القطوف الدانية المجلد 6

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 6/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

-----------------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

-----------------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الأوّل): 6-204539-964-978

-----------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

صلاح الدين والتعصب الطائفي

القرآن يأمر بالاتحاد والتآخي

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(1).

ورد في تفسير الآية المباركة: {وَاعْتَصِمُواْ} أي: تمسكوا {بِحَبْلِ اللَّهِ} أي دينه وقرآنه، شُبّه بالحبل لمناسبة أن من يتمسك بالحبل لا بد وأن يرتفع به للأعلى، وكذلك من يتمسك بالإيمان يصعد به في الدنيا إلى المراتب الراقية وفي الآخرة إلى جنات خالدة {جَمِيعًا} أي: جميعكم لا بعضكم دون بعض. {وَلَا تَفَرَّقُواْ} بأن يتمسك البعض بحبل اللّه والبعض بحبل الشيطان، وهذا تأكيد لقوله: (جميعاً) {وَاذْكُرُواْ} أي تذكروا {نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً} قبل الإسلام يعادي بعضكم بعضاً {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} جعلها قريبة بعضها إلى بعض، حيث أدخل الإيمان فيها فخرج ما كان فيها من الضغينة والإحن والحسد والعداوة {فَأَصْبَحْتُم} أيها المسلمون {بِنِعْمَتِهِ} أي بسبب نعمة الألفة التي وهبها اللّه إليكم {إِخْوَٰنًا} أحدكم أخ الآخر في الإيمان، له ما لأخيه وعليه ما عليه. وأن هذه النعمة قد خرقت المقاييس الجاهلية القبلية والعشائرية والعرقية وما أشبهها. وما ورد في بعض الأحاديث أن المراد من حبل اللّه الإمام أمير

ص: 5


1- سورة آل عمران، الآية: 103.

المؤمنين(عليه السلام) أو الأئمة(عليهم السلام)أو القرآن، فإنما هي مصاديق جلية(1).

فقد ورد عن ابن يزيد قال: سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن قوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}؟ قال: «علي بن أبي طالب حبل اللّه المتين»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «آل محمد(عليهم السلام) هم حبل اللّه الذي أمرنا بالاعتصام به، فقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}»(3).

وفي (مجمع البيان) في تفسير الآية المباركة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ} قال: أي تمسكوا به، وقيل: امتنعوا به من غيره، وقيل في معنى حبل اللّه أقوال:

أحدها: إنه القرآن، عن أبي سعيد الخدري وعبد اللّه وقتادة والسدي.

وثانيها: إنه دين اللّه الإسلام.

وثالثها: ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد(عليهما السلام) قال: «نحن حبل اللّه الذي قال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}».

والأولى حمله على الجميع، والذي يؤيده ما رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «أيها الناس إني قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألّا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

{وَلَا تَفَرَّقُواْ} معناه: ولا تتفرقوا عن دين اللّه الذي أمركم فيه بلزوم الجماعة والائتلاف على الطاعة، واثبتوا عليه.

وقيل: معناه لا تتفرقوا عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، عن الحسن.

وقيل: عن القرآن بترك العمل به.

ص: 6


1- انظر تقريب القرآن 1: 374.
2- تفسير العياشي 1: 194.
3- تفسير العياشي 1: 194.

{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}(1) قيل: أراد ما كان بين الأوس والخزرج، من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة، إلى أن ألفَّ اللّه بين قلوبهم بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد.

وقيل: هو ما كان بين مشركي العرب من الطوائل.

والمعنى: احفظوا نعمة اللّه ومنته عليكم بالإسلام، وبالائتلاف، ورفع ما كان بينكم من التنازع والاختلاف، فهذا هو النفع الحاصل لكم في العاجل، مع ما أعد لكم من الثواب الجزيل في الآجل؛ إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم بجمعكم على الإسلام، ورفع البغضاء والشحناء عن قلوبكم.

{فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ}أي: بنعمة اللّه {إِخْوَٰنًا} متواصلين، وأحباباً متحابين بعد أن كنتم متحاربين متعادين، وصرتم بحيث يقصد كل واحد منكم مراد الآخرين، لأن أصل الأخ من توخيت الشيء: إذا قصدته وطلبته. {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ} أي: وكنتم يا أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على طرف حفرة من جهنم، لم يكن بينها وبينكم إلّا الموت، {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} بأن أرسل إليكم رسولاً، وهداكم للإيمان، ودعاكم إليه، فنجوتم بإجابته من النار.

وإنما قال: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} وإن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها، من حيث كانوا مستحقين لدخولها(2).

إذن: إن اللّه تعالى يأمرنا في كتابه الحكيم والقرآن الكريم بالاتحاد والتآخي، وينهانا عن التفرقة ومعاداة بعضنا البعض، وعلينا كمسلمين امتثال ذلك، فمن يخالفه ويتخذ سياسة التفرقة والمعاداة بدل الاتحاد والتآخي بين المسلمين،

ص: 7


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- تفسير مجمع البيان 2: 356.

فليس هو من الإسلام في شيء، وعلى المسلمين معرفة ذلك كي لا تلتبس عليهم الأمور، فيخطط الأعداء لتمزيقهم وتشتيتهم.

زرّاع العداوة بين المسلمين

إن من الذين عرّفهم التاريخ الصحيح بإعلان سياسة التفرقة، وزرع العداوة بين المسلمين، وقتل الكثير منهم، وتطبيق الطائفية بأبشع صورة وأفضعها، حيث راح ضحيتها عشرات الآلاف من المؤمنين، هو صلاح الدين التكريتي (الأيوبي) الذين ينبغي الكلام حوله، وبيان تاريخه، كي لا يُتخذ أسوة وقدوة، بل آية وعبرة. قال اللّه تعالى في شأن فرعون: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً}(1).

لماذا التفرقة؟

قد تكون سياسة التفرقة هدفاً مرحلياً لدكتاتور يريد السيطرة على شعبه، قال اللّه تعالى في حق فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}(2) أي: فرقاً مختلفة متعادين لينقادوا له.

وفي التفسير: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا} أي: ترفّع وتكّبر {فِي الْأَرْضِ} والمراد بها أرض مصر {وَجَعَلَ أَهْلَهَا}أي: أهل أرض مصر{شِيَعًا} أي: طوائف، جمع شيعة، وهي الطائفة التي تتبع مسلكاً خاصاً، من شايعه إذا تابعه، وهذا دأب الطغاة دائماً؛ إذ لو لم يجعلوا الناس طوائف متناحرة، حتى تشتغل بعضهم ببعض، خافوا من أن يتحدوا ضدهم(3).

وتفريق المسلمين هو الذي تسعى إليه الأيدي الاستعمارية الحاقدة، فإنه أمر

ص: 8


1- سورة يونس، الآية: 92.
2- سورة القصص، الآية: 4.
3- انظر تفسير تقريب القرآن 4: 133.

جوهري ومهم لهم، وهدف دائم وأبدي للأعداء الذين يريدون السيطرة على الأمة ونهب ثرواتها.

ثم إن الغربيين لتصوّرهم الخاطئ بأن في وحدة المسلمين تهديداً لمنافعهم، ونهاية لحياتهم السياسية، يسعون في بث الفرقة بين المسلمين، مع إنه ليس الأمر كذلك، بل الأمر بالعكس، فإن اتحاد المسلمين تحت لواء القرآن وظلال النبي الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) يمكنهم من التفرغ لنشر ثقافة القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) الداعية إلى تعميم السلم والسلام في أرجاء العالم، وتحقيق الأمن والأمان على الكرة الأرضية، وتطبيق نظام التعامل العادل مع الجميع على أساس الاحترام المتقابل، وهذا ما يتعطش إليه كل إنسان حيّ الضمير وسالم الواجدان والفطرة.

وكيف كان: فإن التصور الخاطئ للقوى الكبرى حمل أصحابها على بث سياسة التفرقة بين المسلمين، وقد أحدثت هذه السياسة الخاطئة مشاكل كثيرة، ومتاعب جسيمة، ليس للمسلمين فحسب، بل لهم أيضاً، مما لسنا الآن بصدد بيانها، وإنما نريد الآن بيان عوامل التفرقة وأضرارها على العالم وليس على مجموعة خاصة فقط.

نعم، إن التفرقة قد تكون من حكومة قُطرية تريد السيطرة على شعبها، أو من حكومات القوى الكبرى تريد السيادة على العالم، وتسعى لتأمين منافعها غير المشروعة، وكلا الطرفين في اشتباه كبير، لأنه يحفر قبره بيده، ويقرر مصيره الأسود بنفسه.

ولقد ذكر أحد الأدباء(1) وصور القائمين بأمر التفرقة، والمتصدين لتنفيذها،

ص: 9


1- هو إقبال اللاهوري.

في قصيدة له سماها: (مؤتمر إبليس) ومضمونها كما يلي:

إن إبليس استدعى جنوده وذراريه من كافة الشياطين، فحضروا جميعاً واشتركوا في مؤتمر ضخم كبير، ثم جاء إبليس وبين يديه الكرة الأرضية وجلس بين الشياطين، فلما استقر به المجلس سألهم قائلاً: أين يكمن الخطر علينا في هذا الكوكب؟

فأشار بعض الشياطين بإصبعه إلى موسكو.

فابتسم وقال: هؤلاء اتباعنا فلا خوف منهم.

وأشار البعض الآخر بيده إلى واشنطن!!

فضحك إبليس وقال: هؤلاء أيادينا!

فاحتارت الشياطين وسكتوا، فرفع إبليس يده وخبط بها على رقعة العالم الإسلامي قائلاً: ها هنا مكمن الخطر!

قالوا: تعني هؤلاء المسلمين؟

قال: بلى!

قالوا: إنهم مستعمَرون مستضعفون!

قال: ولو!

قالوا: إنهم متخلفون!

قال: ولو.

قالوا: إنهم مجزّأون!

قال: هذا ما نريده، إياكم أن يتحدوا فإن الخطر في اتحادهم!!

وهذا هو شأن الاستعمار فينا حيث اتفق مع إبليس على أن لانتّحد أبداً، وأسس قاعدة معروفة يجري عليها، ألّا وهي قاعدة (فرق تسد).

ص: 10

صلاح الدين ومحكمة التاريخ

إن من عادة الحكام المستبدين، هو أن يجعلوا حولهم مجموعة من المتملقين والمداحين، ليطروهم باللسان والبيان، ويمدحوهم في الكتب والمؤلفات، فتبقى تلك الكتب والمؤلفات من بعدهم حتى تعد من مصادر التاريخ.

ومن المعلوم أن مثل هذه المصادر ليست من التاريخ الصحيح، ولا يصح الاعتماد عليها، لأنها مما كتبها الحكام بأنفسهم أو كتبت بأمر منهم.

ومن هؤلاء الحكام الذين جروا على هذه العادة هو (صلاح الدين الأيوبي) فقد روى لنا التاريخ الذي كُتب بأمر منه أو بدافع العصبية له، عن عظمته ومآثره، وعن حروبه وانتصاراته على الصليبيين، وقد شوهد في بعض الكتب أنها سجلت المدح والثناء له كما وسُمع من بعض الإذاعات أنها تقول عنه: (البطل، المنتصر، المجاهد الظافر، الرئيس صلاح الدين الأيوبي) وهناك إلى يومنا هذا بعض المجلات والصحف تقوم بمدحه والإطراء عليه.

هذا هو من التاريخ غير الصحيح الذي أشرنا إليه، ومن الواضح أنه لا يُعتمد عليه.

ولكن التاريخ الصحيح الذي يُعتمد عليه، قد روى لنا جانبين عن صلاح الدين:

الجانب الأول: عن حروبه وانتصاراته العسكرية.

الجانب الثاني: عن شدة تعصبه وطائفيته وعنفه وإرهابه في هذا المجال.

ولا منافاة أبداً بين أن يكون شخص واحد محارباً منتصراً في حروبه، وبين أن يكون متعصباً حاقداً طائفياً، عنيفاً إرهابياً في تعصبه، حاملاً على عاتقه كل آثاره الخطيرة.

لقد تسبب صلاح الدين الأيوبي قبل ثمانمائة وخمسين عاماً تقريباً، أكبر مشكلة تاريخية في العالم الإسلامي بشكل عام، وللشيعة بشكل خاص؛ فليس

ص: 11

كل من حمل السيف ثار على التقاليد والأعراف، ولا كل من انتصر على أعدائه كان في حرز حريز من الوقوع في العنف والإرهاب.

فقد كان أعراب الجاهلية كعنترة(1) وغيره أبطالاً في الجاهلية، يدافعون عن أموالهم وأعراضهم وينتصرون على مناوئيهم وأعدائهم، ولكن كانوا في الوقت نفسه يتعصبون للباطل دون الحق إلى حدّ العنف والإرهاب.

وإذا أردنا أن نعرف شيئا عن هذه الروح العنيفة والإرهابية، فعلينا أن نتعرف على تاريخ صلاح الدين قبل دخوله حلب ومصر، وأن نتعرف عليه في بلاط الفاطميين، فمن هذا البلاط شاع اسمه، ومن فضلهم بزغ نجمه، فأسندوا إليه إمارة الجيش تارةً، وقلدوه الوزارة أخرى. فبماذا جازاهم صلاح الدين نتيجة ثقتهم به؟!

مقابلة الإحسان بالإساءة

لقد جازى صلاح الدين إحسان الفاطميين بالإساءة، إذ قام بقتل الكثير منهم ومن غيرهم ممّن كان على مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وشرَّد منهم النساء والأطفال عندما استتب له الأمر في مصر.

ولم تقف مظالم صلاح الدين عند سفك الدماء ونهب الأموال وتشريد النساء والأطفال؛ بل تعدى طغيانه إلى محاربة العلم والتراث، ومقارعة العلماء ومفاخر الدين الإسلامي، وحرق المكتبات والمخطوطات الثمينة.

لقد كانت الدولة الفاطمية آنذاك تعتني عناية خاصة باقتناء الكتب النفيسة، وإنشاء المكتبات العظيمة، التي كانت تزيد محتوياتها على مائتي ألف مجلد من المخطوطات في سائر العلوم والفنون: من الفقه والحديث، واللغة والتاريخ، والأدب والطب، والكيمياء والفيزياء، وغير ذلك، وكانت هذه المكتبات من

ص: 12


1- عنترة بن شداد من فرسان العرب في الجاهلية، ومن شعراء الطبقة الاولى.

عجائب الدنيا حتى قيل: ليس في جميع بلاد الشام بأعظم منها. كما نقل في بعض التواريخ.

ومن هنا يمكن المقارنة بين هذه الروح الجاهلية الإرهابية التي حملها صلاح الدين التكريتي، وبين الروح العلمية السلمية التي أشاعها الفاطميون.

وقد عمد الفاطميون إلى تأمين الحريات لجميع المذاهب الإسلامية، وأسسوا المعاهد العلمية والجامعات المثالية، وأباحوها للجميع بدون تمييز مذهبي أو طائفي.

نعم، لقد أنشأ الحاكم بأمر اللّه الفاطمي (سنة 395ه) دار العلم التي هي أشبه ما تكون في هذا العصر بالجامعات العلمية الكبيرة والمكتبات العامة، وأباحها لسائر المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتباين آرائهم.

فقد أولى الفاطميون من أنفسهم عناية كبرى للعلم وأهله، مما جعل أهل العلم على اختلاف مذاهبهم وطبقاتهم في فسحة واسعة من العيش، وحظ وافر من التقدم والإبداع، والنشاط الدائب والمستمر.

الفاطميون والفقيه المالكي

ومن الحوادث الدالة على انفتاح الفاطميين على جميع المذاهب وأصحابها، قصة الفقيه المالكي: عبد الوهاب بن علي(1) وكان من الأئمة المجتهدين في مذهبه، والذي وصفه الخطيب في تاريخه المعروف (تاريخ بغداد): لم نلق من المالكيين أحداً أفقه منه(2). وقصة هذا الرجل هي: أنه ضاقت به دنيا العرب والإسلام في بلاده فكاد يموت من الجوع في بغداد، فلم يجد إلّا مصر الفاطمية الإسلامية الشيعية يحتمي بها، فلما جاءها أغدق الفاطميون عليه المال وأمروه بالانصراف إلى علمه وبحثه، ولكن الأمر لم يدُم له طويلاً حتى أصيب بالفالج،

ص: 13


1- عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد أبو محمد الفقيه المالكي (362-422ه).
2- تاريخ بغداد 11: 32.

فقال على أثر إصابته: لا إله إلّا اللّه عندما عشنا متنا(1).

استنجاد الفاطميين بالزنكيين

وأكبر من ذلك الذي حدث للفاطميين مع الفقيه المالكي واستقبالهم له هو ما فعله آخر الخلفاء الفاطميين العاضد، عندما تعرض لأكبر تهديد صليبي وذلك في سنة (564ه) وعلم أن لا قدرة له على مقاومة هذا الزحف. فماذا فعل العاضد تجاه هذه الهجمة الصليبية؟!

لقد أرسل الخليفة العاضد(2)..

إلى نور الدين محمود(3) الذي كان يتربص بالفاطميين الدوائر، وكان ممن لم تخف مطامعه وتعصبه وأحقاده على العاضد، فإنه بالرغم من كل ذلك استنجد العاضد به، وذلك بعد أن قص شيئاً من شعر نسائه وأرسلها إليه مع كتب الاستنجاد وفيها يقول له: هذه شعور نسائي من قصري يستنجدن بك لتنقذهن من الإفرنج(4).

أول مرسوم ديني للفاطميين

لم يكن الفاطميون من الشيعة الإمامية الإثني عشرية، وإنما كان مذهبهم إسماعيلياً(5)

ولكن انتشر مذهب الشيعة الإمامية في عهدهم في مصر، والسبب

ص: 14


1- البداية والنهاية 12: 41.
2- العاضد لدين اللّه (544-567ه = 1149-1171م) عبد اللّه (العاضد) بن يوسف بن الحافظ، العلوي الفاطمي، أبو محمد: آخر خلفاء الدولة الفاطمية بمصر والمغرب.
3- نور الدين (511-569ه = 1118-1174م) محمود بن زنكي (عماد الدين) ابن أقسنقر، أبو القاسم، نور الدين: ملك الشام وديار الجزيرة ومصر.
4- انظر سير أعلام النبلاء 20: 415، والكامل في التاريخ 11: 337.
5- الإسماعيليون: وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) والذي توفى في حياة أبيه عام (140ه) ودفن في مقبرة البقيع.

في ذلك هو إعطاء الفاطميين الحرية الكاملة لجميع المذاهب الإسلامية من دون فرق بين هذا أو ذاك، ونشرهم التسامح المذهبي الذي مارسوه بين المسلمين آنذاك.

وأول مرسوم ديني صدر بالتسامح المذهبي في الدولة الفاطمية هو المرسوم الذي أصدره الحاكم بأمر اللّه الفاطمي وقد جاء فيه:

أما بعد، فإن الأمير يتلو عليكم آية من كتاب اللّه المبين: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1) مضى أمس بما فيه وأتى اليوم بما يقتضيه، معاشر المسلمين، نحن الأئمة وأنتم الأمة، من شهد الشهادتين ولا يحل عروة بين اثنين تجمعها هذه الأخوة، عصم اللّه بها من عصم، وحرم لها ما حرم من كل محرم، من دم ومال ومنكح، الصلاح والإصلاح بين الناس أصلح، والفساد والإفساد من العباد يستقبح، يطوى ما كان في ما مضى فلا ينشر، ويعرض عمّا انقضى فلا يذكر ولا يقبل على ما مر وأدبر... يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية في ما هم عليه صائمون ومفطرون، صلاة الخمس للذين بها جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون، يخمس في التكبير على الجنائز المخمسون، ولا يمنع من التكبير عليها المربعون، يؤذن بحي على خير العمل المؤذنون ولا يؤذى من بها لا يؤذنون، لا يسب أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف، والخالف فيهم بما خلف، لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده، وإلى اللّه ربه ميعاده، عنده كتابه وعليه حسابه، ليكن عباد اللّه على مثل هذا عملكم منذ اليوم، لا يستعلى مسلم على مسلم بما اعتقده، ولا يعترض معترض على صاحبه في ما اعتمده،

ص: 15


1- سورة البقرة، الآية: 256.

من جميع ما نصه الأمير في سجله هذا وبعده، قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1) سورة المائدة: 105. والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، كتب في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة»(2).

الفرق بين السيرتين

عند المقارنة بين هذه السيرة المنفتحة والواعية التي كان يتميز بها الفاطميون مع السيرة العنيفة التي كان صلاح الدين يتبعها على الأخص مع سائر مذاهب المسلمين وبالذات مع الشيعة، يُعرف الفرق بينهما، ويُعلم المدى الشاسع بين سيرة صلاح الدين الأيوبي وسيرة الفاطميين، فأين تلك الروح من هذه؟!

مع أن صلاح الدين قد لمس تلك الروح وعاش معها، ولكنه تعامل معهم بالعكس من ذلك، وقابل الإحسان بالإساءة، والخير بالشر، وما كان كل الذي ارتكبه في حقهم لذنب فعلوه، ولا لجرم ارتكبوه، سوى أنهم كانوا شيعة.

أجل، لقد أشعل صلاح الدين جراء تعصبه المذهبي وشدة عنفه وإرهابه، الحروب والفتن بين المسلمين، فقد كانت من جملة ممارساته العدائية والطائفية أنه كان يحاول بشتى الوسائل العنيفة والسبل الإرهابية في القضاء على كل أثر للشيعة، وكان يحمل الناس على التسنن وعقيدة الأشعري(3) ومن خالف ضرب عنقه، وأمر بأن لا تقبل شهادة أحد، ولا يقدّم للخطابة، ولا للتدريس، إلّا إذا كان مقلداً لأحد المذاهب الأربعة.

ص: 16


1- سورة المائدة، الآية: 105.
2- انظر تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر 4: 60.
3- الأشاعرة والأشعرية: نسبة تمثل رواد مذهب كلامي في أصول الدين، مؤسسه: أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، في أواخر القرن الرابع الهجري.

نعم لقد أحدث صلاح الدين في العالم الإسلامي فجوةً لاتلتئم وجرحاً لا يندمل، وهذا ما أراده الاستعمار الصليبي آنذاك حتى يتمكن من دخول بلاد الإسلام.

وبهذا أصبح صلاح الدين - من حيث يشعر أو لا يشعر - أداة مطيعة لتنفيذ مخططات الاستعمار الصليبي، وسبباً لتقويتهم، وتضعيف المسلمين، وإن كان في الظاهر حاربهم وانتصر عليهم، وأخرجهم من بلاد المسلمين، ولكنه في المقابل نراه قد تنازل عن الكثير من البلاد الإسلامية للصليبيين، عبر معاهدات وعهود مشبوهة. فإن الاستعمار الصليبي منذ ذلك الزمان وحتى يومنا هذا، يستغل مثل هؤلاء المتعصبين - من حيث يشعرون أولا يشعرون - لمصالحه، ويستفيد من عنفهم وإرهابهم لتنفيذ مخططاته الشيطانية ضد المسلمين.

هذا غير تقسيم البلاد والإمارات على أولاده وأقربائه مما سبب نشوب العديد من الحروب الطاحنة في ما بينهم بعد موته، فقد قسم صلاح الدين الامبراطورية الأيوبية ممالك بين أولاده وأخوته وأبناء إخوته، كأنها ضيعة يملكها، لا وطناً إسلامياً ضخماً تملكه الأمة الإسلامية.

نعم، كما استفادت القوى الاستعمارية الصليبية بالأمس من الخلافات المذهبية التي أوجدها بين المسلمين أمثال صلاح الدين ومن سار على شاكلته، فكذلك القوى الاستعمارية الصليبية اليوم - وبشكلها الجديد - غدت تعمل جادّة في الخفاء، وبوسائلها الشيطانية، وأصابعها الخفية المرموزة، على تنفيذ مؤامراتها، وتهيئة الأجواء المناسبة لنمو الخلاف القومي، وانتشار الطائفية، وإشعال نار الفتن، وزرع بذور الشقاق والنفاق بين أبناء الدين الواحد وأحياناً بين المذهب الواحد، لتستفيد من ذلك في السيطرة عليهم، ونهب ثرواتهم، وسلب خيراتهم.

ومن المؤسف جداً - رغم توفر التاريخ الصحيح في المكتبة الإسلامية حول

ص: 17

عنف صلاح الدين وإرهابه - أن نجد اليوم من يمدح صلاح الدين ويقلده الألقاب الجميلة، ويسمه الأوسمة الرفيعة، ويطرحه بعنوان شخصية تاريخية حاربت الصليبيين وانتصرت عليهم، أما أنه ماذا ارتكب من جرائم في حق الإسلام والمسلمين، بل في حق الإنسان والإنسانية، فلا يتطرقون إلى ذلك مطلقاً.

حتى إن هناك بعض الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) ينقلون ما نقله الآخرون لهم، ويفوهون بما يتفوه به غيرهم في مدح صلاح الدين، وذلك من دون النظر إلى صحتها وسقمها!

التكريتيان: صلاح وصدام

إن صداماً سوف يزول إن شاء اللّه تعالى(1)، إلّا أن بعض المتعصبين والطائفيين من حكام وغيرهم - الذين يكونون أداة طيعة لخدمة الاستعمار الصليبي من حيث يشعرون أو لا يشعرون - كما صنعوا بالأمس من صلاح الدين بطلاً تاريخياً، فكذلك سيصنعون في الغد من صدام بطلاً تاريخياً أيضاً؛ وما ذلك إلّا لأنه قام كصلاح الدين بقتل الشيعة وتشتيت شملهم وتفريق وحدتهم وزرع الفتن بين صفوف المسلمين، وإلّا فأيّ خدمة لصدام تستحق التقدير، وأيّ صفة إنسانية له يستحق لها الثناء والتقريظ؟ هل تعطشه للدماء، وقتله للأبرياء، وتسلطه على رقاب الشعب العراقي بالحديد والنار، وسجونه الرهيبة وتعذيباته الوحشية و...؟

قصة من الواقع العراقي

نقل لي أحد الأصدقاء وكان مدعواً من قبل أحد شيوخ المنطقة قائلاً: كان من

ص: 18


1- نعم، زال طاغوت العراق في العصر الحديث عام (2003م).

ضمن المدعوّين شخصية عراقية معروفة وهو من أبناء العامة المتعصبين، وفي أثناء تبادل الحديث أخذ هذا المتعصب يمدح صداماً. فقلت له: لماذا هذا المدح وإن صداماً هذا هو تلميذ ميشيل عفلق المسيحي الصليبي، وصاحبه طارق حنّا عزيز الذي يقوم بتنفيذ كل مخططات صدام الإجرامية وخاصة في قتل الشيعة، هو مسيحي صليبي أيضاً؟

فأجابني قائلاً: هذا كله صحيح إلّا أن صداماً عدو للشيعة قبل كل هذا، وقد أنزل البلاء الأسود بلا هوادة ولا رحمة على الشيعة قاصداً ومتعمداً!

فقلت له: اتقّ اللّه في دماء المسلمين يا شيخ.

فقال لي: أشيعي أنت؟

فقلت له: نعم.

فقال وهو يتنصّل ويعتذر: عفواً!

هكذا يقف بعض المتعصبين إلى جانب الظلم والعدوان، ويتحملون دماء المسلمين الأبرياء، تحقيقاً لأهداف طائفية باطلة عمياء، وهذا يخالف ما أمر به القرآن الكريم والنبي العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام).

قصة أخرى

لقد رأيت مرة أحد البعثيين ممن كان قد ارتدى لباس رجل دين، وحشر نفسه مع أهل العلم، أنه كتب لأحمد حسن البكر رسالة خاطبه فيها تملّقاً بقوله: إلى حضرة العلامة الحاج الشيخ أحمد حسن البكر دامت بركاته... .

ومن المعلوم: أن أمثال هؤلاء المتملقين، الذين يبيعون دينهم وضمائرهم للحكام الظالمين، هم على استعداد تام للتعاون معهم في ظلمهم وعنفهم، ومشاركتهم في إجرامهم وإرهابهم.

ص: 19

من نتائج التعصب الأعمى

إن هذا البلاء: بلاء الاستضعاف الذي لحق بالأمة، وإن هذه الاستهانة: استهانة النفوس والدماء، ونظرة الازدراء التي يقابلنا بها الغرب والشرق، ما هو إلّا نتيجة التفرقة البغيضة، والعداء المقيت، الذي يزيده استعاراً شدة تعصب البعض، وذلك التعصب الأعمى الجاهلي الذي لا ينطبق مع أي من الموازين الإسلامية، بل وحتى الإنسانية، مع أن اللّه تعالى يقول:

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَٰهِلِيَّةِ}(1).

ويقول رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «انصر أخاك ظالماً أومظلوماً».

فقيل: يا رسول اللّه، كيف أنصره ظالماً؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ترده عن ظلمه، فذاك نصرك إياه».(2)

فلو كففنا أمثال صلاح الدين عن ظلمهم، وذلك بفضحهم وكشف واقعهم وبيان تاريخهم، لما قام أحد بمدح صلاح الدين وأمثاله، ولا تجرأ على أن يصنع من صدام التكريتي صلاح دين آخر.

وإني من هنا أوجّه خطابي إلى السادة الكتّاب والمؤلفين، وإلى كل من له القدرة على القلم والبيان: من الفضلاء والخطباء، وأهل الفكر والثقافة، وأطلب منهم - خدمة للإنسانية ونفياً للعنف والإرهاب بكل أشكاله - أن يسعوا للكتابة بشكل موضوعي، وبعيداً عن التعصب ودواعي الهوى، وينقلوا بأمانة ما سجله التاريخ الصحيح عن صلاح الدين الأيوبي وأمثاله، ممن كان له دور كبير في تمزيق الأمة الإسلامية، وفي تأجيج نار الفتنة العمياء: فتنة الطائفية المقيتة في العالم الإسلامي؛ والتي راح ضحيتها حتى اليوم ملايين الأبرياء، وأدّت إلى فشل

ص: 20


1- سورة الفتح، الآية: 26
2- رياض المسائل 13: 286.

المسلمين ومصادرة عزهم وسؤددهم، وتسلط الأعداء عليهم ونهب ثرواتهم وسلب خيراتهم.

عبد الناصر وصلاح الدين

من أبرز الذين بدؤوا - تبعاً لسياسة التفرقة والعداء بين المسلمين - بمدح صلاح الدين الأيوبي هو جمال عبد الناصر وتبعه آخرون دون تحقيق؛ علماً بأن عبد الناصر هو من سعى في تأجيج نار الطائفية المقيتة، بل ونار القومية البغيضة أيضاً في المسلمين، فقد دعا إلى القومية العربية ونفي القوميات الأخرى، كما وبلغ للطائفية وضرب مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وذلك بكل إمكاناته الدعائية، وجميع وسائله الإعلامية، وبالعديد من اللغات الحية العالمية، وأصبح بذلك أداة طيّعة لتنفيذ مخططات الاستعمار الصليبي - من حيث يشعر أو لا يشعر - وأدّى ذلك إلى تدمير مصر وتقهقر الشعب المصري بل خسارة العالم الإسلامي، فلا بد من كشف هؤلاء وفضحهم للرأي العام.

وكيف كان: فإن علماء المسلمين ومثقفيهم لو لم يقوموا بفضح الحكام السابقين أمثال معاوية ويزيد ومروان وغيرهم، لأصبحوا اليوم شخصيات تاريخية تحظى بأهمية متميزة، واحترام فائق، وقدسية وشرعية.

إلّا أن المسلمين فضحوهم وأظهروا للناس جرائمهم وكشفوا عن نياتهم وأعمالهم، وعن عنفهم وإرهابهم حتى سقطوا من أعين الناس. وهكذا علينا أن نفضح أمثال صلاح الدين التكريتي حتى لا يخفى على أحد خيانتهم بالأمة الإسلامية، وإجرامهم في حقها، بل في حق الإنسان والإنسانية جمعاء(1).

ص: 21


1- لعل من المفيد في هذا الشأن مطالعة كتاب (صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين) للسيد حسن الأمين.

معاونا الحاكم العباسي: وصيف وبغا

كان لأحد حكام بني العباس معاونان هما: وصيف وبغا، وكانا من الأتراك، وقد جاء بهما الحاكم العباسي إلى السلطة بعد ضرب البرامكة(1) وجعلهما في دار الخلافة، وأوكل إليهما كل الأعمال المهمة في البلاد. وبقي الحاكم منشغلاً باللّهو والفساد، وقد قال الشاعر في ذلك:

خليفة في قفص *** بين وصيف وبغا

يقول ما قالا له *** كما يقول الببغا(2)

وكذلك فعل المغرضون والمقلدون، فحينما قام جمال عبد الناصر - متابعة منه لسياسة التفرقة وإلقاء العداء بين المسلمين - بمدح صلاح الدين الأيوبي، تبعه الآخرون وراحوا يقلدونه في ذلك ويمدحون صلاح الدين الأيوبي وكأنهم الببغاء، فساعة نسمع المدح من هذا الراديو، وساعة أخرى من ذلك الراديو، حتى اشتهر اسمه مقروناً بالمدح والإطراء بين بعض الناس؛ لذا فمن الضروري القيام بنشر ما أثبته التاريخ الصحيح عن عنف صلاح الدين، وأعماله الإرهابية التي قام بها تجاه المسلمين خدمة للاستعمار الصليبي حتى يسقط من أعين الناس؛ ويعرفه الجميع بأنه - على أقل تقدير - كان سفاك ذلك الزمان وحتى لا يتكرر من أمثاله.

نموذج من الانصياع

نقل لي أحد الأصدقاء قائلاً: التقيت برجل - وكان من عشائر إيران - أيام حكم البهلوي الأول(3) في مطار بغداد ومعه زوجته وأطفاله مهاجرين إلى العراق،

ص: 22


1- البرامكة: أسرة فارسية من بلخ، تولى أبناؤها الوزارة في عهد العباسيين، عظم شأنهم ثم نقم عليهم هارون العباسي ونكبهم.
2- وصيف وبغا: مملوكان تركيان، كانا من كبار الأمراء في بغداد أيام المتوكل وبعده بقليل.
3- رضا خان (1878- 1944م) شاه إيران.

فقلت له متسائلاً: إن أمرك عجيب، إذ لك في إيران عشيرة وارتباطات، فلماذا تركتها وأقدمت على الهجرة إلى العراق؟

فقال في الجواب: إن البهلوي أمر في مرسوم حكومي بفرض التبرّج على المرأة وإلغاء الحجاب عنها بنحو إجباري، ولهذا هاجرنا من إيران وجئنا إلى العراق حتى تبقى العائلة محافظة على حجابها.

قال: فاستحسنت منه هذه الخطوة وباركته عليها، ولكن التقيت به للمرة الثانية وبعد عشر سنوات مضت عليه وفي بغداد أيضاً، فرأيته يصحب معه زوجته وبناته وهنّ بغير حجاب!! ويظهر أنهنّ جئن من صالون الحلاقة وتصفيف الشعر، وكنّ أيضاً يرتدين الثياب غير الملائمة للحشمة، والمنافية لشخصية المرأة الموقرة، فسلم عليّ، فأجبت على سلامه وسألته وأنا متحير في أمره قائلاً: من هؤلاء النسوة اللواتي معك؟

قال: هؤلاء بناتي.

فقلت له: هؤلاء هم الذين كانوا أطفالاً قبل عشر سنوات؟

قال: نعم.

فقلت له: وما هذا التبرج السافر ونبذ الحجاب وترك الحشمة؟

قال: هذا من متطلبات العصر!!

نعم، إن الانصياع للأقوال الباطلة والأفعال المحرمة، والتقليد الأعمى هو أحد أسباب تأخر المسلمين.

علماً بأننا لسنا بحاجة إلى مثل هذا التقليد؛ فالشريعة الإسلامية متكاملة، ونبيّنا خاتم الأنبياء وسيد الرسل(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمتنا هم أهل بيته المعصومون(عليهم السلام) وهم القادة لنا، والحجة علينا، والأسوة فينا، الذين يجب علينا إتباعهم في كل جوانب الحياة.

ص: 23

لذلك يجب علينا أن نقرأ الحقائق ونطالع الكتب حتى نعرف سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) وتعاليم السماء ونعمل بما جاء به الإسلام، لا أن نقلد الآخرين تقليداً أعمى وبدون تحقيق. كما يفعل البعض اتجاه ما يسمعه من مدح لصلاح الدين الأيوبي فيردّده هو أيضاً، وذلك من دون تحقيق وتدقيق.

بعض ما سجله التاريخ عن صلاح الدين

إن من جملة الأعمال التي سجلها التاريخ الصحيح على صلاح الدين بحق الشيعة والتشيع، والإسلام والمسلمين، هو ما يلي:

1- إنه قام بقتل الشيعة الفاطميين في مصر، وسورية، والأردن، ولبنان، وغيرها. فإنه حينما دخل الصليبيون القدس، كان هو قائداً في جيش الفاطميين الذين جمعوا قدرتهم وعززوها لمواجهة الصليبيين وإخراجهم من القدس، وقد أوكل الفاطميون إلى صلاح الدين مقاتلة الصليبيين في جناح دمشق القتالي، إلّا أنه قام بانقلاب عسكري ضد دولة الفاطميين، والانقلاب العسكري جريمة لا تغتفر، وخاصة إنه كان انقلاباً على من أحسنوا إليه، وتفضلوا عليه، وصار بذلك مصداقاً لقول الشاعر:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

2- إنه مضافاً إلى جريمة الانقلاب العسكري وإسقاط حكومة الفاطميين الذي أحسنوا إليه، عمل على تجزئة الدولة الإسلامية التي كانت متحدة في ما بينها، فصارت لسورية حكومة مستقلة، بعد أن كانت هي إحدى المدن التابعة للدولة الفاطمية، وكذلك انفصلت مصر وصارت لها حكومة مستقلة أخرى.

وإن التجزئة لوحدة البلاد الإسلامية سببّت تضعيفاً لقدرات المسلمين التي كانت تقابل قدرة الصليبين، ومن المعلوم: إن هذه التجزئة هي بحد ذاتها جريمة كبرى لا تغتفر، لأنها سبّبت سُلطة الصليبيين - الذين كانت تدفعهم أطماع

ص: 24

استعمارية - على المسلمين إلى يومنا هذا.

3- إنه قام بقتل مليون شيعي أو ما يزيد على ذلك من الفاطميين وغيرهم ظلماً ومن دون سبب، سوى أنهم شيعة، وإنهم أحسنوا إليه وتفضلوا عليه.

4- إنه أمر بإحراق المكتبات الكبيرة التي أسسها الفاطميون، والتي تعد من أضخم المكتبات في العالم الإسلامي آنذاك، حيث يعجز المؤرخون في وصف عظمتها ونفاسة محتوياتها، وكان بها ما يزيد على مائتي ألف مجلد من المخطوطات، وقيل: ستمائة ألف، في سائر العلوم والفنون.

وإحراق التراث العلمي لوحده جريمة تاريخية لا تغتفر ضد العلم والثقافة، وبحق الإنسان والإنسانية.

5- إنه أوصى بعد وفاته بتقسيم البلاد الإسلامية على أبنائه كما يقسم الإرث، وكذلك فعل أبناؤه واقتسموا البلاد بينهم، فلما مات صلاح الدين في الشام كان ابنه وولي عهده: علي أبو الحسن، حاضراً عنده، فجلس بعد أبيه مكانه وتلقب: باسم الملك الأفضل، واستقل بالحكم في الشام وما يليها، واستقل بالحكم كل من أخويه: الملك العزيز عثمان في مصر، والملك الظاهر في حلب.

6- إنه كان يأمر بتعذيب الناس، وهذه مخالفة صريحة لأحكام الإسلام ونصوص القرآن، الآمرة باحترام الإنسان وتكريمه، ورعاية حقوقه وشؤونه، كما أنه مخالف للعقل أيضاً، وكان من أنواع التعذيب التي استخدمها صلاح الدين الأيوبي ضد المسلمين الشيعة بالذات هي: صناعة خوذ وإعداد قلنسوات خاصة كان يملؤها بالعقارب ثم يلبسها في رأس المسلم الشيعي، فتقوم العقارب بلدغه ولسعه حتى يموت وهذه هي نفس الطريقة التي اتبعها صدام التكريتي اليوم في حق أبناء شعبنا المظلوم في سجون العراق الرهيبة.

7- إنه قام بقتل العلماء والفقهاء، وعمل على تحطيم الحوزات العلمية في

ص: 25

حلب وغيرها من البلاد التي صارت تحت سيطرته عبر الانقلاب العسكري الذي قام به غدراً بالفاطميين.

إلى غير ذلك من أعمال إرهابية عنيفة قام بها تنكيلاً بالمسلمين الشيعة، وتضعيفاً للأمة الإسلامية، مما حرّمها اللّه ورسوله، ولم يرض بها الإسلام العظيم.

التكريتيان ينّفذان مخّططاً واحداً

لقد قام صدام التكريتي في عراقنا اليوم بمثل ما قام به صلاح الدين التكريتي في مصر بالأمس: من تدمير وتخريب، وإرهاب وعنف.

وتكرار هذا التاريخ وأشباهه هو بعض نتائج أسباب كثيرة، ونزر من ثمار أمور عديدة، لعل أهمها هو عدم التصدّي لفضح أمثال صلاح الدين التكريتي في وسائل الإعلام العالمي، وفي الأوساط الشعبية والجماهيرية، حتى يحذر الناس من تكرار أشباه صلاح الدين، ويمنعوا من وصولهم إلى الحكم والتسلّط على رقاب الشعوب المغلوبة على أمرها.

فالتصدي الإعلامي لكشف الشخصيات المزوّرة، ذوي الاتجاهات العنيفة، والأفكار الإرهابية، المتطفلة على الإسلام والمسلمين، وفضحهم أمام الرأي العام العالمي، أمر ضروري لا بدّ منه، وذلك عبر كل وسائل الإعلام القديمة والحديثة: من كتب وكرّاسات، ونشرات ومقالات، ومجلات وصحف، وراديوات وتلفزة، وغير ذلك، فإن الفكر الإرهابي العنيف لا يقاومه إلّا الفكر الإسلامي المسالم الصحيح، والفكر المسالم الصحيح أسرع تقبلاً في الأوساط الشعبية والجماهيرية من غيره.

سياسة ترويج الطغاة

نعم، إن الفكر لا يقاومه إلّا الفكر، والكلمة الباطلة لاتدفعها إلّا الكلمة الحقة، والثقافة الفاسدة لا تغيّرها إلّا الثقافة الصحيحة، وعلينا أن نعلم أن

ص: 26

الاستعمار الصليبي لا يكف عن تنفيذ مخّططاته السيئة تجاه المسلمين ما لم يتحدوا ويتآخوا في ما بينهم، كما إنه لايقصّر في نشر ثقافة الباطل وترويج الشخصيات الإرهابية في الأمة الإسلامية وتحكيمها برقاب المسلمين ما لم يحصلوا على وعي ديني وفقه سياسي.

فمثلاً: فرعون الإرهابي العنيف الذي قتل الناس وشق بطون النساء الحوامل وقضى على الأطفال والأجنّة، واستضعف أهل مصر وكان يذبّح أبناءهم ويستحي نساءهم، وقد لعنه القرآن لعناً وبيلاً، نرى مع ذلك أن جمال عبد الناصر يروّج له بكل طاقاته وقواه، وجميع إمكاناته ووسائله، فيعرض له الأفلام، ويقيم المسرحيات، وينصب له التماثيل في وسط الساحات العامة في مصر، مضافاً إلى ذلك كّله، إنه أخذ يقلّد فرعون في سياسته وأساليبه، مع أن فرعون قد ذمّه القرآن الحكيم على طغيانه وادعائه الألوهية.

قال تبارك وتعالى: {هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ * إِذْ نَادَىٰهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ * فَأَرَىٰهُ الْأيَةَ الْكُبْرَىٰ * فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ * فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْأخِرَةِ وَالْأُولَىٰ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ}(1).

نعم، إن فرعون ومصيره الأسود عبرة، وقد حكى القرآن قصته لنعتبر به، فلا نكرر أعماله، ولا نسمح لأحد بأن يكرر مواقفه الإرهابية، وأفكاره العنيفة، ويتبع سياسة التفرقة والعداء بين المسلمين.

الطغاة ومصيرهم الأسود

لقد ذكر لنا التاريخ: إن فرعون أمر بتشييد الأبنية الفخمة، والصروح العالية

ص: 27


1- سورة النازعات، الآية: 15-26.

جدّاً(1) وقد أصدر أمره بالعمل الإجباري، وفرض على كل واحد من الناس رجلاً كان أو امرأة مزاولة الأعمال الشاقة، وذلك بأن يأتي بحجر كبير من الجبال المحيطة بالمدينة لغرض استخدامه في تلك الأبنية.

إنه لم يستثن من ذلك أحداً ولم يعذر فيه حتى المرأة الحامل، وفي أحد الأيام بينما كانت إحدى النساء الحوامل ترتقي سلماً لتنقل حجراً كبيراً كان على عاتقها حتى توصله إلى محل البناء، تعبت فأرادت أن تستريح قليلاً ثم تواصل عملها، لكنها فور ما ركنت إلى الاستراحة قام إليها الجلاوزة يضربونها بالسياط حتى أسقطوا جنينها، فصاحت هذه المرأة التي لا حامي لها وهي بتلك الحالة المزرية: يا رب، أأنت نائم يا إلهي؟ ألم تر فرعون الظالم ماذا يفعل بنا؟

استجاب اللّه تعالى دعاءها، ليتثبت لها ولكل المظلومين في العالم بأنه تعالى بالمرصاد لهؤلاء الظالمين، فلم تمض إلّا مدة يسيرة حتى غرق فرعون وجاءت هذه المرأة المظلومة إلى جانب نهر النيل لترى ما حلّ بفرعون الظالم من نهاية سيئة، فلمّا وقفت عليه إذا بها تسمع كأن منادياً ينادي: أيتها المرأة، ما كنا نائمين بل إنا للظالمين بالمرصاد، وهذا هو مصير الطغاة ونهاية الظالمين دائماً وأبداً، وأما في يوم القيامة فالنار مثواهم وبئس المصير.

فضح الظالمين

ثم إن من اللازم على المسلمين اليوم هو أن يقوموا بفضح صلاح الدين وصدام وأمثالهما، وذلك ببيان مثالبهم وجرائمهم؛ ليتعرف عليها الناس

ص: 28


1- ومنها أمره بتشييد صرح عالٍ وكما جاء في الآيتين الكريميتين قوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا} سورة القصص، الآية: 38. وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰهَٰمَٰنُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَٰبَ} سورة غافر، الآية: 36.

فيحذروها ويحذروا من تكرار أمثالها، وحتى لا يصبح غداً صدام التكريتي صلاح الدين الثاني لهذا العصر.

فإن ما حلّ بالمسلمين من الأحداث المؤلمة كالتفرقة والمعاداة وويلاتها التي عظم وقعها في العالم الإسلامي اليوم، والتي حدثت بسبب صلاح الدين وأمثاله ممن زرعوا الطائفية البغيضة بين المسلمين، يجب أن تبين، وتنشر في الملأ، وعلى رؤوس الأشهاد، حتى يحذر المسلمون اليوم من دعاة التفرقة، أمثال صدام التكريتي وغيره من الذين سوّدوا التأريخ بصفحاتهم المظلمة، المليئة بالظلم والعدوان.

وكي لا ندع مجالاً لهؤلاء الذين يستغلون مراكز القدرة وثروات شعبهم من أجل ترويج الطغاة كفرعون ومن شابهه، وحتى لا ندع مجالاً للطائفية المقيتة والعصبية العمياء لتأتي على وحدتنا، وتقضي على تآخينا؛ فإن نتائجها خطيرة على الإسلام والمسلمين.

هذا وقد سئل الإمام السجاد(عليه السلام) عن العصبية؟

فقال:«العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم»(1).

«اللّهم إني أعوذ بك من هيجان الحرص، وسورة الغضب، وغلبة الحسد، وضعف الصبر، وقلّة القناعة، وشكاسة الخُلق، وإلحاح الشهوة، وملكة الحمية، ومتابعة الهوى، ومخالفة الهدى»(2).

ص: 29


1- الكافي 2: 308.
2- الصحيفة السجادية: من دعاءه(عليه السلام) في الإستعاذة من المكاره وسيئ الأخلاق ومذام الأفعال.

من هدي القرآن الحكيم

المسلمون أمة واحدة

قال اللّه تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(3).

تداول الأيام

قال اللّه تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}(4).

وقال سبحانه: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّىٰمِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ}(6).

التعصب ليس من أخلاق الإسلام

قال اللّه تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَٰهِلِيَّةِ}(7).

وقال سبحانه: {وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَٰسِرُونَ}(8).

ص: 30


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة المؤمنون، الآية: 52.
3- سورة الحجرات، الآية: 10.
4- سورة آل عمران، الآية: 140.
5- سورة يونس، الآية: 102.
6- سورة إبراهيم، الآية: 5.
7- سورة الفتح، الآية: 26.
8- سورة المؤمنون، الآية: 34.

وقال عزّ وجلّ: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا۠ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّنَفَرًا}(1).

رفعة العلم والعلماء

قال اللّه تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال سبحانه وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(3).

القرآن يأمر بالتآخي

قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(6).

هزيمة الباطل أمام الحق

قال اللّه تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}(7).

ص: 31


1- سورة الكهف، الآية: 34.
2- سورة الزمر، الآية: 9.
3- سورة المجادلة، الآية: 11.
4- سورة الحجرات، الآية: 10.
5- سورة آل عمران، الآية: 103.
6- سورة الأنعام، الآية: 153.
7- سورة الأنبياء، الآية: 18.

وقال عزّ وجلّ: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

المؤمنون أخوة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لكميل: «ياكميل، المؤمن مرآة المؤمن؛ لأنه يتأمله ويسدُّ فاقته ويجمِّل حالته، ياكميل، المؤمنون إخوة ولا شيء آثر عند كل أخ من أخيه، ياكميل، إن لم تحبَّ أخاك فلستَ أخاه».(2)

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما المؤمنون أخوة بنو أب وأم، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون»(3).

وقال(عليه السلام):«لكل شيء شيء يستريح إليه، وإن المؤمن ليستريح إلى أخيه المؤمن كما يستريح الطير إلى شكله»(4).

التعقل والتعرف على الزمان

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «في حكمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه»(5).

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): «من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد»(6).

وقال(عليه السلام):«من لم يعرف لؤم ظفر الأيام لم يحترس من سطوات الدهر، ولم

ص: 32


1- سورة المجادلة، الآية: 21.
2- تحف العقول: 173.
3- الكافي 2: 165.
4- بحار الأنوار 71: 274.
5- الكافي 2: 116.
6- الكافي 8: 23.

يتحفظ من فلتات الزلل، ولم يتعاظمه ذنب وإن عظم»(1).

التعصب منفي في الإسلام

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تعصّب أو تعصّب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه اللّه يوم القيامة مع أعراب الجاهلية»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من تعصب عصبهُ اللّه بعصابة من نار»(4).

وقال(عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الصدود لأوليائي؟ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم، فيقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنفوهم في دينهم، ثم يؤمر بهم إلى جنهم»(5).

فضل العلم ورفعة العلماء

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر»(6).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العلم رأس الخير كله، والجهل رأس الشرّ كله»(7).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال: أنّ أمقت

ص: 33


1- بحار الأنوار 68: 342.
2- الكافي 2: 308.
3- الكافي 2: 308.
4- الكافي 2: 308.
5- الكافي 2: 351.
6- بصائر الدرجات 1: 7.
7- بحار الأنوار 74: 175.

عبيدي إليّ الجاهل، المستخف بأهل العلم، التارك للاقتداء بهم، وأن أحب عبيدي إليّ التقي، الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء، التابع للحلماء، القابل عنالحكماء»(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إذا أراد اللّه بعبد خيراً فقههُ في الدين»(2).

وقال(عليه السلام): «اغدُ عالماً أو متعلماً أو أحبب أهل العلم، ولا تكن رابعاً فتهلك ببغضهم»(3).

التآخي بين المسلمين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«المؤمن مرآة المؤمن»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «المسلم أخو المسلم، هو عينه ومرآته ودليله، لايخونه ولا يخدعه، ولا يظلمه ولا يكْذبه ولا يغتابه»(5).

وقال(عليه السلام): «المؤمن أخ المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة، وإن روح المؤمن لأشد اتصالاً بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها، ودليله لايحزنه، ولايظلمه، ولايغتابه، ولا يعدهُ عدة فيخلفه»(6).

انتصار الحق وهزيمة الباطل

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحق سيف على أهل الباطل»(7).

ص: 34


1- الكافي 1: 35.
2- الكافي 1: 32.
3- المحاسن 1: 227.
4- جامع الأخبار: 85.
5- الكافي 2: 166.
6- مصادقة الأخوان: 48.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 77.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما الحق منيف فاعملوا به، ومن سره طول العافية فليتق اللّه»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ليس من باطل يقوم بإزاء الحق إلّا غلب الحق الباطل، وذلك قوله عزّ وجلّ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}»(2)(3).

ص: 35


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 304.
2- سورة الأنبياء، الآية: 18.
3- الكافي 8: 242.

ضرورة التفرغ للعمل في سبيل اللّه

التفرغ للعمل

على كل فرد يعيش في المجتمع أن يفّرغ نفسه للعمل في سبيل اللّه عزّ وجلّ، إذا تمكن من ذلك، فإن في ذلك ثواب عظيم من اللّه سبحانه وتعالى لعبده المؤمن.

وقد ورد في أغلب كتب التاريخ في وصف أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) أنهم كانوا رهباناً في الليل فرساناً في النهار(1) أي إنهم كانوا يقضون لياليهم في إقامة الصلاة والعبادة وقراءة القرآن وما أشبه... وفي النهار يواصلون أيامهم في ساحات الجهاد والعمل في سبيل اللّه.

والجهاد: يعني إجهاد النفس لأجل طاعة اللّه سبحانه وتعالى وتحكيم كلمته في الأرض، فكما أن التواجد في ساحة الحرب وجهاد النفس من أنواع الجهاد، فكذلك الجهاد لأجل هداية الناس، سواء كان عبر الكتابة والخطابة والتبليغ والموعظة الحسنة وإقامة المؤتمرات والندوات وما أشبه... يعتبر هو الآخر من أنواع الجهاد أيضاً، وهذا لا يكون إلّا عبر التفرغ التام للعمل في سبيل اللّه.

ص: 36


1- انظر نهج البلاغة، الخطب الرقم: 193 ومن خطبة له(عليه السلام) يصف فيها المتقين، الكافي 2: 236 وفيه عن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «صلى أمير المؤمنين(عليه السلام) الفجر ثم لم يزل في موضعه حتى صارت الشمس على قيد رمح وأقبل على الناس بوجهه فقال: واللّه لقد أدركت أقواماً يبيتون لربهم سجداً وقياماً يخالفون بين جباههم وركبهم، كأن زفير النار في آذانهم...».

ذلك لأن الفرد الذي يصرف معظم يومه من أجل مكسبه الشخصي وقضاياه الحيوية الخاصة، سوف يكون عادة خائر القوى، متوتر الأعصاب في آخر يومه، وهذا ما يجعله أن لا يتمكن من القيام بمهمة التبليغ والإرشاد للمجتمع كما ينبغي.

فمن الواجب على الإنسان المسلم الرسالي - على أقل تقدير - أن يخصص جزءاً من يومه وبعضاً من وقته للعمل في سبيل اللّه كل ما تمكن من ذلك، وبالخصوص في مرحلة الشباب، لما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره في ما أفناه، وشبابه في ما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفي ما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت»(1).

فهذا الحديث يأمرنا بأن نحافظ على مرحلة الشباب ولا نضيعها في اللّهو والأعمال الباطلة، بل نستغلها في أعمال الخير والصلاح والتفرغ ما أمكن في سبيل اللّه، ذلك لأن مرحلة الشباب سريعة الزوال، وسريعاً ما يجد الفرد نفسه يعيش في مرحلة الشيخوخة والهرم بعد أن كان في بحبوحة الشباب.

يقول الشاعر:

فتراكضوا خيل الشباب وحاذروا *** أن تسترد فإنهن عواري

لذا على المؤمنين باللّه - وبالذات الشباب منهم - أن يتفرغوا لرسالة اللّه ودينه، كما يتفرغ الكثير من الناس للمبادئ الهدامة والعقائد الباطلة من شيوعية وقومية ومعتقدات وثنية وما أشبه.

وجوب الجهاد

اشارة

والمشهور بين الفقهاء: إن الاجتهاد واجب كفائي، لكن والدي المرحوم

ص: 37


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 39.

السيد ميرزا مهدي(رحمه اللّه) كان يقول: في زماننا هذا الاجتهاد واجب عيني، أي إن حكمه كحكم الصلاة والصيام الواجبين على جميع الناس، وقد كان(رحمه اللّه) يعلل ذلك بكثرة وجود القوى المنحرفة بين صفوف المسلمين، وضعف القوة الإسلامية بسبب قلة العلماء والفقهاء والمراجع في بلاد الإسلام، لذلك كان يرى بأن الاجتهاد واجب عيني في هذا الزمن.

من نصائح الوالد

وإني أذكر كيف كان والدي(رحمه اللّه) ينصحني بقلة النوم، وقد كان معدل نومه في شبابه(رحمه اللّه) ساعتين ونصف في اليوم الواحد فقط، وكلما كان يأخذه النوم والنعاس وأراد الخلود إلى الراحة كان يذكر نفسه مخاطباً إياها: يا مهدي - وذلك هو اسمه(رحمه اللّه) - إنك ستنام في القبر أحقاباً وأحقاباً حتى تصبح عظامك تراباً، فأخر النوم إلى القبر.

وهكذا كان(رحمه اللّه) يجد ويجتهد ويجاهد في سبيل طلب العلم وخدمة اللّه عزّ وجلّ.

في ليلة شديدة البرد

وأتذكر حادثة في هذا المجال، وهي أننا كنا في ذات ليلة قد توجهنا من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة، وذلك في أول الليل بعد صلاة المغرب والعشاء حيث صليناهما في الطريق مع الوالد، فتوقفت السيارة في وسط الطريق بين النجف وكربلاء حيث نفذ وقودها وقال السائق إننا مضطرون للبقاء هنا إلى الصباح.

وكان الجو شتاءً قارصاً ولم تكن السيارات تعبر من ذلك الطريق، لذلك أخلدنا إلى الراحة في داخل السيارة فراراً من البرد، لكن الوالد(رحمه اللّه) أخذ يتمشى في الصحراء

ص: 38

وفي ذلك الجو البارد وإلى الصباح، حتى طلع الفجر وصلينا صلاة الصبح بالتيمم لعدم وجود الماء، وحينما أشرقت الشمس قلت لوالدي: بأنك لم تنم وأخذت تتمشى إلى الصباح مع العلم بأن الليل كان طويلاً حيث إنها ليلة شتوية؟

فأجابني(رحمه اللّه): نعم كنت أريد أن أقرأ شيئاً من القرآن - ذلك لأنه كان يحفظ القرآن كاملاً وكان يقرأ في كل صباح من بعد الصلاة إلى شروق الشمس جزءاً من القرآن الحكيم بتجويد وصوت رخيم - .

فسألته: كم قرأت من القرآن؟

قال: ثمانية أجزاء!

الاقتداء بالعظماء

يلزم على الإنسان الرسالي أن يقتدي بهؤلاء العظماء فعليه أن يستغل عمره وأن يصرف أوقاته في طاعة اللّه كما كان يقضي أولئك الكبار أيامهم ويصرفون أوقاتهم في التعب والجد والاجتهاد.

والفرد يجب أن يعي بأن قدرته وعظمته لا تكمن في مدى قوة جسمه ومقدار وزنه، وإلّا أصبح الإنسان كالغنم، همها علفها، كما في بعض الناس حيث ترى الواحد منهم يفرح حينما يزيد خمس كيلوات على وزنه ويحزن حينما ينقص عن وزنه الطبيعي، وهناك البعض ممن يقوم بوزن نفسه بين فترة وأخرى، وكما هو الملاحظ في بداية شهر رمضان، من أجل أن يحافظ على وزنه من النقصان بسبب الصوم في هذا الشهر المبارك.

فهؤلاء يتصورون أن قيمة الإنسان تكمن في كمية اللحم والعظام التي يحتويها جسمه، وأن الإنسان كل ما كان وزنه أكثر كان أفضل من غيره، بينما هذا التصور خاطئ جداً، فقدر وقيمة الإنسان تكمن في تقواه وفضيلته، وعلمه

ص: 39

وجهاده، وحبه للخير، وخدمته للناس.

صاحب ثورة العشرين

إن الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) صاحب ثورة العشرين الشهيرة، وهو خال والدي(رحمه اللّه)، لم يكن وزنه الجسمي - كما يقال - أكثر من خمسين كيلواً، ولكنه مع ذلك تمكن أن يجابه أكبر قوة عظمى في ذلك الوقت وهي بريطانيا، فاستطاع أن يحارب البريطانيين في العراق وأن يخرجهم منه، حيث إن بريطانيا استعمرت العراق في الحرب العالمية الأولى وأرادت أن تبقى فيه مدة طويلة، كما فعلت في الهند حيث استعمرت الهند لمدة ثلاثمائة سنة، لكنها لم تتمكن من البقاء في العراق ولا لمدة عشر سنوات، بالرغم من قلة عدد سكان العراق حيث كانوا لا يتجاوزون الأربعة ملايين نسمة في ذلك الوقت، وبالرغم من انعدام كافة الوسائل الحضارية من الصناعة المتقدمة والتكنولوجيا المتطورة والآلات الحربية الحديثة الصنع من دبابات وطائرات ومدافع وبوارج، وما أشبه، في مقابل كل تلك الأسلحة الحديثة التي كانت تمتلكها بريطانيا، والجيش المنظم المسلح والمجهز بأحدث الأسلحة، والقوة البشرية التي كانت تسندها، والتي يصل عددها إلى المليار نسمه من البشر، بالرغم من كل ذلك استطاع هذا الرجل العظيم الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) أن يهزم ويطرد أعظم قوة في العالم آنذاك من بلد مستضعف كالعراق، هذا مع إنه لم يكن نبياً ولا إماماً ولا معصوماً وإنما كان عالماً متقياً مجاهداً في سبيل اللّه، يخاف اللّه ويخشاه ويعمل في سبيل رضاه.

قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(1).

ص: 40


1- سورة الطلاق، الآية: 2-3.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٖ قَدْرًا}(1).

حب الدنيا من موانع العمل

إذن على المؤمنين الحقيقيين أن يفرغوا أنفسهم للعمل الإسلامي وأن لا تخدعهم الدنيا وزخرفها، فإن حب الدنيا وطلبها والسعي من أجل الحصول على مكاسب مادية فيها، من سيارة أو قصر أو زوجة جميلة أو ما أشبه ذلك، يشكل حاجزاً بين الإنسان المؤمن وبين التفرغ في سبيل اللّه.

بل يلزم أن نفهم بأن هذه كلها تعتبر زينة الحياة الدنيا، وهي لن تنفعنا {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(2).

فلا المال ولا المنزل ولا الجاه ولا غيره يجدي شيئاً حينها، سوى عمل الإنسان الصالح الذي قدمه في دار الدنيا، وذلك لا يكون إلّا بأن يترك الدنيا وما فيها لأصحابها ويعيش بكل كيانه للّه سبحانه فقط وفقط.

مع أمير المؤمنين(عليه السلام)

في الحديث عن الإمام الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده(عليهم السلام) قال: «لما أشرف أمير المؤمنين(عليه السلام) على المقابر قال: يا أهل التربة ويا أهل الغربة، أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال فقد قسمت، فهذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟

ثم التفت(عليه السلام) إلى أصحابه فقال: لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى(3).

ص: 41


1- سورة الطلاق، الآية: 3.
2- سورة الشعراء، الآية: 88-89.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 107.

وهناك آية شريفة تتحدث عن هذا المجال فتقول:

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}(1).

نعم سوف يأتي يوم القيامة، وسيأتي يوم القبر وهو يوم عسير بالنسبة لنا، حيث تحمل جنائزنا إلى المقابر وحينها لا يكون لنا نصير إلّا عملنا الصالح، كما يقول الشاعر:

وإذا حملت إلى القبور جنازة *** فاعلم بأنك بعدها محمول

والشاعر الآخر يقول:

إن الطبيب له بالطب تجربة *** ما دام في أجل الإنسان تأخير

وحينها نعرف بأننا لم نكن إلّا في غرور وانخداع بهذه الدنيا، قد خدعتنا الأموال والقصور، وقد غررنا بالجاه والمنصب والمستقبل المادي الشخصي، حيث كان جلّ هدفنا هو الحصول على شهادة عليا أو مكانة اجتماعية مرموقة أو منصب رفيع وما أشبه.

أبو العتاهية ومجلس هارون

جاء أبو العتاهية إلى هارون العباسي ورآه جالساً في مجلسه الكبير، وقد هيأ فيه الخمور والفجور والغناء والرقص وأصنافاً من الشعراء الذين قال عنهم القرآن الكريم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُنَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٖ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}(2).

وكانوا يمدحون هارون العباسي وقصره ويصفونه بإمرة المؤمنين وبأنه خليفة

ص: 42


1- سورة الكهف، الآية: 7-8.
2- سورة الشعراء، الآية: 224-226.

المسلمين! و... .

فلما رأى أو العتاهية الشاعر المشهور كل ذلك سكت ولم ينطق بحرف، إلى أن أمره هارون بأن ينشأ شعراً، فأنشأ أبو العتاهية عدة أبيات من الشعر مما أخرس جميع من في المجلس بما فيهم هارون العباسي الذي أخذ يتظاهر بالبكاء والتوبة أمام الجميع، وما كان بكاءه نابعاً من قلب صاف وإنما كان كبكاء التماسيح.

والأبيات التي أنشدها أبو العتاهية مخاطباً بها هارون كانت:

عشْ ما بدا لك سالماً *** في ظل شاهقة القصور

يهدي إليك بما اشتهيت *** من الرواح إلى البكور

فإذا النفوس ترقرت *** في ظل حشرجة الصدور

لعلمت أنك موقناً *** ما كنت إلّا في غرور

وكان هذا هو واقع هارون ومن حوله من المتملقين والمتزلفين، ولذلك لم يعتبر هارون ولم يخشع قلبه خشوعاً صحيحاً بسبب غروره وغطرسته.

عند ذلك أخذ الفضل بن يحيى بسب أبي العتاهية وقال له: انك هدمت المجلس وغيرت الأحوال، حيث بدلت مجلس العيش والطرب والفرح إلى الحزن والبكاء والكآبة، والأمير تأثر كثيراً - يعني بذلك هارون - .

لكن هارون زجر الفضل وقال له: إن أبا العتاهية قد قال الحق وأنه هو الذي نبهني، أما هؤلاء الشعراء فقد خدعوني(1)، ولكنه كان في قوله هذا كاذباً حيث كان يريد التظاهر بالتقوى والرشاد، لأن كلامه لا ينطبق مع جوره واستبداده الشديد وقتله الألوف من العلويين والشيعة وعلى رأسهم الإمام موسى بن

ص: 43


1- انظر الكامل في التاريخ 6: 220.

جعفر الكاظم(عليهما السلام) بعد أن سجنه لمدة لا تقل عن أعوام كما تؤكد الروايات على ذلك.

مضافاً إلى غصبه للحقوق وانتهاكه للحرمات والأعراض وما أشبه.

الدنيا في القرآن

فالإنسان في غرور وتكبر مادام مرتبطاً بالدنيا ومتشبثاً بها، والقرآن الكريم يصف هذه الحالة بقوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(1).

وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَٰطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَٰمِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمََٔابِ}(2).

وقال سبحانه: {قُلْ مَتَٰعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَٰمُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَا أَتَىٰهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(4).

الدنيا في الروايات

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في كلمة جميلة له يصف الدنيا بقوله:

ص: 44


1- سورة لقمان، الآية: 33.
2- سورة آل عمران، الآية: 14.
3- سورة النساء، الآية: 77.
4- سورة يونس، الآية: 24.

«إن الدنيا عيشها قصير، وخيرها يسير، وإقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، ولذاتها فانية، وتبعاتها باقية»(1).

وقال(عليه السلام) في صفة الدنيا:

«الدنيا تغر وتضر وتمر...»(2).

وقد ورد في روايات عديدة ذم اتباع الدنيا، قال عيسى بن مريم(عليه السلام) للحواريين: «يا بني إسرائيل لا تأسوا على ما فاتكم من دنياكم إذا سلم دينكم، كما لا يأسى أهل الدنيا على ما فاتهم من دينهم إذا سلمت دنياهم»(3).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) في كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف: «... ألّا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(4)،

ومن طعمه بقرصيه، ألّا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فواللّه ما كنزت من دنياكم تبراً(5)، ولاادخرت من غنائمها وفراً(6)، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولاحزت من أرضها شبراً...»(7).

وقال رجل للإمام الحسن(عليه السلام): يا بن رسول اللّه ما بالنا نكره الموت ولا نحبه؟ فقال(عليه السلام): «لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب»(8).

ص: 45


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 247.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 415.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 496.
4- الطِمْر: الثوب الخلق البالي.
5- التِبر: فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ.
6- الوَفر: المال.
7- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 45، ومن كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.
8- معاني الأخبار: 390.

الإنسان رهين عمله

الإنسان رهين بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والعمل الذي يتصورهالإنسان صغيراً جداً يلاقي جزاءه في الآخرة، سواءً كان هذا العمل خيراً أم شراً، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).

مما يجب على الشباب

إن من الواجب الملقى على عاتق الشباب المؤمن في يومنا هذا، وبصورة خاصة - وإن كانت المسألة تعم الجميع - أن يوجهوا طاقاتهم وكفاءاتهم المودوعة في أنفسهم، وأن يستغلوها لصالح الإسلام، ذلك لأن كل ما يمتلكه الإنسان من عين وأذن وفم ويد ورجل وفكر وعقل وقوة و... هي طاقات أودعها اللّه سبحانه عند الإنسان وسوف يأتي يوم تُسلب هذه النعم منه.

كما يقول الشاعر:

إنما الدنيا عواري *** والعواري مستردة

شدة بعد رخاء *** ورخاء بعد شدة

فعلى الشباب أن يصرفوا طاقاتهم كلها، في سبيل اللّه عزّ وجلّ، وفي سبيل إنهاض المسلمين، وفي سبيل تأسيس حكومة ألف وثلاثمائة مليون مسلم، حيث أن الإحصائية التي صدرت مؤخراً تنص على أن المسلمين بلغ عددهم إلى ألف وثلاثمائة مليون مسلم وليس ألف مليون كما هو المشاع(2).

مقومات الإنهاض

فاللازم الاهتمام لإنهاض المسلمين، ولا يتحقق ذلك إلّا بمقدمات عديدة،

ص: 46


1- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
2- آخر الإحصاءات تؤكد على أن المسلمين بلغوا المليارين.

منها:

1- وجود22 مليون منظِّم، أي لكل خمسين إنساناً شخص واحد ينظمهم ويقودهم ويرشدهم لما فيه الخير والصلاح من أمور الدين والدنيا.

2- طباعة ما لا يقل عن 1300 مليون كتاب، أي لكل إنسان مسلم ما لا يقل عن كتاب واحد.

وأقصد بالكتب تلك التوعوية العقائدية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية، والكتب التي تتحدث عن الاستعمار وعن استغلاله لبلاد المسلمين وكيفية الخلاص منه وما أشبه.

ما هو الأمل

ونحن كلنا أمل في أن يأتي يوم - وهو قريب بإذن اللّه سبحانه وتعالى - يكون لكل المسلمين حكومة واحدة عالمية.

وأن يكونوا أمة واحدة، كما كانوا في السابق.

وأن تزال وتتلاشى هذه الحدود الجغرافية المصطنعة في ما بينهم، والتي أوجدها الاستعمار من أجل تمزيق وحدة الأمة.

وأن ترجع الأخوة الإسلامية في ما بين المسلمين، حتى يصبح العربي والعجمي والهندي والتركي و... كلهم إخوة، كما في القرآن الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1).

وأن تسود القوانين والتشريعات الإسلامية إلى حيّز التطبيق وتنزل في واقع البلاد الإسلامية، وذلك مثل قانون الحريات، وقانون الضرائب الشرعية غير

ص: 47


1- سورة الحجرات، الآية: 10.

الباهظة(1)، وقانون الأرض للّه ولمن عمرها، وغيرها من القوانين... سواء بالنسبةإلى المعاملة أو العبادة أو العائلة أو الدولة أو الأمة، أو غيرها.

وهذا الأمل يتحقق باذن اللّه تعالى، ولكن لن يأتي ذلك إلّا عبر التفرغ التام للعمل في سبيل اللّه عزّ وجلّ.

أما حين نلتهي بالأماني الفارغة والتخيلات الكاذبة، فإن ذلك لن يغير من واقعنا شيئاً.

فعلى الرساليين في كل مكان أن يعزموا على التفرغ والتجرد من الدنيا والالتحاق بركب المجاهدين العاملين في سبيل اللّه من أجل تحقيق ذلك الهدف المنشود والأمل الكبير.

فإن في ذلك عزة للإسلام والمسلمين، وعزة لأنفسهم ذاتهم، حيث إن الأمة إذا كانت قوية وعزيزة، فهذا يعني عزة أفرادها وقوتهم، وكذلك العكس، أي إذا كانت الأمة ذليلة منحطة كان الأفراد بدورهم أذلاء منحطين.

فإذا تفرغ المؤمنون للعمل الرسالي وجمعوا كلمتهم ووحدوا صفوفهم، انطلاقاً من الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}(2) وجعلوا من أنفسهم قدوة ومثالاً يحتذى بهم في مجال الخير والعمل الصالح، فحينها يمن اللّه بالنصر على الأمة، وحينها يرى المؤمنون رؤوسهم مرفوعة وهم يمتلكون حكومة إسلامية واحدة عالمية، ذات ألف وثلاثمائة مليون مسلم.

ولا غرابة في ذلك، فإن الأمور كلها بيد اللّه، وهو على كل شيء قدير... قال

ص: 48


1- وهي الخمس والزكاة والجزية والخراج.
2- سورة الصف، الآية: 4.

تعالى في القرآن الكريم: {قُلِ اللَّهُمَّ مَٰلِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَمِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(1).

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يرينا ذلك قريباً عاجلاً، وما ذلك على اللّه بعزيز.

ص: 49


1- سورة آل عمران، الآية: 26.

طريق النزاهة

اشارة

طريق النزاهة(1)

في البدء

جاء في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق(رحمه اللّه)، عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «قال اللّه جلّ جلاله لموسى: يا موسى، لو أن السماوات وعامريهن والأرضين السبع في كفة ولا إله إلّا اللّه في كفة مالت بهن لا إله إلّا اللّه»(2).

بمعنى، أن السموات والأرض لو وضعتا في كفة ميزان، ووضعت في كفته الأخرى كلمة لا إله إلّا اللّه، لكانت كلمة لا إله إلّا اللّه أثقل في الميزان، وهذا على سبيل التشبيه؛ وإلّا فان في منطق الواقع لا يمكن أن تقاس المعنويات بالماديات، أو توضع المعنويات مقابل الماديات في ميزان؛ لأن المادة لها حجم ومكان وزمان وغير ذلك، فهي لا توزن ولا تقاس إلّا بالمقياس المادي.

أما المعنويات، فهي حقائق مجردة عن مظاهر المادة من الحجم والمكان وغير ذلك، فلا يمكن أن تقاس بمقياس المادة لعدم السنخية بين الشيئين.

نعم، المعنويات تحس وتدرك بالحواس الباطنة للإنسان.

المعنويات وأثرها على الماديات

اشارة

ينقل المرحوم الوالد(رحمه اللّه): إن الألمان جاءوا ذات مرة إلى العراق من أجل

ص: 50


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 9/ جمادى الثانية/1406ه.
2- التوحيد: 30.

القيام بالحفر والتنقيب عن الآثار القديمة في سامراء، فاستأجروا مجموعة من العمال لغرض القيام بالحفر، وكان من بين العمال شخص فقير الحال، وعند المباشرة بالتنقيب والحفر عثر هذا الشخص فجأة على قطعة من الجواهر الثمينة بحجم بيضة الدجاجة، فذهب بها إلى بغداد لبيعها دون أن يخبر بها أحداً، فباعها بخمسين ألف روبية(1)، بحيث صار في ذلك الحين من التجار المعروفين في البلاد، فبالرغم من أن هذه القطعة من الجواهر الصغيرة جداً مادياً ولم يكن لها وزن محسوس، لكنها تميزت بقدمها وتراثها وتمثيلها لحضارة عريقة، فأعطتها ثقلاً معنوياً، فارتفعت قيمتها وثمنها بهذا الشكل الباهظ.

فالمعنويات تعطي الشيء قيمة أكثر بكثير مما تعطيه الماديات، ومن هنا كان اعتقادنا أن الكلمة الطيبة «لا إله إلّا اللّه» وإن لم يكن لها ثقل مادي، إلّا أنها تحمل قيمة كبيرة جداً من ناحية الروح والمعنويات، وهكذا كل شيء، إذ وإن كانت صغيرة الحجم لكنها ذات قيمة عالية بل قد لا تقدر بثمن.

الروايات تؤكد ذلك

ومما يدل على أهمية المعنويات، ما دل على أنّ الأشياء العظيمة لا تحصل إلّا بها.

روي في البحار عن أبي عبد اللّه عن أبيه(عليهما السلام) قال: «أنه جاء أعرابي إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، هل للجنة من ثمن؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): نعم، قال: ما ثمنها؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا إله إلّا اللّه يقولها العبد مخلصاً بها قال: وما إخلاصها؟ قال: العمل بما بعثت به في حقه وحب أهل بيتي، قال: فداك أبي وأمي وإن حب أهل البيت لمن حقّها؟ قال: إن حبهم لأعظم حقّها»(2).

ص: 51


1- الروبية: العملة المتداولة في ذلك الوقت في العراق إبان الحكم العثماني.
2- بحار الأنوار 3: 13.

وفي رواية أخرى، جاء رجل إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: ما رأس العلم؟ قال:«معرفة اللّه حق معرفته...»(1).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «ما من الكلام كلمة أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من قول لا إله إلّا اللّه، وما من عبد يقول: لا إله إلّا اللّه يمدّ بها صوته فيفرغ إلّا تناثرت ذنوبه تحت قدميه كما تناثر ورق الشجر تحتها»(2).

فالجنة وتناثر الذنوب لا تكون إلّا بالأمور المعنوية فهذا يدل على أهميتها؛ لأن هناك سنخية بين الأثر والمؤثر كما لا يخفى.

صفات العلماء العاملين

اشارة

ثم من بعد أن ظهرت القيمة المعنوية نقول لطلاب علوم الدين:

إن النزاهة من الصفات التي يجب عليهم أن يوفروها في أنفسهم، كما يجب أن تتوفر فيهم الخفة وعدم التثاقل والتكاسل، بحيث يكون طالب العلم خفيفاً وذا همة عالية في أداء عمله ووظيفته، لا أن يكون ثقيلاً متثاقلاً كما عبر القرآن الكريم عن ذلك حيث قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}(3) أي: أبطأتم في أعمالكم.

والنزاهة بالمعنى الأخلاقي تعني: أن لا يفعل الإنسان العمل القبيح، قلباً، وعيناً، وأذناً، وأنفاً وفماً، بل كل جوارحه وجوانحه لا بد أن تكون نزيهة من فعل القبيح والمعصية.

طبعاً النزاهة الواقعية هي أمر مشكل جداً ويصعب الوصول إليها، لكن لا بد

ص: 52


1- التوحيد: 285.
2- ثواب الأعمال: 6.
3- سورة التوبة، الآية: 38.

من تحصيل ذلك ولا يمكن تحصيل النزاهة بالادعاء؛ إذ قد يكون يدعي ذلكوواقعه خال من أي نزاهة، ولا يلزم أن يظهر ذلك على الآخرين حيث يخفى عليهم؛ لأن الحقيقة سوف تكشف في يوم من الأيام، وإن كان تمييز الحق من الباطل عملاً في غاية الصعوبة، إلّا أنه ليس مستحيلاً، وقد قال تعالى: {وَلِكُلّٖ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ}(1).

وقد جاء في الروايات(2): أن اللّه ومنذ اليوم الأول لخلق الخلق خلط الحق والباطل ووضع الدنيا محلاً لهما، حتى يمتحن الناس بذلك، وإلّا فإن للّه القدرة بأن يعطي للناس القوة المميزة بين الحق والباطل، لكن إن تم ذلك لما كان هناك حاجة لامتحان الناس، وكانت فلسفة الاختيار تسقط لأن الناس أجمع كانوا يطلبون الحق حتى ذلك الشخص الذي يعمل خلاف الشرع يأتي - في مقام إقامة الدليل - بأدلة يعتقد أنها شرعية في غالب الأحيان، وإن اللّه تعالى خاطبنا بقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(3).

فالآية الكريمة تخاطب جميع المكلفين من الناس، لأنهم محل الاختبار والامتحان الذي أشرنا له. فالعاملون بحقل الدين أكثر ابتلاءً بهذا الخطاب، فعليهم أن يكونوا أكثر صواباً وامتثالاً للأوامر واجتناباً عن النواهي، لتتوفر فيهم النزاهة الواقعية والروحية التي بها يتمكنون من توجيه الناس وإرشادهم.

ص: 53


1- سورة البقرة، الآية: 148.
2- انظر الاحتجاج 2: 387 احتجاج أبي إبراهيم موسى بن جعفر(عليهما السلام) وفيه: عن الحسن بن علي العسكري(عليهما السلام): «أن أبا الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال: إن اللّه خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون، فأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلّا بإذنه، وما جبر اللّه أحداً من خلقه على معصيته بل اختبرهم بالبلوى، وكما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}». سورة هود، الآية: 7.
3- سورة الملك، الآية: 2.

وجاء في الروايات انه سُئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن قوله تعالى: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}ما عنى به؟ فقال: «يقول أيكم أحسن عقلاً» ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أتمكم عقلاً وأشدكم للّه خوفاً وأحسنكم في ما أمر اللّه به ونهى عنه نظراً وإن كان أقلكم تطوعاً»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية اللّه والنية الصادقة والحسنة - ثم قال - الإبقاء على العمل حتى يخلص أشدُّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ، والنية أفضل من العمل، ألّا وإن النية هي العمل - ثم تلا - قوله عزّ وجلّ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ}(2) يعني على نيته»(3).

النزاهة دروس وعبر

النزاهة عند النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)

ولنا في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) أسوة حسنة بالنزاهة الروحية والبساطة في العيش الواقعية لا التظاهرية، فقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): «فتأسّ بنبيّك الأطهر الأطيب(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنّ فيه أسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى، وأحبّ العباد إلى اللّه تعالى المتأسّي بنبيّه، والمقتصّ لأثره، قضم الدّنيا قضماً، ولم يعرها طرقاً، أهضم أهل الدّنيا كشحاً، وأخمصهم من الدّنيا بطناً، عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقّر شيئاً فحقّره، وصغّر شيئاً فصغّره، ولو لم يكن فينا إلّا حبّنا ما

ص: 54


1- تفسير مجمع البيان 10: 69.
2- سورة الإسراء، الآية: 84.
3- الكافي 2: 16.

أبغض اللّه وتعظيمنا ما صغّر اللّه لكفى به شقاقاً للّه ومحاداةً عن أمر اللّه. ولقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ويركب الحمار العاريويردف خلفه، ويكون السّتر على باب بيته فتكون فيه التّصاوير فيقول: يا فلانة لإحدى أزواجه، غيّبيه عنّي؛ فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا وزخارفها. فأعرض عن الدّنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه؛ لكيلا يتّخذ منها رياشاً ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النّفس وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر. وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده، ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يدلّك على مساوئ الدّنيا وعيوبها إذ جاع فيها مع خاصّته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته.

فلينظر ناظرٌ بعقله، أ أكرم اللّه محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك أم أهانه؟ فإن قال: أهانه، كذب وأتى بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه، فليعلم أنّ اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدّنيا له وزواها عن أقرب النّاس، فتأسّى متأسّ بنبيّه واقتصّ أثره وولج مولجه، وإلّا فلا يأمن الهلكة؛ فإنّ اللّه جعل محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) علماً للسّاعة ومبشّراً بالجنّة ومنذراً بالعقوبة، خرج من الدّنيا خميصاً وورد الآخرة سليماً لم يضع حجراً على حجر حتّى مضى لسبيله وأجاب داعي ربّه إلى آخره»(1).

وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعود المريض، ويتبع الجنازة، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، وكان يوم خيبر ويوم قريظة والنّضير على حمار مخطوم بحبل من ليف تحته إكافٌ من ليف. (2)(3)

ص: 55


1- مستدرك الوسائل 12: 54.
2- المخطوم: من خطم الحمار بحبل أي: جعله على أنفه، والإكاف: برذعة الحمار.
3- مكارم الأخلاق: 15.

وروي عن أحد أصحاب الإمام علي(عليه السلام) - سويد بن غفلة - فقال: دخلت على أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد ما بويع بالخلافة وهو جالس على حصير صغير وليس في البيت غيره فقلت:يا أمير المؤمنين، بيدك بيت المال ولست أرى في بيتك شيئاً مما يحتاج إليه البيت؟ فقال(عليه السلام): «يا ابن غفلة ان البيت (العاقل) لا يتأثث في دار النقلة، ولنا داراً قد نقلنا إليها خير متاعنا، وأنا عن قليل إليها صائرون»(1).

و من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها فكتب(عليه السلام) إليه:

«أمّا بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوٌّ، وغنيّهم مدعوٌّ فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه. ألّا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضي ء بنور علمه، ألّا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه. ألّا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد. فواللّه، ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادّخرت من غنائمها وفراً(2)، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلّا كقوت أتان دَبِرة(3)، ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة(4). بلى كانت في أيدينا فدكٌ من كلّ ما أظلّته السّماء، فشحّت عليها نفوس

ص: 56


1- عدة الداعي: 121.
2- الوفر: المال.
3- أتان دَبرة: هي التي عقر ظهرها فقلّ أكلها.
4- مَقِرة: أي مُرة.

قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم اللّه، وما أصنع بفدك وغير فدك والنّفس مظانّها في غد جدثٌ، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرةٌ لو زيد في فسحتها، وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسدّفرجها التّراب المتراكم، وإنّما هي نفسي أروضها بالتّقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات، أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشّبع. أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرّى أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكبادٌ تحنّ إلى القدّ

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش؟

فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات كالبهيمة المربوطة، همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها(1)،

تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدى أو أهمل عابثاً، أو أجرّ حبل الضّلالة أو أعتسف طريق المتاهة.

وكأنّي بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران ومنازلة الشّجعان، ألّا وإنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عوداً والرّواتع الخضرة أرقّ جلوداً والنّابتات العذية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً. وأنا من رسول اللّه كالضّوء من الضّوء والذّراع من العضد، واللّه، لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها. وسأجهد في أن أطهّر

ص: 57


1- تقممها: التقاطها للقمامة أي الكناسة.

الأرض من هذا الشّخص المعكوس والجسم المركوس حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد.

- ومن هذا الكتاب وهو آخره - :إليك عنّي يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذّهاب في مداحضك. أين القرون الّذين غررتهم بمداعبك، أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك؟ فها هم رهائن القبور ومضامين اللّحود.

واللّه، لو كنت شخصاً مرئيّاً وقالباً حسّيّاً، لأقمت عليك حدود اللّه في عباد غررتهم بالأمانيّ، وأمم ألقيتهم في المهاوي، وملوك أسلمتهم إلى التّلف، وأوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد ولا صدر، هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ عن حبائلك وفّق، والسّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه، والدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه. اعزبي عنّي، فواللّه لا أذلّ لك فتستذلّيني، ولا أسلس لك فتقوديني، وأيم اللّه، يميناً أستثني فيها بمشيئة اللّه، لأروضنّ نفسي رياضةً تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغةً دموعها، أتمتلئ السّائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الرّبيضة من عشبها فتربض، ويأكل عليٌّ من زاده فيهجع، قرّت إذاً عينه، إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسّائمة المرعيّة.

طوبى لنفس أدّت إلى ربّها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في اللّيل غمضها، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسّدت كفّها في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، أولئك حزب اللّه ألّا إنّ حزب اللّه هم المفلحون.

ص: 58

فاتّق اللّه يا ابن حنيف، ولتكفف أقراصك ليكون من النّار خلاصك»(1).

القول مع العمل

روي عن أحد علماء شيراز: أن قسيساً جاء إلى شيراز لجذب الشباب المسلمين إلى المسيحية، وفعلاً استقطب عدداً من الشباب حوله.

يستمر ذلك العالم قائلاً: لقد تعجبت من عمل هذا المسيحي وأردت أن يكون لي لقاء معه؛ حتى أعرف السر الذي أدى إلى نجاحه في عمله، فذهبت إليه الساعة الثانية بعد الظهر، وعندما طرقت الباب وفتح الباب كان يرتدي ملابس النوم (بجامة)، ثم لما رآني بدا عليه الخجل من ارتدائه هذه الملابس أمام الضيف، فسارع إلى داخل المنزل ولبس لباساً آخر، وحينما دخلت المنزل تعجبت لبساطة المعيشة عند هذا الرجل، فسألته: هل لك راتب شهري تعيش من خلاله؛ لأني أرى أنك تعيش حياة بسيطة؟ فقال: في الحقيقة إني استلم راتباً شهرياً قدره ستين ألف تومان - وفي ذلك الزمان كان مبلغ أربعين ألف تومان يعادل راتب عشرين معلماً أو أكثر فكيف بستين ألف! - ، إلّا أنني أنفقه كله في طريق مساعدة المحتاجين.

وأضاف العالم قائلاً: إن غرفة ذلك القسيس كانت نظيفة جداً، ومفروشة بالحصران العادية، وكان قد وضع أمامه نسخة من الإنجيل كتبت بخط جميل!

ومن هذه القصة وأمثالها تظهر لنا أهمية النزاهة الروحية، حيث أنها الطريق لجذب الناس، وبهذه السياسة دخل هذا القس واستخدم النزاهة والزهد في التعرف الظاهري - لأجل المصالح السياسية للاستعمار والكنيسة - فتمكن من خداع الناس وكسب الشباب المسلم والرأي العام، لتحقيق مآرب الاستعمار

ص: 59


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 45 كتابه(عليه السلام) إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف.

الغربي، وقد كان بعض الرهبان يمهّدون الطريق للاستعمار في بلادنا، في حين أن النزاهة الواقعية والزهد ليس لمصلحة دنيوية - كما في هذا القسيس المسيحي - بل من أجل نيل رضا اللّه تعالى في الدرجة الأولى والفوز بالآخرة في الدرجةالثانية.

ابن ميثم البحراني(رحمه اللّه)

نقل بعض العلماء قصة عن ابن ميثم البحراني، وهو من علماء البحرين التي كانت تعد في ذلك الزمان من مراكز الإسلام العلمية، حيث خرجت مجموعة من العلماء الذين كان لهم دور كبير في تأريخ الشيعة، أمثال صاحب الحدائق الفقيه الكبير وغيره، قال: أرسل أهل إحدى مدن العراق التي كانت مركزاً للحوزات العلمية آنذاك رسالة إلى ابن ميثم يدعونه فيها ليأتي إلى النجف، فأراد ابن ميثم البحراني أن يختبر بعض المدرسين؛ لذلك قام بتبديل لباسه ودخل المدينة متنكراً ثم حضر درساً لأحد المدرسين وطرح سؤالاً على الأستاذ، وكان سؤاله ينبئ عن فضله ومعرفته وعلميته، أي كان إشكاله في محله، إلّا أن الأستاذ لم يحترمه ولم يعط له جواباً، وفي اليوم الثاني ارتدى ابن ميثم البحراني ملابساً جيدة، وحضر نفس الدرس وعند نفس الأستاذ، فرأى أن الحاضرين في ذلك الدرس قد تفسحوا له وأجلسوه المكان المناسب، كما أنه طرح سؤالاً آخر ولكنه لم يكن في محله، ولعله لم يتناسب مع الموضوع، إلّا أن الأستاذ أعطى لسؤاله أهمية بالغة وأجابه عليه.

فقال ابن ميثم: يظهر أن الأستاذ ظاهري لا أكثر، وتؤثر فيه المظاهر لا الواقعيات، وهذا مؤشر يدل على أن أكثر الناس عقولهم مرهونة بما تراه أعينهم من مظاهر؛ لذلك هم لا يستطيعون أن يدركوا المعنويات وأن يعيشوا بنزاهة،

ص: 60

فيجب أن يكون عملهم واقعياً لا ظاهرياً.

وفي قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأخِرَةِ هُمْغَٰفِلُونَ}(1).

دلالة على أن من كان يريد الظاهر فقط فهو جاهل وغافل عن أمور الدين والآخرة، كما فيه دلالة على أن قيمة الإنسان في جوهره وباطنه، وليس بما يلبسه وبما يتظاهر به، فعلى الإنسان الاعتناء بباطنه وظاهره معاً؛ أما الباطن فلأن اللّه تعالى يحاسب الناس على ما في قلوبهم، وأما الظاهر فمن أجل إبراز نعم اللّه تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(2).

والى ذلك أشار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: «ثلاث من كن فيه أو واحدة منهن كان في ظل عرش اللّه يوم لا ظل إلّا ظله:...، ورجل لم يقدِّم رجلاً حتى يعلم أن ذلك للّه رضاً أو يحبس...»(3).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً قال: «أن أوّل الناس أن يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، لكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل ذلك، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال: قارئ القرآن، فقد قيل ذلك، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار»(4).

ص: 61


1- سورة الروم، الآية: 7.
2- سورة الضحى، الآية: 11.
3- المحاسن 1: 5.
4- منية المريد: 134.

الحرام الفاضح

روي أن أحد الضباط الكبار - من ذوي الرتب العسكرية العالية - دعا رضاخان بهلوي - أيام حكمه - إلى منزله، وبعد أن دخل رضا خان إلى المنزل رأى البيت واسعاً وجميلاً جداً، فتعجب لذلك كثيراً، فقرر أن يأتي بحديث يفهم من خلاله أن الضابط من أين جاء بهذه الأموال؛ لذا قال له: أنت صاحب ذوق وقد اخترت منزلاً جيداً، إلى أن وصل الكلام بينهما، حتى قال الضابط: إن هذا المال لم يحصل لي من التجارة ولا إرث من الآباء أو الأمهات.

وبما أن رواتبه من الجيش لم تكن تكفي لبناء هذا البيت الجميل أو شراءه، فقال له رضا خان: إذن من أين حصلت على هذه الأموال؟

فلم يعط الضابط جواباً، فتوضح أنه حصل على الأموال، إما من طريق الغصب، أو الرشوة - والعياذ باللّه - أو من طريق آخر غير مشروع؛ لأن المال إذا لم يأتك عن طريق الحق والحلال فهو من طريق الحرام، إذ لا فاصلة بين الحلال والحرام والحق والباطل(1).

الطلاب وبساطة العيش

الشاهد من هذه القصة ومن غيرها هو ما يختص بطلاب العلوم الدينية؛ لأن طالب العلم غالباً ليس لديه كسب أو تجارة، فإذا عاش معيشة طاغوتية تسبب ابتعاد الناس عنه وعن حياته؛ لأنها تجعل الطالب مورد الاتهام، والناس ينفضون عن المتهم، وعن غير النزيه، وإن كان ما حصل عليه هو من الرزق الحلال.

بل يلزم على طالب العلم والعامل به، وإن كان غنياً أن يجتنب الأشياء

ص: 62


1- حيث جعل الشارع طرقاً لانتقال الملكية إلى الغير وبدون سير هذه الأسباب والطرق كان حصول المال من الأكل بالباطل.

المحللة له شرعاً إن كان العرف لا ولم يتحملها. كأن يعيش في قصر، أو يركب سيارة فخمة، أو يأكل طعاماً راقياً، وغير ذلك من الأمور التي تجعل بينه وبينعامة الناس بعداً وفوارق كبيرة، وإلّا فكيف يمكن أن يكون قدوة للناس بحيث يأخذون منه تعاليم الإسلام؟! وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بقوله: «ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كاف لك في الأسوة(1)، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكنافها(2)، وفطم عن رضاعها وزوي عن زخارفها.

وإن شئت ثنيت بموسى كليم اللّه(عليه السلام) حيث يقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٖ فَقِيرٌ}(3). واللّه ما سأله إلّا خبزاً يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف(4) صفاق(5) بطنه؛ لهزاله وتشذّب لحمه(6).

وإن شئت ثلثت بداود(عليه السلام) صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده(7) ويقول لجلسائه: أيكم يكفيني بيعها؟ ويأكل قرص الشعير من ثمنها.

وإن شئت قلت في عيسى بن مريم(عليه السلام) فلقد كان يتوسّد الحجر، ويلبس الخشن ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في

ص: 63


1- الأسوة: القدوة.
2- الأكناف: الجوانب، وزوي: قبض.
3- سورة القصص، الآية: 24.
4- شفيف: رقيق، يستشف ما وراءه.
5- الصفاق: على وزن كتاب الجلد الباطن الذي فوقه الجلد الظاهر من البطن.
6- تشذب اللحم: تفرقه.
7- السفائف: - جمع سفيفة - وسف من سف الخوص إذا نسجه، أي منسوجات الخوص.

الشتاء مشارق الأرض ومغاربها(1)، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم...»(2).

وأشار(عليه السلام) أيضاً إلى الصفات السيئة في بعض قادة المجتمع وذكر(عليه السلام) حرمة الرشوة في الحكام بشكل خاص بقوله(عليه السلام):

«وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام، وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلُهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول(3) فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع(4) ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة»(5).

فاللازم على الطلاب أن يراعوا النزاهة الواقعية لا الظاهرية؛ ولا النزاهة لأجل الناس؛ ذلك ليستفيد الناس بهم وليكونوا مصداقاً واقعياً لقول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم ارحم خلفائي»، قيل: يا رسول اللّه ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي»(6).

النزاهة والمراتب العليا

كان الشيخ عبد الكريم الحائري(رحمه اللّه) ابناً لكاسب بدخل بسيط، لكنه وبسبب علمه ونزاهته وطهارة قلبه وصل إلى مرتبة استطاع بها أن يوفق لتأسيس الحوزة

ص: 64


1- ظلاله - جمع ظل - بمعنى الكِن والمأوى. ومن كان كنه المشرق والمغرب فلا كِنّ له.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم 160، من خطبة له(عليه السلام).
3- الحائف - من حيف - أي: الجور والظلم، الدُوَل جمع دُولة: هي المال، لأنه يتداول أي ينقل من يد إلى يد.
4- المقاطع الحديد التي عينها اللّه لها.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 131 وفيها يبين(عليه السلام) سبب طلبه الحكم ويصف الإمام الحق.
6- من لا يحضره الفقيه 4: 420.

العلمية في قم المقدسة.

وهناك جملة من علمائنا الماضين الذين امتازوا بنزاهتهم وطهارة القلب،فوصلوا إلى مرتبة عالية من الشرف والتقدير، كالشيخ أبي منصور أحمد بن علي الطبرسي صاحب كتاب الاحتجاج وكان فاضلاً وعالماً بل من أجل العلماء ومشاهير الفضلاء وهو غير أبي علي الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان - وإن كانا في عصر واحد - والذي هو أيضاً كان من جملة علمائنا الفاضلين وتمتع بالنزاهة والإخلاص، وكالشيخ جمال الدين المعروف بابن فهد الحلي والذي امتاز بزهده وورعه العظيم القدر وعلمه، وكان من الثقاة وله مؤلفات كثيرة منها: المهذب، وعدة الداعي، وشرح الألفية والدر الفريد في التوحيد، وغيرها.

وليست نزاهة الإنسان مع اللّه هي المعيار فقط، بل لا بد وأن تكون في المجتمع فإنها معيار آخر أيضاً، وبهذا يكون الإنسان موضع تقدير عند أولياء اللّه المعصومين(عليهم السلام) وعند الناس؛ لأن الابتعاد عن الشيء القبيح هو المطلوب عند اللّه وبالتالي هو فوز دنيوي وأخروي.

البساطة في العيش

إن انجذاب الناس إلى شخص، واكنانهم المحبّة والصداقة له يأتي بسبب النزاهة، فكما أن الإنسان لا يصدّق كل أحد إلّا من أحرز أنه منزه عن الكذب، كذلك الناس لا يسلمون أمورهم وأموالهم وعواطفهم لكل أحد، إلّا لمن تنزه عن القبائح وكان لائقاً بذلك؛ لذلك أعطى اللّه منصب تبليغ الرسالة إلى أنزه الناس، حيث نعتقد نحن أن الأنبياء(عليهم السلام) وعلى رأسهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هم أنزه البشر، وقد جاء في الدعاء: «اللّهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين

ص: 65

استخلصتهم لنفسك ودينك، إذا(1) اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيمالذي لا زوال له ولا اضمحلال بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقربتهم...»(2).

وعن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) «أن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقول: طوبى لمن أخلص للّه العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينسى ذكر اللّه بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطي غيره»(3).

وفي رواية عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رجل للنبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللّه، علمني شيئاً إذا أنا فعلته أحبني اللّه من السماء، وأحبني أهل الأرض، قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ارغب في ما عند اللّه يحبك اللّه، وأزهد في ما عند الناس يحبك الناس»(4).

ومن هنا نعرف أن الأنبياء والأئمة الأطهار(عليهم السلام) - بالإضافة إلى أداء واجبهم - كانوا مكلّفين بانتهاج أسلوب البساطة في العيش ولو لا اختيارهم لهذا النوع من العيش ما كان الناس يعتقدون بهم وبرسالاتهم؛ فلهذا لم يكن الأنبياء(عليهم السلام) يملكون السلطة الظاهرية عدا يوسف وسليمان(عليهما السلام)، وهم كذلك كانوا على أعلى درجات الكمال والزهد والتقوى وفي غاية النزاهة من كل الجهات.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال عيسى بن مريم(عليه السلام) في خطبة قام بها في بني إسرائيل: أصبحت فيكم وإدامي الجوع، وطعامي ما تنبت الأرض للوحوش والأنعام، وسراجي القمر، وفراشي التراب، ووسادتي الحجر، ليس لي بيت

ص: 66


1- في بحار الأنوار 99: 104 ورد: «إذ اخترت»، ولعله هو الأصح.
2- إقبال الأعمال 1: 295.
3- الكافي 2: 16.
4- تهذيب الأحكام 6: 377.

يخرب، ولا مال يتلف، ولا ولد يموت، ولا امرأة تحزن، أصبحت وليس ليشيء، وأمسيت وليس لي شيء، وأنا أغنى ولد آدم»(1).

نزاهة الشيخ علي القمي(رحمه اللّه)

نزاهة الشيخ علي القمي(رحمه اللّه)(2) إن الشيخ علي القمي وبالرغم من أنه لم يكن مرجعاً معروفاً - في النجف الأشرف - آنذاك، لكنه وبسبب نزاهته وزهده وطهارته، كان العلماء وحتى بعض المراجع يصلون خلفه صلاة الجماعة، فإن هذه المنزلة الرفيعة التي نالها الشيخ هي ثمرة من ثمرات الزهد والنزاهة، ويذكر في أحواله أنه كان قد تشرف إلى رؤية الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف.

من وصية لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أبي ذر(رحمه اللّه) قال: «يا أبا ذر ما زهد عبد في الدنيا إلّا أثبت اللّه الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصره عيوب الدنيا وداءها ودواءها وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام.

يا أبا ذر، إذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا فاستمع منه فإنه يلقي إليك الحكمة»(3).

نعم، إن الزهد والنزاهة يجعلان من طلبة العلم قادة يتأسى بهم الناس لنيل رضا اللّه تعالى والأمن في الآخرة.

إذن فعلينا أن نحمل هذه الصفات بروحية قوية ونعمل بها ظاهراً وباطناً؛ لأن العلم بلا عمل يؤدي إلى الهلاك والعقاب، وقد أشار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ذلك

ص: 67


1- معاني الأخبار: 252.
2- هو الشيخ علي بن الشيخ محمد إبراهيم بن محمد علي القمي فقيه بارع وعالم جليل وزاهد معروف كان والده من علماء عصره. ولد في طهران سنة (1273ه) عرف(رحمه اللّه) بالورع والتقى والزهد، توفي في النجف (1371ه).
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 531.

بقوله: «إن العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلّا ارتحل»(1).

«الهي، لو لا الواجب من قبول أمرك لنزهتك من ذكري إياك، على أن ذكري لك بقدري لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أجعل محلاً لتقديسك ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك»(2).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

اشارة

الطريق إلى النزاهة

1- الأخلاق

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(4).

وقال سبحانه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(5).

وقال جلّ وعلا: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(6).

2- الصدق

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(7).

ص: 68


1- عوالي اللئالي 4: 66.
2- بحار الأنوار 91: 151.
3- سورة القلم، الآية: 4.
4- سورة الأعراف، الآية: 199.
5- سورة الفرقان، الآية: 63.
6- سورة المائدة، الآية: 13.
7- سورة التوبة، الآية: 119.

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٖ فِي الْأخِرِينَ}(3).

3- محاسبة النفس

قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(5).

وقال سبحانه: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَقَالَ الشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}(7).

4- التواضع

قال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(8).

ص: 69


1- سورة الزمر، الآية: 33.
2- سورة الأحزاب، الآية: 70.
3- سورة الشعراء، الآية: 84.
4- سورة البقرة، الآية: 235.
5- سورة البقرة، الآية: 281.
6- سورة الشمس، الآية: 7-10.
7- سورة إبراهيم، الآية: 22.
8- سورة المائدة، الآية: 54.

وقال عزّ وجلّ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}(3).

5- الزهد

قال تعالى: {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ}(4).

وقال سبحانه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا فِي الْأخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٌ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(7).

وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْاْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٖ}(8).

وقال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَٰطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَٰمِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمََٔابِ}(9).

ص: 70


1- سورة الحجر، الآية: 88.
2- سورة الشعراء، الآية: 215.
3- سورة الفرقان، الآية: 63.
4- سورة آل عمران، الآية: 153.
5- سورة طه، الآية: 131.
6- سورة الرعد، الآية: 26.
7- سورة آل عمران، الآية: 185.
8- سورة البقرة، الآية: 212.
9- سورة آل عمران، الآية: 14.

من هدي السنّة المطهّرة

الطريق إلى النزاهة

1- الأخلاق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربع من كنّ فيه وكان من قرنه إلى قدمه ذنوباً بدلها اللّه حسنات: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسن الخلق يثبت المودة»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «نعم الإيمان جميل الخلق»(3).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ما يقدم المؤمن على اللّه عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحب إلى اللّه تعالى من أن يسع الناس بخلقه»(4).

2- الصدق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... زينة الحديث الصدق»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الصدق حياة التقوى»(6).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ لم يبعث نبياً إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر»(7).

وقال الإمام أبو جعفر(عليه السلام) للربيع بن سعد: «يا ربيع، إن الرجل ليصدق حتى

ص: 71


1- الكافي 2: 107.
2- تحف العقول: 45.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 718.
4- الكافي 2: 100.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 488.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 30.
7- الكافي 2: 104.

يكتبه اللّه صديقاً»(1).

3- محاسبة الصدق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... إن أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حاسب نفسه وقف على عيوبه، وأحاط بذنوبه، واستقال الذنوب وأصلح العيوب»(3).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ألّا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»(4).

وقال(عليه السلام): «من لم يجعل للّه له من نفسه واعظاً فإن مواعظ الناس لن تغني عنه شيئاً»(5).

4- التواضع

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما تواضع أحد إلّا رفعه اللّه»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «بكثرة التواضع يتكامل الشرف»(7).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن في السماء ملكين موكّلين بالعباد، فمن تواضع للّه رفعاه ومن تكبر وضعاه»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «التواضع أصل كل شرف نفيس ومرتبة رفيعة، ولو

ص: 72


1- الكافي 2: 105.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 467.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 648.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 329.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 28.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 56.
7- عيون الحكم والمواعظ: 188.
8- الكافي 2: 122.

كان للتواضع لغة يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب... ولأهل التواضع سيماء يعرفها أهل السموات من الملائكة... ولا يعرف ما في معنى حقيقة التواضع إلّا المقربون من عباده المتصلين بوحدانيته»(1).

5- الزهد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الزاهد في الدنيا يريح قلبه وبدنه»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا رأيتم الرجل قد أعطي الزهد في الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقى الحكمة»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزهد أصل الدين»(4).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من زهد في الدنيا أثبت اللّه الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصره عيوب الدنيا داءها ودواءها وأخرجه من الدنيا سالماً إلى دار السلام»(5).

ص: 73


1- مصباح الشريعة: 72.
2- إرشاد القلوب 1: 18.
3- روضة الواعظين 2: 437.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 35.
5- الكافي 2: 128.

طريق التقدم

الحكمة والعلم

اشارة

قال تعالى: {فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ}(1). في هذه الآية الكريمة إطراء على النبي داود وعلى النبي سليمان بن داود(عليهما السلام) على أمرين:

1- على كفاءاتهما العلمية وما آتاهما اللّه من علم وحكمة.

2- وعلى كفاءاتهما العملية وما أبدياه من عمل وتسبيح.

مما يفيد: أن معيار التقدم، سواء التقدم الفردي، أم التقدم الاجتماعي، وسواء التقدم المعنوي أم التقدم المادي، فإنه إنما يتم بالعلم وبالعمل المتعقل وفق العلم. وقوله تعالى في آخر الآية {وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} هو أيضاً تأكيد لهذا المعنى، وذلك ببيان يأتي قريباً، إن شاء اللّه تعالى.

تفسير الآية الكريمة

جاء في تفسير الآية المباركة: {فَفَهَّمْنَٰهَا} أي: علّمنا {سُلَيْمَٰنَ} كيفية الحكومة (القضاء) بين الراعي والزارع {فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ} من داوود وسليمان(عليهما السلام) {ءَاتَيْنَا} أي أعطيناه {حُكْمًا} في الخصومات، أو حكماً على الناس {وَعِلْمًا} وكان تخصيص سليمان(عليه السلام) بقوله: {فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ} لأن المقصود كان إظهار فضل

ص: 74


1- سورة الأنبياء، الآية: 79.

سليمان(عليه السلام)،ليعرف بنو إسرائيل من هو وصي داود(عليه السلام)؟ كما في الأحاديث(1) {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ} ومعنى التسخير السير معه في التسبيح، فإنك إذا عوّدت طيراً أن يتكلم بما تكلمت به أنت، يقال: إنك سخرت ذلك الطير، فكأنه صار طوع إرادتك، يتكلم إذا تكلمت، ويسكت إذا سكت {يُسَبِّحْنَ} الجبال معه، والإتيان بضمير العاقل؛ لأن التسبيح فعل العاقل {وَالطَّيْرَ} عطف على الجبال، أي وسخرنا معه الطير، فإنها كانت تسبح بتسبيحه. قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن داود خرج ذات يوم يقرأ الزبور، وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر ولا سبع إلّا جاوبه»(2) {وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} لذلك، وكان المراد بذلك أن هذا الأمر ليس عجيباً من قدرتنا، وإن كان مستغرباً عندكم(3).

