفضل من العفو، وبعض الحالات يكون العفو أكثر فائدة، أو أكثر إيجابية من العقاب. ويمكن أن نتصور بعض الأسباب أو الدوافع من وراء العقوبة:
1- اجراء العقاب من أجل إصلاح المجرم.
2- اجراءه من أجل العبرة للآخرين، لئلا يقدم فرد على جناية أو عمل قبيح، وكذلك العبرة لنفس المجرم، فإن العقاب الدنيوى البسيط يذكّره بعذاب يوم القيامة.
3- إجراء العقاب من أجل التشفّي وإرضاء الغرائز.
4- إجراء العقاب لمجرد العمل السيء، بعيداً عمّا إذا كان هذا العقاب يصلح الفرد أو لا، وأنه يحقق العبرة أو لا.
والعقلاء قالوا بحسن الأول والثاني، لأنهما يؤديان إلى إصلاح الأفراد، وتطبيق النظام الذي يضمن التعاضد الإجتماعي. أما الثالث فلا فائدة من ورائه إلّا إرضاءً للنفس والهوى. والاحتمال الرابع فيه قولان البعض قال بحسنه، أي: بحسن العقوبة فيه، وآخرون قالوا بقبحه. وعلى أية حال؛ ففي كل مورد يتمادى فيه المجرمون أو المخلّون بالأمن العام بوحدة المجتمع فإنهم يستحقون العقاب. نعم بعض الأشخاص يكون العفو عنهم أفضل من عقوبتهم، وهذا الأمر يترك عادة لظروفه الموضوعية، ونوعية الأشخاص. ولا بأس بالإشارة في البين إلى
ص: 218
مسألة الألم التي يفعلها اللّه عزّ وجلّ في المكلفين وهل أنها حسنة أم قبيحة؟وهل هي بعنوان العقاب أم لا؟ لقد اتفق العقلاء على أن جميع أفعال اللّه حسنة، ومنها الألم، وذلك لأحد أمور: إما لأن العبد يستحق الألم كالعصاة والكفار، أو لاشتماله على نفع أكبر من ذات الألم، كابتلاء المؤمنين لرفع درجاتهم وزيادة كمالهم، أو لدفع ضرر عنهم، كابتلاء العاصي لمحو الذنب عنه، أو أحياناً يكون بمقتضى النظام الكوني الحاكم (السنن الالهية) مِن قبيل مَن مَدَّ يده إلى النار فاحترقت، فهذا الألم صدر من النار، ولكنه يُنسب إلى اللّه، لأنه موجد القانون والعلة. ويمكن أن يصدق عنوان العقاب على هذا الألم لمن استحقّه مثل الكافر والظالم، ويمكن أن يكون محنة وابتلاءً للمؤمنين، لأن فيه نفعاً لهم في الدنيا والآخرة(1).
فمن خلال هذا البيان نصل إلى قناعة تامة بأن العقاب في بعض الموارد يكون مُهمّاً بل ضرورياً للحفاظ على النظام الاجتماعي والأمن العام وتطبيقاً للشرائع والنظم والقوانين وها نحن أولاء نجد القرآن الكريم لم يرفض العقوبات ولم يقبحها بل شرَّع بعضها كإجراء الحدود على الزاني والزانية وشارب الخمر... مع أن جميعها يصدق عليها أنها ألم ولكن هذا الألم فيه لطف إما لنفس المعذب أو للصالح العام. لذلك إذا كانت العقوبة من أجل الاصلاح والعبرة فهي حسنة لأن الغرض منها عقلائي وذو فائدة على المجتمع بشكل عام وعلى الفرد بشكل خاص...
أما العقوبة التي تدخل تحت عناوين أخرى لا مصلحة منها فهي غير حسنة وتدخل تحت الظلم والتعدي مع ملاحظة كون الجاني لم يقع في شبهة أم ما
ص: 219
شاكل من الأعذار التي ترفع عنه العقوبة. أي أن الجاني يعرف أن هذا الفعل حرام أو غير جائز ولم يشتبه عليه الأمر ولم يكن مضطراً إلى باقي الشروط المذكورة في كتب الفقه - باب الحدود والتعزيرات - .
لذا فإنّ العفو والصفح إذا كانت فيه فائدة حتى ولو على المستقبل البعيد فهو أجمل من العقوبة ولعله الرادع الأنصع لضمير الفرد وعودته إلى حضيرة الإنسانية المبدعة، فإن الرادع الذاتي أقوى تأثيراً على نفس الإنسان وعلى المجتمع ككل. لذا يعتبر هذا العفو أو الصفح جميلاً قال تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَأتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(1).
«الحمد للّه على حلمه بعد علمه، والحمد للّه على عفوه بعد قدرته، والحمد للّه على طول أناته في غضبه، وهو قادر على ما يريد، الحمد للّه خالق الخلق، باسط الرزق، فالق الاصباح، ذي الجلال والاكرام»(2).
ص: 220
قال تعالى: {وَالصَّٰبِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(1).
الصبر هو ثبات العقل الهادي إلى الخير والصلاح، أمام قوّة الشهوة، التي لا تملّ من الإنفلات عن العقل، والنزاع دائم بين الطرفين، فجنود العقل هم ملائكة الرّحمن وجنود الشهوة هم حزب الشيطان وأعوانه. وتارة تكون الجولات والإنتصارات متكافئة، وأخرى يغلب العقل على الشهوة، وبالعكس. وكلّما غلبت الشهوة جنود العقل، قلّ باعث الدين واليقين، وانخفض الصبر إلى أدنى مراتبه. وكلّما انهزمت الشهوات أمام العقل ضعف باعث الهوى، وقوي الصبر الذي هو أساس انتصار المعركة لصالح العقل، وهو حافظ الإيمان والتقوى والمحبة في اللّه والرضا في اللّه، بل هو أساس الأخلاق الرفيعة. ولذلك ورد عن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) أنه قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له»(2).
فالصبر له محلّ الصدارة في الحياة الإيمانية للمسلم، وعلى الإنسان أن
ص: 221
يتلبّس بلباس الصبر دائماً، ويبذر بذرته في قلبه، لكي يثمر بالمنفعة والعطاء. ولذلك يقول تعالى في كتابه المجيد: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ}(1). لأن الإنسان لا يقوى على الثبات أمام المهمّات والنوازل؛ إذ لا معين في حقيقة الأمر إلّا اللّه عزّ وجلّ، وبالثبات والإستقامة والاتصال به سبحانه وتعالى.
فالصبر يصغّر للإنسان أكبر عظيمة نازلة به، والانصراف إلى اللّه وطلب الصبر منه يؤدّي إلى إيقاظ روح الإيمان، وينبّه الإنسان على أنّه متكئ على ركن لا ينهدم وسبب لا ينفصم.
ثمّ إنّ الصبر وقاية للإنسان؛ لأن كلّ مصيبة لها نوع تأثير عليه، وتطبع بصماتها على قلبه، فلعلّها تجذبه نحوها، ويتصدّع قلبه بها، ولذا كان الصبر على بعض المصائب غير جائز، ولا ترخيص للإنسان في احتمالها، بل يجب عليه أن يقاومها ما استطاع، كالمظالم المتعلّقة بالأعراض والنفوس.
أما تلك التي لا بدّ له أن يصبر عليها، ولا يجب عليه أن يقاومها، فهي الحوادث الكونية الخارجة عن اختياره وإرادته، كالموت مثلاً، فهو على العكس من ذلك يزيده قوّة معنوية، ويرجعه إلى اللّه عزّ وجلّ. ولذلك يُعد الصبر من الأمور الجليلة والمهمة. والقليل من يحتفظ به عند النائبة، فلذلك نرى الإمام السجاد(عليه السلام) حين حضرته الوفاة يضمّ ابنه الإمام الباقر(عليه السلام) إلى صدره، ويقول له: «بُني أُوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذَكر أن أباه أوصاه به، يا بني: اصبر على الحقّ وإن كان مرّاً»(2).
إذن حالة التوازن بين العقل والهوى تحتاج إلى مجاهدة، والأخيرة ملازمة
ص: 222
للصبر؛ إذ لولاه لما ثبت الإنسان في طريق الجهاد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب أن يكون الإنسان على حالة من التديّن بحيث تحجزَه وتصدّه عن اتّباع خطوات الشيطان، فتكون بمثابة الوقاية الروحية له ليحافظ على طهارة روحه ونظافتها. إذ غالباً ما تكون الضحيّة للهوى هم الناس غير المتدينين، لعدم وجود الوقاية عندهم، ولا يكتفي هؤلاء بأن يكونوا عبيداً للشهوات، بل تراهم يعملون على دعوة الآخرين إلى انتهاج منهجهم قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا}(1).
ثم إنّ هذا الأمر لا يقتصر على نحو الفردية، بل حتى على مستوى الجماعة وما يدور فيها من حركات جماهيرية، فكلّ ثورة تصحيحيّة تحتاج إلى أن تربّي أفرادها على الصبر والاستقامة في طريق البناء والتصحيح؛ لتبقى ذات عطاء لأفراد الأمة، وأما إذا اتخذ أبناؤها سبيل الفوضى، وقلّة الصبر، والإنحراف عن المبادئ، فإنّهم يكونون بذلك قد سحقوا خطواتهم التي تقدّموا بها إلى الأمام، وعادوا على نفس الأثر إلى الخلف والانهزام.
وكذلك الحاكم يجب أن يربّي أفراد أمّته على الصبر والاستقامة، ونشر هذه المفاهيم للأمة وترويضها عليها، لكي تتلبّس بها وتصبح هاتان الصفتان المظهر العام للأمّة، وبذلك تكون قد اختارت طريق بقائها وخلودها.
وهذا الأمر نلحظه بقوّة في حياة الإمام السجاد(عليه السلام)، فعندما عمدت السلطة الأموية إلى نشر مفاهيمها المخالفة للإسلام، وقف(عليه السلام) بقوّة أمام هذا التيار، وعمل جاهداً على أن يعيد في الأمّة روح المبادئ الإسلامية، ونهجها الصحيح، وأنيحفظها من كلّ ضياع وكبوة، فلولا صبر المؤمنين الخُلّص من أصحاب الأئمة(عليهم السلام)،
ص: 223
وغيرهم، لما حافظت الأمّة الإسلامية على هيكلها العام وروحها الإسلامية.
من المواقف الحرجة التي مرّت بالإمام الحسن(عليه السلام): حربه مع معاويه الذي قلب الموازين والمفاهيم الإسلامية، وجعل الخلافة وإمرة المسلمين وراثة، وأخذ يسير بالمسلمين بسير الملوك والجبابرة، وهو - معاوية - القائل: واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إِنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم(1). فأراد الإمام الحسن(عليه السلام) أن يزيل هذه العثرة التي وقفت أمام تقدّم الحضارة الإسلامية، إلّا أنّه ابتلي بخذلان القوم، بما أظهروه من السب والتكفير له، واستحلال دمه، ونهب أمواله، ولم يبق معه من يؤمن من غوايله إلّا خاصته، من شيعة أبيه(عليه السلام) وشيعته، وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام.
فهذا الموقف الحرج كان يتطلّب من الصبر ما لا تتحمله الجبال الرواسي، فعمل الإمام الحسن(عليه السلام) على احتواء الساحة الإسلامية بما فيها من عدوانية باتجاهه، وبما فيها من جهلٍ وقلّة وعي وغياب حالة الطاعة له، بعد أن بايعوه وأعلنوا ولاءهم له، والانصياع لأوامره، فابتلي بذلك.
هذه الوقائع الثقيلة على النفس تطلّب من الإمام الحسن(عليه السلام) صبراً يوازيها ويساويها، لكي يصهرها ويذوّبها، كيلا يستغلها معاوية في ضرب الإسلام وتشويهه، فصبر الإمام على القوم وعلى فهمهم الخاطئ، وحاول مع أخيه الإمام الحسين(عليه السلام) أن يصحّحا أفكار الناس. ولم يكتف القوم بذلك، بل عمدوا إلىطعن الإمام الحسن(عليه السلام) في فخذه(2)، ومع ذلك لم يتزلزل صبر الإمام(عليه السلام)، فكان
ص: 224
صبره في السرّاء والضرّاء وحين البأس على حدٍّ سواء.
إنّ العلم هو حالة نور وإنكشاف لدى الإنسان العالم، وهذا العلم يعطي لهذا الإنسان بُعد نظر، ونظرة عميقة للأشياء والمسائل، وتفسيرات متعدّدة للحوادث، وبُعد مدى واتساع في الأُفق الفكري والقاعدة الثقافية العامة. لذلك نحنُ نرى أنَّ الإمام المعصوم يصبر على أتعس الظروف وأحلكها وأصعبها؛ لأنّه لا ينظر إلى الواقعة أو الحادثة بظروفها الآنية فحسب، بل يخرق بنظره عشرات السنين والأجيال، ويتصرّف على هذا الأساس، ولهذا نجد للعلم مدخلية أساسية في تقوية الصبر، وزرعه في النفس، وحثّ النفس على التصبّر والاصطبار، وتحمّل المشاق والمعاناة، من أجل هدف يجهله العوامّ من الناس، الذين لا يمتد تفكيرهم وبصرهم إلى أبعد من بعض الكيلو مترات والساعات من الزمن. بينما الإنسان المعصوم، أو حتى الإنسان العالم الذي يتصرّف على أساس العلم، يرى الهدف الأسمى والأجل الأبعد، فيعقد عليه الآمال، وينتظر منه الفوائد التي من أجلها يصبر كلّ هذا الصبر الذي تعجز الناس عنه. وهذا الدور الذي لعبه العلم في مجال الصبر هو نفس الدور الذي يلعبه في مجال الاستقامة، حيث يدعو الإنسان إلى الإلتزام بطريق واحد وعدم التذبذب. فترى العالم يمتاز بالإستقامة والمنهج القويم، لأنّه أدرك بعلمه أنَّ المصلحة والملاك كُلَّه في الإستقامة واتخاذ منهاج واحد؛ يقول تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}(1). فاللّه عزّ وجلّيقول: إن الوصول إلى رضوانه هو اتباع سبيل واحد، وهو سبيل الأنبياء والرسل والأوصياء والأئمة(عليهم السلام)، وعدم اتباع سبل متفرّقة ويختلط فيها الحقّ مع الباطل.
ص: 225
هي حالة التوازن والإعتدال العام في السلوك وعدم الإفراط والتفريط في جانب من الجوانب. فالاستقامة هي السير الطبيعي في الحياة، والتصرّف المألوف بين الناس، والقول المستقيم الذي تتقبله الأسماع والأذواق، والرأي السديد الذي ترضاه الأفكار، وهكذا في كلّ مجالات الحياة نحتاج إلى الاستقامة.
فهي تعني النظام والانتظام وحالة الاستقرار والثبات العام، وعكسها التفريط في جانب من الجوانب، كالتهاون في العبادات، والاستهزاء بالناس، وحمل النفس على ما يؤلمها.
وبالجملة فإن الاستقامة من الأمور الصعب جدّاً تحققها، وكأنّها المرحلة الحرجة، التي يتمنّى كلُّ إنسان أن يمرّ خلالها بسلام ويسجّل نجاحاً باهراً.
جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّاً لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): كيف أصبحت يا فلان؟
قال: أصبحت يا رسول اللّه موقناً. فعجب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قوله! وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة، فما حقيقه يقينك؟ فقال: إن يقيني يا رسول اللّه هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي، وقد نُصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنّة يتنعمون في الجنّة، ويتعارفون، وعلى الأرائكمتكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مصطرخون، وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي. فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه: هذا عبدٌ نوّر
ص: 226
اللّه قلبه بالإيمان، ثم قال له: إلزم ما أنت عليه، فقال الشاب: أُدْعُ اللّه لي يا رسول اللّه أن أُرزق الشهادة معك. فدعا له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاستُشهد بعد تسعة نفر، وكان هو العاشر»(1).
نلاحظ هنا أن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال له: «إلزَم ما أنت عليه»، أي: أُثبُت، وحافظ على هذا الإيمان، وهذا اليقين. وهذا الثبات لا يعني الجمود وعدم التقدّم أكثر في القرب من اللّه، بل هو يعني الاستقامة على المبدأ، والتحرّك بخطى راسخة نحو المولى عزّ وجلّ.
إن العمل على تحصيل صفة الصبر يتطلّب من الإنسان مجاهدة حقيقية، فيجب أن يستجمع كلّ قواه المعنوي والروحية، ويسلك كلا الطريقين النظري والعملي لتحصيل الصبر، ويروّض نفسه على أمور منها:
1- أن يكثر من التفكير في فضل الصبر ومميزاته وفوائده وما ورد عنه، وعن حسن نتائجه في الدنيا والآخرة. فلا يبتئس مما يفوته من الملذات، فإنها أمامه في دار الآخرة، وأن يعلم أن ثواب الصبر على المصيبة أكثر مما فات.
2- التفكير العميق بمضرّة الجزع عند المصيبة، وعند ترك الطاعة، واتباع الشهوة المنتهية بعد دقائق، وسوء آثارها في حياة الإنسان، وأنّه لا يشفي غليلاً، ولا يبدّل قضاءً واقعاً، وأنه ليس من شيم الرجال.
3- أن يفكّر ويتذكّر جيّداً أن مصائب الدنيا مهما طالت وامتدت فهي منتهية،ووقتها محدود، ولا يمكنها أن تدوم، بينما أجر الصابر عند اللّه يزداد ويدوم. وهذا هو الطريق النظري لتحصيل الصبر. أما الطريق العملي فهو:
ص: 227
1- العمل على الضدّ دائماً مع رغبات الشهوة وميلان النفس، بالمجاهدة ومنع النفس من بعض الأمور التي تطلبها، لذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يتحقق الصبر إلّا بمقاساة ضد المألوف»(1).
2- الرياضة المعنوية والبرنامج الروحي، من تعويد النفس على الصيام والجوع، وقطع كل الأسباب المهيجة للشهوة.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ}(2). هذه الآية تشير إلى الإستقامة العملية التي امتاز بها الأولياء الصالحون، الذين تبلورت فكرة الإيمان باللّه عندهم، ثم تشكل الإيمان عملاً صالحاً وقولاً سديداً، ثم استقاموا في مسلكهم العملي.
وبطبيعة الحال، كانت هناك قبل الإستقامة العملية استقامة على مستوى الأفكار، وهي المتمثلّة في توحيد اللّه عزّ وجلّ، والاعتراف المطلق له بالربوبيّة؛ لأن الأفكار هي الاُخرى تحتاج إلى استقامة، والحذر من الإنحراف في العقائد يحتاج إلى مسلك مستقيم وعدم الخلط به؛ لأن الأعمال مترتبة أو متفرّعة على الاعتقادات وعلى الأفكار التي يلتزمها الإنسان ويؤمن بها. ولذلك نرى الدعوة الإلهية تؤكّد على هذا الجانب المهم من الإستقامة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}(3). أي: الإلتزام بأوامر اللّه سبحانه وتعالى، والاستقامة عليها، وعدم الميلوالانحراف.
ويتّضح مما تقدّم بأنّ اندماج هاتين الصفتين: الصبر والاستقامة، وتحلّي
ص: 228
الإنسان بهما يُقرّبه من محل الأولياء والصالحين والشهداء، وسوف يكون من الناجحين في الحياة، إذ لا تهزّه ولا تقلقه أي مشكلة تمرّ عليه، ولا تأخذ منه شيئاً، لأنّه يحتفظ برصيد الصبر الذي يقاوم به الشيطان والأهواء، فيستمر على الثبات أبداً. والرصيد الثاني وهو الاستقامة؛ ينقله من الثبات إلى التحرُّك، ولكن هذا التحرُّك يمتاز بصفة الإيمان والاطمئنان وهدوء النفس، لأنّها تسير على وحي الأفكار الإيمانية، والجذبات الرحمانية.
اللّهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنّك أنت الوهّاب، اللّهم صلِّ على محمّد وآل محمّد، ربَّنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنّا واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا؛ فانصرنا على القوم الكافرين.
قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوٰةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(1).
وقال سبحانه: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(2).
وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٖ}(3).
وقال جلّ وعلا: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَٰمِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(4).
ص: 229
وقال عزّ اسمه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).
قال جلّ شأنه: {وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).
وقال عزّ من قائل: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَٰلِمُونَ}(3).
وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(4).
وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(5).
قال عزّ وجلّ: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(6).
وقال جلّ وعلا: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(7).
وقال عزّ اسمه: {أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}(8).
وقال جلّ شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَلَّا
ص: 230
تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يقول اللّه عزّ وجل: إذا وجهت إلى عبدٍ من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً»(2).
وقال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «من صبر فنفسه وقَّر، وبالثواب ظفر، وللّه سبحانه أطاع»(3).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة»(4).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد»(5).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فضل العلم أحبُّ إلى اللّه عزّ وجلّ من فضل العبادة»(6).
وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لأن العلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى وقوّة الأبدان من
ص: 231
الضعف، ينزل اللّه حامله منازل الأخيار ويمنحه مجالس الأبرار في الدنيا والآخرة»(1).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم أصل كلّ خير»(2).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من عبد يغدو في طلب العلم أو يروح إلّا خاض الرحمة وهتفت به الملائكة: مرحباً بزائر اللّه، وسلك من الجنّة مثل ذلك المسلك»(3).
وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «لا نجاة إلّا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلّم، والتعلّم بالعقل يعتقد، ولا علم إلّا من عالم ربّاني»(4).
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «تفأل بالخير تنجح»(1).
أن ينفتح الإنسان بروحه وفكره على الحياة، ويثور ويتخطّى ويتمرّد على كل معاني الكسل واليأس والانهزام فذلك هو التفاؤل، فهو بمثابة طلائع النور والخير التي تضيء الحياة والقلوب النابضة بالعمل والسعي والحركة فتزداد النفس إشراقاً والروح خلاقيّة، بحيث لا تعرف للفشل معنى، ولا تعير اهتماماً للسقوط والنكسة. ذلك لأنها تلحظ حالات النهوض والنجاح، وإمكانية القيام من بعد السقوط. والمتفائل إنسان حركي في رؤآه، متطلع في أفكاره متطوّر بروحه التي لا تعرف إلّا الخير والفوز. وكلما كان الإنسان متفائلاً في الحياة استطاع أن ينهل من الفيض الإلهي ويتكامل، لأنه ينفتح بروحه ومشاعره وأحاسيسه على الكون، وعلى ربّه، وعلى كل مفردات الحياة، ولا يتوقع على نفسه، ولا يدور حول ذاته. على العكس تماماً من الإنسان المتشائم فإنه يرى الفشل في كل حركاته، ولا يتأمل الخير أبداً، بل لا تأتي على باله فكرة النجاح والتوفيق، ودائماً ينطلق من ذاته ويعود إليها عاجلاً. وحتى في المنطق، فنحن نرى أنّ منطق المتشائم دائماً يعبِّر ويبشّر بالشّر والأمور المزعجة، ويختار الكلمات المظلمة ذات الضبابيّة
ص: 233
وعدم الوضوح أو الثقيلة التي تبعث سامعها على الحزن، وتدعوه لليأس وعدم الحركة والسعي بخلاف الإنسان المتفائل، فإنه دائماً وأبداً يبشر بالخير والأمل.
يمكن أن نحصر فوائد التفاؤل في محورين:
الأول: الفائدة العملية: حيث إن المتفائل بالحياة لا يركن إلى اليأس، ولا يكلّ عن الحركة، بل يبعث دائماً عن الأجواء التي يتحرك وينفع الآخرين، وعلى رغم العقبات التي تصادفه أثناء سيره، تجده يمضي قُدماً، ويواصل في خطواته، ويسعى لأن ينفذ أفكاره في الواقع الخارجي، ويصل إلى آماله وأهدافه.
إن المنعطفات التي تعترض طريق الإنسان المتفائل لا تعني بالنسبة إليه أنها نهاية السير، بل إنها تجدد عنده العزم على التواصل، وهكذا كان علماء الشيعة فإن تسلط الحكومات الظالمة العديدة على القواعد الشيعيّة، وفتكها بها، وتقليص نفوذ الشيعة عن مواطن الحكم، وتهميش أدوارهم ونظائر ذلك من الأمور، كل تلك الممارسات أدّت إلى إضعاف الشيعة... ومع كل هذا وذاك فإن علماء الشيعة كانوا أوائل المجاهدين في طرد الاستعمار البريطاني من العراق، بل كانت حركة الثورة ضد المستعمر إنما صنعها الشيعة، وخططوا لها وقادها مراجعهم وهكذا ثورة التنباك. وقبل ذلك كان لمراجع الدين دور كبير في إيقاف النزاع بين الدولة العثمانية والفارسية وغيرها من المواقف الفردية والجماعية، التي تعكس دور التفاؤل في استمرار المسيرة.
فلو كان اليأس قد دبّ في نفوس المسلمين، وأصابتهم حالة الجمود لما استطاعوا طرد المستعمرين من بلادهم، ولما استطاعوا خوض الثورات التحررية. فالتفاؤل هو المحرّك اليومي للجميع، فعند كل صباح يتجدد أملٌ في ذات كل
ص: 234
إنسان بفضل اللّه، ويتحرك على ضوء هذا الأمل الجديد، وترى الإنسان يرتّب بعض الأشياء والمقدمات للنتائج على الشوط البعيد، والبعض يضع برامجاً لحياته، دون أن يلحظ المعوّقات، ولا يعني ذلك أبداً أنه جاهل بها. وإنما التفاؤل الكبير جعله يتجاوزها حتى على المستوى النظري وحين يجد سبيله إلى العمل فإنه يتحرك بخطوات راسخة، حتى وإن واجهته تلك العقبات والسلبيات.
الفائدة الثانية المعنويّة: في كل يوم يرى الإنسان المتفائل صورة جديدة للحياة تختلف عن ذي قبل، بفعل آماله وأفكاره المتجدّدة والمنفتحة على الحياة، وتنشط هذه المشاعر عند كل صباح، وعقيب كل دعاء وصلاة واتصال مع اللّه عزّ وجلّ. ومن هنا يكون المؤمن ذا آمال كبيرة جداً أكبر من قدرته، ولكنها مرتبة وهادفة على العكس تماماً من الإنسان المادي غير المؤمن باللّه أو الذي ابتعد عن طريق الارتقاء بالعبادة، إذ نراه يتحرك بعشوائية واظطراب، بل وفي كثير من الأحيان نلحظ الانحرافات السلوكية والفكرية عليه، لأنه يريد أن يحقق آماله ويفعِّل مشاعره بأي طريقة كانت، حتى وإن أثَّر على الجوّ العام.
ثم هناك فرق واضح بين المتفائل والمتشائم على الصعيد المعنوي، إلّا أن أثره عادةً ينعكس في الواقع العملي، حيث إننا نرى المتفائل لا يحمل أيّ روح عدوانية تجاه الآخرين، لأنه يرى كل ما في الوجود خيراً، فهو مسالم ويحوطه الهدوء والانتظام. فمثلاً: هو يرى ويعتقد أنّ تأخر استجابة دعائه إنما لصالح يدّخره اللّه له، أو لخلل في شروط الدعاء، ولا يعتقد أن اللّه يعاديه أو يعاكسه، بخلاف المتشائم فهو عدائي أولاً وإنعزالي ثانياً، ويختار رفقاء مشابهين له، فتراهم مجموعة كاملة من الشؤم والعدوانية، لأنهم يرون أن اللّه تعالى قد قدر
ص: 235
لهم أن يعيشوا هكذا ويلقون باللوم كلّه على اللّه عزّ وجلّ، أو على الناس، ويتناسون تكاسلهم واختياراتهم السيئة في الحياة، فيظنون بالناس وباللّه السوء، الأمر الذي يزيد في تعكير صفوة حياتهم، ولا يخفى أن الاتجاه الجبري هو الذي ساعد كثيراً على ظهور مثل هذه الشخصيات على مسرح الحياة، من خلال عرض موضوع القضاء والقدر، والبلاء والجبر والاختيار بصورة جبرية محضة، مما أدى إلى تكدّر العلاقات بين الإنسان وربّه، وبالتالي مع الناس أيضاً. على أنّ حالات التخلف الاجتماعي هي الأخرى أيضاً ساعدت على انتشار مرض التشاؤم في قطاعات كثيرة من المسلمين، مع أن الإسلام يرفض هذا الاتجاه، ويؤكد على التفاؤل، ويبعث نحو الأمل والتجدد، من خلال الإيمان المطلق بقدرته المتجددة، والقادرة على تبديل الأحوال، مما يبعث على الاطمئنان في قلب كل إنسان.
من الذي يرغب عن النصر والفوز؟ وعيش تلك اللحظات الروحية التي يقصر اللسان عن وصفها؟ فإنها تمثل حاكمية الإرادة الحرة، وتحريرها من أسر الظلمة. ولكن لكي يتحقق النصر لا بدّ من توفر شروط عديدة، منها القيادة الرشيدة والخطّة المدروسة، والجيش القويّ عدّة وعدداً، وغير ذلك من الشروط. ولعل أهم أمر هو روحيّة الجندي المقاتل، وما يحمل من معنويات، ومستوى قوة الإرادة لديه. فذلك هو الطرف المهم في المعادلة، وهو واضح من خلال التجارب التأريخية، فكلما هُزم المقاتل داخليّاً ونفسياً، فإنه لا يستطيع أن يقف ويصمد لحظة واحدة أمام العدوّ، وإن كان في يديه أعظم سلاح.
لذلك تستعمل الدول قبل الحرب معركة الإعلام الذي يثبِّط معنويات الجنود
ص: 236
لدى الطرف المقابل، ويضعف من إرادتهم ويفتّ من قواهم، حتى لا يقدروا بعدها على الصمود وخوض المعركة. والتفاؤل هنا دوره مهم جداً، فكلما كان المقاتل متفائلاً بالنصر كانت إرادته ونفسيّته ومعنوياته بمستوى تفائله، مما يضفي عليه حالة الصمود والمقاومة المستمرة، لأنه حين يدخل ميدان الحرب، في ذهنه فكرة واحدة وهي أنه منتصر، لذلك يحاول جاهداً أن يحقق ذلك مهما كلّف الأمر.
أما إذا كان المقاتل متشائماً، فإنه يدخل الحرب خائر القوى، يلاحظ قوة الطرف الآخر وفي باله فكرة الانهزام، بل إنه منذ أوّل لحظة يواجه فيها العدو، أو قبل ذلك، يفكر بكيفيّة الهروب والخلاص، لأنه لا يعتقد بأن النصر حليفه أبداً، بسبب تشاؤمه الذي أثَّر على إرادته فأضعفها. ولذلك حاول الإسلام أن ينفي حالات التشاؤم ويرفضها، ويؤكد على أن التشاؤم ليست له أيّ حقيقة في الواقع، محاولاً بذلك رفع أيّ حالة من شأنها أن تضعف إرادة الإنسان.
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «... والطيرة ليست بحقّ...» (1).
لقد شهدنا كيف تقدم الصليبيون لاحتلال العالم وسحق الشعوب المظلومة ومصادرة ثرواتها، ولا يخفى أنهم انتصروا في بادئ الأمر، ولكن عندما نتساءل عن سبب انتصارهم، سوف نكتشف أن أهم سبب كان تعبئة المقاتلين تعبئة روحية من خلال رجال الدين. حيث عملت الكنيسة والقساوسة والرهبان بجدّ ومثابرة على بث روح الحماس في الجنود روحياً. وزرع الأمل وطرد اليأس مننفوسهم، وتلقينهم بأنهم شعب اللّه المختار. وصار فتح وإستعمار البلدان واجباً
ص: 237
دينيّاً بالنسبة للجنود، بعد أن خلطوا فيهم الدماء مع فكرة الشعب الخالد الذي يجب أن يبقى على الأرض وحده لا يشاركه غيره من الشعوب والديانات الأخرى فبات كل جندي يرى أنه أفضل من غيره فيجب أن يبقى حيّاً، والآخرون إمّا أن يموتوا أو يكونوا تابعين له. وبمستوى هذا الشعور تحرك اليهود أيضاً من أجل ترسيخ كيانهم اللقيط على أرض فلسطين وفي الطرف المقابل كانت عزائم المسلمين خائرة، ومعنوياتهم مسحوقة، وإراداتهم معدومة بسبب انغماسهم في الدنيا، وابتعادهم عن الدين، وانحراف حكوماتهم، والجهل الذي انتشر في ربوع البلدان الإسلامية، بسبب الترف والملّذات، وتنازلهم عن المبادئ الإسلامية الحكيمة. وهكذا سرقت الثروات العظيمة وخيَّم الجهل واستوطن اليهود فلسطين.
والكل يعلم أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)انتصر على أعظم الجيوش، وخاض أكبر المعارك، واستطاع أن ينشر الإسلام في الأرض، في عدد قليل من الجنود، وأسلحة متواضعة ورديئة، إذا قيست مع أسلحة الجيوش التي حاربته. إلّا أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبّأ المسلمين تعبئة روحية عالية، وغذّاهم بالغذاء المعنويّ الغنيّ، وثقفهم بثقافة الإيمان والتوحيد، التي تعني أنه لا مؤثِّر في الوجود إلّا اللّه، مما يزرع في قلوب المسلمين القوة والثبات، والتحدّي لأي قوّة في العالم. لذلك خاض المسلمون معركة بدر، وسطّروا فيها أروع معاني البطولة، وأجمل صور الصمود والثبات والتضحية، مع قلّة عددهم. ثم خاضوا الحرب تلو الحرب، دون تعب أو كلل، حتى أوصلوا الإسلام العظيم إلى الصين وأسبانيا وفرنسا والهند وايران... وهكذا،فقد لعب التفاؤل دوراً كبيراً في نشر الإسلام وإعلاء كلمة التوحيد، وإعزاز
ص: 238
المسلمين أنفسهم، لأن الدين يدفع الإنسان نحو التواصل والاستمرار والحركة في الحياة، وإشعاره بالمسؤولية، باعتباره خليفة اللّه في الأرض.
وكلّما استغرق الإنسان في أجواء الدين، وأجواء الحب الإلهي، والقرب منه تبارك وتعالى، فإنه لا يعرف للتشاؤم أي معنى، ولا يعرف الخيبة ولا الكسل، بل إنه يرى أن الكمال يحصل عليه يوماً بعد يوم. وعليه فيجب أن يواصل الحياة ويجاهد ويصارع كلَّ من يعترض مسيرة كماله واتصاله بربِّه عزّ وجلّ. أمّا إذا ضعف هذا الإحساس الديني، والهاجس الروحي، بسبب الأهواء والميول والجهل والتجهيل، فلا يبقى للملكات الإنسانية الجميلة أي موضع في هذا الإنسان فيعود ضعيفاً خائفاً مستغرقاً في الدنيا، إلى أن يعرف حقيقتها، وأنها زائلة غير دائمة له، فيكرهها ويتشاءم منها، ومن كل صورها، ومن أناسها.
إنها مسؤولية كل مسلم، مهما كان دوره في الحياة، أن يسعى لنشر الإسلام لإنقاذ البشرية جمعاء من الظلمة والطواغيت، والذين يلعبون بمقدرات الشعوب، على حساب أهوائهم وملذّاتهم. وعلى كل مسلم أن يعرف دوره في هذا الواجب المقدس، لا سيّما وأن للمسلم قناعات بأن هذا القرن هو قرن حاكمية الإسلام، لذلك نرى الطواغيت أخذوا يكثفون من إرهابهم ضد المسلمين. ولكن مهما فعلوا فإن المسلم يحبّ دينه، ولن تضّره هذه التوافه، ويوماً بعد يوم سوف يثبت المسلمون إرادتهم، ويحكّموا الإسلام كدين ونظام ليسوس الناس كلهم.
ولكن إنما يمكن لذلك أن يتمّ، إذا عمل المسلمون بأسباب النصر والعزّة، التي نذكر هنا بعضاً منها:
1- أن تظلّ فكرة التفاؤل في ذهن كل مسلم، لكي يبقى يتحرك ولا يقف أبداً،
ص: 239
ويشعر في أعماق نفسه أنه منتصر، وأنه صاحب الحق، وأنه القوي دائماً، وأن الحياة تتجدد، والكفر لا بدّ أن يزول، لأنه باطل، ولن ينسجم مع الحق، ويقوي إرادته من خلال إحساسه وشعوره هذا. وأن يبعد نفسه عن أي فكرة تحمل إشارة أو إشعاراً بالتشاؤم، لأن ذلك مقدمة للفشل والسقوط.
2- أن يدرس لغة العصر، ويتفاعل مع الناس بالأساليب المتمدّنة، ولا يكون هجيناً غريباً وسط الناس بل عليه أن ينسجم مع الأجواء التي يعيش فيها الناس، ومن خلالها يحاول أن يغيّر. والإسلام لا يعني أن نعيد الشعوب إلى الوراء ونحرمهم من التطور التكنلوجي والتمدن العصريّ، بل يغذي الناس بالأفكار الحضارية التي تربطهم مع بعضهم بعنوان الأسرة الواحدة، وتربطهم مع اللّه بعنوان الخالق والمخلوق. وهكذا ينظّم الإسلام الفرد داخلياً وخارجياً مع ربه، ومع الناس ومع الطبيعة. فعلى العاملين لنشر الإسلام أن يستخدموا الأدوات الحديثة في التبليغ، والأمور الناجحة في إيصال الفكرة، وأن يكلموا الناس بلغاتهم، ليسهل أخذ الفكرة والتفاعل معها. وباختصار: أن يبحث العاملون عن الطرق المختصرة لنشر الإسلام كفكرة ونظام ودين.
ينقل عن أحد الخطباء المبلِّغين أنه في كل عام يذهب إلى أمريكا، ويستأجر قناة تلفزيونية، ويبّث محاضراته عن الإسلام باللغة الإنجليزية التي أتقنها لهذا الغرض. ويستمع إلى محاضراته من الأمريكان ملايين من الناس، وبالفعل فقد استطاع أن يُدخل في الإسلام بفضل محاضراته الكثير من الناس. إن هذا الإسلوب ناجح جداً لأنه حضاري موافق لرغبات الناس، ولا يكلفهم شيئاً سوى الاستماع،وما أكثر الناس الذين يحبون أن تصلهم الأشياء والأفكار جاهزة دون تعب!
ص: 240
3- على الجميع أن يتجنبوا حالات العنف في نشر الإسلام، لأنه أمر غير ملائم لطبع الإنسان وميوله، ولا ينسجم مع أصل الحياة والطبيعة، بل إنه ينفر الناس ويبعّدهم. فالناس تحب حالات السلم والهدوء، والحوار والإقناع والدليل، أما لغة العنف والإثارة فغير صالحة في التبليغ أبداً، ولعلّها تخلق مشاكل ودماءً، وتعثّر السير، وبالتالي لا يتفاعل الناس مع الإسلام، لأنهم يرون فيه العنف والقتل وكلّ ما هو غير طبيعي. وأفضل شيء في التبليغ هو الحوار الهادي، المصحوب والمقترن بالدليل والبرهان والحجج، كما قال اللّه سبحانه في كتابه: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1). وهكذا تحرّك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وباقي الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، إلّا في بعض المقاطع الزمانيّة، حيث اقتضى الأمر الثورة والقيام. ولم يكن هذا الأخير أمراً مخالفاً للتبليغ بل كان يصب أيضاً في نشر الإسلام.
«اللّهم إنّي أجد سبل المطالب إليك مشرعة، ومناهل الرجاء إليك مترعة، والإستعانة بفضلك لمن أمّلك مباحة، وأبواب الدعاء إليك للصارخين مفتوحة، وأعلم أنك للراجي بموضع إجابة، وللملهوفين بمرصد إغاثة»(2).
وقال عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ}(1).
وقال جلّ وعلا: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَٰمُ}(2).
قال عزّ اسمه: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(3).
وقال جلّ شأنه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}(4).
وقال عزّ من قائل: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}(5).
قال سبحانه: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ}(6).
وقال تعالى: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(7).
وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(8).
وقال جلّ ثناؤه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَوَلَّوْاْ قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَالْأخِرَةِ}(9).
ص: 242
قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألّا اُخبركم بخير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «إفشاء السلام في العالم»(1).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحمد للّه الذي شَرَعَ لكم الإسلام... فجعله أمناً لِمَن عَلِقَهُ، وسِلماً لِمَن دَخَلَهُ»(2).
وقال(عليه السلام): «إنَّ اللّه تعالى خصَّكم بالإسلام، واستخلصكم له، وذلك لأنه اسمُ سلامة»(3).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «السّلام تحيّة لملّتنا، وأمان لذّمتنا»(4).
قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر: مِلاك الدين الورع ورأسه الطاعة»(5).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا حياة إلّا بالدين»(6).
وقال(عليه السلام): «حِفظُ الدين ثمرةُ المعرفة ورأسُ الحكمة»(7).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام) لجابر بن يزيد الجعفي: «يا جابر، ... وحبّنا أهل البيّتنظام الدين»(8).
ص: 243
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفاجر الرّاجي لرحمة اللّه تعالى أقربُ منها من العابد المُقنِط»(1).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قَتَلَ القَنُوطُ صاحبهُ»(2).
وقال(عليه السلام) في صفة المنافقين: «ومقْنِطُو الرّجاء»(3).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اليأس من روح اللّه أشدُّ بَرداً من الزمهرير»(4).
ص: 244
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحمد للّه غير مقنوط من رحمته، ولا مخلوّ من نعمته، ولا مأيوسٍ من مغفرته ولا مستنكف عن عبادته، الذي لا تبرح له رحمة، ولا تفقد له نعمة»(1).
وجاء في الحديث الشريف عنه(عليه السلام) «آلة الرئاسة سعة الصدر»(2).
حيث تعتبر سعة الصدر (بما فيها الحلم وكظم الغيظ) من أشرف الكمالات النفسية بعد العلم بل لا ينفع العلم بدونه.
وقد مدح اللّه تعالى ذلك وأثنى عليه في محكم كتابه، فقال سبحانه: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(3).
وعلى هذا النسق جاءت توجيهات أهل البيت(عليهم السلام)، هناك كلمات وأحاديث بالرغم من قصرها ولكنها تدل على معان عميقة وكثيرة ومملوءة بأفكار وآفاق واسعة، بإمكانها أن تغير الدنيا وتؤثر فيها تأثيرات جداً عميقة، وكلمة الإمام(عليه السلام)(4). المتقدمة هي من هذا القبيل.
ص: 245
لسعة الصدر معان ولوازم متعددة وكثيرة منها:
أولاً: الكرم والجود، حيث يعتبر الكرم والجود من مظاهر سعة الصدر ويتضح ذلك أكثر في الحديث الشريف عن الإمام الصادق(عليه السلام):
«ثلاثة تدل على كرم المرء: حسن الخلق، وكظم الغيظ، وغض الطرف»(1).
ومن هنا يلزم على كل إنسان أن يوفر هذه الصفة الحميدة في نفسه ليستعملها في كل أعماله ومواقفة وسلوكياته، وهذه الصفة الحميدة قد رأيتها عن كثب، وكم كان الموقف جميلاً ومؤثراً وعظيماً وذلك عندما تقدم المتسول الأول إلى المتسول الثاني مستعطياً منه وكان بحوزة المتسول الثاني كيلو غرام من العنب فقدّمه بأجمعه للمتسوّل الأول. وهذه القصة على صغرها حاوية على تلك المعاني الرفيعة، وقد قيل: «جود الفقير أفضل الجود»(2). وقيل: «أفضل الجود بذل الموجود»(3). وموقف القرآن الكريم واضح وصريح في هذا المجال: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(4).
ثانياً: حسن التجاوز، إن صفة حسن التجاوز هي من الصفات التي تحتاج إلى جهاد مع النفس، لأنها في الخصال التي ترتبط ارتباطاً مباشراً مع نفس الإنسان، ولذا قيل: «لا يجوز الغفران الّا من قابل الإساءة بالإحسان».
ولذا فإننا عندما نطالع سيرة الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، وبالأخص سيرة الإمام
ص: 246
علي بن أبي طالب(عليه السلام)، نلاحظ أن هذه الصفة بارزة فيها بروز الشمس في رابعة النهار.
ففي ذات يوم وبينما كان الإمام(عليه السلام) يخطب في مسجد الكوفة وإذا بأحد المنافقين قد صاح بصوت عال، ونسب الكذب إلى الإمام(عليه السلام)، فلم يلتفت الإمام(عليه السلام) له بل استمر في خطبته وكأن شيئاً لم يحدث، وفي مرة أخرى: سمع أمير المؤمنين(عليه السلام) رجلاً يشتم قنبراً، وقد رام قنبر أن يرد عليه، فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): «مهلاً يا قنبر دع شاتمك مهاناً، ترضِ الرحمن وتسخط الشيطان، وتعاقب عدوك، فوالّذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه»(1).
هذه المواقف من الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إنما تدل على سعة صدر الإمام(عليه السلام) وعطفه على الرعية؛ من عدوه وصديقه بما فيهم المنافقون.
فعلى المسلمين في كل بقعة من بقاع العالم أن يطالعوا هذا القسم من سيرة حياة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
وحياة الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، فإنه يشرق اشراق الشمس، التي تتجدد كل نهار دون أن تنال منها السنون، أو يعمل فيها التكرار
ذات يوم خرج السيد أبو الحسن الإصفهاني(قدس سره) من الحرم المطهر، فجاءه شخص وسلم عليه وأعطاه ليرة ذهبية، وقبل أن يضع السيد الليرة في جيبه جاء شخص مسرعاً، وهجم على يد السيد أبي الحسن وعضها كي يفتح السيد يدهفيختطف الليرة، فلم يظهر السيد أي رد فعل معاكس، بل فتح يده ونظر إليه
ص: 247
بعطف واشفاق، وأعطاه الليرة الذهبية.
ثالثاً: الهمة العالية، ذات يوم جاءت إلى منزلنا مجموعة نساء وهن باكيات، فقلن: إن رجالنا قد أسروا على حدود العراق وسورية ونحن نريد منكم أن تعملوا شيئاً حتى يطلق سراحهم، فذكرت الأمر لشخص فقبل مسؤولية السعي في قضية هؤلاء واطلاق سراحهم، وبعد عدة أيام بلغني خبر إطلاق سراحهم، وعندما رأيت الشخص الذي قبل مسؤولية السعي في قضيتهم، وسألته عن كيفية تمكنه من إطلاق سراحهم، قال: ذهبت إلى المسؤولين، وقلت لهم: لماذا أنتم تسدون الطريق أمام زوار الإمام الحسين(عليه السلام)؟ ثم وزعت عليهم الهدايا والعطايا فشاء اللّه تعالى أن يلقي في قلوبهم اختيار إطلاق سراحهم وهكذا فعلوا وأطلقوا سراحهم.
نعم استطاع هذا الرجل من خلال العطاء والهدية أن يطلق سراحهم، مضافاً إلى الهمّة والسعي وراء القضية وتوكله على اللّه تعالى.
أحد الشخصيات الأجنبية(1).
ذكر في أحد مقالاته(2):
إذا كان هناك رجل في العالم يستطيع أن يحل مشاكل الدنيا والناس الحالية فهو محمد لا غير، (ويقصد به نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)) لأن له همة وسعة صدر واسعة جدّاً، وبهذا يستطيع أن يجمع الناس حوله ويهديهم إلى سبل النجاة والسعادة.
أما وضع المسلمين اليوم فيختلف وذلك بسبب عدم اهتمامنا بسيرة الرسولالأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المطّهرين(عليهم السلام) واقتدائنا بهم نرى وضعنا سيئاً جداً وهناك
ص: 248
مثل شعبي يقول (عندما يهرم الأسد تصبح أذانه لعبة للأرنب)، وهذا ليس من شجاعة الأرنب وجلده، بل إنما هو من ضعف الاسد وهوانه. فوضع المسلمين في الوقت الحاضر أصبح هكذا، لذلك علينا أن نستعيد شخصيتنا الإسلامية القوية إلى الواقع وما ذلك بعزيز حيث يمكن التوصل إليها من خلال عدة طرق:
عبر تنشيط الحوزات العلمية الشيعية، من الناحية السياسية والإقتصادية الاجتماعية والثقافية وما أشبه، لأن الحوزات العلمية هي مفتاح المجتمع الإسلامي، وبوابة تحوله، فأينما دخلت الحوزات العلمية ميدان العمل، جاء التقدم والنصر معها.
عبر تشكيل المجالس الحسينية الأسبوعية في المنازل، لأن هذا الأمر مهم جداً وله آثار إيجابية سريعة، أهمها تعرّف الناس على معالم الإسلام الحنيف، وعقائد أهل البيت(عليهم السلام)، كما أنها تجعل المسلمين فرداً فرداً يشعرون بالمسؤولية الكبيرة، التي يجب أن يؤديها كل مسلم، فضلاً عن انفتاح آفاقٍ جديدة أمامهم ما كانوا ليطّلعوا عليها إلّا عبر ذلك الطريق، لما في المجالس الحسينية من التعرف إلى الناس وعاداتهم وأخلاقهم، وأيضاً طرح المواضيع التاريخية والسياسية والعقائدية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية وغيرها، فضلاً عن الأجر والثواب وقضاء حوائج الناس عبر الاتصال بهم في هذه المناسبات الإسلامية.
الإتحاد والتعاون، إحدى الأمور التي استطاع منقذ البشرية النبي
ص: 249
الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بواسطتها أن يجمع الملل والنحل حول الإسلام الحنيف هو إيجاد التعاون في كل شيء، إلى درجة أن بلال بن رباح، ذلك العبد الحبشي أصبح أخاً لسلمان الفارسي وأبي ذر العربي وصهيب الرومي؛ يعاون بعضهم بعضاً. والتعاون بدوره يولد في ما بين الناس المحبة وسعادة الدارين والارتباط الوثيق في ما بينهم، ويوجههم نحو الهدف.
المسلمون في صدر الإسلام الأول أخذوا هذه الأخلاقيات والسلوكيات واعتقدوا بها وجعلوها ضرورة في حيا تهم اليومية، لذلك عندما هاجر المسلمون مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة أخلى الأنصار بيوتهم أو جزءاً منها للمهاجرين، واهتموا بهم غاية الاهتمام، إلى درجة أنه من كان من الأنصار له زوجتان طلق إحداهما ليتزوجها أخوه المهاجر بعد تمام عدّتها(1).
إذا كان مسلموا اليوم، صغيرهم وكبيرهم، شيوخهم وشبابهم، نساؤهم ورجالهم، يوجدون هذا التعاون والمحبة في ما بينهم، وفي العائلة والمجتمع، فإن الغرب والشرق سوف يشعرون بالخطر المحدق بهم، ويتزلزل أمنهم وطمأنينتهم في بلادنا، ولا يرون أمامهم من سبيل إلّا الهروب والنجاة من الصفوف المتراصة والأيدي المتلاحمة، والجموع المتكاتفة التي يجمعها ذلك الهدف النبيل والعقيدة الواحدة والمبدأ الإلهي السامي. وإن شاء اللّه سوف لا يتركنا الباري تعالى، من دون أن يقوّينا ويثبتنا في هذا الأمر الخطير والمهم من حياة الأمة الإسلامية حتى يوفقنا، ونتمكن من إقامة الحكومة الإسلامية، حتى يوفقنا، ونتمكن من إقامة الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة، حكومة المليار ونصف المليار من المسلمين، وهذه الوحدة والتلاحم متقومة بأمور أهمها سعة
ص: 250
الصدر في ما بين الناس.
«اللّهم صل على محمد وآله، وحلّني بحلية الصالحين، والبسني زينة المتقين في بسط العدل، وكظم الغيظ، وإطفاء النائرة، وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين»(1).
وقال جلّ ثناؤه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(1).
وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(2).
وقال سبحانه: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(3).
قال عزّ وجلّ: {وَأَنفِقُواْ خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَٰعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}(4).
وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(5).
وقال الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام): «الحلم زينة»(1).
وقال الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام): «إنّه ليعجبني الرّجل أن يدركه حلمه عند غضبه»(2).
وقال الإمام محمد بن علي الباقر(عليهما السلام): «ما شيب شيء بشيء أحسن من حلمٍ بعلم»(3).
وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام): «الحلم سراج اللّه... والحلم يدور على خمسة أوجه: أن يكون عزيزاً فيذلّ، أو يكون صادقاً فيّتهم، أو يدعو إلى الحق فيستخف به، أو أن يؤذى بلا جرم، أو أن يطالب بالحق فيخالفوه فيه فإذا آتيت كلاّ منها حقّه فقد أصبت»(4).
وقال الإمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام): «لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً»(5).
وقال الإمام محمد بن علي الباقر(عليهما السلام): «الحلم لباس العالم فلا تعرينّ منه»(6).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أجود الناس من جاد بنفسه وماله في سبيل اللّه»(7).
ص: 253
وسأل رجل أبا الحسن(عليه السلام) وهو في الطّواف فقال له:
أخبرني عن الجواد، فقال له: «إنّ لكلامك وجهين فإن كنت تسأل عن المخلوق فإنّ الجواد الذي يؤدي ما افترض اللّه عزّ وجلّ عليه، والبخيل من بخل بما افترض اللّه عليه، وإن كنت تعني الخالق فهو الجواد، إن اعطى وهو الجواد إن منع لأنه إن اعطى عبداً أعطاه ما ليس له، وإن منع، منع ما ليس له»(1).
وللإمام الحسن بن علي(عليهما السلام): «ما الجود؟ قال: بذل المجهود»(2).
وقال الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام):
«إذا جادت الدنيا عليك فجد بها *** على الناس طرّاً قبل أن تتفلت
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت *** ولا البخل يبقيها إذا ما تولّت»(3)
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه فإن للجود معادن، وللمعادن أصولاً وللأصول فروعاً وللفروع ثمراً ولا يطيب ثمر إلّا بفرع ولا فرع إلّا بأصل ولا أصل إلّا بمعدن طيب»(4).
وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «من لم يحسن أن يمنع، لم يحسن أن يعطي»(5).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «السخاء شجرة في الجنة أصلها وهي مطلّة على الدنيا،من تعلق بغصن منها اجترّه إلى الجنة»(6).
ص: 254
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «سادة الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء»(1).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه الحسن(عليه السلام): «يا بنيَّ ما السماحة؟ قال: البذل في اليسر والعسر»(2).
وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «من قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم»(3).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ ارتضى لكم الإسلام ديناً فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق»(4).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خطبته: «ألّا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟: العفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، واعطاء من حرمك»(5).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أتي باليهودية الّتي سمّت الشاة للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت إن كان نبياً لم يضرَّه وإن كان ملكاً أرحت الناس منه. قال: فعفا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنها»(6).
وعن ابن فضّال قال: سمعت أبا الحسن(عليه السلام) يقول: ما التقت فئتان قط إلّا نصرأعظمهما عفواً»(7).
ص: 255
وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام):
ما من عبد كظم غيظاً إلّا زاده اللّه عزّ وجلّ عزاً في الدنيا والآخرة وقد قال اللّه عزّ وجلّ: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(1) وأثابه اللّه مكان غيظه ذلك»(2).
وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه حشا اللّه قلبه أمناً وايماناً يوم القيامة»(3).
وعن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): مِن أحبّ السبيل إلى اللّه عزّ وجلّ جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم وجرعة مصيبة تردها بصبر»(4).
ص: 256
قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...}(1).
القرآن حياة الإنسان، وبالتدبر في آياته تُسْتَشْرَف الآفاق، وتَنفتح الأبواب بعد إذ كانت مغلقة، لأنه النور الذي يضيء كلّ شيء، والكتاب الذي فيه تفصيل كلّ شيء مما يحتاجه الإنسان من أمور دينه ودنياه، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(2). فالقرآن عندما يفهم فهماً صحيحاً، ويعمل على ضوء ما جاء به من تعاليم، يوصل الإنسان إلى السعادة الأخروية، حيث الجنة والنعيم المقيم، فضلاً عن السعادة الدنيوية، فلو أمعنا النظر في آية اجتناب الظن السيء، وعملنا وفق ما جاءت به الآية مبتعدين عن سوء الظن، وعملنا بحسن النية تجاه الآخرين لحصلنا على الثواب الأخروي وحب الناس فضلاً عن كونه عملاً ممدوحاً لدى العقلاء مثل ما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حَسُنَ ظنّه بالناس حاز منهم المحبة»(3).
ص: 257
ونشير هنا، إلى الظنّ وأقسامه، ونذكر نماذج لتأثير الظن السيء على حياة الإنسان نفسه، فضلاً عن تأثيره على المجتمع.
الظنّ في اللغة: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال الخلاف؛ قال الراغب في المفردات: الظنّ اسم لما يحصل عن إمارة، ومتى قويت أدّت إلى العلم، ومتى ضعفت جداً لم يتجاوز حد التوهم(1).
أمّا تقسيمات الظن فكثيرة بحسب الجهة المنظور إليه من خلالها. فأهل المنطق لهم تقسيم، والأصوليون لهم تقسيم آخر، ولكن المعنى - في النهاية - واحد. فعندما يخبرك شخص مثلاً؛ بأن السماء أمطرت، فهذا يحصل لك إحدى حالات أربع: إما يقين بصدق المخبر أو كذبه، أي أنك تتيقن من صدقه أو كذبه (100%)، أو يحصل لك ظن بأحدهما - الصدق أو الكذب - على اختلاف مراتب الظنّ، وهو احتمال صدقه من (51%) إلى (99%)، فجميع المراتب التي وقعت تحت هذه النسبة، تسمى ظناً، أمّا إذا صار احتمال صدقه مساوياً لاحتمال كذبه، أي (50%) مقابل (50%) فهذا يسمى شكاً، وهكذا إذا احتملت ذلك من (49%) إلى أقل مرتبة، فهذا يسمى وهماً. وقد استنتج هذا التقسيم أهل المنطق، ثم ادخلوا اليقين والظن ضمن أقسام العلم، أمّا الشك والوهم فأدلخوها في باب الجهل. وفي مقابل المناطقة؛ قسم الأصولين الظن أيضاً، إلى ظن معتبر عند الشارع، مثل الظن الحاصل من إخبار شخص ثقة. فهو وإن كان ظناً، إلّا أنه يورث السامع الاطمينان، فيعتبره ويقبله منه. ومن مظاهره العمل بالرواية إذا كانت مشهورة، والسيرة العملية فكلها ظنون لكنها معتبرة.
ص: 258
والفرع الثاني للظنّ عند الأصوليين، هو الظنّ غير المعتبر، مثل الظنّ الحاصل من القياس، أو من إخبار شخص غير ثقة، فهنا يحصل ظنّ ولكن غير معتبر.وهناك تقسيم ثالث للظنّ، في نظر علماء الأخلاق، وهو الظنّ الحسن والظنّ السيء. فالظنّ الحسن هو أن يظنّ الإنسان بأخيه خيراً فيحمل أغلب أعماله وأقواله على الخير. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «حُسن الظنّ مِن أحسن الشِيَم وأفضل القِسَم»(1).
أمّا الظنّ السيء، فهو أن يحمل فعل أخيه المسلم على محمل الخطأ والقصور، أو الشر والعدوان. كأن يشاهده مثلاً يحادث شخصاً فيتخيّل أنهما يتآمران ضده! أو يراه وهو يمتدحه، فيحسب أنه يظهر خلاف ما يبطن! أو يراه يصلي في خشوع، فيقول: إنه يرائي أمام الناس! وإذا رآه يبتسم، قال: إنه يَسخر منّي.
وحرمة هذه الظنون والوساوس، لم تعد تخفى على أحد، فهي أوضح من الشمس. وجميعنا يتلوها في القرآن الكريم، في آيات بيّنات، يفهمها العام قبل الخاص. قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...}(2). وقال عزّ من قائل: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمَا بُورًا}(3).
فقد جاء في بعض التفاسير(4). إن هذه الآية الأخيرة نزلت على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما همّ بالخروج إلى مكّة معتمراً، وكان في شهر ذي القعدة من
ص: 259
السنة السادسة للهجرة، استنفر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من كان حول المدينة من العرب إلىالخروج معه، وهم (غفار وأسلم ومزينة وجهينة واشجع والدئل) حذراً من أن تتعرض له قريش بحرب، فأحرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للعمرة، وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنّه لا يريد حرباً فتثاقل عنه كثير من الأعراب، فقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه! فتخلفوا عنه، واعتذروا بالشغل، ظناً منهم أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو وأصحابه الذين ثبتوا معه، سوف لن يتمكنوا من الرجوع إلى أهليهم وذويهم بالمدينة؛ لأنّ العدو - في خيالهم - سوف يستأصلهم، وزيّن لهم الشيطان ذلك الظن في قلوبهم.
وواضح أن هؤلاء الأعراب لم يستطيعوا أن يفهموا نفسية الصادق الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يطيقوا متابعة أوامره الحكيمة، التي لا تصدر إلّا عن السماء، فذهبت بهم الظنون المذاهب، وشككوا في مواقفه، وحكّموا فيه أوهامهم المريضة، وكأنهم لم يسمعوا قوله سبحانه حين وصف رسوله بأنه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ}(1).
إن عمل الإنسان - شئنا أم أبينا - مرآة لنفسه وشخصيته. وإذا كان هذا الحكم عامّاً لكل عمل، فإن بعض الأعمال - ومنها سوء الظن - تكون أشدّ أثراً، وأسرع ظهوراً على صفحة وجه المرء.
ذلك لأن هذه الرذيلة إذا تمكنت من قلب المرء وتفكيره واستحكمت، فإنها تكشف عن مرض خطير، وخبث مزمن متأصل في نفس حاملها. فإذا استفحلت ربما وصلت إلى حالة يستحيل معها العثور على علاج.
