القطوف الدانية المجلد 5

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 5/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

-----

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر: دار العلم

المطبعة: إحسان

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

كمية: 500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

-----

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الثالث): 9-204541-964-978

-----

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

إلى المجاهدين في العراق

خطاب إلى المجاهدين في العراق

قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)»

الأخوة المجاهدون، في داخل العراق وخارجه:

أحييكم بتحية الإسلام، وقد ظلمتم وأخرجتم من دياركم بغير حقٍ؛ لأنكم قلتم: لا إله إلّا اللّه.

أصبحتم مصداق قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ}(2).

قال الإمام الباقر(عليه السلام) في هذه الآية المباركة: «نزلت في المهاجرين وجرت في آل محمد(عليهم السلام) الذين أخرجوا من ديارهم وأخيفوا»(3).

وعن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن الدعاء إلى اللّه والجهاد في سبيله، أهو لقوم لايحل إلّا لهم، ولا يقوم به إلّا من كان منهم، أم هو مباح لكل من وحّد اللّه عزّ وجلّ، وآمن برسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ومن كان كذا فله أن يدعو إلى اللّه عزّ وجلّ، وإلى طاعته، وأن يجاهد في سبيله؟

ص: 5


1- سورة آل عمران، الآية: 200.
2- سورة الحج، الآية: 40.
3- تفسير مجمع البيان 7: 156.

فقال(عليه السلام): «ذلك لقوم لا يحل إلّا لهم، ولا يقوم بذلك إلّا من كان منهم».

قلت: من أولئك؟

قال: «من قام بشرائط اللّه عزّ وجلّ في القتال، والجهاد على المجاهدين، فهو المأذون له في الدعاء إلى اللّه عزّ وجلّ، ومن لم يكن قائماً بشرائط اللّه عزّ وجلّ في الجهاد على المجاهدين، فليس بمأذون له في الجهاد، ولا الدعاء إلى اللّه، حتى يحكم في نفسه ما أخذ اللّه عليه من شرائط الجهاد».

قلت: فبيّن لي يرحمك اللّه؟

قال: «إن اللّه تبارك وتعالى أخبر [نبيّه] في كتابه، الدعاء إليه، ووصف الدعاة إليه، فجعل ذلك لهم درجات يعرف بعضها بعضاً، ويستدل ببعضها على بعض، فأخبر أنه تبارك وتعالى أول من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته، واتباع أمره، فبدأ بنفسه، فقال: {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1) ثم ثنى برسوله، فقال: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2) يعني بالقرآن، ولم يكن داعياً إلى اللّه عزّ وجلّ من خالف أمر اللّه، ويدعو إليه بغير ما أمر [به] في كتابه، والذي أمر أن لا يدعى إلّا به - إلى أن قال(عليه السلام) - ثم ذكر مَن أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه، فقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3) ثم أخبر عن هذه الأمة، وممن هي، وأنها من ذرية إبراهيم، ومن ذرية إسماعيل من سكان الحرم، ممن لم يعبدوا غير اللّه قط، الذين وجبت لهم الدعوة، دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد، الذين أخبر عنهم

ص: 6


1- سورة يونس، الآية: 25.
2- سورة النحل، الآية: 125.
3- سورة آل عمران، الآية: 104.

في كتابه،أنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً - إلى أن قال(عليه السلام) - ثم وصف أتباع نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من المؤمنين، فقال عزّ وجلّ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ}(1).

وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِمْ}(2) يعني أولئك المؤمنين، وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}(3) ثم حلّاهم ووصفهم، كي لايطمع في اللحاق بهم إلّا من كان منهم، فقال في ما حلّاهم به ووصفهم: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}(4) إلى قوله {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْوَٰرِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(5).

وقال في صفتهم وحليتهم أيضاً: {الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَٰعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}(6).

ثم أخبر أنه اشترى من هؤلاء المؤمنين، ومن كان على مثل صفتهم: {أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ}(7).

ثم ذكر وفاءهم له بعهده ومبايعته، فقال: {وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ

ص: 7


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة التحريم، الآية: 8.
3- سورة المؤمنون، الآية: 1.
4- سورة المؤمنون، الآية: 2- 3.
5- سورة المؤمنون، الآية: 10-11.
6- سورة الفرقان، الآية: 68- 69.
7- سورة التوبة، الآية: 111.

بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1) فلما نزلت هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}(2) قام رجل إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا نبي اللّه، أرأيتك الرجل يأخذ سيفه فيقاتل حتى يقتل، إلّا أنه يقترف من هذه المحارم، أ شهيد هو؟

فأنزل اللّه عزّ وجلّ على رسوله: {التَّٰئِبُونَ الْعَٰبِدُونَ الْحَٰمِدُونَ السَّٰئِحُونَ الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ الْأمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(3).

ففسر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المجاهدين من المؤمنين الذين هذه صفتهم وحليتهم بالشهادة والجنة، وقال: التائبون من الذنوب، العابدون: الذين لا يعبدون إلّا اللّه، ولا يشركون به شيئاً، الحامدون: الذين يحمدون اللّه على كل حال في الشدة والرخاء، السائحون: وهم الصائمون، الراكعون الساجدون: الذين يواظبون على الصلوات الخمس، والحافظون لها، والمحافظون عليها بركوعها وسجودها، وفي الخشوع فيها، وفي أوقاتها، الآمرون بالمعروف بعد ذلك، والعاملون به، والناهون عن المنكر والمنتهون عنه، قال: فَبَشّر من قُتل وهو قائم بهذه الشروط بالشهادة والجنة، ثم أخبر تبارك وتعالى أنه لم يأمر بالقتال إلّا أصحاب هذه الشروط، فقال عزّ وجلّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ}(4) وذلك أن جميع ما بين السماء والأرض للّه عزّ وجلّ ولرسوله ولأتباعهما من المؤمنين من أهل هذه الصفة، فما كان من الدنيا في أيدي

ص: 8


1- سورة التوبة، الآية: 111.
2- سورة التوبة، الآية: 111.
3- سورة التوبة، الآية: 112.
4- سورة الحج، الآية: 39- 40.

المشركين والكفار والظلمة والفجار من أهل الخلاف لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمولّي عن طاعتهما، مما كان في أيديهم، ظلموا فيه المؤمنين من أهل هذه الصفات، وغلبوهم عليه، مما أفاء اللّه على رسوله، فهو حقهم، أفاء اللّه عليهم وردّه إليهم - إلى أن قال(عليه السلام): - فذلك قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ}(1) ما كان المؤمنون أحق به منهم، وإنما أذن للمؤمنين الذين قاموا بشرائط الإيمان التي وصفناها؛ وذلك أنه لا يكون مأذوناً له في القتال حتى يكون مظلوماً، ولا يكون مظلوماً حتى يكون مؤمناً، ولا يكون مؤمناً حتى يكون قائماً بشرائط الإيمان التي اشترط اللّه عزّ وجلّ على المؤمنين والمجاهدين، فإذا تكاملت فيه شرائط اللّه عزّ وجلّ كان مؤمناً، وإذا كان مؤمناً كان مظلوماً، وإذا كان مظلوماً كان مأذوناً له في الجهاد؛ لقوله عزّ وجلّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(2)، وإن لم يكن مستكملاً لشرائط الإيمان فهو ظالم ممن يبغي، ويجب جهاده حتى يتوب، وليس مثله مأذوناً له في الجهاد والدعاء إلى اللّه عزّ وجلّ؛ لأنه ليس من المؤمنين المظلومين الذين أذن لهم في القرآن في القتال، فلما نزلت هذه الآية {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} في المهاجرين الذين أخرجهم أهل مكة من ديارهم وأموالهم، أحل لهم جهادهم بظلمهم إياهم وأذن لهم في القتال».

فقلت: فهذه نزلت في المهاجرين بظلم مشركي أهل مكة لهم، فما بالهم في قتالهم كسرى وقيصر ومن دونهم من مشركي قبائل العرب؟

فقال(عليه السلام): «... ولو كانت الآية إنما عنت المهاجرين الذين ظلمهم أهل مكة كانت الآية مرتفعة الفرض عمّن بعدهم؛ إذا لم يبق من الظالمين والمظلومين

ص: 9


1- سورة الحج، الآية: 39.
2- سورة الحج، الآية: 39.

أحد - إلى أن قال(عليه السلام) - فمن كانت قد تمت فيه شرائط اللّه عزّ وجلّ التي وصف بها أهلها من أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو مظلوم، فهو مأذون له في الجهاد، كما أذن لهم في الجهاد؛ لأن حكم اللّه عزّ وجلّ في الأولين والآخرين، وفرائضه عليهم سواء، إلّا من علة أو حادث يكون، والأولون والآخرون أيضاً في منع الحوادث شركاء، والفرائض عليهم واحدة، يسأل الآخرون عن أداء الفرائض عمّا يسأل عنه الأولون، ويحاسبون عمّا به يحاسبون، ومن لم يكن على صفة مَن أذن اللّه له في الجهاد من المؤمنين فليس من أهل الجهاد، وليس بمأذون له فيه، حتى يفيء بما شرط اللّه عزّ وجلّ عليه، فإذا تكاملت فيه شرائط اللّه عزّ وجلّ على المؤمنين والمجاهدين فهو من المأذونين له في الجهاد، فليتق اللّه عزّ وجلّ عبد ولا يغتر بالأماني التي نهى اللّه عزّ وجلّ عنها من هذه الأحاديث الكاذبة على اللّه، التي يكذّبها القرآن ويتبرأ منها ومن حملتها ورواتها، ولا يقدم على اللّه عزّ وجلّ بشبهة لا يعذر بها، فإنه ليس وراء المتعرض للقتل في سبيل اللّه منزلة يؤتى اللّه من قبلها، وهي غاية الأعمال في عظم قدرها، فليحكم امرؤ لنفسه، وليرها كتاب اللّه عزّ وجلّ ويعرضها عليه، فإنه لا أحد أعرف بالمرء من نفسه، فإن وجدها قائمةً بما شرط اللّه عليه في الجهاد فليقدم على الجهاد، وإن علم تقصيراً فليصلحها، وليقمها على ما فرض اللّه عليها من الجهاد، ثم ليقدم بها وهي طاهرة مطهرة من كل دنس يحول بينها وبين جهادها.

ولسنا نقول لمن أراد الجهاد وهو على خلاف ما وصفنا، من شرائط اللّه عزّ وجلّ على المؤمنين والمجاهدين: لاتجاهدوا، ولكن نقول: قد علّمناكم ما شرط اللّه عزّ وجلّ على أهل الجهاد، الذين بايعهم واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنان، فليصلح امرؤ ما علم من نفسه من تقصير عن ذلك، وليعرضها على شرائط اللّه، فإن رأى أنه قد وفى بها وتكاملت فيه، فإنه ممن أذن اللّه عزّ وجلّ له

ص: 10

في الجهاد، فإن أبى أن لا يكون مجاهداً على ما فيه من الإصرار على المعاصي والمحارم والإقدام على الجهاد بالتخبيط والعمى والقدوم على اللّه عزّ وجلّ بالجهل والروايات الكاذبة، فلقد لعمري جاء الأثر في من فعل هذا الفعل، إن اللّه عزّ وجلّ ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، فليتق اللّه عزّ وجلّ امرؤ وليحذر أن يكون منهم، فقد بيّن لكم ولا عذر لكم بعد البيان في الجهل، ولا قوة إلّا باللّه، وحسبنا اللّه عليه توكلنا وإليه المصير»(1).

الكل يعلم، أنّ منفذي سياسات القوى الاستعمارية البريطانية والأمريكية والصهيونية، هم الآن على رأس السلطة في العراق. وهم الذين يديرون شؤونه الاقتصادية والسياسية والعسكرية والشؤون الأخرى. وأنّ حزب البعث في العراق الذي أسسه صليبيان(2) إنما أسس لتدمير العراق بل والشرق الأوسط، ولمواجهة الإسلام والمسلمين وتدميرهم، وكانت أمنية المستعمرين منذ القدم أن يقضوا على مراكز العراق العلمية والدينية والاقتصادية والاجتماعية. ويجعلوها في عزلة تامة فيمنعوا الزوار عن المشاهد المقدسة للأئمة الأطهار(عليهم السلام)، ويقضوا على روح التمسك بهذه الرموز الخالدة والالتفاف حول الإسلام وعظمائه، وقد حققوا الكثير من أهدافهم عن طريق أعوانهم وأذيالهم.

العلماء والحوزات العلمية

اشارة

فالحوزة العلمية في النجف الأشرف والتي يرجع تاريخها إلى أكثر من ألف سنة، حيث اُسست على يد شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي(رحمه اللّه) قد شُلّتحركتها بعد هذا العمر المديد.

ص: 11


1- الكافي 5: 13.
2- هما ميشيل عفلق وأكرم الحوراني، وكان أيضا من مؤسسي هذا الحزب زكي الأرسوزي وصلاح البيطار، وذلك عام (1942م)، وقد سيطر الحزب على الحكم في العراق عام (1968م).

وكذلك الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة والتي تأسست قبل أكثر من ألف سنة أيضاً على يد حميد بن زياد النينوي(1) ونشطت على يد الشيخ ابن حمزة(2) وشُلّت أيضاً.

وكذلك الحال بالنسبة إلى بقية الحوزات العلمية في الكاظمية وسامراء وغيرها.

وقد قام طغاة العراق بقتل علماء المسلمين داخل وخارج العراق، كما صادروا الكثير من الكتب وأغلقوا المكتبات العامرة بها. فقد كان في مدينة كربلاء المقدسة وحدها أكثر من أربعين مكتبة، وكان يرتادها الشباب من الطلاب والطالبات، فابتداءً من مكتبة القرآن الحكيم، وانتهاءً بمكتبة النهضة الإسلامية(3) ومدارس الحفاظ(4) كلها أغلقت، كما نُهبت أموال الكثير من المؤسسات الأخرى التي صودرت أبنيتها. كما أنّ السلطات الحاكمة عاملت علماء الدين وطلاب الحوزات العلمية في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وغيرها بأبشع أنواع المعاملة، من قتل وسجن وملاحقة وتضييق وأخيراً تهجيرهم، بل حتىمطاردتهم واغتيالهم خارج العراق، كما حدث للأخ الشهيد السيد حسن

ص: 12


1- حميد بن زياد بن حماد بن زياد هوار الدهقان أبو القاسم الكوفي النينوي، عالم فقيه أصولي من أهل نينوى قرية إلى جنب الحائر.
2- هو أبو جعفر عماد الدين محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي من علماء القرن السادس الهجري حسب ما يظهر من تأريخ مصنفاته.
3- مكتبة القرآن الحكيم العامة وتأسست عام (1387ه /1967م) ومقرها خلف المخيم الحسيني وكان يربو عدد كتبها على 70 ألف كتاب في مواضيع شتى. ومكتبة النهضة الإسلامية التي تأسست عام (1380ه) وكانت تحتوي على أكثر من ثلاثة آلاف كتاب بضمنها كتب مخطوطة ثمينة، وكانت تقع في مسجد الشهرستاني مقابل باب الصافي.
4- حيث أنشئت في مدينة كربلاء المقدسة العديد من مدارس حفاظ القرآن الكريم وذلك بتوجيه مباشر من آية اللّه العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه).

الشيرازي(رحمه اللّه)(1) والسيد مهدي الحكيم(رحمه اللّه)(2) وكثير غيرهما.

في أيام السيد الحكيم(رحمه اللّه) كان في النجف الأشرف أكثر من عشرة آلاف طالب من طلاب العلوم الدينية في مختلف المستويات. أما اليوم فلا يوجد في مدينة النجف الأشرف إلّا الأقل من هذا العدد بكثير، وكذلك الحال في كربلاء المقدسة حيث تقلصت فيها أعداد العلماء وطلاب العلوم الدينية بشكل كبير، واليوم الكثير من الطلبة يحاول أن يكون بعيداً عن الأنظار وذلك خوفاً من مراقبة أجهزة القمع التابعة للسلطة الحاكمة وملاحقتها لهم.

هذا مضافاً إلى ملاحقة مختلف الناس المؤمنين واعتقالهم وتعذيبهم ونفيهم أو قتلهم.

سجناء العراق

ثم إن هناك في العراق شيئاً ربما لم يجده المتتبع في التاريخ بمثله أبداً، حتى في عهود أكثر الحكام طغياناً وجوراً، فإنه حسب بعض الإحصاءات هناك أكثر من خمسمائة ألف سجين مودعين في سجون العراق، وأغلبهم تحت التعذيب الشديد، وبضمنهم ما يقارب ثلاثة آلاف امرأة. وقد اطلعت على أحد الكتب المختصة في هذا الشأن حيث تذكر أنَّ سجون التعذيب في العراق تحتوي على ثمانين قسماً من أشد أنواع التعذيب القاسي النفسي والجسدي.

إنَّ هذه الحالة قد تكون نادرة من نوعها في التاريخ وربما انفرد بها نظام البعث

ص: 13


1- آية اللّه السيد حسن بن السيد مهدي الشيرازي(رحمه اللّه)، اغتيل برصاصات عملاء نظام البعث العراقي في لبنان عام (1400ه).
2- العلامة الشهيد السيد محمد مهدي بن آية اللّه العظمى الإمام السيد محسن الحكيم(رحمه اللّه) ولد في النجف الأشرف سنة (1353ه/ 1935م) واغتيل في السودان على يد عملاء طغاة العراق في عصر يوم الأحد (27 جمادى الأولى 1408ه- .

العراقي الجائر، فلو عدنا إلى ظلمة التاريخ والسفاكين للدماء مثل نمرود وفرعون، وابن زياد، والحجاج...

فربما لا يجد الإنسان عندهم ما عند هؤلاء الظلمة من التفنن في الإجرام وأنواع التعذيب الرهيبة. نعم لأولئك الطغاة من أمثال ابن زياد جرائم لا تصل إليها جريمة أبداً.

ومن أفعال البعثيين في العراق أنهم كانوا يسجنون ويعذبون ويذبحون الأبناء والنساء والأطفال أمام ذويهم، وذلك بغية انتزاع الاعترافات منهم. ومن هنا قد يقال بأنهم أكثر طغياناً حتى من فرعون والحجاج، رغم إرهاب الحجاج وبطشه، وكذلك فرعون، وبرغم تعذيبهما للناس بمختلف الوسائل، لكنهما قد لا يصلان إلى المستوى الذي وصله هؤلاء في بشاعة التعذيب.

أما نمرود فقد ذكر لنا التاريخ أنّه لما أراد أن يقتل نبي اللّه إبراهيم(عليه السلام) أحضر ثلاثمائة قاضٍ وقال لهم: حاكموه على محضر من الناس حتى يعلم الناس أن إبراهيم كان مذنباً حسب زعمه!، فإن نمرود على طغيانه وجبروته كان إذا أراد أن يقتل إنساناً شريفاً يستدعي القضاة لمحاكمته، مع قدرته على قتله بدون محاكمة، ولم يكتف بقاض واحد بل ثلاثمائة قاض. وكان يفعل ذلك لإغواء الناس. أما هؤلاء يأخذون العلماء من بيوتهم ليلاً ويقتلونهم سراً أو جهاراً دون محاكمة ولا إحضار حتى قاض واحد، فإنهم جمعوا أساليب التعذيب القديمة والحديثة واستخدموا أشدها إيذاءً للإنسان.

ليل العراق المظلم

اشارة

خلاصة الكلام: قد لم تمر بالعراق فترة أظلم من هذه الفترة وربما حتى فيعهد التتار والمغول الذين سوّدوا صفحات التاريخ، فإنهم مع (وثنيتهم) لما

ص: 14

جاؤوا إلى بغداد وقيل لهم إن مدن النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والحلة هي مراكز لأئمة المسلمين(عليهم السلام) ولعلمائهم. قالوا: نحن لا نحارب أهل العلم ومراكزهم الدينية؛ ولذا أصدر المغوليون أمراً بعدم التعرض إلى النجف وكربلاء والحلة حسب ما ورد في التاريخ(1).

فالمغول رغم قسوتهم وبربريتهم وإجرامهم لم يتعرضوا بسوء إلى هذه المدن المقدسة.

أما البعثيون في العراق وهم ذيول الاستعمار، فقد رأيتم كيف فعلوا بمدن المقدسات وأهاليها، فإن أفعالهم الإجرامية لاتعد ولا تحصى، وقد أصبحوا أشد وأخطر من مجرمي التاريخ وربما حتى من فراعنته ومن الوثنيين التتر والمغول.

وهم أكثر إجراماً من الشاه في إيران، فإن الشاه لم يقتل العلماء علناً ولم تكن سجونه مثل سجون العراق أبداً.

القضاء على الإسلام

لقد تجلت مهمة البعثيين في العراق وصارت واضحة للجميع، وهي

ص: 15


1- برزت مدرسة الحلة الفقهية بعد احتلال بغداد على يد هولاكو التتار، فقد كانت مدرسة بغداد قبل الاحتلال، حافلة بالفقهاء والباحثين وحلقات الدراسة الواسعة، وكان النشاط الفكري في ما قبل الاحتلال على قدم وساق. وحينما احتلت بغداد من قبل المغول، أوفد أهل الحلة وفدا إلى قيادة الجيش المغولي، يلتمسون الأمان لبلدهم، فاستجاب لهم هولاكو وآمنهم على بلدهم بعد أن اختبرهم على صدقهم. وبذلك ظلت الحلة مأمونة من النكبة التي حلت بسائر البلاد في محنة الاحتلال المغولي، وأخذت الحلة تستقطب الشاردين من بغداد من الطلاب والأساتذة والفقهاء، واجتمع في الحلة عدد كبير من الطلاب والعلماء، وانتقل معهم النشاط العلمي من بغداد إلى الحلة، واحتفلت هذه البلدة - وهي يومئذ من الحواضر الإسلامية الكبرى - بما كانت تحتفل به بغداد من وجوه النشاط الفكري. واستقرت المدرسة في الحلة، وظهر في هذا الدور في الحلة: فقهاء كبار، كان لهم الأثر الكبير في تطوير مناهج الفقه والأصول الإمامي، وتجديد صياغة عملية الاجتهاد، وتنظيم أبواب الفقه، كالمحقق الحلي والعلامة وولده فخر المحققين وابن نما وابن أبي الفوارس والشهيد الأول وابن طاوس وغيرهم من فطاحل الأعلام ورجال الفكر. انظر: منتهى المطلب 3: 14.

القضاء على الإسلام وكل ما يمت له بصلة، وذلك عن طريق ممارسة القمع والإرهاب والتعذيب والقتل وسفك الدماء وانتهاك الحرمات ومصادرة الأموال، وسوف يتجلى ذلك أكثر للعالم عند سقوط حكومتهم بعون اللّه تعالى.

وستُظهِر الأقلام كثيراً من الأشياء التي خفيت خوفاً، وسيعلم الجميع بشاعة هؤلاء وجرائمهم، والشواهد على ذلك كثيرة.

وذلك كتعرية الشاه بعد سقوطه في إيران... .

وكتعرية عبد الكريم قاسم...

والبكر...

وعبد السلام...

ونوري السعيد...

والحرس القومي...

والمهداوي... في العراق.

وكتعرية ملوك العهد البائد (خدم المستعمرين).

أما الإمبراطوريات الظالمة وأذيالها فقد امتلأت كتب التاريخ بفضائحها، وهكذا الحال بالنسبة لكل دول العالم التي ترزح تحت نير الظلم والاستبداد والتي لا بد لها أن تأخذ حريتها في يوم من الأيام لتفضح جرائم طغاتها أمثال: هتلر... وموسوليني... وستالين... وغيرهم.

مما يلزم على المجاهدين

اشارة

إن الأخوة المجاهدين الثائرين من أجل اللّه، المطرودين من بلادهم والمخرجين من أجله، عليهم واجبات نذكرها للتذكرة عسى اللّه أن يوفقنا للعمل

ص: 16

بها، يقول تبارك وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

أولاً: رص الصفوف

قال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2).

علينا أن نجمع قوانا ونوحد صفوفنا ونرصها رصاً ولا ندع مجالاً للفرقة بيننا. فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(3).

وقال(عليه السلام): «إياك والفرقة فإن الشاذ عن أهل الحق للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب»(4).

وقال(عليه السلام): «إياكم والتدابر والتقاطع وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(5).

لذا يجب أن نكون يداً واحدة كي نتمكن من مواجهة طغاة العراق وننقذ الشعب من الظلم والاستبداد.

كما على الإنسان أن لا يبعده انتسابه إلى أحزابه ومنظماته الإسلامية عن وحدته والقرآن الكريم يقول: {وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ}(6).

كما لا يجب أن يبعده انتسابه إلى مدن أو قوميات مختلفة عن وحدته، فإن الهدف الأسمى هو الخلاص من الطغاة.

ص: 17


1- سورة الذاريات، الآية: 55.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 175.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 174.
6- سورة الحجرات، الآية: 13.

فعند ما ننسب أحداً ونقول: هذا بغدادي، وهذا موصلي، وهذا بصري، فإنما يكون ذلك لأجل التعارف فقط ولا يكون سبباً للفرقة والاختلاف، فإن كل واحد منهم ينتسب إلى نسب أكبر وهو العراق، فكل واحد منهم عراقي، والعراقي بضمنه ينتسب إلى قيمة أكبر وأعلى وهي الإسلام فهو مسلم، كما قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

فالإنسان عندما ينسب إلى هذه الفئة أو تلك الهيئة أو الجمعية أو المنظمة أو الحزب، يلزم أن يتذكر أن هناك انتساباً أكبر وهو الإيمان؛ لذا يجب أن تكون الأحزاب والمنظمات وغيرها يداً واحدة على عدو اللّه والإسلام والإنسانية؛ فإن في الاتحاد قوة، وفي التفرقة ضعفاً، قال تبارك وتعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(2).

فلنكن كتلة ذات هدف واحد ومصير واحد واتجاه واحد، لنتمكن من مواجهة الأعداء وإنقاذ المظلومين.

ثانياً: العمل للّه

يجب أن يعمل الجميع لأجل اللّه تعالى وبإخلاص، كما قال تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ}(3).

فإذا كنا للّه ومع اللّه كان اللّه ناصرنا وكان معنا، فهو القائل سبحانه: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}(4).

ص: 18


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة القصص، الآية: 4.
3- سورة الأنعام، الآية: 91.
4- سورة آل عمران، الآية: 160.

ويقول تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1).

فمن تكون بريطانيا أمام اللّه؟

ومن تكون إسرائيل أمام اللّه؟

ومن تكون أمريكا أمام اللّه؟

بل ومن يكون كل طغاة التأريخ أمام اللّه جلّ وعلا.

إن هذه الدول الاستعمارية لا قيمة لها أمام قدرة اللّه تعالى، كما صرح لنا بذلك القرآن الكريم: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَٰدِ * مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَٰفِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}(3).

فكم رأينا تقلب أهل الكفر وطغاة العصور، إلّا أن متاعهم قليل، فأين الفراعنة في مصر؟

وأين امبراطور إيران؟

وأين ملوك العراق؟

وأين (برسي كوكس(4) والجنرال مود(5)} قادة احتلال العراق... ، كلهم ذهبواوبقيت (كلمة اللّه هي العليا) كما قال تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىٰ

ص: 19


1- سورة محمد، الآية: 7.
2- سورة آل عمران، الآية: 196-197.
3- سورة الملك، الآية: 20.
4- برسي كوكس ممثل الحكومة البريطانية في العراق، تقلد منصب المندوب السامي البريطاني وكان يدير الحكومة الملكية في العراق.
5- ستانلي مود، قائد القوات البريطانية التي احتلت بغداد في (11 آذار 1917م) قال عند دخوله العراق: (إن جيوشنا لم تدخل مدنكم وأراضيكم بمنزلة قاهرين أو أعداء بل محررين) - أي من الحكم العثماني - .

وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}(1).

وقال سبحانه: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(2).

إن بعض الناس كانوا يظنّون أن عائلة بهلوي ستبقى على رأس السلطة في إيران وستستمر في الحكم، لكن هؤلاء ظنوا شيئاً وأراد اللّه شيئاً آخر. وإنه تعالى دائماً مع المستضعفين قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}(3).

فالنتيجة الحتمية هي النصر للمؤمنين والاندحار لأهل الكفر والظلم والطغيان، كما ورد في الذكر الحكيم {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ}(4).

وهذا وعد حتمي، وإن بوادر النصر قد ظهرت وإن سقوط صدام وحزبه الكافر الظالم، أصبح قريباً إن شاء اللّه، فإن حزب البعث في العراق لم تبق له قيمة لا في داخل البلاد الإسلامية ولا في خارجها. فاللّه مع المجاهدين المخلصين والناس معهم أيضاً.

ثالثاً: الجهاد بمختلف الوسائل

قال تبارك وتعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَٰعِدِينَ دَرَجَةًوَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ عَلَى الْقَٰعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(5).

علينا أن لا نتوانى في جهادنا في سبيل اللّه، بل نضحيّ بكل غالٍ ونفيس لوجه

ص: 20


1- سورة التوبة، الآية: 40.
2- سورة هود، الآية: 86.
3- سورة النساء، الآية: 75.
4- سورة غافر، الآية: 51.
5- سورة النساء، الآية: 95.

اللّه عزّ وجلّ، وعلى الإنسان أن يقدم كل أشكال الدعم المالي والفكري للمجاهدين المخلصين، بالإضافة إلى تهيئة كل المستلزمات الضرورية من غذاء ولباس، وكل ما يحتاجه انتصار المؤمنين في العراق.

إن الواجب يدعونا لأن نوحّد الجهود وأن نساعد المجاهدين المخلصين ونجعل هدفنا هو رضا اللّه سبحانه وتعالى.

ومن الواضح أنَّ نهاية الظالمين والمستبدين هي كنهاية فرعون وهامان وجنودهما، فإنهم كانوا يلاحقون النبي موسى(عليه السلام) فكانت نهايتهم كما قال تعالى: {مِّمَّا خَطِئَٰتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارًا فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا}(1).

نعم، هذه نهاية كل الطغاة والظالمين، وها هي جبهة البعث في العراق أصبحت مفكّكة إلى أبعد الحدود، وصار بعضهم يقتل بعضاً(2) كمقتل حردان التكريتي، ومقتل حماد شهاب، وناظم كزار، ومحمد عايش، وعدنان الدليمي، وغيرهم من الظلمة الذين ساعد بعضهم بعضاً لمواجهة الشعب المسلم في العراق ولمحاربة الدين المبين والقرآن الكريم. ثم إنه لم يبق اليوم من صورة حزب البعث العراقي أمام العالم إلّا مفهوم الجريمة والقتل وسفك الدماء وانتهاك الأعراض ونهب الأموال وتدنيس الحرمات وإشعال الحرب مع الجيران وتدبير المؤامرات. وقدذكرت إحدى الصحف العربية: أن أكثر من ثلاثة مليارات دينار عراقي(3) قد هرّبها عفلق وصدام وطلفاح ومن أشبه إلى البنوك الأجنبية في الخارج.

وبعد كلّ هذا لقد اتضح لكل منصف في العالم أنَّ هؤلاء لم يأتوا إلى العراق

ص: 21


1- سورة نوح، الآية: 25.
2- كل هؤلاء المذكورين كانوا من قادة ما يسمى بثورة (17 تموز 1968م) وتمت تصفيتهم الواحد بعد الآخر على يد أقرانهم وهذا مصير الظلمة وأعوانهم في الدنيا قبل الآخرة.
3- في وقت كان الدينار العراقي يساوي أكثر من ثلاثة دولارات.

إلّا لأجل استعماره والقضاء على شعبه ونهب ثرواته وتدمير الحركات الإسلامية فيه. لكن اللّه خيب ظنّهم وشتت شملهم وجعل الكلمة عليهم لا لهم، فها نحن نرى بعض الذين اُخرجوا من العراق سواء إلى البلاد الغربية أو البلدان الإسلامية صار العديد منهم كتلة من النشاط ومن الحركة، فأنشأوا المؤسسات الدينية والعلمية والاجتماعية والثقافية والصحية في أنحاء العالم، لندن وباريس ونيويورك وبون وكندا ودلهي، ومختلف المدن الإيرانية، وفي سوريا ولبنان والكويت والبحرين ومسقط والإمارات وسائر البلدان الأخرى، وكان ذلك بفضل جهود المخلصين من هؤلاء المجاهدين الذين أقصوا وأخرجوا من بلادهم.

وإن شاء اللّه سيأتي اليوم الذي يتم فيه رفع هذا الكابوس الجاثم على صدر العراق والعراقيين؛ لتستلم إدارة البلاد حكومة إسلامية تسعى لتطبيق الإسلام بشرائعه السمحة السهلة، ويكون قانونها القرآن الحكيم والسنّة المطهرة، وتكون قيادتها بيد مجلس (شورى الفقهاء المراجع) من الذين يرضاهم اللّه وترضاهم الأكثرية من الأُمة بالانتخابات الحرة، كما يقول تعالى في القرآن الحكيم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1).

من أين يبدأ التغيير؟

اشارة

لكن قبل هذا علينا أن نلتفت إلى عامل مهم جداً في تحقيق النصر والغلبةعلى الظالمين، فإنه لا يكون ذلك إلّا إذا بدأنا بأنفسنا، فعلينا أن نغيّر ما بأنفسنا أوّلاً كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

وقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ بعث نبياً من أنبيائه إلى قومه،

ص: 22


1- سورة الشورى، الآية: 38.
2- سورة الرعد، الآية: 11.

وأوحى إليه: أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سرّاء فتحولوا عمّا أحب إلى ما أكره، إلّا تحولت لهم عمّا يحبون إلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إلى ما أحب إلّا تحولت لهم عمّا يكرهون إلى ما يحبون. وقل لهم: إن رحمتي سبقت غضبي، فلا تقنطوا من رحمتي؛ فإنه لا يتعاظم عندي ذنب أغفره، وقل لهم: لا يتعرضوا معاندين لسخطي، ولا يستخفوا بأوليائي، فإن لي سطوات عند غضبي لا يقوم لها شيء من خلقي»(1).