وفي مجمع البيان

وجاء في تفسير مجمع البيان: {فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ} أي: علّمناه الحكومة في ذلك. قيل: إن سليمان(عليه السلام) قضى بذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة. وروي عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنه - سليمان(عليه السلام) - قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلاً، وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهاراً» {وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} أي: وكل واحد من داود

ص: 75


1- فقد روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «كان في بني إسرائيل رجل كان له كَرْم (شجر العنب)، ونفشت فيه غنم لرجل آخر بالليل، وقضمته وأفسدته، فجاء صاحب الكَرْم إلى داود(عليه السلام) فاستعدى على صاحب الغنم، فقال داود(عليه السلام): اذهبا إلى سليمان(عليه السلام) ليحكم بينكما، فذهبا إليه، فقال سليمان(عليه السلام): إن كانت الغنم أكلت الأصل والفرع، فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكَرْم الغنم وما في بطنها، وإن كانت ذهبت بالفرع ولم تذهب بالأصل فإنه يدفع ولدها إلى صاحب الكَرْم، وكان هذا حكم داود(عليه السلام). وإنما أراد أن يعرف بني إسرائيل أن سليمان(عليه السلام) وصيه بعده، ولم يختلفا في الحكم، ولو اختلف حكمهما لقال: وكنا لحكمهما شاهدين». بحار الأنوار 14: 131.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 99.
3- انظر تفسير تقريب القرآن 3: 561.

وسليمان(عليهما السلام) أعطيناهحكمة. وقيل: معناه النبوة، وعلم الدين، والشرع. {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} قيل: معناه سيرَّنا الجبال مع داود(عليه السلام) حيث سار، فعبر عن ذلك بالتسبيح لما فيه من الآية العظيمة التي تدعو إلى تسبيح اللّه، وتعظيمه وتنزيهه عن كل ما لا يليق به. وكذلك تسخير الطير له تسبيح، يدل على أن مسخرها قادر لا يجوز عليه ما يجوز على العباد. وقيل: إن الجبال كانت تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير يسبح معه بالغداة والعشي، معجزةً له. {وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} أي: قادرين على فعل هذه الأشياء، ففعلناها دلالة على نبوته(1).

عودة إلى الآية الكريمة

وهناك معنى آخر للآية الكريمة، فإن قوله تعالى: {وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} جملة وجيزة من حيث مفرداتها وعدد حروفها، لكنها كبيرة واسعة، وعظيمة شاملة من حيث معانيها ودلالاتها، وكذلك هو شأن كل جملة في كل آية من آيات القرآن الحكيم، إنّ «كان» في {كُنَّا فَٰعِلِينَ} من الأفعال الناقصة وأسمها معها، وهو الضمير «نا»، وخبرها {فَٰعِلِينَ} فإن اللّه سبحانه وتعالى يبين في هذه الكلمة أن تسبيح الجبال وتسبيح الطير كان تجاوباً مع داود(عليه السلام) وتبعاً لتسبيحه ومسبباً عنه، وهذا مصداق من مصاديق قانون الأسباب والمسببات، فيشير عزّ وجلّ إلى أن الدنيا جعلها دار أسباب ومسبّبات، فتسبيح الجبال والطير هنا مسبّب من تسبيح داود(عليه السلام) مع أن اللّه قادر على كل شيء فيقول للشيء: كن فيكون. ويؤيده قوله سبحانه: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(2).

فقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: {لَّيْسَ} أمر الثواب والعقاب والسعادة

ص: 76


1- تفسير مجمع البيان 7: 104.
2- سورة النساء، الآية: 123.

والخسران {بِأَمَانِيِّكُمْ} وهو جمع أُمنية، بمعنى رغبة النفس، فلا ينال الإنسان خيراً بالأماني في ما إذا كان عمله خلاف ذلك، والخطاب للمسلمين {وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} ففي (المجمع):

قيل: تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى باللّه منكم. فقال المسلمون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب، وديننا الإسلام، فنزلت الآية، فقال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء. فأنزل اللّه الآية التي بعدها {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}(1) ففلح المسلمون، و{مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فإن الذي ينفع عند اللّه هو العمل الصالح، أما الأنساب والأحساب وما أشبه، فلا تنفع إلّا بقدر ما يرجع إلى العمل أيضاً، كما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المرء يُحفظ في ولده»(2). ولذا من عمل عملاً سيئاً يجز به. ومما ذكرنا تبين أن حفظ نسب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما يرجع إلى عمل وأتعاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)(3).

لذا فإن الراغب إلى شيء يلزم أن يسعى لتحقيقه عبر أسبابه الطبيعية، التي أمر اللّه اللزوم بها، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شي ء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرحٍ علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 77


1- سورة النساء، الآية: 124.
2- الاحتجاج 1: 103 احتجاج فاطمة الزهراء(عليها السلام) على القوم لما منعوها فدك، وقد قالت(عليها السلام): «... يا معشر النقيبة، وأعضاد الملة، وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي، والسنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبي يقول: المرء يحفظ في ولده. سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة، ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول...».
3- انظر تفسير تقريب القرآن 1: 550.

ونحن»(1).

فالتقدم في هذه الدنيا لا يكون إلّا باتخاذ أسبابه، لأن سنة الكون سنة الأسباب والمسبّبات.

مقومات التقدم

اشارة

وهنا لا بأس بأن نشير إلى مقومات التقدم، وهي أمور عديدة، منها ما يلي:

المقوم الأول: العلم

اشارة

إن العلم في مقدمة العوامل التي تسبب تقدم الفرد، وبالتالي: تقدم المجتمع، ومتى ما تواجد العلماء في مجتمع، وألتف ذلك المجتمع حول علمائه واحتفوا بهم، إلّا وسجل ذلك المجتمع لنفسه تقدماً باهراً وزاهراً.

مثلاً: قوم نبي اللّه يونس(عليه السلام) الذين فازوا بالنجاة من العذاب والخزي في الدنيا - بحسب القرآن الحكيم - وكان ذلك أكبر تقدم حازوا عليه، إنما كان ذلك نتيجة إلتفافهم بالعالم الذي كان عندهم وباتباعهم له ولتعليمه(2).

ص: 78


1- الكافي 1: 183.
2- روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «ما رد اللّه العذاب إلّا عن قوم يونس، وكان يونس يدعوهم إلى الإسلام فيأبوا ذلك، فهمّ أن يدعو عليهم، وكان فيهم رجلان: عابد وعالم، وكان اسم أحدهما مليخا، والآخر اسمه روبيل، فكان العابد يشير على يونس(عليه السلام) بالدعاء عليهم، وكان العالم ينهاه؛ ويقول: لا تدع عليهم فإن اللّه يستجيب لك ولا يحب هلاك عباده. فقبل قول العابد ولم يقبل من العالم، فدعا عليهم فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يأتيهم العذاب في سنة كذا وكذا، في شهر كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، فلما قرب الوقت خرج يونس(عليه السلام) من بينهم مع العابد، وبقي العالم فيها، فلما كان في ذلك اليوم نزل العذاب فقال العالم لهم: يا قوم، افزعوا إلى اللّه فلعله يرحمكم، ويرد العذاب عنكم، فقالوا: كيف نصنع؟ قال: اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة، وفرقوا بين النساء والأولاد، وبين الإبل وأولادها، وبين البقر وأولادها، وبين الغنم وأولادها، ثم ابكوا وادعوا. فذهبوا وفعلوا ذلك، وضجوا وبكوا، فرحمهم اللّه وصرف عنهم العذاب، وفرق العذاب على الجبال، وقد كان نزل وقرب منهم، فأقبل يونس(عليه السلام) لينظر كيف أهلكهم اللّه، فرأى الزارعين يزرعون في أرضهم! قال لهم: ما فعل قوم يونس؟ فقالوا له، ولم يعرفوه: إن يونس دعا عليهم فاستجاب اللّه له ونزل العذاب عليهم، فاجتمعوا وبكوا ودعوا فرحمهم اللّه، وصرف ذلك عنهم، وفرق العذاب على الجبال...». تفسير القمي 1: 317.

ومثلاً: الشعب السويسري، فإنهم لا يملكون معادن الثروة تحت الأرض، ولكنهم يملكون علماء فوق أرضهم، يتقنون علم صنع الساعات اليدوية الممتازة وغيرها، فتقدمت بلادهم وتقدم مجتمعهم بعلمائهم، بينما تأخرت البلاد التي تملك معادن الثروة تحت الأرض ولايتبع أهلها علماءهم.

وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة الدالة على أن العلم والعلماء، والوعي والثقافة، هو المقوم الأول في طريق التقدم والرقي.

وهكذا تقدم الغرب بعلمائه في مختلف المجالات على بلاد المسلمين.

العلم في الآيات والروايات

للعلم والجد والاجتهاد منزلة عظيمة في القرآن الكريم والروايات الشريفة، وما أكثر الآيات والأحاديث في هذا الباب، وقد أشرنا إلى بعضها في العديد من كتبنا(1).

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَلَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الصَّٰبِرُونَ}(2).

وقال جلّ أسمه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم مصباح العقل وينبوع الفضل»(5).

ص: 79


1- انظر كتاب (إلى الحوزات العلمية) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- سورة القصص، الآية: 80.
3- سورة المجادلة، الآية: 11.
4- سورة الحج، الآية: 54.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 85.

وقال(عليه السلام): «إن كنتم للنجاة طالبين فارفضوا الغفلة واللّهو وألزموا الاجتهاد والجد»(1).

وقال(عليه السلام): «العلم يدل على العقل، فمن علم عقل»(2).

وقال(عليه السلام): «أعون الأشياء على تزكية العقل التعليم»(3).

وقال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال(عليه السلام): أنّ أمْقَت عبيدي إليّ الجاهل المستخف بحق أهل العلم، التارك للاقتداء بهم، وأن أحبّ عبيدي إليّ، التقيّ الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء، التابع للحلماء، القابل عن الحكماء»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن الذي يعلم العلم منكم له أجرٌ مثل أجر المتعلّم، وله الفضل عليه، فتعلموا العلم من حملة العلم، وعلّموه إخوانكم كما علمكموه العلماء»(5).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ... وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر»(6).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من تعلم العلم وعمل به، وعلَّم للّه، دعي في ملكوت

ص: 80


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 258.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 92.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 208.
4- الكافي 1: 35.
5- الكافي 1: 35.
6- الكافي 1: 34.

السماوات عظيماً، فقيل: تعلم للّه، وعمل للّه، وعلَّم للّه»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً:«اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولاتكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم»(2).

وقال(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(3) قال: «يعني بالعلماء، من صدق فعله قوله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم»(4).

من أسباب تأخر الأمم

ثم إن الجهل وعدم الوعي، وفقد العلم والعلماء، وقلة ثقافة الحياة، من أهم أسباب تأخر الفرد والمجتمع، ويؤدي إلى تقهقر الأمم وسقوطها، بل إلى موتها وفنائها.

قال تبارك وتعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ}(5).

وقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالْإِيمَٰنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّٰدِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَٰكِنِّي أَرَىٰكُمْ قَوْمًا

ص: 81


1- الكافي 1: 35.
2- الكافي 1: 36.
3- سورة فاطر، الآية: 28.
4- الكافي 1: 36.
5- سورة محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، الآية: 16.
6- سورة الروم، الآية: 56.

تَجْهَلُونَ}(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الجهل في الإنسان أضر من الآكلة في البدن»(2).

وقال(عليه السلام): «لا غنى لجاهل»(3).

وقال(عليه السلام): «لا فقر أشد من الجهل»(4).

وقال(عليه السلام): «من أشد المصائب غلبة الجهل»(5).

المقوم الثاني: العمل

اشارة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما»(6).

إن العمل هو الركن الأساسي - بعد العلم - في تقدم الفرد والمجتمع.

بل يمكن أن يقال: إن العلم والعمل توأمان لا ينفصلان، ورضيعا لبان لا ينفك بعضهما عن البعض في تحقيق التقدم وتقومه، فإن كل فرد وكذلك كل مجتمع يريد الرقي والتقدم، لا بدّ له من توفير هذين العاملين معاً.

وربما يقال: إن العلم بنفسه لا يتحقق - عادةً - إلّا بالعمل لتحصيله، ولا يتحصّل العلم إلّا بالجد والاجتهاد، لأن أكثر المعلومات اكتسابية.

وسابقاً كانت الأمة الإسلامية مجدة في تحصيل العلوم وتربية العلماء

ص: 82


1- سورة الأحقاف، الآية: 22-23.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 73.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 73.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 73.
5- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 73.
6- عيون الحكم والمواعظ: 144.

والاحتفاف بهم والأخذ عنهم، ولذلك تطورت الأمة حتى سبقت جميع الأمم في مختلف مجالات الحياة فأصبح المسلمون آباء العلم الحديث.

ولكن للأسف نجد في يومنا هذا، أن كثيراً من المسلمين تخلوا عن العلم والعلماء، وهم يحبون أن تتحقق الأمور بالأماني.

فهل يعقل أن يصبح الإنسان طبيباً بدون دراسته للطب؟!

أو يطمح أن يكون عالماً مجتهداً بلا دراسة لمقدمات الاجتهاد؟!

أو يرجو أن يصبح بلده وفير الخير، قوي الاقتصاد، وتملؤه المعامل والمصانع، دون أن يقدم لذلك تخطيطاً وعملاً؟!

إن اللّه تبارك وتعالى يقول: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} أيها المسلمون، فإن تحقق الأمور ليست بالأماني والآمال، بل بالفكر والنظر، والعلم والعمل، والتخطيط والتطبيق، وبسلوك الأسباب والمقدمات للوصول إلى المسببات وذي المقدمات والنتائج {وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} فليس الأمر بأمانيهم أيضاً، أي: أماني أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس، ولا غيرهم، فليتمنوا الرقي والتقدم، ولكن هل يتحقق لهم شيء من ذلك؟

الجواب: كلا ثم كلا.

الأماني بضاعة النوكى

إن الاعتماد على التمني والاتكال على الأمنيات، ناتج من قلة الوعي، أو فقدانه؛ لأن الإنسان الذي يعقل ويعي الأمور يعرف أن لكل شيء سبباً، يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إياك والاتكال على المُنى فإنها بضائع النوكى»(1)(2).

ص: 83


1- النُوكى جمع الأنوك أي: الأحمق.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 169.

إن الأماني ليست بضاعة يمكن الاعتماد عليها، وإنما هي بضاعة الحمقى الذين لا يعقلون الأمور ولا يعونها. إن القرآن الحكيم يشير إلى قصة ذي القرنين بقوله: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(1) ليعلّمنا بأن الدنيا دار أسباب ومسبّبات، وأنه يلزم التحرك على ضوء الأسباب والعلل، وفق القوانين والسنن الكونية، التي سنها الباري تعالى لهذا الكون، وجعلها في هذه الحياة، أما الإنسان غير المتعقل وغير الواعي، فإنه يريد أن يحقق آماله بالأمنيات المجردة وعبر الأساطير الفارغة التي يزعمها، أملاً منه على أنها يمكن أن تساوي يوماً مّا التحقق الواقعي الخارجي، ولكنه هيهات وهيهات.

الأماني والآمال في الروايات

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه سبحانه ليبغض الطويل الأمل السيئ العمل»(2).

وقال(عليه السلام): «الأماني بضائع النوكى» «الآمال غرور الحمقى»(3).

وقال(عليه السلام): «الأماني تخدعك وعند الحقائق تدعك»(4).

وقال(عليه السلام): «من اتكل على الأماني مات دون أمله»(5).

وقال(عليه السلام): «أكذبوا آمالكم واغتنموا آجالكم بأحسن أعمالكم، وبادروا مبادرة أولي النُهى والألباب»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «تجنبوا المُنى فإنها تذهب بهجة ما خوَّلتم،

ص: 84


1- سورة الكهف، الآية: 89.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 224.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 40.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 78.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 608.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 152.

وتستصغرون بها مواهب اللّه تعالى عندكم، وتعقبكم الحسرات في ما وهَّمتم به أنفسكم»(1).

عواقب الاعتماد على التمني

إن الاعتماد على التمني فحسب، يورث حالة التواكل عند الإنسان والتخلي عن مسؤولياته، فكثير من المسلمين يرون بأن الشخص الفلاني، أو الجيش، أو الحزب، أو النظام هو المكلف بإنقاذ بلده، أي: إنه ينتظر النتائج من غيره دون عمل ومقدمات من نفسه، وهذا خطأ فادح؛ لأن ابتعاد المسلمين عن العمل وإلقاء المسؤولية على الآخرين نوع من العيش في عالم الأساطير والأحلام، ففي الحديث الشريف: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألّا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»(2).

وكما أن عالم الأساطير والأحلام لا يتمخّض عن نتيجة، فكذلك الاتكال على الأمنيات والآمال فإنه لا يمكن فيها الحصول على نتيجة واقعية في آخر الأمر، وذلك لأن اللّه تعالى جعل الحياة حياة هادفة جادّة، وقدّر لها أن تسير وفق الأسباب والعلل الكونية بدقة وانتظام؛ لذا علينا أن نكون هادفين وجادّين، وفي أعلى مستويات الوعي والإدراك لما يجري حولنا، ثم على ضوئها يلزم أن نفكر ونخطط، ثم نبدأ بالعمل الصحيح وفق ذلك وبالتحرك المخلص والجد والنشاط، إذ من الواضح أن الطموح والأماني مجردة عن التطبيق والعمل لا

ص: 85


1- الكافي 5: 85.
2- إرشاد القلوب 1: 184.

تحقق شيئاً من الرقي والتقدم، وإنما الذي يحقق الرقي هو الطموح والأماني المستتبعة للتطبيق والعمل.

الكسل عمل سوء

وهكذا يكون الكسل مذموماً عند العقلاء وفي الشريعة الإسلامية، وهو من مصاديق العمل السوء.

فإنه ليس المراد من (العمل السوء) في قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(1) هو: شرب الخمر فحسب، أو تعاطي القمار فقط، بل المراد منه: معناه الأعم الشامل حتى لمثل الكسل والغفلة. فقد جاء في الدعاء الوارد والمأثور عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام): «وأعذنا من السأمة والكسل والفترة»(2).

وفي دعاء آخر عن الإمام السجاد(عليه السلام): «اللّهم اقض لي في الأربعاء أربعاً: اجعل قوتي في طاعتك، ونشاطي في عبادتك، ورغبتي في ثوابك، وزهدي في ما يوجب لي أليم عقابك، إنك لطيف لما تشاء»(3).

هذه الآية الشريفة تتوعد بالجزاء لعمل السوء، والجزاء يكون دنيوياً وأخروياً، والجزاء الدنيوي لعمل السوء هو التأخر والفشل والحرمان وما أشبه.

فإذا عمل الإنسان سوءاً - بالمعنى الأعم الشامل للكسل أيضاً - فسيجزى به، ويتأخر في الحياة، وتنصب عليه المشاكل والويلات، وذلك كطالب مدرسة يذهب إلى قاعة الدرس ولكنه من دون تحمل للمسؤولية وجد واجتهاد، فيقضي وقته في فراغ وكسل، ولا يحفظ دروسه، ولم يقم بتحضيرها ولا بإعدادها، ولا

ص: 86


1- سورة النساء، الآية: 123.
2- مصباح المتهجد 1: 411.
3- مصباح للكفعمي: 124.

مراجعتها ولا المباحثة فيها، ولم يسهر لتدارك ما فاته من أمر حفظها وتحصيلها، فإن عمله هذا مندرج أيضاً في دائرة (عمل السوء) فإنه إذا كسل كان عاقبته أنه يتأخر ويفشل؛ لأن كل من عمل السوء يجزى به، والسوء - كما قلنا - لا يعني المعصية والعمل القبيح فقط، بل هو شامل لكل ما هو خارج عن دائرة الخير والفضيلة وداخل في دائرة الشر والرذيلة كالكسل والخمول.

الكسل والضجر في الروايات

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن الأشياء لما ازدوجت ازدوج الكسل والعجز، فنتجا بينهما الفقر»(1).

وقال الإمام أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «إني لأبغض للرجل أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عدو العمل الكسل»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من كسل عن طهوره وصلاته فليس فيه خيرٌ لأمر آخرته، ومن كسل عمّا يصلح به أمر معيشته فليس فيه خيرٌ لأمر دنياه»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «لا تستعن بكسلان، ولا تستشيرن عاجزاً»(5).

وكتب(عليه السلام) إلى رجل من أصحابه: «أما بعد، فلا تجادل العلماء، ولا تمار السفهاء فيبغضك العلماء، ويشتمك السفهاء، ولا تكسل عن معيشتك، فتكون كَلاً على غيرك، - أو قال - على أهلك»(6).

ص: 87


1- الكافي 5: 86.
2- الكافي 5: 85.
3- الكافي 5: 85.
4- الكافي 5: 85.
5- الكافي 5: 85.
6- الكافي 5: 86.

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إياك والكسل والضجر، فإنهما مفتاح كل سوء، إنه من كسل لم يؤد حقاً، ومن ضجر لم يصبر على حق»(1).

وعن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم(عليه السلام) قال: «قال أبي(عليه السلام) لبعض ولده: إياك والكسل والضجر؛ فإنهما يمنعانك من حظك من الدنيا والآخرة»(2).

سفرة إلى دولتين

سافر أحد كبار التجار إلى دولتين أجنبيتين أحدهما أكثر تطوراً وتقدماً من الأخرى، وعندما عاد من السفر ذهبت لزيارته وسألته: ما هي أسباب التقدم والتأخر التي لمستها في هاتين الدولتين، وكيف تأخرت الأولى، وبماذا تقدمت الثانية، في حين أن الثانية كانت سابقاً دولة عادية وأدنى مرتبة وأقل تطوراً من الأولى؟

أجابني قائلاً: إنني رأيت بنفسي أسباب ذلك، فمن أهم أسباب تأخر الدولة الأولى هو: أن العامل فيها صار كسولاً، بحيث إنه يأتي إلى محل عمله في الساعة الثامنة صباحاً أو بعدها، ثم يعمل إلى الساعة الثانية عشرة من الظهر، ثم يذهب إلى داره لتناول طعامه، ثم يسترخي في فراشه، ثم يأتي الساعة الرابعة أو الخامسة عصراً، ويبقى إلى الساعة السابعة والثامنة مساءً في محل عمله، ثم يرجع ثانية إلى بيته، أو إلى أماكن اللّهو والفساد.

وبالنتيجة: فإن العامل في الدولة الأولى صار يشتغل يومياً ست إلى سبع ساعات فقط كحد أقصى، أما العامل في الدولة الثانية، فإنه يشتغل يومياً اثنتي عشرة ساعة بالضبط، وبكل جد ونشاط، يعني أنه يعمل من الساعة السابعة

ص: 88


1- من لا يحضره الفقيه 3: 168.
2- الكافي 5: 85.

صباحاً حتى الساعة السابعة مساءً - عادة - ومن الطبيعي أن الإنسان الذي يعمل اثنتي عشرة ساعة يتفوق في كل شيء على الذي يعمل ست ساعات فقط، ويتقدم عليه، بل ليس من المعقول أن يتساوى مهندس يعمل ست ساعات، ومهندس آخر يعمل اثنتي عشرة ساعة في الناتج النهائي للعمل، وهو واضح.

بعد الحرب العالمية الثانية

عندما انتهت الحرب العالمية الثانية - وأنا أتذكرها جيداً - وكنت أتابع أخبارها من الإذاعات واقرؤها في الصحف، كانت ألمانيا وكذلك اليابان قد تحوّلتا حينها إلى ركام وخرائب، فقرر العمال في كل منهما بعد أن رأوا من تدهور بلادهم الاقتصادي أن يعملوا يومياً أكثر من عشر ساعات، وربما وصل إلى اثنتي عشرة ساعة، ومن الواضح أن العمل في اليوم ثمان ساعات هي في ذاتها متعبة وخاصة بالنسبة لبعض الأعمال، مثل الأعمال الثقيلة والشاقة، التي تتطلب جهداً بدنيا كبيراً، فكيف بإضافة أربع ساعات أخرى من العمل إليها، ولكن رغم ذلك واصل رجال الأعمال في كل البلدين العمل وهم يقولون: إن هذه الأربع ساعات هي تبرع منا لبناء بلدنا.

ولو أردنا ضبط ما ينجزه هؤلاء الملايين من العمال وحسابه بمعدل عمل قدره 12 ساعة يومياً، لاتضح لنا الدور الكبير والمؤثر جداً في بناء البلد وتطويره، فكان هؤلاء يصرفون الزائد من عملهم المقرر في بناء المستشفيات والمستوصفات، والمصانع، والشركات، والمدارس والجامعات، والجسور والشوارع، والدور والبنوك، والثكنات العسكرية والمراكز الحكومية، وسائر الأماكن والمؤسسات الضرورية الأخرى. ومنذ سنة (1945 إلى سنة 1975م) أي: بعد أن مضت ثلاثون سنة من العمل، وإذا بألمانيا وكذلك اليابان، أصبح كل منهما من أقوى دول العالم صناعياً وأكثرها تطوراً.

ص: 89

جودة العمل وإتقانه

ثم بعد ثبوت أن العمل وكثرته، عامل من عوامل التقدم والرقي، نرى الإسلام يؤكّد على جودة العمل وإتقانه، وعلى الدقة فيه وإحكامه، فالتأكيد الإسلامي يشمل الجانب الكمّي والكيفي معاً.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «لما مات إبراهيم بن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قبره خللاً فسواه بيده، ثم قال: إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن، ثم قال: الحق بسلفك الصالح عثمان بن مضعون»(1).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قيمة كل امرئ ما يحسنه»(2).

وعنه(عليه السلام) قال: «تصفية العمل خير من العمل»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لا نقول درجة واحدة إن اللّه يقول: درجات بعضها فوق بعض، إنما تفاضل القوم بالأعمال»(4).

وعنه(عليه السلام) قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نزل حتى لحد سعد بن معاذ، وسوى اللبن عليه، وجعل يقول: ناولني حجراً، ناولني تراباً رطباً، يسد به ما بين اللبن، فلما أن فرغ وحثا التراب عليه وسوى قبره، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إني لأعلم أنه(5) سيُبلى ويصل إليه البلاء، ولكن اللّه يحب عبداً إذا عمل عملاً أحكمه»(6).

وفي البلاد الإسلامية

أما البلاد الإسلامية فقد تأخرت لأن الأمة والحكومة اشتغلت بالأماني

ص: 90


1- وسائل الشيعة 3: 229.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 447.
3- كنز الفوائد 1: 278.
4- تفسير العياشي 1: 388.
5- أي القبر.
6- وسائل الشيعة 3: 230.

والشهوات، وتخلت عن العلم والعمل.

فترى بلداً إسلامياً كبيراً قد يصل عدد نفوسه إلى أكثر من مائة مليون نسمة، وكذلك بلدان إسلامية أخرى خرجت من الحرب العالمية الثانية، كما خرجت ألمانيا واليابان وهما بحالة دمار شامل وإفلاس كامل، ولكن تقدمتا وتطورتا، إلّا أن البلاد الإسلامية لم تتقدم تقدماً محسوساً، ولم تغسل عن نفسها دمار وغبار الحرب غسلاً كاملاً، بل بقيت إلى يومناً هذا تعدّ من الدول المتخلفة، ومن بلدان العالم الثالث.

ونحن لا نريد الحط من شأن البلاد الإسلامية؛ وإنما الأمر من باب نقد الذات في طريق البناء والتقدم، فنتسائل لماذا هذا التأخر والتخلف، هل هو لأن العمال في البلاد الإسلامية لم يتبرّعوا بساعات إضافية من العمل، أو لأن رؤساءهم وملوكهم لم يكونوا ممن يفكّر بتقدّم البلاد والعباد بل كانوا عملاء للأجانب، أو لأن الراعي والرعية معاً قد أعرضوا عن تعاليم الإسلام، تلك التعاليم التي تحيي البلاد والعباد بالتقدم والرقي، والنمّو والازدهار؟

قال اللّه تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(1).

الإسلام يأمر بالعمل

قال اللّه تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ}(3).

ص: 91


1- سورة الأعراف، الآية: 96.
2- سورة التوبة، الآية: 105.
3- سورة النجم، الآية: 39-40.

فالإسلام يأمر بالعمل، وينهى عن الكسل والترّهل، وعن الركود والخمود،كما أنه يذكّرنا بهذه الحقيقة، ويوقفنا على مدى واقعيتها، ويقول: بقدر العمل يحصل الإنسان على النتائج، فلو فرضنا أن هناك دولة فيها من رجال الأعمال خمسون ألف عامل، وأن كل واحد منهم يعمل أربع ساعات، وفي دولة أخرى مجموع رجال أعمالها خمسون ألف عامل أيضاً، ولكن يعمل كل واحد منهم ست ساعات يومياً، فأيّ واحد منهما سوف يحصل على تقدم أكبر، ورقي أعظم؟

من البديهي أن رجال الأعمال في البلاد التي يعملون فيها ست ساعات هم الذين يحصلون على رقي أكبر وتقدم أعظم، هذا في الجانب الكمي، وكذلك الأمر في الجانب الكيفي أيضاً.

وإليك شاهد آخر على أن التقدم لمن يعمل والتأخر لمن لا يعمل، وذلك من واقع بلادنا الإسلامية، فالمسلمون على كثرتهم وثروتهم، وعلى ما يمتلكونه من طاقات فكرية وجسدية، متأخرون في كل شيء، سياسياً واقتصادياً، واجتماعياً وصناعياً، فلا يستطيعون حتى من صناعة إبرة للخياطة، وإن كانت عندهم بعض الصناعات فهي تقليدية أو تجميع أو ما أشبه، في حين كنا نحن المسلمين يوماً آباء العلم وروّاد الفكر، وما ذاك التقدم إلّا بالعمل، وما هذا التأخر إلّا بالكسل.

وصايا بليغة

كثير من الشباب وهم قوة المجتمع العملي، وعليهم يعتمد التطور والتقدم في مختلف ميادين الحياة، تراهم اليوم قد انخرطوا في المفساد واللّهو واللعب، وأقل ما يقال: إنهم كثيروا النوم قليلوا العمل.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما أنقض النوم لعزائم اليوم»(1).

ص: 92


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 440.

وكان المرحوم والدي (قدس اللّه روحه) يوصيني دائماً بقلة النوم، ويقول في ما يقول لي في هذا المجال: أخّر يا ولدي نومك إلى القبر، فإن الإنسان سوف ينام في القبر نوماً طويلاً، تتهشم منه أضلاعه، وتفسد على أثره جوانبه.

هكذا كان يوصيني والدي(رحمه اللّه) وكان يذكر لي بعض تجاربه الشخصية وخصوصيات حياته في شبابه فيقول: كنت في أيام شبابي وأنا واحد من الطلبة، لم أترك القراءة ليل نهار، فكنت أطالع في الليل على ضوء القمر، إذا لم يكن المصباح النفطي أو الشمعة أو نحو ذلك متوفراً عندنا. ثم كان سماحته(رحمه اللّه) يردف كلامه ويقول: بالعمل الدؤوب والسهر الدائم، يتمكن الإنسان أن يصل إلى بعض الدرجات الرفيعة، ويتقدم علمياً ومعنوياً. أما الإنسان الذي يكسل عن العمل، وينشغل ببعض الأمور الجانبية، وينام في اليوم عشر ساعات - مثلاً - وبعد ذلك يذهب للتنزه على شاطيء البحر، أو ضفاف النهر، أو أطراف البساتين، فإن من المعلوم: أن هذا الإنسان يتأخر ولا يصل إلى ما يصل إليه ذلك الإنسان المجد المجتهد، الذي يواصل سيره بجد ومثابرة.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من طلب شيئاً ناله أو بعضه»(1).

وصحيح ما قيل: (من جد وجد، ومن زرع حصد).

لذلك ينبغي للجميع: من رجل وامرأة، وتاجر وعامل، ومدّرس وطالب، ومهندس وطبيب، وغيرهم من أصناف الأمة، التحلي بالعلم والعمل الدؤوب، ونبذ الكسل والملل، وأن يضعوا جميعاً نصب أعينهم قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}(2) أي: من عمل حتى بمقدار وزن ذرة من الخير يرى جزاءه

ص: 93


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 386.
2- سورة الزلزلة، الآية: 7.

الدنيوي في الدنيا وثوابه الأخروي في الآخرة، وهكذا {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1) فإنه يرى ما يستحق عليه من العقاب في الآخرة فضلاً عن العواقب السيئة في الدنيا أيضاً.

كثرة النوم في الأحاديث الشريفة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم وكثرة النوم، فإن كثرة النوم يدع صاحبه فقيراً يوم القيامة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قالت أم سليمان بن داود لسليمان(عليهما السلام): يابني، إياك وكثرة النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيراً يوم القيامة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من خاف البيات قل نومه»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من كثر في ليله نومه فاته من العمل ما لايستدركه في يومه»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال موسى(عليه السلام) - في مناجاته مع ربه - : أي عبادك أبغض إليك؟ قال: جيفة بالليل، بطال بالنهار»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) - في وصيته لعبد اللّه ابن جندب - : «يا ابن جندب! أقل النوم بالليل والكلام بالنهار، فما في الجسد شيء أقل شكراً من العين واللسان، فإن أم سليمان قالت لسليمان(عليه السلام): يابني إياك والنوم، فإنه يفقرك يوم يحتاج الناس إلى أعمالهم»(7). وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن اللّه عزّ وجلّ يبغض كثرة

ص: 94


1- سورة الزلزلة، الآية: 8.
2- الاختصاص: 218.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 556.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 394.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 640.
6- بحار الأنوار 13: 354.
7- تحف العقول: 302.

النوم، وكثرة الفراغ»(1).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «لاتعود عينيك كثرة النوم، فإنها أقل شيء في الجسد شكراً»(2).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه جلّ وعزّ يبغض العبد النوام الفارغ»(3).

وقال الإمام العسكري(عليه السلام): «من أكثر المنام رأى الأحلام»(4).

المقوم الثالث: المال

اشارة

إن المال هو الركن الأساسي الآخر - بعد العلم والعمل - في تقدم الفرد والمجتمع، بل يمكن أن يقال: إن المال (الاقتصاد) هو العمود الفقري في هيكلية التقدم؛ والرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول رواية (سيف علي ومال خديجة): مّا قام ولا استقام ديني إلّا بشيئين: مال خديجة وسيف علي بن أبي طالب»(5)، والمراد بالسيف هو السيف الدفاعي لأن الأعداء أرادوا القضاء على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى الإسلام بسيوفهم حيث شنوا الحروب على المسلمين، فدافع أمير المؤمنين(عليه السلام) بسيفه وحافظ على الدين وقادته وأتباعه.

أجل: إن من الأمور اللازمة على المسلمين هو اهتمامهم غاية الاهتمام، بالمال والثروة (الاقتصاد) والسعي الدؤوب لأكتسابه من مصادره وموارده المشروعة، وصرفه في الحلال، حيث نجد أن الإسلام قد أوصى بذلك، أي بالكسب الحلال، والصرف الحلال.

ص: 95


1- الكافي 5: 84.
2- تفسير العياشي 2: 115.
3- الكافي 5: 84.
4- الدرة الباهرة: 46.
5- شجرة طوبى 2: 233.

قال اللّه العظيم في محكم كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {فَانتَشِرُواْ فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ}(2).

وقال سبحانه: {وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ}(3).

وفي الحديث الشريف قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تسعة أعشار الرزق في التجارة»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا خير في من لا يحب جمع المال من حلال؛ يكفّ به وجهه، ويقضي به دَينه، ويصل به رحمه»(6).

وقال(عليه السلام): «ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «سلوا اللّه الغنى في الدنيا والعافية، وفي الآخرة المغفرة والجنة»(8).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»(9).

ص: 96


1- سورة الملك، الآية: 15.
2- سورة الجمعة، الآية: 10.
3- سورة المزمل، الآية: 20.
4- الخصال 2: 445.
5- الكافي 5: 78.
6- الكافي 5: 72.
7- من لا يحضره الفقيه 3: 156.
8- الكافي 5: 71.
9- من لا يحضره الفقيه 3: 156.

وغير هذه الأحاديث كثير مما فيه حث المسلمين على السعي لتحصيل المال الحلال لعمارة الدنيا بما ينفعهم في الآخرة.

من مزايا المال

في المال مزايا كثيرة ويمكن عدّ مايلي منها:

أولاً: القوة الاقتصادية، فالمسلم إذا كان يملك مالاً أكثر كان أقوى من غير المسلم الذي يملك مالاً أقل، ومن المعروف: أن القوة الاقتصادية تورث القوة السياسية، وأن العزة الاقتصادية تجلب العزة السياسية أيضاً.

ثانياً: القوة الإنجازية، فإنه عندما تكون ثروة المسلمين أكثر، تكون قدرتهم على إنجاز المشاريع المفيدة، والمؤسسات الخيرية والاجتماعية النافعة أكثر، وهل من المعقول أن توجد هذه المشاريع وتنمو وتستمر بغير الأموال؟

ثالثاً: القوة السياسية، لأنها تعتمد على مجموعة مقومات منها المال، فإن الرواية الشريفة تقول: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(1)، والعلو في جميع الميادين حتى الأمور الاقتصادية(2). وبعبارة أخرى: أن تحقق هذه القضية، أي: علوّ الإسلام، لا يمكن إلّا إذا كان عالياً من جميع الجهات؛ ولو لا التفوق الاقتصادي لتخّلف معنى «لا يُعلى عليه» وهو باطل.

رابعاً: القوة المعنوية، فإن المال كما يكون عوناً على الأمور المادية، فكذلك يكون عوناً على الأمور المعنوية أيضاً، وفي الروايات الشريفة ما يؤكّد ذلك، فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): نعم العون على تقوى اللّه الغنى»(3).

ص: 97


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334.
2- للتفصيل راجع كتاب (انفقوا لكي تتقدموا) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
3- الكافي 5: 71.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نعم المال الصالح للرجل الصالح»(1).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «اقرءوا من لقيتم من أصحابكم السلام، وقولوا لهم: إن فلان بن فلان يقرئكم السلام، وقولوا لهم: عليكم بتقوى اللّه عزّ وجلّ، وما ينال به ما عند اللّه، إني واللّه ما آمركم إلّا بما نأمر به أنفسنا، فعليكم بالجد والاجتهاد، وإذا صليتم الصبح وانصرفتم فبكّروا في طلب الرزق واطلبوا الحلال؛ فإن اللّه عزّ وجلّ سيرزقكم ويعينكم عليه»(2).

وعنه(عليه السلام) قال: «إن ظننت أو بلغك أن هذا الأمر كائن في غد(3)، فلا تدعن طلب الرزق، وإن استطعت أن لا تكون كَلّاً فافعل»(4).

بين مدح المال والقناعة

وليس المراد من الاهتمام بالمال، والعمل من أجل تكثيره وتحصيل الغنى: التكاثر في الأموال من أي سبب كان، وبأي شكل اتفق؛ سواء كان مشروعاً أو غير مشروع، بل المراد الحصول على المال من الطرق الشرعية، وبذله في الموارد المشروعة، ليعيش صاحبه الحياة الكريمة، ويتمكن من توفير المستلزمات الضرورية لمتطلبات الحياة اليومية فردية واجتماعية، فيأكل ويشرب، ويلبس ويتزوج، ويزكّي ويحجّ، ويتصدق وينفق في سبيل الخير الفردي والاجتماعي، ولتتقدم الأمة وتتطور يوماً بعد يوم.

وهذا لا ينافي استحباب العفاف والكفاف والقناعة كما هو واضح.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألّا وإن أفضل الناس: عبد أخذ في الدنيا الكفاف،

ص: 98


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 158.
2- الكافي 5: 78.
3- أي: أمر ظهور الإمام الحجة المهدي المنتظر(عليه السلام)، كما ذكره العلامة المجلسي في مرآة العقول 19: 24.
4- الكافي 5: 79.

وصاحب فيها العفاف»(1).

وسيأتي معنى العفاف في الحديث التالي عن الإمام الباقر(عليه السلام)، فليس العفاف أو الكفاف بمعنى الفقر وعدم تحصيل المال، بل العكس لأن صاحب المال هو الذي يتمكن من الكفاف والعفاف.

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «من طلب الرزق في الدنيا استعفافاً عن الناس، وتوسيعاً على أهله، وتعطفاً على جاره، لقي اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر»(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن علي بن الحسين(عليهما السلام) يدع خلفاً أفضل منه، حتى رأيت ابنه محمد بن علي(عليهما السلام) فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيني أبو جعفر محمد بن علي(عليهما السلام) وكان رجلاً بادناً ثقيلاً، وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: سبحان اللّه! شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟! أما لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه فرد عليّ السلام بنهر(3)، وهو يتصاب عرقاً فقلت: أصلحك اللّه، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟! فقال(عليه السلام): «لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعة اللّه عزّ وجلّ، أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي اللّه».

ص: 99


1- بحار الأنوار 74: 179.
2- الكافي 5: 78.
3- في الإرشاد 2: 161، (ببهر) وهو تتابع النفس، يعتري الإنسان عند السعي الشديد والعدو.

فقلت: صدقت يرحمك اللّه، أردت أن أعظك فوعظتني(1).

وقال رجل لأبي عبد اللّه(عليه السلام): واللّه، إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها. فقال(عليه السلام): «تحب أن تصنع بها ماذا؟». قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدق بها، وأحج وأعتمر.

فقال(عليه السلام): «ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «غنى يحجزك عن الظلم خير من فقر يحملك على الإثم»(3).

لو لا مال خديجة(عليها السلام)

وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض النماذج التاريخية لأهمية المال وانفاقه في سبيل اللّه، مثل انفاق أم المؤمنين، السيدة الوفية، الطاهرة الزكية، خديجة بنت خويلد(عليها السلام) بجميع أموالها في سبيل اللّه تعالى، فإنها جعلت كل أموالها وجميع ثروتها في متناول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحت تصرّفه، وكان ذلك من أهم العوامل الرئيسية في مساعدة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تبليغ الإسلام، وكان لثروتها (رضوان اللّه تعالى عليها) المبذولة للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أثراً كبيراً في تعبيد الطريق لنشر الإسلام، وقد ورد عن الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة(عليها السلام)»(4) وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفك من مالها الغارم والعاني، ويحمل الكَل(5)، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه، إذ كان بمكة، ويحمل من أراد

ص: 100


1- الكافي 5: 73.
2- الكافي 5: 72.
3- الكافي 5: 72.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 468.
5- غرم في تجارته مثل خسر، خلاف ربح. والغارم: من يلتزم ما ضمنه وتكفل به. والعاني: الأسير، ومنه: أطعموا الجائع، وفكوا العاني. والكَل: الثقل والعيال ومنه نحن كل على آبائنا، أي: نحن ثقل وعيال على من يلي أمرنا ويعولنا. والكل: اليتيم.

منهم الهجرة، وكانتقريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين، يعني: رحلة الشتاء والصيف، كانت طائفة من العير لخديجة(عليها السلام) وكانت أكثر قريش مالاً، وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينفق منه ما شاء في حياتها(1).

الإسلام خير للبشرية جمعاء

اشارة

لقد أراد الإسلام الخير للبشرية جمعاء، ومن هنا أراد العزة للمسلمين، ولو كانت الدنيا بيد المسلمين وكانوا أقوياء أثرياء واعين سعدوا وفلحوا، وأسعدوا الآخرين وجعلوهم من المفلحين، ومن الواضح أنه إذا انسحب المصلحون والأتقياء عن مسرح الحياة سيحل بالتأكيد محلهم المفسدون، بمقتضى سنن الحياة.

ونظير ذلك: غياب رجال الأمن والشرطة عن التواجد في الشوارع والأزقة للمحافظة على الأمن للمحلات والبيوت من السرقة وما أشبه، فإنه سوف يحل محلّهم السراق واللصوص، وذلك كما حدث في إحدى البلاد الإسلامية، فإنه في ليلة واحدة، ونتيجة لغياب رجال الأمن والشرطة وضعفهم عن القيام بمهمتهم في الحفظ والحراسة، نهب السراق واللصوص عدداً كبيراً من بيوت الناس ومحلاتهم التجارية، وسرقوا أموالاً كثيرة، وسلبوا الناس الأمن والراحة؛ كل ذلك لأجل غياب رجال الأمن والشرطة عن الساحة، وحلول السراق واللصوص محلّهم، وهذه سنة من سنن الحياة والكون، إذ كل ما انسحب الحماة والحرّاس والمصلحون تقدم اللصوص والسراق والمفسدون.

وعليه: فلو أن ساحات العمل وميادينها على اختلاف أنواعها أصبحت بيد الخيّرين من الناس وفي حوزة المحسنين، لعاش المجتمع بكامله عيشة رغداً،

ص: 101


1- بحار الأنوار 19: 63.

ويحيا المجتمع بكله حياة السعادة، ولم ير الناس ما ينغص حياتهم، ولا ما يشقي عيشهم. أمّا لو انسحب أهل الخير والإحسان عن ميدان التجارة والصناعة، وعن ساحات العمل والاجتماع، وعن مزاولة الاقتصاد والسياسة، وعن ممارسة التنظيم والتخطيط، وعن مداولة الثقافة والتعليم، لجاء غيرهم ليشغل كل هذه الميادين، وجميع هذا الساحات بالباطل والمشاكل والظلم والاعتداء على حقوق الآخرين.

الإسلام والاكتفاء الذاتي

إن الإسلام يدعو المسلمين إلى الاكتفاء الذاتي في كل المجالات والأبعاد، الاقتصادية وغيرها، ومن كل الجوانب والجهات، ويوصيهم به، ويرغّبهم فيه، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تحت ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلّا ظله، رجل ضارب في الأرض، يطلب من فضل اللّه ما يكف به نفسه، ويعود به على عياله»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «ما غدوة أحدكم في سبيل اللّه بأعظم من غدوة يطلب لولده وعياله ما يصلحهم»(3).

وحكي عن النبي داود(عليه السلام): أنه كان يتوخّى من تلقّاه من بني إسرائيل فيسأله عن حاله؟ فيثني عليه، حتى لقي رجلاً فقال: نعم العبد لو لا خصلة فيه، فقال: «وما هي؟» قال: إنه يأكل من بيت المال.

ص: 102


1- عوالي اللئالي 3: 194.
2- الإرشاد 1: 303.
3- السرائر 2: 228.

فبكى داود(عليه السلام) وعلم أنه قد أتي، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى الحديد: «أن لِنلعبدي داود». فألان اللّه له الحديد، فكان(عليه السلام) يعمل كل يوم درعاً يبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة وستين درعاً فباعها بثلاث مائة وستين ألفاً، فاستغنى عن بيت المال(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة سلام اللّه عليها تطحن وتعجن وتخبز»(2).

وسأل هارون الواسطي الإمام الصادق(عليه السلام) عن الفلاحين؟ فقال(عليه السلام): «هم الزارعون كنوز اللّه في أرضه، وما في الأعمال شيء أحب إلى اللّه من الزراعة، وما بعث اللّه نبياً إلّا كان زارعاً، إلّا إدريس فإنه كان خياطاً»(3).

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «للمسرف ثلاث علامات: يأكل ما ليس له، ويشتري ما ليس له، ويلبس ما ليس له»(4).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «من علامات المؤمن ثلاث: حسن التقدير في المعيشة، والصبر على النائبة، والتفقه في الدين» وقال: «ما خير في رجلٍ لا يقتصد في معيشته ما يصلح لا لدنياه ولا لآخرته»(5).

مع سلمان المحمدي

روي: أن سلمان المحمدي (رضوان اللّه عليه) كان يسف الخوص وهو أمير على المدائن، ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل إلّا من عمل يدي، وقد

ص: 103


1- عوالي اللئالي 3: 199.
2- الكافي 5: 86.
3- تهذيب الأحكام 6: 384.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 167.
5- تهذيب الأحكام 7: 236.

كان تعلم سف الخوص من المدينة(1).

وجاء في كتاب من سلمان إلى عمر بن الخطاب ما يلي: (... وأما ما ذكرت أني أقبلت على سف الخوص وأكل الشعير، فما هما مما يعيَّر به مؤمنٌ ويؤنب عليه، وأيم اللّه يا عمر، لأكل الشعير، وسف الخوص، والاستغناء عن رفيع المطعم والمشرب، وعن غصب مؤمنٍ حقه، وادعاء ما ليس له بحق، أفضل وأحب إلى اللّه عزّ وجلّ وأقرب للتقوى، ولقد رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أصاب الشعير أكل وفرح ولم يسخطه...)(2).

عليك بالسوق

وذكر أن رجلاً جاء إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: ما طعمت طعاماً منذ يومين؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق».

فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول اللّه، أتيت السوق أمس فلم أصب شيئاً فبت بغير عشاء؟

قال: «فعليك بالسوق».

فأتى بعد ذلك أيضاً، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق» فانطلق إليها، فإذا عير قد جاءت وعليها متاع فباعوه بفضل دينار، فأخذه الرجل وجاء إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: ما أصبت شيئاً؟

قال: «هل أصبت من عير آل فلان شيئاً؟». قال: لا.

قال: «بلى ضرب لك فيها بسهم وخرجت منها بدينار». قال: نعم.

قال: «فما حملك على أن تكذب؟». قال: أشهد أنك صادق، ودعاني إلى

ص: 104


1- بحار الأنوار 22: 390.
2- الإحتجاج 1: 131.

ذلك إرادة أن أعلم أتعلم ما يعمل الناس، وأن أزداد خيراً إلى خير. فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «صدقت، من استغنى أغناه اللّه، ومن فتح على نفسه باب مسألة فتح اللّه عليه سبعين باباً من الفقر، لا يسد أدناها شي ء». فما رئي سائل بعد ذلك اليوم، ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي»(1).

من استغنى أغناه اللّه

وعن الإمام أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «اشتدت حال رجل من أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسألتَه، فجاء إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما رآه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه.

فقال الرجل: ما يعني غيري، فرجع إلى امرأته فأعلمها، فقالت: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشرٌ، فأعلمه.

فأتاه، فلما رآه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه، حتى فعل الرجل ذلك ثلاثاً، ثم ذهب الرجل فاستعار معولاً، ثم أتى الجبل فصعده فقطع حطباً، ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق، فرجع به فأكله، ثم ذهب من الغد فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى معولاً، ثم جمع حتى اشترى بكرين وغلاماً، ثم أثرى حتى أيسر، فجاء إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قلت لك: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه»(2).

خذ حانوتاً

وعن عبد الرحمن بن الحجاج قال: كان رجل من أصحابنا بالمدينة، فضاق

ص: 105


1- الخرائج والجرائح 1: 89.
2- الكافي 2: 139.

ضيقاً شديداً، واشتدت حاله، فقال له أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اذهب، فخذ حانوتاً في السوق، وابسط بساطاً، وليكن عندك جرة من ماء، والزم باب حانوتك». قال: ففعل الرجل، فمكث ما شاء اللّه، قال: ثم قدمت رفقة من مصر فألقوا متاعهم، كل رجل منهم عند معرفته وعند صديقه، حتى ملئوا الحوانيت، وبقي رجل منهم لم يصب حانوتاً يلقي فيه متاعه، فقال له أهل السوق: هاهنا رجل ليس به بأس، وليس في حانوته متاع، فلو ألقيت متاعك في حانوته؟ فذهب إليه فقال له: ألقي متاعي في حانوتك؟ فقال له: نعم، فألقى متاعه في حانوته، وجعل يبيع متاعه الأول فالأول، حتى إذا حضر خروج الرفقة بقي عند الرجل شي ء يسير من متاعه، فكره المقام عليه، فقال لصاحبنا: أخلف هذا المتاع عندك تبيعه، وتبعث إلي بثمنه، قال: فقال: نعم، فخرجت الرفقة، وخرج الرجل معهم، وخلف المتاع عنده، فباعه صاحبنا وبعث بثمنه إليه، قال: فلما أن تهيأ خروج رفقة مصر من مصر بعث إليه ببضاعة، فباعها ورد إليه ثمنها، فلما رأى ذلك الرجل أقام بمصر، وجعل يبعث إليه بالمتاع ويجهز عليه، قال: فأصاب وكثر ماله وأثرى»(1).

المسلمون: آباء العلم والعمل

لقد كنا نحن المسلمين - وبشهادة التاريخ - آباء العلم والعمل، وأصحاب الثروة والمال، ومن يوم تركنا تعاليم الإسلام في طلب العلم والعمل، ولجأنا إلى الكسل والخمول، فقدنا كل شيء، وخسرنا جميع الخير، مثلاً: إننا نمتلك في بلادنا الإسلامية، ومنذ مايزيد على خمسين سنة معادن البترول، وآبار النفط التي راحت تنير العالم وتضيئه، وتحرك عجلات صناعته واقتصاده. ومع ذلك بقينا إلى هذا اليوم نفتقد كثيراً من علوم النفظ وفنونه، وحتى أنه لو احترق بئر منها لاحتجنا

ص: 106


1- الكافي 5: 309.

إلى فريق أجنبي لاطفائه، أليس هذا من المؤسف؟ ألّا يكفي انقضاء ما يقارب من خمسين عاماً على عمر النفط وعلى اكتشاف البترول، لحصول الوقت اللازم كي نستطيع أن نربّي في بلداننا خبراء ومتخصصين لذلك.

وإني أذكر جيداً أنه قبل ما يربو عن ثلاثين سنة تقريباً، حينما كنا في كربلاء المقدسة، احترق أحد آبار النفط في إحدى البلدان الإسلامية، فاستقدموا - بسبب افتقادهم خبيراً في هذا المجال - شركة أجنبية مختصة لإطفائها، وقد تعجب الناس حينما سمعوا أن هذه الشركة كانت تتقاضى أجراً مقداره أربعة آلاف دينار لليوم الواحد، وكانت يومية العامل آنذاك في العراق مائة فلس تقريباً، أي: إن هذه الشركة الصغيرة كانت تأخذ ما يعادل أجرة أربعين ألف عامل في بلادنا.

هذا وقد جاء في كثير من الأحاديث الشريفة التأكيد على الخبرة والاستغناء والتقدم العلمي والعملي في كل المجالات لئلا نعتمد على الغير إلى هذه الدرجة، وأن لا نغفل عن العلم والعمل فنحتاج إلى غيرنا حتى هذه الدرجة، فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح»(1). ومن مصاديقه الاعتماد على الغير لأنه عمل بغير علم. وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «حسن التدبير ينمي قليل المال، وسوء التدبير يفني كثيره»(2). ومن الواضح أن الخبرة والإكتفاء الذاتي من حسن التدبير.

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «أما وجه العمارة فقوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}(3) فأعلمنا سبحانه أنه قد أمرهم بالعمارة ليكون ذلك سبباً لمعايشهم، بما يخرج من الأرض من الحب والثمرات وما شاكل ذلك، مما

ص: 107


1- الكافي 1: 44.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 345.
3- سورة هود، الآية: 61.

جعله اللّه معايش للخلق»(1). فقد أمر اللّه بالعمارة بيدهم لا بيد الغير. وفي دعاء الإمام السجاد(عليه السلام): «اللّهم فلك الحمد على ما فلقت لنا من الإصباح، ومتعتنا به من ضوء النهار، وبصّرتنا من مطالب الأقوات»(2).

حيث المطلوب بصيرة الإنسان نفسه، كما هو واضح.

المقوّم الرابع: التواضع والتفاهم

اشارة

إن التواضع والتفاهم هو من العوامل المهمة - بعد العلم والعمل والمال - في تقدم الفرد والمجتمع، بل يمكن أن يقال: إن كلاً من العلم والعمل والمال، لا يثمر ذلك الثمر النافع والمفيد، إلّا إذا كان إلى جانبه تواضع وتفاهم، لذلك فإن التواضع والتفاهم من الدعائم المقوّمة اللازمة للأمة التي تريد التقدم، وتطمح في الرقي إلى المعالي.

إن العلم وحده، والعمل بمفرده، والمال بانحصاره، ليس طريق التقدم، بل لا بد وأن يكون كل ذلك مقروناً بالتواضع والتفاهم.

وينبغي من أجل التقدم أن يتمتع العاملون بالأخلاق والمكارم والإخلاص، والخصال الحميدة، والصفات الحسنة، التي أمرنا بها القرآن الحكيم، والرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومون(عليهم السلام) لأن الإنسان العامل يحتاج في تقديم أهدافه من يساعده في أعماله، ويؤازره عليها، ولا يمكنه أن يعمل منفرداً، كما لا يمكنه أن يجذب المجتمع إليه ولا إلى مشروعه، إلّا بالخصال الطيبة، والصفات الحسنة، كالتواضع والإحسان والكرم وما شابه ذلك، وهو بحاجة إلى التفاهم مع الغير لكي يجتنب المنازعات والمصادمات وما أشبه.

ص: 108


1- وسائل الشيعة 19: 35.
2- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) عند الصباح والمساء.
التواضع والتفاهم في الروايات

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاثة لا يزيد اللّه بهن إلّا خيراً: التواضع لا يزيد اللّه به إلّا ارتفاعاً، وذلّ النفس لا يزيد اللّه به إلّا عزّاً، والتعفف لا يزيد اللّه به إلّا غنى»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «التواضع زينة الحسب»(2).

وقال(عليه السلام): «زينة الشريف التواضع»(3).

وقال(عليه السلام) - في صفة الملائكة ومدحهم - : «جعلهم اللّه في ما هنالك أهل الأمانة على وحيه، وحمَّلهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه... وأشعر قلوبهم تواضع إخبات(4) السكينة»(5).

وقال(عليه السلام) في ذكر الحج: «وجعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته»(6).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «لاحسب لقرشي ولا لعربي إلّا بتواضع ولا كرم إلّا بالتقوى»(7).

وقال الإمام العسكري(عليه السلام): «أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاءً لها أعظمهم عند اللّه شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند اللّه من الصديقين، ومن شيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام) حقاً، ولقد ورد على أمير

ص: 109


1- مشكاة الأنوار: 224.
2- كنز الفوائد 1: 299.
3- كنز الفوائد 1: 320.
4- الإخبات: الخضوع والخشوع.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 91 من خطبة له(عليه السلام) تعرف بخطبة الأشباح.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم و... .
7- الكافي 8: 234.

المؤمنين(عليه السلام) أخوان له مؤمنان: أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه،وجلس بين أيديهما، ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل لليبس، وجاء ليصب على يد الرجل ماءً، فوثب أمير المؤمنين(عليه السلام) فأخذ الإبريق ليصب على يد الرجل! فتمرغ الرجل في التراب وقال: يا أمير المؤمنين! اللّه يراني وأنت تصب الماء على يدي؟!

قال(عليه السلام): اقعد واغسل يدك، فإن اللّه عزّ وجلّ يراك وأخاك الذي لا يتميز منك ولا يتفضل عنك ويزيد بذلك في خدمه في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب ذلك في ممالكه فيها.

فقعد الرجل فقال له علي(عليه السلام): أقسمت عليك بعظيم حقي الذي عرفته وبجلته وتواضعك للّه حتى جازاك عنه بأن ندبني لما شرفك به من خدمتي لك، لما غسلت مطمئناً كما كنت تغسل لوكان الصاب عليك قنبر، ففعل الرجل ذلك، فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية، وقال(عليه السلام): يابني، لو كان هذا الإبن حضرني دون أبيه لصببتُ على يده، ولكن اللّه عزّ وجلّ يأبى أن يسوي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، لكن قد صب الأب على الأب، فليصب الابن على الابن، فصب محمدبن الحنفية على الابن». ثم قال الإمام الحسن بن علي العسكري(عليه السلام): «فمن اتبع علياً(عليه السلام) على ذلك فهو الشيعي حقاً»(1).

نموذج من التواضع والتفاهم

عندما كنّا في الكويت، كتبت إحدى الجرائد الكويتية: أن في التاريخ الفلاني سيقام احتفال بإحدى المناسبات للفلسطينيين الموجودين في الكويت، وكان هذا النوع من الاحتفالات عندهم ترافقه بعض الأمور غير اللائقة بأيام الحزن من

ص: 110


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 325.

الموسيقى والغناء وما أشبه، فسألت أحد الأصدقاء - وكان تاريخ الاحتفال ميلادياً -متى يصادف الاحتفال وفق التاريخ الهجري القمري؟ فقال: إنه يصادف يوم عاشوراء.

فقلت له: إن هذا الأمر غريب ومدهش! ففي دولة الكويت المسلمة، وفي يوم مقتل سبط الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقام إلى جانب برامج عاشوراء، احتفال للفرح في مثل هذا اليوم الحزين المفجع؟!

فسألت عن اسم رئيس المنظمة المعدة الاحتفال؟ فقيل: إنه فلان.

عندها اخترنا ثلاثة من الأصدقاء وقلنا لهم: اذهبوا إليه، وتلّطفوا معه في الكلام، وانصحوه بلين ورفق، وقولوا له: إن هذا الاحتفال يصادف يوم عاشوراء، ويتزامن مع أيام الحزن والعزاء على سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام) سبط الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والناس يقيمون في هذا اليوم مجالس العزاء في الطرقات والشوارع، وفي المساجد والحسينيات، وأحياناً تقوم الحكومة بالحداد وحتى الإذاعة والتلفزيون يشتركان في ذلك الحداد، وإن الإمام الحسين(عليه السلام) لا يخص الشيعة فحسب؛ بل أهل السنة أيضاً يشتركون في إقامة العزاء والنياحة عليه... وذلك لكي يقوم بتغيير تاريخ الاحتفال.

ذهب أصدقاؤنا الثلاثة إليه وتحدثوا معه، وعندما عادوا قالوا: لقد وجدناه رجلاً متواضعاً متفاهماً، وحينما تكلمنا معه قال لنا: نحن لم نكن نعلم بهذا الموضوع، وإلّا فنحن من السائرين على طريق الإمام الحسين(عليه السلام) وسنقوم بإصدار بيان لإلغاء الاحتفال، رغم أننا دعونا الآلاف من الضيوف، وأرسلنا لهم تذاكر الدعوة.

وبالفعل، فقد عرضت إحدى الصحف الكويتية بعد يومين من تاريخ اللقاء المذكور مقابلة رئيس المنظمة المعدّ للاحتفال مع أصدقائنا له، وكتبت عنه أنه

ص: 111

يعلن عن إلغاء الاحتفال، ويقول: إن تاريخ الاحتفال يصادف يوم شهادة الإمامالحسين(عليه السلام) ولذلك فقد أجّل الاحتفال إلى إشعار آخر.

إن الشاهد من هذه القصة هو: إن هذا الرجل كان إنساناً متواضعاً ومتفاهماً، ولذلك استجاب للنصيحة، وعمل بما فيه تقدمه وتقدم مجتمعه، وإلّا فإنه كان بمقدوره، عناداً أو مكابرةً أن يقول: إننا وزعنا البطاقات وانتهى كل شيء، وكل من أراد أن يقيم العزاء فله أن يقيم ذلك، أما نحن فسنقيم الاحتفال، إنه كان يتمكن من ذلك، ولكنه عرف أنه بعمله هذا سوف يثير مشاعر أحباء الإمام الحسين(عليه السلام) وشيعته، وسيؤدّى إلى ما لا تحُمد عقباه، فأحجم بتعقل عمّا يسبب النزاع والتشاجر، المؤدي إلى التأخر والتقهقر، وبذلك تمكن من جلب ودّ الجميع في موقفه المتواضع والمتفهم هذا. ولم يكن بموقفه هذا قد احترم مشاعر الآخرين فقط؛ بل احترم شخصه ومجتمعه، وخدم نفسه وأحسن إليها، وقد قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}(1)، وقد رفعه عمله هذا في أعين الناس.

إذن: فالمطلوب منا جميعاً - بعد العلم والعمل الجاد وتوفير المال الحلال - : التواضع والتفاهم، والتحلي بالأخلاق الحسنة والخصال الحميدة، مسبوقاً بالتخطيط والتنظيم، فإن الذين وصلوا إلى القمر لم يصلوا إليه إلّا بعد التسلح بعلوم الفضاء، وبعد تطبيق العمل وفقه، وبعد جهد متواصل ودؤوب من التفكير والدراسة والتخطيط والتنسيق، وبعد التواضع الكبير والتفاهم المستمر، وبذل المال الكثير.

وهكذا نحن أيضاً، فإنه لا بدّ لنا - لو أردنا التقدم - أن نتسلّح أولاً بعلوم القرآن الحكيم وعلوم أهل البيت(عليهم السلام) ثم نطبّق ذلك عملياً، ثم نكتسب المال الحلال،

ص: 112


1- سورة الإسراء، الآية: 7.

ونصرفه في مجال الهدف، ثم نتجمّل بالتواضع والتفاهم من أجل تحقيق التقدم والرقي.

هذا وفي الحديث الشريف أنه سُئل النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أي كسب الرجل أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور»(1).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «في كل وقت عمل»(2).

خلاصة الكلام

خلاصة الكلام أن مقدمات التقدم أمور عديدة، أهمها:

أولاً: العلم والثقافة والوعي، فعلى المسلمين أن يتسلّحوا بعلوم القرآن الحكيم وعلوم الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام).

ثانياً: العمل المستمر الدؤوب من أجل تطبيق علوم القرآن الحكيم وعلوم أهل البيت(عليهم السلام)، وذلك من دون أن يصحبه كسل ولا ملل، ولا سأم ولا تعب.

ثالثاً: الاهتمام بالمال الحلال، فإن المال يكمّل العمل ومقوّم له، ولا يخفى أن أهمية المال لا لأجل نفسه؛ بل لأنه طريق للعمل في سبيل اللّه.

رابعاً: تحلي العاملين في هذا الطريق بالصفات الحميدة والأخلاق الحسنة، وفي مقدّمتها التواضع والتفاهم، فضلاً عن التوكل على اللّه، والإخلاص للّه، والتوسل بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وابنته فاطمة الزهراء(عليها السلام) والأئمة(عليهم السلام) إلى اللّه تعالى، فإنهم الوسيلة إلى اللّه سبحانه، والذريعة إلى رضوانه عزّ وجلّ، قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة له: «فاتقوا اللّه الذي أنتم بعينه، ونواصيكم بيده، وتقلبكم في قبضته، إن أسررتم علمه، وإن أعلنتم كتبه، وقد وكّل بذلك حفظة كراماً، لا

ص: 113


1- مستدرك الوسائل 13: 24.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 477.

يسقطون حقاً،ولا يثبتون باطلاً»(1).

نسأل اللّه عزّ وجلّ أن يوفقنا للعلم والعمل والتقدم والرقي، إنه قريب مجيب.

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهّر بطوننا من الحرام والشُبهة، واكفف أيدينا عن الظلم والسرقة، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدد أسماعنا عن اللغو والغيبة، وتفضّل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة»(2) آمين رب العالمين.

من هدي القرآن الحكيم

العلم من مقومات التقدم

قال اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).

وقال اللّه سبحانه: {لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوٰةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أُوْلَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}(4).

ص: 114


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 183 من خطبة له(عليه السلام) في قدرة اللّه، وفي فضل القرآن، وفي الوصية بالتقوى للّه تعالى.
2- المصباح للكفعمي: 280.
3- سورة آل عمران، الآية: 7.
4- سورة النساء، الآية: 162.

وقال اللّه عزّ وجلّ: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَوَعَمِلَ صَٰلِحًا وَلَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الصَّٰبِرُونَ}(1).

العمل من مقومات التقدم

قال اللّه جلّ وعلا: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2).

وقال اللّه سبحانه: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ}(3).

وقال اللّه تبارك وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(4).

وقال سبحانه: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}(6).

وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}(7).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(8).

وقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ

ص: 115


1- سورة القصص، الآية: 80.
2- سورة التوبة، الآية: 105.
3- سورة النجم، الآية: 39-40.
4- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
5- سورة يونس، الآية: 41.
6- سورة طه، الآية: 112.
7- سورة النساء، الآية: 124.
8- سورة الأحقاف، الآية: 13.

بِالصَّبْرِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(2).

وقال سبحانه: {ثُمَّ رَدَدْنَٰهُ أَسْفَلَ سَٰفِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٖ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَمَا أَمْوَٰلُكُمْ وَلَا أَوْلَٰدُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا}(4).

التفكير والتخطيط من مقومات التقدم

قال اللّه تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَٰبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(6).

وقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(7).

ص: 116


1- سورة العصر، الآية: 3.
2- سورة البينة، الآية: 7.
3- سورة التين، الآية: 5-6.
4- سورة سبأ، الآية: 37.
5- سورة الجاثية، الآية: 13.
6- سورة النحل، الآية: 10-11.
7- سورة آل عمران، الآية: 190-191.

المال والكسب الحلال من مقومات التقدم

قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِنكُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}(1).

وقال اللّه سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}(2).

وقال اللّه عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(3).

وقال اللّه جلّ وعلا: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}(4).

التواضع والتفاهم، والتشاور من مقومات التقدم

قال اللّه عزّ وجلّ: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(6).

وقال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي

ص: 117


1- سورة البقرة، الآية: 172.
2- سورة المائدة، الآية: 87 -88.
3- سورة البقرة، الآية: 168.
4- سورة البقرة، الآية: 60.
5- سورة الزمر، الآية: 17-18.
6- سورة الحجرات، الآية: 13.

اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(1).وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

العلم طريق التقدم

قال الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألّا إن اللّه يحب بغاة العلم»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألّا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال؛ إن المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم وضمنه، وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد اُمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه»(5).

العزم على العمل

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا استبنت فأعزم»(6).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «ضادّوا التواني بالعزم»(7).

ص: 118


1- سورة المائدة، الآية: 54.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة الشورى، الآية: 38.
4- الكافي 1: 30.
5- الكافي 1: 30.
6- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 476.
7- عيون الحكم والمواعظ: 310.

وعن الإمام السجاد(عليه السلام) قال حينما تلا هذه الآية: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(1): «اللّهم ارفعني في أعلى درجات هذه الندبة، وأعنيبعزم الإرادة»(2).

العمل شرط التقدم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عمل بما يعلم ورثه اللّه علم ما لم يعلم»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإيمان قول وعمل»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنما المرء مجزي بما أسلف، وقادم على ما قدم»(5).

وقال(عليه السلام): «الإيمان تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وهو عمل كله»(6).

وقال(عليه السلام): «لن يجزى جزاء الخير إلّا فاعله»(7).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إنا لا نغني عنكم من اللّه شيئاً إلّا بالورع، وإن ولايتنا لا تدرك إلّا بالعمل»(8).

وعن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن الإيمان؟

فقال: «شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه».

ص: 119


1- سورة التوبة، الآية: 119.
2- بحار الأنوار 75: 153.
3- الفصول المختارة: 107.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 228.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 21 من كتاب له(عليه السلام) إلى زياد ابن أبيه.
6- بحار الأنوار 66: 74.
7- عيون الحكم والمواعظ: 407.
8- أعلام الدين: 301.

قال: قلت: أليس هذا عمل؟

قال: «بلى». قلت: فالعمل من الإيمان؟قال: «لا يثبت له الإيمان إلّا بالعمل، والعمل منه»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الإيمان الإقرار والخضوع للّه بذل الإقرار والتقرب إليه به والأداء له»(2).

التفكير السليم والتخطيط المنهجي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ولا ينال منزلة التفكر إلّا من قد خصّه اللّه بنور المعرفة والتوحيد»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا قدّمت الفكر في أفعالك، حسنت عواقبك في كل أمر»(4).

وقال(عليه السلام): «الفكر في الأمر قبل ملابسته يؤمن الزلل»(5).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: بالعقل استخرج غور الحكمة، وبالحكمة استخرج غور العقل، وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح، وكان يقول: التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور بحسن التخلص، وقلة التربص»(6).

المال والكسب الحلال

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «تعرضوا للتجارات، فإن لكم فيها غنى عمّا في

ص: 120


1- الكافي 2: 38.
2- تحف العقول: 329.
3- مصباح الشريعة: 114.
4- عيون الحكم والمواعظ: 136.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 102.
6- الكافي 1: 28.

أيدي الناس، وإن اللّه عزّ وجلّ يحب المحترف الأمين...»(1).وعنه(عليه السلام) قال: «اتجروا بارك اللّه لكم، فإني سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إن الرزق عشرة أجزاء، تسعة في التجارة، وواحد في غيرها»(2).

وعن أبي عمارة الطيار قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إنه قد ذهب مالي، وتفرق ما في يدي وعيالي كثير؟

فقال له أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إذا قدمت الكوفة، فافتح باب حانوتك(3) وابسط بساطك، وضع ميزانك وتعرض لرزق ربك».

قال: فلما أن قدم فتح باب حانوته وبسط بساطه، ووضع ميزانه، - قال: - فتعجب من حوله؛ بأن ليس في بيته قليل ولا كثير من المتاع، ولا عنده شئ! قال: فجاءه رجل فقال: اشتر لي ثوباً، قال: فاشترى له، وأخذ ثمنه وصار الثمن إليه، ثم جاءه آخر فقال له: اشتر لي ثوباً، قال: فطلب له في السوق، ثم اشترى له ثوباً فأخذ ثمنه، فصار في يده، وكذلك يصنع التجار، يأخذ بعضهم من بعض.

ثم جاءه رجل آخر، فقال له: يا أبا عمارة، إن عندي عدلاً من كتّان، فهل تشتريه وأؤخرك بثمنه سنة؟

فقال: نعم، احمله وجئني به. قال: فحمله، فاشتراه منه بتأخير سنة، قال: فقام الرجل فذهب، ثم أتاه آت من أهل السوق، فقال له: يا أبا عمارة، ما هذا العدل؟ قال: هذا عدل اشتريته، قال: فبعني نصفه وأُعجل لك ثمنه؟ قال: نعم، فاشتراه منه، وأعطاه نصف المتاع، وأخذ نصف الثمن. قال: فصار في يده الباقي إلى سنة، فجعل يشتري بثمنه الثوب والثوبين، ويعرض ويشتري ويبيع، حتى أثرى

ص: 121


1- وسائل الشيعة 17: 11.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 192.
3- الحانوت: دكّان البائع.

وعرض وجهه، وأصاب معروفاً(1).

التواضع والتفاهم، والشورى والتشاور

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة، فتصدقوا يرحمكم اللّه، وإن التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم اللّه، وإن العفو يزيد صاحبه عزاً فاعفوا يعزكم اللّه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أشرف الخلائق، التواضع والحلم ولين الجانب»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع للّه رفعاه، ومن تكبر وضعاه»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «في ما أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داود(عليه السلام): يا داود، كما أن أقرب الناس من اللّه المتواضعون، كذلك أبعد الناس من اللّه المتكبرون»(5).

وسُئل الإمام أبو الحسن الرضا(عليه السلام): ما حد التواضع، الذي إذا فعله العبد كان متواضعاً؟

فقال(عليه السلام): «التواضع درجات، منها: أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم، لا يحب أن يأتي إلى أحد إلّا مثل ما يؤتى إليه، إن رأى سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ، عاف عن الناس، واللّه يحب المحسنين»(6).

ص: 122


1- الكافي 5: 304.
2- الكافي 2: 121.
3- عيون الحكم والمواعظ: 115.
4- الكافي 2: 122.
5- الكافي 2: 123.
6- الكافي 2: 124.

وقال عيسى ابن مريم(عليه السلام): «يا معشر الحواريين، لي إليكم حاجةٌ اقضوها لي». قالوا: قُضيت حاجتك يا روح اللّه. فقام(عليه السلام) فغسل أقدامهم، فقالوا: كنا نحن أحق بهذا يا روح اللّه؟ فقال: «إن أحق الناس بالخدمة العالم، إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم»، ثم قال عيسى(عليه السلام): «بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل»(1).

ص: 123


1- الكافي 1: 37.

عيد الغدير أعظم الأعياد في الإسلام

العيد في الإسلام

اشارة

قال تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(1).

إنّ طبيعة الأعياد في الإسلام تختلف عن الأعياد في الأديان الأخرى، فالعيد في غير الإسلام هو غالباً للحصول على مكسب مادي بحت.

مثلاً، الشخص الذي يربح في تجارته ربحاً وفيراً يتخذ ذلك اليوم عيداً له، ومن يحقّق أمنية من أمانيه يعد ذلك اليوم عيداً له، وكذلك الشخص الذي يولد له مولود يتخذ هذا اليوم عيداً، وهكذا توجد نماذج كثيرة لهذه الأعياد في نظرهم، وخصوصاً في بعض المجتمعات الغربية ومن سار على شاكلتهم.

وبتوضيح أكثر نقول: إنّ أغلب الأعياد في غير الإسلام ترتكز على الماديات المحضة فحسب، وعلى إشباع الرغبات الجسدية فقط.

أما العيد في الإسلام فإنه يختلف اختلافاً كبيراً عن هذه الأعياد - من حيث المعنى والدلالة - فالإسلام الذي يرى الإنسان جسماً وروحاً ومادة ومعنى، ويحاول التعادل بينهما والتكافؤ فيهما، ينسّق في أعياده بين الماديات والمعنويات، ويؤكد على أنه كما يستفيد الإنسان من مظاهر العيد المادية،

ص: 124


1- سورة المائدة، الآية: 3.

يستفيد كذلك من الأمور الروحية والمعنوية أيضاً.

إن العيد في نظر الإسلام هو اليوم الذي يتنازل فيه الإنسان عن بعض الماديات لصالح أموره الروحية والمعنوية، خُذ مثلاً عيد الفطر: هذا العيد الذي يأتي بعد مرور شهر كامل على تنازل الإنسان عن أهم الحاجات الجسدية، والرغبات الشهوانية والجسمانية، وهي حاجته للطعام والشراب وما إلى ذلك من الأشياء التي يمتنع عنها الصائم في صيامه، فهو عيد قوة الروح وسلامته، والسيطرة على الشهوات والرغبات، لكسب معنوي، وهو التعادل بين الروح والجسم، إضافة إلى الثواب الآخروي، وامتلاك الإرادة الصلبة في مجال الطاعة للّه عزّ وجلّ واكتساب فضائل روحية عديدة، مثل الإحساس بالفقراء ومواساتهم، والنزوع عن هوى النفس وشهواتها، وغير ذلك.

فقد قال أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام): «إنما هو عيد لمن قبل اللّه صيامه وشكر قيامه، وكل يوم لا تعصي اللّه فيه فهو يوم عيد»(1).

ومن الواضح أنّ هذا العيد لا يخصّ إنساناً واحداً بعينه، وإنْ كان يعود عليه بالنفع والفائدة، بل إنّ هذا العيد يشمل كل المجتمع، فآثاره عندنا عامة لا خاصة فقط، واجتماعية لا شخصية فحسب.

أما العيد في غير الإسلام، فإنه مجرد حصول الشخص على رغبة مادية بحتة، وإن كان فيها شيء من المعنويات فهو يتغاضى عنها ولا يعبأ بها، خذ مثلاً عيد ميلاد الأشخاص العاديين، ماذا يعني ذلك عندهم؟

إنه يعني مجرد الحصول على هذا الجسم متغافلين عن الروح الذي هو جوهر الجسم وبه حياته، فهل الاحتفال بشق الإنسان وهو الجسم الأقل أهمية، ونسيان

ص: 125


1- وسائل الشيعة 15: 308.

الشق الآخر وهو الروح الأكبر أهمية، يعدّ احتفالاً كاملاً وشاملاً، ومفيداً ونافعاً!

كلاّ، ليس هذا الاحتفال احتفالاً كاملاً وشاملاً، لأنه لا يعود على جوهر الإنسان وهو روحه ومعنوياته بخير أبداً، بل يزيد في تضخيم الجسم والماديات على حساب الروح والمعنويات، ولا يكون مفيداً ولا نافعاً؛ لأنه يؤدي إلى عدم التوازن بينهما، وعدم التوازن بينهما يعني: القلق والاضطراب، والبؤس والمرض.

وربَّ سائل يسأل: لماذا يحتفل المسلمون وخصوصاً الشيعة بذكرى ولادة الأنبياء والأئمة والأولياء (عليهم الصلاة والسلام)؟

وللجواب نقول: إن احتفالنا بذكرى ولادة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) هو احتفالٌ كاملٌ وشاملٌ، لأنا إضافة إلى الاحتفاء بولادتهم الجسمانية، نهتم بفضائلهم الروحية والمعنوية، ونحتشد لإحياء ما قدموه للإنسانية من خدمات عظيمة تستحق الاحتفال والتذكر دوماً.

لذا فإن الاحتفال ب(عيد الغدير) هو باعتبار عظمة الذكرى(1) أولاً، وباعتبار أنّ الإمام(عليه السلام) علّمنا في هذا اليوم كيف نصل إلى الأمن والسلام، والسعادة والهناء وكيف نستعمل الأمور المادية لخير الإنسانية، وكيف نستفيد من الحياة لصالح الآخرة ونعيمها، وأن لا نبيع آخرتنا الباقية لدنيانا الفانية، ولا العكس بأن نترك دنيانا ونتناساها بالمرة من أجل الآخرة، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(2) وهذا هو الكسب الإنساني الصحيح؛ لأنّ في اتباع ذلك الفوز بحياة سعيدة في الدنيا، وبالجنة والنجاة من النار في الآخرة.

نعم، إن عيد الغدير هو إحياء للمعنويات إلى جانب الماديات، فهو يوم تعيين

ص: 126


1- عظمة نعمة الإمامة والولاية على البشرية التي صدع بها خاتم الرسل(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
2- من لا يحضره الفقيه 3: 156.

الخلافة لعلي(عليه السلام) بعد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مضافاً إلى أنه أمر معنوي سماوي نزل به جبرئيل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولهذا يعتبر هذا العيد من أهم وأعظم الأعياد عند المسلمين. وفي ذلك قال أحد أصحاب الأئمة(عليهم السلام): سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟

قال(عليه السلام): «نعم، أعظمها حرمة».

قلت: وأي عيد هو جعلت فداك؟!

قال(عليه السلام): «اليوم الذي نصب فيه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقال: من كُنت مولاه فعلي مولاه».

قلت: وأي يوم هو؟

قال(عليه السلام): «وما تصنع باليوم؟ إنّ السنة تدور، ولكنه يوم ثمانية عشر من ذي الحجة».

فقلت: ما ينبغي لنا أن نفعل في ذلك اليوم؟

قال: «تذكرون اللّه عزّ ذكره فيه بالصيام والعبادة، والذكر لمحمد وآل محمد، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أوصى أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يُتخذ ذلك اليوم عيداً، وكذلك كانت الأنبياء تفعل، كانوا يوصون أوصياءهم بذلك فيتخذونه عيداً»(1).

فعلى المسلمين اليوم أن يجعلوا هذا اليوم حافزاً لهم لعمل الخير والصلاح، والاتجاه إلى اللّه في كل عمل من أعمالهم، والوقوف بوجه الظالمين وأعداء الدين، ليزدادوا قرباً من العلي القدير.

يوم البشرى

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ

ص: 127


1- الكافي 4: 149.

رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(1).

نزلت هذه الآية الكريمة على النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تأمره أن يبلِّغ ما أمره اللّه سبحانه به.

وقد ذكر ثقاة المفسرين أنها نزلت على النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكي يبلِّغ ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الناس، وقد ذكر المفسرون والمؤرخون والمحدثون جميعاً في تفسير هذه الآية: أنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قرّر الذهاب إلى الحج في السنة الأخيرة من حياته، والذي عرف في ما بعد بحجة الوداع، فوجّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نداءه إلى المسلمين كافة يدعوهم فيه إلى أداء فريضة الحج وتعلّم مناسكه منه، فانتشر نبأ سفره، وصدى ندائه في المسلمين جميعاً، وتوافد الناس إلى المدينة المنورة، وانضمّوا إلى موكب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى بلغ عدد الذين خرجوا معه (120) ألفاً على أغلب الروايات، وفي بعض مصادر العامة (180) ألفاً، والتحق بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ناس كثيرون من اليمن ومكة وغيرهما، ولمّا أدى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مناسك الحج انصرف راجعاً إلى المدينة، وخرجت المسيرة التي كانت تربو على (120) ألفاً من المسلمين، حتى وصلت إلى أرض تسمى خُم(2) وفيها غدير اجتمع فيه ماء المطر يدعى (غدير خم) وكان وصولهم إليه في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة من عام حجة الوداع وفي سنة عشر من مهاجره(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وعندما وصلت المسيرة العظيمة إلى هذه المنطقة هبط الأمين جبرئيل من عند اللّه تعالى على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هاتفاً بالآية الكريمة: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(3) أي: في علي(عليه السلام) فأبلغ جبرئيل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسالة اللّه

ص: 128


1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- هي المنطقة التي تتشعّب منها الطرق إلى المدينة والعراق ومصر واليمن.
3- سورة المائدة، الآية: 67.

إليه: بأن يقيم علي بن أبي طالب(عليه السلام) إماماً على الناس وخليفة من بعده ووصياً له فيهم، وأن يبلغهم ما نزل في علي(عليه السلام) من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد.

فتوقف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن المسير وأمر أن يلحق به من تأخر عنه ويرجع من تقدم عليه، وكان الجو حاراً جداً حتى كان الرجل منهم يتصبب عرقاً من شدة الحر وبعضهم كان يضع بعض ردائه على رأسه والبعض الآخر تحت قدميه لإتقاء جمرة الحر وشدته.

وأدركتهم صلاة الظهر فصلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالناس ومدت له ظلال على شجرات ووضعت أحداج الإبل بعضها فوق بعض حتى صارت كالمنبر، فوقف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليها لكي يشاهده جميع الحاضرين ورفع صوته من الأعماق ملقياً فيهم خطبة بليغة مسهبة، ما زالت تصكُّ سمع الدهر، افتتحها بالحمد والثناء على اللّه سبحانه، وركّز حديثه وكلامه حول شخصية خليفته الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وذكر فضائله ومناقبه ومزاياه ومواقفه المشرّفة ومنزلته الرفيعة عند اللّه ورسوله، وأمر الناس بطاعته وطاعة أهل بيته الطاهرين، وأكّد أنهم حجج اللّه تعالى الكاملة، وأولياؤه المقرَّبون وأُمناؤه على دينه وشريعته، وأنّ طاعتهم طاعة اللّه تعالى ورسوله ومعصيتهم معصية للّه، وإنّ شيعتهم في الجنة ومخالفيهم في النار.

وكان مما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعدما نزلت آية: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(1): «يا أيها الناس، إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلّا وقد عمره اللّه ثم دعاه فأجابه، فأوشك أن أُدعى فأجيب، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون،

ص: 129


1- سورة المائدة، الآية: 67.

فماذا أنتم قائلون؟» فقالوا: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحت وجهدت، فجزاك اللّه خيراً.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حقّ وناره حقّ، وأنّ الموت حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ اللّه يبعث من في القبور».

قالوا: بلى نشهد بذلك.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم اشهد»، ثم قال: «أيها الناس ألّا تسمعون؟».

قالوا: نعم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فإني فرط على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبُصرى(1) فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».

فنادى منادٍ: وما الثقلان يا رسول اللّه؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الثقل الأكبر: كتاب اللّه، طرف بيد اللّه عزّ وجلّ وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا»! ثم أخذ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيد الإمام علي(عليه السلام) فرفعها حتى بان بياض إبطيهما وعرفه القوم أجمعون.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس مَن أولى الناس بالمؤمنين مِن أنفسهم؟».

فقالوا: اللّه ورسوله أعلم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم،

ص: 130


1- منطقة في بلاد الشام، قصبة كورة حوران من أعمال دمشق.

فمن كنت مولاه فعلي مولاه - يقولها ثلاث مرات - ثم قال: اللّهم والِ من والاه وعادِمن عاداه، وأحب من أحبَّه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألّا فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب»(1).

ثم تابع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطبته فقال:

«فاعلموا معاشر الناس ذلك، فإن اللّه قد نصبه لكم إماماً، وفرض طاعته على كل أحد، ماض حكمه جائز قوله، ملعون من خالفه، مرحوم من صدقه، اسمعوا وأطيعوا، فإن اللّه مولاكم وعلي إمامكم، ثم الإمامة في ولدي من صلبه إلى يوم القيامة، لا حلال إلّا ما حللّه اللّه وهم، ولا حرام إلّا ما حرمه اللّه وهم فصلوه، فما من علم إلّا وقد أحصاه اللّه في ونقلته إليه - في أمير المؤمنين(عليه السلام) - .

لا تضلوا عنه ولا تستنكفوا منه، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به، لن يتوب اللّه على أحد أنكره، ولن يغفر له، حتم على اللّه أن يفعل ذلك، وأن يعذبه عذاباً نكراً أبد الآبدين، فهو أفضل الناس بعدي ما نزل الرزق وبقي الخلق، ملعون من خالفه.

قولي عن جبرائيل عن اللّه {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ}(2) افهموا محكم القرآن ولا تتبعوا متشابهه، ولن يفسر لكم ذلك إلّا من أنا آخذ بيده شائل بعضده. ألّا وقد أديت، ألّا وقد بلغت، ألّا وقد أسمعت، ألّا وقد أوضحت.

إن اللّه قال وأنا قلت عنه: لا تحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره».

ثم رفعه إلى السماء حتى صارت رجله مع ركبته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال:

«معاشر الناس، هذا أخي ووصيي، وواعي علمي، وخليفتي على من آمن بي

ص: 131


1- انظر بحار الأنوار 23: 141، 152 و 37: 108.
2- سورة الحشر، الآية: 18.

وعلى تفسير كتاب ربي، اللّهم إنك أنزلت عند تبيين ذلك في علي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُلَكُمْ دِينَكُمْ}(1) بإمامته، فمن لم يأتم به وبمن كان من ولدي من صلبه إلى القيامة ف{أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ}(2)...»(3).

ثم تابع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطبته وحثَّ الناس على إتباع علي أمير المؤمنين(عليه السلام) وأهل بيته، وانتهت الخطبة النبوية المسهبة والتي تناولت أموراً كثيرة وحيوية بتعيين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) أميراً على المؤمنين ووصياً وخليفة لرسول ربِّ العالمين.

وقبل أن يتفرق الناس هبط جبرئيل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(4) وقد جاء في التفاسير: بأنّ هذه الآية جاءت بعد أنّ نصب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبأمر من اللّه تعالى علياً أمير المؤمنين(عليه السلام) إماماً على العالمين، وتسمى هذه الآية بآية الكمال أي كمال الدين، وهي - بحسب بعض الروايات - آخر فريضة أنزلها اللّه تعالى على رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(5).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لما نزل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل، فقال له: يا محمد، إنّ اللّه يقرؤك السلام ويقول لك: قل لأمتك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بولاية علي بن أبي طالب {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}، ولست أنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم

ص: 132


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- سورة التوبة، الآية: 17.
3- أنظر الصراط المستقيم 1: 302.
4- سورة المائدة، الآية: 3.
5- انظر تفسير العياشي 1: 293 وانظر تفسير القمي 1: 162، وتفسير فرات الكوفي: 120.

الصلاة والزكاةوالصوم والحج وهي الخامسة(1)، ولست أقبل هذه الأربعة إلّا بها»(2).

وقد رأينا هنا أن نورد الخطبة كاملة وكما ذكرها السيد ابن طاووس الحلي الحسني(3):

عن زيد بن أرقم قال: لما أقبل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من حجة الوداع جاء حتى نزل بغدير خم بالجحفة بين مكة والمدينة، ثم أمر بالدوحات بضم ما تحتهن من شوك، ثم نودي بالصلاة جامعة، فخرجنا إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في يوم شديد الحر، وإن منا من يضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر والرمضاء، ومنا من يضعه فوق رأسه، فصلى بنا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم التفت إلينا فقال:

«الحمد للّه الذي علا في توحيده ودنا في تفرده وجلّ في سلطانه وعظم في أركانه وأحاط بكل شيء وهو في مكانه وقهر جميع الخلق بقدرته وبرهانه، حميداً لم يزل ومحموداً لا يزال ومجيداً لا يزول، ومبدياً ومعيداً وكل أمر إليه يعود، بارئ الممسوكات وداحي المدحوات، متفضل على جميع من برأه متطول على كل من ذرأه، يلحظ كل نفس والعيون لا تراه، كريم حليم ذو أناة قد وسع كل شيء رحمته ومن عليهم بنعمته، لا يعجل بانتقامه ولا يبادر إليهم بما يستحقون من عذابه، قد فهم السرائر وعلم الضمائر ولم يخف عليه المكنونات ولا اشتبه عليه الخفيات، له الإحاطة بكل شيء والغلبة لكل شيء والقوة في كل شيء والقدرة على كل شيء، ليس كمثله شيء، وهو منشئ حي حين لا حي، ودائم حي وقائم بالقسط، لا إله إلّا هو العزيز الحكيم.

ص: 133


1- أي: الولاية لأمير المؤمنين(عليه السلام).
2- بحار الأنوار 37: 138.
3- التحصين: 578.

جل أن تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، لا يلحق وصفهأحد من معاينة، ولا يحده أحد كيف هو من سر وعلانية إلّا بما دل هو عزّ وجلّ على نفسه، أشهد له بأنه اللّه الذي ملأ الدهر قدسه والذي يغشى الأمد نوره وينفذ أمره بلا مشاورة ولا مع شريك في تقدير ولا يعاون في تدبيره، صور ما ابتدع على غير مثال، وخلق ما خلق بلا معونة من أحد ولا تكلف ولا اختبال، شاءها فكانت، وبرأها فبانت.

فهو اللّه لا إله إلّا هو المتقن الصنعة والحسن الصنيعة، العدل الذي لا يجور، والأكرم الذي إليه مرجع الأمور، أشهد أنه اللّه الذي تواضع كل شيء لعظمته، وذل كل شيء لهيبته، مالك الأملاك ومسخر الشمس والقمر، كل يجري لأجل مسمى، يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل يطلبه حثيثاً، قاصم كل جبار عنيد وكل شيطان مريد، لم يكن له ضد ولم يكن معه ند، أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، إلهاً واحداً ماجداً، شاء فيمضي ويريد ويقضي ويعلم ويحصي ويميت ويحيي ويفقر ويغني ويضحك ويبكي ويدني ويقصي ويمنع ويعطي، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

لا يولج لليل في نهار ولا مولج لنهار في ليل، إلّا هو مستجيب للدعاء، مجزل العطاء محصي الأنفاس رب الجنة والناس، الذي لا يشكل عليه لغة ولا يضجره مستصرخ لا يبرمه إلحاح الملحين، العاصم للصالحين والموفق للمفلحين مولى المؤمنين ورب العالمين، الذي استحق من كل خلق أن يشكره ويحمده على كل حال.

أحمده كثيراً وأشكره دائماً على السراء والضراء والشدة والرخاء، وأؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله، أسمع لأمره وأطيع وأبادر إلى رضاه وأسلم لما قضاه، رغبة في طاعته وخوفاً من عقوبته؛ لأنه اللّه الذي لا يؤمن مكره ولا يخاف جوره،

ص: 134

أقر له على نفسي بالعبودية وأشهد له بالربوبية وأؤدي أن لا إله إلّا هو، لأنه قدأعلمني أني إذا لم أبلغ ما أنزل إلي لما بلغت رسالته، وقد ضمن لي العصمة وهو اللّه الكافي الكريم. أوحى إلي: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1) - إلى آخر الآية - .

معاشر الناس، وما قصرت في ما بلغت، ولا قعدت عن تبليغ ما أنزله، وأنا أبين لكم سبب هذه الآية: إن جبرئيل(عليه السلام) هبط إلي مراراً ثلاثاً، فأمرني عن السلام رب السلام، أن أقوم في هذا المشهد وأعلم كل أبيض وأسود: أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي، الذي محله مني محل هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي، ووليكم بعد اللّه ورسوله نزل بذلك آية هي: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(2). وعلي بن أبي طالب الذي أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع، يريد اللّه تعالى في كل حال.

فسألت جبرئيل(عليه السلام) أن يستعفي لي السلام من تبليغي ذلك إليكم أيها الناس؛ لعلمي بقلة المتقين وكثرة المنافقين ولأعذال الظالمين وأدغال الآثمين وحيلة المستشرين، الذين وصفهم اللّه تعالى في كتابه بأنهم: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}(3) ويحسبونه {هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}(4)، وكثرة أذاهم لي مرة بعد أخرى، حتى سموني أذناً، وزعموا أني هو لكثرة ملازمته إياي وإقبالي عليه وهواه

ص: 135


1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- سورة المائدة، الآية: 55.
3- سورة الفتح، الآية: 11.
4- سورة النور، الآية: 15.

وقبوله مني، حتى أنزل اللّه تعالى في ذلك لا إله إلّا هو: {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّوَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ}(1) - إلى آخر الآية - ولو شئت أن أسمي القائلين بأسمائهم لأسمينهم، وأن أومي إليهم بأعيانهم لأومأت، وأن أدل عليهم لدللت، ولكني واللّه بسترهم قد تكرمت.

وكل ذلك لا يرضى اللّه مني إلّا أن أبلغ ما أنزل إلي {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(2) - إلى آخر الآية - واعلموا معاشر الناس ذلك وافهموه. واعلموا أن اللّه قد نصبه لكم ولياً وإماماً، فرض طاعته على المهاجرين والأنصار وعلى التابعين بإحسان، وعلى البادي والحاضر، وعلى العجمي والعربي، وعلى الحر والمملوك، والصغير والكبير، وعلى الأبيض والأسود، وعلى كل موجود، ماض حكمه وجاز قوله ونافذ أمره، ملعون من خالفه ومرحوم من صدقه، قد غفر اللّه لمن سمع وأطاع له.

معاشر الناس، إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد، فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لأمر اللّه ربكم، فإن اللّه هو مولاكم وإلهكم، ثم من دونه رسوله ونبيه محمد القائم المخاطب لكم، ومن بعده علي وليكم وإمامكم، ثم الإمامة في ولدي الذين من صلبه إلى يوم القيامة ويوم يلقون اللّه ورسوله، لا حلال إلّا ما أحله اللّه، ولا حرام إلّا ما حرمه اللّه عليكم، وهو واللّه عرفني الحلال والحرام، وأنا وصيت بعلمه إليه.

معاشر الناس، فصلوه ما من علم إلّا وقد أحصاه اللّه في، وكل علم علمته فقد علمته علياً، وهو المبين لكم بعدي.

ص: 136


1- سورة التوبة، الآية: 61.
2- سورة المائدة، الآية: 67.

معاشر الناس، فلا تضلوا عنه ولا تفروا منه، ولا تستنكفوا عن ولايته، فهوالذي يهدي إلى الحق ويعمل به، ويزهق الباطل وينهى عنه، لا تأخذه في اللّه لومة لائم، أول من آمن باللّه ورسوله، والذي فدى رسول اللّه بنفسه، والذي كان مع رسول اللّه، ولا يعبد اللّه مع رسوله غيره.

معاشر الناس، فضلوه فقد فضله اللّه، واقبلوه فقد نصبه اللّه.

معاشر الناس، إنه إمام من اللّه، ولن يتوب اللّه على أحد أنكره، ولن يغفر اللّه له حتماً على اللّه أن يفعل ذلك، وأن يعذبه عذاباً نكراً أبد الأبد، ودهر الدهر، واحذروا أن تخالفوا فتصلوا بنار {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ}(1).

معاشر الناس، لي واللّه بشرى لأكون من النبيين والمرسلين والحجة على جميع المخلوقين من أهل السماوات والأرضين، فمن شك في ذلك فقد كفر كفر الجاهلية الأولى، ومن شك في شيء من قولي فقد شك في الكل منه، والشاك في ذلك في النار.

معاشر الناس، حباني اللّه بهذه الفضيلة مناً منه عليّ وإحساناً منه إلي، لا إله إلّا هو، ألّا له الحمد مني أبد الأبد، ودهر الدهر على كل حال.

معاشر الناس، فضلوا علياً فهو أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى، مانزل الرزق وبقي الخلق، ملعون ملعون من خالفه مغضوب عليه، قولي عن جبرئيل، وقول جبرئيل عن اللّه عزّ وجلّ، فلتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا اللّه أن يخالفوه إن اللّه خبير بما تعملون.

معاشر الناس، تدبروا القرآن وافهموا آياته ومحكماته، ولا تبتغوا متشابهه؛ فواللّه لن يبين لكم زواجره، ولن يوضح لكم تفسيره، إلّا الذي أنا آخذ بيده،

ص: 137


1- سورة البقرة، الآية: 24.

ومصعده إلي، وشائل عضده ورافعها بيدي، ومعلمكم، من كنت مولاه فهو مولاه،وهو علي بن أبي طالب أخي ووصيي، أمر من اللّه نزله علي.

معاشر الناس، إن علياً والطيبين من ولدي من صلبه هم الثقل الأصغر والقرآن الثقل الأكبر، وكل واحد منهما مبني على صاحبه، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، أمر من اللّه في خلقه وحكمه في أرضه. ألّا وقد أديت، ألّا وقد بلغت، ألّا وقد أسمعت، ألّا وقد نصحت، ألّا إن اللّه تعالى قال، وأنا قلت عن اللّه، ألّا وإنه لا أمير للمؤمنين غير أخي هذا، ألّا ولا يحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره».

ثم ضرب بيده إلى عضده فرفعه، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) منذ أول ما صعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منبره على درجة دون مقامه، متيامناً عن وجه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كأنهما في مقام واحد، فرفعه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيده وبسطها إلى السماء، وشال علياً(عليه السلام) حتى صارت رجله مع ركبة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال:

«معاشر الناس، هذا علي أخي ووصيي، وواعي علمي، وخليفتي على من آمن بي، وعلى تفسير كتاب ربي، والدعاء إليه، والعمل بما يرضاه، والمحاربة لأعدائه، والدال على طاعته، والناهي عن معصيته، خليفة رسول اللّه، وأمير المؤمنين، والإمام والهادي من اللّه، بأمر اللّه، يقول اللّه عزّ وجلّ: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}(1) بأمرك أقول: اللّهم، وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من أنكره، واغضب على من جحده، اللّهم، إنك أنزلت الآية في علي وليك عند تبين ذلك ونصبك إياه لهذا اليوم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(2)، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ

ص: 138


1- سورة ق، الآية: 29.
2- سورة المائدة، الآية: 3.

الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَنيُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(1)، اللّهم، إني أشهدك أني قد بلغت.

معاشر الناس، إنما أكمل اللّه لكم دينكم بإمامته، فمن لم يأتم به وبمن كان من ولدي من صلبه إلى يوم القيامة والعرض على اللّه، ف{أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ}(2) لا يخفف العذاب عنهم ولا هم ينظرون.

معاشر الناس، هذا أنصركم لي، وأحق الناس بي، واللّه عنه وأنا راضيان، وما أنزلت آية رضاً إلّا فيه، ولا خاطب اللّه الذين آمنوا إلّا بدأ به، وما أنزلت آية في مدح في القرآن إلّا فيه، ولا سأل اللّه بالجنة في {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَٰنِ}(3) إلّا له، ولا أنزلها في سواه، ولا مدح بها غيره.

معاشر الناس، هو يؤدي دين اللّه، والمجادل عن رسول اللّه، والتقي النقي الهادي المهدي نبيه، خير نبي، ووصيه خير وصي.

معاشر الناس، ذرية كل نبي من صلبه وذريتي من صلب أمير المؤمنين علي.

معاشر الناس، إن إبليس أخرج آدم من الجنة بالحسد فلا تحسدوه فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم، أهبط آدم بخطيئته وهو صفوة اللّه، فكيف أنتم؟ فإن أبيتم فأنتم أعداء اللّه. ما يبغض علياً إلّا شقي، ولا يوالي علياً إلّا تقي، ولا يؤمن به إلّا مؤمن مخلص، في علي واللّه نزل سورة والعصر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ}(4) إلّا علي، الذي آمن ورضي بالحق والصبر.

ص: 139


1- سورة آل عمران، الآية: 85.
2- سورة التوبة 17.
3- سورة الإنسان، الآية: 1.
4- سورة العصر، الآية: 1-2.

معاشر الناس، قد أشهدني اللّه وأبلغتكم، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُالْمُبِينُ}(1).

معاشر الناس، {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(2).

معاشر الناس، آمنوا باللّه ورسوله والنور الذي أنزلناه {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَٰبَ السَّبْتِ}(3).

معاشر الناس، النور من اللّه تعالى فيّ، ثم مسلوك في علي، ثم في النسل منه إلى القائم المهدي، الذي يأخذ بحق، وبكل حق هو لنا، بقتل المقصرين والغادرين والمخالفين والخائنين والآثمين والظالمين من جميع العالمين.

معاشر الناس، إني أنذر لكم أني رسول اللّه، قد خلت من قبلي الرسل، فإن مت أو قتلت {انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ}(4) ألّا إن علياً الموصوف بالصبر والشكر، ثم من بعده ولدي من صلبه.

معاشر الناس، على اللّه فينا ما لا يعطيكم اللّه ويسخط عليكم ويبتليكم بسوط عذاب، إن ربكم لبالمرصاد.

معاشر الناس، سيكون بعدي أئمة يدعون إلى النار، ويوم القيامة لا ينصرون.

معاشر الناس، إن اللّه تعالى وأنا بريئان منهم.

معاشر الناس، إنهم وأشياعهم وأنصارهم وأتباعهم {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}(5) و{فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}(6).

ص: 140


1- سورة النور، الآية: 54.
2- سورة آل عمران، الآية: 102
3- سورة النساء، الآية: 47.
4- سورة آل عمران، الآية: 144.
5- سورة النساء، الآية: 145.
6- سورة الزمر، الآية: 72.

معاشر الناس، إني أدعها إمامة ووراثة، وقد بلغت ما بلغت، حجة على كلحاضر وغائب، وعلى كل أحد ممن ولد وشهد، ولم يولد ولم يشهد، يبلغ الحاضر الغائب، والوالد الولد إلى يوم القيامة، وسيجعلونها ملكاً واغتصاباً، فعندها يفرغ لكم أيها الثقلان من يفرغ و{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٖ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ}(1).

معاشر الناس، إن اللّه تعالى لم يكن ليذركم على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب.

معاشر الناس، إنه ما من قرية إلّا واللّه مهلكها قبل يوم القيامة، ومملكها الإمام المهدي، واللّه مصدق وعده.

معاشر الناس، قد ضل قبلكم أكثر الأولين، واللّه فقد أهلك الأولين بمخالفة أنبيائهم، وهو مهلك الآخرين»، ثم تلا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الآية إلى آخرها.

ثم قال:

«معاشر الناس، إن اللّه أمرني ونهاني، وقد أمرت علياً ونهيته، وعلم الأمر والنهي لديه، فاسمعوا لأمره، وتنهوا لنهيه، ولا يفرق بكم السبل عن سبيله.

معاشر الناس، أنا صراط اللّه المستقيم الذي أمركم اللّه أن تسلكوا الهدى إليه، ثم علي من بعدي، ثم ولدي من صلبه أئمة الهدى، يهدون بالحق وبه يعدلون»، ثم قرأ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحمد(2).

وقال: «في من ذكرت ذكرت فيهم، واللّه فيهم نزلت، ولهم واللّه شملت، وآباءهم خصت وعمّت، أولئك أولياء اللّه الذين {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ

ص: 141


1- سورة الرحمن، الآية: 35.
2- أي سورة فاتحة الكتاب.

يَحْزَنُونَ}(1) و{حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَٰلِبُونَ}(2)، ألّا إن أعداءهم هم الشقاء والغاوون وإخوان الشياطين، الذين {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}(3)، ألّا إن أولياءهم الذين ذكر اللّه في كتابه، المؤمنين الذين وصف اللّه فقال: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَٰنَ}(4) - إلى آخر الآية - ، ألّا إن أولياءهم المؤمنون الذين وصفهم اللّه أنهم {لَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}(5) ألّا إن أولياءهم الذين آمنوا ولم يرتابوا، ألّا إن أولياءهم الذين يدخلون الجنة بسلام آمنين، وتتلقاهم الملائكة بالتسليم أن {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَٰلِدِينَ}(6) ألّا إن أولياءهم لهم {الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٖ}(7)، ألّا إن أعداءهم الذين {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(8)، ألّا إن أعداءهم الذين يسمعون لجهنم شهيقاً، ويرون لها زفيراً {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}(9) - إلى آخر الآية - ، ألّا إن أعداء اللّه الذين قال اللّه: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}(10) - إلى آخر الآية - ، ألّا {فَسُحْقًا لِّأَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(11)، ألّا وإن أولياءهم

ص: 142


1- سورة البقرة، الآية: 62.
2- سورة المائدة، الآية: 56.
3- سورة الأنعام، الآية: 112.
4- سورة المجادلة، الآية: 22.
5- سورة الأنعام، الآية: 82.
6- سورة الزمر، الآية: 73.
7- سورة غافر، الآية: 40.
8- سورة النساء، الآية: 10.
9- سورة الأعراف، الآية: 38.
10- سورة الملك، الآية: 8.
11- سورة الملك، الآية: 11.

{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}(1).

معاشر الناس، شتان ما بين السعير والأجر الكبير.

معاشر الناس عدونا كل من ذمه اللّه ولعنه وولينا كل من أحبه اللّه ومدحه. معاشر الناس ألّا إني النذير وعلي البشير. معاشر الناس إني منذر وعلي هاد.

معاشر الناس ألّا إني نبي وعلي وصي. معاشر الناس ألّا إني رسول وعلي الإمام والأئمة من بعده ولده والأئمة منه ومن ولده ألّا وإني والدهم وهم يخرجون من صلبه.

ألّا وإني والدهم وخاتم الأئمة منا القائم المهدي الظاهر على الدين. ألّا إنه المنتقم من الظالمين. ألّا إنه فاتح الحصون وهادمها. ألّا إنه غالب كل قبيلة من الترك وهاديها. ألّا إنه المدرك لكل ثار لأولياء اللّه. ألّا إنه ناصر دين اللّه. ألّا إنه المصباح من البحر العميق الواسم لكل ذي فضل بفضله وكل ذي جهل بجهله. ألّا إنه خيرة اللّه ومختاره. ألّا إنه وارث كل علم والمحيط بكل فهم ألّا إنه المخبر عن ربه والمشيد لأمر آياته. ألّا إنه الرشيد السديد. ألّا إنه المفوض إليه. ألّا إنه قد بشر به كل نبي سلف بين يديه. ألّا إنه الباقي في أرضه وحكمه في خلقه وأمينه في علانيته وسره.

معاشر الناس، إني قد بينت لكم وأفهمتكم وهذا علي يفهمكم بعدي. ألّا وعند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على يدي ببيعته والإقرار له ثم مصافقته بعد يدي. ألّا إني قد بايعت اللّه وعلي قد بايع لي وأنا أمدكم بالبيعة له عن اللّه عزّ وجلّ: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ}(2) - إلى آخر الآية - معاشرالناس، ألّا وإن الحج والعمرة من شعائر اللّه {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ}(3) - إلى آخر الآية -

ص: 143


1- سورة الملك، الآية: 12.
2- سورة الفتح، الآية: 10.
3- سورة البقرة، الآية: 158.