ص: 260
وهي حالة أشبه ما تكون بالإدمان، ووقتها يشعر المصاب بها بحالة منالاستسلام، والانجراف وراء الوساوس والأوهام المسمومة دونما حساب.
ومن هنا تنبع الأهمية، لمكافحة هذا المرض العضال، وهو ما يزال في المهد. وذلك بالترويض والتمرين، ومخالفة الهوى والأوهام والوساوس...، وإن جاءت بلسان العلم والتدين! إذ لكلٍّ حبلٌ، ولكلٍّ مطبٌّ، وذلك هو فعل الشيطان! ومن هنا أيضاً نرى الدقة والحكمة في كلام الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حين يقول: «ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً، وأنت تجد لها في الخير محملاً»(1).
فإذا عملنا على تطبيق ما جاء في قول الإمام(عليه السلام) فإن كثيراً من الظواهر السلبية المنتشره بين الناس سوف تذوب وتتلاش. وسوف يساعد هذا العمل، على توثيق أواصر المحبة والأخوّة بين الناس. فسوء الظنّ عادة ينشأ من خبث الباطن، أمّا حسن الظنّ فهو الكاشف لسلامة الباطن وطهارته. ومن طبيعة الإنسان العاقل الملتزم أن يبحث عن الكمال والسمو. ولذا لا بدّ له من أن يبتعد عن سوء الظنّ ويتجنبه. أمّا بعض الناس من ضعفاء النفوس فتراهم ينقادون - بدون تريث - وراء وسوسة الشيطان مما يجعلهم يسيئون الظنّ بالآخرين، ويلوثون نفوسهم ويُحوّلون حياتهم وحياة من يرتبط بهم إلى تمزق وشقاء.
قلبُ الإنسان مثل الأرض منها السبخة المالحة ومنها الخصبة الطيّبة. فالأرض المالحة لا تنبت إلّا نكداً، وأمّا الطيبة فإنها تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها. وهكذا القلب منه الطيب ومنه الخبيث. والقلب الخبيث لا يخرج منه إلّا
ص: 261
الحقد والخبث وأمّا القلب الطيب فلا ينفح إلّا بالعطر والطيب، ولا يكون قولصاحبه وفعله وفكره إلّا طيباً. وعكسه الإنسان ذو القلب الخبيث. وكما قال ابن الصيفي(1): وكل إناء بالذي فيه ينضح.
أو كقول الآخر: إنك لا تجني من الشوك العنب.
ولهذا تلاحظ أنّ الإنسان ذا القلب الطيّب، إذ رأى شيئاً مريباً يحمله على محمل حسن، وإذا سمع كلاماً بذيئاً، قال: لعلّي لم أفهم معنى الكلام، وأنّ المتكلم لربما كان يريد غير ما فهمت، وإذا سمع كلاماً هو عند العرف مخلّ، رأيته يبحث عن توجيه حسن له، فإن عجز فوّض أمره إلى اللّه تعالى وقال: اللّه أعلم.
وكنتيجة طبيعيّة لهذا الصفاء في السلوك، فإنّ القلب يصفو، والنفس تنير، والذهن يخلص. إذ هو في راحة والناس منه في راحة. أمّا الإنسان السيء السريرة الخبيث الباطن فهو على خلاف هذا كلّه، سيء الظن حتى باللّه عزّ وجلّ، فضلاً عن سوء ظنه بالناس. فإذا سمع كلاماً أولّه تأويلاً سيئاً، بل في بعض الأحيان، تصل الحالة به أنّه وبدون أن يسمع أو يرى عملاً، تراه ينسج أوهاماً وظنوناً سيئة بالآخرين - والعياذ باللّه - .
للظنّ السيء، مردودات ونتائج هدّامة، للإنسان والمجتمع. ففي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، آيات وروايات كثيرة تحذر الإنسان من مغبة الانجرار وراء الأوهام المريضة، والظنون الشريرة، وتتوعده بالعقاب الأخروي،
ص: 262
بعد الضنك والعذاب في الحياة الدنيا، قال تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْدَائِرَةُ السَّوْءِ}(1). وقال تعالى أيضاً: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ...}(2). وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنّ الجبن والبخل والحرص غريزة واحدة، يجمعها سوء الظنّ»(3). وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) «اطرحوا سوء الظنّ بينكم فإن اللّه عزّ وجلّ نهى عن ذلك»(4).
هذا مختصر لما جاء من الآيات والروايات الواردة في التحذير والنهي عن سوء الظنّ ولو ذكرناها تفصيلاً لطال بنا المقام. على أنّ لسوء الظنّ نتائج وخيمة، على الإنسان الظنّان نفسه، بحيث يصبح منعزلاً عن الناس، منطوياً على نفسه، يكره الاجتماع ويستوحش منه، والاجتماع أيضاً يَتَنَفّر مِنه، ويلفظه من بين صفوفه. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من غلب عليه سوء الظنّ لم يترك بينه وبين خليل صلحاً»(5).
هذا من ناحية تأثير سوء الظنّ على ذات الإنسان، أمّا تأثيره على المجتمع بأسره، فهو واضح أيضاً، لأنّ الإنسان عندما ينطوي على نفسه يبتعد عن الناس، لأنّه يسيء الظن بهم وهم يعتزلونه، لأنّه أساء بهم الظنّ، فتراه يعمل على الإضرار بالآخرين، وهم يعملون على مضرته، كما يقول مولى الموحدين(عليه السلام): «شر الناس من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله»(6).
ص: 263
وهذا الشخص يصبح أداة هدم لنفسه، ولمجتمعه. وهذا التأثير لا يختص بالإنسان المسلم فقط، وإنّما يشمل الناس كافة. فما أجدر بالإنسان المؤمن أن ينقب في نفسه، ويسترشد بإخوانه وموجهيه، لكي يقي نفسه ومجتمعه، من شر هذا الميكروب الفتاك، فيحافظ على دينه ودنياه، ويبني بينه وبين الناس أواصر المحبة والتآلف. وذلك عندما يُحسن ظنه بالناس ويشارك الآخرين في بناء مجتمع إسلامي مبني على الإيمان والمحبة والسلام.
سُئل أبو عبد اللّه(عليه السلام) عمّا يُردُّ من الشهود؟ فقال: «الظنّين والمتهم والخصم». قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ فقال: «هذا يدخل في الظنّين»(1).
والظنّين كما جاء في اللغة(2) هو: سييء الظن بالآخرين، فكل شخص يسيء الظنّ بالآخرين لا تقبل شهادته، ويأخذ حكم الفساق والخونة كما جاء في القول الآنف للإمام الصادق(عليه السلام)، وها نحن نلاحظ اليوم، مع كل الأسف أنّ هذا المرض الخبيث أخذ يستفحل في بعض المجتمعات بحيث أصبح بعض الناس يقتل بعضاً، لا لشيء سوى الاعتماد على الظنون والوساوس، ثم يرتبون الآثار الخطيرة على ذلك، نتيجة لظنهم السييء، بل في بعض الأحيان، يكون نتيجة مجرد شك يراود الشخص، فيقوم بأعمال بشعة، فيقتل مثلاً أو يشهد على قضية ما، دون تحرِّ وتبيّن. فإذا أخبره شخص بأنّ فلاناً قتل أباك، وهو يظن بأنّ فلاناً هذا له عداوة، أو كان بينهما سوء تفاهم، فتراه يبني على ذلك القول ويرتب عليه الأثر، ويجعله في مقام العلم، ويقدم على ارتكاب الجريمة.
ص: 264
والذي يحزّ في أنفسنا أننا نلاحظ هذا المرض الخبيث منتشراً، داخل مجتمعنا، وخصوصاً في باب الشهادات، بحيث بات البعض يشهد على أكبر الجرائم مثل القتل والزنا والأموال الكثيرة، معتمداً على ظنّه، مع أنه من المحرمات الكبيرة والخطيرة، ومع أن الإسلام قد وضع ضوابط وشروطاً لذلك فاشترط في القضاء مثلاً توفر البينة الشرعية، فلا تكفي شهادة شاهد واحد، حتى ولو كان هذا الشاهد مرجع تقليد. وفي بعض القضايا الحساسة التي تمسّ الأعراض كالزنا مثلاً لا يكفي فيها أقل من أربعة شهود جامعين للشرائط، فلا تكفي شهادة واحد أو اثنين أو ثلاثة.
وعوداً على بدء، لو طرحنا على أنفسنا هذا السؤال: لماذا ركّز الإسلام في تعاليمه على عدم الأخذ بالظنون وخصوصاً في القضايا المهمة، كالقتل والزنا وغيره؟
والجواب عن هذا التساؤل: هو أنّ اللّه تعالى عندما حدد هذه النظم والقوانين، جعلها رحمة للعباد، فلو أخذ بالظنون بصورة عامة، لا نقلبت الموازين، ولاستحالت الحياة لكثرة الهرج والمرج. بحيث ينتشر القتل، وتسود الكراهية والضغينة بين الناس، ويضيع الحق، ويختل النظام العام وتصبح الأحكام مطبقه على أساس الظنون والأوهام. وما حال بعض الشعوب الإسلامية اليوم من تشتت وضياع إلّا نتيجة لابتعادها عن تعاليم الإسلام، واتكائها في الأحكام والمعاملات على الظنون والشبهات، التي زرعها الغرب ودسّها في قلوب بعض الضالين أو المضلين.
في بعض الحالات قد يقع الإنسان في محذور ارتكاب سوء الظن، من حيث لا يشعر. كما يحصل مثلاً في بعض موارد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ص: 265
وذلك لذهوله، عفواً أو عمداً، عن بعض شرائطهما، في المورد والأسلوب، والثمرة المتوخاة منهما.
وغفلته هذه أو عمده، ربّما أو قعاه - لا سامح اللّه - في حرام هو أشد لما أراد هو تلافيه. وشدة الحرمة لسوء الظن في غنى عن الدليل والبرهان، قال أمير المؤمنين: «إيّاك أن تسيء الظنّ، فإن سوء الظنّ يُفسد العبادة ويعظّم الوِزْر»(1).
ولربما أرتكب الإنسان بنفسه منكراً، وهو غير ملتفت لذلك، بسبب تسرعه وعدم توخيه جانب الحذر والحيطة، أو لعدم إبراز الاحتمالات والجوانب الأخرى الإيجابية في الواقعة. فمثلاً إذا رأى شخصاً يرتكب أمراً لا يليق، فيجدر به قبل أن يرتب الأثر أن يلاحظ بعض الأمور أو الشروط التي يجب توفرها ويحكمها في البين ومنها مثلاً:
أولاً: أن يكون الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر نفسه عارفاً بالمعروف والمنكر.
ثانياً: أن يحتمل التأثير على الأقل، فإذا علم بأنّ الشخص الذي يُأمر بالمعروف، لا يَعمل بقوله وأمره، فلا يجب عليه الأمر أو النهي.
ثالثاً: أن يكون فاعل المنكر، وتارك المعروف، مصرّاً على عمله.
رابعاً: أن لا يتوجه إلى الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، ضرر بسبب أمره أو نهيه.
هذا، مضافاً إلى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ينبغي وقبل كل شيء، أن يكون واسع الصدر، يحمل الأعمال والتصرفات على أحسنها، لأن ظنّه في الطرف المقابل، دون العلم اليقيني بذلك. وهي مسألة هامّة حقاً، ينبغي التنبه
ص: 266
لها دائماً قبل الحكم على الأشياء أو على الناس، إلى أن يحصل العلم التفصيلي بالأمر.
هناك مبحث أصولي يقول: (إنّ الأوامر والنواهي الإلهية، تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية في المتعلقات). فعندما يأمرنا اللّه تعالى بالصلاة أو الصدق أو بغيرهما، فإن هناك مصالح واقعية، وراء تلك الأوامر. لأنّ اللّه حكيم، ومقتضى الحكمة هو أن يأمر بالمصلحة وينهى عن المفسدة. وكذلك الحال بالنسبة للنواهي والمفاسد. والظاهر أنّ هذا الكلام موضع وفاق عندنا.
في ضوء هذه القاعدة، نكتشف أنّ سوء الظنّ فيه مفسدة؛ وذلك لأن الشارع قد نهى عنه، والإنسان العاقل قطعاً يتبع المصلحة، لما بها من خير وفائدة، له وللآخرين، ويبتعد عن المفسدة، لما بها من مضار لنفسه وللآخرين.
وخلاصة القول بعد كل هذا، أن على الإنسان التريث في أعماله وأقواله، وعليه الفحص والتدقيق قبل أن يرتب الأثر. وخصوصاً في المسائل المهمة، والتي يترتب على العمل بها آثار كبيرة وخطيرة، مثل القتل، والأموال الطائلة، وحقوق الناس، وكراماتهم، ونحو ذلك. فلا يحكم بالشيء أو على الشيء، من دون علم ودليل، بل ينبغي توخي الدليل، وتحصيل العذر قبل ركوب أي عمل من الأعمال.
يُنقل أنّه في عهد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، حصلت قضيه صعبة، لم يتمكن من حلها سوى الإمام(عليه السلام)؛ خلاصتها: أنّ مجموعة من الناس جاءوا إلى الإمام(عليه السلام) ومعهم شخص يعمل قصاباً، وهو ملطخ بالدماء ومعه سكين،
ص: 267
فقالوا له: يا أمير المؤمنين، هذا الرجل قتل فلاناً، فقال لهم الامام: كيف قتله؟ قالوا: قتله في الخربة الفلانية. وقد اعترف بذلك، وها نحن مجموعة كبيرة من الشهود، نشهد لك بذلك. فقال له الإمام(عليه السلام): أصحيح أنك قتلت الرجل. فقال له القصاب: نعم يا أمير المؤمنين، والارتباك بادٍ عليه، ووجهه مصفّر. ولكن الإمام(عليه السلام) تفرّس في وجهه، فأدرك أنّه ليس القاتل، فنادى الشهود وقال لهم: أنتم رأيتموه وهو يقتل فلاناً؟ قالوا: لا نحن شاهدناه خارجاً من الخربة وهو مرتبك، وعليه آثار الدم، والسكين بيده، فعندما دخلنا إلى الخربة شاهدنا فلاناً متشحطاً بدمه، فأمسكناه وأتينا به إليك. ولكن الإمام(عليه السلام) تريث قليلاً لكي يعلّم الناس، وخاصة القضاة أن لا يحكموا على شيء إلّا بالدليل والبرهان. وما هي إلّا لحظات، وإذا بالقاتل الحقيقي قد أقبل مسرعاً، ليمثل بين يدي الامام(عليه السلام) ويقول: يا أمير المؤمنين أنا الذي قتلت فلاناً، وإنّ القصاب برئ من دمه، فقال له الإمام(عليه السلام): وكيف حدث ذلك؟ قال له: كانت بيني وبين المقتول عداوة، فدخلت الخربة ووجدته فيها، فانتهزت الفرصة، وقتلته وهربت. فنادى الإمام(عليه السلام) القصاب وقال له: لماذا قلت بأنك القاتل ولم تكن قاتلاً؟ فقال له القصاب، أنا قصاب أعمل في دكان مجاور لهذه الخربة، ودخلت الخربة لكي أقضي حاجتي، فوجدت شخصاً مضرجاً بدمه، فخفت وهربت. وعندما خرجت من الخربة مذعوراً، وجدت الناس متجمهرين في باب الخربة، فارتبكت أكثر، فدخلوا وشاهدوا القتيل، فاتهموني بالقتل، فما عساني أن أفعل أمام هذا الجمهور! فنادى الإمام(عليه السلام) أهل القتيل وأبلغهم بذلك، وقال لهم: من حقكم القصاص، ومن حقكم قبول الدية، وأنا أُفضّل لكم أخذ الدية، لأن هذا الشخص وإن كان هو الذي قتل
ص: 268
ابنكم، ولكن ضميره قد صحا، واعترف بخطئه، وساهم في إنقاذ رجل برئ من القتل(1)!
الشيخ علي المازندراني(رحمه اللّه)، كان من علمه كربلاء المعروفين بالورع والتقوى ففي أحد الأيام وهي جالس في داره وإلى جنبه شخص آخر سمع الجيران صوت إطلاق رصاصة انطلقت من تلك الدار، فهرعوا إلى مكان الصوت فوجدوا شخصاً ممدوداً ملطخاً بالدماء والشيخ إلى جانبه. ولكن من حسن حظ الشيخ، أن الشخص لم يكن قد فارق الحياة بعد، لأن إصابته كانت في بطنه، فقال للناس عندما دخلوا عليه: إنّ الشيخ برئ من قتلي فإنني كنت أُنظف سلاحي، فانطلقت منه رصاصة فأصابتني!
وشاهد كلامنا، هو أنّ الإنسان يجب عليه التريث في الأحكام التي يصدرها تجاه الآخرين، فالجيران عندما سمعوا صوت الإطلاقة، هرعوا إلى المكان ولولا بقاء الشخص على قيد الحياة لكثر اللغط والغلط، وكثرت الظنون والاتهامات وأول تلك الاتهامات هي أن الشيخ هو الذي غدر بالرجل وقتله في داره! ولكن اللّه تعالى أظهر الدليل القاطع، وأنقذ الشيخ البرئ من سوء الظن. وقد روي عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال عندما سئل عن الشهادة: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»(2).
وعن الإمام أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما
ص: 269
تعرف كفك»(1).
«اللّهم بك أساور، وبك أحاول، وبك أجاور، وبك أصول، وبك أنتصر، وبك أموت، وبك أحيا. أسلمت نفسي إليك، وفوّضت أمري إليك، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم»(2).
قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...}(3).
وقال سبحانه: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمَا بُورًا}(4).
وقال عزّ وجلّ: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}(5).
وقال جلّ وعلا: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}(6).
وقال عزّ اسمه: {وَعَلَى الثَّلَٰثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}(7).
وقال جلّ ثناؤه: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
ص: 270
كَثِيرَةَبِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(1).
وقال عزّ من قائل: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}(2).
قال تعالى: {كَلَّا بَلْۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(3).
قال سبحانه: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(4).
قال عزّ وجلّ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}(5).
وقال عزّ من قائل: {...يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}(1).وقال جلّ ثناؤه: {وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَىٰكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).
وقال الإمام أبو الحسن الرضا(عليه السلام): «أحسن الظن باللّه فإن اللّه عزّ وجلّ يقول:أنا عند ظن عبدي المؤمن بي، إن خيراً فخيراً...»(1).
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من دخل مداخل السوء أتهم، من عرَّض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن»(2).
قال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قال رجل من خواص الشيعة لموسى بن جعفر(عليهما السلام) وهو يرتعد بعد ما خلا به: يابن رسول اللّه ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك... ، فقال له موسى بن جعفر(عليهما السلام): ليس كما ظننت، ...، يا عبد اللّه متى يزول عنك هذا الذي ظننته بأخيك، هذا من النفاق...»(3).
2- «سوء الظن بالمحسن شر الإثم وأقبح الظلم»(1).
3- «إياك أن تُسيء الظن فإنّ سوء الظن يُفسد العبادة ويُعظم الوزر»(2).
4- «مَن كَثُرت رَيبَتُه كَثُرت غِيبَتُه»(3).
ص: 274
قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَئًْا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(1).
الإنسان المؤمن عليه أن يبتعد عن التفاخر بالأنساب والألقاب، والحديث عن النفس والمبالغة في وصف كمالاتها، وذلك لأن النفس أمّارة بالسوء تجرّ الإنسان إلى الوقوع في الحرام وتحيطه بالمشاكل. فالإنسان المؤمن إذا راودته نفسه ودفعه جهله إلى التفاخر والمباهاة بعلمه أو بقوته أو بجماله وما إلى ذلك، عليه أن يتذكر أنّ في الكون من هو أعلم منه وأقوى وأكثر جمالاً... فإذا استطاع مثلاً أن يتقن كتاب الرسائل والمكاسب، وكان بإمكانه تدريسهما، عليه أن يتذكّر مؤلف هذين الكتابين ويُقيس علميّته بعلمية الشيخ الأعظم، ويلاحظ هل تمكن من الوصول إلى الدرجة العلمية التي وصل إليها الشيخ؟ وهل وصل إلى درجة الإيمان والزهد والتقوى الذي كان يحملها الشيخ الأنصاري(رحمه اللّه)؟ وهكذا في الجمال والقوة وما إلى ذلك، بل أكثر من ذلك.
فالمطلوب من الإنسان المؤمن أنه كلما زاد علمه أو جماله أو قوته... فإن ذلك
ص: 275
يزيده تواضعاً وخشوعاً للّه تعالى الذي منحه ذلك، ويتواضع أمام الناس ليقومبتوصيل علمه إلى الآخرين، أو تسخير قوته لمساعدة الناس وقضاء حوائجهم، وهكذا في سائر الفضائل والخصال الحميدة.
أما إذا كان يمتلك بعض تلك الخصال الحميدة، إلّا أنه لا ينفك من الحديث عنها، وعن فضائله ومحاسنه، فليتيقن أن فعله ذلك سيوقعه في فخ الغرور والرياء، ويكدّر صفاء النفس الذي أوجدته تلك الخصال فيه.
قال الإمام الصادق(عليه السلام): «المغرور في الدنيا مسكين، وفي الآخرة مغبون، لأنه باع الأفضل بالأدنى، ولا تعجب من نفسك، فربما اغتررت بمالك وصحة جسمك لعلك أن تبقى، وربما اغتررت بطول عمرك وأولادك وأصحابك لعلك تنجو بهم، وربما اغتررت بجمالك ومنبتك وأصابتك مأمولك وهواك، فظننت أنك صادق ومصيب، وربما اغتررت بما تُري الخلق من الندم على تقصيرك في العبادة، ولعل اللّه تعالى يعلم من قلبك بخلاف ذلك، وربما أقمت نفسك على العبادة متكلفاً واللّه يريد الإخلاص، وربما افتخرت بعلمك ونسبك وأنت غافل عن مضمرات ما في غيب اللّه تعالى، وربما توهّمت أنك تدعو اللّه وأنت تدعو سواه، وربما حسبت أنك ناصح للخلق وأنت تريدهم لنفسك أن يميلوا إليك وربما ذممت نفسك وأنت تمدحها على الحقيقة»(1).
هذا كله إذا كان يمتلك بعض الخصال أو - على الأقل - يظن أو يتوهم أنها فيه. أما من لم يمتلك من هذه الخصال شيئاً ومع ذلك يدعي امتلاكها فهذا عين الكذب وسوف ينال عقابه في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإنه سرعان ما يفتضح أمره وينكشف سرّه. وقد أجاد من قال:
ص: 276
كل من يدعي بما ليس فيه *** كذبته شواهد الامتحان(1)
كالذي يدرس الطب، ولم يصل بعد إلى مراحله النهائية، ولم توجد فيه شرائط الممارسة الأمينة ثم يدعي بأنه طبيب ويمكنه معالجة المرضى، ثم يبدأ بتسقيط الآخرين ومدح نفسه دون ضرورة لذلك.
وقد نهت الشريعة المقدسة عن مدح النفس، فمن مدح نفسه ذمّها...
وقد جاء بعض الأشخاص إلى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ومدحوه فقال الإمام(عليه السلام): «اللّهم إنك أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللّهم اجعلنا خيراً مما يظنون واغفر لنا ما لا يعلمون»(2).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ولا تغتر بقول الجاهل ولا بمدحه، فتكبّر وتجبّر وتُعجب بعملك، فإن أفضل العمل العبادة والتواضع»(3).
فالإنسان إذا رأى علامات الغرور والعجب بالنفس أو المال أو الأولاد... تنفذ إلى نفسه، عليه أن يتحصن بالتواضع والنظر إلى سلوك الصالحين، فيذكّر نفسه بمضار الغرور والعجب، ويعتبر بقصص الأولين وما أصابهم من نتائج وخيمة جرّاء العجب والغرور وحب النفس. فعند ذلك لن تتمكن جميع المغريات والشهوات من الدخول إلى نفسه وتغييرها، ويكون متواضعاً بسيطاً في كل شيء.
وربّما يحصل اشتباه لدى البعض فيخطر بذهنه هذا التساؤل: إن الأئمة الأطهار (صلوات اللّه عليهم أجمعين) كانوا يظهرون فضائلهم ويبينوها للناسأفلا يكون ذلك من باب التفاخر؟
ص: 277
ونجيب عن ذلك بوجهين:
الأول: إن الأئمة الأطهار(عليهم السلام) لم يظهروا جميع فضائلهم ومنزلتهم للناس، ففضل أهل البيت(عليهم السلام) ومنزلتهم أعظم مما ظهر وبان للناس، وإن حقيقة فضلهم وعلمهم لا يعلمها على تمامها وكمالها حتى المقرّبون منهم.
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يُقاس بآل محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هذه الأمة أحد...»(1).
فالأئمة(عليهم السلام) هم منبع الفضائل والخصال الحميدة، وما وصل إلى الناس من فضلهم ومنزلتهم إلّا النزر اليسير. هذا أولاً.
ثم إنهم (سلام اللّه عليهم) عندما يظهرون بعض فضائلهم ومحاسنهم فإن ذلك من باب الاضطرار. لأن في عصرهم كثر الأعداء والمغرضون، وحاول البعض أن يدخل في الإسلام ما ليس فيه ويشوّه منظره، فأخذ يروّج إلى نفسه، أو يطبل للآخرين زوراً وبهتاناً، فالأئمة(عليهم السلام) عندما رأوا ذلك قاموا بواجبهم الشرعي، وهو حفظ الشريعة وهداية الناس إلى الصواب، وتحذيرهم من المخاطر، وأظهروا الدلائل للناس بأن الحق معهم، وأنهم الامتداد الطبيعي للنبوة، وإلّا لو سكت الأئمة ولم يبينوا الحق فإن الناس سوف تجهل قدرهم ومنزلتهم وبالتالي يتفرقون من حولهم ويلتفون حول أعدائهم، الذين هم أعداء الحق والإسلام، أمثال يزيد ومعاوية ومروان والمتوكل...
لذا نرى بعض الجهلة أو الذين التبس عليهم الحق من الباطل، ولم يصلوا إلى الحقيقة، ينظرون إلى الإسلام من زاويه ضيّقة، وينسبون تصرفات هؤلاء إلى الإسلام زوراً وبهتاناً، ويقولون: إن الإسلام دين الحرب والنساء ومصادرةالحريات وهتك الأعراض واغتصاب الأموال وما إلى ذلك، لأن أكثر قادته
ص: 278
يهتمون بهذا الجانب، ونسوا أو غفلوا عن الحقيقة، وهي أن معاوية، المتوكل، الحجاج ونظائرهم لا يمتّون إلى الاسلام بصلة، وأنهم حشروا زوراً في الإسلام، فالذي يريد أن يعرف الإسلام جيداً فعليه أن يتصفح سيرة أهل البيت(عليهم السلام) في الحياة، ويكتشف منها الإسلام الحقيقي، ويعرف أنه دين السلام والحرية، دين العلم والمعرفة. ولسنا نبالغ حين نقول: إن كثيراً من المظاهر الصحية، والعوائد الحسنة التي نجدها اليوم في بلاد الغرب، إنما انتقلت إليهم عبر المسلمين الذين تواجدوا في تلك البقاع أيام صدر الإسلام، وعن طريق الأندلس مثلاً التي انتقلت منها الكثير من العلوم والآداب والأخلاق الإسلامية إلى أوربا. وهاهم الغربيون أنفسهم يعترفون بذلك في كتبهم. وهذه الفضائل مرتبطه بالأنبياء وبالأئمة المعصومين(عليهم السلام).
وإلّا فإن سياسة الأمويين والعباسيين وغيرهم كانت سياسة الجور والبطش والدمار. فالنبي عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) عندما قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ الْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَٰنِي بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرَّا بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}(1). كل ذلك إنما كان لأجل أن يُبين للناس بأنهم أشخاص واقعيون، وهداة لا يريدون إلّا الخير للناس وإبعاد الشّر عنهم.
ولقد جاء بعض الناس وادّعوا جهلاً ما قاله الإمام علي(عليه السلام) «سلوني قبل أنتفقدوني»(2)، وكانوا يتصورون بأن هذه الكلمة بسيطة، مع أنها دعوى لا يستطيع
ص: 279
أحد ركوبها بصورة واقعية غير الأنبياء والأئمة المعصومين(عليهم السلام). وذلك لأنهم هم الوحيدون القادرون على إجابة كل ما يُسألون. وهل تتصور أن هناك حدّاً للأسئلة؟ هل يمكن أن نقدّر عدد المجهولات الموجودة في الدنيا؟ فما علومنا نحن البشر جميعاً - حاشا المعصومين(عليهم السلام) - في مقابل تلك المجاهيل إلّا كالقطرة مقابل البحار السبعة والمحيطات الكبيرة. ومن هنا رأينا كل الأشخاص الذين يدّعون العلم والمعرفة سرعان ما يفتضحون.
قال أحد الأشخاص(1): سلوني قبل أن تفقدوني، فقامت إليه امرأة وسألته سؤالاً، فقال لها: هل خرجت من بيتك بإذن زوجك أم لا؟ فإذا خرجت من بيتك من دون أن تأخذي إذن زوجك فعليك لعنة اللّه، وإذا خرجتي بإذنه فعليه لعنة اللّه(2).
ولسنا ندري لو أن هذه المرأة ما كانت ذات زوج، أو أن السائل كان رجلاً، ماذا كان يكون جوابه. وثانياً: إذا كانت المرأة قد خرجت بإذن زوجها فلماذا عليه لعنة اللّه؟ وثالثاً: لو أنها خرجت من دون إذنه ولكنها خرجت لأجل تعلّم المسائل الدينية الواجبة، فليس عليها إشكال في ذلك؛ لأنه واجب عيني.
إذن هناك بعض الجُهال يتصورون أن مقولة (سلوني قبل أن تفقدوني) كلمة سهلة، فعلى الإنسان أن يبتعد عن الادعاءات، وخصوصاً إذا كانت باطلة، لأن من أدعى باطلاً سرعان ما يظهر كذبه للناس، وإذا كان ادعائة صحيحاً فإنه سوف يثيرالناس عليه، كما نقلوا أن ساحراً ادعى بأنه يعرف بعض الطلاسم بحيث يُطفي بواسطتها غضب وانتقام اللّه سبحانه وتعالى، وكان هذا الساحر قد جمع حوله
ص: 280
بعض السذج والأغبياء، وعندما مضت مدة من الزمن ألقي القبض عليه وحُكم عليه بالإعدام فلما كانوا يقودونه نحو خشبة الإعدام التفت إليه شخص وقال له: أنت كنت تدعي بأنك قادر على اطفاء غضب اللّه سبحانه وتعالى عن طريق الطلاسم، فلماذا لا تستطيع أن تقلّل غضب الناس عليك! فالادعاء الكاذب سرعان ما ينكشف ويظهر للناس.
وكذلك كان حال مسيلمة الكذّاب الذي ادعى النبوة، فجاؤا إليه وقالوا له: عندنا بئر قلَّ ماؤها، فإذا كنت نبيّاً حقيقة، فأبصق فيها أو اسكب شيئاً من ماء فمك فيها حتى تمتلئ، ولكنه عندما سكب من ماء فمه فيه سرعان ما جَفَّت بدل الامتلاء، عندها ظهر كذبه، وافتضح أمره بين الناس(1).
وقد كنت في أحد الأيام جالساً عقب صلاة الجماعة في صحن الإمام الحسين(عليه السلام)، فجاءني شاب يظهر عليه أنه شخص مثقف، إذ قال لي: إني معلِّم، وجئت أدعوك لدينٍ جديد، قلت له: وما هو هذا الدين؟ قال: ظهر نبي جديد في الحلة، فأرسلني لكي أدعوك للإيمان بمذهبه، إذ يظهر عليك إنك صاحب علم ومعرفة وثقافة، فقلت له: هذا النبي الجديد الذي ظهر في الحلّة هل لديه معجزة؟ فقال: ما معنى المعجزة؟ قلت له: مثلاً يَمرُ في الحلة نهر الفرات فإذا كان صادقاً في ادعائة فعليه في أقل التقادير أن يمشي على ماء النهر بدون أي وسيلة، فيعبر من طرف إلى آخر من دون أن يغرق، فقال لي: لا يستطيع ذلك،فقلت: إذن لا يستطيع أن يأتي بمعجزة، قال: المعجزة ليست شرطاً في النبوة؟ قلت إذا لم تكن المعجزة شرطاً فأي شيء يصح أن يكون شرطاً هل الادعاء فقط
ص: 281
يكفي؟ فإذا جاءك شخص وادّعى النبوة فهل تصدقه؟ فكَّر قليلاً ثم قال: إني لا أمتلك جواباً الآن لهذا السؤال، ولكن سوف أذهب وآتيك بالجواب، قلت له لا بأس، فأي جواب حصلت عليه ائتني به. فذهب الشاب دون أن يرجع أبداً. ولم يعد خافياً أن الادعاءات السابقة بالنبوة وغيرها، كانت في وقت كان المسلمون فيه مستقلين، فلا أحد من الخارج يتدخل في بلادهم، وكانت أسباب هذه الادعاءات أهواءً وأغراضاً شخصية، ولكن منذ أن دخل الاستعمار في بلادنا الإسلامية جعل يروج لهذه الادعاءات لزعزعة الأوضاع، ولإشغال الناس بهذه الترهات وترك واجباتهم، لكي تسنح الفرصة له لتنفيذ مخططاته الخبيثة في سبيل القضاء على الإسلام والمسلمين.
والسؤال الذي لا بد من الإشارة إليه هو: هل إن الادعاءات والدعايات التي تروّج من قبل أفراد أو من قبل الاستعمار لها تأثير على الأمة أم لا؟
في مقام الجواب نقول: نعم، وبشكل كبير، فمثلاً عندما يريد الاستعمار تسقيط بلد من البلدان، فإنه يستخدم عدّة طرق لأجل ذلك، فمن جانب يستخدم الجواسيس، ومن جانب آخر عن طريق الأموال واعطاء الرشاوي، ومن جانب ثالث: يستخدم الطابور الخامس وكل من هذه الشخصيات يأتي بكلام وبدعوة إلى ذلك المجتمع، فهم مثلاً صنعوا (علي محمد) على أنه باب إلى الإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشريف ثم بعد ذلك، ادّعى أنه هو المهدي(عليه السلام)، ثم ادّعى أكثر من ذلك، وكذلك زرعوا أشخاصاً آخرين ادعوا كذباً بأنهم أنبياء. وفي كل مجتمع يريدونإمرار مخططاتهم عليه يأتون اليه بلعبة جديدة تتناسب مع الجوّ العام لكي يشغلوه بها فتُتاح لهم فرصة تطبيق مخططاتهم وأغراضهم على ذلك المجتمع. إذن
ص: 282
فالاستعمار يتحرك عبر خطط كثيرة جداً، ويُوظف لأجل تمرير خططه الأشخاص الكثيرين أيضاً، كل ذلك لأجل تشتيت المسلمين والقضاء على إسلامهم. ولهذا السبب نرى أنهم استطاعوا بالفعل تشتيت المسلمين، وأن يجلبوا لهم مختلف المشاكل والمتاعب، فنرى الاستعمار نَصَب عميله (غلام أحمد القادياني)(1) زعيماً دينياً لباكستان والهند وبعض المناطق من أفريقيا، ووضعوا له من أجل ذلك برامج وإعلاماً مكثفاً، وفي ايران جاءوا (بعلي محمد باب)(2) وطبّلوا له كثيراً. وأما في الجزيرة العربية فقد جلبوا (محمد بن عبد الوهاب)(3) ومعه مجموعة من الأفكار الضالة والهدّامة، والذي تسبب في قتل الكثير من المسلمين، وإلى يومنا هذا. ولكن هؤلاء المأجورين افتُضح أمرهم عند أكثر الشعوب الإسلامية، وذلك لكونهم ادّعوا أشياءً ليست موجودة فيهم، كما افتضح كثيرون على مرّ التاريخ، ادّعوا ما ليس لهم، عندما طولبوا بالدليل والبرهان.
ففي زمن المتوكل العباسي ادّعت إمرأة أنها زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فجاءوا بها إلى المتوكل، فسألها: هل أنت بنت علي بن أبي طالب؟ قالت: نعم. قال: وما هو شاهدك على ذلك؟ فقالت: لا أملك شاهداً، ولكن الذي أقوله حقيقة واقعية، فقال المتوكل: مضى من زمان الإمام علي(عليه السلام) وإلىيومنا هذا ما يُقارب المائتي سنة، فكيف بك على قيد الحياة؟ فقالت: إني بصورة إعجازية أرجع إلى شبابي كل عدّة سنين مرة واحدة، فأمر المتوكل بإلقائها في
ص: 283
بِركة السباع إذا كانت صادقة في قولها، وإن الأسود سوف لا تمسها بسوء إذا كانت بنت الإمام علي(عليه السلام)، فلما حان وقت الامتحان والإلقاء في بِركة السباع اعترفت المرأة بكذبها، وأنها ليست بنت الإمام علي(عليه السلام)، وأنها امرأة فقيرة وإنما فعلت ذلك في سبيل الحصول على المال ولقمة العيش(1).
على أن هذه الدعاوى والأباطيل لم تكن لتظهر فوق السطح لو لم يكن الجوّ العام مهيّأ لها، والأرض خصبة ممهَّدة لاستقبالها. تُرى لو وجد في المجتمع الوعي والمناعة ضد الادعاءات الفارغة، هل كانت الفرصة تسنح لظهور أمثال سجاح ومسيلمة؟ لكن الدود يعرف أين يولد والطحالب تعلم أن تطفو وتتكاثر.
فإذا أردت أن تقطع الشك باليقين، فانظر ما جرى بحق الميرزا القمي(رحمه اللّه)، الذي كان - في زمانه - معدوداً في المراجع الكبار ومشاهير العلماء. فقد نقل عنه أنه ذهب مرّةً إلى قرية من القرى لأجل الموعظة والإرشاد، وكان في تلك القرية شيخ يتصدر أمورهم، فخشي الشيخ من التفات الناس حول الميرزا، وابتعادهم عنه هو، لهذا جاء ووقف أمام الناس وكان الميرزا واقفاً أيضاً، فقال لهم: إن الميرزا رجل أُمّيُّ لا يفهم شيئاً أبداً، ولا يعرف حتى الكتابة ويجب إخراجه من القرية، وسوف أثبت لكم أُميّته، فقال للميرزا اكتب (حيّة) فكتب الميرزا القمي كلمة (حيّة)، بينما جاء شيخ القرية ورسم لهم حيّة، ثم قال للناس: أنتم انظروا واحكموا؛ أيهما هي الحيّة؟ فقالوا له: الذي رسمته أنت هو الحيّة والذي كتبه الشيخ الجديد (الميرزاالقمي) ليس حيّة. لهذا جاءوا اليه وطردوه من قريتهم. فخرج الميرزا لكونه رأى أنه لا يستطيع البقاء والتبليغ في وسط الجهال فإنه قادر على كسبهم والضحك عليهم،
ص: 284
ولكن إذا ظهر في وسط مثقفين وواعين، فإنه لا يستطيع إظهار ادعاءاته الفارغة، لأنه سرعان ما ينكشف كذبه. ومن هنا تظهر عظمة الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) الذين بقيت دعواتهم راسخة إلى يومنا هذا، وستبقى إلى يوم القيامة، مع أنهم إنما ظهروا في مراكز تعجّ بالحضارة والتمدن، ودللّوا على أن ما لديهم ليس من عند بشر. فنبيّنا العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تحدّى الفصحاء والبلغاء في عقر دارهم، فدانوا له بأن ما جاء به ليس بشعر ولا سحر، وأن فيه لحلاوة، وأن عليه لطلاوة(1).
ونبيّ اللّه موسى(عليه السلام) يتحدى جمهور المبرزين من سحرة فرعون، في يوم الزينة، فيبطل فنّهم بعصا عاديّة، غدت تبتلع ما يأفكون، فخرّوا للّه سجداً، وقالوا: آمنا برب موسى وهارون.
وكذلك كان حال عيسى بن مريم وسائر الأنبياء(عليهم السلام). أتوا بما لا يأتي به الآخرون، وفي وضح النهار، وأمام الملأ العامّ، دون أن يقصروا تحديهم على شخص دون شخص، ولا سيّما من كانوا معدودين في العلماء والكبراء، هؤلاء يرعدون وأولئك يبرقون، إلى أن أقروا في نهاية المطاف بصحة دعوى الأنبياء وصدقهم ونزاهتهم.
وإن أمير المؤمنين(عليه السلام) حين قال قولته المشهورة: «سلوني قبل أن تفقدوني» فإنه لم يقلها في قرية نائية تخلو من العلماء والفقهاء، بل كرّرها مراراً، وفي جمع العلماء والفقهاء من الصحابة والتابعين، فلم ينكر عليه أحد... وذلك هو برهانعلمه وعلوّ شأنه بين أقرانه وأهل زمانه.
نعم، فلو ادّعى شخص مثلاً بأنه فقيه وأعلم العلماء وذلك في قرية نائية جداً، فإن ادعاءه هذا ليس بدليل وحجة. لأن الناس في تلك القرية عادة إمّا مزارعون أو
ص: 285
كسبة، فليس لديهم معرفة كاملة بالفقه حتى يشخصوا العالم الكامل من غيره، ولكن إذا ادّعى ذلك الشخص الفقاهة والعلم في إحدى الحوزات العلمية، فإن كلامه سوف يظهر للناس صادقاً كان أم كاذباً.
وقد نُقل أن جماعة التفوا حول شخص كان والده عالماً دينياً ولكنه توفي، فنصبه الناس بدل أبية، فجاء بعض الأشخاص إلى الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر(رحمه اللّه) وقالوا له: بأن هذا الولد لا يفهم شيئاً أبداً، حتى إنه لا يفهم المسائل البسيطة الموجودة في الرسائل العملية للعلماء، فقال صاحب الجواهر: هذه حادثة عجيبة تنقلونها لي، ثم أخبروه بأن جماعة من الناس إلتفّوا حوله، وبواسطته يحصلون على معيشتهم ونفقتهم اليومية.
وصادف أن يلتقي صاحب الجواهر بهذا الشاب في أحد مجالس الفاتحة أو القراءة الحسينية، فسأله عن حكم صلاة المغرب في السفر، هل تُقصر أم لا؟ فقال الشاب: نعم تقصر وتكون ركعة ونصفاً، فسكت صاحب الجواهر وأدرك حقيقة الأمر.
وعلى أية حال، فإن خلاصة حديثنا: على الإنسان أن يبتعد عن الادعاء سواء كان في الباطل أو في الحق، فإذا كان حقاً فربما يوقعه ذلك في الرياء ويذهب عمله هباءً. أما إذا كان باطلاً فإنه كذب وزور، وهذا يستحق عليه العقاب الأخروي إضافة إلى انكشافه للناس ونفورهم منه. فإن ساغ الادعاء فإنما يسوغعند الاضطرار، مثلاً يعرّف نفسه للآخرين لكي يهتدي الناس بسببه إلى التمسك بالدين والصراط المستقيم ففي هذه الحالة لا إشكال في ادعائه، بل يكون واجباً أيضاً في بعض الأحيان، لأن الناس إن لم يفعل ذلك سوف يضلُّون ويفسدون،
ص: 286
ولكن من ناحية التواضع يجب على هذا الإنسان الذي نصب نفسه قدوة للآخرين، أن يتواضع مهما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولهذا نرى الإمام علي(عليه السلام) يكتب على كفن سلمان الفارسي (رضوان اللّه عليه) هذه الأبيات:
وفدت على الكريم بغير زاد *** من الحسنات والقلب السليم
وحمل الزاد أقبح كل شيء *** إذا كان الوفود على الكريم(1)
ونقرأ في أحوال الإمام الباقر(عليه السلام) عندما خرج إلى الشام وإلتقى بالنصراني في الجبل، ان النصراني سأل الإمام: أفمن علمائهم أنت أم من جهالهم؟ فقال(عليه السلام): «لست من جهالهم»(2). وذلك لأنه أراد أن لا يقول أنا من العلماء فكلمة «لست من جهالهم» أخف على سمع المسيحي من كلمة أنا من العلماء، ولو أن كلاهما له معنى واحد. فينبغي لنا أن ندقق مهما أمكن في انتقاء التعابير، التي تخدم المسيرة، ونبتعد عن الألفاظ الرنّانة التي ربما أودت بصاحبها من حيث لا يشعر. كما نقلوا عن أحد خلفاء بني العباس أنه يفضّل أحد ابنيه على الآخر، وحينما سألوه في ذلك، سأل الأول: ما جمع (مسواك)؟ قال: مساويك!، وثم سأل الثاني: ما جمعها؟ فقال: غير محاسنك(3).
وواضح أن الثاني إنما رجّح أن لا يلفظ كلمة الجمع عينها، لما فيها من دلالةواضحة على قلّة اللباقة والاحترام.
فينبغي الابتعاد مهما أمكن من الادّعاء، ومع الاضطرار لأجل المصلحة مثلاً فلا بد عليه أن يظهر إلى جانب ذلك تواضعه الشديد، لكي يخفف من وطأة وحدّة الادعاءات التي قالها لكي لا يُثير الناس عليه.
ص: 287
فعن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «من تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند اللّه من الصديقين، ومن شيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام) حقاً»(1).
وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «التواضع أصل كل خير نفيس، ومرتبة رفيعة... ولأهل التواضع سيماء يعرفها أهل السماء من الملائكة، وأهل الأرض من العارفين...»(2).
ولعل أكبر عقبة تحول دون تواضع الشخص هي خوفه من فقدان المكانة والمقام بين الناس، لكنه إذا توجّه إلى أن اللّه لا تخفى عليه خافية، وأنه سبحانه هو العالم بحقيقة المقامات، وأنه يزيد فيها على قدر المشقة والعناء، وأن الناس أنفسهم يميلون للمتواضع، ويحترمونه في دخيلة أنفسهم، ويعظّمونه... إنه لو توجّه إلى ذلك حقاً لما بالى بإسفاف هذا ولا صدود ذاك. وإن ما ذكرناه من الأحاديث ليس إلّا عرضاً وعلى سبيل التبرك، وإلّا فإنّ كتبنا تعجّ بالنصوص حول مقام التواضع وآثاره، ودرجات المتواضعين.
إذن فالإنسان الذي يمتلك مكانة وسمعة بين الآخرين لا بد أن يخلط ذلك بالتواضع والخلق العالي، فإذا اضطر العالِم إلى إظهار نفسه بالحق لكي يكسبالآخرين إلى الخير ولكنه يصاحب إدّعاه التواضع، أو أنه ادّعى في محل ووقت غير مناسب ففي هاتين الصورتين سوف يجد بعض المتاعب والمشاكل، وأحياناً لا يمكن له أن يجد خلاصاً ونجاة منها إلّا بعد حين، إذ يكون حاله حال من يؤدبه الزمان، كما قيل:
ص: 288
من لم يؤدّبه الأبوان أدَّبهُ الزمان.
أو كما قال الشاعر:
الدهر أدّبني والصبر ربّاني *** والقوت أقنعني واليأس أغناني
وأحكمتني من الأيام تجربة *** حتى نهيت الذي قد كان ينهاني(1)
والإنسان لا يستفيد كثيراً من تأديب الدهر له، لأن ذلك يكون بعد فوات الأوان، وبعد مشيب الرأس وابتعاد الناس عنه، ووقوع الأذى والخسران. لذا يحتاج الإنسان العالم أو الذي يريد الدخول في عقول وقلوب الناس، إلى الكثير من الحلم والصبر والتعقل والتفكير، لكي يكون ناجحاً وفاضلاً في المجتمع، فعلية أن يلتزم بالمظهر العادي الخالي من العلوّ والتكبر، ويبتعد كل البعد عن مظاهر الادّعاء والخيلاء والكبر والاعتداد بالنفس، ويذكر نفسه دائماً بأنه إن كان عالماً فإنّ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}(2)، وفوق كل ذي عظمة ومكانة عظيم ومكين.
«اللّهم إني أعوذ بك من هيجان الحرص، وسورة الغضب، وغلبة الحسد، وضعف الصبر، وقلة القناعة، وشكاسة الخلق، وإلحاح الشهوة، وملكة الحمية، ومتابعة الهوى، ومخالفة الهدى...، والإصرار على المآثم، واستصغار المعصية،واستكبار الطاعة، ومباهات المكثرين، والإزراء بالمقلِّين، وسوء الولاية لمن تحت أيدينا...، أو نقول في العلم بغير علم... ونعوذ بك من الحسرة العظمى، والمصيبة الكبرى...، وحرمان الثواب، وحلول العقاب. اللّهم صلّ على محمّد وآله وأعذني من كل ذلك برحمتك، وجميع المؤمنين والمؤمنات. يا أرحم الراحمين»(3).
ص: 289
قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا...}(1).
وقال سبحانه: {بَلْ إِن يَعِدُ الظَّٰلِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}(2).
وقال عزّ وجلّ: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(3).
قال جلّ وعلا: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}(4).
وقال عزّ اسمه: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}(5).
وقال جلّ ثناؤه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}(6).وقال عزّ من قائل: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَٰفِرِينَ}(7).
قال جلّ شأنه: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا يَصْنَعُونَ}(8).
ص: 290
وقال سبحانه: {فَلَا تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ}(1).
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ...}(2).
قال عزّ وجلّ: {يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ}(3).
وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}(4).
وقال عزّ اسمه: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}(5).
قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يابن مسعود: لا تغترنّ باللّه، ولا تغترنّ بصلاحكوعلمك وعملك وبرّك وعبادتك»(6).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «طوبى لمن لا تقتله قاتلات الغرور»(7).
وقال(عليه السلام): «لا يُلقى العاقل مغروراً»(8).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المغرور في الدنيا مسكين، وفي الآخرة مغبون،
ص: 291
لأنه باع الأفضل بالأدنى»(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إجتنبوا التكبر فإن العبد لا يزال يتكبر حتى يقول اللّه تعالى اكتبوا عبدي هذا في الجبارين»(2).
وقال سيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «فاللّه اللّه في...، وسوء عاقبة الكِبر، فإنها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى، التي تُساور قلوب(3) الرجال مُساورة السُموم القاتلة...»(4).
وقال سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «... أول ما عُصي اللّه به الكبر، وهي معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين...»(5).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما من رجل تكبر أو تجبر إلّا لذلّة وجدها في نفسه»(6).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاث مُهلكات وثلاث منجيات، فالمهلكات... وإعجاب المَرءِ بنفسه...»(7).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) للأشتر لما ولّاه مصر: «وإياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يُعجبك منها، وحُبَّ الإطراء فإن ذلك من أوثق فُرَصِ الشيطان في نفسه
ص: 292
ليمحق ما يكون إحسان المحسنين...»(1).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ... قال موسى(عليه السلام) لإبليس: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم إستحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه»(2).
وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «العجب درجات منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعاً، ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمنُّ على اللّه عزّ وجلّ وللّه عليه فيه المن»(3).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «استعيذوا باللّه من جُبِّ الخزي». قيل: وما هو يا رسول اللّه؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وادٍ في جهنم أُعدَّ للمرائين»(4).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أَيسَرُ الرياء الشرك»(5).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... والرياء شجرة لا تثمر إلّا الشرك الخفيَّ،وأصلها النفاق...»(6).
وقال(عليه السلام): «قال لقمان لابنه: ... وللمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده. وينشط إذا كان الناس عنده، ويتعرَّض في كل أمر للمحمدة»(7).
ص: 293
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اتخذ الحق لجاماً إتخذه الناس إماماً»(1).
علم السياسة من العلوم المهمة التي يجب على طلبة العلوم الدينية التوجه إليها وادخالها ضمن البرامج الدراسية مضافة على العلوم الحوزوية الرئيسية الأخرى التي تحتاج إلى بحث وتحقيق. لقد أصبح اليوم تدريس السياسة ومعرفتها في الحوزات العلمية من الحاجات الضرورية التي تفرضها علينا طبيعة الحياة العصرية من باب المقدمة للدفاع عن الإسلام وحفظ المسلمين من المؤامرات والمشكلات التي تحيط بهم من قبل الأعداء...
إذ من دون أن نعرف السياسة ونتفهم أصولها وفروعها لا يمكننا أن نقف أمام الهجمات العنيفة التي يشنها الغرب والشرق ضدنا... فيكون مثلنا مثل السقيم الذي ابتُلي بالمرض ولا يذهب إلى الطبيب ليحفظ نفسه من الهلكة ويبقى هكذا حتى يشتد به المرض ويتفاقم ثم يشرف على الموت!
فإذا أصيب الطلبة بفقدان الوعي السياسي والحيوي فإن ذلك سوف يعرض الأمة باجمعها لمشاكل بالغة الخطورة لأن الناس يأخذون مفاهيم الحياة من الطلبة والعلماء ويرجعون إليهم عند الأزمات والأخطار، كما أنّ الأمة التي تعاني من الأمية السياسية ستكون دائماً معرضة للأخطار والتزييف مما يمهد
ص: 294
للاستعمار أن يطبق خططه العدوانية في البلاد.
ومن الواضح أن تعلم السياسة لا يتم عبر مطالعة بعض الصحف أو المجلات أو الاستماع إلى نشرة خبرية، بل إن تعلم السياسة ومعرفة مداخلها ومخارجها بحاجة إلى سنين طويلة من التعب والمطالعة والبحث والتدقيق والتحقيق كالدكتور الذي يجهد لسنين طويلة حتى يصبح دكتوراً يتمكن من تشخيص المرض ومعرفة أسبابه ونتائجه وكيفية علاجه.
كما أن الإنسان إذا جلس تحت المنابر واستمع طوال خمسين سنة إلى الخطباء فإنّه على الاغلب لا يصبح خطيباً.
إذ أن الخطابة الناجحة بحاجة إلى جهود وأتعاب ومواصلة في البحث وتعلم لفنّ الالقاء وإدارة المنبر يصرفها الخطيب من عمره الثمين كي يصبح خطيباً ولا تكتفي بمجرد الاستماع إلى الآخرين وإلّا لصار جميع الناس خطباء ومرشدين!
وهكذا السياسة أيضاً فإن تعلمها والاطلاع على خفاياها وأسرارها، بحيث يتمكن الإنسان من معرفة اغلب الشؤون السياسية وتحليل قضاياها ومعرفة مطباتها بحاجة إلى بحث ودراسة مفصلة وعميقة يجهد فيها الطالب كي يحصل عليها.
السياسة إدارة البلاد والعباد فالسياسة هي الإدارة، فإذا كان باستطاعة أي شخص إدارة دفة الحكم يعتبر سياسياً وهكذا بالنسبة إلى المناصب الأدنى حتى نصل إلى أقل منصب.
لقد عمد الغرب والشرق في القرن الأخير إلى الغاء علم السياسة من قائمة العلوم المهمة التي تدرس في المدارس والجامعات العلمية لأكثر البلاد الإسلامية وبذلوا جهوداً كبيرة في سبيل عزل الحوزات العلمية عن الساحة
ص: 295
السياسية ومحاولة فصل الدين عن الدولة حتى إنك قد ترى بعض الطلبة يكتفي بدروس الفقه والأصول والأدب والمنطق وما شابه ذلك من الدروس الحوزوية المهمة والأصلية ويتخلى عن العلوم الأخرى التي ترتبط بحياته الاجتماعية والسياسية الأخرى، حتى أن البعض من الطلبة يتصور - وما زال - أنه لا توجد أية علاقة تربط السياسة بالحوزات العلمية، وان العلوم السياسية تختص بطائفة من الناس ولا تدخل ضمن اختصاصات علماء الدين.
ومن الواضح أن فتح البلدان أمرٌ سهل ولكن إدارة الفتوحات صعب جداً لأن ذلك بحاجة إلى إدارة الناس وحل مشاكلهم، وعلم السياسة هي الآلة التي تعين الإنسان المدير على إدارة البلاد وعلى النحو المطلوب.
ومن دونها لا يمكن للسياسي مهما أوتي من قوة وقدرة أن يحقق أهدافه ويصل إلى ما يسعى إليه...
في القرن الماضي حصلت تغييرات مهمة في العالم وكان منها ما حصل في إيران حيث نهض الفقهاء والمراجع ضد الاستبداد والدكتاتوريّة، ومن جملة هؤلاء المراجع كان المرحوم الآخوند الخراساني(رحمه اللّه) صاحب الكفاية وكان سبب هذه النهضة هو اضطلاع علمائنا الأعلام بالأوضاع الاجتماعيه والسياسية التي تحيط بهم وتمتعهم بالوعي السياسي الكامل.
وكذلك المرحوم السيد البروجردي(رحمه اللّه)، حينما أراد شاه إيران السابق أن يطبق بعض القوانين اللاشرعية في البلد وقف أمامه بإصرار وقاومه بشدّة، حتى اضطر الشاه إلى ارسال رئيس وزرائه إلى السيد ليقول له: إن هذه القوانين قد طبقت في
ص: 296
البلاد المجاورة ونحن ومن أجل مراعات بعض الأمور الدولية لا بد لنا من تطبيقها اجباراً.
ولكن المرحوم السيد البروجردي وبما امتاز به من وعي سياسي ثاقب رد عليه بقوله للوزير: قل للملك، إن في الدول المجاورة قد انتقل الحكم من الملكي إلى الجمهوري. كناية عن أنه لو اراد الملك أن يطبق هذه القوانين هذه القوانين فعليه أن يتنحى عن السلطة ليحل مكانه الحكم الجمهوري لمراعاة الوضع الدولي ولكن الوزير حينما لم يجد ردّاً مناسباً له خرج من المجلس غاضباً، ولم يستطع الملك بعد ذلك إجراء هذه القوانين مادام السيد البروجردي على قيد الحياة... وفي مرة أخرى أراد الشاه أن يجري قانون المساواة بين المرأة والرجل ولكن السيد البروجردي(رحمه اللّه) أيضاً قاومه بشدة ولكن الملك اصر هذه المرة على تطبيق هذا القانون فصمم البروجردي على مغادرة البلاد اعتراضاً على هذا القانون وأمر بالتهيؤ للهجرة فلمّا سمع الشاه بنبأ هذه المغادرة أصدر فوراً قراراً يقضي بالغاء قانون التساوي بين الرجل والمرأة، لأنه كان يعلم أن مغادرة السيد البروجردي البلاد يعني قيام الأمة ضده وتفاقم الأزمة والمصادمة بينه وبين العلماء والشعب الأمر الذي يؤدي إلى انقلاب شامل يقضي عليه وعلى حكمه ومن هنا اقدم على التنازل عن هذا القانون، كلّ ذلك كان نابعاً من وعي السيد(رحمه اللّه) واحاطته بالأمور وقد جاء في الحديث: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(1).
نعم عدم دراسة السياسة في الحوزات العلمية أدى إلى ضعف الشيعة وتقدم الآخرين عليهم، وهذا الأمر من القضايا التي خطط لها الاستعمار الغربي والشرقي معاً من أجل تحطيم الشيعة والتشيع ومصادرة كلّ حقوقهم وثرواتهم
ص: 297
الهائلة.
ولكن البعض مازال يتحسر للعزة والشرف الذي كان يتمتع به المسلمون في القرون الماضيه وتقدمهم على الآخرين ولم يذهب إلى معرفة المرض والعلاج الذي سبب كلّ هذه المشكلات.
نحن بحاجة إلى التجديد والتحدث بلغة يفهمها الآخرون كي نتمكّن أن نتفاهم معهم ونؤثر فيهم ونرشدهم إلى الإسلام وهذا بحاجة إلى تجديد بعض علومنا المهمة في الحوزة لا في الأسس والقواعد بل في التعبير والصياغة.
زهاء ثلاثمائة عام وكتاب الحاشية في المنطق لملا عبد اللّه يدرس في الحوزة العمية وهذا أمر حسن وجيد ولكن لِمَ لا يوجد كتاب حديث يماثله في المنطق. ألّا نريد التقدم والرقي للحوزة؟
أم لِمَ لا يوجد أخصائيون في تاريخ الأنبياء والأئمة عليه السلام ليقوموا بتحليل صحيح لحياة الأئمة(عليهم السلام) وسيرتهم وسلوكهم لكي نتقدم في هذا المجال ونتعرف على حياة أنبيائنا وأئمتنا(عليهم السلام) ولنحذو حذوهم ونسير على هداهم.
لقد ألف الحاج الملا هادي السبزواري كتاب المنظومة قبل مائتي عام ولكن أين اليوم من يقوم بما قدمه المرحوم السبزواري من عطاء إلى العلماء والمحافل العلمية؟
قبل حوالي ثلاثة وعشرين قرناً أصبح أرسطو عبقري زمانه، إنه كان رجل سياسة وقد زار الكثير من البلدان ليتعرف على مناهج وأساليب الحكم في تلك البلاد، ثم بعد ذلك دوّن مؤلفات كثيرة في مجال السياسة ما زالت ترسم الخطوط العريضة لسياسة الغرب في إدارة البلاد والقضايا الدولية إلى اليوم!
فالمطلوب من الحوزات العلمية وطلبة العلوم الدينية أن تضع درس السياسة
ص: 298
ضمن العلوم الأخرى التي تدرسها كي تتمكن أن تحصل على قدرة أكبر وأقوى في نشر الإسلام والدفاع عن المسلمين.
محمد بن عبد اللّه بن الحسن من أولاد الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) ثار ضد حكم المنصور العباسي في المدينة وثار أخوه إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بالبصرة، وقد جمع المنصور جميع مستشاريه ليجد الحل لهذه الأزمة وقد أشار عليه بعضهم أن يستشير شيخاً(1) طاعناً في السن يجيد فن السياسة بشكل غريب، فطلبه المنصور وشرح له الموضوع وطلب منه أن يعرض له حلاً للمشكلة.