نعم، فعندما نغير ما بأنفسنا من شر وسوء عند ذلك سيرفرف النصر على رؤوسنا أينما توجهنا.

كما يلزم مضافاً إلى ذلك الإعداد النفسي والثقافي، والتنسيق الدقيق، والحذر، والحزم، والصبر، والمبادرة، ومخالفة النفس، والدفاع، والصمود حتى النصر، أو الشهادة، فقد ورد في رسالة الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر ما نصّه: «واعلم يا محمد بن أبي بكر، أني قد ولّيتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر، فأنت محقوق أن تخالف على نفسك، وأن تنافح(2) عندينك، ولو لم يكن لك إلّا ساعة من الدّهر»(3).

هكذا يأتي النصر، أما إذا لم نعمل على تغيير أنفسنا ولم نسع لتوفير مقومات النصر فإن الفشل - لا سامح اللّه - سيصيبنا.

فالدفاع عن النفس والأهل والأرض والوطن واجب في سبيل اللّه وفي سبيل

ص: 23


1- الكافي 2: 274.
2- المنافحة: المدافعة والمجادلة.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 27، من عهد له(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر.

المستضعفين، وهو ما يسمى في الإسلام بالجهاد، والسعي لإزاحة هؤلاء الطغاة عن كرسي الحكم جهاد من أجل إعلاء كلمة اللّه وإنقاذ المستضعفين.

مقومات التغيير

اشارة

إذا أردنا أن نغير ملامح العراق المأساوية ونوجد واقعاً جديداً مفعماً بالأمل والسعادة والاستقرار فلا بد أن نغير الخطوط التي رسمها الاستبداد، ونرسم خطوطاً واقعية تعتمد على الحرية والتعددية والاستقلال والاكتفاء الذاتي وحكم الأكثرية والأخلاق الفاضلة والحفاظ على حقوق الناس ومصالحهم وحماية مقدساتهم.

فإن للتغيير مقومات ينبغي مراعاتها، منها:

حكومة الأكثرية

يلزم أن تحكم العراق حكومة استشارية منتخبة من أكثرية الشعب، فإن كثيراً من هذه الاضطهادات هي نتيجة أن الأقلية هي التي سيطرت على الحكم في العراق لعشرات السنين، وأخذت تتحكم في مقدراته وتفرض آراءها وأفكارها على الأكثرية المضطهدة، فالأكثرية الشيعية في العراق التي نسبتها تناهز 85% من مجموع السكان قُمعت ومنعت من حقوقها ومصالحها ومعتقداتها، مع أنها هي التي حررت العراق من سيطرة الأعداء مراراً عديدة وضحت من أجل الدينوالوطن بالغالي والنفيس.

التعددية

ولا بد أن تستند الحكومة الإسلامية في العراق على القدرة الواقعية المنبثقة من الشعب، وهذه القدرة تعتمد بشكل أساسي على وجود الأحزاب والمنظمات الحرة والمؤسسات الدستورية والعشائر التي يحركها نظام التعددية، فلا قدرة واقعية بدون وجود تعدد الأحزاب، وتتنافس هذه الأحزاب بكفاءة وتراقب الحكومة لكي

ص: 24

لاتنحرف، أما الاستبداد فإنه حكم هش لا يمتلك القدرة الواقعية وإن امتلك القوة العسكرية، فإن «المستبد متهور في الخطأ والغلط» كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام)(1).

الحرية

وعلى الدولة الإسلامية أن تمنح كافة الحريات للناس في كل الأبعاد - ضمن الإطار الإسلامي - من حرية العقيدة والرأي والزراعة والاكتساب والتجارة والصناعة والدخول في الوظائف والسفر والإقامة والعمارة وحيازة المباحات ونصب محطات الراديو والتلفزيون وتأسيس المطابع وإنشاء الأحزاب والمنظمات وإنشاء المصانع والمعامل وإصدار الصحف والجرائد والمجلات والانتقال من بلد إلى بلد بنفسه أو بكسبه، إلى غير ذلك.

وبذلك تلغى كل القيود وكافة أنواع الكبت، من الهويات الشخصية والجنسية والجواز وإجازة الاستيراد والتصدير، وما أشبه. فكل إنسان حر في كل شيء ما عدا المحرمات وهي قليلة جداً.

القوانين الإسلامية

ومن الضروري السعي لتطبيق كافة القوانين الإسلامية، حيث إن هذه القوانينالحيوية تتوافق مع فطرة الإنسان وتتلاءم مع مصالحه وتسهل عليه حياته، وهي أسهل بكثير من القوانين المستوردة من الغرب والشرق.

كما يلزم تطبيق القوانين الإسلامية بشكل شمولي لا أن يطبق بعضها ويترك البعض الآخر، فإن القوانين الإسلامية متداخلة.

وأيضا لا بد من التدرج في التطبيق حتى يستطيع الناس أن يتكيفوا معها ويفهموا ثقافتها.

ص: 25


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 64.

ومن هذه القوانين الحيوية:

1- قانون الأمة الواحدة(1).

2- قانون الأخوة الإسلامية(2).

3- قانون «الأرض للّه ولمن عمرها»(3).

4- قانون الإلزام(4).

5- قانون «الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم»(5).

6- قانون بيت المال.

7- قانون «من سبق»(6).

أما القوانين غير الإسلامية فهي عادة قوانين جامدة لا تخدم الإنسان، بل تعقد حياته ولا تتوافق مع فطرته مما تقوده نحو الشقاء والبؤس. قال تعالى: {وَمَنْأَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(7).

الاكتفاء الذاتي

ولا بد للحكومة الإسلامية من السعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي عبر الاعتماد على الصناعة الوطنية وتقويتها وتطوير الزراعة والثروة الحيوانية، وذلك بإعطاء حرية العمل والتجارة والصناعة والزراعة.

ومن المشاكل الحالية التي يلزم القضاء عليها هو الوجود المكثف للموظفين

ص: 26


1- قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} سورة الحجرات، الآية: 10.
3- قال الإمام الصادق(عليه السلام): «.. فإن الأرض للّه ولمن عمرها»، الكافي 5: 279.
4- عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «ألزموهم بما ألزموا أنفسهم»، تهذيب الأحكام 9: 322.
5- قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الناس مسلطون على أموالهم»، نهج الحق: 494.
6- قال الإمام الصادق(عليه السلام): «سوق المسلمين كمسجدهم يعني إذا سبق إلى السوق كان له مثل المسجد» 5: 155.
7- سورة طه، الآية: 124.

الذين يعملون في جهاز الدولة، وأغلبهم يعمل في وظائف هامشية لا تنفع الشعب، بل يعقِّدون الأعمال ويعرقلونها ويستهلكون ميزانية الدولة وأموال الشعب؛ مما يحولهم إلى عبء ثقيل على كاهل الشعب، فلا بد من تقليلهم وتحويل أعمالهم إلى المؤسسات الخاصة، وأما الدولة فتكون مشرفة فقط على سير العمل وعدم انحرافه لا أن تتدخل في كل شيء.

اللاعنف

ثم إن الدولة تحتاج إلى أكبر قدر من الالتفاف الشعبي والشرعي حولها ومعاونتها والدفاع عنها، فإذا اتخذت الحكومة سياسة العنف وإراقة الدماء والسجون والتعذيب وما أشبه، سارت في طريق الزوال فينقلب الأعوان أعداءً والأنصار خصماء، فإن الناس لايصبرون على قتل أولادهم وإخوانهم وآبائهم وذويهم وأصدقائهم، فيأخذون في ذم القاتل وترصد عثراته وينصرفون إلى هدم كيانه وإسقاط شرعيته وإثارة الرأي العام ضده.

ومن اللازم على الدولة الإسلامية إعلان العفو العام عن كل من أجرم قبل قيام الدولة، وهذا الأمر في غاية الأهمية من ناحية وفي غاية الصعوبة من ناحية ثانية.فإن العفو العام يسبب اطمئنان الناس إلى الحكومة القائمة مما يؤدي إلى تعاونهم مع الحكومة، وهذا يعني انتشار الاستقرار والأمن، والحكومة خصوصاً في أول أمرها بحاجة إلى التعاون الواسع من الناس.

وعدم العفو يوقع الحكومة في مشاكل لا تعدّ ولا تحصى، حيث إن القتل والملاحقة لا تبقى في دائرة خاصة بل تتعداها إلى دوائر أوسع وأوسع.

هذا بالإضافة إلى أن من مصاديق عدم العفو هو: مصادرة الأموال، وملاحقة الأفراد، وكله يوجب تكوين الأعداء، وأحيانا يسقط أولئك الأعداء الحكومة.

مضافاً إلى أن عدم العفو يوجب تأليب الإعلام في سائر البلاد على الحكومة

ص: 27

الفتيّة مما يسبب فقدان شوكتها وضياع سمعتها.

وهذا - العفو العام - هو الأصل وإذا كان استثناء فاللازم أن تقدر بقدر أقصى الضرورة.

وقد عفا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أهل مكة وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء(1)، وعفا أمير المؤمنين(عليه السلام) عن أهل الجمل(2).

نسأل اللّه أن يجمع شمل الجميع تحت لواء الإسلام.

«اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(3).

من هدي القرآن الحكيم

أقسام الجهاد

قال سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ جَٰهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ}(5).

وقال تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَأتٖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *

ص: 28


1- انظر: الكافي 3: 513.
2- انظر: شرح نهج البلاغة 1: 22.
3- الكافي 3: 424.
4- سورة الممتحنة، الآية: 1.
5- سورة التحريم، الآية: 9.

وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَجَٰهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}(3).

الطغاة ومصيرهم

قال سبحانه: {هَٰذَا وَإِنَّ لِلطَّٰغِينَ لَشَرَّ مََٔابٖ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِّلطَّٰغِينَ مََٔابًا}(5).

وقال جلّ وعلا: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَءَاثَرَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}(6).

الظالمون في ضلال

قال جلّ اسمه: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(7).وقال عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(8).

وقال سبحانه: {بَلِ الظَّٰلِمُونَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(9).

الإخلاص في النية

قال عزّ وجلّ: {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(10).

ص: 29


1- سورة العنكبوت، الآية: 5-6.
2- سورة العنكبوت، الآية: 69.
3- سورة الفرقان، الآية: 52.
4- سورة ص، الآية: 55.
5- سورة النبأ، الآية: 21-22.
6- سورة النازعات، الآية: 37-39.
7- سورة البقرة، الآية: 258.
8- سورة آل عمران، الآية: 57.
9- سورة لقمان، الآية: 11.
10- سورة غافر، الآية: 14.

وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الجهاد

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «جاهد في اللّه حق جهاده، ولا تأخذك في اللّه لومة لائم، وخض الغمرات للحق حيث كان»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الجهاد على أربعة أوجه: فجهادان فرض، وجهاد سنة لايقام إلّا مع الفرض، فأمّا أحد الفرضين فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي اللّه عزّ وجلّ، وهو من أعظم الجهاد، ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض. وأما الجهاد الذي هو سنة لا يقام إلّا مع فرض فإن مجاهدة العدو فرض على جميع الأمة، ولو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب...»(4).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «... وجاهد نفسك لتردّها عن هواها؛ فإنّه واجبعليك كجهاد عدوّك»(5).

الهجرة إلى اللّه تعالى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنّة وكان رفيق أبيه إبراهيم(عليه السلام) ونبيه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «...والهجرة قائمة على حدها الأوّل ما كان

ص: 30


1- سورة مريم، الآية: 51.
2- سورة الشعراء، الآية: 109.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام).
4- الكافي 5: 9.
5- تحف العقول: 399.
6- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 33.

للّه في أهل الأرض حاجة، من مستسّر الأمّة ومعلنها، لا يقع اسم الهجرة على أحد إلّا بمعرفة الحجة في الأرض، فمن عرفها وأقرّ بها فهو مهاجر ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه»(1).

وفي قوله تعالى: {يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَٰسِعَةٌ}(2). قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إذا عُصي اللّه في أرض أنت فيها فاخرج منها إلى غيرها»(3).

الطاغوت والظلم

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «للظالم من الرجال ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية، ومن دونه بالغلبة، ويظاهر القوم الظلمة»(4).

وقال(عليه السلام): «ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن اللّه سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد»(5).

وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّٰغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ}(6)، قال الإمام الباقر(عليه السلام): «أنتم الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها، ومن أطاع جباراً فقد عبده»(7).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «كفانا اللّه وإيّاكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبّارين، أيها المؤمنون، لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا، المائلون إليها، المفتتنون بها، المقبلون عليها وعلى

ص: 31


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 189 من كلام له(عليه السلام) في الإيمان ووجوب الهجرة.
2- سورة العنكبوت، الآية: 56.
3- تفسير مجمع البيان 8: 37.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 350.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولاه على مصر.
6- سورة الزمر، الآية: 17.
7- تأويل الآيات الظاهرة: 502.

حطامها الهامد، وهشيمها البائد غداً...»(1).

العمل الخالص لوجهه تعالى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئٍ مسلم: إخلاص العمل للّه ...» الحديث(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ونؤمن به إيمان من رجاه موقناً، وأناب إليه مؤمناً، وخنع له مذعناً، وأخلص له موحداً، وعظّمه مجدداً، ولاذ به راغباً مجتهداً»(3).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «واجعل جهادنا فيك، وهمّنا في طاعتك، وأخلص نياتنا في معاملتك، فإنا بك ولك، ولا وسيلة لنا إليك إلّا بك...»(4).

السلطان الجائر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «السلطان الجائر والعالم الفاجر أشد الناس نكاية»(5).

وقال(عليه السلام): «أحقُ أن يحذر، السلطان الجائر والعدوُّ القادر والصديق الغادر»(6).

وقال(عليه السلام): «من آثر رضى ربٍّ قادر فليتكلم بكلمة عدل عند سلطان جائر»(7).

ص: 32


1- الكافي 8: 15.
2- الكافي 1: 403.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 182 من خطبة له(عليه السلام) بالكوفة وهو قائم على حجارة.
4- بحار الأنوار 91: 147.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 103.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 210.
7- عيون الحكم والمواعظ: 463.

إلى الهيئات الحسينية

الشيعة وقبور الأئمة(عليهم السلام)

اشارة

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة»(1).

إن لقبور أهل البيت(عليهم السلام) ومراقدهم الشريفة فائدة دنيوية كبيرة للشيعة ولجميع الناس، كما لها فائدة أخروية وهي نيل الشفاعة لمن زارهم واعتقد بولايتهم، وقد مرت الشيعة بظروف سياسية مختلفة نتيجة تجمعها حول قبور أئمتها، وصعوبات عديدة فرضها الحاكمون وغيرهم من الدخلاء الأجانب ومع كل ذلك صمدوا واستقاموا في سبيل اللّه، وكانت الهيئات الحسينية تتحمل مسؤوليات عديدة على عاتقها لتنظيم وإحياء المراسيم والشعائر في كافة المناسبات كالوفيات والمواليد المباركة وعيد الغدير الأغر، ومنها الهيئات المباركة التي نراها هذه الأيام والتي تحمل تاريخاً مشرقاً لخدمة أهل البيت(عليهم السلام) سواء في العراق أو في غيره، والبعض من هذه الهيئات المباركة يتحمل السفر ومشاق الطريق لأجل تهيئة موكب وإقامة عزاء، كمن يسافر من كربلاء إلى الكاظمية حيث مرقد الإمامين الجوادين(عليهما السلام) ومن يسافر إلى النجف الأشرف في أيام شهادة أمير

ص: 33


1- الكافي 4: 567.

المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) وأيام عيد الغدير، ومن يأتي إلى كربلاء المقدسة أيام عاشوراء وزيارة الأربعين وليالي الجمعة، وكذلك من يتحمل عناء السفر من مشهد الإمام الرضا(عليه السلام) إلى قم المقدسة حيث قبر فاطمة المعصومة(عليها السلام)، وغيرها من المدن التي تضم مراقد أهل البيت(عليهم السلام) ومواليهم.

فمن جملة الفوائد التي ترتبت على انتشار قبور الأئمة(عليهم السلام) في مشارق الأرض ومغاربها هي زيادة الروابط الودية والتآخي والتعارف بين أبناء الشيعة، وذلك عند تلاقيهم في المناسبات والزيارات الخاصة أو العامة لهذه القبور، وهذا الحشد كان ولا يزال يمثل ثقلاً سياسياً وعقائدياً في المجتمع العالمي، وهناك فوائد اجتماعية واقتصادية وغيرها لهذه المسألة، فضلاً عن أن وجود قبور الأئمة(عليهم السلام) في هذه البلدان رحمة لأهلها وسبب نيلهم الأجر والثواب لخدمة الناس والزوار.

توسع المدن بمراقدهم(عليهم السلام)

كما إن المناطق التي توجد فيها القبور جذبت الشيعة والمؤمنين حولها للإقامة فيها، وهذا الاجتماع مصدر قوة لا يستهان به، ومن هنا أخذ الأعداء يحاربون مراقد أهل البيت(عليهم السلام) وربما سببوا مواجهات بين الشيعة الموالين وبين الحكومات الجائرة والظالمة على مرّ التاريخ. وبما أن الأمة الإسلامية تمر أحياناً بحالات من الضعف نتيجة عوامل لا مجال لذكرها هنا، سمحت للكثير من المنحرفين وأصحاب الشبهات والبدع من الجهلة إلى التجاوز على هذه المناطق المقدسة والمعتقدات الشريفة، فالوهابيون مثلاً قاموا بتخريب قبور أئمة البقيع سنة (1343ه) حين انتزعوا الحجاز من الشريف حسين واستولوا عليه، ومن قبل هجموا على كربلاء المقدسة مرتين وعاثوا فيها فساداً وقتلاً وتخريباً مركزينحقدهم على الحرم الحسيني الشريف وذلك عام (1216ه).

ص: 34

وظلت القبور الطاهرة في البقيع على حالها إلى الآن، ومن المعلوم أن قبور أخرى كثيرة كانت هناك، فبالإضافة إلى القبور الأربعة للائمة المعصومين(عليهم السلام)، فهناك رواية تقول بأن فاطمة الزهراء(عليها السلام) قد دفنت في البقيع مع اختلاف بين المؤرخين حول مكان دفنها(عليها السلام)(1) وهناك في البقيع قبر أم البنين (رضوان اللّه عليها) وقبور أخرى لذرية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الأطهار، مضافاً إلى بعض الصحابة المؤمنين.

ولئن جرت المقادير بأن تكون هذه القبور تحت إشراف الزمرة الوهابية فالمحصلة تكون مزيداً من الظلم والتعسف والتخريب للآثار الإسلامية والتاريخية وعدم معرفة حقها وعدم الاهتمام لما ينبغي، على عكس المراقد المقدسة التي هي تحت إشراف الشيعة، كما هو الحال بالنسبة إلى الضريح الشريف للإمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) أو المرقد الشريف في قم المقدسة للعلوية فاطمة المعصومة(عليها السلام) إذ يحف الشيعة بهذه القبور الطاهرة، ويتوسلون بها إلى اللّه، وقد جاء عن الإمام الرضا(عليه السلام) عندما سئل عن زيارة فاطمة بنت موسى(عليها السلام): «من زارها فله الجنة»(2).

وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «من زار قبر عمتي بقم في الجنة»(3).

ولا بد من القول هنا أن مدينة قم المقدسة ما صارت بهذا الشكل لو لا وجود قبر فاطمة المعصومة(عليها السلام)، إذ كانت مدينة قم قبل ذلك عبارة عن مجموعة منالقرى تصل إلى سبع قرى، ولا يصل تعداد سكانها إلى أكثر من ثلاثة آلاف

ص: 35


1- هناك ثلاث احتمالات في المقام كلها مبنية على الروايات وتوجد هذه الروايات في بحار الأنوار 43: 180 باب ما وقع عليها من الظلم. الاحتمال الأول: إنها في البقيع، الاحتمال الثاني: أنها في بيتها، الاحتمال الثالث: أنها بين قبر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومنبره.
2- كامل الزيارات: 324.
3- كامل الزيارات: 324.

نسمة وكان سكانها في السابق من بعض اليهود والمجوس وعبدة النار.

أما اليوم فإن قم المقدسة هي مدينة كبيرة مترامية الأطراف، وأكثر سكانها من الشيعة. وما ذلك إلّا بفضل السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام).

وصايا تخص الهيئات المقيمة في المشاهد المشرفة

اشارة

ومن هنا تكون واجبات على الهيئات الشريفة التي تسكن في هذه البلاد الطاهرة من مشهد الرضا(عليه السلام) المقدس وقم وكربلاء والنجف والكاظمين وما أشبه، نذكر بعضها:

معرفة الإمام

منها: إنه لا بد من معرفة الإمام المعصوم المدفون في تلك البقعة معرفة حقيقية والعمل بما أراده(عليه السلام)، من الدفاع عن الإسلام ونشر مفاهيمه، وكما هو واضح أن الأئمة(عليهم السلام) جميعاً لا يمنعهم الموت من سماع الأحياء أو رؤيتهم كما نقرأ ذلك في الزيارات، قال الشيخ الكفعمي(رحمه اللّه) تقرأ في أذن الدخول لزيارة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو أحد الأئمة(عليهم السلام): «.. واعلم ان رسولك وخلفائك(عليهم السلام) أحياء عندك يرزقون، يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردّون سلامي...»(1). فهم(عليهم السلام) يسمعون الأحياء ويردون جوابهم، فإن الإنسان حينما يرتفع عن الدنيا والماديات سوف يسمع ويرى كثيراً مما لم يكن يسمعه أو يراه في الدنيا هذا بالنسبة إلى الإنسان العادي فكيف بالأنبياء والأئمة الصالحين(عليهم السلام).

شكر النعمة

ومنها: أنه يلزم على الإنسان المقيم في المشاهد المشرفة أن يشكر اللّه علىهذه النعمة الكبيرة وهي مجاورته للإمام(عليه السلام)، وأن يقدر هذه النعمة ويذكرها

ص: 36


1- المصباح للكفعمي: 473.

دائماً ويؤدي ما عليه من واجبات تجاهها، فإن الإنسان إذا لم يشكر نعمة اللّه عليه فلربما يأتي يوم يرفع اللّه هذه النعمة منه، كما قال تعالى في القرآن الكريم {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «نحن واللّه نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده، وبنا يفوز من فاز»(2).

ومنها: إنه يلزم التفكير والسعي لتأسيس وتقوية الحوزات العليمة عند المراقد المطهرة، فمثلاً: إن الحوزة العلمية اليوم في مشهد الإمام الرضا(عليه السلام) تضم حوالي سبعة آلاف من الطلبة وأهل العلم في حين أن المطلوب أن تكون الحوزة هناك أوسع من هذا بكثير، فتضم على أقل تقدير خمسين ألفاً، وتقوية ذلك بأيدينا فإن كل عائلة قادرة على إرسال أحد أبنائها إلى الحوزة عليها أن ترسله، ولو أن هذه الخطوة ستواجه مشاكل كثيرة، إلّا أنه لا بد للإنسان المؤمن أن يتحمل ذلك، فيرسل أحد أبنائه والذي يتميز بالذكاء والفطنة والرغبة في الدرس، وهذا الابن لو وفق وصار من طلاب العلوم الإسلامية، فإنه سوف يصبح أحد خدام وجنود الإمام صاحب الزمان(عليه السلام)، وسوف يصبح الحامي لحرم الأئمة المعصومين(عليهم السلام) والمدافع عنهم في كل حين. بل المدافع عن بيضة الإسلام كله.

قلة طلاب العلوم الدينية

وفي الحقيقة إن عدد طلاب العلوم الدينية قليل جداً، قياساً إلى تعداد الشيعة وحاجة الإسلام اليوم إلى أكبر قدر ممكن من الدعوة إليه، ففي قم المقدسةيوجد حوالي عشرون ألف طالب، وفي مشهد حوالي سبعة آلاف، في حين أن

ص: 37


1- سورة إبراهيم، الآية: 7.
2- تفسير القمي 1: 371.

الوهابيين صار عدد طلاب مدارسهم في مكة لوحدها أضعاف ذلك ولذا ترى أن الوهابيين يملكون منافذ كثيرة في العالم لترويج أفكارهم ففي السعودية لديهم مراكز كثيرة لاستقبال الطلبة، فهناك مركز في مكة وآخر في المدينة، وفي الرياض وفي بعض المدن الأخرى مضافاً إلى مدارسهم وحوزاتهم في العديد من الدول الإسلامية، ومن الطبيعي حينما يكون عدد الطلبة والمبلغين عند الوهابية أكثر منا، فإنهم سيسبقوننا في نشر أفكارهم، ويصبح لهم النفوذ الأعظم حيث قال تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ}(1).

ألم تكن مكة المكرمة في السابق مدينة من مدن المسلمين يزورها كل من يرغب إليها وكذلك المدينة المنورة فكان يزورها كل مسلم وبكامل حريته لزيارة مرقد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام)، فكان المرء يسافر إلى مكة كما يسافر الإنسان اليوم من أصفهان إلى شيراز، أما ما نراه اليوم من كثرة القيود لمن يريد السفر لزيارة بيت اللّه وزيارة قبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو من جور وتآمر الوهابيين على الإسلام، فهم الذين وضعوا هذه العراقيل أمام ذهاب المسلمين إلى مكة والمدينة.

المجالس الحسينية

ومن أهم ما يلزم على كل إنسان موال لأهل البيت(عليهم السلام) أن يقيم كل واحد مجلساً حسينياً في بيته في كل أسبوع مرة، أو كل أسبوعين مرة، أو كل شهر مرة، فإن لإقامة هذه المجالس فوائد كثيرة، منها: ذكر أهل البيت(عليهم السلام) وهي عبادة، ومنها: إن إقامة المجالس لذكرهم(عليهم السلام) يدفع البلاء والمشكلات، وتنزل الملائكةعلى ذلك المكان، وهذا يؤكد حبنا لهم(عليهم السلام) ويشدنا نحوهم، ويربطنا بهم، مما

ص: 38


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

يوجب سعادة الدنيا والآخرة.

فقد جاء عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) أنه قال: «تجلسون وتتحدثون؟» قال: قلت جعلت فداك نعم، قال: «إن تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا، إنه من ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذبابة غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(1).

وقال الإمام أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين(عليه السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوأه اللّه بها غرفاً في الجنة يسكنها أحقاباً»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «من ذكرنا عنده ففاضت عيناه حرم اللّه وجهه على النار»(3).

وعن أبي هارون المكفوف قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا أبا هارون أنشدني في الحسين(عليه السلام)» قال: فأنشدته فبكى فقال: «أنشدني كما تنشدون» يعني بالرقة، قال: فأنشدته:

أمرر على جدث الحسين *** فقل لأعظمه الزكية

قال: فبكى، ثم قال: «زدني» قال: فأنشدته القصيدة الأخرى، قال: فبكى وسمعت البكاء من خلف الستر. قال: فلما فرغت. قال لي: «يا أبا هارون من أنشد في الحسين(عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى عشراً كتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خمسة كتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين(عليه السلام) عنده فخرج منعينيه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على اللّه ولم يرض له بدون

ص: 39


1- ثواب الأعمال: 187.
2- كامل الزيارات: 104.
3- كامل الزيارات: 104.

الجنة»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينيه ماء ولو قدر مثل جناح البعوضة إلّا بنى اللّه له بيتاً في الجنة وجعل ذلك حجاباً بينه وبين النار...»(2).

ثمار المجالس

ومن أهم ثمار هذه المجالس كثرة الثواب ومما يوجب ثقل ميزان الإنسان في يوم القيامة، فمثلاً: كم سيذكر فيها الصلاة على محمد وآل محمد(عليهم السلام)؟ وهذه الصلوات مثقلة للميزان.

كما ورد في الروايات، فقد جاء عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنا عند الميزان يوم القيامة فمن ثقلت سيئاته على حسناته جئت بالصلاة عليّ حتى أثقل بها حسناته»(3).

وعن عبد السلام بن نعيم قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إني دخلت البيت فلم يحضرني شيء من الدعاء إلّا الصلاة على النبي وآله، فقال(عليه السلام): «لم يخرج أحد بأفضل مما خرجت»(4).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «كل دعاء محجوب عن السماء حتى تصلي على محمد وآله»(5).

وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: «ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمد وآل

ص: 40


1- كامل الزيارات: 104.
2- كفاية الأثر: 249.
3- ثواب الأعمال: 155.
4- ثواب الأعمال: 155.
5- ثواب الأعمال: 155.

محمد(عليهم السلام)، إن الرجل ليوضع علمه في الميزان فيميل به فيخرج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصلاة عليه وآله فيضعها في ميزانه فيرجح به»(1).

ترسيخ حب أهل البيت(عليهم السلام)

ومن أهم الفوائد الأخرى ما قاله أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن حبنا أهل البيت ليحط الذنوب عن العباد كما تحط الريح الشديدة الورق عن الشجر»(2).

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... لكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره في ما أفناه، وشبابه في ما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفي ما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت»(4).

إذن لا بد من المحافظة والحرص الشديد على إقامة المجالس الحسينية، وإن هذه المجالس لو حضرها حتى القليل كأهل الدار ومن يجاورهم وكان عدد الحاضرين خمسة أو عشرة فقط وصعد الخطيب المنبر وتحدث لهم عن الأخلاق أو التفسير أو عن التاريخ الإسلامي أو عن الأحكام الشرعية والواجبات والمحرمات، فإنكم ستستفيدون ويستفيد أبناؤكم ويستفيد أهل الدار جميعاً.

المجالس الحسينية والعائلة

ويلزم اصطحاب الأطفال والنساء للمجالس الحسينية، مع حفظ الموازينالشرعية بأن يخصص للنساء مكاناً خاصاً، فالمرأة لها حقوق كثيرة في دين

ص: 41


1- عدة الداعي: 165.
2- قرب الإسناد: 39.
3- الكافي 2: 46.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 39.

الإسلام، وعلى عهد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانت النساء يأتين لمسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأداء فريضة الصلاة، وإن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما كان يخرج للحرب كان يأخذ معه النساء، فإذا لم تحضر النساء هذه المجالس فمن أين يتعلمن الأحكام الشرعية؟ وهكذا الأطفال، فعلينا أن نربيهم على ولاء أهل البيت(عليهم السلام) وعلى معرفة القرآن والأحكام الإسلامية.

ثم إن اللّه تبارك وتعالى لم يستثن النساء من التكليف، إنما جعل التكليف على الرجال والنساء معاً، فقد جاء في القرآن الكريم: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ...}(1).

وهنا لا بد لنا من توصية لنسائنا المؤمنات بالالتزام الكامل لأوامر الشريعة السمحاء، واحترامها ومراعاة توصيات أهل البيت(عليهم السلام) وجميع الأحكام الشرعية كمسألة غض البصر وترك الزينة في الأماكن العامة، لاسيما عند زيارة الأئمة وأولادهم(عليهم السلام)، ومراعاة الحجاب الإسلامي الكامل.

فقد قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَائِهِنَّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَٰتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُنَّ أَوِ التَّٰبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَٰتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(2).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنه نهى المرأة أن تضرب برجليها الأرض ليسمع

ص: 42


1- سورة النحل، الآية: 97.
2- سورة النور، الآية: 31.

صوت خلخاها ويعلم ما يخفى من زينتها»(1)، وعدم التهاون في الصلاة، وبالأخص إذا أقيمت صلاة جماعة، وعقد محافل القرآن ومجالس التعزية، وأن لا تكون مجالس النساء عبارة عن اجتماع للتحدث في الأمور الدنيوية والقضايا التي لا نفع من ورائها، بل يجب أن تكون نساؤنا متأسيات بالسيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) والحوراء زينب(عليها السلام) وكيف كانت في نفس الوقت إنسانة عالمة فاضلة وشجاعة وعابدة ومجاهدة، هكذا يجب أن تكون المرأة الشيعية تنطلق من العفاف إلى العلم والعبادة وطاعة المولى وتعظيم الشعائر بشكل صحيح غير مناف للأحكام.

نشر معارف أهل البيت(عليهم السلام)

الموضوع الآخر هو لزوم نشر معارف أهل البيت(عليهم السلام) عبر مختلف الوسائل من الكتب والصحف والإذاعات وما أشبه، فعلينا معرفة معارف الإمام المعصوم(عليه السلام) أولاً ثم نشرها ليستفيد منها العالمون. وخصوصاً من يسكنون إلى جوار الأئمة(عليهم السلام)، فالإمام له بحر بل أبحر من المعرفة، فقد جاء عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون» قال: ثم سكت هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه، فقال: «علمت ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: فيه تبيان كل شيء»(2)(3).

فعلم الإنسان العادي ما هو إلّا وعاء ماء مقابل علوم الإمام التي هي أكبر من

ص: 43


1- دعائم الإسلام 2: 163.
2- إشارة إلى قوله تعالى في سورة النحل، الآية: 89: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ}.
3- الكافي 1: 261.

سعة البحر الهادر.

فإن هؤلاء أئمة(عليهم السلام) ليسوا خلقاً عادياً، بل هم أوتاد الأرض، وأركان الكون، وعماد الدين. وقد ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام) إنه قال: «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره هيهات هيهات، ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء...»(1).

نعم، إن اللّه عزّ وجلّ أبقاهم مناراً للبشر ووسيلة لسعادتهم رغم مرور أكثر من (1400) عام على الدعوة والرسالة التي حملوها، بل لو قدر اللّه أن تبقى الأرض ومن فيها أربعين مليون سنة أو أكثر لأبقاهم اللّه، رغم طمع الأعداء في تهديم قبورهم وإزالتها، فإنها ملجأ المؤمنين ومقصد المخلصين، كما في قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٖ}(2).