معاشر الناس، حجوا البيت فما ورده أهل بيت إلّا تموا وأبشروا ولا تخلفوا عنه إلّا تُبرّوا(1) وافتقروا.

معاشر الناس، ما وقف بالموقف مؤمن إلّا غفر له ما سلف من ذنبه إلى وقته ذلك فإذا انقضت حجته استؤنف به معاشر الناس الحاج معانون ونفقاتهم مخلفة عليهم واللّه لا يضيع أجر المحسنين.

معاشر الناس، حجوا بكمال في الدين وتفقه ولا تنصرفوا عن المشاهد إلّا بتوبة إقلاع.

معاشر الناس أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة كما أمرتكم فإن طال عليكم الأمد فقصرتم أو نسيتم فَعَليٌّ وليكم الذي نصبه اللّه لكم ومن خلقه مني وأنا منه يخبركم بما تسألون ويبين لكم ما لا تعلمون. ألّا وإن الحلال والحرام أكثر من أن أحصيها وأعدها فآمر بالحلال وأنهى عن الحرام في مقام واحد، وأمرت فيه أن آخذ البيعة عليكم والصفقة لكم بقبول ما جئت به من اللّه عزّ وجلّ في علي أمير المؤمنين والأوصياء من بعده الذين هم مني ومنه إمامة فيهم قائمة خاتمها المهدي إلى يوم يلقى اللّه الذي يقدر ويقضي.

ألّا معاشر الناس وكل حلال دللتكم عليه وحرام نهيتكم عنه فإني لم أرجع عن ذلك ولم أبدل. ألّا فادرسوا ذلك واحفظوه وتواصوا به ولا تبدلوه. ألّا وإني أجدد القول. ألّا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. ألّا وإن رأس الأمر بالمعروف أن تنبهوا قولي إلى من يحضر ويأمروه بقبوله عني ونبهوه

ص: 144


1- تُبّروا: أي أُهكلوا.

عن مخالفته فإنه أمر من اللّه تعالى».

فهذه هي البشرى، بشرى ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) فمن تمسّك بها فاز بدنيا سعيدة، وآخرة حميدة بأعلى الجنان، ومن لا يؤمن بها فقد ضل ضلالاً مُبيناً وخسر دنياه وآخرته.

نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) والعاملين بها.

ولهذه المناسبة العظيمة نذكر قصيدة في مدح أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) أوردها الشيخ الكفعمي في مصباحه ذكر فيها من فضائله قليلاً من كثير مع الإشارة فيها إلى يسير من أسماء يوم الغدير(1):

هنيئاً هنيئاً ليوم الغدير *** ويوم النصوص ويوم السرور

ويوم الكمال لدين الإله *** وإتمام نعمة رب غفور

ويوم الدليل على المرتضى *** ويوم البيان لكشف الضمير

ويوم الرشاد وإبداء ما *** تجن به مضمرات الصدور

ويوم الأمان ويوم النجاة *** ويوم التعاطف ويوم الحبور

ويوم الصلاة ويوم الزكاة *** ويوم الصيام ويوم الفطور

يوم العقود ويوم الشهود *** ويوم العهود لصنو البشر

ويوم الطعام ويوم الشراب *** ويوم اللباس ويوم النحور

ويوم تواصل أرحامكم *** ويوم العطاء وبر الفقير

ويوم تفرج كرب الوصي *** بموت ابن عفان أهل الفجور

ص: 145


1- المصباح للكفعمي: 701.

ويوم لشيث ويوم لهود *** ويوم لإدريس ما من نكير

ويوم نجاة النبي الخليل *** من النار ذات الوقود السعير

ويوم الظهور على الساحرين *** وإغراق فرعون ماء البحور

ويوم لموسى وعيسى معاً *** ويوم سليمان من غير ضير

ويوم الوصية للأنبياء *** على الأوصياء بكل الدهور

ويوم انكشاف المقام الصراح *** وإيضاح برهان سر الأمور

ويوم الجزاء وحط الآثام *** ويوم الميارة للمستمير

ويوم البشارة يوم الدعاء *** وعيد الإله العلي الكبير

ويوم البياض ونزع السواد *** وموقف عزّ خلا من نظير

ويوم السباق ونفي الهموم *** وصفح الإله عن المستجير

ويوم اشتمام أريج المسوك *** وعنبرها وأريج العبير

ويوم مصافحة المؤمنين *** ويوم التخلص من كل ضير

ويوم الدليل على الرائدين *** ومحنة عبد ويوم الطهور

ويوم انعتاق رقاب جنت *** من النار يا صاح ذات السعير

ويوم الشروط ونشر النزاع *** وترك الكبائر بعد الغرور

ويوم النبي ويوم الوصي *** ويوم الأئمة من غير زور

ويوم الخطابة من جبرئيل *** بمنبر عزّ على السرير

ويوم الفلاح ويوم النجاح *** ويوم الصلاح لكل الأمور

ويوم يكف يراع الإله *** من المؤمنين بنسخ الشرور

ويوم التهاني ويوم الرضا *** ويوم استزادة رب شكور

ص: 146

ويوم استراحة أهل الولاء *** ويوم تجارة أهل الأجور

ويوم الزيارة للمؤمنين *** ويوم ابتسام ثنايا الثغور

ويوم التودد للأولياء *** وإلباس إبليس ثوب الدحور

ويوم انشراح أهيل الصلاح *** وحزن قلوب أهيل الفجور

ويوم ارتغام أنوف العداء *** ويوم القبول وجبر الكسير

ويوم العبادة يوم الوصول *** إلى رحمات العلي القدير

ويوم السلام على المصطفى *** وعترته الأطهرين البدور

ويوم الإمارة للمرتضى *** أبي الحسنين الإمام الأمير

ويوم اشتراط ولاء الوصي *** على المؤمنين بيوم الغدير

ويوم الولاية في عرضها *** على كل خلق السميع البصير

ويوم الزيادة ما ينفقون *** بمائة ألف خلت من نظير

ويوم المعارج في رفعها *** وأنباء فضل عظيم كبير

فهذا الإمام عديم النظير *** وأنى يكون له من نظير

وأين الصباب وأين السحاب *** وليس الكواكب مثل البدور

ومن يجعل الوجه مثل القفا *** ومن يجعل النور مثل[بدر] الدجور

ومن يجعل الأرض مثل السماء *** وليس الصحيح كمثل الكسير

وأين الثريا وأين الثرى *** وليس العناق كمثل النمير

ومن يجعل الضبع مثل الأسود *** ومن يجعل النهر مثل البحور

وليس العصي شبيه السيوف *** ومن يجعل الصعو مثل الصقور

وأين المعلى وأين السفيح *** وليس الوفاة كمثل النشور

ص: 147

وأين المجلى وأين اللطيم *** وليس البصير كمثل الضرير

ومن يجعل الدر مثل الحصى *** ودرهم زيف كمثل النضير

علي الوصي وصي النبي *** وغوث الولي وحتف الكفور

إمام الأنام ونور الظلام *** وغيث الغمام الهطول الغزير

سفين النجاة وعين الحياة *** ومردي الكماة بسيف مبير

حمام الطغاة وهادي الهداة *** مبيد الشراة بأرض الثبور

غياث المحول وزوج البتول *** وصنو الرسول السراج المنير

فصيح المقال مليح الفعال *** عظيم الجلال وصي البشير

أمير الثبات عظيم البيات *** بحرب العداة وفك الأسير

ثبيت الأساس زكي الغراس *** جميل النحاس وبدر البدور

نقي الجيوب شجاع الحروب *** ونافي الكروب ببأس مرير

ذكي البخار عظيم الفخار *** ومجدي النضار إلى المستجير [المستمير]

أمان البلاد وساقي العباد *** بيوم المعاد بعذب نمير

صلاح الزمان وغيث هتان *** قسيم الجنان قسيم السعير

همام الصفوف ومقري الضيوف *** وعند الزحوف كليث هصور

مزيل الشرور وصدر الصدور *** حياة الشكور وموت الكفور

علي العماد وواري الزناد *** دليل الرشاد إلى كل خير

أقام الصلاة وآتى الزكاة *** ومولى العفاة وجبر الكسير

هو الهاشمي هو الأبطحي *** هو الطالبي وبدر البدور

مكلم ذئب الفلا جهرة *** وقالع صخر قليب النمير

ص: 148

و من قد هوى النجم في داره *** ومن قاتل الجن في قعر بير

مزك بخاتمه راكعاً *** ومجدي الإجارة للمستجير

و جاء الحديث من المصطفى *** علي مع الحق في كل دور

حديث المحبة لا يختفي *** يضاهي الذكاء إذا في الظهور

رتاج مدينة علم النبي *** ويعسوب دين الإله المنير

مقام علي من المصطفى *** كموسى وهارون ما من نكير

فراش النبي علاه نيام *** بمكة يفديه من كل ضير

وسل عنه بدراً وأحداً ترى *** له سطوات شجاع جسور

وسل عنه عمراً وسل مرحباً *** وسل عنه صفين ليل الهرير

و كم نصر الطهر في معرك *** بسيف صقيل وعزم مرير

و في وقعة الجمل العائشي *** بنصف جمادى خلا من نظير

غزاة السلاسل لا تنسها *** وهضام أسكنه في القبور

و ست وعشرون حرب روي *** مع الهاشمي البشير النذير

و كم بذل النفس يوم النزال *** فيردي الكماة بقطع النحور

خفيف على صهوات الجياد *** ثقيل على سطوات الكفور

أمير السرايا بأمر النبي *** وما من عليه بها من أمير

إمام مكلم أهل الرقيم *** بعيد الممات قبيل النشور

و ثعبان مسجده جهرة *** أتاه وكلمه في الحضور

و سد النبي لأبوابهم *** سوى بابه فتحت للمرور

و في السطل والماء فخراً له *** بعثه الإله لأجل الطهور

ص: 149

همام قضى اللّه في عرشه *** ولادته في المكان الخطير

و ردت له الشمس في بابل *** وآثر بالقرص قبل الفطور

ترى ألف عبد له معتقاً *** ويختار في القوت قرص الشعير

و سار على الريح فوق البساط *** نقله المؤالف من غير مزور

إمام قد أنبأ بالغائبات *** بجمع عظيم وجم غفير

وغسل سلمان في ليلة *** وعاد إلى طيبة في الدجور

وداد أتاه من المؤمنين *** بسورة مريم ما من نكير

وفي سورة الرعد سماه هاد *** واسم النبي بمعنى النذير

وآية من يشتري نفسه *** ذكره الإله بطرس الزبور

وفي مدحه نزلت هل أتى *** وفي ولديه وبنت البشير

جزاهم بما صبروا جنة *** وملكاً كبيراً ولبس الحرير

و حلوا أساور من فضة *** ويسقيهم من شراب طهور

و كم آية نزلت فيهم *** بطرس الكتاب خلال السطور

كآي الولاية ثم التناجي *** وآي المودة ما من نكير

و آي التباهل دلت على *** مقام عظيم ومجد كبير

وآية {وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(1) *** وقد شركوا بالكتاب المنير

من الرجس قد عصموا في الكتاب *** وأعطى الإمامة [الأمانة] من غير زور

إمامي علي لسان البليغ *** قد أضحى بوصفكم في حسور

و كيف نقول لمن قال فيه *** رسول الإله اللطيف الخبير

ص: 150


1- سورة التوبة، الآية: 119.

بعجز الملائك والعالمين *** عن إحصاء مفخره المستنير

ولو أنهم جهدوا جهدهم *** لما وصفوه بعشر العشير

مفاخر تحكي أواذي البحار *** ومن ذا يعد أواذي البحور

ومن ذا يعد رمال الورى *** وقطر السحاب القوي الغزير

وأولاده الغر سفن النجاة *** هداة الأنام إلى كل نور

ومن كتب اللّه في عرشه *** لأسمائهم قبل خلق الدهور

وفي كتب موسى وعيسى ترى *** ومن قبلها أثبتت في الزبور

هم الطيبون هم الطاهرون *** هم الأكرمون ورفد الفقير

هم الزاهدون هم العابدون *** هم الحامدون لرب شكور

هم التائبون هم الراكعون *** هم الساجدون لمولى قدير

هم العالمون هم العاملون *** هم الصائمون نهار الهجير

إلى آخر القصيدة التي اخترنا منها هذه الأبيات.

أهل البيت(عليهم السلام) سفن النجاة

اشارة

تطرّقنا في بداية بحثنا حول يوم الغدير، وإلى أنّ عيد الغدير هو أعظم أعياد المسلمين؛ وذلك لأنّ في هذا اليوم نصب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) خليفة له، وأميراً للمؤمنين من قبل اللّه تعالى.

وسوف نركّز في بحثنا الآتي على بعض خصائص هذا الإمام العظيم وصفاته الكريمة، لتكون لنا درساً نقتدي بها في العمل والتطبيق؛ فهم(عليهم السلام) سفن النجاة لهذه الأمة، فمن تمسك بهم نجا، ومن تخلف عنهم هلك، وقد قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيهم: «...إنما مَثَلُ أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من

ص: 151

ركبها نجاومن تخلّف عنها غرق، ومثل باب حطة من دخله نجا ومن لم يدخله هلك»(1).

قطعات من سفينة نوح

وهنا ننقل كرامة من كرامات أمير المؤمنين وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام) الكثيرة، خصّهم اللّه تعالى بها فجعلهم آية للعالمين، حيث قال تعالى: {وَلَقَد تَّرَكْنَٰهَا ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٖ}(2).

ففي تموز عام (1951م) حينما كان جماعة من العلماء السوفيت المختصين بالآثار القديمة ينقِّبون في إحدى المناطق، فعثروا على قطع متناثرة من أخشاب قديمة متسوسة وبالية، مما دعاهم إلى التنقيب والحفر أكثر وأعمق، فوقفوا على أخشاب أخرى متحجِّرة وكثيرة، كانت بعيدة في أعماق الأرض، ومن بين تلك الأخشاب التي توصلوا إليها خشبة على شكل مستطيل طولها (14) عقدة وعرضها (10) عقد سببت دهشتهم واستغرابهم، إذ أنها لم تتغير ولم تتسوَّس، ولم تتناثر كغيرها من الأخشاب الأخرى! وفي أواخر عام (1952م) أكمل التحقيق حول هذه الآثار، فظهر أنّ اللوحة المشار إليها كانت ضمن سفينة النبي نوح(عليه السلام)، وأنّ الأخشاب الأخرى هي حطام سفينة نوح، وشوهد أنّ هذه اللوحة قد نقشت عليها بعض الحروف التي تعود إلى أقدم لغة وبعد الانتهاء من الحفر عام (1953م)، شكلت الحكومة السوفيتية لجنة قوامها سبعة من علماء اللغات القديمة ومن أهم علماء الآثار، وبعد ثمانية أشهر من دراسة تلك اللوحة والحروف المنقوشة عليها اتفقوا على أنّ هذه اللوحة كانت مصنوعة من نفس

ص: 152


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 60.
2- سورة القمر، الآية: 15.

الخشب الذي صنعت منه سفينة نوح(عليه السلام)، وأنّ النبي نوحاً(عليه السلام) كان قد وضع هذهاللوحة في سفينته للتبرك والحفظ.

وكانت حروف هذه اللوحة باللغة السامانية وقد ترجمها إلى اللغة الإنكليزية العالم البريطاني (آيف ماكس) أستاذ الألسن القديمة في جامعة مانشستر وهذا نص ترجمتها بالعربية: (يا إلهي ويا معيني، برحمتك وكرمك ساعدني، ولأجل هذه النفوس المقدّسة محمّد، إيليا، شبر، شبير(1)، فاطمة، الذين هم جميعهم عظماء، ومكرّمون، العالم قائم لأجلهم، ساعدني لأجل أسمائهم، أنت فقط تستطيع أن توجه نحو الطريق المستقيم).

وبقي هؤلاء العلماء في دهشة وحيرة كبرى أمام عظمة هذه الأسماء الخمسة المقدسة ومنزلة أصحابها عند اللّه تعالى، حيث توسل بها نوح(عليه السلام).

واللغز الذي لم يستطع تفسيره أي واحد منهم هو عدم تفسخ هذه اللوحة بالذات رغم مرور آلاف السنين عليها.

أما نحن الشيعة فلا يخالطنا شك أو ريبة في ذلك، لأنّ أهل البيت(عليهم السلام)، هم الذين خلق اللّه تعالى العالم من أجلهم، ولأجلهم أنزل شرائعه وكتبه، ولأجلهم وبيان فضلهم بقيت هذه اللوحة رغم مرور آلاف السنوات سالمة حتى تكون آية للعالمين، ودلالة على فضل محمد وآله الطيبين الطاهرين (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين)(2).

أقل الناس مؤونة وأكثرهم معونة

قال عروة بن الزبير: كنّا في مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتذاكرنا أعمال أهل بدر

ص: 153


1- هذه الأسماء (إيليا، شبر، شبير) باللغة السامانية ومعناها بالعربية: علي، الحسن، الحسين(عليهم السلام).
2- اللوحة موجودة في متحف الآثار القديمة بموسكو.

وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم ألّا أخبركم بأقل القوم مالاً وأكثرهم ورعاًوأشدهم اجتهاداً في العبادة؟

قالوا: من؟

قال: علي بن أبي طالب(عليه السلام).

قال: فواللّه، إن كان في جماعة أهل المجلس إلّا معرض عنه بوجهه، ثم انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر، لقد تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبو الدرداء: يا قوم، إني قائل ما رأيت، وليقل كل قوم منكم ما رأوا، شهدت علي بن أبي طالب(عليه السلام) بشويحطات النجار وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعد علي مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: «إلهي كم من موبقة حملت عني فقابلتها بنعمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي، إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك».

فشغلني الصوت واقتفيت الأثر فإذا هو علي بن أبي طالب(عليه السلام) بعينه، فاستترت له فأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فزع إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى، فكان مما به اللّه ناجى أن قال: «إلهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي». ثم قال: «آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولاتنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء - ثم قال: - آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى».

قال: ثم انغمر في البكاء فلم أسمع له حساً ولا حركة، فقلت: غلب عليه

ص: 154

النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبةالملقاة! فحركته فلم يتحرك وزويته فلم ينزو! فقلت: إنا للّه وإنا إليه راجعون، مات واللّه علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم فقالت فاطمة(عليها السلام): «يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه ومن قصته؟» فأخبرتها الخبر فقالت: «هي واللّه يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية اللّه»، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ونظر إلي وأنا أبكي فقال: «مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟»

فقلت: مما أراه تنزله بنفسك.

فقال: «يا أبا الدرداء، ولو رأيتني ودعي بي إلى الحساب وأيقن أهل الجرائم بالعذاب واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء، ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية».

فقال أبو الدرداء: فواللّه، ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1).

نعم، إن أمير المؤمنين(عليه السلام)، هو العالم العابد، والتقي الزاهد، والأبي المجاهد في سبيل اللّه، وهو الضحّاك إذا اشتد الضراب، فتجده عندما يقبل على ساحة المعركة للجهاد في سبيل اللّه يقبل وهو مبتسم مبتهج، مشتاق إلى لقاء اللّه ورضوانه في حين كان الآخرون يرتجفون من دهشتها، ويهابون الموت ويكرهونه(2)، لأنه(عليه السلام) كان يعلم أنه قد أدّى ما عليه من واجبات وأنجز ما عليه من تكاليف، فهو لن يخشى الحرب وضراوتها، لأنه ما كان خائفاً من لقاء الموت

ص: 155


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 77.
2- انظر الأمالي للشيخ الصدوق: 77.

بل يرى في الموت لذة وسعادة لأنه لقاء اللّه تبارك وتعالى(1).

فإن الإمام(عليه السلام) عندما ضربه أشقى الأشقياء قال: «فزت وربّ الكعبة»(2)؛ لأنه(عليه السلام) كان مطمئناً بأنه قد أدى الواجب الشرعي الذي كُلِّف به على أتم صورة، وهذا ما نراه واضحاً من كلامه(عليه السلام) مع ابنته أم كلثوم، فانه(عليه السلام) لما رآها تبكيه عشية وفاته قال لها: «ما يبكيك يا بنية؟».

فقالت: «ذكرت يا أبة أنك تفارقنا الساعة فبكيت».

فقال لها: «يا بنية لا تبكين، فو اللّه لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت»

قال حبيب(3): فقلت له: وما الذي ترى يا أمير المؤمنين؟

فقال: «يا حبيب، أرى ملائكة السماوات والنبيين بعضهم في أثر بعض وقوفاً إلى أن يتلقوني، وهذا أخي محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس عندي، يقول: أقدم، فإن أمامك خير لك مما أنت فيه»(4).

وقد قال في مكان آخر: «واللّه، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي

ص: 156


1- قال الناشئ الصغير: علي الدر والذهب المصفى *** وباقي الناس كلهم تراب إذا لم تبر من أعدا علي *** فما لك في محبته ثواب إذا نادت صوارمه نفوساً *** فليس لها سوا نعم جواب فبين سنانه والدرع سلم *** وبين البيض والبيض اصطحاب هو البكاء في المحراب ليلاً *** هو الضحاك إن جدَّ الضراب ومن في خفه طرح الأعادي *** حباباً كي يلسبه الحباب الغدير 4: 26 الناشئ الصغير (271-365ه).
2- شرح الأخبار 2: 442.
3- الرواية عن أبي حمزة الثمالي عن حبيب بن عمرو.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 319.

أمه»(1).

الشيعة وحُب أمير المؤمنين(عليه السلام)

إنّ المنقّب في التاريخ تنكشف له حقيقة ناصعة لا يمكن إخفاؤها، وهي: أنّ التاريخ يذكر العظماء في صفحة من نور، ويسجّل لهم فيها الإجلال والإكبار كلاً على قدر عظمته. ومهما حاول شخص أن يتلاعب في التاريخ ويشوّه الحقائق ويحرّفها، فإنّ مصيره الفشل عاجلاً أم آجلاً؛ لأنّ الزيف والتحريف يظهر من تضارب أقوال المزيفين وتناقضها.

ألّا ترى إلى معاوية بن أبي سفيان، الذي حاول أن يشوه الحقائق ويغسل أدمغة الناس، مما يعلمونه ويروونه في أمير المؤمنين(عليه السلام) من فضائل ومناقب كيف باءت بالفشل؟ حتى أنه جعل معاوية سبّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) سُنَّة أموية يشيب عليها الصغير ويهرم فيها الكبير، واستمرت محاولاته سنوات طويلة، وجنّد لهذه الفكرة الآلاف من عبيد الدنيا، وصرف أموالاً طائلة في سبيل ذلك، ولكن أين فكرته هذه الآن؟(2).

لقد بقى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ورغم أنوف أعدائه علماً من أعلام الدين وركناً من أركان الهدى والتقى، ليس عند شيعته فقط بل وحتى عند الآخرين، إنه(عليه السلام) بقي على ما عرّفه اللّه ورسوله مفخرة للإسلام والإنسانية على مرّ العصور وكرّ الدهور.

أما إذا قرأنا في التاريخ عن معاوية فماذا نلاحظ؟ سوف نجد أنّ التاريخ دوّن عنه مواقف مخزية ضدّ الإسلام والإنسانية، وحتى محبوه يدركون ذلك في قرارة

ص: 157


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 5 من خطبة له(عليه السلام) لما قبض رسول اللّه.
2- انظر نهج الحق: 310 سب معاوية علياً(عليه السلام).

أنفسهم، ويعلمون بسيرته، ويظهرون موالاتهم له بسبب الطائفية والتعصب وربماكان ذلك جهلاً منهم.

أمّا شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) وموالوه، فإنهم لا ينسون إمامهم في الليل والنهار، وهم كل ما ذكروه افتخروا بمواقفه الإنسانية المشرفة، والتي مدحه القرآن الكريم بها.

إن الشيعة يحبون جميع أولياء اللّه ويقدرون مواقفهم، إلّا أن حبّهم لأمير المؤمنين(عليه السلام) وولاءهم له يأتي بعد حبهم وولاءهم لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وذلك لأن حب أمير المؤمنين(عليه السلام) وولاءه هو نصر لكل الأمم وفخر لهم، والأفراد الذين يريدون أن يحصلوا على أعلى درجات الكمال الإنساني عليهم أن يتبعوه(عليه السلام) ويسيروا على نهجه؛ إذ في متابعته(عليه السلام) متابعة الحق، وفي هذا نذكر ما روي عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «علي مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، من أطاعك فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع اللّه، ومن عصاك فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى اللّه»(2).

التاريخ يتحدث

اشارة

إن الذاهب إلى بلاد الشام ومدينة دمشق تحديداً، يُلاحظ قبرين مثيرين للعبرة والعظة:

أحدهما: قبر لمعاوية(3) بن أبي سفيان وابن هند آكلة الأكباد الذي حكم بلاد الشام طويلاً الذي يقع في بقعة مملوءة بالمزابل وأنواع الحشرات، وفي نفس

ص: 158


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 62.
2- تقريب المعارف: 203.
3- الذي يقع في زقاق ضيق في منطقة القيمرية في دمشق القديمة.

الوقت ترى أصحابه ومحبيه يخفون قبره لكي لا يصل إليه أحد.ثانيهما: قبر السيدة رقية، وهو قبر لطفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها الثلاث سنوات، وهي بنت الإمام الحسين(عليه السلام) ويقع بالقرب من قبر معاوية، ولكنه في مقابل قبر معاوية، حيث إن الناس يذهبون لزيارتها ويتبركون بقبرها ويطلبون من اللّه قضاء حوائجهم ببركتها، كل هذا لأنّ هذه الطفلة وكذلك عمتها السيدة زينب(عليها السلام) التي يقع مرقدها في ريف دمشق منطقة راوية من الذرية الطاهرة الذين هم امتداد للحق الذي سار عليه أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة(عليهم السلام) وهم جميعاً سادة أهل الدنيا والآخرة.

كما أنّ تعامل الناس مع السادة من ذرية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يُعبّر عن احترام وقدسية خاصة، واتباع لوصايا الرسول الاعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أهل بيته(عليهم السلام) وذريته.

التأييد الغيبي لأهل الحق

إنّ صاحب البصيرة النافذة إذا أعطيت له حرية الاختيار بين الحق والباطل، ورفعت عنه جميع العقبات والحواجز، فإنه - وبلا شك - سوف يختار طريق الحق؛ لأنّ اتباع الحق يؤدي به إلى السعادة في الدنيا، وإلى الجنة والنعيم الدائم في الآخرة.

وطبيعة الإنسان العاقل أن يختار طريق الأمان والسلام، الذي هو طريق الحق، على طريق الهلكة والهوان، الذي هو طريق الباطل.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ اللّه عزّ وجلّ يحفظ الإنسان الذي يتبع الحق والحقيقة من النسيان والضمور، ويجعله في مأمن منها رغم تعاقب الأجيال، وتقلّبات الأيام، ويخلّد ذكره ليبقى قدوة للخير والفضيلة، والأمثلة على ذلك كثيرة. فهذا نبينا العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووصيه الكريم إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) وكذلك الأنبياء والمرسلون وأوصياؤهم الكرام(عليهم السلام) من قبل ومن سار على نهجهم، تراهم جميعاً

ص: 159

خالدين، فنبي اللّه نوح(عليه السلام) الذي مضى على نبوته آلاف السنين - حتى سمي شيخ المرسلين - بلآلاف القرون لقوله تعالى: {وَقُرُونَا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا}(1) قد ذكره اللّه في القرآن في مواطن عدّة، منها قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٖ وَالنَّبِيِّۧنَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيْمَٰنَ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بَِٔايَٰتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ}(3).

وقال تعالى: {قِيلَ يَٰنُوحُ اهْبِطْ بِسَلَٰمٖ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٖ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّۧنَ مِيثَٰقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا}(5).

وقال تبارك وتعالى: {سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ فِي الْعَٰلَمِينَ}(6).

نعم، لقد حصل شيخ المرسلين نوح(عليه السلام) على هذا الذكر الطيّب والخالد لأنه(عليه السلام) كان يعمل في طريق الحق ومن أجل إعلاء كلمة الحق خالصاً مخلصاً.

ص: 160


1- سورة الفرقان، الآية: 38.
2- سورة النساء، الآية: 163.
3- سورة يونس، الآية: 71.
4- سورة هود، الآية: 48.
5- سورة الأحزاب، الآية: 7.
6- سورة الصافات، الآية: 79.

فعلى الإنسان أن ينقطع إلى اللّه دائماً، وأن لا يأمل إلّا اللّه أبداً، وأن يعتمد على نصرته تعالى في أداء واجبه وتكليفه، وأن يطلب العون منه عزّ وجلّ لا من المخلوقين، فقد روي عن الحسين بن علوان قال: كنّا في مجلس نطلب فيه العلموقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار، فقال لي بعض أصحابنا: من تؤمل لما قد نزل بك؟ فقلت: فلاناً، فقال: واللّه، لا تسعف حاجتك، ولا يبلغك أملك، ولا تنجح طلبتك، قلت: وما علمك رحمك اللّه؟ قال: إن أبا عبد اللّه(عليه السلام) حدثني أنه قرأ في بعض الكتب: «أن اللّه تبارك وتعالى يقول:

وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي، لأقطعنّ أمل كل مؤمل غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس، ولأنحينّه من قربي، ولأبعدنه من فضلي. أيؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي! ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقةٌ وبابي مفتوحٌ لمن دعاني، فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها، ومن ذا الذي رجاني لعظيمةٍ فقطعت رجاءه مني. جعلت آمال عبادي عندي محفوظةً فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبةٌ من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدٌ غيري إلّا من بعد إذني، فما لي أراه لاهياً عني! أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده وسأل غيري، أ فيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي! أبخيلٌ أنا فيبخلني عبدي؟ أوليس الجود والكرم لي؟ أوليس العفو والرحمة بيدي؟ أوليس أنا محل الآمال فمن يقطعها دوني؟ أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟ فلو أن أهل سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعاً، ثم أعطيت كل واحدٍ منهم مثل ما أمل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة، وكيف ينقص ملكٌ أنا قيمه؟! فيا بؤساً للقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن

ص: 161

عصاني ولم يراقبني»(1).

نعم، إذا اعتمد الإنسان على اللّه وتوكل عليه فإنه يوصله إلى أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٖ قَدْرًا}(2).

وقال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَٰنَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}(3).

أمير المؤمنين(عليه السلام) على لسان

الصادق الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

إن الفضائل والمناقب التي ذكرها خير خلق اللّه الرسول الحبيب(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حق وصيه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كثيرة ومتعددة، نذكر منها الروايات التالية:

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علي في السماء السابعة كالشمس بالنهار في الأرض، وفي السماء الدنيا كالقمر بالليل في الأرض، أعطى اللّه علياً من الفضل جُزءاً لو قُسِّم على أهل الأرض لوسعهم، وأعطاه اللّه من الفهم جُزءاً لو قسم على أهل الأرض لوسعهم، شُبّهت لينه بلين لوط، وخلقه بخلق يحيى، وزهده بزهد أيّوب، وسخاؤه بسخاء ابراهيم وبهجته ببهجة سليمان بن داود، وقوّته بقوّة داود. له اسم

ص: 162


1- الكافي 2: 66.
2- سورة الطلاق، الآية: 2-3.
3- سورة آل عمران، الآية: 172-174.

مكتوب على كلّ حجاب في الجنّة، بشّرني به ربي وكانت له البشارة عندي، عليٌّ محمود عند الحقّ، مزكّى عند الملائكة، وخاصتي وخالصتي، وظاهرتي ومصباحي، وجُنَّتي ورفيقي، آنسني به ربي فسألت ربّي أن لا يقبضه قبلي، وسألته أن يقبضهشهيداً بعدي. أُدخلت الجنة فرأيت حور علي أكثر من ورق الشجر، وقصور علي كعدد البشر. عليّ مني وأنا من علي، من تولى علياً فقد تولاّني، حبّ علي نعمة واتباعه فضيلة، دانت به الملائكة وحفت به الجنّ الصالحون، لم يمش على الأرض ماشٍ بعدي إلّا كان هو أكرم منه عزّاً وفخراً ومنهاجاً، لم يك فظّاً عجولاً، ولا مسترسلاً لفساد ولا متعنّداً، حملته الأرض فأكرمته، لم يخرج من بطن أنثى بعدي أحد كان أكرم خروجاً منه، ولم ينزل منزلاً إلّا كان ميموناً، أنزل اللّه عليه الحكمة، وردّاه بالفهم، تجالسه الملائكة ولا يراها. ولو أوحي إلى أحد بعدي لأوحي إليه، فزيّن اللّه به المحافل، وأكرم به العساكر، وأخصب به البلاد، وأعزّ به الأجناد. مثله كمثل بيت اللّه الحرام يزار ولا يزور، ومثله كمثل القمر إذا طلع أضاء الظلمة، ومثله كمثل الشمس إذا طلعت أنارت الدنيا، وصفه اللّه في كتابه، ومدحه بآياته، ووصف فيه آثاره، وأجرى منازله، فهو الكريم حيّاً والشهيد ميتاً»(1).

وعن عبد الرحمان بن سمرة قال: قلت: يا رسول اللّه، أرشدني إلى النجاة، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا ابن سمرة، إذا اختلفت الاهواء وتفرقت الآراء فعليك بعلي بن أبي طالب؛ فإنه إمام أمتي، وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يميز بين الحق والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحق من عنده وجده، ومن التمس الهدى لديه صادفه، ومن لجأ إليه أمنه، ومن استمسك به

ص: 163


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 8.

نجاه، ومن اقتدى به هداه.

يا ابن سمرة، سلم من سلم له ووالاه، وهلك من رد عليه وعاداه.

يا ابن سمرة، إن علياً مني، روحه من روحي، وطينته من طينتي، وهو أخي وأنا أخوه، وهو زوج ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين من الاولين والآخرين، وابنيهإماما أمتي، وسيدا شباب أهل الجنة: الحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين، تاسعهم قائم أمتي، يملا الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(1).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أنه جاء إليه رجل فقال له: يا أبا الحسن، إنك تدّعى أمير المؤمنين، فمن أمرك عليهم؟

قال(عليه السلام): اللّه جلّ جلاله أمرني عليهم.

فجاء الرجل إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، أ يصدق علي في ما يقول إن اللّه أمّره على خلقه؟

فغضب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال: إن علياً أمير المؤمنين بولاية من اللّه عزّ وجلّ، عقدها له فوق عرشه، وأشهد على ذلك ملائكته، إن علياً خليفة اللّه، وحجة اللّه، وإنه لإمام المسلمين، طاعته مقرونة بطاعة اللّه، ومعصيته مقرونة بمعصية اللّه، فمن جهله فقد جهلني، ومن عرفه فقد عرفني، ومن أنكر إمامته فقد أنكر نبوتي، ومن جحد إمرته فقد جحد رسالتي، ومن دفع فضله فقد تنقصني، ومن قاتله فقد قاتلني، ومن سبه فقد سبني؛ لأنه مني خلق من طينتي، وهو زوج فاطمة ابنتي، وأبو ولدي الحسن والحسين - ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): - أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين حجج اللّه على خلقه، أعداؤنا أعداء اللّه، وأولياؤنا أولياء اللّه»(2).

ص: 164


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 26.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 131.

نعم، هذا هو أمير المؤمنين(عليه السلام) على لسان خير خلق اللّه تعالى الرسول الحبيب(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(1) كما قال اللّه عنه ذلك.ولهذا يعتبر يوم الغدير هو اليوم الذي تمت به النعمة واكتمل به الدين، فهو يوم عظيم ذو أهمية خاصة وقدسية كبيرة عند المسلمين وخصوصاً الشيعة منهم، وذلك هو بمثابة إعلاناً رسمياً في تعيين الإمام علي(عليه السلام) في هذا اليوم أميراً للمؤمنين من قبل اللّه تعالى.

أهل البيت(عليهم السلام) وعيد الغدير

كان الأئمة من أهل بيت رسول اللّه (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) يوصون شيعتهم بالاحتفال بهذا العيد العظيم واظهاره بأجلى المظاهر، فهم(عليهم السلام) كانوا يجعلونه يوماً فريداً ومشهوداً بين أهليهم وذويهم، فقد روي عن أحوالهم(عليهم السلام) من قال: أنه شهد أبا الحسن علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) في يوم الغدير وبحضرته جماعة من خاصته، قد احتبسهم للإفطار وقد قدم إلى منازلهم الطعام والبر والصلات والكسوة حتى الخواتيم والنعال، وقد غير أحوالهم وأحوال حاشيته، وجددت له الآلة غير الآلة التي جرى الرسم بابتذالها قبل يومه، وهو يذكر فضل اليوم وقدمه.

فكان من قوله(عليه السلام): «حدثني الهادي أبي قال: حدثني جدي الصادق قال: حدثني الباقر قال: حدثني سيد العابدين قال: حدثني أبي الحسين قال: اتفق في بعض سني أمير المؤمنين(عليه السلام) الجمعة والغدير، فصعد المنبر على خمس ساعات من نهار ذلك اليوم، فحمد اللّه حمداً لا نسمع [لم يسمع] بمثله، وأثنى

ص: 165


1- سورة النجم، الآية: 3-4.

عليه بما لا يتوجه إلى غيره، فكان ما حفظ من ذلك:

الحمد للّه الذي جعل الحمد من غير حاجة منه إلى حامديه، طريقاً من طرق الاعتراف بلاهوتيته وصمدانيته وفردانيته، وسبباً إلى المزيد من رحمته، ومحجة للطالب من فضله، وكمن في إبطان حقيقة الاعتراف له: بأنه المنعم على كلحمد باللفظ وإن عظم.

وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، شهادة نزعت عن إخلاص الطوى، ونطق اللسان بها عبارة عن صدق خفي أنه الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى، ليس كمثله شيء، إذ كان [إذا كان] الشيء من مشيته، وكان لا يشبهه مكونه.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، استخلصه في القدم على سائر الأمم، على علم منه بأنه انفرد عن التشاكل والتماثل من أبناء الجنس، وانتجبه آمراً وناهياً عنه، أقامه في سائر عالمه في الأداء مقامه، إذ كان لا تدركه الأبصار، ولا تحويه خواطر الأفكار، ولا تمثله غوامض الظنون في الأسرار. لا إله إلّا هو الملك الجبار، قرن الاعتراف بنبوته بالاعتراف بلاهوتيته، واختصه من تكرِمته بما لم يلحقه فيه أحد من بريته، فهو أهل ذلك بخاصته وخلته، إذ لا يختص من يشوبه التغيير ولا يخالل من يلحقه التظنين. وأمر بالصلاة عليه مزيداً في تكرِمته، وطريقاً للداعي إلى إجابته، فصلى اللّه عليه وكرم وشرف وعظم مزيداً لا تلحقه التفنية، ولا ينقطع على التأبيد.

وأن اللّه تعالى اختص لنفسه بعد نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بريته خاصة، علاهم بتعليته، وسمى [سار] بهم إلى رتبته، وجعلهم الدعاة بالحق إليه، والأدلاء بالإرشاد عليه، لقرن قرن، وزمن زمن، أنشأهم في القدم على [قبل] كل مذرو ومبرو، أنواراً أنطقها بتحميده، وألهمها على شكره وتمجيده، وجعلها الحجج على كل معترف

ص: 166

له بملكوت الربوبية، وسلطان العبودية، واستنطق بها الخرسات بأنواع اللغات، بخوعاً له بأنه فاطر الأرضين والسماوات، واستشهدهم خلقه، وولاهم ما شاء من أمره، جعلهم تراجم مشيته، وألسن إرادته، عبيداً لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى، وهم منخشيته مشفقون، يحكمون بأحكامه، ويستنون بسنته، ويعتمدون حدوده، ويؤدون فرضه.

ولم يدع الخلق في بهم صماً، ولا في عمى بكماً، بل جعل لهم عقولاً مازجت شواهدهم، وتفرقت في هياكلهم، حققها في نفوسهم، واستعد لها حواسهم. فقرر بها على أسماع ونواظر، وأفكار وخواطر، ألزمهم بها حجته، وأراهم بها محجته، وأنطقهم عمّا شهدته بألسن ذربة، بما قام فيها من قدرته وحكمته، وبيّن عندهم بها، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة، وإن اللّه لسميع عليم بصير، شاهد خبير.

وإن اللّه تعالى جمع لكم معشر المؤمنين في هذا اليوم عيدين عظيمين كبيرين، لا يقوم أحدهما إلّا بصاحبه؛ ليكمل لكم عندكم جميل صنعه، ويقفكم على طريق رشده، ويقفوا بكم آثار المستضيئين بنور هدايته، ويسلك بكم منهاج قصده، ويوفر عليكم هنيء رفده، فجعل الجمعة مجمعاً ندب إليه لتطهير ما كان قبله، وغسل ما أوقعته مكاسب السوء من مثله إلى مثله، وذكرى للمؤمنين وتبيان خشية المتقين، ووهب لأهل طاعته في الأيام قبله، وجعله لا يتم إلّا بالايتمار لما أمر به، والانتهاء عمّا نهى عنه، والبخوع بطاعته في ما حث عليه وندب إليه.

ولا يقبل توحيده إلّا بالاعتراف لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنبوته، ولا يقبل دينا إلّا بولاية من أمر بولايته، ولا ينتظم أسباب طاعته إلّا بالتمسك بعصمه وعصم أهل ولايته. فأنزل على نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في يوم الدَوح ما بيّن فيه عن إرادته في خلصائه وذوي

ص: 167

اجتبائه، وأمره بالبلاغ، وترك الحفل بأهل الزيغ والنفاق، وضمن له عصمته منهم، وكشف عن [من] خبايا أهل الريب وضمائر أهل الارتداد ما رمز فيه، فعقله المؤمن والمنافق،فأعن معن(1)، وثبت على الحق ثابت، وازدادت جهالة المنافق، وحمية المارق، ووقع العض على النواجذ، والغمز على السواعد، ونطق ناطق ونعق ناعق ونشق(2) ناشق، واستمر على مارقته مارق. ووقع الإذعان من طائفة باللسان دون حقائق الإيمان، ومن طائفة باللسان وصدق الإيمان، وأكمل اللّه دينه، وأقر عين نبيه، والمؤمنين والمتابعين.

وكان ما قد شهده بعضكم وبلغ بعضكم، وتمت كلمة اللّه الحسنى على الصابرين، ودمر اللّه ما صنع فرعون وهامان وقارون وجنوده وما كانوا يعرشون.

وتفتت [بقيت] حثالة من الضلال لا يألون الناس خبالاً، فيقصدهم اللّه في ديارهم، ويمحو آثارهم، ويبيد معالمهم، ويعقبهم عن قرب الحسرات، ويلحقهم عن بسط أكفهم، ومد أعناقهم، ومكنهم من دين اللّه حتى بدّلوه، ومن حكمه حتى غيروه، وسيأتي نصر اللّه على عدوه لحينه، واللّه لطيف خبير.

وفي دون ما سمعتم كفاية وبلاغ، فتأملوا رحمكم اللّه ما ندبكم اللّه إليه وحثكم عليه، واقصدوا شرعه، واسلكوا نهجه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.

هذا يوم عظيم الشأن، فيه وقع الفرج، ورفعت الدرج، وضحت الحجج، وهو يوم الإيضاح والإفصاح عن المقام الصراح، ويوم كمال الدين، ويوم العهد المعهود، ويوم الشاهد والمشهود، ويوم تبيان العقود عن النفاق والجحود، ويوم

ص: 168


1- أمعن الرجل: هرب وتباعد، لسان العرب 13: 409، مادة (معن).
2- نشق: النشق صب سعوط في الأنف، لسان العرب 10: 353، مادة (نشق).

البيان عن حقائق الإيمان، ويوم دحر الشيطان، ويوم البرهان.

هذا يوم الفصل الذي كنتم به توعدون، هذا يوم الملإ الأعلى الذي أنتم عنهمعرضون، هذا يوم الإرشاد ويوم محنة على العباد، ويوم الدليل على الرواد، هذا يوم إبداء خفايا الصدور، ومضمرات الأمور، هذا يوم النصوص على أهل الخصوص.

هذا يوم شيث، هذا يوم إدريس، هذا يوم يوشع، هذا يوم شمعون. هذا يوم الأمن المأمون، هذا يوم إظهار المصون من المكنون، هذا يوم إبلاء السرائر.

فلم يزل(عليه السلام) يقول هذا يوم هذا يوم، فراقبوا اللّه واتقوه، واسمعوا له وأطيعوه، واحذروا المكر ولا تخادعوه، فتّشوا ضمائركم ولا تواربوه، وتقربوا إلى اللّه بتوحيده وطاعة من أمركم أن تطيعوه، ولا تمسكوا بعصم الكوافر، ولا يجنح بكم الغي فتظلوا عن سبيل الرشاد باتباع أولئك الذين ضلوا وأضلوا، قال اللّه تعالى عزّ من قائل، في طائفة ذكرهم بالذم في كتابه: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا۠ * رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}(1).

وقال اللّه تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَٰؤُاْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا}(2).

وقال سبحانه: {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٖ قَالُواْ لَوْ هَدَىٰنَا اللَّهُ لَهَدَيْنَٰكُمْ}(3).

أفتدرون استكبار ما هو ترك الطاعة لمن أمر اللّه بطاعته والترفع عمّن ندبوا إلى متابعته؟ والقرآن ينطق من هذا عن كثير إن تدبره متدبر زجره ووعظه، واعلموا

ص: 169


1- سورة الأحزاب، الآية: 67- 68.
2- سورة غافر، الآية: 47.
3- سورة إبراهيم، الآية: 21.

أيها المؤمنون إن اللّه عزّ وجلّ قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}(1).

أتدرون ما سبيل اللّه؟ ومن سبيله؟ ومن صراط اللّه؟ ومن طريقه؟

أنا صراط اللّه الذي من لم [لا] يسلكه بطاعة اللّه فيه هوى به إلى النار، أنا سبيله الذي نصبني للاتباع بعد نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أنا قسيم النار، أنا حجة اللّه على الفجار، أنا نور الأنوار.

فانتبهوا من رقدة الغفلة، وبادروا بالعمل قبل حلول الأجل، وسابقوا إلى مغفرة من ربكم قبل أن يضرب بالسور بباطن الرحمة وظاهر العذاب، فتنادون فلا يسمع نداؤكم، وتضجون فلا يحفل بضجيجكم، وقبل أن تستغيثوا فلا تغاثوا.

سارعوا إلى الطاعات قبل فوات الأوقات، فكأن قد جاء هادم اللذات، فلا مناص نجاة ولا محيص تخليص.

عودوا رحمكم اللّه بعد انقضاء مجمعكم بالتوسعة على عيالكم، والبر بإخوانكم، والشكر للّه عزّ وجلّ على ما منحكم، وأجمعوا يجمع اللّه شملكم، وتباروا يصل اللّه ألفتكم، وتهانوا نعمة اللّه كما هنأكم، بالصواب فيه على أضعاف الأعياد قبله وبعده إلّا في مثله، والبر فيه يثمر المال، ويزيد في العمر، والتعاطف فيه يقتضي رحمة اللّه وعطفه، وهبوا لإخوانكم وعيالكم عن فضله بالجهد من جودكم، وبما تناله القدرة من استطاعتكم، وأظهروا البشرى في ما بينكم، والسرور في ملاقاتكم، والحمد للّه [واحمدوا اللّه] على ما منحكم، وعودوا بالمزيد على أهل التأميل لكم، وساووا بكم ضعفاءكم ومن ملككم، وما تناله القدرة من استطاعتكم، وعلى حسب إمكانكم، فالدرهم فيه بمائتي ألف

ص: 170


1- سورة الصف، الآية: 4.

درهم، والمزيد من اللّه عزّ وجلّ.

وصوم هذا اليوم مما ندب اللّه إليه، وجعل العظيم كفالة عنه، حتى لو تعبد له عبد من العبيد في التشبيه من ابتداء الدنيا إلى تقضيها صائماً نهارها قائماً ليلها، إذ أخلص المخلص في صومه، لقصرت أيام الدنيا من [عن] كفاية [كفايته]، ومن أضعف فيه أخاه مبتدئاً وبره راغباً، فله كأجر من صام هذا اليوم وقام ليله، ومن فطر مؤمناً في ليلته، فكأنما فطر فئاماً وفئاماً، - يعدها بيده عشرة - .

فنهض ناهض فقال: يا أمير المؤمنين، وما الفئام؟

قال: مأتي ألف نبي وصديق وشهيد، فكيف بمن يكفل عدداً من المؤمنين والمؤمنات، فأنا ضمينه على اللّه تعالى الأمان من الكفر والفقر، وإن مات في ليلته أو يومه أو بعده إلى مثله من غير ارتكاب كبيرة فأجره على اللّه، ومن استدان لإخوانه وأعانهم فأنا الضامن على اللّه إن أبقاه، وإن قبضه حمله عنه.

وإذا تلاقيتم فتصافحوا بألسنتكم وتهانوا بالنعمة في هذا اليوم، وليبلغ الحاضر الغائب، والشاهد البائن، وليعد الغني على الفقير، والقوي على الضعيف.

أمرني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك.

ثم أخذ (صلوات اللّه عليه) في خطبته الجمعة، وجعل صلاته جمعة صلاة عيد. وانصرف بولده وشيعته إلى منزل أبي محمد الحسن بن علي(عليهما السلام) بما أعد له من طعامه، وانصرف غنيهم وفقيرهم برفده إلى عياله»(1).

نعم، فأمير المؤمنين(عليه السلام) الذي تشرفت الدنيا به يوم ولد في جوف الكعبة(2)،

ص: 171


1- إقبال الأعمال 1: 461.
2- فقد روي عن يزيد بن قعنب أنه قال: كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزى بإزاء بيت اللّه الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين(عليه السلام) وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: «رب إني مؤمنة بك، وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وأنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني، لما يسرت علي ولادتي». قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر اللّه عزّ وجلّ، ثم خرجت بعد الرابع، وبيدها أمير المؤمنين(عليه السلام) ثم قالت: «إني فضلت على من تقدمني من النساء؛ لأن آسية بنت مزاحم عبدت اللّه عزّ وجلّ سراً في موضع لا يحب أن يعبد اللّه فيه إلّا اضطراراً، وأن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً، وأني دخلت بيت اللّه الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأوراقها، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة، سميه علياً فهو علي، واللّه العلي الأعلى يقول: إني شققت اسمه من اسمي وأدبته بأدبي ووقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه» الأمالي للشيخ الصدوق: 132.

ويوم عاش في هذه الحياة، ومن خلال حياته الزاخرة بالجهاد والتضحية في سبيل اللّه، سطّر للعالم النموذج الفريد بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المكارم، والقدوة الحسنة في جميع الأعمال الحميدة، قد بكته السماء والأرض يوم وفاته(عليه السلام)، فمات شهيداً في سبيل اللّه تعالى، وختم حياته بأحسن ما يختم به الإنسان حياته.

فقد روي عن أبي حمزة الثمالي عن حبيب بن عمرو قال: دخلت على أمير المؤمنين(عليه السلام) في مرضه الذي قبض فيه فحل عن جراحته، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما جرحك هذا بشيء، وما بك من بأس! فقال لي: «يا حبيب، أنا واللّه مفارقكم الساعة».

قال: فبكيت عند ذلك، وبكت أم كلثوم وكانت قاعدة عنده، فقال لها: «ما يبكيك يا بنية؟».

فقالت: «ذكرت يا أبة أنك تفارقنا الساعة فبكيت».

فقال لها: «يا بنية لا تبكين، فو اللّه لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت». قال حبيب: فقلت له: وما الذي ترى يا أمير المؤمنين؟

ص: 172

فقال: «يا حبيب، أرى ملائكة السماوات والنبيين [والأرضين] بعضهم في أثر بعض وقوفاً إلى أن يتلقوني، وهذا أخي محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس عندي، يقول: أقدم، فإن أمامك خير لك مما أنت فيه».

قال: فما خرجت من عنده حتى توفي(عليه السلام).

فلما كان من الغد وأصبح الحسن(عليه السلام) قام خطيباً على المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، في هذه الليلة نزل القرآن، وفي هذه الليلة رفع عيسى ابن مريم(عليه السلام)، وفي هذه الليلة قتل يوشع بن نون، وفي هذه الليلة مات أبي أمير المؤمنين(عليه السلام)، واللّه لا يسبق أبي أحد كان قبله من الأوصياء إلى الجنة، ولا من يكون بعده، وإن كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليبعثه في السرية فيقاتل جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وما ترك صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطائه كان يجمعها ليشتري بها خادما لأهله»(1).

من هدي القرآن الحكيم

ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(3).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ

ص: 173


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 318.
2- سورة المائدة، الآية: 67.
3- سورة المائدة، الآية: 3.

وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(1).

صفات الإمام(عليه السلام)

قال سبحانه: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}(2).

وقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَٰتِ وَإِقَامَ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوٰةِ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُنَ عِندَ اللَّهِ}(5).

ذكر أمير المؤمنين(عليه السلام) في القرآن

قال عزّ وجلّ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}(7).

وقال جلّ وعلا: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(8).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(9).

ص: 174


1- سورة المائدة، الآية: 55.
2- سورة يونس، الآية: 35.
3- سورة البقرة، الآية: 124.
4- سورة الأنبياء، الآية: 73.
5- سورة التوبة، الآية: 19.
6- سورة النبأ، الآية: 1-3.
7- سورة البقرة، الآية: 207.
8- سورة الشورى، الآية: 23.
9- سورة البينة، الآية: 7.

متابعة أئمة الحق

وقال تعالى: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(1).

قال سبحانه: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

يوم الغدير

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي، وهو اليوم الذي أمرني اللّه تعالى ذكره فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب علماً لأمتي، يهتدون به من بعدي وهو اليوم الذي أكمل اللّه فيه الدين، وأتم على أمتي فيه النعمة ورضي لهم الإسلام ديناً - ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - معاشر الناس، إن علياً مني وأنا من علي خلق من طينتي وهو إمام الخلق بعدي، يبين لهم ما اختلفوا فيه من سنتي، وهو أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين ويعسوب المؤمنين وخير الوصيين وزوج سيدة نساء العالمين وأبو الأئمة المهديين.

معاشر الناس، من أحب علياً أحببته ومن أبغض علياً أبغضته، ومن وصل علياً وصلته ومن قطع علياً قطعته، ومن جفا علياً جفوته ومن والى علياً واليته، ومن عادى علياً عاديته.

معاشر الناس، أنا مدينة الحكمة وعلي بن أبي طالب بابها ولن تؤتى المدينة إلّا من قبل الباب، وكذب من زعم أنه يحبني ويبغض علياً.

معاشر الناس، والذي بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية، ما نصبت

ص: 175


1- سورة النساء، الآية: 59.
2- سورة الأنعام، الآية: 153.

علياً علماً لأمتي في الأرض حتى نوه اللّه باسمه في سماواته وأوجب ولايته علىملائكته»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في حديث - : «فأتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام يقول لك: إن علي بن أبي طالب وصيك وخليفتك على أهلك وأمتك والذائد عن حوضك وهو صاحب لوائك يقدمك إلى الجنة...»(2).

صفات الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)

عن أبي إسحاق عن أبيه قال: بينما رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس في جماعة من أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب(عليه السلام) نحوه فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أراد أن ينظر إلى آدم في خلقه، وإلى نوح في حكمته، وإلى إبراهيم في حلمه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أقضى أمتي وأعلم أمتي بعدي علي»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أوحي إليّ في عليّ ثلاث: أنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنا قسيم اللّه بين الجنة والنار لا يدخلها داخل إلّا على حدّ قسمي وأنا الفاروق الأكبر، وأنا الإمام لمن بعدي والمؤدي عمّن كان قبلي، لا يتقدمني أحد إلّا أحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإني وإياه لعلى سبيل واحد، إلّا أنه هو المدعو باسمه، ولقد أعطيت الست: علم المنايا والبلايا والوصايا

ص: 176


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 125.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 168.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 14.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 548.
5- اليقين: 476.

وفصل الخطاب وإني لصاحب الكرات ودولة الدول، وإني لصاحب العصا والميسم والدابة التي تكلم الناس»(1).

النبأ العظيم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، أنت حجة اللّه، وأنت باب اللّه، وأنت الطريق إلى اللّه، وأنت النبأ العظيم، وأنت الصراط المستقيم وأنت المثل الأعلى.

يا علي، أنت إمام المسلمين وأمير المؤمنين وخير الوصيين وسيد الصديقين. يا علي، أنت الفاروق الأعظم وأنت الصديق الأكبر. يا علي، أنت خليفتي على أمتي وأنت قاضي ديني وأنت منجز عداتي. يا علي، أنت المظلوم بعدي. يا علي، أنت المفارق بعدي، يا علي، أنت المحجور بعدي. أشهد اللّه تعالى ومن حضر من أمتي، إن حزبك حزبي وحزبي حزب اللّه، وإن حزب أعدائك حزب الشيطان»(2).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «أول من شرى نفسه للّه علي بن أبي طالب(عليه السلام)...»(3).

دخل أبان على الإمام الرضا(عليه السلام) فقال: سألته عن قول اللّه {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(4)؟ فقال: «ذلك علي بن أبي طالب(عليه السلام)...»(5).

وعن ابن عباس قال: لما نزلت {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي

ص: 177


1- الكافي 1: 198.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 6.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 64.
4- سورة النساء، الآية: 59.
5- تفسير العياشي 1: 251.

الْقُرْبَىٰ}(1) قالوا: يا رسول اللّه، من هؤلاء الذين يأمرنا اللّه بمودتهم؟ قال: «علي وفاطمة وأولادهما»(2).

من كلام للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في التمسك بالأئمة ومتابعة أثرهم(عليهم السلام): «من أطاع إمامه فقد أطاع ربّه»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «لا تزلوا عن الحق وأهله، فإنّه من استبدل بنا أهل البيت هلك وفاتته الدنيا والآخرة»(4).

وقال(عليه السلام): «عليكم بطاعة أئمتكم، فإنّهم الشهداء عليكم اليوم، والشفعاء لكم عند اللّه غداً»(5).

وقال(عليه السلام): «شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة...»(6).

وقال(عليه السلام): «أسعد الناس من عرف فضلنا وتقرب إلى اللّه بنا وأخلص حبنا وعمل بما إليه نَدَبنا وانتهى عمّا عنه نهينا، فذاك منا وهو في دار المقامة معنا»(7).

ص: 178


1- سورة الشورى، الآية: 23.
2- بحار الأنوار 36: 166.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 632.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 764.
5- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 116.
6- عيون الحكم والمواعظ: 298.
7- عيون الحكم والمواعظ: 124.

فلسفة الحج

فلسفة الحج

قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٖ مَّعْلُومَٰتٍ}(1).

الإنسان بفطرته مدنيّ الطبع، تميل نفسه إلى الاجتماعات والتآلف مع الآخرين، والركون إلى الجماعة والاختلاط بها، وهذا هو سبب تكون المدنية وإنشاء المدن والمجتمعات الكبيرة. وهذا الميل عبارة عن غريزة فطرية موجودة في الإنسان الساعي سعياً دائباً مستمراً لإشباع غرائزه. فميله نحو التوطّن ضمن مجموعة من الناس، والعيش معهم عبارة عن إشباع لغريزته هذه. وتكوين الأسرة أيضاً صورة أخرى من صور إشباع الغريزة الاجتماعية، وغريزة الاجتماع تؤمن للإنسان حسن الألفة والاختلاط البشري ومنافع أخرى سوف نتعرض لها.

ولهذا الأمر، نرى أن الشريعة أكّدت على الاجتماع، وخير نموذج لذلك هو شعائر الحج، وصلاة الجماعة، وروايات تبين استحباب السفر مع الآخرين، وغيرها من الموارد التي تحث على الاجتماع أو الاشتراك مع الجماعة المؤمنة. وليس هذا مقتصراً على الإنسان فحسب، بل يبدو واضحاً في السلوك الجمعي لدى الحيوانات أيضاً، إذ أن الهجرة الجماعيّة للطيور مثلاً، مسألة تمثل نموذجاً

ص: 179


1- سورة الحج، الآية: 27-28.

عالي الانسجام من نماذج الفعالية الجمعية. ونجد الأمر نفسه في تجمعات النمل والنحل وغيرها.

وكل ذلك برهان عقلي على أهمية الحياة الاجتماعية وضرورتها.

إذن، مسألة الاجتماع من أساسيات بقاء ودوام المخلوقات وعلى رأسها الإنسان.

والحج يمثل أرقى وأشرف تجمع للإنسانية لما يتضمنه من فوائد ومنافع روحية، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ}(1) هذا الذكر ينمّي في الإنسان روح التعاون والمحبة.

فائدة الحج

قال تعالى: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ} اللام هنا للتعليل، والمعنى: يأتون لشهادة منافع لهم، أو: يأتون فيشهدوا منافع لهم، وقد أطلقت كلمة المنافع، ولم تتقيد بالدنيوية أو الأخروية.

والمنافع نوعان:

الأولى: منافع دنيوية، وهي التي تتقدم بها حياة الإنسان الاجتماعية، ويصفو بها العيش، وترفع بها الحوائج المتنوعة، وتكمل بها النواقص المختلفة، من أنواع التجارة والسياسة والولاية والتدبير والتعاضدات الاجتماعية.

فإذا اجتمعت أقوام وشعوب المسلمين من مختلف بقاع الأرض وأصقاعها، على ما بينهم من اختلاف في الأنساب والألوان والسنن والآداب، ثم تعارفوا بينهم على كلمة واحدة هي كلمة الحق، وإله واحد هو اللّه سبحانه، ووجهتهم واحدة، وهي الكعبة المشرفة.

ص: 180


1- سورة الحج، الآية: 28.

حينئذ يكون أداء شعائر الحج يؤدي إلى حالة اتحاد المشاعر والأحاسيس الدينية؛ وبذلك تتحد القلوب، وتتوافق الأقوال والأفعال، ويعيش الكل حالة الأمة الواحدة، ويحملون همّاً واحداً، بعد أن تخمد النعرات، وتذوب الاختلافات في بحر من الانسجام والاجتماع.

فنرى أن الحج مثلاً، ينفع كثيراً من الناحية الاقتصادية والتبادل التجاري، بانتقال أنواع السلع، واكتساب تجارب الآخرين بعد الإطلاع عليها.

كما وينفع في إشباع غريزة حبّ الاستطلاع والسياحة والمشاهدة للبلاد الأخرى. فضلاً عن المنافع الأخلاقية والفوائد الروحية الناشئة من الأجواء المعنوية التي يسببها الحج.

والثانية: منافع أخروية، وهي وجوه التقرب إلى اللّه تعالى بما يمثل عبودية الإنسان من قول وفعل، وعمل الحج بما له من مناسك تتضمن أنواع العبادات، من التوجه إلى اللّه عزّ وجلّ، وترك لذائذ الحياة، وشواغل العيش، والسعي إليه عزّ وجلّ ، بتحمل المشاق والطواف حول بيته، والصلاة، والتضحية، والإنفاق، والصيام، وغير ذلك. والحج بما فيه من مناسك يمثل دورة كاملة في مسيرة التوحيد ونفي الشريك.

ومن المنافع الأخروية الثواب الإلهي العظيم، وقد وردت الأحاديث والمرويات عن ثواب الحج وعظيم الأجر للإنسان الحاج.

فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام): «أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لقيه أعرابي فقال له: يا رسول اللّه، إني خرجت أريد الحج ففاتني وأنا رجلٌ مميلٌ(1)، فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج، قال: فالتفت إليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 181


1- مميل: أي صاحب ثروة ومال كثير.

فقال له: «انظرإلى أبي قبيس، فلو أن أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل اللّه ما بلغت به ما يبلغ الحاج، ثم قال: إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلّا كتب اللّه له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفاً ولم يضعه إلّا كتب اللّه له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، قال: فعدد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذا وكذا موقفاً إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه، ثم قال: أنى لك أن تبلغ ما يبلغ الحاج؟!» قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «و لا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر، وتكتب له الحسنات إلّا أن يأتي بكبيرة»(1).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «للحاج والمعتمر إحدى ثلاث خصال: إما يقال له: قد غفر لك ما مضى وما بقي، وإما يقال له: قد غفر لك ما مضى، فاستأنف العمل، وإما يقال له: قد حفظت في أهلك وولدك، وهي أخسهن»(2).

وقيل للإمام أبي الحسن(عليه السلام): كيف صار الحاج لا يكتب عليه ذنب أربعة أشهر من يوم يحلق رأسه؟ فقال: «إن اللّه أباح للمشركين الحرم أربعة أشهر إذ يقول: {فَسِيحُواْ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٖ}(3) فأباح للمؤمنين إذا زاروه جلاء من الذنوب أربعة أشهر وكانوا أحق بذلك من المشركين»(4).

ص: 182


1- تهذيب الأحكام 5: 19.
2- وسائل الشيعة 11: 106.
3- سورة التوبة، الآية: 2.
4- المحاسن 2: 335.

كما ورد حثّ شديد في كثير من الأدعية لأن يلحّ الإنسان على ربّه في طلبالتوفيق للحج(1). كل ذلك لما للحج من أهمية عظمى في حياة الفرد الدنيوية والأخروية، ولما له من انعكاسات روحية على المجتمع.

ملاحظة مهمّة

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا ترون أن اللّه سبحانه، اختبر الأولين من لدن آدم صلوات اللّه عليه، إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع فجعلها بيته الحرام الذي جعله للنّاس قياماً(2)، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق(3) الدنيا مدراً(4)، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة، ورمال دمثةٍ(5)...»(6).

نفهم من خلال هذه الكلمات الشريفة أن اللّه تعالى جعل الحج إلى بيته بمثابة امتحان واختبار للناس؛ لأن عادة الإنسان أنه يهوى الأماكن الجميلة، والأشياء البرّاقة، فجعل بيته في وسط الصحراء في منطقة وعرة، بعيدة عن ميل الإنسان، ليرى من يؤمن ومن يكفر.

الكعبة وبقاء الدين

اشارة

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»(7).

ص: 183


1- انظر: الأدعية اليومية لكل ليلة في شهر رمضان المبارك.
2- اشارة إلى قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ} سورة المائدة، الآية: 97.
3- النتائق: جمع نتيقة، وهي البقاع المرتفعة، ومكة مرتفعة بالنسبة لما انحط عنها من البلدان.
4- المدر: قطع الطين اليابس، وأقل الأرض مدراً لا ينبت إلّا قليلاً.
5- دمثة: لينة يصعب السير فيها والاستنبات منها.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192، من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.
7- الكافي 4: 271.

هذه الرواية تؤكد حالة التلازم والربط الوثيق بين الدين وبين بيت اللّه الحرام.وكلما بقيت الكعبة كلما كان الدين باقياً، لأنها تجذب المسلمين حولها حتى يفيقوا من سباتهم، وينفضوا غبار الجبت والطاغوت عنهم بالتلبية «لبيك اللّهم لبيك» حيث الولاء الحق؛ ولهذا نجد جميع الطواغيت وعلى مرّ العصور يحاولون طمس معالم بيت اللّه الحرام - الكعبة - واللّه يأبى ذلك.

فقد حاول أبرهة الحبشي ذلك، وقد حكى القرآن قصته في سورة الفيل فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَٰبِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٖ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٖ مِّن سِجِّيلٖ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٖ مَّأْكُولِ}(1). ثم حاول يزيد بن معاوية بعدما قتل الإمام الحسين(عليه السلام) فسيَّر في جيش الحرّة الذي كان يقوده مسلم بن عقبة وعقبه بعد هلاكه الحصين بن نمير إلى مكة لقتال عبد اللّه بن الزبير،وأتوا مكة، فحاصروا ابن الزبير وقاتلوه ورموه بالمنجنيق، وذلك في صفر سنة أربع وستين، واحترقت بشرار نيرانهم أستار الكعبة وسقفها وقرنا الكبش الذي فدى اللّه به إسماعيل(عليه السلام)، وكانا في السقف(2) فأدى ذلك إلى خراب أجزاء كثيرة من الكعبة المشرفة، فأهلك اللّه تعالى يزيد في نفس العام، وأراح الناس من شره.

ونفس الفعل قام به الحجّاج بن يوسف الثقفي بأمر من مولاه عبد الملك بن مروان(3).

كل هذه الحركات التي استهدفت الكعبة الشريفة كان، القصد من ورائها هو: ضرب الإسلام والقضاء على مهد الإسلام ورمزه الخالد بحجّة القضاء على

ص: 184


1- سورة الفيل، الآية: 1-5.
2- انظر تاريخ الخلفاء: 228.
3- انظر بحار الانوار 68: 123.

الحركة التي قامت ضد السلطة الحاكمة.

إذن، المسألة الأساسية لا تتعلق بالقضاء على الحركة المعارضة بقدر ما تتعلق بضرب الكعبة وهدمها ونسفها، وهذه هي المهمة الأولى والهدف الأساس، الذي يتربص له الاستعمار في كل فرصة يراها جيدة. إلّا أنّ اللّه عزّ وجلّ يحبط كل هذه الإرادات الضعيفة التي تريد أن تقضي على الدين الإسلامي، ومن هنا ندرك قول الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»(1).

السفر إلى بيت اللّه الحرام

في ظهيرة أحد الأيام، وفي مدينة كربلاء المقدّسة... كنّا جالسين في بيتنا حول مائدة الطعام، وفي الأثناء دخل أخي(رحمه اللّه)(2) وكان عائداً من الدرس والمباحثة. فجلس ثم بادر قائلاً لوالدي(رحمه اللّه): لقد نويت الذهاب إلى الحج هذا العام فأرجو أن تأذن لي؟ فأذن له والدي. وبالفعل فقد هيأ الحقائب ومستلزمات السفر، وسافر في عصر نفس اليوم... .

والشاهد هنا، أن السفر في تلك الأيام لأداء فريضة الحج كان بهذه السهولة والبساطة، أما اليوم فقد أدخلوا تعقيدات وقيود لها أول وليس لها آخر، من قبيل العمر والجوازات والعدد المعين، وليس هذا فحسب بل تدخلوا حتى في عبادات الحج الأخرى، والضغط على الحجاج في أماكن العبادة، وأخذوا يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بحياة الحاج اليومية، فهنا لا بد أن تقيم أيها الحاج، وغداً تذهب إلى زيارة أبي ذر (رضوان اللّه عليه)، وفي الساعة الكذائية عليك أن

ص: 185


1- الكافي 4: 271.
2- هو آية اللّه السيد حسن بن السيد مهدي الشيرازي.

تطوف. وهكذا فالحرية التي كان يتمتع بها الحاج سابقاً قد صودرت تحتحجج وأعذار وكلام مزيف ليس وراءه إلّا ما يريب، فلا يمكن بعد ذلك تطبيق الآية الكريمة: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ}(1) وقد روى الإمام الصادق(عليه السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: «سافروا تصحّوا، وجاهدوا تغنموا، وحجّوا تستغنوا»(2).

فإذا أردنا أن يكون الحج في يومنا هذا كما كان في زمن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أو على الأقل كما كان عليه في زمن آبائنا وأجدادنا، فيجب أن نعمل على نشر الأفكار المتحضرة بين المسلمين، وأن نوقظ بعض المسلمين من سباتهم، وذلك بتوعيتهم وتحريرهم من الأُصر والأغلال التي وضعتها أنظمة الحكم الجائرة على أعناقهم، ومن ثم نوضح لهم ونبيّن خطأ التصورات والمفاهيم التي تروج لها السلطات الجائرة، لتطبع الإسلام بصفات بعيدة عن روحه وأصالته، واصمةً إياه بطابع الحزبية الضيّق وطابع القومية البغيض.

فالعمل أولاً على تحرير إرادة المسلمين فرداً فرداً، لكي يكون اختيارهم سليماً، ولأجل أن يميزوا بين الحكومات الباطلة والحقة، فإن الاختيار من لوازم الإرادة، وكلما قويت الإرادة كان الاختيار صحيحاً وبالعكس.

فالحج أقوى مظهر إسلامي، ومن خلاله يوصل المسلمين أفكارهم وآراءهم حول الكون والحياة، وكل ما يتعلق بعقيدتهم إلى كل بقاع العالم. والحج من أعظم الوسائل التي يستطيع خلالها المسلمون إظهار القوة والعزة والمنعة؛ لأنّ إظهار القوة أمام العدو واجب شرعي، ليرى أعداء الإسلام قوة الإسلام وتماسك الأمة الإسلامية فيرتدعوا عن غيّهم وتآمرهم علينا، والعودة إلى الإسلام والإيمان

ص: 186


1- سورة الحج، الآية: 28.
2- المحاسن 2: 345.

الحقيقي هو الطريق الوحيد الذي يوصل المسلمين إلى منابع القوة والهيبة،ويجعلهم أمة عزيزة كريمة تستطيع مواجهة الأعداء وإفشال مؤامراتهم وكيدهم، فالحج عبادة تعبّئ المسلم وترفده وتزيده قوة فلا يخشى أية قوة مهما تجبرت وطغت، وكيف يخشى المسلم تلك القوى وهو مؤمن بأنها أمام قوة اللّه تعالى ليست شيئاً مذكوراً.

صلاة الجماعة بإمامة الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه)

والأمر الآخر: والذي يقوّي المسلمين هو اتصالهم بعضهم ببعض في الحج ومن كافة الدول والأقطار، فيؤدي ذلك إلى رفع مستوى الوعي السياسي عند المسلمين.

إن الحج قبل (36 عام)، والذي شاهدته أنا بعيني، كان عبارة عن محور لاتحاد عميق بين المسلمين، بمختلف الجنسيات واللغات، وكانوا متآلفين منسجمين متحدين مع بعضهم، وكان هذا عاملاً مهماً في اطّلاع البعض على أحوال البعض الآخر. وهناك مظاهر أخرى تكشف عن روح التلاحم، ومن المصاديق الواقعية التي تثبت وجود مثل هذه الروح التواقة للتوادّ والانسجام أنه حينما أقام والدي(رحمه اللّه) صلاة الجماعة في (باغ مرجان) في المدينة المنوّرة انضمّ إليه جمع غفير من السنّة والشيعة والأبيض والأسود من كل طوائف المسلمين على اختلاف ألوانهم وبلدانهم، وهم يقفون خلفه لأداء صلاة الجماعة، إلّا أنّ الأيادي المعادية للإسلام والتي تهددها وحدة المسلمين، وقفت أمام هذا الاتحاد العظيم، وعملت على تقليصه ثم تفتيته، وفرض برامج خاصة على الحجاج يجب أن يلتزموا بها.

وهناك روايات تؤكد أن الهدف من الحج هو ذكر اللّه أولاً، ثم التأسي برسول

ص: 187

اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فحينما يشاهد الناس آثاره(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومشاهده الكريمة، فإنهم يستذكرونويعيشون أيام اللّه، وبزوغ أنوار الرسالة الخاتمة، ويتذكرون أتعاب وتضحيات وجهود الرسول العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أجل تثبيت أسسها وأركانها. أما التبادل الثقافي والتعرف على مشاكل المسلمين وإيجاد الحلول المناسبة لها، فهي من ضروريات الاهتمام بأمور المسلمين. فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال:

«... فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب، ليتعارفوا وليتربح كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كل قوم إنما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقط الجلب والأرباح وعميت الأخبار، ولم يقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج»(1).

ولعل أهم شيء هو قوله(عليه السلام): «وعميت الأخبار» فإنّ الحج نافذة واسعة تعطي فرصة عظيمة للمسلمين في تبادل الأخبار، لأن عادة السلطات الجائرة تمنع الأخبار المهمة التي تخصّ المسلمين عن شعبها المسلم فتحاول التكتم عليها فالحج يفتح هذه الفرصة، ولذلك يقول الإمام(عليه السلام) لولا الحج ل«عميت الأخبار»، أي لأصبح هناك مانع من انتشار الأخبار إلى المسلمين الباقين.

فهذه الأمور المستفادة من الحج إضافة إلى العبادة والغفران.

التأسي بالإمام الحسين(عليه السلام)

جاء عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «لما أمر اللّه تبارك وتعالى إبراهيم(عليه السلام) أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش، الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم(عليه السلام) أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل(عليه السلام) بيده، وأنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما

ص: 188


1- علل الشرائع 2: 405.

يرجع إلى قلب الوالد، الذي يذبح أعزّ ولده بيده، فيستحق بذلك أرفع درجات أهلالثواب على المصائب، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، من أحب خلقي إليك؟ فقال: يا رب ما خلقت خلقاً هو أحب إلي من حبيبك محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم). فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، أفهو أحب إليك أو نفسك؟ قال: بل هو أحب إلي من نفسي، قال: فولده أحب إليك أو ولدك؟ قال: بل ولده. قال: فذبح ولده ظلماً على أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟

قال: يا رب بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.

قال: يا إبراهيم فإن طائفة تزعم أنها من أمة محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ستقتل الحسين(عليه السلام) ابنه من بعده ظلماً وعدواناً، كما يذبح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم(عليه السلام) لذلك وتوجع قلبه، وأقبل يبكي. فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، قد قبلت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك، بجزعك على الحسين(عليه السلام) وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، فذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {وَفَدَيْنَٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٖ}(1) ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم»(2).

ولا شك من أن الامتحانات الصعبة التي جرت على إبراهيم(عليه السلام) كانت بأمر اللّه تعالى له بذبح ابنه إسماعيل الذي أعانه في ما بعد في بناء الكعبة المشرفة. واللّه تعالى كان دائماً يذكّر الأنبياء بمأساة الحسين(عليه السلام) ليكون شخصه وعمله دافعاً قوياً لحركتهم، وسبباً لبلوغهم أعلى مراتب الثواب، كما مرّ مع شيخ الأنبياء إبراهيم، وابنه(عليهما السلام)، فلقد حصل إبراهيم على أعلى درجات الثواب من خلال بكائه وحزنه على أبي عبد اللّه(عليه السلام).

ص: 189


1- سورة الصافات، الآية: 107.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 209.

إذن تبقى مأساة الحسين فريدةً من نوعها ولا يصل أحد إلى درجة الصبروالاحتساب التي وصل إليها الحسين(عليه السلام)، لذلك أعلم اللّه ذلك المعنى إلى إبراهيم(عليه السلام)، لكي لا يتصور إبراهيم الخليل أن عمله هذا هو أعظم مصاباً وأثقل امتحاناً، بل أن مصاب أبي عبد اللّه(عليه السلام) أعظم منه، لذلك فدى اللّه إسماعيل بكبش عظيم من جنّته. وأن الإمام الحسين(عليه السلام) أشرف بكثير من الكعبة، ولولا حركته وثورته العظيمة على الباطل لما بقيت الكعبة، ولما بقي الحج بصورته الصحيحة إلى يومنا هذا.

زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)

ونجد في الروايات أن زيارة الحسين(عليه السلام) تعدل كذا حجّة وكذا عمرة.

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «من زار الحسين فقد حجّ واعتمر» فقيل: تطرح عنه حجّة الإسلام؟ قال: «لا هي حجّة الضّعيف حتّى يقوى ويحجّ إلى بيت اللّه الحرام - إلى أن قال - وإنّ الحسين لأكرم على اللّه من البيت؛ فإنّه في وقت كلّ صلاةٍ لينزل عليه سبعون ألف ملك شعث غبر لا تقع عليهم النّوبة إلى يوم القيامة، وإنّ البيت يطوف به سبعون ألف ملك كلّ يوم»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من زار الحسين(عليه السلام) يوم عرفة عارفاً بحقّه كتب اللّه له ألف حجّة مقبولة وألف عمرة مبرورة»(2).

وعن أبي سعيد المدائني قال: دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك آتي قبر الحسين(عليه السلام)؟ قال: «نعم يا أبا سعيد، فائت قبر ابن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أطيب الطيبين وأطهر الطاهرين وأبر الأبرار، فإذا زرته كتب اللّه لك به خمساً

ص: 190


1- وسائل الشيعة 14: 453.
2- وسائل الشيعة 14: 463.

وعشرين حجة»(1).

وعن شهاب عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سألني فقال: «يا شهاب، كم حججت من حجة؟» فقلت: تسعة عشرة حجة فقال لي: «تممها عشرين حجة تحسب لك بزيارة الحسين(عليه السلام)»(2).

وعن صالح النيلي قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من أتى قبر الحسين(عليه السلام) عارفاً بحقه كان كمن حج مائة حجة مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(3).

وقال(عليه السلام): «من زار الحسين(عليه السلام) كتب اللّه له ثمانين حجة مبرورة»(4).

وعن موسى بن القاسم الحضرمي قال: قدم أبو عبد اللّه(عليه السلام) في أول ولاية أبي جعفر فنزل النجف فقال: «يا موسى اذهب إلى الطريق الأعظم فقف على الطريق فانظر، فإنه سيأتيك رجل من ناحية القادسية فإذا دنا منك فقل له: هاهنا رجل من ولد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدعوك فسيجي ء معك» قال: فذهبت حتى قمت على الطريق والحر شديد فلم أزل قائماً حتى كدت أعصي وأنصرف وأدعه، إذ نظرت إلى شيء يقبل شبه رجل على بعير، فلم أزل أنظر إليه حتى دنا مني فقلت: يا هذا، هاهنا رجل من ولد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدعوك وقد وصفك لي، قال: اذهب بنا إليه قال: فجئت به حتى أناخ بعيره ناحية قريباً من الخيمة فدعا به، فدخل الأعرابي إليه ودنوت أنا فصرت إلى باب الخيمة أسمع الكلام ولا أراهم.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من أين قدمت؟» قال: من أقصى اليمن قال: «أنت من موضع كذاو كذا؟» قال: نعم، أنا من موضع كذا وكذا قال: «فبما جئت

ص: 191


1- الكافي 4: 581.
2- كامل الزيارات: 162.
3- كامل الزيارات: 162.
4- كامل الزيارات: 162.

هاهنا؟»قال: جئت زائراً للحسين(عليه السلام)، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «فجئت من غير حاجة ليس إلّا للزيارة؟» قال: جئت من غير حاجة إلّا أن أصلي عنده وأزوره فأسلم عليه وأرجع إلى أهلي، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «وما ترون في زيارته؟» قال: نرى في زيارته البركة في أنفسنا وأهالينا وأولادنا وأموالنا ومعايشنا وقضاء حوائجنا قال: فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أ فلا أزيدك من فضله فضلاً يا أخا اليمن؟» قال: زدني يا ابن رسول اللّه قال: «إن زيارة الحسين(عليه السلام) تعدل حجة مقبولة زاكية مع رسول اللّه» فتعجب من ذلك قال: «إي واللّه وحجتين مبرورتين متقبلتين زاكيتين مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)» فتعجب، فلم يزل أبو عبد اللّه(عليه السلام) يزيد حتى قال: «ثلاثين حجة مبرورة متقبلة زاكية مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1).

وعن يزيد بن عبد الملك قال: كنت مع أبي عبد اللّه(عليه السلام) فمر قوم على حمير فقال لي: «أين يريدون هؤلاء؟» قلت: قبور الشهداء قال: «فما يمنعهم من زيارة الغريب الشهيد؟» فقال له: رجل من أهل العراق زيارته واجبة؟ فقال: «زيارته خير من حجة وعمرة وعمرة وحجة - حتى عد عشرين حجة وعشرين عمرة - مبرورات متقبلات» قال: فو اللّه ما قمت حتى أتاه رجل فقال: إني قد حججت تسع عشرة حجة فادع اللّه أن يرزقني تمام العشرين قال: «فهل زرت الحسين(عليه السلام)» قال: لا قال: «لزيارته خير من عشرين حجة»(2).

الاستعمار وشعائرنا الدينية

اشارة

تبين ممّا تقدم أنّ من الأهداف الأساسية للحج اتحاد وتعارف واختلاط المسلمين، وهذا الأمر يؤدي إلى قوة المسلمين، وانتشار أخبارهم في كل بقعة

ص: 192


1- كامل الزيارات: 162.
2- كامل الزيارات: 163.

معمورة يسكنونها مما يجعل التلاحم سريعاً والتوادد كبيراً في ما بينهم.

ومن هنا تحرك الاستعمار أمام هذه التظاهرة العبادية، فوقف رئيس الوزراء البريطاني أمام مجلس العموم وقال لهم: إذا أردتم أن يكون لكم في البلاد الإسلامية موطئ قدم، فيجب أن تعملوا على رفع القرآن منهم، وإيقافهم عن الحج(1).

فبدأوا بوضع العراقيل أمام هذه المسيرة الإلهية العظيمة وأمام هذه الشعائر الجليلة، لأنهم أدركوا المغزى البعيد من الحج، فبدأت القلوب ترتجف من هذا الزحف الإسلامي العظيم، متوقعين بين لحظة وأخرى أن هذه الجموع تزحف نحوهم، لتقضي على كل هياكل الظالمين. وعادة الاستعمار جارية على أن لا يتحرك هو بنفسه، بل يحرّك أذنابه، ومن يدور في فلكه، ومن نصّبه لأجل هذه الأهداف. فبدأوا بوضع مختلف العراقيل أمام فريضة الحج منها:

تقليص عدد الحجاج وفرض رقم خاص، بحجة أن الأماكن العبادية مثل عرفات لا تستوعب أكثر من هذا العدد. بينما تواترت الروايات الشريفة على أن عرفات لها نقطة مركزية خاصة ولكن إذا ضاق المكان بالناس فلا يكلفون فوق طاقتهم ووسعهم، فإن اللّه تعالى أعطى رخصة عامة ووسّع منطقة الوقوف فيها. إضافة إلى باقي التسهيلات الإلهية العظيمة، مثل: من لم يجد الهدي فبدله صيام عشرة أيام ومن لم يستطع رمي الجمرات نهاراً فليرمها ليلاً، وغيرها الكثير من التسهيلات فضلاً عن تسهيل مسألة الحج بصورة كلية من ناحية الرزق والتوفيق. وكل هذه التسهيلات والرخص الإلهية من قبل المولى جلّ وعلا؛ نظراً لأهمية الحج وفائدته الحضارية، في انتشار القيم وبناء هيكل إسلامي موحد وحصين،

ص: 193


1- القائل هو رئيس الوزراء البريطاني وليم غلادستون (1809-1898م).

إضافة إلى فوائده الروحية الكثيرة(1).

والاستعمار يدرك هذا المعنى فعمل على خلق وصياغة معوّقات أمام مسيرة الإسلام الظافرة، فخلقوا مذاهب وتيارات جديدة باسم الإسلام، ولكنها تعارض كل المسلمين في كل شي فكراً وعقيدة وسلوكاً مثل الوهابية ليكونوا حجر عثرة أمام الإسلام والمسلمين، إذ قاموا بهدم قبور أئمة البقيع (صلوات اللّه عليهم)، وقبور الصحابة والأعلام أمثال قبر عبد المطلب وأبي طالب وخديجة وآمنة بنت وهب وغيرهم (رضوان اللّه عليهم أجمعين) بغية خلق جوّ من التوتر والتشنّج بين المسلمين، وزيادة مظاهر التشاحن والطعن في ما بينهم. إضافة إلى الأفكار المغلّفة بأغلفة إسلامية وباطنها ليس من الإسلام في شيء. والهدف في صناعة هذه التيارات والاتجاهات المنحرفة هو القضاء على كل مظهر من مظاهر الوحدة الإسلامية، حتى وإن كان شكلياً فضلاً عن محاربة الحج الذي يعدّونه من أقوى مظاهر الاتحاد والتلاحم بين المسلمين.

ما هو المطلوب؟

إن الطريق الذي نستطيع به إزالة العراقيل التي وضعها الاستعمار الكافر لطمس وتشويه شعائرنا، هو القلم والبيان والخطاب حتى يصل صوتنا إلى كل بقاع المسلمين، جادين مخلصين في القضاء على حالات الجهل، وحالة عدم الوعي عند المسلمين، والتي يستغلها الاستعمار وأعداء الإسلام لتمرير مخططاته الخبيثة. وأن نهتم اهتماماً كبيراً بالمستوى الثقافي وزيادة الوعي. وأن يكون شعورنا بالمسؤولية شعوراً يتوازن مع خطورة الأحداث التي تجري في

ص: 194


1- انظر كتاب ليحج خمسون مليوناً كل عام، ولكي يستوعب الحج عشرة ملايين، وراجع الفقه كتاب الحج للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

الحج وعلى ساحتنا الإسلامية، إذ أن الاهتمام بأمور المسلمين وقضاياهم يعدّ ضرورة شرعية وواجباً إسلامياً تقع على عاتق جميع المسلمين، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(1).

وقال(عليه السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2).

والمهم أن لا يستصغر المسلم نفسه، بل عليه أن يخرج من الحالة الانهزامية الداخلية، ويصبح ثورة على الواقع الخاوي. وأن يقف بوجه تحركات الاستعمار وأذنابه، لا سيّما في المناطق الإسلامية؛ لأن الاستعمار مهما عمل من عمل فهو على المستوى القريب والبعيد لا يخدم المسلمين ولا الإسلام، وإن كان في ظاهره يحمل طابعاً إسلامياً، ذلك لعدم وجود أي نقطة اشتراك والتقاء بين الإسلام والاستعمار، فالأول يدعو إلى اللّه عزّ وجلّ وتعبيد الناس له لأنه خالقهم وله حق الطاعة وتحريرهم من أي سيطرة استعبادية لغيره، بينما الاستعمار يدعو إلى القضاء على فكرة الدين والخالق والعبادة، ويسعى نحو استعباد الناس له، وامتصاص خيرات بلادهم.

«إلهي أغنني بتدبيرك لي عن تدبيري، وباختيارك عن اختياري وأوقفني على مراكز اضطراري، إلهي أخرجني من ذلّ نفسي، وطهّرني من شكي وشركي قبل حلول رمسي، بك أنتصر فانصرني وعليك أتوكل فلا تكلني وإيّاك أسأل فلا تخيّبني وفي فضلك أرغب فلا تحرمني»(3) بحق محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 195


1- الكافي 2: 164.
2- الكافي 2: 164.
3- بحار الأنوار 95: 226.

من هدي القرآن الحكيم

الشريعة تدعو إلى اللّه

1- الوحدة والاجتماع

قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

وقال سبحانه: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(4).

2- الحج

قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ}(5).

وقال سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ * فِيهِ ءَايَٰتُ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(6).

ص: 196


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة المؤمنون، الآية: 52.
3- سورة آل عمران، الآية: 103.
4- سورة آل عمران، الآية: 105.
5- سورة الحج، الآية: 27.
6- سورة آل عمران، الآية: 96-97.
3- إيقاظ الفكر

قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَاإِلَّا بِالْحَقِّ}(1).

وقال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

علة فريضة الحج

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه ولوه الحمام، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته، واختار من خلقه سُماعاً أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علماً، وللعائذين حرماً، فرض حقه وأوجب حجه، وكتب عليكم وفادته، فقال سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}»(4)(5).

ص: 197


1- سورة الروم، الآية: 8.
2- سورة النحل، الآية: 44.
3- سورة الروم، الآية: 21.
4- سورة آل عمران، الآية: 97.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 1 في خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها بدء الخلق... .

ولتعرف آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره

سئل الإمام الصادق(عليه السلام): عن العلة التي من أجلها كلف اللّه العباد الحج والطواف بالبيت؟ فقال: «إن اللّه تعالى خلق الخلق - إلى أن قال - وأمرهمونهاهم ما يكون من أمر الطاعة في الدين ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب ليتعارفوا، وليتربَّح كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كل قوم إنما يتكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح وعميت الأخبار، ولم يقفوا على ذلك، فذلك علة الحج»(1).

الوفادة إلى اللّه

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إنما أمروا بالحج لعلّة الوفادة إلى اللّه عزّ وجلّ وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحر والبرد، ثابتاً على ذلك، دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها ومن في البر والبحر، ممن يحج وممن لم يحج، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين ومكار وفقير وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع، الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه، ونقل أخبار الأئمة(عليه السلام) إلى كل صقع وناحية، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ

ص: 198


1- علل الشرائع 2: 405.

إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1) و: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ}»(2)(3).

نداء إبراهيم(عليه السلام)

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «إن اللّه لما أمر إبراهيم ينادي في الناس الحج قام على المقام فارتفع به حتى صار بإزاء أبي قبيس، فنادى في الناس بالحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أن تقوم الساعة»(4).

هذا بيت استعبد اللّه به خلقه

وعن الفضل بن يونس قال: أتى ابن أبي العوجاء الصادق(عليه السلام) فجلس إليه في جماعة من نظرائه ثم قال له: يا أبا عبد اللّه، إن المجالس أمانات ولا بد بكل من كان به سعال أن يسعل، فتأذن لي في الكلام؟

فقال الصادق(عليه السلام): «تكلم بما شئت».

قال ابن أبي العوجاء: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، من فكر في هذا أو قدر علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه ونظامه؟

فقال الصادق(عليه السلام): «إن من أضله اللّه وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذبه، وصار الشيطان وليه يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد اللّه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وقد

ص: 199


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة الحج، الآية: 28.
3- وسائل الشيعة 11: 13.
4- وسائل الشيعة 11: 15.

جعله محل الأنبياء، وقبلة المصلين له، وهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجتمع العظمة، خلقه اللّه قبل دحو الأرض بألفي عام، وأحق من أطيع في ما أمر وانتهى عمّا نهى عنه وزجر اللّه المنشئ للأرواحوالصور»(1).

لا تتركوا الحج

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «لا تتركوا حج بيت ربكم، لا يخل منكم ما بقيتم، فإنكم إن تركتموه لم تنظروا، وإن أدنى ما يرجع به من أتاه أن يغفر له ما سلف»(2).

وقال(عليه السلام): «ولا تتركوا حجّ بيت ربّكم فتهلكوا - وقال(عليه السلام) - من ترك الحج لحاجة من حوائج الدنيا لم تقض حتى ينظر إلى المحلقين»(3).

ثواب الحاج

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلّا كتب اللّه له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفاً ولم يضعه إلّا كتب اللّه له مثل ذلك، وإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، وإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، وإذا وقف بالمشعر خرج من ذنوبه، وإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، فعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذا وكذا موطناً كلها تخرجه من ذنوبه، ثم قال: فأنى لك أن تبلغ ما بلغ الحاج»(4).

ص: 200


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 617.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 522.
3- وسائل الشيعة 11: 23.
4- ثواب الأعمال: 47.

تتسع أرزاقكم

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «حجوا واعتمروا، تصح أجسامكم وتتسع أرزاقكم، وينصلح إيمانكم، وتكفّوا مؤنة عيالكم»(1).قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «قال علي بن الحسين(عليهما السلام): حجوا واعتمروا تصح أبدانكم وتتسع أرزاقكم وتكفون مئونات عيالكم، وقال: الحاج مغفور له، وموجوب له الجنة، ومستأنف له العمل، ومحفوظ في أهله وماله»(2).

من أمّ هذا البيت

قال الإمام أبو جعفر الباقر(عليهما السلام): «من أَمّ هذا البيت حاجاً أو معتمراً مبرأً من الكبر، رجع من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، ثم قرأ: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ}»(3)(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «الحاج يصدرون على ثلاث أصناف: صنف يعتق من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف يحفظه في أهله وماله، فذاك أدنى ما يرجع به الحاج»(5).

إذا أردت الحج

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك للّه عزّ وجلّ من قبل عزمك من كلّ شاغل وحجب كل حاجب، وفوّض أمورك كلها إلى خالقها، وتوكّل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكونك، وسلّم لقضائه وحكمه

ص: 201


1- ثواب الأعمال: 47.
2- الكافي 4: 252.
3- سورة البقرة، الآية: 203.
4- الكافي 4: 252.
5- ثواب الأعمال: 48.

وقدره، ودع الدّنيا والرّاحة والخلق، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوّتك وشبابك ومالك؛ مخافة أن تصير ذلك أعداءاً ووبالاً؛ ليعلم أنّه ليس له قوّة ولا حيلة، ولا حد إلّا بعصمة اللّه تعالى وتوفيقه. واستعدّ استعداد من لا يرجو الرّجوع، وأحسنالصّحبة، وراع أوقات فرائض اللّه تعالى وسنن نبيّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصّبر والشّكر والشّفقة والسّخاء وإيثار الرّاد على دوام الأوقات.ثمّ اغتسل بماء التّوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصّدق والصّفاء والخضوع والخشوع. وأحرم عن كلّ شيء يمنعك عن ذكر اللّه عزّ وجلّ ويحجبك عن طاعته. ولبّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية للّه عزّ وجلّ في دعوتك، له متمسّكاً بالعروة الوثقى. وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت. وهرول هرولة فرّاً من هواك، وتبرّياً من جميع حولك وقوّتك، واخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلى منى. ولا تمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه. واعترف بالخطأ بالعرفات، وحدّد عهدك عند اللّه تعالى بوحدانيّته وتقرّب إليه واتّقه بمزدلفة. واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل. واذبح حنجرة الهوى والطّمع عند الذّبيحة. وارم الشّهوات والخساسة والدّناءة والأفعال الذّميمة عند رمي الجمارات. واحلق العيوب الظّاهرة والباطنة بحلق شعرك. وادخل في أمان اللّه تعالى وكنفه وستره وحفظه وكلائه من متابعة مرادك بدخول الحرم وزر البيت متحففاً لتعظيم صاحبه ومعرفته وجلاله وسلطانه. واستلم الحجر رضًى بقسمته وخضوعاً لعظمته. ودع ما سواه بطواف الوداع. وصف روحك وسرّك للقاء اللّه تعالى يوم تلقاه بوقوفك على الصّفا. وكن ذا مروة من اللّه بفناء اوصافك عند المروة. واستقم على شرط حجّك

ص: 202

ووفاء عهدك الّذي عاهدت ربّك، وأوجبته له يوم القيامة. واعلم بأنّ اللّه لم يفترض الحجّ ولم يخصّه من جميع الطّاعات بالإضافة إلى نفسه، بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَىالنَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}(1) ولا شرع نبيّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خلال المناسك على ترتيب ما شرعه إلّا للاستعداد والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة، وفضل بيان السّبق من دخول الجنّة أهلها. ودخول النّار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أوّلها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النّهى»(2).

الحج على الجميع

عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): الحج على الغني والفقير؟ فقال: «الحج على الناس جميعاً، كبارهم وصغارهم فمن كان له عذر عَذَره اللّه»(3).

ترك الحج بغير عذر

وسئل جعفر بن محمد(عليهما السلام): عن الرجل يسوف الحج، لا تمنعه إلّا تجارة تشغله أو دين له؟ قال: «لا عذر له ليس ينبغي له أن يسوف الحج، وإن مات فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام»(4).

وعنه(عليه السلام) أنه قال: «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم تمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه فليمت يهودياً أو نصرانياً»(5).

ص: 203


1- سورة آل عمران، الآية: 97.
2- مصباح الشريعة: 47.
3- الكافي 4: 265.
4- بحار الأنوار 96: 22.
5- الكافي 4: 269.

من أراد الحج

عن عبد اللّه بن الفضل قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إن علي ديناً كثيراً ولي عيالولا أقدر على الحج، فعلمني دعاءً أدعو به.

فقال: «قل في دبر كل صلاة مكتوبة: اللّهم صل على محمد وآل محمد، واقض عني دين الدنيا ودين الآخرة» فقلت له: أما دين الدنيا فقد عرفته، فما دين الآخرة؟ فقال: «دين الآخرة الحج»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من قال ألف مرة: لا حول ولا قوة إلّا باللّه، رزقه اللّه تعالى الحج، فإن كان قد قرب أجله أخّره اللّه في أجله حتى يرزقه الحج»(2).

الشريعة تدعو إلى الوحدة والاجتماع

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وألزموا السواد الأعظم فإن يد اللّه مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب»(3).

وقال(عليه السلام): «...إن الشيطان يسني لكم طرقه، ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة، ويعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة، فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته، واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم واعقلوها(4)

على أنفسكم»(5).

إيقاظ الفكر والتنبه من الغفلة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وأغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى

ص: 204


1- معاني الأخبار: 175.
2- بحار الأنوار 96: 27.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127، من كلام له(عليه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين.
4- يُسني: يُسهل، فاصدفوا: فأعرضوا، نزغاته: وساوسه، اعقلوها: احبسوها على أنفسكم لا تتركوها فتضيع منكم.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 121 قالها(عليه السلام) بعد ليلة الهرير.

حال»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فأفق أيها السامع من سكرتك، واستيقظ من غفلتك، واختصر من عجلتك، وأنعم الفكر في ما جاءك على لسان النبي الأمي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(2).

خشية اللّه

وقال(عليه السلام): «إن للّه عباداً كسرت قلوبهم خشية اللّه فاستنكفوا عن المنطق، وإنهم لفصحاء بلغاء ألباء نبلاء، يستبقون إليه بالأعمال الزاكية، لايستكثرون له الكثير ولا يرضون له القليل، يرون أنفسهم أنهم شرار وإنهم الأكياس الأبرار»(3).

الخير كله

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «جمع الخير كله في ثلاث خصال: النظر والسكوت والكلام، فكل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكل سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو، فطوبى لمن كان نظره عبراً، وسكوته فكراً وكلامه ذكراً وبكى على خطيئته وأمن الناس شره»(4).

اتقوا اللّه

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) - في رسالة إلى أصحابه - : «فاتقوا اللّه وكفوا ألسنتكم إلّا من خير - إلى أن قال - وعليكم بالصمت إلّا في ما ينفعكم اللّه به من أمر آخرتكم، ويأجركم عليه، وأكثروا من التهليل والتقديس والتسبيح والثناء

ص: 205


1- معاني الأخبار: 195.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 153 وفيها يعظ الناس.
3- الزهد: 5.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 27.

على اللّه، والتضرع إليه، والرغبة في ما عنده من الخير، الذي لا يقدر قدره ولا يبلغ كنهه أحد، فاشغلوا ألسنتكم بذلك عمّا نهى اللّه عنه من أقاويل الباطل،التي تعقب أهلها خلوداً في النار من مات عليها ولم يتب إلى اللّه ولم ينزع عنها»(1).

الخصال الحسنة

قال أبو جعفر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لم يعبد اللّه عزّ وجلّ بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلا حتى تجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول والشر منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقل كثير الخير من نفسه...»(2)

ص: 206


1- وسائل الشيعة 12: 196.
2- روضة الواعظين 1: 7.

في رحاب السيدة المعصومة(عليها السلام)

اشارة

في رحاب السيدة المعصومة(عليها السلام)(1)

ذكرى استشهاد السيدة المعصومة(عليها السلام)

العاشر من شهر ربيع الثاني يصادف - على قول - يوم استشهاد كريمة أهل البيت السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام) بنت الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام).

فبعض العلماء والأساتذة في الحوزة العلمية المباركة قد أعلن اليوم عطلة، والبعض الآخر استمر بالدراسة. ومن المناسب في هكذا أمور أن تنظم من قبل شورى الفقهاء المراجع، وأن تعين شؤون الحوزة بأكثرية الآراء، حتى يزول التشتت والاختلاف، وقد أشار القرآن الحكيم وفي ثلاثة مواضع إلى مسألة الاستشارة وبثلاث صيغ: {شُورَىٰ} و{شَاوِرْهُمْ} و{تَشَاوُرٖ}، والتي تعني أكثرية الآراء. وقد كتبنا حول هذا الموضوع كتاباً تحت عنوان: (الشورى في الإسلام)(2).

ص: 207


1- ألقيت المحاضره في عام (1414ه).
2- من تأليفات الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) تناول سماحته فيه إلى المواضيع التالية: الفصل الأول: توضيح جوانب من الشورى، المشير والمستشير، المشورة، هل تلزم المشورة، هل يلزم المستشار، كم قدر المشورة. الفصل الثاني: تفصيل الحزب وأقسامه، الأحزاب الدكتاتورية، فشل الأحزاب السياسية في العالم الثالث، الهيكلية العامة للأحزاب السياسية، العلاقات الداخلية في التنظيمات، أقسام التمركز، بدل العضوية، الأحزاب الديمقراطية والدكتاتورية، الأحزاب السياسية والمؤسسات الحكومية، النظام القائم على الحزبين، التجمعات الضاغطة، اللجوء إلى السرية، الفرق بين مجموعات النفوذ والأحزاب السياسية، الزعماء الحقيقيون للأحزاب السياسية، الرأي العام، النظام الحزبي، البرلمان، الحزب والانتخابات. الفصل الثالث: جملة من روايات المشورة.

وما لم يتحقق هذا الأمر؛ فإن الاختلافات ستبقى قائمة في الحوزة.قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1).

وقال سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2).

وقال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٖ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٖ}(3).

وعلى كل حال فقد رأينا اليوم القيام بعمل وسط بين البحث الفقهي وعدمه، حيث سنبحث بعون اللّه تعالى بحثاً أخلاقياً بالمعنى الأعم في ثلاثة مواضيع:

الموضوع الأول: نبذة عن حياة السيدة المعصومة(عليها السلام)

ولادتها ووفاتها

وُلدت السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام) بنت الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، في غرة ذي القعدة سنة (173ه.) ووردت قم المقدسة في سنة (201ه)، وتوفيت بها مسمومة شهيدة في العاشر من ربيع الثاني من نفس العام.

روي أنها خرجت في طلب أخيها الإمام الرضا(عليه السلام)، فلما وصلت إلى (ساوة) مرضت.

أقول: كان مرضها على أثر السم، على ما سيأتي.

فسألت: كم بيني وبين قم؟

قالوا: عشرة فراسخ.

فأمرت خادمها، فذهب بها إلى قم(4) وأنزلها في بيت موسى بن خزرج بن

ص: 208


1- سورة الشورى، الآية: 38.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة البقرة، الآية: 233.
4- دخلت السيدة المعصومة(عليها السلام) إلى قم المقدسة في تاريخ 23 ربيع الأول عام (201ه ) عن طريق مدينة (ساوة) وفي مثل هذا اليوم يحتفل القميون بقدومها ويزينون الشوارع والأزقة تكريماً لها.

سعد. فكانت فيها ستة عشر يوماً، ثم فارقت الحياة، فدفنها موسى بعد التغسيلوالتكفين في أرض له، وهي التي الآن مدفنها ومزارها، وبنى على قبرها سقفاً من البواري، ثم بنت زينب بنت الإمام الجواد(عليه السلام) عليها قبة، ثم دفنت بجوارها عدد من بنات الإمام الجواد(عليه السلام) وغيرهن من ذراري الأئمة المعصومين(عليهم السلام)(1).

واليوم روضتها المقدسة مزار وملاذ للمؤمنين من مختلف بقاع العالم.

من فضائلها(عليها السلام)

وردت في حق السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام) وفي فضل زيارتها أحاديث عديدة من الأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

كما بشّر الإمام الصادق(عليه السلام) بولادتها، وقال بأنها سوف تدفن في قم ولها مقام الشفاعة.

حيث روي عنه(عليه السلام) أنه قال:

«إن للّه حرماً وهو مكة، ألّا إن لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حرماً وهو المدينة، ألّا وإن لأمير المؤمنين(عليه السلام) حرماً وهو الكوفة، ألّا وإن قم الكوفة الصغيرة، ألّا إن للجنة ثمانية أبواب، ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم»(2).

وفي رواية قال الإمام الصادق(عليه السلام): «مرحباً بإخواننا من أهل قم... إن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة». قال الراوي: وكان هذا الكلام منه(عليه السلام) قبل أن يولد الكاظم(عليه السلام)(3).

ص: 209


1- انظر بحار الأنوار 48: 290.
2- بحار الأنوار 57: 228.
3- مستدرك الوسائل 10: 368.

وفي رواية أخرى قال(عليه السلام): «إن زيارتها تعادل الجنة»(1).

وروى المحدث الجليل صاحب الوسائل في باب استحباب زيارة قبر فاطمة بنت موسى بن جعفر(عليهم السلام) بقم، عن سعد بن سعد قال: سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفر(عليهم السلام) بقم، فقال(عليه السلام): «من زارها فله الجنة»(2).

وعن ابن الرضا (الإمام الجواد) (عليه السلام): «من زار قبر عمتي بقم فله الجنة»(3).

إلى غيرها من الروايات.

وتوفيت مسمومة شهيدة

الميرزا القمي(رحمه اللّه) صاحب القوانين المدفون بقرب الروضة المعصومية المباركة، له عدة مؤلفات قيمة، أشهرها (قوانين الأصول)، وله كتاب آخر على شكل السؤال والجواب تحت عنوان: (جامع الشتات) في ثلاث مجلدات، وهو كتاب فقهي كثير الفائدة وقد اشتمل على بعض الفوائد الأخرى. نقل المرحوم الميرزا في هذا الكتاب روايتين تدل على أن السيدة المعصومة(عليها السلام) قد فارقت الحياة قبل الإمام الرضا(عليه السلام).

حيث أرادت(عليها السلام) الالتقاء بالإمام الرضا(عليه السلام)، وأكبر ظني أنها توجهت بأمر الإمام(عليه السلام) نحو إيران، ثم ما أن وصلت إلى قم حتى فارقت الحياة.

فما كان السبب في وفاتها؟

في البحار: روى مشايخ قم أنه لما أخرج المأمون علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) من المدينة إلى المرو في سنة مائتين خرجت فاطمة أخته في سنة إحدى ومائتين تطلبه فلما وصلت إلى ساوه مرضت، فسألت كم بيني وبين قم؟ قالوا عشرة فراسخ،

ص: 210


1- مستدرك الوسائل 10: 368.
2- وسائل الشيعة 14: 576.
3- وسائل الشيعة 14: 576.

فأمرت خادمها فذهب بها إلى قم وأنزلها في بيت موسى بن خزرج بن سعد.

ثم قال: والأصح أنه لما وصل الخبر إلى آل سعد اتفقوا وخرجوا إليها أن يطلبوا منها النزول في بلدة قم، فخرج من بينهم موسى بن خزرج فلما وصل إليها أخذ بزمام ناقتها وجرها إلى قم وأنزلها في داره فكانت فيها ستة عشر يوماً ثم مضت إلى رحمة اللّه ورضوانه، فدفنها موسى بعد التغسيل والتكفين في أرض له وهي التي الآن مدفنها وبنى على قبرها سقفاً من البواري، إلى أن بَنَت زينب بنت الجواد(عليه السلام) عليها قبة(1).

إذن توفيت(عليها السلام) على أثر مرض مفاجئ لم يذكر سبب لهذا المرض.

فما كان السبب في ذلك؟

عند ما كنا في العراق قرأت كتاباً تاريخياً يذكر بأن المأمون العباسي كما قام بقتل الإمام الرضا(عليه السلام) بالسم، كذلك دس السم إلى السيدة المعصومة(عليها السلام) وهي في طريقها لزيارة أخيها بخراسان، فقد استشهدت هي بالسم أيضاً.

وأتصور أن هذا الرأي هو الصحيح، فإن التاريخ لم يذكر سبباً خاصاً في وفاة السيدة المعصومة(عليها السلام) من مرض مسبق أو ما أشبه، في الوقت الذي كانت تلك المخدرة قد رحلت عن الدنيا وهي في شبابها حيث كان عمرها 18، أو 20، أو 28 سنة، من دون أن تكون مسبوقة بمرض أو علة.

وطبقاً لنقل ذلك الكتاب فإن المأمون كان قد سمها(عليها السلام)(2).