فسأله الشيخ عدة اسئلة منها: أين مقر محمد بن عبد اللّه؟ فأجاب المنصور: في المدينة. كم نفوس المدينة؟ قال: ليست كثيرة.
قال: على ماذا يعتمد اقتصاد المدينة؟ قال: على التمر.
قال: ما هو موقع المدينة الاستراتيجي؟ قال المنصور: المدينة عبارة عن أرض غير صالحة للزراعة ولكن توجد حواليها بعض الواحات الصغيرة...
فسأل الشيخ عن شخصية محمد بن عبد اللّه ومدى محبوبيته عند الناس؟ فقيل له: أنه من أولاد الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) وله مكانة مرموقة عند أهل المدينة.
فقال الشيخ للمنصور: إذا أردت أن تقضي على هذه الثورة فعليك أن تجهز جيشاً لمدينة البصرة وتستعد للثائر هناك! ثم قام الشيخ وذهب...
وبعد خروجه من المجلس، قال المنصور لحاشيته: لم أرَ في حياتي أحداً
ص: 299
أكثر حماقة من هذا الشيخ، فإني أخبرته بأن الثورة في المدينة وهو يقول لي استعد له في البصرة!
ولكن بعد فترة وجيزة أخبروا المنصور بأن إبراهيم أخا محمد بنِ عبد اللّه ثار في البصرة والتف الناس حوله (الأمر الذي أكدّ تنبّؤ الشيخ الكبير) فأمر المنصور باحضار الشيخ، فسأله: هل أنت تعلم الغيب بما أخبرتني من الاستعداد في البصرة؟ قال له الشيخ: لا ولكن عرفت الأمر من الاسئلة التي طرحتها عليك إذ عرفت أن المدينة ضعيفة من الناحية الاقتصادية والعسكرية لقلة مواردها وأفرادها، ولذلك فهي لا تصلح لأن تكون قاعدة للثورة هذا من ناحية ومن ناحية ثانية أنّ محمد بن عبد اللّه كان له أنصار في أطراف المدينة وبما أن البصرة هي أقرب المدن إلى بغداد وقوية من الناحية الاقتصادية والعسكرية فكان من الطبيعي أن يلجأ إبراهيم بن عبد اللّه إلى البصرة التي تتوفر فيها الظروف المناسبة للثورة، ومن هنا كانت نصيحتي لك أن تستعد له في البصرة ولكنك لم تسمع!(1).
إن السياسة الغربية فاشلة هذا ما اعترف به أحدهم(2). والذي يعدّه الغربيون من أكبر منظري السياسة اليوم، وقد كتب يقول: إن هناك خمسة وعشرين مليون جائع في أمريكا وهذا ناتج عن فشل السياسة التي تمارسها الحكومة لأن السياسة اللاصحيحة تنتج الجوع.
وكذلك الأمر في الاتحاد السوفيتي(3). حيث أنّ جميع الناس يعانون من الجوع بالرغم من التقدم الصناعي الذي توصلوا إليه وهكذا باقي بلدان أروبا...
ص: 300
يقول برنارد شو(1): إن العالم بحاجة إلى شخصية كالنبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ليحل مشاكله بعد أن عجزت المبادئ الأخرى عن إيجاد حلٍّ له.
وهذا الكلام هو عين الصواب ومعلوم أن سياسة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيرته الصالحة والقوانين الإسلامية كامنة في الحوزات العلمية ولكن يجب طرحها ونشرها بين الناس كي نتمكن من إنقاذهم من مشكلاتهم المتفاقمة ولو بشكل نسبي، إذ نحن نعتقد أن الإصلاح الحقيقي الشامل سيكون في عصر الإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشريف فهو المنقذ الواقعي للعالم وهو الذي سوف يعيد نظام العدل والإيمان إلى الأرض بعد أن سحقته السياسات الشيطانية والأهواء والشهوات...
تربع جمال عبد الناصر على كرسي الحكم في مصر برعاية وإشراف مباشر من قبل أمريكا، ولكن بريطانيا المنافسة دائماً لم تكن ترغب بجمال عبد الناصر رئيساً لمصر فأشعلت نيران الفتنة في اليمن(2) والتي أدّت إلى انجرار ربع مليون مسلم مصري إلى فتنة اليمن وقد راح ضحية هذه الفتنة الآلاف من المصريين الأبرياء بالإضافة إلى الأضرار المادية والمعنوية التي أصابت الشعب المصري المسلم حيث انقسم الناس في مصر إلى فئتين، موافقين ومخالفين. تأملوا قليلاً في هذا الحادث، أين مصر والحرب في اليمن... هذا بحاجة إلى معرفة السياسة،إلى التفكر وإلى الوعي السياسي.
هل فكر المسلمون يوماً في سبب عدم حصول الانقلابات العسكرية في البلاد الغربية بينما تسمع بين الحين والحين الأنباء وهي تحكي عن حصول
ص: 301
انقلاب عسكري في القطر الفلاني والفلاني من بلاد العالم الإسلامي؟
لماذا؟ ما هو الفارق الموجود بين شعوبنا الإسلامية والشعوب الأخرى كي نعاني نحن ويلات الانقلابات العسكرية دائماً وهم لا يجدون أي أثر لها؟
الجواب: هو أن الشعوب الغربية تتمتع بنوع من الوعي السياسي ولكنّ كثيراً من المسلمين وللأسف يعانون الأمية السياسية، ولا يفهمون أحداث زمانهم وما يحاك لهم من مؤامرات ويصب عليهم من ويلات...
وقد مرّ في الحديث: «أن العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(1).
فمن الذين يجب عليهم أن يعطوا للمسلمين الوعي السياسي والفكر السياسي والفكر والثقافة؟
الجواب واضح: هي الحوزات العلمية... ولذلك يجب أن تهتم هي الأخرى بمعرفة السياسة والتبصر بأمورها...
عبد السلام عارف الذي وصل إلى الحكم في العراق عبر انقلاب عسكري زار كربلاء المقدسة(2) قاصداً اللقاء بالسيّد محسن الحكيم(رحمه اللّه) وسائر العلماء.
ولكن المرحوم السيد محسن الحكيم رفض اللقاء به إلّا بعد القبول بإلغاءجميع القوانين المضادة للإسلام وإبطالها من قبل عبد السلام عارف نفسه وعبر الإذاعة... ولكن عبد السلام لم يقبل بهذا الشرط فرفض السيد الحكيم استقباله...
وبعدها لم يستطع عبد السلام الالتقاء بأي عالم من العلماء لا في النجف ولا
ص: 302
في كربلاء. فعلماؤنا الأعلام ونظراً لمعرفتهم بالأمور السياسية وتبصرهم بأوضاع المسلمين رفضوا الأنظمة التي تأتي بدعم الغرب ولولا فطنة علمائنا الأعلام على مرّ التاريخ لكنا نعيش أوضاعاً أسوء مما نحن عليه الآن.
ولأنّ الغربيين في سعي دائم لاشغال المسلمين بالتوافه والمشاكل وذلك بغية الحد منهم وقمع انتشارهم وتوسع رقعتهم في العالم... وهم يخططون سنوات طويلة من أجل وأد كلّ طاقة خيرة للمسلمين من شأنها أن ترفع من شأن الإسلام والمسلمين في العالم... الأمر الذي يدعونا لأن نهتم أكثر بالسياسة لكي نكشف هذه المخططات ونقف أمامها بعزم وإيمان ثابتين.
ينقل أن في كربلاء وفي زمن المرحوم الميرزا محمدتقي الشيرازي(رحمه اللّه) كان عطار بالقرب من منزل المرحوم يُلبِّي بعض حاجيات المرحوم، وبعد خمسة وثلاثين عاماً من عمر هذا العطار أي أبان اندلاع ثورة (1920م) في العراق وبقيادة المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) نفسه ابتلي باستبراد خفيف فأرسلوا إلى العطار من يشتري منه بعض الأعشاب الطبية للمرحوم الشيخ.
وبعد أن تناول القائد هذه الأعشاب تسمّم ولم تدم حياته طويلاً حتى فارق الدنيا. وبعد ذلك تبين أن هذا العطار كان من عملاء بريطانيا يعيش على بركتها ليوم تسنح له الفرصة ليقدم الخدمة العظيمة لها وأي خدمة أفضل من قتل زعيمالثورة الدينية الشعبية ضد بريطانيا.
فمعرفة السياسة من الأمور الهامة التي تخص حياة كلّ مسلم وبالأخص الحوزات العلمية التي تتكفل بقيادة المسلمين وإنقاذهم من براثن الظلم والعدوان.
ص: 303
ولذا من اللازم أن نهتم لايجاد بعض الدروس السياسية في الحوزة منضمة إلى المناهج والدروس العلمية الحوزوية المهمة.
«اللّهم صلّ على محمد وآله، وحلّني بحلية الصالحين، وألبسني زينة المتقين في بسط العدل، وكظم الغيظ وإطفاء النائرة، وضمّ أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين، وإفشاء العارفة، وستر العائبة،ولين العريكة، وخفض الجناح وحسن السيرة...»(1).
قال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(2).
وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ...}(3).
وقال عزّ وجلّ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ...}(4).
وقال جلّ وعلا: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(5).
قال عزّ اسمه: {وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ
ص: 304
الْمُفْسِدِينَ}(1).
وقال جلّ ثناؤه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(2).
وقال عزّ من قائل: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ}(3).
وقال جلّ شأنه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}(4).
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٖ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَٰنٖ مَّرِيدٖ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٖ شَئًْا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٖ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٖ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ}(5).
وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ
ص: 305
عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}(1).
وقال عزّ وجلّ: {قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٖ فَلَا تَسَْٔلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَٰهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسَْٔلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).
قال جلّ وعلا: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).
وقال عزّ اسمه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(4).
وقال جلّ شأنه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ}(5).
وقال عزّ من قائل: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا...}(6).
عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال:
1- «حسن السياسة يستديم الرياسة»
2- «حسن السياسة قوام الرعية»
3- «فضيلة الرياسة حسن السياسة»
ص: 306
4- «من حسنت سياسته دامت رياسته»
5- «من سما إلى الرياسة صبر على مضض السياسة»
6- «من قصر عن السياسة صغر عن الرياسة»(1).
قال تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا}(1).
تُعدّ السياسة أحد الأركان المهمّة في حياة الإنسان المسلم. فالذي يصاب بمرض معين فهو أمام خيارين إما أن يتابع نفسه، ويأخذ العلاج المناسب الرافع للمرض وإما أن يقبع في مكانه ينتظر الموت، والعقلاء دائماً يختارون الطريق الأول، والجهّال والمتخلِّفين مع الطريق الثاني. وهذا الأمر نلاحظة بدقّة متناهية في دول العالم الثالث. فمن أسباب انتشار الأوبئة: التخلف وغياب الوعي وعدم إدراك المصلحة، أو اختيار الأصلح والأسلم. وهكذا الأمر في السياسة فإنها الطريق الوحيد لحفظ سلامة النظام والجماهير؛ «صلاح العيش التدبير»(2).
وعندما يغيب الوعي السياسي عند الناس تظهر ظاهرة الخضوع للغير، والاستعمار والاستعباد والخنوع، تصحبها حالات القهر والسحق وتذويب الإرادات.
فالجماهير البعيدة عن الوعي السياسي تُعاني دائماً من الأمراض والمشاكل والاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم التبعيّة والخنوع للدول
ص: 308
القويّة.
ليس معنى السياسة أن يستمع الإنسان في كل يوم إلى الإذاعات المختلفه أو هي قراءة الصحف والمجلات، بل هي علم خاصّ، كما الفقه والأصول والفيزياء والرياضيات... فمثلاً إذا قضى الإنسان عشرات السنين من عمره في سماع مجالس الوعظ والإرشاد، فلا شك أنه لا يصبح فقيهاً، لكنه إذا أراد الفقاهة فعليه أن يحضر الدروس الفقهية عند الأساتذة المختصين، ويتدرج في مراحلها ويبدأ بالممارسة والتطبيق العملي لما اكتسبه من دروس، من خلال المباحثة أو التدريس أو المنبر أو الكتابة، وما شابه.
وهكذا السياسة أيضاً، فإن متابعة الأخبار عبر الأجهزة والصحف لا تصنع الإنسان السياسي والواعي بما يدور في الساحة الدولية، بل ينبغي أن ينضّم إليها التدرّج والتحصيل والممارسة العملية، وذلك لأهمية السياسة في حياة الفرد والمجتمع، وطرد حالة التخلف والجهل، الداعية إلى التبعية وسيطرة المستغلين. وتظهر أهمية السياسة في الحياة كما إذا دخل شخصان السوق لأجل الكسب والعمل، فأحدهما يعرف طريقة العمل والكسب الصحيح، والآخر لا يعرف ذلك، فلا شك أن الثاني يبقى كاسباً عاديّاً حتى لو استمرّ بهذا العمل خمسين سنة، بينما الأول الذي يعرف فنّ التجارة والكسب، يتحول إلى تاجر كبير خلال مدّة قصيرة، فالكاسب الذي لا يسير وفق البرنامج الصحيح، يكدّ النهار كلّة لكي يحصل على قوت يومه، بينما التاجر الذكي يشتغل ساعتين ويعرف خلالهما طريقة واسلوب العمل المُربح والمفيد. فالفرق بين هذين التاجرين هو المعرفة واتباع الأسلوب الصحيح.
ص: 309
فالسياسة - إجمالاً - تعني الإدارة والتدبير السليم، فأحياناً ترى بعضالأشخاص يمتلك قدرة إدارة مصنع، وآخر إدارة بيته فقط وثالثاً يتمكن من إدارة دولة كاملة.
فالسياسي الكامل هو الذي يقدر على إدارة الأمور الكبيرة، ويعرف كيف يوجِّهها إلى الصلاح والخير، بينما الذي لا يمتلك الوعي السياسي لا يستطيع إدارة حتى بيته الصغير!
السياسة ليس شيئاً طارئاً على حياة الإنسان فإنها ولدت مع بداية تكوين الأسرة الأولى، والمجتمع الأول.
وعندما نتصفح أوراق التاريخ نلاحظ السياسة التي سادت العصور اليونانية وجهود بعض العلماء الكبار، في إرساء النظام وتكوين الحكومات الفاضلة العادلة. والنكتة المهمة في البين أنّ دعاة النظام والحكومات الفاضلة كانوا علماء واعين، يحملون أفكاراً وتطلّعات حضارية كبيرة، إلّا أنهم كانوا يصطدمون بمجموعة من الجهال أصحاب الثروة، الذين لا يحملون أيّ بذرة من الفكر الإنساني، ويعيشون حالات غياب الوعي وفقدان المعاني الشريفة، التي تحفظ للإنسان كرامته وعزّته. وهذا ما نلاحظه بوضوح في العصر الجاهلي قبل الإسلام، حيث سادت الأحكام العرفيّة التي فرضت على الناس أن يعيشوا بشكل تُهدر فيه كرامة الإنسان، وتضيع إنسانيته وسط الغوغاء.
لقد حاول الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، أن يضعوا للناس برامج تتلاءم وإنسانيتهم، وتتضمن أفكاراً حضاريه تبني الإنسان وترتقي بالمجتمع إلى كماله وإنسانيته، بكل معنى الإنسانية، ويمارس حرّيته الفكرية والدينية، فكانت السياسة تعني بناء
ص: 310
الإنسان والمجتمع ورعايته والمحافظة عليه وتدبير شؤونه بما يتلاءم مع خطّالأنبياء، أي الرؤية الواسعة التي تنفتح على الدين، وتنسجم مع التشريع الإلهي. أما سياسة اليوم - عند البعض - فهي عبارة عن المكر والخداع وتزييف الحقائق، وإراقة الدماء، من أجل المحافظة على العروش والمناصب الشخصية، والإنسياق إلى الهوى الذي يحرّك الشهوات والنزوات غير المرتّبة والمنتظمة، وهاهو التاريخ بين أيدينا وأبصارنا، يروي لنا الملاحم والمآسي الدموية، التي خاضها الحكّام الجائرون ضد شعوبهم، فضلاً عن البرامج المنظمة من أجل إشاعة الفحشاء والمنكر والقبائح، وعمليات الإرهاب المقنَّن ضد الشباب والعلماء... ، ولا غرابة عندما نقرأ عبارة أحد المجرمين المعروفين حين يقول: العالم لا يشفق على المذبوحين، لكنه يحترم المحاربين(1). فهي تلخّص كل رؤاه السياسية، التي ترجمها إلى سلسلة طويلة من القتل والإرهاب. ويقول آخر(2). عن السياسة: السياسة هي فنّ القوة...، وعندما تضرب الفولاذ بالمطرقة فإن الجميع يتهيّبون صوت الدوي، وعندما تستعمل القفّاز فإن أحداً لاينتبه إلى وجودك، وإنّ الأحذية الثقيلة هي التي تصنع التاريخ.
وبهذه الكلمات المعبرة عن الإرهاب والقوة والقتل وسحق الكرامات الإنسانية يترجمون فهمهم للسياسة وخطِّهم منها وهكذا فَهِمَ الشارع العام اليوم السياسة. فهي على نقيض مما طرحه الأنبياء(عليهم السلام) ولذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه ما معاوية بأدهى منّي، ولكنه يغدر ويفجر»(3). وهو الفرق بين السياستين.
ص: 311
لقد تصوّر الظلمة أن السياسة هي القوة وإخضاع إرادات الناس لحكمهم، وأنّ دوام ملكهم إنما يتم بواسطة الإعدامات، وتخويف الناس، وزرع الإرهاب في كل مرافق الحياة، وإعلان حالات الطوارئ والأحكام العرفية والعسكرية... بينما نجد أن الدين يصنع للناس مقاييس عقلائية تتلاءم مع حركة المجتمع، فمثلاً: لكي يتواصل الملك، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حسنت سياسته دامت رياسته»(1). إذن فحسن السياسة هو العامل الحقيقي لدوام الحكم، والمقصود به وضع برامج تنظّم حركة الناس، وتراعي ثرواتهم وأفكارهم ومشاعرهم وعقيدتهم الدينية، واحترامهم وتسهيل حركة السوق، وما إلى ذلك. فكل ذلك يصدق عليه عنوان حسن السياسة. والعكس بالعكس؛ إذ يقول(عليه السلام) «من قصر عن السياسة صغر عن الرياسة»(2). وهكذا صارت مقاييس خاصّة يفهمها زعماء اليوم في سياستهم. وأكثر شيء بروزاً وطغياناً على جميع سياسات العالم هو: العنف والقوة، فقد اتسمت سياسة اليوم بهذا الطابع، وهذا ما لا يمكن إنكاره أبداً. فحتى الدول التي تطبل للديمقراطية وإعلان الحرية وحماية حقوق الإنسان، نلاحظ أنها تمارس العنف المتمثل بالإعدام والنفي والسجن مع الأعمال الشاقة، وما إلى ذلك.
وسياسة اليوم لها مقياس خاص في المحافظة على سعر السوق، فترمي مئات الأطنان من المواد الغذائية في البحر حفاظاً على استقرار سعرها في السوق، وتحتكر بعض المواد لأهداف سياسية أخرى! بينما الإسلام يرى أن العنصر المهم في الحياة، والذي يجب المحافظة عليه هو الإنسان، فيسخِّر جميع الأشياء، وحتى التشريع لرعاية هذا الإنسان الخليفة.
ص: 312
لقد كان الأنبياء والأوصياء يمثلون القيادة الروحيّة الإداريّة للناس، فكانوا مشرِّعين وسياسيين، محافظين على الإنسان من الهلكات، ويسعون دائماً لنجاته وهدايته، فلم يكن هناك أيّ فصل بين الدين والسياسة، بل الدين يقنِّن السياسة، ويرسهم لها خطوطها العريضة، ولذلك عندما نتصفح التاريخ نرى أن الأنبياء(عليهم السلام) هم الذين بنوا المجتمعات بالمعنى الإنساني الدقيق، ووضعوا لها أحكاماً ونظاماً عبر الدين والتشريع الإلهي. والأمر البارز في سياسة الدين هو العدل؛ فيه يقوم الإنسان؛ «العدل أفضل السياستين»(1).
كما أن الدين يرفض أن يكون العنف أمراً بارزاً في السياسة، لأنّ العنف والجور والظلم يصطدم مع العدل؛ «بئس السياسة الجور»(2).
ولما كان الطابع العام لحكّام هذا العصر هو الدكتاتورية والبطش فقد حاولوا بكل جهودهم فصل الدين عن السياسة ليصبغوا السياسة بمقاييس خاصّة، بعيداً عن العدل والرأفة والحرية والوحدة، وهكذا كتبت الأقلام المأجورة، وخطبت الشخصيات المرتزقة عن أن الدين لا ربط له بالسياسة، وأن رجال الدين والمتدينين لا يعرفون من السياسة شيئاً. وهكذا شوِّهت صورة العالِم الديني.
نعم لهم جزء من العذر لعدم اطلاعهم على أطروحة الإسلام التي تعتني بكل الحياة، والأدهى من كل ذلك أن شَكَّلَ الاستعمار والطغاة كياناتٍ داخل مجتمعاتنا الإسلامية لتحارب الدين ورجل العلم، أمثال القومية والشيوعية... ولكن يمكنهم الرجوع إلى الوراء قليلاً ليقرأوا المواقف السياسية للرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)، والمواقف الأخرى لمراجع الدين في قيادة
ص: 313
التحرك الإسلامي، وتحرير البلاد من قبضة المستعمر.
نعم، ما لا يمكن إنكاره هو خلو كثير من الحوزات درس السياسة. ولكن لا يعني عدم اطلاع طلبة الحوزة والعلماء على السياسة. بل إن متابعة سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) وباقي الثورات والفتوحات كلها تخلق ذهنية سياسية عند الطلبة، فضلاً عن معايشة الحوادث المعاصرة... ولكننا نعتقد أن القصور في الفهم ناشئ من عدم ربط الأحداث المعاصرة بالوقائع التاريخية، والمواعظ القرآنية، وسيرة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) فعلى الحوزة والعلماء أن لا يقتصروا على إيصال المادة العلمية فقط، دون ربطها بالواقع المعاش، واستغلال المناسبات والأحداث المتجددة، لإبداء وجهات النظر الصحيحة المقتبسة من القرآن الحكيم والسنّة والسيرة، فيتداخل فهم المادة العلمية مع فهم السياسة المستجدة والمستقبلية، وتغيّراتها بمختلف جوانبها الداخلية والخارجية.
قال أحد السياسيين(1):
بأن عدد الذين لا يملكون ما يسدّ رمقهم وحاجياتهم اليومية في أمريكا يصل إلى خسمة وعشرين مليون إنسان. وأما في الاتحاد السوفيتي(2) فإن عدد الجياع فيها يصل إلى خمسة وأربعين بالمئة من نسبة السكان. وهذا يعني أن سياسة الغرب والشرق لم تستطع إشباع حتى شعبها، بشهادة مسؤوليها، وهم بذلك قد حكموا على نظامهم وسياستهم بالفشل والقصور. لذا على العالم أن يبحث عن السياسة الصحيحة والنظام الذي يضمن
ص: 314
سلامة شعوبهم، ونحن المسلمين نملك السياسة الصحيحة والقانون الإلهي السليم، وهذه السياسة لم نأت بها من عند أنفسنا، بل هو كلام اللّه ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكلام أوليائه المعصومين(عليهم السلام)، وهكذا آراء المجتهدين والفقهاء المختلفة. ولكن لا بدّ من صبّ هذه الآيات والروايات والأقوال في قالب عصري ومن ثم عرضه إلى العالم بشكل كتاب سياسي كامل، يضمن الخير والسلامة لجميع الشعوب العالمية.
إن العالم اليوم بعيد عن ثقافتنا وكنوزنا، فلا بدّ من تدريس برامجنا وعلومنا في مختلف مجالات الحياة، ومن ثم نقلها إلى العالم، فإن أكثر الناس اليوم في لعب ولهو، ولا يعلمون أين هو الصلاح؟ وأين الطريق المؤدي إلى السعادة والكمال والأمان؟
ولكن المشكلة في البديل، إذ أن التشريع الإسلامي الصحيح قد رُكن على جانب، وتلهّف البعض للسعي وراء السياسات التي حكمنا بفشلها لأسباب عديدة. فالمشكلة العالمية لا تحلّ إلّا بفرض السياسة الإسلامية وقانونها الإلهي. ومع ذلك فالمسلمون واقعون في مأساة نتيجة الجهل والتخلف والاستعمار.
فإذن علينا إصلاح أنفسنا أولاً، ومن ثم إصلاح العالم، وحلّ مشاكله، فمن هو المسؤول في الإصلاح؟ ومن هو المسؤول في إعطاء الوعي الثقافي والسياسي للمسلمين؟
والجواب: أن ذلك يحتاج إلى تظافر جهود الأمة الإسلامية، كما ويقع على عاتق الحوزة العلمية والعلماء مسؤولية كبيرة، للقيام بهذا الدور كجزء لا يتجزأ من عملية البناء والإصلاح. وذلك لأن الحوزات العلمية بين يديها نظام الإسلام،
ص: 315
وهي المأمورة والمسؤولة عن وعي وثقافة المسلمين. والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يُبيّن في كتابه الشريف نهج البلاغة سبب قيامه وتصدِّيه لمسؤولية الخلافة والقيادة للمسلمين، فيقول(عليه السلام): «... وما أخذ اللّه على العلماء ألّا يقاروا على كِظّة ظالم ولا سغب(1) مظلوم لألقيت حبلها على غاربها(2)، ولسقيت آخرها بكأس أولّها، ولَأَلفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز...»(3)، إنه(عليه السلام) يقول: إن الدنيا لا تساوي عندي شيئاً أبداً، بل قيمتها عندي كقيمة ما تنثره العنزة من أنفها عند عطستها، وإني لم أتسلّم مهمة خلافة المسلمين، إلّا لأن اللّه عزّ وجلّ أخذ عهداً منّا أن لا نسكت على ظلم الظالمين ولا جوع الجائعين.
وهذه المفاهيم العظيمة لا يفهم باطنها سوى المحصلين لها، وإن كانت الناس قد سمعتها وتلفظتها، ولكن تجسيدها على الواقع يحتاج إلى تظافر جهود الطلبة والعلماء لإرسائها في المجتمع، وهي مفاهيم القرآن والسُنّة والسيرة الصحيحة، ليكون التوجّه نحو اللّه تعالى وأوامره وكمالاته سبباً تامّاً في الإصلاح، وبناء المجتمع الإسلامي، حتى يمكن الإنطلاق لحل مشاكل العالم، قولاً وفعلاً، لأننا في القول نمتلك تراثاً عريقاً وواضحاً، ولكننا لا نمتلك الفعل المقارن له حالياً حتى يطمئن العالم لنا، ويسير خلف ديننا وسياسته، ويصل إلى نجاحه، والخلاص من مأساته.
اللّهم صلَّ على محمّد وآل محمّد، وارزقنا توفيق الطاعة، وبُعدَ المعصية،وصدق النية، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدِّد ألسنتنا بالصواب والحكمة،
ص: 316
واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وتفضَّل على مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة، وعلى الأُمراء بالعدل والشفقة، وعلى الرعيّة بالإنصاف وحُسن السيرة، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين(1).
قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(2).
وقال سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).
وقال عزّ وجلّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(4).
وقال جلّ وعلا: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}(5).
وقال عزّ اسمه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِ}(6).
قال جلّ ثناؤه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(7).
ص: 317
وقال عزّ من قائل: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ}(1).
وقال جلّ شأنه: {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(2).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أَفلح مَن هُديَ إلى الإسلام»(1).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثم إنَّ هذا الإسلام دينُ اللّه الذي اصطفاهُ لنفسه، واصطنعه على عينه، وأَصفاهُ خِيَرَةَ خلقه، وأقام دعائِمَه على محبته. أذَّلَ الأديانَ بِعزَّتِهِ، ووضعَ المِلَلَ بِرفعِهِ، وأهانَ أعداءَهُ بكرامته، وخذل مُحادِّيهِ بنصره، وهَدَم أركان الضلالةِ برُكنِهِ، وسَقى من عَطِشَ من حياضه... ، ثم جعله لا انفضام لعروته، ولا فَكَّ لحلقته، ولا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع لشجرته، ولا انقطاع لمدته، ولا عفاء لشرائعه...»(2).
قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألّا أخبركم بخير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «إفشاء السلام في العالم»(3).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «مَن أسلَمَ سَلِمَ»(4).
وقال(عليه السلام): «الحمد للّه الذي شَرَعَ الإسلام... فجعله أمناً لِمَن عَلِقَهُ(5)، وسِلماً لمن دَخَلَهُ»(6).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «السَلام تحيّة لملّتنا، وأمان لذمّتنا»(7).
ص: 319
قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في وصية له لعلي(عليه السلام): «يا علي سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه عزّ وجلّ وذكر اللّه تبارك وتعالى على كل حال...»(1).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «في العدل صلاح البرية»(2).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في حديث له: «ألّا اُخبركم بأشدّ ما فرض اللّه على خلقه»، فذكر ثلاثة أشياء أوّلها: «إنصاف الناس من نفسك»(3).
وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة»(4).
من الأسلحة التي استخدمها الغرب لحصر المسلمين في دائرة ضيقة ليحجّم تحركهم، ويصبح سيد العالم ويخضع المسلمين وغيرهم لإرادته هو جهاز الاستخبارات، وإنّ من يدّعي الإسلام بعض الحكام أو من يدعي العلمانية مثل الشيوعيين والقوميين والبعثيين وغيرهم، فإنهم لم يَعدُوا كونهم وكائز للاستعمار في الوطن الإسلامي، يستميتون في خدمته وتنفيذ مطالبه شاءوا أم أبوا.
فإن الغرب قد أسّس في كل بلد من بلداننا الإسلامية جهازاً للاستخبارات وجعل على رأس ذلك الجهاز رئيس تلك الدولة، علماً بأن رئيس الدولة هو من عملاء الغرب - في الغالب - ونقول (في الغالب) لأننا لا نملك الاطلاع الكامل حول هؤلاء.
كما أن رئيس الدولة، وبسبب هذه العلاقة بالاستخبارات الغربية، تراه يعمل على كبت شعبه وإثقاله بالقيود، وهو سيف مسلّط على كل فرد من المجتمع.
وإن مهمة المخابرات العالمية هي الحيلولة دون وعي ونمو فكر الشعوب، وإلغاء معاني الحرية، لكيلا يتحرروا يوماً أو يطالبوا بها، ولذلك فإننا نشاهد أن كل من ينادي بالحرية (حرية الكتابة - حرية العمل - حرية الحياة...) يلصقون به أنواع التهم، ويعتبر في عرف القانون إنساناً خارجياً معتدياً على الحكم، فيودع
ص: 321
السجن، ثم يعذَّب.
ولربما يكون مصيره الإعدام ولن يكتفوا بذلك بل تصادر أمواله، المنقولة وغير المنقولة!
وقد يستخدمون مع بعض من الناس تهماً غير مقبولة عند العرف، فحينما يريدون مصادرة أموال أحد ينسبون إليه السرقة أو الرشوة، وإذا كان ذلك البلد يدعي الحكم باسم الإسلام يتهمونه باللواط أو الزنا أو بالزندقة، وهذا هو الأسلوب الأقرب الذي استخدم أيّام الخلفاء(1).
أما اليوم فإن هذا الأسلوب قد طوّره الأعداء، وجعلوا له أنظمةً وقوانين وقواعد، وخصّصوا له المبالغ الطائلة، بحيث بات الاسم المتعارف له هو: شبكات التجسس، التي تحاصر الآمنين في ملاجئهم، وتحصي عليهم أنفاسهم، ورواحهم ومجيئهم. لذا فإن هذا الجهاز هو عبارة عن قيدٍ على عنق كل مسلم في العالم. ولقد سجّل القرآن الكريم من قبل موقفه الصريح منه فقال عزّ من قائل: {وَ لَا تَجَسَّسُواْ}(2). وهؤلاء هم أظهر مصاديق هذه الآية.
إن الإسلام يحدّد جواز التجسس في موردين فقط، الأول: بعنوان المتابعة، حيث تقوم الدولة بمتابعة أعمال موظفيها وذلك لتطبيق القانون وفقاً للشرع، والمورد الآخر: هو التجسس لمعرفة ما عند الأعداء، وقد ذكرنا ذلك مفصلاً في أحد بحوثنا.
أما في البلدان الإسلامية التي حكامها هم عملاء للغرب، ويعملون على تطبيق برامج الأجهزة الغربيه، فإن تجسسهم تجسس على الشعوب، وبمنفعة
ص: 322
الغرب. ولا يخفى حماقة أولئك الحكام الذين يتنعمون على صرخات المعذبين من أبناء شعبهم، ويرضون بهذا الواقع المؤلم. أو لم يتساءلوا يوماً: لماذا تعيش جماهير الغرب بحرية وأمان، بينما لا تجد لذلك شعوبهم طعماً إلّا في المنام والأحلام؟ لماذا يتنعّم الملحدون والمشركون والمنحرفون بطعم الحياة، بينما يحكم على مئات الآلآف من الشباب المسلم بالسجن والإعدام؟
هل هو قدرنا ومصيرنا؟ أم هو قدر بعض الحكام أن يكونوا خانعين وخاضعين وأذلّاء لحكام الغرب؟ أم أن هناك فرقاً كونياً في أصل الخلقة بين الإنسان المسلم وبين ذلك الملحد الغربي؟ بحيث يعيش الأول الشقاء والتشريد، والثاني يعيش الرفاه والتطور.
على الحكام المسلمين أو يتأملوا في مصيرهم ومصير شعوبهم المظلومة، وأن يسألوا أنفسهم يوماً هذه الأسئلة، ويحرروا أنفسهم من قيد الغرب، ويحرروا شعوبهم أيضاً.
نعم لماذا هذه الأجهزة المعقدة من مخابرات واستخبارات وأمن عام و...؟ وبتعبير أوضح: لماذا هذا الظلم؟ لأن هذه الأجهزة أبرز مصداق من مصاديق الظلم، ولعله أبشع صورة، فلماذا الظلم؟
للظلم أسباب كثيرة تختلف باختلاف نوعه، ولكن توجد أسباب نفسية مشتركة تلتقي عند كل ظالم. وقد حدّد الإمام الكاظم(عليه السلام) ذلك بوضوح، يقول: «وانما يحتاج إلى الظلم الضعيف»(1). والظالم يجد في نفسه حقارة وذلّأ وانحطاطاً وخواءً، فيركن إلى القوة، معتقداً أن ذلك يسدّ له نقصه، ويرمّم له نفسه
ص: 323
المتصدعة بالجهل والضعف. ولذلك نجد الماكرين والمخادعين ليسوا شجعاناً، بل كلهم من الضعفاء والحقراء والجبناء، ولذلك يختارون الطرق الملتوية واللاإنسانية في إثبات شخصياتهم وإبراز قوتهم، فنجد أن من شيمهم الطعن من الخلف، على العكس من الشجعان الذين لا يظلمون أحداً ولا يتبعون من فَرَّ مِن ساحة الحرب، ولا يطعنون إلّا من أمام. والتاريخ مليئ بأسماء كلا الفريقين، أمثال عمرو بن العاص الماكر، ومعاوية بن أبي سفيان، وابنه يزيد، الذين اشتهروا بالجبن وإختيار الطرق الملتوية والمنحرفة في حياتهم، على العكس من الإمام علي وأولاده(عليهم السلام).
واليوم قد تطور الوضع فصار الضعفاء أقوياء بالظلم وبالأجهزة الاستخباراتية، لا بأنفسهم، وصاروا شجعاناً عندما يفرضون حصاراً على دولة من الدول، بواسطة الضغط الدولي العالمي ومجلس الأمم، وأقوياء عندما ينفذون حكم الإعدام على الأبرياء. وهكذا فإن هذه الأجهزة التجسسية وضعت من أجل الظلم ولنشر الظلم، ومن الظريف أن نذكر أمراً مهماً وهو:
إن الحكم في بلاد الغرب لا يسمح بالتجسس في ما بين قطاعات الشعب، بل يعدونه خروجاً على القانون. وفي السنوات الأخيرة الماضية كانت قد وقعت مشكلة بسبب التجسس، حيث قام أحد الأحزاب بالتجسس على حزب آخر عن طريق شريط الكاسيت، فقام الحزب الأول بإحداث ضجة صاخبة أدت إلى عزل رئيس ذلك الحزب (نيكسون)(1) ومحاكمته، حتى جاء الرئيس الآخر من بعدهوهو (فورد)(2) فعفى عنه، وقال: إن محاكمة شخص كان رئيساً للدولة وإصدار
ص: 324
حكم بسجنه يعتبر قبيحاً. وفي ذلك اليوم عفى فيه فورد عن نيكسون، راح المعارض له (والذي كان من بين أفراده القضاة والضباط الكبار) يفرج في اليوم الثاني عن كل مجرم يدخل المحكمة، فتعالت مقابل ذلك صيحات وزارة العدل الأميركية معترضة على قرارات العفو.
فقال القضاة للمحكمة: إنكم أفرجتم عن اللصّ الكبير وتريدون إلقاء القبض على اللصّ الصغير، فكما عفوتم أنتم عن اللص الكبير (نيكسون)، فإننا عفونا كذلك عن اللصوص الصغار وهذا قريب جداً مما ذكروه عن سارق قد ألقي القبض عليه وجئ به إلى الخليفة العباسي لكي يقطع أصابعه، فصاح أحد الحاضرين: يا للّه سارق النهار، يقطع أصابع سارق الليل(1). هذا أمر عجيب! إذ أن سارق النهار أمثال - حكام البلدان - يأتون ويقطعون أيدي سراق الليل في حين أن سارق النهار يسرق الملايين، وذاك لعله يبحث عن لقمة يسدّ بها جوعه.
ولقد وضحنا مفصَّلاً في بعض كتبنا: أن جميع الجرائم المهمة وراءها الحكام الظلمة وليس تأخرنا هو بأمر غيبي، ولا هو بالمصير المحتوم علينا أبداً.
حينما كنّا في كربلاء، وفي شهر شوال بالضبط، قلنا لبعض الثقات: إذا ثبتت رؤية الهلال أخبرونا. وكانت الحكومة هناك الندّ المقابل للشعب. وكان الناس كذلك ضد الحكومة، فجاءني شخص وقال: لقد شاهد الناس الهلال في محلة باب الخان(2). ثم جاء شخص آخر من محلة باب الطاق(3). وقال، نعم لقدشاهد الناس الهلال هناك، وكذلك جاء أشخاص عديدون ثم شهدوا بذلك.
ص: 325
وبعدها جاء جمع غفير من الناس إلى دارنا ليعرفوا ماذا سنقول، هل ثبتت رؤية الهلال أم لا؟
فقلت للحاضرين: من رأى الهلال فليأت ويُدلِ بالشهادة على رؤية الهلال؟
لكن لم يأتِ أي أحد ليقول: إنني رأيت الهلال بعيني، فاتجهت ظنوننا إلى من كان وراء هذه الخطة. وبالفعل إتّضح أن الدولة أرادت أن تعلن العيد، فقام مدير الأمن في كربلاء بدور المنفذ حيث جاء بجلاوزته البالغ عددهم أربعين شخصاً، واتفقوا على أن يشيعوا خبر رؤية الهلال، وكان اتفاقهم أن يقول كل منهم أمام الناس إني رأيت الهلال، وبذلك يكون قد صار شياعاً بين الناس، وفي أماكن مختلفة من المدينة. ولكن اللّه خيّب سعيهم وكشف أمرهم وأعاننا في ذلك.
إن مهمة المخابرات والاستخبارات هي أداء هذه الأعمال.
ففي إحدى السنين، شاع خبر في إحدى المدن، مفاده أنهم سمعوا إني أريد السفر إلى باكستان، وكل شخص يدخل علينا كان يسألنا هذا السؤال: أصحيح ما سمعنا أنكم تريدون السفر إلى باكستان؟ وقد قدم الكثير من الأصدقاء، ومن أغلب المدن يسألوننا نفس السؤال. فعجبنا لهذا الأمر، وكيف تمت إشاعته، وبالنتيجة عرفنا أن وراء صنع هذا التشويش هي المخابرات، حيث أمر رئيس المخابرات أعضاءه بأن يشيعوا الخبر ليسهل عليهم نفينا إلى الباكستان، وللأسف الشديد فإن الناس لا يتأملون في هكذا مواضيع، ولا ينتظرون التحقيق، بل تراهم سريعي التصديق، ولا يبحثون عن الغاية التي تتوخّاها السلطة من وراء ذلك،فهكذا جهاز لو أراد إثارة شيء ضد أحد فإن سعة هذا الجهاز وضخامته وتغلغله بين الناس لا تجعل الإنسان قادراً للدفاع عن نفسه.
لقد عرف جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) بولعه في تصفية
ص: 326
الشخصيات الكبيرة، لا سيما الإسلامية ومحاربة الإسلام كفكرة، والمسلمين باعتبارهم حملة أفكار الإسلام الحنيف، بل عُرف الإسرائيليون بحقدهم الدفين على المسلمين. ولقد جسدوا ذلك في مرات ومرات، وما زالوا... فمثلاً في حرب السويس عام (1956م) أحدث الجيش الإسرائيلي مجزرة رهيبة في منطقة (كفر قاسم)، حيث ذبح من السكان الأبرياء المسالمين رجالاً ونساءً وأطفالاً (49) شخصاً بلا رحمة ورأفة، وفي نفس المنطقة قتل ركاب ثلاث سيارات شحن، وتمكنت سيارة رابعة من الهرب عندما لاحظت الجثث التي كانت راقدة على الشارع، وبعد إتمام المجزرة قطّع الجنود أوصال القتلى ليذهبوا ويسحقوا رؤوسهم، وبقروا بطون النساء الجريحات ليكملوا عملهم الإجرامي... نعم هذا مشهد من مئات المشاهد الدموية التي يفتخر بها الصهاينة، وليس هذا فحسب، بل تكفّل الموساد الإسرائيلي بالتعاون مع المافيا على نشر الفساد، متمثلاً بفتح مراكز الجنس وبيوت الدعارة والمراقص والملاهي، وتدار دائماً من قبل اليهود وتحت حماية الموساد، ونشر أفلام الدعارة في كل بقاع العالم فضلاً عن المسلسل الدموي الذي تتصدى له الموساد في مصر وفي جنوب لبنان وفلسطين و... و... وهناك سمة عامة في إرهاب أجهزة الاستخبارات والمخابرات العلمانية، وهي محاربتها للدين وأماكن العبادة؛ فلقد هُدمت على أيديهم أو بواسطة تحريضهم مئات المساجد العامرة. ولعل أهم حدث يذكر في هذا المجال هي جريمة إحراق المسجدالأقصى عام (1969م)، وهي بشعة وجريمة دينية قامت بها القوات الإسرائيلية بالتعاون مع أجهزة المخابرات (الإسرائيلي - الأمريكي). ومعروفة قداسة المسجد الأقصى، فهو محل عروج خاتم الأنبياء صلوات اللّه عليه وآله إلى السماء، وأولى القبلتين، وملتقى الأنبياء، الذي يقول عنه اللّه سبحانه وتعالى:
ص: 327
{سُبْحَٰنَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ}(1). وقد أحرقوه تحت ذريعة بناء هيكل إسرائيلي بجواره! ثم أسندوا الفعل إلى شاب أسترالي، أفرجوا عنه بعد ذلك. لقد اعتقدوا أن مثل هذه الخدع تنطلي على المسلمين، وهكذا تم تدمير كنيسة الأرض بالقدس تدميراً كاملاً، وبعدها كنيسة (حنا)، ثم هدموا كنيسة (يوحنا)، وأعقب ذلك محاولة المخابرات الإسرائيلية طبع القرآن الكريم مع تحريف آياته، وقد كشف اللّه سبحانه كل هذه الألاعيب والخدع التي يخدعون بها أنفسهم، لأنه سبحانه لهم بالمرصاد ولأجهزتهم، تلك التي كوّنوها لتكون سوطاً على رقاب الناس، ومعولاً هدّاماً للدين والشعائر الدينية والأماكن المقدسة، وقناةً تمر من خلال عمليات الفساد والانحراف والجرائم البشعة.
بعد أن خرج أخي(2). من سجن قصر النهاية ببغداد، نقل لي قصة حدثت هناك فقال: كان في السجن عميد متقاعد في الجيش، جاءت به السلطة إلى هناك على أنه جاسوس لأمريكا، وبعد مرور ثلاثة أيام على سجنه، رأينا أن مأموري السجن في حالة حركة غريبة وارتباك، بعد ذلك فوجئنا بأحمد حسنالبكر وعفلق وصدام وشبلي العيسمي وقد جاءوا إلى هناك، واعتذروا من ذلك الشخص (العميد المتقاعد)، وأطلقوا سراحه من السجن وعاملوه معاملة في غاية الاحترام، وسبب ذلك أنهم حينما أرادوا التخلص منه لأنه يشكل خطراً على منصبهم نسبوا إليه هذه التهمة، لكن انكشف لهم بعد ذلك أن هذا الشخص هو
ص: 328
جاسوس أمريكي بالفعل، وأن له ارتباطات معينة مع السفارة الأمريكية ببغداد، وأن ذلك العمل الذي أقدموا عليه بوضع هذا العميد في السجن من شأنه تعكير العلاقات مع أمريكا، لذا جاءوا واعتذروا منه وأخرجوه من السجن!
إن هؤلا الحكام وغيرهم عملاء للغرب وليس لديهم أيّ حق لخلق التغييرات في بلدانهم دون إرضاء أسيادهم، فهم لا يملكون حق الاعتراض، حتى بالقدر الذي يحق فيه للخادم في البيت أن يعترض على سيّده لو أراد سيده أن يحمّله أكثر مما يطيق.
مثلاً، لو أراد الغرب أن يأمر عبد السلام وعبد الناصر بأن يصدروا قوانين إصلاح الأراضي فإن هذين الحاكمين لا يملكان القدرة والصلاحية حتى على مستوى الاعتراض على السفير الغربي الذي يبلغهم تلك الأوامر.
لذا فإن من الأعمال التي يجب أن نقوم بها لإنقاذ الشعوب المضطهدة من ربقة هؤلاء الحكام العبيد، هو ما يلي:
1- تعديد الأحزاب السياسية، وخلق التنافس الإيجابي في ما بينها، بما يقدم الخدمة للبلاد الإسلامية.
2- تشكيل شورى المراجع، لضمان سلامة الدستور والشورى، تضمن عدم وصول الدكتاتورية إلى منصب الرئاسة.
3- إقامة المؤسسات الدستورية.4- إطلاق حرية الصحافة، لأنها لسان الجماهير المسلمة.
5- إزالة أجهزة الاستخبارات والمخابرات القائمة على أسس غربية.
اللّهم صلّ على محمّد وآله، «اللّهم نشكو إليك فقد نبينا، وغيبة ولينا، وشدة الزمان علينا، وقوع الفتن بنا، وتظاهر الأعداء علينا، وكثرة عدونا، وقلّة عددنا،
ص: 329
اللّهم فافرج ذلك عنّا بفتح منك تُعجله، ونصر منك تُعِزُّه»(1)، بحق محمّد وآله محمّد.
قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2).
وقال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(3).
قال عزّ وجلّ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(4).
وقال جلّ وعلا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(5).
وقال عزّ اسمه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(6).
وقال جلّ شأنه: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٖ}(7).
قال عزّ من قائل: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}(8).
ص: 330
وقال جلّ ثناؤه: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}(1).
وقال سبحانه: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(2).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من رجل يشاور أحداً إلّا هُدي إلى الرشد»(3).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا مظاهرة أوثق من المشاورة»(4).
وقال الإمام الحسن السبط(عليه السلام): «ما تشاور قوم إلّا هدوا إلى رشدهم»(5).
وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «من إستشار لم يعدم عند الصواب مادحاً، وعند الخطاء عاذراً»(6).
فكونوا أحراراً في دنياكم»(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع»(2).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اليقظة نور»(3)
«اليقظة استبصار»(4).
وقال(عليه السلام): «من تبصّر في الفطنة ثبتت له الحكمة»(5).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العالِم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(6).
ص: 332
قال تعالى على لسان هابيل: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَٰبِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَٰؤُاْ الظَّٰلِمِينَ}(1).
لم يكن الظلم أمراً جديداً في حياة البشرية على اختلاف أطوارها وتبدّل أزمانها. فالظلم كان موجوداً مع بداية الخليقة عندما قَتَل قابيل هابيل، واستمر الأمر منذ ذلك الحين وذلك بنص القرآن العظيم؛ إذ قال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَٰبِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَٰؤُاْ الظَّٰلِمِينَ}(2).
وقد انحسر الظلم في ظل حكم الأنبياء والأوصياء (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين)، وبفضل تطبيق العدالة من قبلهم بين الناس. وهم بذلك انما أكّدوا نداء العقل والفطرة التي جُبل الناس عليها. فكل عاقل يحكم بأن العدل محبوب وأن الظلم مذموم... ولكن الظالم هو الذي يسحق وجدانه فيدفعه ذلك
ص: 333
إلى التنكّر لتعاليم الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام).
والظلم ظاهرة نفسانية ناشئة من الشعور بالنقص والحقارة، فالإنسان المتوازن والمتكامل والمتحلي بالأخلاق والصفات الكمالية لا يلجأ إلى الظلم، لأنه لا يجد نفسه في حاجة إليه، بل إنه يعيش حالة الاطمئنان والغنى عن الآخري. أما الإنسان الخائف والضعيف والفاقد لكثير من الكمالات فتراه يظلم الآخرين ويسلب حقوقهم، لاعتقاده بأن هذا هو طريق الكمال، وهو إظهار قوته وبطشه وجبروته في مقابل الناس.
والظلم عند أهل اللغة، وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه المختص به، أما بنقصان أو بزيادة، وأما بعدول عن وقته أو مكانه(1). ولذلك كانت بعض الذنوب ظلماً موجهاً للنفس ذاتها، أي حرمانها من الكمال والرقي والسمو، فكيف الحال بالظلم الموجّه إلى الآخرين. ولا يخفى إن للظلم أنواعاً عديدة، ومصاديق متنوعة، وأقبحها وأشدها ثقلاً على الإنسان هو ظلم الحكام للناس، من ناحية سلب حرياتهم، وإجبارهم على أمور معينة، أو معتقدات فاسدة أو أشباه ذلك. أي إن الحكام المستبدين يغلقون كل المنافذ، ويفتحون منافذ وطرقاً خاصة بهم تخدم مخططاتهم، ويجبرون الناس على السير فيها. وقطعاً ما يراه الظالم المستبد ليس من الكمال في شيء، لمحدودية نظرته، وضيق أُفقه، وانحسار فكره، وابتعاده عن الخير والعدالة. فيجعل الناس تعيش في أُطر ضيّقة، لا مجال فيها للإبداع والرّقي. فلذلك كان الظلم أمراً قبيحاً من قبل العقل ومرفوضاً من قبل الإسلام. فقد روي عن علي(عليه السلام) قوله: «لا تستبد برأيك، فمن
ص: 334
استبد برأيه هلك»(1)، وقوله: «من استغنى بعقله ضلّ»(2).
الإنسان يعيش في ظل هذه الحياة الدنيا بنظام مدني متداخل، تفرضه الحاجة والتكامل، وتتولد من ذلك منافع شخصية واجتماعية. ولهذا الاجتماع رؤساء ومرؤوسون، يتقيدون بالأنظمة والشرائع الإلهية والتعاملات العقلائية. وإذا تمرد الإنسان أمام هذه الموازين يكون ظالماً، سواء كان رئيساً أو مرؤوساً. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن احتياج الإنسان في كماله يفرض عليه أن لا ينفرد بآرائه وقراراته، ومن انفرد برأيه أمام آراء الأكثرية كان مستبداً، والراعي والرعايا في ذلك سواء.
وعلى هذا، فيمكن تقسيم الناس بلحاظ الظلم والاستبداد إلى أربعة أقسام: فربّ ظالم غير مستبد، وربّ مستبد غير ظالم، ولكن الشخص قد يكون ظالماً ومستبداً، كما أنه قد يتنزه عن كلتا الوصمتين، وهو مصداق الإنسان العادل.
ولكن كلامنا هنا عن القسم الثالث وهو الظالم والمستبد والذي يتجسّد عادة في الحكام والقادة. والتاريخ يشهد على حكّام بني أمية وبني العباس والعثمانيين وغيرهم بذلك.
وبسبب التداخل بين ظلم الحاكم واستبداده، فإن المظلوم لا يرى فرقاً بينهما. وإنما يصف هذا الحاكم بالديكتاتورية دائماً، ويرفض الانصياع لها بالاختيار. ومن الأسباب التي تدفع الحاكم إلى الاستبداد أمور، أهمها:
ص: 335
1- الإحساس بالنقص والضعف: فالظالم لكونه فاقداً لكثير من الصفات الحسنة الكمالية، وهو يشعر بهذا النقص، فيحاول أن يسد شعوره هذا بالتوسل بالظم؛ إذ «إنما يحتاج إلى الظلم الضعيف»(1). فالضعيف هو الذي يظلم، أما الإنسان المتكامل فإنه لا يظلم، لأنه قادح في الكمال. ولذلك قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَٰهُمْ وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(2). وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ}(3). فاللّه عزّ وجلّ قادر على كل شيء، وقاهر لكل شيء، وهو عادل وحكيم. فالظلم مخالف للعدل والحكمة. لذلك كان اللّه عزّ وجلّ منزّهاً عن هذه الصفة.
2- حبّ التجبّر والتعالي: وقد يكون الظلم نتيجة تضخم الرغبات والشهوات غير المنتظمة، والهوى الذي يتضخم فيصير إلهاً؛ قال تعالى: {أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَىٰهُ}(4). فأحياناً تكون ميول الإنسان ورغباته وهواه المنحرف متجهاً نحو الظلم والتعالي على الناس، وإرهاقهم وقتلهم، اعتقاداً منه بأن ذلك كمال ما دام يشبع كل رغباته، كما يخبرنا القرآن الكريم عن فرعون مثلاً: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(5). وليس هنا فحسب بل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ
ص: 336
لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}(1). والتاريخمليء بأمثال فرعون وغيره... .
3- الحفاظ على الكرسي (الطمع): ذلك إن حبّ الكرسي أو السلطة من أخطر الأهواء عند البشر، فالضرر سوف يمسّ الناس الأبرياء، فيلاقون من جراء أهواء الحاكم المستبد أنواع المآسي والويلات. والمصاب بمرض حبّ السلطة يحاول بشتى الوسائل والأساليب المحافظة على منصبه ومقامه، ولو بالقتل وإخماد الأصوات وتشريد الناس من بيوتهم. وما معاوية بن أبي سفيان وإبنه يزيد، ومن كان يدور في فلكهما، إلّا مصداق بارز لكلامنا فمعاوية ومن أجل أن يثبت مركزه كقائد على المسلمين حارب الحق كله المتمثل في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) «علي مع الحق والحق مع علي»(2). كما حارب الإمام الحسن(عليه السلام)، وهو سيد شباب أهل الجنة، وقتل أغلب أصحاب علي(عليه السلام)، لا لشيء وإنما لأنهم من الموالين لأمير المؤمنين(عليه السلام). وهذا النوع من الظلمة لا يتركون كل الأساليب الوحشية من أجل محافظتهم على المنصب أولاً، وجعل كرسي الحكم تحت أقدام أبنائهم ثانياً. فإذا قتلوا بعض الناس من أجل تثبيت كرسيهم ومنصبهم، فإنهم يقتلون البعض الآخر من أجل تنصيب أبنائهم، وكأن السلطة وراثة موقوفة على ذراريهم كما حصل مع معاوية، أو مع عبد الملك بن مروان.
فقد نقل بعضهم: أنه لما حضرت عبد الملك الوفاة أخذ البيعة لابنه الوليد. وكان أولاده: الوليد - وسليمان - ويزيد وهشام ومسلمة ومحمد. ثم قال للوليد: يا وليد لا
ص: 337
ألفينك إذا وضعتني في حفرتي أن تعصر عينيك كالأَمة الورهاء (أي الحمقاء)، بل ائتزر وشمّر، والبس جلد النمر، وادع الناس إلى البيعة - ثانياً، فمن قال برأسه كذا،فقل بالسيف كذا. ووُعِك وعكاً شديداً (أي عبد الملك)، فلما أصبح جاء الوليد فقام بباب المجلس، وهو غاصّ بالنساء فقال: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ قيل له: يرجى له العافية... وأذَنَ لبني أمية فدخلوا عليه، وفيهم خالد وعبد اللّه ابنا يزيد بن معاوية، فقال لهما: يا بني يزيد، أتحبان أن اقيلكما بيعة الوليد؟ قالا: معاذ اللّه يا أمير المؤمنين. قال: لو قلتما غير ذلك لأمرت بقتلكما على حالتي هذه!(1).
4- خدمة الأجانب: وهناك نوع آخر من الظلمة والمستبدين، الذين يظلمون الناس من أجل الاستعمار. أي من أجل الأسياد، كما هو حاصل في عصرنا الحاضر، في أغلب دول العالم. فهذه بعض أسباب الظلم الذي يصدر من الحكام، ولكننا حينما نتأمل في سيرتهم، نراهم كلهم مغلوبين في نهاية الأمر. فلم نسمع أن عاقلاً من العقلاء قال عن الحجاج أو يزيد وأمثالهم بأنهم حققوا انتصاراً أو تفوقاً، بل على العكس، فإن أكثر الناس العقلاء لا يذكرون هؤلاء الطواغيت إلّا باللعنات والذكر السيء. ولم نسمع أحداً قال: إن معاوية إنتصر في حربه مع أمير المؤمنين(عليه السلام)، بل يقولون عنه: إنه ماكر. وعلى العكس تماماً، نرى إن المسلمين، وغير المسلمين أيضاً، يقولون: إن الإمام الحسين(عليه السلام) هو الذي انتصر على يزيد يوم الطف. والدليل أن استراتيجية الإمام الحسين(عليه السلام) إلى اليوم قائمة وماضية، والموالين ماضون في خط الحسين(عليه السلام)، وكذا استراتيجية أمير المؤمنين(عليه السلام). لذلك نرى أصحابه ظلّوا متمسكين بخطه، ولم يرهبهم بطش
ص: 338
معاوية. فهذا عدي بن حاتم الطائي من خلّص أصحاب الإمام علي(عليه السلام)، دخل على معاوية أيام خلافته - بعد استشهاد الإمام(عليه السلام) - فقال له معاوية: يا عدي أينالطُرفات - يعني بنيه طريفاً وطارفاً وطرفة - قال: قُتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب(عليه السلام). فقال: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدّم بنيك وأخّر بنيه. قال: بل ما أنصفت أنا علياً، إذ قُتل وبقيت! فقال معاوية: أما إنه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلّا دم شريف من أشراف اليمن. فقال عدي: واللّه إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وان أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت لنا من الضرر فِتْراً(1)، لندنينّ إليك من الشر شبراً، وإنّ حزّ الحلقوم، وحشرجة الحيزوم(2) لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي(عليه السلام)، فسِّلم السيف يا معاوية لباعث السيف. فقال معاوية: هذه كلمات حكم فاكتبوها(3).
وهي نفس استراتيجية الإمام الحسين(عليه السلام) حيث قال: «هيهات منّا الذلة، يأبى اللّه لنا ذلك... من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»(4).
روي أنه لما حجّ المنصور في سنة أربع وأربعين ومائة، نزل بدار الندوة وكان يطوف ليلاً ولا يشعر به أحد، فإذا طلع الفجر صلّى بالناس، وراح في موكبه إلى منزله. فبينما هو ذات ليلة يطوف، إذ سمع قائلاً يقول: اللّهم إنا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم. قال: فملأ المنصور مسامعه منه، ثم استدعاه، فقال له: ما الذي سمعته منك؟ قال: إن
ص: 339
أمّنتني على نفسي نبأتك بالأمور من أصلها. قال: أنت آمن على نفسك. قال: أنت الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق، وحصول ما في الأرض من البغيوالفساد، فإن اللّه سبحانه وتعالى استرعاك أمور المسلمين فأغفلتها، وجعلت بينك وبينهم حجاباً وحصوناً من الجص والآجر، وأبواباً من الحديد، وحَجبة معهم السلاح، واتخذت وزراء ظلمة، وأعواناً فجرة، إن أحسنت لا يعينوك، وإن أسأت لا يردوك. وقوّمتهم على ظلم الناس، ولم تأمرهم بإعانة المظلوم والجائع والعاري، فصاروا شركاءك في سلطانك، وصانعتهم العمال بالهدايا خوفاً منهم، فقالوا: هذا قد خان اللّه، فمالنا لا نخونه، فاختزنوا الأموال، وحالوا دون المتظلّم ودونك، فامتلأت بلاد اللّه فساداً وبغياً وظلماً، فما بقاء الإسلام وأهله على هذا؟ وقد كنت أسافر إلى بلاد الصين وبها ملك قد ذهب سمعه، فجعل يبكي، فقال له وزراؤه: ما يبكيك؟ فقال: لست أبكي على ما نزل من ذهاب سمعي، ولكن المظلوم يصرخ بالباب ولا أسمع نداءه. ولكن إن كان سمعي قد ذهب فبصري باق. فنادى في الناس: لا يلبس ثوباً أحمر إلّا مظلوم، فكان يركب الفيل في كل طرف نهار، هل يرى مظلوماً فلا يجده. هذا وهو مشرك باللّه، وقد غلبت رأفته بالمشركين على شح نفسه، وأنت مؤمن باللّه وابن عمّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك، فإنك لا تجمع المال إلّا لواحدة من ثلاث، إن قلت إنك تجمع لولدك، فقد أراك اللّه تعالى الطفل الصغير يخرج من بطن أمه لا مال له فيعطيه، فلست بالذي تعطيه بل اللّه سبحانه هو الذي يعطي. وإن قلت: أجمعها لتشييد سلطاني، فقد أراك اللّه القدير عبراً في الذين تقدّموا ما أغنى عنهم ما جمعوا من الأموال ولا ما أعدوا من السلاح، وإن قلت: أجمعها لغاية هي أحسن من الغاية التي أنا فيها، فواللّه ما فوق ما أنت فيه منزلة إلّا العمل الصالح. يا هذا هل تعاقب من عصاك إلّا بالقتل؟ فكيف تصنع باللّه الذي لا
ص: 340
يعاقب إلّا بأليم العذاب، وهو يعلم منك ما أضمر قلبك، وعقدت عليهجوارحك، فماذا تقول إذا كنت بين يديه للحساب عرياناً؟ هل يغني عنك ما كنت فيه شيئاً؟ قال: فبكى المنصور بكاءً شديداً، وقال: يا ليتني لم أُخلق ولم أك شيئاً. ثم قال: ما الحيلة في ما حوَّلت؟ قال: عليك بأعلام العلماء الراشدين. قال: فرّوا مني. قال: فرّوا منك مخافة أن تحملهم على ظهر من طريقتك. ولكن افتح الباب، وسهّل الحجاب، وخذ الشيء مما حلّ وطاب، وانتصف للمظلوم، وأنا ضامن عمّن هرب منك أن يعود إليك، فيعاونك على أمرك. فقال المنصور: اللّهم وفقني لأن أعمل بما قال هذا الرجل. ثم حضر المؤذنون وأقاموا الصلاة، فلما فرغ من صلاته قال: عليّ بالرجل فطلبوه فلم يجدوا له أثراً. فقيل: إنه كان الخضر(عليه السلام)(1). وعلى الرغم من ذلك نرى أن كل هذا لم يجدِ في المنصور أثراً، بل إنه عاد إلى ظلمه للناس، وتجبّره عليهم. وإنما كانت صحوته هذه وقتيّة زالت عنه بسبب تلبّسه بحب الدنيا والانغماس فيها.