فإن {مَا عِندَكُمْ} أيها البشر {يَنفَدُ} يتم ويخلص، ولنفرض أنكم حصلتم من وراء نقضكم للعهد على ملك الدنيا فإنه فانٍ زائل {وَمَا عِندَ اللَّهِ} من الأجر والثواب المترتب على الوفاء بالعهد {بَاقٖ} أبد الآبدين... فإنا نرى الإمام المرتضى علي بن أبي طالب(عليه السلام) حين قيل له في الشورى: نبايعك على كتاب اللّه، وسنة رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة الشيخين، رفض الشرط الأخير من الجمل الثلاث، ولم ينل الإمبراطورية الإسلامية لأجل هذا الرفض. وقبل عثمان الثلاث لكنه خالف(3)، فنرى جزاء الإمام(عليه السلام) في الدنيا لصبره إلى اليوم، أما عثمان، فكانجزائه في نقضه للعهد ما رأينا إلى هذا اليوم، وثم قيل للإمام(عليه السلام) أن إبقاء معاوية

ص: 44


1- الكافي 1: 201.
2- سورة النحل، الآية: 96.
3- انظر: شرح نهج البلاغة 1: 188.

لأيام قلائل يمهد له الإمبراطورية الهادئة، لكن الإمام(عليه السلام) رفض، ومعاوية غدر واهتبل، فما مصيره في الدنيا إلّا اللعن والعار، بينما مصير الإمام(عليه السلام) الصابر ما نراه. وفي الإسلام أمثلة كثيرة ترشد إلى مصير الوفي الصابر، وإن رفت الوية الغادر المستعجل أياماً...(1).

ولما كان الأئمة(عليهم السلام) يمثلون إرادة اللّه، ولما كانوا أقرب الخلق إلى اللّه عزّ وجلّ، فهم يستمدون كل شيء من اللّه، واللّه جعلهم مصدر فيوضاته والطافه وهم محمد وآل محمد(عليهم السلام) فلذلك لا ينفذ ما عندهم.

نفحات من حب أهل البيت(عليهم السلام)

من بركات المراقد الشريفة، حصول المعجزات وظهور الكرامات، واستجابة الدعاء وشفاء المرضى وقضاء الحوائج.

كان في كربلاء المقدسة أحد طلاب العلوم الدينية وذلك في زمان الشيخ مرتضى الأنصاري(رحمه اللّه)، اسمه الشيخ إبراهيم، وكان هذا الشيخ بحاجة إلى الزواج، وإلى مبلغ من المال لأداء الحج ولقضاء دينه، فجاء إلى حرم أبي الفضل العباس(عليه السلام) وطلب حاجته، ثم انتظر يوماً ويومين وثلاثة حتى ستة أشهر، وفي أحد الأيام حينما كان جالساً في حرم أبي الفضل العباس(عليه السلام)، وبعد أن مرّت عليه أيام صعبة لما يعانيه من ضائقة العيش، فقد قضى ستة أشهر ينتظر أن تقضى له حاجته، ولكن الإجابة تأخرت لمصلحة ما، وفجأة نظر إلى امرأة من أهل البادية قد دخلت ضريح أبي الفضل العباس(عليه السلام) وهي تأخذ بيد طفلة لها اشتد بها المرض حيث كانت مصابة بمرض (الكزاز) وقد طوي بدنها لشدة المرض،فقالت الأم مخاطبة أبا الفضل(عليه السلام): يا أبا فاضل، إني أريد أن يشفي اللّه ابنتي

ص: 45


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 258.

بالجاه الذي عندك، فشفيت البنت من ساعتها، فراحت الأم تزغرد بالهلاهل وتنثر الحلوى على الزوار، فغضب الشيخ إبراهيم مما رأى وراح يخاطب أبا الفضل العباس(عليه السلام) بلهجة غير التي تناسب مقامه، إذ قال: يا أبا الفضل أهكذا تقضي حاجة البدوية وأنا طالب علم ورجل دين ولا تقضي حاجتي فلا نفع لي بهذه الملابس التي ارتديها - زي طلاب العلوم الدينية - وإني من الآن سأرجع إلى مدينتي التي قدمت إليكم منها (إيران) واترك الدراسة فإنكم قد خيبتموني، وبعد أن خرج من ضريح العباس(عليه السلام)، قال: لا بأس بتوديع الإمام الحسين(عليه السلام)، وبينما هو كذلك بين ضريح العباس(عليه السلام) وضريح الحسين(عليه السلام)، أوقفه شخص وقال له: هل أنت الشيخ إبراهيم؟

قال له: نعم.

قال: يا شيخ إبراهيم إن الشيخ مرتضى الأنصاري يطلبك الآن أن تحضر عنده، ولم يكن الشيخ إبراهيم معروفاً عند الشيخ الأنصاري من قبل، فلما ذهب ودخل على الشيخ الأنصاري(رحمه اللّه) قال له الشيخ الأنصاري: خذ كيس النقود هذا يا شيخ إبراهيم، واذهب لإنجاز ما طلبته من الإمام، ولكن لا ينبغي أن تكلم الإمام(عليه السلام) والأولياء الصالحين بهذه اللّهجة في المرة القادمة.

نعم، إن حب أهل البيت(عليهم السلام) والالتزام بتعاليمهم والتشرف بمجاورتهم وخدمتهم سواء كانت الخدمة علمية أو عملية له ثمرة دنيوية وأخروية، أما الأخروية فينال الشفاعة بشرطها وشروطها، وأما الفائدة الدنيوية فهي متمثلة في قضاء الحوائج والصفاء الروحي والعون في جميع الأمور الحرجة، ولكن مع ذلك فالمعصوم بإذن اللّه تعالى يستجيب لدعوة المحتاج ويقضي حاجته، وأماما علينا في قصة الشيخ إبراهيم والمرأة البدوية فإن ذلك امتحان للشيعة بقدر المعرفة، فإن ما يحمله الشيخ من معرفة يوجب عليه الصبر، أما المرأة البدوية

ص: 46

فإنها لا تعرف ذلك وإنما تعرف أن الإمام(عليه السلام) سيقضي حاجتها.

إلى الهيئات عامة

وعلى كافة الهيئات أيضاً بالإضافة إلى ما تقدم من الوصايا أن تعمل على:

أولاً: وضع برنامج متكامل يؤكد ويعمق من خلاله حب أهل البيت(عليهم السلام) في كل فرد، وهذا الحب يجب أن يكون عن وعي وفهم، فإن الحب الساذج من دون وعي، لعله يتصدع في المواقف الحرجة، كما مرّ في القصة الآنفة الذكر، إن صياغة الحب ونقشه في الصدور يقع أيضاً على عاتق الهيئات الحسينية بما تقيمه من مجالس، وإحياء المراسيم الإسلامية ودعوة الخطباء وغيرها من الأمور التي تحيي القلوب وتقلل من انشداد الإنسان بالدنيا، بل تدعوه إلى العروج بالروح عالياً مع فكر أهل البيت(عليهم السلام).

ثانياً: لا بد من الاهتمام بالقرآن الكريم وإقامة المحافل المتعددة لقراءة القرآن وتعليمه وحفظه وخاصة للأطفال؛ لأنهم قوة الإسلام في المستقبل، وكذلك الشباب والنساء، فعلى الجميع أن ينهل من هذا المنهل العذب، ليتزين بأحكامه وتعاليمه، فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «معاشر الأنصار أدبوا أولادكم على حب علي...»(2).

ثالثاً: إقامة مجالس تذكر فيها الأحكام الشرعية المبتلى بها عند الناسوتدريس الأمور العقائدية المهمة التي تجب على كل أحد معرفتها، من قبيل أصول الإسلام وفروعه، وأصول المذهب وفروعه، وتأريخ المذهب وحياة

ص: 47


1- كنز الفوائد 1: 319.
2- الصراط المستقيم 2: 68.

الأئمة(عليهم السلام) وتصديهم الخالد للطواغيت، والمسائل الفقهية المبتلى بها يومياً.

رابعاً: لتكن مراكز الهيئات ملتقى للأخوة الإسلامية، ومكان للتآخي والتحابب والصدق وذكر اللّه، والإخلاص في جميع علاقاتنا مع الناس، ومع الأسرة، ومع الأولاد، ومع الأصدقاء وفي الدرجة الأولى علاقتنا مع اللّه عزّ وجلّ ثم علاقتنا مع الأئمة(عليهم السلام) ثم مع الناس.

وفي الختام نسأل اللّه عزّ وجلّ أن يوفقنا للمزيد من معرفة القرآن والعترة الطاهرة إنه سميع مجيب.

اللّهم صل على محمد وآل محمد، «اللّهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع»(1) وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

تعريف الإسلام للناس

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا}(2).

إقامة مجالس الوعظ والإرشاد

قال سبحانه: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}(3).

إقامة مجالس التفقه في الدين

قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْإِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(4).

ص: 48


1- المصباح للكفعمي: 299.
2- سورة فصلت، الآية: 33.
3- سورة النحل، الآية: 125.
4- سورة التوبة، الآية: 122.

الاهتمام بالأعمال الخيرية

قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(1).

لزوم اتباع الأئمة المعصومين(عليهم السلام)

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(2).

قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(4).

ضرورة إقامة المجالس الحسينية

قال تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(5).

وقال سبحانه: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}(6).

الاهتمام كثيراً بتعليم القرآن الكريم

قال عزّ وجلّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ}(7).

وقال تعالى: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(8).

ص: 49


1- سورة المائدة، الآية: 2.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- سورة المائدة، الآية: 55.
4- سورة التوبة، الآية: 119.
5- سورة الحج، الآية: 32.
6- سورة الشورى، الآية: 13.
7- سورة النساء، الآية: 82.
8- سورة الأنعام، الآية: 155.

وقال جلّ وعلا: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَاْ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}(1).

وقال سبحانه: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

نشر حب أهل البيت(عليهم السلام)

قال الإمام الباقر عن آبائه(عليهم السلام): قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهن عظيمة: عند الوفاة وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط»(3).

الاهتمام بالقرآن وتعليمه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ومن تعلم القرآن وتواضع في العلم وعلَّم عباد اللّه وهو يريد ما عند اللّه، لم يكن له في الجنة أعظم ثواباً منه ولا أعظم منزلة منه...»(5).

إقامة مجالس التفقه في الدين

قال الإمام الكاظم(عليه السلام):

«تفقهوا في دين اللّه فإن الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة والسبب إلى

ص: 50


1- سورة النمل، الآية: 91-92.
2- سورة ص، الآية: 29.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 10.
4- عوالي اللئالي 1: 99.
5- ثواب الأعمال: 293.

المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقه في دينه لم يرض اللّه له عملاً»(1).

لزوم معرفة الإمام المعصوم(عليه السلام)

قال الإمام الصادق(عليه السلام) في قوله اللّه عزّ وجلّ: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(2) فقال: «طاعة اللّه ومعرفة الإمام»(3).

وعن أحدهما(عليهما السلام) أنه قال: «لا يكون العبد مؤمنا حتى يعرف اللّه ورسوله والأئمة كلهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له ثم قال: كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأول؟!»(4).

وقال الإمام أبو الحسن(عليه السلام) في قوله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}(5) قال: «يعني من اتخذ دينه رأيه بغير هدىً أئمة الهدى»(6).

وفي ما كتب الإمام الرضا(عليه السلام) للمأمون من شرائع الدين: «من مات ولم يعرفهم - الأئمة(عليهم السلام) - مات ميتة جاهلية»(7).

ضرورة إقامة المجالس الحسينية

قال الإمام الصادق(عليه السلام) لأبي عمار المنشد:

«يا أبا عمار أنشدني في الحسين بن علي(عليهما السلام)» قال: فأنشدته فبكى ثم أنشدته

ص: 51


1- تحف العقول: 410.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- الكافي 1: 185.
4- الكافي 1: 180.
5- سورة القصص، الآية: 50.
6- بصائر الدرجات 1: 13.
7- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 122.

فبكى قال: فواللّه مازلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار»(1).

أخبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين(عليه السلام) وما يجري عليه من المحن بكت فاطمة(عليها السلام) بكاءً شديداً، وقالت: «يا أبت فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟»

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل، في كل سنة...»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة. ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(3).

فضائل زيارة قبور المعصومين(عليهم السلام)

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي، وكنت له شهيداً وشافعاً يوم القيامة»(4).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام) لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«يا أبت ما جزاء من زارك؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من زارني أو زار أباك أو زارك أو زار أخاك كان حقاً عليّ أن أزوره يوم القيامة حتى أخلصه من ذنوبه»(5).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أتى الحسين(عليه السلام) عارفاً بحقه كتبه اللّه تعالى في

ص: 52


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 141.
2- بحار الأنوار 44: 293.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 73.
4- كامل الزيارات: 13.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 59.

أعلى عليين»(1).

قال الإمام الرضا(عليه السلام) في كتاب له إلى البزنطي (أحد أصحابه):

«أبلغ شيعتي أن زيارتي تعدل عند اللّه ألف حجة» قال (البزنطي): فقلت لأبي جعفر(عليه السلام): ألف حجة؟! قال(عليه السلام): «إي واللّه وألف ألف حجة لمن زاره عارفاً بحقه»(2).

ص: 53


1- ثواب الأعمال: 85.
2- كامل الزيارات: 306.

إلى حكومة شيعية في العراق

لكل شيء سبب

اشارة

الإنسان - كما المعروف عنه - لا يعلم الغيب، والقرآن الكريم يقول: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(1).

ولكن اللّه سبحانه وتعالى جعل هناك علامات وأسباباً يستطيع من خلالها أن يتنبأ الإنسان بعض الشيء عن المستقبل، فيطلع على بعض خفايا الأمور ويعرف ما سيحدث بنسبة معينة.

فعلى سبيل المثال، إن علماء الطب القديم قالوا: إن الأمراض التي تصيب الإنسان تبلغ (24000) قسم ونوع، وهي تنتج من الأخلاط الأربعة المعروفة لدى الإنسان: الصفراء والدم والبلغم والسوداء، ولهذه ال(24000) مرض (24000) سبب، و(24000) علامة، و(24000) دواء، فكل مرض ينتهي إلى سبب، وكل مرض له عرض وعلامة تميزه عن باقي الأمراض، وله علاج مختص به، لذلك كان على الطبيب الحاذق آنذاك أن يعرف (96) ألف مسألة طبية حتى يستحق أن يدعى طبيباً حاذقاً.

بناءً على هذا، فالطبيب الذي يشخص المرض ويصف الدواء لبرء المريض، ليس عمله من قبيل العلم بالغيب، وإنما هو تشخيص للمرض بواسطة العلامات

ص: 54


1- سورة النمل، الآية: 65.

والأعراض الموجودة في جسم المصاب، وتنبؤ للصحة إذا استعمل الدواء الموصوف.

وهكذا يكون الأمر بالنسبة إلى معرفة المستقبل السياسي للشعوب والأمم والحكومات والدول.

المنجمون وعلماء الفلك

وكذلك أكثر المنجمين ومعدي التقويم حين يتحدثون شيئاً عن المستقبل، مثلاً: يخبرون بأنه في اليوم الكذائي سيحدث الخسوف أو الكسوف أو أي حدث آخر، فكلام هؤلاء المنجمين وإخبارهم بالمستقبل أيضاً ليس من قبيل العلم بالغيب، وإنما هو إجراء بعض الحسابات الفلكية عبر معرفة بعض العلامات والظواهر الكونية، إذ لكل شيء علامة وقانون يوصلنا إلى بعض الحقائق الخفية؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى جعل الدنيا دار أسباب ومسببات وخلقها وسيرها وفق قوانين وسنن خاصة، كل قانون من هذه القوانين والسنن يشير إلى سر من أسرار هذا العالم حيث يقول تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(1).

كل هذا كان من باب المقدمة لموضوع بحثنا الذي هو: (إلى حكومة شيعية في العراق)، حيث يستفاد من بعض القرائن أن الحكم في العراق سيتغير بإذن اللّه عزّ وجلّ، قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا}(2)، ومن هنا يلزم على الشعب العراقي أن يكون واعياً لأخذ حقوقه المهدورة، حتى لا تتكرر هذه المآسي التي نشاهدها في كل يوم، وفي كل ساعة ضد أبناء الأكثرية في العراق.

ص: 55


1- سورة الأحزاب، الآية: 62.
2- سورة المعارج، الآية: 6- 7.

مقدمات الوصول لحكومة الأكثرية

اشارة

للوصولى الى حكومة شيعية في العراق لا بد من مقدمات ومقومات، من أهمها:

1- الإنفاق في سبيل اللّه.

2- وحدة الكلمة.

1- الإنفاق سر التقدم

اشارة

المقدمة الأولى: يلزم علينا صرف جهود كبيرة وأموال طائلة في سبيل وعي الأمة لكي تأخذ بحقها، وهي حق الأكثرية الشيعية في العراق؛ لأن الحكومة في العراق ومنذ مئات السنين - باستثناء بعض السنوات - كانت تحت سلطة الأقلية وسياستها الطائفية الظالمة، علماً بأن انتزاع الحكومة من أيديهم وإرجاعها إلى سلطة الأكثرية وهم شيعة أهل البيت(عليهم السلام) من الأمور الصعبة جداً، خصوصاً وأن الأقلية قد نشروا وطبقوا مبادءهم من كل الجوانب السلطوية، واحتفظوا باتحادهم وترابطهم في ما بينهم، بخلاف الشيعة حيث حرموا حتى من أبسط حقوقهم.

فإذا كنا نريد أن نصل إلى حقوقنا المغصوبة فلا بد من بذل سيل من الأموال لتوعية الشعب؛ إن البعثيين استولوا على الحكم في العراق بواسطة سيل الأموال وحماية من الغرب.

فالرجل الشيعي الذي له القدرة على الإنفاق، عليه أن ينفق في سبيل حقوق شعبه، ومن له الوعي والفهم والثقافة عليه بالسعي الجاد للمطالبة بهذه الحقوق، فما ينفق في هذا السبيل هو جزء من مقدمات الوصول إلى حكومة الأكثرية. وهكذا نجد أن حقوق الشيعة مهدورة في العراق من دون أن يجد أبناء الشيعة وعلماؤهم ومفكروهم القدرة الكافية على المطالبة بها.

ص: 56

حفظ كامل حقوق الأقليات

طبعاً نحن عندما ندعو إلى تأسيس حكومة شيعية في العراق لانريد منه التعصب والإساءة إلى الغير، ولا الطائفية الظالمة كما كانت الأقلية تفعل ذلك ولا زالت.

بل لأن ذلك مطلب عقلي وشرعي وقانون طبيعي في كل العالم الإنساني وعند جميع عقلاء العالم؛ وذلك لأن العقل يحكم بأن الحق في الحكم إنما يمتلكه صاحب الأكثرية، إذ لا يصح عقلاً ومنطقاً أن تقهر الأقلية النادرة الأمة على مذهب وقانون لا يرتضيه أكثر أبناء الشعب، فإن الحق للأكثرية مع احترام الأقليات وحفظ كامل حقوقها من دون نقيصة، ولذلك نحن نطالب بقيام حكومة شيعية في العراق لا سنية؛ وذلك لأن الأكثرية الساحقة في الشعب العراقي هم من أبناء الشيعة، إذ تبلغ نسبة الشيعة حوالي (85%) من أبناء الشعب، بينما ليس للسنة إلّا (12%).

وفي نفس الوقت فإن دعوتنا للحكومة الشيعية لا تعني أننا نريد مصادرة حقوق السنة، بل نقول لكل حصته، للشيعة حصتهم بمقدار (85%)، وللسنة حصتهم بمقدار (12%) أيضاً. أما إذا حكمت السنة الأقلية على الأكثرية الشيعية، كان ذلك تطرفاً واعتداءً على حقوق الأكثرية، وهضماً لها وبثاً لنوازع الفرقة والاختلاف، ومصداقاً واضحاً من الطائفية.

نفوذ الإنجليز في العراق عن طريق الأموال

يقول المرحوم والدي(رحمه اللّه): عندما سيطر الإنجليز على العراق، كان الدخل الشهري للعائلة المتوسطة في العراق حوالي ليرة واحدة، وكان للإنجليز مئات الآلاف من الجنود الذين جاؤوا بهم من الهند، وكانت القيادة الإنجليزية قد خصصت لكل جندي من جيش الإنجليز ليرة واحدة في كل يوم، وأبلغتهم بأنه

ص: 57

على كل جندي أن يصرف هذه الليرة خلال اليوم بأي صورة كانت، ومن يتخلف عن ذلك فإن السياط سوف تتلوى على قدميه، لذلك كان الجندي الإنجليزي يشتري الدجاجة الواحدة التي لا تتجاوز قيمتها عشرين فلساً بروبية واحدة، وهو مبلغ يعادل عدة أضعاف سعر الدجاجة الأصلي، وهكذا سائر الأشياء من أجل أن يتمكن من صرف الليرة في يومه بكاملها ولا يبقى منها شيء، وبهذا صبت في العراق أموال طائلة، وعلى قول أحدهم: كانت الأبواب والجدران آنذاك تمطرنا بالأموال، كان هذا من أسباب تمكن الإنجليز من السيطرة على العراق وجره إلى الفلك الإنجليزي.

إنفاق المال في الموارد الصحيحة

والمطلوب هو إنفاق المال في موارده الصحيحة من التبليغ وإقامة مجالس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام)، ونشر الكتب والصحف والمجلات، وبناء المحطات التلفزيونية والإذاعية، وما أشبه في سبيل توعية الأمة، وكذا في سائر المرافق الحياتية الأخرى، فإنها جيدة ومفيدة. علماً بأن هناك قانون الأهم والمهم، فإن صرف الأموال في بعض الموارد مهم ولكن يكون في البعض الآخر أهم.

ومن الأهم صرف الأموال وإنفاقها - طبقاً للقاعدة الفقهية التي تنص بتقديم الأهم على المهم - في مقدمات وطرق وصول الأكثرية الشيعية إلى حقها في العراق.

لا للاحتكار، نعم للإنفاق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لم نبعث لجمع المال ولكن بعثنا لإنفاقه»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما أوحي إليَّ أن أجمع المال»(2).

ص: 58


1- مشكاة الأنوار: 183.
2- روضة الواعظين 2: 454.

إلى غير ذلك من الروايات الشريفة والآيات الكريمة التي تحث على الإنفاق وتنهى عن الاحتكار، فإن المال له دور كبير في الحياة الاجتماعية والسياسية والعالمية وغيرها، وهو من طرق تأمين اللذة المادية منها والمعنوية، كاللباس والغذاء والمسكن والزوجة والعلم والفضيلة والقوة وما أشبه، كما أنه من طرق دفع الألم في أضداد تلك الأمور.

ولذا فمحبة المال ثانوية في نظر الإسلام، أي أن الإسلام ينظر إلى المال نظرة طريقية لا موضوعية، فليس المال هو الهدف، بل المال يكون في خدمة الهدف وفي خدمة الإنسان. فهو وسيلة لإنماء الإنسان وعمارة الأرض التي هي أيضاً لإنماء الإنسان وليست هدفاً بما هي هي، لكن قسماً من الأثرياء يجعلون المال هدفاً لا وسيلة، وهو تحريف المال عن مقصده المشروع، وهذا من أسباب التغيير في شخصية الإنسان، فالتاجر الذي يجعل المال هدفاً والمزيد منه مقصداً، لا يلاحظ حقوق الآخرين عادة، فينظر إلى نفسه وماله فقط، فيكفي إن نام هو وأكل ولبس وتمشى وإن كانت على حساب الآخرين. وقد يصاب بالأمراض والعاهات في نفسه، بالإضافة إلى أنه يجعل المجتمع متأخراً؛ لأنه يهتم بجمع المال واحتكاره وعدم إنفاقه.

لذا يلزم الإنفاق من المال وعدم احتكاره، وبذلك يتقدم المجتمع، حيث يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «كن مقدراً ولا تكن محتكراً»(1).

إن إنفاق المال يؤدي إلى التكامل الفردي والرشد الإنساني، ويجسدها من ثلاث نواح:

1- إنه يزيح موانع التكامل النفسي والرشد الإنساني، ويقلع السدود عن

ص: 59


1- غرر الحكم: 528.

مسيرتهما؛ لأنه يذهب بتراكم المال والثروة، الموجب للغنى المفرط المفسد للإنسان والإنسانية، والعامل على سقوطه وترديه في معركته ضد مسيرة التكامل والرشد، فإن «من يستأثر من الأموال يهلك»(1).

2- إنه يجلي الروح الإنسانية في الشخص، ويكبر النفس، ويغرس السماح وعلو الهمة في ذاته، ويربي الفضائل الخلقية.

3- إنه ينمي في الإنسان روح التربية الإسلامية، وهي الالتزام بالهدف الديني وحب الآخرين.

تقسيم الأموال بأمر الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه)

نقل لي الحاج محمود الصراف وكان الوكيل العام للمرجع الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) القصة التالية:

كانت القيادة العليا للمرجعية في يد الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه)، وكانت تصله وباستمرار من الأماكن القريبة والبعيدة الأموال والحقوق الشرعية، فكانت تصل إليه الأموال من أذربيجان، وإيران، وبادكوبة(2)، وأفريقيا وغيرها. وبعضها كانت تأتي بشكل ليرات مكدسة في أكياس كبيرة كأكياس السكر والرز، وحدث ذات يوم أن طلبني - والكلام لوكيله العام - الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) وأعطاني كيساً كبيراً مليئاً بالليرات، وقال: خذ هذا الكيس، وطف على بيوت الناس بيتاً بيتاً، بغض النظر عن غناء أصحابها وفقرهم، وأعطِ لكل عائلة ليرة واحدة. وهكذا فعلت حتى أنهيت جميع الأموال التي كانت عندي.

هذه القصة تبين لنا أن المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) كم كان

ص: 60


1- تحف العقول: 217.
2- وتعرف ب(باكو) أيضاً، عاصمة جمهورية أذربيجان.

يصرف من الأموال في سبيل خدمة الناس، وتقوية حكومة الأكثرية، ودعم الشعب وتقوية عزائمه.

أما في الآونة الأخيرة فنرى العكس من ذلك، فإن البعض يطمع أن يفعل شيئاً، أو يقيم مؤسسات ومشاريع، أو يقدم خدمات للناس، أو يأخذ بحق الأكثرية، ولكن لا ينفق الأموال في سبيل ذلك، ومن المعلوم أن بدون إنفاق المال لا يمكن إقامة تلك المشاريع ولا الوصول إلى حق الأكثرية في العصور الراهنة.

حكومة العراق المستقبلية

مما يبدو للنظر وحسب بعض الشواهد والعلامات التي تتجلى شيئاً فشيئاً مع الأحداث، أن حكومة العراق المستقبلية ستكون حكومة طائفية سنية متعصبة كما كانت من قبل، إلّا إذا أصبحت الأكثرية الشيعية بمستوى المسؤولية، وانتشر الوعي في صفوفهم، وإلّا فإن بعض الحكومات العربية تعمل ليل نهار حتى تكون الحكومة في العراق حكومة سنية، فإن إحدى هذه الحكومات قامت في هذا المجال بعدة أعمال منها:

أولاً: إنها قامت بإعداد مائة وثلاثين ألف جندي عراقي هم في بلادها أسرى بعد حرب الكويت، كما قامت بالعناية بهم بأفضل ما يكون، فهي تعدهم للحكومة المستقبلية في العراق.

ثانياً: قامت أيضاً بتوزيع الأموال الطائلة جداً على بعض العشائر لكسب مودتها.

ثالثاً: منحت بعض رؤساء العشائر جنسيتها.

رابعاً: شكلت حكومة في المنفى ضمت رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وسائر الأعضاء، وهم جميعاً على أهبة الاستعداد لتسلم السلطة في العراق في أي وقت.

ص: 61

فنتيجة ذلك المجهود الذي تصرفه هذه الحكومة، وبذل الأموال الطائلة التي لا حدود لها، هي تشكيل حكومة سنية تحمل أفكاراً وهابية في العراق ذي الأكثرية الشيعية. كما فعلت مثل ذلك في لبنان، حيث قامت بصرف سيل من الأموال الطائلة، واستطاعت بعد أن وجدت لنفسها هناك موضع قدم، من هضم حقوق الشيعة وبث الفرقة في ما بينهم. وهكذا تستفيد هذه الدولة من قدراتها المالية للتأثير في سياسة المنطقة، والتحكم في مصيرها وزرع الطائفية بين الأمة الإسلامية.

وفي المقابل علينا أن نصرف الأموال الكثيرة، وإنفاقها في سبيل قضيتنا لتمكنا من أن نصل إلى حقوقنا، وهي حق الأكثرية الشيعية في العراق، بعيداً عن جميع أساليب العنف والإرهاب.

2- وحدة الكلمة للوصول إلى حقوق الأكثرية

اشارة

المقدمة الثانية - في سبيل منح الأكثرية في العراق حقوقها المشروعة - هي: وحدة الكلمة، فإنها العامل الثاني لانتصار الشيعة في العراق، فنحن لو افتقدنا (وحدة الكلمة) واحتفظت الدولة الوهابية بوحدة كلمتها، فإن الناس سوف يميلون إلى من اتصف بوحدة الكلمة؛ لأن المقدمات الخاطئة تعطي دائماً نتائج خاطئة أيضاً، إذ النتائج تتبع أخس المقدمات حسب المذكور في علم المنطق على تفصيل مذكور في محله، كما أن المقدمات الصحيحة لا تعطي إلّا النتائج الصحيحة أيضاً.

فعلى سبيل المثال: الجوهري هو أحد علماء اللغة، الذي أجهد نفسه كثيراً في مجال اللغة، وعندما كتب قاموسه المسمى ب- (الصحاح) فاق القواميس الموجودة في عصره وربما نسخها، ولكنه لكثرة مطالعته وضغطه على نفسه أصيب بحالةمن الجنون، ففكر ذات يوم مع نفسه وقال: لماذا لا يكون لي جناحان ككل طائر

ص: 62

فأطير بهما، لذلك قلع مصراعي الباب وشدهما على يديه على هيئة الجناحين وصعد على أعلى السطح وصاح في الناس: أيها الناس، إنني سأقوم بعمل فريد لم يفعله أحد قبلي لحد الآن، كما جئت بعلم اللغة وتفاصيلها بما لم يأتِ به أحد، ثم قفز من السطح وهو يحرك يديه كالطائر في محاولة فاشلة للطيران، فهوى إلى الأرض وارتطم بها بشدة، فتكسرت عظامه ومات(1).

إذن، المقدمات الخاطئة لا بد وأنها تعطي النتائج الخاطئة لا غير.

ونتيجة الكلام هي أنه إذا لم نفهم الطريق الصحيح للوصول إلى أهدافنا، واتبعنا المقدمات الخاطئة، فسنبقى متأخرين عن ركب الحياة، والتقدم الذي حصل فيها، وسنكون عرضة لتلقي الصفعات والضربات من هنا وهناك، والعياذ باللّه.

ومن أهم مقدمات الانتصار هو إنفاق المال ووحدة الكلمة.

التلبس بالدين

هناك البعض ممن يتلبس بالدين ليخدع المسلمين، ويبث الفرقة والنزاع بينهم، ومن هنا نرى بعض الدول تقوم - بدهاء وذكاء عجيب - بخداع المسلمين، حيث تأخذ بتطبيق ظاهري لبعض القوانين التي تتلبس بمظاهر إسلامية، وتخفي وراءها مصالح سياسية حاقدة بعيدة عن الإسلام، فتحت شعار (وحدة الكلمة) تكفر المسلمين، وتبث فيهم روح الطائفية، وتدعم الفكر الوهابي الطائفي، وإن أنكرت ذلك.

وقد تحدث رئيس تلك الدولة وقال في خطابه: (نحن نسير على خطىالأنبياء، ومن ينسب إلينا الوهابية فهو كذب، نعم يوجد في أمتنا مذهب يدعى

ص: 63


1- انظر: معجم الأدباء 6: 157.

بالوهابية، ولكن استراتيجيتنا قائمة على تجليل واحترام كل المذاهب بدون استثناء، وهذا المذهب أيضاً من ضمنها).

وقبل مدة تحدث هذا الرئيس لمجموعة من الشيعة وقال: (بأننا نقدر ونحترم مذهب الشيعة، وذلك لأنه لو لم يكن هذا المذهب لبقي قسم كبير من تاريخ الإسلام مجهولاً)، وذلك من أجل كسب ودهم وتعاطفهم ولو زيفاً.

ولكن في مرحلة العمل ترى النظرة الطائفية حاكمة على سياستهم في مختلف المجالات.

العزم والإرادة بعد التوكل على اللّه

اشارة

إذا قمنا - بعد التوكل على اللّه عزّ وجلّ - بهذين العملين المهمين:

1- بذل الأموال وصرفها في سبيل الهدف.

2- إيجاد وحدة الكلمة.

عندئذ يمكن تأسيس حكومة الأكثرية في العراق، ومن هنا يلزم على المؤمنين العمل الجاد لتوفير هذين العاملين، وبث الوعي في صفوف الأمة لضرورة المطالبة بحقوق الأكثرية، وتأسيس الحكومة الشيعية في العراق المبتنية على أسس السلم والسلام، والتعددية واحترام الآخرين، وضمان حقوق الأقليات، وما هي العوامل المساعدة على تأسيس هذه الحكومة وتركيزها، وما هي الأسس التي تبتني عليها.

ونحن إذا أردنا هذا الأمر وعزمنا عليه وتوكلنا على اللّه، فإنه سيتحقق بإذن اللّه تعالى، فإن التصميم والعزم على الأمر هو الأساس، كما يقول المثل الفارسيومضمونه: (الإرادة تعني القدرة)(1).