ص: 211


1- بحارالأنوار 57: 219.
2- انظر أيضاً كتاب (قم المقدسة رائدة الحضارة): 45، حيث يقول الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) فيه: فلما وصلت السيدة المعصومة(عليها السلام) إلى ساوة، تمرضت، وكان سبب مرضها(عليها السلام) كما في التاريخ أن المأمون كتب إلى عماله أن يدسوا لها السم الفتاك في طعامها، فأثر ذلك السم فيها، وضعفت عن مواصلة سفرها إلى خراسان، ولما أحست بالخطر، سألت(عليها السلام) من معها عن مقدار المسافة الباقية إلى قم...).

كما قام المأمون بقتل إخوتها - بالسيف أو بالسم - في طريقهم لزيارة الإمام الرضا(عليه السلام).

الاغتيالات سياسة الطغاة

وعلى كل، فإن الشيء الذي يملكه حكام الجور هو تلك الاغتيالات التي يقومون بها ضد المؤمنين الأبرياء إما بالسيف، وإما بالسم إن لم يمكنهم السيف، وكان أولهم معاوية الذي قام باغتيال مالك الأشتر (رضوان اللّه عليه) عن طريق سقيه السم بالعسل مما أدى إلى استشهاده، ولما وصل إليه خبر شهادة مالك قال مفتخراً: إن للّه جنوداً من عسل!(1). يعني أن ذلك العسل المسموم هو الذي قضى على مالك واعتبره معاوية أنه من جنود اللّه!

لكن العاقبة للمتقين، حيث ترى اليوم أن قبر مالك الأشتر في مصر أصبح مزاراً للمؤمنين، وقبر معاوية في سوريا عادي مزبلة، ولقد شاهدت بنفسي قبر معاوية وكيف أنها مزبلة.

وبعد معاوية فقد سلك حكام الجور من بني أمية وبني العباس وغيرهم نفس الطريقة لأنها طريقة سهلة ربما لا يفهم بها كل أحد، فقتلوا أكثر الأئمة وذراريهم وأصحابهم بالسم.

عند دفن السيدة المعصومة(عليها السلام)

ورد في التاريخ أنه حضر دفن السيدة المعصومة(عليها السلام) اثنان من الفرسان الملثمين وقاما بدفنها(2)، ولعل لأن السيدة لم يكن لها أقرباء في قم وكانت غريبة.

ص: 212


1- الإختصاص: 81.
2- انظر بحار الأنوار 48: 290؛ 57: 219.

وأحتمل أن يكون هذان الإثنان من إخوتها، فأحدهما الإمام الرضا(عليه السلام) والثانيأخوه، لأن الإمام الرضا(عليه السلام) كان له عدة إخوة، ويحتمل أن يكون الآخر هو الإمام الجواد(عليه السلام)(1).

روى العلامة المجلسي(رحمه اللّه) في البحار: أنه لما توفيت فاطمة(عليها السلام) وغسلوها وكفنوها ذهبوا بها إلى بابلان ووضعوها على سرداب حفروه لها، فاختلف آل سعد بينهم في من يدخل السرداب ويدفنها فيه فاتفقوا على خادم لهم شيخ كبير صالح يقال له قادر فلما بعثوا إليها رأوا راكبين سريعين متلثمين يأتيان من جانب الرملة، فلما قربا من الجنازة نزلا وصليا عليها ودخلا السرداب وأخذا الجنازة فدفناها ثم خرجا وركبا وذهبا ولم يعلم أحد من هما، والمحراب الذي كانت فاطمة(عليها السلام) تصلي إليها موجود إلى الآن في دار موسى بن الخزرج(2).

وعلى كل حال فقد ذكر البعض أن ذلك اليوم الذي استشهدت فيه السيدة المعصومة(عليها السلام)، هو هذا اليوم، ولا بأس بهذا القول، فإنها قد استشهدت في يوم ما، وهذا اليوم أحد محتملات العلم الإجمالي، وهو من تعظيم الشعائر حيث قال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(3).

المدفونون بجوارها

في التاريخ: أن بنات الإمام الجواد(عليه السلام) زينب وأم محمد وميمونة نزلن قم عند أخيهن موسى المبرقع، فلما متن دفنّ عند فاطمة بنت موسى(عليهما السلام)(4).

ص: 213


1- وقد يكون الاحتمال الأخير ضعيفا، وذلك لأن الإمام الجواد(عليه السلام) كان عمره الشريف حينذاك ست أو سبع سنوات. فإن ولادته في العاشر من شهر رجب عام (196ه) أو (195ه )، ووفاة السيدة المعصومة(عليها السلام) في 10 ربيع الثاني (201ه) ، فتأمل.
2- بحارالأنوار 57: 219.
3- سورة الحج، الآية: 32.
4- بحار الأنوار 50: 161 (بيان).

وفي البحار: ثم ماتت أم محمد بنت موسى بن محمد بن علي الرضا(عليه السلام)فدفنوها في جنب فاطمة (رضي اللّه عنها)، ثم توفيت ميمونة أختها فدفنوها هناك أيضاً، وبنوا عليهما أيضاً قبة، ودفن فيها أم إسحاق جارية محمد وأم حبيب جارية محمد بن أحمد الرضا وأخت محمد بن موسى(1).

من كراماتها

نقل لي المرجع الديني آية اللّه العظمى السيد المرعشي النجفي(رحمه اللّه)، أنه في قصة دخل السرداب التي دفنت السيدة المعصومة(عليها السلام) فيه، فرأى جثمانها الطاهر وكأنها دفنت في نفس اللحظة حيث كان البدن الشريف طرياً وذلك بعد أكثر من ألف سنة(2).

ص: 214


1- بحارالأنوار 57: 219.
2- للتفصيل انظر كتاب قم المقدسة رائدة الحضارة: 200، للإمام الشيرازي(رحمه اللّه)، وفيه: نقل لي آية اللّه السيد المرعشي النجفي(رحمه اللّه): أن شقوقاً حدثت في أسطوانات الروضة المباركة للسيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام)، تلك الأسطوانات التي تعتمد عليها القبة الذهبية المنورة، فاستدعي المعمارون لترميم الشقوق وإصلاح الأسطوانات، فقال المعمارون: لأجل الاطمئنان من أن هذه الشقوق الحادثة في الأسطوانات سطحية، وليست عميقة، لابد وأن ينزل أحد إلى السرداب المحيط بالقبر الشريف، ويستعلم حال السرداب والجدران والأعمدة التي تعتمد عليها الأسطوانات. فانتخبوا جماعة من السادة، ومن بينهم السيد المرعشي، للنزول إلى داخل السرداب حيث القبر الشريف، فنزل السيد المرعشي ومن معه من السادة، وإذا بهم يرون السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام) مسجاة باتجاه القبلة، وقد كُشف الكفن عن وجهها المنير، كما هو في مستحبات الدفن، حيث يستحب صنع وسادة من التراب وكشف وجه الميت ووضعه عليها. يقول السيد المرعشي(رحمه اللّه): وكانت كالنائمة أو كالميتة الآن طرية، ويفوح منها رائحة عطر الكافور، وكان كفنها طرياً جديداً أيضاً، وكأنها قد دفنت تواً، وكان لونها حنطاوياً مشبّعاً يميل إلى السمرة الشديدة، كما هو عليه أهل المدينة المنورة، وكانت من حيث السن كأنها في من أبناء العشرينات. هذا وكان إلى جانبها وحواليها نساء أخر، وكانت هي(عليها السلام) تتوسط امرأتين يميل لون وجههما إلى السواد الشديد، حتى كأنهما من وصائف السودان وجواريهما، وكن جميعاً حتى أكفانهن طريات جديدات كأنهن دفنّ اليوم أو البارحة.

وكيف لا يكون كذلك وقد رأي جثمان القطب الراوندي المدفون في صحن فاطمة المعصومة(عليها السلام) طرياً، وذلك عند بناء الصحن الشريف حيث انهدم قبره وظهر جسد الراوندي طرياً بعد سبعمائة عام.

الموضوع الثاني: تاريخ قم وتشيعها

اشارة

إن مدينة قم قد تم فتحها في عهد حكومة الثاني(1)،

حيث إن إيران قد تم فتحها في ذلك الزمان. والكلام يدور حول كيفية تشيعها؛ لأن الثاني كان بعيداً كل البعد عن التشيع والولاء لأهل البيت(عليهم السلام).

حسب التتبع الذي قمنا به فإن التشيع في إيران قد مر بخمسة أدوار:

الدور الأول

كان أول أدوار التشيع قد ظهر في زمن حكومة الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام)؛ لأن الإمام(عليه السلام) كان هو الحاكم المطلق للبلاد الإسلامية، وكما نعلم فإن الحكومة الإسلامية كانت واسعة جداً ومترامية الأطراف، من ليبيا إلى بلاد القوقاز في الإتحاد السوفيتي، وأن إيران كانت جزءاً من هذه الحكومة الكبيرة، وأن الإمام علي(عليه السلام) كان على عكس طريقة الثاني، إذ كان (صلوات اللّه وسلامه عليه) ينظر إلى الإيرانيين بنفس العين التي ينظر بها إلى باقي المسلمين، حيث لا فرق بين عربي وعجمي إلّا بالتقوى.

أما الثاني فقد ميّز بين العرب والعجم بشكل كبير على ما هو مذكور في التاريخ. وهذا ما يخالف القرآن الكريم وسيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجميع تعاليم الإسلام.

فعلى سبيل المثال: إن الثاني لم يسمح للإيرانيين بالدخول إلى المدينة

ص: 215


1- الثاني: كناية عن عمر بن الخطاب.

المنورة، والشيء الآخر أنه اعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية، وكان يقولبأفضلية العرب على غيرهم، ومنع العجم من التزويج من العرب، إلى غير ذلك مما ورد في التاريخ(1)، ونحن لانريد التعرض لهذا.

ص: 216


1- انظر بحار الأنوار 33: 262، وفيه: وفي كتاب معاوية إلى زياد: وانظر إلى الموالي ومن أسلم من الأعاجم فخذهم بسنة عمر بن الخطاب فإن في ذلك خزيهم وذلهم، أن ينكح العرب فيهم ولا ينكحونهم، وأن يرثوهم العرب ولا يرثوا العرب، وأن تقصر بهم في عطائهم وأرزاقهم، وأن يقدموا في المغازي، يصلحون الطريق ويقطعون الشجر، ولا يؤم أحد منهم العرب في صلاة، ولا يتقدم أحد منهم في الصف الأول إذا أحضرت العرب إلّا أن يتم الصف، ولا تول أحداً منهم ثغراً من ثغور المسلمين، ولا مصراً من أمصارهم، ولا يلي أحد منهم قضاء المسلمين ولا أحكامهم، فإن هذه سنة عمر فيهم وسيرته جزاه عن أمة محمد وعن بني أمية خاصة أفضل الجزاء، فلعمري لولا ما صنع هو وصاحبه وقوتهما وصلابتهما في دين اللّه لكنا وجميع هذه الأمة لبني هاشم الموالي ولتوارثوا الخلافة واحداً بعد واحد... إلى أن قال: يا أخي لو أن عمر سن دية الموالي على النصف من دية العربي فذلك أقرب للتقوى لما كان للعرب فضل على العجم فإذا جاءك كتابي هذا فأذل العجم وأهنهم وأقصهم ولا تستعن بأحد منهم ولا تقض لهم حاجة... إلى أن قال: وحدثني ابن أبي المعيط أنك أخبرته أنك قرأت كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري وبعث إليه بحبل طوله خمسة أشبار وقال له أعرض من قبلك من أهل البصرة فمن وجدت من الموالي ومن أسلم من الأعاجم قد بلغ خمسة أشبار فقدمه فاضرب عنقه فشاورك أبو موسى في ذلك فنهيته وأمرته أن يراجع فراجعه وذهبت أنت بالكتاب إلى عمر وإنما صنعت ما صنعت تعصباً للموالي وأنت يومئذ تحسب أنك ابن عبد ثقيف فلم تزل تلتمس حتى رددته عن رأيه وخوفته فرقة الناس فرجع وقلت له يومئذ وقد عاديت أهل هذا البيت أخاف أن يثوروا إلى علي فينهض بهم فيزيل ملكك فكف عن ذلك، وما أعلم يا أخي ولد مولود من أبي سفيان أعظم شؤما عليهم منك حين رددت عمر عن رأيه ونهيته عنه وخبرني أن الذي صرفت به عن رأيه في قتلهم أنك قلت إنك سمعت علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: لتضربنكم الأعاجم على هذا الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً، وقال: ليملأن اللّه أيديكم من الأعاجم وليصيرن أسداً لا يفرون فليضربن أعناقكم وليغلبنكم على فيئكم، فقال لك وقد سمع ذلك من علي يرويه عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فذلك الذي دعاني إلى الكتاب إلى صاحبك في قتلهم وقد كنت عزمت على أن أكتب إلى عمالي في سائر الأمصار فقلت لعمر لا تفعل يا أمير المؤمنين! فإني لست آمن أن يدعوهم علي(عليه السلام) إلى نصرته وهم كثير وقد علمت شجاعة علي وأهل بيته وعداوته لك ولصاحبك فرددته عن ذلك... وحدثتني أنك ذكرت ذلك لعلي في إمارة عثمان فأخبرك أن أصحاب الرايات السود، وفي رواية أخرى وخبرتني أنك سمعت علياً في إمارة عثمان يقول إن أصحاب الرايات السود التي تقبل من خراسان هم الأعاجم وأنهم الذين يغلبون بني أمية على ملكهم ويقتلونهم تحت كل كوكب، فلو كنت يا أخي لم ترد عمر عن ذلك لجرت سنة ولاستأصلهم اللّه وقطع أصلهم وإذن لانتست به الخلفاء بعده حتى لا يبقى منهم شعر ولا ظفر ولا نافخ نار، فإنهم آفة الدين فما أكثر ما قد سن عمر في هذه الأمة بخلاف سنة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتابعه الناس عليها وأخذوا بها فتكون هذه مثل واحدة منهن.

وقد سار عثمان من بعده على هذا المنوال، إذ لم يكن للإيرانيين في زمان عثمان قيمة تذكر.

وأما أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) فقد كان قانونه نفس قانون القرآن إذ يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1)، ونفس كلام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في اليوم الأول: «لا فضل لعربي على عجمي... إلّا بالتقوى»(2)، فمن كان الأتقى فهو الأفضل، سواء كان عربياً أم أعجمياً. وعليه فقد رأى الإيرانيون أن الإمام(عليه السلام) يقوم بتطبيق العدالة، ومن الطبيعي أن كل شخص يحب العدالة ويطلبها. وهذا كان من أسباب نمو الحركة الشيعية في إيران.

إن من مقومات العدالة هي المساواة بين الناس أمام القانون، مثلاً: لا يفرق بين أحد والآخر لأنه ولد في مدنية كذا، فهو أفضل من الشخص الذي ولد في مدينة أخرى، فهذا ما لا وجه له في الإسلام أبداً. أو مثلاً: لأن فلان لغته عربية أو فارسية فهو الأفضل من غيره، هذه معايير الجاهلية، بل الميزان في الإسلام هو قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(3) والميزان الصحيح، هو ميزان الكفاءة والقيم المعنوية، لا ميزان القومية والتبعية والحدود الجغرافية وأمثالها.

ص: 217


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- معدن الجواهر: 21.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.

لقد أعاد الإمام علي(عليه السلام) ومنذ ابتداء حكومته كافة القوانين التي أمر بها الإسلامونزل بها الذكر الحكيم، وجعلها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وعمل الخلفاء على خلافها، والشاهد على هذا المطلب قصص كثيرة مذكورة في التاريخ، وليس البحث الآن عن ذلك، بل الكلام حول قم المقدسة وتاريخ تشيعها.

إن أهم سبب في نشر التشيع هي السيرة العادلة للإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، فعندما جعل الإمام(عليه السلام) الكوفة عاصمة لحكومته، وعمّ العمران والازدهار والتطور والرخاء للجميع، حيث ازداد عدد سكانها حتى بلغت ستة ملايين نسمة، ومساحتها عشرة فراسخ، أي طول الكوفة كان في حدود ستين كيلومتراً، كان (صلوات اللّه وسلامه عليه) ينظر إلى العرب والعجم هناك بشكل واحد، فلهم شخصية واحدة، وحقوق متساوية، وكان يدفع لهم عطاءً واحداً، فكان من نتيجة هذا امتعاض بعض العرب الجاهليين وانزعاجهم من هذه السياسة العادلة؛ لأنهم يرون أن امتيازاتهم قد زالت.

أنا عربية وهذه عجمية

يروى أن امرأتين جاءتا إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وأظهرتا الفاقة، فأمر(عليه السلام) خادمه بأن يعطي كل واحدة منهن عشرين ديناراً، وكُراً من الحنطة، وهو مكيال أهل العراق. فاعترضت إحدى المرأتين، وقالت: أنا عربية وهذه عجمية، فكيف تساوي بالعطاء بيننا!

فقال الإمام(عليه السلام): «إني لم أجد في كتاب اللّه فضيلة لبني إسرائيل على بني إسحاق»(1)؛ لأن العجم من أولاد إسحاق، والعرب من أولاد إسماعيل.

وقال(عليه السلام): إني قد قرأت كتاب اللّه فلم أجد فضلاً للعرب على العجم.

ص: 218


1- انظر الإختصاص: 151.

المؤمن كفو المؤمنة

ومما ابتدعه الثاني في عهده حيث فرق بين العرب والعجم، أنه لم يرض بتزويج العجم من العرب، وفرق بينهم وبين العرب في الإرث، وفي صلاة الجماعة، وغيرها(1).

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «أتت الموالي أمير المؤمنين(عليه السلام) فقالوا: نشكو إليك هؤلاء العرب، إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية وزوج سلمان وبلالاً وصهيباً وأبوا علينا هؤلاء وقالوا: لا نفعل، فذهب إليهم أمير المؤمنين(عليه السلام) فكلمهم فيهم، فصاح الأعاريب أبينا ذلك يا أبا الحسن أبينا ذلك، فخرج وهو مغضب يجر رداؤه وهو يقول: يا معشر الموالي إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم ولا يعطونكم مثل ما يأخذون فاتّجروا، بارك اللّه لكم فإني قد سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: الرزق عشرة أجزاء تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها»(2).

ومنذ ذلك الوقت حيث رأى العجم أن الإمام(عليه السلام) هو التطبيق العملي الصحيح للإسلام والقرآن، وهو الحاكم بالعدل والمساواة بين الناس، أصبحوا من محبي أمير المؤمنين(عليه السلام) وهذه هي بذرة التشيع في إيران.

كانت هذه هي النواة والدور الأول لتشيع إيران ولكنها لم تتسم بالشمولية؛ لأن حكومة الإمام(عليه السلام) الظاهرية كانت قصيرة جداً.

الدور الثاني

الدور الثاني من التشيع في إيران والذي كان السبب في تشيع قم هو عهد الأشعريين اليمنيين.

ص: 219


1- انظر بحار الأنوار 33: 261-264.
2- الكافي 5: 318.

فقد كانت قم في بداية الأمر عبارة عن قلاع متفرقة وصغيرة تعود لبعضاليهود أو المجوس. وفي زمان بني أمية كانت اليمن شيعية؛ لأن أهل اليمن أسلموا على يد الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وقد كانوا شيعة منذ القدم وإلى يومنا هذا، فإن اليمن شيعة ولكنهم زيدية(1)، ويبلغ عدد سكان اليمن خمسة وعشرون مليون نسمة(2)، وهم يعتقدون بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأمير المؤمنين(عليه السلام)، والإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام)، والإمام زين العابدين(عليه السلام)، ولكنهم بعد الإمام زين العابدين(عليه السلام) يعتقدون بإمامة الشهيد زيد بن الإمام زين العابدين(عليه السلام).

وفي زمان بني أمية كانت اليمن تعتبر من مراكز الشيعة، وكان هذا التجمع يشكل خطراً على بني أمية أعداء علي(عليه السلام)، ولهذا فقد قاموا بإبعاد أعداد كبيرة منهم إلى مكان (بيغولة)(3) أي قم، وهو عبارة عن واد لا زرع فيه حتى لا يتمكنوا من النشاط والفعالية، ولا يتصل بهم الناس.

وهؤلاء الذين أبعدوا كانوا أشعريين(4)، ولا زال أولادهم وذريتهم موجودين

ص: 220


1- الزيدية: طائفة من الشيعة تقول بإمامة زيد بن علي بن الحسين السجاد(عليهما السلام)، وبإمامة كل فاطمي دعا إلى نفسه، وهو على ظاهر العدالة، ومن أهل العلم والشجاعة، وكانت بيعته على تجريد السيف للجهاد. والزيدية ثلاث فرق: الجارودية وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر، والسليمانية من أتباع سليمان بن حريز، والبترية ويسمون بالصالحية أيضاً لأن من رؤسائهم الحسن بن صالح.
2- تشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن نفوس اليمن حوالي (29) مليون نسمة.
3- بيغولة: كلمة فارسية وتعني الناحية البعيدة عن الناس، كما تعني الأرض الخراب أيضاً.
4- الأشعريون: قبيلة مشهورة باليمن نسبة إلى أشعر، والأشعر هو نبت بن أدد، قال ابن الكلبي: إنما سمي نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ الأشعر؛ لأن أمه ولدته وهو أشعر، والشعر على كل شيء منه فسمي الأشعر. وأما الأشاعرة القميون: فهم يمانيون أيضاً والذين دعا لهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال: «اللّهم اغفر للأشعريين صغيرهم وكبيرهم». وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الأشعريون مني وأنا منهم» انظر بحار الأنوار 57: 220.

في قم المقدسة.

ولعل قم هي أول المدن الإيرانية التي تشيعت، وبعدها كاشان، والسر فيذلك قربها من قم وتقبل أهلها للحق.

علماً بأن الشيعة الذين جاءوا إلى قم قد اشتغلوا بالزراعة ونشطوا، وبالنتيجة فقد تشيعت القرى التي كانت في أطراف قم وكذلك ساوة وكاشان.

إذن فإن قم وكاشان هما أولى المدن التي تشيعت.

الدور الثالث

الدور الثالث لتشيع إيران، أوجده البويهيون(1)، وهم في الأصل من أهل مازندران، وكان قسم من إيران مثل شيراز ونواحي فارس إلى خوزستان والعراق تحت سلطانهم، وكانوا شيعة. وقد كان في زمانهم كبار العلماء من أمثال:

الصدوقين...(2).

والمفيد...

والمرتضى...

والرضي...

وابن الجنيد(3) (رضوان اللّه عليهم أجمعين)، وقد مهدت الحكومة لنشر علوم آل محمد(عليهم السلام) فحدثت موجة من التشيع في إيران.

ص: 221


1- البويهيون: أسرة شيعية حكمت من سنة 334ه واستمر حكمها إلى سنة 447ه. تنسب إلى (أبي شجاع بويه)، ولكن مؤسسيها الحقيقيين هم أبناؤه الثلاثة: 1- علي (الملقب بعماد الدولة)، 2- الحسن (الملقب بركن الدولة)، 3- أحمد (الملقب بمعز الدولة).
2- وهما علي بن الحسين بن بابويه القمي، وابنه محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق.
3- أبو علي محمد بن أحمد بن الجنيد الكاتب الإسكافي.

الدور الرابع

أما الدور الرابع فقد أوجده العلامة الحلي، فقد جاء إلى إيران ومعه مجموعةكبيرة من تلامذته في زمان الملك خدا بندة(1)، وقد ألف عدة كتب في إيران، وقد عمل على نشر التشيع ما تمكن، فأحدث موجة من التشيع، ولكن بقيت إيران لحد كبير سنية إلى أن جاء الدور الخامس.

الدور الخامس

الدور الخامس هو تشيع إيران بالكامل فقد حدث ذلك بجهود مباركة من الصفويين(2)، فقد تمكنوا وبمساعدة مجموعة من العلماء مثل:

المجلسي الأول(3)...

والمجلسي الثاني(4)...

والمير فندرسكي(5)...

والشيخ البهائي(6)...

من نشر التشيع في كافة أنحاء إيران، حتى أصبحت إيران من أهم دول الشيعة

ص: 222


1- محمد بن أرغون بن أبغا بن هلاكو بن تولى بن جنكزخان المغولي، السلطان غياث الدين المعروف ب (خدا بنده)، ومعناه: عبد اللّه.
2- الصفويون أسرة شيعية علوية عريقة تنتسب إلى صفي الدين الأردبيلي المدفون بأردبيل في أذربيجان.
3- المولى محمد تقي المجلسي المعروف بالمجلسي الأول.
4- محمد باقر بن محمد تقي بن مقصود علي المجلسي، المعروف بالعلامة المجلسي وبالمجلسي الثاني.
5- السيد الأمير أبو القاسم الفندرسكي الحسيني الموسوي، والفندرسكي: بكسر الفاء والنون نسبة إلى فندرسك قصبة من ناحية أعمال أستراباد.
6- بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الجعبي، المعروف بالشيخ البهائي، والحارثي نسبة إلى الحارث الهمداني.

في العالم.

وقد سعت السنة كثيراً للقضاء على التشيع في إيران ولكن باءوا بالفشل،والسر في ذلك هو أن المجلسيين والشيخ البهائي وسائر العلماء قاموا بتوعية وتثقيف الناس الذين تشيعوا، وذلك بواسطة الكتب والبحث العلمي والحوار الهادف، قد تمكنوا من تغيير ثقافتهم نحو أهل البيت(عليهم السلام)، حتى علم الناس بالدليل والبرهان أحقية مذهب أهل البيت(عليهم السلام).

من هنا ترى أن مجموعة من الغربيين والسنة يقولون بأن التشيع في إيران هو من إيجاد الصفويين.

وفي الواقع أن التشيع في إيران لم يكن من إيجاد الصفويين، بل إن الصفويين قاموا بنشر علوم الشيعة وهي علوم أهل البيت(عليهم السلام) وفي المقابل فإن علوم السنة لم تتمكن من المقاومة والبقاء أمام مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) فقد زالت جانباً. وأخذ هذا الدور الحق بالتقدم.

هذا ملخص عن أدوار إيران في تشيعها، أما مدينة قم المقدسة فقد تشيعت في الدور الثاني أي بجهود الأشعريين وهم شيعة اليمن.

كما أن أول مدينة في العراق تشيعت هي الكوفة، وذلك في زمان أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقد سعى بنو أمية كثيراً للقضاء على الكوفة فلم يتمكنوا وبقيت شيعية.

وهكذا بالنسبة إلى إيران حيث إن أول مدينة تشيعت منها - بعد الكوفة في العراق - هي قم.

وكانت قم المقدسة - ولا تزال بحمد اللّه تعالى - تضم عدداً من كبار علماء الإمامية المعروفين طول التاريخ، مثل:

ص: 223

الصدوقين...

وعلي بن إبراهيم(1)...

وسائر المحدثين والفقهاء.

أما سائر مدن إيران فكانت سنية، فمثلاً طهران كانت سنية بالكامل، وكانوا من أتباع المذهب الشافعي والحنفي، وكثيراً ما حدثت معارك شديدة بين هذين الطائفتين.

الموضوع الثالث: مستقبل قم ودورها في نشر علوم آل محمد(عليهم السلام)

المحور الأول: حرم السيدة المعصومة(عليها السلام)

إن أهم معالم قم المقدسة هو حرم السيدة المعصومة(عليها السلام)، فإن هذه السيدة الجليلة هي سبب الخير والبركة لمدينة قم وأهاليها، بل للعالم والعالمين بأجمعهم.

ولكن الحرم الشريف والأروقة وما أشبه لا تتناسب مع عظمة السيدة المعصومة(عليها السلام) ولا تناسب دور قم في إيصال معارف أهل البيت(عليهم السلام) إلى العالم.

فهذا الحرم وبهذا الأسلوب لا يناسب قم ولا التشيع، وأنا أتصور أنه يلزم العمل لتوسيع الحرم الشريف بدرجة يتسع مليون زائر.

فإن الناس حتى غير الملتزمين منهم يعتقدون بالدين وبالأئمة وذويهم، فحتى أولئك الذين لا يلتزمون بالأمور الشرعية، مثل الشخص الذي لا يصلي، أو الذي يشرب الخمر - والعياذ باللّه - أو المرأة السافرة، فإنهم يحترمون السيدة المعصومة(عليها السلام). فالدين يرتبط بروح الناس وهو أمر فطري لا يمكن القضاء عليه.

ص: 224


1- يعتبر علي بن إبراهيم القمي من أبرز وأوثق رواة الشيعة، ومن المعاصرين للإمام الحسن العسكري(عليه السلام).

من هنا فإن حرم السيدة المعصومة(عليها السلام) هي مأوى لجميع الناس، فينبغي أن يكون بحيث يسع أكبر عدد منهم.

إن الشيعي الذي يعيش في أقصى الباكستان أو أفغانستان أو الهند أو سوريا أو لبنان أو بلاد الغرب وأوروبا، فإنه متعلق بقلبه بالسيدة المعصومة(عليها السلام)، ومتعلق بأهل البيت(عليهم السلام) فرداً فرداً، ويود أن يوفق لزيارتهم والاستفادة من معين بركاتهم.

من هنا يلزم أن يكون الحرم الشريف يسع أكبر عدد من الزوار حتى من غير الإيرانيين ومن شيعة العالم بأجمعهم.

فإن الدين وحب الصالحين والأنبياء والأئمة(عليهم السلام) أمر فطري، فأنتم شاهدتم الإتحاد السوفيتي كان يقتّل الناس سبعين سنة ليتخلوا عن الدين.

سبعون سنة! إنها ليست يوما أو يومين، يعني أربعة أجيال؛ لأنه لو تحسبون أن بين جدكم الأعلى وبينكم سبعين سنة، فقد تغيرت أربعة أجيال في الإتحاد السوفيتي، وبالرغم من هذا لم يتمكنوا من القضاء على الدين وجذوره، فمع زوال الضغط قد عاد الجميع إلى دينهم الأول. المسيحيون واليهود عادوا إلى دينهم، والمسلمون والشيعة عادوا إلى دينهم ومذهبهم، لقد قابلت مجموعة منهم فوجدتهم شيعة مثلنا مع فارق بسيط وهو أنه وبسبب عدم وجود المبلغين فقد جهلوا بعض الأمور، وإلّا فإن الإسلام والتشيع في الإتحاد السوفيتي لم ينقص منه شيئاً.

وعلى كل حال فإن الكلام حول لزوم توسعة حرم السيدة المعصومة(عليها السلام) إلى درجة بحيث يتسع إلى مليون مصل وزائر على أقل التقادير.

ربما يقول البعض أن في توسيع الحرم خراب لبعض الأماكن الأثرية؟

ولكننا نقول: إنه يلزم ملاحظة الأهم والمهم، وربما أمكن الجمع بين التوسعة

ص: 225

وحفظ الآثار، فإن الدين هو المقدم دائماً على كل شيء، فإن مجموعة من المؤمنين كانوا يعيشون قبل مائة عام وبنوا ما يناسبهم من الحرم والقبة وحسبحاجة ذلك الوقت فجزاهم اللّه خيراً، ولكن اليوم تغيرت المعادلات، فإن الأصل والمعيار هو الدين والإنسان والروح والواقعيات.

لقد شاهد الكثير منكم المسجد الحرام، فقد كان في الماضي مسجداً صغيراً، وقد تشرفتُ بزيارته قبل ثمان وثلاثين عاماً فكان صغيراً، ولكنه توسع الآن بحيث يتسع لمليون مصلٍ، فهذا أفضل من أن يبقى المسجد كما كان في السابق.

إذن يلزمنا العمل لأجل توسعة الروضة المعصومية المباركة، بحيث يكون حرم السيدة المعصومة(عليها السلام) على الأقل يستوعب مليون زائر، وحتى يمكن حضور مليون مصلٍ في صلاة الجماعة، وبالطبع لا نريد بذلك توحيد صلوات الجماعة؛ فإنها من البدع التي ابتدعها السعوديون على خلاف الإسلام والإنسانية، وذلك بتوحيد الصلوات في جماعة واحدة وإجبار الناس عليها.

في الوقت الذي كان النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد بنى في المدينة المنورة وكانت صغيرة في يومه، سبعاً وأربعين مسجداً، فمن أراد الصلاة مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلى معه، ومن أراد الصلاة مع غيره صلى معهم.

إذن يلزم أن تكون صلوات الجماعة متعددة وحرة، حتى يختار الناس الإمام الذين يريدون الاقتداء به في الصلاة.

الحريات من أسباب انتشار الإسلام

وأساساً فإن الحريات التي منحها الإسلام للناس، هي أحد الأسباب الرئيسية في انتشار الإسلام، وفي اجتماع الناس حول الدين وقادته، فليس من الضروري أن يصلي الجميع بجماعة واحدة.

ص: 226

وبالطبع إلى ما قبل زمان آل سعود كان الوضع كذلك، بحيث كان كل شخص يتمكن من الصلاة جماعة في المسجد الحرام، حتى أنه زمانالمرحوم الحاج آقا حسين القمي، وكان من مراجع الشيعة الكبار، وقد توفي قبل خمسين عاماً، عندما ذهب إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة كان يقيم صلاة الجماعة في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف وكان يقتدي به الشيعة هناك.

فأي فخر في أن يكون جميع الناس يصلون خلف إمام واحد، أو يكونوا على شاكلة واحدة.

هذا أسلوب البهلوي(1) وأمثاله، الذي أمر الناس بتوحيد لباسهم.

فهل رأيتم أحد العقلاء يدعو الناس إلى أن يأكلوا نوعاً واحداً من الطعام.

فأي كلام هذا!

الكل أحرار في أعمالهم، ومنها ما يرتبط بمسألة اختيار إمام الجماعة للصلاة.

إذن من الخطأ ما نراه من البعض حيث يمدح آل سعود على هذا العمل المخالف للإسلام، وربما مدحوهم بأنه عندما يحل وقت الظهر، تغلق جميع المحال التجارية ويذهبون إلى الصلاة؛ فإن الناس يجتمعون خوفاً من عصا الآمرين بالمعروف!، وهذه ليست فضيلة، بل بالعكس، فإنها بدعة في الدين.

فلم يرد في التاريخ أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو أمير المؤمنين(عليه السلام) قد أجبرا بالعصا شخصاً على ترك عمله وحضور صلاة الجماعة، حتى عمر الذي يعتقدون به لم يفعل مثل هذا.

ص: 227


1- رضا خان المعروف بالبهلوي الأول.

علماً بأن هذا العمل الخاطئ من الجبر والإكراه لحضور الصلاة، وغير ذلك من الأخطاء الكثيرة التي قام بها حكام السعودية كان السبب في تشويه صورةالإسلام في العالم، في الوقت الذي يمنح الإسلام الكثير من الحريات للناس ويدعوهم الى اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة من دون جبر وإكراه.

قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1).

وقال عزّ وجلّ : {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(2).

نعم، الإسلام يمنع عن المحرمات من شرب الخمر وما أشبه والمحرمات قليلة جداً، ولكن في غير المحرمات فإن جميع الأشياء في الإسلام مطلقة وحرة حتى العبادة، فأنت حر في أن تصلي في بيتك أو في المسجد أو في غيرهما.

وخلاصة الكلام: يلزم أن يكون الحرم الشريف في قم المقدسة يتسع لمليون زائر، فنحن لسنا مثل اليابان نعاني من قلة الأرض، بحيث نجبر على إدغام الأعمال وبناء الطبقات. إن في قم مساحات شاسعة من كل ناحية، من قم إلى كاشان إلى أصفهان إلى طهران إلى غيرها. علماً بأن هذه الأراضي الواسعة من نعم اللّه علينا، ثم إن الناس على استعداد لدفع الأموال من أجل الأمور الدينية وفي سبيل أهل البيت(عليهم السلام) بشكل لا حدود له، وحتى النساء على استعداد لبذل حليهن وذهبهن في سبيل اللّه وأهل البيت(عليهم السلام).

فثقوا إذا ما حدث مثل هذه التوسعة من أجل مستقبل قم؛ فإن الناس سيدفعون المال اللازم خلال ثلاث سنوات، فالسيد البروجردي (رضوان اللّه

ص: 228


1- سورة البقرة، الآية: 256.
2- سورة الغاشية، الآية: 23.

عليه) بنى مسجد الأعظم بأموال الناس وبتبرعات من المؤمنين، وكانت التبرعات بكثرة حتى أن السيد أخبرهم بأنه لا حاجة بعد للمال، فقد جمعالمال الكافي.

المحور الثاني: نظافة مدينة قم المقدسة

الإسلام دين النظافة وأفضل نموذج فيها، وكلنا سمع وقرأ الحديث الشريف: «النظافة من الإيمان»(1).

علماً بأن للنظافة معنى شمولياً واسعاً(2)، لسنا بصدد بحثه الآن.

والكلام في مدينة قم المقدسة، حيث يلزم أن تكون في غاية النظافة والطهارة، حتى يشعر كل من يرد إليها بأنها نموذج ومثال من النظافة الإسلامية.

لقد أخذ المسيحيون - والغرب بشكل عام - عدة أشياء من الإسلام وعملوا بها، وبالنتيجة فقد تقدموا، كانت النظافة واحدة منها.

عندما كنا في الكويت وفي أحد الأيام كنت ماراً بالسيارة من حي يسمى بالشرق، فلاحظت تواجد أعداد كثيرة من الناس، وقد كانوا في غاية النظافة، حيث ارتدوا ملابس نظيفة وجميلة، وقد امتلئ الجو بعبق عطورهم.

فسألت من السائق وكان كويتياً - لأني لم أكن أملك السيارة، نعم أراد البعض أن يعطونا سيارة لكنني لم أقبل بذلك - : ما الخبر؟ فقال: هنا كنيسة وهؤلاء يجتمعون هنا كل يوم أحد للعبادة.

المسيحيون في الكويت قليلون جداً، وأكثرهم طلاب أو عمال أو ما أشبه، ولكن في أيام الأحد يرتدون أفضل ملابسهم، ويتعطرون بأفضل العطور، ثم

ص: 229


1- بحار الأنوار 59: 291.
2- انظر كتاب (فقه النظافة) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

يجتمعون في الكنيسة.

أما الكنيسة نفسها - فحسب ما قاله بعض أصدقائنا - فهي واسعة جداً، وهينظيفة مزينة بالورود، ويستقبل العاملون فيها الناس بتقديم الشرابت والحلوى والمرطبات. بحيث يرى الشخص أن هذه الأشياء من مظاهر الدين فينجذب إليهم.

ومن الطبيعي أن الإنسان إذا ذهب إلى مكان نظيف وتلقى أفضل الاحترام والاستقبال، فسوف يذهب إليه مرة أخرى وهكذا.

إن الغربيين تعلموا هذه الأمور من الإسلام فتقدموا، ولكننا قد أعرضنا عنها فتأخرنا.

إذن يلزم علينا أن نعمل لأن تكون مدينة قم المقدسة مثالاً عالياً للنظافة والجمال، يعني إذا أراد شخص أن يرى مكاناً نظيفاً وجميلاً فيه مظاهر الحضارة والتقدم، يُرشد إلى قم المقدسة.

وهذه مسؤولية الجميع، ويمكن لكل فرد منا أن يساهم في هذا الأمر؛ فقد قال النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(1).

المحور الثالث: الاستعداد لاستقبال شيعة العالم

إن مدينة قم المقدسة وكما في الروايات: «عش آل محمد ومأوى شيعتهم»(2).

وللسيدة المعصومة(عليها السلام) مئات الملايين من المحبين في جميع أنحاء العالم، حيث تواجد الشيعة، فيلزم أن تكون قم المقدسة بحيث تصبح مأوى للشيعة كما ورد في الحديث، فتستوعب الملايين من الزوار وتنشر بينهم ثقافة أهل البيت(عليهم السلام)، وخاصة من شيعة خارج إيران، فإن ذلك يوجب التماسك بين أتباع

ص: 230


1- جامع الأخبار: 119.
2- بحار الأنوار 57: 214.

أهل البيت(عليهم السلام) وارتباطهم بحوزاتهم العلمية والعلماء والمراجع، والتزود من علوم آل محمد(عليهم السلام)، مضافاً إلى الفوائد الاقتصادية الكبيرة للناس.

وهذا كله بفضل السيدة المعصومة(عليها السلام) وعظمتها وبركاتها، وإن كنا لا نعلم الكثير من سيرتها، لكن يكفيها فخراً أن ثلاثة من الأئمة المعصومين(عليهم السلام)(1) قالوا في حقها: «من زارها وجبت له الجنة»(2).

إن الشيعة يعتقدون بهذا الكلام، وأن كل ما يقوله المعصوم(عليه السلام) هو الواقع مائة في المائة، وعليه فإذا أراد شيعة العالم أن يزورا قم المقدسة فهل نحن مستعدون لذلك؟

علماً بأن الشيعة هم نصف المسلمين، وهذا ما اعترف به أنور السادات رئيس جمهورية مصر السابق، حيث قال إن الشيعة يشكلون نصف العالم الإسلامي، وطبقاً لإحصاءات الجامع الأزهر حيث ذكرت قبل مدة بأن عدد مسلمي العالم يبلغ ألف وستمائة مليون مسلم(3)، إذن نصفهم يعني ثمانمائة مليون، وهم الشيعة في العالم.

فعلى الجميع أن يهتم بتوسيع المدينة لكي تستعد لاستقبال الملايين من الزوار، وذلك ببناء الفنادق الفخمة والشوارع الواسعة والطرق السريعة والمرافق العامة وسائر الخدمات للزوار.

وهناك إحصائيات تقول بأنه في العام الماضي وفد إلى مشهد الإمام الرضا(عليه السلام) اثنا عشر مليون زائر.

وهكذا يلزم أن تكون قم المقدسة، بل أن يزداد عدد الزوار في مشهد وفي قم.

إذن يلزم بناء أماكن لاستقبال الزائرين، وتقديم الخدمات لهم، علماً بأن هذا

ص: 231


1- وهم الإمام الصادق(عليه السلام) والإمام الرضا(عليه السلام) والإمام الجواد(عليه السلام).
2- انظر بحار الأنوار 48: 317، 99: 267.
3- بلغ عدد المسلمين اليوم أكثر من ملياري مسلم.

العمل يمكن أن يقوم به الناس، إذا ما أعطينا الحريات الكفاية للشعب، وشجعنا رأس المال للاستثمار الصحيح، فإن الناس والمؤسسات الأهلية هم الذينيقومون ببناء الفنادق وأماكن استقبال الزائرين وما أشبه.

ونحن يلزم أن لا نكون أقل من الملحدين؛ ففي موسكو - على ما يقال - قام ستالين ببناء فندق ضخم يضم عشرة آلاف غرفة، هذا في حكم فندق الإلحاد والاستبداد والدكتاتورية والماديات، فكيف يلزم أن تكون الدول الإسلامية وخاصة التي تضم المزارات الشريفة.

المحور الرابع: التبليغ والإرشاد الديني

إن مختلف الناس بحاجة إلى التبليغ والإرشاد، ومعرفة معالم دينهم، وعليه يلزم أن يعود كل زائر أتى إلى قم المقدسة، سواء كان رجلاً أو امرأة أو طفلاً إلى وطنه بالزاد الروحي والمعنوي. والتبليغ الديني والاستفادة من علوم أهل البيت(عليهم السلام)، وهذه مسؤولية الجميع أيضاً، من المؤسسات التبليغية، وإدارة الروضة المعصومية، والحوزات العلمية، وغيرها، فإني أرى ضرورة أن يكون لكل مرجع من الفقهاء المراجع محطة إذاعية وتلفزيونية حتى يتم بواسطتها التبليغ والإرشاد الصحيح.

وعند ذلك يمكن أن نحافظ على الشباب وإيمانهم.

إن الأديان والمذاهب الباطلة تدعو إلى دينها ومذهبها باستمرار وبمختلف الوسائل والإمكانات الحديثة، أما نحن فأقل الناس عملاً، ألّا يلزم أن يكون لنا تبليغ بالمستوى العالمي.

لو فرضنا أن عدد الفقهاء المراجع في قم المقدسة المعترف بهم من قبل الحوزة عشرة، فيلزم أن يكون لكل منهم محطة إذاعية وتلفزيونية، حتى يشتغل كل واحد بالتبليغ والإرشاد وطبع وتوزيع الكتب والكراريس والملصقات

ص: 232

والنشرات وغيرها، حتى لانرى بعدها الشباب المنحرفين.

إذن يلزم أن يكون العمل التبليغي بحيث إن كل شخص يزور قم المقدسةيرجع منها بزاد روحي ومعنوي.

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين والأئمة المعصومين(عليهم السلام) تركوا لنا جميع الجوانب الدينية والدنيوية، وكذلك الجوانب الروحية والجسمية، وما يضمن للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، ولكن يلزم علينا الاستفادة من بركات هذه الأنوار الطاهرة.

هكذا يعملون

أحد الأصدقاء سافر قبل فترة إلى فرنسا، وقد نقل لي أنه في باريس وفي أحد الأيام قال له صاحب المنزل الذي يسكن عنده: يجرى اليوم في الكنيسة مراسم عقد زواج مسيحيين، فإن كنت ترغب بمشاهدة ذلك فتعال معي.

قال: فذهبت معه إلى الكنيسة للمشاهدة.

- وكم هو جميل أن نقوم نحن المسلمين بإجراء مراسم عقد زواجنا في المساجد والأضرحة المقدسة، حتى يكون هناك ارتباط واقتراب من اللّه أكثر، فقد انتبه هؤلاء المسيحيون إلى هذا الأمر وأوجدوا هذا الارتباط لأنفسهم - .

يقول الرجل: وما أن وصلت الكنيسة حتى وجدت النساء والرجال قد تجمعوا، بينما جلس القس الذي يجري العقد في صدر المجلس خلف الطاولة، وقد امتلأت القاعة بالطاولات والكراسي.

في البداية قام القس بفتح الكتاب المقدس - ونحن نعلم بأنه مليء بالتحريف - وقرأ عدة آيات منه، وقام بتفسيرها للحضور، بعدها وزعوا على الجميع منشوراً أخلاقياً دينيا، حتى عندما يعود كل واحد منهم إلى منزله قد أخذ لنفسه وعائلته

ص: 233

زاداً روحياً.

في المرة الثالثة قاموا بتوزيع الحلوى بين الناس، وبعد ذلك جاء شابوشابة وبيد كل واحد منهما سلة مليئة بالأزهار، فكانا يهديان زهرة لكل واحد من الحضور، ويقولان له: تبرع للكنيسة. والكل تبرع بما يرغب من المال، بحيث امتلأت السلة بالتبرعات، وفي النهاية أجريت صيغة العقد، وخرجوا من الكنيسة.

ألا ترون كيف يستغل هؤلاء حتى مراسم عقد الزواج، ليوجدوا فيه ارتباطاً بين الناس والكنيسة، ويقوموا بالتبليغ وجمع المال. إن الغربيين عندما تقدموا لم يكن ذلك بمعجزة، وإنما هو أخذ بالواقع وبسنن الحياة، فقد أخذوا قدراً من مناهج الإسلام وتمكنوا من صناعة الإبرة إلى الطائرة، ولكننا نحن المسلمين البالغ عددنا ألف وستمائة مليون لا نتمكن من صناعة أي شيء.

التمسك بالقرآن والعترة

لقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام) قبل ألف وأربعمائة عام: «اللّه اللّه في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(1).

إن غيرنا تمسك بالقرآن وبمناهجه وأصبح سادة الدنيا، أما نحن فقد تركنا القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) فأصبحنا نحتاج حتى اللحم والخبز لكي يستورد لنا من الخارج.

وفي الختام

وفي الختام نذكر بأنه يلزم أن تكون مدينة قم المقدسة مركزاً للتزود الروحي والمعنوي ومأوى لجميع الشيعة في العالم، وخاصة في مواسم الزيارة، كالأعياد،

ص: 234


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم 47، من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).

في مثل عيد الغدير، أو عيد النوروز، وكذا سائر المناسبات الدينية، حيث تأتي أعداد غفيرة إلى قم المقدسة، فهم يعطلون أعمالهم ويأتون مع عوائلهم إلى هنا، فيلزم عند عودتهم أن يكونوا قد تزودوا بالزاد الروحي، لا أن يأتوا لمشاهدةالأبواب والجدران وغاية الأمر التشرف بزيارة الحرم فحسب.

عاصمة الحوزة العلمية

إن قم المقدسة هي مدينة الحوزة العلمية وعاصمة العلماء والفضلاء وفيها أكثر من عشرين ألف رجل دين، وبهذا العدد يمكن تنوير العالم وإرشاد الناس إلى معارف أهل البيت(عليهم السلام). وذلك عن طريق الإرشاد والوعظ وتوزيع الكتب وكثرة المجالس الحسينية والمنابر التربوية، وعبر محطات البث التلفزيوني والإذاعي، مضافاً إلى المنشورات والملصقات المؤثرة، وهذا جزء من أداء الواجب بالنسبة إلى حق السيدة الجليلة فاطمة المعصومة(عليها السلام).

زيارة السيدة المعصومة(عليها السلام)

روي عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «يا سعد إن عندكم لنا قبر»، قلت: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى(عليهما السلام)؟ قال: «نعم، من زارها عارفاً بحقها فله الجنة، فإذا أتيت القبر فقم عند رأسها مستقبل القبلة وكبّر أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمد اللّه ثلاثاً وثلاثين تحميدة ثم قل:

السَّلامُ عَلى آدَمَ صَفْوَةِ اللّهِ، السَّلامُ عَلى نُوح نَبِيِّ اللّهِ، السَّلامُ عَلى إبْراهيمَ خَليلِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلى مُوسى كَليمِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلى عيسى رُوحِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا خَيْرَ خَلْقِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا صَفِيَّ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ خاتَمَ النَّبِيّينَ.

السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ عَلِيَّ بْنَ أَبي طالِب وَصِيَّ رَسُولِ اللّهِ، اَلسَّلامُ

ص: 235

عَلَيْكِ يا فاطِمَةُ سَيِّدَةَ نِساءِ الْعالَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكُما يا سِبْطَيْ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَسَيِّدَيْ شَبابِ أَهْلِ الْجَّنَةِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا عَليَّ بْنَ الْحُسَيْنِ سَيِّدَ الْعابِدينَ وَقُرَّةَ عَيْنِ النّاظِرينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ باقِرَ الْعِلْمِ بَعْدَ النَّبِيِّ،اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّد الصّادِقَ الْبارَّ الأَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُوسَى بْنَ جَعْفَر الطّاهِرَ الطُّهْرَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضا الْمُرْتَضى، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ التَّقِيَّ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّد النَّقِيَّ النّاصِحَ الأَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا حَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، اَلسَّلامُ عَلَى الْوَصيِّ مِنْ بَعْدِهِ، اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى نُورِكَ وَسِراجِكَ وَوَلِيِّ وَلِيِّكَ وَوَصِيِّ وَصِيِّكَ، وَحُجَّتِكَ عَلى خَلْقِكَ.

اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ فاطِمَةَ وخَديجَةَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ أَميرِالْمُؤْمِنينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ وَلِيِّ اللّهِ اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا أُخْتَ وَلِيِّ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا عَمَّةَ وَلِيِّ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ مُوسَى بْنِ جَعْفَر وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكاتُهُ.

اَلسَّلامُ عَلَيْكِ عَرَّفَ اللّهُ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَحَشَرَنا في زُمْرَتِكُمْ وَاَوْرَدَنا حَوْضَ نَبِيِّكُمْ، وَسَقانا بِكَأسِ جَدِّكُمْ مِنْ يَدِ عَليِّ بْنِ أَبي طالِب صَلَواتُ اللّهِ عَلَيْكُمْ أَسْأَلُ اللّهَ أَنْ يُرِيَنا فيكُمُ السُّرُورَ وَالْفَرَجَ، وَأَنْ يَجْمَعَنا وإِيّاكُمْ في زُمْرَةِ جَدِّكُمْ مُحَمَّد صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَأَنْ لا يَسْلُبَنا مَعْرِفَتَكُمْ إِنَّهُ وِلِيٌّ قَديرٌ.

أَتَقَرَّبُ إِلَى اللّهِ بِحُبِّكُمْ وَالْبَرائَةِ مِنْ أَعْدائِكُمْ، وَالتَّسْليمِ اِلَى اللّهِ راضِياً بِهِ غَيْرَ مُنْكِر وَلا مُسْتَكْبِر وَعَلى يَقين ما أَتى بِهِ مُحَمَّدٌ وَبِهِ راض، نَطْلُبُ بِذلِكَ وَجْهَكَ يا سَيِّدي اَللّهُمَّ وَرِضاكَ وَالدّارَ الآخِرَةَ. يا فاطِمَةُ اشْفَعي لي في الْجَنَّةِ فَإِنَّ لَكِ عِنْدَ اللّهِ شَأناً مِنَ الشَّأنِ. اَللّهُمَّ إِنّى اَسْاَلُكَ أَنْ تَخْتِمَ لي بِالسَّعادَةِ فَلا تَسْلُبْ مِنّي ما أَنَا

ص: 236

فيهِ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلّا بِاللّهِ الْعَلِيِّ الْعَظيمِ، اَللّهُمَّ اسْتَجِبْ لَنا وَتَقَبَّلْهُ بِكَرَمِكَ وَعِزَّتِكَ وَبِرَحْمَتِكَ وَعافِيَتِكَ، وَصَلَّى اللّهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ أَجْمَعينَ وَسَلَّمَ تَسْليماً يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ».

ص: 237

في مولد الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف

ضرورة معرفة الإمام(عليه السلام)

اشارة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية»(1).

هذه الرواية الشريفة رواها أيضاً أبناء العامة عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(2)، يعني أن الرواية متفق عليها عند السنة والشيعة. فالذي يموت ولا يعرف إمام زمانه(عليه السلام) مات وكأنه في زمان الجاهلية وعلى هيئة الجاهليين، أي كأنه لم يكن مسلماً.

مفردات الحديث

(مِيتة) بالكسر: للحال والهيئة، أي مات على هيئة الجاهليين، وهناك فرق في لغة العرب بين (مَيتة) و(مِيتة). ف (مَيتة) بالفتح للذات، وتعني: الشاة الميتة أو الإنسان الميت. أما (مِيتة) بالكسر فتعني كيفية الموت. و«مات مِيتة جاهلية» يعني مات كما كان يموت الناس في الجاهلية، أي: كأنه مات على غير دين الإسلام.

وفي مجمع البحرين:

ص: 238


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 246.
2- مسند أحمد 4: 96 وفيه: (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية). ومسند أبي يعلى 13: 366 وفيه: (من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية). والمعجم الكبير للطبراني 19: 388 وفيه: (من مات بغير إمام مات ميتةً جاهلية) وغيرهم كثير.

و(الميتة) بالكسر للحال والهيئة، ومنه (مات ميتة حسنة).

و(مِيتة السوء) بفتح السين: هي الحالة التي يكون عليها الإنسان عند الموت،كالفقر المدقع والوصب الموجع والألم المغلق والأعلال التي تفضي به إلى كفران النعمة ونسيان الذكر، والأحوال التي تشغله عما له وعليه.

و(مات ميتة جاهلية): أي كموت أهل الجاهلية.

و(الميتة) بالفتح من الحيوان، وجمعها (ميتات)، وأصلها ميتة بالتشديد، قيل: والتزم التشديد في ميتة الأناسي، والتخفيف في غير الناس فرقاً بينهما.

و(الميتون) بالتشديد يختص بذكور العقلاء، والميتات لإناثهم، وبالتخفيف للحيوان، انتهى(1).

هذا بالنسبة إلى كلمة (ميتة).

المعرفة

أما قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الحديث الشريف: «ولم يعرف» فلا تعني المعرفة المجردة فقط، بل معناها: المعرفة المستلزمة للولاء والطاعة؛ لأن الكفار أيضاً كانوا يعرفون النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حق المعرفة، ولكن معرفتهم لم تستلزم الولاء والطاعة له(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}(2)، وفي آية أخرى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(3).

فأولئك الذين كانوا حول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وحول سائر الأنبياء(عليهم السلام)، وحول الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، كانوا يعرفونهم... وربما أفضل من الآخرين؛ لأنهم رأوهم بأم أعينهم، ولكن المال والمنصب والتعصب الأعمى وتقليد الآباء والدنيا وزخارفها

ص: 239


1- مجمع البحرين 2: 224.
2- سورة البقرة، الآية: 146.
3- سورة النمل، الآية: 14.

والشهوات هي التي حالت بينهم وبين الاعتراف بولايتهم، وهذا بحث مفصل ليس هنا موضعه.إذن فالمراد من: «لم يعرف» ليست معرفة إمام الزمان المجردة فقط، فالمتوكل العباسي كان يعرف إمام زمانه وربما أفضل منا، فنحن عرفنا الإمام(عليه السلام) بالسماع وهو عرفه بالرؤية، وكذلك المعتمد وسائر بني العباس، وكذلك بنو أمية ومن شابههم ممن جحدوا ولاية الأولياء الطاهرين المعصومين(عليهم السلام).

فالمعرفة تعني الطاعة، وتعني الولاء، ولهذا يطلق عليها (التولي) في مقابل (التبري) بالياء، أما ما اشتهر على بعض الألسن من قولهم (تولى) و(تبرى) بالألف فليس صحيحاً، بل الصحيح (تولي) و(تبري) بالكسر.

فلسفة الحديث

أما بالنسبة إلى فلسفة الحديث، أي لماذا أصبح «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية»؟

فالإنسان الذي يصلي ويصوم ويحج ويدفع الحقوق الشرعية ولا يكذب ولا يفعل الموبقات، هو إنسان صالح من هذه النواحي، فكيف إذا لم يعرف إمام الزمان(عليه السلام) لا يقبل اللّه تعالى منه، ويقول له: لقد مت ميتة الجاهليين أي كما مات أبو لهب، وكما مات أبو جهل وكما مات سائر من في الجاهلية.

في الجواب نقول:

إن هناك أشباهاً لهذا الحديث في العديد من المسائل الشريعة المقدسة، وفيها بحث مفصل، بحيث ترى أمراً واحداً يكون هو الأساس وبدونه لا تقبل الأشياء، أو أن أمراً واحداً يكون بمثابة جميع الأمور، ونحن لا نريد هنا إلّا الإشارة إلى ناحية منها وإن كانت الموارد متعددة.

ص: 240

قتل الناس جميعاً

من تلك الموارد المشابهة قوله تعالى في الآية المباركة: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِنَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(1)، حيث اعتبر الباري عزّ وجلّ قتل واحد من الناس كقتلهم جميعاً.

هذا في القتل المحرّم، أي في غير القصاص وفي غير الحدود الشرعية المقررة، فمرة يُقتل شخص قصاصاً، ومرة يُقتل بحكم الحاكم الشرعي الجامع للشرائط وفي الموارد المقررة، أما غير ذلك أي إذا كان {بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ} فقد جعله الشارع كقتل جميع الناس {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} وهذه ليست مبالغة، بل بيان للحكم الواقعي والأثر الحقيقي لقتل الإنسان الواحد، فالقرآن لا يبالغ بل يبين الحقائق كما هي، فيكون معنى الآية: إن من قتل شخصاً واحداً ظلماً، فكأنما قتل جميع البشر منذ أن وجد آدم(عليه السلام) وإلى آخر يوم من وجود بنيه في الدنيا.

منكر الضروري كافر

ومن تلك الموارد المشابهة هي ما ذكره الفقهاء في الحكم بالكفر على منكر الضرورة الدينية، هذا إذا لم يكن إنكاره عن شبهة، فإن هناك شروطاً كثيرة للحكم بالكفر ذكرناها في الفقه(2). فإن من حصلت لديه شبهة لا يحكم بكفره ولا يجوز قتله، بل يلزم البحث معه وفتح الحوار والنقاش الهادف لرفع الشبهة.

أما المعاند الذي ينكر ضرورياً من الضروريات فحكمه الكفر، حتى إذا كان يصلي ويصوم ويحج ويزكي إلى غيرها من الواجبات.

ص: 241


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- انظر موسوعة الفقه: كتاب الحدود والتعزيرات.

فمثلاً من يعلم بأن السواك مستحب أكد عليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ثم أنكر ذلك لا عن شبهة، قال الفقهاء: يحكم بكفره حتى إذا كان ملتزماً بسائر الأمور من الصلاةوالصيام وما أشبه.

فالمنكر لضروري واحد كمنكر الجميع وذلك لاستلزامه تكذيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعياذ باللّه، فحينئذ يكون عند اللّه في حكم أبي جهل وسائر المشركين من هذه الحيثية.

وهذه المسألة أي أن منكر الضرورة كافر، يكون من أمثال ما نحن فيه، حيث قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية».

فلا يقال: كيف يكون كالجاهليين، مع صلاته وصومه والتزامه بسائر تكاليفه.

إن فلسفة الأمر واضحة بعد التدقيق والإمعان، فالسر في كافة الموارد المذكورة ربما ترجع إلى أمر واحد ولكنها جاءت في صور مختلفة.

إن معرفة الإمام(عليه السلام) هو الاعتراف بالقيادة الشرعية، التي هي الأساس في كل العبادات، وللتقريب نقول: إن مثلها مثل مقود السيارة. فالسيارة التي تضم جميع أجزائها وبنحو حسن، ماذا سيحدث لها إذا لم تشتمل على المقود؟ إنها تصطدم بالجبل وتسقط في الوادي فتتلف ويهلك جميع من كان فيها، وحينئذ لافائدة في جميع تلك الأجزاء.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى معرفة الإمام(عليه السلام) وسائر التكاليف الشرعية.

ثم إن المراد بالقيادة والمعرفة: هو الانقياد والامتثال، والطاعة والإتباع. فالذي لا يعرف إمام زمانه يكون بحكم الجاهليين، كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فإذا قال الإنسان: أنا لا أؤمن بالقيادة الشرعية، فهذا مثله مثل نصراني صالح في تصرفاته، فهل ينفعه ذلك؟ فالنصراني الذي يقوم بالأعمال الخيرية، ويعمل المبرات، ويواسي الأيتام، ويقوم بالآلاف من مثل هذه الأعمال الصالحة، ثم

ص: 242

يقول: أنا لا أؤمن بنبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم). هل تقبل منه تلك الأعمال؟ وما هو حكمه؟

إنه إنسان كافر، ولا قيمة لما يقوم به من تلك الأعمال، إذا عرف الرسولالأعظم محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يؤمن به؛ لأن اللّه سبحانه ليس بحاجة إلى أعمال البر التي يقوم بها الإنسان، ولا يتقبل اللّه إلّا من المتقين، كما قال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(1)، وقال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}(2).

إن اللّه أراد منا الطاعة لأوامره والاعتراف بأنبيائه وأوليائه(عليهم السلام) وأخذ الشريعة منهم، وإلّا فليس اللّه محتاجاً لأعمالنا، بل البشر بحاجة إلى ربه عزّ وجلّ وإلى فعل الخيرات والاعتقاد بما يجب الاعتقاد به كما بينه اللّه تعالى.

إذن فالشخص الذي يموت ولم يعرف إمام زمانه - سواء في زمن الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أم في زمن الإمام الصادق(عليه السلام)، أم في زمن الإمام الرضا(عليه السلام)، أم في زمن الإمام العسكري(عليه السلام)، وكذلك في زمن الغيبة في عهد مولانا الإمام الحجة المنتظر(عليه السلام) - يموت ميتة جاهلية. يعني: إنه أبو جهل آخر وإن كان إنساناً صالحاً في سائر أعماله.

أما من يمدح الجماعة الفلانية بأنها تصلي الصلوات في أول أوقاتها، أو أنها تراعي بعض التكاليف والأوامر الشرعية، وهم لا يعرفون ولا يعترفون بإمام زمانهم، فإنه لم يلتفت إلى ضرورة التمسك بكل الإسلام وأن البعض منه لا يكفي.

ص: 243


1- سورة المائدة، الآية: 27.
2- سورة آل عمران، الآية: 85.

قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) «لو أن عبداً عبد اللّه بين الصفا والمروة ألف عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام، حتى يصير كالشن البالي، ثم لم يدرك محبتنا أكبه اللّه على منخريه في النار، ثم تلا: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}»(2)(3).

وفي هذا المعنى قال الشاعر(رحمه اللّه):

لو أن عبداً أتى بالصالحات غداً *** وود كل نبي مرسل وولي

وقام ما قام قواماً بلا كسل *** وصام ما صام صواماً بلا ملل

وحج ما حج من فرض ومن سنن *** وطاف بالبيت حاف غير منتعل

وطار في الجو لا يأوي إلى أحد *** وغاص في البحر لا يخشى من البلل

وعاش في الناس آلافاً مؤلفة *** خلواً من الذنب معصوماً من الزلل

يكسو اليتامى من الديباج كلهم *** ويطعم البائسين البر بالعسل

ما كان في الحشر عند اللّه منتفعاً *** إلّا بحب أمير المؤمنين علي(4)

فهذه حقيقة حيث يلزم على الإنسان أن يؤمن بجميع ما أمره اللّه عزّ وجلّ، ومن أهمها معرفة إمام الزمان(عليه السلام)، أما أن يقول: (قال اللّه وأقول) فهذا هو الكفر بعينه.

ص: 244


1- سورة البقرة، الآية: 85.
2- سورة الشورى، الآية: 23.
3- شواهد التنزيل 2: 203.
4- تنسب الأبيات للخواجة نصير الدين الطوسي.

أما ما يقال: من أنهم يصلون أفضل صلاة، ونصبوا حنفيات ماء جيدة للحجاج(1)، فهذه لا قيمة لها عند اللّه، فاللّه ليس بحاجة إلى حنفيات الماءهذه.

وهذا مثل ابن ملجم (لعنه اللّه) حيث قتل مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) من أجل الغريزة الجنسية الشيطانية(2) - بعد ما اتفق مع أصحابه على ذلك - فلو فرضنا أنه كان يصلي طيلة عمره أحسن صلاة، ويصوم في أشد الأيام حراً، فهل ينفعه ذلك وقد أقدم على أكبر جريمة؟

ولنفرض الآن أن البشر كافة ومنذ اليوم الأول لخلقهم وإلى اليوم الآخر قد

ص: 245


1- إشارة إلى بعض المظاهر التي أخذ بها الوهابيون التكفيريون من صلوات الجماعة وغلق المحلات جبراً لأدائها، وهم يكفّرون المسلمين ويبيحون دماءهم ولا يعتقدون بولاية أهل البيت(عليهم السلام) وقد أمر اللّه عزّ وجلّ ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بولايتهم واتباعهم.
2- وروي أن ابن ملجم المرادي لعنه اللّه أتى أمير المؤمنين(عليه السلام) يبايعه في من بايعه، ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين(عليه السلام) فتوثق منه، وتوكد عليه أن لا يغدر ولا ينكث ففعل فقال ابن ملجم: واللّه يا أمير المؤمنين ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري، فقال(عليه السلام): (أريد حياته ويريد قتلي)... . قطام بنت الأخضر التميمية، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) قتل أباها وأخاها بالنهروان وكانت من أجمل نساء زمانها، فلما رآها ابن ملجم لعنه اللّه شغف بها واشتد اعجابه فسأل في نكاحها وخطبها، فقالت له: ما الذي تسمى لي من الصداق فقال لها: احكمي ما بدا لك قالت: أنا محكمة عليك بثلاثة آلاف درهم ووصيفاً وخادماً وقتل علي بن أبي طالب، فقال لها: جميع ما سألت وأما قتل علي بن أبي طالب فأنّى لي بذلك؟ فقالت: تلتمس غرته فإن أنت قتلته شفيت نفسي، وهناك العيش معي وإن قتلت فما عند اللّه خير وأبقى، فقال: وأيم اللّه ما أقدمني هذا المصر إلّا هذا، وقد كنت هارباً منه لامن مع أهله إلّا ما سألتني من قتل علي بن أبي طالب فلك ما سألت. قال الشاعر في أمر قطام التي استدعت ابن ملجم إلى قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة *** كمهر قطام من فصيح وأعجم ثلاثة آلاف وعبد وقينة *** وضرب علي بالحسام المصمصم فلا مهر أغلى من علي وإن غلى *** ولا فتك إلّا دون فتك ابن ملجم راجع روضة الواعظين 1: 132 و 133 و 137.

تجمعوا، وتأتي هذه التي تدعى قطام وتقول لابن ملجم: خذ هذه القنبلة الذرية وألقها عليهم حتى تحظى بمضاجعتي.

ماذا سيفعل هذا المجرم، إنه سيقدم على قتل الناس جميعاً، فالإنسان الذيأنزلته غريزته الجنسية إلى الوحل لا فرق عنده سواء قتل شخصاً واحداً أم قتل ملياراً من البشر.

وسواء قتل إنسانا عادياً أم قتل أمير المؤمنين(عليه السلام) خير البشر.

نعم يقول تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(1).

ألم يحدث ذلك في هيروشيما في الحرب العالمية الثانية، وأنا أتذكر الجريمة في حينها، فالضابط المجرم ومن أجل أن تدفع له حكومته مرتباً شهرياً مقداره كذا من الدولارات، ألقى قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي، فقتل مائتين وخمسين ألف شخص.

وكذلك ما قام به صدام خلال الحرب العراقية - الإيرانية من ضرب الأكراد في مدينة حلبجة بالأسلحة الكيميائية فقتل في الحال ستة آلاف شخص ما بين صغير وكبير ورجل وامرأة بالإضافة إلى آلاف الجرحى، حتى الحيوانات والنباتات لم تسلم من ذلك فماتت فوراً.

بالإضافة إلى الملايين الذين قتلهم من الشيعة في الجنوب والوسط وغيرهما وفي حرب إيران والكويت وخاصة في الانتفاضة الشعبانية.

فلا فرق في النفس المجرمة سواء أطلقت رصاصة واحدة فقتلت شخصاً واحداً أم ألقت قنبلة وقتلت ربع العالم، والآن إذا سولت له هذه النفس: بإلقاء

ص: 246


1- سورة المائدة، الآية: 32.

قنبلة وقتل مليون من البشر، سيقدم، فالنتيجة هي واحدة؛ لأنه عندما تحصل الرغبة عند الإنسان في قتل الإنسان، سواء كانت من أجل الغريزة الجنسية أم من أجل المنصب أم من أجل المال أم لأي سبب آخر، فلا فرق عنده سواء قتلشخصاً واحداً أم قتل مائة ألف شخص، يقول الباري عزّ وجلّ: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(1).

مع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)

ثم إن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) خاطب ابن ملجم حينما ضربه بالسيف، فقال: هل كنت إمام سوء لك؟ هل حبستك؟ هل ضربتك سوطاً؟ هل قتلت أحداً منك؟ هل غصبتك مالك؟ هل ظلمتك؟

وذلك ليتضح للعالم بأن هذه الجريمة دافعها خبث المجرم فقط وسوء سريرته واستحواذ الشيطان عليه.

قال ابن ملجم: لا، أفأنت تنقذ من في النار؟!

أي: إنني من أهل النار، وما أقدمتُ عليه هو ما يفعله أهل النار.

حيث من المعلوم أن أمير المؤمنين(عليه السلام) لم يسئ إلى ابن ملجم مطلقاً في أي حال من الأحوال، كما لم يسئ إلى غيره، بل كان مثالاً للعدل والإحسان والمحبة والغفران.

ولذلك قال ابن ملجم: أنا من أهل النار(2).

فالغريزة الجنسية لهذا الإنسان دفعته لأن يقتل علي بن أبي طالب(عليه السلام)، والآن ما الذي يمنع هذا الإنسان من قتل كافة البشر من أجل غريزته الجنسية.

ص: 247


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- انظر بحار الأنوار 42: 287؛ مجمع الزوائد 9: 141.

وهكذا الأمر في منكر الضروري

وهكذا يكون الأمر في من ينكر ضرورياً من ضروريات الدين.

فهل يفرق عند إنسان يقول بكذب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعياذ باللّه، كما حكى القرآن عنلسان الكفار: {كَذَّابٌ أَشِرٌ}(1)، أو يقول: إن السواك لا فائدة فيه وليس بمستحب، وهو يعلم بأن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكد عليه، فالنتيجة واحدة لا فرق بينهما.

يعني: إن الإنسان عندما ينكر ضرورية من ضروريات الدين، فحكمه حكم إنكار الرسالة بأجمعها.

هذا بشرط أن لا يكون ذلك عن شبهة، فربما يقول: إن الحكم الفلاني كان خاصاً بزمان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثلاً، أو كان خاصاً بظرف مكاني معين، أو قضية في واقعة، أو ما أشبه، فهذا لا يترتب عليه حكم منكر الضروري.

ولكن المعاند الذي يقول: صحيح بأن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال كذا، ولكنني أقول في مقابله كذا، كما قال أتاتورك: إن القرآن الذي جاء به محمد ووضعه على البعير وأرسله إلى تركيا، يلزم أن نضعه على نفس البعير ونخرجه من تركيا.

فالمحور في هذه الأمور واحد، ولكل هذه المسائل فلسفة واحدة، وهي فلسفة نفسية وحالة ترتبط بإيمان الفرد، فالحالة النفسية هذه هي التي دعته لأن ينكر ضرورية من ضروريات الدين، أو يكون قاتلاً، أو «لم يعرف إمام زمانه» فيكون بلا قيادة شرعية، وهذه الحالة النفسية كما أقدمت على قتل واحد تقدم على قتل الكثيرين، وكما أنكرت ضرورية تنكر سائر الضروريات، وكما لا تقر بالإمام تهمل سائر الواجبات، فكل هذه مردها إلى أمر واحد.

ص: 248


1- سورة القمر، الآية: 25.

مع رأس المنافقين

كان عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين، وقد نزلت فيه سورة (المنافقون) وكان يعرف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معرفة تامة ربما أكثر من العديد من المسلمين الصحابة، لكن هذه المعرفة بوحدها لا تكفي إلّا إذا كان الإنسان معتقداً بولاية رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)واتباعها.

وكان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على معرفة تامة به أيضاً، ولكن اللّه أمره بمداراة الناس ووصفه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخُلق العظيم، حيث قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

فعندما مرض عبد اللّه بن أُبي وأشرف على الموت وأخذ يعالج سكراته، أرسل ابنه إلى الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكي يطلب منه الحضور عنده وكان ابنه من المؤمنين.

فلبى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعوته وذهب لزيارته، مع أنه كان قد آذى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتجاسر عليه مراراً، وأفحش له في القول وأهانه، وكان يبث الأراجيف حوله، وقد كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حاكما ورئيساً للدولة الإسلامية ولم يكن نبياً فقط.

وفي التاريخ: إن عبد اللّه بن أبيّ عند ما كان يجلس مع أصدقائه المنافقين - وكانوا من الذين يتظاهرون بالإسلام - وكان يمر بهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، كان عبد اللّه يضع عباءته على أنفه(2)، يعني: حتى لا يشم رائحته الكريهة - والعياذ باللّه - ، هكذا كان يهين النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يُشم منه أحسن رائحة العطر.

وفي التاريخ أيضاً: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يحمر وجهه من شدة تأذيه من هذه الإساءة.

هذا الشخص عندما أخذ ينازع الموت قال لابنه: اذهب وادع لي محمداً - وذكر اسم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ليأتي لزيارتي.

ص: 249


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- انظر تفسير مجمع البيان 9: 220.

فذهب ابنه إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخبره بالأمر...

فوافق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكل رحابة صدر على الذهاب لزيارته، وكان عبد اللّه في حال الاحتضار. فقال: يا رسول اللّه أنا خائف من القبر والقيامة!، وليس لي وسيلة نجاةإلّا أن تعطيني رداءك الذي ترتديه ليكفنونني به.

نعم، إنه كان يعرف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما كان يعرف القبر والقيامة.

فخلع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رداءه وأعطاه إياه في الحال، وأصبح بدنه الشريف عارياً(1).

ولكن عبد اللّه ابن أبي مات منافقاً، فلم يكن في قلبه يعترف بالرسالة النبوية.

إذن نستنتج مما سبق: أن المراد بالمعرفة في قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من لم يعرف إمام زمانه»، المعرفة التي تستلزم الاعتقاد بالولاية لا تلك المعرفة المجردة. ومن هنا ترى أن الروايات التي وردت في تفسير الإيمان تقول: «الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان»(2).

ولكن عبد اللّه بن أُبي كان يعرف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قطعاً وربما أفضل منا؛ لأنه قد رآه... وعند موته كان يتظاهر بحبه للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لكنه مات منافقاً وفارق الحياة على حال النفاق. فالمعرفة تعني العلم والاعتقاد والانضمام تحت اللواء، وإذا كانت المعرفة بدون الاعتقاد بالولاية والانضمام تحت اللواء فلا قيمة لها.

نعمة الاعتقاد بولاية إمام الزمان(عليه السلام)

إن من سعادتنا نحن الشيعة هو اعترافنا بإمام زماننا الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشريف، ومن نعم اللّه تعالى علينا أن خلقنا من أبوين شيعيين، وإلّا فطريق

ص: 250


1- انظر الطرائف 2: 443.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 268.

الاهتداء كان صعباً.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة: «ووضعهم من الدنيامواضعهم»(1).

وعليه يلزم شكر وتقدير هذه السعادة وهذه النعمة الكبيرة.

ومن أكبر النعم الإلهية وجود إمام زماننا وكونه حياً وإن كنا لا نراه، فهل رأينا السيد المسيح(عليه السلام)؟ أم هل رأينا النبي موسى(عليه السلام)؟ أم هل رأينا نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ أم هل رأينا الإمام الصادق(عليه السلام)؟ كلا، فالرؤية ليست هي المعيار بل المعرفة هي المعيار، إمام زماننا حي وحاضر بيننا ولكنه غائب عن الأنظار، ونحن نقرأ في دعاء الندبة: «أين السبب المتصل بين الأرض والسماء»(2)، فالفرد الوحيد الذي يربط آلاف الآلاف باللّه عزّ وجلّ هو بقية اللّه عجل الله تعالی فرجه الشريف في الأرض وهو يعيش بين ظهرانيهم.

وفي الروايات أنه عندما يظهر الإمام الحجة(عليه السلام) يقول كثير من الناس: لقد كنت رأيت هذا الشخص من قبل، ويقول آخر: كنت رأيته في المكان الفلاني، وثالث يقول: كنت شاهدته في اليوم الفلاني. فهو(عليه السلام) بيننا ومطلع على أحوالنا بإذن اللّه عزّ وجلّ .

ولا يخفى أن علم الإمام(عليه السلام) علم حضوري وليس كعلمنا، فإن له الإحاطة بالعالم بإذن اللّه تعالى. كما أن عزرائيل له الإحاطة بالخلق ومن هنا يقبض أرواحهم بكل سهولة.

وفي الحديث الشريف: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سأل عزرائيل وقال: كيف تتمكن من

ص: 251


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 193، ومن خطبة له(عليه السلام) يصف فيها المتقين.
2- المزار الكبير: 579.

قبض أرواح البشر في شرق الأرض وغربها؟ قال: يا رسول اللّه، الدنيا في يدي مثل الدرهم في كف أحدكم، فهل يغيب هذا الدرهم عنه(1).فالأنبياء والأئمة(عليهم السلام) هكذا يطلعون على الأمور ليل نهار، فإنهم خلفاء اللّه، انتخبهم اللّه واجتباهم، وهناك روايات كثيرة في هذا الباب، فهم حاضرون وناظرون، يسمعون ويفهمون، هكذا خلقهم اللّه عزّ وجلّ وأراد لهم، والأمر بسيط جداً لتعلقه بقدرة اللّه وإرادته عزّ وجلّ.

ونحن نقرأ في إذن الدخول عند زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) وسائر المشاهد: «أشهد أنك تسمع كلامي وترى مقامي وترد سلامي»(2).

تعريف الإمام(عليه السلام) للعالم

ثم إنه لا يكفى أن يعرف الإنسان إمام زمانه(عليه السلام) ويعتقد بولايته فحسب، بل اللازم إرشاد الناس إلى معرفته(عليه السلام)، فهنالك الكثير من الناس لا يعرفون إمام زمانهم، وحينئذ يشملهم قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية».

فمن أهم ما يلزمنا تعريف إمام الزمان للناس، وهذا بحاجة إلى قدر كبير من العمل وتحمل المسؤولية والصبر في سبيل اللّه.

فقدر المعرفة تعريفه(عليه السلام)، مضافاً إلى طاعته والانضمام تحت لوائه، فهل نصدر عن رأيه أم لا؟

وقدر المعرفة أن نعرفه(عليه السلام) بأنه عالم بنا، وهو الحجة علينا، وهو سبب الفيض وواسطته.

ص: 252


1- انظر من لا يحضره الفقيه 1: 134.
2- انظر المزار الكبير: 211، ومستدرك الوسائل 10: 345.

وهذه المعرفة بحاجة إلى صفاء النفس وتصفية الروح من أوساخ الدنيا.

يقول الشاعر ما مضمونه(1):

إن رجال الحقيقة وطلابها هم الذين يشترونبضاعة لا رواج لها.

وقد رأيت في العراق بعض من كان كذلك، كانوا من الذين زهدوا في الدنيا واشتروا الآخرة، أحدهم السيد محمد الكوفي(رحمه اللّه)، والآخر السيد مرتضى الطالقاني(رحمه اللّه).

فإن اللّه لا ينظر إلى الظاهر بل ينظر إلى الباطن أولاً، إنه ينظر إلى القلب قبل كل شيء، ينظر إلى الجوارح ثم إلى الجوانح، فإن نظام اللّه قائم على الباطن قبل الظاهر. فقد ورد في وصية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر قوله: «يا أبا ذر، إن اللّه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. يا أبا ذر، إن التقوى هاهنا - وأشار بيده إلى صدره - ...»(2).

فهؤلاء الذين رأيتهم في العراق كانوا أناساً غير سائر الناس، فكانوا لا يحبون السمعة ولا المظاهر، فإن اللّه يطلب شيئاً آخر ولايحب هذه الأشياء الظاهرية، صحيح أن بعض هذه المظاهر لاإشكال فيها، ولكن طلاب الحق هم من يعملون من أجل اللّه لا من أجل السمعة والرياء، ففي كل وقت نفكر فيه بترويج بضاعتنا وهو ما يعرف بالسمعة والتفاضل والسيادة والفخر والكبر وأنا الأعلم وأنا الأفضل وأنا الرائد وأنا وأنا، عند ذلك يلزم أن نعلم بأننا قد أصبحنا من أصحاب الدنيا ولسنا من طلاب الحق.

ص: 253


1- أصل الشعر بالفارسية: خريدار بازار بی رونقند *** كسانی كه مردان راه حقند
2- مستدرك الوسائل 11: 264.

إخلاص النية شرط التشرف

هناك العديد ممن نال شرف التشرف بلقاء مولانا الإمام الحجة المنتظر(عليه السلام)،ومنهم صاحب القصة التالية:

كان أحد الأشخاص المؤمنين يعيش في طهران وعمله بيع الأقفال، والقصة تعود لخمسين سنة مضت وقد حكيت عن عدة من ثقاة طهران ممن رأوه، وأنا أنقلها عن بعض علماء طهران.

فقد كان في زمن البهلوي(1) بائع أقفال في طهران يجلس في زاوية من السوق ويرتزق منه، وكان إنساناً مستقيماً، حسن النية صافي القلب، وكان نظره على الأرض دائماً لا يرفعه؛ لأن النساء السافرات كانت تمر من أمامه، وكان يبسط أقفاله على الأرض وليس له دكان، كما كان صادقاً في معاملته وصحيحاً لا يغش الناس، وهذه خصلة مهمة جداً؛ لأنه جاء في الروايات المتعددة بأنه لا تغرنكم صلاتهم، ولا يغرنكم صومهم، ولكن انظروا إلى مدى أمانتهم وصدقهم(2)، فإن حفظ الأمانة والصدق في الحياة صعب جداً.

وكان الناس يتعجبون من صدق معاملة هذا الرجل، حيث كان يتعامل بالقيمة الحقيقية لا ينقص ولا يزيد عليها، ولا يحتال في البضاعة الجيدة وغير الجيدة؛ لأن كل بضاعة فيها جيد وغير جيد.

هذا من جانب، ومن جانب آخر كان أحد المشايخ في طهران في المدرسة الفلانية - لم أعد أتذكر اسم المدرسة - يدعى الشيخ حسين، وكان هذا الشيخ رجلاً صالحاً وزاهداً وعابداً، وقد خطر على باله أن يبحث عن إمام الزمان(عليه السلام)

ص: 254


1- رضا خان المعروف بالبهلوي الأول.
2- انظر الأمالي للشيخ الصدوق: 303، فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة».

لكي يتشرف بلقائه، ففكر بأن أفضل عمل يقوم به كي يحظى برؤية إمام الزمان(عليه السلام) هو أن يصوم النهار ويقوم الليل إلى أربعين يوماً، ففي رواية عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال:«من أخلص للّه أربعين يوماً فجر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(1)، فاشتغل هذا الشيخ بالصيام في النهار، واجتناب الشبهات والمحرمات، وقضاء أكثر الليل بالعبادات من الصلاة وقراءة القرآن وهكذا.

مرت ثلاثة أيام وربما أكثر والشيخ مشغول ببرنامجه العبادي الخاص ولم يعلم أحد بذلك، وفي أحد الأيام مر الشيخ من أمام بائع الأقفال، حيث كان طريقه من هناك عادة، وإذا به يرى أن البائع قد قام بعمل غير مألوف، حيث مر من أمامه شخص ذو هيبة فسلّم الشخص المار عليه، فلما رآه البائع ارتبك وقام من مكانه فوراً وأخذ يقبّل يدي هذا الذي سلّم عليه وانكب على رجليه!

فتعجب الشيخ من عمل هذا البائع، فمن هذا الرجل الذي يحترمه البائع إلى هذه الدرجة؟

فلما ذهب الرجل تقدم الشيخ إلى البائع وقال له: أي عمل هذا الذي فعلته، ومن كان هذا الشخص؟!

علماً بأنه لم تكن بين الشيخ والبائع معرفة سابقة، فلا الشيخ حسين كان يعرف البائع ولا البائع يعرف الشيخ حسين، وإنما مثله مثل كل شخص يمر من أمام شخص آخر.

فقال البائع له: هو من يتمنى الشيخ حسين رؤيته وذلك بصيام أربعين يوماً وقيام لياليها بالعبادة! إنه مولانا الإمام الحجة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشريف.

فالشيخ حسين لم ينل رؤية الإمام(عليه السلام) إلّا في لحظات وهو لايعرفه، أما هذا

ص: 255


1- عدة الداعي: 232.

الإنسان المؤمن البائع للأقفال فقد سلّم الإمام عليه...

وفي هذه القصة دروس وعبر ينبغي علينا أن نلتف إليها.فماذا كان قد فعل بائع الأقفال حتى يسلم عليه إمام الزمان(عليه السلام)؟

هذا ما يلزم التفكر فيه دوماً.

فالإنسان المرتبط باللّه والذي يريد أن يعمل في سبيل اللّه وأن يكون على نهج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) يلزم أن يكون كذلك، فإن اللّه لايعترف بالظواهر ولا ينظر إليها، بل ينظر إلى القلوب وإلى النيات.

في الحديث الشريف: «إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما الأعمال بالنيات»(2).

وفي الآية المباركة: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(3).

فاللّه تعالى يتعامل مع القلوب، حتى إن أولئك الأشرار يحذرهم اللّه في القرآن ويقول: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفِْٔدَةِ}(4)، فالنار ترتبط بقلوبهم قبل جوارحهم، والأفئدة جمع فؤاد يعني: القلب، ذلك المكان الذي جعل من معاوية في النار، وجعل من سلمان في أعلى عليين، إنه القلب، من هنا ترى أن المحور في الآيتين هو القلب.

قصة من أفغانستان

أفغانستان كانت ولازالت تعيش بعض العصبية المذهبية الشديدة، وإن قلّت

ص: 256


1- جامع الأخبار: 100.
2- تهذيب الأحكام 4: 186.
3- سورة الشعراء، الآية: 89.
4- سورة الهمزة، الآية: 6- 7.

يوماً بعد يوم، وقد ظُلم الشيعة هناك كثيراً، فقتلوا منهم الكثير حتى أرادوا إبادتهمفي قضية عبد الرحمان خان وغيرها(1).

ص: 257


1- في العام 1880م وجدت بريطانيا نفسها مجبرة على الانسحاب من أفغانستان، لذا عمدت إلى تنصيب عميل لها على البلاد، يكون مطيعاً لها ومنفذاً لأوامرها ورغباتها وأهدافها. وكان الخيار البريطاني المناسب هو (عبد الرحمن خان) الذي كان معروفاً بقساوة القلب، وعديم العاطفة والرحمة، كما كان أنانياً ومستبداً وعنيداً وحقوداً، وكان يحتقر شعبه، ويشعر بعقدة الحقارة والضعف والدونية أمام الإنجليز، كما كان معروفاً بحقده وكراهيته وعدائه لجميع القوميات الأفغانية والقبائل البشتونية عدا قبيلته، وكان حقده وعداؤه للمسلمين الشيعة والهزارة أشد وأكثر. كما كان شديد العداء والكراهية للعلماء؛ ويكيل لهم السباب والشتائم والإهانات. وكان أول عمل يقوم به بعد الاستيلاء على منطقة ما، هو تخريب المدارس والمساجد والمراكز العلمية والثقافية، وزج العلماء والمثقفين والمفكرين والفنانين وأصحاب المهارات والمهن في السجون. وعندما استولى على مدينة هراة دمر أكثر من خمسين مدرسة ومسجداً وحسينية. كما هدم مصلى هراة الذي كان يعتبر نموذجاً رائعاً وفريداً من نوعه في الفن المعماري في آسيا الوسطى، وتراثاً إسلامياً وحضارياً متميزاً في أفغانستان. وبالرغم من الإرهاب الذي كان يمارسه عبد الرحمن خان، وسياسة البطش والاستبداد والقتل الذي اعتمده لإرساء قواعد نظامه الجائر، لم يستسلم الشعب الأفغاني، وبدأت أصوات المعارضة ترتفع من هنا وهناك، فانطلقت ثورات شعبية عديدة ضده، وكان الثائرون من السنة والشيعة والبشتون والأزبك والهزارة والطاجيك لديهم هدف واحد، هو القضاء على نظامه الجائر، وكانت أهم تلك الثورات: ثورة القبائل البشتوتية، وثورة التركستانيين، وثورة المسلمين الشيعة الهزارة. وقد سعى عبد الرحمن خان للحصول على مبرر ديني وشرعي للقضاء نهائياً على المسلمين الشيعة في هزارستان؛ لأنه كان يدرك بأن التوسل بالأساليب الدينية والمبررات الشرعية هو السبيل الوحيد لإثارة جميع القبائل الأفغانية السنية ضد المسلمين الشيعة. فاستغل جهل الناس وتخلفهم الكبير واعتقادهم الراسخ بالعلماء ورجال الدين، في سبيل تحقيق أهدافه المشؤومة. لذا فقد طلب من علماء البلاط إصدار فتوى بتكفير المسلمين الشيعة، باعتبارهم متمردين وخارجين على السلطان العادل! ومع الأسف أن عدداً من علماء السوء ووعاظ السلاطين استجابوا لطلبه وأصدروا فتوى بتكفير المسلمين الشيعة!! ويقال: إن عبد الرحمن كان قد حصل على فتوى تكفير المسلمين من علماء نجد والحجاز - كما يفعلون اليوم مع الشعب العراقي المظلوم - وإن العلماء الأفغان استندوا على ذلك، وفيما يلي نص الفتوى: (بسم اللّه الرحمن الرحيم، لا يخفى على المسلمين وأتباع المذهب الحنفي الحنيف، أن الأمير عبد الرحمن خان حفظه اللّه المنان، من شرور البدعة والطغيان، قام بتأديب الهزارة البغاة الأشرار، وبعد أن ظفر على بعضهم، حصل جنود الأمير المنصور على ورقتين من كتاب يسمى (تحفة المواج) في إحدى المناطق التابعة للهزارة الأشرار، وتتضمن الورقتين أبيات كلها سب وشتم وإهانات صارخة للخلفاء الراشدين الثلاثة، سيدنا أبي بكر الصديق، وسيدنا عمر الفاروق، وسيدنا عثمان ذي النورين (رضي اللّه عنهم جميعاً)، الذين هم أئمة وقدوة المسلمين. وقد قام ظل اللّه في الأرض الأمير عبد الرحمن خان، بإرسال الورقتين إلى محكمة الشريعة النبوية العليا في كابل للتحقيق والبت في الأمر، وإبداء رأيها وحكمها الشرعي في المسألة. وبعد أن اطلعت المحكمة على أبيات الكفر والضلال، ومن أجل أن تقطع الطريق على الروافض، وتسلب منهم فرصة الإنكار والتقية والبراءة من مضمون أبيات الرفض، حصلت المحكمة على كتاب (حياة القلوب) تأليف محمد باقر المجلسي ووجدنا نص مضامين تلك الأبيات في ذلك الكتاب المعتبر لدى الروافض. وبعد التحقيق والتحري ثبت لدى محكمة الشريعة النبوية العليا وبدون أدنى شك رفض وكفر وارتداد الهزارة، وبناءً على هذا نحكم نحن في محكمة الشريعة النبوية العليا في كابل بكفر وارتداد الهزارة ووجوب قتلهم قبل التوبة وبعدها. إننا واعتباراً من اليوم نعتبر الهزارة مرتدين وبغاة، ومفسدين في الأرض، وإن قتلهم وتمزيق صفوفهم، وهدم بيوتهم، وسبي نسائهم، هو عين الجهاد، وقوام للدين، ونصرة للإسلام والمسلمين. إن أمر الأمير العادل عبد الرحمن خان بوجوب محاربة الهزارة البغاة فرض واجب على كل من يمكنه القيام بذلك، وأن من قتل أحداً من الهزارة أو قُتل دون ذلك يعتبر شهيداً ومجاهداً وغازياً وناصراً للدين الحنيف ورسول الإسلام. كما أن قتلى الهزارة مخلدون في النار والجحيم. إننا نقدم هذا الحكم الشرعي إلى الأمير العادل عبد الرحمن خان ونرجو من جلالته ومقامه الكريم، إبلاغ هذا الحكم إلى كافة المسلمين في أفغانستان، ليعلم جميع المسلمين الأفغان بكفر وارتداد الهزارة، ووجوب القضاء عليهم في كل مكان). التوقيع: المولوي مير فضل اللّه، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي مير محمد، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي مير نظام الدين، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي عبد الملك، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي عمر عمران، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي مير سيد ظاهر، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي عبد الحميد، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي محمد إسلام، مستشار محكمة الشريعة النبوية في باميان. بعد حصول عبد الرحمن على فتاوى تكفير المسلمين الشيعة، وجد الظروف مناسبة أكثر من أي وقت آخر للانتقام من المسلمين الشيعة. فبادر إلى إرسال عدد من وعاظ السلاطين إلى أقاليم ومدن البلاد، لإبلاغ الناس فتوى التكفير، وحث الناس على التطوع والمشاركة في قتال الهزارة. وقد طبعت عشرات الآلاف النسخ من الفتوى لتوزيعها في مختلف المدن والقرى والأرياف. كما استدعى عبد الرحمن زعماء قبائل البشتون، ولا سيما الحدودية ودعاهم إلى إرسال مقاتليهم للمشاركة في الحرب، ووعدهم بتوزيع أراضي وأموال وممتلكات الهزارة عليهم، ويكون لهم ما غنموه من الأموال وما أسروه من النساء والغلمان. وبهذه الأساليب الخبيثة تمكن عبد الرحمن أن يجند عشرات الآلاف من أبناء القبائل البشتونية، لا سيما القبائل البدوية لمحاربة الهزارة، كما أرسل 125 ألفاً من قواته النظامية إلى هزارستان. وبدأت الحرب غير المتكافئة بين المسلمين الشيعة الذين كانوا يدافعون عن مقدساتهم ووجودهم وبين جيش مدجج بأحداث أنواع الأسلحة. وأمر عبد الرحمن بأسر المئات من أبناء الهزارة الذين كانوا في المناطق الواقعة تحت سيطرته، واستخدامهم كدروع بشرية في القتال. وبدأت المعارك بعد هجوم واسع شنته القوات الحكومية من جميع المحاور على مواقع المسلمين الشيعة الذين لم يكن أمامهم خيار سوى المقاومة المستميتة والتصدي بقوة للحملات الوحشية. ومع أن المسلمين الشيعة كانوا يعرفون عدم جدوى المقاومة، وأن المهاجمين لن يتركوهم وشأنهم حتى إذا انهزموا لمرات عديدة. لكنهم فضلوا المقاومة حتى الموت في ساحة القتال دفاعاً عن العقيدة والإيمان والكرامة على الاستسلام، كما أنهم كانوا على يقين بأنهم سيقتلون سواء قاوموا أم استسلموا. وفي ربيع عام 1892م بدأ الهجوم الواسع لقوات عبد الرحمن من خمسة محاور هي: كابل، وغزنة، وقندهار، وهرات، ومزار شريف. وكان السردار عبد القدوس خان المعروف بقساوة قلبه، وعدائه الشديد للمسلمين الشيعة يقود العمليات. وقد أصدر هذا المجرم وبناءً على تعليمات عبد الرحمن أمراً بقتل جميع الرجال الهزارة دون تمييز بين مسلح وغير مسلح، وحرق المزارع وإتلاف المواد الغذائية، كما أمر بفرض حصار اقتصادي محكم على هزارستان. وبالرغم من اتساع دائرة العمليات العسكرية والتفوق العددي والتكنولوجي لقوات عبد الرحمن إلّا أنها لم تتمكن من التقدم في المناطق الشيعية، إذ كانت تواجه مقاومة عنيفة في جميع المحاور. واستمر هذا الدفاع البطولي والمقاومة المستميتة أكثر من سنة كاملة. وفي صيف عام 1893م شددت قوات عبد الرحمن من هجماتها، واستخدمت المدافع الميدانية المتطورة لضرب مواقع المدافعين، كما أن الحصار الاقتصادي وانتشار المجاعة وأنواع الأمراض المعدية بين سكان المنطقة قد أثر في معنويات المدافعين، فتمكنت قوات عبد الرحمن من اختراق بعض المواقع، وإيجاد ثغرات في تحصينات الهزارة. واستولى على المناطق الشيعية بالتدريج واضطر المدافعون إلى الانسحاب إلى منطقة اورزكان القلعة الطبيعية الحصينة للمسلمين الشيعة. وقد ارتكبت قوات عبد الرحمن مجازر بشعة في المناطق الشيعية، وحولتها إلى مسالخ حقيقية، فقتلت عشرات الآلاف من الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ، وحفرت مقابر جماعية دفن الناس فيها وهم أحياء. وبعد انسحاب المقاتلين الشيعة إلى اورزكان فرضت القوات الحكومية طوقاً محكماً على المنطقة، وجرت أشد المعارك وأشرسها في تلك المنطقة واستمرت عدة أشهر ولكن أخيراً سقط ذلك الحصن المنيع بعد استشهاد المدافعين والمقاومين. واستولى عبد الرحمن على جميع مناطق هزارستان بعد قتال دام أكثر من عام ونصف. وقام عبد الرحمن بارتكاب جرائم ومجازر بشرية، ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل قام بمصادرة أفضل الأراضي الزراعية، وتوزيعها على القبائل البدوية الحدودية التي كانت تحت حماية الإنجليز، والمناطق المغتصبة هي: اجرستان، جورة، اورزكان خاص، كيزاب، تيري، دهراود، داي جوبلن. وهذه المناطق تعتبر من أفضل مناطق أفغانستان من الناحية الزراعية حيث خصوبة الأرض، ووفرة المياه، فضلاً عن الموقع الاستراتيجي. بعد سيطرة عبد الرحمن على المناطق الشيعية في هزارستان، بادرت مرتزقته الأشرار إلى ارتكاب مجازر بشعة وجرائم فظيعة في مختلف المناطق، ولم يتركوا جريمة إلا وارتكبوها. لقد كانت التعليمات المعطاة للجنود واضحة وهي القضاء الكامل على الهزارة. وقد استخدمت مرتزقة عبد الرحمن أبشع الأساليب في القتل والتعذيب والتنكيل، وكانت تقوم بحرق القرى، وهدم المساجد، وحرق المزارع والأشجار، وإبادة المواشي. كما أنها كانت تمنع الناس من دفن الموتى والقتلى، حتى أن أغلب الجثث كانت تتفسخ وسط البيوت. وقد انتشرت نتيجة ذلك مختلف الأوبئة والأمراض حتى أن بعض الجنود أصيبوا بأمراض خطيرة انتشرت في المنطقة. ومن أساليبهم الوحشية، قطع أطراف المعتقل وتركه ينزف حتى الموت. ومنها تسليط الكلاب المتوحشة على المعتقل وهو مقيد لتنهش من لحمه حتى يموت. ولعل من أبشع جرائمهم وأفظعها ذبح الأطفال والرضع أمام عيون أمهاتهم، واغتصاب الفتيات المسلمات، والاعتداء على النساء بحضور أرحامهن. ومنها تجريد الطاعنين في السن من النساء والرجال من ثيابهم وشد وثاقهم وتركهم في العراء دون طعام وشراب حتى الموت. وكان جنود عبد الرحمن يتلذذون من قتل الأطفال، وكانوا يعتبرونه لعبة مسلية ومثيرة. حيث كانوا يرمون الأطفال إلى الأعلى ثم يتلقونهم بسيوفهم ورماحهم ويقطعونهم إرباً إرباً. أما عن معاملتهم مع أسرى الحرب فحدث ولا حرج، حيث كانوا يقطعون أنف الأسير وأذنيه، ويدخلون سيخاً حديدياً ساخناً في عينيه، بعد ذلك كانوا يقطعون يديه ورجليه ويستمرون في طعنه وضربه بالسيوف والخناجر حتى الموت. وكان لدى كل واحد من الضباط عدد من الكلاب المدربة على أكل لحوم البشر، والفتك بالإنسان خلال لحظات. وكان يقدم إلى الكلاب في كل وجبة أسير شيعي مقيد، فكانت الكلاب تفتك به وتأكل من لحمه. وكانوا في أغلب الأحيان يعلقون الأسير في غصن شجرة، ويبقرون بطنه ويخرجون أحشاءه، ثم يتركون الكلاب المتوحشة لتأكل من أحشائه ولحمه. بعد عام كامل من القتل الوحشي والتصفية الجسدية أصدر عبد الرحمن أمراً بوقف قتل الهزارة، وأجاز بيع وشراء أسرى الهزارة، بشرط أن يدفع كل من يبتاع شيعياً 10% أي عُشر ثمنه للدولة. بعد هذا الأمر الجائر بدأت معاناة ومأساة جديدة للمسلمين الشيعة، وكان الجنود ومرتزقة النظام يغتصبون الفتيات ونساء الهزارة. وعندما كان أحد من ذوي وأقارب تلك الفتيات يقدم شكوى إلى أمراء الجيش، كان الجنود يدعون بأنهم ابتاعوها من شخص آخر. وكان الناس يفضلون الموت على الحياة والعيش الذليل، وعلى هذا كانوا يقدمون على الانتحار للتخلص من الأسر، ويقال: بأن مرتزقة عبد الرحمن اعتقلت 400 امرأة شيعية في منطقة داية بولاية غزنة، وكان من المقرر نقلهن إلى العاصمة لعرضهن في أسواق النخاسة، وعندما وصلن فوق جسر على نهر جاغوري رمين بأنفسهن في النهر وغرقن في أمواجه. ويقال: بأن 40 فتاة من منطقة اورزكان هربن إلى الجبال من مرتزقة عبد الرحمن، وعندما شعرن بأنهن أمام طريق مسدود، صعدن إلى قمة صخرة عالية ورمين بأنفسهن في وادي سحيق دفعة واحدة، فتقطعت أوصالهن والتحقن بالرفيق الأعلى. وكانت كبيرة الفتيات تدعى شيرين فصار اسمها رمزاً للبطولة والفداء في هزارستان. وبعد أن أصدر عبد الرحمن أمره بجواز بيع وشراء المسلمين الشيعة، نشطت أسواق النخاسة في كابول وقندهار وغزنة وهرات والمدن الأخرى. وكان الأسرى من النساء والرجال والأطفال يؤخذون إلى كابل والمدن ليباعوا في محلات خاصة. وكانت أنشط المراكز هي العاصمة كابل، حيث كان عبد الرحمن بنفسه يشرف على البيع. وقد حددت الحكومة أسعاراً للأسرى كالتالي: الفتاة الباكرة 10 روبيات، والفتاة الشابة 5 روبيات، والشاب البالغ 15 روبية، والصبي دون الخامسة عشر 5 روبيات. أما الأطفال وغيرهم فقد كان يتم بيعهم دون التقيد بسعر معين. وكان يتم إيقاف الأسرى بشكل استعراضي، وكل من كان يرغب بشراء أسير كان عليه أن يدفع المبلغ المحدد للأمير عبد الرحمن، ثم يقوم باختيار العبد أو الأمة من بين الأسرى. وما أن يتم اختيار العبد أو الأمة حتى كانت أصوات الطبول ترتفع فرحاً وابتهاجاً. ولا يعلم إلا اللّه وحده كم عدد المسلمين الشيعة الذين تم بيعهم في أسواق النخاسة في مختلف المدن، إلا أن هناك بعض الأرقام التي تبين جانباً بسيطاً من عدد الأسرى الهزارة الذين تم بيعهم، مع أن مصدر هذه الأرقام هو السلطة الظالمة، إلا أنها تكشف مدى ظلامة المسلمين الشيعة الهزارة، ومدى حقد وحقارة أعدائهم. فقد ورد في المستندات الحكومية: بأن القاضي ملا خواجه محمد قاضي المحكمة الشرعية في ارزكان، بعث إلى الأمير عبد الرحمن خان مبلغ 1940 روبية من الضرائب المأخوذة عن بيع 1293 امرأة وطفل شيعي في ارزكان. وفي مدينة قندهار تم بيع 46666 شخص ما بين امرأة وفتاة وشاب وطفل. وكان مسلسل إبادة المسلمين الشيعة مستمراً بكل وحشية وقساوة وبربرية إلى أن أخبر الشيخ الآخوند ملا كاظم الهروي صاحب كتاب كفاية الأصول، سماحة آية اللّه العظمى السيد ميرزا حسن الشيرازي(رحمه اللّه) عن الأوضاع المأساوية للشيعة في أفغانستان، فبعث رسالة شديدة اللّهجة إلى ناصر الدين شاه ملك إيران، وأمره أن يطلب من بريطانيا الإيعاز إلى عبد الرحمن بوقف مجازر المسلمين الشيعة، وهدد سماحته في حال استمرار المجازر فإنه سيتخذ قرارات حاسمة. وأبلغ ناصر الدين شاه رسالة الإمام الشيرازي إلى الإنجليز الذين طلبوا من عميلهم عبد الرحمن وقف المجازر فوراً. وبناء على أوامر الإنجليز فقد أوقف (عبد الرحمن) مسلسل إبادة المسلمين الشيعة، وأمر بانسحاب قوات الجيش من هزارستان. لقد كانت رسالة الإمام الشيرازي سبباً في وقف إبادة المسلمين الشيعة، ومن الغريب أن العديد من وسائل الإعلام والصحف الإسلامية التي تكتب عن حياة الإمام الشيرازي، لم تتطرق إلى هذه الرسالة التاريخية الهامة التي أنقذت حياة عدة ملايين من المسلمين الشيعة، ولا شك في أنها لا تقل في الأهمية عن فتوى التنباك وغيره. وبعد تحرك الميرزا الشيرازي خف أعمال القتل ومسلسل إبادة المسلمين الشيعة إلى حد كبير، إلّا أن عملية التجويع والقهر والإذلال استمرت في ما بعد، وقد حرم المسلمين الشيعة من جميع حقوقهم الاجتماعية والإنسانية، وأصبحت مناطقهم محرومة من كل الخدمات، وحتى الآن تعتبر المناطق الشيعية من اكثر المناطق حرماناً في أفغانستان. كما رأينا هذه الحالة في العراق أيام حكم المجرم صدام المخلوع.

ص: 258

ص: 259

ص: 260

ص: 261

ص: 262

وقد حدثني المرحوم المدرس الأفغاني(رحمه اللّه) وذلك عند ما كان يأتينا للزيارة بعد ما يُنهي تدريسه، قال: إن القبيلة الفلانية في أفغانستان - ولا أريد ذكر اسمها - كانت متعصبة ضدنا نحن الشيعة بصورة شديدة، يقول: وفي إحدى المرات جمعتني الصدفة مع أربعة منهم في السيارة وكنا نريد الذهاب من مدينة إلى أخرى، ومن أجل إضفاء جو المحبة والصداقة عندما وصلنا إلى محل الاستراحة فقد ذهبت إلى المقهى وطلبت من صاحب المقهى أن يعطيني شاياً بالإبريق مع الأقداح والصينية، لا أن يعطيني الشاي بيدي، فأعطاني إبريق الشاي ومعه الأقداح والسكر بعدما وضعها جميعاً في صينية، فأخذتها وقد وضعت يدي تحتها وجئت بها وكانوا أربعة وقلت: لهم تفضلوا. قالوا: لا نشرب، قلت: لماذا؟ قالوا: لأنك نجس. قلت: لو سلمنا بأنني نجس! ولكني لم ألمسه بيدي. قالوا:

ص: 263

كلا، ما أن لمست يدك الصينية فقد تنجس الشاي جميعاً.

الاستغاثة بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف

ذكر لي أحد المؤمنين من أفغانستان قبل أربعين عاماً وذلك عندما كنا في العراق، قال: في أحد الأيام وصلت إلى قبيلة متعصبة جداً، لذلك فقد أخفيت مذهبي خوفاً على نفسي. قال: وقد أُجبرت على البقاء هناك مدة، فرأيت في القبيلة شاباً من نفس القبيلة، أبوه فلان، وكان شاباً في الخامسة أو السادسة والعشرين من العمر، وكان شيعياً قوياً في اعتقاده. قال: فتعجبت كثيراً، فسألته يوماً: ألست ابن فلان؟ ألست شقيق فلان وفلان؟ وكلهم كانوا من أبناء العامة، فكيف تكون قبيلتك بهذا التعصب وأنت شيعي هكذا؟ وكيف لم ينزلوا بك بلاءً لحد الآن؟ قال: في الحقيقة أنهم لم ينزلوا عليَّ بلاءً؛ لأن القبيلة سابقاً قد اتفقت في ما بينها على أن لا يغدر أحد بأحد.

لقد كان أبو لهب ضد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكنه كان يقول: إن محمداً مني فلا أدعكم تهجمون على داره في قصة الهجرة المشهورة(1)، بالرغم أنه كان من أشد أعداء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقلت له: فكيف أصبحت شيعياً؟

قال: إن لي قصة عجيبة، فقد كانت لي (داية) - أي: مرضعة - شيعية وكانت من غير قبيلتنا، وكانت فقيرة، وبقيت عندها إلى أن أصبح عمري خمس أو ست سنوات، وكنت أحياناً أزورها في شبابي، وكانت قبيلتنا تقول عنها: إنها

ص: 264


1- فقد ورد في قصة الهجرة المباركة: أنه لما أمسى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، جاءت قريش ليدخلوا عليه. فقال أبو لهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل؛ فإن في الدار صبياناً ونساءً، ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة، فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه. فناموا حول حجرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم). انظر تفسير القمي 1: 275.