عن الإمام الصادق(عليه السلام)؛ قال: «تبع حكيم حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات، فمنها: أنه سأله: ما أوسع من الأرض؟ قال: العدل أوسع من الأرض»(2). ودخل الإمام الباقر(عليه السلام) على عمر بن عبد العزيز فوعظه، وكان في ما وعظه أنه قال له: «يا عمرو إفتح الأبواب، وسهّل الحجاب، وانصر المظلوم، وردّ الظالم»(3).
ففي العدل سعة وفي العدل حياة، لأنه يقتضي عدم المفاضلة بين الناس، ومعاملتهم بشكل واحد. والإنسان بطبعه يحب العدل لأنه ملائم للطبع
ص: 341
الإنساني، ولأنه يضمن له الحقوق، ويرد عنه الأضرار والأخطار، فيزداد كمالاً فيحياة العدل على العكس من الظلم، فإنه يكرهه، لأنه يسلب كمالاً من الإنسان، فمثلاً الظلم يسلب حرية الإنسان وأمواله، بل حتى نفسه لذلك عندما سُئل أمير المؤمنين(عليه السلام): أيما أفضل العدل أو الجود؟ قال: «العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها عن جهتها. والعدل سائس عام، والجود عارض خاص. فالعدل أشرفهما وأفضلهما»(1). وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها، وصيام نهارها، وجور ساعة في حكم أشد وأعظم عند اللّه من المعاصي ستين سنة»(2). وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح وهو لا يهمّ بظلم أحد غفر اللّه له ما اجترم»(3). وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أهون الخلق على اللّه من ولي أمر المسلمين فلم يعدل لهم»(4).
فإذا كان الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، والعدل هو وضع الشيء موضعه، فيعني ذلك أن في العدل انتظاماً للأمور، ونسقاً في الأعمال، وحفاظاً على الأعراض والأموال. وهذا هو معنى الازدهار والتقدم الحضاري، أي عدم إضاعة حقوق الناس، وأخذ حق المظلوم من الظالم. فما أجمل الحياة حينما تنصهر في بوتقة العدل.
وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): «العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن. ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قل»(5).
ص: 342
وقال الإمام أبو الحسن الكاظم(عليه السلام)، لعلي بن يقطين: «إضمن لي خصلة أضمن لك ثلاثاً»، فقال علي: جعلت فداك، وما الخصلة التي أضمنها لك؟ وما الثلاث اللواتي تضمنهن لي؟ قال: فقال: أبو الحسن(عليه السلام): «الثلاث اللواتي أضمنهن لك أن لا يصيبك حر الحديد أبداً، بقتل ولا فاقة، ولا سجن حبس». قال: فقال علي: وما الخصلة التي أضمنها لك؟ قال: «تضمن ألّا يأتيك وليّ أبداً إلّا أكرمته» ...(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اياكم والظلم فانه يخرب قلوبكم»(2). حيث إن الظلم لما كان يضر بالقلب فيخربه، معنى ذلك أن نورانية القلب سوف تضمحل وذلك بذهاب الإيمان من قلب الإنسان. وبذهابه سيفقد ذلك الإحساس الداخلي بمعيّة اللّه، لأن المؤمن الذي نورّ اللّه قلبه بالإيمان، دائماً يشعر بمعيّة اللّه معه، فهو عماده وسنده وركنه. أما إذا فقد هذا الإحساس فإنه سيهزم من الداخل، وإذا انهزم المرء من داخله، فمن الصعب جداً أن يقف ويصمد في الخارج أمام ما يعترضه. فالظلم فاقد للإحساس بمعيّة اللّه له، لأنه فاقد للإيمان. وذلك الإحساس إنما هو متفرع عن الإيمان، وعندها يصبح القلب خاوياً فارغاً من كل صفة خير أو كمال. كالشجاعة والإقدام والصبر والثبات. ولذلك نرى أن الظالمين متشبثون دائماً بالسلاح والرجال والحصون لأنهم يعيشون القلق والخوف النفسي الملازم لهم بسبب غياب الإيمان. ولذلك يحاولون أن يقنعوا أنفسهم أولاً والناس ثانياً، بأنهم أقوياء وليسوا ضعفاء، فيضعون الرجال والسلاح من أمامهم ومن ورائهم، إيهاماً
ص: 343
لإحساساتهم الداخلية. لذلك كان الظالم والمستبد مغلوباً لانهزامه النفسي الذي يؤثر على سلوكه الخارجي، فنراه لا يثبت في أوقات الشدة، بل إن الانهزام يكون من سجاياه، كما هو الحال مع أبي سفيان الذي هرب في معركة أحد عندما اعترضه حنظلة (غسيل الملائكة)، فضرب عرقوب فرسه فقطعه، ووقع أبو سفيان إلى الأرض، يصيح يا معشر قريش، أنا أبو سفيان بن حرب، وحنظلة يحاول أن يذبحه بسيفه، فنظر إليه الأسود بن شعوب، فأسرع إلى حنظلة وحمل عليه بالرمح، فمشى إليه حنظلة وضربه ثانية برمحه فقتله. ووجد أبو سفيان أن لدية مجالاً للفرار ففر يعدو على رجليه...(1).
وبالإضافة إلى الانهزام النفسي، فإن المستبد لا يجد عوناً من الناس في الغالب، إلّا باستخدام القوة. وقد سقطت حكومة بني العباس نتيجة استبدادها وظلمها ومصادرة حقوق الناس واستغلال السلطة من قبل العائلة الحاكمة الفاحش. وفي زمن المستعصم آخر حكام بني العباس، الذي حكم لمدة (15) عاماً، إزدادت الويلات على الناس. ومما يذكر عن تلك الأيام أن رئيس شرطة بغداد أمر ذات مرة جارس القلعة بأن ينزل ويقوم بتدليك بدنه... وبينما كان الحارس يقوم بتدليك بدن رئيس الشرطة أحسّ بأن يدي الحارس - وكان اسمه ابن عمران - قد ارتختا، ثم توقف عن التدليك، فصرخ بوجهه، وضربه على الإهمال بواجبه وشتمه... وبعد أقل من سنة جاء هولاكو وحاصر بغداد، إلّا أنه يئس من قدرة قواته على دخول بغداد، خصوصاً بعد أن نفذ علف خيول الجيش الكثيرة. وأراد هولاكو الرجوع. وذلك الوقت كان ابن عمران، حارس القلعة،
ص: 344
يراقب الحالة بدقة وبعد أن عرف أن جيش هولاكو عازم على الرجوع، كتب على سهم هذه العبارة: (إذا كنتم قد أردتم دخول البلد فاطلبوني أُنجِ لكم جيشكم). ثم رمى السهم باتجاه جيش هولاكو فطلبوه. وحينذاك أشار عليهم بأن يسلكوا طريق بعقوبة لما فيها من آبار محقونة للمياه، ومخازن كبيرة للحبوب والعلف. ففرح هولاكو كثيراً بهذه الخدمة التي قدّمها له حارس قلعة بغداد، وبالفعل ذهب هولاكو، واستولى على المخازن والمياه، ثم عاد واستولى على بغداد، وعيّن ابن عمران والياً عليها، وهنا لو لم تكن دولة بني العباس استبدادية ظالمة، بل كانت تحترم الإنسان وتحفظ حقوقه لما سارع ابن عمران لمبايعة هولاكو، ومن ثم تسقط بغداد تحت البطش والقتل والنهب المغولي.
فالنصر عادة يكون من أسباب، يمكن حصرها بجهتين:
أما الجهة الأولى: فهي الانهزام النفسي الداخلي الذي يعيشه المستبد أو السلطة المستبدة، مما يجعلها قلقة مضطربة ولا تقف في ساعة العسر.
وهي كذلك ابتعاد المستبد الظالم عن الإيمان، وتجرده من كل صفة إيمانية، مما يجعله بعيداً عن عناية اللّه ولطفه، بل يكون موضوعاً لسخطه وغضبه وعاقبته الخسران بالنتيجة.
وأما الجهة الثانية: فهي متعلقة بالطرف المقابل، أي الذي يحارب ويقارع الطاغوت. فهناك مقدمات يجب عليه تهيئتها لكي يحصل على النصر، وهي على نوعين:
أولهما: المقدمات المعنوية، أي الإيمان المطلق بأن النصر من اللّه، وأن القوة من اللّه، وعدم نسيان اللّه في المواطن كلها، والتوكل عليه في التحرك العام.
وثانيهما: المقدمات المادية من خطة استراتيجية أو تكتيكية، وإعداد السلاح
ص: 345
والرجال، وكل آلية تدخل في مسألة الصدام مع المستبد، مع مراعاة التكافؤ في العدّة والعدد. فإذا تحقق ذلك، أي هيّئت المقدمات، كان النصر حليف الحق دائماً، لأن الظالم أساساً هو في خسرٍ من أمره، ولكن الأمر يحتاج إلى مقابلة ويجب أن يكون في مستوى يمكنه من طرده وقلعه. وإلّا فهو صوري، ووجوده هامشي. ولذلك يقول تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}(1). لأن المضلين والظالمين والمستبدين لا يصلحون لأن يكونوا عضداً لخوارهم الداخلي. ولذا جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(2). أي إن النصر في نهاية المطاف حليف المؤمنين المظلومين. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}(3). وقال: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}(4). حيث تؤكد الآيات الشريفة على أن ختام الأمر هو انتصار المظلومين والمضطهدين.
لقد بشر القرآن الكريم المستبد والظالم بالعذاب والخسران؛ قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(5).
وقال سبحانه: {وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(6).
ص: 346
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تولى خصومة ظالم، أو أعان عليها، ثم نزل به ملك الموت، قال له: أبشر بلعنة اللّه ونار جهنم وبئس المصير»(1). وعن مولانا الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «إن في جهنم لجبلاً يقال له الصعداء، وإن في الصعداء لوادياً يقال له: سقر، وإن في قعر سقر لجُبّاً يقال له هبهب، كلما كشف غطاء ذلك الجُبِّ ضجّ أهل النار من حرّه، وذلك منازل الجبارين»(2).
فالظالم له خسران مبين ذو اتجاهين:
1- الخسران الدنيوي: فالظالم المستبد سوف لن يجني في خاتمة المطاف أي شيء، لا من الأموال، ولا من القصور، ولا من النساء، وهو أمور كانت نزاعاته كلها من أجلها، كما هو الحال في حكومة الأمويين والعباسيين، فكان الواحد منهم يقتل الآخر من أجل الجاه والعرش كما حصل بين المأمون والأمين.
2- الخسران الأخروي: فقد مرّ ذكر بعض النصوص على ذلك، والسبب في خسرانه الأخروي هو: أنه قد قدم مقدمات خسيسة، فتكون نتائجها أخس منها، فعندما أوغل يده بالدماء فإنه بذلك قد اشترى العذاب بالمغفرة. ولا نتعجب عندما نسمع بأن أبا العباس السفاح مات وهو ابن الثلاثين، لأنه على حد قول السيوطي: وكان السفاح سريعاً إلى سفك الدماء...(3). فهذا سبب كافٍ لإهلاكه وخسرانه الأبدي.
«اللّهم صلّ على محمّد وآله، وحلّني بحلية الصالحين، وألبسني زينة المتقين، في بسط العدل، وكظم الغيظ... واستقلال الخير وإن كثر، من قولي وفعلي، ... وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة ولزوم الجماعة، ورفض أهل البدع،
ص: 347
ومستعملي الرأي المخترع»(1).
قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا}(2).
وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ...}(3).
وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ... }(4).
وقال جلّ وعلا: {...وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ...}(5).
قال عزّ اسمه: {...وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ...}(6).
وقال جلّ شأنه: {...فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ...}(7).
وقال عزّ من قائل: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٖ...}(8).
وقال جلّ ثناؤه: {...إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ...}(9).
ص: 348
قال سبحانه: {...فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ}(1).
وقال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}(2).
وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(3).
وقال جلّ وعلا: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}(4).
وقال عزّ اسمه: {...فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّٰلِمِينَ}(5).
وقال جلّ شأنه: {...إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٖ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}(6).
وقال عزّ من قائل: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(7).
وقال جلّ ثناؤه: {... فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}(8).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروّته وظهرت عدالته، ووجبت أخوته،
ص: 349
وحرمت غيبته»(1).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إعدل تَدُم لك القدرة»(2).
وقال(عليه السلام): «من عمل بالعدل حصَّن اللّه مُلكَهُ»(3).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن، ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قلّ»(4).
قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يقول اللّه عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبدٌ هواه على هواي إلّا شتَّتُّ عليه أمره ولبّست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم اُوته منها إلّا ما قدرَّت له»(5).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اغلبوا أهوائكم وحاربوها فإنها إن تُقيِّدكُم تورِدكُم من الهلكة أبعدَ غاية»(6).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعدائكم فليس شيء أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم، وحصائد ألسنتهم»(7).
وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) في وصيته لهشام: «... فإن كثير الصواب في مخالفة هواك»(8).
ص: 350
قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إيّاكم والظلم فإنه يخرب قلوبكم»(1).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إيّاك والجَور فإن الجائر لا يشمّ رائحة الجنة»(2).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «الظلم في الدنيا هو الظلمات في الآخرة»(3).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: من خاف القصاص كفّ عن ظلم الناس»(4).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يقول اللّه عزّ وجلّ: اشتدَّ غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري»(5).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... وسينتقم اللّه ممن ظلم، مأكلاً بمأكلٍ، ومشرباً بمشرب، من مطاعم العلقم، ومشارب الصّبر والمقر(6)...»(7).
وقال(عليه السلام): «لكل ظالم عقوبهٌ لا تَعدُوه وصَرعةٌ لا تَخطوهُ»(8).
ص: 351
قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(1).
إنّ النهضة عبارة عن البناء، والبناء يحتاج إلى مقوّمات ومؤهلات، وهي مقوّمات النهضة. والنهضة هي صناعة أمة جديدة، وتكوين مجتمع يحيا في ظلّ النهضة ومعطياتها، ومن ثم بناء حضارة إنسانية تحمل معالم النهضة وشعاراتها.
وعلى ذلك فإنّ النهضة دائماً تهدف إلى تغيير الواقع من جذوره، وزرع مبادئها وأهدافها، فإذا كانت النهضة إسلامية فإنّها تحمل في طيّاتها ومراحلها المباديء الإسلامية السامية، فتعمل على زرعها في الواقع الحياتي، ومن ثم خلق مجتمع واعٍ يحمل هذه الأفكار والمبادئ، ثم تعمل النهضة على بناء دولة إسلامية تقوم على أحكام اللّه عزّ وجلّ.
وهناك نهضات غير إسلامية حدثت في آفاق الأرض؛ إذ لا تخلو دولة من الدول إلّا ونجد تأريخها مليئاً بالنهضات والانتفاضات. وإنَّ كلا النوعين من النهضات الإسلامية وغير الإسلامية لا بدّ لها من مقوّمات ترتكز عليها في تحرّكها، وأحياناً تستغرق هذه المقدّمات الوقت الطويل، فلا بدّ لرجال النهضة أن يمتازوا بالنفس الطويل، وانشراح الصدور. إذ لولا الإعداد لم يتمكّن الثائر من النهضة، وكما رأينا أنّ كلاًّ من الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) قد أديا رسالة
ص: 352
واحدة. حيث أعدّ الإمام الحسن(عليه السلام) الثورة إعداداً متكاملاً ومحكماً، بينما قام سيد الشهداء(عليه السلام) بالأداء الجيّد، حيث قام بالتفجير الصاعق للنهضة. فالنهضة هي انقلاب على الواقع الفاسد، والعمل على تغييره.
هناك جملة من الأمور التي لا بدّ من توفّرها في حركة النهضة لضمان نجاحها:
أوّلاً: إعداد صيغ التحرّك؛ عن كيفيته، ونوعه، ومكان التحرّك، وقوّته. ثم تقدير مدى نجاحه، مع مراعاة الظرف والجو العام الذي تنهض فيه النهضة. وخلاصة القول: أنّه لا بد من إعداد برامج الانطلاق، وكلّ ما يتعلّق به، ودراسة عملية المواجهة، ومدى نسبة النصر أو الخسارة، مع تشخيص نقاط الضعف عند المقابل، وكيفية الاستفادة منها، إلى غير ذلك من الأمور.
ثانياً: لا بدّ لكلّ نهضة من رجال يقومون بعملية النهوض، وهؤلاء يجب أن يكونوا دائماً بمستوى أفكار النهضة، وبمستوى التحرّك، وأن يعوا برامج الإعداد الأولى، ولا بدّ أن يعوّل عليهم في التحرّك، أي: يجب أن يُختاروا من بين الجميع، لأنّهم مصدر القوّة واليد الضاربة.
ثالثاً: قيادة النهضة يجب أن تفكر وتعد برامج أخرى، وهي إعداد برامج ما بعد نجاح النهضة، أي: كيفية السيطرة على الشارع، واحتواء الجماهير والسيطرة على العواطف الهائجة. ووضع خطة العمل في حالة النجاح، وإدارة شؤون الناس. وحتى في حالة عدم النجاح لا بدّ لقيادة النهضة أن تعدّ برامج خاصة لحالات الطوارئ.
رابعاً: ضرورة العمل على تهيئة كوادر أخرى ما بعد نجاح النهضة، لاحتمال
ص: 353
أن أكثر رجال النهضة الذين يُعتدّ بهم يكونون في خط المواجهة والمصادمة، فيقتل أو يجرح...
وهذه الكوادر الثانية يقع على عاتقها تنفيذ ونشر مبادئ النهضة وبلورتها بين الناس.
خامساً: الإخلاص، الصفة التي لا بد أن ترافق النهضة منذ نعومة أظفارها وحتى بناء الدولة.
سادساً: العنصر الآخر والأهم هو المحافظة على أخلاقية النهضة، لأنّها سبب بقاء النهضة ونجاحها، فهي تمثّل دور الأساس الرصين للنهضة، والخلفية الروحية التي تلهم النهضة روح الإستمرار والمضي قدماً. ومن المعلوم أن دور الأساس مثل دور البناء في الأهمية، فلولا الأساس لانهار البناء، كما أنّه لولا البناء لم يظهر للأساس ثمر، وذلك أن الحضارة الإجتماعية بأي لون كانت لا بدّ لها من أسس تقوم الحضارة عليها، والأُسس عبارة عن الأخلاقيات والقوانين والضوابط التي ترتكز الحضارة عليها. فأحياناً تبنى الحضارة على أساس احترام القوم، وأحياناً تبنى الحضارة على أساس الكفاءة. ففي الحضارة القومية يكون القريب ذا حق في المنصب، وإن لم يكن كفؤاً، وفي الحضارة المتبناة على مبدأ الكفاءة، تكون الكفاءة معياراً، فهي التي تتقدّم، وإن لم يكن الكفوء ينتمي قومياً لتلك الحضارة.
إن النهضة الإسلامية تهدف إلى نشر الحضارة الإسلامية، وهذه الحضارة ذات وجهين: وجه الأساس ووجه المظهر أو الحكم.
والأئمة الطاهرون(عليهم السلام) اشتغلوا بالأساس، وهو أهم وجهي الحضارة، لأنّه
ص: 354
لولاه لم تكن حضارة، والأساس للحضارة الإسلامية أمور:
1- الأخلاقيات: كالصدق والأمانة والوفاء والحياء وغيرها...
2- الأصول: كالمبدأ والمعاد والنبوّة والإمامة والعدل.
3- الأحكام العملية: وتشمل أموراً عديدة:
أ- كأحكام المعاملات والأحوال الشخصية.
ب- موازين الحكم ومواصفات الحاكم وارتباط الحاكم بالشعب، وما يتبع ذلك من الحرب والسلم والمعاهدات وغيرها.
ج- العبادات الرابطة للإنسان بالخالق، والتي تلطّف المشاعر والقلوب، وتقوّي أواصر الاجتماع، وتزيل الفوارق الطبقية، كالصلاة والصوم والحجّ...
4- المعارف العامة: كأحوال الكون والحياة وقصص الأمم وأنبيائها.
والأئمة الطاهرون(عليهم السلام) اشتغلوا طيله حياتهم بهذه الأمور، التي لو لم تُشيّد لذهبت الحضارة الإسلامية، كما ذهبت حضارة الأديان السابقة، وبقيت هيكلاً بلا روح. فالأئمة(عليهم السلام) بيّنوا جملة أمور:
1- بيّنوا ربط الإنسان بالخالق كما في نهج البلاغة والصحيفة السجادية.
2- أوضحوا الشريعة والعبادة.
3- نسفوا الأُسس الباطلة للكون والحياة، التي جاءت من حضارتي الفرس والروم، حتّى أنه لولاهم لذهبت حضارة الإسلام الفكرية أدراج الشبهات والفلسفات المنحرفة.
4- بيّنوا الأُسس الأخلاقية للحضارة.
5- جاهدوا المنحرفين من الحكّام والعلماء، ولذا سُجِنوا وقُتِلوا.
6- قدّموا للمجتمع المثال الصحيح للإسلام في شخصهم.
ص: 355
كانت سنوات ما بعد الحرب العالميه الثانية سنوات انبعاث سياسي في بعض أنحاء القارة الأفريقية. وعادت بعض الأمم إلى بناء نفسها من جديد والتماس مصيرها ومستقبلها، على ضوء الكوارث التي سبّبها الإستعمار.
فالحركات السياسية والانتفاضات الشعبية وغيرها من علامات الانبعاث والنهوض كانت شواهد حسّية على أن الشعوب الأفريقية بدأت تنفض عنها غبار الاستعمار ومخلّفاته من التفرقة والتمييز العنصري والاستغلال... وبدأت تتطلّع إلى الحرية والتعددية السياسية والإصلاح في كلّ جوانب الحياة... ولم تكن حركة الشعوب الأفريقية حركة عادية وإنّما تظافرت فيها الجهود الواعية وأنكرت ذاتها وعاشت التنافس الإيجابي واستغلال القدرات الذاتية والحيوية التي تزخر بها المنطقة، وقد استقبلت أغلب هذه الشعوب مبادئ الدين الإسلامي تقبّلاً كبيرا للتخلّص من القيود التي فرضتها عليها البلاد المستعمرة ببهرجتها الكاذبة وفراغها الروحي... فنهضت بعض الشعوب الأفريقية منادية بالإسلام الذي أخرجها من الكسل إلى النشاط ومن الرقّ إلى الحرية ومن الموت إلى الحياة، وقد تشكلت فيها حكومات مسلمة. وفي سيراليون بلغت نسبة المسلمين فيها أكثر من (70%) رغم الحملات التبشيرية المسيحية الواسعة فيها ورغم انتشار الوثنية، وكان المسلمون في سيراليون موضع إعجاب المؤرخين الأوربيين لامتيازهم بالمحافظة على الشعائر الدينية بدقّة والنظام في الحياة والخشوع في العبادات. إلى جانب بلاد أفريقية أخرى عديدة مازالت تنتمي إلى الإسلام وتعيش في ظلّه ولقد نجحت بعض هذه التجارب الأفريقية بتحقيق رفاهها واستقلالها التام بأسباب عديدة منها:
أوّلاً: التعددية الحزبية في البلاد أدّت إلى تلاقح الآراء والأفكار وتبادل
ص: 356
المعرفة.
ثانياً: الأحزاب شخَّصت مفاصل الضعف، ومواضع المرض، فعملت على القضاء عليها، وذلك بالتنازل عن بعض المبادئ الحزبية، واندماج الأحزاب في ما بينها، لكي تكون القوّة أعظم مع فسح المجال للمعارضة والأحزاب الأخرى في التعبير عن الرأي، وعدم استخدام أساليب المستعمرين المُنفِّرة، من كمّ الأفواه والتصفية الجسدية.
ثالثاً: نشر الأفكار الحُرَّة، وتحرير الإرادات من السيطرة الاستعمارية، فأدّى هذا العمل إلى نشر الوعي بين الأفراد.
رابعاً: المحافظة على التراث واللغة، والتمسّك بالإسلام العظيم، وهو سرّ قوّتها.
وفي الجملة نرى أن كثيراً من نهضات الشرق تُصاب بالفشل والانتهاء، فأدّت إلى بداية رحلة الضياع، التي بلغت عشرات السنين. وأحد العوامل الرئيسيّة وراء ذلك، ووراء رحلة الضياع هو أنَّ الطريق كان غير واضح، وهو الخط السياسي، أي: أن الخط السياسي لبعض دول العالم الثالث لم تكن معالمه واضحة، وفي مقابل المجتمع الدولي، الذي حُدّدت المسارات فيه بنظريات وقوانين. ونهضة بلا آيدلوجية تعني أن جيل النهضة، ومبادئ النهضة، بلا مقوّمات لمواجهة الواقع والمستقبل. وتصبح مسؤولية القيادات التي حققت النصر النسبي ليست فقط في نكسة النهضة، بل وفي تخريب الجيل الجديد، وهو جيل الانتصار. ومؤكد أنّ واحداً من العوامل التي ساعدت على هذا الدور الضخم هو رصيد التخلّف الذي تركه الاستعمار، وكذلك تدخله في صناعة الانقلابات، فقد برز ذلك في سلسلة انقلابات عسكرية، بدأت في سنة (1965م)، وحتى (1966م)، بلغت
ص: 357
حوالي عشرة انقلابات، تتابعت بعد ذلك بمعدل انقلابين أو ثلاثة في العام، وهي كلّها انقلابات عسكرية، برغم محاولات التغطية التي أُحيطت بها، فقد فشل الاستعمار في إخفاء محرّك الدُمى التي ارتدت الملابس العسكرية.
وكلمة صدق لا بد أن تُقال: إن دول العالم الثالث ساهمت بطريق غير مباشر في إنجاح المخطط الاستعماري، إلى حدّ أن الانقلابات كانت تتمّ بسهولة ويُسر.
وحتى تتضح لنا هذه الحقيقة، لا بدّ من إلقاء نظرة على ظاهرة خطيرة، ارتبطت بانقلابات العالم الثالث. وبالرغم من حيويتها فقد مرّت بها العيون دون أن تقف أمامها، ولو لحظة، وربما لسرعة الأحداث وتعدّد أماكنها، وربما لفهم خاطئ لحقيقتها، المهم أن الكثير لم يهتم بها.
وهي ظاهرة عدم تصدّي الجماهير لمقاومة الانقلابات العسكرية، بالرغم من كلّ البصمات الواضحة لأصابع الإستعمار على وجهها. فلم يحدث أن خرجت الجماهير تعبّر عن إرادتها ضد هذه الانقلابات. ثم ترتب على هذا أن سادت فكرة أنّ من يملك السلاح هو يملك السلطة والقوّة والتأثير، وهذا الوهم ساد الكثير من الأفكار عند شعوب العالم الثالث.
فالشعوب على مرّ الأيام قاومت الدبابات والرصاص ولا بدّ هنا أن نُشير إلى أن الثورة عندما تنتصر يجب أن تخلق جيلاً يحافظ على مبادئها، وهو الآخر يخلق جيلاً يحافظ على الاستقلال. وهذا الأمر ضروري جدّاً.
لعلّ سؤالاً يرد على الذهن وهو:
إن بعض الحركات العلمانية نراها تنجح في مسيرها، بينما نرى الفشل في
ص: 358
كثير من النهضات الإسلامية؟
فنقول في معرض الجواب: نعم نرى في الواقع حركات شرقية، وأخرى غربية، تقوم على أنظمة مادية، لكنّها سجّلت نجاحاً كحركات الشيوعيين في مختلف البلدان، وحركات القوميين كانقلاب عبد الناصر أو عبد الكريم قاسم، أو حركات أخرى كحركة البهلوي في إيران وأتاتورك في تركيا... الخ.
ولكن يجب أن نفرّق بين النهضة التي تملك إرادتها، وتعتمد على رجالها وفكرها، وتستمر على نهجها دون انحراف، وبين الحركات الصورية (الكارتونية)، فهذه الأخيرة كانقلاب كلّ من عبد الناصر وعبد الكريم والبكر والبهلوي وصدام و... الخ. فهي ليست نهضة واقعية، إذ يقوم جماعة من الضبّاط الذين يرتبطون بإحدى الدول الغربية الاستعمارية بروابط مشبوهة، وكلّها تقوم على أساس مراعاة منفعة الاستعماريين. فتعطي لهم المخططات العامة للانقلاب وطرق التحرّك والتنفيذ... وهكذا، وإذا بها حركة تقوم على أرض البلد مفاجئة، شأنها القتل، وسفك الدماء، وخنق الأصوات، وتعطيل الحريات والبرلمانات، وإلغاء وجودات الآخرين. المهم تكون القاعدة الأساسية في حكم هذه الحركات الصورية هي: (من لم يكن معنا فهو ضدنا... ويجب تصفيته).
فهذا النجاح للحركات اللا إسلامية يعود إلى أمرين:
الأول: أما إنّها حركة صورية نجحت تحت دعاية الاستعمار، والمدّ المتواصل من الدولارات والأسلحة والأفكار والمخططات... فهذه لا فخر لها، وليس من حقّها أن تتكلّم بلغة النصر والنجاح، ثم إنّها لا تمثّل إرادة الأمة أبداً، بل العكس هو الصحيح، وتقوم على سفك الدماء، كما هو الحال مع حزب البعث في العراق... فهذه حركات لا تسمّى ناجحة بلغة الحق، أما إذا أردنا أن نتكلّم بلُغَةِ الباطل، نعم نقول: إنّها ناجحة، والحال أنها تثبت فشلها بنفسها باستمرار الأيام.
ص: 359
الثاني: وإمّا أنَّها حركات قامت تحت نظر بعض الماديين العلمانيين، كثورة الشيوعية ثم حتى بعدما نجحت مثل هذه الحركات، إلّا أنّها فشلت في تالي الأمر، كما فشلت الشيوعية، وكما فشل البهلوي وأتاتورك.
بينما النهضات الحقيقية الواقعية التي تعبّر عن إرادة الأمة، وتحكي آمالها وأمانيها، وتوصل بين حركة البدن وتطلّعات الروح... فهذه تنتصر أبداً لا سيما إذا روعيت الأسباب الطبيعية، والأجواء العامة وأخذت بالأسباب.
فنهضة الإمام الحسين(عليه السلام) نجحت بلغة الحقّ، نجحت بلغة الروح...، ودليل نجاحها أنّه ما قامت نهضة بعدها إلّا وكانت تضع ثورة الحسين(عليه السلام) مبدأً لها وشعاراً.
ولهذا السرّ اتّجه الاستعمار، ومن يدور في فلكه، إلى شلّ الروح المعنوية والمبدأية للمسلم، عن طريق التبليغ المضادّ، الذي يصوّر نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) على أنّها فاشلة، وأن الإسلام لا يحقّق النصر والحرية، ومثل هذه الأقاويل قد انجلى غرضها، وبان فشلها التام.
في معظم أدوار التاريخ السياسي كانت هناك خطة سياسية مؤثرة، وما تزال، وهي أن تضع السلطة الحاكمة الظالمة كيانات وتيارات وجماعات مقابل الكيانات الشعبية الواعية، التي تدعو إلى الإصلاح واحترام الإنسان، وتحاول أن تتفنن في صناعة هذه الكيانات، بحيث لا يلتفت أحد إلى أن هذه صنايع السلطة الحاكمة. ثمّ تُمعن هذه الصنايع الخبيثة في ضرب آراء وأفكار الجماعات الحرّة، الداعية للإصلاح، ومحاولة تفريق الناس عنها، وتكذيبها، وهكذا فهذه واحدة من الأمور التي تؤدي إلى إسقاط النهضة من الأساس ومصادرتها. كما فعل ذلك معاوية بن أبي سفيان، ومن جاء بعده من الأمويين والعباسيين، من تشجيع بعض
ص: 360
المذاهب والفرق المنحرفة، ودعمها بما تريد، في قِبال كيان ووجود أهل البيت (صلوات اللّه عليهم)، فكان هدف الأمويين والعباسيين هو التشكيك والتضعيف بوجود أهل البيت، إلّا أن الأئمة(عليهم السلام) عمدوا في مقابل ذلك إلى الأحاديث والرواية، وبثّ الوعي في الأمة، وصناعة رجال تقود أفراد الأمة، كهشام بن الحكم، ومؤمن الطاق وزيد بن علي، وغيرهم...
كما أن العباسيين في أوائل مجيئهم إلى الحكم عملوا على بثّ أفكارهم عبر تيّار خاصّ يعمل لحسابهم، فكانوا يحاولون أن يضعوا الصفة القدسية لحكمهم، فكانوا يختلقون الأحاديث وينسبونها إلى النبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، في مدح دولتهم وشرعية حكومتهم...
من المعلوم أن النهضة عبارة عن حركة الجماهير لصناعة تاريخ جديد. وهذا الأمر يتوقف على الرصيد الروحي والأخلاقي الذي تمتلكه النهضة. وشددنا على هذا الجانب من دون غيره، لما له من أهمية بالغة، في قوّة التماسك لأفراد الأمة، واستمرار دور العطاء فيها. لأنَّ هذه الروح الخلقية منحةٌ من السماء إلى الأرض، تأتيها مع نزول الأديان، عندما تولد الحضارات، ومهمتها في المجتمع ربط الأفراد بعضهم ببعض، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(1). حيث تدلِّل على أنّ جميع الأمور المادية الموجودة على وجه الأرض تعجز عن تأليف القلوب، ولكنَّ اللّه يؤلّف بينها، بواسطة الفطرة والإيمان، والأخلاق والدفعات الروحية الخفيّة.
ص: 361
وهذه الأخلاق التي تحملها النهضة، أو الفرد، هي تعبير آخر، أو مرآة تعكس صورة الثقافة التي تتمتع بها الثورة، وبقدر ما تكون هذه الثقافة متطورة فإنّ البذور الأخلاقية والجمالية تكون أقرب إلى الكمال. إذن فأساس وقوام النهضة هو بما تملك من أخلاق عالية، وبقدر ما تحاول أن تجسّد وتفعّل هذه الأخلاق في رجالها وأفراد الأمة، بحيث تصبح الأخلاق الفاضلة ملكات عند الأفراد، لا تفارقهم أبداً، في مراحل الشدّة والرخاء. ولهذا نرى أن مسلم بن عقيل (سلام اللّه عليه)، قد منعته أخلاقه السامية، وعلوّ روحه، من أن يقتل عبيد اللّه بن زياد غدراً(1)، ولو كان في قتله انتصارٌ كبير للإمام الحسين(عليه السلام)، ولقد امتنع، وأخلاقه هي التي منعته. فإذا كانت نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) تحوي في داخلها رجالاً أمثال مسلم بن عقيل فكيف لا تنتصر.
وهاهو التاريخ يشهد بانتصارها وخلود أصحابها، وعلوّ شأنهم، وارتفاع مقامهم، وعلى قول الشاعر:
وإنَّما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا(2)
ولهذا الأمر كرّس أهل البيت(عليهم السلام) أحاديث كثيرة كلّها تؤدي إلى صناعة أفراد وأمم، تحمل أخلاقاً عالية، بها تعيش وتحيا وتبني حضارتها. فقد جاء عن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخُلق»(3)، وعن الإمام الباقر(عليه السلام) أنَّه قال: «إِن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً»(4).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ذلّلوا أخلاقكم بالمحاسن، وقودوها إلى المكارم،
ص: 362
وعوِّدوا أنفسكم الحلم، واصبروا على أنفسكم في ما تحمدون عنه...»(1).
«اللّهم صلِّ على محمّد وآله، وحصّن ثغور المسلمين بعزّتك، وأيّد حماتها بقوّتك، وأسبغ عطاياهم من جِدَتك، اللّهم ّ صلِّ على محمّد وآله، وكثر عدّتهم، واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألِّف جمعهم...»(2) بحقّ محمّد وآل محمّد، صلواتك عليه وعليهم أجمعين.
قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(3).
وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}(4).
وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(5).
وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(6).
قال عزّ اسمه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(7).
ص: 363
قال جلّ شأنه: {الر كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}(1).
قال عزّ من قائل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).
قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...}(3).
قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّما المؤمنونَ إخوة بنو أب وأم وإذا ضربَ على رجل منهم عرق سهرَ لَهُ الآخرون»(4).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «اللّه اللّه في الأيتام فلا تغبوا(5) أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم فقد سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: من عالَ يتيماً حتى يستغني أوجب اللّه عزّ وجلّ لَهُ الجنّة كما أوجبَ لأكل مال اليتيم النار»(6).
وعن أبي مالك قال: قلت لعلي بن الحسين(عليهما السلام): أخبرني بجميع شرائع الدين،
ص: 364
قال: «... والوفاء بالعهد»(1).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اتقوا اللّه وكونوا إخوة بررة متحابين في اللّه، متواصلين متراحمين...»(2).
قال رسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه اللّه الأمر...»(3).
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثمَّ أَنزلَ عليهِ الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحه، وسِراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضلُ نهجه...»(4).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنمّا نصر اللّه هذه الأُمّة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم...»(5).
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... والعفو زكاة الظَّفر...»(6).
ص: 365
قال سبحانه وتعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}؛(1).
لا يزال أغلب المسلمين في القرن الأخير مستمرين في تقهقرهم وانحطاطهم، فبلادهم مجزّءة ومبضّعة، وقانونهم الإسلامي القويم ترك جانباً ولم يعمل به أبداً إلّا في بعض المسائل الصغيرة، وكثير من أبنائهم، على أثر سوء التربية والأخلاق والضعف الاقتصادي، ارتّدوا عملياً عن دينهم الحنيف، وتحولت عزتهم إلى ذلة وسيادتهم إلى عبودية ووحدتهم إلى تفرق واتحادهم إلى تشتت وتعاونهم إلى تعاند وتعارفهم إلى تباغض، فلا ترى فيهم قادحة خير إلّا أخمدوها وقضوا عليها عن معرفة وعلم أو عن جهل وسوء تدبير!
عندما تسلط على دفة الحكم الإسلامي أمثال يزيد والمنصور وهارون ومن على شاكلتهم، وإن كانوا متعمدين وقاصدين تأخير ركب الإسلام، وإماتة معالمه وتعاليمه، إلّا أن المسلمين أنفسهم استطاعوا أن يقدموا الإسلام وينشروا مبادئه، ويرفعوا راية الإسلام عالية في أكثر البقاع وذلك بهمتهم العالية وتصميمهم الراسخ الذي لم يزلزله لا جيش يزيد ولا سجون هارون ومجونه ولا غيرهم من الذين حملوا معول الهدم للإسلام والمسلمين.
ولكن حكام المسلمين أخيراً بدءاً من جمال عبد الناصر والسادات وانتهاءً
ص: 366
بالبكر وصدام وأمثالهم، جناياتهم لا تختلف عن جنايات سابقيهم الماضين، فإنه وإن كانت الصور والأشكال مختلفة، ولكن الفرق هو أن المسلمين آنذاك كانوا يمتازون بروحية عالية وهمة ماضية وتطلع إلى التقدم والازدهار بالرغم من فساد حكامهم، لذلك تقدموا وفتحوا الآفاق ورفعوا راية الإسلام فوقها عالية خفاقة، ونشروا مبادئ الإسلام والعدل الإسلامي وعرضوا الإسلام بوجهه الحقيقي غير المزيف، أما مسلموا اليوم فليس للكثيرين منهم أي طموح أو تطلع للتقدم ونشر الإسلام أبداً، وفي مقابل ذلك فإن الكفار والمنافقين من اليهود وأشباههم يحاولون بشتى الوسائل تحريف مبادئ المسلمين وإبعادهم عن واقعهم، مثلاً: قام الغرب بتعظيم أحد حكماء ايران(1) ورفعه إلى درجات عالية وذلك من أجل ترويج عقيدته الباطلة والمخالفة للإسلام، وهي عقيدة الجبر ونشرها في إيران، لأن هذا الحكيم من القائلين بالجبر واشتهر اسم هذا الحكيم إلى درجة أنه سميت حتى في العراق شوارع وفنادق باسمه.
بينما نرى الشيخ عبد الكريم الحائري(رحمه اللّه) مؤسس الحوزة العلمية، أو السيد أبا الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) الذي لم تخف خدماته على أحد من المسلمين، أو السيد البروجردي(رحمه اللّه) الذي بنى في طهران فقط اربعمائة مسجد غير ما أسسه من المؤسسات الإسلامية في باقي البلاد الإسلامية، هؤلاء العظماء لم تُسمَّ أية مؤسسة إسلامية باسمهم ولا حتى زقاق صغير!
كان هناك في العراق وزير في أيام عبد السلام عارف، وكان من طلاب العلوم الدينية. كان يقول: لماذا أنتم تتعبون أنفسكم مع عبد السلام من أجل تطبيق الأحكام الإسلامية؟ إن عبد السلام عارف إنما هو أقل من خادم عادي وعميل
ص: 367
صغير بنظر الغرب، وليس له أن يفعل أي شيء إلّا بإجازة السفير الإنجليزي أو السفير الأمريكي، فمع هذا كيف تطلبون منه أن يطبق النظام الإسلامي؟ السفير يطلب منه أن يحيي عصر بني أمية أو هارون العباسي، فيمتثل لذلك فيسمي الشوارع والمدارس والمستوصفات والمستشفيات والأزقة باسماء هؤلاء الظلمة!
نحن علينا في سبيل التخلّص من التبعية العمياء للغرب أن نفعل شيئاً كمقدمة أوليّة وضرورية للخطوات الأساسية التي تليها، وذلك بأن نحوّل مركزين مهمين عند المسلمين إلى مدارس دينية.
أحدهما: بيوت العلماء والمراجع الذين توفوا أمثال الحائري والبروجردي (قدس اللّه أسراهم) ونحوهما...
وثانيها: مقابرهم، لأن هذه الأماكن ذات أبعاد معنوية، وفيها تأثيرات وإيحاءات إيجابية، كما أنها توجب اقتداء الناس بأصحابها في الإيمان والعمل، لأن المجتمع عندما يحافظ على تراث عظمائه وكبرائه، فإن ذلك يدفعه إ لى تقليدهم وسلوك طريقهم، لأن الناس غالباً ما يكونون مقلدين للشخصيات الكبيرة والنماذج البارزة، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه شوهد ذات مرة وعليه إزار مرقوع، فقيل له في ذلك فأجاب(عليه السلام): «يقتدي به المؤمنون ويخشع له القلب... أشبه بشعار الصالحين وأجدر أن يقتدي به المسلم»(1). وهكذا كان الإمام(عليه السلام) يتصرف لأنه يعلم أن المسلمين يتخذونه قدوة لهم.
أصدر عبد الحميد العثماني أمراً بتهديهم كربلاء وتسويتها مع الأرض وأسر نساء الحلة وأهالي النجف الأشرف ومنع قراءة (أشهد أن علياً ولي اللّه) من على
ص: 368
المآذن في صحن الإمام الحسين(عليه السلام) والإمام علي(عليه السلام)، كما أنه منع طباعة ونشر الكتب الشيعية في العراق. لذلك شن العلماء ورجال الدين حملة ضارية وحرباً حامية ضد السلطان عبد الحميد حتى أسقطوه بعد إضعافه، فعمّ العراق نوع من الحرية والاستقلال.
وفي زمان الملك فيصل أيضاً قام العلماء ضده، وخاصّة الشيخ عبد الكريم الجزائري فقد وقف أمام الملك فيصل الأول عندما جاء إلى النجف الأشرف، وتكلم معه بكلام حاد وشديد، وذلك عندما دخل فيصل حرم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، فجاء الشيخ عبد الكريم الجزائري ووقف أمامه وقال: إن هذا المكان الذي حللت به شريف، وصاحب المكان إمام معصوم، وأنت تدعي بأنك من أولاده وتسير بسيرته ولكنك تكذب! فتغير لون فيصل، واحمّر من الخجل ولم يُحِرْ جواباً، بل لم يستطع أن يقول شيئاً أو يفعل شيئاً، لأنه حسبَ حساب قوة العشائر التي كانت في حماية الشيخ عبد الكريم الجزائري.
نعم هكذا كان العلماء ذوي قدرة طائلة، لا يهابون الملوك والحكام، بل الملوك والحكام كانت تهابهم وتحسب لهم ألف حساب. وفي زمان ناصر الدين شاه عندما استدعاه السفير الإنجليزي للسؤال عن شخصية السيد محمد حسن الشيرازي(رحمه اللّه) وسرّ قوته، قال: إن للسيد الشيرازي خادمين مطيعين أحدهما السلطان عبد الحميد والآخر ناصر الدين شاه لا يملكان أن يعصيا له أمراً.
نعم استطاع الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه) بفتواه المشهورة، أن يطرد (400) ألف جندي إنجليزي من إيران، بعد ما دخلوا إيران وسيطروا عليها، ولكننا نشاهد اليوم بسبب ضعف المسلمين أن صدّاماً يقوم بإبعاد العلماء والسادة، ومنهم حفيد ذلك السيد الجليل من سامراء، ولم يحرك المسلمون ساكناً في مقابل هذا العمل الشنيع!
ص: 369
أحد أسباب انحطاط المسلمين هو انعدام الوعي السياسي وعدم الالتفات إلى منابع القوة التي يمتلكها المسلمون، فلو كان للمسلمين الوعي الكافي والرشد الصحيح لم يسمحوا بلاستعمار الشرقي والغربي أن يلعب بمقدراتهم ويتهاون بمقدساتهم، بل لم يسمحوا له بأن يستعبدهم، كما هم عليه الآن من التبعية والاستعباد لأفكار الشرق والغرب.
ينقل المرحوم الوالد(رحمه اللّه) بأن الإنجليز عندما حاصروا النجف الأشرف، وبلغت قيمة جرة الماء العذب ليرة واحدة، كانت قدرة الليرة الشرائيه آنذاك أنها تكفي مصرفاً لعائلة واحدة لمدة شهر واحد، ولكن أهالي النجف المؤمنين والصامدين استطاعوا، برغم الصعوبات والضغوط التي كان يفرضها الإنجليز عليهم، أن يقاوموهم ويحاربوهم بضراوة وشدة، مع أن العراق آنذاك كانت نفوسه تبلغ حوالي ال- (5/2) مليون نسمة.
واليوم مع انعدام الوعي السياسي والرشد الفكري لدى غالبية المسلمين، فإنّ عامتهم، بل حتى بعض رجال الدين أيضاً، جعلهم لا يشعرون بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم في الدفاع عن حريم الإسلام وحرمات المسلمين.
فالشيعة في العراق يشكلون (85%) وفي البحرين (95%) وفي أفغانستان (34%) وفي السعودية أكثر من (30%)، ومع ذلك ليس لهم في عالم السياسة ذلك الدور الذي يتناسب مع عددهم، بل وفي بلادهم أيضاً لا يشكلون ذلك الثقل السياسي الذي ينبغي لهم أن يشكلوه.
وفي بعض البلاد يشكل الشيعة ثلث السكان أو أكثر ولكن ليس لهم صوت يذكر، وليس لهم هناك قدرة معتبرة، وهكذا العراق الذي يشكل الشيعة أكثرية سكانه، ترى أن الحكومة التي تسيطر عليهم وتحكمهم حكومة سنية متعصبة،
ص: 370
وهكذا باقي بلاد المسلمين، وما ذلك إلّا لعدم اهتمامهم بقضيتهم والمطالبة بحقوقهم الشرعية والإنسانية.
عندما جاء عبد الكريم قاسم إلى العراق، وسنّ ما يسمى بقانون الإصلاح الزراعي، سبّب ذلك احتياج العراق إلى البيض، بعد أن كان العراق يوفره لنفسه ويصدر الفائض إلى البلدان المجاورة، وليس البيض فقط، بل احتياجه إلى أغلب الحاجات واستيرادها من الخارج.
وكان عبد الناصر يستورد لخمسين مليون مسلم مصري لحوم الحيوانات المحرمة، وكان يلزم الناس أن يقفوا كل اسبوع في طوابير طويلة ليحصلوا على هذا اللحم!
ولكنهم مع كل هذا وذاك يصفق له بعضهم ويبايعونه بالتأييد والموافقة، ألّا يدل هذا بوضوح على عدم الوعي عند المسلمين؟ والمسلمون لو تأملوا في واقعهم المر - ولو قليلاً - لعرفوا أسباب تأخرهم، والعوامل التي أدت إلى انهزامهم وبؤسهم... .
سافر شخص إلى إيرلندا، وعندما عاد، قال: إن عدد نفوس إيرلندا لا يتجاوز الثلاثة ملايين نسمة، ولكنهم مع هذا العدد القليل، وبسبب الوعي الاقتصادي العالي الذي يمتازون به، يوفرون اللحم لمئات الملايين من الناس، حيث يصدرون اللحم إلى بلاد كثيرة، من جملتها البلاد الإسلامية، فكيف استطاع هؤلاء بعددهم القليل أن يقوموا بذلك ويتقدموا من هذه الناحية؟ ببساطة إنهم أدركوا بوعيهم نقاط القوة التي يمكن أن يستغلوها لينهضوا باقتصاد بلدهم،
ص: 371
ويجعلوا من بلادهم بلاداً مصدرة ومنتجة لا مستوردة ومستهلكة فقط.
مما يروى في التاريخ، أن فرعون قبل أن يدّعي الربوبية، أتى إليه شخصان ذات يوم، قد تنازعا وتضاربا، وقد أدمى كل منهما الآخر، فسألهما فرعون عن سبب نزاعهما، فقال أحدهما: لأن صاحبي قد ضرب نعلاً لفرسه، وأنا فكرت بأني إذا تزوجت ورزقت ولداً، وكبر وخرج إلى خارج الدار ليلعب، فقد يأتي فرس هذا الرجل ويركل ابني الصغير فيموت، ولهذا تنازعنا وتضاربنا، ففكر فرعون في نفسه، واستنتج أن هذا المستوى من ضحالة التفكير لدى هؤلاء الناس يمكنه أن يدّعي بانه أصبح رباً لهم وإلهاً عليهم، وفعلاً بعدها ادعى فرعون الربوبية، وهذه قاعدة كلية تقريباً، حيث أن الحاكم عندما يرى شعبه ضعيف الشخصية هزيل التفكير يطمح لاستعباده والسيطرة عليه ومعاملته معاملة وحشية، نفس القاعدة التي يتبعها الاستعمار للسيطرة على الشعوب... .
إنَّ مستوى تفكير بعض المسلمين للأسف مشابه لهذين الشخصين المتنازعين، الذين التجأ إلى فرعون لفض نزاعهما، ولذلك استغلت قوى الغرب والشرق هذا المستوى من الجهل، وسلطت عليهم إسرائيل الغاصبة، وجعلتها سيدة عليهم، كما فعل فرعون إذ جعل نفسه ربّاً على الناس.
السبب الآخر لتأخر المسلمين: هو فقدان الأخلاق الإسلامية، إذ أن التحلي بالخلق الاسلامي يعتبر من مقومات السيادة. وإن من أبرز أسباب انتشار الإسلام هو احترامه للإنسان وتحلي المسلمين بالأخلاق الفاضلة، وأي ابتعاد للمسلمين عن أخلاق دينهم يعني ابتعاداً عن روح الدين، كما يعني مزيداً من التقهقر لهم.
ص: 372
وكما يقول الشاعر(1):
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فالسيادة لاتتم إلّا بالحلم وسعة الصدر والتحلي بالأخلاق الفاضلة، ولذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «آلة الرئاسة سعة الصدر»(2).
وعندما دخل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكة المكرمة، جاءه أبو سفيان الذي ملئ قلبه بالحقد والحنق على الإسلام والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والذي كانت يداه ما تزالان تقطران من دماء أهل البيت وأصحاب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد كان أبو سفيان شيخ المؤامرات والفساد، ولكن كيف واجهه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ لقد عفى عنه وصفح، وقال له في رفق ولين:
«ألم يأنَ لك أن تشهد أن لا إله إلّا اللّه»؟
فقال أبو سفيان: بابي أنت وأمي ما أحلمك وأوصلك وأكرمك(3).
هكذا استطاع الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن ينشر مبادئ الدين الحنيف، ويبني دولته المترامية الأطراف بأخلاقه الكريمة وصفحه عن المسيئين، ولذا كانت الأخلاق المحمدية من أكبر العوامل التي ساعدت على سيادة الإسلام وانتصاره.
ومما يذكر عن الشيخ زين العابدين المازندراني(رحمه اللّه) وهو أحد كبار علماء كربلاء المقدسة ومراجعها المشهورين، أنه ذات يوم كان ذاهباً مع جماعة من أصحابه إلى الحرم الشريف، فجاءه سيد وطلب منه مقداراً من المال، فقال الشيخ زين العابدين: ليس معي الآن مال، فعندما قال الشيخ ذلك بصق هذا
ص: 373
السيد في وجه الشيخ! فأراد الناس أن يأخذوا هذا السيد ويعاقبوه على فعله، إلّا أن الشيخ رفض ذلك ومنعهم منه، ومسح وجهه، وقال له: انني لأرجو أن يكون ماء فمك هذا سبباً للشفاعة لي يوم القيامة، لأنك من ابناء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
هذه هي الأخلاق الرفيعة التي تكون سبباً لسيادة الإنسان ورئاسته، ونسأله سبحانه حسن الأخلاق مع الأعداء والأصدقاء.
علينا جميعاً أن نطالع تاريخ الحكام والحضارات، لنستفيد من العبر والدروس، ونقف على الأسباب التي أدت إلى انحسار دور المسلمين، وأسباب تخلفهم، ولنرفع نقاط الضعف من صفوفنا، ونقوي أنفسنا بالثقافة والوعي الإسلامي السياسي، وأن نوجد في أنفسنا اللياقة والكفاءة، حتى نستطيع أن نغير العالم، وأن ننشر النور فيه، بعد أن لفّه الظلام، لأن هذا الدور مناط بالمسلمين كافة، واللّه تعالى الموفق والمستعان.
«اللّهم إنّا نشكو إليك فقد نبينا، صلواتك عليه وآله، وغيبة وليّنا، وكثرة عدوّنا، وقلّة عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصلّ على محمد وآله وأعنا على ذلك بفتح منك تعجّله، وبضرٍ تكشفه، ونصر تعزه، وسلطان حقٍ تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها، برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(2).
ص: 374
وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...}(1).
وقال عزّ وجلّ: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2).
وقال جلّ وعلا: {فَقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ...}(3).
قال عزّ اسمه: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَِٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ}(4).
وقال جلّ ثناؤه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ... }(5).
وقال عزّ من قائل: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَٰمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ}(6).
قال جلّ شأنه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(7).
وقال تعالى: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ
ص: 375
إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ}(1).
وقال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(2).
وقال عزّ وجلّ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(3).
وقال جلّ وعلا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٖ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}(4).
وقال عزّ اسمه: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(5).
قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير فإن ذلك داعيةٌ»(6).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا»(7).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «يا ابن جندب... رحم اللّه قوماً كانوا سراجاً ومناراً
ص: 376
كانوا دعاة الينا بأعمالهم ومجهود طاقاتهم»(1).
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وما أخذ اللّه على العلماء ألّا يقارّوا على كِظة ظالم ولا سَغَب مظلوم»(2)(3).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا» قيل: يا رسول اللّه ما دخلوهم في الدنيا؟ فقال: «اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على أديانكم»(4).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): ملعون ملعون عالم يؤم سلطاناً جائراً معيناً له على جوره»(5).
وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «اعتبروا أيها الناس! بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ الرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ...}(6) وانّما عاب اللّه ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك»(7).
عن ابن مسعود قال: أتى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل يكلمه فأُرعِد فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هوّن
ص: 377
عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القد»(1).
وعن أبي ذر قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل فطلبنا إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه فبنينا له دكاناً من طين وكان يجلس عليه ونجلس بجانبه(2).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من تولى أمراً من أمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر في أمور الناس كان حقاً على اللّه عزّ وجلّ أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة»(3).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من ولي شيئاً من أمور أمتي فحسنت سريرته لهم، رزقه اللّه تعالى الهيبة في قلوبهم ومن بسط كفّه لهم بالمعروف رزق المحبة منهم ومن كف يده عن أموالهم وقى اللّه عزّ وجلّ ماله ومن أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحباً ومن كثر عفوه مدّ في عمره ومن عم عدله نصر على عدوه»(4).
ومن كتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) للأشتر لمّا ولاه على مصر:
«... الواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة أو سنة فاضلة أو أثر عن نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو فريضة في كتاب اللّه فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا»(5).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من تكبر في ولايته كثر عند عزله ذلّته»(6).
ص: 378
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَٰنُ}(1).
هناك سؤال مليح يطرح نفسه على طاولة البحث وهو: كيف يمكننا أن نتجاوز مشكلات المسلمين في العصر الحاضر أو حلها؟
والجواب عن ذلك بحاجة إلى مقدمتين:
هي الإيمان بقدرتك، قال الإمام أمير المؤمنين وسيد الوصيين(عليه السلام) في هذا المجال:
أتزعم أنك جرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر(2)
إن جميع الذين تقدموا في الدنيا في أي ميدان كانوا إنما هُم نفس الأفراد العاديين، ولكن الميزة التي ميزتهم وجعلتهم يحوزون قصب السبق هي إرادتهم القوية وإيمانهم بأنفسهم وقدراتهم، وهذا أمر واقعي لا شبهة فيه، فإذا آمن الإنسان بقدراته الكامنة في ذاته واستطاع أن يستفيد منها ويفجرها ليسلك الطريق
ص: 379
الصحيح فستحل مشاكل الحياة، لأن المشاكل إنما تحل بالجد والعملالمتواصل.
ذكر أحد الكتاب أن كنيسة القرن الثامن عشر قتلت ثلاثمائة ألف إنسان أمثال غاليليو، حيث حكمت على غاليليو بالإعدام ثم الحرق، ولكن غاليليو استطاع بكلامه أن يثبت حركة الأرض حول الشمس ويغيّر الاعتقاد المشهور الذي طال حوالي خمسة آلاف عام، وذلك لأنه كان يعتقد بكلامه جازماً حتى استطاع إثباته علمياً.
الاعتقاد بأن الإسلام فطري، وهو العامل الأكبر والرئيسي في انتصار المسلمين في كل العالم، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(1).
نحن نعتقد اعتقاداً جازماً بأنه من السهل اليسير إعادة مفاهيم الإسلام وقيمه إلى حياة المسلمين، ونحن إذا عملنا بخطة مدروسة وناجحة فسنستطيع تنفيذ ذلك ربما خلال عشر سنوات، والنبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قام بذلك، حيث استطاع خلال عشر سنوات نشر الإسلام في ما بين القبائل العربية، وكذلك استطاع أن يكسر الحدود الموجودة في ما بين القبائل ويوحدها تحت لواء الإسلام وقوانينه، وكذلك أوجد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأخوّة في ما بين المسلمين والاتحاد في ما بين القبائل والمناطق، وبهذه الوسيلة تمكن(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من اجتذاب الناس نحو الإسلام الحنيف، وأن يسقط الحدود النفسية والعنصرية التي كانت راسخة في ما بين عرب الجزيرة والبلاد الأخرى.
ص: 380
ولكن كيف استطاع الأجانب التغلب والسيطرة على المسلمين؟
الجواب:
1- قام الغربيون والشرقيون بإيجاد الحدود في ما بين البلاد الإسلامية، لأنهم أدركوا بأنه مادام المسلمون منضوين تحت لواء الوحدة الإسلامية فلن يتسنى لهم - بل لا يمكنهم أبداً - أن يسيطروا عليهم وينهبوا ثرواتهم لذلك بضَّعوُهم وقسموا بلادهم حتى يسهل لهم التهامها والسيطرة عليها، وساقوهم بهذا الاتجاه، ولذلك نرى المسلمين حالياً يسيرون نحو نفس الاتجاه الذي رسمه إليهم الاستعمار، ويتمسكون بالحدود الجغرافية التي أوجدها، وما ازدادوا بذلك إلّا انحطاطاً وتأخراً وتوغلاً في التفرقة والتمزق.