ص: 64


1- أصل المثل بالفارسية: (خواستن توانستن است).

نعم الإرادة هي الاستطاعة، فبمجرد أن تتحقق الإرادة فإن ذلك يعني تحقق الاستطاعة على الشيء.

وحيث يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ فوض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع قول اللّه عزّ وجلّ يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(1)، فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، قال: إن المؤمن أعز من الجبل إن الجبل يستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه بشيء»(2).

السكاكي: قوة الإرادة

وقصة السكاكي في التاريخ مشهورة، حيث كان كاسباً ماهراً في صناعته، وفي ذات يوم صنع محبرة قيمة صرف عليها من الوقت سنة كاملة، فذهب لإهدائها إلى الملك ليحصل على جائزة منه، وعندما رآها الملك فرح بها كثيراً وأثنى عليه، وفي هذا الأثناء دخل أحد العلماء، فاستقبله الملك بحفاوة وتقدير وترك المحبرة جانباً، ثم أجلس العالم إلى جانبه، وأخذ يحادثه ولم يهتم بأمر السكاكي ومحبرته، كأنه لم يشعر بوجوده، فأثر هذا الموقف في نفس السكاكي أثراً عميقاً حين رأى مكانة العلماء حتى عند الملوك، ففكر في نفسه وقال: يجب أن أصبح عالماً، وصمم على ذلك بالرغم من تقدمه في السن، لذلك ذهب إلى مكتب أحد المعلمين ليتعلم لديه العلوم بالرغم من كبر سنه الذي كان يتجاوز الأربعين، فعلمه المعلم درساً وقال له: احفظه إلى غد، وكان الدرس هو: (قالالشيخ: جلد الكلب يطهر بالدباغة!).

فأخذ السكاكي يردده إلى صباح الغد، وعندما جاء إلى مكتب المعلم قرأه

ص: 65


1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- الكافي 5: 63.

على العكس فقال: (قال الكلب: جلد الشيخ يطهر بالدباغة).

فضحك عليه جميع من كان في الدرس، وخرج السكاكي على أثر ذلك وهو حزين متألم، فهام على وجهه وهو ممتلئ حزناً ويأساً، فوصل ذات يوم إلى منطقة جبلية، فجلس يستريح، فرأى أمامه منظراً جميلاً أثر في كيانه أثراً عميقاً وغير مسار حياته، حيث رأى قطرات الماء تسقط من أعلى الجبل على صخرة صماء صلدة، ولكن لكثرة توالي سقوط القطرات على هذه الصخرة حفرت فيها ثقباً عميقاً، فقال في نفسه: إن عقلي ليس بأصلب من هذه الصخرة الصماء بحيث لا يؤثر فيه التعليم، فيجب عليَّ أن أجد واجتهد في الدرس وتحصيل العلم، فذهب وأخذ يدرس ويدرس ويجتهد، حتى صنع من نفسه أحد أكبر علماء البلاغة والأدب.

إذن على الإنسان أن يجتهد في تحصيل الهدف ولا ييأس، وهكذا بالنسبة إلى تأسيس حكومة الأكثرية في العراق على رغم صعوبتها، فعلينا أن نجتهد في السعي وراء أهدافنا من أجل تأسيس الحكومة الشيعية في العراق، وذلك لأن الانتفاضات التي حدثت في تاريخ العراق إنما قام بها الشيعة، والتعب والعناء والتشريد والتعذيب والنهب والقتل والويلات إنما تحملها الشيعة أنفسهم، فلماذا تترك الحكومة إلى غيرهم، فيلزم أن يكون الشعب واعياً، حتى لا يستغل أعداء المسلمين من اليهود والوهابيين ودول الغرب، فيستفيدوا من تضحيات الشيعة كما استفادوا من كل شيء في أفغانستان والباكستان وباقي دول العالم الإسلامي، ويلزم أن لا ننسى أن الإرادة تساوي القدرة والاستطاعة بعد التوكل على اللّه عزّ وجلّ، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَوَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1).

ص: 66


1- سورة التوبة، الآية: 105.

وفي الختام نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يسهل للشعب العراقي المظلوم المطالبة بحقوقه المهدورة، وذلك بتأسيس الحكومة الشيعية في العراق عملاً بقانون الأكثرية، مع رعاية حقوق سائر الأقليات(1).

«اللّهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدّنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

الحكومة الإسلامية الشاملة

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(3).

وقال سبحانه: {قُلْ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(4).

وقال جلّ جلاله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(5).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ}(6).

اتباع أحكام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(7).

ص: 67


1- ألقيت المحاضرة في 13/ ذي الحجة/ 1411ه- بقم المقدسة.
2- الكافي 3: 424.
3- سورة سبأ، الآية: 28.
4- سورة الأعراف، الآية: 158.
5- سورة التوبة، الآية: 33.
6- سورة النساء، الآية: 105.
7- سورة الشعراء، الآية: 107- 108.

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(1).

وقال جلّ جلاله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٖ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ}(2).

وقال عزّ اسمه: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُواْ أَعْمَٰلَكُمْ}(3).

لا للطواغيت

قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}(4).

وقال سبحانه: {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّٰغُوتَ}(5).

وقال جلّ جلاله: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(6).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَئًْا وَإِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}(7).

الشورى والمشاورة

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ

ص: 68


1- سورة النساء، الآية: 59.
2- سورة الأحزاب، الآية: 36.
3- سورة محمد، الآية: 33.
4- سورة النساء، الآية: 60.
5- سورة النحل، الآية: 36.
6- سورة آل عمران، الآية: 64.
7- سورة الجاثية، الآية: 19.

حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(1).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(2).

أهداف الحاكم المسلم

قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(3).

وقال سبحانه: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ}(4).

وقال جلّ جلاله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}(5).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

الحكومة الإسلامية الشاملة

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «فبعث اللّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق ليخرج عباده من

ص: 69


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- سورة الشورى، الآية: 38.
3- سورة هود، الآية: 88.
4- سورة النساء، الآية: 114.
5- سورة النساء، الآية: 58.
6- سورة الحجرات، الآية: 10.

عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته»(1).

وعن علي(عليه السلام) قال: «إن اللّه بعث رسولاً هادياً بكتاب ناطق، وأمر قائم لا يهلك عنه إلّا هالك»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى أعطى محمدا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى(عليهم السلام)»(3).

اتباع أحكام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمر الولاية

عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «اللّهم إني أقول كما قال أخي موسى: اللّهم اجعل لي وزيراً من أهلي، علياً اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً»(4).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»(5).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «علي خير من أترك بعدي، فمن أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني»(6).

لا للطواغيت

عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من أرضى سلطاناً بسخط اللّه خرج من دين اللّه»(7).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال:«أربعة من قواصم الظهر: إمام يعصي اللّه ويطاع

ص: 70


1- نهج البلاغة: الخطب الرقم: 147.
2- نهج البلاغة: الخطب الرقم: 170، من خطبة له(عليه السلام) عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة.
3- الكافي 2: 17.
4- بحار الأنوار 38: 148.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 58.
6- الروضة في فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام): 24.
7- الكافي 2: 373.

أمره...»(1).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من خف لسلطان جائر كان قرينه في النار، ومن دل سلطاناً على الجور قرن مع هامان، وكان هو والسلطان من أشد أهل النار عذاباً»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: في قول اللّه تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}(3)، قال: «واللّه ما صلوا لهم، ولا صاموا، ولكن أطاعوهم في معصية اللّه»(4).

الشورى والمشاورة

عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا»(5).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «إذا عزمت فاستشر»(6).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «وشاور في أمرك الذين يخشون اللّه عزّ وجلّ...»(7).

وعن الإمام أبي جعفر(عليه السلام) قال: «فإن المشورة مباركة، قال اللّه لنبيه في محكم كتابه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}»(8)(9).

ص: 71


1- الخصال 1: 206.
2- ثواب الأعمال: 281.
3- سورة التوبة، الآية: 31.
4- المحاسن 1: 246.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 153.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 281.
7- الخصال 1: 169.
8- سورة آل عمران، الآية: 159.
9- تفسير العياشي 1: 205.

أهداف الحاكم المسلم

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم. أيها الناس، أعينوني على أنفسكم، وايم اللّه لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته(1) حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها»(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه»(3).

وعن الإمام الحسين(عليه السلام) قال: «اللّهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك، وسننك وأحكامك»(4).

ص: 72


1- الخِزامة: حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشد بها الزمام ويسهل قياده.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 136، ومن كلام له(عليه السلام) في أمر البيعة.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 37، ومن كلام له(عليه السلام) قاله بعد واقعة النهروان.
4- تحف العقول: 239.

انتهاء أمد اليهود في اغتصاب فلسطين

المقدمة

هذا الكتاب (انتهاء أمد اليهود في اغتصاب فلسطين) كتبته لما يظهر من حال العالَم بانتهاء الاغتصاب، وإنما تلك أيام بإذن اللّه سبحانه.

إن اليهود جاؤوا إلى فلسطين واغتصبوها أيام ضعف العالم الإسلامي، فقد سبب العثمانيون ضعف البلاد الإسلامية أيما ضعف، وبعد العثمانيين قوي العالم الغربي بمختلف فئاته، وتمكن اليهود بحبل من الناس من اغتصاب فلسطين.

وقد استمر الضعف في العالم الإسلامي إلى يومنا هذا، حيث الحكام لا يدعون الشعب المسلم من العمل والتقدم والتطور... .

ومن الواضح أن الأمة العاملة تتقدم على الأمة الهاملة غير العاملة، ومن هنا تقدم الغرب علينا.

جاءني قبل أيام شخص عرّفه أصدقاؤه بأنه معلم في الثانوية، وقالوا: إنه خبير جداً في مسح المواقع الإلكترونية.

قالوا: إنه تمكن من مسح سبعة مواقع إسرائيلية من الإنترنيت، مما أزعج اليهود حتى اكتشفوه، فأبلغت دولة إسرائيل الغاصبة أمريكا بهذا الشيء وطالبت بمطاردته، وأمرت أمريكا حكّام ذلك البلد بأن يلقوا القبض على هذا الرجل، لكنه تمكن من الهرب إلى بلد آخر، حيث اختفى حتى تهدأ العاصفة ويرجع إلى بلاده.

هذه القصة تدلنا على مدى استيلاء المستعمرين على بلاد الإسلام وعلى

ص: 73

حكّامهم، حتى إن حاكم ذلك البلد يكون رهن إشارة أولئك الأمريكيين.

ومن الواضح أن حكام المسلمين كانوا في يوم اغتصاب فلسطين في غاية الضعف، فإنهم قد غرقوا في الشهوات والمفاسد وظلم العباد، وقد أخذوا على عاتقهم إبقاء الضعف في الأمة الإسلامية، حيث لم يسمحوا للمسلمين بالعمل، وقاموا بسحق الكفاءات العلمية والعملية، ولذلك تقدم الغربيون أيما تقدم، وتأخر المسلمون أيما تأخر.

فإن العلم والعمل سر التقدم.

وإني أتذكر قبل خمسين سنة كان المتاع الياباني في العراق مثالاً للسوء والتأخر، والناس لا يشترون منه، حتى قُيّض ليابان تعدد الأحزاب بعد الحرب العالمية الثانية، فأخذوا بالعلم والعمل فتقدموا وتقدموا حتى نجدهم اليوم سبقوا العالم كله، فإنهم تقدموا على الغرب في التكنولوجيا كما هو معروف. أما العالم الإسلامي فهم متأخرون إلى اليوم، وتعيش الشعوب الإسلامية في الفقر والمآسي، وما يوجد لبعضهم من أموال النفط وغيرها فإنها تصرفها الحكام في شهواتهم وطغيانهم لا في العلم والخبروية والصناعة.

ولو صرفت هذه الأموال الطائلة في عالم الخبروية والصناعة وما أشبه ذلك من التطوير وفي العلم والعمل، لتقدم المسلمون لعله خلال عشر سنوات، لأن المسلمين قابلون للتقدم، لا لأنهم بشر فحسب والبشر له قابلية التقدم، بل لأنهم يؤمنون بأقوى المناهج التقدمية، حيث إن «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(1)، والإسلام يقدّم من تبعه إلى الأمام، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من استوىيوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة

ص: 74


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334.

في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة»(1).

فعدم الديمقراطية - بمعناها الصحيح - في بلاد المسلمين، وعدم تعدد الأحزاب، وجعل الحكم استبدادياً هو سبب التأخر، وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من استبد برأيه هلك»(2). أقول: ومن الواضح أن الهالك (من هلك) لايتمكن من إنقاذ غيره، وإنما هلك وأهلك، ويُهلِك ويَهلُك، ولعل عدم ذكر الإمام(عليه السلام) ل- : (أهلك) لوضوحه من باب التلازم العقلي والعرفي، إذ من الواضح أن فاقد الشيء لا يعطيه.

وهذا هو من أسرار تقدم الغرب واليهود على المسلمين، وغصب أراضيهم... ولكن هناك بوادر خير تفيد انتهاء أمد اليهود في اغتصاب فلسطين، بإذن اللّه تعالى.

اليهود لغةً وتاريخاً

اشارة

(اليهود) يطلق على الأمة التي اتبعت شريعة التوراة التي جاء بها النبي موسى(عليه السلام) سواء كان ذلك قبل تحريف التوراة أو بعده.

وسموا باليهود، قيل: لأنهم تابوا واهتدوا (هادوا) إلى دين النبي موسى(عليه السلام) بعد اتخاذهم العجل.

وقيل: لأنهم يتهوّدون أي يتحركون عند قراءة التوراة.

وقيل: لأن بعضهم يصل نسبه إلى يهوذا أحد الأسباط الاثني عشر والمنسوب إلى أحد أبناء يعقوب(عليه السلام).

وتسمى اليهود ببني إسرائيل أيضاً لأن بعضهم ينحدر من نسل يعقوب

ص: 75


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 668.
2- وسائل الشيعة 12: 40.

النبي(عليه السلام) وكان من ألقابه إسرائيل، ولكن يعقوب(عليه السلام) لم يكن يهودياً فإن التوراة نزلت بعده لا في عهده، بل كان يعقوب(عليه السلام) حنيفاً مسلماً على دين إبراهيم(عليه السلام). ويسمون أيضاً بالعبرانيين، نسبة إلى لغتهم العبرية.

ادعاءات لا أساس لها

ثم إنه لا صحة لما يدعيه اليهود بحقهم في فلسطين باعتبار سكناهم فيها أو سكنى جدهم يعقوب(عليه السلام).

فإن النبي يعقوب(عليه السلام) كان يعيش فترة في البادية بقرب سيناء، وقد وُلد أبوه إسحاق وعمه إسماعيل(عليهما السلام) في فلسطين وكانا من المهاجرين إليها ولم يكونوا من المستوطنين فيها، ومن بعد ذلك رحل يعقوب(عليه السلام) وبنوه إلى مصر.

وأقدَم من عُرف بأنهم من سكنة فلسطين هم الكنعانيون والآموريون وهم من الجزيرة العربية استقروا في بلاد الشام وفلسطين قبل اليهود بقرون عدة.

ثم إن أكثر اليهود المعاصرين ليسوا من نسل يعقوب(عليه السلام) فمثلاً يهود الخزر (الأشكناز) معظمهم من الوثنيين الذين تهودوا في القرن الثامن الميلادي وينحدر نسل بعضهم من البدو في أفريقيا وآسيا، كما أن ملك اليمن (تبان أسعد أبوكرب) عند ما تهوّد أكره شعبه على التهود وهم ليسوا من نسل إسرائيل، وهكذا.

أولاد يعقوب(عليه السلام)

كان ليعقوب(عليه السلام) اثنا عشر ولداً من أربع نسوة، وهم حسب بعض التواريخ:

1-6: راويين، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويسّاكر، وزبلون، من أمهم ليئة.

7-8: ويوسف وبنيامين، من راحيل.

9-10: ودان ونفتالي من زلفة.

ص: 76

11-12: وجاد وأشير من امرأة أخرى.

وفي قصة يوسف(عليه السلام) حيث أصبح عزيز مصر استوطن أخوته مصر وبقوا فيها إلى أن جاءهم فرعون واضطهدهم واستعبدهم، فبعث اللّه تعالى موسى بن عمران(عليه السلام) وهو من أحفاد لاوي بن يعقوب(عليهم السلام) ليهدي بني إسرائيل إلى عبادة اللّه تعالى عوضاً عن عبادة فرعون، ويخرجهم من الذل والظلم. ومن هنا بدأ تاريخ الديانة اليهودية، من عهد موسى(عليه السلام) وفي مصر، وليس في فلسطين.

كفر اليهود

كان اليهود سريعي الكفر والارتداد على نبيهم موسى(عليه السلام) ودينه، فلم يمض على خلاص اليهود من فرعون وجنوده فترة إلّا ظهر كفرهم على الرغم من كثرة المعجزات التي شاهدوها من النبي موسى(عليه السلام)، قال تعالى:

{وَجَٰوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٖ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٖ لَّهُمْ قَالُواْ يَٰمُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1).

وبعد أن ذهب النبي موسى(عليه السلام) لملاقاة ربه، اتخذ اليهود العِجل يعبدونه من دون اللّه، وهدّدوا النبي هارون(عليه السلام) بالقتل إن اعترض عليهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَٰتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَٰلِمُونَ}(2).

وهناك قصص كثيرة في كفر اليهود ومخالفتهم لنبيهم موسى(عليه السلام) وهي مذكورة في القرآن الكريم والروايات الشريفة والكتب التاريخية... حتى إنهمرفضوا الإيمان إلّا برؤية اللّه جهرة! ... {وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى

ص: 77


1- سورة الأعراف، الآية: 138-139.
2- سورة البقرة، الآية: 92.

اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}(1).

وقد ابتلوا بالتيه والضياع لكثرة مخالفاتهم، فلم يصلوا إلى الأرض المقدسة فترة التيه، وتوفي النبي موسى(عليه السلام) وأخوه هارون(عليه السلام) في تلك الفترة.

ومن بعدهما بعث اللّه تعالى فيهم يوشع بن نون(عليه السلام) نبياً فقاد بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ودخلوها ولكنهم أخذوا يكفرون بأنعم اللّه تعالى مرة أخرى. قال عزّ وجلّ: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}(2).

وبعد أن مات يوشع(عليه السلام) انقسم بنو إسرائيل إلى عدة قبائل وانتشرت بينهم الحروب والنزاعات وعادوا إلى عبادة العِجل وكثر فيهم الكفر والزندقة والفساد والزنا واتهام الأنبياء بأشد المحرمات، بل قتلهم للأنبياء(عليهم السلام).

وهكذا استمر كثير منهم على الكفر والعصيان والفاحشة والظلم والعدوان والمكر والخديعة إلى يومنا هذا.

وقد أضاعوا التوراة ولم يعثروا عليها أبداً، نعم ادعوا أنهم عثروا عليها في عهد الملك يوشيا. ولكنها لم تكن التوراة المنزلة من اللّه بل كتبوها بأيديهم. قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(3).

ص: 78


1- سورة البقرة، الآية: 55.
2- سورة البقرة، الآية: 58-59.
3- سورة البقره، الآية: 79.

اليهود ومحاولة قتل السيد المسيح(عليه السلام)

ولما بعث اللّه النبي عيسى(عليه السلام) ومعه المعجزات والبراهين الكثيرة على صدق نبوته، لم يؤمن به اليهود، بل حاولوا قتله، فتآمروا عليه بعد اتهامه بالكفر واتهام أمه الصديقة مريم(عليها السلام) بالفاحشة، فألقى اللّه تعالى صورة السيد المسيح(عليه السلام) على أحد حوارييه فأخذه اليهود وقتلوه صلباً وزعموا أنهم قتلوا النبي عيسى(عليه السلام). {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا}(1).

اليهود في البلاد العربية

هاجر كثير من اليهود إلى مختلف البلاد فراراً من ظلم حكامهم.

وفي عام (740 ق م) غزا الآشوريون الذين جاؤوا من العراق أرض فلسطين، ومن بعدهم حكم البابليون العراق وفلسطين، ثم هاجم الملك البابلي (بخت نصر) القدس وأخذ من كان هناك من اليهود إلى أرض بابل في العراق.

كما أنه فرّ بعض اليهود وفي عهود مختلفة إلى أرض العرب، فنزل بعضهم المدينة المنورة (يثرب) وبعضهم خيبر وتيماء واليمن وغيرها.

ولما بعث اللّه خاتم المرسلين محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الجزيرة العربية وهاجر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة أسلم كثير من اليهود، وبقي البعض منهم معانداً مصراً على رفض الإسلام، ولكن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تعامل معهم بأفضل ما يمكن، فأعطاهم حقوقهم كاملة غير منقوصة من حرية العبادة والتجارة والزراعة والسفر والإقامة وجميع حقوق المواطنة، وكذلك حماية ممتلكاتهم وأموالهم وأعراضهم وأنفسهم.

وكتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معهم عدة مواثيق في الصلح وحسن التعايش، ولكنهم

ص: 79


1- سورة النساء، الآية: 157.

غدروا بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين واتفقوا مع المشركين ودخلوا في حروب ضد المسلمين... .

وقد سجل التاريخ غدر بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، والمحاولات التي حاولوا فيها اغتيال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كاليهودية التي قدمت للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه شاة مسمومة... وغيرها من القضايا التاريخية. ومع كل ذلك عفى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهم، ثم فتح اللّه على يد الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) أقوى حصون اليهود وهي خيبر... فلم تبق لهم قوة وشوكة بعد ذلك اليوم.

تعامل المسلمين مع اليهود

تلقى اليهود على رغم نواياهم السيئة وفسادهم وإفسادهم، معاملة حسنة في البلاد الإسلامية بما ليس له مثيل في العالم، وذلك من عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا. فكان المسلمون يتعاملون معهم كبشر له حقه في الحياة، كما كتب أمير المؤمنين(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر لما ولاه مصر: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولاتكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق...»(1).

أما سائر الملل والأديان والحكّام، فتعاملوا مع اليهود تعاملاً سيئاً ربما كان ذلك نتيجة غدر اليهود وخيانتهم.

ففي عام (1298م) أمر الملك إدوارد الأول بطرد جميع اليهود من البلاد البريطانية وبكل قسوة.

وقد اضطهدهم الملك لويس التاسع في فرنسا، ثم نكل بهم الفرنسيون في عهد الملك فيليب سنة (1206م و1321م) وطردوهم من أراضيهم.

ص: 80


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53، ومن كتابه(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه مصر.

وفي إيطاليا هاجمهم باباوات الكنيسة الكاثولوكية وأثاروا الشعب عليهم حتى طردوهم سنة (1540م).

وفي ألمانيا لاقوا ما لاقوه من النازيين.

وفي روسيا قتلوا منهم الآلاف في ظل الحكم القيصري عام (1881م) وبعدها.

اغتصاب فلسطين

اجتمع اليهود عدة مرات لتأسيس دولة لهم فلم يتمكنوا، ولكنهم جهدوا واجتهدوا وعملوا ليل نهار حتى تمكنوا من ذلك وأسسوا دولة إسرائيل الغاصبة بالمكر والخديعة وإراقة الدماء وغصب الأراضي والظلم والجور.

ففي عام (1897م) حضر في سويسرا زعماء اليهود في أول مؤتمر صهيوني وقرروا فيه إنشاء (المنظمة الصهيونية العالمية) واتفقوا على تجمع اليهود في فلسطين ليكون وطناً لهم، ثم أخذوا يخططون بكل ما يمكن إلى أن حققوا هدفهم.

وكان من تخطيطهم تأسيس (الصندوق اليهودي الوطني) لشراء الأراضي في فلسطين، وعرض الرشاوى على الحكام، كما قام اليهود بشراء السلاح وتخزينه في مخازن خاصة بهم في أوروبا أيام الحرب العالمية الأولى، وعند ما احتاجت بريطانيا للسلاح وصارت مهددة بخسارة الحرب، فاوض اليهود حكومة بريطانيا بتقديم السلاح لهم مقابل توطينهم في فلسطين لتكون دولة لهم.

وقد تمكن اليهود بعد جهد طويل من (وعد بلفور) عام (1917م) حيث أصدر وزير خارجة بريطانيا (بلفور) وعده بإقامة دولة يهودية في أرض فلسطين، كان هذا نصه:

وزارة الخارجية في الثاني من نوفمبر تشرين الثاني سنة (1917م)

ص: 81

... إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية... آرثر بلفور.

وفي عهد احتلال بريطانيا لفلسطين هاجر ما يقرب من مائة وعشرون ألف يهودي إلى فلسطين وكانت تحميهم عصابات مسلحة إرهابية فقاموا باغتصاب أرض فلسطين من المسلمين.

وقد شجعت بريطانيا خلال استعمارها لفلسطين من عام (1918- 1948م) على الهجرة اليهودية، ودعمت تملك الأراضي لليهود، فتمكن اليهود إلى سنة (1948م) من بناء ثلاثمائة مستوطنة على الأراضي الفلسطينية، كما شكل اليهود ميليشيات إرهابية يزيد مقاتليها على سبعين ألفاً، فقاموا بمجازر بشعة في حق الفلسطينيين وقتل الملاّك العزّل وبل قتلوا النساء والأطفال وأبادوا المسلمين في مناطقهم.

واستمر هذا الأمر حتى سيطر اليهود على معظم الأراضي وأعلنوا عن دولة إسرائيل في (14 أيار عام 1948م) وقد هزمت قواتهم الجيوش العربية واستولت على ما يقارب من (80 بالمائة) من أرض فلسطين، كما شردوا ما يقارب من مليون فلسطيني.

وبقيت تلك الأراضي المقدسة بأيديهم إلى يومنا هذا، وذلك بسبب اتحادهم وتكاتفهم على الباطل، وتفرقنا في حقنا، مضافاً إلى أخذهم بمقومات الحياة وأسس التقدم، وتركنا لها.

اليهود وإمكان هدايتهم إلى الإسلام

اشارة

ومع ذلك كله، مِن مكر اليهود وظلمهم وعنادهم للحق، نرى الكثير والكثير من اليهود في طول التاريخ منذ بدأ الرسالة المحمدية أسلموا وحسن إسلامهم،

ص: 82

فمن هنا نقول: يمكن هداية كثير من يهود اليوم أيضاً إلى الإسلام، إذا تعرفوا على محاسن الإسلام وحسن تعاليمه.

ونحن كنا في العراق نستقبل بعض غير المسلمين لغرض هدايتهم إلى الإسلام ونطرح عليهم المسائل العقائدية، وقد تشرف العديد منهم إلى الإسلام والتشيع، وذكرنا جملة منها في كتاب (كيف ولماذا أسلموا)؟ وبعض الكتب الأخرى(1)،

وكان اليهود في العراق كغيرهم من الأقليات الدينية والمذهبية الأخرى، لكن لم يتفق لي يوماً أن يأتي يهودي ويتكلم معنا أو يباحثنا في دينه ودين الإسلام، مع العلم أن اليهود كانوا موجودين في عدد من مدن العراق، فكانوا في بغداد، وفي الشمال، بل وفي الجنوب أيضاً، حتى في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وكان في كربلاء حمام يسمى بالحمام اليهودي، كما كان في كربلاء سوق لليهود ومحلة(2) لهم. وكان يمر من زقاقنا في كربلاء يهودي يشتري بعض الأشياء المستعملة التي استغنى أهلها عنها، وما أشبه.

نعم ربما يكون من الصعب هدايتهم لكنه أمر ممكن بل واقع، والدليل عليه كما ذكر: كثرة اليهود الذين أسلموا منذ بعثة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا.

ولنا قصتان مسموعتان حول إسلام بعض اليهود المعاصرين، نذكرهما:

1- إسلام يهودي في النجف الأشرف

القصة الأولى نقلها الحاج عبد الأمير النجفي قبل أكثر من خمسين سنة، وكان وكيلاً للتاجر محسن شلاش في النجف الأشرف، قال: كان لشلاش دكاكين قد أجّرها لبعض الكسبة، وذات يوم أراد تعمير تلك الدكاكين وترميمها فأمر

ص: 83


1- مثل كتاب (مباحثات مع الشيوعيين) و(القوميات في خمسين سنة).
2- المحلة: المنطقة التي يسكنها جمع من الناس شبه الحي.

بإخلائها، فقمت بإنذار المستأجرين لأخذ أمتعتهم والخروج منها، فقبل كلهم باستثناء يهودي واحد كان مصراً على البقاء في الدكان... .

ولم يكن في ذلك اليوم قانون يحمي بقاء المستأجر وإن كان مخالفاً لعقد الإيجار، فإن هذا القانون حدث بعد الحرب العالمية الثانية وهو يخالف الشرع المبين. لذلك كان من السهل إخراجه.

قال: وأخيراً حذرت ذلك المستأجر بأنه إذا لم يخرج غداً من الدكان جئت بعمال البلدية لإفراغ الدكان قسراً، وهكذا كان يعمل آنذاك المالكون إذا عصى المستأجرون.

قال الحاج عبد الأمير: ولكني في نفس الليلة رأيت أمير المؤمنين(عليه السلام) في المنام فقال(عليه السلام) لي: دع هذا الرجل ولا تمسه بسوء، فإنه قد أسلم منذ فترة وهو ضيفنا ونحن نحترم الضيف. فقلت للإمام(عليه السلام) في المنام: سمعاً وطاعةً.

وغداً ذهبت إلى الرجل اليهودي وقلت له: لا حاجة لإفراغ الدكان، فإني رأيت الإمام(عليه السلام) في المنام وأمرني بأن أدعك ولا أجبرك على ترك الدكان، فإنه(عليه السلام) أخبرني بأنك قد أسلمت منذ فترة ولا يعلم بذلك أحد، وأنت ضيف الإمام(عليه السلام) في النجف.

فبكى الرجل بكاءً كثيراً وقال: هذا دليل آخر على أحقية الإسلام، فإني كنت يهودياً ولما رأيت حسن تعامل المسلمين انجذبت إلى الإسلام فأسلمت ولم يعلم بإسلامي أحد، حتى عائلتي لا تعلم بذلك، فمن أين علم الإمام(عليه السلام) بإسلامي؟

إنه دليل على صحة الإسلام وصدق الإمام(عليه السلام).

أقول: وهكذا كان المسلمون في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة قبل

ص: 84

خمسين سنة يتعاملون بقوانين الإسلام ويتحلون بالأخلاق الإسلامية في معاملاتهم وعباداتهم وسائر سلوكهم مع مختلف الناس من مسلمين وغيرهم.

ثم قال الرجل: إن عائلتي لا تعلم بإسلامي، فإذا جاء أجلي ومتّ فخذ جنازتي منهم وغسّلها وكفّنها وحنّطها وصلّ عليها حسب التعاليم الإسلامية وادفنها في وادي السلام في النجف الأشرف، ولا تترك جنازتي بيد أهلي، فإن يهود العراق كان إذا مات منهم أحد في النجف أو كربلاء أو ما أشبه من البلدان ذهبوا بجنازته إلى (ذي الكفل) المعروف، لأنه كان محلاً لتجمع اليهود، ولهم هناك مقبرة.

قال الحاج عبد الأمير: وبعد سنوات لما توفي الرجل أخبرت أهله بأن الرجل كان قد أسلم وأثبتّ لهم ذلك بالأدلة والقرائن، فأخذته منهم وغسّلته وكفّنته وحنّطته وصليت عليه ودفنته في وادي السلام.

وهذه القصة تدل على أن إسلام بعض اليهود المعاصرين ممن كانوا في البلاد الإسلامية مستمر إلى يومنا هذا.

2- إسلام يهودي في بغداد

وهناك قصة ثانية من هذا القبيل تدل على إسلام يهودي في زماننا، نقلها أحد تجار بغداد، قال:

تعلق في ذمتي ألف دينار من الحقوق الشرعية، وكان مبلغاً كبيراً آنذاك، فجئت إلى السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) في النجف الأشرف ودفعت له مائتي دينار، وقلت: سيدنا بقي في ذمتي ثمانمائة، وإنني أطلب يهودياً في بغداد لكنه قد تدهورت أوضاعه الاقتصادية، فاستمهلني فأمهلته، فعندما يأتيني بالثمانمائة أدفعها إليكم.

ص: 85

يقول: عند ذلك خاطبني السيد أبو الحسن(رحمه اللّه) وقال: أنت تقلّد من في مسائلك الشرعية؟

قلت: أقلّد جنابكم الكريم.

قال: فهل كلامي مقبول عندك؟

قلت: نعم.

قال: وهل تأخذ برأيي؟

قلت: نعم.

وأخذ السيد يؤكد ذلك لعدة مرات، فلما أجبته بأن كلامه مسموع مقبول قال: خذ هذه المائتين واذهب بها إلى بغداد إلى ذلك الرجل اليهودي وأبلغه سلامي ثم أعطه المائتين وقل له: إن هذه هدية من السيد الأصفهاني وقد وهبك ما في ذمتك من الثمانمائة! وعندئذ تبرأ ذمتك من الحقوق الشرعية ولا شيء عليك.

فتعجبت كثيراً وقلت: سيدنا، إن هذا المبلغ الكبير هو حق الإمام(عليه السلام) وحق السادة الكرام، فكيف تهبه ليهودي فاسق كافر لا يؤمن بالنبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا بأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)؟

فقال السيد: ألم تتعهد بقبول كلامي؟

قلت: نعم، واعتذرت من السيد، ولكنني كنت متعجباً من قرار السيد، فرجعت إلى بغداد وذهبت إلى بيت اليهودي وطرقت الباب عليه، فجاءت ابنته وراء الباب وقالت: إن أباها مريض لا يمكنه أن يستقبل أحد.