نجسة، فلا يأكلون معها، وكانت امرأة طيبة تصلي وتصوم وتقرأ القرآن. وفي أحد الأيام قلت لها: أنتِ امرأة طيبة، تصلين وتصومين وتقرئين القرآن، وأنتِطاهرة وأمينة ولا تكذبين، فلِمَ يقول عنكِ هؤلاء بأنكِ كافرة؟! قالت: دعك من هذا.

قال: فأصررت عليها.

فقالت: في الحقيقة نحن وهؤلاء مذهبان، ونحن على مذهب الشيعة.

قلت: وما الذي في مذهب الشيعة من زيادة أو نقصان؟

قالت: نحن إمامية اثنا عشرية ومن أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، ثم أخذت تذكر أسماء الأئمة(عليهم السلام) واحداً بعد واحد، وبعدما وصلت إلى الإمام الحجة(عليه السلام)، قالت: إن هذا الإمام حي وموجود، وسيأتي في يوم ما ليملأ الأرض بالقسط والعدل بعد ما ملئت بالظلم والجور.

قلت لها: وما الفائدة في أن يكون غائباً ثم يأتي بعد مائة أو مائتي سنة أو أكثر؟

قالت: من فوائده أنه إذا ما وقع إنسان في مشكلة فاستغاث به يغيثه، كأن ضل في الصحراء أو البحر أو ما أشبه.

انتهى حديثنا آنذاك، إلى أن عزمت على الحج، وكان السفر للحج بواسطة الجمال - لأنه وإلى خمسين سنة قبل لم تكن السيارات موجودة، وكان الناس يسافرون على الجمال وما أشبه - قال: ركبنا الجمال وذهبت مع القافلة إلى الحج، وفي أحد الأيام تعبنا جميعاً، فالطريق طويل، والصحراء والحر والبرد وقلة الطعام، وقد دخل الليل فنامت القافلة ونمت أنا أيضاً، وفجأة استيقظت من حرارة الشمس فلم أر أحداً في الصحراء، وولم يكن بعيري موجوداً، فقد ذهب الجميع وفقدت راحلتي، فاستوحشت وحشة شديدة من هذا الأمر ولم استوحش طول عمري مثل هذا، فالخوف من اللصوص - فاللصوص في

ص: 265

السابق كانوا يقتلون الإنسان في كثير من الأحيان، ولا يكتفون بسرقته، بل ربما كانوا يتعدون على عرضه سواء كان شاباً أم فتاة - والخوف من الحيوانات المفترسة في الصحراء، فماذا أفعل - فالإنسان الذي يقع في مأزق مثل هذا يفهم معنى هذا الكلام، وأي وحشة تسيطر عليه؛ لأنه هناك صفات لدى الإنسان يفهمها في وقتها، ولكن لا يمكنه فهمها من القصة - قال: لقد تملكني هكذا شعور، وفي هذا الأثناء تذكرت تلك الداية المرضعة وحديثها عن الإمام الحجة(عليه السلام)، فقررت الاستغاثة بالحجة(عليه السلام)، فاستغثت به وفجأة شاهدت فارساً قد قصدني وقال: ما تريد؟ قال: عندما جاء لم أعرفه وفكرت أنه شخص عادي، فقال: ما تريد؟ وقد تكلم معي باللغة الفارسية وباللّهجة الأفغانية.

قلت: لقد ظللت الطريق، وقد تركتني القافلة، وأنا قلق ومضطرب.

قال: لا عليك... اتبعني. وكان هو على الفرس وأنا راجل، فتحركنا خطوتين أو ثلاث خطوات، فقال: هذه قافلتك. وما أن قال: هذه قافلتك، حتى خطر ببالي من يكون هذا! فنظرت فلم أره وانتهى الأمر، فعرفت في وقتها أنه الإمام الحجة(عليه السلام)، وكانت ما قالته الداية لي حقاً، فتشيعت في الحال وقدمت إلى مكة، فالتقيت بعالم من علماء الشيعة وسألته عن آداب التشيع، فعلمني ذلك، ومنذ ذلك الحين أنا شيعي، ومهما حاولت القافلة والأقرباء والأصدقاء بأن أرجع عن التشيع لم يتغير رأيي لأنني عرفت الحق فاتبعته عن قناعة.

اعتراف شاعر النيل

هناك الكثير ممن يعرف الحق ولكن لا يعترف به ولا يتبعه، فالحديث النبوي الشريف الذي يصرح بأن: «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة

ص: 266

جاهلية»، أي لم يعترف به، و: إلّا فإن هذا الحديث رواه أبناء العامة أيضاً، كما أنهم ذكروا قول خليفتهم الثاني: (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1).وقوله: (لولا علي لهلك عمر)(2).

وكذلك بالنسبة إلى ما جرى من الظلم على الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام) وهجوم القوم على الباب.

ومع ذلك كله لم يعترفوا بولاية الأئمة الطاهرين من أهل البيت(عليهم السلام).

كان فاروق ملك مصر قبل عبد الناصر...

علماً بأن مصر كانت من بلاد الشيعة ولكن بعد ما قتل صلاح الدين الأيوبي جميع الشيعة هناك وأسقط الدولة الفاطمية تغيرت المعادلة.

وكان في عهد فاروق شاعر مصر المعروف حافظ إبراهيم والذي يسمى ب- : (شاعر النيل)، والنيل نهر مصر، فيعني شاعر البلاد، وله ديوان شعر وقد قرأت ديوانه أنا شخصياً ولا أنقل عن أحد، وديوانه موجود يباع. وقد أقام الملك فاروق احتفالاً عظيماً حضره كافة الوزراء والعسكر وعلماء الأزهر، فألقى حافظ إبراهيم قصيدته التي يقول في مطلعها:

حسبي وحسب القوافي حين أُلقيها *** إني إلى ساحة الفاروق أُهديها

يعني: يكفيني فخراً أن أُهدي قصيدتي هذه إلى الفاروق.

فقيل له: وأي فاروق تريد، هذا الفاروق، أم عمر؟

قال: أي منهما قصدتم فهو صحيح.

ثم ألقى قصيدته، إلى أن وصل إلى هذا البيت:

ص: 267


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 18، نظم درر السمطين: 132.
2- انظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 152، وغيره كثير.

وقولة لعلي قالها عمر *** أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقت دارك لا أُبقي عليك بها *** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

لاحظوا أنهم يعرفون كل شيء، ولكن مجرد هذه المعرفة لا تكفي، بل يلزم أن تكون المعرفة مستلزمة لما يترتب عليها.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى مولانا الإمام المهدي المنتظر(عليه السلام)، فإن أبناء العامة كتبوا ورووا حول الإمام المهدي(عليه السلام) الكثير من الكتب والروايات، ولكن هذا بوحده لا يكفي(1).

تعريف الناس بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف

اشارة

نحن أناس قد منّ اللّه علينا بمعرفة إمام زماننا الإمام الحجة(عليه السلام) والاعتقاد به، فعلينا أن نسعى لهداية الآخرين أيضاً إلى ذلك.

إن اللّه قد أعطانا شمساً مضيئة لكننا جعلناها منحصرة بمكان خاص، فلا يكفي مجرد الدعاء للإمام(عليه السلام) بالفرج والتوسل إليه، والقيام ببعض الوظائف المذكورة من التصدق وما أشبه، بل علينا مسؤولية هداية الآخرين لمعرفة هذا الإمام العظيم والاعتقاد بولايته.

فيلزم على كل واحد منا أن يسعى لنشر اسم الإمام(عليه السلام) وعلومه ومدرسته في العالم أجمع، عبر طبع ونشر الكتب وتقديم البرامج التلفزيونية في الفضائيات وغيرها، والاستفادة من الإنترنيت وما أشبه لتعريف العالم بالإمام(عليه السلام).

يوجد في قم المقدسة أحد العلماء - والذي لا يرغب في ذكر اسمه - وقد أتعب نفسه منذ سبع إلى عشر سنوات بجمع الكتب التي أُلفت حول الإمام

ص: 268


1- انظر كتاب: (المهدي(عليه السلام) في القرآن)، و(المهدي(عليه السلام) في السنة)، للمرجع الديني آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازيK.

الحجة(عليه السلام)، وقبل أسبوع أو عشرة أيام أخبرني بأنه تمكن من جمع اسم ألف وثلاثمائة كتاب دُوّنت حول الإمام(عليه السلام) بشكل مستقل باللغة العربية والفارسيةوغيرها.

فقلت له: أتعلم كم نحن مقصرون في حق امام الزمان(عليه السلام)، فإن الإمام(عليه السلام) موجود منذ اثني عشر قرناً تقريباً، إذ ولد عجل الله تعالی فرجه الشريف في سنة مائتين وخمسة وخمسين للهجرة ونحن الآن في سنة ألف وأربعمائة وعدة سنوات للهجرة، ولم يكتب حول الإمام(عليه السلام) سوى 1100إلى 1200كتاب، حسب البحث الطويل الذي دام عدة سنوات لاستقراء هذه الكتب، وهذا يعني أن معدل الكتابة هو كتاب واحد فقط لكل سنة. وإذا ما نظرنا إلى الأرقام العالمية فسنرى كم هذا الرقم ضئيل وقليل.

قاعة (إقبال) في المكتبة البريطانية

ثم نقلت له ما كتب حول إقبال اللاهوري(1):

فقلت: إن أربعة أشخاص قبل خمسين سنة - وأنا أتذكرهم جميعاً - قد أتعبوا أنفسهم من أجل استقلال باكستان، وهم:

1- محمد علي جناح(2).

2- خان عبد الغفار خان.

3- إقبال اللاهوري.

4- راجو محمود آباد.

وقد شاهدت هذا الأخير عندما جاء إلى العراق للزيارة، فهؤلاء الأربعة قد

ص: 269


1- شاعر وفيلسوف مسلم باكستاني.
2- سياسي هندي مسلم.

تحملوا المشاق والمتاعب الكبيرة وضحوا بأموالهم وأنفسهم فجعلوا من باكستان دولة مستقلة، وقد رحلوا كلهم عن الدنيا، أحد هؤلاء الأربعة اسمه إقبال، وإقبال توفي حديثاً يعني قبل ثلاثين أو خمس وثلاثين سنة، أما خان عبد الغفار خانفقبل عشر سنوات، لقد كانوا معاصرين لنا.

وكان إقبال أشهرهم، وقد كتب عنه أصدقاؤه كثيراً من الكتب في تاريخه وسيرته، فكم بلغ عدد الكتب التي كتبت عنه؟

إنها بلغت خمسة آلاف كتاب وكراس.

ينقل أحد المعاصرين له وهو من أصدقائنا المعممين، ويقول: لقد سافرت إلى بريطانيا، فذهبت إلى المكتبة الوطنية هناك، فسألت أمين المكتبة وقلت: هل عندكم كتاب حول إقبال؟

قال: ليس عندنا كتاباً فقط بل عندنا قاعة خاصة حول إقبال وتدعى: (قاعة إقبال)، وكان يتكلم بالفارسية.

فقلت: أتأذن لي بدخولها؟

قال: تفضل، وأرسل معي شخصاً ليرشدني، وكانت القاعة كبيرة، وكانت مملوءة بأقفاص الكتب من أرضها إلى سقفها، وكان جميعها حول إقبال.

قال: بما أني كنت أعرف أربع لغات هي: الفارسية والعربية والتركية والأُردية. قلت: وأين هي؟

قال: هناك، وأرشدني إليها بحيث كان مجموع هذه الكتب باللغات الأربعة يبلغ أربعمائة وعشرون كتاباً قد طبعت بهذه اللغات، بالإضافة إلى كتب أخرى بسائر اللغات كالصينية والهندية والإنجليزية وما أشبه فلم أحصها، ولكن الذي أحصيتها بهذه اللغات الأربعة فقط بلغ أربعمائة وعشرين كتاباً.

ص: 270

والآن كم نحن مقصرون وقاصرون في حق الإمام الحجة(عليه السلام).

فإقبال كان فرداً نشطاً وشاعراً معروفاً وله عدة قصائد، وقد قرأت بعض قصائده، وبيته موجود إلى الآن في باكستان وقد تحول إلى متحف، إنه يُكتب عنهخمسة آلاف عنوان بحيث تشكل مكتبة كاملة، عندها نحن وخلال اثني عشر قرناً لم نكتب حول الإمام الحجة(عليه السلام) سوى ألف وثلاثمائة كتاب.

إن قم وحدها تتمكن من تعريف إمام الزمان(عليه السلام) إلى العالم بأجمعه، ففي قم يوجد خمسة وعشرون ألف رجل دين، فإذا ما كتب كل واحد منهم كتاباً حول إمام الزمان(عليه السلام) خلال سنة واحدة، فكم يصبح العدد دفعة واحدة، يصبح خمسة أضعاف الكتب المؤلفة حول إقبال.

لكننا ومع الأسف أصبحنا أمة متأخرة ومتخلفة، فلا نعمل بمسؤولياتنا الدينية تجاه أئمتنا الطاهرين(عليهم السلام)، بالرغم من أننا كنا أصحاب الهمم والثقافة والتقدم في بدو الأمر، حيث كانت الهمة همتنا، والتقدم لعلومنا، فإن تطور الغرب وتقدمه كان ببركة علوم الإسلام وعلوم أهل البيت(عليهم السلام).

تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام

العلامة السيد حسن الصدر من علماء الشيعة المرموقين ألف كتاباً تحت عنوان: (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) يقول في هذا الكتاب: إن الشيعة هم الذين أسسوا كافة العلوم الإسلامية، ثم إن سائر المذاهب أخذوا منهم(1)، لقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة: إن كافة العلوم قد أخذت عن علي بن أبي طالب(عليه السلام)(2).

ص: 271


1- انظر مقدمة الكتاب.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 17.

لا حظوا بأن مثل ابن أبي الحديد والذي لم يكن شيعياً يعترف بأننا كنا في المقدمة.

ولكن ماذا حصل لنا حيث تأخرنا قليلاً قليلاً؟

نعم يلزم علينا أن نجدد نشاطنا في مختلف المجالات وخاصة في ما يرتبط بتعريف الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) إلى العالم، فنؤلف الكتب حول الإمام الحجة(عليه السلام) ليتعرف على وجوده المبارك جميع الناس ويعرفون أنه المنقذ الحقيقي الحي، فالأئمة(عليهم السلام) كلهم منقذون ولا شبهة في الموضوع، ولكن هذا العصر هو عصر الإمام المهدي(عليه السلام)، وهو المنقذ للبشرية بإذن اللّه تعالى، مضافاً إلى أن الأئمة(عليهم السلام) هم الذين أمرونا وأرشدونا نحو الإمام(عليه السلام).

كان أحد الأشخاص المؤمنين يزور الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء المقدسة لحاجة له وذلك لمدة غير قصيرة، فرأى الإمام الحسين(عليه السلام) في عالم الرؤيا وهو يقول له: اذهب إلى سامراء واطلب حاجتك من الإمام الحجة(عليه السلام)؛ لأنه إمامك الحي. وهذا لا ينافي ما ورد من أن الدعاء تحت قبة الإمام الحسين(عليه السلام) مستجاب حتماً(1).

كما أن الإمام الهادي(عليه السلام) في قصة أرسل شخصاً إلى قبر الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء ليدعو اللّه تعالى.

فعن سهل بن زياد، عن أبي هاشم الجعفري، قال: بعث إليّ أبو الحسن(عليه السلام) في مرضه وإلى محمد بن حمزة، فسبقني إليه محمد بن حمزة، وأخبرني محمد: ما زال يقول: «ابعثوا إلى الحَيْرِ، ابعثوا إلى الحَيْرِ»(2). فقلت لمحمد: ألّا قلت له:

ص: 272


1- انظر وسائل الشيعة 14: 537.
2- أي: ابعثوا رجلاً إلى حائر الحسين(عليه السلام) يدعو لي هناك.

أنا أذهب إلى الحَيْرِ.

ثم دخلت عليه، وقلت له: جعلت فداك، أنا أذهب إلى الحَيْرِ. فقال(عليه السلام):«انظروا في ذاك»(1)...

قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال، فقال: ما كان يصنع بالحَيْرِ، وهو الحَيْرُ(2)؟

فقدمت العسكر فدخلت عليه، فقال لي: «اجلس» حين أردت القيام، فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال. فقال لي: «ألا قلت له: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر، وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره اللّه عزّ وجلّ أن يقف بعرفة، وإنما هي مواطن يحب اللّه أن يذكر فيها، فأنا أحب أن يدعى اللّه لي حيث يحب اللّه أن يدعى فيها...»(3).

فإن ما قام به الإمام الهادي(عليه السلام) يدل على موضوعية الحائر الحسيني الشريف لاستجابة الدعاء، كما هو تعليم لنا، وكذلك قصة ذلك الزائر الذي أرسله الإمام الحسين(عليه السلام) إلى سامراء، فإنه للتعليم أيضاً بحيث نسعى وراء إمامنا الحي.

الخاتمة

وفي الختام ينبغي التأكيد على ضرورة النشاط الثقافي والتبليغي للتعريف بالإمام الحجة(عليه السلام) إلى العالم كافة، وذلك بتأليف كل واحد من طلبة العلوم

ص: 273


1- فإن الذهاب إلى كربلاء كان مظنة للأذى والضرر، فانظروا في ذلك، لأن المتوكل (لعنه اللّه) كان يمنع الناس من زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) أشد المنع.
2- أي: هو في الشرف مثل الحائر الحسيني الشريف، فأي حاجة له في أن يدعى له عند قبر الإمام الحسين(عليه السلام).
3- الكافي 4: 567.

الدينية وغيرهم من المؤمنين كتاباً حول الإمام(عليه السلام)، وترجمة هذه الكتب إلى مختلف اللغات العالمية.بالإضافة إلى ضرورة الاستفادة من التقنيات الحديثة لتعريف الناس بإمام زمانهم(عليه السلام) من الإذاعات والفضائيات والإنترنيت وغيرها.

ص: 274

قبس من شعاع الإمام الحسين(عليه السلام)

الشهادة والحياة الأبدية

اشارة

قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(1).

تشير الآية الكريمة إلى حال الذين يقتلون في سبيل اللّه، وتؤكد لنا استمرار حياتهم بعد القتل، وأنهم يبقون أحياءٌ، فإن من استشهد في سبيل اللّه لا تنتهي حياته، بل يبقى حياً يرزق، وهذا ما تؤكده الآية المباركة.

فكما أن هذه الحياة المادية ذات مراتب منها مرتبة كاملة نسبياً كمن كان سعيداً فرحاً، ومنها مرتبة ناقصة كمن كان شقياً حزيناً، كذلك من مات يكون على قسمين - بعد بقاء كليهما في حياة من لون آخر - قسم يكون حياً هناك أي سعيداً فرحاً وقسم يكون ميتاً هناك أي شقياً حزيناً(2).

وكيف لا؟ والشهداء هم الذين ضحّوا بأنفسهم في سبيل العقيدة، وفي سبيل إعلاء كلمة التوحيد والحق، وأناروا الحياة بدمائهم الزكية، كي يتسنى للأجيال التمسّك بعرى الإسلام.

وقد يكون المضحّي بنفسه بالإضافة إلى أنه شهيد وقد وعد اللّه بحياته، يكون

ص: 275


1- سورة آل عمران، الآية: 169.
2- انظر تفسير تقريب القرآن 1: 417.

عروة من عرى الإيمان والعقيدة وإماماً من أئمة المسلمين، كما هو الحال بالنسبة لسيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) فما أعظم هذا الشهيد وما أرفع مكانته وقد قال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «وأما الآخرة فبنور وجهك مشرقة»(1).

الإمام المعصوم

وإذا أردنا أن نتعرف قليلاً على هذه الشخصية العظيمة، فإنه ينبغي أن نقرأ بعض الأحاديث التي تبين مكانة الإمام المعصوم(عليه السلام) عند اللّه عزّ وجلّ ومقامه التكويني والتشريعي.

فقد جاء عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(2) قال(عليه السلام): «طاعة اللّه ومعرفة الإمام»(3).

وكذلك جاء عن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٖ مَّعِينِ}(4)، قال(عليه السلام): «إذا غاب عنكم إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد»(5).

وجاء عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره؟! هيهات هيهات! ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء... وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله وأقرت بالعجز والتقصير...»(6).

ص: 276


1- انظر مقتل الحسين(عليه السلام) للمقرم: 337.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- الكافي 1: 185.
4- سورة الملك، الآية: 30.
5- الكافي 1: 340.
6- الكافي 1: 201.

وقال(عليه السلام) أيضاً: «... الإمام أمين اللّه في خلقه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى اللّه والذاب عن حرم اللّه...»(1).

إذن، من خلال هذه الأحاديث الشريفة وكثير غيرها يمكن أن نعرف بعض مكانة الإمام الحسين(عليه السلام)، وقربه من اللّه عزّ وجلّ ودوره في قيادة المجتمع الإنساني وهدايته، فإذا أردنا أن نحلّ بساحة الرحمة الإلهية، ونحصل على السعادة الدنيوية والأخروية، فلا بد أن نتبع خطى الإمام الحسين(عليه السلام)، ونسير على طريقه الذي رسمه للأجيال بدمه الشريف، وهذا الأمر أيضاً يصدق على بقية الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، إلّا أن بحثنا الآن يدور حول أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام).

نعم، فقد امتاز الإمام الحسين(عليه السلام) عن سائر الشهداء والثائرين بخصائص تفوق كل الشهداء فأصبح سيد الشهداء من الأولين والآخرين، وهذا لا باعتباره إماماً معصوماً فقط، ولا لأنه سبط(2) رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وريحانته من الدنيا(3) فحسب، بل لجلالة الأهداف التي فجّر ثورته من أجلها، وعظمة التضحية التي قدّمها(عليه السلام)، وتكاملية الأبعاد فيها، ومن هنا جاء التأكيد الكبير على الشعائر الحسينية وزيارة الإمام الحسين(عليه السلام).

زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)

إن المتتبع للأحاديث التي جاءت حول فضل زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) يدرك عظمة هذا الشهيد الطاهر، وعلو مكانه، وارتفاع شأنه وشموخه في العالمين ومقامه عند اللّه عزّ وجلّ.

ص: 277


1- الكافي 1: 200.
2- انظر الإرشاد 2: 127.
3- انظر عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 27.

يقول معاوية بن وهب: استأذنت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فقيل لي: أدخل،فدخلت، فوجدته في مصلاه في بيته، فجلست حتى قضى صلاته، فسمعته يناجي ربه وهو يقول: «اللّهم يا من خصنا بالكرامة، ووعدنا بالشفاعة، وخصنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولأخواني وزوار قبر أبي الحسين، الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم، رغبة في برنا، ورجاءاً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدونا، أرادوا بذلك رضاك، فكافهم عنا بالرضوان، وأكلأهم بالليل والنهار، وأخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف، واصحبهم واكفهم شر كل جبار عنيد، وكل ضعيف من خلقك وشديد، وشر شياطين الإنس والجن، واعطهم أفضل ما أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.

اللّهم إن أعدائنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، خلافاً منهم على من خالفنا، فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حضرة أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا.

اللّهم إني أستودعك تلك الأبدان، وتلك الأنفس حتى توفيهم على الحوض يوم العطش الأكبر».

- قال الراوي - : فما زال يدعو وهو ساجد بهذا الدعاء فلما انصرف قلت: جعلت فداك لو أن هذا الذي سمعت منك كان لمن لايعرف اللّه عزّ وجلّ لظننت أن النار لا تطعم منه شيئاً أبداً، واللّه لقد تمنيت أني كنت زرته ولم أحج.

ص: 278

فقال لي(عليه السلام): «ما أقربك منه فما الذي يمنعك من زيارته؟».ثم قال(عليه السلام): «يا معاوية لم تَدَعُ ذلك؟».

قلت: جعلت فداك لم أر أن الأمر يبلغ هذا كله.

فقال: «يا معاوية من يدعو لزواره في السماء أكثر ممن يدعو لهم في الأرض»(1).

روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه في أول ولاية أبي جعفر - المنصور - نزل النجف، وقال لأعرابي كان في الطريق: «من أين قدمت؟» قال: من أقصى اليمن... ثم قال له: «فبما جئت هيهنا؟».

قال: جئت زائراً للحسين(عليه السلام).

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «فجئت من غير حاجة ليس إلّا للزيارة؟».

قال: جئت من غير حاجة إلّا أن أصلي عنده وأزوره فأسلم عليه وأرجع إلى أهلي.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «وما ترون في زيارته؟».

قال: نرى في زيارته البركة في أنفسنا وأهالينا وأولادنا، وأموالنا، ومعايشنا وقضاء حوائجنا.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أفلا أزيدك من فضله فضلاً يا أخا اليمن؟».

قال: زدني يابن رسول اللّه.

قال: «إن زيارة الحسين(عليه السلام) تعدل حجة مقبولة زاكية مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»، فتعجب من ذلك.

قال(عليه السلام): «إي واللّه وحجتين مبرورتين متقبلتين زاكيتين مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)» فتعجب، فلم يزل أبو عبد اللّه(عليه السلام) يزيد حتى قال: «ثلاثين حجة مبرورة متقبلة

ص: 279


1- كامل الزيارات: 116.

زاكية مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1).

وروي عن ابن عباس قول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) له والحسين(عليه السلام) على عاتقه يقبله: «من زاره عارفاً بحقه كتب اللّه له ثواب ألف حجة وألف عمرة، ومن زاره كمن زارني ومن زراني كمن زار اللّه في عرشه، وحق الزائر على المزور وهو اللّه تعالى أن لا يعذبه في النار ألّا أن الإجابة تحت قبته والشفاء في تربته، والأئمة من ذريته...»(2).

أحاديث في فضله(عليه السلام)

أما ما ورد من أحاديث في بيان مكانة الإمام أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) فكثير جداً، فقد جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء، فلينظر إلى الحسين»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا وإن الحسين باب من أبواب الجنة، من عاداه حرّم اللّه عليه رائحة الجنة»(4).

ولعل هذا الحديث يكفي عن سرد بقية الأحاديث الواردة عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فضله(عليه السلام)، ومكانته عند اللّه عزّ وجلّ.

أما ما ورد في فضله(عليه السلام) وفضل تعظيم شعائره عن أهل البيت(عليهم السلام) فهي كثيرة جداً فقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «من ذكرنا عنده ففاضت عيناه حرم اللّه وجهه على النار»(5).

ص: 280


1- كامل الزيارات: 162.
2- الصراط المستقيم 2: 145.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 73.
4- مائة منقبة: 22.
5- كامل الزيارات: 104.

فما حسبك في من بكى على الإمام الحسين(عليه السلام) الذي هو سيد الشهداء وقتيل العبرة؟ وقد قال الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف في زيارته للحسين(عليه السلام) المسماة بزيارة الناحية المقدسة: «السلام على من جعل الشفاء في تربته، السلام على من الإجابة تحت قبته، السلام على من الأئمة في ذريته...»(1).

ويكفي أن نقول: إن العبارة الأولى (الشفاء في تربته) كافية لبيان الإعجاز الإلهي في هذا الأمر، وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدل على مكانته(عليه السلام) وشرفه.

وقد ذكرنا في بعض كتبنا شيئاً من كرامات الإمام الحسين(عليه السلام)، مثل تكلّم رأسه الشريف، أو سطوع النور منه وهو مقطوع، وعلى الرمح مشروع.

التسبيح بتربته(عليه السلام)

روى عبد اللّه بن إبراهيم بن محمد الثقفي عن أبيه عن الإمام الصادق(عليه السلام): «أن فاطمة(عليها السلام) كانت مسبحتها من خيط صوف مفتل معقود عليه عدد التكبيرات، فكانت بيدها(عليها السلام) تديرها تكبر وتسبح إلى أن قتل حمزة بن عبد المطلب(عليه السلام)، فاستعملت تربته وعملت التسابيح، فاستعملها الناس، فلما قتل الحسين(عليه السلام) وجدد على قاتله العذاب عدل بالأمر عليه فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية»(2).

وكذلك جاء عنهم(عليه السلام) بيان عظيم الفضل في التسبيح بتربة أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) أن الحور العين إذا أبصرن واحداً من الأملاك يهبط إلى الأرض لأمر ما، يستهدين التسبيح والتربة من قبر الحسين(عليه السلام)(3).

ص: 281


1- المزار الكبير: 497.
2- كتاب المزار: 150.
3- كتاب المزار: 151.

شهداء مع الإمام الحسين(عليه السلام)

ثم إنه من أهم ما جعل نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) تمتاز على سائر النهضات طول التاريخ هو عظيم فضل أصحابه الذين استشهدوا معه، حيث قال الإمام الحسين(عليه السلام): «فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولاخيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي»(1).

فهذا أبو الفضل العبّاس بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) أمه أم البنين بنت حزام بن خالد بن دارم الكلابية أحد أعظم شهداء الطف، وله الكثير من الكرامات والفضل، وهي تدل على علو منزلته ودرجة قربه من اللّه عزّ وجلّ، وفيه(عليه السلام) قال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «رحم اللّه العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله اللّه عزّ وجلّ بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند اللّه تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة»(2). ثم إن العباس(عليه السلام) هو باب الحوائج إلى اللّه عزّ وجلّ وهذا من مصاديق كون الشهداء أحياء عند ربهم، حيث الناس يستفيدون من نورهم حتى بعد شهادتهم، ويتوسلون بهم وتقضى حوائجهم، ولا بأس بذكر قصة على سبيل المثال تبين مكانة الشهيد وكيف أن عطاءه لا ينتهي أبداً.

قصة من كرامات الشهيد

اشارة

قبل خمسة عشر عاماً كان هناك بائع للبلور في كربلاء المقدسة، وفي أحد الأيام وعندما رجع من عمله إلى المنزل فوجئ بعدد كبير من الأكراد الذين

ص: 282


1- الإرشاد 2: 91.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 462.

يقطنون شمال العراق في منزله، فتعجب هذا البائع، حيث أصابته الدهشة، فجاءإلى زوجته لتخبره بالخبر!

فهدأت الزوجة زوجها وحاولت أن تذكِّره، فقالت: ألّا تذكر قصة ذلك الرجل الكردي الذي جاء في العام المنصرم مع زوجته في بيتنا، وكانت زوجته قد أصابها العقم حوالي (20 سنة) وكانت قد ذهبت إلى العديد من الدول الأجنبية للمداواة لكنها لم تجنِ سوى اليأس، فقلت لها: نحن عندنا طبيب هو أفضل من كل طبيب، وبلا أي تكلفة.

فقالت المرأة الكردية: من هذا الطبيب وأين هو؟ لنذهب إليه الآن.

فقلت لها: ذاك هو أبو الفضل العباس(عليه السلام)، فأخذتها إلى حرم أبي الفضل، وقلت لها: إن مولانا أبا الفضل ما قدِمَ إليه أحد يطلب حاجة إلّا أعطاه اللّه تعالى ببركته(عليه السلام).

فأخذت المرأة بالتكلم مع أبي الفضل(عليه السلام) بقلب مهموم، وتئن وهي محزونة، وبعدها خرجنا وقد زرع اللّه تعالى في قلبها الأمل.

وبعد أيام حملت المرأة ثم وضعت طفلاً، ألّا تذكر هذه المرأة؟

فقال الرجل بائع البلور: نعم لقد تذكرت، ولكن هؤلاء ماذا يريدون الآن؟

فقالت زوجته: هؤلاء أيضاً ممن أصيبت زوجاتهم بالعقم وهم أيضاً من الأخوة الأكراد وتلك المرأة هي التي دلتهم علينا، ونصحتهم بالذهاب إلى كربلاء عند ضريح أبي الفضل العباس(عليه السلام) ليطلبوا عنده من اللّه أن يرزقهم الأطفال، كما رزق هذه المرأة.

وهذه القصة واحدة من آلاف القصص التي تتحدث عن عطاء الشهداء وعن قرب منزلتهم من اللّه تعالى حيث جعلهم أحياء عنده يرزقون(1).

ص: 283


1- انظر كتاب (العباس(عليه السلام) والعصمة الصغرى، للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

يوم عاشوراء

هناك أيام أثرت في تغيير مجرى الحياة، من أهمها يوم عاشوراء، فكما أن يوم السابع والعشرين من شهر رجب ذكرى المبعث النبوي الشريف أثر في تغيير مجرى الحياة، وكما أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عمل على زرع الإسلام والإيمان في نفوس الأفراد، كذلك يوم عاشوراء وتضحية أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) أثر على إعادة الإيمان إلى القلوب، وإرجاع صورة الإسلام التي حاولت الأيدي الآثمة طمسها وتغييرها.

فعندما طلب كفار قريش من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) التنازل عن دعوته مقابل مجموعة من الامتيازات الدنيوية الزائلة أجابهم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «واللّه لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره اللّه، أو أهلك»(1).

حيث أبدى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلابته في الدعوة إلى اللّه، كذلك كان أبو عبد اللّه الحسين(عليه السلام) حيث جسَّد صلابته في كربلاء المقدسة في عدة مواقف هي أقوى من أن يلفها النسيان ويطويها الزمان، ففي ظهيرة يوم عاشوراء عندما ذكّره أحد أصحابه بحلول وقت الصلاة قال(عليه السلام): نعم هذا أول وقتها، فقام(عليه السلام) وصلى صلاة الظهر جماعة بأصحابه(2)، رغم احتدام المعركة، وتكالب الأعداء على معسكره(عليه السلام) ولكنه لم يترك فرضاً من فرائض اللّه تعالى، باعتباره وقف هذه الوقفة؛ من أجل صيانة الفرائض وإقامة الدين وإحياء الإسلام وقوانينه.

وقد ورد في زيارة الإمام الحسين(عليه السلام): «أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت

ص: 284


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 54.
2- انظر بحار الأنوار 45: 21.

الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر»(1). فيوم عاشوراء هو اليوم الذي يعلمنا كيف نصحح سيرتنا في هذه الحياة، ونجعلها مطابقاً لسيرة الإمام الحسين(عليه السلام) وطريقته، الذي ضحى بكل ما يملك من أجل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الفرائض والعمل بالقرآن والتمسك بأهل البيت(عليهم السلام).

من كرامات سيد الشهداء(عليه السلام)

نعم، إن الإمام الحسين(عليه السلام) حيّ وسيبقى حياً كما وَعَد اللّه بذلك في كتابه الكريم(2)، وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»(3)، وقد ذكرنا أن من مصاديق حياتهم(عليهم السلام) هو استمرارية كراماتهم ومعاجزهم والتي يمكن للإنسان أن يدرك من خلالها عظمة أهل البيت(عليهم السلام) وعظمة سيد الشهداء(عليه السلام) ومقام الشهادة.

يذكر إن شخصاً سافر من إيران إلى كربلاء المقدسة لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام)، ولم تكن آنذاك أية وسيلة للنقل من وسائل هذه الأيام، وحينما وصل ذلك الزائر الإيراني إلى قرب نهر الفرات في قضاء (المسيّب)(4). رآه أحد المزارعين وكان من النواصب، فضحك منه، وقال له: أنتم الشيعة إلى متى تصدّقون هذه الخرافات، وتظلّون تبكون، وتقرؤون التعازي، وتأتون لزيارة شخص مات قبل (1200) عام.

ص: 285


1- كامل الزيارات: 203.
2- حيث قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} سورة آل عمران، الآية: 169.
3- مستدرك الوسائل 10: 318.
4- يمر بهذا القضاء نهر الفرات الذي يفصل بين بغداد وكربلاء والحلة وهو قضاء تابع لمدينة بابل يبعد عن كربلاء المقدسة (42كم).

فلما سمع الزائر قول ذلك الناصبي تأثر كثيراً، وقال له سأشكوك عند أمير المؤمنين، فأخذ الرجل يستهزئ به، فلما وصل الزائر الإيراني إلى النجف الأشرف خاطب الإمام(عليه السلام) قائلاً: يا مولاي، يا ابن عمّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إني كنت قد جئتك بعشرات الحاجات، ولكني الآن لي حاجة واحدة فقط، وهي مجازاة ذلك المزارع الناصبي حيث أخذ يستهزأ بي وبعقيدتي.

وفي الليل وبينما كان الزائر نائماً، رأى في منامه أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) يكلمه، ويقول له: يا فلان إنك ومن أجل زيارتنا قطعت هذه المسافات الطويلة، فلك عندنا المنزلة والجاه والمقام، ولكنا لا نستطيع أن نجيبك إلى ما طلبت من معاقبة الرجل الناصبي، فإن لذلك الناصبي حقاً علينا: ففي أحد الأيام، وحينما كان يحرث الأرض بقرب الفرات، وقع بصره مرّة على الماء، فتذكر عطش أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، وقال في نفسه: كم هم ظالمون أهل الكوفة، إذ لم يسقوا الحسين(عليه السلام) وعياله قطرة من هذا الماء الجاري، ثم سقطت من عينه قطرة من الدمع، لذا فإن له حقاً عندنا.

بعد ذلك وبعد أن قضى عدة أيام في النجف وكربلاء، عاد الزائر ومن نفس الطريق إلى إيران، فمر أثناء عودته بذلك المزارع، فقال له المزارع: أيها الإيراني هل اشتكيتني إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام)؟

فقال له الإيراني: نعم شكوتك، ولكن الإمام(عليه السلام) أجابني بكذا وكذا، ثم ذكر له جواب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) مفصّلاً، فبكى ذلك المزارع كثيراً، وتشيَّع من ساعته.

فسأله الإيراني: عن سبب بكائه وتشيعه؟

فقال له المزارع: إن ما قاله لك الإمام(عليه السلام) صحيح جداً، ولم يعلم بهذا الخبر إلّا اللّه وأنا. لذا فعرفت أن إمامكم على الحق، لأنه اطّلع على ما في باطني.

ص: 286

الحسين(عليه السلام) مصباح الهدى

ليس غريباً ولا عجيباً حينما تظهر الكرامات على يد الإمام الحسين(عليه السلام)، لأننا لو تتبعنا سيرة الإمام الحسين(عليه السلام)، من ولادته إلى لحظات استشهاده وعرفنا شيئاً عن عظيم شخصيته ومقامه عند اللّه عزّ وجلّ، لزال هذا الاستغراب عنا.

فقد روي أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يضع إبهامه في فم الحسين(عليه السلام) والحسين يمصّ منها ما يكفيه اليومين والثلاثة، ثم يقول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إيهاً حسين، إيهاً حسين، أبى اللّه إلّا ما يريد، هي فيك وفي ولدك»(1).

كما أخذت ملائكة اللّه تعالى بالنزول والسلام والتهنئة للرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، بمناسبة مولد الحسين(عليه السلام) وذلك بأمر من اللّه عزّ وجلّ، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «كان ملك بين المؤمنين يقال له صلصائيل بعثه اللّه في بعث فأبطأ فسلبه ريشه ودق جناحيه وأسكنه في جزيرة من جزائر البحر إلى ليلة ولد الحسين(عليه السلام) فنزلت الملائكة واستأذنت اللّه في تهنئة جدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتهنئة أمير المؤمنين(عليه السلام) وفاطمة(عليها السلام) فأذن اللّه لهم فنزلوا أفواجاً من العرش ومن سماء سماء، فمروا بصلصائيل وهو ملقى بالجزيرة فلما نظروا إليه وقفوا، فقال لهم: يا ملائكة ربي، إلى أين تريدون وفيم هبطتم؟

فقالت له الملائكة: يا صلصائيل قد ولد في هذه الليلة أكرم مولود ولد في الدنيا بعد جده رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبيه علي(عليه السلام) وأمه فاطمة(عليها السلام) وأخيه الحسن(عليه السلام) وهو الحسين(عليه السلام)، وقد استأذنا اللّه في تهنئة حبيبه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لولده فأذن لنا.

فقال صلصائيل: يا ملائكة اللّه إني أسألكم باللّه ربنا وربكم وبحبيبه

ص: 287


1- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 50، وفيه فجعل لسانه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فمه فجعل الحسين(عليه السلام) يمص، حتى قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إيهاً يا حسين إيهاً حسين، ثم قال: أبا اللّه إلا ما يريد هي فيك وفي ولدك، يعني الإمامة».

محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)وبهذا المولود أن تحملوني معكم إلى حبيب اللّه، وتسألونه وأسأله أن يسأل اللّه بحق هذا المولود الذي وهبه اللّه له أن يغفر لي خطيئتي ويجبر كسر جناحي ويردني إلى مقامي مع الملائكة المقربين، فحملوه وجاءوا به إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهنئوه بابنه الحسين(عليه السلام) وقصوا عليه قصة الملك وسألوه مسألة اللّه والإقسام عليه بحق الحسين(عليه السلام) أن يغفر له خطيئته، ويجبر كسر جناحه، ويرده إلى مقامه مع الملائكة المقربين.

فقام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدخل على فاطمة(عليها السلام) فقال لها: ناوليني ابني الحسين فأخرجته إليه مقموطاً يناغي جده رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فخرج به إلى الملائكة فحمله على بطن كفه فهللوا وكبروا وحمدوا اللّه تعالى وأثنوا عليه، فتوجه به إلى القبلة نحو السماء، فقال: اللّهم إني أسألك بحق ابني الحسين أن تغفر لصلصائيل خطيئته وتجبر كسر جناحه وترده إلى مقامه مع الملائكة المقربين، فتقبل اللّه تعالى من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما أقسم به عليه وغفر لصلصائيل خطيئته، وجبر كسر جناحه ورده إلى مقامه مع الملائكة المقربين»(1).

إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في فضل الإمام الحسين(عليه السلام) وعلو شأنه، ومكانته عند اللّه، وعند رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقد جاء عن أبيّ بن كعب أنه قال: دخل على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحسين(عليه السلام)، فقال له: «مرحباً بك يا أبا عبد اللّه، يا زين السماوات والأرضين».

فقال له أبيّ: وكيف يكون يا رسول اللّه زين السماوات والأرضين أحد غيرك؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبيّ، والذي بعثني بالحق نبياً، إن الحسين بن علي(عليهما السلام) في السماء أكبر منه في الأرضين، وإنه لمكتوب من يمين العرش، الحسين مصباح

ص: 288


1- بحار الأنوار 43: 259.

الهدى وسفينة النجاة» ثم أخذ بيده، وقال(عليه السلام): «أيها الناس هذا الحسين بن علي فاعرفوه وفضلوه، كما فضله اللّه، فوالذي نفسي بيده، إنه لفي الجنة، ومحبيه في الجنة، ومحبي محبيه في الجنة»(1).

وقال أبو عبد اللّه الإمام الصادق(عليه السلام): «... بأبي قتيل كل عبرة، قيل: وما قتيل كل عبرة يا بن رسول اللّه؟ قال: لا يذكره مؤمن إلّا بكى»(2).

وهناك حادثة تاريخية مشهورة تدل في ما تدل على عظمة الإمام الحسين(عليه السلام) وشدة محبة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) له حيث ذكروا أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يخطب على المنبر، إذ خرج الحسين(عليه السلام) فوطئ في ثوبه وسقط فبكى، فنزل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فضمه إليه، وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... والذي نفسي بيده، ما دريت أني نزلت عن منبري»(3).

هذا موقع الإمام الحسين(عليه السلام) من قلب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهذا مقدار الحب الذي يكنه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) له، ولعل كل ما قاله الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الإمام الحسين(عليه السلام) هو مقدار من عظمته(عليه السلام)، ولعل الذي وصلنا هو أقل من ذلك بكثير.

هدف الإمام الحسين(عليه السلام)

إن الإمام أبا عبد اللّه الحسين(عليه السلام) كان يقول: «أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر أسير بسيرة جدي وسيرة أبي علي بن أبي طالب...»(4).

إنه كان يريد أن يُخرج الأمة من المنكر إلى المعروف، كان يريد أن يضع حداً للمنكر، وأن ينتشل الأمة من الحضيض الذي أركست فيه إلى العز، وذلك عندما

ص: 289


1- انظر مدينة المعاجز 4: 51؛ معالي السبطين 1: 86.
2- مستدرك الوسائل 10: 318.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 71.
4- مناقب آل أبي طالب 4: 89.

رضيت الأمة الإسلامية بواقعها المتردّي، المتمثل بالخمول، والركون إلى الدنيا،والسكوت على الظلم، وتسلط الظالمين من أمثال يزيد وأبيه وأضرابهم، فأراد الإمام الحسين(عليه السلام) أن يبث روح الإيمان والحق فيها لتنهض من جديد، كما كانت في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لأنه كان يرى أن الدين على وشك أن يُحرَّف، فأراد أن يعيد الدين غضاً طرياً.

هكذا صار الإمام الحسين(عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة النجاة، ومن هنا صار(عليه السلام) صفوة اللّه؛ فقد جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أدخلت الجنة فرأيت على بابها مكتوباً بالذهب: لا إله إلّا اللّه، محمد حبيب اللّه، علي ولي اللّه، فاطمة أَمة اللّه، الحسن والحسين صفوة اللّه، على مبغضيهم لعنة اللّه»(1).

إن التمسّك بصفوة اللّه، والاستنارة بهذا المصباح الإلهي يكون هداية في الدنيا، ونجاة في الآخرة، لأن حب الإمام الحسين(عليه السلام) يستتبع العمل الصالح، وذلك لأنه(عليه السلام) مصباح ينير طريق الحق لسالكيه، ولأنه(عليه السلام) فرّق بين طريق الحق وطريق الباطل بنهضته المباركة، ولسان حاله(عليه السلام):

إن كان دين محمد لم يستقم *** إلّا بقتلي فيا سيوف خذيني(2)

ومن المعلوم كما رواه الفريقان أن الإمام الحسين(عليه السلام) من أهل البيت، فهو خامس أصحاب الكساء، الذين نزلت فيهم آية التطهير في قوله تعالى:

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(3).

ص: 290


1- الخصال 1: 324.
2- من قصيدة للشيخ محسن أبو الحب الكبير(رحمه اللّه).
3- سورة الأحزاب، الآية: 33.

فهو(عليه السلام) بدليل القرآن من أهل البيت(عليهم السلام)، الذين حبهم نجاة وبغضهم هلكة، وقدقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ­«حبّي وحبّ أهل بيتي نافع في سبعة مواطن، أهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط»(1).

حقاً إن الإمام الحسين(عليه السلام) مصباح الهدى، فما زال نوره وضياؤه يشرق علينا بالبركة والخير فهو يميز الحق من الباطل في جميع العصور والأزمان مضافاً إلى استمرارية نوره في ذريته الطاهرة، وذلك عبر الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف، فهو حفيد الإمام الحسين(عليه السلام)، لأن اللّه تعالى كرامة للحسين(عليه السلام) جعل الأئمة - وهم حفظة الدين - من صلبه(عليه السلام)، كما ورد في الحديث الشريف، وكان ذلك عوضاً عن شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) وعظيم ما لاقاه من المصائب التي جرت عليه يوم عاشوراء وما بعده.

مصائب الحسين(عليه السلام)

عندما يقع الشهيد بين يدي المسلمين فإن الواجب هو أن يحمل جسده بكل احترام حتى يُوارى في قبره، لكن هذا لم يجر أبداً مع جسد الإمام الحسين الطاهر(عليه السلام)، بل إن رأسه الشريف، بعدما فصل عن بدنه، حمل على الرماح من كربلاء إلى الشام(2).

وعندما جيء برأس الحسين(عليه السلام) إلى مجلس يزيد، فبدلاً من أن يوضع في محل محترم؛ وضع في طشت، وأخذ يزيد قضيباً من الخيزران ونكت به ثنايا أبي عبد اللّه(عليه السلام)(3).

ص: 291


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 10.
2- انظر مقتل الحسين(عليه السلام) للخوارزمي 2: 39.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 165.

وعندما كان الرأس الشريف لا يزال في قصر يزيد، انشغل يزيد مع من كانفي القصر بالقمار وشرب الخمر، وحينما انتهى من شربه سكب ما زاد عنده من الخمر على الرأس الشريف(1).

فما أعظمها من مصائب وما أثقلها على قلب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقلب فاطمة الزهراء(عليها السلام)، هذا مضافاً إلى ما جرى على الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه يوم عاشوراء من عظيم المصائب.

رأس الحسين(عليه السلام)

من الكرامات التي أعطاها اللّه سبحانه للإمام الحسين(عليه السلام)، هي تكلم رأسه الشريف، وما كان له من دورٍ في هداية الناس وإصلاحهم، بل دور في عملية البناء الإسلامي.

فأمّا إصلاح الناس وهدايتهم، فقد كان رأس أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) وهو على أسنة الرماح يتلو القرآن طيلة الطريق من كربلاء إلى الشام ثم إلى كربلاء، حيث دفن مع الجسد الشريف(2).

ولما أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم حيث أنكر عليه فعلته، نطق الرأس الشريف بصوت رفيع: «لا حول ولا قوة إلّا باللّه»(3).

فكان الناس عندما يسمعون ذلك من الرأس الشريف، يدركون أنها معجزة إلهية، وأنّ قضية هذا الرأس مرتبطة بالسماء، فكان عاملاً مؤثراً في هداية الناس، وكاشفاً للحقيقة لهم وعرفوا صحة كلام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال: «إني تارك

ص: 292


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 22.
2- انظر الإرشاد 2: 117.
3- انظر مثير الأحزان: 103.

فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»(1) وأدركوا أن الحق مع الإمام الحسين(عليه السلام)، لما رأوا المعجزات تظهر من رأسه المبارك.

وأما من ناحية البناء الإسلامي، فيذكر التاريخ لنا: أن مسجد (الحنانة)(2) أقيم بسبب رأس الحسين(عليه السلام)، حيث وضع الرأس الشريف هناك أثناء المسير إلى الشام، فأقيم على ذلك المكان مسجد الحنانة، وهكذا مسجد رأس الحسين(عليه السلام) في كربلاء المقدسة(3)، وكذلك (مشهد النقطة) في حلب و(مقام رأس الحسين(عليه السلام)) في دمشق إلى غيرها من الآثار الإسلامية التي أقيمت، وكان سبب إقامتها من بركات الرأس الشريف.

واجباتنا تجاه عاشوراء

هناك واجبات علينا تجاه قضية الإمام الحسين(عليه السلام) وشهادته، نذكر بعضها:

أولاً: يلزم علينا أن نعمل لكي نعرض قضية الإمام الحسين(عليه السلام) ومبادئه وأهدافه، من خلال أحدث الأجهزة العصرية، عن طريق محطات البث المرئية والمسموعة، والإنترنت، والكتاب والشريط المسجل، وكل ما يصدق عليه الإعلام وإيصالها إلى العالم بأجمعه، بشكلها الذي أراده الإمام الحسين(عليه السلام)، وأن نعظّم الشعائر التي تقدمها الهيئات الحسينية من ذكرٍ لأبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) والبكاء والعزاء ومختلف مواكب الحزن، كما يحسن أن تعطل الأسواق والمحلات ونشر مظاهر الحزن والعزاء خلال أيام عاشوراء، لا سيما يوم العاشر؛ إشعاراً بالحزن على أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، فقد قال الإمام

ص: 293


1- كمال الدين وتمام النعمة 1: 64.
2- حنانة موضع بظهر النجف الأشرف بها مسجد رأس الحسين(عليه السلام).
3- من أقدم المساجد الأثرية في كربلاء، وكان يضم في وسطه مقام رأس الحسين(عليه السلام) فعرف بهذا الاسم، وموقعه بالقرب من باب السدرة، وقد طاله الهدم.

الرضا(عليه السلام): «إن المحرمشهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال، فاستحلت فيه دماؤنا، وهتك فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حرمة في أمرنا، إن يوم الحسين(عليه السلام) أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثتنا يا أرض كرب وبلاء أورثتنا الكرب البلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء يحط الذنوب العظام، - ثم قال(عليه السلام): - كان أبي(عليه السلام) إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين(عليه السلام)»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى اللّه له حوائج الدنيا والآخرة، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه يجعل اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرت بنا في الجنان عينه، ومن سمى يوم عاشوراء يوم بركة، وادخر لمنزله شيئاً، لم يبارك له في ما ادخر، وحشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد اللّه بن زياد وعمر بن سعد لعنهم اللّه إلى أسفل درك من النار»(2).

ثانياً: مثلما سار الإمام الحسين(عليه السلام) في طريق تطبيق الإسلام والعمل بقوانين القرآن يتوجب علينا كذلك أن تكون خطانا إثر خطاه(عليه السلام)، وأن نسعى لتطبيق أحكام الإسلام في بلدان العالم الإسلامي.

ثالثاً: علينا أن نقيم - وأينما كنا - مجالس العزاء لأبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) على أفضل نحو ممكن، لأن بقاء الإسلام إلى آخر الزمان هو الهدف الذي من

ص: 294


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 128.
2- علل الشرائع 1: 227.

أجله استشهد الإمام الحسين(عليه السلام)، فإن الإسلام سيبقى حياً إلى الأبد بفضل دم سيد الشهداء(عليه السلام)، ودماء الشهداء الذين تربوا في مدرسته(عليه السلام) والذين يدافعون عن العقيدة الإسلامية المقدسة طول التاريخ.

وفي كلمة مختصرة: إن إقامة المآتم والعزاء والبكاء أيام عاشوراء على الإمام أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، وإقامة المآدب لإطعام الناس في ذلك، وإحياء عاشوراء فهذه المراسيم وأمثالها هي التي حفظت لنا روح التشيّع والتمسك بالقرآن والعترة الطاهرة(عليه السلام).

الإمام السجاد(عليه السلام) وعاشوراء

وقد جسّد الإمام زين العابدين(عليه السلام) هذا المعنى في كثرة بكائه على أبيه الإمام الحسين(عليه السلام)، وندبه إياه.

فقد ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «ولقد كان بكى على أبيه الحسين(عليه السلام) عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلّا بكى، حتى قال له مولى: يا بن رسول اللّه، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: ويحك إن يعقوب النبي(عليه السلام) كان له اثنا عشر ابنا فغيب اللّه عنه واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، وأحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني»(1).

وقد رووا إن الإمام السجاد(عليه السلام) بكى على مصيبة الحسين(عليه السلام) حتى خيف على عينيه، وكان(عليه السلام) إذا أخذ إناءاً يشرب ماء بكى حتى يملاءها دمعاً فقيل له في ذلك، فقال(عليه السلام): «كيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع

ص: 295


1- الخصال 1: 518.

والوحوش»(1).

أهل البيت(عليهم السلام) وإقامة العزاء

وقد أقام الأئمة المعصومون(عليهم السلام) مجالس العزاء يوم عاشوراء، فقد حثّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وعلى الدوام على إقامة العزاء وبكل أشكاله الواجبة والمستحبة والمباحة فهو يوم لا كسائر الأيام، فقد ورد عنهم(عليهم السلام) أحاديث كثيرة منها:

عن عبد اللّه الفضل الهاشمي قال: قلت لأبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام)، يا بن رسول اللّه، كيف صار يوم عاشوراء، يوم مصيبة وغم وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واليوم الذي ماتت فيه فاطمة(عليها السلام) واليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين(عليه السلام) واليوم الذي قتل فيه الحسن(عليه السلام) بالسم؟

فقال: «إن يوم الحسين أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام؛ وذلك أن أصحاب الكساء الذي كانوا أكرم الخلق على اللّه تعالى كانوا خمسة فلما مضى عنهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) فكان فيهم للناس عزاء وسلوة، فلما مضت فاطمة(عليها السلام) كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين(عليهم السلام) للناس عزاء وسلوة، فلما مضى الحسن(عليه السلام) كان للناس في الحسين(عليه السلام) عزاء وسلوة، فلما قتل الحسين(عليه السلام) لم يكن بقي من أهل الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة، فكان ذهابه كذهاب جميعهم كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم؛ فلذلك صار يومه أعظم مصيبة...»(2).

جزيل الثواب

ومن هنا ورد الثواب العظيم على هذه الشعائر الحسينية، فقد قال الإمام أبو

ص: 296


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 166.
2- علل الشرائع 1: 225.

جعفر الباقر(عليهما السلام): «كان علي بن الحسين(عليهما السلام) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين(عليه السلام) حتى تسيل على خده بوأه اللّه تعالى بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خديه في ما مسنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوأه اللّه منزل صدق، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة أو أذى فينا صرف اللّه من وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخط النار»(1).

من أنشد شعراً

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) لأبي عمارة: «يا أبا عمارة أنشدني في الحسين بن علي(عليهما السلام)»، قال: فأنشدته فبكى، ثم أنشدته فبكى، قال: فواللّه ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار، قال: فقال: «يا أبا عمارة من أنشد في الحسين بن علي شعراً فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنة»(2).

ومن هنا جاء الطغاة وعلى مر التاريخ ليمنعوا هذه المراسيم المقدسة والشعائر الحسينية، كما هو الحال في نظام البعث الصدامي في العراق، إذ بدأ النظام بمنع العزاء الحسيني في مدينة بغداد أولاً، ثم منع إقامة التعازي في كافة مدن العراق، ثم منع أهل البصرة وغيرها من مدن العراق من المجيء إلى كربلاء

ص: 297


1- ثواب الأعمال: 83.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 141.

المقدسة في أيام المناسبات الدينية كالعاشر من المحرم وزيارة الأربعين في عشرين صفر.

ثم تجرأ واعتقل العلماء والخطباء وعذّبهم وأعدم العديد منهم، كل ذلك من أجل القضاء على الروح النابضة في الأمة، وهي التي تنبعث من الشعائر الإسلامية والحسينية.

هذه كانت إطلالة سريعة عن دور سيد الشهداء(عليه السلام)، في حفظ واستمرار الإسلام، وبيان شيء عن مكانته عند اللّه، وسمو مقامه، وخلود ذكراه، وجلالة شأنه في الدنيا والآخرة، وكيف لا يكون صاحب ذلك المقام؟ وهو القائل:

تركت الخلق طُراً في هَواكا *** وأيتمتُ العيال لكي أراكا

فلو قطّعتني في الحبّ إرباً *** لما مال الفؤاد إلى سواكا

وهي كلمات تظهر مدى إخلاص الإمام الحسين(عليه السلام) في حبه للّه، وإخلاصه في الدفاع عن الإسلام، نسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا لأداء ما يجب علينا تجاه الإمام الحسين(عليه السلام) وقضيته المباركة ونهضته المقدسة.

اللّهم صل على محمد وآل محمد، واجعل لنا مقام صدق مع الحسين(عليه السلام) وأصحاب الحسين(عليه السلام) الذين بذلوا مهجهم دون الحسين(عليه السلام)، وارزقنا شفاعة الحسين(عليه السلام) يوم الورود، إنك على كل شيء قدير.

من هدي القرآن الحكيم

من خصائص الإمام الحسين(عليه السلام)

قال تعالى: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}(1).

ص: 298


1- سورة الفجر، الآية: 27-30.

جزاء الشهيد عند اللّه سبحانه

قال عزّ وجلّ : {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ}(1).

وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(2).

وقال سبحانه تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(3).

واجبنا تجاه القضية الحسينية

قال تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

من خصائص الإمام الحسين(عليه السلام)

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «اقرؤوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم فإنها سورة الحسين بن علي(عليهما السلام) وارغبوا فيها رحمكم اللّه، فقال له أبو أسامة وكان حاضر المجلس: كيف صارت هذه السورة للحسين(عليه السلام) خاصة؟ فقال(عليه السلام): ألّا تسمع إلى قوله تعالى: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}(5) إنما يعني الحسين بن علي(عليهما السلام) فهو ذو النفس المطمئنة الراضية المرضية...»(6).

ص: 299


1- سورة محمد، الآية: 4.
2- سورة آل عمران، الآية: 169.
3- سورة التوبة، الآية: 89.
4- سورة الحج، الآية: 32.
5- سورة الفجر، الآية: 27-30.
6- تأويل الآيات الظاهرة: 769.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن اللّه تعالى عوض الحسين(عليه السلام) من قتله أن جعلالإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعد أيام زائره جائياً ولا راجعاً من عمره»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أتى جبرئيل(عليه السلام) إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: السلام عليك يا محمد ألّا أبشرك بغلام تقتله أمتك من بعدك؟ فقال: لا حاجة لي فيه، فانتهض إلى السماء ثم عاد إليه الثانية، فقال له مثل ذلك، فقال: لا حاجة لي فيه، فانعرج إلى السماء ثم انقض إليه الثالثة، فقال مثل ذلك، فقال: لا حاجة لي فيه، فقال: إن ربك جاعل الوصية في عقبه، فقال: نعم...»(2).

من كراماته(عليه السلام)

وقال الشيخ المفيد(رحمه اللّه): ولما اصبح عبيد اللّه بن زياد بعث برأس الحسين(عليه السلام) فدير به في سكك الكوفة كلها، وقبائلها، فروي عن زيد بن أرقم أنه قال: مر به عليّ وهو على رمح وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَٰبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا}(3) فقفّ واللّه شعري عليّ وناديت: رأسك يا بن رسول اللّه أعجب وأعجب(4).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسين مني وأنا من حسين، أحب اللّه من أحب حسيناً حسين سبط من الأسباط»(5).

ص: 300


1- تأويل الآيات الظاهرة: 598.
2- كامل الزيارات: 56.
3- سورة الكهف، الآية: 9.
4- الإرشاد 2: 117.
5- الإرشاد 2: 127.

الشهيد عند اللّه سبحانه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاثة يشفعون إلى اللّه عزّ وجلّ فيُشَفَّعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للحسين(عليه السلام): «... وإن لك في الجنة درجات لن تنالها إلّا بالشهادة...»(2).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «... لا أرى الموت إلّا سعادة»(3).

التمسك بالحسين وأهل البيت(عليهم السلام) هداية ونجاة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا وأن الحسين باب من أبواب الجنة من عاداه حرم اللّه عليه رائحة الجنة»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «.. فإنما مثل أصحابي كمثل النجوم بأيها أخذ اهتدي وبأي أقاويل أصحابي أخذتم أهتديتم... فقيل يا رسول اللّه ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي»(5).

وقال أبو ذر الغفاري (رضوان اللّه عليه): سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «... إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»(6).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إني قد تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن

ص: 301


1- الخصال 1: 156.
2- بحار الأنوار 44: 328.
3- شرح الأخبار 3: 150.
4- مائة منقبة: 22.
5- معاني الأخبار: 156.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 60.

تضلوا بعدي، وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض،وعترتي أهل بيتي، ألّا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(1).

واجبنا تجاه القضية الحسينية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل في كل سنة...»(2).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): في قوله تعالى: {مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ...}(3) قال: «مما علمناهم ينبؤون»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «تلاقوا وتحادثوا العلم، فإن بالحديث تجلى القلوب الرائنة، وبالحديث إحياء أمرنا، فرحم اللّه من أحيا أمرنا»(5).

ص: 302


1- الطرائف 1: 114.
2- بحار الأنوار 44: 293.
3- سورة البقرة، الآية: 3.
4- معاني الأخبار: 23.
5- عوالي اللئالي 4: 67.

قيمة المرء

المرء وما يحسنه

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «قيمة كل امرئ ما يحسنه»(1).

وقال(عليه السلام): «ما علم من لم يعمل بعلمه»(2).

إن هذه الكلمة على وجازتها وقصرها، ذات معنى عميق، حيث أراد الإمام(عليه السلام) أن يبين من خلالها: إن قيمة الإنسان هي بقدر ما يحسنه من العلم والعمل، وكما أن الإنسان في الآخرة سوف ينال إما الجنة أو النار، بقدر ما لديه من أعمال صالحة أو طالحة، كذلك الحال في الدنيا، فإن المرء يُقيّم بعمله وعلمه حتى عند الناس لا بنسبه وهيكله، والتقييم مرتبط بجهة المتعلّق - أي الفعل - فتارة يكون الفعل خيراً وصالحاً، فتكون آثاره خيّرة وسليمة، فيأتي الناس ليعطوا ذلك الإنسان ما يقابل عمله هذا، سواء كان عطاءً مادياً أو معنوياً، فعاقبة عمله الصالح هي قيمة رائعة لشخصه وعمله، وحينئذ يقولون: إن فلاناً رجل صالح، وهذه الصفة الأخيرة هي قيمة نتجت عن عمله.

وبالعكس تماماً عندما يكون عمل الإنسان غير ملائم للطبع الإنساني السليم، بل لعله يخالف الذوق والحس البشري الذي غرسه اللّه عزّ وجلّ في وجود

ص: 303


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 81.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 686.

الإنسان، فتكون النتيجة أيضاً تقييماً من نوع آخر؛ إذ يقال عند تقييم صاحب العمل السيئ بأنه غير خلوق، أو أنه إنسان سيئ وطالح.

وهكذا فإن قيمة المرء تكون من سنخية عمله وأدائه، ولا تأتي اعتباطاً أو صدفة.

مراقبة المرء لنفسه

فعلى هذا يجب أن يراقب المرء عمله وسلوكه، وأن يحسن عمله ويتقنه بشكل جيد؛ لأن عمله سوف يكون مرآة له تنعكس فيها صورته الحقيقية، فأما أن تكون صورة ناصعة، أو تكون صورة مشوشة ومشوهة، ونستطيع أن نمثل لذلك بمثال متواضع: فالذي يحمل شهادة المرحلة الابتدائية تكون قيمته غير الذي يحمل الشهادة الجامعية، وهكذا اطراداً.

دروس وعبر

وإن هذه الكلمات القصار للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بقيت وستظل حية على طول التأريخ الإنساني، وتشكل دروساً تربوية قيّمة لا يستغني عنها الإنسان.

فالإمام(عليه السلام) بيّن أن قيمة الإنسان هي بقدر علمه، وبقدر ما يحسنه من عمل، فالتاجر الذي يحسن فن الشراء والبيع هو ذو علم بالتجارة، ويقاس بين التجار وفقاً لهذه الموازين.

والإنسان دائماً يعيش حالة الطموح والأمل، ولكل فرد أهداف يرسمها لنفسه، ويسعى دوماً نحو تحقيقها. فالإنسان المتعلم والعالم الذين يحسنان استخدام الوسائل من خلال ما يحملانه من علم وخبرة سيصلان إلى أهدافهما وطموحاتهما، وغالباً ما يكون الناجحون في حياتهم من أهل الخبرة والعلم؛ لأنهم يستخدمون المقدمات والوسائل الصحيحة للوصول إلى تحقيق آمالهم،

ص: 304

بينما الذين لا يحسنون في عملهم ولا يعرفون وسائل النجاح وهم كثيرون تراهم يتخبّطون يميناً وشمالاً، فهم وإن كانوا أحياناً يعلمون شيئاً، إلّا أنهم يمتازون بعدم المعرفة في كيفية استخدام هذا العلم عادة، فيفقدون نتيجة لذلك مكانتهم الاجتماعية، فإنه «علم لاينفع كدواء لا ينجع»(1).

فإن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يؤكد على من يحمل علماً أو خبرة أن يعرف كيف يتصرّف به، وأن يتحمل الشدائد والعراقيل التي تلاقيه في سبيل الوصول إلى هدفه. فقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالتعب الشديد تدرك الدرجات الرفيعة والراحة الدائمة»(2).

الفكر وأثره على السلوك

مصادر الثقافة في هذا العالم كثيرة ومتنوعة، سواء في السياسة أو في الاقتصاد أو في العلوم الأخرى، وكل هذه المصادر تحاول أن تحتوي المصدر الآخر للانفراد في الساحة، ونلاحظ أنه كلما جاء فكر جديد كثيراً ما يلعن من كان قبله، وهكذا الحال في القوانين الوضعية السائدة في هذا العالم المتلاطم بالأفكار، وفي الأغلب تكون أفكاراً تسلطية مبتنية على الخداع والغش؛ لذلك يأتي الفكر مرة باسم الشيوعية، ومرة باسم الرأسمالية، وأخرى باسم القومية... وفي ظل هذه العناوين والاتجاهات ينخدع بعض الناس وينجرف في دوامتها، ومقابل هذه التيارات التضليلية يقف الفكر الإسلامي شامخاً، بما يحتويه من مبادئ رصينة وثابتة، تهدي الناس إلى الخير والصلاح، فالقرآن الكريم وهو مصدر الهداية والرحمة، يهدي الناس إلى التكامل المادي والمعنوي، ويحررهم من العبودية

ص: 305


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 463.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 305.

التي قيدتهم نتيجة الأفكار والنظريات التضليلية، فالقرآن الكريم يحتوي على أعلى قيمة في الفكر، وأرقى أسلوب في الحركة والسير الذاتي نحو التطور والسعادة، ومن ثم اعتضد هذا الفكر بشخصية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي أخرج هذا الفكر إلى النور، بأعماله وأفعاله الواقعية، في مجتمع صعب التغيير، متعصب لفكرته المترسخة لفترة طويلة، مع وجود شخصيات متمرسة في التضليل والخداع، ذات مصالح شخصية، ولها جذور عميقة في التأثير على المجتمع. وبرغم هذا كله نجح هذا الفكر في الاجتياز لكل العقبات نتيجة لتكامله وصحة دعوته، وقوة منشئه وعظمته، وصدق وأمانة والمبلّغ به.

مقارنة

لو أجرينا مقارنة سريعة بين الفكر الإسلامي والأفكار الأخرى. لاتضح لنا الفارق الجلي بين ما يحمله القرآن من مبادئ سامية، وأخلاق فاضلة، تسمو بالإنسان نحو الفضيلة والسعادة، بعكس الأفكار والمبادئ الوضعية، علماً بأن الفكر هو الأساس في العمل كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»(1) فالفكر أيضاً هو مما تعرف به قيمة المرء كما لايخفى.

فالإسلام ينطلق من القرآن، والقرآن فيه من التعاليم والأفكار التي لا يستطيع فكر أو نظرية أن يصل إليها، أو يطرح بديلاً مناسباً عنها وللمثال على ذلك:

المفاضلة بين الناس في الإسلام مبنية على أساس التقوى؛ قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2) والتقوى إحدى الصفات الحميدة وهي صفة

ص: 306


1- نهج الحق وكشف الصدق: 411.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.

روحية تربط الإنسان بخالقه، وبإمكان الإنسان أن ينميها حتى يتدرج إلى أعلى القممالروحية، أما القومية فترى أن التفاضل بين الناس يكون على أساس اللغة والدم والجنس، لاالتقوى والالتزام الخلقي والعقائدي.

وكذلك الفكر الإسلامي يدعو إلى التوحيد وإلى عبادة إله واحد أزلي، في حين أن الأفكار الوضعية تدعو إلى الصنمية والآلهة المتعددة الباطلة.

وأيضاً الفكر الإسلامي يدعو إلى احترام حقوق الفرد والمجتمع، أما غيره فيدعو إلى ضرب حقوق الفرد بحجة حقوق المجتمع.

والفكر الإسلامي يدعو إلى التأكيد على الأخلاق وجعل المفاهيم الأخلاقية أساساً في التعامل والتعايش، أما غيره من الأفكار فأغلبها يدعو إلى التحلل الخلقي، والانحراف الفكري.

والإسلام يدعو إلى أمة واحدة، بينما غير الإسلام عادة ما يحاول زرع الفتن وتفريق الأمم، وذلك بإثارة النعرات الطائفية، والحروب بين الدول والأمم، كما نشاهده اليوم بأم أعيننا.

الشباب وتحصيل العلم

اشارة

ومن أهم ما يؤكد عليه الإسلام هو العلم مصحوباً بالعمل، ثم إن سبل تحصيل العلم ميسرة اليوم من ناحية وجود المدارس ووفرة المناهج والخدمات العامة والتطور العالمي، فلماذا يتوانى شبابنا المسلم المؤمن في هذه المسألة؟ وهي من أهم المسائل وأرفعها، وفيها يكمن سر تقدم الأمة وتطورها ونيلها الأسباب الموصلة إلى عزتها وكرامتها وقوتها، ولطالما شدد وأكد القرآن الكريم على هذا الجانب - جانب العلم والمعرفة - . حيث ترى أن أول سورة نزلت على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي سورة (العلق) وما فيها من المفردات المهمة والضرورية،

ص: 307

من قبيل: {اقْرَأْ * الْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ...}(1) فكلها ذات محور واحد وهو العلم، وفي سورة الرحمن قوله تعالى: {الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ}(2)، ثم يقول عزّ وجلّ: {خَلَقَ الْإِنسَٰنَ}(3)، ثم يردفها تعالى ب- : {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(4).

لماذا قدّم تعالى العلم على خلق الإنسان؟ والحال أن الأمر عكس ذلك، حيث إن الخلق مقدم زماناً على العلم؟ والجواب على ذلك: إن اللّه تعالى أخرّ خلق الإنسان عن العلم مع أنه مقدم زماناً للدلالة على جلالة العلم وأهميته؛ لأنه لولا العلم لما كانت هناك فائدة من خلق الإنسان. فالآيات التي تؤكد على مسألة العلم وتحصيله كثيرة، والسنة المطهرة أشارت كذلك إلى هذا الجانب، فالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) أوصوا بالعلم وأشادوا بالعلماء، وفضلهم ومنزلتهم، وعظيم الثواب لهم.

فقد روى الإمام الصادق(عليه السلام) عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «المؤمن العالم أعظم أجراً من الصائم القائم الغازي في سبيل اللّه وإذا مات ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة»(5).

العلم زينة وفريضة

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم»(6).

ص: 308


1- سورة العلق، الآية: 1-5.
2- سورة الرحمن، الآية: 1-2.
3- سورة الرحمن، الآية: 3.
4- سورة الرحمن، الآية: 4.
5- بصائر الدرجات 1: 5.
6- الكافي 1: 36.

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وهو عند اللّه لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، وسالك بطالبه سبيل الجنة، وهو أنيس في الوحشة، وصاحب في الوحدة، وسلاح على الأعداء، وزين الأخلاء، يرفع اللّه به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم، ترمق أعمالهم وتقبتس آثارهم»(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «طلب العلم فريضة على كل حال»(2). إلى غيرها من الروايات الواردة في فضل العلم، وأهمية تحصيله.

نعم، لا شك أن الطريق الأفضل لرقي الإنسان هو العلم، فبالعلم يصل المرء إلى الدرجات العلى في الإيمان، إذ حتى الإيمان لا بد وأن يكون إيماناً واعياً ويقينياً كاملاً، لا أن يكون إيماناً ناتجاً عن جهل وسطحية وتمسك بالقشور، بل الإيمان الحقيقي هو الناتج عن علم ومعرفة، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المتعبد بغير علم كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح من مكانه»(3).

وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(4). فحصر سبحانه الخشية في أعلى مراتبها بالعلماء؛ لأنهم العارفون بأصول العبادة وأنواعها الصحيحة الموصلة للّه عزّ وجلّ، فعلمهم هو الذي زادهم خشية من اللّه تعالى.

ومن هنا ندرك أن العلم الذي لا يوصل صاحبه إلى خشية اللّه تعالى لا يكون نافعاً نفعاً حقيقياً، هذا إذا لم يكن ضاراً، وعلى ذلك يمكن فهم قول الإمام أمير

ص: 309


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 615.
2- بصائر الدرجات 1: 3.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 116.
4- سورة فاطر، الآية: 28.

المؤمنين(عليه السلام): «قيمة كل امرء ما يحسنه»(1) أي ما يحسنه من العلم والمعرفة والعمل.

فيجب أن لا يتوانى شبابنا في هذا المجال، ليعرفوا أن سر انتصارهم على أعدائهم، وتقدمهم في جميع مجالات الحياة؛ مرهون بالعلم وتحصيل المعرفة، ونحن نلاحظ اليوم كيف أن أوربا وبعض الدول الأخرى تطورت وحصلت على مكاسب كبيرة، عندما تمسكت بالعلم، رغم أن العلم الذي سعت إلى تحصيله كان علماً دنيوياً، فكيف الحال إذا كان علماً يجمع بين الدنيا والآخرة؟ فلا شك ولا ريب أن نتيجة ذلك سوف تكون عظيمة، فنحن متى ما هيّأنا المقدمات الصحيحة، وتمسكنا بالعلم، تطورنا وبدت علينا علامات الرقي والسعادة، وتمكنا حينئذ من جلب الناس إلى الإسلام وتعاليمه النيرة، واستطعنا زرع بذور الخير فيهم. وإلّا فاننا - مع تخلفنا وتأخرنا - لا نستطيع أن نكسب الآخرين إلينا، بل في هذه الحالة سيعمل الآخرون على حرفنا وجرفنا عن طريق الحق - من حيث لا نعلم ولا نشعر - كما هو حاصل لدى الكثير اليوم ؛ لأن الدنيا دار الأسباب والمسببات، ولا يمكن الحصول على المكاسب المادية والمعنوية التي أودعها اللّه تعالى في الحياة الدنيا، دون تهيئة الأسباب الموصلة إليها، ومن أهم الأسباب العلم والعمل معاً.

أهمية الوقت

إن أغلب علمائنا كانوا يواصلون البحث والتدريس ويهتمون بقضايا الناس وحل مشاكلهم، رغم تقدمهم في السن، وكانوا لا يسافرون عادة إلّا للضرورات، حتى لا يحول السفر بينهم وبين تحصيلهم العلم، فمثلاً: يذكر أن آية اللّه

ص: 310


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 81.

العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي(رحمه اللّه) لم يسافر لمدة خمسين سنة إلّا مرة واحدة إلى طهران لغرض العلاج من ألم شديد في عينه.

نعم، هكذا كان علماؤنا لا يسمحون لأنفسهم بإضاعة الوقت في السفر وغيره، فقادهم وأوصلهم ذلك إلى مراكز رفيعة، فالسيد عبد الهادي الشيرازي(رحمه اللّه) أصبح المرجع الأعلى للتقليد حيث رجعت إليه الأمة بعد وفاة آية اللّه العظمى السيد البروجردي(رحمه اللّه).

وكذلك السيد الحكيم(رحمه اللّه) لم يسافر إلّا مرة واحدة للحج، ومرة أخرى إلى خارج العراق لغرض المعالجة، وكذلك كان والدي(رحمه اللّه) فلم يسافر طوال عمره إلّا ثلاث مرات، مرة إلى الحج الواجب وكنت بصحبته، وسفرة أخرى إلى مشهد المقدسة، وكان ذلك متعلقاً بجهاد السيد القمي(1)، والسفرة الأخيرة إلى مشهد أيضاً.

فالعلماء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلّا بعد أن ضحّوا بالراحة، وتحملوا الكثير من أجل العلم، واهتموا بالوقت فقد قال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام): «لقد أخطأ العاقل اللاهي الرشدَ، وأصابه ذو الاجتهاد والجد»(2).

وقال (صلوات اللّه عليه): «إن كنتم للنجاة طالبين فارفضوا الغفلة واللّهو والزموا الاجتهاد والجد»(3)، فعلينا أن نتعلم من أولئك العلماء العظام كيف نستثمر وقتنا في العلم والعمل الصالح.

ولا يخفى إنّا لا نريد أن نقول: إن السفر أمر غير جيد وغير نافع، بل على العكس فإن السفر من المستحبات كما فصلناه في الفقه، وإنما مقصودنا هو عدم تضييع

ص: 311


1- هو السيد آغا حسين بن السيد محمود بن محمد الطباطبائي القمي.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 550.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 258.

الوقت بالسفر من دون رعاية الأهم والمهم، أما السفر النافع فقد حرضت عليه الشريعة، فقد ورد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «سافروا تصحوا، سافروا تغنموا»(1).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «سافروا تصحوا، وجاهدوا تغنموا، وحجوا تستغنوا»(2). وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سافروا فإنكم إن لم تغنموا مالاً أفدتم عقلاً»(3).

وحينما سُئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن الأيام المباركة للسفر قال: «سافروا يوم الثلاثاء، واطلبوا الحوائج فيه، فإنه اليوم الذي ألان اللّه فيه الحديد لداود(عليه السلام)»(4).

ومن هذه الأحاديث الشريفة، يظهر أن الشريعة لم تنف السفر مطلقاً، وإن علماءنا حرصاً منهم على متابعة الأهم كانت أسفارهم قليلة، فإن هناك تزاحماً بين الأهم والمهم، والعالم يأخذ بالأهم إلّا في حالة الاضطرار، وما ذكرناه كله من أسباب تكوّن قيمة المرء.

القرآن والحقائق العلمية

لقد ذكر القرآن الكريم العديد من الحقائق العلمية على شكل إشارات، ليجعل للإنسان الدور الكبير في استكشافها والانطلاق منها. وواحدة من تلك الأمور هي قوله تعالى: {وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}(5).

لماذا هذا التأكيد على وقت الفجر؟ فإن بعد التحقيق يتبين للإنسان أن اللّه عزّ وجلّ يريد بذلك أن يكسب المرء قيمته الذاتية فالبعض يتساءل: لماذا

ص: 312


1- المحاسن 2: 345.
2- المحاسن 2: 345.
3- مكارم الأخلاق: 240.
4- المصباح للكفعمي: 183.
5- سورة الإسراء، الآية: 78.

جعلت ركعتان عند الفجر يستيقظ المرء لأدائهما؟

يؤكد العلم الحديث على أن الفوائد الصحية التي يجنيها الإنسان بيقظة الفجر كثيرة منها:

أولاً: تكون أعلى نسبة لغاز الأوزون في الجو عند الفجر، وتقل تدريجياً حتى تضمحل عند طلوع الشمس، ولهذا الغاز تأثير مفيد على الجهاز العصبي، فهو منشط للعمل الفكري والعضلي، بحيث يجعل ذروة نشاط الإنسان الفكري والعضلي في الصباح الباكر.

ثانياً: إن أشعة الشمس عند شروقها قريبة إلى اللون الأحمر، وهذا اللون منبّه للأعصاب وباعث على اليقظة والحركة، كما أن نسبة الأشعة فوق البنفسجية يمكن أن تكون أكبرها عند الشروق، وهذه الأشعة تحرض الجلد على صنع فيتامين (د).

ثالثاً: الاستيقاظ المبكر يقطع النوم الطويل، وقد تبيّن أن الإنسان الذي ينام ساعات طويلة، وعلى وتيرة واحدة يتعرض للإصابة بأمراض القلب، وهنا تبرز واحدة من ثمار الاستيقاظ في وسط الليل لأداء صلاة الليل.

رابعاً: إن أعلى نسبة للكورتزون في الدم هي وقت الصباح، وأدنى نسبة تكون عند المساء، وهذه المادة هي التي تزيد فاعلية الجسم وتنشّط استقبالاته.

وهذه بعض الفوائد من الناحية الطبية، ناهيك عن الفوائد المعنوية التي يحصل عليها الإنسان(1).

الأئمة(عليهم السلام) والحقائق العلمية

اشارة

وهناك روايات كثيرة تدل على أهمية الجانب العلمي في الإسلام، فقد جاء

ص: 313


1- انظر كتاب مع الطب في القرآن.

عن العالم(عليه السلام)(1): «في العسل شفاء من كل داء، من لعق لعقة عسل على الريق يقطع البلغم، ويكسر الصفراء، ويقطع المرة السوداء ويصفي الذهن ويجوّد الحفظ إذا كان مع اللبان الذكر»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لعقة العسل فيه شفاء، قال: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ}»(3)(4).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «ما استشفى الناس بمثل العسل»(5).

وهناك أحاديث وروايات أخرى تذكر فوائد العسل، وأنه الدواء المفضل، ثم جاء اليوم العلم الحديث ليكشف سر هذه الكلمات التي مضى عليها مئات السنين.

لقد تعرض علم الطب لمادة العسل، الذي كان وما يزال مادة للاستشفاء من أمراض الجلد، حيث يسرِّع في التئام الجروح وينظفها، وكذلك ينفع لتقرحات الجلد المزمنة، وغيرها من الأمراض الجلدية، واكتشفوا أن بالعسل يمكن علاج أمراض الجهاز الهضمي، فهو يساعد على الهضم بفعالية الأنزيمات الهاضمة التي يحويها، وكذلك يخفض الحموضة المعدية الزائدة، ويفيد في معظم أمراض الكبد والصفراء، وقد أشار الإمام (صلوات اللّه عليه) إلى ذلك في الحديث الشريف. وينصح الاستشفاء بالعسل في أمراض التنفس، مثل مرض السل، فإن للعسل تأثيراً جيداً على المصاب بالسل؛ لأنه يزيد من مقاومة الجسم للالتهاب السلّي، وكذلك يفيد للسعال الديكي، والتهاب الحنجرة والبلعوم

ص: 314


1- هو الإمام الكاظم(عليه السلام).
2- مستدرك الوسائل 16: 366.
3- سورة النحل، الآية: 69.
4- تفسير العياشي 2: 263.
5- الكافي 6: 332.

والتهاب القصبات، ويمكن بواسطة العسل علاج العديد من أمراض العين من الالتهابات أو الحروق، والاستشفاء به من أمراض الأنف والأذن والحنجرة، وأمراض النساء وحالات الولادة، وغيرها من الأمراض العديدة، التي يمكن أن يدخل العسل كعلاج رئيسي فيها، وهذا على نحو الإيجاز والاختصار والتفصيل في محله، فإن أئمتنا(عليهم السلام) ذكروا الكثير من الروايات العلمية والتي منها ما يرتبط بالأمراض وكيفية علاجها(1).

التأسي بأئمتنا الهداة(عليهم السلام)

ومن أهم ما يضمن للمرء قيمته هو التمسك بالأئمة الهداة من آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتأسي بهم، فإنهم(عليهم السلام) أهل العلم وأصله، وقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «إن داود ورث علم الأنبياء، وإن سليمان ورث داود، وإن محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورث سليمان، وإنّا ورثنا محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى» فقال أبو بصير: إن هذا لهو العلم، فقال(عليه السلام): «يا أبا محمد ليس هذا هو العلم، إنما العلم ما يحدث بالليل والنهار يوماً بيوم وساعة بساعة»(2).

وهناك مرويات كثيرة جداً، يظهر من خلالها شأن أهل البيت(عليهم السلام)، وعلميتهم ومكانتهم بما يعجز اللسان عن وصفه، ويقصر التعبير عن أدائه. فكان أئمتنا(عليهم السلام) معدن العلم وورثته عن الأنبياء، والسباقين في كل علم، ولهم مواقف مشرفة سجّلها التاريخ بحروف من نور، يظهر من خلالها سبقهم الأولين والآخرين، في تثبيت معدن العلوم، وذكر الخطوط العريضة لكثير من العلوم؛ مثل الطب والفلك والفلسفة والفقه والرياضيات، وغيرها من العلوم الأخرى(3). فإذا كان حال قادتنا

ص: 315


1- انظر كتاب مع الطب في القرآن الكريم وبحار الأنوار المجلد 59.
2- الكافي 1: 225.
3- أنظر بحار الأنوار 10: 1-392.

هذا، فلماذا لايتأسى شبابنا المؤمن بهم(عليهم السلام)، في اتباع إرشاداتهم(عليهم السلام) والمواظبة على تحصيل العلم واتخاذ العلم وسيلة نحو التقدم والرقي، وتذليل الوسائل والمقدمات التي تكون مستصعبة عليهم أحياناً بسبب عدم المعرفة بها وجهلها؟!

العلم الحقيقي

إن أكثر المعضلات والمشاكل تنتج بسبب التخلف وقلة العلم، وعلى العكس فإن زيادة المعرفة وسعة العلم عند المرء تسهّل عليه كثيراً من الصعوبات، وتقربه من اللّه تعالى ومن الناس، وتكشف له الكثير من الحقائق المهمة، والتي من أهمها معرفة أصول الدين فقد ورد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك اللّه به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاَ به، وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض، حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر...»(1)، فإذا كان الإنسان يمتلك العلمية الجيدة فإنه سيستطيع بواسطة ذلك اتباع الحق، المتمثل بمعرفة الخالق تعالى، وما فرض عليه من واجبات، والتي من ضمنها اتباع الأئمة(عليهم السلام)، فهم الهداة إلى الحق، وبواسطتهم يفوز الإنسان بأعلى المراتب في الدنيا والآخرة. فالأئمة(عليهم السلام) لا يقاس بهم أحد، على حدّ قول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يقاس بآل محمد(عليهم السلام) من هذه الأمة أحد»(2).

فمثلاً: إن مقولة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «قيمة كل امرئ ما يحسنه» تشير إلى أن المرء إذا كان يحسن جيداً معرفة الإمام المعصوم، ويعلم عن يقين طاعة

ص: 316


1- الكافي 1: 34.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 2، من خطبة له(عليه السلام) بعد انصرافه من صفين.

الإمام عليه، واتباعه واحترامه حياً أو ميتاً، فهذه المعرفة العظيمة تكون قيمة له، ومن خلال هذه المعرفة يمكن تقييمه بين الناس، وكذلك عند اللّه عزّ وجلّ.

فعلينا - إذن - أن نطلب العلم من موارده الحقيقية، وهم الأئمة الأطهار(عليهم السلام)؛ لأنهم قطب الرحى في كل مجال، وهم العارفون في كل العلوم، والأدلاء على طرق ومسالك هذه العلوم، فقد ورد عن الإمام أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «كل شيء لم يخرج من هذا البيت فهو وبال»(1).

وهنالك مسألة يجدر الالتفات إليها هنا، وهي: إن بالعلم أيضاً يستطيع المرء أن يعرف قدر نفسه، ومقدار قيمته في المجتمع، لا أنه يكتشف مقام الأئمة(عليهم السلام) فحسب. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الناس أبناء ما يحسنون»(2). وهذه الكلمة الشريفة تبين للإنسان مقياساً من خلاله يعرف المرء قدر نفسه، ويقيّم ذاته، ثم قيل عن هذه الكلمة إنه: (لم يسبقه إليها أحد)، وقالوا: (ليس كلمة أحض على طلب العلم منها)، وقد نظم جماعة من الشعراء إعجاباً بهذه الكلمة أبياتاً، منها ما يعزى إلى الخليل بن أحمد:

لا يكون العلي مثل الدني *** لا ولا ذو الذكاء مثل الغبيّ

قيمة المرء ما يحسن المرء *** قضاءٌ من الإمام عليّ(3)

وقالوا:

قول علي بن أبي طالب *** وهو الإمام العالم المتقنُ

كل امرئ قيمته عندنا *** وعند أهل الفضل ما يحسن(4)

ص: 317


1- الإختصاص: 31.
2- الكافي 1: 51.
3- جواهر المطاب: 156.
4- انظر تذكرة الخواص 1: 578.

وفي الختام نسأل اللّه عزّ وجلّ أن يوفقنا للعلم والمعرفة والعمل الصالح فإنها قيمة المرء.

«اللّهم صل على محمد وآله، وأطلق بدعائك لساني، وأنجح به طلبتي، وأعطني به حاجتي، وبلّغني فيه أملي، وقني به رهبتي، وأسبغ به نعماي، واستجب به دعاي، وزك به عملي، تزكية ترحم بها تضرعي وشكواي، وأسألك أن ترحمني وأن ترضى عني، وتستجيب لي، آمين رب العالمين»(1)

وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

العمل الصالح وأهميته

قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ...}(2).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِن فَضْلِهِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}(5).

القرآن يدعو إلى التقوى

قال سبحانه: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(6).

ص: 318


1- الدروع الواقية: 173.
2- سورة غافر، الآية: 58.
3- سورة الشورى، الآية: 22.
4- سورة الروم، الآية: 45.
5- سورة الجاثية، الآية: 30.
6- سورة البقرة، الآية: 197.

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ...}(2).

وقال عزّ من قائل: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ}(3).

القرآن يدعو إلى العلم

قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَٰلِمُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّلْعَٰلِمِينَ}(5).

وقال عزّ من قائل: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(6).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(7).

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ

ص: 319


1- سورة آل عمران، الآية: 102.
2- سورة النساء، الآية: 1.
3- سورة الحشر، الآية: 18.
4- سورة العنكبوت، الآية: 43.
5- سورة الروم، الآية: 22.
6- سورة طه، الآية: 114.
7- سورة الزمر، الآية: 9.

مِنكُمْ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

العمل الصالح وأهميته

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أخلصوا أعمالكم للّه فإن اللّه لا يقبل إلّا ما خلص له»(5).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنك لن يغني عنك بعد الموت إلّا صالح عمل قدمته فتزود من صالح العمل»(6).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالأعمال الصالحات ترفع الدرجات»(7).

القرآن الحكيم والتدبر

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما مثل القرآن مثل صاحب الإبل إن عقلها صاحبها

ص: 320


1- سورة النساء، الآية: 59.
2- سورة المائدة، الآية: 55.
3- سورة التوبة، الآية: 119.
4- سورة الأحزاب، الآية: 21.
5- نهج الفصاحة: 174.
6- عيون الحكم والمواعظ: 172.
7- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 154.

حبسها وإن أطلقها ذهبت»(1).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى... فإنالتفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور»(2).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر»(3).

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بدمه ولحمه، وجعله اللّه مع السفرة الكرام البررة...»(4).

السنة تدعو إلى التقوى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا إن الناس من آدم وآدم من تراب وأكرمهم عند اللّه أتقاهم»(5).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليكم بالتقوى فإنه خير زاد وأحرز عتاد»(6).

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «اتقوا اللّه وصونوا دينكم بالورع»(7).

السنة تدعو إلى العلم

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «العلم خليل المؤمن»(8).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بالعلم فإنه وراثة كريمة»(9).

ص: 321


1- عوالي اللئالي 1: 147.
2- الكافي 2: 600.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 318.
4- ثواب الأعمال: 100.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 363.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 450.
7- الكافي 2: 76.
8- الكافي 2: 47.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 442.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به وأهل بيتي...»(2).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا وإنّا أهل البيت أبواب الحكمة وأنوار الظلم وضياء الأمم»(3).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أحب أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويدخل جنة عدن التي وعدني ربي، قضيب من قضبانه غرسه بيده ثم قال له: كن فكان، فليتول علي بن أبي طالب(عليه السلام) والأوصياء من بعده فإنهم لا يخرجونكم من الهدى ولا يدخلونكم في ضلالة»(4).

ص: 322


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- نهج الفصاحة: 261.
3- عيون الحكم والمواعظ: 107.
4- بصائر الدرجات 1: 51.

محنة العراق

تاريخ العراق الحديث

قال اللّه العظيم في محكم كتابه الكريم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

بحثنا يدور حول بعدين:

البعد الأول: لمحة عن تاريخ العراق.

والبعد الثاني: حول كيفية رفع المعاناة عن العراق.

كان احتلال العراق وسقوط بغداد على يد القوات البريطانية في عام (1917م) يعتبر رمزاً لسقوط الحضارة الإسلامية في نظر الاستعمار، (وكان احتلال العراق يشكل النهاية والغاية لثلاثة قرون من النشاط البريطاني في الشرق الأوسط).

إن سيطرة الاستعمار كانت تعني فرض الهيمنة على كل المنطقة الممتدة من القفقاس إلى البحر الأبيض المتوسط، وإلى الخليج وجنوب الجزيرة العربية؛ لأن العراق يشكّل مفتاح الشرق الأوسط وقلبه النابض، وكان احتلال العراق بالذات يعني للاستعمار حصوله على سوق تجارية لتصريف منتجاته الصناعية، وحصوله على أرض غنية بالبترول والمعادن والثروات الزراعية الأخرى، بل كان يعني لديه أكثر من ذلك وهو حصوله على ممر بري يصل البحر الأبيض

ص: 323


1- سورة الذاريات، الآية: 55.

المتوسط بخليج البصرة(1)، ويؤمِّن بذلك طريق مواصلات الهند أو يحمي آبار النفط في عبّادان.

وقد اعترف بذلك أحدهم(2) حيث قال: إن المناطق الاستراتيجية في الشرق الأوسط تقع في بغداد، وقد استطعنا باحتلال العراق أن نركّز أنفسنا في العالم الإسلامي، وبذلك منعنا تجمّع المسلمين ضدنا في الشرق الأوسط.

إذن، هذا هو جانب من أهمية العراق الاستراتيجية، ولكن سؤالاً قد يطرح: هل كان باستطاعة بريطانيا أن تستولي عليه بموافقة الشعب؟

والجواب على ذلك نقول: إن بريطانيا لو لم تلجأ إلى أساليب المكر والخداع، وتقضي على روح المقاومة الإسلامية باستغلال المشاعر والقهر والعذاب والألم، لم تستطع ذلك، حيث إنهم حتى في الساعات الأخيرة لم يتوقفوا عن التنكيل بالشعب والاعتداء على حرماته ومقدساته، ومارسوا العنف والإرهاب حتى مع بعض رجال القبائل الذين جاؤوا لنصرتهم، فتقدمت بريطانيا لترفع شعار (التحرير) و(انقاذ الشعب العراقي)، حيث قال أحد قادتهم(3): (لقد جئنا محررين لا فاتحين).

إن الشعب العراقي لم يلقِ السلاح إلّا بفعل هذه الوعود المخادعة.

ونقول: إن الاستعمار لو احتل بلادنا عسكرياً فقط، لكان من السهل إخراجه، ولكنه ووفق خطّة محكمة دخل إلى بعض النفوس الضعيفة وذوي العقول المريضة، بل وإلى بعض القادة أيضاً، فأصبح جزءاً من الوجود

ص: 324


1- الخليج العربي.
2- وهو (آرنولد ويلسن) الذي كان آنذاك وكيل الحاكم الملكي، ويشغل منصب المندوب السامي البريطاني في العراق.
3- القائل هو (الجنرال ستانلي موند) قائد الجيوش البريطانية التي احتلت بغداد.

الفكري والاجتماعي لبعض المسلمين، فاستقرّ به المقام وصار من الصعب إخراجه.

لقد استخدم الاستعمار الغربي كل وسيلة ممكنة لإلغاء شخصية الأمة الإسلامية؛ كي تتحول إلى (أمة لا وزن لها)، فتدور في فلكه بلا إرادة ولا اختيار، وهو - بدوره - يعامل الجميع بلا رحمة ولا شفقة ويستخدم هذه الشخصية وهذه الأمة لتحقيق مآربه وأطماعه وبشكل مستمر.

ولولا الغفلة والجمود الطويل - التي مرت على الأمة الإسلامية في العهد العثماني - لم يكن الاستعمار قادراً على أن يفعل ما يريد، ولكنه استطاع - بدهاء ومكر وخبث - أن يجرّد الأمة من أسلحتها الواحد تلو الآخر ثم يقودها بهدوء وبكل طواعية وقيادة سهلة نحو المسلخ.

إذ أنه في البداية سلب الأمة سلاح الفكر والعقيدة حيث غزا الأمة ثقافياً، ثم سلبها سلاح الاقتصاد، حيث جعلها أمة تأكل أكثر مما تنتج بل وأمة مستهلكة، ثم سيطر عليها سياسياً، حيث بث فيها حكام جور وطغاة ظلمة، واغتصب منها حتى قطعة الأرض التي تسكن عليها، فاحتل المواقع الاستراتيجية في المنطقة؛ كي يسهل عليه ضربها متى أراد، ومتى ما طالبته الأمة بحقوقها المشروعة، كالحرية والاستقلال وما أشبه.

المقاومة الإسلامية

بالرغم من كل الركائز التي جعلها الاستعمار البريطاني كمحور أساسي يرتكز عليه للبقاء في بلادنا الإسلامية، فإن المسلمين قاوموا الاحتلال الإنكليزي، وكان على رأس القوات المناهضة للاستعمار العشائر العراقية، بقيادة علمائها الأعلام في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وبغداد وسامراء.

ص: 325

وأما بعد سيطرة بريطانيا على العراق، حيث لم تستقر الأوضاع السياسية، استمرت مقاومة الحكم الإنكليزي المباشر، فانطلقت ثورة العشرين بقيادة العلماء المراجع من كربلاء المقدسة والنجف الأشرف والكاظمية، إلّا أن دهاء الإنكليز إضافة إلى قوتهم العسكرية مكّنهم من تهدئة الأوضاع بالاستعانة بعملائهم من بعض أهل البلاد المتعاونين مع الاستعمار.

الصراع بين أميركا وبريطانيا

بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، اندفعت أمريكا لتصفية المستعمرات البريطانية، فحاولت الدخول إلى العراق، إلّا أن النفوذ البريطاني المتعدد الوجوه جعل طريق أمريكا صعب المسالك، فقد كان نوري السعيد(1)

- أحد رموز بريطانيا في العراق وفي العالم العربي - إحدى العقبات الكبرى أمام التسلل الأمريكي، ولذا حاولت أمريكا اغتياله.

ولم تنجح محاولات أمريكا لدخول العراق إلّا بشكل جزئي، ثم كان انقلاب عبد الكريم قاسم الذي اكتشفت بريطانيا بعد مدة من ممارسة السلطة أنها لم تعثر فيه على العميل الذي تريد، فسحبت تأييدها له.

ونجح الإنكليز بتقوية مركزهم بانقلاب (1963م) الذي حمل تناقضاً في طياته إذ حاول حزب البعث الاستفادة من اسم (عبد السلام عارف) فشاركه في الحكم، ولكنه انقلب عليهم إذ كان مرتبطاً بعملاء أمريكا في المنطقة حسب بعض التحاليل السياسية. وجاء بعده أخوه عبد الرحمن عارف. ثم تمكنت بريطانيا من التخلص من عملاء أمريكا في الانقلاب العسكري في الثلاثين من تموز سنة (1968م) الذي جاء بالبعثيين إلى الحكم ثانية.

ص: 326


1- نوري سعيد صالح السعيد رئيس الوزراء العراقي بين عام (1930م- 1958م).

من البكر إلى صدام

اشارة

قال تبارك وتعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(1).

خشي الاستعمار الأمريكي والبريطاني من ميوعة الأوضاع السياسية أيام حكم عبد الرحمن عارف وطاهر يحيى(2) في العراق، فاتفقا على التخلّص منهما والمجيء بحكّام لهم من مظاهر التأييد ما يكفي لتمرير المخطّطات الاستعمارية، فجاء إلى السلطة خليط من العملاء أمثال عبد الرزاق النايف(3) وكان موالياً لأمريكا ويمثل امتداد العهد السابق، والبكر(4) الذي كان عميلاً لبريطانيا.

وقد أراد الاستعمار أن يستعمل واجهتين: (القوميين العرب) و(حزب البعث) ليبدوان كقاعدة شعبية لإسناد السلطة الجديدة، وسرعان ما تخلّص عملاء بريطانيا من عملاء الأمريكان خلال ثلاثة عشر يوماً(5).

وكان من أهم المهمات الاستعمارية التي جاء بها العهد الجديد: ضرب الحركة الإسلامية الشيعية في العراق التي بدأت تظهر على الساحة السياسية بشكل جادّ ورزين وهادئ تحت توجيهات بعض المراجع الأعلام في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وبدءوا بالتضييق على المرحوم السيد الحكيم(رحمه اللّه)، وسار الحكم الجديد في تطبيق السياسة الاستعمارية، وتفرّد بهذا الحكم أحمد حسن البكر الذي هو أكبر عملاء بريطانيا في العراق يعاونه حردان التكريتي

ص: 327


1- سورة الأنعام، الآية: 129.
2- طاهر يحيى التكريتي: رئيس وزراء العراق في أربع دورات منها في حكومة عبد السلام عارف.
3- عبد الرزاق النايف: أحد قادة انقلاب (1968م) ثم اعتقل مع مجموعة أخرى من قبل صدام والبكر وذلك في (30 تموز 1968م) أي بعد أيام قلائل من اشتراكه بالانقلاب الأول.
4- أحمد حسن البكر.
5- إشارة إلى ما يسمى ثورة 30 تموز 1968م.

وصالح مهدي عماش واستعانوا بأجهزة حزب البعث وبأشخاص يحملون الولاء للبكر ولديهم ارتباطات مع أجهزة المخابرات البريطانية لملء المراكز الحساسة في الدولة.

وكان يغلب على أحمد حسن البكر الحس العشائري حيث لم يكن يثق إلّا بأقاربه، ومن هذا المدخل اقتحم صدام السلطة من بابها الواسع.

لمحة عن البكر

أحمد حسن البكر كان له جدّ يهودي يعمل في التجارة في أحد أكبر أسواق بغداد (سوق الشورجة)، وكان الاسم الأصلي لجدّه هو (ساسون حسقيل)، وبما أن الاستعمار دائماً بصدد توجيه ضربة للمسلمين في العالم، لذا فقد أعد خطة ماهرة فقام بنقل (ساسون حسقيل) من مقر عمله إلى إحدى قرى مدينة تكريت، فذهب (ساسون حسقيل) إلى شخص يدعى (تنج عبد اللّه) والذي قام بدوره بتبديل اسم حسقيل إلى (أبو بكر) وبعد ذلك ولد له ولد أسماه (حسن) وهو والد (أحمد)، وهذا (أحمد حسن البكر) هو الذي وضعه الاستعمار كواجهة لتنفيذ مآربه وأطماعه في العراق بشكل خاص وفي المنطقة بشكل عام.

وجرت صراعات عنيفة داخل السلطة، وداخل الحزب، قام البكر خلالها بتصفية عدد من أزلام مجلس قيادة الثورة بواسطة أجهزة القمع التي كان على رأسها صدام التكريتي وناظم كزار(1)، فتمت تصفية العديد منهم الواحد بعد الآخر، أمثال: حردان التكريتي، وصالح مهدي عمّاش، وعبد اللّه سلوم السامرائي، وعبد الخالق السامرائي، وعلي عليان، وعبد الكريم الشيخلي، وكثير غيرهم ممن ظهرت أسماؤهم فترة وجيزة ثم خبا ذكرهم وقبعوا إما في القبور أو

ص: 328


1- ناظم كزار المشهور بأبي حرب، مدير الأمن العام عام (1968-1973م).

في السجون، إلى أن وصل صدام إلى مرتبة المشارك الصغير للبكر، بحيث نما وتضخم دوره ليصبح في ما بعد الرئيس المطلق للعراق بعد عملية انقلابية مقنَّعة على البكر.

ميشيل عفلق

ميشيل عفلق(1)

قال اللّه العظيم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(2).

لنا وقفة هنا مع (حزب البعث) العراقي وبالأخص مؤسسه ميشيل عفلق القائد المؤسس والأب الروحي لحزب البعث وأمينه العام - كما يزعمون - .

فقد كشفت ملفّات حياته الفكرية والسياسية عن شبهات عديدة من خلال أرقام وأدلة صارخة، لعل أبرز هذه الشبهات هو ما عرف عن ارتباطاته المشبوهة وعلاقاته المريبة التي أخرجت منه رجلاً نموذجياً لممارسة الدور الفعال في سلخ الأمة عن تاريخها الحقيقي وعقيدتها الإسلامية الأصلية.

فقد تتلمذ ميشيل عفلق في سنوات دراسته الجامعية في فرنسا، وفيها تعهّده بالتربية والإعداد أحد المستشرقين الفرنسيين(3)، وهذا ما قاله الصحفي اللبناني (علي بلوط) على صفحات مجلة الدستور اللبنانية وهو يدافع عن عفلق ضد حكم الإعدام الذي أصدره بحقه أحد الرؤساء العرب، حيث ذكر بلوط وهو يمتدح عفلق قائلاً:

إن المستشرق الأب ماسينون قال عن مؤسس البعث عفلق: بأنه أنبغ وأعز

ص: 329


1- ميشيل عفلق (1910-1989م) مسيحي ولد في دمشق ومات في بغداد، أحد مؤسسي حزب البعث، تخرج من فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية.
2- سورة الأنعام، الآية: 33.
3- هو لويس ماسينون (1883-1962م) مستشرق فرنسي من أشد المهتمين بمؤلفات الحلاج الصوفية.

تلميذ في حياتي(1).

هذه الكلمة جاءت على لسان مستشرق يحتل موقعاً مركزياً في الحركة الصليبية الاستعمارية في العالم، فقد جاء في أحد الكتب(2): (إن الأب ماسينوس، هو المستشرق الروحي لكنائس المسيحية البروتستانتية الفرنسية لما وراء البحار، ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية)، وقد أظهرت بوضوح آراء ميشيل عفلق الفلسفية ومواقفه الخاصة مدى انتمائه للفكر الصليبي، إذن هذا مؤسس حزب البعث وقائده وأمينه العام!!

وقد عرّف البعث نفسه على لسان شاعره(3)

في هذه الأبيات التي نشرتها الإذاعات والصحف وهي:

آمنت بالبعث ربّاً لا شريك له *** وبالميشيل نبياً ماله ثانِ

و«في سبيل» كتابي عزّ منزله *** ضربت بالذكر- عمداً - عرض حيطان(4)

وفي شعر آخر لهم:

إن تَسَل عنّي لتعرف مذهبي *** أنا بعثي اشتراكي عربي

وقد اتخذ حزب البعث في العراق شعار العنف والتعدّي على الإنسان وسحق حقوقه، بل تحطيم الأديان وتحطيم كل شيء خير في الحياة.

وكانوا قد رفعوا لافتة في كربلاء المقدسة بهذا النص: مزيداً من العنف الثوري. ولافته رفعوها في بغداد قرب أحد الجسور:

ص: 330


1- مجلة الدستور اللبنانية تحت عنوان (دمشق... إعدام البعث) الكاتب علي بلوط.
2- كتاب (الفكر الإسلامي الحديث): 556.
3- صالح مهدي عمّاش أحد أعضاء الحزب في أوّل حكومة لحزب البعث في العراق.
4- (ميشيل) هو ميشيل عفلق و(في سبيل) كتاب ألفه عفلق أسماه (في سبيل البعث) و(الذكر) يريد به القرآن الكريم.

إذا كان للإسلام دور قد انقضى *** فهيا لدور البعث في الأزمات

وكانوا قد علّموا الشخص الحزبي وفرضوا عليه إهانة الدين ومقدساته، فكان أحدهم يقول: عفلق أعظم من محمد(1) لأن عفلق أنقذنا من الاستعمار و(محمد) جاء بالاستعمار. كما يزعم!!

وكان آخر يتمثل بشعرٍ قديم قاله شاعر ملحد:

إننا معشر الشبيبة قوم *** قد رفضنا الشريعة الأحمدية

وقد أنشد أحدهم قائلاً:

دع الجمود وادّرع بملبس التحرر *** إذا رأيت عالماً فصكه بالحجر

ويقصد بالعالم (علماء الدين الأبرار) الذين يقول اللّه تعالى عنهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر وإن العلماء ورثة الأنبياء...»(4).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «محادثة العالم على المزابل خير من محادثة الجاهل على الزرابي»(5).

محاربة الدين والمتدينين

اشارة

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ

ص: 331


1- ويقصد به سيد الكائنات الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
2- سورة فاطر، الآية: 28.
3- عوالي اللئالي 4: 77.
4- الكافي 1: 34.
5- الكافي 1: 39.

وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... واللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم...»(2).

لقد كان البعثيون في العراق إذا رأوا القرآن المجيد بيد أحد الطلاب، سخروا منه واستهزئوا به.

وإذا كان الشاب يذهب إلى مجالس الوعظ والإرشاد أو إلى حرم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أو حرم الإمام الحسين(عليه السلام) عدّوه رجعياً، وكانوا يشجّعون على (الشذوذ الجنسي) وعلى (الزنا) وعلى (شرب الخمر) وعلى (لعب القمار) وكل الرذائل ومنافيات العفّة والشرف.