2- بالقضاء على الأخوة الإسلامية، وإثارة المشاعر القومية الجاهلية والوطنية لتكون بديلاً عن تمسكهم بدينهم وعقيدتهم الإسلامية (1).
3- بتعطيل القوانين الإسلامية، حيث أن من واجب المسلمين تطبيق كل ما جاء في الشريعة المقدسة تطبيقاً كاملاً، ورفض كل الأحكام الوضعية المخالفة للإسلام والتأويلات الشخصية للآيات والأحاديث الشريفة، بينما خلاف ذلك هو السائد اليوم في ما بين المسلمين، وهو المنتشر انتشاراً واسعاً مما أدى إلى ضعفهم وانحطاطهم.
جاء شخص إلى الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) وسأله سؤالاً عن الأموال التي تتعلق بها الزكاة، فقال له الإمام(عليه السلام): الزكاة في تسعة اشياء فقط وعدها، فقال
ص: 381
السائل: وعندنا البَقْل الفلاني أيضاً فهل فيها زكاة؟ قال الإمام(عليه السلام): كلا إن الزكاة في هذه التسعة أشياء فقط، لماذا تذكر شيئاً آخر(1)!
بينما في الوقت الحاضر في البلاد الإسلامية تؤخذ الضرائب والأموال على كثير من الأمور التي لم يرد لها ذكر في الشريعة، والآن لو أردنا أن نحل جميع مشاكلنا واختلافاتنا الدينية بما فيها الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فعلينا أن نقوم بنبذ الخلافات وعدم اتباع الآراء الشخصية والتي تخضع لتأثير اعتبارات عديدة وأن نتجِه إلى شورى المرجعية لضمان وحدة وصواب الرأي بين علماء المسلمين ثم المسلمين أنفسهم.
إن الحس الديني عند الناس هو أكثر الإحساسات الفاعلة والمحركة لهم، لذلك يجب إيقاظ وتحريك هذا الإحساس عندهم من قبل الذين يمتلكون زمام إثارته، فإذا خرج جميع المراجع إلى ميدان ذلك فإن جميع المقلدين سيكونون أيضاً موجودين، وسيشاركون في ما يأمر ويندب إليه المراجع، فلن تبقى بعد ذلك أية طائفة إلّا واستوعبتها الساحة.
الميرزا الشيرازي الكبير(رحمه اللّه) آزره المراجع المعاصرون له، وهم على اختلاف مستوياتهم دخلوا قصة التنباك المعروفة، واستطاعوا أن يطردوا الإنجليز، ويبعدوهم من إيران، مع أنهم كانوا يشكلون اربعمائة ألف إنجليزي جاؤوا إلى إيران لأجل حصر تجارة التبغ واحتكارها لأنفسهم.
كان ابن الميرزا الكبير. يقول: كانت تأتي الرسائل والتلغرافات المفصلة من جميع مدن إيران إلى الميرزا الكبير، فكان الميرزا ومعه جميع المراجع ينزلون
ص: 382
إلى القبو (السرداب) لأن الجو كان حاراً، ويبحثون ويتشاورون من الصباح حتى آخر الليل في هذه القضايا التي وردت إليهم، إلى أن استطاع الميرا أن يتخذ الإجراءات اللازمة والحكيمة بالتشاور مع الآخرين وأخذ آرائهم بنظر الاعتبار، فكانت النتيجة أن انتصروا على الاستعمار الإنجليزي، لأن الناس اتبعوا المراجع وطبقوا ما أمروهم به.
لقد تفاقم أمر الشيوعية في العراق وازداد نشاطهم وتحركهم بعد تسلّم عبد الكريم قاسم مقاليد الحكم وقويت سلطتهم، على أثر ذلك قام المرحوم الوالد(1).
والمرحوم السيد محسن الحكيم(قدس سره) بالتشاور مع مجموعة من العلماء الأعلام، واصدروا الفتوى المشهورة (الشيوعية كفر وإلحاد) فتمكنوا بذلك من انزال الضربة القاصمة في كيان الشيوعية، وتبديدها تبديداً حاسماً جعلها تنحسر عن العراق منذ ذلك الزمان وإلى الآن.
ذات مرة أراد ملك العراق أن يسنّ قوانين مخالفة للإسلام، ويطبقها في الدولة العراقية، إلّا أن المراجع وقفوا سداً منيعاً أمام ذلك باتحادهم تشكيل الشورى في ما بينهم فأرغموه على الرضوخ للقوانين الإسلامية.
أما في الوقت الحاضر حيث افتقدت شورى المرجعية في ما بيننا وأصبحت من الآمال الملحة التي نسعى لتحقيقها، فقد بقي صدام في قمة السلطة بالرغم من ضعفه وعدم صلاحه، واستطاع أن يقضي على مليوني مسلم في العراق وحده ظلماً وعدواناً من دون أن يجدوا لهم ناصراً أو معيناً.
ليس هناك في عالم الدنيا شيء لا يمكن تحقيقه باستثناء المحالات العقلية،
ص: 383
وعلى تعبير أحد الزعماء: احذفوا كلمة (لا) من القاموس اللغوي! لأن كل شيء إذا رحنا وراءه فإنّه ممكن غالباً وإننا لا بدّ وأن نصل إليه في يوم من الأيام، ومن هذه الأمور هي شورى الفقهاء المراجع لإنقاذ المسلمين، والخلاصة أن شورى المرجعية بإمكانها حالياً أن تقوم بدور حاسم تجاه مجمل القضايا التي تهم المسلمين وبإمكانها أن تعطل جميع أسواق العالم الإسلامي إذا اقتضت الضرورة مقاومة الظلم وبأمر واحد! كما أنّ بإمكانها التصدي ومواجهة كل أشكال الاستعمار والتسلط.
إن المرحوم الوالد(قدس سره) مع المرحوم آقا حسين القمي(قدس سره) وسائر العلماء والأعلام طلبوا من محمد رضا بهلوي بصوت واحد ثلاثة مطالب مهمة:
1- إرجاع الموقوفات المصادرة إلى أهلها والأملاك المغصوبة إلى أصحابها.
2- رفع الأمر بفرض السفور وحظر الحجاب على النساء.
3- منح طلاب العلوم الدينية والعلماء الحرية الكاملة لممارسة أعمالهم ودراساتهم، وعندما تماهل الشاه وأهمل هذه المطالب ولم ينفذها، أرسل المرحوم الحاج آقا حسين القمي(قدس سره) رسالة له يهدده فيها في حالة عدم إعطائه جواباً بالقبول فسيصدر أمراً بإغلاق سوق طهران نهائياً.
فعندما بلغ ذلك شاه إيران خاف من ذلك واستدعى رئيس وزرائه، وكان في ذلك الوقت (سهيلي)، وأمره بتنفيذ مطالب العلماء وبأسرع وقت.
بعد ذلك تبين أن السيد البروجردي(قدس سره) كان قد هيّأ أربعة آلاف مقاتل مسلح أيضاً، من بروجرد وأطرافها، ليدخلوا طهران ويقضوا على الشاه في ما إذا لم يستجب لمطالبهم، ولذلك خاف الشاه من الرأي العام والعشائر والعلماء مما
ص: 384
جعله يتنازل ويرضخ لهذه المطالب الثلاثة.
من خلال الكلام السابق نرى أن مشاكل المسلمين ليست ذاتية كلّها بل هي أيضاً نتيجة العداء الذي يكنه أعداء الإسلام لهم، الذين يسعون إلى التسلط على المسلمين، وطمس هويتهم الإسلامية ومعالم ثقافتهم، وإبدالها بالنماذج الغربية تارة والشرقية تارة أخرى، ليكون المسلمون لقمة سائغة وتبعاً مطيعاً لهذه القوى الكافرة. ونحن إذا أردنا أن نبدأ بالفعل بمعالجة حالة الأمة ورفع القيود التي كبّلهم بها الأعداء فيجب أن تكون معالجة جذرية بأفق متسع وبُعد نظر ودراسة معمقة، لتكون النتائج إيجابية وسريعة وملموسة، ولا يتحقق هذا الأمر للأمة دون أن تتسلم مرجعيتها الدينية الشامخة زمام المبادرة والقيادة عن طريق شورى المراجع، وهي وحدها كفيلة بحل المشاكل التي تواجهها الأمة، والقضاء على أسباب الخلاف والتنافر بين المسلمين، وتحقيق وحدتهم وعزّتهم وبناء مستقبلهم.
نبتهل إلى اللّه العلي القدير بهذا الدعاء المبارك ونطلب منه العون والسداد في رفع مشاكل المسلمين.
«اللّهم انّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الاسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1) برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال تعالى: {أُوْلَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنْهُ}(2).
ص: 385
وقال سبحانه: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ}(1).
وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ}(2).
وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً}(3).
قال عزّ اسمه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(4).
وقال جلّ شأنه: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}(5).
وقال عزّ من قائل: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(6).
وقال جلّ ثناؤه: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}(7).
وقال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(8).
وقال سبحانه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِ}(9).
وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}(10).
ص: 386
قال جلّ وعلا: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1).
وقال عزّ اسمه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2).
قال جلّ شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}(3).
وقال عزّ من قائل: {وَلَا تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا}(4).
وقال جلّ ثناؤه: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(5).
وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الاستشارة عين الهداية وقد خاطر مناستغنى برأيه»(1).
وقال الإمام الحسن(عليه السلام): «ما تشاور قوم إلّا هدوا إلى رشدهم»(2).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا مظاهرة أوثق من المشاورة»(3).
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول»(4).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من اللّه فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف فإن في ذلك العطب»(5).
وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال لقمان لابنه: «إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتك إياهم في أمرك وأمورهم... وإذا استشهدوك على الحق فاشهد لهم واجهد رأيك لهم إذا استشاروك ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر ولا تُجبْ في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرك وحكمتك في مشورته فإن من لم يمحِّض النصيحة لمن استشاره سلبه اللّه تبارك وتعالى رأيه ونزع اللّه عنه الأمانة»(6).
وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «يا هشام مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة
ص: 388
ومشاورة العاقل الناصح يمن وبركة ورشد وتوفيق من اللّه فإذا أشار عليك الناصحفإياك والخلاف فإن في ذلك العطب»(1).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): استشر العاقل من الرجال الورع فإنه لا يأمر إلّا بخير، وإياك والخلاف فإن خلاف الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا»(2).
ص: 389
قال سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(1).
إنّ السبيل لإصلاح المجتمع الذي يعمّه الفساد والفوضى، أو معالجة أي سلبية في مجتمع ما، لا يتم بنسف المجتمع نفسه، وإنما بالقضاء على الفساد، وجميع العادات السلبية فيه، وهذا يشبه عمل الطبيب مع مريضه، فالطبيب عند ما يريد معالجة مريض ما؛ فإنه لا يقوم بقتل مريضه لكي ينهي المرض. وإنما يقوم أولاً بفحص المريض، وتحديد نوع ومكان المرض، ومعرفة الأسباب التي أدت إليه، ثم يبحث عن الدواء الشافي له، ويعطيه لمريضه.
فعلينا اليوم، وفي هذه الفترة التي انتشرت فيها العادات السيئة في مجتمعنا الإسلامي، أن نعمل على علاج هذه السلبيات، كما يعالج الطبيب مريضه. فعلينا أن نقوم أولاً بفحص المجتمع، ومعرفة العادات السلبية المنتشرة فيه، ثم البحث عن الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه العادات السيئة، ومعرفة طرق معالجتها، ثم المباشرة في علاجها.
وكما أنّ شفاء المريض من مرضه يعتمد بدرجة كبيرة على براعة وذكاء
ص: 390
وتعامل الطبيب مع مريضه، فإن الشخص الذي يقوم بعلاج سلبية من سلبيات المجتمع، سواء كان فقيهاً أو مرشداً أو خطيباً أو باحثاً إسلامياً، يجب أن يتمتع ببراعة وذكاء وأسلوب جيد في معالجة المشاكل والسلبيات. وهذه العوامل التي يجب توفرها في كل من الطبيب والمرشد والخطيب والفقيه والباحث الإسلامي، من براعة وذكاء وخبرة وتعامل جيد... الخ، هي نقاط الاشتراك بين الطبيب المعالج لمرض ما، والمصلح الاجتماعي المعالج لسلبية من سلبيات المجتمع.
ولكن توجد نقطة ضرورية، يجب توفرها في المصلح الإجتماعي وهي: أن لا يكون المصلح يحمل السلبيات التي يحاول إصلاحها في المجتمع. مثلاً نلاحظ خطيباً يصعد على المنبر، ويحث الناس على صون حقوق الآخرين، وفي نفس الوقت تجده مغتصباً لحقوق الناس، فهذا النموذج لا يقتدي به الناس ولا يسمعون كلامه، وبالنتيجة فإنه يفشل في مهمته، فعلى الأخوة الذين يقومون بمهمة الإرشاد والتبليغ أن يقوموا وبالدرجة الأولى بإصلاح أنفسهم وتصفيتها من الشوائب، وهذا ما يسمى (بتهذيب الذات). وعندما ينجحون في مهمتهم - أي: تغيير أنفسهم - ينقلون هذه الخبرة والتجربة إلى الآخرين لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه وهذا قانون عقلي ثابت في الحياة، يدركه جميع العقلاء فإنّ الشخص الفاقد للنقود من المستحيل أن يعطي النقود، والشخص الفاقد للعلم من المستحيل أن يعطي العلم لغيره وهكذا. وأيضاً التجربة أثبتت بأنّ أغلب العظماء في التاريخ قاموا بثورة على أنفسهم أولاً، وعندما نجحوا في تغيير أنفسهم حملوا هذه التجربة إلى الآخرين، على العكس من أغلب الدّجالين والمشعوذين، الذين على الرغم من أنّ أنفسهم كانت بحاجة إلى التغيير، ولكنهم مع ذلك حاولوا معالجة الآخرين دون إصلاح أنفسهم، فالنتيجة هي الخسران والفشل.
ص: 391
والشخص الذي لا يملك نفسه، كيف يحاول أن يملك الآخرين؟ والذي لا يستطيع كبح جماح نفسه وشهواته، كيف يمكنه أن يكبح جماح نفوس وشهوات الآخرين؟ وكما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اتبع هواه أعماه وأصمّه وأذلّه وأضلّه»(1).
فعلى الشخص الذي يريد أن يكون داعية ناجحاً للإصلاح أن يغير ما بنفسه من شوائب ومن سيئات يريد أن يعالجها في الآخرين، وأن لا ينهى الناس عن عمل لا يستطيع هو تركه، وفي نفس الوقت هو يعمل به.
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من نصّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم»(2).
فالثورة على الذات ليست من الأعمال السهلة اليسيرة، بل يحتاج الشخص الذي يحاول ذلك إلى رياضات خاصة يكون الجامع لها هو السير على طريق الهدى، والابتعاد عن الضلال.
وإنّ من الأساليب والحيل التي يتبعها الاستعمار وأتباعه، في تفرقة المسلمين وإضعافهم: هو الترويج لأفكار مشبوهة يحاول أن يضعها في أوساطهم، وإدخال مفاهيم مغلوطة إليهم، وزعزعة الثقة بالمفاهيم والقيم الإسلامية التي تسودهم. وبهذا العمل يتمكن من هدم القاعدة التي يعتمد عليها الإسلام، وبعد ذلك يصبح العمل عليه سهلاً ويسيراً في التغلغل في جسم الأمة الإسلامية. وتتنوع
ص: 392
أساليب الاستعمار في ذلك، فقسم من المستعمرين يركزون على فكر الإنسان المسلم ويحاولون بأسلوب أو بآخر الضغط على المجتمعات الإسلامية للتحول إلى التعاليم التي يدين بها المستعمر، وذلك بتشويه التعاليم الإسلامية ووصفها بالرجعية التي ترجع المسلمين إلى الوراء، وتحجب فكرهم عن الإبداع، وفي المقابل يقوم الاستعمار وأذنابه بحملة كبيرة في الترويج للتعاليم والقيم التي يدين بها المستعمر. وهذا الأسلوب اتبعه الاستعمار الفرنسي عندما قام باختلال بعض البلاد الإسلامية مثل مصر وتونس والجزائر وغيرها.
أما الاستعمار البريطاني فكما هو معروف استعمل أسلوب نشر الفقر والمجاعة ونهب الثروات في البلاد المستعمرة، وجعل الإنسان المسلم يعيش في ضنك وشظف، وفي نفس الوقت يظهر حالة الترف والبذخ لبعض أعوانه ومؤيديه، وذلك محاولة منه لأن يجعل الإنسان المسلم يتطلع إلى من هم أعلى مستوى منه في المعيشة ليكون تابعاً لهم، وبهذا العمل يترك تعاليم دينه ويلتجئ إلى ناهبه والطامع فيه.
وبعد أن بيّنا وبإيجاز بعض أساليب الاستعمار، نودّ أن نبين نقطة مهمة، وتكاد تكون خافية على بعض الناس، وهي: أنّ الاستعمار عندما يريد احتلال أي بلد إسلامي، يروّج دعاية ضخمة، ويجنّد العملاء من ضعاف الأنفس، ويصرف الأموال الطائلة لذلك، ويعطي الضوء الأخضر لعملائه في الترويج بأنه احتل هذه البلاد الإسلامية، وذلك لحاجته الماسّة للثروة الطبيعية، والأيدي العاملة في ذلك البلد الإسلامي، ويدّعي بأنّ الصراع هو صراع اقتصادي أي على الموارد والثروات، وهذا الادعاء يكذبه الواقع. نعم يشكّل هذا الادعاء جزء السبب، وليس كلّ السبب فإنّ السبب الرئيسي والمهم في نظر الاستعمار هو عدم انتشار
ص: 393
الأفكار الإسلامية بين الناس، مما ينتج من ذلك دخول هذه الأفكار الإسلامية إلى مجتمعاتهم أيضاً، لأنهم يجدون تعاليم وقيم الإسلام تعارض عملهم وتحارب ظلمهم واستغلالهم للإنسان وهذا ما لا يرتضونه، فلو كان الصراع اقتصادياً كما يسمونه، أي: على الثروات فقط، لكان من باب أولى لهم أن يقوموا ولا سيّما بريطانيا وفرنسا وأمريكا والاتحاد السوفيتي(1)، باحتلال دول أوروبية أو آسيوية مثل ألمانيا والصناعية أكثر بكثير من ثروات البلاد الإسلامية، إضافة إلى ذلك فإنّ هذه الدول (ألمانيا واليابان) قد دخلت مع الدول الكبرى حروباً عالمية أفرزت الدمار والخراب للعالم، فهي عدوة خطيرة لهم، ولكن على العكس من ذلك، نلاحظ الاستعمار الحديث لا يحتل أو حتى لا يتحرّش بمثل هذه الدول (ألمانيا واليابان وغيرها) بل، يقوم بمساعدة هذه الدول للوصول إلى أهدافها على العكس من الدول الإسلامية، وذلك لسبب مهم، وهو أنّ هذه الدول (وأعني: ألمانيا واليابان والصين وغيرها) لا تحمل أفكاراً تتعارض مع الفكر الاستعماري لهذه الدول، فالجميع يؤمنون بالفكر المادّي.
أمّا الشعوب الإسلامية، وتعاليم الدين الإسلامي فتتعارض مع مصالحهم، وتحارب ظلمهم، وتفضح أعمالهم في استغلال الشعوب، فلهذا تجد الاستعمار يختلق الحجج والأعذار، لاحتلال البلاد الإسلامية، وجعلها ضعيفة مشتتة، فعند ذلك يتبين لنا بأنّ الصراع الدائر اليوم في العالم، ليس على الموارد والثروات الطبيعية فحسب، كما يدّعي الاستعمار، وإنما السبب الرئيسي في الصراع هو التغاير في الأفكار والمعتقدات، فيصبح الصراع بيننا وبين الاستعمار هو صراع فكري، بين الفكر المادي الذي يؤمن به أصحاب القرار في البلاد الاستعمارية،
ص: 394
وبين الفكر الإسلامي الذي تؤمن به أغلب الشعوب الإسلامية، ولهذا نجد الاستعمار استطاع أن يحقق أغلب أهدافه، في الوقت الذي كان فيه المسلمون في حالة من الركود والخمول. فالدول الاستعمارية الحديثة والتي تعد الآن من الدول العظمى في حسابات العالم، لمْ تكن كذلك في السابق، بل كانت تابعة ضعيفة، وكان المسلمون في قمة انتصاراتهم، وكان العالم بأجمعه يخشى المسلمين، حتى امتد سلطانهم ونفوذهم في صدر الإسلام إلى الشرق والغرب. ولكن لم يستمروا في ذلك بسبب دخول بعض المحسوبين على الإسلام، وتوصلهم إلى مقاليد الحكم والتحكم بمصير المسلمين. وكذلك سكوت الغالبية العظمى من المسلمين على ذلك. وإنّ أغلبية الحكام الذين تسلطوا على رقاب المسلمين، كان همهم الأكبر هو جمع المال والتحكم بمصير الآخرين، فاستغل أعداء الإسلام هذه النقطة، واشتروا بأثمان بخسة، هؤلاء المحسوبين على الإسلام، وتمكنوا عند ذلك من زرع الفتن والحروب والتفرقة بين الشعوب الإسلامية، وتمكنوا من إيصالهم إلى الحالة المُزرية، التي يعيشها المسلمون الآن.
بعد أن وصل الحال في بعض المجتمعات الإسلامية إلى خلط المفاهيم، بل وصل الحال إلى أكثر من ذلك، بحيث عملت بعض الحكومات المحسوبة على الإسلام على عكس التعاليم الإسلامية، ساء حال المسلمين وأصبح أغلبهم اتباعاً بعد أن كانوا أسياداً. فالإسلام الذي يأمر ويحثّ على العمل الصالح المفيد للإنسان والمجتمع، مثل: الصدق والأمانة والوفاء وصلة القربى وصون حقوق الآخرين وعدم أخذ الربا، وما إلى ذلك من الأعمال الحسنة التي أقرّها الإسلام، وجاء بها نبي الرحمة(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، تجد بعض الحكومات المتسلطة على رقاب الشعوب الإسلامية تعمل بتعاليم قد نهى عنها الإسلام، مثل: أخذ الربا وإدخال
ص: 395
قانون الجمارك وأخذ الضرائب من الناس وإصدار الجوازات وترسيم الحدود الوهمية بين البلاد الإسلامية وما إلى ذلك، وتجد مع الأسف أغلب الشعوب الإسلامية ساكتة عن عمل حكوماتها، وهو أمر ساعد هذه الحكومات على العمل أكثر لمحو التعاليم الإسلامية، وزرع التعاليم التي لا تمت له بصلة بدلها. فالاستعمار وكعادته يحاول زرع التعاليم التي يريدها في جسم الأمة الإسلامية دفعة دفعة، وينتظر الردّ من الشعوب الإسلامية فإذا لم يلاحظ رداً واضحاً وقوياً من جانب الشعوب الإسلامية فإنه يبادر إلى العمل بالخطوة الثانية، وهكذا. ونتيجة لذلك كله، مضافاً لمواقف الحكام العملاء، وغفلة المسلمين انتشرت العادات السيئة في بلادنا، وأصبحت بعض المفاهيم المغلوطة التي ذكرنا بعضها هي المشروعة! بل والمستحسنة عند البعض! حتى أنّ بعضهم لا يتمكن من تصور وجود بلد خالٍ من الجوازات والبطاقات الشخصية ونحوها. وانتشر الفساد بجميع أنواعه الاقتصادي، والاجتماعي، والإداري، وأصبحت أغلب العادات السيئة، بل المحرمة من الأمور المباحة والمستساغة في كثير من المجتمعات الإسلامية مثل شرب الخمر ولعب القمار واللّهو بمعظم أنواعه والزنا، مما أدى إلى تفرقة المسلمين وضعفهم وتشتتهم نتيجة ابتعادهم عن تعاليم دينهم وعملهم بالمحرمات.
وإنّ من الأساليب التي اتبعها الاستعمار لزرع التفرقة بين المسلمين، وتشتيت كلمتهم، هو زرع العملاء، من حكّام وكتّاب مرتزقة، همّهم الأول هو كسب الدنيا، وبأي طريقة كانت. ولقد قرأت، قبل مدة من الزمن، كتاباً لأحد المؤلفين المصريين كتب فيه: بأن مسألة الجنة والنار ويوم القيامة والثواب والعقاب كلها أمور مجازية وليست أموراً حقيقية، ولهذا ليس من الواجب على الإنسان أداء
ص: 396
الأعمال التي فرضها الإسلام على المسلمين؛ إذ ليس هناك جنة ولا نار، ولكنّ هذه الأوامر والنواهي التي يصاحبها الخوف والوعيد، وهكذا الترغيب والرجاء، كلّها أمور مشوقة ومنفّرة، لأجل أن يتجه الناس إلى القيام بالأعمال الصالحة وترك الأعمال القبيحة، فإذا ما قام الإنسان بالأعمال الحسنة فهذا يكفيه وليس واجباً عليه أداء الأمور التكليفية التي يفرضها القرآن، من صلاة وصوم، وخمس وزكاة وحج... الخ، وشبّه الكاتب كلامه بوعود وتهديدات الأب بالنسبة لأولاده، وأنّ الأب لا يقصد بتهديداته ضرب الابن وإنما تأديبه، وهكذا، في وعوده الجميلة.
ولا يصدر مثل هذا الكلام إلّا من انسان جاهل وحاقد تختفي وراءه أيد استعمارية تحرّكه كيفما تشاء، وإذا ما فتح باب التأويل، فإنّ التلاعب سيظهر حتى في أصول الدين، وتوحيد اللّه عزّ وجلّ، ولهذا نرى المسيحيين يقولون: كما أنّ اللّه سبحانه وتعالى واحدٌ، فكذلك يمكن أن يكون ثلاثة أيضاً.
فإذا اعترضنا عليهم بالاستحالة وعدم الإمكان، قالوا: إن النقص يكمن في عقولنا نحن البشر، لا في الإمكان! ثم يعللون ذلك بعدم تصديق الناس للعديد من الحقائق الثابتة!
ثمة نموذج آخر من الكتّاب المغرضين الذين زرعهم الاستعمار في جسم الأمة الإسلامية يكتب حول بعثة الأنبياء(عليهم السلام) فيقول: إنّ رسول الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وموسى وعيسى وبقية الأنبياء(عليهم السلام) كانوا رجالاً عباقرة لا أكثر، بل الناس كانوا يتصورون هكذا فكما أنّ هناك تفوقاً بين العلماء والمهندسين والأطباء فترى المهندسين يختارون المتفوق رئيساً عليهم، وهكذا الأطباء فكذلك الأمر في الناس العاديين. إنهم يختارون الشخص المتفوق في الأخلاق والتصرف والعلم فيجعلونه هادياً لهم. وهذه سفسطة أخرى تخرج من شخص مدسوس يدّعي
ص: 397
العلم والحضارة، وأحد فوائد علم الكلام هو البحث في مثل هذه الأمور والرد عليها بشكل دقيق وكامل، وهذا عمل علم الأصول أيضاً. وهناك قواعد أصوليه في المسائل والمباني يستفاد منها في الفقه تقول: هل إنّ الظواهر حجة أم لا؟ وكيف تكون القرينة وذو القرينة ومسائل أصولية كثيرة أخرى؟
فإذا انفتح الباب لمثل هؤلاء المفسدين، وما استطعنا بعد ذلك سدّه عن طريق الاستدلال والمنطق وعلم الكلام والأصول، فإنّ مثل هذه الافتراءات سوف تزداد يوماً بعد آخر، وعندها ستكثر السفسطائية(1)، والسير في عالم الأخيلة والأكاذيب وهذه الأمور تحدث في النفس وتأخذ أبعاداً فيها شيئاً فشيئاً مثل الوسوسة، يقولون بأنّ الشخص الوسواسي في بداية الأمر لا يمتلك حالة الوسوسة ولكنّه يشك في بداية الأمر في صلاته مثلاً. هل صلى ركعتين أم ثلاثاً، وبعد ذلك يشك بين الثلاث والأربع وبين الأربع والخمس، وهكذا، حتى تزداد حالة الوسوسة في نفسه، أو أنه في بداية الأمر يُطهّر يده مرّة، وفي اليوم الثاني يطهّر يده مرتين وثلاثاً وأربعاً وهكذا حتى يصاب بالوسوسة. قال لي أحد الوسواسيين بأني أدخل في حوض الماء أو في النهر لأجل الاغتسال الواجب أو المستحب فأُدخل رأسي تحت الماء حتى أوصله إلى القعر، بل وأجعله يَدُق بقعر الحوض أو النهر مع ذلك لما أخرج من الماء وأنتهي من الغسل أشُك أيضاً وأقول هل غطّى الماء رأسي أم لا؟ ولا شك أن هذه حالة مرضية ابتدأت من الأمور الصغيرة إلى أن وصلت إلى هذه المرحلة المتفاقمة.
أسّس المستعمرون قبل عشرين سنة، جمعية باسم (جمعية أهل القرآن)،
ص: 398
وذلك في إحدى البلاد الإسلامية، وكان أفراد هذه الجمعية يقولون: بأننا نعمل وفق القرآن كاملاً، ولهذا كانوا يُفسّرون القرآن وفق اجتهادهم وأهوائهم، فمثلاً كانوا يفسرون كلمة: {أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي، فيفهمون من {أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(1) أي: ادعوا وليس معناه أداء الصلاة اليوميه، لأن الصلاة في اللغة هي الدعاء، أمّا اصطلاحاً فهي العمل المخصوص الذي يشمل الركوع والسجود... وغيرهما من أفعال الصلاة، فهم يأخذون المعنى اللغوي للصلاة فقط، وكذلك في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِذِكْرِي}(2). فكانوا يقولون نذكر اللّه عزّ وجلّ، بدون الصلاة، وقوله: {ءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ}(3). أي: اعطوا للفقير بعض الدراهم، وليس معناه إتيان الزكاة الواجبة في بعض المحاصيل أو الأنعام وغيرها، التي بيّنها الشرع المقدّس، وبالنسبة ل- {حَجَّ الْبَيْتَ}(4): يفهمون من معنى الحج: القصد، فيقولون: حسبنا أن نحج بقلوبنا! وليس من الواجب أن نذهب إلى مكة المكرمة بأبداننا أيضاً.
وبالنسبة لقوله سبحانه وتعالى: {مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ...}(5). بأن لنا الحق بأن نتزوج تسع نساء إذ لم يقل سبحانه وتعالى كلمة (أو) بل قال (و) بقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ...}(6). والواو للجمع، إذن يحق لنا الزواج من تسع نساء، وهكذا، فقد أوّلوا وفسّروا الكثير من الأحكام
ص: 399
الدينية حسب ما تهواه أنفسهم، حتى أن أحد الحكام المدعين للإسلام وبدافع من الاستعمار وحقده على الإسلام والمسلمين، كان يقول: نحن لا نستطيع العمل بالقرآن، لأن القرآن ليس فيه حكم كل شيء، إلّا بالرجوع إلى الأحاديث لتفسيره. وبالرجوع إليها نصطدم بالتناقض فيها، فأحدها يقول: «خذوا نصف دينكم من فم هذه الحميراء»! ثم نجد آخر يقول: «النساء نواقص الحظوظ نواقص العقول نواقص الإيمان»، فبأيهما نعمل؟ ... ولا حل إلّا بترك الأحاديث، ولأن القرآن - حينئذ - يكون غير كاف، فلا محيص عن الالتزام بما يرد في الكتاب الأخضر، الذي هو خلاصة مطاليب وعقول اللجان الشعبية الجماهيرية!، وهذه الإفتراءات كانت تصدر عادة من الكفار والمستعمرين، لأجل نشر الفوضى، والاختلال في البلاد الإسلامية، لأجل أن يبتعد المسلمون عن الاسلام الصحيح، وبعدهم جاء بعض الحكام الجهّال، الذين يحكمون بعض بلاد الإسلام اليوم، وأخذوا يعملون كأداة طيّعة للمستعمرين في البلاد الإسلامية، وهذا هو أحد العوامل الرئيسية، التي أدّت إلى ابتعاد بعض المسلمين عن تعاليم الإسلام، والعمل بها، وجاءت القوانين اليهودية والمسيحية وغيرها من الاعتقادات المنحرفة إلى حياة المسلمين.
السؤال الذي يطرح ويدور في فكر أغلب الناس:
هل الإسلام قادر على علاج مثل هذه السلبيات الموجودة في المجتمع الإسلامي؟ وكيف؟
وللجواب على هذا السؤال نتطرق أولاً إلى توضيح نقطة مهمة ثم ندخل في الجواب:
ص: 400
إنّ الاستعمار وأتباعه عند ما حاولوا زرع المفاهيم المضادة لتعاليم الإسلام أعطوا هذه المفاهيم صيغة إسلامية لكي تكون مقبولة في البداية عند المجتمعات الإسلامية، وشيئاً فشيئاً، أصبحت هذه التعاليم تحمل معنى ثانياً مغايراً للمعنى الحقيقي لها. مثلاً لو نأخذ إحدى التعاليم والأهداف التي أقرّها الإسلام مثل (الثورة)؛ الثورة على الظلم، والثورة على الباطل، والثورة على الذات وغيرها من المعاني لهذه الكلمة في الإسلام. فهذا الهدف الذي ركّز عليه الإسلام وحثّ المسلمين عليه، استغله الاستعمار وأتباعه فنجد بعض المغرضين والمستبدين والمتكبرين، الذين تسلطوا على رقاب المسلمين يصفون تحركاتهم وعمليات القرصنة التي يستعملونها للوصول إلى الحكم والسيطرة على رقاب المسلمين بالثورة. فتارة يسمونها ثورة تحررية، وتارة ثورة بيضاء، وثالثة: دينية، وهكذا. وذلك حسب أهوائهم ورغباتهم وغيروا كثيراً من المعاني والمصطلحات الإسلامية بهذه الطريقة، وأغلب المسلمين ساكتون على ذلك، ولم يحركوا ساكناً، بل بعضهم أشباه أموات، يعيشون حالة الاحتضار، وينتظرون ساعات موتهم لحظة بلحظة. فعلى المسلمين إذا أرادوا الخروج من هذا الوضع السيء الذي هم الآن فيه، أن يرجعوا إلى تعاليم دينهم الإسلامي، ويعملوا بها، ويقوموا بثورة حسب المنظور الإسلامي للكلمة لا المنظور الذي وضعه الاستعمار وأتباعه، ويبدأونها في أنفسهم، أي ثورة على الذات، وبعد ذلك يقومون بثورة تصحيحية على جميع العادات السيئة في مجتمعهم. وهذا كله يحصل بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. فالإسلام هو مجموعة قوانين ونظم تحفظ مراعاتها الشخص من السقوط في الهاوية، وتجعله سعيداً في الدنيا والآخرة، حيث قال تعالى في كتابه الكريم: {فَمَن يُرِدِ
ص: 401
اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}(1).
وقال تعالى مخاطباً رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(2). الإخلال بهذه النظم والقوانين الإسلامية يجر الإنسان إلى الهاوية، فيصبح شقياً في الدنيا والآخرة، ونتيجة ذلك: الخسران المبين. حيث قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).
إذن العلاج الشافي للمسلمين للخروج من وضعهم السيء الذي هم فيه الآن، هو التمسك بتعاليم الإسلام والعمل بها، وهذا العلاج ليس مقتصراً على المسلمين وحدهم، بل هو علاج لجميع المحرومين والمستضعفين في العالم، من مسلمين وغيرهم، لأنّ الإسلام جاء للبشرية جمعاء، والدين عند اللّه هو الإسلام، كما قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(4). فعلى المسلمين إذا أرادوا أن يعيدوا مواقعهم التي كانوا قد احتلوها في صدر الإسلام ويصبحوا هم أسياد العالم، أن يقفوا بوجه الأعداء من مستعمرين وعملاء ومرتزقة، يداً واحدة، وأن يعملوا على معالجة جذور الفتنة والتفرقة، معالجة موضوعية جادة، ولا يتقاعسوا، وأن يتركوا مواضع القول والشعارات الفارغة، ويتوجهوا إلى ساحات العمل، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام)، في الحث على اقتران القول والفعل: «زيادة الفعل على القول أحسن فضيلة، ونقص الفعل
ص: 402
عن القول أقبح رذيلة»(1).
وعلى المسلمين التوجه إلى اللّه تعالى بالدعاء، حيث قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(2). وفي رواية عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «ألّا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم؟» قالوا: بلى. قال: «تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء»(3). ولكن يجب أن يقترن الدعاء بالإخلاص والعمل. وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي، وقلب تقي، وفي المناجاة سبب النجاة، وبالإخلاص يكون الخلاص فإذا اشتد الفزع فإلى اللّه المفزع»(4).
«فإليك يا ربّي نصبْتُ وجهي، وإليك يا ربّ مَدَدْتُ يدي، فبعزّتك استجب لي دعائي، وبلّغني مُناي، ولا تَقطع من فضلك رجائي، واكفني شرّ الجنّ والإنس من أعدائي، يا سريع الرّضا، إغفر لمن لا يملك إلّا الدعاء، فإنّك فعّالٌ لما تشاء، يا من اسمه دواء، وذكره شفاء، وطاعته غنى، ارحم من رأس ماله الرجاء، وسلاحه البكاء يا سابغ النعم، يا دافع النقم، يا نور المستوحشين في الظلم، يا عالماً لا يعلّم، صلّ على محمّد وآل محمّد، وافعل بي ما أنت أهله، وصلّى اللّه علىرسوله والأئمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً»(5).
ص: 403
قال تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ}(1).
وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(2).
وقال عزّ وجلّ: {وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا۠}(3).
وقال جلّ وعلا: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَٰنِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَٰنِ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(4).
قال عزّ اسمه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَٰمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(5).
وقال جلّ شأنه: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}(6).
وقال عزّ من قائل: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ
ص: 404
وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ}(1).
قال جلّ ثناؤه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}(2).
وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ}(3).
وقال عزّ وجل: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}(4).
{وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(5).
قال جلّ وعلا: {لَقَدْ جِئْنَٰكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ}(6).
قال عزّ اسمه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِ}(7).
وقال جلّ شأنه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(8).
ص: 405
وقال عزّ من قائل: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما أخاف على أمتي ثلاثاً شحاً مطاعاً وهوى متبعاً واماما ضالاً»(2).
وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «... ولكنني آسى(3)
أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال اللّه دُوَلاً(4) وعباده خولاً والصالحين حرباً والفاسقين حزباً...»(5).
وعن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «إذا كذب الولاة حبس المطر وإذا جار السلطان هانت الدولة...»(6).
وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): قال اللّه عزّ وجلّ: ما آمن بي من فسر برأيه كلامي»(1).
وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «... من فسر برأيه آية من كتاب اللّه فقد كفر»(2).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه»(3).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا كميل أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(4).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك»(5).
وعن روح اللّه عيسى(عليه السلام) قال: «الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فاتبعوه وأمر بيّن غيه فاجتنبوه. وأمر اختلف فيه فردوه إلى اللّه»(6).
عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحزان وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم»(7).
ص: 407
وقال الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): «قيل لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إن أمتك ستفتتن، فسأل ما المخرج من ذلك؟ فقال: كتاب اللّه العزيز الذي لا يأتية الباطل من بين يديه ولا من خلفه(1).
وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «اللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(2).
ص: 408
عن أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: «كما أن العلم يهدي المرء وينجيه كذلك الجهل يضله ويرديه»(1).
حتى يتمكن المسلمون من مواجهة التيارات الفكرية الفاسدة التي باتت تهددهم ويخشى أن ينزلق في مهاويها الشباب المسلم عن جهل أو انحراف نتيجة الفراغ الفكري الذي تشغله هذه التيارات، لا بد من الالتفات إلى السبل الكفيلة بالقيام بهذه المواجهة وضمان حصانة الفرد المسلم ورسم معالم ارتقائه والتي يمكن تحديدها في الوسائل التالية:
من أبرز أسباب تأخرنا نحن المسلمين هو قلّة وجود المبلغين والعاملين الإعلاميين على نشر المبادئ الحقة للإسلام القائمة على فقه آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلومهم الإلهية، فلو أردنا أن نقارن بين بعض الأنشطة التي نقوم بها في سبيل خدمة الإسلام والإنسانية، وبين التي تقوم بها المذاهب والأديان الأخرى لوجدنا إن عملنا ونشاطنا يقل بكثير عنهم(2).
ص: 409
فنحن إذا أردنا أن نوفر في المجتمع الإسلامي الرشد الفكري والوعي الإسلامي الحضاري، فإننا سنحتاج في ذلك إلى المبلغين والخطباء، وكل فرد منا ينبغي له أن يجعل أحد أبنائه تلميذاً من تلاميذ الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) ليصبح مبلغاً قديراً ومضحياً للإسلام ليواجه التيار الجارف من الأفكار الهدّامة.
من الطرق والوسائل الناجحة التي يتم بواسطتها نشر الوعي والثقافة في المجتمع هو نشر الكتب المذهبية والعقائدية ومع الأسف فإنّ المسلمين لم يستفيدوا من هذه الوسيلة كما ينبغي، فعليهم أن يغتنموا هذه الوسيلة الفعّالة وينشروا الكتب في كلّ فرصة ومجال كالمجالس الحسينية ومراسيم العزاء والاحتفالات والأعياد والمناسبات وغير ذلك.
مع القيام بترجمة هذه الكتب إلى مختلف اللغات وخاصة الكتب الاعتقادية والمذهبية التي تشكو مكتبات العالم من ندرتها أو انعدامها أحياناً.
فعن الهروي قال: سمعت الإمام الرضا(عليه السلام) يقول:
«رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا»، فقلت له: كيف يحيي أمركم؟ قال: «يتعلم علومنا ويعلمها للناس، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا»(1).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) «المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم تكون
ص: 410
تلك الورقة يوم القيامة ستراً في ما بينه وبين النار...»(1).
ويقول اللّه تعالى في القرآن الكريم: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَٰلِحُونَ}(2).
يعني أن لفح النار ولهيبها يصيب أولئك الذين خفّت موازينهم وكانوا قوماً ضآلّين، أما الذين تنوّروا بالعلم والعمل وخلفوا علومهم للأمة فإنّها ستمنع النار عنهم.
حالياً للفاتيكان(3).
ألف وستمائة دار إذاعة تدعو للمسيحية على صعيد العالم ومن القضايا المسلّمة والبديهية أن من يعمل بجد ويجتهد أكثر يتقدم أكثر فأكثر والقرآن الكريم يقول: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ}(4).
لأنّ الدنيا دار امتحان، وعطاء اللّه واسع وشامل في الدنيا وكلّ من يعمل يتقدم مسلماً كان أم كافراً.
وعندما يلقي البابا خطاباً فإن له ستمائة مليون نسمة يستمعون إليه في كلّ أنحاء العالم عبر الأثير والأقمار الصناعية التي تزود القنوات الإعلامية.
وإذا لم يلتفت المسلمون إلى جسامة الخطر الإعلامي ولم يدركوا حجم المهمة الموكلة إليهم مقابل الإعلام والتبليغ المسيحي ولم يساهموا في إيجاد الرشد الفكري والوعي الإسلامي الصحيح في مجتمعهم فإنّ الأفكار المسيحية والغربية لبالمرصاد لكلّ أفراد المجتمع الإسلامي، وهذا ما حدث فعلاً:
ص: 411
حيث ترون أن ميشيل عفلق في العراق مسيحي وبعض الرؤساء في البلدانالإسلامية مسيحيون، وأن فلسطين تحت هيمنة اليهود والصهاينة، وأن أغلب الحكام في البلاد الإسلامية إنما قفزوا إلى كرسي الحكم بواسطة دعم الغربيين ووسائل إعلامهم وهكذا.
حالياً نتحسس جميعاً ميول بعض شبابنا المسلمين في ثقافتهم وسلوكلهم الحيوي إلى الغرب أو الشرق، بل ويقلدونهم أيضاً حذوا النعل بالنعل.
إنّ سبب ذلك الانفلات العقائدي الذي حصل لشبابنا وجعلهم يتنصلون من القوانين الإسلامية ثم يترامون في أحضان المادية الغربية والشرقية، إنما يكمن في أنّ الغرب والشرق عَرِفا من أين تؤكل الكتف وأدركا السبل التي تيسر لهما اقتناص الجيل الفعّال والمفعم بالنشاط والحيوية، ونحن عندما لم نتمكن أن نحتوي شبابنا عن طريق تشكيل سلسلة من الأحزاب والتنظيمات التي تحتضن الشباب الذي يبحث عن متنفس لبراكين التطلع والنشاط المنحصر في ذاته ونفسه التوّاقة للحركة والتقدم والعمل وعندما لم يجد شبابنا المغلوب على أمره، ذلك من قادة المسلمين ترامى في أحضان من يوفر له كلّ ذلك حتّى غرق في أوحالهم إلى هامته، ومادام المسلمون لم يلتفتوا إلى هذا الأمر ولم يعملوا بكل قواهم في مقابل النشاط التنظيمي الغربي والشرقي فسيبقى المسلمون في أحضان الثقافات الغربية والشرقية.
فعلى المسلمين أن يجدّوا ويجتهدوا في تشكيل الأحزاب الإسلامية الحرة لتستنقذ هؤلاء الشباب من نير الثقافة الشرقية والغربية.
لذلك فليعمد شبابنا المثقف إلى الحسينيات والمساجد التي تعتبر من أهم
ص: 412
المراكز التجمعية في الإسلام لينطلقوا منها في تشكيل الأحزاب الحرة الهادفةإلى إصلاح كلّ مرافئ الحياة التي أصابها فيروس الشرق والغرب.
نعم يجب إدخال التنظيم في كلّ مجالات الحياة وجوانبها حيث يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن(عليه السلام): «... في نظم أمركم»(1).
أعداؤنا منذ زمن بعيد استفادوا من وصية الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وطبقوها في شؤونهم بينما لم يطبقها المسلمون بل ولم يفكروا فيها باعتبارها إحدى سبل النجاة التي عيّنها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) مع أنّ الإمام(عليه السلام) كان مراراً يوصي المسلمين في الالتزام بقوانين الإسلام وعدم التفريط بها وعدم فسح المجال لغير المسلمين يسبقونهم إلى العمل بهذه القوانين السمحاء حيث قال: «اللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(2).
وتنظيم أمور المجتمع بكل ماله من أهمية يقتضي أن يكون المسلم دائماً على اطلاع بأحوال المسلمين لا تبتدرهم سيئة إلّا وسارع إلى معالجتها والقضاء عليها ولا تعترضهم عثرة إلّا وبادر إلى إزالتها وهكذا.
ومن باب المثال إذا افتقدت أحداً لعدة أيام في المجالس الحسينية والمحافل الإسلامية فعليك أن تسعى في تحصيل أخباره إذ لعلّه مريضٌ أو تمنعه مشكلة، فالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا لم يحضر أحد الصلاة لثلاثة أيام متوالية سأل عنه حتى يحصل على خبره الصحيح فإن كان مريضاً عاده وأن كانت له مشكلة حلّها له(3).
هذا مع أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن بالرجل العادي بل كان رئيساً لتسع دول مهمّة على خارطة اليوم فضلاً عن منصبه الإلهي العظيم، وهو مع كلّ مشاغله نجده
ص: 413
يلتفت إلى صغار مشاكل المسلمين ويبادر إلى حلّها بنفسه.
وينقل أنه توفي عالم كبير، فروي في المنام وسئل عن حاله بعد الموت فقال في أحسن الحال. حيث كان في روضة من رياض الجنة، فقيل له: هل ترغب في الرجوع إلى الدنيا؟ قال نعم! قيل له: لماذا؟ قال: لأجلس على دكة داري وأباشر حل مشاكل الناس بنفسي.
وقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خير الناس من انتفع به الناس»(1).
والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يتجول بعد صلاة الظهر في أسواق الكوفة وازقّتها بالرغم من شدة حرارة الجو ولم يكن يذهب إلى الدار للاستراحة، فقيل له يا أمير المؤمنين لو كنت تذهب إلى الدار وتستريح من حرارة الشمس لماذا تبقى تتجول في الاسواق والأزقة؟ قال(عليه السلام): خرجت ابحث عمّن تكون له مشكلة وهو يستحيي أن يطرق بابي في هذا الوقت الحار(2).
لكي نكون على تماس مباشر بحاجات المجتمع الإسلامي ومتطلباته لا بدّ من العمل بجد ونشاط لتأسيس المؤسسات المذهبية والخدماتية بشكل واسع من قبيل الحسينيات والمكتبات العامة والمستوصفات والمستشفيات والمدارس وصناديق قرض الحسنة وهيئات الإعانة وما أشبه ذلك، ممّا له علاقة ماسّة ومباشرة بحياة المسلمين، أنتم ترون كيف ينبري خصوم الإسلام لذلك ألّا ترون أنّ المسيحيين يؤسسون مئات الكنائس سنوياً في كافة أرجاء العالم، بينما المسلمون يتعللون بعلل واهية ويقولون نحن لسنا بحاجة إلى بناء مسجد في
ص: 414
هذه المحلة أو تلك!
نحن بأمس الحاجة لأن نكون على اتصال مباشر ودائم بمجتمعنا عبر هذه القنوات فإذا لم تنتشر وتتوسع المؤسسات الإسلامية في العالم سيكون نتيجه ذلك أن يستولي المسيحيون واليهود على زمام الحياة في كلّ العالم حتى في بلادنا الإسلامية لأنهم يعملون باستمرار وبجهود مكثفة ولا يعرفون التعب أو الملل ولا يقعدهم عن ذلك الموانع والصعوبات بينما نجد أنّ بعض المسلمين قاعدون متكاسلون.
لتأسيس المؤسسات الإسلامية فوائد كثيرة لا تخفى على أحد وقد عبّرت الروايات عنها بالصدقة الجارية، لأن هذه الدنيا لها بوابتان بوابة الدخول إليها وهي رحم الأم وبوابة الخروج منها وهي القبر، حيث يطوي الموت حياة الإنسان ويصبح عندها في طي النسيان في الدنيا ولكن هذه المؤسسات الإسلامية والخيرية هي التي تجعله حياً يتداول ذكره وفكره القريب والبعيد ويتوالى عليه الثواب باستمرار ودون انقطاع.
ويحدثنا التاريخ الإسلامي أنه بعدما جاء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة آنذاك لم يقل أبداً أنّ المساجد كثيرة ولا حاجة إلى الزيادة بل كان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يشوّق المسلمين ويحثهم على تأسيس المساجد حتى لو كانت صغيرة جداً.
وبعد تأسيس هذه المؤسسات المهمة يجب إسناد إدارتها إلى أفراد متدينين مثقفين تجمعهم شورى ناجحة كما دعى إليها الإسلام وأبرزها القرآن الكريم في عدة آيات حول الشورى:
ص: 415
قوله سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1).
وقوله تعالى: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُم}(2).
وقوله عزّ وجلّ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(3).
وقوله جلّ وعلا: {عَن تَرَاضٖ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٖ}(4).
إذا طبقت الشورى في كلّ الأمور بدءاً من شورى الفقهاء وانتهاءً بالشورى في إدارة الحسينيات وما أشبه، فلن يبقى هناك مجال للاختلاف وحالياً تعتبر الشورى هي أحد الأسباب الرئيسيّه للتقدم الذي أحرزه الغرب في بعض الميادين في العالم، وافتقاد الشورى عند المسلمين هو من أسباب التأخر والتخلف الذي وقع فيه المسلمون وعلى أثر ذلك برزت في ما بينهم الاختلافات والتناحرات الكثيرة.
اللّه تعالى يوصي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالشورى والعمل بها بالرغم من أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان على اتصال دائم بالوحي وكان عندما ينظر إلى السماء يرى جميع الملائكة وكان مورداً لعناية اللّه تعالى وتسديده فلا يبدر منه رأي سقيم أبداً ولكنه مع ذلك يأمره اللّه تعالى بالاستشارة ويقول عليك أن تستشير في أمورك. فالمسلم الذي يعتبر من أتباع النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليه أن يتأسى بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويأخذ منه الدروس والعبر ويستفيد منها في كلّ أعماله وأموره فيعمل بالشورى في أعماله ويستشير في أموره.
ص: 416
ويمكننا أن نلحظ اهتمام النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالشورى:
في حرب الخندق عندما اتّحد الكفار ضد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحركوا متجهين صوب المدينة المنورة للقضاء على المسلمين قاطبة، جمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جميع المسلمين في المسجد وأخبرهم بعزم الكفار وطلب منهم أن يجدوا حلّاً لهذه المشكلة - مع أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) غنيٌّ عنهم وهو أعرف بطرق الحل من غيره لأنه مرتبط بالوحي - فكلٌّ قال رأيه ثم قام سلمان الفارسي وقال: يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نحن في بلاد فارس إذا داهمنا العدو وأراد بنا سوءاً حفرنا حول المدينة خندقاً نمنعه من الوصول إلينا أو الكرّ علينا، والرأي أن نحفر خندقاً حول المدينة، فاستحسن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمون رأي سلمان وعملوا به(1).
نعم يجب العمل بالشورى في مرافئ الحياة وجوانبها وفي كلّ الأمور حتى نصل إلى الهدف بشكل أسرع وبنتيجة أفضل.
امتاز المسلمون منذ القدم بعلو الهمّة في كلّ الجوانب فكانوا يسافرون إلى كلّ البقاع ويتجشمون المصاعب من أجل هداية الناس ولكنهم - وللأسف - في العصور المتأخرة أصيبوا بوهن في عزائمهم وضعف في إرادتهم وفتور في هممهم وبالأخص بعض الخطباء والمبلغين حيث نراهم مكتفين في هداية الناس في مدنهم ومواطنهم الخاصة والحال أنّ القرآن الحكيم يناديهم ويقول: {فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ}(2).
والآن إذا لم يصل نداء الإسلام إلى البلدان النائية فالتقصير في ذلك يترتب
ص: 417
على المسلمين لا غيرهم.
في القرون السابقة سافر عدد من التجار المسلمين إلى بلاد الصين لغرض التجارة فحدث في إحدى السنين أن أصاب بلاد الصين قحط مدقع حتى كان الناس هناك يبيعون أطفالهم في مقابل المال أو الغذاء بسبب ما يعانون من الفقر والقحط والجوع.
التجار المسلمون عندما رأوا هذا الوضع المزري في الصين انتهزوا الفرصة واشتروا الكثير من الأطفال وجمعوهم في دار كبيرة وبدأوا بتعليمهم التعاليم الإسلامية والأمور الدينية وبعد سنين عديدة أصبح هؤلاء الأطفال شباباً متسلحين بالثقافة الإسلامية حيث تربوا وشبوا منذ نعومة أظفارهم على تعاليم دين الإسلام حتى اختلط هذا الدين الحنيف في كلّ ذرة من وجودهم وبعد ذلك قام هؤلاء التجار ببثهم في المجتمع فعاد كلّ فرد إلى عائلته ومنطقته وقاموا بنشر مبادئ الدين الإسلامي في الصين، فمنذ ذلك الحين أخذ الإسلام ينتشر وينتشر في الصين.
هذا العمل الذي قام به هؤلاء التجار المسلمون إنما يدل على الهمة العالية التي كانوا يمتازون بها هم وباقي المسلمين.
والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يشير إلى أثر علو الهمّة في تجاوز الصعاب فيقول: «المرء بهمته»(1).
ويقول(عليه السلام): «الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية»(2).
ص: 418
إذن علينا أن نهيّء أنفسنا ونخطط لنشر الإسلام وقوانينه السمحاء في كلّ أرجاء المعمورة حتى يتنعم جميع أفراد البشر تحت ظلّ الإسلام في جو مفعم بالاطمينان والاستقرار والسلام، دون كلل أو تردد وبكل همّة وتوكل وعندها سيكون اللّه تعالى معنا ويذلل لنا كلّ الصعاب والعقبات فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1).
فعلى كلّ مسلم أن يجعل أول قائمة أعماله نشر الإسلام في أي مكان حلّ حتى لو سافر إلى دولة من دول العالم لأجل التجارة والكسب فعليه أن يجعل هدفه نشر الإسلام إلى جوار هدفه التجاري.
لقد افتقدت الأخلاق الفاضلة والتقوى من بين أكثر المسلمين في الآونة الأخيرة وهذا الخلل الكبير يوجب العمل بإصرار لإعادة المسلمين إلى أخلاقهم الإسلامية التي تتجلى بأبهى صورها في شخصية الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
عندما اشتد إيذاء مشركي قريش للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه وأخرجوهم من مكة هاجر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأصحابه إلى المدينة المنورة (يثرب).
وبعد فترة من الزمان اجتمع الكفار في منطقة بدر قرب المدينة بعد أن استعدوا للحرب وهيئوا لوازمها وخرج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من المدينة بأصحابه. إلى بدر لمقابلتهم، وعندما وصل(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر أصحابه بحفر حوض لجعل الماء فيه حتى يستفيدوا منه عند الحاجة إذ لو قامت الحرب بينهم وبين الكفار عند ذلك لم تكفهم الفرصة لسحب الماء من البئر فيشربوا أو يسقوا دوابهم من هذا الحوض،
ص: 419
وفي أثناء الالتحام أخبر المسلمون النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن الكفار لا ماء عندهم وهم يطلبون من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يأذن لهم بالماء.
فأذن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1) بسقايتهم انطلاقاً من أخلاقه الرفيعة ورحمته الشاملة حيث قال اللّه تعالى عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(2). مع أنّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعلم أنه إذا لم يصل الماء معسكر الكفار فسيستسلمون له ولكنه أبى أن ترفع راية «لا إله إلّا اللّه» إلّا عبر أشرف وسيلة وإنه أراد بذلك أن يظهر للكفار بأن الإسلام هو الدين السمح غير الدموي وليس هو بالذي يمنع الماء حتى عن ألد أعداء اللّه وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول نحن نحارب لأجل رفع راية «لا إله إلّا اللّه» ونشر أحكام الإسلام لا غير، أما منع الماء عن الكفار فليس من الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام.
إذن فمسؤولية المسلمين هي نشر أخلاقيات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على صعيد العالم الإسلامي وغير الإسلامي ولا يتم ذلك إلّا أن تكون تلك المعاني والقيم الخلقية الرفيعة متجسدة في شخصية الفرد المسلم وتصرفاته فعندما يلمس الكفار ذلك سيدخلون في الإسلام أفواجاً أفواجاً.
ومما يذكر في أحوال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) انه عندما حضرته الوفاة قال:
ألّا من كان له عليَّ دين فليقم؟ فقام أحد المسلمين وقال: يا رسول اللّه إن لي عليك ثلاثة دراهم، فتوجه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للفضل بن العباس وقال: أعطه ثلاثة دراهم(3).
فبهذه الأخلاق العالية التي امتاز بها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استطاع(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن ينشر الإسلام
ص: 420
في تلك الفترة الوجيزة مع تلك الصعاب والعقبات التي كان الجاهليون يضعونها في طريقه واستطاع أن يصنع من المجتمع الجاهلي خلال ثلاث وعشرين سنة مجتمعاً تحكمة الفضائل الأخلاقية والسلوكيات الإسلامية العالية بحيث استمرت إلى اليوم وستبقى إلى يوم القيامة، فإذا استطاع المسلمون تطبيق نفس أسلوب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كلّ شيء فسيغزون عالم الكفر والضلال ويضيؤونه بنور الإسلام وقوانينه السمحاء إن شاء اللّه تعالى.
«اللّهمّ إني أسألك... نور الأنبياء وصدقهم ونجاة المجاهدين وثوابهم... وعمل الذاكرين ويقينهم وإيمان العلماء وفقههم وتعبد الخاشعين وتواضعهم وحكم الفقهاء وسيرتهم... وتصديق المؤمنين وتوكلهم...»(1).
قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}(2).
وقال سبحانه: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(3).
وقال جلّ شأنه: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلَا بَلِيغًا}(4).
وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(5).
ص: 421
وقال جلّ وعلا: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(1).
وقال عزّ اسمه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(2).
وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال لمعاذ لمّا بعثه إلى اليمن: «يا معاذ علمهم كتاب اللّهوأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة»(1).
وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «آداب العلماء زيادة في العقل»(2).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين ووزير سبع سنين فإن رضيت خلائقه لإحدى وعشرين سنة، وإلّا فاضرب على جنبه فقد أعذرت إلى اللّه تعالى» (3).
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رسل اللّه سبحانه تراجمة الحق والسفراء بين الخالق والخلق»(4).
عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الكتب بساتين العلماء»(5).
وعن مفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أكتب وبث علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كتبك بنيك فإنّه يأتي على الناس زمان هرج ما يأنسون فيه إلّا بكتبهم»(6).
وعن الصادق(عليه السلام) أنه قال: «منّ اللّه عزّ وجلّ على الناس برّهم وفاجرهم بالكتاب والحساب ولولا ذلك لتغالطوا»(7).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا كتبت كتاباً فأعد فيه النظر قبل ختمه فانّما تختم
ص: 423
على عقلك»(1).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قيدوا العلم» قيل وما تقييده؟ قال: «كتابته»(2).
وعن الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام) أنه دعا بنيه وبني أخيه فقال: «إنكم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين فتعلّموا العلم فمن يستطيع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته»(3).
وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم تكون تلك الورقة يوم القيامة ستراً في ما بينه وبين النار وأعطاه اللّه تبارك وتعالى بكلّ حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرّات»(4).
عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير الهمم أعلاها»(5).
وعن الإمام السجاد(عليه السلام): في مناجاته: «واجعلنا من الذين أسرعت أرواحهم في العلى وخططت هممهم في عزّ الورى فلم تزل قلوبهم والهة طائرة حتى أناخوا في رياض النعيم»(6).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما رَفَعَ امرءاً كهمته...»(7).
وقال الإمام السجاد(عليه السلام): في الدعاء الشريف: «أسألك من الشهادة أقسطها
ص: 424
ومن العبادة أنشطها.. ومن الهمم أعلاها»(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق»(2).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أكثر ما تلج به أمتي الجنّة تقوى اللّه وحُسن الخلق»(3).
وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «هلك رجل على عهد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأتى الحفارين فإذا بهم لم يحفروا شيئاً وشكوا ذلك إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول اللّه ما يعمل حديدنا في الأرض فكأنما نضرب به في الصفا، فقال: ولم؟ إن كان صاحبكم لحسن الخلق ائتوني بقدح من ماء فأتوه به فأدخل يده فيه ثم رشه على الأرض رشاً ثم قال احفروا، قال: فحفر الحفّارون فكأنما كان رملاً يتهايل عليهم»(4).
وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل اللّه يغدو عليه ويروح»(5).
وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «بينما رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم فأخذت بطرف ثوبه فقام لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم تقل شيئاً ولم يقل لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً حتى فعلت ذلك ثلاث مرات: فقام لها
ص: 425
النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الرابعة وهي خلفه فأخذت هُدبة(1)
من ثوبه ثم رجعت. فقال لها الناس: فعل اللّه بك وفعل، حبست رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً ولا هو يقول لك شيئاً، ما كانت حاجتك إليه؟ قالت: إنّ لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ هُدبة من ثوبه ليستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني وأكره أن أستأمره في أخذها فأخذتها»(2).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم»(3).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه»(4).
ص: 426
قال اللّه تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا}(1).
السورة الكريمة نزلت على النبيّ الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل فتح مكَّة، وهي بمثابة بشارةٍ من اللّه تعالى لرسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنصر على أعدائه من كفار قريش(2).
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن هذا النصر وما سبقه في يوم بدر أو الذي تلاه من فتوحات إسلاميّة على يد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وانتشار الإسلام على رقعة جغرافية واسعة، لا بدّ له من مقدمات. ولم يكن هذا النصر بقوة السلاح أو بسبب العدّة والعدد فقط، وإنّما كانت هناك أساليب ناجحة أخرى - فضلاً عن الوحي - يتّبعها الرَّسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مواجهة الذين يقفون أمام تقدم الإسلام والمسلمين. فالرَّسولُ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعدّ نفسه وأصحابه لمواجهة المكائد ومعالجة أسبابها كما يطلب من أصحابه أن يكونوا يقظين ومستعدّين لتطوّرات الأحداث أيضاً.
قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا}(3).
ص: 427
وفي التفسير: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ}: أي تيقّظوا واستعدوا للأعداء(1). حتى لا يقال: إنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالوحي وحده تمكّن من الانتصار، ونحنُ لا نتمكن من أنْ نَقِفَ اليوم بوجه الأعداء سواء كانوا عملاء كصدّام أو الاستعمار المحرّك لهؤلاء العملاء؛ لأنّنا غير مدعومين بالوحي، وإنّما هناك أساليب ومقدمات علينا أن نسلكها كما سلكها الرَّسوال الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه لتكون منهاجاً لنا في مواجهة الذين يقفون أمام تقدم الإسلام والمسلمين.
أمّا المقدمات اللازمة لتحقيق الانتصار فهي كثيرة ولكننا سنشير إلى بعضها وهي:
أولاً: الطاعة.
ثانياً: الصبر والإيمان.
ثالثاً: التخطيط الصحيح.
رابعاً: الوحدة.
خامساً: العمل الجاد.
الطاعة من الأمور المهمّة لتحقيق النصر، سواء تحقّق في ساحات القتال بالغلبة على الأعداء أو تحقّق بالحجة على الكافرين أو المغرضين وذلك بالأدلة والبراهين الحقة التي نصبها اللّه تعالى في طريق الحق. قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(2).{إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ
ص: 428
فَمَنذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(1).
والآية تتضمّن الترغيب في طاعة اللّه التي يستحق بها الإنسان النصرة، والتحذير من معصية اللّه التي يستحق بها الإنسانُ الخذلان، مع ايجاب التوكل عليه الذي يؤمن معه أن يكلهم إلى أنفسهم فيهلكوا(2).
وعلى هذا يكون التوكّل على اللّه وطاعته أولاً وبالذات، وطاعة رسله وأوليائه ثانياً وبالتبع، هو من السبل الكفيلة بتحقيق النصر، وإنْ عملنا بهذا الميزان ولم نَر نتيجة النصر في الدّنيا فإنّ الفوز سوف يكون في الآخرة وهذا هو النصر الحقيقي وقد ضمنه اللّه تعالى لمن يطيعه ويتوكل عليه.
وبالإضافة إلى طاعة اللّه تعالى فإنّ طاعة الرسول والإمام المعصوم (عليهما أفضل الصلاة والسلام) وثم من بعدهم الفقهاء المراجع هي أيضاً من العوامل التي تؤدي إلى نصر المؤمنين، ومخالفتهم تؤدي إلى الخذلان والخسارة، ويظهر هذا جلياً بمراجعة تفاصيل معركة أحد عندما خالف بعض المسلمين أوامر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونزلوا من على الجبل للحصول على الغنائم فأدى هذا العمل - مخالفة أوامر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - إلى تراجع جيش المسلمين بعدما كان منتصراً وبسبب ذلك فقد المسلمون العديد من أفرادهم وجُرِحَ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقُتِل حمزة (رضوان اللّه تعالى عليه) عمّ النبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
ثم إن الآثار التي تترتب على مبدأ الطاعة لا تختص بالمسلمين فحسب، بل إنّك لو راجعت أحوال الأمم السابقة والحالية لرأيت إنّ الأمر يتشابه نسبياً، فإنّالأمة التي تطيع قائدها الناجح وتتبع أوامره الصحيحة فهي تتحكم أحياناً بعوامل
ص: 429
النصر، بعكس الأمة التي تطيع رئيساً متهوراً طاعة عمياء.
وهناك أحاديث عديدة تدلُّ بصورة ضمنية على ضرورة الطاعة للعالم والسلطان العادل.
عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «إعلموا أنّ صحبة العالم واتّباعه دين يدان اللّه به، وطاعته مكسبةٌ للحسنات ممحاة للسيئات وذخيرة للمؤمنين ورفعة فيهم في حياتهم وجميل بعد مماتهم»(1).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طاعة السلطان - أي صاحب السلطة العادل - واجبة، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة اللّه عزّ وجلّ...»(2).
وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إنّ السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فأحِبُّوا له ما تحبون لأنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم»(3).
من السبل الكفيلة بتحقيق نصر اللّه تعالى أيضاً، الصبر والتحمل في ميادين الحياة، ولقد حثّت الآيات الكريمة والروايات الشريفة على الصبر والتحمل في سبيل هداية الناس ونشر التعاليم الإسلامية والمعرفة والتقدم والغلبة على أعداء اللّه تعالى، حيث قال اللّه تعالى: {كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(4).
وفي مجال الغلبة لا يخفى على الجميع أول معركة للمسلمين وهي معركةبدر وكان المسلمون بما فيهم الأنصار والمهاجرون لا يتجاوزون الثلاثمائة
ص: 430
وثلاثة عشر رجلاً، أمّا المشركون فكانوا أكثر من ألف رجل. وهكذا في مواطن عديدة للمسلمين بأعدادهم القليلة وهم ضعفاء من حيث العدّة والتجهيز أيضاً ولكنهم استحقوا نصر اللّه تعالى كما جاء في قوله تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٖ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}(1).
فالصبر هو أحد العوامل المهمة في تحقيق نصر المسلمين سواء في ميادين الجهاد أو العمل أو غيره وذلك بالإمداد الإلهي، أو تقوية القلوب ورباطة جأشها، أو بإدخال الرعب في قلوب الأعداء؛ لأنّ الدنيا كما بيّنا في البحوث السابقة خاضعة لقانون الأسباب والمسببات فلا بد للنصر من سبب وهذا السبب يتحقق إذا توفرت مقدماته.
وقد جاء أيضاً في قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}(2). أي: أنّ كل مسلم صابر بإمكانه أن يواجه عشرة من الكفار.
ذكر بعض المؤرخين أنّ عدد المسلمين - في حرب الروم - كان أقل من الروم بأضعاف كبيرة ومع هذا التفاوت الكبير في العدد استطاع المسلمون أن ينتصروا على هذا الجيش الكبير لتمسكهم بعوامل النصر الإلهي واتباع مقدماته منالطاعة والصبر والتقوى والإيمان، وعزمهم الراسخ وتصميمهم الذي لا يتزلزل
ص: 431
فكان كل واحد منهم في مقابل أكثر من مقاتل مدرّب من الروم. عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أيها الناس عليكم بالصبر فإنّه لا دين لمن لا صبر له»(1).
ولا بدّ من توفُّر عامل الإيمان مع الصبر، وقد أدمجنا هذا العامل مع الصبر في مقدمةٍ واحدة للترابط القوي في ما بينهما ولقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان»(2).
وفي قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(3). ومعناه كما جاء في بعض التفاسير: ودفعنا السوء والعذاب عن المؤمنين، وكان واجباً علينا نصرهم باعلاء الحجة ودفع الأعداء عنهم. إلّا أنّه دلّ على المحذوف قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وجاءت الرواية عن أُمّ الدرداء إنها قالت: سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلّا كان حقاً على اللّه أن يَرُدَّ عنه نار جهنم يوم القيامة ثم قرأ {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}»(4).
التخطيط الصحيح من الأمور المهمّة التي تدخل في تحقيق النصر سواء في ساحة المعركة أو في المناورات الكلامية وغيرها من المجالات التي تحتاج إلىإثبات وإظهار للحق.
ص: 432
وقد اتبع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل معركة أو غزوة خطط محكمة تحقق بواسطتها النصر المبين للمسلمين وكان يستشير أصحابه في خططه العسكرية منها وغير العسكريه لما للمشهور من أثر كبير في توحيد الصفوف وإيجاد التلاحم ونشر الإسلام وتعاليمه، والذي يتابع الغزوات وتفاصيلها يجد هذا المعنى واضحاً، ومن الشواهد على ذلك غزوة السلاسل التي تبيّن مدى أهمية التخطيط لتحقيق النصر. فالآيات الكريمة من سورة العاديات تدل على ذلك بقوله تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَٰدِيَٰتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَٰتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَٰتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}(1).
بالرغم من وجود بعض الاختلاف في نقل أحداث هذه الغزوة بين المفسّرين والمؤرخين إلّا أنّ الأكثر نقلوها بهذا الشكل:
روي أنّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما بعث سريّة ذات السلاسل عقد الراية وسار بها أبو بكر حتى إذا صار بها بقرب المشركين اتّصل بهم خبرهم فتحرَّزوا، ولم يصل المسلمون إليهم، فأخذها عمر وخرج مع السريّة فاتّصل بهم خبرهم فتحرّزوا ولم يصل المسلمون إليهم، فأخذ الراية عمرو بن العاص فخرج مع السريّة وانهزموا أيضاً، فعقد الراية لعليّ وضمهم ومن كان في تلك السريّة. وكان المشركون قد أقاموا رقباء على جبالهم ينظرون إلى كلّ عسكر يخرج إليهم منالمدينة على الجادّة فيأخذون حذرهم واستعدادهم، فلمّا خرج عليّ(عليه السلام) ترك
ص: 433
الجادّة وأخذ بالسريّة في الأودية بين الجبال فلمّا رأى عمرو بن العاص قد فعل عليٌّ ذلك علم أنّه سيظفر بهم، فحسده فقال لأبي بكر وعمر ووجوه السريّة:
إنّ عليّاً رجل غرّ(1) لا خبرة له بهذه المسالك، ونحن أعرف بها منه، وهذا الطريق الذي توجّه فيه كثير السباع، وسيلقى الناس من معرّتها أشد ما يحاذرونه من العدوّ، فسألوه أن يرجع عنه إلى الجادّة، فعرّفوا أمير المؤمنين(عليه السلام) ذلك، قال:
«من كان طائعاً للّه ولرسوله منكم فليتبعني، ومن أراد الخلاف على اللّه ورسوله فلينصرف عنّي»، فسكتوا وساروا معه فكان يسير بهم بين الجبال باللّيل ويكمن في الأودية بالنهار وصارت السباع التي فيها كالسنانير(2) إلى أن كبس المشركين وهم غارّون(3) آمنون وقت الصبح، فظفر بالرجال والذراري والأموال فحاز ذلك كلّه، وشدّ الرجال في الحبال كالسلاسل فلذلك سميت غزاة ذات السلاسل، فلمّا كانت الصبيحة التي أغار فيها أمير المؤمنين(عليه السلام) على العدوّ - ومن المدينة إلى هناك خمس مراحل - خرج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصلّى بالناس الفجر، وقرأ: (والعاديات) في الركعة الاولى، وقال: «هذه سورة أنزلها اللّه عليّ في هذا الوقت يخبرني فيها بإغارة عليّ على العدوّ...» (4).
يحدثنا التاريخ عن نعيم بن مسعود وقد أسلم حديثاً بعد ما كان يهودياً: إنه جاء إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) متخفياً في حرب الأحزاب - الخندق - وقال: يا رسول اللّهمرني بشيء أفعله في سبيل اللّه، فقال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): عليك بإيجاد
ص: 434
الضعف والهزيمة في صفوف الأعداء، فبادر نعيم بخطة ناجحة لإيجاد الفرقة بين يهود بني قريضة وقريش وغطفان، فذهب إلى يهود بني قريظة وقال لهم: أنتم تعلمون مدى حبّي وإخلاصي لكم وإني لا أريد لكم إلّا الخير، قالوا: نعم.
قال: إنّ قريشاً وغطفان ليسوا على ما أنتم عليه حيث إنّ المدينة مدينتكم وفيها أموالكم ونساؤكم وأطفالكم أمّا قريش وغطفان فإنهم جاءوا إلى الحرب فإن هم انتصروا على المسلمين فلا يبعد أن يغيروا على المدينة ويحدث الذي يحدث وإن هم هُزموا في مقابل المسلمين فسيرجعون إلى ديارهم وبلادهم وستبقون أنتم وحيدين في المدينة لا قدرة لكم على مقابلة المسلمين المنتصرين لذلك لا تمدوا أيديكم إلى السلاح أبداً حتى تأخذوا العهود والمواثيق من قريش وغطفان وتأخذوا منهم جمعاً من أشرافهم رهائن كي لا يقصروا في الحرب ولا يخذلونكم بعدها، فأستحسن بنو قريضة هذا الاقتراح، ثم خرج نعيم متخفياً وذهب إلى قريش فقال لأبي سفيان وأشراف قريش: إني لكم صديق وناصح أمين وأريد أن أعينكم في أمر بشرط أن تحفظوا سرّي ولا تنقلوا عني شيئاً أو تذكروا اسمي لأحد، قالوا لك ذلك واطمئن.
فقال: أتعلمون أنّ يهود بني قريظة قد انصرفوا عن حرب محمد بن عبد اللّه وبعثوا رسولاً إليه ليخبره بذلك ويعلمه أنهم عازمون على أخذ بعض أشراف قريش وغطفان رهينة منهم ويسلِّموهم إليه وهم مكتوفوا الأيدي والأرجل ليضرب أعناقهم؟ وقد قبل محمد بن عبد اللّه اقتراحهم وأعطاهم الأمان، فإذا طلب بنو قريظة منكم رهائن فلا تعطوهم. فشكر أشراف قريش نعيماً ثم خرج من عندهم وذهب متخفياً إلى غطفان وقال لهم: تعلمون بأني منكم وعندي لكمكلام لا أريد أن يبلغ غيركم فاسمعوا لي ولا تنقلوه إلى غيركم ثم أخبرهم بندم يهود بني قريظة و...
ص: 435
وفي ليلة السبت بعث أبو سفيان رسالة إلى أشراف غطفان وبني قريظة يبلغهم فيها بأنّ حيوانات قريش معرضة للتلف - في ما لو تأخرت الحرب نتيجة البرد الشديد - ويطلب منهم أن يبدأوا الحرب ضد المسلمين غداً في الصباح الباكر، فردّ اليهود: بأنّنا في يوم السبت لا نقوم بأي عمل، ثم لو دارت رحى الحرب ودارت عليكم الدائرة فستفرون إلى دياركم وسنبقى نحن وحيدين لا طاقة لنا على مقابلة محمد بن عبد اللّه لذا فنحن نريد أن تجعلوا بعض أشرافكم عندنا رهائن حتى نطمئن أنكم لن تتركونا لوحدنا وتعودوا إلى دياركم.
فتيقنت قريش وكذلك غطفان من صحة كلام نعيم بن مسعود فنشأت بذلك الاختلافات بين أعداء الإسلام هذا من جهة، ومن جهة ثانية كان لحول فصل الشتاء والبرد القارص الدور في هروب الكفار وفرارهم ولم يستطيعوا المقاومة لحرب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبهذا الأسلوب استطاع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يحفظ المسلمين وأموالهم ويرد الكفار بغيظهم لم ينالوا خيراً(1).
من البديهي إنّ الأمة التي تجمع كلمتها وعدّتها يكون غالباً النصر حليفها في الدنيا، فإذا الاجتماع والوحدة على الحق فإنّ ذلك يؤدّي إلى الفوز والانتصار في الدنيا والآخرة معاً، قال اللّه تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2).وقد قيل: إنّ حبل اللّه هو الإسلام(3). فتمسكوا به وامتنعوا عن معصيته وثقوا
ص: 436
به وتوكلوا عليه ولا تفرّقوا في الدين فإنّ ذلك خسران لكم.
وفي قوله تعالى: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1) يخاطب اللّه سبحانه المؤمنين أن ينصروا دين اللّه ونبيه بالقتال والجهاد فإنه ناصرهم على عدوهم بتثبيت الأقدام وذلك بتقوية القلوب وتشجيعهم وقيل أيضاً ينصركم في الدنيا والآخرة ويثبت أقدامكم في الدارين وهو الأوجه(2).
هذا هو حال الأمة المتآخية والمتوحّدة في كلمتها ومواقفها فهي لا تحيد عن طريق النصر وقد رأينا حال الأمة الإسلامية في بداية نشوئها على يد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كيف كانت تنتصر وتتوسع بفعل تماسكها وأخوّتها ووحدتها، حتّى إذا جاء الحكّام والسلاطين من بعده وانتشرت حالة التفرقة وتدخّل المغرضون في جسد الأمة، ووضعت الحواجز والقيود، وأوجدوا حالة التفرقة العنصرية والمذهبية بين المسلمين أدّى ذلك إلى التراجع والتقهقر تدريجياً ومن ثم السيطرة على غالبية مواردهم وأنفسهم وبهذا يتّضح مدى تأثير الوحدة والتماسك في تحقيق النصر.
وفي الحديث الشريف: قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع ربقة الإيمان من عنقه»(3).
إحراز التقدم والازدهار والانتصار في العصر الحاضر وفي جميع العصور لا بد أن يكون مصاحباً للعمل الجاد، وهذه القضية صادقة على الأفراد كما هي
ص: 437
صادقة على الأمم.
ينقل رجل من إحدى المحافظات في العراق أنّ أخاه كان ينتمي إلى إحدى الأحزاب السياسية وكان وقّاد الذهن حاد التفكير، وكان لا يتوانى مطلقاً في نقل أفكاره وآرائه أو كتابتها، وحتى أثناء تناول الطعام كنت أراه يفكّر أو يكتب، ولا يسمح لأحدٍ منّا أن يكلّمه، ويقطع عليه تسلسل تفكيره، ونتيجة هذا النشاط والعمل المتواصل استطاع هذا الحزب أن يحكم البلاد لسنين عديدة.
لاحظوا الغرب ما هو ديدنه في العمل، فإذا كان الغرب وأذنابه يجدّون وينشطون ويعملون ليل نهار من دون توقف أو كلل، أفلا يجدر بنا نحن المسلمين أصحاب الحق، أن نعمل أكثر منهم على الأقل بالقدر اللازم!
ذات مرّة رأيت أحد الأشخاص في حرم الإمام الحسين(عليه السلام) يصيح بأعلى صوته ويقول: يا صاحب الزمان أدركني فقد أثقلت المشاكل كاهلي ونغّصت عليّ حياتي. وقد كنت أعرفه رجلاً عاطلاً خاملاً!
فلنتساءل: أيصحَّ أن نضع يداً على يد من دون عمل ونستغيث بصاحب العصر والزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف ليأتي ويحلّ مشاكلنا؟ أم أنّ الواقع يقتضي أن نعمل ونجدّ حتى نبلغ النتائج والأهداف ونستمد العون والمساعدة من اللّه تعالى وبالدعاء والتوسل بصاحب العصر عجل اللّه تعالی فرجه الشريف لتعجيل النصر حيث منّا الحركة والعمل ومن اللّه البركة والنصر.
قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ}(1).وقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل... يُحبُّ الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين
ص: 438
وهو أحدُهم،... إن أصابه بلاءُ دعا مضطراً، وإن ناله رخاء أعرض مغترّاً تغلبه نفسهُ على ما يظُن، ولا يغلبها على ما يستيقن... يقصّر إذا عمل، ويبالغُ إذا سأل... فهو بالقول مدلّ(1) ومن العمل مقلّ...»(2).
نعم إنّ النصر من عند اللّه تعالى ولكن بعد تهيئة الأسباب والمقدمات وقد أشرنا إلى بعضها هنا.
قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَٰدُ}(3).
جاء في تفسير هذه الآية: «أي ننصرهم بوجوه النصر فإنّ النصر قد يكون بالحجّة ويكون أيضاً بالغلبة في الحرب، وذلك بحسب ماتقتضيه الحكمة ويعلمه سبحانه من المصلحة، ويكون أيضاً بالألطاف والتأييد وتقوية القلب ويكون بإهلاك العدو، وكلُّ هذا قد كان للأنبياء والمؤمنين من قبل اللّه تعالى فهم منصورون بالحجّة على من خالفهم، وقد نصروا أيضاً بالقهر على من ناوأهم، وقد نُصروا بإهلاك عدوهم وإنجائهم مع من آمن معهم وقد يكون النصر بالانتقام لهم كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل حين قتل به سبعون ألفاً. فهم لا محالة منصورون في الدُّنيا بأحد هذه الوجوه.
{وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَٰدُ} جمع شاهد مثل الأصحاب جمع صاحب وهم الذين يشهدون بالحق للمؤمنين وعلى المبطلين والكافرين يوم القيامة. وفي ذلك سرور
ص: 439
للمحقّ، وفضيحة للمبطل في ذلك الجمع. وقيل: هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون...»(1).
وبهذا يكون النصر من عند اللّه بوجوه عديدة منها يظهر في الدنيا ومنها ما يظهر في الآخرة وذلك بالنيل من الكافرين والمبطلين وإظهار الحق المغصوب.
ولذا فإنّ الأمَّة التي تتبع هذه السبل والمقدمات من الطاعة والصبر والتقوى والإيمان والتخطيط والوحدة والعمل الجاد المتواصل، فإنّها سوف تنتصر حتى لو كان عددها قليل، ولكن بشرط توكّلها واعتمادها على اللّه تعالى، العمل بقوانينه وأحكامه الحقّة، ويجب على المسلمين اليوم أن يوفّروا في أنفسهم هذه السبل للحصول على نصر للّه تعالى والتقدُّم والازدهار والحياة الأفضل في الدنيا السعادة في الآخرة.
«يا من أرجوه لكل خير، وآمن سخطه عند كل شر، يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه، تحنناً منه ورحمة، اعطني بمسألتي إياك، جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة واصرف عنّي بمسألتي إياك جميع شرّ الدنيا وشرّ الآخرة، فإنه غير منقوص ما أعطيت، وزدني من فضلك يا كريم»(2).
قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1).
قال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(2).
وقال جلّ وعلا: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(3).
قال عزّ اسمه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٖ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ الْأَمْوَٰلِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ الصَّٰبِرِينَ}(4).
وقال جلّ ثناؤه: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ}(5).
وقال عزّ من قائل: {وَلَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الصَّٰبِرُونَ}(6).
وقال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(7).
قال سبحانه: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(8).
ص: 441
وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).
وقال جلّ وعلا: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}(2).
وقال عزّ اسمه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(3).
وقال جلّ شأنه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(4).
قال عزّ من قائل: {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}(5).
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٖ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ}(6).
وقال سبحانه: {وَنَصَرْنَٰهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الْغَٰلِبِينَ}(7).
وقال عزّ وجلّ: {فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا}(8).
عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «... فانّه لا يدرك ما عند اللّه إلّا بطاعته»(9).
ص: 442
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أطاع اللّه استنصر...»(1).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أطاع اللّه سبحانه عزّ نصره»(2).
عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «إعلم أنّ النصر مع الصبر...»(3).
وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «الصبر عنوان النصر»(4).
وقال(عليه السلام): «دوام الصبر عنوان الظفر والنصر»(5).
وقال(عليه السلام): «لن يعدم النصر من استنجد الصبر»(6).
عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أيها الناس... لا خير في دنيا لا تدبير فيها...»(7).
وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «تفكر قبل أن تعزم وشاور قبل أن تقدم وتدبر قبل أن تهجم»(8).
وقال(عليه السلام): «أصل السلامة من الزلل، الفكر قبل الفعل...»(9).
عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا تزال أمتي بخير ما تحابوا وتهادوا، وأدوا
ص: 443
الامانة، واجتنبوا الحرام، ووقّروا الضيف...»(1).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا ثبت الودّ وجب الترافد والتعاضد»(2).
وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «المؤمنون في تبارهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد...»(3).
ص: 444
قال اللّه عزّ وجلّ في محكم كتابه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1).
لا شك أن العلم فيه نجاة الإنسان وكماله، لأنه كالنور الذي يكشف له المسير، ويعرّفه لوازم كل طريق. وهو كالشعاع الذي ينفذ إلى أعماق النفس فيؤشر إلى مواطن الضعف والسوء، ليسعى المرء إلى تكميل نفسه، وسدّ الثغور النفسية بملكات الخير. وقد كان الأنبياء(عليهم السلام) الذين هم معلّموا هذا المنهج كانوا يجاهدون من أجل زرع بذور الخير في الأفراد، وكانوا يتحملون العذاب في سبيل تكامل الأفراد، وتثبيت القيم الإنسانية والخلقية فيهم ليسود الخير والعدل والعلم في حياتهم... وفي سبيل ذلك أيضاً كانوا(عليهم السلام) يسعون ليل نهار من أجل رفع الجهل من واقع الحياة ومن نفوس الأفراد الذين أرسلوا إليهم. لقد حاربوا الأساطير والخرافات والطيرة وكل أمر من شأنه أن يؤدي إلى إهلاك قدرات الأمم العلمية وتذويبها، لئلا يخيّم الجهل على الحياة فتسود الظلامات وتهدم الحضارات، لقد استمر هذا الخط الرسالي متمثلاً في الأوصياء والأئمة(عليهم السلام) - وبعد غيبة الإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشريف - امتد هذا الدور القيادي الخطير، لتسلم أمور التبليغ وإحياء الناس، إلى العلماء باعتبارهم ورثة ذلك الخط القويم المقدس،
ص: 445
فمارسوا نفس الدور في حماية الدين من التحريف والضياع، وحماية الناس من الجهل، لأن دولة الدين لا تقام إلّا في ظل العلم والوعي. فاقتضت بعض الضرورات إنشاء المدارس لإعداد العلماء والمبلغين لتغطية كل المناطق، وأطلق على تلك المدارس ب- (الحوزات). ولو أنّا أردنا التعمق لرأينا أن فكرة الحوزات ليست جديدة وطارئة، بل هي مستوحاة أو مطابقة لما كان يعمله الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مسجده الشريف من تربية وتعليم، وكذلك الإمامان الصادقان(عليهما السلام). فالحوزات إذن استمرار لذلك النهج المقدس، وفعلاً فقد قامت الحوزات بالدور نفسه، وحفظت النهج المقدس، وفعلاً فقد قامت الحوزات بالدور نفسه، وحفظت معالم الدين من الضياع، وبثت صوت الأنبياء مجدداً بواسطة المبلغين المخلصين الثقاة فالحوزة عطر من تلك الرياحين - الأنبياء(عليهم السلام) - وصدىً لصوت الحق ومنذ زمن الغيبة وإلى يومنا هذا والجماهير تتحسس ثمار الحوزة العلمية، لا سيّما أيام النكبات والشدائد أمثال ثورة العشرين وثورة التنباك... فضلاً عن الجهود الشخصية لبعض الشخصيات العلمية أمثال الطوسي والحلي والمفيد والصدوق - رحمة اللّه عليهم - هذه الجهود التي أضفت التقدم والانتشار على المسيرة. وعلى أية حال يمكن أن نلخص عمل الحوزة في أمرين هما: نشر العلوم، والحفاظ على الدين.
إن مسألة نشر الإسلام وإيصاله إلى كل مكان مسألة ذات قداسة خاصة لا يدرك كنهها إلّا اللّه عزّ وجلّ. لذلك دعا القرآن الكريم إلى هذا المعنى، فقال: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ}(1).
ص: 446
ولا يخفى ما تعرّض إليه المذهب الشيعي من انحسار بسبب الظلم والطغاة والدكتاتوريين. عندها انحسر خط التبليغ، فقام العلماء بوضع مدارس - حوزات علمية - لإعداد رجال علم يقومون بنشر الدين وحمايته من التحريف والأضاليل والأباطيل، فبدأت الحوزات تتحمل عبء نشر العلوم في الآفاق. فمن جهة نجحت الحوزة وبعناية الإمام صاحب الأمر(عليه السلام) في المحافظة على تراث أهل البيت(عليهم السلام). ومن جهة أخرى نجحت في المحافظة على القواعد الشعبية الشيعية في كل مكان، وذلك بإيصال التبليغ لها وسدّ الثغرات الفكرية والثقافية، فعلى رغم الصعوبات الموضوعية المتنوعة التي كانت تمرّ بها الحوزة، إلّا أنها لم تتنازل عن دورها المقدس، فكانت الرافد الذي يسقي الأمة ويبثّ فيها الروح والحياة، إذ العلم هو المقياس الحقيقي للأمم، وبه يمكن تفضيل أمة على أخرى. ولذلك نرى العلماء الأعلام رضوان اللّه عليهم، كانوا يُجهدون أنفسهم ويتحملون المتاعب الشديدة من أجل كتابة كتاب وتركه للأجيال اللاحقة لتحيى به. فمما يُحكى عن صاحب الحدائق(1). إنه بينما كان منشغلاً بكتابة (الحدائق الناضرة) كانت الفتنة قد عمّت البحرين، وقام الأعداء بحرق داره، لكنه في نفس تلك اللحظات التي كانت فيها داره تحترق لم ينفك عن الكتابة. حتى وصلته النار، فأخذ قلمه ودواته وفر من النار إلى خارج الدار.
وأما كتاب اللمعة للشهيد الأول(رحمه اللّه) حيث يُذكر أنه: حبس في القلعة الدمشقية (في دمشق) سنة كاملة. وفي مدّة الحبس أَلَّف (اللمعة الدمشقية) فيسبعة أيام وما كان يحضره من كتب الفقه غير (المختصر النافع)(2).
ص: 447
ففي الواقع إن تأليف كتاب كاللمعة، وفي أوضاع متعبة وهو السجن، ومع فقدان المصادر لدليل على القدرة العلمية الفائقة التي كان يتمتع بها الشهيد الأول(رحمه اللّه). وبات من المسلَّمات أن اللمعة كتاب اعتمد عليه الكثير من العلماء الذين جاءوا بعد تأليفه، حتى أنه أصبح يُعدّ من المصادر الفقهية عند الشيعة.
وأعجب من هذا وذاك ما يُنقل عن الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب الجواهر(رحمه اللّه) أنه وفي الساعة التي توفي فيها ولده، كان يجلس إلى جانبه ويذرف الدموع، وفي نفس الوقت لم يترك كتابة الموسوعة الفقهية المعروفة بالجواهر.
نستطيع القول: إن الحوزة هي إحدى ثمار الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، لأنها تقوم بنفس الدور التربوي والتعبوي للأمة، كما إنها في الوقت ذاته تُعِدّ رجالاً أولياء للّه عزّ وجلّ لا تأخذهم في اللّه لومة لائم، إذ أن عصب الحوزة الرئيسي هو علم الأخلاق الذي يربي النفوس ويهذبها ويشذبها من الشوائب، ويضفي على الروح طهارة ويعلمها الرقي في عالم الكمالات، من الزهد إلى الحلم والتقوى والصبر. وفعلاً قد شهدت البشرية رجالاً عمالقة وعظماء في جوانب الخير قلّ نظيرهم في التاريخ، استطاعوا إخراج الأمة بوجه جديد.
فمنهم من أخذ على عاتقه حفظ الكيان الإسلامي من التيارات المعادية، بواسطة الجهاد والتضحية في سبيل ذلك، بدمهم أو راحتهم. ومنهم الميرزا محمد حسن الشيرازي(رحمه اللّه) الذي أبطل مؤامرة الاستعمار البريطاني وغيرهم.
وأمثال هؤلاء وأولئك كثيرون من الرجال الذين أخرجتهم إلى العالم حوزاتنا العلمية المقدسة. وإذا كان ذلك في جانب الفداء والتضحية والتصدي للظالمين، فإن إسهام الحوزة في الجوانب الثقافية والفكرية ليس أقل منه شأناً
ص: 448
وخطراً، إن لم يكن أعظم. فمثلاً في الجانب الفلسفي برع الكثيرون ممن ساهموا في تصحيح الآراء الفكرية، ونقد النظريات الخاطئة، أمثال نصير الدين الطوسي(رحمه اللّه). وفي الجانب الفقهي قد أسهم الكثيرون من الفقهاء الأجلاّء في تغطية الساحة الإسلامية، بمختلف المسائل الابتلائية وغيرها من أجل رفع وتوسعة الذهنية لدى الفرد المسلم، وفي الوقت نفسه كانوا يجيبون على مختلف الأسئلة العقائدية والفقهية والقرآنية والفكرية المحضة. ولقد كان لبعض الشخصيات مكانة ومقام يعجز القلم عن عرضها، أمثال الشيخ المفيد(رحمه اللّه) الذي استطاع أن يحافظ على الهوية الشيعية ويبرزها بلونها وشكلها العقائدي الخاص بها. ولعظمة مكانته يُحكى أنه عقب وفاته وجدوا بيتين من الشعر على قبره مكتوبين يدلّان على مقامه المهم وفيه: «إنه يوم على آل الرسول عظيم» وقد نسبت الأبيات إلى الإمام الحجة(عليه السلام). وليس غريباً أن يرثيه الامام الحجة(عليه السلام) ويقرّظه، لما كان له من دور مهم في رفد الأمة الإسلامية بمختلف العلوم، على اختلاف مناهجها. والأمر المهم الآخر الذي قامت به الحوزة هي أنها كانت تُعِدُّ رجالاً يقودون الأمة روحياً، فضلاً عن قيادتهم لها سياسياً واجتماعياً؛ أمثال الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) الذي التفّت حوله جماهير العراق في ثورة العشرين، وتم طرد الاستعمار البريطاني... وهكذا كانت الحوزة دائماً عطاء لا ينفد في مختلف الميادين. ولا يخفى أن استمرارها يتم تحت عناية الإمام الحجة(عليه السلام) ودعائه. وما أكثر القصص والحوادث التاريخية التي تؤكد هذاالمعنى في كتبنا.
مع كل حركة نبي من أنبياء اللّه كانت هناك حركات في قباله تحاول إلغاء
ص: 449
حركته، أو تحجيم دوره في المجتمع، واشاعة الإضطراب والتشويش، ووضع العراقيل في طريقه وخلق جوّ ضبابيّ على كلماته وتوجيهاته، لئلا تصل إلى أسماع الناس.
وعادة كان يقوم بهذه الأدوار الطبقة المستفيدة مادياً، أو التي تملك الوجاهة الاجتماعية أمثال النمرود وفرعون وهامان وأبي لهب وأبي سفيان... ولكن نرى في ختام المطاف انتصار خطّ النبوات والرسالات الإلهية واضمحلال خط الكفر وتلاشيه. وبما أن الحوزة استمرار لخط الرسالات فهي الأخرى واجهت التحديات والصعوبات والعراقيل التي كان يفتعلها أعداء الدين، والتي ستبقى مجرد محاولات تختم بالفشل. والتاريخ يشهد للجميع بذلك. ويمكن أن نطلق على هؤلاء، بل على كل من سار في نهجهم ب(الخط الفرعوني) وتقسّمهم إلى قسمين:
الأول: أعداء على المستوى العالمي، كالمفعول الذين تسببوا في إحراق وإتلاف أكثر الكتب والمصادر المهمة، حتى اشتهر عند الناس أن مياه دجلة والفرات تحولّت إلى اللون الأسود من جراء ما ألقوا من كتب ومخطوطات، فضلاً عن قتلهم ومطاردتهم للعلماء، حتى اضطر شيخ الطائفة الطوسي(رحمه اللّه) أن يفر بجلده من بعد ما أحرقوا كرسي درسه. أو كالاستعمار الذي زرع عناصر الفساد والظلم والاضطهاد، المتمثلين بالحكام الطغاة الذين لا يعرفون سياسة غير الدكتاتورية. وهؤلاء بدورهم وجّهوا ضرباتهم الشديدة إلى الحوزة العلميةورجالها، بغية القضاء عليها وإيقاف المدّ الإسلامي، لا سيما الشيعي.
فتارة تمتد الإعدامات إلى كبار العلماء أو يكون نصيبهم النفي أو السجن. وأخرى يأمرون بغلق الحوزات ومصادرة أموالها، وهكذا دواليك. والسبب هو ما
ص: 450
ذكرناه سابقاً؛ من أن الحوزة تمثل خط الرسالات الذي يصطدم دائماً مع الباطل، فيعمل على إزالته من الوجود.
والسبب الآخر أن الحوزة تمثل إرادة الشعب، وتدافع عنه، وتضحي من أجله، وتكشف له السياسات المنحرفة. من أجل ذلك كان دأب الطغاة جارياً على محاربة العلماء ومعاقلهم.
الثاني: أعداء على المستوى المحلي: فقد تعرضت - ومازالت تتعرض - الحوزة إلى ضربات من الداخل، فضلاً عمّا يثيره المستشرقون من إشاعات وأضاليل حول الإسلام، وبالذات حول الحوزة ومراجع الدين. فمثلاً الشيوعية والقومية في العراق وإيران والأحزاب اليسارية وغيرها كلها كانت تعمل على إلغاء الحوزة والنيل منها وتحطيمها، لأن الحوزة هي المؤسسة الوحيدة التي كانت ترفد الجماهير بأفكار الإسلام، وتنوّرهم باحكام القرآن، وتميز للناس خط الحق من الباطل. وكذلك كان علماء الدين يكشفون زيف وأضاليل وأخطاء التيارات المنحرفة كالشيوعية والقومية. وبمرور الزمن نجح أعلام الحوزة في كشف القناع واللثام عن تلك الأحزاب الباطلة، وانقاذ الناس منها.
يتصور البعض أن الحوزه تتمسك بالأمور القديمة حفاظاً على أسلوبها التقليدي، ولذا نرى البعض يقف الموقف السلبي من الحوزة ويتشنج من رجالها، وينعكس ذلك من خلال عدم التفاعل مع إعلام وتبليغ الحوزة منخلال المنابر والمجالس. وينطلق ذلك التصور أساساً من ملاحظة الكتب القديمة والمناهج الحوزوية التي يصل عمرها إلى (600) سنة تقريباً، أو اعتماد بعض المصادر التي يكون عمرها أكثر من ذلك وكذلك ينطلق ذلك التصور الخاطيء من ملاحظة بعض الأساليب الدراسية أو عدم وجود بعض
ص: 451
المستلزمات العصريه الحديثة في الحوزة، وغيرها من التصورات الساذجة. ويمكن أن نجيب عن الجميع بما يلي:
أولاً: نعم بعض الكتب الدراسية القديمة ما زالت إلى الآن تُدرَّس في الحوزة، وذلك لعدة أسباب، منها المتانة التي تمتاز بها مع قصر العبارة والإيجاز، ومنها أن الطالب كلّما اطلع على هذه الكتب وهضمها بشكل تام استطاع أن يرجع إلى كتب الحديث والرواية والمصادر الفقهية القديمة ويفهم ما فيها، لأنه لا يجد نفسه غريباً عن تلك الكلمات ولا يجدها غريبة عليه، لأنه قد مارسها زماناً. ثم إن العربية الموجودة في كتب الحديث والرواية (السُنّة) تختلف عن العربية الدارجة اليوم، والحقل الذي يعمل فيه الطالب ليس صحافة أو إعلاماً، إنما هو الاجتهاد والاستنباط ومحاولة لفهم الدليل، وما لم يحط الطالب بأحوال الكلمات، الغريب منها والمعقّد والنادر الاستعمال فإنه لن يستطيع أن يصل إلى استنباط الحكم الشرعي.
الثاني: بعض الكتب التي يُعتمد عليها في الحوزة، كان مؤلفوها قريبي عهد بزمن الغيبة الصغرى، أو كانوا معاصرين أو أدنى من ذلك بقليل. وكذلك عدم وجود البديل المناسب لمثل هذه الكتب، من أمثال اللمعة الدمشقية في الفقه. وبعضها لا بد من دراسته لأنه يكون بمثابة المقدمة لدروس عالية لا يمكن هضمها بدون تلك المقدمة، مثل كتاب الكفاية في الأصول. ثم: من قال: أن الحوزة ضد التجديد؟ أو لم تكن المطوّلات هي التي تدرس سابقاً في مجالاللغة مثلاً، بينما نجد اليوم محلها كتباً مثل (شرح السيوطي) و(شرح ابن عقيل) و(قطر الندى) وغيرها، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الفقه والكلام والفلسفة. بل دخلت مناهج دراسية جديدة أمثال علوم القرآن والسياسة والسيرة والتأريخ، بل لقد كانت في العقود الأربعة الماضية في الحوزات العلمية دروس متنوعة أمثال
ص: 452
الهندسة والرياضيات والفلك والطب.
على إن وجود الآلات الحديثة أمثال المقاعد الفاخرة والآلات الطابعة وأجهزة الكمبيوتر وغيرها ليس مقياساً دائماً للأسلوب الصحيح.
فالحضارة الواقعية إنما تُبنى بواسطة مكارم الأخلاق والقدرات العلمية الخّلاقة ووجود العناصر المخلصة. وهي مسألة هامّة جديرة بالعناية حقاً: أننا ينبغي أن نستفيد - مهما أمكن - من أساليب التقنية الحديثة، لأنها ثمرة واضحة من ثمرات الحضارة والتقدم، ولكن - في الوقت نفسه - لا ينبغي أن ننسى أنها أبداً لا تدل على الإنسان والكمال الحقيقي، بل على الجانب الظاهر من إبداعاته وقدرته. وهدف الحوزة إنما هو مشدود للأول دون الثاني.
وعلى أية حال، فالإنصاف أن يقال: إن الكثير من كتب الحوزة تحتاج إلى تهذيب وتحقيق وترتيب وتبويب جديد.
ولعل هذا أمر ظاهر للجميع يشعرون به كحالة لا بد من معالجتها.
أما حول طريقة التدريس المتعارفة في الحوزات وهي طريقة - تطبيق العبارة - فقد أثبتت التجارب أنها أنفع طريقة لترسيخ المطالب العلمية في ذهن الطالب. مضافاً إلى أن الطالب يبقى أحياناً حائراً أمام العبارات المعقدة في الكتاب، فلا بد من توضيحها له من خلال التطبيق والقراءة.
لا يخفى ما قامت وتقوم به الحوزة من تبليغ للدين، ودفع للشبهات المعادية،وتحرير لإرادات الناس، وحثّهم على التمسك بخط الولاية والقرآن ولا نبالغ أبداً إذا قلنا إننا عندما نريد أن نوضح دورها هذا نلاحظ علاقة من الشبه واضحة بين دور الحوزة وبين دور المعجزة.
فعندما نتعرض إلى بحوث المعجزة نرى أن هناك نوعين من المعاجز:
ص: 453
الأول: المعجزة التي ينتهي دورها مع موت النبي والرسول أمثال العصا التي ماتت مع موت موسى(عليه السلام)، واحياء الموتى الذي انتهى مع رفع عيسى(عليه السلام).
الثاني: المعجزة التي لا تنتهي مع موت النبي، بل تبقى كحالة تبليغية تبلّغ للدين حتى مع عدم وجود النبي. ومصداقها القرآن الكريم الذي يدل على نفسه بنفسه، ويرشد الإنسان إلى اللّه من خلال آياته الشريفة على مرّ الزمن. وعندما نحاول أن نقارن دور الحوزة مع أثر المعجزة، نجدها كالنوع الثاني من المعجزة. فالحوزة حالة تبليغية تبلِّغ للدين بشكل مستمر، وتجذب الناس حولها من خلال دورها التربوي وصناعتها للأفراد صناعة إيمانية أخلاقية، وترشد الجماهير إلى اللّه عزّ وجلّ، وتعلّمهم طرق الكمال والقرب من المولى سبحانه وتعالى، ومن أهل البيت صلوات اللّه عليهم وتبرز المقام السامي لهم لدى الأفراد، وتحاول بكل ما بوسعها أن تحافظ على قدسيتهم، وتربط الجماهير بهم وبالقرآن، لأنهما الثقلان اللذان أوصى بهما الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي. كتاب اللّه حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا بماذا تخلفوني»(1).
فمثلاً حول تربية الأفراد وصناعتهم يُحكى أن الوحيد البهبهاني(رحمه اللّه) قد جاءه أحد الأشخاص، وطلب منه أن يزوّجه ابنته. وبعد أن استفسر الوحيد البهبهاني عن أحوال وسلوك وعمل هذا الشاب وافق - إذ قيل له: إنه يعمل كاتباً على أكفان الموتى - ولكن اشترط عليه شرطاً فقال له: إن قبلت بهذا الشرط فلا مانع لدي
ص: 454
من تزويجك ابنتي. والشرط هو أن تدرس كتاب المعالم(1). وتأتي للامتحان عندي، فوافق الشابّ على الشرط، وفعلاً ذهب وجدّ واجتهد إلى أن أكمله وامتحن عند الوحيد، وتزوج أخيراً من ابنته. ولكن كانت دراسته للمعالم فاتحة الخير، إذ بقي كاتب الأكفان هذا يواصل الدرس حتى بعد زواجه إلى أن صار عالماً كبيراً له مؤلفات وكتب حتى عُرف في ما بعد ب- (صاحب الرياض)، و(صاحب الشرح الكبير). وأمثال ذلك كثير. حيث كان العلماء الأعلام يقتنصون الفرص لصناعة العلماء وتخريج المبلغين والكتاب من بين أفراد الناس.
ولكنّا لا ندّعي أن الحوزة اليوم متكاملة من كل النواحي، بل ما تزال بحاجة إلى تهذيب في كل نواحيها، لتكون مواكبة للعصر، ولكي تحتوي طلبة الجامعات وكل الأكاديميين، لا سيّما في زمننا الحاضر الذي تقاطر فيه على الحوزة طلبة العلم من مختلف بقاع الأرض.
ولكن لا يخفى أن تطوير الحوزة لا تعني الانقلاب الجذري والإنسلاخ التام من الماضي، وتبني الجديد على اطلاقه، بل لا بد من الممازجة المدروسة، والمحافظة على النقاط الإيجابية المركزيّة التي كانت الباعث على القوة والاستقلالية والنَّفَس الخاص، وغيرها من الأمور التي تميّزت بها حوزاتنا العلميةالمقدسة على مدى القرون.
وفي الختام نسجل بضع كلمات قصار لأبنائنا الطلبة، وفقهم اللّه تعالى. فقد يتصور بعض الطلبة أن أهم أمر في المسيرة العلمية هو الدرس ومواصلته. نعم
ص: 455
هذا صحيح، ولكنه ليس سبباً تامّاً، بل لا بد للطلبة من الحضور في المجالس العامة التي تقام في المناسبات الإسلامية كالمواليد والوفيات، والتجمعات التي تقرأ فيها الأدعية والزيارات فإن هذه التجمعات تهب الروح الكمال وتؤكد العلاقات المقدسة مع أئمتنا(عليهم السلام)، وتضفي علينا بركات نحن بأمسّ الحاجة إليها. ومثل ما يعطي الدرس كمالاً وتقدماً للطالب كذلك هذه التجمعات لا سيما وأننا إذا نظرنا في سيرة أئمتنا وجدناهم يهتمون بهذه الأمور كإقامة العزاء في شهر محرم الحرام، أو اللقاء مع الجموع الإسلامية في المناسبات العظيمة، كالغدير والمبعث وغيرهما. فعلى الطلبة أن لا يستهينوا بهذه الألوان الإسلامية المقدسة فهي الحاكية عن إسلامنا واهتمامنا به وتقديسنا لقادتنا العظام(عليهم السلام). ومن خلال هذه التجمعات يمكن لطالب العلوم الإسلامية أن يبث علمه ويجتذب الآخرين إلى حظيرة الإسلام، ويدعوهم إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، ويسعى في حل بعض الشبهات العقائدية التي تحتاج إلى إجابة. وهكذا يُشيع طلبة العلوم جوّاً إسلامياً خاصاً. بحضورهم الدائم والفعّال. أما إذا إنبنى تفكيرنا على الانعزال عن مثل هذه التجمعات، والركون إلى الدرس فقط، فإننا سنقع في مطبٍّ كما وقعنا بالأمس القريب، عندما تحوّل أكثر شبابنا المسلم نحو الشيوعية في الفكر والسلوك. يجب أن نفكر دائماً بأن نكون نحن أهل المبادرة في تعبيد الناس للّه، وربطهم به، واحتوائهم بالإطار الإسلامي قبل أن يسرقهم الماديون والملحدونوالمنحرفون.
«اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، ومتعني بهدىً صالح لا أستبدل به، وطريقة حق لا أزيغ عنها، ونية رشدٍ لا أشك فيها، وعمرِّني ما كان عمري بذلة في طاعتك. اللّهم لا تدع خصلة تعاب مني إلّا أصلحتها، ولا عائبة أُؤنب بها إلّا
ص: 456
حسنتها»(1)، بحق محمّد وآل محمّد.
قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(2).
وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(3).
وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(4).
وقال جلّ وعلا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(5).
قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).
وقال سبحانه: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(2).
وقال عزّ وجلّ: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(3).
وقال جلّ وعلا: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}(4).
قال عزّ اسمه: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(5).
وقال جلّ شأنه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(6).
وقال عزّ من قائل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}(7).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحب العباد إلى اللّه الأتقياء الأخفياء»(8).
ص: 458
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بالتُقى فإنه خُلُقُ الأنبياء»(1).
وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «ولا كرم إلّا بتقوى»(2).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «القيامة عرس المتقين»(3).
قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بُعِثتُ للحلم مركزاً...»(4).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحِلمُ تمام العقل»(5).
وقال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): «عليك بالحلم فإنه ركن العلم...»(6).
وقال الإمام علي الرضا(عليه السلام): «لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً»(7).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بُعِثتُ... وللصبر مَسْكَناً»(8).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رَحِمَ اللّه امرأً... جعل الصبر مَطيَّةَ نجاتِهِ...»(9).
وعن الفضيل عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): «يا فضيل: بلِّغ من لقيت من موالينا عنّاالسلام وقل لهم: إني أقول... وعليكم بالصبر والصلاة إن اللّه مع الصابرين»(10).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «وَمَن ... صبر على سكينة ووقار فهو من الخاص
ص: 459
ونصيبه ما قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وأما (علامة) العمل: فالصلاة والصوم والزكاة والإخلاص»(2).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «طوبى لمن أخلص للّه عمله وعلمه وحبه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته وفعله وقوله»(3).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {حَنِيفًا مُّسْلِمًا}(4). «خالصاً مخلصاً ليس فيه شيء من عبادة الأوثان»(5).
قال الإمام موسى الكاظم(عليه السلام): «يا هشام: إن المسيح(عليه السلام) قال للحوارييّن: ... كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه تجدوا حلاوته وينفعكم غِبّه»(6)(7).
ص: 460
عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج»(1).
نبدأ كلامنا بسؤال وهو: كم يجب على طالب العلم أن يدرس في كل يوم؟ وكيف ذلك وعلى أي نحو؟
والجواب: إن القدماء والعلماء السابقين قد تحدّثوا عن لسان حال العلم أنه يقول: (أعطني كلك أعطك بعضي) وحق لهم ذلك فإن العلم بحر متلاطم الأمواج وواسع الأطراف لا يمكن أن يبلغ حده ولو فرض أن يجلس إنسان لمدة (50 سنة) بجوار البحر ويغرف منه دلواً دلواً فليس أنه لا ينتهي البحر فحسب بل ولا يشعر الإنسان أنه قد نقص أبداً.
هذا في الماديات أما في المعنويات فهناك أمور غير محدودة لا يمكن الإحاطة بها كاملاً، أحدها العلم وهو مثل الأعداد ليس لها حد تنتهي عنده... .
وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «كل شيء ينقص على الإنفاق إلّا العلم»(2)، وفي حديث آخر عنه(عليه السلام): «العلم أكثر من أن يحاط به فخذوا من كل علم أحسنه»(3)، والنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع مقام عظمته وعلمه يقول حول تعلم العلم
ص: 461
واكتسابه: {رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(1)(2)، وحتى لو قيّض للنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يعيش عشرات المليارات من السنين بالحياة الظاهرية وفي كلّ يوم يتعلم شيئاً جديداً فرغم ذلك يعود النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيقول: {رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(3) كما جاء في حديث الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم لا ينتهي»(4).
كان المرحوم السيد الوالد(رحمه اللّه) دائماً يوصينا ويقول (لا تلتمس الأعذار أبداً لتترك الدرس بل اجعل الدرس عذراً لكل شيء).
وفي بحار الأنوار رواية تقول: جاء أحد الأصحاب إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا حضرت جنازة وكان هناك في نفس الوقت حلقة علم ولا يمكن إدراكهما معاً فما هو أحب إليك الذهاب إلى تشييع جنازة المؤمن أو الاشتراك في حلقة العلم؟ فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إذا كان هناك من يشيعه ويدفنه فاشترك في حلقة العلم لأن الاشتراك في حلقة العلم أفضل من تشييع ألف جنازة مؤمن وعيادة ألف مريض وعبادة ألف ليلة وصوم ألف يوم وتصدق ألف درهم وألف حج مستحب وألف جهاد غير واجب! ألم تعلم بأن اللّه يعبد بواسطة العلم ويطاع بالعلم وإن خير الدنيا والآخرة قُرِنَ مع العلم كما قرن شر الدنيا والآخرة بالجهل(5).
لو ذهب شخص فقير لخطبة فتاة راقية الفضل والمستوى فقال له أبوها: إن
ص: 462
ابنتي تتمتع بشخصيه مرموقة فمهرها مليون دينار! فكم يعوز هذا الشاب من صرف العمر والعمل والتعب حتى يستطيع أن يوفر لنفسه هذا المهر الغالي ليتزوج بهذه الفتاة؟
وواضح أنه لا سبيل إلى توفيره إلّا بالعمل والتعب والمواظبة، والعلم وتعلمه هكذا حيث يجب على الإنسان أن يتفرغ له تماماً ويصرف كل شبابه بل كل عمره في طريق تحصيل العلم حتى يحصل على مهر العلم ليصبح عالماً.
وقد وردت عدة أحاديث في ذلك عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يحرز العلم إلّا من يطيل درسه»(1) وقال(عليه السلام): «لا فقه لمن لا يديم الدرس»(2).
وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال في صفة العاقل الكامل: «لا يسأم من طلب العلم طول عمره»(3).
وكذلك من وصايا الخضر لموسى(عليهما السلام): «يا موسى: تفرغ للعلم ان كنت تريده فإن العلم لمن تفرغ له»(4).
إذا أمعنا النظر في تاريخ العلماء الذين استطاعوا أن يبلغوا درجة المرجعية الرفيعة لرأينا أنهم وصلوا بالعمل الدؤوب والجد المتواصل والتعب وتحمل المصاعب في سبيل تحصيل العلم فلا يمنعهم حرّ ولا يقيدهم برد أو مطر عن حيازته حتى إن بعضهم لم يسافر أبداً(5). من أجل الترفيه وصرف الوقت
ص: 463
بالاستجمام وطلب الراحة ولم يكن يخرج من البيت للنزهة وما أشبه بل كان مشغولاً بالدرس والتحصيل والبحث، وفي عمره كله ما سافر إلّا قليلاً إذ سافر مرة للحج وأخرى لإيران لمرضه وثالثة أيضاً لإيران مع المرحوم الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه) لغرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد البهلوي الأول.
قال النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر: «يا أبا ذر... الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى اللّه من قيام ألف ليلة يصلّى في كل ليلة ألف ركعة، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى اللّه من... قراءة القرآن كلّه»(1).
فالعالم وطالب العلم لا يوجد عنده مفهوم للليل والنهار بل عليه أن يستفيد من كل فرصة تسنح له من ليل أو نهار ومن سَفَر أو حضر وهكذا.
مرة إلتقيت بأحد العلماء الكبار والمهمين هو المرحوم الشيخ آغا بزرك الطهراني صاحب كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة.
إذ كانت في مدينة كربلاء المقدسة مدرسة تسمى بالمدرسة الهندية تحتوي على مكتبتين كبيرتين، وكان الشيخ آغا بزرك عندما يأتي من النجف إلى كربلاء المقدسة يقضي الليالي حتى الصباح في هاتين المكتبتين مشغولاً في تأليف كتاب الذريعة وهكذا كان حاله في سائر سفراته حتى تمكن من إتمام كتابه القيم.
أحد الملازمين للميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) قائد ثورة العشرين في
ص: 464
العراق المرحوم السيد عبد اللّه الشيرازي(رحمه اللّه)، يقول: كنت في أكثر الأوقات أجالس الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه) على مائدة الطعام ونأكل معاً فلم يحدث أبداً أن اشتكى من قلة الغذاء - بالرغم من قلته فعلاً - لأنه يجب أن لا تكون مسألة الغذاء أو سائر التجملات المعيشية والحياتية مؤثرة أوْ لها أهمية بالغة في حياة العالم أو طالب العلم، ولو أعار الميرزا محمد تقي الشيرازي أدنى أهمية لهذه المسائل لما كان ينال هذا المقام الشامخ في المرجعية الدينية وقيادة ثورة العشرين المظفرة! حتى أن المرحوم والدي(رحمه اللّه) كان يقول: لا أذكر أبداً أن الميرزا كان يأمر أحداً لتنفيذ أعماله الشخصية بل كان يقوم بكل شؤونه بنفسه.
سافر والدي(رحمه اللّه) بصحبة المرحوم الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه) إلى سامراء وقد كنت مع المرحوم الوالد حيث كنت صغير السن وفي الطريق عطبت السيارة ونزلنا جميعاً إلى حين يصلح السائق السيارة.
وفي أثناء ذلك الوقت القصير فرشتُ بطانية على جانب الطريق وجلس والدي(رحمه اللّه) مع آية اللّه الحاج حسين القمي(رحمه اللّه) مع الآخرين وانشغلوا بالبحث والمناقشة.
نعم الاستفادة حتى من هذه الدقائق القصيرة جعلتهما يصلان إلى ذلك المقام الرفيع من المرجعية والقيادة الدينية للمسلمين، وفي الحديث: «انتهزوا فرص الخير فإنها تمر مرّ السحاب»(1). فيجب على كل طالب علم أن يدرس ويطالع بدقة الكتب الأصولية والفقهية وغيرها، وحسب قول بعض العلماء فإنكتاب (الجواهر)، يحتوي على عشرات الآلاف من المسائل الفقهية فيلزم على
ص: 465
طالب العلم أن يرى ويطّلع على هذه المسائل حتى يستطيع أن يجيب على كل ما يسأل عنه عندما ينزل إلى ميدان المجتمع وهداية الناس.
وقد ذكر أحد العلماء بأنه قد راجع أحد الكتب الفقهية أربعين مرة، ولمرات عديدة ومع ذلك تعترضه مسائل جديدة لم يكن يطّلع عليها سابقاً.
والنقطة التي تجب الإشارة إليها هي أنه ليس من العيب أبداً على الفقية أن يقول لا أعلم أو لا أعرف في جواب من يسأله عن مسألة لا يعرفها، وفي الحديث: «قول لا أعلم نصف العلم»(1).
فعليه أن يراجعها حتى يحصل على حكمها الصحيح. ولقد حدث مرات أن سئل الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه) والسيد محسن الحكيم(رحمه اللّه) والمرحوم والدي(رحمه اللّه) والميرزا عبد الهادي الشيرازي(رحمه اللّه) بعض الأسئلة فكانوا يقولون لا نستحضر الأجوبة حالياً.