فقلت: إنني لا أريد منه المال، وإنما عندي أمانة له.

فذهبت ورجعت وقالت: تفضل.

ص: 86

فدخلت الدار وصعدت الدرج إلى غرفته وكان مريضاً نائماً على السرير، فقدمت له المبلغ وقلت له: هذه هدية من السيد أبي الحسن(رحمه اللّه) وقد وهبك ما في ذمتك من الدين المتبقي، أي الثمانمائة دينار!

قال: فتعجب الرجل اليهودي وأخذ يبكي بكاءً كثيراً، وقال: نعم تبين لي أن هذا السيد من ورثة نبينا موسى(عليه السلام) وأوصيائه.

فقلت: كلا، إنه من ورثة النبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصيائه(عليهم السلام)، وأخذت أبين له شيئاً عن نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) ودور العلماء.

فقال: علّمني كيف الدخول في الإسلام فإنني أريد أن اُسلم الآن؟

فقلت له: قل: «أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وأن علياً ولي اللّه».

فتشهد الرجل وأسلم ثم قال: لقد كنت أفكر يوم أمس بأن النبي موسى(عليه السلام) أو وصيه لو كان حياً لما تركني في هذه الشدة. وبالفعل يبدو أن خط الأنبياء مستمر بدين الإسلام.

وبعد أن أسلم اليهودي نادى عائلته وأولاده ومن كان في البيت فجمعهم وبين لهم أنه أسلم، وطلب منهم أن يسلموا، فأسلم كلهم بطوع ورغبة.

ففرحت أنا كثيراً بإسلامهم، وهناك علمت بسر ما قام به السيد أبو الحسن(رحمه اللّه).

نعم إن لين القائد وحكمته يسبب لين الناس وهدايتهم إلى الحق.

وهكذا كان يسلم اليهود فرداً فرداً، أو جماعةً جماعة في مختلف البلاد الإسلامية وبمناسبات مختلفة طول التاريخ، بل هناك جماعة من الإسرائيليين في زماننا هذا قد أسلموا، كما أن كثيراً من المشركين والكفار لا زالوا يسلمون، وكل ذلك ببركة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، وتعاليمهم الحقة، فالاهتداء إلى

ص: 87

الإسلام مستمر في جميع الشعوب وحتى في اليهود، منذ ظهور الإسلام إلى يومنا هذا، وفي التواريخ قصص كثيرة في هذه الأبواب(1).

زواج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) باليهودية

تزوج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بامرأة من اليهود وهي صفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، فوقعت أسيرة فأعتقها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتزوجها، فصارت زوجة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، كما تزوج مارية القبطية المسيحية بعد ما أسلمت، وكان قد أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، في قصص مشهورة.

وقد أراد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك الاقتراب من اليهود والنصارى بالمصاهرة، حتى يلين قلوبهم ويؤمنوا برسالته، حيث كانت المصاهرة خصوصاً في الزمان القديم من أسباب الاقتراب واللين.

نعم إن بعض اليهود كانوا شديدي التعصب، ولم يؤمنوا عناداً، على رغم أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحسن تعامله معهم، فقد نقل عن صفية: أن أباها وعمها خرجا ذات يوم صباحاً يريدان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لينظرا في كلامه وأنه حق أم لا؟ فخرجا أول الصبح إلى المدينة المنورة ولم يرجعا إلّا في الليل.

تقول صفية: فسمعتهما وكان يقول أحدهما للآخر: هل هو نبي حقاً؟

فقال صاحبه: أي واللّه إنه نبي وهو الذي بشّر به موسى(عليه السلام). فقال الأول: وهل تؤمن به؟

قال صاحبه: لا واللّه، وإنما بيني وبينه السيف حتى أموت!،

وهكذا صار، فقد خالفا الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أن ماتا(2).

ص: 88


1- انظر: كتاب (قصص من اليهود) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- انظر: إعلام الورى: 69.

السعي لهداية اليهود

من اللازم السعي لهداية يهود اليوم إلى الإسلام، كما أسلم كثير من يهود الأمس.

وقد ذكرت في كتاب (هؤلاء اليهود) حيث كتبته قبل أربعين سنة، وفي غيره(1):

بأنه من الممكن هداية اليهود في فلسطين وفي غيرها إلى الإسلام، فهم بشر كسائر الناس، لهم قابلية الهداية. وإنما هناك عوامل حرّفتهم وجعلت كثيراً منهم يعاند الحق ولا يقبل به، منها:

ضغوط فرعون القاسية التي ضغطت عليهم كثيراً حتى جعلتهم يعاندون حتى مع نبيهم موسى(عليه السلام)...

قال تعالى: {وَجَٰوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٖ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٖ لَّهُمْ قَالُواْ يَٰمُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(2).

إلى غير ذلك من القصص الكثيرة المذكورة في القرآن الحكيم وغيره من تعمدهم وعنادهم وعدم استقامتهم على الطريقة الصحيحة ومخالفتهم لما أمره النبي موسى(عليه السلام)، وذلك لخلفياتهم في أيام فرعون الطويلة الشديدة.

هذا بالإضافة إلى أنهم تبعوا علماءهم المنحرفين الذين كتبوا لهم التلمود فصارت عقيدة عندهم، واستمروا عليها إلى هذا اليوم، فإن العقيدة تؤثر في الإنسان أثراً كبيراً.

ومع ذلك فإني أرى أن اليهود في يومنا هذا قابلون للهداية وقبول الإسلام إذاعرض عليهم بلين ولطف وحكمة وبالتي هي أحسن كما قاله القرآن الكريم(3).

ص: 89


1- انظر: (الأقصى المبارك)، و(من قصص اليهود)، للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- سورة الأعراف، الآية: 138.
3- قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} سورة فصلت، الآية: 34.

وقد أسلم أحد كبار علماء اليهود قبل أكثر من مائة سنة وكان من أهل يزد، وكتب كتاباً طبع في أصفهان.

مشكلة اليهود في أنفسهم

ثم إن هناك مشكلة في اليهود تسبب عدم محبوبيتهم بين الشعوب وفي مختلف الدول التي يعيشون فيها، من هنا نرى أنهم لا يتمكنون عادةً من البقاء في دولة، والمشكلة في أمرين:

1- التخطيط للسيطرة على اقتصاد البلد.

2- ونشر الفساد في المجتمع.

فهم يعملون بكل خبث للسيطرة على اقتصاد الدولة ونهب أموال الشعب واحتكار الثروات لأنفسهم، ومن الواضح أن الدول والشعوب لا تتحمل ذلك، فاليهود يسعون لجمع أموال الناس عبر مختلف الطرق، الشرعية وغير الشرعية، بالحق أو الباطل، بالربا وغيره، وجعلها تحت نفوذهم. ومن هنا نرى أنهم كانوا منبوذين في مختلف الأمم، وربما أخرجوا من البلاد، ورأينا قبل خمسين سنة أن هتلر كيف فعل بهم، وإن كان اليهود قد أضافوا على ذلك كثيراً ليستفيدوا ظلامة لأنفسهم.

وقبل عشرات السنين أعطاهم البريطانيون أرض فلسطين في قصة مشهورة يوم كانوا محتاجين إليهم في الاستعمار، فلما تقلص استعمارهم أخذوا في الابتعادعنهم، وجملة من الحركات المعارضة لإسرائيل اليوم هي من اعمال البريطانيين.

نعم أمريكا تحتضنهم اليوم، لاحتياجها إليهم احتياجاً واقعياً واحتياجاً تصورياً، وبعد أيام سيخرجونهم من البلاد بعد أن يحددوا من نشاطهم.

وكثير من الذين أتوا من أمريكا وكندا قالوا: إن الشعب الأمريكي منزعج من

ص: 90

اليهود أيما انزعاج.

وفي بعض الإحصاءات: إن اليهود يسيطرون على نحو 14% من الاقتصاد الأمريكي مع أن عددهم حوالي 2% من الشعب الأمريكي. وهكذا لهم سيطرة على الاقتصاد البريطاني وغيرها من الدول الأوروبية. مضافاً إلى أنهم كانوا يعاملون الناس بالربا وأخذ الفوائد الجشعة منهم.

هذا هو الأمر الأول.

والأمر الثاني: إن اليهود ينشرون الفساد الأخلاقي في المجتمع، ويبيحون الجنس والدعارة حتى مع زوجاتهم وبناتهم وأولادهم، وذلك لإفساد الناس وسحب أموالهم.

وهذا يوجب غضب الناس عليهم، فالنساء لا تحبهم، والرجال لا يحبونهم، لأن الشخص يرى ضياع ولده أو ابنته أو زوجته بمكرهم وتعلماً منهم أو مؤامرةً عليهم وبفعلهم.

فاليهود من وراء نشر الدعارة والخلاعة والتجارة بالجنس في العالم، حتى إنهم أخذوا ينشرون زنا المحارم في المجتمعات لإفسادها، وقد ابتكروا أساليب منوعة في ترويج العاهرات وإفساد الشباب والفتيات.

وهذان سببان ينتهيان إلى انزعاج الناس منهم والسعي لإخراجهم وطردهم من مختلف البلاد، حتى غير الإسلامية منها. وقد دعا الرئيس الأمريكي الأسبق(بنجابين فرنكلين) في سنة (1789م) إلى طرد اليهود من أمريكا، حيث وقف الرئيس أمام المجلس التأسيسي لوضع الدستور الأمريكي وقال:

أيها السادة، في كل أرض حل بها اليهود أطاحوا بالمستوى الخلقي وأفسدوا الذمة التجارية فيها، وما زالوا منعزلين لا يندمجون بغيرهم، وقد أدى بهم الاضطهاد إلى العمل على خنق الشعوب مالياً كما هي الحال في البرتغال

ص: 91

واسبانيا... إذا لم يبعد هؤلاء من الولايات المتحدة بنص دستورها فإن سيلهم سيتدفق إلى الولايات المتحدة في غضون مائة سنة إلى حد يقدرون معه على أن يحكموا شعبنا ويدمروه ويغيروا شكل الحكم الذي بذلنا في سبيله دماءنا، ولن تمضي مائتا سنة حتى يكون مصير أحفادنا أن يعملوا في الحقول لإطعام اليهود...، إنني أحذركم أيها السادة إنكم إذا لم تبعدوا اليهود نهائياً فسوف يلعنكم أبناؤكم وأحفادكم في قبوركم.

من أخطاء اليهود

اشارة

ثم إن من أكبر أخطاء اليهود أنهم بعد ما غصبوا فلسطين فعلوا كل جريمة ومنكر بحق الشعب الفلسطيني، حيث أبادوا المسلمين إبادة جماعية وقتلوا حتى النساء والأطفال، مما سبب انزعاج العرب وغير العرب منهم. ومن الواضح أن الظلم لا يدوم، وقد جاء في الأثر: الظالم قصير العمر.

اليهود وغصب فلسطين

اغتصب اليهود فلسطين، كما اغتصبها من قبلهم المسيحيون وبقوا(1) في فلسطين مائتي سنة، كما يذكره التاريخ، ولم يخرجهم من فلسطين إلّا توحيد الجهد من المسلمين لإخراجهم، فأخرجوا منها. وبقيت فلسطين بيد المسلمينألف سنة.

ولما قوي الاستعمار الغربي وضعف المسلمون في هذا القرن الأخير بشكل خاص، خططوا لإخراج المسلمين من فلسطين، وإسكان اليهود فيها، ولكن كان إسكانهم في فلسطين خطأً، سيكشف عنه التاريخ، وقد ظهرت بوادر الخطأ في هذا الإسكان، فبينما كان اليهود لهم جيش لا يقهر - كما يقولون - أصبحوا في

ص: 92


1- أي المسيحيون.

مشاكل لا تنتهي، وهم في حالة حرب مع المسلمين خمسين سنة، أليست هذه مشكلة لهم.

والسبب الرئيسي في بقاء فلسطين تحت سيطرة اليهود أن حكام المسلمين صاروا عملاء للغرب، ومن الواضح أن المسلمين الذين يريدون إنقاذ بلدهم من اليهود إذا كان يحكمهم العملاء لا يمكنهم أن يفعلوا شيئاً.

فإذا حكم بلاد الإسلام من لم يكن عميلاً - وهو أحد أسباب النجاح، واجتمعت سائر المقومات أيضاً - نجح المسلمون في إرجاع أراضيهم وإخراج اليهود من فلسطين.

مكانة بيت المقدس عند المسلمين

إن لبيت المقدس والمسجد الأقصى مكانة خاصة في دين المسلمين، ويقرؤونه في قرآنهم كل يوم، قال سبحانه: {سُبْحَٰنَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَٰتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(1) ومن المعلوم أن الشيء إذا كان جزءاً من الدين ومن عقيدة المسلمين فلا يمكن للسياسة أن تتدخل فيه حتى تفصله عن الأمة، فمهما حاول الغربيون أن ينسى المسلمون قضية فلسطين، أو إعراضهم عنها، أو إلغاء هذه الوضعية الجارية، لا يتمكنون.

القبلة الأولى

إن بيت المقدس هي القبلة الأولى للمسلمين، وقد صلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) وأصحابه نحو بيت المقدس في مكة ثلاث عشرة سنة، وكذلك بعد هجرته في المدينة عدة أشهر(2).

ص: 93


1- سورة الإسراء، الآية: 1.
2- قيل: إنها سبعة عشر شهراً. وقيل تسعة عشر، وقيل تسعة، وقيل عشرة، وقيل ثلاثة عشر، وقيل سبعة. انظر: مستدرك الوسائل 3: 171.

فإن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين الذين كانوا يتوجهون إلى الكعبة، فلما هاجر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة كان اليهود هناك يتوجهون إلى بيت المقدس، فأمر اللّه نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يتحول إلى الكعبة.

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجره إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال: ثم وجهه اللّه تعالى إلى الكعبة...»(1).

إذن بيت المقدس هي القبلة الأولى للمسلمين لمدة أربع عشرة سنة.

قصة الإسراء

وكان بيت المقدس محطة في إسراء نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حيث دخلها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصلى فيها، ومنها عرج إلى السماء. قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«صليت بأصحابي صلاة العتمة بمكة معتماً، فأتاني جبريل بدابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل، فاستصعب عليّ فأدارها بأذنها حتى حملني عليها، فانطلقت تهوي بنا، تضع حافرها حيث أدرك طرفها، حتى انتهينا إلى أرض ذات نخل، قال: انزل، فنزلت، ثم قال: صلّ، فصليت.

ثم ركبنا، قال لي تدري أين صليت؟ قلت: اللّه أعلم؟

قال: صليت بيثرب صليت بطيبة.

ثم انطلقت تهوي تضع حافرها حيث أدرك طرفها حتى بلغنا أرضاً بيضاء، قال لي: انزل، فنزلت، ثم قال لي: صل، فصليت، ثم ركبنا، قال: تدري أين صليت؟

قلت: اللّه أعلم ورسوله.

قال: صليت بمديَن، صليت عند شجرة موسى(عليه السلام).

ص: 94


1- بحار الأنوار 19: 196، ومستدرك الوسائل 3: 171-172.

ثم انطلقت تهوي بنا تضع حافرها حيث أدرك طرفها ثم ارتفعنا قال: انزل، فنزلت، فقال: صلّ فصليت ثم ركبنا فقال: تدري أين صليت؟ قلت: اللّه أعلم.

قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح بن مريم.

ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها الثامن فأتى قبلة المسجد فربط دابته ودخلنا المسجد من باب فيه مثل الشمس والقمر فصليت من المسجد حيث شاء اللّه، وأخذ مني العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر عسل، أرسل إلي بهما جميعاً، فعدلت بينهما ثم هداني اللّه فأخذت اللبن فشربت حتى فرغت به جبى وبين يدي شيخ متكئ فقال: أخذ صاحبك الفطرة أو قال بالفطرة. ثم انطلق بي حتى أتيت الوادي الذي بالمدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابي.

قلت: يا رسول اللّه كيف؟ قال: مثل الحمة السخمة.

ثم مررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم فسلمت عليهم فقال بعضهم لبعض هذا صوت محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة، فأتاني أحدهم فقال: يا رسول اللّه أين كنت الليلة فقد التمسناك في مكانك فلم نجدك؟ قال: إني أتيت بيت المقدس الليلة.

فقال: يا رسول اللّه إنه مسيرة شهر صفه لي.

ففتح لي شراك كأني أنظر إليه، لا يسألوني عن شيء إلّا أنبأتهم عنه. فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة.

قال: نعم وقد مررت بعير لكم في مكان كذا قد أضلوا بعيراً لهم بمكان كذا وكذا وأنا مسيرهم لكم ينزلون بكذا ثم يأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل أدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوتان، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون

ص: 95

حتى كان قريباً من نصف النهار أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل كالذي وصف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1).

فتح القدس

وعلي أي حال فالقدس كانت تعني لجيوش المسلمين التي أرسلت لفتح الشام أكثر مما كانت تعنيه بلدان الشام الأخرى حتى قبل أن تفتح المدينة المقدسة، وقد ذكر الواقدي والذي توفى سنة (207ه ق) في حديثه عن القدس يقول:

ولقد بلغني أن المسلمين باتوا تلك الليلة - السابقة على الاشتباك مع جيش الروم الموجودين في القدس - كأنهم ينتظرون قادماً يقدم عليهم من شدة فرحهم بقتال أهل بيت المقدس، وكل أمير يريد أن يفتح على يديه فيتمتع بالصلاة فيه والنظر إلى آثار الأنبياء، قال: فلما أضاء الفجر أذن وصلّت الناس صلاة الفجر، فقرأ إمامهم هذه الآية بعد الحمد: {يَٰقَوْمِ ادْخُلُواْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ}(2).

وكذلك قرأ سائر أئمة الجماعة هذه الآية المباركة مع أصحابهم كأنهم كانواعلى ميعاد(3).

ثم نشبت الحرب بين المسلمين والروم إلى أن جاءهم أمير الروم وتحدث مع أمير المسلمين عن قداسة المدينة عند المسيحيين، فقال أمير المسلمين: نعم إنها شريفة ومنها أسري بنبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى السماء ودنا من ربه قاب قوسين أو أدنى، وإنها معدن الأنبياء(عليهم السلام) وقبورهم فيها، ونحن أحق منكم بها. وهذه القضية

ص: 96


1- انظر: مجمع الزوائد 1: 73، والخرائج والجرائح 1: 24، والتبيان في تفسير القرآن 6: 446.
2- سورة المائدة، الآية: 21.
3- انظر: فتوح الشام 1: 231.

حدثت في السنة الخامسة عشر من الهجرة.

بيت المقدس مسكن الأنبياء(عليهم السلام)

وكان عدد من الأنبياء(عليهم السلام) من بعد النبي موسى(عليه السلام) يسكنون بيت المقدس وما حوله، فبارك اللّه في تلك المواطن بأن باعد الشرك عنها، ولهذا سميت بيت المقدس لأنها قُدّست أي طهّرت عن الشرك(1).

المسجد الأقصى

وسمي الأقصى، لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، لأن الذين نزل فيهم القرآن كانوا من أهل مكة(2)، قال تعالى: {سُبْحَٰنَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا}(3).

والمسجد الأقصى هو مسجد سليمان بن داوود، وكان (المسجد) يسمى مسجداً وبهذا اللفظ حتى قبل الإسلام، كما ورد في قصة أصحاب الكهف: {قَالَالَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}(4)، وقد سمى سليمان بن داود(عليه السلام) هذا المسجد مسجداً(5).

فصل: روايات في القدس الشريف

اشارة

تكرر في الروايات ذكر بيت المقدس والمسجد الأقصى، وقد جمعنا بعضها في كتاب (الأقصى المبارك).

ص: 97


1- انظر: تفسير مجمع البيان 6: 218.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 6: 218.
3- سورة الإسراء، الآية: 1.
4- سورة الكهف، الآية: 21.
5- انظر: التبيان في تفسير القرآن 6: 446.

دعاء سليمان(عليه السلام) لمن يزور بيت المقدس

وفي نقل لم أره مروياً عن المعصوم(عليه السلام) أنه لما فرغ نبي اللّه سليمان(عليه السلام) من بناء بيت المقدس، ذبح ثلاثة آلاف بقرة وسبعة آلاف شاة، ثم قال: «اللّهم من أتاه من ذي ذنب فاغفر له ذنبه، أو ذي ضر فاكشف ضره» قال: فلا يأتي أحد بيت المقدس إلّا أتاه من دعوة سليمان خيراً كثيراً(1).

نور إلى بيت المقدس

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «ما من عبد يقرأ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}(2) إلى آخر السورة، إلّا كان له نور من مضجعه إلى بيت اللّه الحرام. فإن كان من أهل بيت اللّه الحرام كان له نور إلى بيت المقدس»(3).

قصور الجنة

وعن الإمام الرضا عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أربعة من قصور الجنة في الدنيا: المسجد الحرام ومسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومسجد بيتالمقدس ومسجد الكوفة»(4).

الصلاة نحو بيت المقدس

وعن الحلبي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سألته هل كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصلي إلى بيت المقدس؟ قال:نعم، وقلت: أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال: أما إذا كان بمكة فلا، وأما إذا هاجر إلى المدينة فنعم، حتى حُوّل إلى الكعبة»(5).

ص: 98


1- الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل 1: 242.
2- سورة الكهف، الآية: 110.
3- ثواب الأعمال: 107.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 369.
5- الكافي 3: 286.

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما بُعث كانت الصلاة إلى بيت المقدس فكان في أول مبعثه يصلى إلى بيت المقدس جميع أيام مقامه بمكة، وبعد هجرته إلى المدينة بأشهر، فعيّرته اليهود وقالوا: إنك تابع لقبلتنا، فأنف رسول اللّه ذلك منهم، فأنزل اللّه تعالى عليه وهو يقلب وجهه في السماء وهو ينتظر الأمر: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَىٰهَا...}(1)(2).

الصلاة تعدل حجة أو عمرة

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال لأبي حمزة الثمالي: «المساجد الأربعة المسجد الحرام ومسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومسجد بيت المقدس ومسجد الكوفة، يا أبا حمزة الفريضة فيها تعدل حجة، والنافلة تعدل عمرة»(3).

ألف صلاة

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «صلاة في بيت المقدس ألف صلاة، وصلاة فيالمسجد الأعظم مائة صلاة، وصلاة في مسجد القبيلة خمس وعشرون صلاة، وصلاة في مسجد السوق اثنتا عشرة صلاة، وصلاة الرجل في بيته وحده صلاة واحدة»(4).

سبعة عشر شهراً

وعن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): متى صُرف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الكعبة؟ قال: «بعد رجوعه من بدر وكان يصلي في المدينة إلى

ص: 99


1- سورة البقرة، الآية: 144.
2- مستدرك الوسائل 3: 173.
3- من لا يحضره الفقيه 1: 229.
4- تهذيب الأحكام 3: 253.

بيت المقدس سبعة عشر شهراً ثم أعيد إلى الكعبة»(1).

الزيتون

وعن موسى بن جعفر عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«إن اللّه تبارك وتعالى اختار من البلدان أربعة: فقال عزّ وجلّ:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}(2): التين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة»(3).

شيعة فلسطين

وفي الرواية: سمعت الصادق(عليه السلام) يقول: «قدم وفد من فلسطين على الباقر(عليه السلام)، فسألوه عن مسائل فأجابهم، ثم سألوه عن الصمد، فقال: تفسيره فيه، الصمد خمسة أحرف...» الحديث(4).

إلى غيرها من الروايات الشريفة.وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب واللّه الموفق للصواب.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 100


1- وسائل الشيعة 4: 298.
2- سورة التين، الآية: 1-3.
3- معاني الأخبار: 365.
4- معاني الأخبار: 7.

إنقاذ العتبات المقدسة

مستقبل العراق والعتبات المقدسة

قال اللّه تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(1).

الكلام عن وضع العتبات المقدسة والمشاهد المشرفة في العراق لاينفصل عن وضع العراق ككل، وما يحيط بذلك من الملابسات.

وبشكل عام فالذي نطمح إليه في ما يخصّ وضع العتبات المقدسة هو: أن تتمتع باستقلالية تامة، لا تخضع فيها لأيّة حكومة ظالمة، وذلك بأن تكون تحت إدارة حرة ومستقلة ضمن بلد حر لايحكمه أي قانون مستبد، بل يستمد دستوره من مبادئ الإسلام الحنيف من القرآن الحكيم والسنة المطهرة المروية عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) حتى يتسنى لجميع المسلمين السفر إليها وزيارتها دون قيد أو شرط.

وكذا الكلام بالنسبة للحوزة العلمية حيث اللازم استقلاليتها إذ إن حرية الدين والمعتقد ليست حِكراً على أحد، بل هي ملك عام لجميع الناس وخاصة المعتقدين بها. ومن هنا يجب أن تكون أبوابها مفتوحة للجميع دون موانع أو قيود وأن تكون محل احترام الجميع.

والسؤال هو: هل بإمكاننا تحرير العراق والعتبات المقدسة فيه من القبضة

ص: 101


1- سورة الحج، الآية: 32.

البعثية المستبدة، ونجعلها مفتوحة أمام المسلمين؟

والجواب: إنه ممكن وغير بعيد ولكن بشرط أن نقوم بتقديم ما يوازي هذا الطموح، وأن نعمق هذا المفهوم في أذهان الناس ليشعروا بأهميته، ويصبح من شغلهم الشاغل وذلك بعد أن نرفع مستوى تفكيرهم ونجعلهم يستشعرون حقيقة الواقع المأساوي الذي يعيشونه ونقنعهم بضرورة مواصلة العمل وتجاوز الصعوبات لتحقيق أهدافهم الدينية المقدسة.

البيان والقلم

اشارة

من أهم الوسائل التي يجب اتباعها لتعميق الوعي وتحديد الأهداف هي اتباع طريقي البيان والقلم، واستخدامهما بما يخدم قضايانا الإسلامية ويعمق الوعي وينشر الثقافة الدينية لدى شعوبنا الإسلامية. فيقوم الخطباء الكرام وطلبة العلوم الدينية بالتبليغ ونشر المبادئ والتعبئة لذلك من خلال منابرهم وخطاباتهم ومحاوراتهم مع مختلف الناس، وأن يجعلوا هذا الأمر - إنقاذ العتبات المقدسة من قبضة الأنظمة الظالمة - المحور الأساسي لخطاباتهم وتحركاتهم في الداخل والخارج، كما أن مهمة الكتّاب والمفكرين نشر ذلك بواسطة أقلامهم وإمكاناتهم، وأن يكثفوا الحديث حول المطلب الذي يخص الوضع في العراق والسياسة اللاإنسانية للبعثيين مع الشعب العراقي ووضع العتبات المقدسة والحوزات العلمية هناك، فيذكروها في كتبهم وتأليفاتهم ومقالاتهم التي تنشر في الصحف والمجلات.

فعلى هاتين الطائفتين (المبلغين والكتّاب) الاهتمام بهذا الأمر اهتماماً مركزاً بدون فتور أو كسل أو يأس، بل بعزم وتصميم راسخين، والاعتقاد به وبتحقيقه اعتقاداً جازماً وكأنه واقع قريب. وهذان الأمران وهما التصميم والاعتقاد لهما تأثير إيجابي كبير على مجمل واقع الحركة ومدى تحقيقها لأهدافها المنشودة،

ص: 102

والملاحظ هو أن جميع المعتقدات الصحيحة أو الباطلة تعتمد في ظهورها على هذين العاملين (اللسان والقلم) ولكن للأسف الشديد فإن الكثير من المسلمين بصورة عامة وبعض الشيعة بصورة خاصة غافلون عن تأثيرهما في المجتمع بكل جوانبه واتجاهاته وبلورة الرأي العام وتوجيهه الوجهة الصحيحة.

تعميق الوعي وتعبئة الرأي العام

بعد انتصار ثورة العشرين التي هزّت عرش الإنجليز في العراق ووفاة قائد الثورة المرجع الديني الأعلى الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) استطاع الإنجليز أن يلتفوا على العراق مرة أخرى وبصيغة جديدة إذ نصبوا (فيصل)(1) ملكاً على العراق وقد انطلت المؤامرة على بعض الثائرين نتيجة قلة الوعي، ووقف البعض الآخر ضد المؤامرة من أمثال السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) والشيخ محمد حسين النائيني(رحمه اللّه) حيث عارضا ترشيح (فيصل) وأي مرشح آخر في ظل الانتداب، وشددوا على تشكيل الحكومة الإسلامية المستقلة عن الأجنبي استقلالا تاماً، وظهر واضحاً هذا المواقف عندما كان فيصل يزور المناطق الشيعية فلم يكن علماء الدين في استقباله، وكان الاستقبال الشعبي ضعيف جداً خصوصاً في كربلاء والنجف، وبعد فترة أمر فيصل (صالح حمام)(2) بنفي مراجع التقليد ورجال الدين من النجف الأشرف وكربلاء المقدسة إلى إيران، وفي اليوم المحدد لرحيلهم ذهب الناس لوداعهم في منطقة المخيم في كربلاء المقدسة إلى باب بغداد (وهي المنطقة التي تؤدي إلى بغداد) وكانت حالة الحزن والبكاء والتضرع بادية عليهم وهم يودعون العلماء، ويقولون

ص: 103


1- فيصل الأول (1883-1933م).
2- كان مدير شرطة كربلاء المقدسة.

لهم لا تنسونا بالدعاء عند مرقد الإمام الرضا(عليه السلام)!!

هكذا كانت ردة فعل الناس تجاه هذا الحدث المؤلم، فالناس أخذوا ينصرون العلماء بالدموع والحزن فقط من دون أن يتخذوا موقفاً عملياً في هذا السبيل، وكان بامكانهم تغيير مسار الحدث في حينه لو أنهم تصرفوا بوعي وأدركوا خطورة تصرف الحكومة تجاه مراجعهم وعلمائهم وما لذلك من أثر في المستقبل وكونه خطوة أولى ستتبعها خطوات أخر أشد خطورة وأكثر تأثيراً، وللأسف الشديد لم يبد أحد من الناس إعتراضه المؤثر واستنكاره الشديد على الحكومة لاتخاذها هذا الإجراء الظالم ضد العلماء والمراجع؛ لذا فإن الحكومة أوصلت القرار وأبعدتهم إلى إيران.

بعد مدة قال (صالح حمام) - وهو المسؤول عن عملية إبعاد العلماء إلى إيران - : كان لدينا أمر من الجهات العليا في الدولة بأنه إذا اعترض الناس ولو جزئياً وصدرت ردود فعل منهم بهذا الاتجاه احتجاجاً على تسفير هؤلاء العلماء، أو تكلموا ضد قرار الدولة وطالبوا برفع هذا الحكم عنهم فإنه سيتعين علينا الغاء القرار وترك العلماء يعودون إلى ما كانوا عليه، ولكن الناس لم يبدوا أي اعتراض على ذلك لذا طبقنا ما أمرنا به.

نعم، هكذا تتبين خطورة الدور المهم للسان والقلم في تعميق الوعي وتعبئة الرأي العام لتحقيق الأهداف اللازمة. فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ليس وراء ذلك شيء من الإيمان»(1).

وقد اهتم الإسلام كثيراً بالرأي العام لما له من أثر في استقرار وضع المجتمع ومتطلباته واستعداداته في مختلف الجوانب، فقد كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 104


1- عوالي اللئالي 1: 431.

يستشير أصحابه حول الحرب وغيرها من الأمور المهمة الأخرى.

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول للأمة: «فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل»(1).

فنظرة الإسلام للرأي العام تتوازى مع ما له من أثر في صنع القرارات والتوجيهات وما يمثله من مقياس لمدى تأييد أو رفض الشعب لسياسة الدولة في الإطار الشرعي.

العقل المدبر

إذن فالمرحلة الأولى لإنقاذ العراق والعتبات المقدسة هي تعبئة الرأي العام وتجنيد القلم واللسان لهذه المهمة.

أما المرحلة الثانية فهي الالتفاف حول العقل المدبر ونقصد به الشخصية الإسلامية بل شورى الشخصيات الإسلامية التي تتمكن من قيادة الأمة وتشخص أهدافها بدقة ووعي للمسؤولية الملقاة على عاتقها، ومتى ما توحّد الشعب العراقي والتفّت الجماهير المسلمة حول قيادة شورى الفقهاء المراجع فعندها يكون من الممكن بل والمؤكد أن يسقط حزب البعث العراقي - صنيعة الاستعمار وأعوانه - وما جند له من المرتزقة وهو يجر أذيال الخيبة والهزيمة.

وهذا الأمر ليس أمراً بعيداً أو مجرد أمنية، وإنما مسيرة الأحداث عند الكثير من شعوب العالم تثبت ذلك في الماضي والحاضر، ومستقبل العالم يقاس دائماً على الماضي، وإلى ذلك يشير الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «صدق بما سلف من الحق واعتبر بما مضى من الدنيا فان بعضها يشبه بعضاً وآخرها لاحقبأولها»(2).

ص: 105


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 216، من خطبة له(عليه السلام) خطبها بصفين.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 420.

المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) الذي كان يعتبر العقل المدبر في ثورة العشرين في العراق وأدار الشعب بحكمة فائقة وبالخصوص الشيعة منهم، واستطاع أن يسقط هيبة الاستعمار البريطاني بمعاونة العشائر والأحزاب والشعب بما فيهم بعض أبناء السنة الذي التفّوا حوله، هذا الاستعمار الذي كان مسيطراً على الهند لمدة (300) عام، لم يتمكن من البقاء في العراق وقد خسر الاستعمار في تلك الظروف في العراق خسائر كثيرة في الأرواح والأموال، وقد ذكرت بعض الإحصاءات أن عدد القتلى من الإنكليز بلغ عشرات الآلاف.