وذات مرة رأوا كتاباً دينياً، في يد أحد الطلاب وهو يرجع من بيت أحد العلماء، فأخذه (رجل الأمن) وأراد أن يأخذ الكتاب من يده لكن الطالب أبى إعطاء الكتاب، فجرت بينهما مشادة كلامية انتهت بهما إلى (دائرة الأمن) فالتوقيف والإلقاء في السجن.

هكذا حاربوا الدين والعلم والعلماء!

من جرائم الطغاة

من المشاكل الأخرى التي طوّقت رقاب شعبنا المظلوم هو أن (رجل الأمن) كان يقف على أبواب البيوت التي فيها تقام مجالس العزاء على الإمام الحسين(عليه السلام) أو فيها مجالس الوعظ، ليصرف الشباب عن المجلس أولاً بالتظاهر بالكلام اللين، كأن يقول له: (أنت شاب مثقف، لماذا ترتاد هذه المجالس

ص: 332


1- سورة الإسراء، الآية: 9.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).

الرجعية؟)وأمثال هذا الكلام الفارغ، وإذا لم يرجع كان يسجّل اسمه ويتوعده بالملاحقة وأحياناً يدخل معه في حوار ثم مشادة مصطنعة لسوقه إلى (دائرة الأمن) ومن ثم إلى السجن!

وكانوا قد عمّموا على الحزب قراراً يأمرهم بحرق كل كتاب ديني وجدوه في المساجد أو غيرها.

وكانوا يحرقون الكتب الدينية التي تأتي من الخارج بحجة أن فيها أغلاط مطبعية أو ما شابه ذلك.

وكانوا يجعلون أعضاء الحزب في القطارات، في أيام الزيارات ليستهزئوا باللّه والنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) ويسبوهم أمام الزوار. وإذا تعرّض لهم أحد الغيارى بالرد دخلوا معه في مشادة كلامية فيستدرج إلى إحدى دوائر الأمن ثم يشهدون عليه هناك بأنه سبّ الحكومة، مما يكون مصيره السجن وأحياناً يصل الحكم إلى الإعدام.

هذا غيض من فيض من المشاكل التي خلقتها تلك الواجهة الاستعمارية المتمثّلة بتسليط هذه المجموعة الظالمة الكافرة على رقاب شعبنا المظلوم في العراق، والآن يجري عليه ما هو أشد وأنكى.

الحقد على الشيعة

لقد أظهر نظام البعث الحاكم في العراق الحقد على الشيعة - بشكل خاص - حقداً لم نجد مثيله في التأريخ إلّا عند الظالمين من أعداء أهل البيت(عليهم السلام) من أمثال معاوية ويزيد وهارون العباسي والمتوكل، وغيرهم من عبيد الشيطان.

وهذا يتوضح في أقوالهم وأفعالهم مرة بعد أخرى.

فقد قال صدام ذات مرة: (أفعل بالشيعة بحيث أجعلهم يتبرّءون من التشيع، كما كان الشيوعيون في أيام نوري السعيد يتبرّءون من الشيوعية)!

ص: 333

وقال البكر يوماً: (لا يهمني إلّا تصفية جهاز الحكم من الشيعة)!

وقال شبلي العيسمي(1) ذات يوم: (بايعوا الشيطان لأجل القضاء على الشيعة)!

وقال طلفاح(2) وهو يشير إلى قبة مرقد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): (هذا رئيس المنافقين)! العياذ باللّه.

وقد شكلت الحكومة في بغداد جمعية أسموها (جمعية الأمويين) مهمتها الإشادة ببني أمية والدفاع عنهم وإرجاع الاعتبار إليهم.

كما أن أحد قضاتهم ألف كتاباً حول (شُريح)(3) باعتباره أول قاض في الإسلام ومدحه، ولم يكن ذلك إلّا لأجل أنه أفتى بقتل الإمام الحسين(عليه السلام).

وكان صدام يقول: (إني من المعجبين بزياد بن أبيه وبالحجاج، فقد تمكنا من القضاء على الزمرة الماردة) يقصد بهم الشيعة والعلويين.

وكان حزب السلطة في العراق، أسند كل المراتب العالية في الجيش إلى بعض المتعصّبين من السنة.

وذات مرة دخل رجال الأمن دار أحد العلماء للتحري (كما يدّعون) واذا بهم يجدون في مكتبته كتاب (وسائل الشيعة) للشيخ الحر العاملي(رحمه اللّه)، فقالوا للعالم باللغة الدارجة: (متستحي، بعدك شيعي؟ ومنو هُمّ الشيعة؟ غير جماعة استعمارية عملاء ورجعيين، رئيسكم(4) طلع جاسوس، وكلكم جواسيس)! هذا أسلوبهم في التعامل مع علماء الشيعة.

ص: 334


1- مواليد عام 1930م مسيحي أحد أعضاء القيادة القومية لحزب البعث تقلد عدة وزارات في سوريا ومنصب نائب أمين عام حزب البعث عام 1965م.
2- خير اللّه خال صدام ووالد ساجدة زوجة صدام.
3- أي: شريح القاضي.
4- ويقصدون بالرئيس الإمام السيد محسن الحكيم(رحمه اللّه).

وأكثر من هذا، فإنهم وصلت بهم الحالة إلى أن أحد أعضاء ما يسمى بالقيادة القطرية مرّ على مرقد الإمامين الجوادين(عليهما السلام) في الكاظمية وأشار إلى القبة الشريفة قائلاً بالحرف الواحد: (ما دامت هذه الأصنام في بلادنا...)! والعياذ باللّه.

أما مظاهر حقدهم في السجون فشيء لمسه كل سجين، ومنهم الأخ الشهيد الذي لاقى ما لاقى من ألوان التعذيب الروحي والجسدي.

بالإضافة إلى أن سبّهم الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) وفاطمة الزهراء(عليها السلام) وكل مقدّسات الشيعة، كان منهجاً يلزم على المشرفين على السجن أن يطبقوه على كل سجين شيعي.

هذا ما يرتبط بالأمر الأول وبعض ما يجري من المآسي والويلات التي تصب على إخواننا في العراق تحت سلطة الحزب الحاكم.

أما الأمر الثاني وهو كيف يمكن رفع هذه المآسي والويلات عن أبناءنا داخل العراق ورفع المشكلات خارجه؟ فهذا ما يحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى أن تتوحد قدراتنا ونسير خلف قوانين القرآن الكريم والدين الحنيف و(المرجعية الدينية الرشيدة)(1) مضافاً إلى لزوم إيجاد التعددية السياسية وتشكيل الأحزاب الحرة وشورى الفقهاء المراجع.

السير خلف المرجعية

قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا».

ص: 335


1- انظر كتاب: (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، (وإذا قام الإسلام في العراق)، (والصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، و(كفاحنا)، وغيرها للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- سورة فاطر، الآية: 28.

قيل: يا رسول اللّه، ما دخولهم في الدنيا؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إتباع السلطان، فإذا فعلواذلك فاحذروهم على دينكم»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقهاء أمناء الرسل»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء»(4).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد اللّه عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء؛ لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها»(5).

إنّ أغلب الذين يعيشون في المنفى هم من أبناء الطائفة الشيعية وبمرور الزمن نلاحظ مشاكلنا تكبر شيئاً فشيئاً، فبدل أن نلجأ إلى الاتحاد والتعاون وتشكيل جبهة واحدة تحت لواء الإسلام الذي ضحّى من أجله سيد شباب أهل الجنة الإمام أبو عبد اللّه الحسين(عليه السلام) وأريقت من أجله تلك الدماء الطاهرة التي روت كربلاء، فقد قال(عليه السلام): «... أني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(عليه السلام)...»(6)، نرى السبّ

ص: 336


1- الكافي 1: 46.
2- عوالي اللئالي 4: 77.
3- الكافي 1: 46.
4- الكافي 1: 38.
5- الكافي 1: 38.
6- بحار الأنوار 44: 329.

واللعن هنا وهناك أصبح شغلاً شاغلاً لبعض أبناءنا في المنفى، والفرقة الموحشةالموجودة بين بعضنا.

نحن نعلم علماً يقينياً أن وراء أكثر تلك المشاكل والمظالم التي تحيط بنا، وراءها من يحرّكها وينظّمها من الأيادي الخفية الاستعمارية التي لا تراعي للمسلم إلّاً ولا ذمة، وبعضها مارست الجناية حتى أصبحت ملازمة للجرم والخطيئة والعمالة الاستعمارية.

ولذا يلزم شرعاً إنقاذ المسلمين من تلك المشاكل؛ وذلك بنبذ الخلافات وطرحها جانباً، والسير خلف (المرجعية الدينية) والقيادة الشرعية، وبأن نبذل في سبيل قيام الحكم الإسلامي كل ما نملك من طاقات وإمكانات، فقد قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إياكم والتدابر والتقاطع لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(2).

وقال(عليه السلام): «الزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(3).

مسؤولية الجميع

اشارة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو المسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في مال أبيه راع وهو مسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول

ص: 337


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.

عن رعيته»(1).

فعلى كل مسلم سواء أكان داخل العراق أم خارجه أن يعمل كل ما بوسعه من أجل إسقاط ذلك النظام الطاغي المتسلط بالعنف والقوة وكل وسائل الإرهاب ضد الشعب المظلوم.

وصايا

قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

لذا نوصي جميع الأخوة المؤمنين أن يبتدئوا سيرهم بتربية النفس على الخصال الحميدة، فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث سريّة فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(3).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «الذنوب التي تغيّر النعم: البغي على الناس، والزوال عن العادة في الخير، واصطناع المعروف، وكفران النعم، وترك الشكر؛ قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} - إلى أن قال(عليه السلام): - والذنوب التي تنزل البلاء: ترك إغاثة الملهوف، وترك معاونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والذنوب التي تديل الأعداء: المجاهرة بالظلم، وإعلان الفجور، وإباحة المحظور، وعصيان الأخيار، والانطباع(4) للأشرار...»(5).

ص: 338


1- عوالي اللئالي 1: 129.
2- سورة الرعد، الآية: 11.
3- معاني الأخبار: 160.
4- الانطباع: الانقياد.
5- معاني الأخبار: 270.

لأن هذا الطريق - طريق تربية النفس على الخصال الحميدة والعادات الحسنة، وشكر النعمة - هو أسرع الطرق التي توصلنا إلى ذلك الهدف النبيل الذي يسعى من أجله الجميع، وبذلك وردت بعض الأحاديث عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنه سمّى تربية النفس وتهذيبها (بالجهاد الأكبر) (1) وفضلهُ على غيره أكبر من أن يوضح.

فمن أجل إنقاذ المسلمين جميعاً وخصوصاً في العراق، يجب (قبل كل شيء) أن نجاهد النفس وذلك بتربيتها، ومن خلال هذا الطريق سوف نصل إلى الهدف في أسرع وقت وأقل طاقة إن شاء اللّه تعالى.

وقد ورد الكثير من الروايات التي تحث على جهاد النفس، فعن الإمام الكاظم(عليه السلام) أنه قال: «... وجاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنه واجب عليك، كجهاد عدوّك...»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «حاربوا هذه القلوب فإنها سريعة العثار»(3).

وعنه(عليه السلام) قال: «ردّ عن نفسك عند الشهوات، وأقمها على كتاب اللّه عند الشبهات»(4).

كما يجب التمسك بالقيادة المرجعية لتتوحد الطاقات وتصب جميعها في هذا الطريق.

ونبتهل إلى اللّه جلّ اسمه أن ينقّي أرواحنا ويطهر قلوبنا، ونسأله تعالى أن يفرّج عنّا فرجاً عاجلاً قريباً بإزالة هذا الكابوس المرعب المتسلط بقوة الحديد

ص: 339


1- كما مرّ في رواية أمير المؤمنين(عليه السلام).
2- تحف العقول: 399.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 67.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 242.

والنار على رقاب شعبنا المظلوم في العراق.

«اللّهم صل على محمد وآله وبلغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيّتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال، اللّهم وفر بلطفك نيتي، وصحح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد مني»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الشيطان يزيِّن لأوليائه

قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَٰنِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَٰنِ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {الشَّيْطَٰنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا}(3).

وقال سبحانه: {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَٰنُ لَهُ قَرِينًا}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}(5).

في مخالب الفتن والمحن

قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٖ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ}(7).

ص: 340


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة المجادلة، الآية: 19.
3- سورة البقرة، الآية: 268.
4- سورة النساء، الآية: 38.
5- سورة النساء، الآية: 119.
6- سورة الأنعام، الآية: 53.
7- سورة الدخان، الآية: 17.

وقال سبحانه: {وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَأَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَىٰكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَىٰكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(1).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}(2).

في مواجهة الجبابرة والمستبدين

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَٰهِۧمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَىٰهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحْيِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ : {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَٰمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ}(4).

وقال سبحانه: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَِٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ}(5).

وقال جلّ وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}(6).

ص: 341


1- سورة الحديد، الآية: 14-15.
2- سورة البروج، الآية: 10.
3- سورة البقرة، الآية: 258.
4- سورة الأنبياء، الآية: 57.
5- سورة طه، الآية: 42-43.
6- سورة الممتحنة، الآية: 4.

الحكومات الجائرة وآثارها

قال تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}(1).

وقال عزّ وجلّ : {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلَٰدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(3).

عاقبة الظالمين

قال اللّه تعالى: {وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ أَصْحَٰبَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّٰلِمِينَ}(4).

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَٰبُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٖ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّٰلِمِينَ}(5).

حال الظالمين في الدنيا

قال سبحانه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا وَمَأْوَىٰهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّٰلِمِينَ}(6).

ص: 342


1- سورة النمل، الآية: 34.
2- سورة الفجر، الآية: 10-14.
3- سورة القصص، الآية: 4.
4- سورة الأعراف، الآية: 44.
5- سورة الأعراف، الآية: 40-41.
6- سورة آل عمران، الآية: 151.

وقال سبحانه: {وَقَٰرُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَٰتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَٰبِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

أئمة الجور

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان»(2).

وقال(عليه السلام): «...وعدلُ السلطان خيرٌ من خصب الزمان»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) - في حديث - : «...واعلم يا محمد! أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين اللّه، قد ضلوا وأضلوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دوس الحق كله، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد، وابطال الكتب، وقتل الأنبياء والمؤمنين، وهدم المساجد، وتبديل سنة اللّه وشرائعه؛ فلذلك حُرِّم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم، إلّا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة»(5).

ص: 343


1- سورة العنكبوت، الآية: 39-40.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
3- بحار الأنوار 75: 10.
4- الكافي 1: 183.
5- تحف العقول: 332.

الجهاد باب من أبواب الجنة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاثة من قالهن دخل الجنة: من رضي باللّه رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً والرابعة لها من الفضل كما بين السماء والأرض هي الجهاد في سبيل اللّه عزّ وجلّ»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المجاهدون تفتح لهم أبواب السماء»(2).وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أتى رجل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: إني راغب نشيط في الجهاد، قال: فجاهد في سبيل اللّه فإنك إن تقتل كنت حيّاً عند اللّه ترزق، وإن مت وقع أجرك على اللّه، وإن رجعت خرجت من الذنوب إلى اللّه هذا تفسير {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا}»(3)(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض في وقت الجهاد»(5).

الجهاد الأكبر

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل الجهاد جهاد النفس عن الهوى وفطامها عن لذات الدنيا»(6).

وقال(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول اللّه وما الجهاد الأكبر؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): جهاد النفس، وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن أفضل الجهاد من جاهد نفسه

ص: 344


1- نهج الفصاحة: 409.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 72.
3- سورة آل عمران، الآية: 169.
4- تفسير العياشي 1: 206.
5- كامل الزيارات: 335.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 207.

التي بين جنبيه»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها فمرّة يقيم أودها ويخالف هواها في محبّة اللّه، ومرّة تصرعه نفسه فيتّبع هواها فينعشه اللّه فينتعش، ويقيل اللّه عثرته فيتذكر»(2).

المؤمن مبتلى

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان لهمثل أجر ألف شهيد»(3).

وذكر عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) البلاء وما يخص اللّه عزّ وجلّ به المؤمن، فقال: «سئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أشد الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال: النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه»(4).

وقال(عليه السلام): «نعم الجرعة الغيظ لمن صبر عليها فإن عظيم الأجر لَمِنْ عظيم البلاء وما أحب اللّه قوماً إلّا ابتلاهم»(5).

الصبر من الإيمان

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «دخل أمير المؤمنين(عليه السلام) المسجد فإذا هو برجل على باب المسجد كئيب حزين، فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): ما لك؟

قال: يا أمير المؤمنين أصبت بأبي وأخي، وأخشى أن أكون قد وجلت(6).

ص: 345


1- معاني الأخبار: 160.
2- تحف العقول: 284.
3- الكافي 2: 92.
4- الكافي 2: 252.
5- الكافي 2: 109.
6- لعل المراد بخشية الوجل خوفه أن يكون قد انشق مرارته من شدة ما أصابه من الألم، أو المعنى: أخشى أن يكون حزني بلغ حداً مذموماً شرعاً، فعبر عنه بالوجل.

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): عليك بتقوى اللّه والصبر، تقدم عليه غداً، والصبر في الأمور بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد، وإذا فارق الصبر الأمور فسدت الأمور»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «مروة الصبر في حال الحاجة والفاقة والتعفف والغنى أكثر من مروة الإعطاء»(2).وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن الصبر والبلاء يستبقان إلى المؤمن فيأتيه البلاء وهو صبور، وإن الجزع والبلاء يستبقان إلى الكافر فيأتيه البلاء وهو جزوع»(3).

وقال(عليه السلام): «إن الحرّ حرّ على جميع أحواله، إن نابته نائبةٌ صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر، واستبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين(عليه السلام) لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأسر، ولم تضرره ظلمة الجب ووحشته، وما ناله أن مَنّ اللّه عليه فجعل الجبار العاتي له عبداً بعد إذ كان له مالكاً، فأرسله ورحم به أمةً، وكذلك الصبر يعقب خيراً، فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا»(4).

وقال(عليه السلام): «لا تكونون مؤمنين حتى تكونوا مؤتمنين، وحتى تعدوا النعمة والرخاء مصيبةً، وذلك أن الصبر على البلاء أفضل من العافية عند الرخاء»(5).

ثمار الصبر

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في حديث - فمن صبر

ص: 346


1- الكافي 2: 90.
2- الكافي 2: 93.
3- الكافي 3: 223.
4- الكافي 2: 89.
5- وسائل الشيعة 3: 260.

على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب اللّه له ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر مطل عليه، ويتنحى الصبر ناحيةً، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنهفأنا دونه»(2).

وعن أبي الحسن(عليه السلام) - في حديث - قال: «إن تصبر تغتبط، وإلّا تصبر ينفذ اللّه مقاديره، راضياً كنت أم كارهاً»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «... من بلي من شيعتنا ببلاء فصبر كتب اللّه له أجر ألف شهيد»(4).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن الصبر والبر والحلم وحسن الخلق من أخلاق الأنبياء»(5).

بيانات

اشارة

لقد أصدر الإمام الراحل(رحمه اللّه) عدة بيانات في مناسبات عديدة تخص العراق ومعاناة العراقيين من جور النظام الحاكم، وتفضح المنهج الاستعماري الذي ينتهجه النظام العميل والأساليب الوحشية التي يعامل بها الشعب العراقي المظلوم؛ لذا ارتأينا إعادة نشر بعض هذه البيانات التي هي على صلة بموضوع

ص: 347


1- الكافي 2: 91.
2- الكافي 2: 90.
3- الكافي 2: 90.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 221.
5- الخصال 1: 251.

الكتاب ورجاء الفائدة للباحثين عن حقيقة ما جرى ويجري على الشعب العراقي المسلم في ظل حكم العفالقة الظالمين.

إعلان الحداد بمناسبة (17 تموز)

أصدر الإمام الراحل(رحمه اللّه) هذا البيان معلنا الحداد بمناسبة الكارثة التي نابت العراق خاصة والأمة الإسلامية عامة بعد ما يسمى بثورة (17 تموز 1968م) في العراق التي قام بها مجموعة من عملاء بريطانيا وأمريكا، ثم تمت تصفية البعضمنهم بأوامر أسيادهم، وذلك في ما يسمى بثورة (30 تموز)، وقد بين الإمام الراحل(رحمه اللّه) بعض المآسي والجرائم التي قام بها هذا النظام العميل، فقال (أعلى اللّه درجاته) فيه ما يلي:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

«الحمد للّه قاصم الجبارين، مبير الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الظالمين صريخ المستصرخين، موضع حاجات الطالبين، معتمد المؤمنين»(1).

نقدم التعازي الحارة إلى الأمة الإسلامية عامة، والشعب العراق المسلم خاصة، بحلول ما يسمى ب(أعياد 17 تموز) حيث تتجدد مأساة العراق بحلول هذه الأيام الميشومة، فتزيد سلطة البعث من أساليب القمع والإرهاب، والكبت والإذلال، والتشريد والتبعيد للشعب العراقي الغيور، بعد أن تسلط عليه منذ إحدى عشرة سنة، بالمعاونة مع الدوائر الاستعمارية المفضوحة لأجل نهب خيراته وسلب حرياته وتحطيم اقتصاده، وتمزيق وحدته وجعله في مؤخرة القافلة.

والشعب العراقي الغيور لم يشاهد منذ تولي هذا الحزب السلطة بالحديد والنار حتى ساعة واحدة من الراحة والخير، فقد أحكم البعث ربط عجلة العراق

ص: 348


1- إقبال الأعمال 1: 59.

بالدوائر الاستعمارية في ثوب مزيف مهلهل يسمى ب- (الوحدة والحرية والاشتراكية) فتحت شعار (الوحدة) حاربوا الوحدة الإسلامية التي هي آمال كل مسلمي العالم، وتحت شعار (الحرية) سلبوا كل الحريات، فلا تجد في عراق البعث لا حرية الكتابة ولا حرية الرأي ولا حرية الخطابة ولا حرية الزراعة ولا حرية الصناعة ولا حرية البناء ولا حرية الحركة،بل كبت وإرهاب وإملاء السجون والمعتقلات بالأحرار والمثقفين والعمال والفلاحين والشبان والفتياتوالخطباء وأصحاب الفكر والعلم، حتى إنهم لم يكتفوا بالسجون السابقة ولا ببناء سجون جديدة، وإنما جعلوا قسماً من الدوائر والمدارس والبيوت - المغصوبة - سجوناً أيضاً.

وتحت شعار (الاشتراكية) جعلوا الشعب العراقي من أفقر الشعوب.

وفي هذه الأيام يتذكر الشعب العراقي المسلم مأساته من جديد، فقد قتل حزب البعث في سنواته السيئة الماضية خيرة رجاله وعلمائه ومثقفيه، وحتى أصدقاء حزبه (مثل حردان التكريتي ورشيد مصلح وناصر الحاني).

ألم يقتلوا العلامة الجليل الشيخ عارف البصري وصحبه العلماء؟

ألم يقتلوا العلامة الجليل الشيخ عبد العزيز البدري وأصدقائه الكرام؟

ألم يقتلوا المحامي حسين الدلال وثلاثة وأربعين من أصدقائه في وجبة واحدة؟

ألم يقتلوا الرجال والنساء والأطفال في بغداد وضواحيها تحت شعار (أبو طبرة)(1)؟

ص: 349


1- اسم لعصابة اشتهرت في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، نشرت الرعب في أوساط المجتمع العراقي وعلى الأخص في مدينة بغداد، انتهجت أبشع الأساليب وحشية في الاعتداء على الناس الآمنين، وهي مجموعة إرهابية منظمة من قبل النظام الحاكم لغرض تصفية المعارضين وبث الرعب بين الناس الآمنين!!

ألم يقتلوا ثمانية من خيرة الشباب المثقف في انتفاضة العشرين؟(1)

ألم يقتلوا مئات من الأكراد الأبرياء، وحرقوا قراهم وشردوا الألوف منهم ونهبوا أموالهم؟

ألم يقتلوا خيرة شباب فلسطين أمثال سعيد الحمامي وعلي ياسين؟ألم يسببوا في مأساة تشريد الإيرانيين من الأطفال والنساء والعجزة بأساليبه الوحشية الخارجة عن كل عرف وقانون؟(2)

ألم يقتلوا في هذه الأيام الأخيرة أكثر من مائة من خيرة أبناء العراق إما إعداماً بالكراسي الكهربائية أو رمياً بالرصاص أو على أعواد المشانق؟

أما تنازل أحمد حسن البكر عن صلاحياته، لصدام، فليس ذلك إلّا مهزلة استعمارية قديمة، لإخماد الثورات، فقد كان الاستعمار البريطاني العجوز يفعل مثل ذلك بعملائه كلما رأى هياج الشعوب المستعمرة، كما فعل ذلك الاستعمار الأمريكي بأعوان الشاه في إيران، لكن هذه الأساليب لا تخدع الشعوب الواعية ولن تخدع الشعب العراقي الذكي، الذي لا يرضى إلّا بإقصاء حزب البعث عن الحكم، وجعل الحكم حسب شورى الفقهاء المراجع وانتخابهم في إطار رضى اللّه تعالى وتنفيذ قوانينه، وسوف يأتي ذلك اليوم القريب الذي نرى فيه حكم الإسلام التطبيقي يرفرف على ربوع العراق، ويكون انتخاب الحاكم بيد الشعب في إطار الشروط المحددة له في الإسلام، وهو بإذن اللّه تعالى يوم قريب.

ص: 350


1- إشارة إلى انتفاضة العشرين من صفر في زيارة الأربعين للإمام الحسين(عليه السلام) التي استشهد فيها الكثير من المؤمنين.
2- وذلك عبر جريمة التهجير الوحشي لمئات الآلاف من المسلمين الشيعة بحجة أنهم من أصول غير عربية، راجع مؤلفات الإمام الشيرازي(رحمه اللّه): (كيف ولماذا أخرجنا من العراق)، وكتاب (التهجير جناية العصر)، وكتاب (النازحون من العراق).

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

قم المشرفة 22 / شعبان / 1399ه-

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

بيان بمناسبة الأوضاع الأخيرة في العراق

اشارة

وفي بيان له(رحمه اللّه) بين سماحته بعض ما جرى على العراق والأمة العربية من ويلات أتى بها هذا النظام خلال مدة تسلطه على سدة الحكم، بدءاً من انتهاكات حقوق الإنسان الصارخة، من قمع الحريات والقتل والتشريد والاعتقال والإعدام والتهجير، مروراً بنهب ثروات العراق، وانتهاءً بمسلسل الاستسلام للصهاينة المعتدين على الإسلام والأمة العربية، فقال (أعلى اللّه درجاته):

بسم اللّه الرحمن الرحيم

«الحمد للّه قاصم الجبارين، مبير الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الظالمين صريخ المستصرخين، موضع حاجات الطالبين، معتمد المؤمنين»(2).

وهكذا تستمر أعمال العنف في العراق، ويساق العلماء والخطباء والمثقفون والضباط والعمال والفلاحون والطلاب والطالبات بالعشرات والمئات، إلى السجون والمعتقلات حيث أبشع أنواع التعذيب التي لا توجد حتى في سجون إسرائيل. وهكذا تستمر المحاكمات الصورية والإعدامات الجماعية لأبناء العراق، كل يوم تحت شعار.

ص: 351


1- إقبال الأعمال 1: 60.
2- إقبال الأعمال 1: 59.

فيوماً يساق علماء الدين والخطباء من النجف وكربلاء وبغداد والبصرة وبعض المدن الأخرى إلى ساحات الإعدام، باسم الرجعية الدينية!

ويوماً يساق العمال والفلاحون والصناع إلى ساحات الإعدام باسم الغش والخيانة في الإنتاج.

ويوماً يساق المدرسون والمثقفون والطلاب والطالبات إلى ساحات الإعدام باسم دخولهم في المنظمات والأحزاب المحظورة.ويوماً يساق الأكراد إلى ساحات الإعدام باسم أنهم من أنصار الحركة الانفصالية.

ويوماً تساق جماعات من مختلف الاتجاهات والثقافات إلى ساحات الإعدام باسم العمالة والعداء للثورة.

ويوماً يساق الضباط الأحرار إلى ساحات الإعدام باسم التآمر...وهكذا.

والمهم هو الإعدام بين كل فترة وفترة لإلهاء الشعب العراقي المسلم عن المطالبة بحكم اللّه، وعن المطالبة بالانتخابات الحرة لاختيار الحاكم الكفء المرضي للّه وللأمة، وعن بناء وطنه واقتصاده، وعن أن يملك زمام نفسه، ويزحزح كابوس الاستعمار الغربي والعمالة لإسرائيل وأسياده، عن صدر العراق.

واليوم يأتي الاستعمار بمهزلة جديدة، هي تنحي (البكر) بالسلاح والقوة ليقوم مقامه (صدام)، لأنه أوفى للأسياد، وأقدر على تحطيم العراق من البكر وزمرته، ومن الطبيعي بعد ذلك (التصفيات الجماهيرية) و(الإعدامات الجماعية) لكل من لا يرغب فيهم (الرئيس الجديد).

إن المستعمر العجوز بريطانيا، وبمساعدة أميركا وإسرائيل، صنفوا العراق تحت عشرات الأسماء ليسهل عليهم القضاء على الشعب العراقي البطل، في كل يوم تحت شعار، فهذا (رجعي) وهذا (عميل) وهذا (خائن) وهذا (إقطاعي)

ص: 352

وهذا (برجوازي) وهذا (شيوعي) وهذا (قومي) وهذا (إخواني) وهذا (تحريري) وهذا (كردي) وهذا (شيعي) وهذا (سني) وهكذا. ولم يشذ نفس حزب البعث عن هذا التصنيف فهذا (بعثي بكري) وهذا (بعثي صدامي) وهذا (بعثي يميني) وهذا (بعثي يساري).

وفي هذه التصفية الأخيرة، لم يبق حتى مما يسمى ب(مجلس قيادة الثورة) إلّا شخص واحد فقط، وإلّا فالبقية أخرجوا من المجلس، وأعدم أكثرهم، ولماذا كلهذه التصفيات والإعدامات طيلة إحدى عشرة سنة؟

إنها لأجل تصفية العراق وتقديم ثرواته إلى المستعمرين، وإخراجه عن قافلة المسلمين المطالبين بالقضية الفلسطينية.

والآن وقد سقط (البكر) كما سقط قبله (حردان) و(عمّاش) و(الأسود) وغيرهم، يتساءل الشعب العراقي الكريم: ما هي منجزات ثورة (17تموز)؟

كما يتساءل: ما هي منجزات (14 تموز)؟

وهل حصل العراق من هاتين الثورتين حتى على أتفه إنجاز؟

إن ما يسمى ب(الإصلاح الزراعي) على الأسلوب الأجنبي، حطم الزراعة، وإن (الاشتراكية) حطمت الاقتصاد، وإن (الانقلابات المضادة للثورة الإسلامية الحقيقية ولتطلعات الشعب العراقي) كبتت كل الحريات، وخنقت كل الأنفاس، وإن الشعارات المستوردة (الديمقراطية: أيام الملكيين) و(الشيوعية: أيام قاسم) و(القومية: أيام عبد السلام) و(البعثية: أيام البكر وصدام) كانت كلها خلاف الإسلام، ولتحطيم الأمة، ولسلب خيرات البلاد ووضعها لقمة سائغة في أفواه المستعمرين، ولتفتيت العراق، ولإشعال نار الفتنة بين الأخوة (الأكراد والعرب وسائر الأقليات) ولإملاء السجون والمعتقلات، ولسوق مئات الأبرياء إلى ساحات الإعدام.

ص: 353

وهل حصلتم أيها العراقيون الكرام على غير ذلك؟

فهل حصل العراق على الحرية؟

وهل عمّرت أراضي العراق بالبناء والزراعة؟

وهل صار العراق بلداً صناعياً ذا كفاءة ذاتية؟

وهل للعراق اقتصاد يكفي للقمة الخبز بله الثروة والغنى؟

وهل تقدم العراق في ميدان (الوحدة الإسلامية) حتى بمقدار أنملة؟وهل يحكم شعب العراق نفسه بنفسه في انتخابات حرة ويكون له برلمان حر، وصحف حرة وإذاعة حرة؟

وهل تقدم العراق لإنقاذ (فلسطين) ولو مقدار (شبر)؟

نعم، في زمان (الملكيين) اغتصبت (فلسطين) وأضاف الملكيون الحطب على النار فأخرجوا اليهود (بإشارة أسيادهم المستعمرين) ليملئوا فلسطين بجيش من أثرياء اليهود، وخبرائهم، وفي زمان (الانقلابيين) توسعت (إسرائيل) إلى أضعافاً مضاعفة، وحكومة (بغداد) لا شغل لها إلّا المساعدة سراً على التوسع الصهيوني، بضرب الشعب والتآمر مع الحكومات الاستعمارية، للمزيد من نهب اليهود للأراضي الإسلامية، فهل حصل غير ذلك أيها الشعب العراقي الكريم؟

أما الجيش فقد مزقته (الانقلابات) شرّ ممزق، حتى تحطمت كل كفاءاته، وقد سلط عليه (البعثيون) أطفالاً من حزبهم؛ للمزيد من كبتهم وإذلالهم، وصار الجيش لا شأن له منذ أيام الملكيين إلّا حفظ (التيجان) وبدل أن يكون الجيش سوراً للأمة، صار سوراً للمستعمر ولإسرائيل (ضد الأمة) شأنه حفظ (تاج الملوك) يوماً وحفظ (تاج قاسم وعارف والبكر وصدام) يوماً، فهل غير هذا حصل؟

فيوماً تضرب القوى الحكومية (الحوزات العلمية في النجف وكربلاء) ويوماً (جامعة بغداد) ويوماً (الأكراد في شمال العراق) وهكذا وهلم جرا...

ص: 354

والكل يعلم أن الإسلام والمنطق بريئان من كل (انقلاب عسكري) مهما كان لونه ومبرره.

إن اختيار الحاكم يجب أن يتوفر فيه شرطان:

1- رضا اللّه بالحاكم.

2- وانتخاب الأمة له. أما أن تقفز (زمرة مجهولة من العسكر) على الحكم عبرالدبابات، فهو خلاف الإسلام وخلاف المنطق، فهل رأيتم أيها الشعب العراقي الكريم، انقلاباً عسكرياً في (أمريكا وفرنسا) أو في (ألمانيا وبريطانيا) أو في (اليابان وسويسرا) أو في (إسرائيل)؟ فلماذا تكون الانقلابات العسكرية في بلادنا؟

إن المسلمين وسائر عقلاء العالم يشجبون كل انقلاب عسكري، كما يشجب الشعب العراقي المسلم (ما مضى من الانقلابات العسكرية) ولا يرضون في المستقبل بالانقلاب العسكرية أيضاً، وحيث إن شهر رمضان المبارك شهر الانطلاق، وشهر العمل والحركة، وفيه حدثت انتصارات إسلامية رائعة كغزوة بدر الكبرى وغيرها؛ فالواجب على الأمة الإسلامية عامة والشعب العراقي المسلم خاصة أن ينتهزوا هذا الشهر فرصة الشروع في إسقاط حكم البعث وذلك ب(مقاطعة الحكومة) و(الإضرابات) و(المظاهرات) وغير ذلك.

فإذا سقطت حكومة البعث (وسقوطها قريب بإذن اللّه تعالى) يتوحد الشعب تحت لواء الإسلام والأخوة الإسلامية الصادقة، بنبذ كل الألوان المستوردة وكل الطائفيات وكل القوميات، وينتخب الناس حاكمهم بالأكثرية، كما قال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1) وبعد ذلك ينبذون كل القوانين المستوردة، ليجعلوا مكانها (قانون الإسلام فقط).

ص: 355


1- سورة الشورى، الآية: 38.

وحينذاك يكون للجيش كرامته، ويكون سوراً للوطن ضد أعدائه، وعند ذاك يتقدم العراق بخطى سريعة في ميادين الصناعة والعمارة والزراعة والثقافة، ويكون العراق مساهماً في إنقاذ فلسطين كل فلسطين، لا الأراضي المغتصبة في (عام 1967م) فقط.

فمزيداً أيها الشعب العراقي المسلم من العمل في سبيل الإطاحة بحكمالبعث الخائن، واللّه نصير المستضعفين.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيه من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

6 / رمضان المبارك/ 1399ه

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

خطاب إلى الشعب العراقي استعداداً للحكومة الإسلامية المرتقبة في العراق بإذن اللّه تعالى

وفي خطاب له(رحمه اللّه) إلى أبناءه من الشعب العراقي أوضح فيه بعض الخطوط العريضة التي من اللازم على المسلمين الالتزام بها في سبيل تأسيس الحكومة العراقية المرتقبة، والتي ينبغي السعي لإقامتها كما ينبغي السعي لإقامة الحكومة الإسلامية الكبرى التي هي قرة عين المؤمنين، كما كان الإمام الراحل وباستمرار يحث المؤمنين في السعي الجاد لإقامتها وفق القوانين الإسلامية الصحيحة التي أمر بها اللّه جلّ وعلا ورسوله الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة من أهل بيته الطاهرين(2).

ص: 356


1- إقبال الأعمال 1: 60.
2- انظر في هذا الصدد كتاب (في سبيل إنهاض المسلمين) و (فقه السياسة ج1 و2) و(الحكومة العالمية الواحدة) و(الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين(عليه السلام)) و(إلى حكومة ألف مليون مسلم) و(إلى حكم الإسلام) و(الصياغة الجديدة) و(كيف نوحد البلاد الإسلامية)، للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

فقال(رحمه اللّه):

بسم اللّه الرحمن الرحيم

«الحمد للّه قاصم الجبارين، مبير الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الظالمين، صريخ المستصرخين، موضع حاجات الطالبين، معتمد المؤمنين»(1).

يلزم على الأخوة العراقيين المجاهدين أن يعرفوا ثلاثة أمور:

1- إن الحكومة العراقية المرتقبة يلزم أن تعرف أنها جزء من الحكومة الإسلامية العالمية ذات ألف مليون(2)؛ إذ في الإسلام الحكومة واحدة، والمسلمون كلهم أخوة، لا فضل لعربيهم على عجميهم إلّا بالتقوى، وكما قال سبحانه: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(3) فاللازم أن تؤسس الحكومة على هذا الأساس، وإلّا لم تكن حكومة إسلامية. وعلى المسلمين أن لايؤيدوا أية حكومة لا تجعل الوحدة الإسلامية جزءاً من كيانها، ولا يفيد الاكتفاء بالشعارات أو ما أشبه.

2- إنه لا يصح أن يجعل للدولة الإسلامية المرتقبة قانوناً أساسياً؛ فإن القانون الأساسي للدولة الإسلامية: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، كما لم تكن لكل الدول الإسلامية في طول التاريخ ابتداءً من حكومة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وانتهاءً بآخر حكومة إسلامية قبل قرن قانوناً أساسياً؛ فإن ذلك لا يزيد الأمر إلّا إعضالاً، ولا يمكن أن يقال القانون الأساسي سبب لجعل الإطار للحكم؛ إذ يرد ذلك بأن اللازم جعل إطار الحكم الأدلة الأربعة والذي يستنبط منها هم الفقهاء في شورى المرجعية.

ص: 357


1- إقبال الأعمال 1: 59.
2- تشير الإحصاءات الأخيرة أن عدد نفوس المسلمين بلغ الملياري مسلم.
3- سورة الأنبياء، الآية: 92.

3- إن كيفية الحكومة الإسلامية هي:

أ. شورى الفقهاء وهم مراجع تقليد الأمة، وإذا مات أحدهم انتخب أكثرية الباقين مرجعاً للأمة مكانه، تتوفر فيه الشروط الشرعية ورضى الأمة به، وكونه مرشحاً للتقليد بدوره.

ب. الأحزاب الإسلامية الحرة المنتهية إلى الفقهاء المراجع في الشورى مما بيد جميعهم الإذاعة والتلفزيون، ولهم المراكز في كل البلاد، والصحف الحرة، وإلى غير ذلك، بحيث تكون القدرات موزعة بينهم؛ إذ الحزب الواحد لازمه الاستبداد وذلك غير جائز شرعاً، ويسبب تحطيم الكفاءات وأخيراً سيطرة الأجنبي، وقد قال الإمام علي(عليه السلام): «من استبد برأيه هلك»(1)، وفي القرآن الحكيم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(2).

ج. وبعد هذين الأمرين تصل النوبة إلى اختيار الأمة (نوّاب المجلس) حيث إنهم بمنزلة أهل الحل والعقد، وبالتعاون بين الثلاثة (أ، ب، ج) تنبثق السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، كما ذكرنا تفاصيل هذه الأمور وأدلتها الفقهية في (الفقه: السياسة).

وحيث إن الشكل للحكم الإسلامي هو هذا، فاللازم أن يجتمع الشعب العراقي الكريم، سواء كانوا في إيران أو غيرها، في المساجد والحسينيات ونحوهما؛ لانتخاب مجلس أعلى لهم، مثلاً ينتخب كل خمسة آلاف ممثلاً عنهم، وهؤلاء الممثلون وهم (الهيئة العليا) يخططون ويعملون لإسقاط حكومة البعث وللحكومة المرتقبة، كما فعل قريباً من ذلك الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في ثورة

ص: 358


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 161.
2- سورة الشورى، الآية: 38.

العشرين واللّه المستعان.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامةالدنيا والآخرة»(1).

ص: 359


1- إقبال الأعمال 1: 60.

مساوئ الفرقة

اشارة

مساوئ الفرقة(1)

من أساليب الاستعمار

قال اللّه تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2).

لقد خرج العراق من أيدي المسلمين الذين يشكل الشيعة (85%)(3) منهم ووقع - بسبب الحوادث الأخيرة التي حدثت في الشرق الأوسط - بيد الغربيين وهم الآن يديرونه ويحكمون قبضتهم عليه، ولكن بواسطة أذنابهم البعثيين المتسلطين على الحكم.

ومن المعلوم أن مخطط الغربيين يبتنى دائماً على فرض الحاكم المتجبر حتى إذا لم يرضه الشعب المسلم؛ لأن المستعمرين يريدون من الحاكم في البلاد الإسلامية أن يكون لهم كالبقرة الحلوب؛ لذلك فإنهم إذا ما شعروا يوماً بأن صداماً - كمثال - لم يستطيع تنفيذ ما يخططون له فإنهم امّا أن يقتلوه ويأتون بغيره، أو يقومون بواسطة أذنابهم الآخرين بانقلاب عسكري يقتلون من خلاله الحاكم العميل ويأتون بحكومة تغاير حكومته ولو كانت مائلة إلى الاعتدال

ص: 360


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 27/ج2/ 1405ه.
2- سورة آل عمران، الآية: 105.
3- هذه النسبة خرجت بها الإحصائية التي قام بها السيد محمد الصدر الذي كان رئيساً للوزراء في العهد الملكي وقد نشرت في حينها في الصحف العراقية.

نسبياً، كما قاموا بذلك في تركيا.

ومشاكل البلاد الإسلامية حالياً ازدادت بدرجة كبيرة، بحيث أصبحت القوانين والمقررات التي تحدد مسير الدولة داخلياً وخارجياً تأتي من الغرب، وبعض السبب في ذلك يقع على عاتق المسلمين أنفسهم؛ لأنهم لا يهتمون بالتوعية والتثقيف وتنظيم أمورهم لكي يأخذوا بزمام إدارة بلادهم بأيديهم. ومن الواضح إذا لم يهتم الإنسان لحل مشاكله ويبدي جانب العجز في إدارة أموره سيعطي للآخرين الفرصة للتدخل في شؤونه وأخذ زمام الأمر من يده.

السقوط والانحطاط

اشارة

هناك صفتان إذا اتصف بهما أي مجتمع فانه سيؤول إلى السقوط والانحطاط، وهاتان الصفتان قد اجتمعتا عند بعض المسلمين أخيراً.

الأولى: النزاع

لقد استفحلت هذه الظاهرة في بعض المجتمعات الإسلامية بشكل عجيب، بحيث لا تراهم إلّا في نزاع دائم في ما بينهم، مما أدى ذلك إلى اتحاد الشرق والغرب ضد المسلمين، وصاروا يتلاعبون بهم ويحركونهم ذات اليمين وذات الشمال كسحاب الربيع الذي تتقاذفه الرياح وتفرقه هنا وهناك ويعملون في بلادهم ما شاؤوا من دون أي مانع أو رادع.

بذور التفرقة

ذات يوم كنا بصحبة المرحوم الشيخ عبد الزهراء الكعبي(رحمه اللّه) ذاهبين لزيارة مرقد الشهيد الحر الرياحي (رضوان اللّه عليه) مشياً على الأقدام، وذلك في الفترة التي كان زوار العتبات المقدسة يتوافدون بشكل مكثف من إيران وغيرها إلى العراق للزيارة، وفي أثناء ذلك مرت بجوارنا عربة يجرها اثنان من الخيول

ص: 361

تحمل مجموعة من البدو، فصاح أطفال تلك المنطقة بصوت واحد (حاج عرب موش ميخورد) ومضمونها (العرب يأكلون الفئران) ثم مشينا مقدار من الطريق فمرت عربة أخرى فيها مجموعة من الزائرين الإيرانيين، فصاح أطفال تلك المنطقة وأطلقوا كلاماً أيضاً مخالف وغير صحيح لإهانة الزائرين.

أنظر في هذه المسافة القصيرة كم تتحسس بذور التفرقة والنزاع بين المسلمين، إنها سياسة استعمارية لإثارة النعرات فقد بذرت بهذا الشكل في بلادنا وصار بعض أبناءنا وأطفالنا وسيلة لتنفيذها بسبب عدم الوعي والثقافة، ومن الواضح أن هذا الكلام السيئ وإن كان قد صدر من أطفال إلّا أنه من شأنه أن يثير حفيظة الآخرين وبسبب عدم الوعي أيضاً، وهكذا يبعثهم للمقابلة بالمثل وتستمر هذه التصرفات السيئة وتنعكس في جوانب أخرى من الحياة حتى تتحول الأمة الواحدة التي رفع الإسلام الحواجز النفسية والأرضية منها إلى أمم مشتتة متفرقة البعض يتهجم على البعض الآخر ويسخر منه وقد قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَٰبِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَٰنِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(1) ومعلوم أن هذا السلوك يؤدي إلى ضعف الأمة وانهيارها، ويوقعها لقمة سائغة في فم الاستعمار الذي ما فتئ يخطط لتنفيذ هذه الأساليب والخطط.

وقد قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2).

ص: 362


1- سورة الحجرات، الآية: 11.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.

الثانية: العنف والتهور

الناس بطبيعتهم لا يميلون إلى الأفراد العنيفين وسيئي الأخلاق ولا يجلّونهم بملء اختيارهم، وإذا حدث وأن استطاع بعض أصحاب القدرة والعنف استغفال وخداع مجموعة من الناس لفترة. فإن أوراقهم سرعان ما تنكشف وينقلب الأمر عليهم وينفضّ الناس من حولهم إن لم ينقلبوا عليهم.

ونحن نرى الإسلام الذي بقي لحد الآن، وسيبقى إلى أبد الدهر إنما هو بسبب مجموعة من الخصائص والسمات الفريدة، منها دعوته السليمة حيث استطاع النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) أن يدخلوا الإسلام في قلوب الناس عن طريق الكلام اللين، ومكارم الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام حيث يقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(1).

وقد جاء في بعض التفاسير عن لين وحسن خلق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

معناه إن لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين لأنك تأتيهم مع سماحة أخلاقك وكرم سجيتك بالحجج والبراهين {وَلَوْ كُنتَ} يا محمد {فَظًّا} أي جافياً سيئ الخلق {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي قاسي الفؤاد وغير ذي رحمة ولا رأفة {لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} أي لتفرق أصحابك عنك ونفروا منك...(2).

ويقول اللّه تعالى في آية أخرى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(3).

فيأمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يلين جانبه ويتواضع لهم ويحسن معاملتهم، لأن تواضع

ص: 363


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- تفسير مجمع البيان 2: 428.
3- سورة الشعراء، الآية: 215.

القادة وحسن معاملتهم من شأنها أن تزيد محبة الناس وتشدّهم إليهم أكثر.

من سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إن يهودياً كان له على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دنانيرفتقاضاه. فقال له: يا يهودي ما عندي ما أعطيك.

فقال: فاني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني.

فقال: إذاً أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتهدّدونه ويتواعدونه، فنظر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟

فقالوا: يا رسول اللّه يهودي يحبسك؟!

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لم يبعثني ربي عزّ وجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره، فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل اللّه، أما واللّه ما فعلت بك الذي فعلت إلّا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت في التوراة: محمد بن عبد اللّه مولده بمكة ومهاجره بطيبة وليس بفظّ ولا غليظ ولا سخاب ولا متزيّن بالفحش...»(1).

هذا الحديث يعكس لمحة موجزة عن أخلاق وسيرة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في اتباعه سياسة اللاعنف وعدم التهور في مواقفه الظاهرية والباطنية، وهذا اللين وانشراح الصدر هو أحد العوامل التي جذبت الناس إلى الإسلام من أهل الكتاب وغيرهم، وجعلت المسلمين أيضاً يتمسكون بالدين الإسلامي أكثر بإيمان عال ويعملون لنشره بين الناس بإخلاص وتفان، على العكس من الذين يتبعون مبدأ العنف والتهور فعقائدهم تحجمت بل واندثرت وإن كان البعض

ص: 364


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 465.

يستبطن العنف ويظهر العطف واللين في بعض الأحيان فإنه سرعان ما ينكشف وينتهي به المطاف ولا تبقى له نائرة فقد قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبيطالب(عليه السلام): «ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»(1) لذا نحن نرى الإسلام باقياً بقاء الدهر؛ لأن مبادئه تعتمد على أساس اللين وسعة الصدر واللاعنف وقادته الكرام النبي وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام) جسّدوا هذه المبادئ السليمة بصدق وإخلاص الأمر الذي زاد من قوته وانتشاره في الأرجاء وخلوده.

من سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام)

ابن الكوّاء هذا المنافق الخارجي، كان مشاكساً لأمير المؤمنين(عليه السلام) وهو في أوج حكومته الواسعة التي كانت ذلك اليوم أوسع حكومة على وجه الأرض مساحة وعدداً، إضافة إلى أنه(عليه السلام) مفروض الطاعة من اللّه ورسوله، فقد كان ابن الكوّاء يؤذي الإمام بعناده واعتراضاته المتكررة في السوق والمسجد وبأسلوب خال من اللياقة، وفي رواية عن كتاب البحار للمجلسي(رحمه اللّه): كان علي(عليه السلام) في صلاة الصبح فقال ابن الكوّاء من خلفه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2) فأنصت علي(عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتى فرغ من الآية ثم عاد في قراءته، ثم أعاد ابن الكوّاء الآية فأنصت علي(عليه السلام) أيضاً، ثم قرأ فأعاد ابن الكوّاء فأنصت علي(عليه السلام) ثم قال(عليه السلام): {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}(3) ثم أتم السورة وركع(4).

ص: 365


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 26.
2- سورة الزمر، الآية: 65.
3- سورة الروم، الآية: 60.
4- بحار الأنوار 41: 48.

أنظر مع أن الإمام(عليه السلام) كان الرئيس الأعلى للدولة، ويتمكن أن يتخذ موقفاً صارماً ضد ابن الكوّاء - الذي كان مواطناً عادياً - ولنفاقه ومشاكسته المتكررةللإمام(عليه السلام) أصبح منبوذاً في المجتمع، ومع استحقاقه للعقوبة الرادعة إلّا أن الإمام(عليه السلام) لم يبد أي موقف صارم أو شديد تجاهه. وهذا جانب بسيط من معاملة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) والحاكم الأعلى للبلاد الإسلامية آنذاك، فقد تمتع(عليه السلام) بالحكمة والصبر وسعة الصدر ولين الجانب مع أعداءه من المشركين والمنافقين.

واستطاع (صلوات اللّه وسلامه عليه) بذلك أن يديم هذه العقيدة الإسلامية ويرسخها في القلوب والضمائر التي أثبت ركائزها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخاتم الأنبياء(عليهم السلام) بفعل أخلاقه وسيرته الكريمة وتعامله مع الناس باللين واللاعنف.

أسلوب القرآن

قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(1).

نزلت هذه الآيات على الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حول مسجد ضرار الذي بناه المنافقون في مقابل مسجد الرسول ومسجد قباء، ومع ذلك فإن أسلوب القرآن الحكيم لم يتصف بالعنف فقد جاء الأمر هكذا بقوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}(2) وفي سبب نزول هذه الآيات وتفسيرها قال الطبرسي(رحمه اللّه): «قال المفسرون: إن بني عمرو بن عوف

ص: 366


1- سورة التوبة، الآية: 107.
2- سورة التوبة، الآية: 108.

اتخذوا مسجد قباء وبعثوا إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يأتيهم فآتاهم وصلى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني مسجداً فنصلّي فيه ولا نحضرجماعة محمّد وكانوا اثني عشر رجلاً، وقيل خمسة عشر رجلاً، منهم ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير ونبتل بن الحرث، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء، فلما فرغوا منه أتوا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول اللّه إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحب أن تأتينا فتصلّي فيه لنا، وتدعو بالبركة. فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إني على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء اللّه فصلينا لكم فيه»، فلما انصرف رسول اللّه من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد. وفي معنى الآية قال الطبرسي: ثم ذكر اللّه سبحانه جماعة أخرى من المنافقين بنوا مسجداً للتفريق بين المسلمين وطلب الغوائل للمؤمنين فقال - تعالى - : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا} والمسجد موضع السجود في الأصل وصار بالعرف اسماً لبقعة مخصوصة بنيت للصلاة فالاسم عرفي فيه معنى اللغة {ضِرَارًا} أي مضارة يعني الضرر بأهل مسجد قباء أو مسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليقلّ الجمع فيه {وَكُفْرًا} أي ولإقامة الكفر فيه...، {وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي لاختلاف الكلمة وإبطال الإلفة وتفريق الناس عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} أي أرصدوا ذلك المسجد واتخذوه وأعدّوه لأبي عامر الراهب. وهو الذي حارب اللّه ورسوله من قبل. وكان من قصته أنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، فلما قدم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة حسده وحزب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكة إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصر... ، {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ} معناه أن هؤلاء يحلفون كاذبين ما أردنا ببناء هذا

ص: 367

المسجد إلّا الفعلة الحسنى من التوسعة على أهل الضعف والعلة من المسلمين فأطلع اللّه نبيه على فساد طويتهم وخبث سريرتهم فقال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ} وكفى لمن يشهد اللّه سبحانه بكذبهخزياً(1).

والخلاصة: إن أسلوب القرآن مع المنافقين والمتآمرين لم يكن بدرجة من العنف، وإنما هو أسلوب فضح وخزي للمتآمرين، وأما الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يقم بالانتقام من القائمين على بناء المسجد والمنافقين ولم يرسل إلى جلبهم لمحاكمتهم أو عقابهم، وحتّى أبو عامر الراهب الذي تقدمت قصته وهو رئيس المنافقين والمتآمر مع الروم لم يوجّه له الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حكماً أو من يقتصّ منه وإنما اكتفى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتهديم المسجد وفضح من بناه عن طريق الآيات القرآنية وامتناعه من الصلاة فيه.

والذي أثر في هؤلاء المنافقين أكثر أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عاملهم بلين وعطف دون أي عنف يذكر.

واقعنا المعاصر

في منطق القرآن الكريم جميع المسلمين بلغاتهم وقومياتهم وألوانهم المختلفة أمة واحدة حيث يقول تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(2).

وقال تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(3).

كما أن البلاد الإسلامية كلها بلد واحد، وقانون واحد، وحكومة واحدة في

ص: 368


1- تفسير مجمع البيان 5: 125.
2- سورة الأنبياء، الآية: 92.
3- سورة المؤمنون، الآية: 52.

نظر الإسلام، وهذه الوحدة كانت متجسدة في حياة المسلمين لقرون عديدة، حتى إذا دخل الاستعمار بلادنا وأثار النعرات والتفريقات بين المسلمين فساقهمإلى التشتت لكي يعيش عليه.

حرمة التفرقة

إن أي تفريق بين المسلمين يعتبر من أشد المحرمات في الإسلام لأنه معاونة على الإثم والعدوان الذي يهدفه الاستعمار هذا أولاً.

وثانياً: إنه تشتيت للأمة الواحدة وتسهيل لسيطرة الكفار على بلاد الإسلام، سواءً كان التفريق بالأراضي ووضع الحدود الجغرافية بين بلاد المسلمين أو بالجنسيات المتعددة أو ما أشبه ذلك.

إننا نجد الآن العراقي خارج حدود العراق في البلاد الإسلامية الأخرى يعتبر أجنبياً، ويعامل معاملة الأجانب، وكذلك المسلمون الآخرون يعتبرون داخل العراق من الأجانب، وهذا الأمر لا يختص بالعراقي بل ينطبق على المصري والإيراني والأفغاني وسائر المسلمين، وهذا عمل لا يرتضيه الإسلام ولا ينطبق مع مبادئه الوحدوية.

فهذه الحدود الأرضية بين المسلمين وضعها الاستعمار من أجل تشتيتهم، والقضاء على رابطة الأخوة والأمة الواحدة التي تجمعهم، لتسهل السيطرة عليهم ويكونوا مغنماً لبلد الكفر.

والأنكى من ذلك أن المستعمر الذي وضع هذه الحدود لم يكتف بترسيمها وتفريق جسد الأمة الواحدة، بل عمد إلى ترك مناطق حدودية محايدة ومساحة يكتنفها الغموض بين أغلب البلاد الإسلامية، حتى تكون هذه المناطق مادة للنزاع والخلاف وبؤرة للتوتر بين البلدان الإسلامية دائماً ليتمكن ساسة الغرب

ص: 369

من إثارتها في أي وقت شاءوا، بل أحياناً نفس الدول الإسلامية متى ما أحسّت بشيء من القوة فإنها سرعان ما تترجم هذه القوة إلى نزاع حدودي وحرب طاحنةبينها وبين جارتها المسلمة، وتتوزع بقية الدول الإسلامية بين مناصر لهذا الطرف وذاك، ويكون الهم الأكبر لحكام أغلب الدول الإسلامية هو بناء القوة العسكرية على حساب حتى رغيف الخبز لا لمواجهة الأعداء الحقيقيين للأمة، وإنما لانتزاع بعض الأشبار من أرض البلد المسلم الجار ودون أي حساب للخسائر الحقيقية التي يتكبّدها الطرفان، والآثار القريبة والبعيدة المترتبة على ذلك من امتصاص كل الطاقات المادية وتحطيم القيم المعنوية للمسلمين، فضلاً عن إيقاع المزيد من الخلاف والتشتت بينهم.

واجب المجتمع

وبسبب هذه المظاهر نحن مدعوون جميعاً لأن نسعى بكل جهودنا وطاقاتنا، بألسنتنا وأقلامنا للقضاء على كل أسباب الخلاف ومظاهر العنف والفحش والتفرقة، والهمز واللمز في المجتمعات الإسلامية، وعلينا أن نهتم بأنفسنا فنهذبها، ونتمسك باللين والرفق ليكون هذا منطلقاً لما نأمل أن نحققه من التغيير في العالم الإسلامي، وهذا الطريق وإن كانت تحفّه المشاكل والصعاب والموانع الطبيعية والمصطنعة، إلّا أنه الطريق الناجح للنجاة وبلوغ النصر والقضاء على أسباب التأخر والانحطاط الذي أصاب المسلمين وإلّا سنبقى نئن من وطأة ذلك (والعياذ باللّه).

«اللّهم صل على محمد وآله، وحلني بحلية الصالحين، وألبسني زينة المتقين في بسط العدل، وكظم الغيظ، واطفاء النائرة وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين، وافشاء العارفة، وستر العائبة، ولين العريكة، وخفض الجناح، وحسن

ص: 370

السيرة... وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة ولزوم الجماعة...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

في ذم التفرقة

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2).

وقال سبحانه: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(5).

جزاء المنافقين

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}(6).

وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْمُنَٰفِقَٰتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}(7).

ص: 371


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
3- سورة الشورى، الآية: 13.
4- سورة الأنعام، الآية: 159.
5- سورة آل عمران، الآية: 105.
6- سورة النساء، الآية: 140.
7- سورة التوبة، الآية: 68.

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}(1).

اللين من محاسن الأخلاق

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(2).

وقال سبحانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

من كلمات لأمير المؤمنين(عليه السلام) في اللين والرفق

1- «ألن كنفك فإن من يلن كنفه يستدم من قومه المحبة»(5).

2- «من لانت كلمته وجبت محبته»(6).

3- «أكبر البر الرّفق»(7).

4- «من تلن حاشيته يستدم من قومه المحبّة»(8).

5- «من لم يلن لمن دونه لم ينل حاجته»(9).

ص: 372


1- سورة النساء، الآية: 145.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة طه، الآية: 44.
4- سورة المائدة، الآية: 54.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 139.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 587.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 186.
8- عيون الحكم والمواعظ: 441.
9- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 250.

6- «الرفق لقاح الصلاح وعنوان النجاح»(1).

ومن كلماته(عليه السلام) في ذم التفرقة والعدوان

1- «من زرع العدوان حصد الخسران»(2).

2- «المؤمن منزه من الزيغ والشقاق»(3).

3- «المخاصمة تبدي سفه الرجل ولا تزيد في حقه»(4).

4- «شر الناس من يبتغي الغوائل للناس»(5).

5- «من بالغ في الخصام أثم ومن قصر عنه خصم»(6).

6- «رأس الجهل معاداة الناس»(7).

اللين من صفات المؤمن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا أنبئكم لم سمي المؤمن مؤمناً، لإيمانه الناس على أنفسهم وأموالهم، ألّا أنبئكم من المسلم، من سلم الناس من يده ولسانه، ألّا أنبئكم بالمهاجر، من هجر السيئات، وما حرّم اللّه عليه، ومن دفع مؤمناً دفعة ليذلّه بها، أو لطمه لطمة، أو أتى إليه أمراً يكرهه لعنته الملائكة حتى يرضيه من حقه، ويتوب ويستغفر، فإياكم والعجلة إلى أحد فلعلّه مؤمن وأنتم لا تعلمون، وعليكم بالأناة واللين، والتسرع من سلاح الشياطين وما من شيء أحب إلى اللّه

ص: 373


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 127.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 592
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 67.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 412.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 669.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 377.

من الأناة واللين»(1).

من مناهي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا ومن لطم خد مسلم أو وجهه بدد اللّه عظامه يوم القيامة، وحشر مغلولاً حتى يدخل جهنم إلّا أن يتوب»(2).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من آذى مؤمناً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه، ومن آذى اللّه فهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وفي خبر آخر: فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين»(3).

ص: 374


1- علل الشرائع 2: 523.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 430.
3- جامع الأخبار: 147.

مستقبل العراق بين الدعاء والعمل

الأمل القاطع

قال اللّه تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(1).

إذا توجه الإنسان إلى اللّه تعالى بأمل قاطع لا يشوبه الشك أو التردد فإن اللّه سوف لن يرده عن رحمته الواسعة بل يستجيب له ويعطيه سؤله، كما قال تعالى في القرآن الكريم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(2).

قال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) لمعاوية بن وهب:

«يا معاوية، من أعطي ثلاثة لم يحرم ثلاثة، من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية، فإن اللّه عزّ وجلّ يقول في كتابه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(3) ويقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}(4) ويقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}»(5)(6).

ص: 375


1- سورة غافر، الآية: 60.
2- سورة غافر، الآية: 60.
3- سورة الطلاق، الآية: 3.
4- سورة إبراهيم، الآية: 7.
5- سورة غافر، الآية: 60.
6- الخصال 1: 101.

الشيخ البهائي والدعاء المستجاب

اشارة

نقل الشيخ البهائي(رحمه اللّه) دعاءً وذكر أنه ما من شخص دعا به أربعين مرة إلّا واستجيب له، فأخذ شخص هذا الدعاء وقرأه أربعين مرة فلم يستجب له، فأخذ يتكلم بكلام سيء على الشيخ البهائي، وذات ليلة رأى ذلك الرجل الشيخ البهائي(رحمه اللّه) في المنام فقال له الشيخ: إن الذنب ذنبك حيث لم تقرأ الدعاء بالشكل الصحيح وبالشروط اللازمة لذلك لم يستجب لك.

نعم، هناك بعض الخصوصيات يجب أن تراعى في الدعاء حتى تتنزل الرحمة الإلهية بحيث إذا دعى الإنسان ووفر الشروط الكاملة فسوف يستجاب دعاؤه.

فقد ورد عن عثمان بن عيسى عمن حدثه عن أَبي عبد اللَّه(عليه السلام) قال: قلت: آيتان في كتاب اللّه عزّ وجلّ أطلبهما فلا أجدهما، قال(عليه السلام): «وما هما؟» قلت: قول اللّه عزّ وجلّ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(1) فندعوه ولا نرى إجابة، قال(عليه السلام): «أفترى اللّه عزّ وجلّ أخلف وعده؟» قلت: لا، قال: «فمم ذلك؟» قلت: لا أدري، قال: «لكني أخبرك، من أطاع اللّه عزّ وجلّ في ما أمره ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه» قلت: وما جهة الدعاء؟ قال(عليه السلام): «تبدأ فتحمد اللّه وتذكر نعمه عندك ثم تشكره ثم تصلي على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم تذكر ذنوبك فتقر بها ثم تستعيذ منها، فهذا جهة الدعاء»، ثم قال: «وما الآية الأخرى؟» قلت: قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٖ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ}(2) وإني أنفق ولا أرى خلفا، قال: «أفترى اللّه عزّ وجلّ أخلف وعده؟» قلت: لا، قال: «فمم ذلك؟» قلت: لا أدري، قال: «لو أن أحدكماكتسب المال من حله وأنفقه في حله لم ينفق درهما

ص: 376


1- سورة غافر، الآية: 60.
2- سورة سبأ، الآية: 39.

إلّا أخلف عليه»(1).

حول العراق

لذا فإن همّنا بتغيير الوضع المأساوي لشعبنا المسلم في العراق يجب أن يقترن بسعينا نحو تغيير أنفسنا ومجتمعنا أولاً وهذا يتم بالعمل الجاد والمتواصل، وأن نحقق شروط الدعاء المتعلقة بنا، ونتوكل على اللّه تعالى، عند ذلك يستجيب سبحانه دعاءنا ويمدنا بنصره، أما أن ندعو بلا عمل ولا همة، ونتوقع أن يستجاب دعاؤنا ويتغيّر نظام الحكم المتسلط على الرقاب، ويأتي الأكثرية وهم الشيعة إلى الحكم لتقود البلاد فليس صحيحاً؛ فإن اللّه سبحانه يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

وبعون اللّه تعالى ومن خلال العمل الجاد والجهود المخلصة المتواصلة للمؤمنين وببركات دعائهم سيتم القضاء على نظام صدام وحزب البعث الحاكم، سواء بقيام ثورة جماهيرية موحدة قوية ضده أم بغير ذلك، لأن هذا مصير كل الطغاة وقتلة الشعوب على مرّ العصور.

ووظيفتنا نحن بعد التوسل باللّه تعالى والتوكل عليه السعي لإيجاد حكومة شيعية في العراق تلبي مطاليب الغالبية العظمى من الشعب مع الحفاظ على حقوق باقي الأقليات، حيث يجب أن تكون حكومة العراق القادمة شيعية إن شاء اللّه تعالى.

سؤال؟

ما هو الداعي إلى تأييد الشعب المسلم لأية حكومة تأتي أو أي شخص

ص: 377


1- الكافي 2: 486.
2- سورة الرعد، الآية: 11.

يجلس على كرسي الحكم في العراق؟!

ولماذا يصفق الشعب المسلم لكل رئيس يحكم العراق؟!

وهل نسي بعض أبناء الشعب الذي صفقوا بأيديهم لهذا الحاكم أو ذاك بأنهم ذاقوا الأمرَّين من نفس الحاكم؟ وهم مع ذلك لم يعتبروا بل يكررون ذلك باستمرار وتتنزل عليهم الويلات باستمرار من كل حكومة أو حاكم صفقوا لها أو له.

نعم، لقد صدق الحديث القائل: «ما أكثر العبر وأقل الاعتبار»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال اللّه تبارك وتعالى لأعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام جائر ليس من اللّه وإن كانت الرعية في أعمالها برة تقية، ولأعفون عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام عادل من اللّه وإن كانت الرعية في أنفسها ظالمة مسيئة»(2).

ومن المعلوم أن الحكومة لا تكون شرعية إلّا إذا مثلت الشيعة أصدق تمثيل، وذلك لأن الأغلبية في العراق هم الشيعة ونسبتهم حسب الإحصاءات المنصفة تشكل حوالي 85% من كل الشعب العراقي، طبعاً مع تقسيم القدرات في الحكومة وإجراء الانتخابات الصحيحة النزيهة الخالية من التزوير وشراء الذمم. عندها ستمثل الحكومة الشعب وتستمد قوتها منه ويتخلص الشعب من ارتباطاته بالغرب والشرق كما يتخلص من ربقة الحكام المستبدين.

من منافع تعدد القوى

طبع العلامة الأميني(رحمه اللّه) كتابه الغدير في العراق ونشره على صعيد واسع، مما أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة، وقام بعض أبناء العامة يهرجون ضده، ثم أخذ

ص: 378


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 297.
2- الكافي 1: 376.

بعضهم هذا الكتاب وذهبوا به إلى نوري السعيد لتقديم دعوى ضد الكتاب ومؤلفه، فقال نوري السعيد لهم وهو يقلب صفحات الكتاب: المصادر التي اعتمد عليها ونقل منها هل هي شيعية أم سنية؟ قالوا له: لو كانت المصادر شيعية لكان الأمر هيناً لكن المصادر كلها سنية وهي ضدنا.

فقال نوري السعيد: إذن اذهبوا وأصلحوا مصادركم ومبانيكم.

هنا قد يخطر في الذهن سؤال، إنه لماذا أجابهم نوري السعيد هكذا؟

الجواب: لأن القوة لم تكن متمركزة بيد نوري السعيد وحده بل كانت شبه متعددة وموزعة. لذلك لم يكن باستطاعته أن يفعل شيئاً ضد هذا الكتاب أو مؤلفه.

عندما تكون القوة محصورة ومتمركزة لدى شخص معين أو فئة معينة فنتيجة ذلك سيكون الاستبداد بالرأي والاستئثار بالسلطة ويستمر كم الأفواه، وخنق الأصوات الأخرى المعارضة لتوفر الإمكانية في ذلك.

أما تعدد مراكز القوة ومصادرها فهو صمام الأمان لمواجهة انحراف الحاكم أو الفئة المتسلطة.

قوة الشعب

في إحدى السنين عندما كان العراق يرزخ تحت نير إحدى الفئات قمنا بطبع خمسة وسبعين ألف نسخة من كتاب (هكذا الشيعة)(1) لغرض توزيعها في الحجاز في موسم الحج. وهكذا فعلنا حيث وزعناها جميعاً في ما بين الحجيج.

وذات يوم جاءني الشيخ عبد الزهراء الكعبي(رحمه اللّه) وقال لي: إن وزير العدل

ص: 379


1- من مؤلفات الإمام الشيرازي(رحمه اللّه)، وهو كراس يتضمن تعريف موجز حول الشيعة والتشيع، ألفه سماحته عام (1383ه).

كاظم الرواف يريد أن يرفع شكوى ضدكم بإدعائه أنكم تثيرون النزاعات الطائفية بين المسلمين، وتعمقون البغضاء والشحناء بينهم بنشركم الكتب الشيعية، بعد ذلك بأيام جاءنا وكيل الحاكم وأخذ يعترض ويتباحث معنا، فقلنا له: إنه لا يحق لكم الاعتراض والتضييق علينا في أمور مذهبنا، قال: نحن حكومة قوية وبإمكاننا أن نتخذ الإجراءات ضدكم، فكان جوابنا: إذا فعلتم شيئاً من تهديداتكم فإن الشيعة ستضج ضدكم وتثور عليكم! وأنتم تعلمون بالتفاف الشيعة حول العلماء ومراجع التقليد، فخاف من ذلك واضطرب وانصرف عن هذا الأمر نهائياً.

بعد ذلك رفع حاكم النجف الأشرف شكوى ضدنا وقلنا له ما قلناه للأول فخاف هذا الآخر من إثارة الرأي العام ضدهم وأفحم أيضاً.

وزير العدل أيضاً

وفي المرة الثالثة نزل إلى الميدان نفس وزير العدل وأراد أن يشتكي ضدنا، فأرسل له بعض الأصدقاء رسالة قال له فيها: بأنك إذا أردت أن تقيم هذه الشكوى فإني سأفضحك أمام الرأي العام وأثبت لهم بأنك لست بوزير شرعي والآن إذا لم تخف من ذلك فامض في شكايتك هذه! فخاف هذا الثالث من ذلك وتراجع.

الهدف المهم

من الممكن أن يدَّعى بأنه إذا جاء حاكم آخر بعد صدام ورجعت الحوزات العلمية في النجف وكربلاء والكاظمين وسامراء إلى نشاطها ومكانتها واستعادت المجالس الحسينية والمساجد والحسينيات والتجمعات الدينية رونقها فلا حاجة بعد ذلك إلى جعل الحكومة حكومة شيعية!

نقول: إن عودة الأنشطة الدينية والبرامج الحسينية ضروري وهو مهم إلّا أن المهم أيضاً هو استعادة الإنسان الشيعي في العراق حق تقرير مصيره ومصير

ص: 380

بلاده وإخراجها من أيدي المستعمرين، ومباشرة ذلك بنفسه لا بتدخل الآخرين من الشرق والغرب؛ لذلك يجب جعل هذا الأمر من الأهداف المهمة والعمل من أجل إيجاد الحكومة الشيعية في العراق المهضوم.

موقف السيد الحكيم الصارم

وقف السيد الحكيم(رحمه اللّه) ضد عبد السلام عارف بقوة لأنه كان سنياً متعصباً يسعى لتحطيم الأكثرية في العراق، خصوصاً وإنه أخذ يجمع بعض الشيعة حوله ليستفيد منهم، ومن هنا طلب زيارة السيد الحكيم(رحمه اللّه) إلّا أن السيد الحكيم رفضه ولم يقبل زيارته، فأرسل عبد السلام شخصاً إلى السيد الحكيم ليتوسط عنده ويهيئ له مقدمات زيارته، إلّا أن السيد الحكيم رفض ذلك أيضاً، بعد ذلك طلب عبد السلام من السيد سعيد زيني(1) الذي كان له بعض الارتباط بالسيد الحكيم ليصلح الأمر في ما بينه وبين السيد الحكيم، ويعين وقتاً لزيارة وفد من الدولة للسيد الحكيم(رحمه اللّه)، فاتصل السيد زيني بالسيد الحكيم(رحمه اللّه) تلفونياً فلم يوافق السيد الحكيم(رحمه اللّه) على الزيارة إلّا مشروطة بعدم وجود شخص عبد السلام عارف مع الوفد، فجاء الوفد ودخلوا عند السيد الحكيم(رحمه اللّه) واظهروا احترامهم البالغ له وقالوا: نحن مستعدون لأن نفعل أي شيء تأمرون به ولكن اسمحوا لعبد السلام عارف أن يزوركم، ولكنهم قوبلوا برفض السيد الحكيم(رحمه اللّه) القاطع. وكان أحد أفراد هذا الوفد مدير جهاز الأمن فقال للسيد الحكيم: إن رئيس الجمهورية رجل ثوري ومن الممكن أن يقوم ضدكم بأعمال لا تحمد عقباها - وكان يقصد من ذلك إخافة السيد الحكيم وتهديده علّه يقبل زيارة عبد

ص: 381


1- السيد سعيد أحمد بن السيد جعفر السيد حسين زيني، ينتمي إلى أسرة معروفة بالفضل، كان سياسياً واعياً وله علاقات مع بعض السياسيين وكان في نفس الوقت وكيلاً للسيد الحكيم(رحمه اللّه) في مدينة كربلاء المقدسة.

السلام له - فقاطع السيدالحكيم كلامه وقال: أنت لا تحدث طفلاً حتى تخيفه بكلماتك الجوفاء هذه، إنني لا ولن أسمح باللقاء ب(عبد السلام عارف) أبداً، ومهما كانت عاقبة ذلك سيئة فإني صامد، وكان هذا الأمر هو السبب الذي أثار غضب شيعة العراق ضد عبد السلام آنذاك وأحدثوا اضطراباً واسعاً في كل البلاد، وقد أدرك الاستعمار بأن منافعه قد أصبحت معرضة للخطر الحتمي في العراق مما جعلهم يرسمون لعبد السلام خطة فجّروا خلالها طائرته وهو فيها، ثم جاءوا بغيره إلى سدة الحكم.

الإلحاد وأسياده

هذا هو ديدن الاستعمار والقوى الكبرى أسياد الحكام الطواغيت فمتى ما وجدوا أن الحاكم لا يمكن أن يستمر أكثر، ويقدم خدمات أخرى لهم سعوا إلى تنحيته والإتيان بحاكم جديد؛ لأنهم لا يمكنهم أن يستمروا في دعمهم لحاكم فقدَ مقومات البقاء والاستمرار وأعلن الشعب مناهضته له.

من كل الذي تقدم نستخلص أن من واجب المجتمع المسلم في العراق التوجه بالعمل المستمر والمنظم وبالدعاء والتوسل إلى اللّه تعالى بالنصرة للقضاء على الحكم الفاسد، وأن لا يغفلوا دور تعددية القوى لأنها تشكل ورقة ضاغطة على الحاكم. كما أن إعلان المناهضة والمقاومة تقوم بنفس الدور في مواجهة الحاكم وأسياده الذين نصبوه وأوصلوه إلى سدة الحكم.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

ص: 382


1- إقبال الأعمال 1: 51.

من هدي القرآن الكريم

الدعاء المستجاب

قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(1).

وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ : {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَٰنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ}(3).

وقال جلّ وعلا: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}(4).

وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(5).

الدعاء في كل الأحوال

قال سبحانه: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}(8).

وقال تعالى: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا}(9).

ص: 383


1- سورة الفرقان، الآية: 77.
2- سورة غافر، الآية: 60.
3- سورة الزمر، الآية: 8.
4- سورة النمل، الآية: 62.
5- سورة البقرة، الآية: 186.
6- سورة إبراهيم، الآية: 40.
7- سورة الدخان، الآية: 22.
8- سورة القمر، الآية: 10.
9- سورة الكهف، الآية: 14.

وقال سبحانه: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}(1).وقال عزّ وجلّ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).

الدعوة إلى العمل الرسالي

قال جلّ وعلا: {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(3).

وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(4).

وقال سبحانه: {هَٰذَا كِتَٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}(6).

وقال جلّ وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(7).

العبرة بالأمم السالفة

قال جلّ وعلا: {وَقَوْمَ نُوحٖ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَٰهُمْ وَجَعَلْنَٰهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَاْ وَأَصْحَٰبَ الرَّسِّ وَقُرُونَا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَٰلَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}(8).

ص: 384


1- سورة الطور، الآية: 28.
2- سورة الفاتحة، الآية: 5.
3- سورة الأعراف، الآية: 129.
4- سورة هود، الآية: 123.
5- سورة الجاثية، الآية: 29.
6- سورة الأحزاب، الآية: 2.
7- سورة المجادلة، الآية: 11.
8- سورة الفرقان، الآية: 37-39.

صفات الفائزين

قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَٰمًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْعَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

الدعاء هو أفضل العبادة

قال زرارة للإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(2) قال: هو الدعاء وأفضل العبادة الدعاء»، قلت: {إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٌ}(3)؟ قال: «الأوّاه هو الدعَّاء»(4).

عن حنان بن سدير عن أبيه قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام) أي العبادة أفضل؟ فقال: «ما من شيء أفضل عند اللّه عزّ وجلّ من أن يُسئل ويطلب مما عنده، وما أحد أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده»(5).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «الدعاء هو العبادة التي قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية(6) ادع اللّه عزّ وجلّ ولا تقل: إن الأمر قد فرغ

ص: 385


1- سورة الفرقان، الآية: 63-68.
2- سورة غافر، الآية: 60.
3- سورة التوبة، الآية: 114.
4- الكافي 2: 466.
5- الكافي 2: 466.
6- سورة غافر، الآية: 60.

منه»(1).

وقال(عليه السلام): «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): أحب الأعمال إلى اللّه عزّ وجلّ في الأرضالدعاء وأفضل العبادة العفاف»، قال: وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) رجلاً دعّاءً»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الدعاء مخ العبادة ولا يهلك مع الدعاء أحد»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «افزعوا إلى اللّه في حوائجكم والجئوا إليه في ملماتكم وتضرعوا إليه، وادعوه فإن الدعاء مخ العبادة، وما من مؤمن يدعو اللّه بدعاء إلّا استجاب له فإما أن يكون يعجّل له في الدنيا أو يؤجّل له في الآخرة، وإما أن يكفر به عن ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم»(4).

الدعاء سلاح المؤمن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي، وفي المناجاة سبب النجاة وبالإخلاص يكون الخلاص فإذا اشتد الفزع فإلى اللّه المفزع»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «نعم السلاح الدعاء»(7).

ص: 386


1- الكافي 2: 467.
2- الكافي 2: 467.
3- الدعوات للراوندي: 18.
4- أعلام الدين: 278.
5- الكافي 2: 468.
6- الكافي 2: 468.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 718.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الدعاء أنفذ من السنان الحديد»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم؟ قالوا: بلى، قال: تدعون ربكم بالليل والنهار فإن سلاحالمؤمن الدعاء»(2).

عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه كان يقول لأصحابه: «عليكم بسلاح الأنبياء»، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: «الدعاء»(3).

الدعاء المستجاب

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في موجبات الدعاء:

1- «من قرع باب اللّه فتح له»(4).

2- «عليك بإخلاص الدعاء فإنه أخلق بالإجابة»(5).

3- «إذا كانت لك إلى اللّه سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ثم سأل حاجتك، فإن اللّه أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى»(6).

4- «ان دعوة المظلوم مجابة عند اللّه سبحانه؛ لأنه يطلب حقه، واللّه تعالى أعدل من أن يمنع ذا حقٍ حقه»(7).

ص: 387


1- الكافي 2: 469.
2- الكافي 2: 468.
3- الكافي 2: 468.
4- عيون الحكم والمواعظ: 447.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 442.
6- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 361.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 228.

5- «أنفذ السهام دعوة المظلوم»(1).

الدعوة إلى العمل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر، مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغيروتر»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... رحم اللّه قوماً كانوا سراجاً ومناراً كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم...»(3).

وقال(عليه السلام): «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير فإن ذلك داعية»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «دعا اللّه الناس في الدنيا بآبائهم ليتعارفوا وفي الآخرة بأعمالهم ليجازوا فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ}(5)، {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ}»(6)(7).

العمل مع العلم

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا قول إلّا بعمل ولا قول وعمل إلّا بنية ولا قول وعمل ونية إلّا بإصابة السنة»(8).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من عمل على غير

ص: 388


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 192.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 534.
3- تحف العقول: 301.
4- الكافي 2: 78.
5- سورة البقرة، الآية: 104.
6- سورة التحريم، الآية: 7.
7- كشف الغمة 2: 207.
8- الأمالي للشيخ الطوسي: 337.

علم كان ما يفسده أكثر مما يصلح»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العلماء رجلان رجلٌ عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإنأشدّ أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى اللّه فاستجاب له وقبل منه فأطاع اللّه فأدخله اللّه الجنة وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق وطول الأمل ينسي الآخرة»(2).

الحاكم الظالم

عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إني أخالط الناس فيكثر عجبي من أقوام لا يتولّونكم ويتولون فلاناً وفلاناً لهم أمانة وصدقٌ ووفاء، وأقوام يتولونكم ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء والصدق؟! قال: فاستوى أبو عبد اللّه(عليه السلام) جالساً فأقبل عليّ كالغضبان ثم قال: «لا دين لمن دان اللّه بولاية إمام جائر ليس من اللّه، ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من اللّه». قلت: لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء؟ قال(عليه السلام): «نعم، لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء»، ثم قال: «ألّا تسمع لقول اللّه عزّ وجلّ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(3) يعني من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كل إمام عادل من اللّه. وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِ}(4).

ص: 389


1- المحاسن 1: 198.
2- الكافي 1: 44.
3- سورة البقرة، الآية: 257.
4- سورة البقرة، الآية: 257.

إنما عنى بهذا أنهم كانوا على نور الإسلام فلما أن تولوا كل إمام جائر ليس من اللّه عزّ وجلّ خرجوا بولايتهم إيّاه من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب اللّه لهم النار مع الكفار، ف- : {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}»(1)(2).

من القائد

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «... قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقول أمير المؤمنين(عليه السلام) وقول زين العابدين(عليه السلام)، أما قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فما حدثنيه أبي، عن جدي، عن أبيه، عن جده، عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أن اللّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء. فإذا لم ينزل عالم إلى عالم يصرف عنه طلاب حطام الدنيا وحرامها، ويمنعون الحق أهله، ويجعلونه لغير أهله، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.

وأما قول أمير المؤمنين(عليه السلام) فهو قوله: يا معشر شيعتنا والمنتحلين مودتنا إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، تفلّتت منهم الأحاديث أن يحفظوها وأعيتهم السنة أن يعوها، فاتخذوا عباد اللّه خولاً، وماله دولاً، فذلت لهم الرقاب وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب، ونازعوا الحق أهله، وتمثلوا بالأئمة الصادقين وهم من الجهال والكفار والملاعين، فسئلوا عمّا لا يعلمون، فأَنِفوا أن يعترفوا بأنهم لا يعلمون، فعارضوا الدين بآرائهم فضلوا وأضلوا. أما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين أولى بالمسح من ظاهرهما.

وأما قول علي بن الحسين(عليهما السلام) فإنه قال: إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه

ص: 390


1- سورة البقرة، الآية: 257.
2- الكافي 1: 375.

تناول الدنيا، وركوب المحارم منها، لضعف بنيته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدين فخاً لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره، فإن تمكن من حرام اقتحمه. فإذا وجدتموه يعف من المال الحرام فرويداً لا يغرنكم، فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة، فيأتي منها محرماً. فإذا وجدتموه يعف عن ذلك، فرويداً لا يغرنكم حتى تنظرواما عقدة عقله فما أكثر من يترك ذلك أجمع، ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله. فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنكم حتى تنظروا مع هواه يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة، حتى إذا قيل له {اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(1) فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمد يده بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم اللّه، ويحرم ما أحل اللّه لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد شقي من أجلها. فأولئك مع الذين غضب اللّه عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً مهيناً. ولكن الرجل كل الرجل، نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر اللّه، وقواه مبذولة في رضاء اللّه تعالى، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عزّ الأبد من العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعم في دار لا تبيد ولا تنفد، وإن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال. فذلكم الرجل نعم الرجل، فبه فتمسكوا،

ص: 391


1- سورة البقرة، الآية: 206.

وبسنته فاقتدوا، وإلى ربكم فبه فتوسلوا، فإنه لا ترد له دعوة، ولا تخيب له طلبة(1).

أهمية العمل

من كلمات للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في أهمية العمل:1- «العمل شعار المؤمن»(2).

2- «العاقل يعتمد على عمله، الجاهل يعتمد على أمله»(3).

3- «الإيمان والعمل أخوان توأمان ورفيقان لا يفترقان لا يقبل اللّه أحدهما إلّا بصاحبه»(4).

4- «اعملوا والعمل ينفع والدعاء يسمع والتوبة ترفع»(5).

5- «إن ماضي يومك منتقل وباقيه متهم فاغتنم وقتك بالعمل»(6).

6- «إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما ويأخذان منك فخذ منهما»(7).

7- «من يعمل يزدد قوة»(8).

ص: 392


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 52.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 32.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 66.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 119.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 155.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 224.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 254.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 590.

مع الحرس والشرطة

اشارة

مع الحرس والشرطة(1)

الاستخلاف في الأرض

قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَٰرِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ}(2).

في الآيتين المباركتين يشير الباري عزّ وجلّ إلى سنة كونية جعلها تبارك وتعالى: وهي (أنه يرفع المستضعفين دائماً، ويضع المستكبرين كذلك) وهذه سنة الحياة، فإن «للحق دولة» و«للباطل جولة»(3)، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام).

ومن الواضح أن هذه هي سنة الحياة ولا تتخلف في مصداق دون مصداق، فإذا انقلب المستضعف مستكبراً كان مصيره الذل والهوان.

من هنا يلزم على المستضعف بعد أن منَّ اللّه عليه ورفعه أن لا يتحول شيئاً فشيئاً الى مستكبر - لا سمح اللّه - ولا ينحرف عن سبيل اللّه، ولا يأخذ بالسير في سبيل الطاغوت والراحة والرفاه - على حساب الآخرين - دون خدمة الناس، فعندئذ تتجلى هذه الرواية: «ويهلك ملوكاً ويستخلف آخرين»(4).

ص: 393


1- ألقيت هذه المحاضره بتاريخ 21/ج2/1399ه- ق.
2- سورة القصص، الآية: 5-6.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 544.
4- تهذيب الأحكام 3: 110.

ونأمل أن لا يحدث ذلك بكم وقد منّ اللّه عليكم بالخلاص من الطاغوت(1).

ضمان عدم الطغيان

اشارة

ومما يضمن عدم الانقلاب إلى الاستكبار والطغيان، الأمور الأربعة التالية(2):

وهي: ذكر اللّه، وذكر الموت، والمزيد من الثقافة والوعي، وخدمة الناس.

من هنا يلزم على كل من تَسلّم زمام الأمور من القيادة العليا فما دونها، وكذلك الشرطة والحرس أن لا تغيب عنهم هذه الأمور:

1- ذكر اللّه دائماً

الأول: اللّه تعالى، فعلى الكل - وخاصة من يعمل في الدولة، ومنهم الشرطة والحرس - أن يتذكروا اللّه دائماً، قال تعالى: {هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}(3)، ففي أي مكان كان الإنسان، في الدائرة، في السيارة، في وسط الناس، في الحسينية، في الدكان، في المنزل، في مقرات الحرس والشرطة، عند التصدي وأداء الواجب، فإن اللّه معه، وينظر إليه، ويحاسبه في يوم القيامة أشد الحساب.

نظرك، سمعك، يدك، رجلك، وحتى النفس التي تتنفسها، فإنك محاسب عليها، بل حتى ما يخطر ببال الشخص وفكره، سواء كان فكراً حسناً أم سيئاً، فإنه محاسب عليه، نعم قد لا يُعاقب على الفكرة ولكنه يُحاسب عليها.

ص: 394


1- إشارة إلى زوال الطاغوت البهلوي في إيران.
2- هذا بالإضافة إلى العوامل السياسية من التعددية وحرية المعارضة و المؤسسات الدستورية واستقلالية القضاء وما أشبه مما أشار إليها بالتفصيل الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في العديد من مؤلفاته القيمة، مثل: (فقه السياسة) و(فقه القانون) و(السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين) و(الصياغة الجديدة) و(طريق النجاة) و... .
3- سورة الحديد، الآية: 4.

شدة الحساب في يوم القيامة

توفي أحد علماء كربلاء المقدسة، فرأوه في المنام بعد سنتين من وفاته، فقالوا له: كيف أنت؟

قال: نجوت بحمد اللّه تعالى، ولكن اللّه قد حاسبني حساباً عسيراً، حتى أنه في أحد الأيام كانوا يعبرون بحمل حطب في الشارع، فسقط بعض العود من الحمل، فأخذت ذلك العود لأتخلل به، فحوسبت عليه: لماذا أخذت ذلك العود من حمل الناس؟

إلى هذه الدرجة يكون الحساب دقيقاً وعسيراً في يوم القيامة.

فكل كلمة ينطق بها الشخص فإنه محاسب عليها، وكل كلام يصغي إليه فإنه محاسب عليه، بل كل حركة يقوم بها يحاسب عليها.

فاللّه، اللّه... بذكر اللّه.

لا تنسوا ذكر اللّه أبداً، وفي كل الأحوال.

لقّنوا أنفسكم عند صباح كل يوم: اللّه، اللّه، اللّه.

وكذلك عند المساء: اللّه، اللّه، اللّه.

واعلموا بأن الإنسان الذي مع اللّه، فإن اللّه معه.

لقد شاهدتم بأنفسكم كيف أسقط اللّه الطغاة في إيران؛ لأنهم لم يكونوا مع اللّه، فلم يكن اللّه معهم.

وكيف أن اللّه قد ملَّك القدرات الضعيفة؛ والمستضعفين من الناس، لأن اللّه كان معها.

فالذي يكون مع اللّه ينتصر ويرتفع، والذي لم يكن مع اللّه يزول ويخسر.

فالأمر الأول: هو ذكر اللّه دائماً، في كل حال وفي كل مكان، في الشارع وفي السوق، في الدكان وفي المدرسة، في مقر العمل، في أثناء الدوام، في الكلام

ص: 395

والخطابة، في المحراب والمنزل، وفي كل مكان ومكان، لا يغيب ذكر اللّه عنكم.

آيات وروايات في ذكر اللّه

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَا أَوْلَٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}(2).

وقال جلّ جلاله: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(3).

وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}(4).

وعن السكوني، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى(عليه السلام): يا موسى لا تفرح بكثرة المال، ولا تدع ذكري على كل حال؛ فإن كثرة المال تنسي الذنوب، وإن ترك ذكري يقسي القلوب»(5).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «يا علي، سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه عزّ وجلّ، وذكر اللّه تبارك وتعالى على كل حال»(6).

وفيما أوصى به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) علياً(عليه السلام) قال: «يا علي، ثلاث لا تطيقها هذه

ص: 396


1- سورة المنافقون، الآية: 9.
2- سورة الأحزاب، الآية: 41.
3- سورة الرعد، الآية: 28.
4- سورة البقرة، الآية: 152.
5- الكافي 2: 497.
6- الخصال 1: 125.

الأمة:المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر اللّه على كل حال، وليس هو: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلّا اللّه واللّه أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف اللّه عزّ وجلّ عنده وتركه»(1).

وعن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إن في التوراة مكتوباً: يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب، أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك في من أمحق، وإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك؛ فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك»(2).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(عليهما السلام)، قال: «لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر اللّه عزّ وجلّ، قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً، إن اللّه تعالى يقول: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}»(3)(4).

امرأة من بني إسرائيل

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «خرجت امرأة بغي على شباب من بني إسرائيل فأفتنتهم، فقال بعضهم: لو كان العابد فلاناً لو رآها أفتنته، وسمعت مقالتهم. فقالت: واللّه لا أنصرف إلى منزلي حتى أفتنه، فمضت نحوه في الليل فدقت عليه، فقالت: آوي عندك. فأبى عليها، فقالت: إن بعض شباب بني إسرائيل راودوني عن نفسي؛ فإن أدخلتني وإلّا لحقوني وفضحوني.

ص: 397


1- من لا يحضره الفقيه 4: 358.
2- الكافي 2: 304.
3- سورة آل عمران، الآية: 191.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 310.

فلما سمع مقالتها فتح لها، فلما دخلت عليه رمت بثيابها، فلما رأى جمالهاوهيئتها وقعت في نفسه، فضرب يده عليها ثم رجعت إليه نفسه، وقد كان يوقد تحت قدر له، فأقبل حتى وضع يده على النار.

فقالت: أي شي ء تصنع؟

فقال: أحرقها؛ لأنها عملت العمل.

فخرجت حتى أتت جماعة من بني إسرائيل، فقالت: الحقوا فلاناً فقد وضع يده على النار.

فأقبلوا فلحقوه وقد احترقت يده»(1).

هكذا يكون ذكر اللّه سبباً للتوبة وللردع عن الحرام.

من بركات ذكر اللّه دائماً

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلى على سعد بن معاذ، فقال: لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه تسعون ألف ملك، وفيهم جبرئيل يصلون عليه. فقلت: يا جبرئيل، بما استحق صلاتكم عليه؟ قال: بقراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قائماً وقاعداً، وراكباً وماشياً، وذاهباً وجائياً»(2).

ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً

عن أمير المؤمنين(عليه السلام): إن «ثلاثة نفر كانوا يمشون في صحراء إلى جبل، فأخذتهم السماء فألجأتهم إلى غار كانوا يعرفون، فدخلوه يتوقون به من المطر، وكان فوق الغار صخرة عظيمة تحتها مدرة هي راكبتها، فابتلت المدرة فتدحرجت الصخرة، فصارت في باب الغار فسدت وأظلمت عليهم المكان.

ص: 398


1- قصص الأنبياء(عليهم السلام) للراوندي: 183.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 396.

وقال بعضهم لبعض: قد عفا الأثر ودرس الخبر، ولا يعلم بنا أهلونا، ولوعلموا ما أغنوا عنّا شيئاً؛ لأنه لا طاقة للآدميين بقلب هذه الصخرة عن هذا الموضع، هذا واللّه قبرنا الذي فيه نموت ومنه نحشر.

ثم قال بعضهم لبعض: أوليس موسى بن عمران ومن بعده من الأنبياء(عليهم السلام) أمروا أنه إذا دهمتنا داهية أن ندعو اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الطيبين(عليهم السلام)؟

قالوا: بلى.

قالوا: فلا نعرف داهية أعظم من هذه.

فقالوا: ندعو اللّه بمحمد وآله الطيبين، ويذكر كل واحد منا حسنة من حسناته التي أراد اللّه بها، فلعل اللّه أن يفرج عنّا.

فقال أحدهم: اللّهم إن كنت تعلم أني كنت رجلاً كثير المال حسن الحال، أبني القصور والمساكن والدور، وكان لي أجراء، وكان فيهم رجل يعمل عمل رجلين، فلما كان عند المساء عرضت عليه أجرة واحدة فامتنع. وقال: إنما عملت عمل رجلين، فأنا أبغي أجرة رجلين. فقلت له: إنما شرطت عليك عمل رجل، والثاني فأنت به متطوع لا أجرة لك. فذهب وسخط ذلك وتركه عليَّ، فاشتريت بتلك الأجرة حنطة، فبذرتها فزكت ونمت، ثم أعدت بعد ما ارتفع من الأرض، فعظم زكاؤها ونماؤها، ثم أعدت بعد مرتفع من الثاني في الأرض، فعظم الزكاء والنماء، ثم ما زالت هكذا حتى عقدت به الضياع والقصور، والقرى والدور، والمنازل والمساكن، وقطعان الإبل والغنم، وصُوّار(1) العنز والدواب، والأثاث والأمتعة، والعبيد والإماء، والفراش والآلات، والنعم الجليلة، والدراهم والدنانير الكثيرة، فلما كان بعد سنين مر بي الأجير، وقد ساءت حاله وتضعضعت،

ص: 399


1- الصُوّار: قطيع البقر.

واستولى عليه الفقر وضعف بصره. فقال لي: يا عبد اللّه، أما تعرفني أنا أجيركالذي سخطت أجرة واحدة ذلك اليوم، وتركتها لغنائي عنها، وأنا اليوم فقير، وقد رضيت بها فأعطنيها. فقلت له: دونك هذا الضياع، والقرى والدور، والقصور والمساكن، وقطعان الإبل والبقر والغنم، وصُوّار العنز والدواب، والأثاث والأمتعة، والعبيد والإماء، والفراش والآلات، والنعم الجليلة، والدراهم والدنانير الكثيرة، فتناولها إليك أجمع، مباركة لك فهي لك. فبكى وقال: يا عبد اللّه، سوفت حقي ثم الآن تهزأ بي. فقلت: ما أهزأ بك وما أنا إلّا جاد مجد، فهذه كلها نتائج أجرتك تلك تولدت عنها، فالأصل كان لك فهذه الفروع كلها تابعة للأصل فهي لك، فسلمتها أجمع.

اللّهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت هذا رجاء ثوابك، وخوف عقابك، فافرج عنّا بمحمد الأفضل الأكرم، سيد الأولين والآخرين، الذي شرفته بآله أفضل آل النبيين، وأصحابه أكرم أصحاب المرسلين، وأمته خير الأمم أجمعين.

قال(عليه السلام): فزال ثلث الحجر، ودخل عليهم الضوء.

وقال الثاني: اللّهم إن كنت تعلم أنه كان لي بقرة أحتلبها، ثم أروح بلبنها على أمي، ثم أروح بسؤرها على أهلي وولدي، فأخرني عائق ذات ليلة، فصادفت أمي نائمة، فوقفت عند رأسها لتنتبه لا أنتبهها من طيب وسادها، وأهلي وولدي يتضاغون من الجوع والعطش، فما زلت واقفاً لا أحفل بأهلي وولدي، حتى انتبهت هي من ذات نفسها، وسقيتها حتى رويت، ثم عطفت بسؤرها على أهلي وولدي.

اللّهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء ثوابك وخوف عقابك، فافرج عنّا بحق محمد الأفضل الأكرم، سيد الأولين والآخرين، الذي شرفته بآله أفضل

ص: 400

آل النبيين، وأصحابه أكرم صحابة المرسلين، وأمته خير الأمم أجمعين.

قال(عليه السلام): فزال ثلث آخر من الحجر، وقوي طمعهم في النجاة.

وقال الثالث: اللّهم إن كنت تعلم أني هويتُ امرأة في بني إسرائيل فراودتها عن نفسها، فأبت عليَّ إلّا بمائة دينار ولم أكن أملك شيئاً، فما زلت أسلك براً وبحراً، وسهلاً وجبلاً، وأباشر الأخطار، وأسلك الفيافي والقفار، وأتعرض للمهالك والمتالف، أربع سنين حتى جمعتها وأعطيتها إياها، وأمكنتني من نفسها، فلما قعدت منها مقعد الرجل من أهله، ارتعدت فرائصها، وقالت لي: يا عبد اللّه، إني جارية عذراء فلا تفض خاتم اللّه إلّا بأمر اللّه عزّ وجلّ، وإنما حملني على أن أمكنك من نفسي الحاجة والشدة.

فقمت عنها وتركتها وتركت المائة الدينار عليها، اللّهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء ثوابك وخوف عقابك، فافرج عنّا بحق محمد الأفضل الأكرم، سيد الأولين والآخرين، الذي شرفته بآله أفضل آل النبيين، وأصحابه أكرم أصحاب المرسلين، وأمته خير الأمم أجمعين.

قال: فزال الحجر كله وتدحرج، وهو ينادي بصوت فصيح بيِّنٍ يعقلونه ويفهمونه: بحسن نياتكم نجوتم، وبمحمد الأفضل الأكرم، سيد الأولين والآخرين، المخصوص بآله أفضل آل النبيين، وبخير أمته سعدتم ونلتم أفضل الدرجات»(1).

2- ذكر الموت

الأمر الثاني: ذكر الموت دائماً، إذا أردنا أن نعرف من هو أذكى الناس، فهل هو الذي يملك مالاً كثيرا؟ أم صاحب العلم الكثير؟ أم الخطيب الذي يجلس

ص: 401


1- بحار الأنوار 91: 13.

تحت منبره آلاف الناس؟

ليس هؤلاء بأذكى الناس، بل الأذكى ما عرّفه لنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال: «أكيس الناس من كان أشد ذكراً للموت»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أكثروا من ذكر هادم اللذات».

فقيل: يا رسول اللّه، وما هادم اللذات؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الموت؛ فإن أكيس المؤمنين أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم للموت استعداداً»(2).

علينا أن لا نغفل عن الموت أبداً، ففي يوم ما كل واحد منا يموت، وكلنا نصبح تحت الأرض، فلا تبقى أنت، ولا أبقى أنا، ولا يبقى أحد ممن يعرفنا أو يقربنا.

فيلزم على الإنسان أن يفكر بالموت في كل يوم، ويعلم بأنه سيموت، ويتذكر ذلك في كل عمل يقوم به.

سُئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): كم مرة يلزم على الإنسان أن يتذكر الموت في اليوم؟ قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا أقل ثلاثين مرة.

وسأله بعضهم فقال: يا رسول اللّه، هل يحشر مع الشهداء أحد؟

قال: «نعم، من يذكر الموت في اليوم والليلة عشرين مرة»(3).

وهذا يعني: أن يتذكر الإنسان الموت من الصباح إلى الليل، ومن الليل إلى الصباح: عند ما ينهض من النوم صباحاً يتذكر أنه يموت، وكذلك عند ما يصلي، وعند ما يخرج من البيت، وعندما يذهب الى السوق، وعند ما يكون في الوظيفة،

ص: 402


1- من لا يحضره الفقيه 4: 395.
2- مستدرك الوسائل 2: 100.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 268.

وعند ما يخرج للواجب، وعندما، وعندما... إلى عشرين مرة أو ثلاثين أو أكثر،عند ذلك يمكنه أن يكون في الخط الصحيح، المرضي عند اللّه عزّ وجلّ.

والإنسان الذي هو دائماً في ذكر اللّه سبحانه، ولا ينسى الموت، يكون من الذين لا يقدر عليهم الشيطان عادة.

قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَٰتًا فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(1).

وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(2).

وعن أبي عبيدة الحذاء، قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): حدثني بما أنتفع به؟ فقال: «يا أبا عبيدة، أكثر ذكر الموت؛ فإنه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلّا زهد في الدنيا»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في حديث أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من أكثر ذكر الموت أحبه اللّه»(4).

وعن أبي بصير قال: شكوت إلى أبي عبد اللّه(عليه السلام) الوسواس(5). فقال: «يا أبا محمد، اذكر تقطع أوصالك في قبرك، ورجوع أحبابك عنك إذا دفنوك في حفرتك، وخروج بنات الماء(6) من منخريك، وأكل الدود لحمك؛ فإن ذلك

ص: 403


1- سورة البقرة، الآية: 28.
2- سورة آل عمران، الآية: 185.
3- الكافي 2: 131.
4- الكافي 2: 122.
5- لعل المراد بالوسواس هنا هموم الدنيا وغمومها، كما احتمله العلامة المجلسي(رحمه اللّه) في مرآة العقول 14: 251.
6- بنات الماء: الديدان التي تتولد من الرطوبات.

يسلي عنك ما أنت فيه».

قال أبو بصير: فو اللّه ما ذكرته إلّا سلّى عني ما أنا فيه من هم الدنيا(1).

وعن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال: «رأى الصادق(عليه السلام) رجلاً قد اشتد جزعه على ولده، فقال: يا هذا جزعت للمصيبة الصغرى وغفلت عن المصيبة الكبرى، لو كنت لما صار إليه ولدك مستعداً لما اشتد عليه جزعك، فمصابك بتركك الاستعداد له أعظم من مصابك بولدك»(2).

وفي كتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر، قال: «... فأكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم أنفسكم إليه من الشهوات فكفى بالموت واعظاً، وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت، فيقول: أكثروا ذكر الموت؛ فإنه هادم اللذات، حائل بينكم وبين الشهوات»(3).

إخلاص العبودية

ومن ثمار ذكر اللّه دائماً وذكر الموت دائماً هو الحصول على درجة الإخلاص، ومن أخلص للّه العبودية، فإنه يصل إلى مراحل عالية تفوق درجات الملائكة.

يذكر أن سفينة قد أشرفت على الغرق في البحر، فكان كل واحد من أهلها مضطرباً بين باك ومتضرع وداع، إلّا عبداً أسود ذا شفاه غليظة، فقد جلس لا يقول شيئاً، فقالوا له: يا عبد اللّه، لم لا تقول شيئاً؟

ولما كرروا عليه القول، رفع رأسه نحو السماء، وقال: إلهي إذا عملت بشرطك فاعمل أنت بشرطي أيضاً.

ص: 404


1- الكافي 3: 255.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 5.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 264.

وإذا بالسفينة استقرت، وأخذت تسير بكل هدوء في الماء، فأقبلوا نحوه،وقالوا له: من أنت؟

قال: أنا عبد أسود، عاهدت اللّه على أن أسمع كلامه وفي المقابل أن يستجيب لي ويسمع كلامي أيضا، وقد سمعت كلام اللّه إلى الآن، ثم عندما خاطبت اللّه قائلاً: إلهي اسمع كلامي واستجب لي، سمع كلامي واستجاب دعائي.

إذن كونوا مع اللّه دائماً. ولا تغفلوا عن ذكر الموت.

هذان موضوعان يلزم على كل إنسان أن يتحلى بهما، وخاصة من كان في سلك الشرطة والحرس وما أشبه.

قال سبحانه: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(1).

وقال جلّ جلاله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(2).

وقال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}(3).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس، إنما هو اللّه والشيطان، والحق والباطل، والهدى والضلالة، والرشد والغي، والعاجلة والآجلة، والعاقبة والحسنات والسيئات، فما كان من حسنات فللّه، وما كان من

ص: 405


1- سورة البقرة، الآية: 112.
2- سورة الأنعام، الآية: 162- 163.
3- سورة الكهف، الآية: 110.

سيئات فللشيطان لعنه اللّه»(1).

وعن أبي الحسن الرضا(عليه السلام): «أن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقول: طوبى لمن أخلص للّه العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينس ذكر اللّه بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطي غيره»(2).

وعن السندي، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «ما أخلص عبد الإيمان باللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - أو قال: ما أجمل عبد ذكر اللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - إلّا زهده اللّه عزّ وجلّ في الدنيا، وبصّره داءها ودواءها، فأثبت الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، ثم تلا:

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(3)، فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلاً، أو مفترياً على اللّه عزّ وجلّ وعلى رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى أهل بيته(عليهم السلام) إلّا ذليلاً»(4).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام)، في حديث: «وبالإخلاص يكون الخلاص»(5).

وعن سفيان بن عيينة، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في حديث قال: «الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ»(6).

ص: 406


1- الكافي 2: 16.
2- الكافي 2: 16.
3- سورة الأعراف، الآية: 152.
4- الكافي 2: 16.
5- الكافي 2: 468.
6- الكافي 2: 16.

3- الثقافة الإسلامية

الأمر الثالث مما يلزم الاهتمام به: الثقافة الإسلامية، فهناك الكثير من الأعداء الذين يتربصون بالأمة ويريدون تغيير ثقافتها لإزالة هذا النظام، فإننا اليوم بحاجة أكثر إلى الإعلام والتبليغ، للدفاع عن أنفسنا وعن أمتنا المظلومة.

وعلى أقل التقادير يلزم توزيع عشرات الملايين من الكتب التوعوية في شتى المجالات على شعوبنا وعلى الأمة الإسلامية فرداً فرداً، حتى تكون حصة كل واحد من أفراد الأمة كتاباً واحداً. فإذا كان تعداد النفوس أربعين مليوناً يلزم طباعة أربعين مليون كتاب، حول نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وحول أمير المؤمنين(عليه السلام)، وحول فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وحول الإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام)، وسائر الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، وكذلك حول الثقافة الإسلامية، والسياسة الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي، وعلم الاجتماع في الإسلام، و... .

ثورة الإمام الحسن(عليه السلام)

فإن هناك شبهات عديدة ينبغي التصدي لها، فربما يسمع الإنسان من البعض بأن الإمام الحسن(عليه السلام) لم يكن ثورياً - على سبيل المثال - يريدون بذلك أن يثبطوا من عزم الأمة.