وهل أن المراجع الأبرار كعلي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي يعلم بما كان وما يكون؟
إنَّ هذا خاص بالإمام(عليه السلام) حيث يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني»(2). وهكذا الأنبياء والأئمّة الأطهار(عليهم السلام) فإن لهم علماً من عند اللّه، أما غيرهم فيداخلهم النسيان أو الغفلة وغير ذلك... فليس من النقص أن يقول العالم: لا أدري، بل إنّ النقص أن يفتي بغير علم فإنه محرم مضافاً إلى أنه قبيح ويكون من المهلكات. وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من اللّه لعنتهملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه» (3). وفي حديث
ص: 466
آخر قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار»(1).
على كل طالب علم أن يطلب العلم ويحصل علية في كلّ مجال من المجالات حتى يكون مطلعاً على الأمور وواعياً لكل المسائل، وإذا ترك طلب العلم وتحصيله فإنه سيبقى إلى نهاية العمر يراوح مكانه ولا يصل إلى أية درجة أو مقام إلهي وبالنتيجة سوف لا يستطيع أن يخدم المجتمع والإسلام كما ينبغي.
لإنه هل باستطاعة الجاهل أن يتسلم زمام الأمور أو يحل مشاكل الناس؟
ونحن نسأل كم من دروس السياسة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي والاجتماع والإدارة والتخطيط ونحوها من العلوم التي ترتبط بدنيا الناس تدرس في الحوزة؟
أو هل أُلِّف شيء من ذلك من قبل الفضلاء والعلماء في شؤون الإسلام؟
إن العلوم التي ترتبط بالدين ومفاهيمه تدرس بالحوزة العلمية المباركة ولكن هناك أمور أخرى يحتاج إليها الناس على الطالب أن يتعلمها كالسياسة والاقتصاد وغيرها، خاصة وقد وردت عشرات الروايات بل أكثر في هذه الشؤون ذكرتها كتب الحديث.
في العراق رأيت كتاباً حجمه ضعف حجم المنجد في اللغة والأعلام، قيل أن هذا الكتاب هو مادة السياسة الذي يدرس في جامعة بغداد ومن الواضح أن جامعاتنا لا تدرس مفاهيم الإسلام ومبادئه وآراءه وإنما تأخذ أكثر مفاهيمها من المبادئ الغربية والشرقية، وهذا أمر لا يعود سببه إلى الجامعات فقط بل يعودقسمٌ منه إلينا لأننا لم نسد الحاجة في ذلك ولم نبين وجهة نظر الإسلام الصحيحة تجاه المفاهيم والقضايا فإذا لم يدرس الطالب الكتب السياسية
ص: 467
وغيرها أو لم تكتب وتؤلف في الحوزات العلمية المباركة هذه العلوم فالنتيجة القهرية هي أن يبادر الغرب - بل بادر - بكتابة وتأليف الكتب السياسية وغيرها ويقحمها في جامعاتنا ومدارسنا لتسيطر على ثقافتنا وأفكارنا ويقتطعنا عن الثقافة الإسلامية والقوانين الإلهية الرفيعة.
كم كتبَ وألّفَ طُلّاب العلوم الدينية من الكتب في التاريخ الإسلامي؟
وما هي الحقائق التاريخية التي يجب على كل المسلمين أن يتعلموها ويدرسوها ويتعظوا بتجاربها لكي يتمكنوا من أن يتخلصوا من الأزمات التي تعصف بهم ويعيشوا عيشة عزيزة؟ وما هو سبب سقوط حكومتي بني أمية وبني العباس؟ ماذا كانت تفعل الحكومة العثمانية ولماذا آلت إلى السقوط؟ ولماذا سقط الصفويون؟ وكيف هجمت أفغانستان على إيران؟ ولماذا؟ وما هي الحكومات التي حكمت العالم الإسلامي على مَرّ التاريخ؟
هذه موارد وغيرها أيضاً تبحث في علم التاريخ ولكن ليس هناك كتب جامعة وصحيحة تجيب عن هذه الأسئلة إلّا القليل النادر وهذا نقص فادح! يعانيه المسلمون اليوم في تجاربهم المتكررة في الحياة السياسية والاجتماعية.
قيل إن في إحدى إذاعات العالم حوالي سبعين عالماً(1) متخصصاً في علم النفس وهؤلاء يقومون بصياغة الأخبار وما يلقى عبر الإذاعة بشكل يؤثر تأثيراًبالغاً في نفس المستمع، إن تلك الإذاعة معادية إلى الإسلام والمسلمين وهي تكذب بلا شك ولكنها تعرف كيف تصوغ كذبتها لذلك بقيت تلك الدولة ماضية
ص: 468
في وجودها على رغم كل الظلم والجرائم التي ترتكبها كل يوم باستمرار! لأنها تعرف كيف تؤثر في الناس وتنتشر بينهم وتغريهم بأفكارها وبرامجها المنحرفة.
ونحن تأخرنا عن ركب الحضارة بسبب افتقادنا لعلم النفس وسائر العلوم المهمة في برامجنا الحياتية والعلمية.
مما ينقل عن الملا أحمد النراقي(رحمه اللّه) انه عندما بدأ بدراسته العلوم الدينية كان يأخذ كل رسالة تصله ويجعلها في مكان خاص من دون أن يقرأها ليطّلع على محتواها، وذات يوم قال له أستاذه: لماذا لا تقرأ الرسائل التي تصلك؟
قال: لأني أقسمت أن لا أقرأ أية رسالة تصلني حتى لا أتأخر عن الدرس والتحصيل لأنني أعتقد بأنّ الدراسة واجب عيني!
قال الأستاذ: إن الرسالة الأخيرة تذكر بأن والدك مريض جداً فقال الملا أحمد: لأن إطاعة الأب واحترامه ضروري فإني أسافر إلى موطني حتى أطمأن على صحته وأحواله... ، لأن المطلوب من العالم أن ينكب على الدراسة والتدريس حتى يتمكن أن يقود الناس قيادة سليمة وصحيحة، ولو انشغل بالهوامش وجزئيات الحياة فإنها سوف تؤخره عن تقدمه لأن جزئيات الحياة ومشاكلها لا تنتهي أبداً... ، نعم يجب على الطالب أن يراعي الأهم عندما تداهمه مشكلة أو فراق عزيز أو غيره بين الاستمرار وتنظيم أوقاته وأعماله بشكل يتمكن على الأغلب من الجمع بين وظيفة تحصيل العلم ووظيفة المجتمع وحقوقه عليه في التحصيل أو ترك التحصيل مؤقتاً لحين ما تنقضي الأزمة لأنه كما أن العلم مطلوب منه فكذلكالجانب الإجتماعي والإنساني مطلوب منه أيضاً ولو تركه أدى ذلك إلى انعزاله عن الناس وفقدانه لأهم مهمة من مهماته في الحياة وهي هداية الناس وإرشادهم.
ص: 469
وينقل عن أحوال الشهيد الأول(رحمه اللّه) أنه كان مجداً في الدراسة إلى أبعد الحدود وكان يقضي أغلب الليل في المطالعة والدراسة، ولأجل أن لا يغلبه النعاس والنوم كان يجعل إلى جواره إناءً فيه ماء بارد وكان كلما شعر بتسلل النعاس إلى عينيه ادخل يده في الماء البارد ليبعد النعاس عن عينيه، ولذلك عندما سجنه حاكم الشام السني في الشام ألف كتاب اللمعة الدمشقية في سبعة أيام وهو في السجن بالرغم من صدور حكم الإعدام بحقه!
وبعد مدة أعدم شنقاً ثم رموا جسده الشريف بوابل من الحصى والحجارة، وبعد مدة انزلوا جثمانه الطاهر من أعواد المشنقة واحرقوه حتى أصبح رماداً فذروه في الهواء.
على طالب العلم عموماً أن يجعل ثمان ساعات فقط للأكل والنوم والصلاة ويخصص الست عشرة ساعة الباقية كلها في سبيل الدراسة فعند ذلك سيتمكن من الحصول على النتيجة المطلوبة في العلم والتحصيل ويكون قادراً على التأليف والقيام بالخدمات الدينية المهمة في المجتمع، وذلك لأن الشيعة في الوقت الحاضر وبالخصوص في السنوات المتأخرة من جهة تأليف الكتب بشكل عام في مقابل بعض الطوائف الأخرى في ضعف وإرباك وليس لهم نصيب يذكر في هذا المجال!
فمن باب المثال صمم أحد العلماء على القيام ببحث موضوعي حولالحكومة السياسية في الإسلام ولأنه كان بحاجة إلى بعض الكتب في هذا المجال طلب من بعض أصدقائه المطلعين أن يساعدوه في ذلك ويقوموا بتقصي
ص: 470
الكتب التي تبحث عن الحكومة الإسلامية في المكتبات العامة في ذلك البلد وبعد مدة عندما جاؤوا له بالكتب رأى ان أغلبها لغير الشيعة سوى بعض الكتب القليلة مثل (تنزيه الملة) للمرحوم الميرزا النائيني(رحمه اللّه) وأما باقي الكتب وهي في حدود المئة فكانت أغلبها لمؤلفين سُنة. وذلك لأننا لم نهتم بهذا الجانب كما هو المطلوب كاهتمامنا بباقي العلوم الأخرى مع أنه من أهم الأركان الحياتية التي تخص المسلمين خاصة في هذه العصور الأخيرة والتي جاءت مطالبها بكثرة في سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام). إذن على كلّ طالب علم أن يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه وأن يعطي الأهمية القصوى للدرس دون غيره من الأعذار ويتعب نفسه ويجتهد في هذا السبيل حتى أنّ بعض علمائنا الفقهاء كان يحفظ من الشعر ثمانية آلاف بيت من مختلف العلوم ومن ضمنها ألفية ابن مالك(1).
عقد مجلس في إحدى البلاد الإسلامية ودار الحديث فيه حول مواضيع شتى ثم استقر حول الشيخ نصير الدين الطوسي(رحمه اللّه) فقال أحد الحاضرين شيئاً عجيباً وهو أن الشيخ الطوسي(رحمه اللّه) طرح نظرية قبل حوالي سبعمائة عام استندت عليها أكثر النظريات الحديثة وعلى أساس نظرية الشيخ الطوسي استطاع روّاد الفضاءمن الصعود إلى القمر ووضع أقدامهم على سطحه.
ومما تنقله الكتب عن أحوال الشاعر الفارسي سعدي أنه قضى ثلاثين سنة من
ص: 471
شبابه في الدرس والبحث والتحصيل والمطالعة وبعد ذلك قضى ثلاثين عاماً أخرى في التجوال والسياحة والتطلع في بعض مناطق العالم، وكانت حصيلة ما قضاه ستين سنة في التجربة النظرية والعملية إلى أن كتب كتابين باسم (كلستان) و(بوستان) ومعنى الأول مشتل الأزهار والأوراد ومعنى الثاني البستان أو الحديقة الغنّاء بالأزهار والأريج وهو لحد الآن لم يفقد طراوته وقوته في التعبير والدلالة وهو من الكتب الحكيمة المهمة عند المفكرين في العالم. وما ذلك إلّا لتعبه ومواصلته في الكسب والتحصيل والإستطلاع على الحقائق.
السيد هبة الدين الشهرستاني(رحمه اللّه) يقول: إن أحد المفكرين الغربيين قال هذه الكلمات في حق الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام):
(لو بعث عليّ بن أبي طالب بعد ألف وأربعمائة عام واشتهر أنه سيلقي خطاباً في مسجد الكوفة فنحن الغربيين سنحضر جميعاً تحت منبره ونملأ المسجد بابناء ملتنا بما لا يبقى للمسلمين مكان في المسجد حتى لمسلم واحد، لأننا نحن الغربيين أعرف بشخصية علي بن أبي طالب من المسلمين لأنه أعطى أهمية عظمى للعلم والعلماء ونحن أعرف وأكثر تقديراً له من المسلمين)(1).
محتوى كتاب المغني(2)
على طالب العلم أن يدرس كتاب المغني بكامل أبوابه الثمانية حتى يصبح متكاملاً في هذا الجانب أما الذين يدرسون من هذا الكتاب باباً أو بابين فإنهم
ص: 472
على خطأ كبير في ذلك لأنّ كثيراً من المسائل والمطالب ستخفى عليهم وسيكونون في مقابلها عند مواجهتها مكتوفي الأيدي عن حلها أو دركها!
وقد ذكروا حول مؤلف هذا الكتاب أنه سئل لماذا جعلت الآيات القرآنية شواهد على مطالب المغني ولم تذكر مواطن الآيات وأرقامها في السور؟
فقال مستغرباً: وهل هناك من يقرأ المغني وهو غير حافظ للقرآن الكريم؟ وإني قد جعلت ثمانية أجزاء من القرآن في كتابي هذا!
فخلاصة الكلام أنه يجب الاستفادة من كل لحظة في تحصيل العلم وتعلمه من دون توقف أو التماس للأعذار وما أشبه حتى نتمكن من أن نبلغ مرتبة سامية في ذلك وبالتالي نحصل على توفيق خدمة الناس وهدايتهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم. «اللّهمّ ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النيّة وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة»(1).
نسأل اللّه تعالى أن يوفقننا لما يحب ويرضى في القول والعمل الصالح إنه سميع مجيب.
قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(2).
وقال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰئِكَ
ص: 473
كَانَ عَنْهُ مَسُْٔولًا}(1).
وقال عزّ وجلّ: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}(2).
قال جلّ شأنه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ}(3).
وقال عزّ اسمه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ}(4).
وقال جلّ وعلا: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}(5).
قال عزّ من قائل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(6).
وقال جلّ ثناؤه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(7).وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَٰنَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ
ص: 474
خُشُوعًا}(1).
وقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ألّا إنّ اللّه يحبّ بغاة العلم»(3).
وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «تفقهوا في الدين فإنه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي»(4).
وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا»(5).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألّا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال إنّ المال مقسوممضمون لكم قد قسمه عادل بينكم، وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله وقد أمرتم بطلبه من أهله فأطلبوه»(6).
ص: 475
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم قائد والعمل سائق والنفس حرون»(1)(2).
وعن الإمام الباقر(عليه السلام) عن أبي ذر قال: ... «إن قلباً ليس فيه شيء من العلم كالبيت الخراب الذي لا عامر له»(3).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن أُجِّلت في عمرك يومين فاجعل أحدهما لأدبك لتستعين به على يوم موتك»، فقيل له: وما تلك الاستعانة؟ قال: «تحسن تدبير ما تخلف وتحكمه»(4).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم يرفع الوضيع وتركه يضع الرفيع»(5).
وقال(عليه السلام): «لا كنز أنفع من العلم»(6).
ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإنّ أهل النار ليتأذون بريح العالم التارك لعلمه»(1).
وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل يا رسول اللّه وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم»(2).
وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «من تعلم علماً ليماري به السفهاء ويباهي به العلماء ويصرف به الناس إلى نفسه يقول: أنا رئيسكم فليتبوأ مقعده من النار، إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة»(3).
وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «انّي لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً فأمّا المؤمن فيحجزه إيمانه وأما المشرك فيقمعه كفره ولكن أتخوف عليكم منافقاً عليم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون»(4).
ص: 477
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قليل العلم خير من كثير العبادة»(1)، فهناك أبعاد ثلاثة ضرورية جداً بالنسبة لطالب العلم ومكملة لشخصيته العلمية والدينية في المجتمع:
وهو ضروري جداً لطالب العلم لأنه لا يستطيع أن يؤثر في الناس ويهديهم إلى سبيل الرشاد إلّا بواسطة العلم وكلما كان علمه أكثر وأعمق وأوسع في شموله لأبعاد الحياة الدينية والاجتماعية كان مدى تأثيره وهدايته أكثر فأكثر، وتحصيل العلم بحاجة إلى صرف كلّ العمر في هذا السبيل ولذلك فإنّ لسان حال العلم يقول لطالب العلم: (أعطني كُلَّك أعطك بعضي).
جواهر الكلام من الكتب الفقهية المشهورة وهو يعتبر من شمل الكتب الاستدلاليّة إذ أنّه يحتوي على عشرات لآلاف من الأحكام والقوانين الإسلامية المختلفة وربما لم يأت عالم من العلماء منذ زمان شيخ الطائفة إلى الفترة الأخيرة وقد تمكن أن يكتب دورة الفقه بشكل كامل ومفصل واستدلالي غير صاحب الجواهر.
وينقل في أحوال صاحب الجواهر أنه عندما بلغهُ خبر وفاة ولده جلس إلى
ص: 478
جوار جنازته وهو مستمر بتأليف كتاب الجواهر ودموعه تجري على خديه.
وهو مهم جداً لكل طالب علم، لأن أهم وظيفة يؤديها طالب العلم هو الإصلاح والإرشاد والتوجيه الاجتماعي، فيجب على طالب العلم مضافاً إلى تحصيل العلم الكثير أن يهتم بتربية المجتع بالطرق الصحيحة وبالأسلوب الذي طبقه الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تربية المجتمع. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) «ارحم من أهلك الصغير ووقّر منهم الكبير» (1).
وفي الحديث: «وأنزلهم جميعاً منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ»(2).
إن مكانة طالب العلم الناجح والمؤثر بين الناس تستلزم معايشتهم ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم بلا ترفع وانعزال وعلى قول الشاعر:
ولن تستطيع الحلم حتى تحلّماً(3)
وفي الرواية «الخلق عيال اللّه»(4). وبهذا المضمون يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «اجعل نفسك ميزاناً في ما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لها»(5)،
وهذه الصفة جاءت في الشريعة
ص: 479
الإسلامية باسم المواساة، وفي الواقعة المشهورة عندما ورد أبو الفضل العباس(عليه السلام) المشرعة وأراد أن يشرب الماء وضع يده تحت الماء ورفعها ليشرب تذكر عطش أخيه الحسين(عليه السلام) والأطفال والعيال فرمى الماء من يديه ولم يشرب(1) مواساة لأخيه بالرغم من عطشه الشديد، ولو شرب العباس(عليه السلام) الماء لما كان مرتكباً للحرام بالرغم من قرب شهادته وتحيته الكبيرة في سبيل دينه وإمامه ومبدئه فهذه مواساة الأخ لأخيه وسائر العطاشى في رمضاء كربلاء تحت وهج الشمس في هاجرة العاشر من المحرم بل إنه(عليه السلام) وفضلاً عن مواساته لأخيه الحسين(عليه السلام) خاطب نفسه قائلاً:
يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين شارب المنون *** وتشربين بارد المعين
واللّه ما هذا فعال ديني *** ولا فعال صادق اليقين(2)
يقول الراوي دخلت على الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) فرأيته وعلى كتفه عباءة خلقه ومرقعة فقلت يا ابن رسول اللّه ما هذه العباءة المرقعة؟
فقال(عليه السلام):
ان بين المسلمين كثيراً ممن لا يجد حتى مثل هذه العباءة(3). فالدنيا ليس لهاأية قيمة أبداً إلى درجة أنه ورد في بعض الروايات أنها لا تساوي حتى جناحي بعوضة.
ص: 480
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لو عدلت الدنيا عند اللّه عزّ وجلّ جناح بعوضة لما سقى الكافر منها شربة»(1).
وقيل أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مرّ على سخيلة منبوذة على ظهر الطريق فقال: «والذي نفسي بيده للدنيا أهون على اللّه من هذا الجدي على أهله»(2).
كما ورد في تاريخ النبي يوسف(عليه السلام) إنه عندما كان ملكاً لمصر وكانت كلّ الخزائن تحت تصرفه بحيث أنه أنقذ شعب مصر من قحط سبع سنوات، وكان يوسف(عليه السلام) في فترة سلطانه ضعيفاً جداً، فجاء الأطباء عنده وسألوه عن سبب ذلك، فقال(عليه السلام): عندي ألم خفي!
قالوا: أخبرنا عنه لعلنا نستطيع علاجه.
قال(عليه السلام): إنّ نفسي تأمرني كلّ يوم أن أشبعها وأنا أبقي عليها جائعة دائماً!
قالوا: فكم سنة أنت تأكل دون الشبع؟
قال(عليه السلام) سبع سنوات!
قالوا: لماذا لا تأكل حتى الشبع؟
قال(عليه السلام) إني أخاف يوم القيامة أن يقول لي اللّه تعالى يا يوسف لماذا نمت وأنت شبعان ورعاياك من الناس ينامون جياعاً؟ فكيف يكون جوابي؟
من الصفات المهمة أيضاً التي يجب على كلّ طالب علم أن يتحلى بها هي التقوى على سبيل الملكة والتطبع وكذلك العيش البسيط السهل وعدم الاعتناء
ص: 481
بالدنيا وزخرفها وبهرجها وبريقها والشاعر الفارسي سعدي قال في هذا المجال:(1).
لو علمت لذة ترك اللذة لما حسبت الشهوات لذة، وإذا فتحت لنفسك باباً إلى السماء أغلقت ألف باب من الناس على نفسك [فلا تحتاج إليهم].
الملّا حسين قلي(رحمه اللّه) هو أحد الأساتذه المهمّين وكان زاهد عصره، تلاميذه ينقلون في أحواله بأنه كان في النجف الأشرف شخص من الأشرار الأشقياء في أول الأمر اسمه (عبد فرّار) وكان الجميع يخافون منه خوفاً شديداً، وكان أوجب على الجميع أن يحترموه ويقدروه عندما يمرون عليه وإذا مرّ هو من مكان فيجب على الجالسين أن يقوموا احتراماً له.
وفي ذات يوم دخل عبد فرّار الصحن الشريف للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فقام له كلّ من كان في الصحن خوفاً منه، وكان في الصحن أيضاً الملّا حسين قلي فلم يقم له ولم يعتنِ به أو يأبه له، فأثار ذلك كبرياء عبد فرّار وخاطب الملّا حسين قلي، ألم تعرف بأني عبد فرّار؟
فلماذا لم تقف احتراماً لي؟
فقال الملّا حسين قلي: إذا كنت عبد فرّار فممّن فررت؟
أمن اللّه فررت أم من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أم من علي بن أبي طالب(عليه السلام)؟
فنزل هذا الكلام على قلب عبد فرّار كالصاعقة وظل باهتاً لا يدري ما يقول أو
ص: 482
يجيب وأقفل مسرعاً إلى البيت.
وفي اليوم التالي عندما كان الملاّ حسين قلي مشغولاً بالتدريس بلغهُ خبر وفاة عبد فرّار فعطّل الملّا درسه على أثر ذلك وقال لتلامذته هلمّوا بنا لنشيع جنازة أحد أولياء اللّه، ثم توجهوا إلى بيت عبد فرّار وعندما وصلوا هناك تعجب الناس من أنه كيف يأتي الآخوند الملّا حسين قلي لتشييع جنازة عبد فرّار ثم تقدم الملّا حسين وسأل زوجة عبد فرّار عن كيفية وفاته فقالت: أمس بعد الظهر جاء عبد فرّار البيت ولكن ليس كعادته بل كان كالأفراد الذين أصابهم مس من الجنون وهو غائب عمّا حوله ولم يلتفت إلى شيء ومنذ ذلك الحين وإلى صباح هذا اليوم كان يبكي بكاء الثكلى وعندما أصبح مات فجأة، فالتفت الملّا حسين إلى تلامذته وقال هنيئاً لعبد فرّار إنه طوى المسيرة التي يجب أن نقضيها طول حياتنا بليلة واحدة!
فهذا هو التأثير الذي يوقعه الأفراد الزاهدون في الدنيا في الآخرين إذا كانوا من أهل العمل والصدق والإخلاص.
إنّ هؤلاء الزهّاد التاركين للدنياهم وحدهم الذين يستطيعون أن يؤثّروا في الناس ويرشدوهم إلى طريق الخير والهداية أكثر من أولئك المتعلقين بالدنيا والمؤثرين لها على كل شيء فالمعنويات والفضائل والأخلاق هي التي تصنع الإنسان وتمنحه الحرية والرفعة والسمو وتزيل الرين عن القلوب الجافية.
الشيخ جعفر الشوشتري(رحمه اللّه) هو أحد العلماء والخطباء البارزين في عصره وكان قمة في الزهد والتقوى، في أحد الأيام جاءه شخص كان مملوكاً لأحد المسلمين وطلب منه أن يتكلم على المنبر حول تحرير العبيد وعتقهم والثواب
ص: 483
الجزيل الذي خصصه اللّه تعالى للمالك الذي يعتق عبده وأثره الحسن في يوم القيامة وذلك حتى يسمع سيده ومالكه هذا الكلام عسى أن يتشوق إلى الثواب أو يرق لحاله ويعتقه، فقال الشيخ جعفر الشوشتري(رحمه اللّه) لا بأس سأتكلم حول ذلك إن شاء اللّه.
ثم مضت على المحادثة عدة شهور ولم يحدث أن تكلم الشيخ جعفر حول العتق وثوابه، والعبد ينتظر ذلك على أحرّ من الجمر، حتى كانت ليلة من الليالي وإذا بالشيخ جعفر يخصص مجلساً كاملاً للحديث حول تحرير العبيد وعتقهم في الإسلام وثواب ذلك وأثره النفسي الإيجابي في نفوس العبيد وفي المجتمع، فأثّر ذلك الكلام تأثيراً بالغاً في نفس مولى ذلك العبد ممّا سبب أن يعتقه، ثم أن العبد الذي حرّر بقي متعجباً من تأخير الشيخ جعفر حديثه عن هذا الموضوع مما جعله يذهب إلى الشيخ ويسأله عن سبب هذا التأخير المثير للعجب والاستغراب... فقال الشيخ جعفر عندما طلبت مني أن أتكلم حول موضوع العتق آنذاك لم يكن لديَّ شيء من المال حتى اشتري عبداً وأعتقه حتى يؤثر حديثي في مولاك، لذلك بدأت بجمع المال إلى أن تمكنت من جمع مقدارٍ اشتريت به عبداً وأمس أعتقت ذلك العبد الذي اشتريته فصرت بذلك فاعلاً للخير ومترجماً ومتعطفاً على الغير فجعل اللّه تعالى التأثير في كلامي على قلوب المستمعين حتى يعتقوا عبيدهم وكنت أنت أحد المصاديق في ذلك.
قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «زيادة الفعل على القول أحسن فضيلة...»(1).
ثم إننا إذا أردنا أن نهدي الناس ونرشدهم إلى الصراط المستقيم فعلينا أن نبادر نحن أولاً إلى تحقيق هذه الأبعاد الثلاثة في نفوسنا ونبدأ بفعل الخير وعمل
ص: 484
الصلاح ونزهد في الدنيا حتى يكون كلامنا مؤثراً ومرشداً لهم إلى الطريق الصحيح في الحياة.
قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).
وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(2).
وقال عزّ وجلّ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}(3).
وقال جلّ شأنه: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ}(4).
قال عزّ اسمه: {قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}(5).
وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(6).وقال عزّ من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَٰنَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}(7).
ص: 485
عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «رأس الفضائل العلم، غاية الفضائل العلم»(1).
وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم ضالة المؤمن»(2).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كلّ وعاء يضيق بما جعل فيه إلّا وعاء العلم فإنّه يتسع به»(3).
وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قلب ليس فيه شيء من الحكمة كبيتٍ خرب، فتعلّموا وعلّموا وتفقّهوا ولا تموتوا جهالاً فإن اللّه لا يعذر على الجهل»(4).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العلم رأس الخير كلّه والجهل رأس الشر كله»(5).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن العلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى وقوة الأبدان من الضعف»(6).وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل»(7).
وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العالم بين الجهال كالحي بين الأموات»(8).
ص: 486
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فضل العلم أحب إلى اللّه عزّ وجلّ من فضل العبادة»(1).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «تذكر العلم ساعة خير من قيام ليلة»(2).
وقال(عليه السلام): «عالم ينتفع بعلمه أفضل من عبادة سبعين ألف عابد»(3).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنّ فضل العالم على العابد كفضل الشمس على الكواكب وفضل العابد على غير العابد كفضل القمر على الكواكب»(4).
وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ركعتان يصليها العالم أفضل من ألف ركعة يصليها العابد»(5).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عالم أفضل من ألف عابد وألف زاهد»(6).
وعن الإمام الرضا(عليه السلام): «يقال للعابد يوم القيامة: نِعم الرجل كنت، همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤونتك فادخل الجنة ألّا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم... ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد،الهادي لضعفاء محبيه ومواليه، قف حتى تشفع لمن أخذ عنك أو تعلم منك»(7).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ركعتان من عالم خير من سبعين ركعة من جاهل لأن العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه وتأتي الجاهل فتنسفه نسفاً»(8).
ص: 487
وقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «النظر في وجوه العلماء عبادة».
وسئل الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) عنه فقال: «هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكرّك الآخرة ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة»(1).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أُطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كلّ مسلم»(2).
وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج»(3).
وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «كان في ما وعظ لقمان ابنه أنه قال له: يا بني اجعل من أيامك ولياليك وساعاتك نصيباً لك من طلب العلم فإنك لن تجد له تضييعاً مثل تركه»(4).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»(5).
قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طالب العلم بين الجهال كالحي بين الأموات»(6).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من عبد يغدو في طلب العلم ويروح إلّا خاض
ص: 488
من الرحمة خوضاً»(1).
وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك اللّه به طريقاً إلى الجنة»(2).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل اللّه»(3).
وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «طالب العلم يستغفر له كلّ شيء حتّى الحيتان في البحار والطير في جو السماء»(4).
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «طلبة العلم على ثلاثة أصناف ألّا فاعرفوهم بصفاتهم وأعيانهم: فصنف منهم يتعلمون للمراء والجهل وصنف منهم يتعلمون للاستطالة والختل وصنف منهم يتعلمون للفقه والعقل.
فصاحب المراء والجهل تراه مؤذياً ممارياً للرجال في أندية المقال قدتسربل بالخشوع وتخلّى من الورع فدقّ اللّه من هذا حيزومه(5) وقطع منه خيشومه.
وصاحب الاستطالة والختل فإنه يستطيل به على أمثاله من أشكاله ويتواضع للأغنياء من دونهم فهو لحلوائهم هاضم ولدينه حاطم فأعمى اللّه من هذا بصره وقطع من آثار العلماء أثره.
ص: 489
وأما صاحب الفقه والعقل فإنك فتراه ذا كآبة وحزن قد قام الليل في حِنْدِسه(1) وانحنى في بُرْنُسه(2) يعمل ويخشى خائفاً وجلاً من كلّ أحد إلّا من كلّ ثقة من إخوانه فشد اللّه من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه»(3).
ص: 490
قال اللّه سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1).
جاءت الآية الكريمة على صورة الاستفهام، وذلك لأن الاستفهام يعتبر من أقوى المحركات المثيرة للمشاعر، فمن باب المثال يقول الأب لابنه الذي صدر منه عمل غير صحيح: هل هذا العمل الذي صدر منك صحيح؟
وذلك في صيغة الاستفهام فهو يعنفه بهذا الاستفهام لأنه أكثر وقعاً في النفس من نفس التعنيف، وهذا الأسلوب البليغ في أداء المعاني والمفاهيم على تمامها، مستعمل كثيراً في القرآن وكذا في الأحاديث الشريفة وأيضاً يستعمل في الشعر فضلاً عن النثر. فهذه الآية الشريفة تبين فضل التعلم بصورة الاستفهام وتقول أيها الناس أنتم احكموا واقضوا هل يستوي العالم مع الجاهل؟
في الوقت الحاضر أصبحت بعض العلوم في متناول الكثير ممن باستطاعته تعلمها ودراستها بدون مانع إلّا بعض العلوم النادرة التي نهى عنها الشارع(2). وفي الرواية عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «قيمة كلّ امرىءٍ ما يحسنه»(3).
حديثنا في هذه الصفحات بعد أن قدمنا تلك المقدمة الصغيرة المختصرة
ص: 491
سيدور حول أهم شرط من الشروط التي يجب أن تتوفر في أهل العلم وطلابه، لأن على طالب العلم أن تتوفر فيه ستة شروط لكي تكتمل شخصيته العلمية والتوجيهية بين الناس بحيث إذا افتقد واحدة أو أكثر منها فإنه يلزم عليه أن يسعى لإيجادها وتحقيقها في نفسه حتى يتمكن من أن يقود المجتمع والناس إلى ما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم.
التقوى، والأخلاق الحميدة وقوة القلم، والبيان والسعي الجاد من أجل تأسيس المؤسسات وإقامة المشاريع الاجتماعية والخدمية للأمة وهذه الشروط ليست محل بحثنا اليوم وإنما كلامنا نحصره في الشرط السادس وهو العلم.
ونرجئ الكلام في الشروط الخمسة الأخرى إلى وقت آخر إن شاء اللّه تعالى.
والعلم يشمل الدراسة والتدريس والمطالعة والحفظ وكل ما يتعلق بذلك من أمور...
ولكي يصل الطالب إلى مرتبة العلم والعلماء يشترط فيه المواصلة والاستمرارية وبذل الوسع في التحصيل.
كما قال النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»(1). وقول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من المهد» ليس لغواً فإنّ جميع كلمات أهل البيت(عليهم السلام) تشتمل على معانٍ بلاغية عالية ومفيدة، وحديثاً اكتشف العلماء هذا الأمر بعدما أشار إليه الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل ألف واربعمائة سنة بأن ذهن الطفل الوليد كآلة التسجيل أو شريط التسجيل الذي يلتقط كل شيء يمر على ذهنه فإذا وضعت
ص: 492
إلى جانب مهد الطفل تلاوة القرآن فستنطبع الكلمات القرآنية الشريفة في ذهنه وتؤثر على روحه وقلبه تأثيراً إيجابياً... وفي نفس الوقت إذا وصلت إلى سمعه ألفاظ قبيحة تعافها الأخلاق الفاضلة فأيضاً ستنطبع في ذهنه وتؤثر عليه سلباً. لذلك فإن الإنسان الذي ترى أخلاقه سيئة وقبيحة ليست دائماً تكون بسبب الانحلال الخُلقي الذي شاهده في الأسرة أو المجتمع أو اكتسبه من الأصدقاء وإنما قد يكون اكتسبها وهو صغير في المهد.
ومن هنا جاء في الحكمة عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»(1).
العلامة الحلي(رحمه اللّه) يُعدّ أحد أكبر المجتهدين في عصره، وقد نشأ هذا العالم الكبير في جو عائلي ملؤهُ العلم والفضيلة حيث كان أبوه عالماً كبيراً وكذلك أمّه، فكان أبوه عندما يريد أن يدرّس يطلب ابنه العلامة وهو طفل صغير في المهد فيضعه إلى جواره ويقول إن الكلام العلمي يؤثر في ذهن الرضيع، لذلك أصبح ابنه بعد سنين طويلة من علماء الشيعة المهمّين الكبار، فالطفل الذي منذ نعومة أظفاره لا يتعامل معه إلّا بأخلاق طيبة ولا يسمع إلّا كلاماً جميلاً يكون هذا الكلام الحسن بمثابة البذرة الصالحة تنبت في نفسه وتعطي أكلها بعد حين طيباً صالحاً وناضجاً.
إن جسم الإنسان لا قيمة أساسية له وإنما القيمة التي تعطى للإنسان إنما هي لما يحمله من روح عالية، لأن الجسم عبارة عن لحم وعظم وما أشبه قد صيغا بهذا الشكل المألوف ثم أودع في هذا الجسم الروح الإنسانية كما يقول اللّه
ص: 493
تعالى في القرآن: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}(1).
خصوصاً وإن هذه الروح إلى حد اليوم لم تعرف ولم يستطع علماء الشرق والغرب فهم كنهها وماهيتها.
أما عبارة «إلى اللحد» التي جائت في الرواية فتعني أن الإنسان حتى عند القبر يمتلك قدرة الإدراك والحس والشعور ولذا ورد في بعض الروايات بتلقين الميت عندما يوضع في القبر، حيث إن إحدى فوائد التلقين كما في بعض الروايات هي أن نكيراً ومنكراً لا يأتيان إلى الميت الذي قد لُقّن(2).
و«اطلبوا العلم» صيغة أمر فيها معنى الاستمرار والدوام أي على كل حالٍ يجب أن لا يكون للزمان والمكان مدخلٌ في التأثير سلباً على تحصيل العلم وتعلمه، وإنما طلب العلم وتحصيله واجب وضروري دائماً وأبداً في كل زمان ومكان.
الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه) وهو أحد الفقهاء المراجع الذي توفي(3). قبل أربعين سنة تقريباً وكان معاصراً لزمان البهلوي الأول، وعلى أثر حادثة مشهد الأليمة أبعده بهلوي الأول إلى العراق وأقام في مدينة كربلاء المقدسة وكذلك النجف الأشرف حتى وافاه الأجل ودفن في النجف الأشرف، وقد كان الحاج حسين القمي(رحمه اللّه) يتابع الدرس والبحث حتى في ليالي القدر من شهر رمضان التي من المستحب المؤكد إحياؤها بالدعاء والأذكار والصلوات الخاصة، وكان
ص: 494
يقول طلب العلم وتعلمه أفضل من أية عبادة أخرى.
يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «نَفسُ المرء خُطاه إلى أجِله»(1). يعني إن كل نفس يتنفّسه الإنسان يقدمه ويقربه إلى الموت خطوة وهكذا، فعلى طالب العلم أن لا يهدر ولا يفرط حتى بالدقيقة الواحدة كما كان علماؤنا الكبار (قدس اللّه أسرارهم) يفعلون ذلك أمثال العلامة الحلي(رحمه اللّه) الذي كان يؤلف ويكتب وهو راكبٌ على دابته في طريقه إلى كربلاء المقدسة أو في أسفاره الأخرى. هذا فضلاً عن كتبه الكثيرة والعديدة التي كتبها، ويعد كتابه (تذكرة الفقهاء) من الكتب المهمة والأساسية التي يستفيد منها ويعتمد عليها الفقهاء إلى يومنا هذا ويشتمل على مسائل حسابية ورياضية معقدة لم يستطع حلّها حتى بعض أساتذة الجامعة، وذلك لأن بعض مباحث الفقه بحاجة إلى الحساب والهندسة وعلم الفلك، مثل تعيين جهة القبلة والبيع والإرث والقضاء والديات وغيرها.
وينقل في سيرة العلامة الحلي(رحمه اللّه) أنه قد ألّف (حوالي ألف كتاب) وكان يلقم لقيمات الغذاء لأنه لم يكن له الوقت الكافي لتناول الطعام لانشغاله في التأليف، واليوم وقد مضى على وفاة العلامة حوالي (سبعمائة سنة) واسمه مازال حياً في الحوزات والجامعات والمحافل العلمية تتناقله الألسنة وكتبه مورداً ومصدراً يرجع إليها الجميع.
كما ينقل عن حياة اديسون الذي اكتشف الكهرباء أنه كان لا يخرج من غرفته لأيام وأيام فيظل منهمكاً في التحقيق والاكتشاف وما كان يهتم بأكله وطعامه وإنما كان يكتفي في بعض الأحيان بكسيرات من الخبز اليابس وعلى أثر هذا
ص: 495
التحقيق المتواصل والتفكير الدؤوب والتجارب المستمرة استطاع أن يسجل ما يقارب ثلاثمائة اكتشاف باسمه، ولحد الآن وفي يوم وفاته تقطع بعض دول العالم الكهرباء لمدة دقيقة واحدة احتراماً وتقديراً له.
ومن هنا جاء في الحكمة عن لسان العلم أنه يقول لطالبه: (أعطني كلّك أُعطِك بعضي).
فعلى طالب العلم أن يجد ويجتهد بعزم وتصميم في إتقان الدروس العلمية والدينية من أول المقدمات إلى آخر الكفاية، أما ما يقوله البعض من عدم وجود الفائدة الكبيرة في دراسة بعض الكتب الحوزوية كدراسة كتاب المطول - في البيان والمعاني - والقوانين - في الأصول وشرائع الإسلام - في الفقه - بعلة أنها أصبحت قديمة وأن أكثر مبانيها أصبحت باطلة فذلك غير سديد وذلك لأن باقي الدروس العلمية المهمة في الحوزات تعتمد على هذه الكتب اعتماداً مباشراً وكبيراً وما لم يعرف الطالب المباني الأساسية التي ذكرت في هذه الكتب سوف يصعب عليه فهم المطالب اللاحقة التي سوف يواجهها في الكتب الأخرى.
كما يجب على طالب العلم أن يتعلم ويدرس - تحقيقاً - علوم القرآن الكريم ونهج البلاغة والصحيفة السجادية، لأنها تحتوي على بحر زاخر من العلوم الطبيعية والإنسانية والأخلاقية والفكرية التي تمس حياة الإنسان الفردية والاجتماعية وتعالج الكثير من مشكلاته الحيوية المختلفة...
هذا مضافاً إلى ترويج درس العقائد في الحوزات العلمية، حتى نحصل على قدرة كافية لرد وتفنيد المذاهب والعقائد الباطلة والمزيفة كالمسيحية واليهودية والبوذية وغيرها كالوهابية والشيوعية وباقي المذاهب الأخرى التي تسعى بكل
ص: 496
جهدها من أجل تحطيم الإسلام وتشويه مبادئه وأفكاره.
يعد الشيخ محمد جواد البلاغي(رحمه اللّه) من العلماء الزهاد الذين خدَموا الإسلام خدمة عظيمة بأفكارهم النيرة وأقلامهم القوية وله كتب كثيرة مثل كتاب: (الرحلة المدرسية والمدرسة السياره ونهج الهدى) وغيرها(1).
ينقل عن أحواله بأنه عندما كان يدرس في مدينة سامراء كان يعطي نصف راتبه الشهري - وكان قليلاً جداً - لأحد اليهود مقابل تعليمه اللغة العبرية وذلك لكي يتمكن من أن يدرس ويبحث في التوراة ليستخرج منه مواطن الانحراف والزيف ويكشف مساوءها ويبيّنها للناس ولذلك عندما تُوفي الشيخ البلاغي احتفلت الكنائس والبيع في لندن وكانوا يعللون ذلك ويقولون بأنهم تخلصوا من العالم المسلم الشيعي الوحيد الذي كان بإمكانه تفنيد عقائدنا وإبطال مذاهبنا.
وكذلك كان للشيخ البلاغي(رحمه اللّه) كتب تحقيقية وعلمية مهمة أخرى في ردّ سائر الأديان المحرفة وهي مورد استفادة الجميع إلى اليوم، حتى أن بعض أساتذة جامعات العراق عندما كانت تواجههم مسألة عويصة في هذه المجالات كانوا يجدون حلّها عنده(رحمه اللّه).
لأنه كان قد أتعب نفسه وبحث كثيراً ودقق ملياً وحقق حتى وصل إلى هذه المرتبة العالية من العلم والفضيلة.
ونحن لكي نتمكن من إيصال صوت الإسلام إلى أسماع العالم ونقف بقوةالفكر والمنطق والكلمة الحرة أمام الهجمات القوية والشرسة التي يتعرض لها
ص: 497
الإسلام اليوم يجب علينا كطلبة للعلوم الدينية أن نبذل أقصى جهدنا ونصرف أغلب أوقاتنا وأعمارنا في سبيل العلم والتحصيل والتحقيق دون ملل أو كسل حتى نستطيع أن نحصن ديننا من التشويه ومجتمعاتنا من الانحراف وسيطرة الأجانب علينا.
اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النيّة، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والإستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة... وتفضّل... على المتعلّمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة»(1).
قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ}(2).
وقال سبحانه: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(3).
وقال عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(4).
وقال جلّ وعلا: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ}(5).
ص: 498
وقال عزّ اسمه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(1).
وقال جلّ شأنه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).
وقال عزّ من قائل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(3).
قال جلّ ثناؤه: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(4).
وقال تعالى: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(5).
وقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}(6).
وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(7).
وقال جلّ شأنه: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَمِنَ الْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ
ص: 499
صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).
عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كلِّ مسلمٍ ومسلمة»(2).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل اللّه»(3).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج»(4).
وعن الإمام الباقر(عليه السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «اغدُ عالماً أو متعلماً وإياك أن تكون لاهياً متلذذاً»(5).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم ضالة المؤمن»(6).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «تذكر العلم ساعة خير من قيام ليلة»(7).
وعن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «ما من عبدٍ يغدو في طلب العلم أو يروح إلّا خاض الرحمة وهتفت به الملائكة مرحباً بزائر اللّه وسلك من الجنّة مثل ذلك المسلك»(8).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الناس اثنان: عالمٌ ومتعلم وسائر الناس همج
ص: 500
والهمج في النار»(1).
عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «تعلموا العلمَ فإنّ تعلّمه حسنةٌ ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة... وهو أنيس في الوحشة وصاحبٌ في الوحدة وسلاح على الأعداء وزين الأخلّاء، يرفع اللّه به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم... لأن العلم حياة القلوب... وقوة الأبدان من الضعف... بالعلم يطاع اللّه ويعبد»(2).
وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربعة تلزم كلّ ذي حجى وعقلٍ من أمّتي» قيل: يا رسول اللّه ما هنَّ؟ قال: «استماع العلم وحفظه ونشره والعملُ به»(3).
وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما أخذ اللّه ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم حتى أخذ ميثاقاً من أهل العلم ببيان العلم للجهال لأن العلم قبل الجهل»(4).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن الذي تعلّم العلم منكم له مثل أجر الذي يعلمه وله الفضل عليه، تعلموا العلم من حملة العلم وعلّموه إخوانكم كما علمكُم العلماء»(5).
وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «لكل شيء زكاة وزكاة العلم أن يعلّمه أهله»(6).
ص: 501
من وصايا أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه الحسن(عليه السلام): «... وأن أبتدئك بتعليم كتاب اللّه عزّ وجلّ وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه لا أجاوز ذلك بك إلى غيره»(1).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام): لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شرّقا وغرّبا لن تجدا علماً صحيحاً إلّا شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت»(2).
ص: 502
العراق بعد حزب البعث، العراق بعد التغيير(1)
قال اللّه تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(2).
إلى إخواننا العراقيين الأعزاء في شتى أنحاء العالم.
السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
لا يخفى عليكم أن العراق معروف بالتبدل، والأوضاع الأخيرة في عراقنا الجريح توعز إلى أن الغرب يريد تبديل النظام الحاكم في العراق إلى نظام آخر، فصدام كان عبداً لهم وهم الذين جاؤوا به واليوم يريدون تبديله بعميل آخر، إذ أن هذه سنتهم ودأبهم في إدارة سياسة العراق.
فعندما كنا في العراق(3) وفي بداية مجيء البعثيين إلى الحكم قال وزير الداخلية (علي صالح السعدي): جئنا إلى العراق بقطار أنكلوا أمريكي، وإثر سماعي لكلامه قلت لمن كان حولي من الأصدقاء: إنه لم يذكر الحقيقة بكاملها، وأردفت معلقاً على كلامه فقلت: بل أنهم جاؤوا بقطار أنكلوا أمريكي
ص: 503
إسرائيلي.
ففي الواقع أن صدام ليس إلّا عبداً للغرب جاؤوا به لأمرين:
الأول: إذلال العراقيين لأنهم حاربوا بريطانيا في ثورة العشرين المعروفة.
الثاني: الاستيلاء على خيرات العراق.
فقد كان أحمد حسن البكر هو الحاكم سابقاً، ثم جاء صدام، وفي المستقبل غير معلوم من سيكون حاكماً على العراق.
وعلى كل حال، فالغرب - كما تدل القرائن الكثيرة - يريد تبديل النظام الحاكم في العراق إذ أن عمالة صدام أصبحت معروفة عند الجميع وهم يريدون وجوهاً غير معروفة.
فإذا حصل التغيير، فاللازم تطبيق خمسة أمور في العراق وإلّا سيبقى العراق كما كان عليه، يتحكم بمصيره الظلمة والطغاة من عملاء الغرب.
أما الأمور الخمسة فهي:
الأول: حكم الإسلام، والمراد بذلك أن تكون القوانين الإسلامية هي الحاكمة والسائدة في العراق، كما كان ذلك محققاً قبل نحو ستين عاماً تقريباً - ولو نسبياً - فقد شاهدت شخصياً بعض تلك القوانين الإسلامية كقانون إحياء الأرض المستفاد من قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الأرض للّه ولمن عَمَرَها»(1).
وهذا القانون ليس من عند البشر بل هو قانون إلهي، وطلبة العلوم الدينية يقرأونه في الكتب الفقهية كالشرائع، وشرح اللمعة، والحدائق، والجواهر،
ص: 504
ومصباح الفقيه وغيرها من كتب الفقه الأخرى التي تنص على هذا القانون.
وكما جاء في التاريخ الصحيح أن في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان كل شيء مباحاً، الماء، المعادن، الأرض، وغيرها.
والملفت للانتباه أنه قبل مجيء الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن هذا القانون، بل كانت الأرض كما نحن عليه اليوم، ملكاً لأفراد معينين، ولكن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ارتقى المنبر ذات يوم وخطب في الناس قائلاً: «الأرض للّه ولمن عمرها» وأضاف إليه: «ثم إنها مني إليكم أيها المسلمون...»(1).
والناس عندما سمعوا ذلك غمرهم السرور بهذا القانون، فأخذوا يعمّرون أطراف المدينة المنورة، فكل منهم جعل يحيي قسماً من الأرض، فهذا صنع داراً، وذاك أحيى لنفسه بستاناً، والآخر أعدّ لنفسه رحىً، وغير ذلك، حتى عمرت أطراف المدينة المنورة.
نعم، يلزم أن يعود هذا القانون إلى العراق، وإنّني أتذكر جيداً التطبيق النسبي لهذا القانون قبل نحو ستين عاماً في العراق(2).
وكان هذا القانون موجوداً سابقاً في إيران والعراق، وقد ألغاه البهلوي الأول في إيران، ثم فعلوا نفس ذلك تماماً قبل نحو خمسين عاماً تقريباً في العراق.
ومن آثار هذا القانون الإسلامي هو ما شاهدته شخصياً عبر القصة التالية:
فقد دعاني في تلك الأيام شيخ جليل أسمه (الشيخ فرج) إلى منزله للمشاركة في مجلس العزاء الذي عقده آنذاك، وقد كان منزله كبيراً ربما بلغت مساحته
ص: 505
800 متر، وأتذكر أنّني سألته آنذاك قائلاً: كم كلفك بناء هذا المنزل؟
فقال: 800 فلس: أي ما يعادل قيمته الشرائية آنذاك 800 قرص من الخبز، إذ أن قرص الخبز كان حينذاك يُباع بفلس واحد، ولما سألته كيف يمكن ذلك؟
أجاب: لأن الأرض أخذتها مجاناً، فقلت له: إذا كانت الأرض مجانية فلماذا الثمانمائة فلس؟
فأجاب: لقد أعددت شخصياً اللِبن وأعطيت للبنّاء حتى يرصف هذا اللِبن.
هكذا كان عراقنا، فالمنزل الكامل البالغ 800 متر قيمته ثمانمائة فلس، ولذا كان الجميع يمتلكون البيت.
وهناك قصة أخرى تدل على نفس المطلب، وهي: أن أحد أصدقائنا الفضلاء وهو المرحوم الشيخ إبراهيم الحائري(رحمه اللّه)(1) شيّد منزلاً كاملاً بنفسه ودون مساعدة أي شخص آخر، وقد دعاني شخصياً مع سماحة الأخ السيد صادق(2) إلى منزله، فذهبنا آنذاك فشاهدت جدار داره غير مستقيم، وحينما سألته عن ذلك أجاب قائلاً: أنا لا أجيد البناء وإنما شيّدت هذا المنزل بنفسي... هكذا كانت الأرض للّه ولمن عمرها.
أما الآن فأكثر الشباب لما نسألهم: هل أنتم متزوجون؟
ص: 506
يجيبون: لا.
ولما نسألهم: لماذا؟
يجيبون: لأننا لا نملك بيتاً.
فعلى الأخوة الأعزاء إذا ذهبوا إلى العراق - إن شاء اللّه تعالى - أن يسعى كل واحد منهم لتطبيق هذا القانون الإلهي عبر اللسان والقلم.
وهناك قانون إسلامي آخر ضيّعه العملاء في العراق، فعلينا أن نسعى جاهدين من أجل إعادته، ألّا وهو قانون السبق، ففي الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من سبق إلى ما لا يسبقه إليه مسلم فهو أحق به»(1).
فمثلاً الإنسان الذي يسبق الآخرين إلى حيازة السمك يكون له(2)، وكذا من يسبقهم إلى حيازة الملح أو المعدن أو الكلأ أو غيرها فهي كذلك تكون له. وهذا غير مقتصر على ذلك الزمان، بل يشمل زماننا الراهن أيضاً، فحلال محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة(3).
ولا يخفى أن كل تغيير في قانون اللّه تعالى فهو يسبب الضنك في المعيشة، كما ينص على ذلك القرآن الكريم، حيث قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(4).
فمثلاً في العراق كانت هناك منطقتان يجلب منهما الملح، إحداهما: الرزازة،
ص: 507
والأخرى قريب الأخيضر، وقد كنا نشتري منها كمية كبيرة من الملح بعشرة أفلس، أي ما يعادل قوته الشرائية عشرة أقراص من الخبز. وإثر مجيء عبد الكريم قاسم أصبحت نفس هذه الكمية بدينار، أي ازدادت القيمة عما كانت عليه مائة ضعف.
وكذلك الحال بالنسبة إلى اصطياد السمك فقد كان مباحاً، وعلى سبيل المثال كربلاء المقدسة كانت لها ثلاثة أطراف يصطاد فيها السمك، أحدها: في طويريج، والآخر في السدّة، والثالث في الرزازة.
وقد كان الناس يصطادون السمك ويبيعونه للآخرين، فكنا نشتري السمك في يوم الأربعاء لعائلتنا المكونة آنذاك من عشرة أفراد من خان المخضر بعشرة أفلس، وعند مجيء عبد الكريم قاسم - المدعي للوطنية - مُنع صيد السمك، وفي الأسبوع الثاني اشترينا نفس السمك ونفس المقدار بمائتين وخمسين فلساً، أي ما يعادل خمسة وعشرين ضعفاً، ومع مضي الأيام وبعد أن أصبح عبد الكريم لا يخدم مصالح الغرب بشكل كامل قتلوه، حيث إنهم جاؤوا به أمام الملأ العام وأردوه صريعاً برصاصاتهم... .
ولكي لا تتكرر هكذا تجارب مرة أخرى في العراق ينبغي أن تحكم قوانين الإسلام، وإلّا فإنه إذا سادت القوانين غير الإسلامية فإن مصيرنا في المستقبل ربما سيكون أشد مما نحن عليه اليوم، الأمر الذي يعود علينا بالويل وعلى نفس الحكام الذين لايحكمون بهذه القوانين الإسلامية بالضياع كما حصل للماضين منهم. فهذا عبد الكريم قاسم تضرّر وأضرّ ضرراً جسيماً حتى قتلوه، وكذلك بالنسبة إلى (أحمد حسن البكر)، و (عبد السلام) و (عبد الرحمن)... .
وكذلك الحال في إيران، فقد نُفي (البهلوي الأول) إلى (موريس) ولما أراد
ص: 508
البريطانيون إبعاده عبر البحر رمى بنفسه على الشاطئ وأخذ يبكي ويتضرع إليهم إلّا أن ذلك لم يُجده شيئاً، فأركبوه السفينة ونفوه عن إيران، وكذا الشاه الثاني فقد نفوه ومات بمرض السرطان.
الأمر الثاني الذي يلزم تطبيقه في مستقبل العراق: الحكومة الشيعية، أي يلزم أن تحكم العراق حكومة شيعية، إذ أن غالبية الشعب العراقي من الشيعة. وكما هو معلوم لدينا أن شيعة العراق هم 85% من تعداد السكان، والبقية 12% من العامة و3% من المسيحيين واليهود واليزيديين وغيرهم.
فإذا كانت أكثرية العراق من الشيعة، فلماذا لا تكون لهم حكومة شيعية؟!
لذلك فاللازم السعي الجاد والتبليغ المستمر لقيام حكومة شيعية في العراق، فإن تبليغكم القوي سيكون مؤثراً.
الأمر الثالث اللازم مراعاته في العراق: الأحزاب الحرة، فماذا يعني أن العراق حتى عصرنا الراهن يحكمه حزب واحد ودكتاتور مستبد، فأغلب العالم اليوم تسوده الحرية والديمقراطية - ولو النسبية منها - أما العراق فيحكمه مستبد اسمه صدام، ويا ترى من هو صدام حتى يستولي على البلاد ويتحكم في مصير العباد؟ إنه رجل ريفي من قرية في أطراف تكريت تدعى العوجة. وهو رجل جاهل، غير مثقف، ولا يعرف من الحياة سوى القوة والبطش اللذين يتحكم من خلالهما بمصير الناس في العراق.
وإنني أدركت - شخصياً - عهد تعدد الأحزاب في العراق، ورأيت بعض آثاره الإيجابية، ولعل القصة التالية هي خير شاهد على ذلك، فقد ذهبنا في بعض
ص: 509
الأيام مع السيد محمد علي الطباطبائي(1) إلى رئيس الوزراء السيد محمد الصدر في منزله الواقع في بغداد، وقد كان المنزل متواضعاً جداً حيث لم يكن فيه سوى حصير قديم وسرير كان السيد ينام عليه، وكان السيد عندما زرناه مريضاً، وبعد أن جلسنا عنده وقد كان الجو بارداً في الشتاء، قال له السيد محمد علي الطباطبائي: لماذا تترك الباب مفتوحاً يا سيدنا؟ فأجاب: هناك هرّة قد أنجبت صغارها في هذه الدار وأنا أترك الباب مفتوحاً رأفة بها.
هكذا كانت حياة الحكّام بسيطة لما كانت الأحزاب الحرة هي الحاكمة في العراق، أما عراقنا اليوم، فصدام قد شيّد لنفسه العشرات من القصور(2) كل واحد منها تقدّر تكاليف بنائه بالمليارات، كل ذلك من أجل إشباع نهمه وإرضاء شهواته... .
أجل، فالغرب لا يروق له أن تحكم العراق الأحزاب الحرة، وخير دليل على ذلك هي القصة التي نقلها فؤاد عارف(3) وزير عبد الكريم قاسم حيث قال: ذهبت إلى لندن والتقيت بوزير الخارجية البريطاني وسألته: ماذا كانت مشكلة العراق حتى جعلتم عبد الكريم قاسم حاكماً عليه؟
فأجابني بكل صراحة: عندما كان الملكيون يحكمون العراق كنّا لأجل إصدار قانون بسيط ننتظر مدة طويلة، حيث كان النواب يتداولونه أولاً في المجلس، ثم يذهب بعد مدة طويلة إلى المجلس الأعلى، وبعد فترة ينشر في الإذاعة
ص: 510
والصحف، فيبقى القانون ما يقارب ستة أشهر يتداول هنا وهناك حتى يصل إلى الملك فيعدّله وتحصل فيه تغييرات كثيرة ثم يُقرر.
وبعد مجيء عبد الكريم قاسم أصبحنا في راحة من ذلك، فإننا بمجرد أن نتصل به ونخبره بالقانون الذي نريده، فإنه يمتثل مباشرة ويقرّ القانون دون أي تغيير أو تعديل.
ولا يخفى أنهم من أجل ذات القضية جاؤوا بصدام.
ولكي يتخلص العراق من هكذا حكّام لا بد أن تكون الأحزاب الحرة كما كانت في عهد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جعل المهاجرين والأنصار أحزاباً، وهذا موجود بالنص في كتاب (السبق والرماية) وقد تطرق إليه الفقهاء في كتبهم الفقهية كالجواهر، والمسالك، وجامع المقاصد، وغيرها.
الأمر الرابع: حرية الحوزات العلمية واستقلاليتها، ولكي يسترجع العراق عزته الأولى لا بدّ أن تعود الحرية إلى الحوزات العلمية كما كانت عليه في السابق، حيث كان بوسع الجميع أن يأتي ويلتحق بالحوزات العلمية دون أية مضايقات، وكان للعلماء والطلبة دورهم في إرشاد الناس وبيان الحكم الشرعي من دون مضايقة من الحكومات.
ولا يخفى أن للحوزات العلمية فوائد جمة، منها الفائدة العلمية، والدينية، والاقتصادية، وغيرها.
وقد كان في الحوزة العلمية في عهد السيد الحكيم(رحمه اللّه) إثنا عشر ألفاً من الطلبة، ولم يكن لأية حوزة أخرى آنذاك هذا العدد الهائل، ومع الأسف الشديد جاء صدام وشتّت هذه الحوزة وشرد طلبتها، وسجن وقتل منهم الكثير، كل ذلك
ص: 511
حتى يستبد بالحكم في العراق دون أن يتساءل منه أحد لماذا هكذا؟
والجدير بالذكر أن الاستعمار البريطاني يحمل حقداً كبيراً على الحوزة العلمية، ويعمل ليل نهار من أجل تحطيمها وذلك لأن رجالات الحوزة أخرجت الاستعمار البريطاني من العراق في ثورة العشرين وألحقت به الخسائر الفادحة.
وهنا ينبغي أن نذكر أن وجود الحوزات العلمية ليس نافعاً للمجتمع فقط، بل هو نافع حتى للسلطة أحياناً في قبال بعض الضغوطات الأجنبية.
فقد نقل لي أحد الأصدقاء: أن الشاه كان ينزعج كثيراً من السيد البروجردي، فشكى ذلك في أحد الأيام إلى بعض وزرائه، فقال له الوزير: حلّ هذه المشكلة سهل جداً.
فتساءل الشاه قائلاً: وكيف؟
فأجاب الوزير: إن السيد البروجردي يحب أن يذهب إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة، وأنت تمنعه، فافسح له المجال ليذهب إلى هناك، وإذا ذهب امنعه من الرجوع إلى إيران.