هكذا تكون القيادة الإسلامية

ثم إن القيادة الإسلامية تهتم بجميع جوانب الحياة ما يرتبط بسعادة الشعب، فهي توفر لهم التوعية والثقافة، كما تهتم باقتصادهم وعمرانهم وما أشبه.

ومن هنا يلزم ضمان حرية العتبات المقدسة لكي يزورها جميع الناس ويتعرفوا على منهج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام).

نعم هكذا نرى إن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يهتم بكل شؤون الناس ويداريهم ويعلمهم جوانب الحياة ويرسم لهم منهاج الحياة، ولذلك التفوا حوله واعتنقوا الإسلام ديناً ومنهاجاً لحياتهم.

فيقول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض»(1).

ويقول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش»(2).

ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «عنوان العقل مداراة الناس»(3).

إن الناس يشخصون الحق والباطل والصدق والكذب بسهولة ويسر،

ص: 106


1- الكافي 2: 117.
2- الكافي 2: 117.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 465.

ويشخصون من يمثلهم بكل صدق ومن يحقق أمانيهم وطموحاتهم ويسلك بهم السبيل الأمثل، لذا فإنهم التفوا حول الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنه يقودهم إلى النجاح الذي يكمن فيه سر قوتهم وتقدمهم، وليس هناك طريق واضحة معالمه غير الإسلام الصحيح الذي مثله أهل البيت(عليهم السلام) خير تمثيل، أما إسلام حكام الجور الذي جعلوا الناس ينفضّون عن الإسلام بسبب أفعالهم وظلمهم وجرائمهم التي كانت تزداد يوماً بعد آخر فإنه شيء لايدوم.

جواب عن إشكال

من الممكن أن يخطر في أذهان البعض هذا الإشكال وهو: كيف حقق الغربيون هذا التقدم الحضاري الهائل في مجالات الصناعة والتكنولوجيا وبعض المجالات الأخرى إلى درجة أن العالم أصبح ألعوبة بأيديهم فيوجهونه كيفما شاءوا باتجاه منافعهم وأطماعهم وآمالهم، بالرغم من ابتعادهم عن أوامر اللّه سبحانه وتعالى وشريعته السمحاء؟

والجواب: إن هؤلاء عرفوا بعض طرق التقدم في الحياة فاخذوا يسيرون في الطرق التي جعلها سبحانه وتعالى تكويناً للتقدم باعتبار أن الدنيا دار أسباب لا دار أماني، قال تعالى في كتابه الحكيم: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

فاللّه سبحانه وتعالى رسم طريق التقدم ولم يقصره على أمة دون أخرى أوطائفة دون أخرى، ونحن إذا سرنا في نفس الطريق ستصبح أزمة الدنيا بأيدينا، واذا كان عملنا في سبيل اللّه تعالى أصبحت الدنيا والآخرة في نصيبنا، أما إذا تركنا العمل بسنن اللّه الكونية فمعنى ذلك إنه نخسر كل شيء حتى نخسر

ص: 107


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

العتبات المقدسة لائمتنا الطاهرين(عليهم السلام) فلن يكون بإمكاننا زيارتها بكامل حريتنا كما هو الحال في يومنا هذا.

العلم والعمل أسسا التقدم

من أبرز الطرق التي حددها اللّه سبحانه وتعالى للرقي والتقدم هي: العلم والعمل، فهما ركنا التقدم، وقد ركزت الشريعة المقدسة على الاهتمام بالعلم لأنه هو الذي يقود الحياة نحو التقدم.

يقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «العلم يرفع الوضيع، وتركه يضع الرفيع»(2)، وقال(عليه السلام): «اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة»(3).

وطبعاً العلم يكون طريقاً للتقدم متى كان مرتبطاً بالعمل فمن يرد أن يسلك هذا الطريق بجد فعليه أن يدرك التلازم الوثيق بينهما، قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إحدى وصاياه لابن مسعود قال فيها: «يا ابن مسعود، إذا عملت عملاً فاعمل بعلم وعقل، وإياك وأن تعمل عملاً بغير تدبر وعلم، فإنه جلّ جلاله يقول: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا}»(4)(5).

ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم يرشدك والعمل يبلغ بك الغاية»(6).

ص: 108


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- بحار الأنوار 75: 6.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
4- سورة النحل، الآية: 92.
5- مكارم الأخلاق: 458.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 115.

وعن إتقان العمل يقول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه»(1).

هذا هو طريق التقدم فمن يسلك طريق العلم والعمل المتقن يتقدم، ومن يخلّ بهما يتأخر من أي أمة أو شعب كان، فقد تقدم أعداؤنا في بعض جوانب حياتهم لأنهم سلكوا هذا الطريق ولو قليلاً وتأخرنا نحن لأننا ابتعدنا عنه.

الدعاء

ثم إن ما ذكرناه من لزوم سلوك طرق التقدم لا يعني الغفلة عن الدعاء والجانب الغيبي فإن هناك أمور كثيرة تتعاضد كلها فتؤدي إلى النتيجة المطلوبة، وأحد تلك الأمور الدعاء والتوسل بأهل البيت(عليهم السلام) قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(2).

وقال سبحانه في آية أخرى: {وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}(3).

فإن اللّه عزّ وجلّ هو الغني المطلق وليس لنا إلّا الدعاء والتضرع لنحصل على استجابته تعالى لدعائنا وقضاء حوائجنا، ولنستمد منه التوفيق لكن للاستجابة شروط منها العمل بالمنهج الذي رسمه الباري عزّ وجلّ تكويناً أو تشريعاً، فاللازم أن يكون دعاؤنا مقترناً بعلمنا الصالح وهكذا توسلنا بأهل البيت الأطهار(عليهم السلام).

مستقبل العراق

اشارة

لا بد من توفر ثلاثة أمور في العراق لنتمكن من خلالها إنقاذ العتبات

ص: 109


1- نهج الفصاحة: 305.
2- سورة الفرقان، الآية: 77.
3- سورة المائدة، الآية: 35.

المقدسة من السياسة الجائرة تجاهها وحفظ استقلاليتها، وكذلك إنقاذ الشعب العراقي من الظلم والاستبداد اللذين فرضهما نظام البعث الصدامي عليه، ولكي نرسم بعض الملامح المستقبلية للعراق علينا أن نبين المقومات الأساسية التي تضمن حرية العراق وإدارة عتباته المقدسة، وهي أمور منها:

1- المؤسسات الدستورية

فاللازم أن توجد للناس قدرة قوية ومؤثرة مقابل قدرة الدولة تعادلها وتوازيها، بل وأقوى منها؛ لأنه يلزم أن لا توجد قدرة أقوى من إرادة الشعب إلّا قدرته سبحانه وتعالى، وهذه القدرة يجب أن تظهر من خلال القنوات الحرة الإعلامية المختلفة كشبكات الإذاعة والتلفزة والصحف والمجلات والبرامج الأخرى، وهكذا الأحزاب والجمعيات والتكتلات المختلفة، لأن هذه الأمور هي التي تحد من طغيان الدولة واستبدادها، وبهذه الوسائل ستكون الأجهزة الرسمية في الدولة مسؤولة مسؤولية مباشرة أمام الشعب في إدارة ثرواته وما تتخذه من آراء وأعمال ومواقف سياسية، أو اقتصادية أو في المجالات الأخرى، حيث يطالبها الشعب عبر هذه الوسائل بالأدلة والبراهين كما يطالبها بالإيضاحات والاستفسارات عن قراراتها المتخذة في كل الشؤون.

وبهذا لا يستطيع رئيس الدولة أو المسؤولون أن يستبدوا في الحكم أو يخدعوا الشعب أو ينهبوا ثرواته؛ ولهذا فعندما كانت الصحف والمجلات حرة بعض الشي في العراق لم يكن للدولة الجرأة على نقض القوانين الحقوقية والمدنية للشعب، إذ كان هناك توزيع نسبي للقدرة السياسية في العراق ويتمثلهذا التوزيع في ثلاث قدرات رئيسية كانت تتحكم في صدور القرارات وتوجهاتها، وتشكل قوة مراقبة كبيرة على الحكومة حتى تخضع إلى رغبات الشعب وتطلعاته وكانت هذه القدرات:

ص: 110

1- قدرة الحكومة التي تعتبر سلطة قانونية.

2- قدرة المراجع وتعتبر سلطة دينية.

3- قدرة العشائر وكانت سلطة عسكرية.

إضافة إلى ما تشكله الأحزاب والتكتلات الأخرى في حينه من قدرات واسعة النفوذ، وقد كان العلماء يسيّرون بعض اتجاهات السلطة، ولا يدعون مجالاً للحاكم بالاستبداد وقمع الشعب، لأن العلماء بسلاح الفتوى والتقليد كانوا يقودون العشائر التي هي الأخرى تحترم وتطيع العلماء، وتلتزم بأوامرهم للحيلولة دون انفراد الحكومة بالسلطة وقمع الشعب.

2- التعددية الحزبية

ثم إن من الضروري تشكيل الأحزاب وإيجاد تعددية حزبية حسب الموازين الإسلامية تحت نظر المراجع والمجتهدين، وبهذه الوسيلة يمكن أن نحتوي شبابنا المسلم وننقذه من مخاطر السقوط في مهاوي الأفكار والثقافات الفاسدة كالشيوعية الملحدة، والأحزاب والحركات المنحرفة الأخرى المرتبطة بأعداء الشعوب وأعداء الإسلام أو اللجوء إلى أماكن الفساد والتحلل الخلقي، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن التعددية الحزبية تضمن تعدد مراكز القدرة وتوزيعها وتساعد على بناء العراق وتقدمه، لأنها تبرز مسألة الرقابة بين الأحزاب والحركات والتي يسميها القرآن منافسة كما أشار إلى هذا في قوله تعالى: {وَفِيذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(1)، وتشجع النقد البناء، فإن للمنافسة دور مهم وفعّال في حل المشكلات وتذليل الصعوبات التي تعترض طريق التقدم والازدهار،

ص: 111


1- سورة المطففين، الآية: 26.

وذلك لإن كل حزب يريد أن يسبق الأحزاب الأخرى في قيادة البلد نحو الخير والرفاه فيعمل أكثر ويقدم أكثر الخدمات في طريق الرفاه الاقتصادي وبقية الجوانب الأخرى ليحظى بتأييد ومؤازرة الأمة.

3- شورى المراجع

خلق اللّه تعالى الأفراد مختلفين في أشكالهم وأذواقهم، والناس على طول التاريخ لم تكن أفكارهم وعقائدهم موحّدة ولما لم تجتمع أفكارهم لتشكيل فكرة جامعة وأيديولوجية مشتركة تولدت أمامهم مشاكل وصعاب لا يمكن تلافيها أو حلها، والشورى وإن كانت مسألة معروفة وسهلة التصور إلّا أن تحققها صعب ويحتاج إلى جهود كبيرة، ولكنها ممكنة وبملاحظة تحققها ولو نسبياً في إدارة بعض الدول في عالم اليوم تتوضح المسألة بشكل أكثر.

مثلاً لدولة سويسرا شورى مؤلفة من سبعة أفراد يشكلون المجلس الرئاسي، وبذلك يحتل منصب رئيس الدولة سبعة رؤساء لكل منهم في حدود تخصصه وإدراته وزير ووزارة، ولذا تراهم لايعانون في كثير من الأحيان من مشاكل الاستبداد والديكتاتورية مثل الانفراد بالرأي ومصادرة حقوق وأفكار الآخرين، بالشكل الذي نعانيه نحن في بلادنا.

فالاستشارة ضرورية جداً وما طبقت في مجال إلّا سببت تقدمه وازدهاره، بينما الاستبداد لا يؤدي إلّا إلى الإنهيار والتأخر، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تستبدبرأيك فمن استبد برأيه هلك»(1).

وذلك لأن الاستشارة تعرّف الإنسان على الخطأ والصواب وتجنبه الأخطاء والعثرات وتأخذ بيده إلى الطريق السليم على عكس الاستبداد.

ص: 112


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 752.

وفي الختام نؤكد على لزوم السير قدماً على ضوء خطى القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) حتى بلوغ الأهداف المطلوبة من أجل خدمة مبادئ الإسلام الحنيف، والقضاء على الظلم والاستبداد الذي يخيم على أمتنا الإسلامية، وننقذ العتبات المقدسة والحوزات العلمية من خلال إنقاذنا للأمة حتى لا تكون معالجتنا مبتورة ومحدودة.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

العلم

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).

وقال سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).

العلماء

قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}(4).

وقال سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن

ص: 113


1- الكافي 3: 424.
2- سورة الجمعة، الآية: 2.
3- سورة البقرة، الآية: 269.
4- سورة فاطر، الآية: 28.

مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(2).

وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).

من أخلاق خاتم الأنبياء(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(4).

وقال سبحانه: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(5).

قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ...}(6).

قال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(7).

أهمية العقل

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(8).

ص: 114


1- سورة الأنعام، الآية: 122.
2- سورة المجادلة، الآية: 11.
3- سورة الزمر، الآية: 9.
4- سورة القلم، الآية: 4.
5- سورة آل عمران، الآية: 159.
6- سورة التوبة، الآية: 61.
7- سورة الأعراف، الآية: 199.
8- سورة آل عمران، الآية: 190.

قال سبحانه: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1).

قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(2).

النظر في العاقبة

قال سبحانه: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ}(3).

قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٖ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}(4).

قال سبحانه: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(5).

قال تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُنذَرِينَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

زيارة العتبات المقدسة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من زارني حيّاً وميتاً كنت له شفيعاً يوم القيامة»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أتمّوا برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حجكم إذا خرجتم إلى بيت اللّه، فإن تركه جفاء وبذلك أمرتم، وأتموا بالقبور التي ألزمكم اللّه عزّ

ص: 115


1- سورة البقرة، الآية: 242.
2- سورة الملك، الآية: 10.
3- سورة الروم، الآية: 42.
4- سورة فاطر، الآية: 44.
5- سورة الزخرف، الآية: 25.
6- سورة يونس، الآية: 73.
7- قرب الإسناد: 65.

وجلّ حقها وزيارتها واطلبوا الرزق عندها»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا حج أحدكم فليختم حجه بزيارتنا لأن ذلك من تمام الحج»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أن الحسين بن علي(عليهما السلام) كان يزور قبر الحسن(عليه السلام) في كل عشية جمعة»(3).

الدعاء ودفع البلاء

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ادفعوا أمواج البلاء بالدعاء، ما المبتلى الذي قد اشتد به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالدعاء يستدفع البلاء»(5).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إن الدعاء بعد نزول البلاء لاينتفع به»(6).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إن الدعاء يستقبل البلاء فيتوافقان إلى يوم القيامة»(7).

الالتفاف حول الإمام(عليه السلام) وإطاعته

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «ذروة الأمر، وسنامه، ومفتاحه، وباب الأشياء، ورضىالرحمان تبارك وتعالى، الطاعة للإمام بعد معرفته»(8).

ص: 116


1- الخصال 2: 616.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 262.
3- قرب الإسناد: 139.
4- الدعوات للراوندي: 21.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 299.
6- عوالي اللئالي 4: 20.
7- فلاح السائل: 29.
8- الكافي 1: 185.

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما نظر اللّه عزّ وجلّ إلى ولي له، يجهد نفسه بالطاعة لإمامه والنصيحة، إلّا كان معنا في الرفيق الأعلى»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}(2) قال: السماء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفعه اللّه إليه، والميزان أمير المؤمنين(عليه السلام) نصبه لخلقه» قلت: {أَلَّا تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ}(3)؟ قال: «لا تعصوا الإمام» قلت: {وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ}(4) قال: «أقيموا الإمام بالعدل»، قلت: {وَلَا تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ}(5)؟ قال: «لا تبخسوا الإمام حقه ولا تظلموه...»(6).

حسن التدبير

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أدل شيء على غزارة العقل حسن التدبير»(7).

وقال(عليه السلام): «طول التفكير يصلح عواقب التدبير»(8).

وقال(عليه السلام): «لا عقل كالتدبير»(9).

سوء التدبير

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «سبب التدمير سوء التدبير»(10).

ص: 117


1- الكافي 1: 404.
2- سورة الرحمن، الآية: 7.
3- سورة الرحمن، الآية: 8.
4- سورة الرحمن، الآية: 9.
5- سورة الرحمن، الآية: 9.
6- تفسير القمي 2: 343.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 202.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 437.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 767.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 397

وقال(عليه السلام): «من ساء تدبيره كان هلاكه في تدبيره»(1).

وقال(عليه السلام): «يستدل على الإدبار بأربع: بسوء التدبير، وقبح التبذير، وقلة الاعتبار، وكثرة الاغترار»(2).

في العقل وأحواله

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما قسم اللّه للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإفطار العاقل أفضل من صوم الجاهل وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث اللّه رسولاً ولا نبياً حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضله من عقول جميع أمته، وما يضمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نفسه أفضل من اجتهاد جميع المجتهدين وما أدى العاقل فرائض اللّه حتى عقل منه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، إن العقلاء هم أولوا الألباب، الذين قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}»(3)(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «نظرت في كتاب لعلي(عليه السلام) فوجدت في الكتاب أن قيمة كل امرئ وقدره معرفته، ان اللّه تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا»(5).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «ان للّه على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجةباطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول»(6).

ص: 118


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 636.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 799.
3- سورة الزمر، الآية: 9.
4- المحاسن 1: 193.
5- معاني الأخبار: 1.
6- الكافي 1: 16.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أصل العقل الفكر، وثمرته السلامة»(1).

المشورة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «شاوِرْ في أمورك الذين يخشون اللّه ترشد»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن المشورة لا تكون إلّا بحدودها... فأولها أن يكون الذي يشاوره عاقلاً، والثانية أن يكون حراً متديناً، والثالثة أن يكون صديقاً مواخياً، والرابعة أن تطلعه على سرك فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثم يستر ذلك ويكتمه، فإنه إذا كان عاقلاً انتفعت بمشورته وإذا كان حراً متديناً جهد نفسه في النصيحة لك، وإذا كان صديقاً مؤاخياً كتم سرك إذا اطلعته على سرك فكان علمه به كعلمك تمت المشورة وكملت النصيحة»(3).

وقال(عليه السلام): «... لا تشاور من لا يصدقه عقلك، وإن كان مشهوراً بالعقل والورع»(4).

الهداية إحياء

عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(5)؟

قال(عليه السلام): «من حرق أو غرق»، قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟قال: «ذاك تأويلها الأعظم»(6).

وعن أبي بصير، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا

ص: 119


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 198.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 413.
3- المحاسن 2: 602.
4- مصباح الشريعة: 153.
5- سورة المائدة، الآية: 32.
6- الكافي 2: 210.

النَّاسَ جَمِيعًا}؟ قال: «من استخرجها من الكفر إلى الإيمان»(1).

وعن سماعة، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: قول اللّه {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(2)؟

قال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى فقد أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها»(3).

قضاء الحوائج

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد اللّه دهره»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من ذهب مع أخيه في حاجة، قضاها أو لم يقضها كان كمن عبد اللّه عمره»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أوحى اللّه تعالى إلى موسى(عليه السلام): إن من عبادي لمن يتقرب إليّ بالحسنة فأحكمه في الجنة، فقال موسى(عليه السلام): يا رب ما تلك الحسنة؟ قال: يمشي في حاجة أخيه المؤمن قضيت أو لم تقض»(6).

ص: 120


1- تفسير العياشي 1: 313.
2- سورة المائدة، الآية: 32.
3- تفسير العياشي 1: 313.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 481.
5- مصادقة الإخوان: 68.
6- مصادقة الإخوان: 66.

آثار الظلم في الدنيا والآخرة

عاقبة الظلم

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الظلم في الدنيا بوار، وفي الآخرة دمار»(1).

يجب على الإنسان أن يبتعد مهما استطاع عن الظلم؛ لأن عناءه يزول عمّن ظلمه ويبقى وزره عليه، فإن الظالم يرى عقوبة ظلمه في العوالم الثلاثة جميعاً:

أولاً: في الدنيا، وذلك عن طريق الأمراض والآلام التي يتعرض لها في حياته بسبب ما ارتكبه من جرائم، فإن الآلام والأمراض قد تكون من باب الامتحان والاختبار، وذلك لتخفيف بعض ذنوبه التي ارتكبها في دنياه، وكلامنا لا يتضمنها، وقد تكون عقوبة دنيوية على ظلمه للناس، فكم من الظالمين أصيبوا في هذه الدنيا بأمراض نفسية وجسدية أودت بحياتهم بعد ذلّ عاشوه.

ثانياً: في البرزخ، فالظالم إذا لم ير عاقبة ظلمه في الدنيا فإنه يراها في عالم البرزخ.

وثالثاً: في الآخرة، حيث تكون نار جهنم بانتظارهم{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٖ}(2).

ص: 121


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 90.
2- سورة ق، الآية: 30.

عالم البرزخ

البرزخ: ما بين كل شيئين، وقيل: هو الحاجز بين الشيئين، وهو ما بين الدنيا والآخرة قبل الحشر: من وقت الموت إلى البعث فمن مات دخل البرزخ(1)، أي هو عالم متوسط بين الموت والبعث يوم الحساب، وبين عالم الدنيا وعالم الآخرة، وقد صرّح القرآن الحكيم بالبرزخ في قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(2).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «البرزخ: القبر، وفيه الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة»(3).

فإذا كانت أعمال الإنسان في الدنيا صالحة تنعّم في قبره، وإن كانت غير صالحة كالظالم مثلاً كان قبره حفرة من حفر النيران - نعوذ باللّه تعالى - .

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران... وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في آخر صلاته: وأعوذ بك من عذاب القبر»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... من خان جاره شبراً من الأرض جعله اللّه طوقاً في عنقه من تخوم الأرض السابعة حتى يلقى اللّه يوم القيامة مطوقاً إلّا أن يتوب ويرجع. ألّا ومن تعلم القرآن ثم نسيه متعمداً لقى اللّه يوم القيامة مغلولاً، ويسلط اللّه عليه بكل آية منها حية تكون قرينه إلى النار إلّا أن يغفر له... ألّا ومن زنى بامرأة مسلمة أو يهودية أو نصرانية أو مجوسية حرة أو أمة ثم لم يتب ومات مصرّاً عليه

ص: 122


1- انظر: لسان العرب 3: 8، مادة (برزخ).
2- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
3- تفسير القمي 1: 19.
4- بحار الأنوار 6: 205.

فتح اللّه له في قبره ثلائمائة باب تخرج منه حيات وعقارب وثعبان النار، فهو يحترق إلى يوم القيامة، فإذا بعث من قبره تأذى الناس من نتن ريحه فيعرف بذلك وبما كان يعمل في دار الدنيا حتى يؤمر به إلى النار...»(1).

عالم القيامة

العالم الثالث الذي سيراه الظالم نتيجة ظلمه ويعاقب فيه، هو يوم القيامة، فإذا لم يتخلص الإنسان من ذنوبه في الدنيا والبرزخ، بسبب عظمتها وكثرتها، فلا بد من العقاب في القيامة، حيث يأتي العبد يوم القيامة وقد سرّته حسناته، فيجيء الرجل فيقول: يا رب ظلمني هذا، فيؤخذ من حسناته فيجعل في حسنات الذي سأله، فما يزال كذلك، حتى لا تبقى له حسنة، فإذا جاء من يسأله، نظر إلى سيئاته فجعلت مع سيئات الرجل، فلا يزال يستوفي منه حتى يدخل النار(2).

وفي خطبة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس إنه من لقي اللّه عزّ وجلّ يشهد أن لا إله إلّا اللّه مخلصاً لم يخلط معها غيرها دخل الجنة» فقام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: «يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمي كيف يقول مخلصاً لا يخلط معها غيرها فسّر لنا هذا نعرفه؟»

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نعم حرصاً على الدنيا وجمعها من غير حلها ورضي بها، وأقوام يقولون أقاويل الأخيار ويعملون عمل الجبابرة والفجار، فمن لقى اللّه وليس فيه شيء من هذه الخصال وهو يقول: لا إله إلّا اللّه فله الجنة، فإن أخذ الدنيا وترك الآخرة فله النار ومن تولى خصومة ظالم أو أعانه عليها نزل به ملك الموت بالبشرى بلعنة اللّه ونار جهنم خالداً فيها وبئس المصير ومن خف لسلطان جائر

ص: 123


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 427.
2- انظر: تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 260.

كان قرينه في النار، ومن دل سلطاناً على الجور قرن مع هامان، وكان هو والسلطان من أشد أهل النار عذاباً ومن عظّم صاحب دنيا وأحبه لطمع دنياه سخط اللّه عليه وكان في درجته مع قارون في الباب الأسفل، ومن بنى بيتاً رياءً وسمعة حمله يوم القيامة إلى سبع أرضين ثم يطوقه ناراً يوقد في عنقه ثم يرمى به في النار» فقيل له: يا رسول اللّه كيف يبني رياءً وسمعة؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يبني فضلاً على ما يكفيه أو يبني مباهاة، ومن ظلم أجيراً أجره أحبط اللّه عمله وحرم عليه ريح الجنة وريحها يوجد من خمسمائة عام، ومن خان جاره شبراً من الأرض طوقه اللّه تعالى يوم القيامة إلى سبع أرضين نار حتى يدخله جنهم، ومن تعلم القرآن ثم نسيه متعمداً لقى اللّه يوم القيامة مجذوماً ومغلولاً ويسلط اللّه عليه بكل آية حية موكلة به، ومن تعلم القرآن فلم يعمل به وآثر عليه حب الدنيا وزينتها أستوجب سخط اللّه تعالى وكان في الدرجة مع اليهود والنصارى الذي ينبذون كتاب اللّه وراء ظهورهم ومن نكح امرأة حراماً في دبرها أو رجلاً أو غلاماً حشره اللّه تعالى يوم القيامة أنتن من الجيفة يتأذى به الناس حتى يدخل جهنم ولا يقبل اللّه منه صدقا ًولا عدلاً وأحبط اللّه عمله ويدعه في تابوت مشدوداً بمسامير من حديد ويضرب عليه في التابوت بصفائحه حتى يبشك يتشبك في تلك المسامير فلو وضع عرق من عروقه على أربعمائة أمة لماتوا جميعاً، وهو من أشد الناس عذاباً»(1).

أنواع الظلم

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لايغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لايغفر فالشرك باللّه، قال اللّه

ص: 124


1- ثواب الأعمال: 281.

تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}(1)، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات(2)، وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً»(3).

وقال(عليه السلام): «شر الزاد إلى المعاد احتقاب ظلم العباد»(4).

يعبر الإمام(عليه السلام) عن الشرك باللّه تعالى بالظلم الذي لا يغفر لماذا؟

لأن معنى الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالمشرك ظالم؛ لأنه جعل غير اللّه تعالى شريكاً له، ووضع العبادة في غير محلها، وهكذا العاصي ظالم؛ لأنه وضع المعصية موضع الطاعة وهذا لا يغفر له؛ لأن المغفرة تكون لمن يعتقد بالغفار، أما الذي لا يعتقد باللّه أصلاً فكيف ينتظر غفرانه.

وأما الظلم الذي يغفر فهو ظلم الإنسان نفسه بارتكابه صغائر الذنوب أو الكبائر التي لا تصل إلى حد الشرك باللّه تعالى قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(5).

وأما الظلم الذي لا يدعه اللّه عزّ وجلّ، فهو ظلم الناس بعضهم لبعض، وإن تاب الظالم، لكن اللّه تعالى لا يتركه إلّا برضا المظلوم أو التعويض للمظلوم بما لحقه من ضرر.

فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يؤمن بالمعاد من لم يتحرَّج عن ظلمالعباد»(6).

ص: 125


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- الهَنات - جمع هَنة - الشيء اليسير والعمل الحقير.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176، من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبيّن فضل القرآن وينهى عن البدعة.
4- الإرشاد 1: 300.
5- سورة النساء، الآية: 48.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 788.

وقال(عليه السلام): «من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده»(1).

وقال(عليه السلام): «... وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص هناك شديد ليس جرحاً بالمُدى(2) ولا ضرباً بالسياط ولكنه ما يستصغر ذلك معه»(3).

جزاء الظالم يوم القيامة

اشارة

هناك روايات كثيرة تشير إلى عذاب يوم القيامة. وسنشير إلى بعضها؛ فمثلاً: الشخص الذي يظلم أخاه المؤمن، بالتعدي عليه، سواء بجوارحه أو بلسانه، يرى رد فعل ظلمه في الآخرة.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... وإياكم والظلم، فإن الظلم عند اللّه هو الظلمات يوم القيامة...»(4).

وقال أيضاً(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من ضرب بسوط ظلماً اقتص منه يوم القيامة»(5).

وهناك سؤال قد يدور في أذهان البعض:

فهل جزاء الذي يضرب شخصاً بصفعة، أن يقابل بعشرين صفعة يوم القيامة؟

لكن اللّه سبحانه يقول في القرآن الحكيم: {وَجَزَٰؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}(6) أي أن الإنسان يعاقب بمقدار جرمه، في ما إذا لم يشمله العفو من عند الباري عزّ وجلّ،حيث بيّن سبحانه وتعالى الحد في هذه الآية، لئلا يتجاوز المظلوم عن مقدار ما ظلم، انتقاماً وتشفياً، {وَجَزَٰؤُاْ سَيِّئَةٖ} يوردها الظالم {سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}

ص: 126


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 605.
2- المُدى - جمع مُدية - وهي السكين.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176، ومن خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبيّن فضل القرآن وينهى عن البدعة.
4- الخصال 1: 176.
5- نهج الفصاحة: 771.
6- سورة الشورى، الآية: 40.

يوردها المظلوم، وسميت سيئة من باب المزاوجة، لأن الرد يشبه التعدي في الشكل، وإن خالفه في المقصد والواقع.

جزاء القتل

وكذلك فإن العقل يدل على هذا الأمر أيضاً؛ إذ جزاء السيئة في الدنيا عقوبة بقدرها في الآخرة ولكن الموازين تختلف والمحاسبة دقيقة تراعي جميع الجوانب {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1) قد يكون جزاء القتل بالآخرة، هو خمسين سنة من الإحراق والتعذيب؛ وذلك لأن المذنب يحاسب على مقدار أذاه، فإذا كان مقدار الأذى الذي يراه المقتول خمسين درجة، فبمقدار ذلك الأيلام يحاسب القاتل، كمثل الذي يستقرض ألف دينار ويعطي قرضة بشكل أقساط خلال خمسين سنة، وذلك لأن اللّه سبحانه وتعالى عادل، ولا يجازي المذنب بأكثر من جزائه.

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «من ظلم سلط اللّه عليه من يظلمه»(2).

حبس الحق

وعن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «يا يونس، من حبس حق المؤمن، أقامه اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة، خمسمائة عام على رجليه، حتى يسيل عرقه أو دمه، وينادي مناد من عند اللّه: هذا الظالم الذي حبس عن اللّه حقه، قال فيوبّخ أربعين يوماً ثم يؤمر به إلى النار»(3).

الحق عند أمير المؤمنين(عليه السلام)

ومن كلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) يتبرأ من الظلم: «واللّه لأن أبيت على حسك

ص: 127


1- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
2- الكافي 2: 332.
3- الكافي 2: 367.

السعدان مسهّداً، أو أجرَّ في الأغلال مصفَّداً، أحب إليّ من أن ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة، ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنَفسٍ يُسرِعُ إلى البِلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها؟!

واللّه لقد رأيت عقيلاً وقد أملق، حتى استماحني من بُرِّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنما سوّدت وجوههم بالعِظلِم(1).

وعاودني مؤكداً، وكرر عليّ القول مردداً، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتَّبع قياده، مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجَّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من مِيسَمِها(2)، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبّارها لغضبه! أتئن من الأذى ولا أئن من لظى؟! وأعجب من ذلك، طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها(3)، كأنما عجنت بريق حية أوقيئها، فقلت: أصِلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرَّم علينا أهل البيت! فقال: لاذا ولا ذاك، ولكنّها هدية، فقلت: هبلتك الهبول(4)،

أعن دين اللّه أتيتني لتخدعني؟

أمختبط أنت، أم ذو جِنة أم تهجر؟

واللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي اللّه فينملة أسلبها جلب شَعيرة ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها.

ص: 128


1- العِظْلِم: سواد يصبغ به.
2- ميسم: بكسر الميم وفتح السين المكواة.
3- شنئتها: كرهتها.
4- هبِلَتك: ثكلتك، والهَبول: المرأة لا يعيش لها ولد.

ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ باللّه من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين»(1).

إمهال الظالم

الجاني الذي يقترف جريمة قتل مثلاً في مجتمعه الذي يعيش فيه، يكون لجريمته جوانب عديدة، فمن جانب إنه أزهق نفساً زكية، ومن الجانب الآخر أخلّ بالأمن الاجتماعي، واستهان بقيمة الإنسان والإنسانية، ومن جانب ثالث أدخل الحزن والأسى في قلوب الآخرين بعد أن فقدوا أحد أبنائهم أو أعزتهم وقد تكون هنالك جوانب عديدة أخرى. فما هو جزاؤه إذن؟

وقد يحصل في بعض الحالات أن الظالم لا ينال جزاءه في الدنيا، فهل هذا يعني أنه في الآخرة يترك ولا يعاقب؟ كلا، بل إن اللّه للظالمين بالمرصاد، وإمهال اللّه للظالم لا يعني تركه أبداً.

فإن لحكمة إلهية علمها عند اللّه كما يقول في كتابه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(2).