ولكن هذا الكلام كذب محض، وقد تناولنا الموضوع في كتاب تحت عنوان: (ثورة الإمام الحسن(عليه السلام)).

إن الإمام الحسن(عليه السلام) كان ثورياً أكثر من الإمام الحسين(عليه السلام) - إن صح التعبير - على تفصيل ذكرناه في الكتاب المذكور.

إذن يلزم نشر ثقافة الإسلام والقرآن وسيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) في أوساط الأمة، وخاصة بين الشرطة والحرس حتى يكونوا على بصيرة وثقافة إسلامية عالية.

ص: 407

نحن وأهل البيت(عليهم السلام)

نحن بحمد اللّه تعالى من أتباع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وكذلك الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، والإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام)، والإمام زين العابدين، والإمام الباقر، والإمام الصادق، والإمام الكاظم، والإمام الرضا، والإمام الجواد، والإمام الهادي، والإمام العسكري، والإمام المهدي المنتظر(عليهم السلام).

فعلينا أن لا نحيد عن طريقهم وهديهم ولو بقدر شعرة، فإن في مخالفتهم الضلال والنار، وفي التمسك بهم والسير على نهجهم السعادة والفوز بالجنة والرضوان.

وباتباع أهل البيت(عليهم السلام) يمكننا أن نهدي العالم إلى الصراط المستقيم، حتى يكون العالم تحت لواء هؤلاء الطاهرين. وهذا اليوم قريب جداً إن شاء اللّه تعالى.

إذن الأمر الثالث هو نشر الثقافة الإسلامية، فينبغي أن يسعى كل واحد منا بالسعي الحثيث من أجل نشر الثقافة الإسلامية الصحيحة وهي تعاليم القرآن والعترة، في كافة المدن وبين جميع الناس، وهذه مسؤولية ملقاة على عاتقكم وعاتقنا.

قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال جلّ جلاله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2).

ص: 408


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة آل عمران، الآية: 18.

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألّا إن اللّه يحب بغاة العلم»(1).

وعن أبي إسحاق السبيعي عمّن حدثه، قال: سمعت أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: «أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألّا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسوم مضمون لكم، قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه»(2).

وعن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «عليكم بالتفقه في دين اللّه ولا تكونوا أعراباً؛ فإنه من لم يتفقه في دين اللّه لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة، ولم يزك له عملاً»(3).

وعن ابن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)، قال: «دخل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المسجد، فإذا جماعة قد أطافوا برجل، فقال: ما هذا؟ فقيل: علاّمة. قال: وما العلاّمة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيام الجاهلية، والأشعار العربية. فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه»(4).

وعن أبي البختري، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهِم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه؛ فإن فينا أهل

ص: 409


1- الكافي 1: 30.
2- الكافي 1: 30.
3- الكافي 1: 31.
4- الكافي 1: 32.

البيت(عليهم السلام) في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»(1).

4- خدمة الناس ومساعدة الفقراء

الأمر الرابع مما يلزم الاهتمام به: خدمة الناس وقضاء حوائجهم، ومساعدة الفقراء والمستضعفين، فلا تقولوا: لا نملك شيئاً، وإن راتبنا الشهري قليل ولا يكفينا، بل على الإنسان أن يجعل حصة في أمواله للسائل والمحروم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(2).

فإذا كان يملك ألفاً ودفع - مثلاً - مائة منه في سبيل اللّه، فهذا (الإنفاق)، وإذا تصدق بنصفه تسمى هذه (المواساة) وهي من مكارم أخلاق المؤمنين، وإذا دفع تسعمائة وأبقى لنفسه مائة فقط، فهذا هو (الإيثار) وهو من أخلاق المخلصين، أما إذا لم يبق لنفسه شيئاً فهي الدرجة العالية من الإيثار، كما قال عزّ وجلّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ}(3).

يعني إذا ملكتَ قرصاً واحداً من الخبز وكنتَ جائعاً، وإذا بفقير سألك هذا القرص، فعند ما تتصدق به وتقدّمه على نفسك فإنه الإيثار بعينه، والأئمة الطاهرون(عليهم السلام) هم خير أسوة في كل هذه الفضائل، حتى نزلت في حقهم السور والآيات القرآنية العديدة، كما ورد في شأن نزول سورة الدهر المباركة:

روى الشيخ الصدوق(رحمه اللّه) في أماليه عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}(4):

ص: 410


1- الكافي 1: 32.
2- سورة المعارج، الآية: 24- 25.
3- سورة الحشر، الآية: 9.
4- سورة الإنسان، الآية: 7.

قال: «مرض الحسن والحسين(عليهما السلام) وهما صبيان صغيران، فعادهما رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومعه رجلان، فقال أحدهما: يا أبا الحسن لو نذرت في ابنيك نذراً إن اللّه عافاهما.

فقال: أصوم ثلاثة أيام شكراً للّه عزّ وجلّ.

وكذلك قالت فاطمة(عليها السلام).

وقال الصبيان: ونحن أيضاً نصوم ثلاثة أيام.

وكذلك قالت جاريتهم فضة.

فألبسهما اللّه عافية، فأصبحوا صياماً وليس عندهم طعام، فانطلق علي(عليه السلام) إلى جار له من اليهود يقال له: شمعون، يعالج الصوف، فقال: هل لك أن تعطيني جزة من صوف تغزلها لك ابنة محمد بثلاثة أصوع(1) من شعير؟

قال: نعم، فأعطاه، فجاء(عليه السلام) بالصوف والشعير، وأخبر فاطمة(عليها السلام) فقبلت وأطاعت.

ثم عمدت فغزلت ثُلث الصوف، ثم أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرصاً. وصلى علي(عليه السلام) مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المغرب، ثم أتى منزله، فوضع الخوان وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي(عليه السلام) إذا مسكين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني مما تأكلون أطعمكم اللّه على موائد الجنة. فوضع(عليه السلام) اللقمة من يده ثم قال:

فاطم ذات المجد واليقين *** يا بنت خير الناس أجمعين

أما ترين البائس المسكين *** جاء إلى الباب له حنين

ص: 411


1- الصاع: ما يقارب ثلاثة كيلوات.

يشكو إلى اللّه ويستكين *** يشكو إلينا جائعاً حزين

كل امرئ بكسبه رهين *** من يفعل الخير يقف سمين

موعده في جنة رهين *** حرمها اللّه على الضنين

وصاحب البخل يقف حزين *** تهوي به النار إلى سجين

شرابه الحميم والغسلين

فأقبلت فاطمة(عليها السلام) تقول:

أمرك سمع يا بن عم وطاعة *** ما بيَ من لؤم ولا وضاعة(1)

غذيت باللب وبالبراعة *** أرجو إذا أشبعت من مجاعة

أن ألحق الأخيار والجماعة *** وأدخل الجنة في شفاعة

وعمدت(عليها السلام) إلى ما كان على الخوان فدفعته إلى المسكين، وباتوا جياعاً وأصبحوا صياماً لم يذوقوا إلّا الماء القراح.

ثم عمدت(عليها السلام) إلى الثلث الثاني من الصوف فغزلته، ثم أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة أقرصة لكل واحد قرصاً.

وصلّى علي(عليه السلام) المغرب مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم أتى منزله، فلما وضع الخوان بين يديه وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي(عليه السلام) إذا يتيم من يتامى المسلمين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا يتيم من يتامى المسلمين أطعموني مما تأكلون، أطعمكم اللّه على موائد الجنة.

فوضع علي(عليه السلام) اللقمة من يده ثم قال:

فاطم بنت السيد الكريم *** بنت نبي ليس بالزنيم

قد جاءنا اللّه بذا اليتيم *** من يرحم اليوم فهو رحيم

ص: 412


1- في بعض النسخ: ولا ضراعة.

موعده في جنة النعيم *** حرمها اللّه على اللئيم

وصاحب البخل يقف ذميم *** تهوي به النار إلى الجحيم

شرابها الصديد والحميم

فأقبلت فاطمة(عليها السلام) وهي تقول:

فسوف أعطيه ولا أبالي *** و أؤثر اللّه على عيالي

أمسوا جياعاً وهم أشبالي *** أصغرهم يقتل في القتال

بكربلا يقتل باغتيال *** لقاتليه الويل مع وبال

يهوي في النار إلى سفال *** كُبُوله زادت على الأكبال

ثم عمدت(عليها السلام) فأعطته جميع ما على الخوان، وباتوا جياعاً لم يذوقوا إلّا الماء القراح(1)، وأصبحوا صياماً.

وعمدت فاطمة(عليها السلام) فغزلت الثلث الباقي من الصوف، وطحنت الصاع الباقي وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص لكل واحد قرصاً.

وصلّى علي(عليه السلام) المغرب مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم أتى منزله، فقرب إليه الخوان وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي(عليه السلام) إذا أسير من أسراء المشركين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا؟

فوضع علي(عليه السلام) اللقمة من يده ثم قال:

فاطم يا بنت النبي أحمد *** بنت النبي سيد مسود

قد جاءكِ الأسير ليس يهتدي *** مكبلاً في غله مقيد

يشكو إلينا الجوع قد تقدد *** من يطعم اليوم يجده في غد

ص: 413


1- القراح، بفتح القاف: الماء الخالص.

عند العلي الواحد الموحد *** ما يزرع الزارع سوف يحصد

فأعطي(1)

ولا تجعليه ينكد

فأقبلت فاطمة(عليها السلام) وهي تقول:

لم يبق مما كان غير صاع *** قد دبرت كفي مع الذراع

شبلاي واللّه هما جياع *** يا رب لا تتركهما ضياع(2)

أبوهما للخير ذو اصطناع *** عبل الذراعين طويل الباع(3)

وما على رأسي من قناع *** إلّا عباً نسجتها بصاع

وعمدوا إلى ما كان على الخوان فأتوه وباتوا جياعاً، وأصبحوا مفطرين وليس عندهم شيء.

قال شعيب في حديثه: وأقبل علي(عليه السلام) بالحسن والحسين(عليهما السلام) نحو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما بصر بهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: يا أبا الحسن شد ما يسوؤني ما أرى بكم، انطلق إلى ابنتي فاطمة(عليها السلام).

فانطلقوا إليها(عليها السلام) وهي في محرابها، قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها(4)، فلما رآها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ضمها إليه وقال: واغوثاه باللّه، أنتم منذ ثلاث في ما أرى.

فهبط جبرائيل(عليه السلام) فقال: يا محمد خذ ما هيأ اللّه لك في أهل بيتك.

قال: وما آخذ يا جبرائيل؟

قال: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} حتى إذا بلغ {إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ

ص: 414


1- وفي بعض النسخ: (فاعطنه).
2- الضَياع: الهلاك.
3- الباع: قدر مد اليدين. ويقال: فلان طويل الباع ورحب الباع: أي كريم وواسع الخلق ومقتدر.
4- غارت عينه: دخلت في الرأس وانخسفت.

جَزَاءًوَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا}(1).

فوثب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى دخل منزل فاطمة(عليها السلام) فرأى ما بهم، فجمعهم ثم انكب عليهم يبكي ويقول: أنتم منذ ثلاث أيام في ما أرى... .

فهبط عليه جبرائيل(عليه السلام) بهذه الآيات:

{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}(2).

قال: هي عين في دار النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين.

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) وجاريتهم.

{وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} يقولون عابساً كلوحاً(3).

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ} يقول: على شهوتهم للطعام وإيثارهم له.

{مِسْكِينًا} من مساكين المسلمين {وَيَتِيمًا} من يتامى المسلمين {وَأَسِيرًا} من أسارى المشركين.

ويقولون إذا أطعموهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} قال: واللّه ما قالوا هذا لهم ولكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر اللّه بإضمارهم، يقولون: لا نريد جزاءً تكلِّفوننا(4) به ولا شكوراً تثنون علينا به، ولكنا إنما أطعمناكم لوجه اللّه وطلب ثوابه.

قال اللّه تعالى ذكره: {فَوَقَىٰهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّىٰهُمْ نَضْرَةً} في الوجوه {وَسُرُورًا} في القلوب {وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً} يسكنونها {وَحَرِيرًا}يفترشونه

ص: 415


1- سورة الإنسان، الآية: 1-22.
2- سورة الإنسان، الآية: 5-6.
3- كَلح وجهه: عبس فأفرط في تعبسه.
4- في بحار الأنوار: تكافوننا.

ويلبسونه{مُّتَّكِِٔينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} والأريكة: السرير عليه الحجلة {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا}(1).

قال ابن عباس: فبينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا مثل الشمس قد أشرقت لها الجنان، فيقول أهل الجنة: يا رب إنك قلت في كتابك: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا}؟

فيرسل اللّه جلّ اسمه إليهم جبرئيل فيقول: ليس هذه بشمس ولكن علياً وفاطمة(عليهما السلام) ضحكا فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، ونزلت {هَلْ أَتَىٰ} فيهم إلى قوله تعالى: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا}(2).

إذن الموضوع الرابع، قضاء حوائج الناس ومساعدة المحتاجين، كالذين لا منزل ولا مأوى لهم، والشباب العزاب، والفتيات العازبات، والمرضى، ومن لا تصل يده إلى أحد.

فلا يقول الإنسان: ليست هذه مسؤوليتي، بل على اللجان المختصة أن تهتم بأمر هؤلاء المساكين، نعم يلزم على اللجان ذلك، كما يلزم على كل شخص أن يساهم في قضاء حوائج الناس. عند ذلك يعم الخير والبركة، كما في الحديث الشريف:

«الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»(3).

أما إذا قال الإنسان: هذه من مسؤولية الدولة، أو التجار، أو المراجع والحوزات العلمية، أو من أشبه، فإنه يخالف ما ورد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم

ص: 416


1- سورة الإنسان، الآية: 5-13.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 257.
3- عوالي اللئالي 1: 361.

مسؤول عن رعيته»(1).

نعم، ينبغي للمسؤولين أن يقللوا من مصارفهم ويساعدوا الناس بذلك، كما ينبغي إلغاء الدوائر الزائدة التي لا فائدة فيها إلّا عرقلة أمور الناس، فإن الدوائر في الإسلام قليلة جداً، والأصل هو حرية الإنسان في التصرف إلّا في ما كان يخالف الشرع ويضر بالناس.

فأنت أيها المسؤول، حبذا لو أقللت من الموظفين ومن المصروفات غير الضرورية وساعدت الناس.

وهذا لا يعني عدم مسؤولية كل فرد فرد منا.

روايات في قضاء الحوائج

عن المفضل، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: قال لي: «يا مفضل، اسمع ما أقول لك، واعلم أنه الحق وافعله، وأخبر به عِلْية(2) إخوانك». قلت: جعلت فداك، وما عِلْية إخواني؟ قال: «الراغبون في قضاء حوائج إخوانهم». قال: ثم قال: «ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى اللّه عزّ وجلّ له يوم القيامة مائة ألف حاجة من ذلك أولها الجنة، ومن ذلك أن يدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنة بعد أن لا يكونوا نُصّاباً»(3). وكان المفضل إذا سأل الحاجة أخاً من إخوانه، قال له: أما تشتهي أن تكون من علية الإخوان(4).

وعن المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «إن اللّه عزّ وجلّ خلق خلقاً

ص: 417


1- جامع الأخبار: 119.
2- عِلْية إخوانك: أي شريفهم ورفيعهم.
3- المراد بالنُصّاب في عرف أصحاب الأئمة(عليهم السلام): المخالفون المتعصبون في مذهبهم، فغير النُصّاب هم المستضعفون.
4- الكافي 2: 192.

من خلقه انتجبهم لقضاء حوائج فقراء شيعتنا ليثيبهم على ذلك الجنة؛ فإن استطعت أن تكون منهم فكن» ثم قال: «لنا واللّه رب نعبده لا نشرك به شيئاً»(1).

وعن صدقة الأحدب، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «قضاء حاجة المؤمن خير من عتق ألف رقبة، وخير من حملان ألف فرس في سبيل اللّه»(2).

وعن جابر، عن الإمام محمد بن علي(عليهما السلام)، قال: «لقضاء حاجة مسلم أفضل من عتق عشر نسمات، واعتكاف شهر في المسجد»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلّا ناداه اللّه تبارك وتعالى عليَّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنة»(4).

المسلمون الأوائل

في واحدة من غزوات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي غزوة تبوك، كان المسلمون في مضيقة اقتصادية، فكانوا يقسمون التمرة الواحدة نصفين، فالنصف الأول يأكله الشخص الأول، والنصف الثاني حصة الشخص الآخر(5)، فكان المقاتلون وحتى في ميدان الحرب يساعدون المحتاجين ويواسونهم في صعوبة العيش.

مساعدة عموم الناس

كما يلزم أن تكون المساعدة لعموم الناس، لا لفئة دون فئة، بل تشمل الجميع الصغار والكبار، الرجال والنساء، السليم وذا العاهة وهكذا؛ لأن ديننا الحنيف أكد على الرحمة والتراحم بين جميع الأفراد، فقد ورد في الحديث الشريف عن

ص: 418


1- الكافي 2: 193.
2- الكافي 2: 193.
3- مستدرك الوسائل 7: 569.
4- الكافي 2: 194.
5- انظر تفسير جوامع الجامع 2: 101.

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة»(1)، وأن من لا يرحم لا يُرحم.

إن صفة الرحمة والتحلي بها ضرورية جداً للكل، بما فيهم الحرس والشرطة، حتى يتمكنوا بذلك من كسب ود ومحبة الناس لهم، وبذلك يتعاونون معهم في القضاء على المجرمين ويقتلعون جذور الجريمة من المجتمع، وبدون ذلك فسوف لن يتمكنوا من أداء واجبهم بصورة مرضية عند اللّه والمجتمع.

كما أن التعامل الفظ والسيء مع الناس، وعلى أنهم متهمين حتى يثبتوا براءتهم، يسلبهم المحبة من القلوب ويوجب عدم التعاون معهم؛ لأن النفس الإنسانية جبلت على حب من أحسن إليها، وهذا ما أثبتته التجارب أيضا.

لذا يلزم على الحرس والشرطة اتباع تعاليم الإسلام وأهل البيت(عليهم السلام) في كيفية التعامل مع الناس بالحسنى وترك الإساءة إليهم، وقضاء حوائجهم، ونبذ الأساليب الفظة التي تحط من كرامة الإنسان وتهدر حقوقه، وأما المجرم فينبغي التعامل معه على أساس الشريعة والقانون، وعدم التهاون في أمره حتى لا يطمع ضعاف النفس في التفكير بالجريمة.

خلاصة الأمور الأربعة

وخلاصة ما ذكرنا من الأمور الأربعة والتي يلزم خاصة على الحرس والشرطة الالتزام بها، هي: (ذكر اللّه) و(ذكر الموت) و(الثقافة العالية) و(خدمة الناس).

السلاح للخدمة

وهناك موضوع آخر يخص الشرطة والحرس ومن أشبه، وهو السلاح، إن السلاح من الأمور المهمة حتى قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة تحت ظلال

ص: 419


1- بحار الأنوار 74: 167.

السيوف»(1)، فالمسلح الذي يخدم بسلاحة الأمة هو من أهل الجنة، على عكس المسلح الإرهابي الذي يخيف الناس ويرعب الآمنين فإنه من أهل النار.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها، أخافه اللّه عزّ وجلّ يوم لا ظل إلّا ظله»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أشار على أخيه المسلم بسلاحه، لعنته الملائكة حتى ينحيه عنه»(3).

فيلزم على الشرطة والحرس حفظ أمن الناس وخدمتهم بما أمر به الإسلام، أما إذا أخافوا أحداً من غير استحقاق، أو - لا سمح اللّه - قتلوا مظلوماً، فهو من أكبر الكبائر، قال تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(4).

أصناف الناس في القيامة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يحشر الناس على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب، وثلث ينسلون على أقدامهم نسلاً، وثلث على وجوههم»(5).

أيها الإخوة المسلحون، يأتي كل شخص يوم القيامة ومعه علامة تميزه، فالتجار لهم علامة خاصة، والعلماء لهم علامة خاصة، والشرطة ومن أشبه لهم علامة خاصة، فإياكم إياكم! أن تأتوا يوم القيامة وفي عنقكم ظلم أحد، أو قطرة دم ظلماً أو عدواناً.

ص: 420


1- جامع الأخبار: 83.
2- الكافي 2: 368.
3- النوادر للراوندي: 33.
4- سورة المائدة، الآية: 32.
5- روضة الواعظين 2: 353.

في الأحاديث أنه: يحشر يوم القيامة فوج وقد كتب على جباههم: آيسون من رحمة اللّه!

فهذا يكون مصيره إلى النار وبئس المصير.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة اللّه»(1).

وشطر الكلمة أي جزء الكلمة، يعني أقل من الكلمة الواحدة.

فالسلاح قد يذهب بصاحبه إلى الجنة، والسلاح نفسه قد يذهب بصاحبه إلى النار. وهذا كما لو أعطي شخص سكيناً، فإنه يمكنه أن يقطع به اللحم في المطبخ، ويساعد أهله في تهيئة الطعام، حيث يثاب على ذلك، ويمكنه أن يطعن به شخصاً ويرديه قتيلاً، فيأخذ إلى حبل المشنقة قبل عذاب الآخرة.

عن أبي خالد القماط، عن حمران، قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): ما معنى قول اللّه عزّ وجلّ: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(2)، قال: قلت: وكيف فكأنما قتل الناس جميعاً، فإنما قتل واحداً؟ فقال: «يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدة عذاب أهلها، لو قتل الناس جميعاً إنما كان يدخل ذلك المكان». قلت: فإنه قتل آخر؟ قال: «يضاعف عليه»(3).

وروى جابر، عن أبي جعفر(عليه السلام)، قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أول ما يحكم اللّه عزّ وجلّ فيه يوم القيامة الدماء، فيوقف ابنا آدم(عليه السلام) فيفصل بينهما، ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء، حتى لا يبقى منهم أحد من الناس بعد ذلك، حتى

ص: 421


1- عوالي اللئالي 2: 333.
2- سورة المائدة، الآية: 32.
3- الكافي 7: 271.

يأتي المقتول بقاتله فيشخب دمه في وجهه، فيقول: أنت قتلته؟ فلا يستطيع أن يكتم اللّه حديثاً»(1).

وعن أبي الجارود، عن محمد بن علي(عليهما السلام)، قال: «ما من نفس تقتل برة ولا فاجرة إلّا وهي تحشر يوم القيامة متعلقةً بقاتله بيده اليمنى، ورأسه بيده اليسرى، وأوداجه تشخب دماً، يقول: يا رب سل هذا فيهم قتلني؟ فإن كان قتله في طاعة اللّه عزّ وجلّ أثيب القاتل الجنة، وأذهب بالمقتول إلى النار. وإن قال: في طاعة فلان. قيل له: اقتله كما قتلك. ثم يفعل اللّه عزّ وجلّ فيهما بعد مشيته»(2).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين(عليهما السلام)، قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا يغرنكم رحب الذراعين بالدم؛ فإن له عند اللّه عزّ وجلّ قاتلاً لا يموت». قالوا: يا رسول اللّه، وما قاتل لا يموت؟ فقال: النار»(3).

وعن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «لايزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، وقال: لا يوفق قاتل المؤمن متعمداً للتوبة»(4).

روايات حول الجند والشرطة

جنود اللّه

يصف أمير المؤمنين علي(عليه السلام) - في نهج البلاغة(5) - الجند والشرطة بأنهم جنود اللّه، ثم يبيّن صفاتهم وما يجب عليهم:

قال(عليه السلام): «واعلم أنّ الرّعيّة طبقاتٌ، لا يصلح بعضها إلّا ببعضٍ، ولا غنى

ص: 422


1- من لا يحضره الفقيه 4: 96.
2- الكافي 7: 272.
3- الكافي 7: 272.
4- تفسير العياشي 1: 267.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 ومن كتاب كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.

ببعضها عن بعضٍ، فمنها جنود اللّه، ومنها كتّاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرّفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذّمّة ومسلمة النّاس، ومنها التّجّار وأهل الصّناعات، ومنها الطّبقة السّفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلٌّ قد سمّى اللّه له سهمه، ووضع على حدّه فريضةً في كتابه، أو سنّة نبيّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عهداً منه عندنا محفوظاً».

لا قوام للرعية إلّا بالجنود

ثم قال(عليه السلام): «فالجنود بإذن اللّه، حصون الرّعيّة، وزين الولاة، وعزّ الدّين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرّعيّة إلّا بهم.

ثمّ لا قوام للجنود إلّا بما يخرج اللّه لهم من الخراج، الّذي يقوون به على جهاد عدوّهم، ويعتمدون عليه في ما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم.

ثمّ لا قوام لهذين الصّنفين إلّا بالصّنف الثّالث: من القضاة والعمّال والكتّاب لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور وعوامّها.

ولا قوام لهم جميعاً إلّا بالتّجّار وذوي الصّناعات في ما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من التّرفّق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم.

ثمّ الطّبقة السّفلى من أهل الحاجة والمسكنة، الّذين يحقّ رفدهم ومعونتهم».

ولّ من جنودك أنصحهم للّه

«فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممّن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضّعفاء، وينبو على الأقوياء، وممّن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضّعف».

ص: 423

الجند وذوي المروءات

«ثمّ الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصّالحة، والسّوابق الحسنة، ثمّ أهل النّجدة والشّجاعة، والسّخاء والسّماحة، فإنّهم جماعٌ من الكرم، وشعبٌ من العرف».

تفقّد أُمور الجند

«ثمّ تفقّد من أمورهم ما يتفقّد الوالدان من ولدهما، ولايتفاقمنّ في نفسك شيءٌ قوّيتهم به، ولا تحقرنّ لطفاً تعاهدتهم به وإن قلّ، فإنّه داعيةٌ لهم إلى بذل النّصيحة لك، وحسن الظّنّ بك، ولا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتّكالاً على جسيمها، فإنّ لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه».

المواسي للجنود

«وليكن آثر رءوس جندك عندك: من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته، بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتّى يكون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدوّ.

فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، وإنّ أفضل قرّة عين الولاة: استقامة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرّعيّة، وإنّه لا تظهر مودّتهم إلّا بسلامة صدورهم، ولا تصحّ نصيحتهم إلّا بحيطتهم على ولاة الأمور، وقلّة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدّتهم. فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثّناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإنّ كثرة الذّكر لحسن أفعالهم تهزّ الشّجاع، وتحرّض النّاكل إن شاء اللّه.

ثمّ اعرف لكلّ امرئٍ منهم ما أبلى، ولا تضمّنّ بلاء امرئٍ إلى غيره، ولا تقصّرنّ به دون غاية بلائه، ولا يدعونّك شرف امرئٍ إلى أن تعظم من بلائه ما كان

ص: 424

صغيراً، ولا ضعة امرئٍ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً».

ويؤكد أمير المؤمنين(عليه السلام) على أن الشرطة والحرس ينبغي أن لا يمنعوا الناس من الوصول إلى القادة، حتى يمكنهم التكلم مع الولاة وبث الشكوى إليهم.

استماع شكوى الناس

وقال(عليه السلام): «واجعل لذوي الحاجات منك قسماً، تفرّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عامّاً، فتتواضع فيه للّه الّذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتعٍ، فإنّي سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في غير موطنٍ: لن تقدّس أمّةٌ لا يؤخذ للضّعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتعٍ»(1).

أهمية الجند

اشارة

في كتاب (تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم)(2) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال:

«الجنود حصون الرعية».

وقال(عليه السلام): «الجنود عزّ الدين، وحصون الولاة».

وقال(عليه السلام): «من خذل جنده نصر أضداده».

آفة الجند

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الجبن آفة العجز سخافة».

وقال(عليه السلام): «آفة الجند مخالفة القادة».

وقال(عليه السلام): «الفرار أحد الذلين».

ص: 425


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53، ومن كتاب كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 333-335.

وقال(عليه السلام): «استحيوا من الفرار؛ فإنه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب».

وقال(عليه السلام): «عاودوا الكرّ واستحيوا من الفرّ؛ فإنه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب».

وقال(عليه السلام): «إن في الفرار موجدة(1) اللّه سبحانه، والذل اللازم، والعار الدائم. وإن الفارّ غير مزيد في عمره، ولا مؤخر عن يومه».

وقال(عليه السلام): «وايم اللّه، لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من سيوف الآخرة، وأنتم لهاميم(2) العرب، والسنام الأعظم، فاستحيوا من الفرار؛ فإن فيه ادراع العار، وولوج النار».

نكات حربية

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الأخذ على العدو بالفضل أحد الظفرين».

وقال(عليه السلام): «الاستصلاح للأعداء بحسن المقال وجميل الأفعال، أهون من ملاقاتهم ومغالبتهم بمضيض القتال».

وقال(عليه السلام): «زكاة الظفر الإحسان».

وقال(عليه السلام): «الرأي بتحصين الأسرار».

وقال(عليه السلام): «أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان».

وقال(عليه السلام): «عثرة الاسترسال لا تستقال».

وقال(عليه السلام): «قد يخدع الأعداء».

وقال(عليه السلام): «من نام عن عدوه أنبهته [ نبهته ] المكايد».

وقال(عليه السلام): «من أبغضك أغراك».

ص: 426


1- موجدة اللّه: غضبه.
2- اللّهاميم، جمع لُهوم: الجواد من الناس والخيل.

وقال(عليه السلام): «لا تغترن بمجاملة العدو؛ فإنه كالماء وإن أطيل إسخانه بالنار، لايمتنع [لم يمنع] من إطفائها».

وقال(عليه السلام): «استعمل مع عدوك مراقبة الإمكان، وانتهاز الفرصة تظفر».

وقال(عليه السلام): «كافل النصر الصبر».

وقال(عليه السلام): «لا تغالب من لا تقدر على دفعه».

وقال(عليه السلام): «لا توقع بالعدو قبل القدرة».

وقال(عليه السلام): «إن وقعت بينك وبين عدوك قصة عقدت بها صلحاً وألبسته بها ذمة، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة بينك وبين ما أعطيت من عهدك».

وقال(عليه السلام): «رد الحجر من حيث جاءك؛ فإنه لا يرد الشر إلّا بالشر».

وقال(عليه السلام): «من أظهر عداوته قل كيده».

وقال(عليه السلام): «من دارى أضداده أمن المحارب».

وقال(عليه السلام): «لا تستصغرن عدواً وإن ضعف».

وقال(عليه السلام): «لا تحارب من يعتصم بالدين؛ فإن مغالب الدين محروب».

وقال(عليه السلام): «لا تغالب من يستظهر بالحق؛ فإن مغالب الحق مغلوب».

وقال(عليه السلام): «لا تعرض لعدوك وهو مقبل؛ فإن إقباله يعينه عليك، ولا تعرض له وهو مدبر؛ فإن إدباره يكفيك أمره».

وقال(عليه السلام): «الفرار في أوانه يعدل الظفر في زمانه».

وقال(عليه السلام): «عضوا على النواجذ؛ فإنه أنبا للسيوف عن الهام».

وقال(عليه السلام): «غضوا الأبصار في الحروب؛ فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب».

وقال(عليه السلام): «قدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس؛ فإنه أنبا

ص: 427

للسيوف عن الهام».

وقال(عليه السلام): «نافحوا بالظبى، وصلوا السيوف بالخطى، وطيبوا عن أنفسكم نفساًوامشوا إلى الموت مشياً سجحاً».

وقال(عليه السلام): «لا تدعون إلى مبارزة، وإن دعيت إليها فأجب؛ فإن الداعي إليها باغ، والباغي مصروع».

وقال(عليه السلام): «لا تشتدن عليكم فرّة بعدها كرة، ولا جولة بعدها صولة، وأعطوا السيوف حقوقها، وقصوا للحرب مصارعها، واذمروا أنفسكم على الطعن الدعسي، والضرب الطلخفي، وأميتوا الأصوات؛ فإنه أطرد للفشل».

وقال(عليه السلام): «التووا في أطراف الرماح؛ فإنه أَمْوَر للأسنة»(1).

شُرطة الخَميس لغة

الشُرْطَة بالضم والسكون والفتح: الجند، والجمع شُرَط مثل رُطَب.

والشُرَط على لفظ الجمع أعوان السلطان والولاة، وأول كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت، سموا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها للأعداء، الواحدة شُرطة كغرف وغُرفة.

وصاحب الشُرطة: يعني الحاكم.

وإذا نسب إلى هذا قيل: شُرْطي بالسكون رداً إلى واحدة كتركي.

والخميس: الجيش(2).

وإذا أعجل إنسان رسولاً إلى أمر قيل: أشرطه وأفرطه، كأنه اشتق من الأشراط التي هي أوائل الأشياء.

ص: 428


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 333-335.
2- مجمع البحرين 4: 257، مادة (شرط).

والشرطي منسوب إلى الشرطة، والجمع: شُرَط، وبعض يقول: شرطي ينسبه إلى الجماعة. والشرط سُمُّوا شُرطاً؛ لأن شرطة كل شي ء خياره، وهم نخبةالسلطان من جنده(1).

وأَشْرَط فلان نفسه لكذا وكذا: أَعْلَمها له وأَعَدَّها؛ ومنه سمي الشُّرَطُ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يُعْرفون بها، الواحد شُرَطةٌ وشُرَطِيٌّ(2).

الخميس: الجيش، سمي به لأنه يقسم بخمسة أقسام: المقدمة، والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب. وقيل: لأنه تخمس فيه الغنائم(3).

شُرطة الخَميس اصطلاحاً

كانت شرطة الخميس هي النخبة من قوات أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهي أول كتيبة في مقدمة الجيش تلقى العدو.

جاء في كتاب (قواميس الرجال والدراية) للعلامة فاضل الدربندي(رحمه اللّه) المتوفى عام 1286ه- :

إن الأخبار الواردة في شأن المتصفين بكونهم من شرطة الخميس مما يفيد عدالتهم، بل شيئاً فوق العدالة كما لا يخفى على المتدبر في فقه تلك الأخبار، بل يمكن أن يقال: إن شأن هؤلاء لاينقص عن شأن جمع من الوكلاء والسفراء. وجاء أيضاً: إن الأخبار الواردة في شرطة الخميس في غاية الاستفاضة، بل في حد التواتر المعنوي(4).

بلغ عدد أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) الذين كانوا في شرطة الخميس كما في

ص: 429


1- كتاب العين 6: 235، مادة (شرط).
2- لسان العرب 7: 329، مادة (شرط).
3- مرآة العقول 4: 79.
4- انظر مجلة تراثنا 24: 200، حيث ذكر فيها مقتطفاً من كتاب الفاضل الدربندي.

الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) ستة آلاف رجل(1)، أو خمسة آلاف رجل(2).

وقالابن عساكر في تاريخه: بايع أهل العراق الحسن بن علي(عليه السلام)، فسار حتى نزل المدائن، وبعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على المقدمات وهم اثنا عشر آلفاً، وكانوا يسمون شرطة الخميس(3).

سبب التسمية

هناك عدة أقوال حول تسميتهم بشرطة الخميس نذكر منها:

1- خاطب أمير المؤمنين علي(عليه السلام) عبد اللّه بن يحيى الحضرمي يوم الجمل، فقال: «أبشر يا ابن يحيى، فإنك وأباك من شرطة الخميس حقاً، لقد أخبرني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس، واللّه سماكم في السماء شرطة الخميس على لسان نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(4).

2- قال علي بن الحكم: أصحاب أمير المؤمنين الذين(عليه السلام) قال لهم: «تشرطوا، إنما أشارطكم على الجنة، ولست أشارطكم على ذهب ولا فضة، إن نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لأصحابه في ما مضى: تشرطوا؛ فإني لست أشارطكم إلّا على الجنة»(5).

3- عن جعفر بن محمد بن مسعود، عن أبيه، قال: حدثني علي بن الحسين، عن مروك بن عبيد، قال: حدثني إبراهيم بن أبي البلاد، عن رجل، عن الأصبغ، قال: قلت له: كيف سميتم شرطة الخميس يا أصبغ؟ فقال: إنا ضمنا له الذبح،

ص: 430


1- انظر الإختصاص: 2.
2- رجال الكشي: 6.
3- تاريخ مدينة دمشق 13: 262.
4- رجال العلامة الحلي: 104.
5- الرجال للبرقي: 3.

وضمن لنا الفتح(1).

أي ضمنوا له أن يفدوه بأنفسهم، وضمن هو(عليه السلام) لهم الجنة على اللّه.

أسماء شرطة الخميس

لقد مر أن عدد شرطة الخميس ما بين خمسة آلاف إلى اثني عشر ألف رجل، وأنهم بعد استشهاد أمير المؤمنين(عليه السلام) تفرقوا في البلدان نتيجة متابعة معاوية (لعنه اللّه) لهم وإلقاء القبض عليهم وقتلهم، فربما تنكروا وغيروا أسماءهم، لذا لم يحفظ لنا التاريخ من أسمائهم إلّا القليل، ومنهم:

1- سلمان الفارسي.

2- أبوذر الغفاري.

3- أبو عمرو الأنصاري.

4- أبو ساسان الأنصاري.

5- جابر بن عبد اللّه الأنصاري.

6- عمار بن ياسر.

7- سهل بن حنيف بن واهب الأنصاري الأوسي.

8- عثمان بن حنيف بن واهب الأنصاري الأوسي.

9- ميثم بن يحيى التمار.

10- عمرو بن الحمق الخزاعي.

11- حبيب بن مظاهر الأسدي.

12- سليم بن قيس الهلالي.

13- مالك الأشتر.

ص: 431


1- الإختصاص: 65.

14- الأصبغ بن نباتة.

15- عبد اللّه بن يحيى الحضرمي.

16- قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري.

17- أبو الرضي عبد اللّه بن يحيى الحضرمي.

18- عبيدة السلماني المرادي.

19- عبد اللّه بن نجي.

20- نعيم بن دجاجة.

21- عبد اللّه بن أسيد الكندي.

22- أبو يحيى حكيم بن سعيد الحنفي.

23- محمد بن أبي بكر.

24- الحصين بن المنذر يكنى أبا ساسان الرقاشي.

25- بشر بن عمر الهمداني.

26- بشر بن عمار الخثعمي الكوفي.

27- سعد بن حارث - الحرث - الخزاعي.

قصص من شرطة الخميس

مع حبابة الوالبية

عن حبابة الوالبية قالت: رأيت أمير المؤمنين(عليه السلام) في شرطة الخميس، ومعه درة لها سبابتان يضرب بها بياعي الجري والمارماهي والزمار، ويقول لهم: «يا بياعي مسوخ بني إسرائيل وجند بني مروان». فقام إليه فرات بن أحنف فقال: يا أمير المؤمنين، وما جند بني مروان؟

قال: فقال له: «أقوام حلقوا اللحى وفتلوا الشوارب فمسخوا».

فلم أر ناطقاً أحسن نطقاً منه، ثم اتبعته فلم أزل أقفو أثره حتى قعد في رحبة

ص: 432

المسجد. فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما دلالة الإمامة يرحمك اللّه؟

قالت: فقال: «ائتيني بتلك الحصاة»، وأشار بيده إلى حصاة فأتيته بها، فطبعلي فيها بخاتمه، ثم قال لي: «يا حبابة، إذا ادعى مدع الإمامة فقدر أن يطبع كما رأيتِ، فاعلمي أنه إمام مفترض الطاعة، والإمام لا يعزب عنه شي ء يريده»(1).

الإفطار العمدي في شهر رمضان

عن محمد بن عمران، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «أُتي أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو جالس في المسجد بالكوفة بقوم وجدوهم يأكلون بالنهار في شهر رمضان. فقال لهم أمير المؤمنين(عليه السلام): أكلتم وأنتم مفطرون؟

قالوا: نعم.

قال: أيهود أنتم؟

قالوا: لا.

قال: فنصارى؟

قالوا: لا.

قال: فعلى شي ء من هذه الأديان المخالفين للإسلام؟

قالوا: بل مسلمون.

قال: فسفر أنتم؟

قالوا: لا.

قال: فيكم علة استوجبتم الإفطار ولا نشعر بها، فإنكم أبصر بأنفسكم؛ لأن اللّه عزّ وجلّ يقول: {بَلِ الْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}(2)؟

ص: 433


1- الكافي 1: 346.
2- سورة القيامة، الآية: 14.

قالوا: بل أصبحنا ما بنا من علة!

قال: فضحك أمير المؤمنين(عليه السلام)، ثم قال: تشهدون أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمداًرسول اللّه؟

قالوا: نشهد أن لا إله إلّا اللّه ولا نعرف محمداً، قال: فإنه رسول اللّه، قالوا: لا نعرفه بذلك، إنما هو أعرابي دعا إلى نفسه.

فقال: إن أقررتم وإلّا لأقتلنكم.

قالوا: وإن فعلت.

فوكل(عليه السلام) بهم شرطة الخميس، وخرج بهم إلى الظهر ظهر الكوفة، وأمر أن يحفر حفرتين، وحفر إحداهما إلى جنب الأخرى، ثم خرق في ما بينهما كوة ضخمة شبه الخَوْخَة(1).

فقال لهم: إني واضعكم في أحد هذين القليبين، وأوقد في الأخرى النار، فأقتلكم بالدخان.

قالوا: وإن فعلت فإنما تقضي هذه الحياة الدنيا.

فوضعهم في أحد الجبين وضعاً رفيقاً، ثم أمر بالنار فأوقدت في الجب الآخر، ثم جعل يناديهم مرة بعد مرة: ما تقولون؟

فيجيبون: فاقض ما أنت قاض حتى ماتوا.

قال: ثم انصرف فسار بفعله الركبان، وتحدث به الناس، فبينما هو ذات يوم في المسجد، إذ قدم عليه يهودي من أهل يثرب، قد أقر له من في يثرب من اليهود أنه أعلمهم، وكذلك كانت آباؤه من قبل.

قال: وقدم على أمير المؤمنين(عليه السلام) في عدة من أهل بيته، فلما انتهوا إلى المسجد الأعظم بالكوفة أناخوا رواحلهم، ثم وقفوا على باب المسجد، وأرسلوا

ص: 434


1- الخَوْخَة: كوة تؤدي الضوء إلى البيت ومخترق ما بين كل دارين.

إلى أمير المؤمنين(عليه السلام): إنا قوم من اليهود قدمنا من الحجاز، ولنا إليك حاجة، فهل تخرج إلينا أم ندخل إليك؟

قال: فخرج إليهم وهو يقول: سيدخلون ويستأنفون باليمين، فما حاجتكم؟

فقال له عظيمهم: يا ابن أبي طالب، ما هذه البدعة التي أحدثت في دين محمد؟

فقال له: وأية بدعة!

فقال له اليهودي: زعم قوم من أهل الحجاز أنك عمدت إلى قوم شهدوا أن لا إله إلّا اللّه، ولم يقروا أن محمداً رسوله فقتلتهم بالدخان.

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): فنشدتك بالتسع الآيات التي أنزلت على موسى(عليه السلام) بطور سيناء، وبحق الكنائس الخمس القدس، وبحق السمت الديان، هل تعلم أن يوشع بن نون أُتي بقوم بعد وفاة موسى شهدوا أن لا إله إلّا اللّه، ولم يقروا أن موسى(عليه السلام) رسول اللّه فقتلهم بمثل هذه القتلة؟

فقال له اليهودي: نعم، أشهد أنك ناموس موسى.

قال: ثم أخرج من قبائه كتاباً فدفعه إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، ففضه ونظر فيه وبكى.

فقال له اليهودي: ما يبكيك يا ابن أبي طالب، إنما نظرت في هذا الكتاب، وهو كتاب سرياني وأنت رجل عربي، فهل تدري ما هو؟

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): نعم، هذا اسمي مثبت.

فقال له اليهودي: فأرني اسمك في هذا الكتاب، وأخبرني ما اسمك بالسريانية؟

قال: فأراه أمير المؤمنين اسمه في الصحيفة، وقال: اسمي إليا.

فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أن محمداً رسول اللّه، وأشهد

ص: 435

أنك وصي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأشهد أنك أولى الناس بالناس من بعد محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وبايعوا أمير المؤمنين، ودخل المسجد. فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): الحمد للّه الذي لم أكنعنده منسياً، الحمد للّه الذي أثبتني عنده في صحيفة الأبرار الحمد للّه ذي الجلال والإكرام»(1).

ما يكبيك؟

عن أبي بصير، عن أبي جعفر(عليه السلام)، أنه قال: «دخل علي(عليه السلام) المسجد، فاستقبله شاب وهو يبكي، وحوله قوم يسكتونه. فقال علي(عليه السلام): ما يبكيك؟

فقال: يا أمير المؤمنين، إن شريحاً قضى عليَّ بقضية ما أدري ما هي، إن هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في سفر، فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه، فقالوا: مات. فسألتهم عن ماله، فقالوا: ما ترك مالاً. فقدمتهم إلى شريح فاستحلفهم، وقد علمت يا أمير المؤمنين أن أبي خرج ومعه مال كثير.

فقال لهم: أمير المؤمنين(عليه السلام): ارجعوا فردهم جميعاً والفتى معهم إلى شريح. فقال له: يا شريح، كيف قضيت بين هؤلاء؟

فقال: يا أمير المؤمنين، ادعى هذا الفتى على هؤلاء النفر أنهم خرجوا في سفر وأبوه معهم، فرجعوا ولم يرجع أبوه، فسألهم عنه فقالوا: مات. فسألهم عن ماله، فقالوا: ما خلف مالاً. فقلت للفتى: هل لك بينة على ما تدعي؟ فقال: لا. فاستحلفتهم.

فقال علي(عليه السلام): يا شريح، هكذا تحكم في مثل هذا؟

فقال: كيف كان هذا يا أمير المؤمنين؟

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): لأحكمن فيهم بحكم ما حكم به إلّا داود

ص: 436


1- الكافي 4: 181.

النبي(عليه السلام)... يا قنبر، ادع لي شرطة الخميس. فدعاهم فوكل بكل واحد منهم رجلاً من الشرطة، ثم نظر أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى وجوههم. فقال: ما ذا تقولون، أ تقولون: إني لا أعلمما صنعتم بأب هذا الفتى، إني إذا لجاهل. ثم قال: فرقوهم وغطوا رؤوسهم. قال: ففرق بينهم وأقيم كل واحد منهم إلى أسطوانة من أساطين المسجد، ورؤوسهم مغطاة بثيابهم. ثم دعا عبيد اللّه بن أبي رافعٍ كاتبه، فقال: هات صحيفة ودواة، وجلس علي(عليه السلام) في مجلس القضاء، واجتمع الناس. فقال: إذا كبرت فكبروا، ثم قال للناس: أفرجوا. ثم دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه، وكشف عن وجهه، ثم قال لعبيد اللّه: اكتب إقراره وما يقول. ثم أقبل عليه بالسؤال، فقال: في أي يوم خرجتم من منازلكم، وأبو هذا الفتى معكم؟

فقال الرجل: في يوم كذا وكذا.

فقال: في أي شهر؟

فقال: في شهر كذا وكذا؟

فقال: في أي سنة؟

قال: في سنة كذا وكذا.

قال: وأين بلغتم من سفركم حين مات أبو هذا الفتى؟

فقال: إلى موضع كذا وكذا.

قال: في منزل من مات؟

قال: في منزل فلان بن فلان.

فقال: ما كان مرضه؟

قال: كذا وكذا.

قال: كم يوماً مرض؟

فقال: يكون في كذا وكذا يوماً.

ص: 437

قال: فمن كان يمرضه، وفي أي يوم مات، ومن غسله، وأين غسله، ومن كفنه، وبما كفنتموه، ومن صلى عليه، ومن نزل في قبره؟

فلما سأله عن جميع ما يريد كبّر علي(عليه السلام) وكبر الناس، فارتاب أولئك الباقون، ولم يشكوا أن صاحبهم قد أقر عليهم وعلى نفسه. فأمر أن يغطى رأسه، وأن ينطلق به إلى الحبس، ثم دعا بالآخر فأجلسه بين يديه، وكشف عن وجهه، ثم قال: كلا، زعمت أني لا أعلم ما صنعتم؟

فقال: يا أمير المؤمنين، ما أنا إلّا واحد من القوم، ولقد كنت كارهاً لقتله، فأقر.

ثم دعا(عليه السلام) بواحد بعد واحد فكلهم يقر بالقتل وأخذ المال، ثم رد الذي كان أمر به إلى السجن فأقر أيضاً، فألزمهم المال والدم.

فقال شريح: فكيف كان حكم داود(عليه السلام)؟

فقال: إن داود(عليه السلام) مر بغلمة يلعبون وينادون بعضهم مات الدين، فدعا منهم غلاماً، فقال: يا غلام، ما اسمك؟

فقال: اسمي مات الدين.

فقال له داود(عليه السلام): من سماك بهذا الاسم؟

فقال: أمي.

فانطلق إلى أمه، فقال لها: يا امرأة، ما اسم ابنك هذا؟

فقالت: مات الدين.

فقال لها: ومن سماه بهذا الاسم؟

قالت: أبوه.

قال: وكيف كان ذلك؟

قالت: إن أباه خرج في سفر له ومعه قومه، وهذا الصبي حمل في بطني، فانصرف القوم ولم ينصرف زوجي، فسألتهم عنه فقالوا: مات.

ص: 438

قلت: فأين ما ترك؟

قالوا: لم يخلف مالاً.فقلت: أوصاكم بوصية؟

فقالوا: نعم، زعم أنك حبلى، فما ولدتِ من ولد ذكر أو أنثى فسميه مات الدين، فسميته.

فقال: وتعرفين القوم الذين كانوا خرجوا مع زوجك؟

قالت: نعم.

قال: فأحياء هم أم أموات؟

فقالت: بل أحياء.

قال: فانطلقي بنا إليهم.

ثم مضى معها فاستخرجهم من منازلهم، فحكم بينهم بهذا الحكم، فثبت عليهم المال والدم. ثم قال للمرأة: سمي ابنكِ عاش الدين.

ثم إن الفتى والقوم اختلفوا في مال أبي الفتى كم كان، فأخذ علي(عليه السلام) خاتمه وجمع خواتيم عدة، ثم قال: أجيلوا هذه السهام، فأيكم أخرج خاتمي فهو الصادق في دعواه؛ لأنه سهم اللّه عزّ وجلّ وهو لا يخيب»(1).

هذا أخي خضر(عليه السلام)

عن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين(عليهما السلام): «كان في مسجد الكوفة يوماً فلما جنه الليل أقبل رجل من باب الفيل عليه ثياب بيض، فجاء الحرس وشرطة الخميس. فقال لهم أمير المؤمنين: ما تريدون؟

ص: 439


1- تهذيب الأحكام 6: 316.

فقالوا: رأينا هذا الرجل أقبل إلينا، فخشينا أن يغتالك.

فقال: كلا، انصرفوا رحمكم اللّه، أتحفظوني من أهل الأرض، فمن يحفظني من أهل السماء.ومكث الرجل عنده ملياً يسأله، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد ألبستَ الخلافة بهاء وزينة وكمالاً ولم تلبسك! ولقد افتقرت إليك أمة محمد وما افتقرت إليها! ولقد تقدمك قوم وجلسوا مجلسك فعذابهم على اللّه! وإنك لزاهد في الدنيا وعظيم في السماوات والأرض، وإن لك في الآخرة لمواقف كثيرة تقر بها عيون شيعتك، وإنك لسيد الأوصياء، وأخوك سيد الأنبياء، ثم ذكر الأئمة الاثني عشر. فانصرف، وأقبل أمير المؤمنين على الحسن والحسين(عليهما السلام)، فقال: تعرفانه؟

قالا: ومن هو يا أمير المؤمنين؟

قال: هذا أخي الخضر(عليه السلام)»(1).

ابن معز وابن نعج

عن عبد اللّه بن أسيد الكندي، وكان من شرطة الخميس، عن أبيه، قال: إني لجالس مع الناس عند علي(عليه السلام) إذ جاء ابن معز وابن نعج معهما عبد اللّه بن وهب، قد جعلا في حلقه ثوباً يجرانه. فقالا: يا أمير المؤمنين، اقتله ولا تداهن الكذابين.

قال: «ادنه».

فدنا، فقال لهما: «فما يقول؟».

قالا: يزعم أنك دابة الأرض، وأنك تُضرب على هذا قُبيل هذا - يعنون رأسه إلى لحيته - .

ص: 440


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 247.

فقال: «ما يقول هؤلاء؟».

قال: يا أمير المؤمنين، حدثتهم حديثاً حدثنيه عمار بن ياسر.

قال: «اتركوه فقد روى عن غيره، يا ابن أم السوداء إنك تبقر الحديث بقراً خلواسبيل الرجل؛ فإن يك كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصيبني الذي يقول»(1).

وفي الختام

وفي الختام أسأل اللّه عزّ وجلّ أن يوفقكم لمرضاته، ويجنبكم ما يسخطه، ويجعلكم سببا لأمن البلاد، وخدمة العباد.

وأذكر بضرورة الالتزام بما تقدم من الأمور الأربعة: (ذكر اللّه عزّ وجلّ دائماً، وذكر الموت دائماً، ومزيد من التوعية والثقافة، وخدمة الناس).

كما عليكم أيضاً أن تبينوا هذا الأمور لسائر زملائكم، فإن مسؤوليتكم كبيرة، وهذا السلاح الذي هو اليوم بأيدكم أمانة اللّه لأجل خدمة الناس، لأجل العدالة والإيمان، لأجل الفضيلة والخير، لأجل التقوى والعمل الصالح، لأجل الحفاظ على الأمن والاستقرار، لا لأجل الظلم والتكبر.

ص: 441


1- بحار الأنوار 53: 108.

مع الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) والتغيير في العراق

مظلومية أهل البيت(عليهم السلام)

اشارة

إن أهل البيت المعصومين(عليهم السلام) هم أكثر من وقع عليهم الظلم بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، قال الإمام الباقر(عليه السلام): «لما نزلت هذه الآية {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَٰمِهِمْ}(1) قال المسلمون: يا رسول اللّه، ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟

قال: فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنا رسول اللّه إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من اللّه من أهل بيتي يقومون في الناس فيُكَذَّبون ويَظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني، ألّا ومن ظلمهم وكذَّبهم فليس مني ولا معي وأنا منه بريء»(2).

ومن هؤلاء العترة الطاهرة المظلومة مولانا الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) حيث قضى أكثر من عشر سنوات(3) في سجون بني العباس المظلمة، وتحت التعذيب القاسي حتى قضى نحبه مسموماً في سجن هارون ببغداد.

وقد ورد في زيارته(عليه السلام):

ص: 442


1- سورة الإسراء، الآية: 71.
2- الكافي 1: 215.
3- انظر بحار الأنوار 48: 206.

«اللّهم صلّ على محمد وأهل بيته، وصلّ على موسى بن جعفر وصي الأبرار، وإمام الأخيار، وعيبة الأنوار، ووارث السكينة والوقار، والحكم والآثار... المضطهد بالظُلم، والمقبور بالجور، والمعذَّب في قعر السجون وظُلَم المطامير، ذي الساق المرضوض بحلق القيود، والجنازة المنادى عليها بذُل الاستخفاف، والوارد على جده المصطفى وأبيه المرتضى وأمه سيدة النساء، بإرث مغصوب، وولاء مسلوب، وأمر مغلوب، ودم مطلوب، وسم مشروب. اللّهم وكما صبر على غيظ المحن، وتجرع فيك غصص الكرب، واستسلم لرضاك، وأخلص الطاعة لك، ومحض الخشوع، واستشعر الخضوع، وعادى البدعة وأهلها، ولم يلحقه في شيء من أوامرك ونواهيك لومة لائم، صلّ عليه صلاة نامية منيفة زاكية، توجب له بها شفاعة أمم من خلقك، وقرون من براياك...»(1).

والسؤال هو: لماذا جرى هذا الظلم الكبير على الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، مع أن الكل كانوا يعرفون ويعترفون بفضله وعلمه وزهده وتقواه وورعه، وأنه ابن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مضافاً إلى كونه حجة اللّه على الخلق، وأنه من أئمة المسلمين بنص رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد كان الشيعة آنذاك بكثرة في بغداد، وسائر المسلمين من غير الشيعة أيضاً كانوا يعلمون بعظيم منزلة الإمام(عليه السلام)، فلماذا هذه الظلامات؟

في الجواب نقول: إن أبناء الأمة الإسلامية سكتوا على ظلم الظلمة، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخذ كل واحد منهم يفكر في مصلحته الشخصية، مضافاً إلى أن البعض منهم تركوا عترة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذين وصى بهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فاجترأ طغاة العصر على ظلمهم وسفك دمائهم بالسيف والسم،

ص: 443


1- بحار الأنوار 99: 17.

ومنهم الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) الذي بقي مسجوناً حتى قضى نحبه مسموماً شهيداً فيسجن هارون العباسي.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

وهكذا الأمر بالنسبة إلى شيعتهم المظلومين إلى يومنا هذا.

علماء السنة يعترفون بفضل الإمام(عليه السلام)

قال الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد):

(كان موسى بن جعفر(عليهما السلام) يُدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده، روى أصحابنا أنه(عليه السلام) دخل مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسجد سجدة في أول الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: «عظم الذنب عندي فليحسن العفو عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة»، فجعل يردّدها حتّى أصبح)(1).

وقال محمد بن طلحة الشافعي في كتابه (مطالب السؤول):

(أبو الحسن موسى بن جعفر الكاظم(عليهما السلام) هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، المجتهد الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهور بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار مُتصدقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دُعي كاظماً، كان يجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يسمّى بالعبد الصالح، ويعرف في العراق باب الحوائج إلى اللّه، لنجح مطالب المتوسّلين إلى اللّه تعالى به، كرامته تحار منها العقول، وتقضي بأن له عند اللّه تعالى قدم صدق لا تزلّ ولا تزول... وكان له ألقاب كثيرة: الكاظم وهو أشهرها، والصابر، والصالح، والأمين...

ص: 444


1- تاريخ بغداد 13: 29.

ثم يذكر بعض كراماته ويقول: فهذه الكرامات العالية الأقدار، الخارقة العوائدهي على التحقيق جلّية المناقب، وزينة المزايا، وغرر الصفات، ولا يؤتاها إلّا من فاضت عليه العناية الربّانية، وأنوار التأييد، ومرّت له أخلاف التوفيق، وأزلفته من مقام التقديس والتطهير، وما يلقّاها إلّا ذو حظّ عظيم)(1).

وقال ابن الصباغ المالكي في (الفصول المهمة):

(الكاظم هو الإمام الكبير القدر، والأوحد الحجة الحبر، الساهر ليله قائماً، القاطع نهاره صائماً، المسمّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً، وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج إلى اللّه، وذلك لنجح قضاء حوائج المسلمين... وكان موسى الكاظم(عليه السلام) أعبد أهل زمانه، وأعلمهم، وأسخاهم كفّاً، وأكرمهم نفساً، وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل ويحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم والنفقات، ولا يعلمون من أيّ جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلكَ إلّا بعد موته(عليه السلام)، وكان كثيراً ما يدعو: «اللّهمَّ إنّي أسْألُكَ الراحة عنْدَ الموْت، والعفْوَ عندَ الحِساب»)(2).

وقال الرشدي الدمشقي في (الروضة الندية):

(الإمام موسى الكاظم أبو إبراهيم، كان يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً، حليماً يتجاوز عن المعتدين عليه، كريماً يقابل المسيء بالإحسان إليه ولذا لقّب بالكاظم، ولكثرة عبادته سمّي بالعبد الصالح، ويعرف في العراق بباب الحوائج إلى اللّه تعالى لنجح المتوسّلين به إليه سبحانه، عباداته مشهورة، تقضي بأن له قدم صدق عند اللّه لا يزول، وكراماته مشهورة تحار منها

ص: 445


1- مطالب السؤول: 446-451.
2- الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 931-949.

العقول)(1).

هارون العباسي يعترف بإمامته(عليه السلام)

روى الشيخ سليمان القندوزي في (ينابيع المودّة)(2)

عن (فصل الخطاب) لخواجة بارسا البخاري، قال:

(روى المأمون، عن أبيه الرشيد، أنّه قال لبنيه في حقّ موسى الكاظم(عليه السلام): هذا إمام الناس، وحجّة اللّه على خلقه، وخليفته على عباده، أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وإنه واللّه لأحقّ بمقام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مني ومن الخلق جميعاً، وواللّه لو نازعني في هذا الأمر لآخذنّ بالذي فيه عيناه، فإنّ الملك عقيم.

وقال الرشيد للمأمون: يا بُنيّ، هذا وارث علم النبيين، هذا موسى بن جعفر(عليهما السلام) إن أردت العلم الصحيح تجده عند هذا).

إلى غير ذلك مما هو كثير.

قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(3).

الدنيا دار العمل

قال مولانا الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام): «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة»(4).

إن الدنيا كانت وما زالت محلاً للعمل، يعني إن اللّه تبارك وتعالى خلق الدنيا

ص: 446


1- الروضة الندية: 11 طبع مصر نقلاً عن شرح إحقاق الحق 12: 305.
2- ينابيع المودة: 3: 165.
3- سورة النمل، الآية: 14.
4- كشف الغمة 2: 252.

هكذا، فكل من يعمل ويسعى فيها يتقدم، وكل من لا يعمل ولا يسعى فيها لا يتقدم بل يتأخر، وهذه هي السنة الكونية والقاعدة العامة للدنيا.

قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ}(1).

وفي آية أخرى: {إِنَّا عَٰمِلُونَ}(2).

وهذا من الضروريات والبديهيات التي يجدها الإنسان من نفسه، حيث يرى مكانة العامل وتقدمه في الحياة، بخلاف الكسول والذي لا يعمل.

فكل فرد يعمل ويسعى أكثر، يكون هو المتقدم أكثر، وكل جماعة تعمل وتسعى أكثر تكون هي المتقدمة أكثر، وكذلك كل أمة تعمل وتسعى أكثر تكون هي المتقدمة أكثر.

ولا فرق في متعلق سعي الإنسان سواء كان عملياً أم علمياً من هذه الناحية.

تقدم المسلمين الأوائل

في يوم ما كان المسلمون يعملون بجدّ فأصبحوا حينذاك سادة الدنيا، وفي يوم آخر أصبح الآخرون يعملون بجدّ فغدوا سادة الدنيا، أما المسلمون اليوم فليسوا سادة لأنهم تركوا العمل، وواقع الحال يشهد بأن سادة الدنيا الآن هم الآخرون.

والسر في ذلك هو: العمل واللاعمل، فيوم كان المسلمون يعملون أصبحوا السادة في الدنيا، ويوم أخذ الآخرون يعملون أصبحوا هم السادة في الدنيا.

السكوت القاتل

نحن نعلم جميعاً بأن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) قد فارق الدنيا مسموماً

ص: 447


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- سورة هود، الآية: 121.

شهيداً في سجون بني العباس، وقد كان هارون العباسي أمر شخصاً يدعى السندي بن شاهك(1) - وكان يهودياً على القول المشهور - أن يسجن الإمام(عليه السلام) ويضيق عليه ويعذبه إلى أن أمره بقتل الإمام(عليه السلام) بالسم.

وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا تمكن هارون من هذا الظلم الكبير؟

الجواب: لأن قسماً كبيراً من الناس تركوا أهل البيت(عليهم السلام) ولم يعملوا بوصية النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أهل بيته الطاهرين.

وكذلك الشيعة في بغداد، فإن بغداد كانت معروفة بالتشيع ومليئة بالشيعة، ولكن الشيعة أنفسهم كانوا متقاعسين ولا يعملون.

فلم نسمع أو نقرأ بأن الشيعة في بغداد أو غيرهم من المسلمين اجتمعوا يوماً لإنقاذ الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، كما لم يردنا أنهم ذهبوا إلى هارون أو السندي بن شاهك ليكلموه ويضغطوا عليه لصده عن ظلم الإمام(عليه السلام).

نعم، إن الظالم إنما يتسلط على الأبرياء وعلى الأخيار بتقاعس الناس وترك العمل، فإذا ترك الناس العمل الصالح سُلطت عليهم الظلمة والأشرار ثم يدعون فلا يُستجاب لهم، كما تذكر الرواية الشريفة الواردة عن أمير المؤمنين(عليه السلام)(2).

فقد كان الجميع آنذاك مشغولاً بكسبه وتجارته، يخرج من بيته ويذهب إلى محل عمله أو مزرعته ثم يعود إليه، من دون أن يفكر في موضوع الإمامة وظلم الحكام وقضايا الأمة.

نادِ في القوم

ربما يقول البعض - فراراً عن العمل - : ما قيمتي وما أثر عملي، أنا فرد واحد

ص: 448


1- هو الجلاد وصاحب شرطة وحرس هارون العباسي.
2- انظر تهذيب الأحكام 6: 177.

لا أتمكن من التغيير والتأثير... لا قدرة لي... لا يوجد عندي المال الكافي، وما أشبه من الأعذار.

إن هذه الكلمات كلمات غير منطقية، فكل إنسان يستطيع القيام بأعمال كثيرة وكبيرة ومؤثرة، كل بحسبه.

في قصة حنين حيث ورد ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}(1) دروس وعبر كثيرة.

فحنين اسمُ وادٍ تحيط به الجبال وهو قريب من (أوطاس) وكان به وقعة حنين، وهو موجود الآن، ومن المناسب أن يزوره الإنسان وخاصة عندما يتشرف بالحج، ليرى كيف كانت معركة حنين وفرار المسلمين وموقف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

لقد بقي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في يوم حنين وحيداً بعدما فرّ المسلمون عنه والقصة مشهورة مذكورة في التواريخ، حيث انهزم المسلمون بالرغم من تعدادهم البالغ اثني عشر ألف مقاتل، ولم يبق مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلّا العباس وأمير المؤمنين(عليه السلام) وتسعة من أبناء العباس وشخص آخر، يعني لم يصمد مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سوى اثني عشر شخصاً فقط، بينما هرب الجميع، ولما شاهد الكفار هروب المسلمين هجموا على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليقتلوه وكان تعدادهم ثلاثين ألفاً، فقال الكفار: لنقض عليه الآن. ولهذا ورد اسم حنين في القرآن؛ لأن القصة مهمة جداً.

فنظر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حوله فرأى أمير المؤمنين(عليه السلام) منهمكاً بالمبارزة والدفاع عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قصة مفصلة مذكورة في محلها، كما أحاط أبناء العباس بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهم عبد اللّه وعبيد اللّه والفضل وقثم و...، وكان العباس عم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجلاً جهورياًصيتاً، فنظر إليه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وناداه: «نادِ في القوم

ص: 449


1- سورة التوبة، الآية: 25.

وذكرهم العهد»(1).

وقد ورد في كُتب الزيارة: في زيارات أمير المؤمنين(عليه السلام): «وَعَمُّكَ الْعَبّاسُ يُنادِي الْمُنْهَزِمينَ: يا أَصْحابَ سورَةِ الْبُقَرَةِ، يا أَهْلَ بَيْعَةِ الشَّجَرَةِ»(2).

فأخذ العباس ينادي فيهم، فاجتمع المسلمون مرة أخرى وتمكن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من لمِّهم والانتصار بهم على المشركين، والقصة مفصلة(3).

إن «نادِ في القوم» تعتبر مسألة مهمة. فليس من الصحيح أن يقول الشخص: أنا لا أقدر على أي شيء، فيترك العمل، ربما يمكن أن يساهم بصوته، كما أن العباس(عليه السلام) أخذ ينصر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بصوته.

إذن، الدنيا دار عمل ولكل عمل أثر، فللصوت، للكلام، للكتابة، للدعاء، للبكاء، ولكل شيء أثر.

ومن هنا تكون المسؤولية الملقاة على عواتقنا كبيرة.

وخاصة بالنسبة إلى واجباتنا تجاه أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ومنهم مولانا الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام). وهذا الظلم الكبير الذي وقع على أهل البيت(عليهم السلام) كان من أهم أسبابه تخاذل الناس وعدم تحملهم وأدائهم للمسؤولية. واليوم يلزم على كل واحد منا أن يساهم في نشر علوم أهل البيت(عليهم السلام) في العالم.

العراق وحكومة الأكثرية

ما ذكرناه كان كالمقدمة للبحث.

والحديث حول العراق ودور الشيعة فيه.

إن الأكثرية من سكان العراق هم الشيعة، وقد قال مدير عام نفوس العراق قبل

ص: 450


1- الإرشاد 1: 142.
2- المزار الكبير: 274.
3- انظر تفسير القمي 1: 285؛ والإرشاد 1: 142.

خمس وعشرين سنة: إن (80%) من سكان العراق هم الشيعة، وأن (15%) سنة، وأن (5%) ما بين يهودي ومسيحي وصابئي وعلي اللّهي ويزيدي وغيرهم.

ولكن الشيعة ليس بيدهم أي شيء، بل هم المظلومون المستضعفون في العراق، والحكم الدكتاتوري الطائفي يفعل فيهم ما يشاء من التهجير والتشريد والسجن ومصادرة الأموال والقتل...

ومن أسباب ذلك أن الشيعة لم يعملوا.

أما السنة فقبل سبعين سنة تعلموا كيف يترأسون على الناس، عندها طبّعوا البلد كله بطابع السنة.

والآن كما هو المشهور بين الساسة بأن صدام وجماعته قد آلوا على الزوال، وأن نفس الغربيين الذين جاءوا بهم يريدون تغييرهم.

وعلينا أن نعمل بكل طاقاتنا لإرجاع حقوق الشيعة في العراق، فيلزم أن تكون الإذاعة إذاعة شيعية، والأذان أذاناً شيعياً، والتلفزيون تلفزيوناً شيعياً، والمحافظون محافظين شيعة، والكتب المدرسية كتباً شيعية، والمدراء العامون شيعة، وهكذا في كل مجالات الحياة السياسية وغيرها، وهذا معناه أن يكون العراق شيعياً، وذلك لأنه الحق الطبيعي للأكثرية التي تشكل (80%) من السكان.

فإن قال البعض: بأن الشيعة أقل من ذلك.

نقول، لو سلمنا بأنهم (70%) من الشعب العراقي، فأيضاً هم الأكثرية ويلزم أن تكون الحكومة شيعية، حسب قانون الإسلام، وقانون الدول المسماة بالديمقراطية.

فإن الدنيا والقوانين الديمقراطية تقر بأن الرأي هو رأي الأكثرية، فإذا ما حصل خلاف في مجلس الشورى فيعمل بما تقول به الأكثرية، فالقاعدة هذه وقوانين

ص: 451

الدنيا كذلك. وبما أن أكثرية العراق هم الشيعة فيلزم أن تكون حكومة العراق حكومة شيعية.

مسؤولية الجميع

فالكل يمكن أن يساهم في إحقاق حقوق الشيعة في العراق، أقل شيء هو صوتك ونطقك وكلامك، فإن العراق عندما يكون بأيدي السنة فإنه يعني تضييع حقوق الشيعة الأكثيرة، وخاصة مع الأسلوب الاستبدادي الطائفي الذي يواجهون به الشعب الشيعي المسلم.

فلا يقولن أحدكم: إنني الآن خرجت من العراق وسكنت في قم أو في بلدة أخرى من البلاد الإسلامة وغيرها ولا أريد العودة إلى وطني. فهذا لا يكون عذراً، فإن الذي يقبع الآن في قعر السجون أما ابن عمك أو ابن عمي، والآن يوجد مائتان وخمسون عالماً بارزاً من علماء العراق في سجون صدام.

لماذا تُحرم الأكثرية من حقوقها، ومن المسلّم الذي يعترف به الجميع أن أكثرية العراق هم الشيعة، ونحن لدينا الأرقام الواضحة الدالة على ذلك، فإن أكثر مدن العراق يقطنها الشيعة. فالنجف الأشرف سكانها شيعة، وكربلاء المقدسة سكانها شيعة، والحلة سكانها شيعة، والبصرة سكانها شيعة، والعمارة سكانها شيعة، وهكذا أغلب سكان المدن هم الشيعة، وحتى أن سكان بغداد أكثرهم شيعة، أي أكثر من (80%) منهم.

مزارات السنة في بغداد

في بغداد يوجد مزاران للسنة:

الأول: مزار إمامهم الأعظم أبي حنيفة وهو عبارة عن مدرسة ملتصقة بقبر أبي حنيفة.

ص: 452

الثاني: مزار الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو رئيس المتصوفين، ويسمونه ب(شال اللّه)، وقد كتبوا على قبره شعراً قرأته بنفسي، بأن والده من نسل الإمام الحسن(عليه السلام)، ووالدته من نسل الإمام الحسين(عليه السلام)، وأنه صحيح النسبين!

أما وجه تسميته ب(شال اللّه)، فإنهم يقولون: بأن عبد القادر كان يمشي في أحد الأيام على النهر فرأى اللّه - والعياذ باللّه - قد سقط في النهر ولم يتمكن من الخروج، فمد عبد القادر يده وأخرج اللّه من النهر، ولهذا يقال له: شال اللّه.

عقيدة التجسيم عند السنة

ويأتي إعتقاد السنة بمثل هذا الكلام؛ لأنهم يعتقدون بالتجسيم، يعني أن السنة يعتقدون بأن اللّه جسم، له يد ورجل و... كما أن النصارى أيضاً يعتقدون بمثل هذا. فقد جاء في كتبهم المقدسة - كما قرأته بنفسي - بأن نبي اللّه يعقوب(عليه السلام) كان في خيمته فقصده شخص، فقال له: أ تصارعني؟ فقال: نعم. فتصارعا إلى الصباح فلم يتمكن يعقوب من إلقائه أرضاً ولا هو تمكن من إلقاء يعقوب أرضاً. وعند طلوع الفجر قال ذلك الشخص ليعقوب: دعني، فأنا أريد أن أذهب لإدارة السماوات والأرض. فقال له يعقوب: ومن أنت؟ قال: أنا اللّه. فتعلق به يعقوب وقال له: لن أدعك حتى تجعلني نبياً. فأعطاه النبوة(1)!

وسنذكر بعض الشواهد مما يدل على اعتقاد السنة بالتجسيم:

قال النووي في شرح مسلم(2):

(باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربهم... إن مذهب أهل السنة أن رؤية اللّه ممكنة... وزعمت طائفة من أهل البدع المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن اللّه تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن

ص: 453


1- انظر العهد القديم والجديد 1: 54 سفر التكوين الإصحاح: 32، الآيات: 22-30، مجمع الكنائس الشرقية، الطبعة الثانية، بيروت - لبنان.
2- شرح صحيح مسلم 3: 15.

رؤيته مستحيلة عقلاً).

وقال الشاطبي في الإعتصام(1): (ومنها ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم... كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية اللّه عزّ وجلّ في الآخرة، وكذلك حديث الذباب وقتله، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء!).

وحكى الذهبي في سيره(2) قال: (من لم يقر بأن اللّه تعالى يعجب ويضحك وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: من يسألني فأعطيه، فهو زنديق كافر، يستتاب فإن تاب وإلّا ضربت عنقه!، ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين! قلت: لا يكفر إلّا إن علم أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قاله، فإن جحد بعد ذلك فهذا معاند، نسأل اللّه الهدى، وإن اعترف أن هذا حق ولكن قال: أخوض في معانيه فقد أحسن، وإن آمن وأول ذلك كله أو تأول بعضه، فهو طريقة معروفة).

وقال الذهبي في سيره(3):

(قال حفص بن عبد اللّه: سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: واللّه الذي لا إله إلّا هو لقد رأى محمد ربه... وقال أبوحاتم: شيخان بخراسان مرجئان: أبوحمزة السكري وإبراهيم بن طهمان وهما ثقتان. وقال أبو زرعة: كنت عند أحمد بن حنبل فذكر إبراهيم بن طهمان وكان متكئاً من علة فجلس وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فيتكأ. وقال أحمد: كان مرجئاً شديداً على الجهمية).

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ(4):(وقال أحمد بن سلمة: سمعت إسحاق بن

ص: 454


1- الإعتصام 1: 168.
2- سير أعلام النبلاء 14: 396.
3- سير أعلام النبلاء 7: 381.
4- تذكرة الحفاظ 2: 435.

راهويه يقول: جمعني وهذا المبتدع ابن أبي صالح مجلس الأمير عبد اللّه بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها، فقال ابن أبي صالح: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء! فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء. هذه حكاية صحيحة رواها البيهقي في الأسماء والصفات. قال البخاري: مات ليلة نصف شعبان سنة ثمان وثلاثين ومائتين وله سبع وسبعون سنة).

وقال الدميري في حياة الحيوان(1):

(واختلف في جواز الرؤية فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة، وأكثر أهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة).

إلى غيرها مما هو مذكور في كتب الكلام.

بغداد مدينة الشيعة

إن بغداد هي مدينة الشيعة، والشيعة هم سكانها، ونحن على علم بمناطق بغداد كافة، فواحدة منها هي (الثورة)(2) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (الشُعلة) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (قناة الجيش) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (بغداد الجديدة) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (الكرادة الشرقية) جميع سكانها شيعة، إلى غيرها من المناطق الكثيرة. ولكن بعض المناطق القليلة في بغداد سكانها سنة مثل منطقة (الأعظمية) مع العلم بأن الكثير من سكانها شيعة أيضاً.

مع ذلك فإن السنة الأقلية في العراق وهم (15%) فقط، تسلطوا على الأكثري، وأخذوا يديرون البلاد بالظلم والجور والاستبداد وأبشع أنواع الطائفيةوصورها،

ص: 455


1- حياة الحيوان 2: 206.
2- وتسمى اليوم بمدينة الصدر بعد زوال النظام الصدامي البائد.

فيقتلون ويعذبون ويطردون العالم والجاهل، والكبير والصغير، والرجل والمرأة.

التغيير المترقب

حسب ما يبدو أن هناك تغييراً سيحصل في العراق، فيلزم على الشيعة المطالبة الجادة بحقوقهم لأنهم الأكثرية، فإذا كانت الحكومة بيد الشيعة فمعنى ذلك حرية العتبات المقدسة، والحوزات العلمية، وحرية الزيارة، وحرية العلماء، وحرية صلة الأرحام، وحرية الشعائر الحسينية وما إلى ذلك.

أما إذا لم تصبح الحكومة بأيدي الشيعة فإن أل- (15%) من السنة هم الذين سيتسلطون مرة أخرى وتعاد المأساة من جديد.

إبعاد المراجع من العراق

إن حكومة الأقلية وهضمها لحقوق الشيعة في العراق لم تكن في زمن صدام فقط، نعم الضغوط كانت في زمنه أشد، وإلّا فإن أول حكومة السنة عندما تشكلت في العراق قبل سبعين عاماً كانت حكومة فيصل(1)، وأول عمل قامت به هو إبعاد مراجع الشيعة إلى إيران، وكان منهم السيد أبو الحسن، والميرزا النائيني، والسيد عبد الحسين حجت، والسيد علي الطباطبائي (رضوان اللّه عليهم).

وقد استأجر الشيخ عبد الكريم اليزدي(رحمه اللّه)، نفس المنزل الذي نزل فيه السيد البروجردي(رحمه اللّه) في ما بعد، فجاء مراجع التقليد من العراق وسكنوا هذا البيت.

فالضغوط على الشيعة وحوزاتها العلمية ومراجعها بدأت من أول حكومة للأقلية في العراق إلى أن وصل الأمر إلى صدام.

لا تنخدعوا

ربما يقولون: نحن إخوة ولا فرق بين الشيعي والسني، وذلك في محاولة منهم

ص: 456


1- أبو غازي، فيصل بن الحسين بن علي الحسني الهاشمي، ملك العراق.

لإعطاء الحكم إلى الأقلية من جديد.

ولكن علينا أن لا ننخدع بذلك، نعم نحن لا ندعو إلى النزاع والطائفية، ولكن الأخوّة لا تعني أن الأخ يهضم حق أخيه، وخاصة ما يرتبط بحق الأكثرية.

العراق يلزم أن تحكمه الأكثرية الشيعية، وفي نفس الوقت نحن لا نقول بتضييع أي حق من حقوق الأقلية السنية، فالعراق فيه بعض المدن الصغيرة السنية كتكريت وغيرها - مع وجود الشيعة فيها أيضاً بنسبة ملحوظة - فليكن المحافظ ومن أشبه في هذه المدن سنياً. وهكذا بالنسبة إلى سائر أمور هذه المدن، كالتعليم والتربية والقضاء وغيرها.

وقد ذهبت أنا شخصياً إلى تكريت، وذلك عندما أبعدوا إليها أحد أصدقائنا قبل ثلاثين عاماً فذهبت لزيارته هناك، يومها لم تكن تكريت سوى قرية صغيرة، كما لم تكن شوارعها مبلطة، ولم تصلها خدمات الماء ولا الكهرباء، كما لم تعرف خدمة الهاتف مطلقاً، وكانت أزقتها ترابية. حتى عندما ذهبت إلى هناك في منزل صديقنا، وبالرغم من نزوله في بيت شخص قد أبعد أيضاً فقد جاءوا لنا بمدفأة نفطية مما يظهر فقرهم وفاقتهم المادية.

وهكذا يكون حال سائر القرى والمدن السنية: هيت، عانة، كبيسة، جبة.

فالمعيار {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}(1) كما في الآية الكريمة.

رعاية حقوق الأقلية

إن السنة في العراق هم الأقلية، ولكن إذا كانت الحكومة بأيدي الشيعة الأكثرية فهذا لا يعني أن تُهضم حق السنة، بل يُضمن لهم كامل حقوقهم،فترسل إلى تكريت وهيت وعانة وما أشبه محافظ وقائم مقام من السنة، وكذلك

ص: 457


1- سورة البقرة، الآية: 279.

بالنسبة إلى قضاتهم وكتبهم المدرسية، وإذاعتهم وكلامهم وحرياتهم فلا مانع لدينا من ذلك. فإنا لا نريد أن نهضم حقهم.

فيلزم أن يراعى حق الأكثرية، وهذا هو قانون الإسلام، وقانون الديمقراطية اليوم، حيث تعطي الحق للأكثرية في تشكيل الحكومة.

يبقى الكلام في مسؤولية كل واحد منا تجاه هذه المسألة وهي ضرورة حكومة الأكثرية في العراق.

فما هو دورنا في هذا المجال؟

فعلى كل واحد أن يعمل بقدر طاقته، حتى من لا يقدر إلّا على الكلام؛ عليه أن يؤدي دوره بالكلام، فإن قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعمه العباس: «نادِ في القوم وذكرهم العهد»(1) يدل على ضرورة الاستفادة حتى من الصوت والكلام.

فلو أن شيعة بغداد في زمان الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) قاموا بواجبهم في الدفاع عن الإمام(عليه السلام)، وقاموا بتظاهرات وضغوط على الحكومة الظالمة، لم يتمكن هارون من حبس الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، وإذا ما حبسه فكان يطلق سراحه من السجن بسرعة، ولكن أحداً لم يتكلم أبداً.

محاربة الحجاب في إيران

إن للكلام أثراً بالغاً في المجتمع، سواء كان حقاً أم باطلاً.

أحد شعراء إيران ويدعى إيرج ميرزا(2) كان بذيء اللسان فاحشاً، له شعر في ترويج السفور والاختلاط وعدم الحجاب، يقول ما معناه:

علينا أن نحث الناس على عدم الحجاب، فنطرح هنا وهناك فكرة السفور،

ص: 458


1- الإرشاد 1: 142.
2- جلال الممالك ابن غلام حسين المولود بتبريز في شهر رمضان 1291ه، والمتوفى بطهران في شهر شعبان 1344ه .

وشيئاً فشيئاً يسري هذا الكلام في الناس، وبذلك ينكشف وجوه الفتيات(1).

وكان هذا قبل زمان البهلوي(2).

فعندما يطرح في المجتمع فكرة السفور، ترى المؤمنين يحاربونها ويخالفونها، أما الفساق فيرحبون بها، ثم البعض يخالف والبعض يؤيد، فتتهيأ الأرضية لتلك الفكرة.

نعم، إن للكلام والشعار والكلمة تأثيراً كبيراً في المجتمع. سواء أريد بها الحق أم الباطل. ومن هنا نرى تأثير الدعايات البالغ في المجتمع.

أهمية القلم والبيان

إن للكلمة والكلام أهمية خاصة، وكذلك الكتابة، وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية أيضاً.

لقد طالعت الكتب الموجودة الآن والتي يدعى بأنها سماوية، وهي التوراة والإنجيل - وقد أصبحت محرّفة، وبقي القرآن فقط كما أنزله اللّه تعالى من غير تغيير ولا زيادة ولا نقصان وسيبقى كذلك إلى يوم القيامة - كما قرأت كتاب كونفوشيوس(3) والذي كان حكيماً ويبلغ عدد أتباعه خمسمائة مليون شخص في العالم.

ص: 459


1- وأصل الشعر بالفارسية: كم كم اين زمزمة آغاز شود *** بهمين زمزمه روي زنان باز شود
2- رضا خان المعروف بالبهلوي الأول.
3- وهو عبارة عن مجموعة من الأخلاقيات أكدت على المحبة واللياقة والفضيلة والطاعة البنوية والولاء العائلي ونادت بالعدالة والسلام العالمي، تكلم بها كونفوشيوس إلى أتباعه، والتي أصبحت في ما ديناً وفلسفة ونهج حياة عرفت بالكونفوشيوسية، والتي ظلت ألفي عام مصدر هداية ومعرفة للشعب الصيني، وأساس البنية الاجتماعية والتربوية والإدارية التي ميزته عبر العصور. وقد تركت الكونفوشيوسية أثرها العميق في ثقافة الطاويين والبوذيين والمسيحيين الصينيين.

وكذلك طالعت كتاب بوذا، فالبوذيون لديهم كتاب. وكل هذه الكتب تؤكد على أهمية القلم والبيان بشكل أو آخر.

طبعاً لا يكون التأكيد فيها بمثل ما ورد في قرآننا، حيث يحتوي على سورة باسم (القلم) قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}(1)، وهناك سورة أخرى تؤكد على القراءة والكلمة والكلام، حيث قال تعالى في سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(2) وهي أول آية نزلت بعد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} على القول المشهور، و{اقْرَأْ} يعني الكلام.

وقال سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ}(3)، {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}(4).

وهكذا نجد في التوراة عبارة: (في البدء كانت الكلمة)(5)، يعني أن الكلام كان قبل كل شيء.

الكلمة مسؤولية الجميع

الكلمة هي أول ما يطلقها الشخص الذي يريد الخير كالذي يريد أن يبني مسجداً. كما أن الكلمة هي أول ما يطلقها الشخص الذي يريد الشر كمن يريد أن ينشر الخمور.

ومن هنا يلزم على كل واحد منا أن يساهم - على أقل التقادير - بكلمته، حيثيؤكد دائماً وفي كل مكان، على ضرورة أن تكون الحكومة المستقبلية في العراق

ص: 460


1- سورة القلم، الآية: 1.
2- سورة العلق، الآية: 1.
3- سورة إبراهيم، الآية: 24.
4- سورة إبراهيم، الآية: 26.
5- العهد القديم والجديد 2: 145 إنجيل يوحنا، الإصحاح: 1، الآية: 1، مجمع الكنائس الشرقية، بيروت - لبنان.

بيد الشيعة الأكثرية.

فلا يشترط أن يكون الإنسان ذا قوة أو مكانة أو مال أو جيش، بل الكل مسؤول عن الكلمة الحسنة. فعلينا جميعاً أن ننطق بكلمة وكلمة، فهي سهلة يسيرة وخفيفة على اللسان، من على المنبر أو تحت المنبر وفي وسط المجتمع وفي البيت وفي السوق ولكل أحد.

ربما يقول أحدهم: ما فائدة الكلمة وماذا يترتب عليها؟

فنقول: إننا نشاهد جموع السيول تتشكل من القطرات، قطرة واثنتين وثلاث وأربع وخمس قطرات وهكذا... حتى يجتمع السيل. فأنا أتكلم بألف كلمة حول هذا الموضوع مثلاً، وأنت تتكلم بمئات الكلمات، والثالث بألف وخمسمائة كلمة، والرابع بثلاثة آلاف كلمة، وهكذا يتشكل السيل.

نعم، يلزم على الجميع وخاصة العراقيين أن يطالبوا دائماً بتشكيل الحكومة الشيعية في العراق لأنهم الأكثرية.

إدارة الأقلية إدارة ظالمة

إن العراق بلد الشيعة، وفيه كبار علماء التشيع وكبرى الحوزات العلمية، مضافاً إلى تلك الأضرحة الشريفة للأئمة الطاهرين(عليهم السلام). والناس موالون لأهل البيت(عليهم السلام) حيث كانت تقام في مختلف أرجاء العراق أكبر مجالس العزاء واللطم وكذلك الاحتفالات الدينية العطرة، ولكن بعض الأقلية سيطروا على البلاد وعلى الشعب المؤمن بالقوة والسلاح، وعرفوا كيف يديرون الناس بالكبت والإرهاب، تلك الإدارة الظالمة، ويا ليتهم كانوا يكتفون بإدارة البلاد ونهب ثرواتها، ولكنهم يضربون ويسجنون ويقتلون ويبعدون ويصادرون الأموال ويسحقون الأمة بأجمعها.

ص: 461

وكل هذا الظلم الذي يسمع ويرى لم يكن صدام البادئ به أولاً، بل البادئ الأول هو فيصل قبل سبعين عاماً. وهذه المصائب كلها نتيجة حكم الأقلية وإبعاد الشيعة عن الحكم، فكان أول عمل قام فيصل به هو الضغط على الحوزات العلمية وإبعاد الفقهاء والمراجع، وهكذا في الحكومات التي تلتها، وأنا أتذكر كيف كانت تتعامل مختلف الحكومات في العراق مع الشيعة حيث الظلم والاستبداد والكبت والجور.

نعش الإمام الكاظم(عليه السلام)

يوجد مكان في بغداد يدعى (المنطقة) إن شاء اللّه عند ما يزول صدام ستذهبون إلى العراق وتشاهدونها، وقد ذهبت إليها شخصياً. وكان يوم ذكرى شهادة الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، حيث يجتمع من الشيعة مليونان إلى ثلاثة ملايين، فيأتون مشياً على الأقدام من (المنطقة) في بغداد إلى الكاظمية المقدسة وربما تكون المسافة بينهما أكثر من فرسخ، وهم يحملون النعش الرمزي للإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) بكل إجلال واحترام، ولم أر مراسم مثلها تقام إلّا في كربلاء وأيام عاشوراء.

وهذا نوع وفاء للإمام(عليه السلام) حيث لم يأت آنذاك من يشيّع جثمان الإمام فحمله أربعة حمالين!

فلماذا لم يهتم الناس بأمر الإمام(عليه السلام) في ذلك الوقت ولم يفعلوا شيئاً، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي مضت، {لَهَا مَا كَسَبَتْ}(1). ولكن ما هي مسؤوليتنا اليوم حيث يقول تعالى: {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}(2).

ص: 462


1- سورة البقرة، الآية: 134.
2- سورة البقرة، الآية: 134.

لا رأي لمن لا يطاع

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا رأي لمن لا يطاع»(1).

إن العراق تحرر من الاستعمار البريطاني في ثورة العشرين الشهيرة، وكان التحرير بقيادة المرجع الكبير الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه)، وهو خال والدنا(رحمه اللّه)، وقد نقل لنا الوالد(رحمه اللّه) الكثير من قصصه، فقد كان الوالد من تلامذته.

فالشيخ الشيرازي(رحمه اللّه) هو الذي أنقذ العراق من أيدي الإنجليز، في حرب دموية راح ضحيتها ثمانون ألف قتيل من الجيش الإنجليزي ومائتا ألف شهيد من العراقيين، وكانت العشائر العراقية تأتمر بأمر المراجع والعلماء، فتمكنوا من تحرير العراق.

وبعد التحرير ومن أجل تشكيل الحكومة فقد اجتمع الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) بالوجهاء ورؤساء العشائر وقال: الآن وقد تمكنا من تحرير العراق، فأنا لا أريد أن أكون حاكماً عليكم، بل أنا عالم أدعمكم وأحميكم، فانتخبوا واحداً منكم ليكون ملكاً على العراق.

فقالوا: لا نقبل بأن يتأمر علينا أحدنا، وكيف يتأمر رئيس عشيرة على عشيرة أخرى، فالعراق بلد عشائري.

فقال: إذن اجعلوا الحكم دورياً والملكية دورية، يعني يحكم أحدكم سنتين والآخر سنتين... وهكذا.

قالوا: نفس النتيجة فكيف يحكمنا منافسنا... لا نفعل ذلك.

قال: إذن القرعة فهي لكل أمر مشكل، وهو حل عقلي وشرعي، فلنقترع ونجعل واحداً منكم ملكاً؟

ص: 463


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 27 ومن خطبة له(عليه السلام) وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا.

قالوا: نفس النتيجة وهي أن تظهر القرعة باسم فلان، ومعناها أن يصبح فلان حاكماً علينا.

قال: إذن شكلوا حكومة جماعية وقيادة مشتركة - وهذا كلام قاله الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) قبل سبعين سنة لرؤساء العراق - فكم هو عددكم ولنفرض خمسين نفراً، فشكلوا مجلساً رئاسياً، وما تقرره الأكثرية يجرى في العراق.

قالوا: لا نرضى بذلك، كيف نجتمع وكيف وكيف؟

قال: إذن هناك حل آخر - فقد كان يوجد شخصية مرموقة في العراق آنذاك اسمه (فرمانفرما)، وكان من وجهاء الشيعة وكان رجلاً كبيراً ومحترماً وصاحب ثروة وأملاك كثيرة في بغداد وأملاكه موجودة إلى الآن - قال الشيخ: اجعلوه رئيساً عليكم.

قالوا: لا نفعل ذلك؛ لأنه ليس من عنصرنا، وأصله من إيران.

قال الشيخ: الآن إذ لم تقبلوا أي رأي من هذه المقترحات، فاذهبوا واعملوا ما شئتم، وكما يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا رأي لمن لا يُطاع».

وبعد ذلك حكمت الأقلية السنية في العراق وجرى ما جرى من الظلم على شيعة أهل البيت(عليهم السلام) إلى يومنا هذا.

نعم إن «حب الدنيا رأس كل خطيئة»(1)، فعند ما يترك الناس نصيحة القادة الأتقياء الحكماء فلا تكون النتيجة إلّا الخسارة في الدنيا والآخرة.

وفي تاريخ النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نرى عندما لم يعملوا بما أمر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) به أصحابه في غزوةأحد حيث قال لهم: «ابقوا هنا قَتَلنا أو قُتِلنا، غَنَمنا أو غُنِمنا»(2)، لكنهم

ص: 464


1- الكافي 2: 131.
2- انظر تفسير القمي 1: 111-112، حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تخرجوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم».

لم يبقوا وجاءوا لجمع الغنائم والقصة مشهورة. عند ذلك قُتِل سبعون مسلماً من خيرة المسلمين وعلى رأسهم سيد الشهداء حمزة(عليه السلام).

وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى العراق بعد ثورة العشرين، حيث لم يسمعوا كلام القائد، وأخذوا يتنازعون في ما بينهم، حتى جاءوا بسني حكمهم، وأصبح من يومذاك الطائفية والظلم والاستبداد والجور والإرهاب مخيماً على العراقيين.

وإلّا فالعراق أكثره شيعة، وأكثر مدنه شيعية، وحوزاته العلمية حوزات شيعية، وعشائره عشائر الشيعة، ومثقفوه - أي: الجامعيون والأساتذة والمهندسون - أكثرهم من الشيعة، و(99%) من الجيش العراقي من الشيعة، وأعظم التجارة بأيدي الشيعة، ولكن أربعة تعلموا كيف يديرون هؤلاء فسيطروا عليهم وفعلوا بهم ما فعلوا من الظلم والاستبداد، والسر في ذلك أن الشيعة لم يتبعوا قائدهم بعد ثورة العشرين فابتلوا إلى هذا اليوم.

كيف نساهم في تشكيل حكومة الأكثرية؟

نحن يمكننا المساهمة في أن يكون حكم العراق بأيدي الشيعة بعد زوال صدام إن شاء اللّه، وأقل ذلك بالكلمة والكلام.

يقول اللّه تعالى في القرآن: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ}(1).

فعلى كل إنسان أن يقول، حتى لو تصور بأنه لا فائدة في ذلك، فإن أقلالتقادير تكون له المعذرة إلى اللّه عزّ وجلّ، فيوم القيامة نقول: إلهنا نحن قلنا، أنا قلت، وأنت قلت، وهو قال، وهي قالت، وهكذا الآخرون قالوا، من على المنبر وتحت المنبر، وفي كل مكان ولكل أحد: بأنه يلزم أن تكون حكومة العراق بأيدي

ص: 465


1- سورة الأعراف، الآية: 164.

الشيعة.

لقد دعا نوح النبي(عليه السلام) الناس إلى اللّه تسعمائة وخمسين عاماً فلم يؤثر فيهم، قال تعالى: {وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}(1)، قال المفسرون: القليل هو سبعة أشخاص فقط خلال تسعمائة وخمسين عاماً، وأكثر ما قيل في ذلك، قالوا: آمن به ثمانون شخصاً(2).

فإذا ما تحدّث كل واحد منا حول حكومة الأكثرية في العراق، وانتشر ذلك في المجتمع فإنه سوف يؤثر بشكل أو آخر إن شاء اللّه.

أسلوب التحريض

عمرو بن العاص كان حاكم مصر، فطرده عثمان فذهب إلى فلسطين واشتغل بأموره الشخصية وأصبح فرداً عادياً هناك.

وفي أحد الأيام جاء إلى عمرو بن العاص ابنه عبد اللّه، فقال له: أما علمت الخبر؟ قال: كلا، فما الذي حدث؟ قال: قتلوا عثمان. فقال عمرو بن العاص لابنه: قد كنت أُحرض عليه حتى الراعي في الصحراء(3).

أي إنه كان من الذين ساهم في قتل عثمان بتحريضه، فقال: كل من كنت أراه سواء كان رجلاً أم امرأة، طفلاً أم شيخاً، عالماً أم جاهلاً، كنت أتكلم معه ضد عثمان، لقد كنت أحرض عليه حتى الراعي في الصحراء.

فإن أسلوب الكلمة والكلمة تؤثر، سواء في الحق أم الباطل.

ونحن بحمد اللّه نملك القلم ولنا القدرة على البيان، فعلينا أن نؤكد في كل مكان ولكل شخص على ضرورة أن يكون الحكم في العراق بيد الشيعة لأنهم

ص: 466


1- سورة هود، الآية: 40.
2- انظر تفسير مجمع البيان 5: 279.
3- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 144.

الأكثرية.

الكلمة المؤثرة

ورد أن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) في يوم من الأيام كان يمرّ على دار بشر(1) في بغداد، فسمع أصوات الغناء والطرب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البيت فرمت بها في جانب الدرب، فقال(عليه السلام) لها: يا جارية صاحب هذا الدار حرّ أم عبد؟

فقالت: بل حرّ.

فقال(عليه السلام): صدقتِ، لو كان عبداً لخاف من مولاه.

فلما دخلت قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأكِ علينا؟

فقالت: حدثني رجل بكذا.

فأثر كلام الإمام(عليه السلام) في بشر وغيره تغييراً جوهرياً. فخرج بشر حافياً حتى لقي مولانا الكاظم(عليه السلام) فتاب على يديه(2).

فنرى كيف تؤثر كلمة واحدة وتغير من واقع الشخص وتهديه من الضلال إلى الهدى.

دور اللسان وأهميته

في أحد الأيام دخل على معاوية واحد من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) وكان سيداًفي عشيرته، فشتمه معاوية، فخرج مغضباً من الباب وقال شعراً:

أيشتمني معاوية بن حرب *** وسيفي صارم ومعي لساني

وحولي من ذوي يمن ليوث *** ضراغمة تهش إلى الطعان

ص: 467


1- أبو نصر المروزي، بشر بن الحارث بن عبدالرحمن بن عطاء البغدادي المشهور بالحافي.
2- منهاج الكرامة: 59.

فخشي معاوية من لسانه، فاستدعاه وأرضاه، حيث دفع له مالاً كبيراً حتى رضي(1).

نعم، إن اللسان مهم جداً، وأنتم أصحاب لسان وقلم، فعليكم بشحذ الهمة أينما ذهبتم وأينما جلستم، حتى في محل الحلاقة، حيث يمكن للإنسان أن يقول للحلاق: ما هو الوضع في العراق؟ فيقول: لقد بقي هذا اللعين صدام. فيقول له: سيُزال بإذن اللّه تعالى، ولكن يلزم أن يكون مستقبل العراق بأيدي الشيعة وإلّا إذا جاء شخص آخر بعد صدام أسمه هدام مثلاً سيعيد البلاء مرة أخرى على رؤوس الشيعة.

الناس على دين ملوكهم

كان في النجف الأشرف أحد كبار المراجع وهو المرحوم السيد عبد الأعلى السبزواري(رحمه اللّه) وهو من أقاربنا، وقد كان محسناً بغض النظر عن علمه وتقواه، وكانت تربطنا به صداقة منذ خمسين سنة في العراق.

كان هذا السيد الجليل من الذين يساعدون الفقراء ويهتم بالجيران ويحسن إليهم، وكان يعيش عيشة الزهاد، لقد كان رجلاً واقعياً.

عندما أخرج الطغاة جمعاً كبيراً من شيعة العراق بحجة أنهم من أصول إيرانية، كان بعض جيران السيد يسألون أهله: متى يخرجونكم حتى نأخذ منزلكم؟

لماذا أصبح الأمر هكذا؛ لأن الناس على دين ملوكهم كما في الروايات(2).

وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا تغير السلطان تغير الزمان»(3).

ص: 468


1- انظر المستطرف 1: 109، الغدير 10: 171.
2- انظر كشف الغمة 2: 21.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 ومن وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

وفي الختام

إن شاء اللّه سيزول صدام، ولكن من الضروري أن تكون الحكومة بعده بأيدي الشيعة لأنهم الأكثرية، وعلى كل واحد منا مسؤولية بيان ذلك، فالكل يؤكد على ضرورة هذا الأمر بكل ما يمكنه حتى بكلمة واحدة، من على المنبر وتحت المنبر، وفي التجمعات، وعلى انفراد، سواء كان فيه فائدة أم لا، يلزم التأكيد على ضرورة أن تكون حكومة العراق بأيدي الشيعة، يعني أن يكون رئيس الجمهورية من الشيعة، والوزراء من الشيعة، وقادة الجيش من الشيعة، والدوائر من الشيعة، والإعلام بيد الشيعة وهكذا في كل الأمور، وهذا لا يعنى عدم إعطاء الأقلية حقها، بل يضمن لهم كافة حقوقهم.

إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً.

ص: 469

معالجة الأمراض النفسية

نعمة الابتلاء

اشارة

قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَٰذِبِينَ}(1).

هناك ارتباط وثيق بين أعمال الإنسان وبين النظام الكوني، فلو اتجه الإنسان إلى ما تقتضيه الفطرة من طاعة اللّه سبحانه وتعالى لنزلت الخيرات، وانفتحت أبواب البركات، بخلاف ما لو انحرف عن طريق العبودية، وتمادى في غيّه فإنه يستوجب ظهور الفساد، ونشوب الحروب، وحدوث الكوارث الكونية كالزلازل والصواعق، فهذه الأمور كلها ترجع إلى أعمال الإنسان، فقد قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2).

إلّا إذا كان الأمر بحسب ما تقتضيه السنة الإلهية من الاستدراج والابتلاء، فإذا نزلت بلية أو مصيبة من مرض وغيره على فرد من الأفراد، فإن كان صالحاً كانت تلك فتنة ومحنة يمتحنه اللّه بها، فقد قال سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ

ص: 470


1- سورة العنكبوت، الآية: 2-3.
2- سورة الأعراف، الآية: 96.

صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَٰذِبِينَ}(1) وواضح أن ذلك هو الآخر مكمّل للإنسان ومقوّملوجوده وغايته.

وإن كان المبتلى غير صالح كان ذلك تنبيهاً له وعقاباً على أعماله ليرجع إلى صوابه ورشده، فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٖ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}(2).

إذن فالبلايا والمصائب من الأمراض وغيرها، هي نعم من اللّه على بني الإنسان، ليتعظوا ويتذكروا بها، ويتركوا المعاصي، فهذا مقتضى الحكمة الربانية في تمييز الطيب من الخبيث.

عيِّنة من الابتلاء

فلو أخذنا جانباً من جوانب الابتلاء، كالأمراض التي تصيب بني الإنسان فهي على قسمين:

القسم الأول: الأمراض الجسمانية - البدنية - ، وهي ما تختص بجسد الإنسان وتمتاز بكون تأثيرها مباشراً.

وكما يقول الأطباء بأن الأمراض التي تؤلم الإنسان تدفعه للبحث عن علاج لها.

القسم الثاني: الأمراض النفسية، اذ لا يحس صاحبها فيها بالألم المباشر، بل هي تتولد وتنمو وتتفاقم أحياناً دون أن يلتفت الإنسان إلى خطرها وعندما لا

ص: 471


1- سورة العنكبوت، الآية: 2-3.
2- سورة الأنعام، الآية: 42-44.

يستشعر الإنسان بآلام الأمراض النفسية بصورة مباشرة فإنه لا يندفع للبحث عن سبل العلاج، وبالنهاية يكون تأثيرها أكبر وأخطر من الأمراض البدنية. فالأمراضالنفسية أشد صعوبة في العلاج من الأمراض الجسمية، إذ كثيراً ما لا يجد الإنسان علاجاً ناجحاً لها، وعندما تستفحل مثل هذه الأمراض على المبتلى بها ينعدم عنده صفاء وسلامة القلب؛ فيعيش في أوهام وتخيلات بعيدة عن الواقع، أو يعيش حالات الأمراض الحاجبة والمانعة عن رؤية الحقائق الغيبية الإلهية، وقد يموت قلبه بسبب هذه الأمراض الخطيرة، مثل مرض حب الدنيا وغفلة القلب وقساوته، وطغيان الغضب والحسد والتكبر والعجب وغيرها، وهذه الأمراض أخطر من الأمراض البدنية - التي منشؤها نتيجة اختلالات عصبية - لأن هذه الأمراض لا تتعدى آثارها وخطورتها عن هذه الحياة الدنيا بينما الأمراض النفسية كالرياء والنفاق تبقى آثارها وتبعاتها ملازمة للإنسان في حياته الأخروية.

لقد ذكر الأطباء أموراً عديدة في مجال الأمراض النفسية، والمعاناة التي ترافقها، نذكر لكم بعضاً منها على سبيل المثال:

يحسب نفسه بقرة!!

نقل بعض الأطباء أن شخصاً قبل ألف سنة كان يتصور بأنه بقرة، وكان يصرّ على الآخرين بذبحه.

بعض الأطباء كانوا يضحكون عليه، والبعض الآخر كانوا ينصحونه ليقنعوه بأنه ليس بقرة، ولكن كان إصراره يزداد يوماً بعد يوم، وكان يقول اذبحوني لتنتفعوا من لحمي.

آخر الأمر نقلوا الخبر إلى (ابن سينا) الذي كان قد دخل تلك المدينة حديثاً بعد غياب طويل، فقالوا له ما علاج هذا المرض؟

ص: 472

قال: أنا سوف أعالجه بشرط أن لا يتدخل أحد في عملي فقال (والكلام لابن سينا): ادعوني في أحد الأيام لوجبة غذاء، واحضروا ذلك المريض، فإذا أعطانيالسكينة لأذبحه اقبلوا ذلك، ولا تأخذوا من يده السكين، وبعدها بأي أمر آمركم أطيعوني.

فجاء ابن سينا بعدما وجهوا له الدعوة، وجيء بالمريض إليه، وهو يحمل سكينة حادة بيده، وقال له: إذبحني إني بقرة.

فقال (ابن سينا): نعم، إنك بقرة ولا شك في ذلك.

- ففرح المريض كثيراً عندما وجد من يصدقه بأنه بقرة - بعدها قال ابن سينا لمن حوله: اربطوا رجليه ويديه وأتوني بطشت أو قدح كبير أضع لحمه فيه بعد أن أقطعه.

بعدها جاء ابن سينا وأخذ السكينة بيده ووضعها أمام رقبته، وكان المريض مسروراً جداً، ثم ضرب ابن سينا قليلاً على بطنه، ثم قال للأسف إنك بقرة ضعيفة وليس في بدنك اللحم الكافي والجيد، فلا بد أن نعطيك العلف الكثير، وبعد شهر سوف نذبحك بعد أن تسمن، فقال المريض: لا بأس سوف أأكل العلف لكي أسمن. عندها أمر ابن سينا بأن يأتوا إليه بالحشائش الطبية التي كانت تنفع لمثل هذا المرض وتقضي عليه، ووضعوها أمامه، فأخذ المريض بالتناول منها بالشكل الكثير والمنتظم، وبعد شهر عادت إليه صحته بالكامل، بعدما كان يرفض تناول الأدوية ويصر على ذبحه.

الجرة الوهمية

نقل المرحوم الوالد(رحمه اللّه)، بأن شخصاً في سامراء أصيب بالجنون، وكان جنونه أنه عندما كان يمشي أو يريد الجلوس كان يهدأ ويتباطأ جداً، بحيث لا يهتز جسده، ولا يتحرك يميناً ولا شمالاً أبداً، وكان يقضي ليلة كاملة بالجلوس حتى الصباح وبصورة

ص: 473

واحدة، وكان يقول بأن على رأسي جرة ماء فإذا اصطدمت الجرة بشيء فسوف تنكسر على رأسي وعندها سوف تنتهي حياتي، فلهذا كان لا يحرك رأسه ولا جسده أبداً،وإذا جلس في مجلس كان لا يلتفت يميناً ولا شمالاً خوفاً من الموت.

فجاءوا به إلى الطبيب، فقال الطبيب: أنا أعالجه.

فأجلس المريض أمامه، وقال له: إن ما تتصوره وتقوله صحيح بالكامل، وهذا المرض مكتوب في طب (جالينوس) وإذا ما سقطت الجرة من على رأسك انكسرت ومت بعدها، ولكن عندي الدواء الصالح لمرضك هذا.

ففرح المريض كثيراً، وأخذ يتناول الأدوية التي وضعها له الطبيب، وبعد مدة من العلاج، قال الطبيب: الجرة التي على رأسك يمكن رفعها شيئاً فشيئاً، فإن حالة الالتصاق برأسك بدأت تزول.

فقال المريض: لا بأس بذلك.

وبعد أيام هيأ الطبيب جرة بنفس تلك المواصفات التي وصفها المريض، وعلّقها بالسقف بالشكل الذي يمكن الوقوف تحتها، ثم قال للمريض: قف في هذا المكان (وهو المكان الذي فوقه الجرة) دون أن ينظر إليها، وعندما وقف بالقرب من الجرة أمر الطبيب بالقاء الجرة التي هيأها، فسقطت على الأرض وانكسرت وأريق الماء الذي كان فيها، ثم قال للمريض: بأن هذه هي الجرة التي كانت على رأسك فسقطت الآن، وانكسرت وأُريق ماؤها، ولكن بقيت أنت سالماً على قيد الحياة، ففرح المريض كثيراً من قول الطبيب وعادت إليه حالته الطبيعية.