فقال الشاه: إنك لا تعرف ماذا يفيدنا البروجردي: فأي قانون يطلبه منّي البريطانيون ولا أريد تنفيذه أتذرع بأن السيد البروجردي(رحمه اللّه) لا يقبل ذلك.
الأمر الخامس اللازم مراعاته في مستقبل العراق: حرية العتبات المقدسة والاهتمام بها، فيلزم أن يفسح المجال للجميع لزيارة العتبات المقدسة بكل سهولة واختيار، وحرية وأمان... .
ففي السابق كان بوسع كل واحد أن يزور العتبات المقدسة في العراق دون أية مزاحمة من السلطات... .
ص: 512
«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة، اللّهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه»(1).
ص: 513
نص جواب آية اللّه العظمى الإمام السيد محمد الشيرازي(رحمه اللّه) على سؤال جماعة من المؤمنين عن آرائه حول الصورة المستقبلية للعراق:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
السلام على الأخوة المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته.
لقد سألتم عن العراق والصورة التي ينبغي أن يكون عليها في المستقبل بعد سقوط النظام الحالي بإذن اللّه تعالى، وسنشير ههنا إلى بعض البنود حسب ما يستفاد من الموازين الإسلامية المطابقة للموازين الإنسانية الفطرية، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(1).
1- يجب أن تكون الأكثرية هي الحاكمة كما يجب إعطاء الأقلية حقوقها، فإن الأكثرية كان لها الدور الأكبر في إنقاذ العراق مراراً عديدة في هذا القرن: مرة في ثورة العشرين، ومرة أخرى في الحرب العالمية الثانية حيث أفتى العلماء بوجوب إخراج المستعمرين من قاعدة (الحبانية) فتحرك الشعب العراقي بأسره حتى أخرجهم، ومرة ثالثة: إبان المد الأحمر... وقد سجلت الكتب التاريخية تلك الحوادث بتفاصيلها. وقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(2). وقال جل وعلا: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(3). وورد في الحديث الشريف: «لئلا يتوى حق امرئ مسلم»(4).
2- من الضروري استناد الدولة إلى المؤسسات الدستورية حيث يلزم منح
ص: 514
الحرية لمختلف التجمعات والتكتلات والفئات والأحزاب غير المعادية للإسلام في إطار مصالح الأمة، كما يلزم أن تكون الانتخابات حرة بمعنى الكلمة وأن توفر الحرية للنقابات والجمعيات ونحوها، كما يلزم أن تعطى الحرية للصحف وغيرها من وسائل الإعلام، ويلزم أن تمنح الحرية لمختلف أصناف المجتمع من المثقفين والعمال والفلاحين و... كما تعطى المرأة كرامتها وحريتها كل ذلك في إطار الحدود الإسلامية الإنسانية، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1). وقال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(2). وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(3).
3- اللاعنف هو المنهج العام في الداخل والخارج، كما قال تعالى: {ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(4). فإنه هو الأصل ونقيضه استثناء.
4- يجب أن تراعى حقوق الإنسان بكل دقة حسب ما قرره الدين الإسلامي الذي يتفوق على قانون حقوق الإنسان المتداول في جملة من بلاد العالم اليوم، فلا إعدام مطلقا إلّا إذا حكم - في كلية أو جزئية - مجلس (شورى الفقهاء المراجع) إذ في صورة الاختلاف بينهم يكون من الشبهة و (الحدود تدرأ بالشبهات)، كما ينبغي تقليص عدد السجناء إلى أدنى حد حتى من الحد المقرر في العالم اليوم كما لا تعذيب مطلقاً وكذلك لا مصادرة للأموال مطلقاً.
5- وبالنسبة إلى ما سبق يتمسك ب- : {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ}(5)، كما عفا
ص: 515
الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أهل مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(1)، وعن غير أهل مكة، وكما صنع ذلك الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ويؤيده ما ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام): إن حديث (الجب) أولى بالجريان بالنسبة إلى المسلمين من جريانه في حق غيرهم.
6- للأكراد والتركمان وأمثالهم كامل الحق في المشاركة في الحكومة القادمة وفي كافة مجالات الدولة والأمة، فقد قال اللّه سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2) وقال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى...»(3).
7- ينبغي أن تتخذ الدولة القادمة سياسة (المعاهدة) أو (المصادقة) مع سائر الدول في إطار مصلحة الأمة كما قام بذلك الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع مختلف الفئات غير الإسلامية حتى المشركين، ويستثنى من ذلك عدة صور منها: صورة احتلال الكفار والمشركين لبلاد المسلمين كما حدث في فلسطين حيث يجب على جميع المسلمين عندئذ الدفاع إذ «المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى»(4).
8- المرجع الأخير في دستور الدولة الإسلامية القادمة في العراق وفي رسم السياسة العامة والخطوط العريضة هو (شورى الفقهاء المراجع) حسب ما قرره
ص: 516
الإسلام، قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المتقون سادة والفقهاء قادة»(1). ومن الواضح أن الفقهاء المراجع يتعاونون مع الحوزات العلمية ومع المثقفين والأخصائيين في كافة الحقول الاختصاصية فإن ذلك هو مقتضى المشورة والشورى كما قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2) و{وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(3).
9- يجب على كافة المسلمين السعي لكي تتوحد بلاد الإسلام وتنصهر في دولة واحدة إسلامية... ذلك لأن المسلمين أمة واحدة كما قال تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(4). وقد أسس الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أساس الدولة العالمية الواحدة حيث توحدت في حياته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تسع دول تحت راية الإسلام - على ما ذكره المؤرخون - وفي هذا القرن كانت الهند مثالاً لذلك، كما أن أوروبا تحاول التوصل إلى ذلك. ومن الواضح أن تفكك الدول الإسلامية ووجود الحدود الجغرافية بينها من الأسباب الرئيسية في تخلف المسلمين من جهة، وفي تناحرهم وتحاربهم من جهة أخرى، وفي تفوق المستعمرين عليهم واستعمارهم من جهة ثالثة.
10- يلزم حث المجاميع الدولية كي تقوم بالضغوط الشديدة على كل حكومة تريد ظلم شعبها، ذلك أن الإنسان من حيث هو إنسان لايرى فرقاً بين ظلم أهل الدار بعضهم لبعض وبين ظلم الجيران بعضهم لبعض. وهذا هو ما يحكم به العقل أيضاً ولا يجوز في حكم العقل والشرع أن ندع أمثال موسيلينيوهتلر وستالين يفعلون ما يشاؤون بشعوبهم تشريداً ومطاردة ومصادرة للأموال
ص: 517
وقتلاً للأنفس بحجة أنها شؤون داخلية... فإذا اشتكى أبناء بلد عند سائر الأمم كان عليهم أن يرسلوا المحامين والقضاة فإذا رأوا صحة الشكوى أنقذوا المظلوم من براثن الظالم.
«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).
محمد الشيرازي
ص: 518
1. القرآن الحكيم.
2. نهج البلاغة (ترتيب صبحي صالح)، جَمَعَه الشريف الرضي، ت406ه ق.
3. الصحيفة السجادية.
4. إبتلاءات الأمم، سعيد أيوب، معاصر، دار الهادي للطباعة والنشر، بيروت، 1416ه ق.
5. إثبات الوصية، علي بن حسين المسعودي، ت346ه ق، أنصاريان، قم المقدسة، 1426ه ق.
6. الآحاد والمثاني، ابن أبي عاصم الضحاك، ت287ه ق، دار الراية، الرياض، 1411ه ق.
7. الإحتجاج، الشيخ أحمد بن علي الطبرسي، ت588ه ق، نشر المرتضى، مشهد المقدس، 1403ه ق.
8. الأخبار الطوال، ابن قتيبة الدينوري، ت276ه ق، دار إحياء الكتب العربي، منشورات شريف الرضي، القاهرة، 1960م.
9. الإختصاص، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.
ص: 519
10. إرشاد القلوب، حسن بن محمد الديلمي، ت841ه ق، الشريف الرضي،1. قم المقدسة، 1412ه ق.
11. الإرشاد، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.
12. أساس البلاغة، محمود بن عمر الزمخشري، ت538ه ق، دار ومطابع الشعب، القاهرة، 1960م.
13. الإستبصار، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1390ه ق.
14. الإستيعاب، ابن عبد البر، ت463ه ق، دار الجيل، بيروت، 1412ه ق.
15. أسد الغابة، ابن الأثير، ت630ه ق، دار الكتاب العربي، بيروت.
16. الإسلام بين الإنصاف والجحود، محمد عبد الغني حسن، ت1985م.
17. الإصابة في تميز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت852ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415ه ق.
18. الإعتصام، إبراهيم بن موسى الشاطبي، ت790ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت.
19. أعلام الدين في صفات المؤمنين، حسن بن محمد الديلمي، ت841ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، قم المقدسة، 1408ه ق.
20. إعلام الورى بأعلام الهدى، الفضل بن الحسن الطبرسي، ت548ه ق، إسلامية، طهران 1390ه ق.
ص: 520
21. الأعلام، خير الدين الزركلي، ت1410ه ق، دار العلم للملايين، بيروت،1. 1980م.
22. الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، ت356ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
23. إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1409ه ق.
24. الأمالي، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، كتابچي، طهران، 1376ه ش.
25. الأمالي، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار الثقافة، قم المقدسة، 1414ه ق.
26. الأمالي، الشيخ المفيد، ت413ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1413ه ق.
27. الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوري، ت276ه ق، انتشارات الشريف الرضي، قم المقدسة، 1413ه ق.
28. أمل الآمل، الحر العاملي، ت1104ه ق، مكتبة الأندلس، بغداد.
29. أمل الآمل، الشيخ الحر العاملي، ت1104ه ق، دار الكتاب الإسلامي، قم المقدسة، 1362ه ش.
30. الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، مجير الدين الحنبلي، ت927ه ق، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1388ه ق.
31. أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى البلاذري، ت279ه ق، دار الفكر، بيروت.
ص: 521
32. الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي، ت1370ه ق، المكتبة الحيدريه،1. النجف الأشرف، 1381ه ق.
33. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ت1110ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1403ه ق.
34. البداية والنهاية، إسماعيل بن كثير الدمشقي، ت774ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1408ه ق.
35. البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، ت1107ه ق، مؤسسة البعثة، قم المقدسة، 1374ه ش.
36. بشارة المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لشيعة المرتضى(عليه السلام)، عماد الدين الطبري الآملي، ت553ه ق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1383ه ق.
37. بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفار، ت290ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1404ه ق.
38. بلاغات النساء، أحمد بن أبي طاهر (ابن طيفور)، ت280ه ق، الشريف الرضي، قم المقدسة.
39. البلد الأمين، إبراهيم بن علي الكفعمي، ت905ه ق، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1418ه ق.
40. البهجة المرضية على ألفية ابن مالك، جلال الدين السيوطي، ت911ه ق، إسماعيليان، قم المقدسة.
41. تاج العروس، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، ت1205ه ق، دار
ص: 522
الفكر، بيروت، 1414ه ق.1.
42. تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، ت808ه ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت 1391ه ق.
43. تاريخ الإسلام، محمد بن أحمد الذهبي، ت748ه ق، دار الكتاب العربي، بيروت، 1409ه ق.
44. تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي، ت911ه ق، دار التعاون.
45. تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، ت310ه ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1403ه ق.
46. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب (اليعقوبي)، ت284ه ق، دار الصادر، بيروت.
47. تاريخ بغداد، أحمد بن علي الخطيب البغدادي، ت463ه ق، دار الكتب العلمية، لبنان، 1417ه ق.
48. تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ت571ه ق، دار الفكر، بيروت، 1415ه ق.
49. تأويل الآيات الظاهرة، السيد علي الأسترآبادي، ت940ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1409ه ق.
50. تأويل مختلف الحديث، عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ت276ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت.
51. تبصرة المتعلمين، العلامة الحلي، ت726ه ق، انتشارات الفقيه، طهران، 1368ه ش.
ص: 523
52. التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار إحياء التراث1. العربي، بيروت، 1409ه ق.
53. التحصين في صفات العارفين، الشيخ ابن فهد الحلي، ت841ه ق، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1406ه ق.
54. تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني، ت القرن 4ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1404ه ق.
55. تذكرة الخواص، السبط ابن الجوزي، ت654ه ق، المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام)، قم المقدسة، 1426ه ق.
56. تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ت726ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم المقدسة، 1414ه ق.
57. تذكره الحفاظ، محمد بن أحمد الذهبي، ت748ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
58. تسلية المجالس، محمد بن أبي طالب الحسيني الموسوي، ت القرن 10ه ق، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة، 1418ه ق.
59. تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد بن محمد الآمدي، ت550ه ق، دفتر تبليغات، قم المقدسة، 1366ه ش.
60. تفسير الثعلبي، (الكشف والبيان عن تفسير القرآن)، أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي، ت427ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1422ه ق.
61. تفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ت1091ه ق، مكتبة الصدر، طهران،
ص: 524
1415ه ق.
62. تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ت320ه ق، المطبعة العلمية، طهران، 1380ه ق.
63. تفسير القرآن الكريم ب(تفسير شبر)، السيد عبد اللّه شبر، ت1242ه ق، السيد مرتضى الرضوي، 1385ه ق.
64. تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ت671ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405ه ق.
65. تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ت القرن 3ه ق، دار الكتاب، قم المقدسة، 1404ه ق.
66. التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف قم المقدسة، 1409ه ق.
67. تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق، دار العلوم، بيروت، 1424ه ق.
68. تفسير جوامع الجامع، الشيخ الطبرسي، ت548ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1420ه ق.
69. تفسير جوامع الجامع، الشيخ فضل بن حسن الطبرسي، ت548ه ق، انتشارات دانشگاه تهران و مديريت حوزة علمية قم، طهران، 1377ه ش.
70. تفسير فرات الكوفي، فرات بن إبراهيم الكوفي، ت307ه ق، وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، 1410ه ق.
ص: 525
71. تفسير مجمع البيان، الفضل بن الحسن الطبرسي، ت548ه ق، مؤسسة1. الأعلمي، بيروت، 1415ه ق.
72. تفسير نور الثقلين، الشيخ عبد علي بن جمعة الحويزي، ت1112ه ق، إسماعيليان، قم المقدسة، 1415ه ق.
73. تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي، ت447ه ق، الهادي، قم المقدسه، 1404ه ق.
74. تلك الأيام، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق، دار العلوم، بيروت، 1438ه ق.
75. التمحيص، محمد بن همام الإسكافي، ت336ه ق، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1404ه ق.
76. تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، ورّام بن أبي فراس، ت605ه ق، مكتبة فقيه، قم المقدسة، 1410ه ق.
77. التنبيه والإشراف، المسعودي، ت346ه ق، دار صعب، بيروت.
78. تنزيه الأنبياء(عليهم السلام)، السيد المرتضى، ت436ه ق، دار الشريف الرضي، قم المقدسة، 1377ه ق.
79. تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1407ه ق.
80. تهذيب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت582ه ق، دار الفكر، بيروت، 1404ه ق.
ص: 526
81. توحيد المفضل، المفضل بن عمر الجعفي، ت148ه ق، داوري، قم1. المقدسة.
82. التوحيد، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1398ه ق.
83. ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، دار الشريف الرضي، قم المقدسة، 1406ه ق.
84. جامع الأخبار، محمد بن محمد الشعيري، ت القرن 6ه ق، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف.
85. جامع السعادات، الشيخ ملا محمد مهدي النراقي، ت1209ه ق، دار النعمان، النجف الأشرف.
86. الجعفريات، محمد بن محمد بن أشعث الكوفي، ت القرن 4ه ق، مكتبة نينوى الحديثة، طهران.
87. جمال الأسبوع، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الرضي، قم المقدسة، 1330ه ق.
88. الجمل والنصرة، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.
89. جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ت1266ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1398ه ق.
90. جواهر المطالب، محمد بن أحمد الدمشقي الباعوني الشافعي، ت871ه ق،
ص: 527
مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم المقدسة، 1416ه ق.1.
91. الحجاب، أبو الأعلى المودودي، ت1399ه ق، دار الفكر، دمشق، 1384ه ق.
92. حديث الثقلين، نجم الدين العسكري، ت1390ه ق، مطبعة الآداب، النجف الأشرف.
93. حقائق من تاريخ العلماء، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق.
94. حلية الأبرار، السيد هاشم البحراني، ت1107ه ق، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة، 1411ه ق.
95. حياة الحيوان الكبرى، كمال الدين الدميري، ت808ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1424ه ق.
96. الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي، ت573ه ق، مؤسسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1409ه ق.
97. خزانة الأدب، عبد القادر بن عمر البغدادي، ت1093ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م.
98. الخصال، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1362ه ش.
99. الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، ت911ه ق، دار المعرفة، بيروت.
100. الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة، الشهيد الأول، ت786ه ق، انتشارات زائر، قم المقدسة، 1379ه ش.
ص: 528
101. الدروع الواقية، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)،1. بيروت، 1415ه ق.
102. دعائم الإسلام، نعمان بن محمد المغربي، ت363ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، قم المقدسة، 1385ه ق.
103. الدعوات، قطب الدين الراوندي، ت573ه ق، انتشارات مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1407ه ق.
104. ديوان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليهما السلام)، حسين بن معين الدين الميبدي، ت911ه ق، دار نداء الإسلام، قم المقدسة، 1411ه ق.
105. الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آقا بزرگ الطهراني، ت1389ه ق، دار الأضواء، بيروت.
106. ذكرى الشيعة، الشهيد الأول، ت786ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم المقدسة، 1419ه ق.
107. ربيع الأبرار، محمود بن عمر الزمخشري، ت538ه ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1412ه ق.
108. رجال الطوسي، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1373ه ش.
109. رجال العلامة الحلي، العلامة الحلي، ت726ه ق، الشريف الرضي، قم المقدسة، 1402ه ق.
110. رجال الكشي (اختيار معرفة الرجال)، الشيخ الطوسي، ت460ه ق،
ص: 529
مؤسسة نشر دانشكاه مشهد، مشهد المقدس، 1409ه ق.1.
111. الرجال للبرقي، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ت274ه ق، چاپخانه دانشگاه تهران، طهران، 1342ه ش.
112. الرحلة في طلب الحديث، أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، ت463ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395ه ق.
113. الرسائل السياسية، الجاحظ، ت255ه ق، دار ومكتبة هلال، بيروت، 1423ه ق.
114. رسائل الشريف المرتضى، الشريف المرتضى، ت436ه ق، دار القرآن الكريم، قم المقدسة، 1405ه ق.
115. رسائل الشهيد الثاني، الشهيد الثاني، ت965ه ق، مكتبة بصيرتي، قم المقدسة.
116. روضات الجنات، محمد باقر الموسوي الخوانساري، ت1313ه ق.
117. الروضة المختارة (شرح القصائد العلويات السبع)، ابن أبي الحديد المعتزلي، ت656ه ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
118. روضة الواعظين، محمد بن أحمد الفتال النيشابوري، ت508ه ق، انتشارات رضي، قم المقدسة، 1375ه ش.
119. الروضة في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليهما السلام)، ابن شاذان القمي، ت600ه ق، مكتبة الأمين، قم المقدسة، 1423ه ق.
120. رياض العلماء وحياض الفضلاء، عبد اللّه أفندي الأصفهاني، 1130ه ق.
ص: 530
121. رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، ت1231ه ق، جامعة المدرسين،1. قم المقدسة، 1422ه ق.
122. زاد المعاد، العلامة المجلسي، ت1110ه ق، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1423ه ق.
123. الزهد، حسين بن سعيد الكوفي الأهوازي، ت القرن 3ه ق، المطبعة العلمية، قم المقدسة، 1402ه ق.
124. السرائر، الشيخ ابن إدريس الحلي، ت598ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1410ه ق.
125. سعد السعود، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الذخائر، قم المقدسة.
126. سفينة البحار، الشيخ عباس القمي، ت1359ه ق، دار الأسوة، قم المقدسة، 1414ه ق.
127. السقيفة وفدك، أحمد بن عبد العزيز الجوهري البصري، ت323ه ق، مكتبة نينوى الحديثة، طهران.
128. السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي، ت458ه ق، دار الفكر.
129. السنن الكبرى، أحمد بن شعيب النسائي، ت303ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت 1411ه ق.
130. سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي، ت748ه ق، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406ه ق.
131. شجرة طوبى، محمد مهدي الحائري المازندراني، ت1369ه ق، المطبعة
ص: 531
الحيدرية، النجف الأشرف، 1385ه ق.1.
132. شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي النجفي، ت1411ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة.
133. شرح الأخبار، أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي، ت363ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1409ه ق.
134. شرح المقاصد في علم الكلام، أسعد اللّه التفتازاني، ت792ه ق، دار المعارف النعمانية، باكستان، 1401ه ق.
135. شرح المنظومة، هادي بن محمد السبزواري، ت1289ه ق، نشر ناب، طهران، 1371ه ش.
136. شرح صحيح مسلم، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، ت676ه ق، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407ه ق.
137. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، ت656ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1404ه ق.
138. شعب الإيمان، أحمد بن الحسن البيهقي، ت458ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1410ه ق.
139. شواهد التنزيل، الحاكم الحسكاني، ت القرن 5ه ق، وزارة الإرشاد الإسلامي، 1411ه ق.
140. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيشابوري، ت261ه ق، دار الفكر، بيروت.
ص: 532
141. صحيخ البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، ت256ه ق، دار الفكر،1. بيروت، 1401ه ق.
142. الصراط المستقيم، علي بن محمد العاملي النباطي، ت877ه ق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1384ه ق.
143. صفات الشيعة، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، كانون انتشارات عابدي، طهران.
144. الصواعق المحرقة، أحمد بن حجر الهيتمي، ت974ه ق، مكتبة القاهرة، 1385ه ق.
145. طبقات أعلام الشيعة (نقباء البشر)، آقا بزرك الطهراني، ت1389ه ق، دار المرتضى، 1404ه ق.
146. الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ت230ه ق، دار الصادر، بيروت.
147. طرائف المقال، السيد علي البروجردي، ت1313ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1410ه ق.
148. طرائف المقال، علي البروجردي، ت1313ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1410ه ق.
149. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، خيام، قم المقدسة، 1400ه ق.
150. عدة الداعي، أحمد بن فهد الحلي، ت841ه ق، دار الكتاب الإسلامي، 1407ه ق.
ص: 533
151. العدد القوية، رضي الدين علي بن يوسف بن المطهر الحلي، ت703ه ق،1. مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1408ه ق.
152. علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، مكتبة الداوري، قم المقدسة، 1966م.
153. عمدة الطالب، أحمد بن علي الحسيني (ابن عنبة)، ت828ه ق، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1380ه ق.
154. عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار، يحيى بن الحسن الأسدي (ابن البطريق)، ت600ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1407ه ق.
155. عوالم العلوم والمعارف، عبد اللّه بن نور اللّه البحراني الأصفهاني، ت القرن 12ه ق، مؤسسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة.
156. عوالي اللئالي العزيزية، ابن أبي الجمهور الأحسائي، كان حياً حتى 901ه ق، دار سيد الشهداء(عليه السلام) للنشر، قم المقدسة، 1405ه ق.
157. عين العبرة في غبن العترة، السيد أحمد بن موسى بن طاووس، ت673ه ق، دار الشهاب، قم المقدسة.
158. عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، انتشارات جهان، طهران، 1378ه ق.
159. عيون الأثر (السيره النبوية)، ابن سيد الناس، ت734ه ق، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، 1406ه ق.
160. عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ت القرن 6ه ق،
ص: 534
دار الحديث، قم المقدسة، 1367ه ش.1.
161. الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي، ت283ه ق، دار الكتاب الإسلامي، قم المقدسة، 1410ه ق.
162. الغدير، الشيخ عبد الحسين الأميني، ت1392ه ق، دار الكتاب العربي، بيروت، 1397ه ق.
163. غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد بن محمد الآمدي، ت550ه ق، دار الكتاب الإسلامي، قم المقدسة، 1410ه ق.
164. الغيبة، ابن أبي زينب محمد بن إبراهيم النعماني، ت360ه ق، مكتبة الصدوق، طهران، 1397ه ق.
165. الغيبة، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار المعارف الإسلامية، قم المقدسة، 1411ه ق.
166. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، ت852ه ق، دار المعرفة، بيروت.
167. فتح القدير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ت1255ه ق، عالم الكتب.
168. فتوح البلدان، أحمد بن يحيى البلاذري، ت279ه ق، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1957م.
169. فتوح الشام، محمد بن عمر الواقدي، ت207ه ق، دار الجيل، بيروت.
170. الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ت314ه ق، دار الأضواء، بيروت، 1411ه ق.
171. الفصول المختارة، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد،
ص: 535
قم المقدسة، 1413ه ق.1.
172. الفصول المهمة في معرفة الأئمة، علي بن محمد المالكي (ابن صباغ)، ت855ه ق، دار الحديث للطباعة والنشر، قم المقدسة، 1422ه ق.
173. فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام)، ابن عقدة الكوفي، ت332ه ق، دليل ما، قم المقدسة، 1424ه ق.
174. الفضائل، ابن شاذان القمي، ت حدود 660ه ق، منشورات الرضي، قم المقدسة، 1363ه ش.
175. فضيلة الشكر للّه، محمد بن جعفر السامري الخرائطي، ت327ه ق، دار الفكر، دمشق، 1402ه ق.
176. الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام)، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، مشهد المقدس، 1406ه ق.
177. الفقه، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق، دار العلوم، بيروت، 1410ه ق.
178. فلاح السائل، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، بوستان كتاب، 1406ه ق.
179. القاموس السياسي، أحمد عطية اللّه، ت1983م، دار النهضة العربية، القاهرة، 1968م.
180. قرب الإسناد، عبد اللّه بن جعفر الحميري، ت القرن 3ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) قم المقدسة، 1413ه ق.
181. قصص الأنبياء(عليهم السلام)، قطب الدين الراوندي، ت573ه ق، مركز پژوهش هاي إسلامي، مشهد المقدس، 1409ه ق.
ص: 536
182. قم المقدسة رائدة الحضارة، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق،1. مؤسسة محمد الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، الكويت، 1422ه ق.
183. القواعد الفقهيه، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق.
184. الكافي، الشيخ الكليني، ت329ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران 1407ه ق، الطبعة 4.
185. كامل الزيارات، ابن قولويه، ت367ه ق، دار المرتضويه، النجف الأشرف، 1356ه ش.
186. الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ت630ه ق، دار الصادر، بيروت، 1386ه ق.
187. كتاب الطهارة، الشيخ الأنصاري، ت1281ه ق، المؤتمر العالمي لإحياء الشيخ الأنصاري، قم المقدسة، 1415ه ق.
188. كتاب العين، خليل بن أحمد الفراهيدي، ت175ه ق، هجرت، قم المقدسة، 1409ه ق.
189. كتاب المزار، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.
190. كشف الريبة، الشهيد الثاني، ت966ه ق، دار المرتضوي، طهران، 1390ه ق.
191. كشف الغمة، علي بن عيسى الإربلي، ت692ه ق، بني هاشمي، تبريز، 1381ه ق.
192. كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد، العلامة الحلي، ت726ه ق،
ص: 537
مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام)، قم المقدسة، 1382ه ش.1.
193. كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام)، العلامة الحلي، ت726ه ق، طهران، 1411ه ق.
194. كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر، علي بن محمد الخزاز الرازي القمي، ت القرن 4ه ق، بيدار، قم المقدسة، 1401ه ق.
195. كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1395ه ق.
196. كنز الفوائد، محمد بن علي الكراجكي، ت449ه ق، دار الذخائر، قم المقدسة، 1410ه ق.
197. الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي، ت1359ه ق، مكتبة الصدر، طهران.
198. لسان العرب، ابن منظور، ت711ه ق، دار الفكر - دار الصادر، بيروت، 1414ه ق.
199. اللّهوف على قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، انتشارات جهان، طهران.
200. لؤلؤة البحرين، الشيخ يوسف البحراني، ت1186ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، لإحياء التراث، قم المقدسة.
201. مآثر الإنافة في معالم الخلافة، أحمد بن علي القلقشندي، ت821، وزارة الإرشاد والأنباء في الكويت، 1964م.
ص: 538
202. مائة منقبة، ابن شاذان القمي، ت460ه ق، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف،1. قم المقدسة، 1407ه ق.
203. المبسوط، السرخسي، ت483ه ق، دار المعرفة، بيروت، 1406ه ق.
204. متشابه القرآن ومختلفه، محمد بن علي بن شهر آشوب، ت588ه ق، دار بيدار، قم المقدسة، 1369ه ق.
205. مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ت645ه ق، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1406ه ق.
206. المجازات النبوية، الشريف الرضي، ت406ه ق، دار الحديث، قم المقدسة، 1422ه ق.
207. المجتنى من الدعاء المجتبى، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الذخائر، قم المقدسة، 1411ه ق.
208. مجمع البحرين، فخر الدين الطريحي، ت1087ه ق، مرتضوي، طهران، 1375ه ش.
209. مجمع الزوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، ت807ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408ه ق.
210. محاسبة النفس، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، مرتضوي، طهران، 1376ه ش.
211. المحاسن، أحمد بن محمد البرقي، ت274، دار الكتب الإسلامية، قم المقدسة، 1371ه ق.
ص: 539
212. محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، الراغب الأصفهاني،1. ت502ه ق، دار أرقم بن أبي أرقم، بيروت، 1420ه ق.
213. المحبر، محمد بن حبيب البغدادي، ت245ه ق، مطبعة الدائرة، 1361ه ق.
214. المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ت1091ه ق، جامعه المدرسين، قم المقدسة.
215. مختلف الشيعة، العلامة الحلي، ت726ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1418ه ق.
216. مدينة معاجز الأئمة الإثني عشر(عليهم السلام)، السيد هاشم البحراني، ت1107ه ق، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة، 1413ه ق.
217. مرآة الجنان وعبرة اليقظان، عبد اللّه بن أسعد اليافعي اليمني المكي، ت768ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417ه ق.
218. مرآة الحرمين، إبراهيم رفعت باشا، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1344ه ق.
219. مرآة العقول، العلامة المجلسي، ت1110ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1404ه ق.
220. مروج الذهب، علي بن الحسين المسعودي، ت346ه ق، دار الهجرة، قم المقدسة، 1404ه ق.
221. المزار الكبير، محمد بن جعفر (ابن المشهدي)، ت610ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1419ه ق.
222. مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، ت965ه ق، مؤسسة المعارف الإسلامية،
ص: 540
قم المقدسة، 1416 ه ق.
223. مستدرك الوسائل، الشيخ حسين النوري، 1320ه ق، مؤسسه آل البيت(عليهم السلام)،
224. مستدرك سفينة البحار، علي النمازي الشاهرودي، ت1405ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة.
225. المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي، ت326ه ق، كوشانبور، قم المقدسة، 1415ه ق.
226. المستطرف في كل فن مستظرف، محمد بن أحمد الأبشيهي، ت852ه ق، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 2000م.
227. مسند أبي يعلي، أبو يعلى الموصلي، ت307ه ق، دار المأمون للتراث، دمشق، 1412ه ق.
228. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، ت241ه ق، دار الصادر، بيروت.
229. مشارق أنوار اليقين، رجب بن محمد الحافظ البرسي، ت813ه ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1422ه ق.
230. مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، الشيخ علي بن حسن الطبرسي، ت600ه ق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1385ه ق.
231. مصادقة الإخوان، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، مكتبة الإمام صاحب الزمان(عليه السلام) العامة، الكاظمية الشريفة، 1402ه ق.
232. مصباح الشريعة، المنسوب إلى الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، مؤسسة
ص: 541
الأعلمي، بيروت، 1400ه ق.
233. مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، مؤسسه فقه الشيعة، بيروت، 1411ه ق.
234. المصباح، إبراهيم بن علي الكفعمي، ت905ه ق، دار الرضي، قم المقدسة، 1405ه ق.
235. المصنف، ابن أبي شيبة الكوفي، ت235ه ق، دار الفكر، بيروت، 1409ه ق.
236. مطالب السؤول، محمد بن طلحة الشافعي، ت652ه ق، تحقيق: ماجد بن أحمد العطية.
237. مع الطب في القرآن الكريم، عبد الحميد دياب، أحمد قرقوز، معاصر، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، 1402ه ق.
238. معالي السبطين، الشيخ محمد مهدي المازندراني، ت1385ه ق، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1380ه ق.
239. معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1403ه ق.
240. معجم الأدباء، ياقوت بن عبد اللّه الحموي الرومي، ت626ه ق، دار الفكر، بيروت، 1400ه ق.
241. المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد الطبراني، ت360ه ق، دار الحرمين، القاهرة، 1415ه ق.
242. معجم البلدان، ياقوت بن عبد اللّه الحموي الرومي البغدادي، ت626ه ق،
ص: 542
دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1399ه ق.
243. المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني، ت360ه ق، دار إحياء التراث العربي، القاهرة.
244. معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، معاصر، مكتبة المثنى ودار إحياء التراث العربي، بيروت.
245. معدن الجواهر، أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي، ت449ه ق، المكتبة الرضويه، طهران، 1394ه ق.
246. المعيار والموازنة، محمد بن عبد اللّه الإسكافي، ت240ه ق، 1402ه ق.
247. المغازي، محمد بن عمر الواقدي، ت207ه ق، نشر دانش إسلامي، 1405ه ق.
248. مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ت502ه ق، دار القلم، الدار الشامية، بيروت - دمشق، 1412ه ق.
249. مقاتل الطالبين، أبو الفرج الأصفهاني، ت356ه ق، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1385ه ق.
250. مقتل الحسين(عليه السلام)، السيد عبد الرزاق المقرَّم، ت1391ه ق، مؤسسة الخرسان للمطبوعات، بيروت، 1426ه ق.
251. مقتل الحسين(عليه السلام)، المنسوب لأبي مخنف الكوفي الأزدي، ت157ه ق، المطبعة العلمية، قم المقدسة.
252. مقتل الحسين(عليه السلام)، موفق بن أحمد الخوارزمي، ت568ه ق، أنوار
ص: 543
الهدى، قم المقدسة، 1423ه ق.
253. المقنعة، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.
254. مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، علي الأحمدي الميانجي، ت1421ه ق، دار الحديث، قم المقدسة، 1419ه ق.
255. مكارم الأخلاق، الحسن بن الفضل بن الحسن الطبرسي، ت القرن 6ه ق، الشريف الرضي، قم المقدسة، 1412ه ق.
256. من أسباب ضعف المسلمين، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق، مؤسسة المجتبى، بيروت، 1422ه ق.
257. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1413ه ق.
258. منازل الآخرة والمطالب الفاخرة، الشيخ عباس القمي، ت1359ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1419ه ق.
259. مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام)، ابن شهر آشوب، ت588ه ق، انتشارات علامة، قم المقدسة، 1379ه ق.
260. مناقب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، محمد بن سليمان الكوفي القاضي، ت حدود 300ه ق، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم المقدسة، 1412ه ق.
261. المناقب، الموفق الخوارزمي، ت568ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1414ه ق.
ص: 544
262. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (ابن1. الجوزي)، ت597ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412ه ق.
263. منتهى المطلب، العلامة الحلي، ت726ه ق، مؤسسة الآستانه الرضوية المقدسة، مشهد المقدس، 1414ه ق.
264. المنجد في الأعلام، لويس معلوف، ت1946م، دار المشرق، بيروت، 2008م.
265. منهاج الكرامة، العلامة الحلي، ت726ه ق، انتشارات تاسوعاء، مشهد المقدس، 1379ه ش.
266. منية المريد، زين الدين بن علي الشهيد الثاني، ت965ه ق، مكتب الإعلام الإسلامي، قم المقدسة، 1409ه ق.
267. مهج الدعوات، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الذخائر، قم المقدسة، 1411ه ق.
268. موسوعة السياسة، عبد الوهاب الكيالي، ت1981م، دار الهدى، بيروت.
269. المؤمن، حسين بن سعيد الكوفي الأهوازي، ت القرن 3ه ق، مؤسسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1404ه ق.
270. نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، حسين بن محمد الحلواني، ت القرن 5ه ق، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1408ه ق.
271. النظام السياسي في الإسلام، باقر شريف القرشي، ت1433ه ق، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1398ه ق.
ص: 545
272. نظم درر السمطين، محمد الزرندي الحنفي، ت750ه ق، سلسلة1. مخطوطات مكتبة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، 1377ه ق.
273. نفس الرحمن في فضائل سلمان، الميرزا النوري، ت1320ه ق، مؤسسة الآفاق، 1411ه ق.
274. النهاية في غريب الحديث والأثر، مبارك بن محمد (ابن الأثير)، ت606ه ق، مؤسسة إسماعيليان للمطبوعات، قم المقدسة، 1367ه ش.
275. نهج الحق وكشف الصدق، العلامة الحلي، ت726ه ق، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982م.
276. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، محمد باقر المحمودي، ت1427ه ق، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1385ه ق.
277. نهج الفصاحة، ابو القاسم پاينده، ت1363ه ش، طهران، دنيای دانش، 1382ه ش.
278. النوادر، فضل اللّه بن علي الراوندي، ت570ه ق، دار الكتاب، قم المقدسة.
279. الهداية الكبرى، حسين بن حمدان الخصيبي، ت334ه ق، البلاغ، بيروت، 1419ه ق.
280. الهواتف، ابن أبي الدنيا، ت281ه ق، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1413ه ق.
281. الوافي، الفيض الكاشاني، ت1091ه ق، مكتبة الإمام أمير المؤمنين
ص: 546
علي(عليه السلام) العامة، أصفهان، 1406ه ق.
282. وسائل الشيعة، الشيخ الحر العالمي، ت1104ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، قم المقدسة، 1409ه ق.
283. وفيات الأعيان، ابن خلكان، ت681ه ق، دار الثقافة، لبنان.
284. وقعة الطف، أبو مخنف الكوفي الأزدي، ت157ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1417ه ق.
285. وقعة صفين، نصر بن مزاحم، ت212ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1404ه ق.
286. اليقين، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الكتاب، قم المقدسة، 1413ه ق.
287. ينابيع المودة لذوي القربى، سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي، ت1294ه ق، دار الأسوة، قم المقدسة، 1416ه ق.
288. يوم الخلاص، كامل سليمان، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
ص: 547
ص: 548
هداية الناس وقضاء حوائجهم
من أهم الواجبات... 5
عقيدة التثليث... 5
الهداية عبر الأدعية... 11
الهداية التكوينية والتشريعية... 12
الهداية والتذكير بالآخرة... 13
القيادة الربانية... 13
العلماء ومسؤولية الهداية... 14
خدمة الناس وطرقها... 16
داروين وتضليل الناس... 17
فرويد... 18
ماركس... 19
القومية باطلة... 20
ما الحل لتلك المشاكل؟... 23
قضاء حوائج الناس... 26
قضاء حاجة الجارية... 32
امرأة تشكي زوجها... 33
جارية تبكي... 34
ص: 549
بيت القصص... 35
صف لي علياً... 36
مع الأرامل والأيتام... 36
مع الرجل الأعمى... 37
الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة في الهداية... 39
قائد ثورة العشرين... 41
مع السيد بحر العلوم(رحمه اللّه)... 42
من هدي القرآن الحكيم... 47
فعل الخيرات وقضاء الحوائج... 47
العبودية للّه وحده تعالى... 48
الهداية بالإمامة الحقة... 48
العمل مع التقوى... 49
من هدي السنّة المطهّرة... 49
الخدمة وقضاء الحوائج... 49
العبودية للّه وحده تعالى... 50
العلماء ورثة الأنبياء(عليهم السلام)... 50
الهداية بالإمامة الحقة... 51
العمل مع التقوى... 52
هكذا الزواج في الإسلام
الزواج ضرورة... 53
طرق إشباع الغريزة... 54
مشكلة المهور... 56
ص: 550
قصص عن الزواج... 58
قصة زواج... 59
مسؤولية المجتمع تجاه الزواج... 62
القدوة الصالحة... 62
من نعم الإسلام... 63
من هدي القرآن الحكيم... 65
الحث على التزويج... 65
السعي في اختيار الزوجة والدعاء لذلك... 66
أحكام المهر... 66
من هدي السنّة المطهّرة... 66
كراهة العزوبة ولزوم الزواج... 66
ذم كثرة المهور... 68
تزويج المؤمن أخاه المؤمن... 68
هكذا الزواج في الإسلام... 69
يوم الحسين(عليه السلام) 3 شعبان ذكرى مولده المبارك
الولادة المباركة... 70
طهّره اللّه من عرشه... 71
تكريم العلم والعلماء... 72
لماذا تقدم الغرب؟... 74
النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتأكيد على العلم... 75
مدرسة الإمام الحسين(عليه السلام)... 76
حركة الوهابيين... 77
ص: 551
الاستثمار التبليغي... 81
الإسلام يعلو... 83
دور الطلبة والعلماء... 84
حكام الجور من أسباب التأخر... 85
قسوة خالد بن عبد اللّه القسري... 86
مقتل عبد اللّه بن المقفع... 88
الكتابة والتأليف... 91
مكتبات في كل مكان... 92
المكتبة المنزلية... 93
الخطابة والبيان... 94
قدرنا وقدرتنا... 94
الاقتصاد عصب الحياة
رعاية الإسلام للاقتصاد... 96
الاقتصاد في حياة المسلم... 98
أهمية الاقتصاد والمال والعمل... 98
الاقتصاد في مناهج الحوزات العلمية... 101
في ذم الإسراف... 102
دور الفقهاء في الاهتمام بالاقتصاد... 102
من هدي القرآن الكريم... 104
السعي لكسب المال... 104
الاقتصاد وذم الإسراف... 104
الاقتصاد وموارد الإنفاق... 105
ص: 552
من هدي السنّة المطهّرة... 105
الاقتصاد في الأسعار... 105
الاقتصاد في الإنفاق... 106
الغاية من الاقتصاد... 107
العمل والمعاش... 107
الحسن والحسين(عليهما السلام) إمامان قاما أو قعدا
المقدمة... 109
المجتمع يفرز الطغاة... 111
الطبيعة النفسية للطاغية... 115
كيف يُواجَه الطغاة؟... 120
دور المعصوم(عليه السلام) واستمرار الرسالة... 123
دور الحوزات العلمية في بناء المجتمع
المقدمة... 125
الحوزة بين العلم والمجتمع... 127
إنتاج الحوزة... 127
حال الشيعة في العالم... 128
عقوبة ترك إعانة المظلوم... 128
رجال القدوة الحسنة... 130
مثال من الصحابة: سلمان وبساطة العيش... 131
من الإمام إلى تلميذه... 132
من هدي القرآن الحكيم... 134
أهمية العلم... 134
ص: 553
الابتعاد عن الغفلة... 134
نشر العلم ومحاربة الجهل... 134
من هدي السنّة المطهّرة... 135
أهمية العلم... 135
الابتعاد عن الغفلة... 135
القدوة الحسنة... 136
فضل العالم على الجاهل... 137
لين الكلام
المقدمة... 138
صفح النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أبي سفيان... 140
أمير المؤمنين(عليه السلام) بين الناس... 141
عزل أبي الأسود... 142
الإمام السجاد(عليه السلام) ولين الكلام... 143
شواهد من الرفق في المعاملة... 143
الكلام الطيب... 143
العطاء مقابل الهجاء... 144
عالمنا اليوم... 145
أخلاق أستاذ... 145
من هدي القرآن الحكيم... 146
الرفق ولين الكلام... 146
قول الخير والقول الحسن... 147
الصفح الجميل... 147
ص: 554
من هدي السنّة المطهّرة... 148
حفظ اللسان... 148
التفكر في الكلام... 148
الرفق واللاعنف... 149
الزهد في الإسلام
الزُّهد في الدّنيا... 150
1- الإيثار... 150
2- المواساة... 150
الزُّهد في القرآن... 151
الخِلافة الهالكة... 152
قالوا في الدّنيا... 153
الدّنيا والآخرة... 154
صلاح الباطن والظاهر... 155
خير مقتدى... 156
تأثير الزّهد في المجتمع... 158
من هدي القرآن الحكيم... 160
من علامات الزهد... 160
العبودية للّه عزّ وجلّ فقط... 160
الاهتمام للآخرة... 160
تحقير الدنيا... 160
محاربة النفس وهواها... 161
من هدي السنّة المطهّرة... 161
ص: 555
من علامات الزهد... 161
الاهتمام للآخرة... 162
تحقير الدنيا... 162
محاربة النفس وهواها... 163
العزوف عن الترف
السمو الحقيقي... 164
فوائد العزوف عن الترف... 165
الفائدة الأولى... 165
الفائدة الثانية... 167
الفائدة الثالثة... 168
شُريك والعروض الثلاثة... 169
كيف ينظر الإسلام إلى الدنيا... 171
الدنيا... وأهل البيت(عليهم السلام)... 173
من هدي السنّة المطهّرة... 174
التواضع... 174
الزهد... 175
العمل للآخرة... 175
لا للدنيا... 175
من هدي السنّة المطهّرة... 176
التواضع... 176
الزهد... 176
العمل للآخرة... 177
ص: 556
لا للدنيا... 177
حبّ الدنيا
رأس كل خطيئة... 179
دار القَرار... 180
دارُ الزَّوال... 182
دنيا رَخيصة... 183
الهاويَة... 184
آثار أخرى... 185
الاعتدال في الطَلَب... 185
من هدي القرآن الحكيم... 188
1- البخل... 188
2- الهوى وحب النفس... 189
3- الطمع وحب المال... 189
4- الطغيان... 190
من هدي السنّة المطهّرة... 190
البُخل وحبّ الدنيا... 190
محاربة هوى النَّفس... 191
مجانبة الطَمع... 191
عاقبة الطغيان... 192
الإخلاص والمقامات العالية
ما هو الإخلاص؟... 193
كيف نكون مخلصين؟... 195
ص: 557
الذَوبان السَريع... 197
مقامات مِن نُور... 198
نفحات من سورة الإخلاص... 202
في الإخلاص الخلاص... 204
من هدي القرآن الحكيم... 205
لتحصيل الإخلاص يجب التغلّب على الهوى... 205
اللّه تعالى يعلم بإخلاص العامل من نيَّته... 206
رأس الإخلاص توحيد اللّه سبحانه... 206
من هدي السنّة المطهّرة... 207
لتحصيل الإخلاص يجب التغلّب على الهوى... 207
اللّه تعالى يعلم بإخلاص العامل من نيّته... 207
رأس الاخلاص توحيد اللّه سبحانه... 208
العفو والصفح الجميل
مِن مَكارم الأخلاق... 209
مراتب العفو... 210
كيف نفهم العفو؟... 211
العَفو عند المَقدرة... 213
مِن فوائد العَفو... 214
محاربة الهوى... 215
مَواقف مِن نور... 217
لماذا العقوبة؟... 218
الصبر والاستقامة
الاعتدال بين العقل والهوى... 221
ص: 558
الإمام الحسن(عليه السلام)... 224
العلم نور... 225
الاستقامة... 226
اليقين يلازم الاستقامة... 226
كيف نحصل على الصبر؟... 227
الاستقامة على مستوى الأفكار والأعمال... 228
من هدي القرآن الحكيم... 229
الصبر... 229
العلم... 230
الاستقامة... 230
من هدي السنّة المطّهرة... 231
الصبر وآثاره... 231
العلم وفضله... 231
الاستقامة... 232
دور التفاؤل في تحقيق الأهداف
ما هو التفاؤل؟... 233
فوائد التفاؤل... 234
الفارق بين المتفائل والمتشائم... 235
من شروط النصر... 236
ولقد شهدنا... 237
والكل يعلم... 238
لكي ينتشر الإسلام... 239
ص: 559
شاهد حي... 240
من هدي القرآن الحكيم... 241
لِنتعامَلْ بسلام... 241
ونتمَسَّك بالدين... 242
ولا نَيأس أبداً... 242
من هدي السنّة المطهّرة... 243
لنتعامل بسلام... 243
ونتمسَّك بالدين... 243
ولا نَيأس أبداً... 244
سعة الصدر
المقدمة... 245
معنى سعة الصدر... 246
السيد أبو الحسن الإصفهاني(قدس سره) وسعة الصدر... 247
برنارد شو... 248
كيف نعمل؟... 249
أولاً... 249
ثانياً... 249
ثالثاً... 249
من هدي القرآن الحكيم... 251
الحلم... 251
العفو وكظم الغيظ... 251
السخاء والسماحة والجود... 252
ص: 560
من هدي السنّة المطهّرة... 252
الحلم عند أهل البيت(عليهم السلام)... 252
الجود عند أهل البيت(عليهم السلام)... 253
السخاء والسماحة... 254
العفو وكظم الغيظ... 255
سوء الظن
التَدَبُّر في القرآن... 257
مَعنى الظَنّ وتَقسِيماته... 258
سُوءُ الظَنّ يَكْشِف عن خُبْثِ الباطِن... 260
القَلب وسُوء الظَنّ... 261
تأثِير الظنّ السَيء على الإنسان والمُجتَمع... 262
الشهادَةُ والظَنّ... 264
تَجَنّب سُوء الظَنّ... 265
سوء الظنّ يُورث المفسدة... 267
قضاء أمير المؤمنين(عليه السلام)... 267
التَرَيّث في الحُكم... 269
من هدي القرآن الحكيم... 270
الظنّ السيء... 270
أسباب سوء الظن... 271
1- تلوث قلب الإنسان... 271
2- الحسد... 271
3- مصاحبة الأشرار... 271
ص: 561
4- التكبر... 271
آثار سوء الظن على الإنسان... 271
من هدي السنّة المطهّرة... 272
الظن السيء... 272
الظن الحسن... 272
أسباب سوء الظن... 273
1- التواجد في مداخل السوء ومواضع التهم... 273
2- النفاق... 273
3- الحسد... 273
آثار سوء الظن... 273
مساوئ الإدعاء
مُكافحة الغُرور... 275
تساؤل... 277
الإدِّعاء الفارغ... 279
مُسيلمة والإدّعاء الكاذب... 281
عوامل الادّعاء... 282
وقت الامتحان... 283
الجهل مرتع الادّعاء... 284
التقصير في صلاة المغرب... 286
من آثار التواضع... 288
من هدي القرآن الحكيم... 290
من مساوي الإدعاء أنه يؤدي إلى... 290
ص: 562
الغرور... 290
والتكبر... 290
والعجب... 290
والرياء... 291
من هدي السنّة المطهّرة... 291
الغرور... 291
التكبر... 292
العجب... 292
الرياء... 293
الحاجة إلى السياسة
معنى السياسة... 295
ثورة المشروطة والسياسة... 296
مقاومة السيد البروجردي(رحمه اللّه)... 296
الحاجة إلى التجديد... 298
الحنكة السياسية... 299
فشل السياسة الغربية... 300
الأمية السياسية لدى بعض المسلمين... 301
السيد الحكيم(رحمه اللّه) وعبد السلام عارف... 302
التخطيط البريطاني... 303
من هدي القرآن الحكيم... 304
لماذا السياسة؟... 304
السياسة الحسنة... 304
ص: 563
مساوئ الجهل... 305
آثار العلم... 306
من هدي السنّة المطهّرة... 306
لماذا السياسة؟... 306
السياسة الحسنة... 307
مساوئ الجهل بالسياسة... 307
السياسة في حياة الإنسان
أهميّة السياسة... 308
معنى السياسة... 309
السياسة بَين اليوم والأمس... 310
المقاييس الفاسدة... 312
الدين والسياسة... 313
الحَوزة مسؤولة... 314
العالَم ومشكلة السياسة... 314
مَسؤولية البديل... 315
من هدي القرآن الحكيم... 317
الإسلام هو المنقذ... 317
السلم والسلام في الإسلام فقط... 317
حديث العدل... 318
لا للجهل... 318
من هدي السنّة المطهّرة... 319
الإسلام هو المنقذ... 319
ص: 564
السلم والسلام في الإسلام فقط... 319
حديث العدل... 320
لا للجهل... 320
المخابرات الغربية في الوطن الإسلامي
الاستخبارات... 321
لماذا المُخابرات؟... 323
تَشويش مخابراتي... 325
جِنايات رَهيبة... 326
الحُكّام العَبيد... 328
من هدي القرآن الحكيم... 330
الشورى... 330
الحرية حق كل فرد... 330
الوعي والبصيرة... 330
من هدي السنّة المطهّرة... 331
الصواب في الشورى... 331
الحرية حق كل فرد... 331
الوعي والبصيره تفشلان دسائس الأعداء... 332
المستبد مغلوب
قصّة الظلم... 333
حقيقة الظلم... 334
بين الظلم والاستبداد... 335
لماذا الاستبداد؟... 335
ص: 565
النقص والضعف... 336
التجبّر والتعالي... 336
الطَمَع... 337
التبعيّة العمياء... 338
الفساد من الظالمين... 339
الصلاح مع العدل... 341
لماذا المُستبد مغلوب؟... 343
حصاد بغداد... 344
النصر من طرفين... 345
خاتمة المستبد... 346
من هدي القرآن الحكيم... 348
العدل... 348
الحذر من اتّباع الهوى... 348
لا للظلم... 349
من هدي السنّة المطهّرة... 349
العدل والعادل... 349
الحذر من إتباع الهوى... 350
الظلم... 351
جزاء الظالم... 351
عن النهضة
عوامل نجاح النهضة... 353
النهضة والحضارة... 354
ص: 566
من أسباب النهضة الأفريقية... 356
سبب انتكاسة النهضة في الشرق... 357
بين النهضة الحقيقية... والصورية... 358
حقيقة يجب أن لا تغيب عن البال... 360
أساس النهضة الناجحة... 361
من هدي القرآن الحكيم... 363
الأخلاق... 363
مقوّمات نجاح الثورة... 363
القيادة الحكيمة المطاعة... 363
منهج الثورة... 364
الإخلاص... 364
الحفاظ على أخلاقيّة الثورة... 364
من هدي السنّة المطهّرة... 364
الأخلاق... 364
مقوّمات نجاح الثورة... 365
1- القيادة الحكيمة المطاعة... 365
2- منهج الثورة... 365
3- الإخلاص... 365
4- الحفاظ على أخلاقية الثورة... 365
لماذا تأخر المسلمون؟
عبد الحميد العثماني في كربلاء... 368
من أسباب انحطاط المسلمين... 370
ص: 567
في البلدان الإسلامية... 371
وفي الغرب... 371
فرعون وسبب ادعائه الربوبية... 372
الأخلاق والسيادة... 373
قصة أخرى... 373
من هدي القرآن الحكيم... 374
الدعوة الى العمل الإسلامي... 374
دور الأنبياء في الوقوف بوجه الانحراف... 375
أخلاق الحاكم الإسلامي... 375
من هدي السنّة المطهّرة... 376
الدعوة إلى العمل الإسلامي... 376
دور العلماء في الوقوف بوجه الانحراف... 377
أخلاق الحاكم الإسلامي... 377
كيف يمكن حل مشكلات المسلمين
سؤال... 379
المقدمة الأولى... 379
المقدمة الثانية... 380
سيطرة الأجانب... 381
من ثمار شورى المرجعية... 382
نشاط الشيوعية... 383
ثلاثة مطالب... 384
من هدي القرآن الحكيم... 385
ص: 568
الإرادة القوية... 385
الإسلام والفطرة... 386
الشورى في كل ميادين الحياة... 387
ذم الفرقة في الإسلام... 387
من هدي السنّة المطهّرة... 387
الشورى في كل ميادين الحياة... 387
التلخص من أغلال الغرب
الثورةُ على الذّات... 390
الصراع الفكري... 392
أغلالُ الغرب... 395
الكتاب المأجورون... 396
نموذجٌ آخر... 397
الاستعمار وجمعيّة أهل القرآن... 398
سؤالٌ وإجابة... 400
من هدي القرآن الحكيم... 404
الأنظمة الجائرة وصفاتها... 404
تحريف كلام اللّه... 404
الجهاد الأكبر... 405
الفكر الإسلامي هو الأصح... 405
الإسلام والعلاج... 405
من هدي السنّة المطهّرة... 406
الأنظمة الجائرة... 406
ص: 569
تفسير القرآن بالرأي... 406
التحذير من الشبهات... 407
القرآن خيرُ عِلاج... 407
سبل النهوض بالمجتمع الإسلامي
في البدء... 409
الأولى: الإرشاد الفكري... 409
الثانية: نشر الكتب... 410
إعلام الفاتيكان... 411
الثالثة: تنظيم أفراد المجتمع وتوجيههم وحثّهم على الإسلام... 412
الرابعة: تأسيس المؤسسات... 414
ثمرة المؤسسات... 415
إدارة المؤسسات بالشورى... 415
التأكيد البالغ على الشورى... 416
الخامسة: علو الهمّة... 417
كيف وصل الاسلام إلى الصين؟... 418
السادسة: التقوى والأخلاق... 419
بدر أول حرب في الإسلام... 419
من هدي القرآن الحكيم... 421
الإرشاد الفكري... 421
الكتب... 422
رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منبع التقوى وحسن الخلق... 422
من هدي السنّة المطهّرة... 422
ص: 570
الإرشاد الفكري... 422
الكتب... 423
الهمّة... 424
التقوى وحسن الخلق... 425
أقرب الطرق إلى النصر
نصرٌ من اللّه وفتحٌ قريب... 427
أولاً: الطاعة... 428
ثانياً: الصبر... 430
الإيمان... 432
ثالثاً: التخطيط الصحيح... 432
غزوة ذات السلاسل... 433
شاهد آخر... 434
رابعاً: الوحدة... 436
خامساً: العمل الجاد... 437
النصر من اللّه تعالى... 439
من هدي القرآن الحكيم... 440
الطاعة... 440
الصبر... 441
التأكيد على وحدة الأمة... 441
نصر اللّه... 442
من هدي السنّة المطهّرة... 442
الطاعة... 442
ص: 571
الصبر... 443
التخطيط في العمل... 443
الأمة الواحدة... 443
الحوزة العلميّة ودورُها القيادي
نشر العلوم مهمّة مقدّسة... 446
الحوزة مصنع الرّجال... 448
محاولات فاشلة... 449
المناهج الدراسيّة... 451
الحوزة حالة تبليغيّة للدين... 453
كلمة أخيرة... 455
من هدي القرآن الحكيم... 457
من الكمالات التي صنعت بها الحوزة المقدسة علماء عظماء... 457
التقوى... 457
الحلم... 457
الصبر... 458
الإخلاص... 458
من هدي السنّة المطهّرة... 458
من الكمالات التي صنعت بها الحوزة المقدسة علماء عظماء... 458
التقوى... 458
الحلم... 459
الصبر... 459
الإخلاص... 460
ص: 572
الاجتهاد في طلب العلم
وصية المرحوم الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه)... 462
أهمية العلم... 462
العلم والمرجعية... 463
وصية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر... 464
الآغا بزرك الطهراني(رحمه اللّه)... 464
الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه)... 464
الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه)... 465
الحوزات العلمية والعلوم الإنسانية... 467
الافتقار إلى التاريخ... 468
افتقاد الحوزات العلمية لدرس علم النفس... 468
لمحة من حياة الملا أحمد النراقي... 469
الشهيد الأول(رحمه اللّه)... 470
قلة الكتب الشيعية... 470
نظرية الشيخ الطوسي(رحمه اللّه)... 471
جانب من أحوال سعدي... 471
الفضل ما شهدت به الأعداء... 472
محتوى كتاب المغني... 472
من هدي القرآن الحكيم... 473
التفقه والعلم... 473
الحكمة والعلم... 474
الإيمان والعلم... 474
ص: 573
من هدي السنّة المطهّرة... 475
وجوب طلب العلم والحثّ عليه... 475
أهمية العلم... 476
طلب العلم... 476
في ذم علماء السوء... 476
ضروريات طالب العلم
البعد الأول: العلم الكثير... 478
أهمية العلم في نظر العلماء... 478
البعد الثاني: البعد التربوي... 479
الإمام الصادق(عليه السلام) والمواساة... 480
يوسف(عليه السلام) والمواساة... 481
البعد الثالث: التقوى والعيش البسيط... 481
تأثير أحد العلماء الزهاد في الناس... 482
الشيخ جعفر الشوشتري(رحمه اللّه)... 483
من هدي القرآن الحكيم... 485
العلم... 485
فضل العلم... 485
من هدي السنّة المطهّرة... 486
أهمية العلم... 486
فضل العلم والعالم على غيره... 486
النظر إلى العالم... 488
العلم فريضة... 488
ص: 574
آثار طلب العلم... 488
أصناف طلبة العلم... 489
ما يحتاجه طالب العلم
ما يلزم طالب العلم... 491
والشروط الستة هي... 492
العلم وطالب العلم... 492
دليل من التاريخ... 493
دراسة وتدريس الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه)... 494
عدم إضاعة الوقت... 495
تعلم القرآن ونهج البلاغة... 496
نشاط الشيخ محمد جواد البلاغي في طريق العلم وخدمة الدين... 497
من هدي القرآن الحكيم... 498
العلم وطالب العلم... 498
تعلم العلم وتعليمه... 499
من هدي السنّة المطهّرة... 500
العلم وطالب العلم... 500
ضرورة تعلم العلم وتعليمه... 501
تعلّم القرآن وعلوم أهل البيت(عليهم السلام)... 502
العراق بعد حزب البعث، العراق بعد التغيير
حكم الإسلام... 504
بالإسلام تعمر البلاد... 505
قانون من سبق... 507
ص: 575
الإسلام هو الحل... 508
الحكومة الشيعية... 509
الأحزاب الحرة... 509
حرية الحوزات العلمية... 511
العتبات المقدسة... 512
الصورة المستقبلية للعراق... 514
فهرس المصادر... 519
فهرس المحتويات... 549
ص: 576