وقد جاء في التفسير لهذه الآية المباركة: أي لا يظن {الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ} الإملاء: الإمهال، أي: أن إطالتنا لأعمارهم وإمهالنا إياهم، وتوفير المال والجاه لهم ليس خيراً لهم، فإن الخير هو الذي لا يسبب شراً وعقاباً. و{أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} نطيل عمرهم ونعطيهم ما نعطيهم؛ {لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا} ومعصية،فإنهم باعراضهم عن الحق وخبث بواطنهم استحقوا العقاب والعذاب، لكن حيث لا عقاب على الخبث الباطني فقط، كان الإمهال مُظهراً لذلك

ص: 129


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 224 من كلام له(عليه السلام) يتبرأ من الظلم.
2- سورة آل عمران، الآية: 178.

الخبث، فبقاؤهم موجب لزيادة عقوبتهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يهينهم علاوة على ألمه وكربه(1).

وقد جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوله: «إن اللّه تعالى يمهل الظالم حتى يقول: أهملني، ثم إذا أخذه أخذه أخذة رابية»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه حمد نفسه عند هلاك الظالمين، فقال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}»(3)(4).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «ولئن أمهل اللّه الظالم، فلن يفوت أخذه، وهو له بالمرصاد، على مجاز طريقه، وبموضع الشجا من مساغ ريقه»(5).

والمجاز: محل العبور، من جاز بمعنى مرّ، والشجى هو ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه، ومساغ الريق: أي ممره من الحلق، فإن ماء الفم يمر من الحلق بسهولة إلى الباطن، وهذا تمثيل لقرب ترقب اللّه سبحانه للظالم، حتى كأنه سبحانه في حلقه، فإذا أراد أخذه جعل هناك شجى فلا يتمكن من شرب الماء.

وقد قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}(6).

أثره على المظلوم

للظالم الأثر الواضح على المظلوم في جوانب عديدة، أقلها أنه استهان

ص: 130


1- تفسير تقريب القرآن 1: 422.
2- كنز الفوائد 1: 135.
3- سورة الأنعام، الآية: 45.
4- كنز الفوائد 1: 135.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 97، من خطبة له(عليه السلام) في أصحابه وأصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
6- سورة ق، الآية: 16.

بقيمته وكرامته، سواء بغصب حقه، أو بأكل ماله، أو الاعتداء عليه... .

فعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): سباب المؤمن فسق وقتاله كفر، وأكل ماله معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه»(1).

مضافاً إلى أن الظالم استهان أيضاً بالأوامر والأحكام الإلهية التي تؤكد على عدم الظلم، ومما لا شك فيه أن الشخص الذي يرتكب ظلماً، سيترك أثراً سيئاً على الشخص المظلوم، والقضاء العادل الذي يكون في يوم القيامة يحاسب جميع هذه التأثيرات، ولذا فإن الظالم سيلاقي جزاءه حتماً، إما آجلاً أو عاجلاً، والجزاء العاجل قد يكون من ظالم آخر، يسلطه اللّه عليه، بسبب ظلمه الناس، حيث قال عزّ وجلّ: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2).

فعن علي بن عيسى قال: معناه إنا كما وكلنا هؤلاء الظالمين من الجن والإنس بعضهم إلى بعض يوم القيامة وتبرأنا منهم، فكذلك نكل الظالمين بعضهم إلى بعض يوم القيامة، ونكل الاتباع إلى المتبوعين، ونقول للأتباع: قولوا للمتبوعين حتى يخلصوكم من العذاب، وقيل: والغرض بذلك إعلامهم أنه ليس لهم يوم القيامة وليّ يدفع عنهم شيئاً من العذاب(3).

وأصرح من ذلك ما ورد عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال: «ما انتصر اللّه من ظالم إلّا بظالم...»(4).

أثره على المجتمع

إن المجتمع الذي تكثر فيه حالة الظلم، لا بد وأن تكثر فيه الاضطرابات

ص: 131


1- الزهد: 11.
2- سورة الأنعام، الآية: 129.
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 163.
4- الكافي 2: 334.

المختلفة، وحالة عدم الاستقرار، وتترتب عليه آثار وخيمة جداً في نفوس أبناء المجتمع، خصوصاً إذا كان الحاكم نفسه ظالماً لشعبه، مستبداً برأيه، لا يهمه سوى مصالحه الشخصية، وبقائه في الحكم مدة أطول. وهذا شيء لا ينكر وقد صرح به علماء الاجتماع أيضاً، والتاريخ ينقل لنا شواهد كثيرة بهذا الخصوص؛ ومن هنا ترى أن الإسلام أكد على صيانة المجتمع بدءاً من قيادته إلى عموم الرعية، فجعل هناك شروطاً وصفات لا بدّ من توفرها في الحاكم والرئيس، بحيث لا تنحرف القيادة عن طريق الحق، ولاتنتهي بالأمة إلى أسوأ مصير.

نعم، لقد فطن الإسلام إلى ذلك الأمر الخطير، فاشترط شروطاً مهمة في الحاكم، ومنها: الإيمان، العدالة، التفوق في الدراية السياسية، وقد أشار الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى هذه الناحية فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللّه، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم»(1).

أثره في التجاوز على القانون

الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي على الناس، بَيد أن الناس داخل النظام الإسلامي متساوون في ما بينهم بالحقوق والواجبات، وهذا ما يؤكد عليه التاريخ في حياة الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حيث عمّ الرفاه في الدولة الإسلامية، بحيث لم يرَ في ذلك الوقت أي نوع من الظلم والإرهاب.

لكننا في الوقت الحاضر بعد أن أهملنا العمل بالكثير من التوصيات التيأوصانا بها القرآن والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، نجد الظلم والفساد وغيرها من الفواحش قد كثرت في غالب المجتمعات المسلمة، وهذه بدورها قد انعكست على سمعة

ص: 132


1- الكافي 1: 407.

القوانين الإسلامية.

إن المجرم الذي يقترف جريمة ما، فإنه بدوره قد خرج عن قوانين الحكومة، وتمرد عليها، وضرب بها عرض الحائط؛ مما يؤدي إلى الاختلال والاضطراب في ميزان قوانين تلك الدولة. ثم إن من الثابت: إن القوانين الإلهية ثابتة، لا يطرأ عليها أي تغيير أو تبديل، وهي القوانين العادلة المنسجمة مع فطرة الإنسان، أما بالنسبة إلى المجرم فلم يسكت عنه الإسلام من دون النظر إليه، بل يواجهه بأسلوب حاسم حفظاً للمجتمع، فترى لكل جريمة جزاءً مناسباً، بالشرائط الشرعية المخصوصة، وبذلك تتمكن الحكومة الإسلامية من السيطرة على الاختلال الذي قد يصيبها نتيجة وجود أفراد مسيئين، علماً بإن الإسلام يحل المشاكل بمعالجة جذور الجريمة قبل كل شيء، فتقل الجرائم في المجتمع الإسلامي، وتفصيل هذا البحث في مظانه.

روي أن في التوراة مكتوباً: من يظلم يخرب بيته(1).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنما يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرك أن تسوءه، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب أخيه هتكت عورات بيته...، أذكر عند الظلم عدل اللّه فيك، وعند القدرة قدرة اللّهعليك»(2).

السكوت عن الظلم

وقال عيسى بن مريم(عليه السلام) في موعظة لحواريه:

ص: 133


1- كنز الفوائد 1: 135.
2- كنز الفوائد 1: 136.

«إن الحريق ليقع في البيت الواحد، فلا يزال ينتقل من بيت إلى بيت، حتى تحترق بيوت كثيرة، إلّا أن يستدرك البيت الأول فيهدم من قواعده، فلا تجد فيه النار معملاً، وكذلك الظالم الأول لو يؤخذ على يديه لم يوجد من بعده إمام ظالم فيأتمون به، كما لو لم تجد النار في البيت الأول خشباً وألواحاً لم تحرق شيئاً»(1).

فبمقدار ما يظلم يجد الظالم أو القاتل جزاءه في الآخرة، وإن طال العذاب وتوسّع، فمثلاً: الغواص الذي يدخل بجسمه في الماء، يزيح من الماء بمقدار حجم بدنه، ولا يفرق في ذلك إذا دخل نهراً أو بحراً، وهكذا المجرم فإنه يجازى بقدر جريمته حسب موازين الآخرة، كما قال سبحانه وتعالى واصفاً أهل النار: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ}(2) فحتى لو تبدل جلده خمسين مرة فإنه يأخذ بمقدار ما ارتكب من الجريمة والأذى.

ثم إن الجلود الجديدة هي الجلود القديمة، التي صنعت من جديد، إذ الشيء المحترق تتفرق أجزاءه في الفضاء، فيجمعها سبحانه، ويعطيها الصورة الجلدية من جديد، هذا بالاضافة إلى أنه لو خلقت جلود جديدة لم يكن بذلك بأس؛ إذ المتألم هو الروح في بعض الصور، فلا يقال: بم استحق الجلد الجديد العذاب؟

إذن عقاب اللّه للظالم شديد فيجب على الإنسان أن يحذر ويتجنب الوقوع في الظلم، لأن اللّه سبحانه وتعالى وعد الظالمين بعذاب أليم قال تعالى: {ثُمَّقِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ}(3).

وقال سبحانه: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِ بَِٔيسِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}(4).

ص: 134


1- تحف العقول: 504.
2- سورة النساء، الآية: 56.
3- سورة يونس، الآية: 52.
4- سورة الأعراف، الآية: 165.

وقال عزّ وجلّ: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}(1).

وقال الشاعر:

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً *** فالظلم مرتعه يقضي إلى الندم

فاحذر بُني من المظلوم دعوته *** كيلا يصبك سهام الليل في الظلم

تنام عينك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين اللّه لم تنم(2)

شوكة في يد الظالم

جاء في قصص بني إسرائيل، أن أحد الظالمين كان يسير في إحدى الطرقات، وإذا به يلتقي بصياد، بيده سمكة، يتجه إلى بيته، فجاء إليه الظالم، وأخذ منه السمكة، بعد أن ضربه بعصا كانت في يده، ثم ذهب إلى بيته، وقال لزوجته: اطبخي لي هذه السمكة، فلما حان وقت الغذاء، قدمت الزوجة السمكة إلى زوجها، وعند الأكل دخلت إحدى شوكات السمكة في يد الظالم وأخذت تؤلمه ألماً شديداً، وبعد مدة اضطر للذهاب إلى الطبيب.

فقال له: يجب أن تُقطع كفك، وإلّا فسيصعد الألم أكثر، وعندها يجب أن تقطع يدك من المرفق، وبعدها من الكتف وإلّا فان الألم سوف يسري في جسدك ويقتلك، فتحير كثيراً ولم يعرف ماذا يفعل؟! فتأثر كثيراً لحالته، وأخذ يتناول أنواع الأدوية ولكن دون أي جدوى، وفي يوم من الأيام هام على وجهه إلىالصحراء، وفي المساء وبعد أن نام رأى في منامه قائلاً يقول له: لا علاج لك سوى أن تذهب إلى ذلك الصياد، الذي أخذت منه السمكة وتعتذر منه، لكي تعود لك صحتك، فقام من منامه وذهب إلى ذلك الصياد ليعتذر منه، فقدم له اعتذاره، وقبل الصياد منه الاعتذار وسامحه، وبعد فترة عوفي من مرضه.

ص: 135


1- سورة الزخرف، الآية: 65.
2- ديوان الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): 406.

نعم، بعض الظالمين قد يرى جزاء ظلمه في الدنيا قبل الآخرة ولو بعد حين؛ لأن اللّه تعالى يمهله ولكن لا يهمله، والبعض الآخر قد يمهله إلى يوم القيامة ليرى هناك أشد العذاب... .

وفي الدعاء:

«يا من لا يخفى عليه أنباء المتظلمين، ويا من لا يحتاج في قصصهم إلى شهادات الشاهدين، ويا من قربت نصرته من المظلومين، ويا من بَعُدَ عونه عن الظالمين... اللّهم فصل على محمد وآله»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الظلم

قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ...}(2).

وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٖ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٖ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ}(4).

وقال سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}(5).

وقال تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَٰبُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(6).

ص: 136


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) إذا إعتديَ عليه أو رأى من الظالمين ما لا يحب.
2- سورة الأنعام، الآية: 21.
3- سورة هود، الآية: 117.
4- سورة الروم، الآية: 29.
5- سورة الأنعام، الآية: 144.
6- سورة لقمان، الآية: 13.

إمهال الظالمين وجزاؤهم

قال عزّ وجلّ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٖ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَٰرُ}(1).

وقال تعالى: {فَيَوْمَئِذٖ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}(2).

وقال عزّ من قائل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ}(3).

وقال سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسِ بِمَا تَسْعَىٰ}(4).

بعض آثار الظلم والظالمين

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَٰهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا}(7).

أنواع الظلم

قال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}(8).

وقال سبحانه: {فَلَمَّا أَنجَىٰهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا

ص: 137


1- سورة إبراهيم، الآية: 42.
2- سورة الروم، الآية: 57.
3- سورة العنكبوت، الآية: 53.
4- سورة طه، الآية: 15.
5- سورة المائدة، الآية: 51.
6- سورة البقرة، الآية: 59.
7- سورة الكهف، الآية: 59.
8- سورة الأحزاب، الآية: 58.

بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم}(1).

وقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٖ}(2).

وقال عزّ من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

الظلم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أقدموا على اللّه مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد»(6).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من أكل مال أخيه ظلماً ولم يردّه إليه أكل جذوة منالنار يوم القيامة»(7).

إمهال الظالمين وجزاؤهم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ

ص: 138


1- سورة يونس، الآية: 23.
2- سورة الأنعام، الآية: 108.
3- سورة المطففين، الآية: 29-32.
4- الكافي 2: 332.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم 151، ومن خطبة له(عليه السلام) يحذر من الفتن.
6- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 221.
7- الكافي 2: 333.

الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}(1) «إن اللّه تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»(2).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «إن اللّه يمهل الظالم حتى يقول أهملني، ثم يأخذه أخذة رابية، إن اللّه حمد نفسه عند هلاك الظالمين، فقال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}»(3)(4).

وروي أنه تعالى أوحى إلى داود(عليه السلام): قل للظالمين لا يذكروني، فإنه حقَّ عليَّ أن أذكر من ذكرني، وإن ذكري إياهم أن ألعنهم(5).

بعض آثار الظلم والظالمين

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الظالم ملوم»(6).

وقال(عليه السلام): «الظلم وخيم العاقبة»(7).

وقال(عليه السلام): «إياك والظلم فمن ظلم كرهت أيامه»(8).وقال(عليه السلام): «شيئان لا تسلم عاقبتهما الظلم والشر»(9).

وقال(عليه السلام): «الظلم يردي صاحبه»(10).

ص: 139


1- سورة هود، الآية: 102.
2- تفسير مجمع البيان 5: 328.
3- سورة الأنعام، الآية: 45.
4- أعلام الدين: 315.
5- جامع الأخبار: 155.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 21.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 33.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 165.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 414.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 59.

أنواع الظلم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من آذى مؤمناً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى اللّه عزّ وجلّ ومن آذى اللّه فهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أذل مؤمناً أو حقره لفقره وقلّة ذات يده شهره اللّه على جسر جهنم يوم القيامة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم والفحش، فإن اللّه لا يحب الفحش والتفحش»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة حرام على كل فاحش أن يدخلها»(4).

وعن مولانا الكاظم(عليه السلام) في رجلين يتسابان فقال: «البادي منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه، ما لم يعتد المظلوم»(5).

إعانة الظلمة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاءثلاثتهم»(7).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة وأعوان الظلمة ومن لاق لهم دواتاً، أو ربط لهم كيساً أو مدهم

ص: 140


1- روضة الواعظين 2: 293.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 70.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 110.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 110.
5- الكافي 2: 322.
6- جامع الأخبار: 155.
7- الكافي 2: 333.

بمدة قلم فاحشروهم معهم»(1).

الإصرار على الذنب

قال الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام): «لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ}(2) صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيدنا لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟

فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا، قال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال لست لها، فقال الوسواس الخناس: أنا لها، قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار. فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة»(3).

ظلم الرعية

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام):«من ظلم رعيته نصر أضداده»(4).وقال(عليه السلام): «شر الأمراء من ظلم رعيته»(5).

وقال(عليه السلام): «أفظع شيء ظلم القضاة»(6).

ص: 141


1- جامع الأخبار: 155.
2- سورة آل عمران، الآية: 135.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 465.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 581.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 410.
6- عيون الحكم والمواعظ: 119.

بين المسلمين واليهود

لماذا سيطر اليهود

قال اللّه تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(1).

سؤال يدور في ذهن الكثير من الناس، وهو: كيف تمكن اليهود - مع قلتهم - من الوقوف بوجه المسلمين وهم بهذه الكثرة، ومن السيطرة على أراضيهم وما أشبه؟

وإذا عرضنا هذا السؤال على القرآن الحكيم؛ نرى التصريح القرآني يقتضي ويستلزم عكس الواقع الحاضر ويبين لزوم تقدم المسلمين؛ لأن القرآن بيّن حال اليهود بأنهم أذلاء وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، فقال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ}(2).

قال الطبرسي(رحمه اللّه) في تفسيره: أي أُلزموا الذلة الزاماً لايبرح عنهم، كما يُضرب المسمار على الشيء فيلزمه(3).

أما بالنسبة إلى المسلمين فقد عبّر القرآن الكريم عن حالهم بقوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(4).

ص: 142


1- سورة البقرة، الآية: 120.
2- سورة البقرة، الآية: 61.
3- تفسير مجمع البيان 1: 239.
4- سورة المنافقون، الآية: 8.

وقوله عزّ وجلّ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(1).

فهم أفضل الأمم وأحقها، فان العزة لا تأتي إلّا من اللّه سبحانه وتعالى؛ لأنّه الملك القادر، فيعز من يشاء ويذل من يشاء وبيده الملك وهو على كل شيء قدير؛ لذلك ينبغي أن تكون العزة حالة مانعة للمؤمنين من أن يغلبهم أحد لصلابتهم وقوتهم ووحدتهم وتآخيهم، قال اللّه تعالى:

{أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}(2).

فإن العزة من فروع الملك، والملك للّه سبحانه وتعالى وحده، فالعزيز هو الذي يقهر ولا يُقهر، والعزة الدائمة الباقية للّه ولرسوله وللمؤمنين، وهي العزة الحقيقية، أما عزة الكافرين فهي عابرة وغير حقيقية وإنما هي تعزز ظاهري، وذل في الباطن، قال سبحانه وتعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاقٖ}(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع قول اللّه عزّ وجلّ يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(4) فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً»، ثم قال: «إن المؤمن أعز من الجبل إن الجبل يُستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه شيء»(5).

اليهود بين الأمس واليوم

اشارة

هذا هو حال اليهود والمسلمين عند اللّه تعالى وفي القرآن الكريم فقد كانت اليهود أذلة طول التاريخ.

ص: 143


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- سورة النساء، الآية: 139.
3- سورة ص، الآية: 2.
4- سورة المنافقون، الآية: 8.
5- الكافي 5: 63.

أما الواقع اليوم فيشير إلى سيطرتهم على العديد من مجالات الحياة، فإن اليهود كان عددهم (56) ألف شخص في فلسطين قبل خمسين عاماً، وقد وصل عددهم اليوم إلى أربعة ملايين نسمة، أي أن عددهم في فلسطين آخذ في التزايد حيث جمعوا اليهود من شتى بقاع الأرض وأسكنوهم في بلاد المسلمين قهراً وغصباً، وفي المقابل صارت نسبة المسلمين في فلسطين في تناقص، فكيف جرى كل هذا ولماذا؟

السر في انقلاب المعادلة

الجواب واضح، وهو أن المسلمين قد تركوا العمل بأوامر اللّه، وقد جاء في الحديث القدسي أن اللّه تعالى بيّن لأنبيائه(عليهم السلام) هذه الحقيقة بقوله: «إذا عصاني من خلقي من يعرفني سلطت عليه من خلقي من لا يعرفني»(1).

إن المسلمين في جميع العالم - غالباً - لا يلتفتون إلى ما يريد اللّه منهم ولا يعملون بأوامره في جميع مجالات الحياة كما هو المفروض، في حين أن كلام اللّه والأنبياء والأئمة(عليهم السلام) هو واضح كوضوح الشمس بل هو سنة من سنن الكون، سواء صدّقنا هذا، أم لم نصدقه.

فبما أن المسلمين لم يعملوا بقوانين اللّه في التقدم في كافة مناحي الحياة تسلط عليهم اليهود منذ خمسين عاماً. وهذا إلى جانب معصية اللّه فإنه سبب تأخر المسلمين وتفرق كلمتهم وأصبحوا أمماً متعددة وصغيرة يحارب بعضهم بعضاً، وقد قسّمها الاستعمار إلى كتل وتجمعات صغيرة وضعيفة، لا تستطيع الوقوف بوجه الدولة اليهودية الغاصبة لأرض فلسطين، فكانت هذه الحدود الجغرافية المصطنعة لكي لا يتمكن المسلمون من الوقوف بوجه المؤامرات

ص: 144


1- من لا يحضره الفقيه 4: 404.

الغربية والشرقية في أرض المسلمين، وقد شملت هذه التجزئة أغلب الدول العربية، وبالأخص دول المواجهة مع اسرائيل، كما تسمي هي نفسها بذلك، وقد جاء في خطبة للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... العرب اليوم وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع»(1).

فالعزّ للمسلمين ككل وللعرب لا يأتي إلّا في طاعة اللّه تعالى والاجتماع تحت راية الإسلام، فعندما يطابق الواقع البشري كلام اللّه تعالى فسيبقى اليهود أذلاء، كما أشار تبارك وتعالى إلى ذلك في آيات عديدة من القرآن، وإن ترك المسلمون سبل التقدم التي أمر بها الباري عزّ وجلّ فيتأخرون ويغلب عليهم أعداؤهم من اليهود وغيرهم.

إحصائية

قام الجامع الأزهر قبل مدة بإجراء إحصائية توصّل خلالها إلى أن عدد المسلمين في العالم يبلغ مليار وستمائة مليون مسلم(2)، في حين أن جميع يهود العالم حسب كتاب ألفه مؤخراً أحد الكتاب المصريين(3) تحت عنوان (حرب الخليج) هو (14) مليوناً، يعني أقل من سكان مدينة إسلامية واحدة التي يبلغ تعداد سكانها (16) مليوناً، وإن هؤلاء الأربعة عشر مليون يهودي موزعون كالآتي: أربعة ملايين يهودي في إسرائيل، وخمسة ملايين يهودي في أمريكا والبقية منتشرون في أرجاء العالم.

إن هؤلاء المسلمين الذي يبلغ عددهم ملياراً و(600) مليون، وهم أغنى سكان الأرض، بما لديهم من الثروات النفطية والمعدنية والثروات المائية، كيف

ص: 145


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 146، من كلام له(عليه السلام) في الاستشارة في الشخوص لقتال الفرس بنفسه.
2- وقد بلغت الإحصاءات الأخيرة لنفوس المسلمين: المليارين.
3- الكاتب المصري هو محمد حسنين هيكل.

استطاع الإسرائيليون الذين عددهم أربعة عشر مليوناً التغلب على عددهم الهائل هذا، وفي فترة قصيرة نسبياً من الزمن؟

إن قصة المسلمين اليوم تشبه قصة أولئك الذين كانوا في قافلة، فجاء قطاع الطرق وأخذوا منهم كل شيء، فراحوا يبكون إلى أقرب مدينة إليهم ولما سألهم الناس عن القضية قالوا نحن كنا مائة رجل فقط وكان السراق نفرين فأخذوا منا بضاعتنا.

وأما على نطاق خاص بالدول المسلمة العربية فإن عدد المسلمين العرب يبلغ (250) مليوناً، وأمام أربعة ملايين يهودي لم يستطيعوا إنقاذ فلسطين، بل هم كل يوم يدخلون عملية مصالحة وإذلال لأنفسهم، والسبب كله يعود إلى أننا قد خالفنا أوامر اللّه تعالى، وتفرقنا، فسلط اللّه علينا اليهود.

قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1).

مثل قرآني

ولأجل مطابقة أحوال اليهود سابقاً، أي: في زمن النبي موسى(عليه السلام) وأحوالهم هذا اليوم؛ نعرض بعض الآيات القرآنية ونشير إلى تفسيرها، لكي نصل إلى السبب الرئيسي في تقدمهم وتأخرنا وهو أن اليهود عملوا من أجل غلبتهم، ونحن ابتعدنا عن الأخوة والأمة الإسلامية الواحدة - التي كانت من أسباب قوتنا بالأمس - ففشلنا.

يقول اللّه تعالى في محكم كتابه الكريم: {يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}(2).

ص: 146


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة البقرة، الآية: 47-122.

وقد تكررت الآية في سورة البقرة مرتين وهو مفيد للتأكيد أيضاً، ولكن هذا الخطاب مختص باليهود في زمن النبي موسى(عليه السلام) حيث فضلهم اللّه على آل فرعون وغيرهم من المشركين.

قال الطبرسي(رحمه اللّه) في تفسيره: قال ابن عباس: أراد به عالمي أهل زمانهم لأن أمتنا (الأمة الإسلامية) أفضل الأمم بالإجماع، كما أن نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل الأنبياء، وبدليل قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(1)(2).

وقد أنعم اللّه تعالى على بني إسرائيل بنعم كثيرة، منها: إنزال المن والسلوى والألطاف الإلهية، وكما جاء في قوله تعالى:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ}(3).

ولكن اليهود أنكروا هذه النعمة، وقتل بعضهم البعض، وتفرقوا وارتكبوا المعاصي، فخاطبهم اللّه تعالى بقوله:

{ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمْ تَظَٰهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(4).

ومن بعد ذلك ضربت عليهم الذلة والمسكنة حيث تركوا أوامر اللّه عزّ وجلّ وقد عملوا هذه الأعمال المحرمة كلها بعد أن أخذ اللّه تعالى الميثاق والعهد

ص: 147


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- تفسير مجمع البيان 1: 198.
3- سورة المائدة، الآية: 20.
4- سورة البقرة، الآية: 85.

منهم في زمن موسى(عليه السلام) في عدم القتل، ولكن اليهود خالفوا الأوامر الإلهية، في زمن موسى(عليه السلام) بقتلهم بعضهم البعض، استمرت خصلة القتل وسفك الدماء فيهم إلى يومنا الحاضر بقتلهم المسلمين وإخراجهم من ديارهم.

أما قتلهم بعضهم البعض وتهجير مواطنيهم فهذه الأعمال لم يرتكبوها في الوقت الحاضر، وكما يدل على ذلك قانون اسرائيل؛ إذ أنه لا يمنح أي حق لأحد بقتل يهودي أبداً.

الاقتداء بمساوئ اليهود

والحقيقة إن اليهود أخذوا بعض صفات الإسلام الحسنة فتقدموا بتلك النسبة، في حين أخذ بعضنا قسماً من صفاتهم السيئة، فاليهود ليس عندهم نفر واحد مشرد من وطنه، أما نظام العراق وحده فقد تسبب في تشريد ثلاثة ملايين عراقي مسلم قهراً.

وفي بعض البلاد الإسلامية يعيش المسلمون تحت نير الحكومات المستخدمة من قبل الأجنبي، والمرتمية في أحضان اليهود، وكل يوم يجري إعدام العشرات هنا وهناك في العديد من بلادنا الإسلامية العريضة، وإيداع العشرات الآخرين السجون والمعتقلات، ويتلقون أنواعاً مبتكرة من التعذيب الوحشي في ما يُشرد آخرون من بلادهم إلى مختلف البلاد.

ففي إحدى البلاد الإسلامية أصبحت المواجهة بين المسلمين والجيش حتى في داخل المساجد وفي الشوارع علناً، بعد أن عاش المسلمون هناك شتى أنواع الكبت والتهجير والاعتقال، وهكذا في غيرها من البلاد الإسلامية الأخرى، وربما لا تجد بلداً مسلماً في الوقت الحاضر مستقلاً بما للكلمة من معنى، ويعيش في أمان وحرية من التدخلات الاستعمارية، ومثالنا الأخير ما يجري للمسلمين في

ص: 148

البوسنة والهرسك من مذابح وقتل جماعي وجميع الدول الإسلامية تنظر ولا تفعل شيئاً، إذ أن المسلمين يعيشون في تشتت وتفرقة، والأطفال والشيوخ والنساء في الهرسك يقتلون لأنهم مسلمون لا غير، ويشردون من بلادهم يوماً بعد يوم(1)، وترى اليهود يعيشون بأمان وليس لديهم شخص واحد مشرد، وهم يد واحدة على أعدائهم رغم ضلالهم وإلحادهم.

رسالة إلى عرفات

لقد وجهت رسالة إلى عرفات قبل (15) عاماً، وكان الغرض من رسالتي إلى عرفات أن ألفت نظره إلى مسألة مهمة، فقلت له: أنكم سوف لا تنتصرون في الوقت الحاضر على إسرائيل؛ لسببين:

السبب الأول: لاستخدامكم العنف.

السبب الثاني: لا تسمعون كلام اللّه.

فأما العنف فلأن الذي عندكم مما لا فائدة من ورائه، لأنكم كمن يملك سيفاً، وعدوه مجهز بأحدث العدد الحربية، وإنكم لو أردتم أن تأخذوا فلسطين بالسيف والعمليات العسكرية واغتيال الأعداء فهناك مقومات أخرى يلزم توفرها، وإلّا فلا تحصل النتيجة، هذا وإسرائيل قبل عشر سنوات كانت تصنع (60) صنفاً من السلاح، في الوقت الذي لم تكن بلاد المسلمين بأجمعها تصنع حتى (60) قطعة من السلاح، كما أن العنف الذي تتخذونه وسيلة لا يوصلكم إلى شيء، لأن العدو هو الآخر سوف يواجهكم بالعنف أيضاً، فإذا كان سلاحه أقوى ينتصر عليكم، ثم قلت له في جانب من الرسالة:

ص: 149


1- وذلك بين عام (1992م إلى 1995م) وراح ضحيتها أكثر من مئة ألف واغتصاب خمسين ألف امرأة إلى غير ذلك من الخسائر... .

علينا أن نتخذ نفس الأسلوب الذي اتبعه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فتح مكة، فالنبي استطاع أن يدخلها بسلم ودون حرب ودون أن يخسر ضحايا، والأفضل أن يكون الأسلوب في أخذ الحقوق بالطرق المنطقية وأسلوب الضغط السياسي وما أشبه مما تأثيره أكثر، بعيداً عن العنف.

بين السلم والعنف

الإسلام دين السّلام، وما الحرب والمقاطعة وأساليب العنف فلا تكون إلّا وسائل اضطرارية تستخدم قليلاً وذلك في أشد حالات الضرورة القصوى على خلاف الأصول الإسلامية؛ قال تعالى: {ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(1). ولا يخفى أن السلام غير الاستسلام وهذا الذي يحصل بين العرب واليهود نوع من الاستسلام المصحوب بالذلة والهوان والتنازل عن الحقوق.

لذا فإن تحرك الفلسطينيين الاستراتيجي والعملي على الساحة الدولية، الخارجية أو الداخلية، يجب أن يتصف بالسلم ودقة التأثير، وهو من الأسس الحيوية التي يلزم أن تقوم عليها النضالات للحركة السياسية في يومنا هذا، فبدونه تكون الخسائر أكثر والنتائج أقل، وهذا الأمر يحتاج إلى ضبط الأعصاب، وإلى مقدرة نفسية توجب أن يعمل الإنسان بحزم وبأخلاق عالية حتى مع الأعداء، فالقائمون بالحركة يجب أن يتحلوا بالسلام في فكرهم، وفي قولهم، وفي كتاباتهم، وفي مواجهاتهم، حتى يتمكنوا من استرداد حقوقهم المغصوبة، وحتى عملية الإضرابات والمظاهرات لا بد أن تتصف باللين والمنطق وقوة التأثير؛ لأن المهم هو الهدف السامي واسترجاع الحقوق الضائعة، وليس الانتقام والحقد والبغضاء، فإن السلام - بمعناه الصحيح - هو الضمان الأكيد لبقاء المبدأ، هذا

ص: 150


1- سورة البقرة، الآية: 208.

من ناحية الأصل العملي في كل حركة، أما لو اضطرت الحركة بعد أن تستنفد كل ما لديها من أسس السلام، أن تواجه الأعداء بالمواجهة العسكرية، والجهاد في سبيل اللّه فلا بإشكال في ذلك بل هو من أقرب القربات إلى الباري عزّ وجلّ، ولكن مع توخي السلام المشرِّف في كل فرصة. قال سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}(1)

روح الانتفاضة

ثم إنه من الواجب على الفلسطينيين في هذه الفترة الزمنية من عملهم أن يحافظوا على روح الانتفاضة الفلسطينية ويلزم توجيه هذه الانتفاضة بحيث تكون ذات فوائد أسرع وأكثر، كالاستفادة من الإعلام والضغط الدولي والعمل الجذري المركز وما أشبه، وهذا لا يستدعي دائماً استخدام العنف كما يفعل اليهود بأبناء الشعب الفلسطيني من العنف.

وحدة الصف

والأمر الآخر للتحرك الفلسطيني بجانب السلم: هو وحدة التحرك، ووحدة الصف وعلى جميع الميادين، والإخلاص لأجل إنقاذ الوطن ونصرة أبناء الشعب الفلسطيني، دون الارتماء في حضن المستعمرين اليهود والأجانب، والذلة بالدخول في معاهدة خاسرة وباطلة.

وكذلك كانت السيرة النبوية وسيرة الأئمة الأطهار(عليهم السلام) مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسلام، كما ينقل لنا التاريخ من قصصهم وأعمالهم في فتح مكة، والعفو عن قريش بعد أن آذت الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً فدخلها بسلام ودون عنف، بل عفوه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أبي سفيان وهند ووحشي وغيرهم، مع كونهم كانوا رموزاً للحقد والعنف

ص: 151


1- سورة البقرة، الآية: 216.