الملوكية الوهمية

نقل أحد الخطباء هذه القصة: بأنه كان في طهران مريض مصاب بكثرة التخيلات، فكان يتصور بأنه ملك، وكان ينتظر من الناس أن يحترموه كثيراً، كما

ص: 474

يحترم العبيد أسيادهم، ولا بد أن ينادوه أو يلقبوه بصاحب الجلالة (الملك المعظم)، وكلما كانوا يراجعون الأطباء لم يرون له تحسناً ولا شفاءً لحالته، فكان البعض يضحكون عليه، والبعض الآخر ينصحونه، دون أن ينفعه ذلك.

قال أحد الأطباء: أنا أعالجه، ولكن بشرط أن تهيّؤا لي بيتاً جيداً، وبعض الخدم، لكي أستطيع القيام ببعض الأعمال التي تناسب مقام الملوك والأمراء، وبهذه الطريقة أعالجه من مرضه. فلما هيّئوا له ما طلب، دخل الطبيب البيت، فأخذ ينحني للمريض معظماً له، وقام الخدم بالأفعال والأعمال التي يؤديها حاشية الملوك عادة.

وبعد مدة من ذلك العمل الذي قام به الطبيب، أخذ المريض بالاعتقاد بأن هؤلاء يتصورون بأنه ملك، وأنهم مصدقون لما في نفسه، وفي تلك الفترة كان الطبيب يعطيه الأدوية المفيدة لعلاج حالته، ووصف له دواءً لا بد أن يوضع على رأسه، ويبقى ذلك لمدة أسبوع كامل لكي يشفى تماماً، ولكن المريض (الملك الخيالي) رفض أن يضعوا له ذلك الدواء، والذي كان فيه مواد صمغية على رأسه، فابتكر الطبيب الحاذق طريقة ذكية لاستعمال الدواء، فقال الطبيب (مخاطباً المريض): يا صاحب الجلالة المعظم، لا بد أن يوضع على رأسك بعد أسبوع تاج الملوكية، ونحن سوف نهيّئ لك ذلك، ولكن قبل أن نضع التاج الذهبي على رأسك، لا بد أن نضع هذا الدواء لكي لا يتألم رأسك من التاج.

فوافق المريض بوضع الدواء على رأسه، ومن ثم صنعوا له تاجاً من الورق السميك (الكارتون) وفيه شيء من المواد الطبية، وبعدها حلقوا رأسه كاملاً فوضع الطبيب التاج الورقي على رأس الملك - المريض - ، وقال له: لا بد أن تبقي التاج على رأسك لمدة أسبوع كامل، حتى عند ذهابك إلى النوم، لكي يعلم الجميع بأنك ملك حقاً. (وهذا الكلام قاله الطبيب بعد ان أنتهت مراسيم

ص: 475

الاحتفال البهيج الذي أقامه الطبيب لهذا الأمر).

وبعد أن قدموا التهاني والتبريك، وبعد أسبوع كامل، أثّر ذلك الدواء الذيوضعه على رأسه بواسطة التاج الورقي، وذهب الجنون من رأسه كاملاً.

الطبيب الحاذق

ان هذا النوع من البلايا التي تصيب البعض قد تصيب الأمة بأجمعها، فتكون الأمة مبتلاة إلى أن يتهيأ لها من ينقذها، كما هو شأن الطبيب الحاذق الذي يعالج هذه الحالات المرضية الصعبة لينقذ أصحابها مما كانوا مبتلين.

وخير مثال لنا الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إبلاغ رسالته السمحاء إلى الأمة أجمع، فقد ابتلي بأناس سيطر الجهل والكفر عليهم، وسيطرت عليهم الأمراض القلبية والنفسية بحيث قست قلوبهم، وماتت أرواحهم، فلم تكن لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(1).

ونبينا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الطبيب الدوار كما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يحمل أدويته ومياسمه ومراهمه ليداوي أمراض القلوب ويحيى ميّت النفوس ويعالج جميع الآفات والأدران التي أصابت قلوب الناس(2).

علاج القلوب

وهذه هي مهمة الأنبياء(عليهم السلام) بل هي أشرف وأعظم المهام التي يضطلع بها

ص: 476


1- سورة الحج، الآية: 46.
2- أنظر نهج البلاغة، الخطب الرقم: 108، وفيها قوله(عليه السلام): «طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة، لم يستضيئوا بأضواء الحكمة، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة، فهم في ذلك كالأنعام السائمة والصخور القاسية...»

الأنبياء (صلوات اللّه عليهم)، فأول مهمة شرع بها رسولنا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي المهمة المتعلقة بعلاج القلوب وشفائها؛ لتكون مستعدة لتقبّل مبادئ الوحي وأحكامالشريعة السمحاء، فإن القلب المريض بأمراض الزيغ والرين وحجاب الظلمات لا يستطيع أن يبصر أنوار الحق ومصابيح الهداية الإلهية، ولذلك فإن رسولنا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ابتدأ أولاً بتطهير القلوب وتزكيتها وتصفيتها عمّا علق بها من آفات وأدران الجاهلية الجهلاء، فقد عالج أمراض القلوب بأسلوب إعجازي تظهر فيه حكمة النبوّة وألطاف الوحي ليشفي الصدور بأصدق عاطفة، وأرق رحمة، ليخرجهم من ظلمات الجهل وأمراض القلب إلى نور العلم وشفاء الصدور وراحة الضمير وطمأنينة النفس وطهارة الروح، وفي سبيل ذلك تعرض لأقسى الشدائد وأجلّها من الضرب والإدماء حتى قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(1)، وفي مقابل ذلك لم يقل فيهم إلّا خيراً، حيث قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»(2).

لأن الطبيب غايته ابراء المرضى وشفائهم؛ فلذلك يتحمل كل المشاق، فمنذ بداية الدعوة تجسدت شخصية الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي استطاع أن يكسب الكثير من الذين وقفوا معه صفاً واحداً لإعلاء كلمة اللّه، وتوسيع نطاق الدعوة الإسلامية، حتى قال عنه تعالى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}(3) وذلك لتحقيق الهدف الذي جاء من أجله، وهو تجسيد الإنسانية، وإظهار كنوزها، والارتفاع بالإنسان إلى مستوى الجدارة الحقيقية بتمثيل خلافة اللّه على

ص: 477


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 247.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 99.
3- سورة النصر، الآية: 2.

الأرض، كما أشار في قوله تعالى إلى ذلك، حيث يقول: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِإِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}(1) وذلك ذروة العلاج ومنتهاه وأسمى منزلة ولا شيء فوقها، وهي الغاية فبالإضافة إلى تبليغ رسالة اللّه لهم، وقد أشار إلى هذا أيضاً في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).

وقد ذكرنا في تفسير هذه الآية الكريمة أن: {هُوَ} اللّه {الَّذِي بَعَثَ} أي أرسل {فِي الْأُمِّيِّۧنَ} الأمي المنسوب إلى الأم المراد بهم العرب، سموا بذلك إما لأنهم من (أم القرى) أي مكة المكرمة - المسماة بذلك لأن القرى دحيت من تحتها - وإما لأن الغالب منهم لم يكونوا يعرفون القراءة والكتابة فهم - في جهلهم - كالذي خلق من الأم لا يعرف شيئاً، والبعث في الأميين لا يلازم أن يكون لهم وحدهم، حتى تدل الآية على خصوص نبوته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {رَسُولًا} لأجل هدايتهم {مِّنْهُمْ} أي من أنفسهم ومن أهل بلدهم. {يَتْلُواْ} أي يقرأ {عَلَيْهِمْ} أي على أولئك الأميين {ءَايَٰتِهِ} أي أدلته. أو آيات القرآن {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم تطهيراً علمياً، فإن المعلّم الرقيب يطهر تلاميذه عن أدران القلوب والجوارح بحفظهم عن الرذائل والأعمال المنكرة. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ} أي أحكامه وشرائعه {وَالْحِكْمَةَ} بأن يعرفوا وضع الأشياء مواضعها، فإن الحكمة هي وضع الشيء موضعه. {وَإِن كَانُواْ} أي هؤلاء الأميون. {مِن قَبْلُ} أي قبل أن يأتيهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} أي في إنحراف ظاهر، فلا عقائد صحيحة، ولا أعمال صالحة، ولا عادات طيبة، ولا أخلاق فاضلة، يعني أنه يوصلهم إلى أرقى

ص: 478


1- سورة البقرة، الآية: 30.
2- سورة الجمعة، الآية: 2.

مراقي الكمال،وإن كانوا قبل ذلك في أبعد متاهات الضلالة(1).

فقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدعوهم إلى العلم والعمل، لانقاذهم من الضلالة، ونقلهم إلى عالم النور والفضيلة.

التمويه والكذب

اشارة

إن التاريخ البشري احتوى على نماذج من الأنظمة والسلطات الداعية إلى العيش الهانئ والسعادة الشاملة، وكل من هؤلاء الدعاة يريد أن يصل إلى مبتغاه بالطريقة التي يراها مناسبة له، وعن طريقها يمكنه السيطرة على المجتمع، الفئة الأولى من تلكم الأنظمة والسلطات هي فئة كاذبة في دعواها، وقد تغلبت على البشرية في أكثر الأدوار، واستخدمت التمويه والكذب والخداع، ولم تفكر ولو للحظة في مصلحة الفرد والأمة، أو في الحقوق الشخصية الإنسانية، وأفراد تلكم الفئة ما يزالون مقبلين على الظلم والتسلط على رقاب الشعوب المسلمة خاصة، بشتى وسائل الجناية والعدوان، وحتى إذا بدر منهم ما يدل على عدالتهم فهو مجرد تمويه وسلوك عرضي للوصول إلى غايتهم المنشودة ومآربهم الخبيثة.

وهؤلاء هم السلاطين، الذين يسعون وراء مصالحهم الشخصية، ضاربين عرض الجدار جميع المصالح الإنسانية للمجتمع، كابحين جماح التطلع للعيش السليم لدى الجماهير صيانة لمنافعهم غير المشروعة.

يقولون ما لا يفعلون

فعلى سبيل المثال في مجتمعنا هذا؛ البعض يقول: نحن أتباع الدين الإسلامي، ولا نريد الميل إلى الأفكار الخارجية المريضة، مع أنهم في نفس الوقت يطبقون القوانين الغربية في بلادهم. نحن لسنا ضد التقدم والتطور ولكن

ص: 479


1- تفسير تقريب القرآن 5: 411.

ضمن حدود القوانين الإسلامية، والرسالة السماوية السمحاء، فالعقل والشرع لا يمنعان الاستفادة من التقدم، ولو من أهل الكفر والفسوق،فقد نقل عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «الحكمة ضالة المؤمن، فالتقفها ولو من أفواه المشركين»(1).

ولكن ذلك ضمن ضوابط وأطر معينة، حيث وضع الإسلام شروطاً واضحة لا يمكن تجاوزها، ولا يمكن تعليق الأمل على هؤلاء في إصلاح حال المجتمع، وحل الكثير من قضايا المسلمين المستعصية على بعض القوى المهيمنة على مقدرات الشعوب الإسلامية وطموحاتها، فقد جاء في الحديث القدسي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال أوحى اللّه تعالى إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه إليه: «وعزتي وجلالي وعظمتي وارتفاعي لأقطعن رجاء أمل كل مؤمل يأمل غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة في الناس، ولأبعدنه من فرجي وفضلي، أيؤمل عبدي غيري في الشدائد والشدائد بيدي، ويرجو سواي وأنا الغني الجواد، أبواب الحوائج عندي وبيدي مفاتيحها، وهي مغلقة» الحديث(2).

المعرفة بالإنسان طريق الإصلاح

أما الفئة الثانية من تلكم الأنظمة والسلطات فهي فئة غير كاذبة، ولكنها لم تأت بما كان كافياً لتحقيق أهدافها، وهم بعض المصلحين، أو الذين ادعوا الاصلاح، فهم رغم طرحهم الصادق في الغالب لدعواهم وأهدافهم، إلّا أنهم لم يستطيعوا تحقيق أهدافهم من خدمة المجتمع البشري وتلبية حاجاته المادية والمعنوية؛ وذلك لأنهم لم يعرفوا حقيقة المتطلبات والحاجات الفطرية

ص: 480


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 81.
2- إرشاد القلوب 1: 122.

والروحية لهذا الإنسان، حيث إنهم - غالباً - يبحثون جانباً واحداً من هذه الحاجات، ويقتصرون على تلبية الجانب المادي للإنسان ويتركون الجوانب الأصلية والأساسية؛ ولهذا تبقى البشرية تعيش حالة من الفراغ الروحي، فهم لم يسدوا هذا الفراغ الحاصل، ولم يأتوا بالتعاليم الكافية لحل مشاكل المجتمع البشري. ولا فرق في ذلك بين المجتمع القديم والمجتمع الحديث، إلّا أن مجتمعنا اليوم أصبح لديه نظرة واسعة، وبات أكثر تفتحاً وتحفزاً نحو الإصلاح.

أما المجتمع القديم فإنه رغم الجهل الشديد، إلّا أن خاتم الأنبياء والمرسلين(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استطاع أن يأخذ بيد الإنسانية ويهديها إلى الصراط القويم، رغم الآلام والمصاعب التي تعرض لها من المجتمع، فضلاً عن الأذى والمشاكل التي كان يواجهها من الأعداء.

العلاج الناجع لمشكلاتنا المعاصرة

أما مجتمعنا اليوم فقد ابتلى بحالة من اليأس، والسؤال هنا هو كيف يتم علاج هذه الحالة؟

والجواب على ذلك: إن العلاج لا يتم إلّا بإيجاد ذلك الطبيب الماهر المطيع للّه ولرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حتى يتسنى له استئصال ذلك المرض من أساسه، وبالتالي يسهل عليه قيادة الأمة إلى بر الأمان.

وهذا العمل ليس بالأمر الهيّن، حيث يتطلب منه أن يوجد أسلوب معالجة دقيقة وفعّالة للفرد الإنساني من خلال اتباع العقيدة الألهية، والشريعة الإسلامية، التي فرضت على الإنسان أن ينظر إلى الحياة نظرة تفاؤلية إيجابية، بأن يراها مثمرة باعتبار أنها مزرعة الآخرة، فعليه أن يستغلها أحسن استغلال، ويخلص نفسه من الكسل واليأس والتشاؤم، ويسعى للاستفادة من جميع أوقاته ولحظاته، ومواهبه وقواه وإمكاناته، ويسخرها لتطوير ذاته من النواحي الفكرية والروحية

ص: 481

والثقافية؛ ليساهم بعد ذلك بتطوير مجتمعه، وإلى هذا المعنى أشار الإمام السجاد(عليه السلام) في بعض أدعيته وهو يدعو ربه، حيث يقول: «ولا تؤيسني من الأمل فيك، فيغلب عليّ القنوط من رحمتك»(1).

وحيث قال اللّه تعالى في كتابه العزيز: {لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(2). فما دام الإنسان بطبيعته لدية ملكة حب الاستطلاع والتفحص، فإنه لا بد أن يعلم أن اللّه قد خلق كل ما في العالم بعضه لبعض، وخلق الكل للإنسان «عبدي! خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي»(3)، وأن كل ما في الوجود منقاد للّه تعالى، فعندما يحس بانجذابه إلى الطبيعة التي غدت ساجدة للّه سبحانه وتعالى، فإنه حينئذ يتجاوب معها ويستفيد منها للوصول إلى الغاية المثلى التي من أجلها خلق، وبذا تكون نظرته إلى الحياة نظرة إيجابية واقعية، وهذا لا يحصل إلّا لمن يحرز الاعتقاد الإيماني الإلهي، وبعكسه فإنه لا يرى غاية ولا حكمة ولا واجباً ولا تجاوباً، فنراه استولى على نفسه اليأس، وعندما يستولي اليأس على النفس الإنسانية يجعلها خائرة القوى ضعيفة الإرادة متشائمة لا ترى في هذه الحياة الدنيا أملاً أو بريقاً من التفاؤل.

فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل...، يُعجَب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلي،... إن استغنى بطر وفُتن، وان افتقر قَنِط ووهن»(4).

ص: 482


1- الصحيفة السجادية، دعاءه(عليه السلام) يوم عرفة.
2- سورة الزمر، الآية: 53.
3- مشارق أنوار اليقين: 283.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 150.

اللّهم بحق محمد وآل محمد اصرف عني الآفات والعاهات واقض بالحسنى في أموري كلها ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً واصلح لي في سريرتي. اللّهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك واعصمني من همزات الشياطين يا أرحم الراحمين بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

النفس الإنسانية

قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}(1).

وقال سبحانه: {وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفْسِهِ}(3).

وقال جلّ وعلا: {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}(4).

معرفة النفس

قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ ءَايَٰتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(5).

وقال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِي الْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}(7).

ص: 483


1- سورة يوسف، الآية: 53.
2- سورة طه، الآية: 96.
3- سورة العنكبوت، الآية: 6.
4- سورة إبراهيم، الآية: 22.
5- سورة الذاريات، الآية: 20-21.
6- سورة فصلت، الآية: 53.
7- سورة الفجر، الآية: 27-30.

وقال جلّ وعلا: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(1).

آثار الاستغفار

قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}(2).

وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}(4).

قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٖ فَضْلَهُ}(5).

عوامل انحراف النفس

وقال سبحانه: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَٰوَةً}(6).

وقال عزّ وجلّ: {كَلَّا بَلْۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(7).

قال تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَٰسِقِينَ}(8).

ص: 484


1- سورة الشمس، الآية: 7-10.
2- سورة النساء، الآية: 110.
3- سورة الأنفال، الآية: 33.
4- سورة النساء، الآية: 64.
5- سورة هود، الآية: 3.
6- سورة الجاثية، الآية: 23.
7- سورة المطففين، الآية: 14.
8- سورة البقرة، الآية: 26.

وقال سبحانه: {كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}(1).

عوامل صلاح النفس

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(2).

قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}(3).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

النفس الإنسانية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن النفس لجوهرة ثمينة من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها»(7).

وقال(عليه السلام): «أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض عمّا تبذل من نفسك عوضاً»(8).

ص: 485


1- سورة غافر، الآية: 34.
2- سورة الرعد، الآية: 28.
3- سورة الأنعام، الآية: 125.
4- سورة يونس، الآية: 57.
5- سورة العنكبوت، الآية: 69.
6- عدة الداعي: 314.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 227.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 144.

وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «من أطاع هواه أعطى عدوه مناه»(1).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أكرم نفسك ما أعانتك على طاعة اللّه»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم»(3).

معرفة النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عرف نفسه فقد عرف ربه»(4).

سئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): كيف الطريق إلى معرفة الحق؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «معرفة النفس».

فقال: يا رسول اللّه، كيف الطريق إلى موافقة الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مخالفة النفس»، قال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى رضاء الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سخط النفس»، فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى وصل الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هجر النفس»، فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى طاعة الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عصيان النفس»، فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى ذكر الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نسيان النفس»، فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى قرب الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «التباعد عن النفس»، فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى أنس الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الوحشة من النفس»، فقال: يا رسول اللّه، كيف الطريق إلى ذلك؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الاستعانة بالحق على النفس»(5).

ص: 486


1- أعلام الدين: 309.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 135.
3- الكافي 2: 335.
4- بحار الأنوار 2: 32.
5- عوالي اللئالي 1: 246.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم»(1).

وقال(عليه السلام): «أفضل الحكمة معرفة الإنسان نفسه ووقوفه عند قدره»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «سد سبيل العجب بمعرفة النفس»(3).

آثار الاستغفار

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أكثر الاستغفار جعل اللّه له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لكل داء دواء ودواء الذنوب الاستغفار»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استغفر ترزق»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا أكثر العبد من الاستغفار رفعت صحيفته وهي تتلألأ»(7).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كثرت همومه فعليه بالاستغفار»(8).

عوامل انحراف النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حبك للشيء يعمي ويصم»(9).

ص: 487


1- عيون الحكم والمواعظ: 434.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 199.
3- تحف العقول: 285.
4- عدة الداعي: 265.
5- ثواب الأعمال: 164.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 130.
7- الكافي 2: 504.
8- الكافي 8: 93.
9- من لا يحضره الفقيه 4: 380.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ومن عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة»(1).

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، وسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك... كثيرة العلل طويلة الأمل إن مسها الشر تجزع وإن مسها الخير تمنع ميالة إلى اللعب واللّهو، مملوءة بالغفلة والسهو تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة»(2).

وعن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «من لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى»(3).

عوامل صلاح النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وعودوا قلوبكم الرقة، وأكثروا من التفكر والبكاء من خشية اللّه»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا أحب اللّه تعالى عبداً نصب في قلبه نائحة من الخوف، وإذا أبغض عبداً جعل في قلبه مزماراً من الضحك»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «غالبوا أنفسكم على ترك العادات تغلبوها وجاهدوا أهواءكم تملكوها»(6).

ص: 488


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 109، من خطبة له(عليه السلام) في بيان قدرة اللّه.
2- زاد المعاد: 407.
3- معاني الأخبار: 198.
4- أعلام الدين: 146.
5- أعلام الدين: 146.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 473.

وقال(عليه السلام): «دواء النفس الصوم عن الهوى والحمية عن لذات الدنيا»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليهاوالأخذ من فنائها لبقائها، وتزودوا وتأهبوا قبل أن تبعثوا»(2).

وقال(عليه السلام): «طوبى لمن غلب نفسه ولم تغلبه، وملك هواه ولم يملكه»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «كفاك في مجاهدة نفسك أن لا تزال أبداً لها مغالباً وعلى أهويتها محارباً»(4).

ص: 489


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 819.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 352.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 820.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 523.

مكانة القرآن الكريم في المجتمع الإسلامي

أهمية اتباع القرآن

اشارة

قال تبارك وتعالى: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن هذا القرآن هو النور المبين، والحبل المتين، والعروة الوثقى - إلى أن قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): - من استضاء به نوّره اللّه، ومن اعتقد به في أموره عصمه اللّه، ومن تمسك به أنقذه اللّه، ومن لم يفارق أحكامه رفعه اللّه، ومن استشفى به شفاه اللّه، ومن آثره على ما سواه هداه اللّه، ومن طلب الهدى في غيره أضله اللّه، ومن جعله شعاره ودثاره أسعده اللّه، ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوّله الذي ينتهي إليه، أداه اللّه إلى جنات النعيم، والعيش السليم؛ فلذلك قال: {هُدًى} يعني: هذا القرآن هُدىً و{بُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ}(2) يعني بشارةً لهم في الآخرة...»(3).

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب

ص: 490


1- سورة الإسراء، الآية: 9.
2- سورة البقرة، الآية: 97.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 449.

آراءهم جميعاً، وإلههم واحد، وكتابهم واحد! أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن تبليغه وأدائه، واللّه سبحانه يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ}(1)وفيه تبيان كل شي ء، وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وأنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(2) وإن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لاتفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلّا به»(3).

وروي عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «من قرأ القرآن وهو شابٌ مؤمن، اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله اللّه عزّ وجلّ مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة، يقول: يا رب، إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي، فبلِّغ به أكرم عطاياك، قال: فيكسوه اللّه العزيز الجبار حلّتين من حلل الجنة، ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب، قد كنت أرغب له في ما هو أفضل من هذا، فيعطي الأمن

ص: 491


1- سورة الأنعام، الآية: 38.
2- سورة النساء، الآية: 82.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 18، ومن كلام له(عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا. وفي بيان العلامة المجلسي(رحمه اللّه) لهذا الحديث قال: «هذا تشنيع على من يحكم برأيه وعقله، من غير رجوع إلى الكتاب والسنة وإلى أئمة الهدى(عليهم السلام)؛ فإن حقية هذا إنما يكون إما بإله آخر بعثهم أنبياء وأمرهم بعدم الرجوع إلى هذا النبي المبعوث وأوصيائه(عليهم السلام)، أو بأن يكون اللّه شرك بينهم وبين النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في النبوة، أو بأن لا يكون اللّه عزّ وجلّ بين لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جميع ما تحتاج إليه الأمة، أو بأن بينه له لكن النبي - حاشاه - قصر في تبليغ ذلك ولم يترك بين الأمة أحداً يعلم جميع ذلك، وقد أشار(عليه السلام) إلى بطلان جميع تلك الصور، فلم يبق إلّا أن يكون بين الأمة من يعرف جميع ذلك ويلزمهم الرجوع إليه في جميع أحكامهم»، انظر بحار الأنوار 2: 284.

بيمينه والخلد بيساره، ثم يدخل الجنة، فيقال له: اقرأ واصعد درجة، ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول: نعم، قال: ومن قرأه كثيراً، وتعاهده بمشقة من شدة حفظه، أعطاه اللّه عزّ وجلّ أجر هذا مرتين»(1).

لذا يجب تطبيق الفكر والعمل وفق تعليمات وإرشادات القرآن الكريم في كافة مجالات الحياة، مضافاً إلى التمسك بأهل البيت(عليهم السلام) فإنهم عِدل القرآن. ولا يصح العمل بالقياس(2) - مثلاً - كما كان يصنع أبو حنيفة، وهو مؤسس المذهب الحنفي القائل بالرأي والقياس، وكان هذا الرجل يدعو الناس ضد المنصور الدوانيقي وقد قيل أنه بسبب ذلك قتل على يد المنصور؛ ولهذا يعتبره أتباعه شهيداً، وأبو حنيفة هذا درس سنتين من عمره عند الإمام الصادق(عليه السلام) حتى روي عنه قوله: «لولا السنتان لهلك النعمان»(3)، وكان عندما يأتي إلى المدينة يذهب إلى زيارة الإمام الصادق(عليه السلام) مراراً وتكراراً.

الراسخون في العلم

قال تبارك وتعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٖ}(4).

وقال سبحانه: {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُم}(5).

ص: 492


1- الكافي 2: 603.
2- القياس: هو أن ينتقل الذهن من حكم أحد الشيئين إلى الحكم على الآخر لجهة مشتركة بينهما، وبعبارة أخرى هو: إثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر مشابه له، وهو المسمى في عرف المناطقة بالتمثيل. وفي عرف الفقهاء بالقياس، الذي يجعله أهل السنة من أدلة الأحكام الشرعية، والإمامية ينفون حجيته، ويعتبرون العمل به محقاً للدين وتضييعاً للشريعة.
3- انظر شرح إحقاق الحق 28: 467.
4- سورة الروم، الآية: 29.
5- سورة محمد، الآية: 14.

وعن بريد بن معاوية عن أحدهما(عليهما السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1): «فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل الراسخين في العلم، قد علمه اللّه عزّ وجلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان اللّه لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم فأجابهم اللّه بقوله: {يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}(2) والقرآن خاص وعام، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه»(3).

ودخل قتادة بن دعامة(4) على أبي جعفر(عليه السلام) فقال له: «يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة؟».

فقال: هكذا يزعمون.

فقال أبو جعفر(عليه السلام): «بلغني أنك تفسر القرآن؟».

فقال له قتادة: نعم.

فقال له أبو جعفر(عليه السلام): «بعلم تفسره أم بجهل؟».

قال: لا بعلم.

فقال له أبو جعفر(عليه السلام): «فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت وأنا أسألك - إلى أن قال أبو جعفر(عليه السلام) - ويحك يا قتادة، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ... ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به»(5).

ص: 493


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة آل عمران، الآية: 7.
3- الكافي 1: 213.
4- هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي البصري التابعي، من علماء العامة وحفاظهم.
5- الكافي 8: 311.

احتجاج الإمام الصادق(عليه السلام)

وفي رواية أن الإمام الصادق(عليه السلام) قال لأبي حنيفة لما دخل عليه: «من أنت؟».

قال: أبو حنيفة.

قال(عليه السلام): «مفتي أهل العراق؟».

قال: نعم.

قال(عليه السلام): «بما تفتيهم؟».

قال: بكتاب اللّه.

قال(عليه السلام): «وإنك لعالم بكتاب اللّه، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه؟».

قال: نعم.

قال: «فأخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ}(1)، أي موضع هو؟».

قال أبو حنيفة: هو ما بين مكة والمدينة.

فالتفت أبو عبد اللّه(عليه السلام)إلى جلسائه وقال: «نشدتكم باللّه، هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل، وعلى أموالكم من السرق؟».

فقالوا: اللّهم نعم.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ويحك يا أبا حنيفة، إن اللّه لا يقول إلّا حقاً، أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا}(2) أي موضع هو؟».

قال: ذلك بيت اللّه الحرام.

فالتفت أبو عبد اللّه(عليه السلام) إلى جلسائه وقال: «نشدتكم باللّه، هل تعلمون أن

ص: 494


1- سورة سبأ، الآية: 18.
2- سورة آل عمران، الآية: 97.

عبداللّه بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟».

قالوا: اللّهم نعم.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ويحك يا أبا حنيفة! إن اللّه لا يقول إلّا حقاً».

فقال أبو حنيفة: ليس لي علم بكتاب اللّه، إنما أنا صاحب قياس.

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «فانظر في قياسك إن كنت مقيساً، أيما أعظم عند اللّه القتل أو الزنا؟».

قال: بل القتل.

قال(عليه السلام): «فكيف رضي في القتل بشاهدين، ولم يرض في الزنا إلّا بأربعة؟».

ثم قال له: «الصلاة أفضل أم الصيام؟».

قال: بل الصلاة أفضل.

قال(عليه السلام): «فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب اللّه تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة».

قال له(عليه السلام): «البول أقذر أم المني؟».

قال: البول أقذر.

قال(عليه السلام): «يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب اللّه تعالى الغسل من المني دون البول».

قال: إنما أنا صاحب رأي.

قال(عليه السلام): «فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة، فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة، ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين، فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان، أيهما في رأيك المالك وأيهما المملوك؟ وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟».

ص: 495

قال: إنما أنا صاحب حدود.

قال(عليه السلام): «فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح، وأقطع قطع يد رجل، كيف يقام عليهما الحد؟».

قال: إنما أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء.

قال: «فأخبرني عن قول اللّه لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(1)و(لعل) منك شك؟».

قال: نعم.

قال: «وكذلك من اللّه شك إذ قال: {لَّعَلَّهُ}؟».

قال أبو حنيفة: لا علم لي.

قال: «تزعم أنك تفتي بكتاب اللّه ولست ممن ورثه، وتزعم أنك صاحب قياس وأول من قاس إبليس لعنه اللّه، ولم يبن دين الإسلام على القياس، وتزعم أنك صاحب رأي، وكان الرأي من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صواباً ومن دونه خطأ؛ لأن اللّه تعالى قال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ}(2)، ولم يقل ذلك لغيره، وتزعم أنك صاحب حدود ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك، وتزعم أنك عالم بمباعث الأنبياء ولخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك، ولولا أن يقال: دخل على ابن رسول اللّه فلم يسأله عن شي ء، ما سألتك عن شي ء، فقس إن كنت مقيساً».

قال أبو حنيفة: لا أتكلم بالرأي والقياس في دين اللّه بعد هذا المجلس.

قال: «كلا؛ إن حب الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك»(3).

وروي - في حديث آخر - عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: كنت عند

ص: 496


1- سورة طه، الآية: 44.
2- سورة النساء، الآية: 105.
3- الاحتجاج 2: 360.

أبي عبد اللّه(عليه السلام) إذ دخل عليه غلام كندة، فاستفتاه في مسألة فأفتاه فيها، فعرفت الغلام والمسألة، فقدمت الكوفة، فدخلت على أبي حنيفة فإذا ذاك الغلام بعينه يستفتيه في تلك المسألة بعينها، فأفتاه فيها بخلاف ما أفتاه أبو عبد اللّه(عليه السلام)، فقمت إليه فقلت: ويلك يا أبا حنيفة، إني كنت العام حاجاً فأتيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) مسلماً عليه فوجدت هذا الغلام يستفتيه في هذه المسألة بعينها، فأفتاه بخلاف ما أفتيته؟!

فقال: وما يعلم جعفر بن محمد! أنا أعلم منه؛ أنا لقيت الرجال وسمعت من أفواههم، وجعفر بن محمد صحفي.

فقلت في نفسي: واللّه، لأحجن ولو حبواً. قال: فكنت في طلب حجة فجاءتني حجة، فحججت، فأتيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) فحكيت له الكلام فضحك، ثم قال: «... أما في قوله: إني رجل صحفي فقد صدق، قرأت صحف إبراهيم وموسى».

فقلت له: ومن له بمثل تلك الصحف؟ قال: فما لبثت أن طرق الباب طارق وكان عنده جماعة من أصحابه، فقال للغلام: «انظر من ذا».

فرجع الغلام، فقال: أبو حنيفة.

قال: «أدخله» فدخل فسلم على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فرد عليه السلام، ثم قال - أبو حنيفة - : أصلحك اللّه، أتأذن لي في القعود، فأقبل على أصحابه يحدثهم ولم يلتفت إليه، ثم قال الثانية والثالثة، فلم يلتفت إليه، فجلس أبو حنيفة من غير إذنه، فلما علم أنه قد جلس التفت إليه فقال: «أين أبو حنيفة؟».

فقال: هو ذا أصلحك اللّه.

فقال: «أنت فقيه أهل العراق؟».

قال: نعم.

ص: 497

قال: «فبما تفتيهم؟».

قال: بكتاب اللّه وسنة نبيه.

قال: «يا أبا حنيفة، تعرف كتاب اللّه حق معرفته، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟».

قال: نعم.

قال: «يا أبا حنيفة، ولقد ادعيت علماً، ويلك، ما جعل اللّه ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك، ولا هو إلّا عند الخاص من ذرية نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما ورثك اللّه من كتابه حرفاً؛ فإن كنت كما تقول ولست كما تقول، فأخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ ...» - فسأله(عليه السلام) مسائل عجز عن جوابها، إلى أن قال الراوي - : فقنَّع رأسه - أبو حنيفة - وخرج وهو يقول: أعلم الناس ولم نره عند عالم. الحديث(1).

إذن، لعل مراد الإمام(عليه السلام) من هذا الحوار أن يظهر لأبي حنيفة - وغيره - بأنه لا يملك تلك المعرفة والإحاطة الكاملة بكتاب اللّه عزّ وجلّ، وأن القياس باطل لا يجوز الاعتماد عليه في الشريعة الإسلامية وأراد(عليه السلام) أن يبين أيضاً: أن وارث العلم بكتاب اللّه هو النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن بعده هم أهل بيت النبوة(عليهم السلام) الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. وهم الأولى بالاتباع من غيرهم حيث قال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(2). وقال تعالى: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(3) فإنه تجب مودة أهل البيت(عليهم السلام) واتباعهم بنص القرآن الكريم. والمراد

ص: 498


1- بحار الأنوار 2: 292.
2- سورة المائدة، الآية: 55.
3- سورة الشورى، الآية: 23.

من قول الإمام الصادق(عليه السلام) لأبي حنيفة بأنك لم ترث حرفاً من القرآن، أي أنك لم تعرفجانباً واحداً من القرآن الكريم.

أما قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٖ}(1).

فقد جاء في تفسير الآية: أي: على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف، أي: طرف حبل أو نحوه، عن علي بن عيسى قال: وذلك من اضطرابه في طريق العلم إذا لم يتمكن من الدلائل المؤدية إلى الحق، فينقاد لأدنى شبهة لا يمكنه حلّها، وقيل: {عَلَىٰ حَرْفٖ}، أي: على شك، عن مجاهد. وقيل: معناه إنه يعبد اللّه بلسانه دون قلبه.(2)

فالجانب الواحد أوقع أبا حنيفة في الشبهة، في حين أن للقرآن الحكيم جوانب متعددة.

شمولية القرآن الكريم

اشارة

إن القرآن الكريم له جوانب متعددة، فمن جانب: يتحدث القرآن الكريم عن أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، حيث قال تعالى في التوحيد: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ}(3).

وفي عدله عزّ وجلّ قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}(4).

وفي إرسال الرسل والأنبياء(عليهم السلام) قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَٰفِرِينَ * إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى

ص: 499


1- سورة الحج، الآية: 11.
2- تفسير مجمع البيان 7: 135.
3- سورة الإخلاص، الآية: 1-4.
4- سورة النساء، الآية:40.

الْعَٰلَمِينَ * ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِن بَعْضٖ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1).

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}(2).

وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(3).

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَٰتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(4).

وفي الإمامة قال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(5).

وقال عزّ وجلّ في تنصيب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(6).

وقال سبحانه في المعاد: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}(7).

ص: 500


1- سورة آل عمران، الآية: 32-34.
2- سورة النساء، الآية: 64.
3- سورة الحديد، الآية: 25.
4- سورة النحل، الآية: 43-44.
5- سورة الرعد، الآية: 7.
6- سورة المائدة، الآية: 67.
7- سورة يونس، الآية: 3-4.

ومن جانب آخر: يتحدث عن فروع الدين فيبحث أهمية الصلاة والصوم والحج وأمثالها من الأعمال العبادية، فقال تبارك وتعالى في الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰلِلذَّٰكِرِينَ}(1).

وقال سبحانه: {أَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}(2).

وقال عزّ وجلّ في الصيام: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَٰتٖ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(3).

وقال تبارك وتعالى في الحج: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ * فِيهِ ءَايَٰتُ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(4).

ومن جانب ثالث: يبحث عن موضوع السياسة والاقتصاد والاجتماع.

ومن جانب آخر: يبحث عن الحرب والصلح.

ومن جانب: يتحدث عن شؤون الفرد والمجتمع والأسرة وهكذا.

ص: 501


1- سورة هود، الآية: 114.
2- سورة الإسراء، الآية: 78.
3- سورة البقرة، الآية: 183-185.
4- سورة آل عمران، الآية: 96-97.

حتى يستوعب في بحثه كل جوانب حياة الإنسان المادية والمعنوية.

ثم إن هذه المواضيع التي تضمنها القرآن الكريم إنما يتحدث عنها بشكل مجمل مفيد. أما تفسيرها وتأوليها فعلمه عند رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام).

وهذا من حقائق الإعجاز القرآني كونه جامعاً كل شيء، ومبيناً بياناً بليغاًموجزاً كل ما تحتاجه البشرية في كل عصر ومصر، فلو فصلت آية واحدة تفصيلاً كاملاً لنفدت البحار مداداً والأشجار أقلاماً وما نفدت كلمات اللّه. قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}(1).

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد؛ حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلّا وقد أنزله اللّه فيه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، إن اللّه تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنزل إليه الكتاب بالحق، وأنتم أميون عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومن أرسله، على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانبساط من الجهل، واعتراض من الفتنة، وانتقاض من المبرم وعمى عن الحق، واعتساف من الجور، وامتحاق(3) من الدين، وتلظ من الحروب(4)، على حين اصفرار من

ص: 502


1- سورة الكهف، الآية: 109.
2- الكافي 1: 59.
3- الاعتساف: الأخذ على غير الطريق، والامتحاق: البطلان.
4- التلظي: اشتعال النار وقوله(عليه السلام): «على حين اصفرار» إلى قوله: «أيامها» استعارات وترشيحات لبيان خلو الدنيا حينئذ عن آثار العلم والهداية وما يوجب السعادات الأخروية.

رياض جنات الدنيا، ويبس من أغصانها، وانتثار من ورقها، ويأس من ثمرها، واغورار(1) من مائها، قد درست أعلام الهدى، فظهرت أعلام الردى، فالدنيا متهجمة في وجوه أهلها، مكفهرة مدبرة غير مقبلة، ثمرتها الفتنة وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف ودثارها السيف، مزقتم كل ممزق، وقد أعمت عيون أهلها،وأظلمت عليها أيامها، قد قطعوا أرحامهم، وسفكوا دماءهم، ودفنوا في التراب الموءودة بينهم من أولادهم، يجتاز دونهم طيب العيش ورفاهية خفوض(2) الدنيا، لا يرجون من اللّه ثواباً، ولا يخافون واللّه منه عقاباً، حيهم أعمى نجس، وميتهم في النار مبلس، فجاءهم بنسخة ما في الصحف الأولى، وتصديق الذي بين يديه، وتفصيل الحلال من ريب الحرام، ذلك القرآن، فاستنطقوه، ولن ينطق لكم، أخبركم عنه: إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلمتكم»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قد ولدني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنا أعلم كتاب اللّه، وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر الجنة وخبر النار، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي، إن اللّه يقول: فيه تبيان كل شيء»(4).

القرآن الناطق

جعل اللّه (سبحانه وتعالى) الأئمة الأطهار(عليهم السلام) القرآن الناطق الذين فسّروا لنا القرآن وبيّنوا تأويله، الواحد تلو الآخر؛ فمثلاً: لم يتطرق أحد إلى تفصيل قصص

ص: 503


1- اغورار الماء: ذهابه في باطن الأرض.
2- الخفوض: جمع الخفض وهو الدعة والراحة والسكون.
3- الكافي 1: 60.
4- الكافي 1: 61.

أنبياء اللّه نوح وإبراهيم ويعقوب وسائر الأنبياء الآخرين(عليهم السلام) كما تطرق أئمتنا الأطهار(عليهم السلام)، وليس بمقدور أحد غيرهم البحث في تفصيل حياة هؤلاء المعصومين(عليهم السلام) وهذا التوضيح والتفسير لقصص الأنبياء أخذوه هم(عليهم السلام) من الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتوارثوه الواحد تلو الآخر حتى وصل الأمر إلى الإمام صاحب العصر الحجة بن الحسن (روحي لمقدمه الفداء).

وهكذا بالنسبة إلى سائر علوم القرآن.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه، وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله»(2).

إذن، لا يمكن لأبي حنيفة وقتادة وغيرهما أن يعرفوا شيئاً من علوم القرآن ما لم يرجعوا إلى العترة الطاهرة أهل البيت(عليهم السلام) الذين هم العدل الثاني للقرآن وإنهم لا يفترقون عن القرآن حتى يردا الحوض معاً، وهذا ما جاء عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: «إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا:كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(3).

النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتلاوة القرآن

ذكر المؤرخون أن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقرأ القرآن في وقت السحر غالباً حيث الناس نيام لم يستيقظوا بعد، وكان أيضاً يقرأ القرآن لأصحابه بصوت حزين وجذاب تميل إليه القلوب وتقشعر له الأجساد، ويبعث الروح الإيمانية في

ص: 504


1- الكافي 1: 191.
2- الكافي 1: 213.
3- حديث الثقلين حديث متواتر متفق عليه من طرق أهل السنة والشيعة. بصائر الدرجات 1: 413.

نفوسهم، فكان يسمعهم الآيات الإلهية، وكان يدعو أيضاً إلى تعلم القرآن وتعليمه، فهناك آيات وروايات كثيرة تؤكد على أهمية تلاوة القرآن والسعي إلى تعلمه وفهم معانيه(1).

سئل أبو عبد اللّه(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا}(2) قال:«قال أمير المؤمنين(عليه السلام): بينه تبياناً، ولا تهذّه(3) هذّ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل؛ ولكن افزعوا به قلوبكم القاسية، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة»(4).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لقاح الإيمان تلاوة القرآن»(5).

وقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا سلمان عليك بقراءة القرآن فإن قراءته كفارة الذنوب ... وتنزل على صاحبه الرحمة...»(6).

ولهذا عندما سألوا من ابن هشام مؤلف كتاب (مغني اللبيب)(7) الذي يضم في طياته ثمانية أجزاء من القرآن الكريم تقريباً على بعض الأقوال: لماذا لم تكتب أرقام الآيات والسور التي ذكرتها في كتابك؟ فأجاب متعجباً: وهل هناك من يقرأ كتاب (مغني اللبيب) ولم يحفظ القرآن الكريم؟!

نبذ الكتاب

قال تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}(8).

ص: 505


1- انظر وسائل الشيعة 6: 165.
2- سورة المزمل، الآية: 4.
3- الهذ: سرعة القراءة، أي: لا يتسرع فيه كما يتسرع في قراءة الشعر، ولا تفرق كلماته بحيث لا تكاد تجتمع كذرات الرمل.
4- الكافي 2: 614.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 572.
6- جامع الأخبار: 39.
7- كتاب: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب.
8- سورة آل عمران، الآية: 187.

النبذ بمعنى الطرح، وهنا يراد به الترك وعدم الاعتناء، قال ابن عباس: نبذوه أي: رموا به ولم يعملوا به، وإن كانوا مقرين به(1). فعندما ترك المسلمون القرآن قراءة وعملاً أصبحوا أسارى بيد القوى الأجنبية والاستعمارية، فنرى المسلمين اليوم لا يتعاملون مع القرآن بالشكل المطلوب وتركوا العمل بمنهجه القويم،والبعض وضع القرآن في بيته للزينة والتبرك ولا يفتحه إلّا للاستخارة أو للفاتحة على أرواح الموتى، في حين أن القرآن الكريم أرسل إلى الأحياء أولاً، لا لكي يُحصر بالقراءة على الأموات فقط.

وقد جاء عن الإمام الجواد(عليه السلام) أنه قال: «وكل أمة قد رفع اللّه عنهم علم الكتاب حين نبذوه، وولاهم عدوهم حين تولوه، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية...»(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «من قرأ القرآن فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات اللّه هزواً»(3).

وأمير المؤمنين(عليه السلام) أشار في خطبه إلى حالة المسلمين هذه، والمصير الذي سينتهون إليه نتيجة تركهم لكتاب اللّه عزّ وجلّ، وهذا ما نراه في المسلمين اليوم؛ إذ أنهم قد تأخروا وسيطر الأعداء والقوى الظالمة عليهم وهذا هو جزاء من عمل بغير كتاب اللّه سبحانه وتعالى، وإذا ما رجع المسلمون إلى القرآن الكريم، وعملوا به وفق أوامره ونواهيه وتعاليمه ومناهجه، فسوف تعود إليهم عزتهم ومكانتهم السامية بين الأمم مرة أخرى.

ص: 506


1- انظر التبيان في تفسير القرآن 3: 74.
2- الكافي 8: 53.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 228.

قال اللّه سبحانه وتعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).

فإننا برجوعنا إلى القرآن الحكيم سوف نستلهم الدروس والعبر التي من خلالها يمكن أن نأخذ بأيدي الأمة نحو التقدم والسعادة كما يكن بذلك كسر شوكة المستعمرين، إن القرآن الكريم يصف لنا أخلاق صاحب الرسالة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتي يجب التمسك بها رغم الفاصلة الزمنية البعيدة التي تفصلنا عنه.

فالمسلمون بهذه الطريقة يشعرون أن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حي بتعاليمه وأخلاقه ونهجه وسيدحرون القوى الباطلة الظالمة ويلبسونهم لباس الذل والهوان بإذن اللّه سبحانه وتعالى.

ربيع القرآن

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان»(2).

ومع حلول شهر رمضان شهر اللّه العظيم الذي دعينا فيه إلى ضيافة اللّه العزيز، يجب علينا أن نجدد النظر في أعمالنا وأفعالنا ومحاسبة أنفسنا، وهكذا نجدد علاقتنا بالقرآن الكريم من حيث السعي إلى معرفة المعاني وتفسير القرآن وتلاوته ومعرفة تجويده وتحسين قراءته مضافاً إلى الالتزام بالعمل بقوانينه.

قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ الْهُدَىٰ

ص: 507


1- سورة المائدة، الآية: 15-16.
2- الكافي 2: 630.

وَالْفُرْقَانِ}(1).

القرآن الكريم ودرس التفسير

بحلول شهر رمضان المبارك على الناس كانت تقام مجالس تعليم القرآن وتلاوته في أكثر مدن العراق وخاصة في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، حيث يشرع العلماء والخطباء وأهل الفضل بدروس يومية يفسرون فيها القرآنالكريم ويبيّنون مفاهيمه إلى الناس... وقد وفقت لذلك في كربلاء حيث كان لي درس في تفسير القرآن الكريم في (مدرسة بادكوبة) وكان التفسير بشكل مجمل وسريع من باب التلميح والإشارة؛ وذلك لأجل أن يعرف بعض طلاب العلوم الدينية - الذين هم دعاة ومرشدون وأدلاء على طريق الإسلام - شيئاً من معاني القرآن الكريم ولو بصورة إجمالية، فالقرآن هو مقوم أساسي لشخصية كل رجل دين.

وكانت تقام أنشطة جيدة لتشجيع الشباب والمتدينين لقراءة القرآن وتعلمه، حيث يتولى الحاج محمد حسن الكاتب (وهو أحد الأساتذة المقرئين للقرآن) تقديم الهدايا في شهر رمضان الكريم، وكانت هداياه عبارة عن نسخة نفيسة من كلام اللّه المجيد، وهذا عامل مشجع ومهم في هداية الناس إلى الارتباط بالقرآن الكريم أكثر، وعن هذا الطريق أيضاً كان ينشر كتاب اللّه بين المؤمنين ويرشدهم إليه.

القرآن وضرورة تعلمه

نقل أن أحد الطلاب وصل إلى مرحلة دراسيّة جيدة، ومن جملة ما قرأه كتاب (المطوّل) في الأدب العربي والبلاغة، ولكن مع هذا لم يكن يدرس عن القرآن

ص: 508


1- سورة البقرة، الآية: 185.

الكريم ولم يكن يعرف عنه إلّا القليل جداً، وفي أحد الأيام وهو في طريقه إلى بيته رأى ورقة ساقطة على الأرض رفعها ثم قرأها، فوجد الكلمات جميلة وفي قمة البلاغة والنظم، ولكنه لم يكن يعرف أنها آية من القرآن الكريم، فسأل أستاذه عن مضمون تلك الكلمات وفي أي كتاب هي؟

فأجابه الأستاذ: ويحك! إنها آيات من كتاب اللّه الحكيم وأنت عنها غافل؟!

نعم، هذه المأساة يجب أن تعالج حيث إن المسلمين ابتعدوا عن القرآنالكريم تلاوة وفهماً وتطبيقاً، وحتى أن بعض الحوزات العلمية تراهم يصرفون أوقاتاً كثيرة في دراسة علوم شتى دون أن يجعلوا وقتاً خاصاً لدراسة وقراءة القرآن الكريم، وهو أمر خطير ولا تحمد عقباه؛ ولذا يلزم على طلاب العلوم الدينية في مختلف مراحلهم الدراسية أن يجدّوا ويجتهدوا في تعلم القرآن الكريم والتدبر فيه، كما أن من الضروري جداً وضع دراسات القرآن ضمن المناهج الحوزوية الأصلية إلى جانب الفقه والأصول؛ لأن القرآن إمام ورحمة، ولأنه غني لا غنى بعده، ولأن في القرآن علم الأولين والآخرين، فقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام):

«وفي القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال:

«ما من أمر يختلف فيه إثنان إلّا وله أصل في كتاب اللّه عزّ وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(2).

عمق القرآن الكريم

إن القرآن الكريم بحر لا ينضب وقد جعله اللّه تعالى لكل الأزمنة والعصور،

ص: 509


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 313.
2- الكافي 1: 60.

ودعا الناس إلى الاغتراف منه والتفكر فيه بقوله عزّ وجلّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(1).

أي يتفكرون فيه ويعتبرون به، وقيل أفلا يتدبرون القرآن فيقضوا ما عليهم من الحق. و{أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} معنى تنكير القلوب إرادة قلوب هؤلاء ومن كان مثلهم من غيرهم(2).وقال الإمام الرضا(عليه السلام) يوماً في القرآن فعظم الحجة فيه والآية والمعجزة في نظمه فقال: «هو حبل اللّه المتين وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المؤدي إلى الجنة والمنجي من النار، لا يخلق على الأزمنة، ولا يغث على الألسنة؛ لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، والحجة على كل إنسان، {لَّا يَأْتِيهِ الْبَٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٖ}»(3)(4).

فالقرآن بحر لا ينتهي أو ينفد، فهو كما كان العلاج الصحيح لمشاكل الإنسانية في العصور المتقدمة كذلك هو العلاج الناجح والحل الواقعي لمشاكل الإنسانية في العصر الحاضر وكذلك المستقبل، لأنه برنامج متكامل صاغه الباري عزّ وجلّ وهو العالم باحتياجات الإنسان إلى يوم القيامة.

في رحاب سورة يوسف(عليه السلام)

كان أحد الخطباء الماهرين(5) يرتقي المنبر في مسجد الهندي في النجف الأشرف، وذلك في أيام شهر رمضان المبارك، وكانت مجالسه تتضمن علوم

ص: 510


1- سورة محمد، الآية: 24.
2- انظر تفسير مجمع البيان 9: 174.
3- سورة فصلت، الآية: 42.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 130.
5- وهو الخطيب الشيخ مهدي الواعظي الخراساني(رحمه اللّه).

التفسير غالباً، وكان تفسيره آنذاك في سورة يوسف(عليه السلام) بشكل مفصل ودقيق، ولم ينته من تفسير هذه السورة المباركة رغم الوقت الطويل الذي قضاه في البحث فيها؛ وما ذلك إلّا لعظمة هذه السورة - كما باقي السور - حتى أنه في إحدى السنين وفي آخر ليلة من شهر رمضان المبارك، قال هذه الكلمة على المنبر عند ختمه المجلس: (بأننا وصلنا إلى الآية: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(1). وهي الآيةالمباركة التي تتحدث حول إدخال يوسف(عليه السلام) في البئر، وفي السنة القادمة سيكون الكلام بإذن اللّه عزّ وجلّ في الآية التي تليها: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ قَالَ يَٰبُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةً وَاللَّهُ عَلِيمُ بِمَا يَعْمَلُونَ}(2) التي تتحدث عن كيفية خروج يوسف(عليه السلام) من البئر).

فهذا العالم قضى شهراً كاملاً بالتحدث حول جانب واحد من قصة نبي اللّه يوسف(عليه السلام)، وفي مجلس يحضره العلماء والفضلاء من طلبة العلوم الدينية.

من معاجز القرآن

يذكر أن أحد المشايخ الفضلاء كان يعاني ضعفاً شديداً في النظر، فراجع طبيباً للعيون فشخّص له الطبيب درجة ضعف نظره وحذّره من أن عينه تتجه نحو المزيد من الضعف، فلا بد له من الانتباه لهذا الأمر قبل فوات الأوان.

وبعد سنة قضاها في تدوين وترتيب تفسير القرآن الكريم راجع ذلك الطبيب نفسه مرة ثانية، فلما أجرى الفحوص اللازمة على عينه وجدها متحسّنة عمّا كانت عليه العام الماضي! فاندهش الطبيب وسأله: ماذا صنعت خلال العام

ص: 511


1- سورة يوسف، الآية: 15.
2- سورة يوسف، الآية: 19.

الماضي؟ هل راجعت طبيباً آخر، أو استعملت أدوية معينة؟

قال الشيخ: نعم راجعت القرآن الكريم، فقد صرت أقرأ في آيات وكلمات هذا الكتاب العظيم وأنا أعمل في كتاب تفسير للقرآن الكريم، وعندنا في الأحاديث المشرفة أن النظر إلى كتاب اللّه الحكيم يوجب جلاء البصر وقوة النظر وشفاء العين.

فأخذ الطبيب بيد الشيخ وجاء به إلى غرفة الانتظار وشرح للحاضرين هذه القصة وقال: إنها معجزة القرآن. هذا مضافاً إلى أن القرآن الكريم وقراءته يؤثرإيجاباً حتى على صحة الإنسان وسلامته.

التوفيق الإلهي

سئل طالب علم ذات يوم عن سبب تركه لتلاوة القرآن الكريم؟ حيث إن عادة بعض طلاب العلوم الدينية جرت على تلاوة القرآن صباحاً في كل يوم، فقال: قد سلب مني التوفيق الإلهي بسوء تصرفي؛ والسبب في ذلك أنني كنت أملك قرآناً جميلاً - من حيث الخط والتجليد - وكان معي دائماً، وفي إحدى السنين سافرت إلى مكة المكرمة وفي يوم كنت مشغولاً بتلاوة القرآن في المسجد الحرام، وفجأة وقع نظري على كتاب جميل ملون لفت انتباهي كثيراً، فقلت لصاحب الكتاب: ما هذا الكتاب الذي عندك؟

فقال: ديوان شعر ليزيد بن معاوية.

فقلت له: هل تبيع ذلك الكتاب؟

قال: كلا.

وبعد إصراري الشديد عليه، قال: إذا شئت ذلك، أبدله مع القرآن الذي عندك.

في بداية الأمر ترددت في ذلك، ولكن جاءتني الوساوس الشيطانية من كل

ص: 512

جانب وأخيراً غلبتني، فأعطيت القرآن مقابل ديوان شعر يزيد! فبعد أن فرطت بكتاب اللّه عزّ وجلّ بهذه الصورة سلب مني التوفيق الإلهي لقراءة القرآن، وكلما أردت أن أقرأ القرآن كنت أتصور كأن شخصاً يأتي إليّ ويمنعني عن ذلك، ولهذا السبب لم أوفق لقراءة القرآن من ذلك اليوم إلى الآن.

وفي ظل الظروف العصيبة والمحن التي تمر بنا والفتن التي تكالبت علينا من كل جانب يتوجب علينا أن نكرس جهودنا لكتاب اللّه المجيد، قراءة وتعلماً وفهماً لمعانيه؛ لأنه إمام ورحمة للعالمين، وإذا سلب منا التوفيق لذلك فإن فيذلك خسارتنا وخيبتنا، وسوف يتسلط على رقابنا الظالمون ونخسر الدارين، نعوذ باللّه من ذلك.

عظمة آيات اللّه عزّ وجلّ

قال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «عليك بالقرآن؛ فإن اللّه خلق الجنة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن، فمن قرأ القرآن قال له: اقرأ وارق، ومن دخل منهم الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه ما خلا النبيين والصديقين»(1).

أي: أن منزلتك ورقيك في الجنة بمقدار ما قرأت وحفظت من كتاب اللّه المجيد.

والفاصلة الموجودة بين درجة ودرجة في الجنة كما تنقل إلينا الروايات هي ما بين السماء والأرض، حتى أن الشخص يرى الذي أعلى مرتبة منه كرؤية أحدنا إلى نجوم السماء. فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة مائة درجة ما بين كل درجة

ص: 513


1- تفسير القمي 2: 259.

منها كما بين السماء والأرض...»(1).

من هنا نعرف عظمة الثواب والمنزلة التي يحصل عليها قارئ القرآن.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اقرءوا القرآن واستظهروه فإن اللّه تعالى لا يعذب قلباً وعى القرآن»(2).

لذا يلزم على كافة المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي وخاصة طلبة العلومالدينية، الذين بهم يقتدى إلى طريق الحق، الاهتمام بالقرآن وقراءته وتعلمه؛ لأنه نورٌ من العمى، وهدى من الضلال، وانتصار في كل جوانب الحياة، وفي نبذه الخيبة والخسران المبين.

«اللّهم ارحمني بترك معاصيك أبداً ما أبقيتني، وارحمني من تكلف ما لا يعنيني، وارزقني حسن المنظر في ما يرضيك عني، وألزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني، وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني. اللّهم نوِّر بكتابك بصري، واشرح به صدري، وفرِّح به قلبي، وأطلق به لساني، واستعمل به بدني، وقوني على ذلك وأعني عليه، إنه لا معين عليه إلّا أنت، لا إله إلّا أنت»(3).

من هدي القرآن الحكيم

القرآن هدى وشفاء

قال تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}(4).

ص: 514


1- بحار الأنوار 8: 196.
2- جامع الأخبار: 41.
3- الكافي 2: 577.
4- سورة فصلت، الآية: 44.

وقال عزّ وجلّ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}(2).

التدبر في القرآن

قال عزّ وجلّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(3).وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ}(4).

وقال تعالى: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

لا يفسر القرآن بالرّأي

قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}(6).

القرآن الناطق

قال جلّ وعلا: {قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَٰبِ}(7).

ص: 515


1- سورة الاسراء، الآية: 82.
2- سورة يونس، الآية: 57.
3- سورة محمد، الآية: 24.
4- سورة النساء، الآية: 82.
5- سورة ص، الآية: 29.
6- سورة آل عمران، الآية: 7.
7- سورة الرعد، الآية: 43.

العلماء بالقرآن

قال عزّ وجلّ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1).

وقال عزّ من قائل: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(2).

تعليم القرآن وتعلمه

قال تعالى: {كُونُواْ رَبَّٰنِيِّۧنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}(3).

آثار قراءة القرآن

قال عزّ وجلّ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(4).

وقال سبحانه: {إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا}(5).

وقال تعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ}(6).

إبداع القرآن

قال تبارك اسمه: {كِتَٰبٌ فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}(7).

وقال جلّ شأنه: {كِتَٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(8).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(9).

ص: 516


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة النحل، الآية: 43.
3- سورة آل عمران، الآية: 79.
4- سورة الأنفال، الآية: 2.
5- سورة مريم، الآية: 58.
6- سورة المائدة، الآية: 15.
7- سورة فصلت، الآية: 3.
8- سورة هود، الآية: 1.
9- سورة يوسف، الآية: 2.

القرآن إعجاز وتحد

وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا}(2).

قال سبحانه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ}(3).

وقال عزّ من قائل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٖ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٖ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

القرآن شفاء نافع

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا سلمان، عليك بقراءة القرآن؛ فإن قراءته كفارة للذنوب، وستر من النار، وأمان من العذاب، ويكتب لمن يقرأ بكل آية ثواب مائة شهيد، ويعطى بكل سورة ثواب نبي مرسل، وتنزل على صاحبه الرحمة، وتستغفر له الملائكة، واشتاقت إليه الجنة ورضي عنه المولى. وإن المؤمن إذا قرأ القرآن نظر اللّه إليه بالرحمة، وأعطاه بكل آية ألف حور، وأعطاه بكل حرف نوراً على الصراط. فإذا ختم القرآن أعطاه اللّه ثواب ثلاثمائة وثلاثة عشر نبياً بلّغوا رسالات ربهم، وكأنما قرأ كل كتاب أنزل اللّه على أنبيائه، وحرم اللّه جسده على النار، ولا يقوم من مقامه حتى يغفر اللّه له ولأبويه، وأعطاه بكل سورة في القرآن مدينةً في جنة

ص: 517


1- سورة الطور، الآية: 33-34.
2- سورة الاسراء، الآية: 88.
3- سورة البقرة، الآية: 23.
4- سورة هود، الآية: 13.

الفردوس، كل مدينة من درة خضراء، في جوف كل مدينة ألف دار، في كل دار مائة ألف حجرة، في كل حجرة مائة ألف بيت من نور، على كل بيت مائة ألف باب من الرحمة، على كل باب مائة ألف بواب، بيد كل بواب هدية من لون آخر، وعلى رأس كل بواب منديل من إستبرق خير من الدنيا وما فيها، وفي كل بيت مائة ألف دكان من العنبر، سعة كل دكان ما بين المشرق والمغرب، وفوق كل دكان مائة ألف سرير، وعلى كل سرير مائة ألف فراش، من الفراش إلى الفراش ألف ذراع، وفوق كل فراش حوراء عيناء استدارة عَجِيزَتَها ألف ذراع، وعليها مائة ألف حلة، يرى مخ ساقيها من وراء تلك الحلل، وعلى رأسها تاج من العنبر مكلل بالدر والياقوت، وعلى رأسها ستون ألف ذؤابة من المسك والغالية، وفي أذنيها قرطان وشنفان، وفي عنقها ألف قلادة من الجوهر، بين كل قلادة ألف ذراع، وبين يدي كل حوراء ألف خادم، بيد كل خادم كأس من ذهب، في كل كأس مائة ألف لون من الشراب، لا يشبه بعضه بعضاً، وفي كل بيت ألف مائدة، وفي كل مائدة ألف قصعة، وفي كلقصعة ألف لون من الطعام، لايشبه بعضه بعضاً، يجد ولي اللّه من كل لون مائة ألف لذة، يا سلمان، المؤمن إذا قرأ القرآن فتح اللّه عليه أبواب الرحمة، وخلق اللّه بكل حرف يخرج من فمه ملكاً يسبح له إلى يوم القيامة»(1) الخبر.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «القرآن عهد اللّه إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية»(2).

آداب قراءة

قال الإمام الرضا عن أبيه عن جده(عليهم السلام)، في تفسير قوله تعالى: «{فَاقْرَءُواْ مَا

ص: 518


1- مستدرك الوسائل 4: 257.
2- الكافي 2: 609.

تَيَسَّرَ مِنْهُ}(1): «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(2).

إبداع القرآن

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وإن القرآن ظاهره أنيق(3)

وباطنه عميق، لا تفني عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولاتكشف الظلمات إلّا به...»(4).

وفي دعاء للإمام السجاد(عليه السلام) قال: «اللّهم، فإذ أفدتنا المعونة على تلاوته، وسهّلت جواسي ألسنتنا بحسن عبارته فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته، ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه ومُوضَحَاتِ بيِّناته»(5).

إعجاز القرآن

قال الإمام الباقر(عليه السلام) في بيان قول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أعطيت جوامع الكلم» قال:«القرآن»(6).

فضل القرآن وعظمته

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «القرآن أفضل من كل شيء دون اللّه عزّ وجلّ، فمن وقّر القرآن فقد وقّر اللّه، ومن لم يوقّر القرآن، فقد استخف بحرمة اللّه، وحرمة القرآن على اللّه كحرمة الوالد على ولده»(7).

حافظ القرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عدد درج الجنة عدد آي القرآن، فإذا دخل صاحب

ص: 519


1- سورة المزمل، الآية: 20.
2- تفسير مجمع البيان 10: 169.
3- أنيق: حسن معجب وآنقني الشيء: أعجبني.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 18، من كتاب له(عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا.
5- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) عند ختم القرآن.
6- انظر الأمالي للشيخ الطوسي: 484.
7- جامع الأخبار: 40.

القرآن الجنة قيل له: ارقأ واقرأ، لكل آية درجة، فلا تكون فوق حافظ القرآن درجة»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الحافظ للقرآن، العامل به، مع السفرة الكرام البررة»(2).

مستمع القرآن

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من استمع آية من القرآن، خير له من ثبيرٍ(3)

ذهب»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من استمع حرفاً من كتاب اللّه عزّ وجلّ من غير قراءة، كتب اللّه له حسنة، ومحا عنه سيئة، ورفع له درجة»(5).

تعليم القرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اقرءوا القرآن واستظهروه؛ فإن اللّه تعالى لا يعذب قلباً وعى القرآن»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خياركم من تعلّم القرآن وعلّمه»(7).

ترتيل القرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد

ص: 520


1- بحار الأنوار 89: 22.
2- الكافي 2: 603.
3- ثَبير: جبل عظيم بمكة.
4- جامع الأخبار: 41.
5- الكافي 2: 612.
6- جامع الأخبار: 41.
7- الأمالي للشيخ الطوسي: 357.

القرآن حسناً، وقرأ واللّه {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}»(1)(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا}(3) قال: «هو أن تتمكث فيه، وتحسن به صوتك»(4).

لا يفسر القرآن بالرأي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما أتخوف على أمتي من بعدي ثلاث خلال: أن يتأوّلوا القرآن على غير تأويله، أو يتّبعوا زلة العالم أو يظهر فيهم المال حتى يطغوا ويبطروا، وسأنبئكم المخرج من ذلك: أما القرآن فأعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وأما العالم فانتظروا فيئته ولا تتبعوا زلته، وأما المال فإن المخرج منه شكر النعمة وأداء حقه»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فإياك أن تفسّر القرآن برأيك حتى تفقهه عنالعلماء»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من فسر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر وإن أخطأ كان إثمه عليه»(7).

القرآن الناطق

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين(8) لا

ص: 521


1- سورة فاطر، الآية: 1.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 69.
3- سورة المزمل، الآية: 4.
4- وسائل الشيعة 6: 207.
5- الخصال 1: 164.
6- التوحيد: 264.
7- تفسير العياشي 1: 17.
8- دفتا المصحف: جانباه اللذان يكنفانه.

ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال... فإذا حكم بالصدق في كتاب اللّه فنحن أحق الناس به، وإن حكم بسنة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فنحن أحق الناس وأولاهم بها»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن وقطب جميع الكتب، عليها يستدير محكم القرآن، وبها نوّهت الكتب ويستبين الإيمان...»(2).

العلماء بالقرآن

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن من علم ما أوتينا، تفسير القرآن وأحكامه»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنا أهل البيت لم يزل اللّه يبعث فينا من يعلم كتابه من أوّله إلى آخره»(4).

ص: 522


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 125، من كلام له(عليه السلام) في التحكيم.
2- تفسير العياشي 1: 5.
3- الكافي 1: 229.
4- بصائر الدرجات 1: 194.

محاسبة النفس ومحكمة الضمير

النَّفس هي المَحكمة الأولى في عالم الدّنيا

قال اللّه تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}(1).

إذا عمل الإنسان عملاً سيئاً أو قبيحاً، فإن أول شيء يلومه هو نفسه، وكذلك بالنسبة للعمل الصالح فإن أول من يرتضيه منه هي نفسه. لأن من كمال النفس الإنسانية أنها فطرت على الإيمان باللّه تعالى والدين، وأُلهمت - بحسب الفطرة - التمييز بين العمل السييء (الفجور)، والعمل الصالح (التقوى)؛ قال تعالى: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(2).

فإذا استقر الإيمان باللّه وبالدين الذي هو الإسلام في النفس الإنسانية فإن تحلية النفس بالتقوى هو نوع تزكية، وتزويدها بما يمدّها في بقائها وينميها نماءً صالحاً.

وعلى العكس من ذلك، لو استقر فيها الفجور، فالنفس تستنكر العمل السيء؛ لأنه لا ينميها وهي تتزكى بالعمل الصالح وتتزود به. إضافة إلى ما فطرت

ص: 523


1- سورة النجم، الآية: 39-41.
2- سورة الشمس، الآية: 7-10.

عليه من الإيمان؛ قال تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَٰأُوْلِيالْأَلْبَٰبِ}(1). هذا في الحياة الدنيا، أما في الآخرة؛ فالنفس تقف أمام محكمة العدل الإلهي، فإن كانت عملت خيراً فهي مطمئنة، وإن كانت متأرجحة بين الخير والشر فهي تلوم صاحبها على عمل الشر، وتتمنى أنها استزادت من عمل الخير، وإن كانت عملت الشر دون توبةٍ فهي حليفة الحسرات؛ لأنها لم تلتفت إلى عملها في الدنيا، ولم تحاسب نفسها قبل أن تقف بين يدي اللّه تعالى؛ قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَٰزِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَئًْا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٖ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ}(2)، وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٖ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٖ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٖ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}(3)، فقد عرف أهل البصيرة والإيمان أن اللّه تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيحاسبون في محكمة العدل الإلهي حتى على الأعمال التي تساوي مثقال ذرة، وهي أصغر شيء في عالم المحسوس، ولا ينجي من هذه المحكمة الكبرى إلّا محاسبة النفس دائماً ومراقبتها، وذلك بجعل محكمة مصغرة في النفس تراقب أعمال الإنسان اليومية وجوارحه، من عين وأُذن ولسان وبطن وفرج ويد ورجل، فيحفظهم عن كل محرم وسيء، عن طريق التدبر في عاقبة الأمور. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر»(4). وعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) أنه قال: «ألّا فحاسبوا أنفسكم قبل أن

ص: 524


1- سورة البقرة، الآية: 197.
2- سورة الأنبياء، الآية: 47.
3- سورة آل عمران، الآية: 30.
4- محاسبة النفس: 13.

تحاسبوا، فإن في القيامة خمسين موقفاً كلموقف مقام ألف سنة»(1).

وما دامت أعماله رهينة بيده، فهو قادر على أن يكتب لنفسه خاتمة سعيدة في الجنة، فإذا انقضت الدنيا انقطع عمله وبقيت سيئاته على حالها حتى يعاقب عليها، فالإنسان ما دام في عالم التغيير وهو قادر على تغيير مصيره وخاتمته باختياره فليجهد نفسه من أجل أن يكون له وجه مشرّف أمام ربه تبارك وتعالى. وهذا المعنى هو ما يدعو إليه الحديث الشريف.

وإضافة إلى هذا المعنى هناك أمر آخر بجانبه، وقد ذكره أكثر كتب الأخلاق، وهو محاسبة النفس، بمعنى توبيخها كل ليلة، وتأنيب الضمير ولوم النفس، والعزم على عدم تكرار السيئات، والثبات على هذا العزم وهذه النية.

بعض آثار الزهد

اشارة

كان أحد الشخصيات المعروفة في العراق إماماً لصلاة الجماعة، وفي مرة جاء أحد الزهاد وحضر الصلاة خلفه، لكنّه لم يواصل تلك الصلاة، بل قطعها وأتمها منفرداً، وحينما عرف إمام الجماعة ذلك أظهر عدم ارتياحه، وسأل الرجل الزاهد عن سبب تركه صلاة الجماعة قائلاً له، أرأيت مني ما ينافي الصلاة؟ فأجابه الزاهد، كلا، ولكنك لم تكن حاضراً في الصلاة، بل كنت منشغلاً بشراء اللحم. فقال له إمام الجماعة: لقد صدقت، فإني فعلاً كنت أُفكر بشراء اللحم، فكلا النفسين كانت تسعى وتعمل، ولكن سعي الأول كان في الفضائل التي نال بها جزاءه الأوفى بانكشاف الحقائق أمام وجدانه، والثاني سعى، ولكن سعيه مخلوط بالهوى ومتعلقات الدنيا، ففقد خاصيّة الانكشاف، وهذا كان جزاءً له.

ص: 525


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 111.

إن كمال الأعمال ومقياس قبولها وتفضيلها هو لأجل رضا اللّه تعالى وفيسبيله، ولا يتحقق هذا الأساس إلّا بترويض النفس على حب الخير، ونبذ الشر، بإخراج حب الدنيا وما يتعلق بها من الماديات الفانية من القلب، وهذا يتم كذلك بالتفكير المستقيم، وجهاد النفس. وإن القلب إذا تروّض على العمل الصالح سوف يتبعه سائر الجوارح، ولقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) في فضيلة ترويض النفس وإصلاحها أنه قال(عليه السلام): «طوبى لعبد جاهد في اللّه نفسه وهواه، ومن هزم جند هواه ظفر برضا اللّه، ومن جاوز عقله نفسه الأمارة بالسوء، بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة اللّه تعالى من النفس والهوى، وليس لقتلهما وقطعهما سلاحٌ وآلة إلى اللّه سبحانه والخشوع، والجوع والظمأ بالنهار، والسهر بالليل، فإن مات صاحبه مات شهيداً، وإن عاش واستقام أدّاه عاقبته إلى الرضوان الأكبر؛ قال اللّه عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(1)»(2).

الوجدان أفضل المحاكم

الاتزان والاعتدال في الشخصية من الأمور التي تكسب الشخصية قوتها ومقومات ثباتها. كما أنهما يُعدّان من الصفات الأساسيه والرئيسية للنفس البشرية، فقد أودعها اللّه تعالى في فطرة الإنسان لغرض المحافظة على الصواب في جميع شؤون الحياة. ولكن عند ما يعيش الإنسان صراعاً مع نفسه، فإن ذلك كفيل بتدمير حياته، وقبل ذلك عذاب الوجدان والضمير، لأنه سوف ينظر إلى الدنيا وقد أظلمت في عينيه فلا يعرف كيف يدبر أبسط الأشياء وعند ذلك قد

ص: 526


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.
2- مصباح الشريعة: 169.

يلجأ إلى أعمال لا تتناسب مع شخصيته كوسيلة يتصور بها استقرار النفس وراحتها.

ذات مرة جاء شخص إلى أحد العلماء، وقال: إنني قد ارتكبت جريمة، ومع علمي بأن اللّه سيتوب عليّ؛ لأنه هو التواب الرحيم، لكن هناك إحساس في داخلي يؤذيني كثيراً. بحيث إني ومنذ ساعة الجريمة، ولحد الآن، لم أرَ النوم، وجريمتي هي أن لي طفلاً صغيراً، وفي أحد الأيام، أزعجني كثيراً، فغضبت وأخذته إلى الحمام وفتحت عليه الماء الحار حتى قتلته، ومع إني أعرف جيداً أن اللّه يغفر الذنوب جميعاً، وبعد التوبة والندم، لكن وجداني يؤنبني ولم يتركني لأرتاح حتى لحظة واحدة، والآن ماذا ترى أن أفعل غير التوبة والصدقة والكفارة، لكي يرتاح وجداني؟

هذه القصة أُنموذج على محاكمات الوجدان، لذا علينا أن نغرس في نفوس أبناء المجتمع هذه الفكرة، وهي أن أي ذنب كبيراً كان أو صغيراً، فإن وراءه مسؤولية عظيمة، وأن صاحبه لن يفلت من محكمة الوجدان، ومحكمة العدل الإلهي. فأحياناً لكثرة الذنوب والمعاصي والسلوك المنحرف تتكون كدورة على الضمير الإنساني فتحجبه عن التأثير، وعندها يمكن أن يفلت الإنسان من محكمة الضمير؛ لأنه سيكون أشبه بالضمير الميّت، الذي لا يؤنّب صاحبه على كل خطيئة. ولكن ليعلم الإنسان أنه إذا استطاع أن يُلوث ضميره، ويهرب من محاسبته فأين يهرب من المحكمة الإلهية في يوم القيامة التي لا تُغادر صغيرة ولا كبيرة. فعلى الإنسان قبل أن يصل إلى تلك المشاهد الأخروية أن يقدم لحياته ولموقفه ذاك مقدمات إيمانية تنقذه من الوقوع في النار، فعليه أن يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، وأن لا يقصّر بها لكي لا يقع في التقصير

ص: 527

والذنوب. فإن هذا الشعور هو الذي يدفع بالإنسان نحو العمل والمثابرةوالإخلاص؛ لأنه سوف ينظر إلى الحياة نظرة مسؤولة، ولأنه مسؤول عن كل أعماله ولا مفرّ من الإجابة عليها.

النّفس والوجدان كفيلان بكشف الحقائق

ينقل أن رجلاً قتل امرأة، ثم رماها في بئر في بستان من البساتين، وبعد مضي شهر واحد تم العثور على ذلك الجسد، وقد تعرفت الشرطة على القاتل عن طريق سجن عدد من الذين يشتبه بهم، ووضعوا عليهم حراسات مشددة، وبدأوا بالتحقيق معهم، وفي إحدى الليالي سمع أحد الحراس صوت أحد هؤلاء السجناء يصيح، وهو في حالة النوم: (اربطوا يدها ثم اسحبوها، والقوها في البئر). وبعد أن أيقظوه وبدأوا التحقيق معه، اعترف بارتكابه تلك الجريمة، وأدانته المحكمة بعد أن اعترف وجدانه قبل أن يعترف لسانه؛ لأن النفس هي المحكمة الأولى للإنسان فتستنكر العمل السيء، وتحاول أن تعيد الإنسان إلى فطرته الصحيحة، فتظهر الإدانة منها قبل إدانة الآخرين لها. وهنا من الممكن أن يكون هناك قاتل ولم يتمكن المعنيون من القبض عليه، لكنه لن يفلت من تأنيب الضمير والوجدان في الدنيا، وفي الآخرة ويوم القيامة الذي لا يخفى فيه عن اللّه شيء ستلوم هذه النفس صاحبها إن كانت عملت خيراً قليلاً قائلة: هلاّ ازددت، وإن كانت عملت سوءاً قالت ياليتني لم أفعل، قال تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}(1).

الضمير رقيب سريّ مُضْمَر

اشارة

هنالك عوامل عديدة تؤدي إلى صلاح المجتمع وتكامله. ومن أهم هذه العوامل مراعاة القوانين الإلهية، والعمل على وفقها، وهذا الأمر يتكامل إذا كان

ص: 528


1- سورة القيامة، الآية: 2.

هناك شعور بالمسؤولية وإيمان راسخ نابع من اليقين الهادف، فهذا الشعوريشترط تواجده في جميع مجالات الحياة، سواء في المعمل أو المدرسة أو البيت أو السوق أو المزرعة، أو في أي مجال آخر. ومن الأمور البديهية أن المسؤولية التي يبديها الإنسان تجاه هذه الأعمال نابعة من نفس الإنسان، ومن أعماقه، ولذلك نستطيع أن نميّز بين الإنسان المسؤول وبين غير المسؤول، وذلك من خلال الصورة التي يرسمها الإنسان في الواقع، والمعبرة عن حقيقته واتجاهه.

إننا نرى ومن خلال واقعنا اليومي كثيراً من الأعمال، ونقول: هذا العمل صحيح، وهذا العمل غير صحيح، أو ذلك العمل جاد أو غير جاد، والسبب في الصدق والجدية والمسؤولية هو الضمير المستكنّ في داخل كل إنسان؛ لأنه يؤنب على عدم الصدق وعدم الجدّية وعدم المسؤولية، وإن هناك أجهزة تدوّن أفعاله خيرها وشرها، بل حتى خاطراته الذهنية. ولو فكّر الإنسان بهذه المحاكمة الدنيوية والأُخروية، فإنه سوف يغير ما بنفسه، بل سيغير حتى أفكاره التي لم يجسدها في الخارج وبالنتيجة تكون أقواله وأفعاله وفق ميزان معين محسوب ومدروس، مراعياً أنظمة المراقبة الذاتية والإلهية؛ قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(1).

المراقبة

حكي أن عالماً كان له جماعه يترددون عليه، ويديمون مجالسته للاستفادة، فكان يكرم من بينهم شاباً ويقدّمه عليهم. فقال له بعض أصحابه: كيف تكرم هذا، وهو شاب ونحن شيوخ؟ فدعا بعدّة طيور وناول كل واحد منهم طائراً وسكيناً، وقال: ليذبح كل واحد منكم طائره في موضع لا يراه أحد ودفع إلى

ص: 529


1- سورة النساء، الآية: 1.

الشاب مثل ذلك، وقال له: كما قال لهم. فرجع كل واحد منهم بطائره مذبوحاً،ورجع الشاب وطائره حيّ في يده. فقال: مالك لم تذبح كما ذبح أصحابك؟ فقال: لم أجد موضعاً لا يراني فيه أحد إذ أن اللّه مطلع عليّ في كل مكان، فاستحسنوا منه هذه المراقبة(1). وإذا كانت أفعال الإنسان تحت الرقابة الإلهية دائماً، ومحسوبة بشكل دقيق، فعلى الإنسان أيضاً أن يراقب نفسه وجوارحه دائماً، أي: يشكل جهاز مراقبة ذاتية، وقد أشرنا سابقاً إلى تشكيل محكمة مصغرة لمحاكمة النفس على أفعالها، ولتكن الرقابة نابعة من هذه المحكمة، لتوصّل إلى محكمة النفس مجريات الأمور، ويتم وفقها معالجة الأعمال ومحاسبتها في الدنيا، قبل الانتقال إلى المحكمة الكبرى التي لا يمكن عندها معالجة الأخطاء والسيئات. وفي الحديث القدسي: «انما يسكن جنات عدن الذين إذا همّوا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني، والذين انحنت أصلابهم من خشيتي، وعزّتي وجلالي! إني لأهمّ بعذاب أهل الأرض، فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب»(2).

لذا فإن المراقبة الذاتية والإلهية والعلم بالوقوف للحساب يوم القيامة يجعل الإنسان مسؤولاً أمام كل تحرك وفعل ونطق ونظر، وما شابه من أعمال الجوارح.

المسؤولية

اشارة

المسؤولية ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة الإنسان، وتدفعه نحو الاستقامة، والإحساس بالمسؤولية ضرورة من ضروريات الحياة، وتلك الضرورة مستندة على أساس طبيعة وخصائص نوع المجتمع والفرد. وهنالك عوامل عديدة لها

ص: 530


1- انظر تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 235.
2- جامع السعادات 3: 76.

تأثير على المسؤولية، منها الدين والعقيدة والعواطف والعادات، فمن هنا أصبحالشعور بالمسؤولية واجباً عقلياً، وذلك من أجل الإصلاح والبناء.

وهنالك عوامل عديدة تثير فينا حس المسؤولية كما قلنا، منها الدين الذي يحث على المسؤولية ولا يستثني أحداً من البشر، لذلك جعل الكُلّ محاسبين في حالة التقصير، وكذلك الأخلاق التي تعتبر من المرتكزات القوية لدفع الإنسان نحو المسؤولية، والعوامل الأخرى من استقرار النفس، وإحكام الضمير والوجدان. قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسُْٔولًا}(1)، ولو استقام الإنسان بفعل المحاكمة والمسؤولية فستكون أفعاله ذات غاية شريفة وهدف نبيل، ويحصل على السعادة الدنيوية والأخروية.

نموذج مِن الشعور بالمسؤولية

كان في العراق معمار. ذو أخلاق عالية، وأغلب الناس ترجع إليه في بناء بيوتهم، وفي مدة لاحظوا أن العمال وبعد أن انتهوا من عملهم راحوا إلى الجصّ الموجود هناك وأخذوا ينفضون ملابسهم التي كانوا يرتدونها أثناء العمل، وقد استمروا على هذه الحالة في كل يوم عند نهاية عملهم، ولما سألوهم عن سبب ذلك؟ قالوا: إن الحاج (جواد المعمار) هو الذي أراد منّا أن نفعل ذلك، ويقول: إن المقدار الذي يعلق بملابسكم من الجص أثناء العمل هو ملك للناس (أي: صاحب البناية) وإن كان قليلاً، وإن التصرف بأموال الناس يعدّ حراماً، لذا عليكم حينما تنقضي ساعات العمل وتريدون الانصراف نفض ملابسكم مما علق بها من الجص. وهذا نموذج آخر من الشعور بالمسؤولية ومراقبة النفس والوجدان للأفعال الظاهرية. ولو قام كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي بمراقبة نفسه،

ص: 531


1- سورة الإسراء، الآية: 36.

والتفكر بعاقبة الأمور، والشعور بالمسؤولية، فإن ذلك سينعكس إيجابياً علىتقدم المجتمع وتآلفه، وخلق مجتمع متكامل خلقياً، ومؤمن برسالته وعقيدته السمحاء، ويعود على النفس بالنفع الأخروي كذلك؛ لأن الدنيا وسيلة لربح الآخرة، ولا يتم ذلك إلّا بمحاسبة النفس يومياً، ومراقبتها بشدة ومعاتبتها على ما اقترفت من سيئة، وتبديلها إلى الخير والفضيلة.

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، ومتّعني بالإقتصاد، واجعلني من أهل السداد، ومن أدلة الرشاد، ومن صالحي العباد، وارزقني فوز المعاد، وسلامة المرصاد، اللّهم خذ لنفسك من نفسي ما يُخلصُها، وأبق لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإن نفسي هالكة أو تعصمها»(1).

من هدي القرآن الحكيم

مراتب النفس

قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ...}(2).

وقال سبحانه: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}(4).

جزاء تهذيب النفس

قال جلّ وعلا: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}(5).

ص: 532


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة يوسف، الآية: 53.
3- سورة القيامة، الآية: 2.
4- سورة الفجر، الآية: 27.
5- سورة الفجر، الآية: 27-28.

وقال عزّ اسمه: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِيهَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}(1).

وقال جلّ شأنه: {... فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَٰتِ ءَامِنُونَ}(2).

وقال عزّ من قائل: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(3).

الزهد

قال جلّ ثناؤه: {...لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ...}(4).

وقال تعالى: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(5).

وقال سبحانه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(6).

المسؤولية

قال عزّ وجلّ: {فَلَنَسَْٔلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}(8).

ص: 533


1- سورة النحل، الآية: 30.
2- سورة سبأ، الآية: 37.
3- سورة العنكبوت، الآية: 69.
4- سورة آل عمران، الآية: 153.
5- سورة الحديد، الآية: 23.
6- سورة طه، الآية: 131.
7- سورة الأعراف، الآية: 6.
8- سورة الصافات، الآية: 24.

وقال عزّ اسمه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا عدو أعدى على المرء من نفسه»(3).

ومن مناجات الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، وبسخطك متعرضة، تسلكُ بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسها الشر تجزع، وإن مسها الخير تمنع، ميالةً إلى اللعب واللّهو، مملوّةً بالغفلة والسهو...»(4).

تهذيب النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «جاهدوا أهواءَكم تملكوا أنفسكم»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «اجعل من نفسك على نفسك رقيباً واجعل لآخرتك في دنياك نصيباً»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لرجل: «اجعل قلبك قريناً براً، أو ولداً واصلاً، واجعل عملك والداً تتبعه، واجعل نفسك عدواً تجاهدها...»(7).

ص: 534


1- سورة الحجر، الآية: 92.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 59.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 782.
4- بحار الأنوار 91: 143.
5- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 122.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 144.
7- الكافي 2: 454.

وقال(عليه السلام): «احمل نفسك لنفسك فإن لم تفعل لم يحملك غيرك»(1).

الزهد وآثاره

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «جُلساء اللّه غداً أهل الورع والزهد في الدنيا»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إزهد في الدنيا يحبك اللّه وأزهد في ما في أيدي الناس يحبك الناس»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنكم إن زهدتم خلصتم من شقاء الدنيا وفزتم بدار البقاء»(4).

وعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا»(5).

المسؤولية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... فإني مسئول وإنكم مسئولون...»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... أُوصيكم بتقوى في ما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون فإن اللّه تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(7)...»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان في ما وعظ به لقمان ابنه: ... واعلم أنك ستسأل غداً إذا وقفت بين يدي اللّه عزّ وجلّ من أربع: شبابك في ما أبليته، وعن

ص: 535


1- الكافي 2: 454.
2- نهج الفصاحة: 431.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 140.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 270.
5- الكافي 2: 128.
6- الكافي 2: 606.
7- سورة المدثر، الآية: 38.
8- الأمالي للشيخ المفيد: 261.

عمرك في ما أفنيته، ومالك مما اكتسبته وفي ما أنفقته، فتأهب لذلك وأعدّ له جواباً...»(1).

ص: 536


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 194.

فهرس المحتويات

صلاح الدين والتعصب الطائفي

القرآن يأمر بالاتحاد والتآخي... 5

زرّاع العداوة بين المسلمين... 8

لماذا التفرقة؟... 8

صلاح الدين ومحكمة التاريخ... 11

مقابلة الإحسان بالإساءة... 12

الفاطميون والفقيه المالكي... 13

استنجاد الفاطميين بالزنكيين... 14

أول مرسوم ديني للفاطميين... 14

الفرق بين السيرتين... 16

التكريتيان: صلاح وصدام... 18

قصة من الواقع العراقي... 18

قصة أخرى... 19

من نتائج التعصب الأعمى... 20

عبد الناصر وصلاح الدين... 21

معاونا الحاكم العباسي: وصيف وبغا... 22

نموذج من الانصياع... 22

بعض ما سجله التاريخ عن صلاح الدين... 24

ص: 537

التكريتيان ينّفذان مخّططاً واحداً... 26

سياسة ترويج الطغاة... 26

الطغاة ومصيرهم الأسود... 27

فضح الظالمين... 28

من هدي القرآن الحكيم... 30

المسلمون أمة واحدة... 30

تداول الأيام... 30

التعصب ليس من أخلاق الإسلام... 30

رفعة العلم والعلماء... 31

القرآن يأمر بالتآخي... 31

هزيمة الباطل أمام الحق... 31

من هدي السنّة المطهّرة... 32

المؤمنون أخوة... 32

التعقل والتعرف على الزمان... 32

التعصب منفي في الإسلام... 33

فضل العلم ورفعة العلماء... 33

التآخي بين المسلمين... 34

انتصار الحق وهزيمة الباطل... 34

ضرورة التفرغ للعمل في سبيل اللّه

التفرغ للعمل... 36

وجوب الجهاد... 37

من نصائح الوالد... 38

في ليلة شديدة البرد... 38

ص: 538

الاقتداء بالعظماء... 39

صاحب ثورة العشرين... 40

حب الدنيا من موانع العمل... 41

مع أمير المؤمنين(عليه السلام)... 41

أبو العتاهية ومجلس هارون... 42

الدنيا في القرآن... 44

الدنيا في الروايات... 44

الإنسان رهين عمله... 46

مما يجب على الشباب... 46

مقومات الإنهاض... 46

ما هو الأمل... 47

طريق النزاهة

في البدء... 50

المعنويات وأثرها على الماديات... 50

الروايات تؤكد ذلك... 51

صفات العلماء العاملين... 52

النزاهة دروس وعبر... 54

النزاهة عند النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)... 54

القول مع العمل... 59

ابن ميثم البحراني(رحمه اللّه)... 60

الحرام الفاضح... 62

الطلاب وبساطة العيش... 62

ص: 539

النزاهة والمراتب العليا... 64

البساطة في العيش... 65

نزاهة الشيخ علي القمي(رحمه اللّه)... 67

من هدي القرآن الحكيم... 68

1- الأخلاق... 68

2- الصدق... 68

3- محاسبة النفس... 69

4- التواضع... 69

5- الزهد... 70

من هدي السنّة المطهّرة... 71

الطريق إلى النزاهة... 71

1- الأخلاق... 71

2- الصدق... 71

3- محاسبة الصدق... 72

4- التواضع... 72

5- الزهد... 73

طريق التقدم

الحكمة والعلم... 74

تفسير الآية الكريمة... 74

وفي مجمع البيان... 75

عودة إلى الآية الكريمة... 76

مقومات التقدم... 78

المقوم الأول: العلم... 78

ص: 540

العلم في الآيات والروايات... 79

من أسباب تأخر الأمم... 81

المقوم الثاني: العمل... 82

الأماني بضاعة النوكى... 83

الأماني والآمال في الروايات... 84

عواقب الاعتماد على التمني... 85

الكسل عمل سوء... 86

الكسل والضجر في الروايات... 87

سفرة إلى دولتين... 88

بعد الحرب العالمية الثانية... 89

جودة العمل وإتقانه... 90

وفي البلاد الإسلامية... 90

الإسلام يأمر بالعمل... 91

وصايا بليغة... 92

كثرة النوم في الأحاديث الشريفة... 94

المقوم الثالث: المال... 95

من مزايا المال... 97

بين مدح المال والقناعة... 98

لو لا مال خديجة(عليها السلام)... 100

الإسلام خير للبشرية جمعاء... 101

الإسلام والاكتفاء الذاتي... 102

مع سلمان المحمدي... 103

عليك بالسوق... 104

ص: 541

من استغنى أغناه اللّه... 105

خذ حانوتاً... 105

المسلمون: آباء العلم والعمل... 106

المقوّم الرابع: التواضع والتفاهم... 108

التواضع والتفاهم في الروايات... 109

نموذج من التواضع والتفاهم... 110

خلاصة الكلام... 113

من هدي القرآن الحكيم... 114

العلم من مقومات التقدم... 114

العمل من مقومات التقدم... 115

التفكير والتخطيط من مقومات التقدم... 116

المال والكسب الحلال من مقومات التقدم... 117

التواضع والتفاهم، والتشاور من مقومات التقدم... 117

من هدي السنّة المطهّرة... 118

العلم طريق التقدم... 118

العزم على العمل... 118

العمل شرط التقدم... 119

التفكير السليم والتخطيط المنهجي... 120

المال والكسب الحلال... 120

التواضع والتفاهم، والشورى والتشاور... 122

عيد الغدير أعظم الأعياد في الإسلام

العيد في الإسلام... 124

يوم البشرى... 127

ص: 542

أهل البيت(عليهم السلام) سفن النجاة... 151

قطعات من سفينة نوح... 152

أقل الناس مؤونة وأكثرهم معونة... 153

الشيعة وحُب أمير المؤمنين(عليه السلام)... 157

التاريخ يتحدث... 158

التأييد الغيبي لأهل الحق... 159

أمير المؤمنين(عليه السلام) على لسان... 162

الصادق الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 162

أهل البيت(عليهم السلام) وعيد الغدير... 165

من هدي القرآن الحكيم... 173

ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)... 173

صفات الإمام(عليه السلام)... 174

ذكر أمير المؤمنين(عليه السلام) في القرآن... 174

متابعة أئمة الحق... 175

من هدي السنّة المطهّرة... 175

يوم الغدير... 175

صفات الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)... 176

النبأ العظيم... 177

فلسفة الحج

فلسفة الحج... 179

فائدة الحج... 180

ملاحظة مهمّة... 183

ص: 543

الكعبة وبقاء الدين... 183

السفر إلى بيت اللّه الحرام... 185

صلاة الجماعة بإمامة الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه)... 187

التأسي بالإمام الحسين(عليه السلام)... 188

زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)... 190

الاستعمار وشعائرنا الدينية... 192

ما هو المطلوب؟... 194

من هدي القرآن الحكيم... 196

الشريعة تدعو إلى اللّه... 196

1- الوحدة والاجتماع... 196

2- الحج... 196

3- إيقاظ الفكر... 197

من هدي السنّة المطهّرة... 197

علة فريضة الحج... 197

ولتعرف آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره... 198

الوفادة إلى اللّه... 198

نداء إبراهيم(عليه السلام)... 199

هذا بيت استعبد اللّه به خلقه... 199

لا تتركوا الحج... 200

ثواب الحاج... 200

تتسع أرزاقكم... 201

من أمّ هذا البيت... 201

إذا أردت الحج... 201

ص: 544

الحج على الجميع... 203

ترك الحج بغير عذر... 203

من أراد الحج... 204

الشريعة تدعو إلى الوحدة والاجتماع... 204

إيقاظ الفكر والتنبه من الغفلة... 204

خشية اللّه... 205

الخير كله... 205

اتقوا اللّه... 205

الخصال الحسنة... 206

في رحاب السيدة المعصومة(عليها السلام)

ذكرى استشهاد السيدة المعصومة(عليها السلام)... 207

الموضوع الأول: نبذة عن حياة السيدة المعصومة(عليها السلام)... 208

ولادتها ووفاتها... 208

من فضائلها(عليها السلام)... 209

وتوفيت مسمومة شهيدة... 210

الاغتيالات سياسة الطغاة... 212

عند دفن السيدة المعصومة(عليها السلام)... 212

المدفونون بجوارها... 213

من كراماتها... 214

الموضوع الثاني: تاريخ قم وتشيعها... 215

الدور الأول... 215

أنا عربية وهذه عجمية... 218

ص: 545

المؤمن كفو المؤمنة... 219

الدور الثاني... 219

الدور الثالث... 221

الدور الرابع... 222

الدور الخامس... 222

الموضوع الثالث: مستقبل قم ودورها في نشر علوم آل محمد(عليهم السلام)... 224

المحور الأول: حرم السيدة المعصومة(عليها السلام)... 224

الحريات من أسباب انتشار الإسلام... 226

المحور الثاني: نظافة مدينة قم المقدسة... 229

المحور الثالث: الاستعداد لاستقبال شيعة العالم... 230

المحور الرابع: التبليغ والإرشاد الديني... 232

هكذا يعملون... 233

التمسك بالقرآن والعترة... 234

وفي الختام... 234

عاصمة الحوزة العلمية... 235

زيارة السيدة المعصومة(عليها السلام)... 235

في مولد الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف

ضرورة معرفة الإمام(عليه السلام)... 238

مفردات الحديث... 238

المعرفة... 239

فلسفة الحديث... 240

قتل الناس جميعاً... 241

ص: 546

منكر الضروري كافر... 241

مع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)... 247

وهكذا الأمر في منكر الضروري... 248

مع رأس المنافقين... 249

نعمة الاعتقاد بولاية إمام الزمان(عليه السلام)... 250

تعريف الإمام(عليه السلام) للعالم... 252

إخلاص النية شرط التشرف... 254

قصة من أفغانستان... 256

الاستغاثة بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف... 264

اعتراف شاعر النيل... 266

تعريف الناس بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف... 268

قاعة (إقبال) في المكتبة البريطانية... 269

تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام... 271

الخاتمة... 273

قبس من شعاع الإمام الحسين(عليه السلام)

الشهادة والحياة الأبدية... 275

الإمام المعصوم... 276

زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)... 277

أحاديث في فضله(عليه السلام)... 280

التسبيح بتربته(عليه السلام)... 281

شهداء مع الإمام الحسين(عليه السلام)... 282

قصة من كرامات الشهيد... 282

ص: 547

يوم عاشوراء... 284

من كرامات سيد الشهداء(عليه السلام)... 285

الحسين(عليه السلام) مصباح الهدى... 287

هدف الإمام الحسين(عليه السلام)... 289

مصائب الحسين(عليه السلام)... 291

رأس الحسين(عليه السلام)... 292

واجباتنا تجاه عاشوراء... 293

الإمام السجاد(عليه السلام) وعاشوراء... 295

أهل البيت(عليهم السلام) وإقامة العزاء... 296

جزيل الثواب... 296

من أنشد شعراً... 297

من هدي القرآن الحكيم... 298

من خصائص الإمام الحسين(عليه السلام)... 298

جزاء الشهيد عند اللّه سبحانه... 299

واجبنا تجاه القضية الحسينية... 299

من هدي السنّة المطهّرة... 299

من خصائص الإمام الحسين(عليه السلام)... 299

من كراماته(عليه السلام)... 300

الشهيد عند اللّه سبحانه... 301

التمسك بالحسين وأهل البيت(عليهم السلام) هداية ونجاة... 301

واجبنا تجاه القضية الحسينية... 302

ص: 548

قيمة المرء

المرء وما يحسنه... 303

مراقبة المرء لنفسه... 304

دروس وعبر... 304

الفكر وأثره على السلوك... 305

مقارنة... 306

الشباب وتحصيل العلم... 307

العلم زينة وفريضة... 308

أهمية الوقت... 310

القرآن والحقائق العلمية... 312

الأئمة(عليهم السلام) والحقائق العلمية... 313

التأسي بأئمتنا الهداة(عليهم السلام)... 315

العلم الحقيقي... 316

من هدي القرآن الحكيم... 318

العمل الصالح وأهميته... 318

القرآن يدعو إلى التقوى... 318

القرآن يدعو إلى العلم... 319

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة... 319

من هدي السنّة المطهّرة... 320

العمل الصالح وأهميته... 320

القرآن الحكيم والتدبر... 320

السنة تدعو إلى التقوى... 321

السنة تدعو إلى العلم... 321

ص: 549

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة... 322

محنة العراق

تاريخ العراق الحديث... 323

المقاومة الإسلامية... 325

الصراع بين أميركا وبريطانيا... 326

من البكر إلى صدام... 327

لمحة عن البكر... 328

ميشيل عفلق... 329

محاربة الدين والمتدينين... 331

من جرائم الطغاة... 332

الحقد على الشيعة... 333

السير خلف المرجعية... 335

مسؤولية الجميع... 337

وصايا... 338

من هدي القرآن الحكيم... 340

الشيطان يزيِّن لأوليائه... 340

في مخالب الفتن والمحن... 340

في مواجهة الجبابرة والمستبدين... 341

الحكومات الجائرة وآثارها... 342

عاقبة الظالمين... 342

حال الظالمين في الدنيا... 342

من هدي السنّة المطهّرة... 343

أئمة الجور... 343

ص: 550

الجهاد باب من أبواب الجنة... 344

الجهاد الأكبر... 344

المؤمن مبتلى... 345

الصبر من الإيمان... 345

ثمار الصبر... 346

بيانات... 347

إعلان الحداد بمناسبة (17 تموز)... 348

بيان بمناسبة الأوضاع الأخيرة في العراق... 351

خطاب إلى الشعب العراقي استعداداً للحكومة الإسلامية المرتقبة في العراق بإذن اللّه تعالى 356

مساوئ الفرقة

من أساليب الاستعمار... 360

السقوط والانحطاط... 361

الأولى: النزاع... 361

بذور التفرقة... 361

الثانية: العنف والتهور... 363

من سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 364

من سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام)... 365

أسلوب القرآن... 366

واقعنا المعاصر... 368

حرمة التفرقة... 369

واجب المجتمع... 370

من هدي القرآن الحكيم... 371

ص: 551

في ذم التفرقة... 371

جزاء المنافقين... 371

اللين من محاسن الأخلاق... 372

من هدي السنّة المطهّرة... 372

من كلمات لأمير المؤمنين(عليه السلام) في اللين والرفق... 372

ومن كلماته(عليه السلام) في ذم التفرقة والعدوان... 373

اللين من صفات المؤمن... 373

من مناهي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 374

مستقبل العراق بين الدعاء والعمل

الأمل القاطع... 375

الشيخ البهائي والدعاء المستجاب... 376

حول العراق... 377

من منافع تعدد القوى... 378

قوة الشعب... 379

وزير العدل أيضاً... 380

الهدف المهم... 380

موقف السيد الحكيم الصارم... 381

الإلحاد وأسياده... 382

من هدي القرآن الكريم... 383

الدعاء المستجاب... 383

الدعاء في كل الأحوال... 383

الدعوة إلى العمل الرسالي... 384

ص: 552

العبرة بالأمم السالفة... 384

صفات الفائزين... 385

من هدي السنّة المطهّرة... 385

الدعاء هو أفضل العبادة... 385

الدعاء سلاح المؤمن... 386

الدعاء المستجاب... 387

الدعوة إلى العمل... 388

العمل مع العلم... 388

الحاكم الظالم... 389

من القائد... 390

أهمية العمل... 392

مع الحرس والشرطة

الاستخلاف في الأرض... 393

ضمان عدم الطغيان... 394

1- ذكر اللّه دائماً... 394

شدة الحساب في يوم القيامة... 395

آيات وروايات في ذكر اللّه... 396

امرأة من بني إسرائيل... 397

من بركات ذكر اللّه دائماً... 398

ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً... 398

2- ذكر الموت... 401

إخلاص العبودية... 404

3- الثقافة الإسلامية... 407

ص: 553

ثورة الإمام الحسن(عليه السلام)... 407

نحن وأهل البيت(عليهم السلام)... 408

4- خدمة الناس ومساعدة الفقراء... 410

روايات في قضاء الحوائج... 417

المسلمون الأوائل... 418

مساعدة عموم الناس... 418

خلاصة الأمور الأربعة... 419

السلاح للخدمة... 419

أصناف الناس في القيامة... 420

روايات حول الجند والشرطة... 422

جنود اللّه... 422

لا قوام للرعية إلّا بالجنود... 423

ولّ من جنودك أنصحهم للّه... 423

الجند وذوي المروءات... 424

تفقّد أُمور الجند... 424

المواسي للجنود... 424

استماع شكوى الناس... 425

أهمية الجند... 425

آفة الجند... 425

نكات حربية... 426

شُرطة الخَميس لغة... 428

شُرطة الخَميس اصطلاحاً... 429

سبب التسمية... 430

ص: 554

أسماء شرطة الخميس... 431

قصص من شرطة الخميس... 432

مع حبابة الوالبية... 432

الإفطار العمدي في شهر رمضان... 433

ما يكبيك؟... 436

هذا أخي خضر(عليه السلام)... 439

ابن معز وابن نعج... 440

وفي الختام... 441

مع الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) والتغيير في العراق

مظلومية أهل البيت(عليهم السلام)... 442

علماء السنة يعترفون بفضل الإمام(عليه السلام)... 444

هارون العباسي يعترف بإمامته(عليه السلام)... 446

الدنيا دار العمل... 446

تقدم المسلمين الأوائل... 447

السكوت القاتل... 447

نادِ في القوم... 448

العراق وحكومة الأكثرية... 450

مسؤولية الجميع... 452

مزارات السنة في بغداد... 452

عقيدة التجسيم عند السنة... 453

بغداد مدينة الشيعة... 455

التغيير المترقب... 456

ص: 555

إبعاد المراجع من العراق... 456

لا تنخدعوا... 456

رعاية حقوق الأقلية... 457

محاربة الحجاب في إيران... 458

أهمية القلم والبيان... 459

الكلمة مسؤولية الجميع... 460

إدارة الأقلية إدارة ظالمة... 461

نعش الإمام الكاظم(عليه السلام)... 462

لا رأي لمن لا يطاع... 463

كيف نساهم في تشكيل حكومة الأكثرية؟... 465

أسلوب التحريض... 466

الكلمة المؤثرة... 467

دور اللسان وأهميته... 467

الناس على دين ملوكهم... 468

وفي الختام... 469

معالجة الأمراض النفسية

نعمة الابتلاء... 470

عيِّنة من الابتلاء... 471

يحسب نفسه بقرة!!... 472

الجرة الوهمية... 473

الملوكية الوهمية... 474

الطبيب الحاذق... 476

علاج القلوب... 476

ص: 556

التمويه والكذب... 479

يقولون ما لا يفعلون... 479

المعرفة بالإنسان طريق الإصلاح... 480

العلاج الناجع لمشكلاتنا المعاصرة... 481

من هدي القرآن الحكيم... 483

النفس الإنسانية... 483

معرفة النفس... 483

آثار الاستغفار... 484

عوامل انحراف النفس... 484

عوامل صلاح النفس... 485

من هدي السنّة المطهّرة... 485

النفس الإنسانية... 485

معرفة النفس... 486

آثار الاستغفار... 487

عوامل انحراف النفس... 487

عوامل صلاح النفس... 488

مكانة القرآن الكريم في المجتمع الإسلامي

أهمية اتباع القرآن... 490

الراسخون في العلم... 492

احتجاج الإمام الصادق(عليه السلام)... 494

شمولية القرآن الكريم... 499

القرآن الناطق... 503

النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتلاوة القرآن... 504

ص: 557

نبذ الكتاب... 505

ربيع القرآن... 507

القرآن الكريم ودرس التفسير... 508

القرآن وضرورة تعلمه... 508

عمق القرآن الكريم... 509

في رحاب سورة يوسف(عليه السلام)... 510

من معاجز القرآن... 511

التوفيق الإلهي... 512

عظمة آيات اللّه عزّ وجلّ... 513

من هدي القرآن الحكيم... 514

القرآن هدى وشفاء... 514

التدبر في القرآن... 515

لا يفسر القرآن بالرّأي... 515

القرآن الناطق... 515

العلماء بالقرآن... 516

تعليم القرآن وتعلمه... 516

آثار قراءة القرآن... 516

إبداع القرآن... 516

القرآن إعجاز وتحد... 517

من هدي السنّة المطهّرة... 517

القرآن شفاء نافع... 517

آداب قراءة... 518

إبداع القرآن... 519

ص: 558

إعجاز القرآن... 519

فضل القرآن وعظمته... 519

حافظ القرآن... 519

مستمع القرآن... 520

تعليم القرآن... 520

ترتيل القرآن... 520

لا يفسر القرآن بالرأي... 521

القرآن الناطق... 521

العلماء بالقرآن... 522

محاسبة النفس ومحكمة الضمير

النَّفس هي المَحكمة الأولى في عالم الدّنيا... 523

بعض آثار الزهد... 525

الوجدان أفضل المحاكم... 526

النّفس والوجدان كفيلان بكشف الحقائق... 528

الضمير رقيب سريّ مُضْمَر... 528

المراقبة... 529

المسؤولية... 530

نموذج مِن الشعور بالمسؤولية... 531

من هدي القرآن الحكيم... 532

مراتب النفس... 532

جزاء تهذيب النفس... 532

الزهد... 533

المسؤولية... 533

ص: 559

من هدي السنّة المطهّرة... 534

النفس... 534

تهذيب النفس... 534

الزهد وآثاره... 535

المسؤولية... 535

فهرس المحتويات... 537

ص: 560

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.