والمؤامرة ضد الإسلام والمسلمين. بل حتى في حروب الرسول والأئمة(عليهم السلام) كان السلام شعاراً لهم، بل وواقعاً، لذا تراهم نجحوا وخلّدهم التأريخ، وانتشر الإسلام بفضلهم وببركة سياستهم الرشيدة وأخلاقياتهم الفاضلة، أما غيرهم كالأمويين والعباسيين والعثمانيين؛ فقد ذهبوا حيث لا يذكرهم أحد مطلقاً إلّا بسوء بسبب عنفهم، بينما قادة الإسلام الحقيقيون يذكرون بكل خير واحترام وحتى من قبل الأعداء أيضاً، ويعرفهم الناس بالسلام والعفو والصفح.

ملكنا فكان العفو منّا سجية *** ولما ملكتم سال بالدم أبطح

وأحللتم قتل الأسارى وإننا *** غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح(1)

قال سبحانه: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}(2).

وعن ابن فضّال قال: سمعت أبا الحسن(عليه السلام) يقول: «ما التقت فئتان قط إلّا نصر أعظمهما عفواً»(3).

وفي رواية أنه شكى رجل إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من خدمه، فقال له: «أعفُ عنهم تستصلح به قلوبهم» فقال: يا رسول اللّه إنهم يتفاوتون في سوء الأدب،فقال: «أُعف عنهم»، ففعل(4).

ص: 152


1- انظر: وفيات الأعيان 2: 364، حيث يذكر: قال الشيخ نصر اللّه بن مجلي... رأيت في المنام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فقلت له: يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ثم يتم على ولدك الحسين(عليه السلام) يوم الطف ما تمّ فقال(عليه السلام): أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت: لا، فقال: اسمعها منه، ثم استيقظت فبادرت إلى دار حيص بيص (ابن الصيفي) فخرج إلي فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء وحلف باللّه إن كانت خرجت من فمي... وإن كنت نظمتها إلّا في ليلتي هذه، ثم أنشدني: ملكنا فكان العفو... .
2- سورة البقرة، الآية: 109.
3- الكافي 2: 108.
4- مستدرك الوسائل 9: 7.

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إنّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا»(1).

وقال(عليه السلام): «العفو عند المقدرة من سنن المرسلين والمتقين»(2).

لا تسمعون كلام اللّه

أما السبب الثاني: فإنكم(3) لم تعملوا بالقرآن، علماً إن فلسطين قد خلّصها الإسلام من أيدي الأعداء، لا العروبة، ثم أخذها اليهود من أهلها؛ لأن اليهود متحدون مع بعضهم البعض، يحترم بعضهم البعض الآخر، وهم أمة واحدة، مع أن الاتحاد والاحترام والأمة الواحدة هي كلها من توصيات القرآن الحكيم لنا، لكننا أعرضنا عنها فخسرنا الدنيا والآخرة.

فليس المسلمون اليوم أمة واحدة كما أراد القرآن العظيم، فما نراه في الواقع الخارجي شيء آخر لايطابق كتاب اللّه، فهذا عراقي وذاك باكستاني والآخر إيراني وهو بنغالي و...، فصرنا سبعين أمة وحصلت بيننا التفرقة.

وعلى أي حال، أنا أرسلت رسالتي إليه، لأقول له: إنكم سوف لا تحققون شيئاً على طريق النصر ما لم تتخذوا الإسلام والقرآن وتعاليمهما في الوحدة والأمة والأخوة والحرية واللاعنف منطلقاً لتحرككم، فإن حالكم سيكون كمن يريد أن يخطو إلى الأمام، وهو يعلم أنّه بعد خمس دقائق سوف يقع في البئر، وبالفعل سقط عرفات ومن قبله بعض الحكام في أحضان اليهود أو فخهم.

التفاوض بذلة

والآن قد حصل كل ذلك بعد أن لم يعملوا بما أشار عليهم الإسلام، فقد راح أُناس يعدون أنفسهم قادة لفلسطين، وهم أذلاء، لكي يقولوا للإسرائيليين: نعم

ص: 153


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 289.
2- بحار الأنوار 68: 423.
3- السبب الثاني مما ذكره الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في رسالته إلى ياسر عرفات في أوائل الثمانينات أو قبلها.

للتفاوض والصلح والاستسلام، ولا يخفى أن التفاوض يجري اليوم على قسم صغير جداً من الأرض الفلسطينية التي تسمى (بغزة وأريحا) ومساحتهما قليلة جداً بحيث لا تتسع لمليون فلسطيني في حين أن عدد الفلسطينيين أكثر من خمسة ملايين. وقد تنازلوا عن سائر الأراضي الفلسطينية للعدو الغاصب مقابل لاشيء!

أليست هذه هي الذلة بعينها؟

صفات اليهود

كان بعض اليهود في بغداد، وكانوا يحملون صفتين أشير إليهما لأبين ما يتعلق بالخطر الذي يأتينا منهم، ففي السابق كان الخطر اليهودي يكمن في:

1- السيطرة على التجارة، حيث أن اليهود أينما يحلون يأخذون مقاليد التجارة بأيديهم.

2- إشاعة الفساد الفحشاء، حيث أنهم يشيعون الفساد في البلدان التي يتواجدون فيها.

وسأذكر هنا قصتين حول الخطر اليهودي:

الخطر التجاري

لقد جاءني رجل في كربلاء قبل 45 أو 46 سنة، وقال لي: إني قد ارتكبت ذنباً كبيراً فماذا أعمل؟

قلت له: إن اللّه يقبل التوبة من عباده ويعفو عن الكثير واللّه غفار للذنوب ولا حاجة لبيان نوعية الذنب.

قال: لكن ذنبي أكبر حتى من هذا المعنى!

وأصر على أن يقول الذنب.

ص: 154

قال: إنني ارتكبت ذنباً دون أن أعلم بأنه ذنب، فقد كنت موظفاً في دائرة البريد والبرق والهاتف، وكان راتبي آنذاك (10) دنانير - وراتب عشرة دنانير كان يعد حينذاك مرتباً متوسطاً - وفي أحد الأيام جاءني تاجر يهودي وقال لي: هل أنت على استعداد إذا أعطيتك (10) دنانير شهرياً مضافاً إلى ما تستلمه على أن تعمل لي شيئاً أنت قادر عليه؟

فقلت له: وما ذلك العمل؟

فقال: هو أن تحوّل لي كل تلغراف يأتي من خارج العراق حول الأسعار، قبل أن يطلع على ذلك الخبر شخص غيري، على أن أحتفظ لنفسي بهذا الخبر يوماً كاملاً!

فقلت له: لا بأس في ذلك.

ثم قال لي: ولا تنس لو جاء تلغراف فأعلمني بذلك بسرعة!

فعملت مع هذا اليهودي بهذا الاتفاق عدة سنين، ثم عرفت الآن بأن عملي كان محرماً، حيث كان يتضرر المسلمون كثيراً بسبب ارتفاع الأسعار وانخفاضها.

إن هذا التلغراف لو كان يحمل ارتفاع قيمة السكر مثلاً، فإن اليهودي كان يعرف السعر الجديد قبل غيره، ثم يخبر أصدقائه فيقوموا بشراء السكر من الأسواق، ومن أغلب المحلات بالسعر القديم، وكنت بعد ذلك أقوم وأرسل البرقية إلى صاحبها الأصلي، فيفهم الناس أن السكر قد ارتفعت أسعاره بعد أن باعوا السكر بالسعر القديم المنخفض، ثم كان ذلك اليهودي وأصدقائه يبيعون السكر على السعر الجديد المرتفع، وهكذا لو كان التلغراف يشير إلى انخفاضسعر السكر - مثلاً - فإن اليهودي كان يخبر أصدقائه اليهود حتى يبيعوا السكر بالسعر المرتفع فلا يخسرون بذلك شيئاً. والنتيجة أن اليهودي، وفي بضع سنين

ص: 155

قد أضروا بالناس مئات الملايين من الدنانير.

الخطر الجنسي

والخطر الثاني، أن اليهود قد أشاعوا الفساد في البلاد ولازالوا كذلك، فهم لا يمانعون من اختلاط أبنائهم من الذكور والإناث، بل أنهم يبيحون ذلك السلوك، وهذه القصة التي يذكرها عبد الجبار أيوب في كتابه، يقول: حينما كنت مديراً لسجن الكوت، جاءت السلطات الأمنية ذات مرة بثلاثة أشخاص كانت جرائمهم - حسبما يبدو - خطيرة، بحيث أن الدولة قد أوصتنا أن نضعهم تحت المراقبة الشديدة، وبعد أيام دخل المديرية اثنان من تجار بغداد من اليهود، وبعد أن جلسا وتبادلا معي السلام، قالا: إن ثلاثة من الشباب قد أُدخلوا هذا السجن، وهم من العوائل المعروفة في بغداد، لذا نطلب أن تنقلهم من الكوت إلى بغداد، ونحن قد تحدثنا مع مدير سجن بغداد ولم يُبد أي مانع في ذلك. فأجبتهم بعدم الموافقة فألحوا عليّ بالأخلاق والمجاملة إلّا أنني لم أوافق، وبعد أسبوع جاء اليهوديان مرة ثانية، وقالا لي: ما هو رأيك لو نقلتهم إلى بغداد، ولا تكلف نفسك سوى كتابة جملة (لا مانع لدي)، أي ثلاث كلمات لا أكثر، وسندفع لك عن كل كلمة (100) مائة دينار، يعني مبلغ (300) دينار، وكان هذا المبلغ آنذاك يعد مبلغاً كبيراً مغرياً، لكن بالرغم من إصرارهما لم يحصلا على موافقتي أيضاً، وفي الأسبوع الثالث، جاءا مع ثلاث بنات ومن أجمل البنات، وألحوا عليّ كثيراً بالقبول فرفضت ثم عرضوا عليّ البنات فلم أقبل، وبقيت منشغلاً بعملي دون أن أبدي لهن أي اهتمام، فخرجوا يائسين إلّا أنهم حينما خرجوا قالوا لي يا فلان في المرة الأولى أتيناك بالأخلاق فلم ترضخ، وفي المرة الثانية بالمال فلم تقبل، وفيالمرة الثالثة بالجنس فرفضت، والآن استعد للبلاء ولم تمض إلّا أيام وإذا بي أرى قد نقلت من منصبي كمدير السجن إلى مكان آخر، وبعد ذلك سمعت بنقل

ص: 156

هؤلاء السجناء إلى بغداد.

المخدرات والإيدز

هذان طريقان كان اليهود يستخدمونهما من أجل تمشية أعمالهم سابقاً في سبيل سيطرتهم على البلاد والعباد، أما اليوم فقد استخدموا طريقين آخرين أيضاً، ومن المعروف في هذا العصر أن كبار تجار المواد المخدرة هم من اليهود، ومن الواضح أن المواد المخدرة هي من الأشياء الهدّامة لكيان الإنسان.

والشكل الثاني الجديد، هو الإيدز، حيث يقوم اليهود عن طريق التحلل الأخلاقي الذي يشيعونه، وعن طرق أخرى بنشر مرض الإيدز الذي هو أخطر من مرض السرطان، ففي ذات مرة سمعت بموت أحد الأشخاص الذين كنت أعرفهم وعندما استفسرت عن سبب موته، قيل لي أنه أصيب بمرض الإيدز، فقلت: إنه كان مؤمناً لا يرتكب الفساد، فقيل لي: صحيح هذا، إلّا أنه ذهب إلى إحدى الدول العربية وتزوج هناك من امرأة كانت مصابة بالإيدز، فانتقل إليه المرض عن طريق العدوى ثم قالوا: أنه بعد أن أصيب بالمرض شُلت يده اليسرى أولاً، وبعد أن ذهب إلى الطبيب قال له: لا ينفعك أي دواء أبداً، ثم أصيبت يده اليمنى بالشلل، وبعدها رجله اليسرى ثم اليمنى ولم يمهله المرض أكثر من شهرين، فمات بعد ذلك.

كما أصيب شخص آخر من الشباب المتدين بهذا المرض وذلك عبر الدم، حيث احتاج جسمه الى الدم فكان الدم الذي أعطوه ملوثاً بالإيدز فمات من ذلك.

واليهود يقومون اليوم بنشر هذا المرض في العديد من البلدان الإسلامية مثلمصر...، إن اليهود كانوا يستخدمون سلاحين ضد الإنسانية سابقاً، وذلك لإحكام قبضتهم على التجارة وإشاعة الفساد، واليوم تراهم قد أضافوا إلى أسلحتهم

ص: 157

السابقة سلاحين آخرين هما: ترويج المخدرات ونشر مرض الإيدز.

الصلح مع عرفات

إن هذا الصلح الذي أبرموه مؤخراً مع ياسر عرفات هو أخطر من طاعون الإيدز، فإنه سيثبت كيانهم ويفسح لهم المجال للانتشار بين المسلمين ونشر مفاسدهم في البلاد الإسلامية أكثر، واليهود لا يوقفون أعمالهم الإجرامية هذه على مكان معين، بل هم يخططون لكل العالم، لذا فإن خطرهم كبير، ومضرتهم بالغة جداً، فمن الأعمال الضرورية جداً، والتي تجب المبادرة إليها: الوقاية العاجلة من أخطار هؤلاء، وإلّا فقد يأتي يوم - لا سامح اللّه - فنرى أن تجارة أغلب المدن الإسلامية أصبحت تحت قبضة اليهود، وخطر ذلك على المسلمين واضح جداً، لأنّهم لو استولوا على تجارة السوق، فإن التاجر المسلم الذي كان يملك الملايين يصبح كالفقير فلا يتمكن من إسناد المشاريع الإسلامية ولا يدفع الحقوق الشرعية، والذي به تدار كثير من مشاريع المسلمين، وهذا يوجب عرقلة أو إيقاف تلك المشاريع الدينية، فاليوم لو التهمت النار بيت الجار، فغداً ستلتهم النار بيتنا وبيتكم وبيوت الجميع أيضاً، فنحن مكلفون بتوعية المسلمين وايقاضهم من سباتهم وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1).

كيفية تنبيه المسلمين

وتنبيه المسلمين يتم عبر إيضاح هذه المواضيع والتفكير فيها، إذ على المبلغين والمفكرين الإسلاميين كشف المخططات والمؤامرات والأساليب التييستخدمها اليهود بين أبناء الشعب المسلم أجمع وفضحهم.

وبعد ذلك يلزم التعاون بين جميع طبقات المسلمين من أصغر مستخدم في

ص: 158


1- سورة الحجرات، الآية: 10.

البلاد الإسلامية إلى الحاكم المسلم نفسه، في عدم إيجاد فرصة تأثير اليهود والأعداء على بلداننا الإسلامية؛ فكرياً وسياسياً واقتصادياً للمسلمين فإنه مضر بالمسلمين دون ريب، ولا يمكن تمييز ألاعيب اليهود إلّا من خلال الوعي والاكتفاء الذاتي والوحدة الإسلامية والتعاون المستمر والعمل بقوانين الإسلام والقرآن الكريم. بحيث لا يبقى لهم أي مجال للتدخل في سوق المسلمين أو في تفكيرهم أو في عواطفهم، وإذا لم نعمل بهذه النصائح المذكورة فسوف يأتي يوم نرى فيه أنهم قد سيطروا حتى على عقولنا - والعياذ باللّه - .

وأيضاً يجب علينا أن نميز بين الخيّر والشرير، ولا ننقاد مع العاطفة المجردة من دون تعقل وتفكر، وعلينا أن نعرف السيئ قبل أن تصلنا اساءته، مثلما حدث لبعض الناس في العراق إذ تصوروا الخير في مثل صدام، إلى أن انكشفت بعد ذلك لهم عوراته ومساويه، ولكن لم يحصل ذلك للأسف الشديد إلّا بعد أن قتل أبناء الشعب العراقي وشردهم، وبعدما وصل إجرامه صواريخه وسقطت على المدن المقدسة.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يؤنسنّك إلّا الحق ولا يوحشنّك إلّا الباطل»(1).

نسأل اللّه، أن يخيب آمال اليهود لكي لا يصلوا إلى ما يطمحون إليه بتنفيذ مطامعهم وأن ينصر الإسلام والمسلمين على أعدائهم إنه سميع مجيب.

«اللّهم صل على محمد وآله واجعلني يداً على من ظلمني، ولساناً على منخاصمني، وظفراً بمن عاندني، وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرة على من اضطهدني، وتكذيباً لمن قصبني، وسلامة ممن توعدني، ووفقني لطاعة من

ص: 159


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 752.

سددني، ومتابعة من أرشدني»(1).

من هدي القرآن الكريم

اللاعنف أنجح الحلول

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(2).

وقال سبحانه: {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(4).

وقال تعالى: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}(5).

من صفات القائد العفو والصفح

قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(6).

وقال سبحانه: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}(8).

وقال جلّ وعلا: {وَجَزَٰؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}(9).

ص: 160


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة البقرة، الآية: 208.
3- سورة النحل، الآية: 125.
4- سورة العنكبوت، الآية: 46.
5- سورة النساء، الآية: 5.
6- سورة الأعراف، الآية: 199.
7- سورة الحجر، الآية: 85.
8- سورة البقرة، الآية: 109.
9- سورة الشورى، الآية: 40.

الفُرقة وآثار السلبية

قال تعالى: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ}(3).

طاعة اللّه شرط التقدم

قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(6).

وقال عزّ من قائل: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّۧنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

اللاعنف أنجح الحلول

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تَغضبوا ولا تُغضبوا أفشوا السلام وأطيبوا

ص: 161


1- سورة الأنفال، الآية: 46.
2- سورة آل عمران، الآية: 105.
3- سورة القصص، الآية: 4.
4- سورة النور، الآية: 52.
5- سورة الفتح، الآية: 17.
6- سورة الأحزاب، الآية: 71.
7- سورة النساء، الآية: 69.

الكلام»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حسن كلامه كان النجح أمامه»(2).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس»(3).

من صفات القائد

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) للاشتر لما ولاه مصر: «ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق... فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه...»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أُتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لها ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت إن كان نبياً لم يضره وإن كان ملكاً أرحت الناس منه، قال: فعفا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنها»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليكم بالعفو فإن العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً فتعافوا يعزكم اللّه»(6).

الفرقة وآثارها السلبية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجماعة رحمة والفُرقة عذاب»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وإني واللّه لأظن أن هؤلاء القوم - أصحاب

ص: 162


1- الكافي 2: 645.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 619.
3- الكافي 2: 120.
4- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53، من كتاب له(عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولّاه مصر.
5- الكافي 2: 108.
6- الكافي 2: 108.
7- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 27.

معاوية - سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم،وتفرقكم عن حقكم»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزموا الجماعة واجتنبوا الفُرقة»(2).

العز في طاعة اللّه وتقواه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أراد أن يكون أعز الناس فليتق اللّه عزّ وجلّ»(3).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا طلبت العز فاطلبه بالطاعة»(4).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ولا عزّ أعز من التقوى»(5).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أراد عزاً بلا عشيرة... فلينقل عن ذل معصية اللّه إلى عزّ طاعته...»(6).

ص: 163


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 25، من خطبة له(عليه السلام) وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
3- كنز الفوائد 1: 351.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 285.
5- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 371.
6- الخصال 1: 169.

تحديد النسل فكرة غربية

الإسلام والتكاثر

قال اللّه تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1).

من المسائل المهمة التي وقف الإسلام بوجهها هي مسألة تحديد النسل وقتل الأولاد ورفض الحالة التي كانت في زمن الجاهلية من وأد للبنات، وكما جاء في الآية الكريمة المتقدمة أن لا تقتلوا أولادكم خوفاً من الفقر(2) فإن رزقكم ورزقهم على اللّه تعالى(3).

ومن هنا جاءت سنّة اللّه تعالى في جميع الأديان ومنذ بدء الخليقة إلى يوم القيامة على تشجيع الزواج والتناسل والتكاثر، وبهذا الصدد أوضح الإسلام على لسان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تناكحوا تناسلوا، تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة، ولو بالسقط»(4).

ص: 164


1- سورة الأنعام، الآية: 151.
2- جاء في معنى الإملاق: خشية الفقر والحاجة، انظر: لسان العرب 10: 348 مادة (ملق).
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 191.
4- جامع الأخبار: 101.

تحديد النسل فكرة غربية

اشارة

والآن إذ يسعى الغربيون لأجل القضاء على الإسلام بمختلف الوسائل، ومنها اتباع محاولة تقليل عدد المسلمين وبالنتيجة يقل معهم عدد المؤمنين الرساليين في البلاد الإسلامية، إضافة إلى أن قلة عدد الأطفال في داخل الأسرة يوافقه تقليل المسؤولية الأسرية الذي قد يؤدي بدوره إلى افساح المجال أمام العائلة للانصراف إلى وسائل الفساد والإفساد، ولذا فإنهم يتوسلون بالمكر والحيلة والخداع لتضليل البسطاء ليتقبلوا هذه المفاهيم المضلة.

من هذه الأساليب ما يتعلق بتحديد النسل وادعاءات هؤلاء الذين ينساقون وراء ذلك أن العالم يشهد زيادة سكانية هائلة، ومن الممكن أن يتعرض الناس إلى أزمة غذائية عالمية خطيرة نتيجة لما أسموه ب(الانفجار السكاني)، حتى أن هذه الأفكار أخذت محلها في أذهان بعض المسلمين إلى درجة أن أحد المختصين راح يتحدث عبر الإذاعة عن تشجيع الإسلام لتحديد النسل وأغرب من ذلك أنه كان يستدل بالآية الشريفة: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(1).

وقد جاء في تفسير الآية عن مجمع البيان للطبرسي(رحمه اللّه) قوله:

{وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ} يعني الجارية المدفونة حياً وكانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها فإن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإن ولدت غلاماً حبسته... ومعنى قوله {بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ} أن الموؤدة تسأل فيقال لها بأي ذنب قتلت ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها...(2).

ص: 165


1- سورة التكوير: 8-9.
2- تفسير مجمع البيان 10: 277.

ترويج الفكر الغربي

واللّه تعالى يقول لا تقتلوا أولادكم خشية الفقر كما نقلنا ذلك، ويأتي البعضويقول: إن هذه الآية توحي بتحديد إنجاب الأطفال لأن زيادتهم تتطلب وقتاً كثيراً من الأب والأم لرعايتهم، والآباء بدورهم ونتيجة لتشعب مشاغل الحياة لا يملكون وقتاً كافياً لذلك، بما سيحرم الطفل من التربية الصحيحة ولربما يجعله عنصراً شريراً في المجتمع، وهذا هو أخطر من قتل النفس، وأن الآباء سيسألون عن ذلك يوم القيامة، وهكذا يحمِّلون الأدلة الشرعية آراءهم ومعتقداتهم الشخصية بما لا يرتضيها الإسلام، كما أن هناك العديد في البلاد الإسلامية ممن يعتقدون بصحة هذه الآراء، ويقولون بما أن المصادر الغذائية اللازمة لإدامة الحياة هي غير كافية مقابل الزيادة السكانية الطارئة في هذا العصر، لذا لا بد من اتباع حل عاجل لذلك والحل يكمن في تحديد النسل.

مشاكل المسلمين

المشاكل التي تعترض طريق تقدم البلاد الإسلامية بما فيها المشاكل السياسية والاقتصادية وأزمات الغذاء والسكن. ليست ناتجة عن قلة في الثروات أو زيادة السكان وما إلى ذلك، بل يرجع الكثير منها - إذا لم تكن جميعها - إلى استبداد الحكومات الفاسدة المفسدة والأساليب الديكتاتورية إلى تمارسها تجاه الشعوب، فهذه الأساليب من الطبيعي أن تقود إلى أزمات ومشاكل حادة تؤدي بحياة الشعب، فيأتي البعض ليعالج النتيجة دون الالتفات إلى السبب مختلقاً الحجج والتبريرات التي لا تصمد أمام الواقع.

وللإجابة على التبرير الذي اختاره هؤلاء نقول لهم: أرجعوا الحريات الإسلامية المسلوبة إلى الناس أولاً حتى يتمكن الناس في ظل الحرية من تهيئة مستلزمات السكن والعمل بسهولة حينذاك فإن الآباء يستطيعون تربية أطفالهم

ص: 166

- مهما كثروا - تربية صحيحة. هيئوا للأب الوقت اللازم والفرصة حتى يقوم بواجبه في التربية، حيث إن بعض الآباء يقضون أوقاتهم سعياً وراء متطلباتالحياة فيذهب الأب ليراجع هذه الدائرة أو تلك كل يوم لأخذ الرخصة - مثلاً - لإنشاء دار للسكن أو للحصول على العمل أو للحصول على جواز السفر أو الجنسية أو غير ذلك، مما يستهلك جهده ووقته في أمور جانبية، وقد يضطره ذلك إلى دفع الرشوة أحياناً، فمن الطبيعي أن إنساناً كهذا لا يستطيع تربية أطفاله أكثر - التربية المطلوبة - إضافة الى ذلك فإن الضرائب الثقيلة التي تجبى من الناس تجرهم أحياناً بالقوة الى الفقر.

ومَثل دعوى هؤلاء كمثل قول الشاعر:

القاه في اليمّ مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتلّ بالماء

نعم، فإن الحكومات تعمد إلى أن توثق أيدي الناس ثم تتهمهم بعدم القدرة على تربية أولادهم.

وإن إشكالهم هذا يرد كذلك في مسألة تعدد الزوجات بحجة أن الرجل لا يقدر أن يعدل بين الزوجتين، وقد نسي القائلون بهذا حرمان الناس من حرياتهم وعدم توطيد السبل الكفيلة بتذليل مشاكل الزواج حتى بقي الملايين من الشباب ذكوراً وإناثاً بعيدين عن الزواج، مما قد يضطرهم إلى الانحراف الجنسي أو الأمراض النفسية وغيرها من الأعمال المنكرة.

الإسلام والزواج المبكر

لمّا كانت زيادة النفوس من أهم عوامل القوة، حيث تشكل الطاقة البشرية قدرة كبيرة للشعوب في البناء والعمران والمحافظة على الاستقلال، لذلك نرى حرص النظام الإسلامي واضحاً في تشجيع زيادة النسل. وتتضح نظرة الإسلام هذه من خلال حثه على الزواج المبكر وتقليل كلفته وهذه النظرة واضحة من خلال:

ص: 167

أولاً: تشجيع الإسلام على الزواج والإنجاب والتكاثر، إذ يقول الرسولالأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة...»(1) وامتدح المرأة الولود، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خير نساءكم الولود الودود»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تزوجوا بكراً ولوداً، ولا تزوجوا حسناء جميلة عاقراً فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة»(3) هذا أولاً.

ثانياً: حبّذ الإسلام على الزواج المبكر وذلك في فترة البلوغ الشرعي للبنين والبنات، فقد جاء عن بريد الكناسي قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام) متى يجوز للأب أن يزوج ابنته ولا يستأمرها؟

قال(عليه السلام): «إذا جازت تسع سنين، فإن زوجها قبل بلوغ التسع سنين كان الخيار لها إذا بلغت تسع سنين» قلت: فإن زوجها أبوها ولم تبلغ تسع سنين فبلغها ذلك فسكتت ولم تأب ذلك أيجوز عليها؟

قال(عليه السلام): «ليس يجوز عليها رضى في نفسها ولا يجوز لها تأب ولا سخط في نفسها حتى تستكمل تسع سنين، وإذا بلغت تسع سنين جاز لها القول في نفسها بالرضا والتأبي وجاز عليها بعد ذلك وإن لم تكن أدركت مدرك النساء». قلت: أفتقام عليها الحدود وتؤخذ بها وهي في تلك الحال وإنما لها تسع سنين ولم تدرك مدرك النساء في الحيض؟

قال(عليه السلام): «نعم، إذا دخلت على زوجها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها وأقيمت الحدود التامة عليها ولها».

قلت: فالغلام يجري في ذلك مجرى الجارية؟

ص: 168


1- من لا يحضره الفقيه 3: 383.
2- الكافي 5: 324.
3- الكافي 5: 333.

فقال(عليه السلام): «يا أبا خالد إن الغلام إذا زوجه أبوه ولم يدرك كان بالخيار إذا أدرك وبلغ خمس عشرة سنة، أو يُشعر في وجهه أو ينبت في عانته قبل ذلك». قلت: فإن أدخلت عليه امرأته قبل أن يدرك فمكث معها ما شاء اللّه ثم أدرك بعد فكرهها وتأباها؟

قال(عليه السلام): «إذا كان أبوه الذي زوجه ودخل بها ولذّ منها وأقام معها سنة فلا خيار له إذا أدرك ولا ينبغي له أن يرد على أبيه ما صنع ولا يحل له ذلك»، قلت: فإن زوجه أبوه ودخل بها وهو غير مدرك أتقام عليه الحدود وهو في تلك الحال؟

قال(عليه السلام): «أما الحدود الكاملة التي يؤخذ بها الرجل فلا، ولكن يجلد في الحدود كلها على قدر مبلغ سنّه، يؤخذ بذلك ما بينه وبين خمس عشرة سنة ولا تبطل حدود اللّه في خلقه، ولا تبطل حقوق المسلمين في ما بينهم».

قلت له: جعلت فداك فإن طلقها في تلك الحال ولم يكن قد أدرك أيجوز طلاقه؟

فقال(عليه السلام): «إذا كان قد مسها في الفرج فإن طلاقها جائز عليها وعليه وإن لم يمسها في الفرج ولم يلذ منها ولم تلذ منه فإنها تعزل عنه وتصير إلى أهلها فلا يراها ولا تقربه حتى يدرك فيسأل ويقال له إنك كنت قد طلقت امرأتك فلانة، فإن هو أقر بذلك وأجاز الطلاق كانت تطليقة بائنة، وكان خاطباً من الخطاب...»(1).

وجاء عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «من سعادة المرء أن لا تطمث ابنته في بيته»(2).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «ما من شاب تزوج في

ص: 169


1- وسائل الشيعة 20: 278.
2- الكافي 5: 336.

حداثة سنه إلّا عج شيطانه: يا ويله يا ويله عصم مني ثلثي دينه، فليتق اللّه العبد في الثلث الباقي»(1).

وشجع العزاب على الزواج المبكر فقال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شراركم عزّابكم والعزاب إخوان الشياطين»(2).

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوج...»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً: «من ترك التزويج مخافة الفقر فقد أساء الظن باللّه عزّ وجلّ إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}»(4)(5).

ثالثاً: رفع الإسلام القيود التي وضعت على الزواج، فحث على المهر القليل وحبّذ مساعدة المؤمن الفقير إذا طلب التزويج فيقول تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(6).

حتى إن بعض العلماء يحرم رد المؤمن القادر على النفقة؛ فالعلامة الحلي(رحمه اللّه) يقول: ويجب إجابة المؤمن القادر على النفقة(7).

رابعاً: يستحب في الإسلام التزويج بأكثر من واحدة إلى أربع زوجات إذااستطاع الزوج أن يعدل بينهن، فقد تمرض المرأة أو تصبح مسنّة عند ذلك لا

ص: 170


1- النوادر للراوندي: 12.
2- جامع الأخبار: 102.
3- المقنعة: 497.
4- سورة النور، الآية: 32.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 385.
6- سورة النور، الآية: 32.
7- انظر: تبصرة المتعلمين: 179.

تتمكن من الإنجاب، سيما وإن المرأة غالباً ما يتوقف إنجابها بعد سن الأربعين بينما الرجل فإنه قد يستمر إلى ما بعد سن الخمسين ففي هذه الحالات نجد أن استمرار النسل مرتبط بإباحة الزواج من أخرى.

السبب الحقيقي لتحديد النسل؟

هناك من يقول بتحديد النسل ومنع زيادته!

إن أولئك الذين يطرحون هذه الاعتقادات هم في الحقيقة يروجون أفكار الاستعمار لكي يتجنبوا الرجحان العددي للمسلمين، ويتجنبوا مجيء مولود من المسلمين لربما سيقلب الدنيا رأساً على عقب فيكون المولود - مثلاً - كإبن سينا والشيخ الطوسي والخواجة نصير الدين الطوسي والمحقق الحلي والعلامة المجلسي والبهائي.

وفي الحقيقة إن وراء هذه الأفكار المخططات الغربية أولاً. وثانياً: جهل حكام البلاد الإسلامية.

فالقضية لا تكمن في تحديد النسل، ولا في الحد من تعدد الزوجات، بل المشكلة تكمن في موضوع آخر، لقد قرأت في أحد المقالات أن أراضي السودان لو زرعت باستثمار أموال الكويت لكانت هي لوحدها تكفي لكي تكوّن البلاد العربية، والتي تعدادها (210) مليون نسمة(1) في حالة اكتفاء ذاتي في الجانب الغذائي.

يعني لو أن أرض السودان زرعت بكاملها وكانت تكاليف زراعتها هي من الأرباح التي تحصل عليها الكويت فإن الدول العربية ستسجل اكتفاءً ذاتياً فيمجال الزراعة.

ص: 171


1- ذكرت بعض الإحصائيات أن البلاد العربية وصل تعداد سكانها إلى ما يزيد على (450 مليون) نسمة.

ولن يحتاجوا إلى استيراد ملايين الأطنان من الحنطة والرز وأمثال ذلك. لكن هل يسمح الغربيون بهذا؟ طبعاً لا، فهم أولاً جعلوا من السودان بلداً فقيراً. ثانياً: إن معظم أرضه صارت عرضةً للجفاف والتصحّر، وثالثاً: إن ثروة الكويت المالية وضعت لصالح منفعة الغربيين وأصحاب رؤوس الأموال بطريقة وأخرى، ورابعاً: جعل الاستعمار من البلاد الإسلامية سوقاً لتصريف منتجاته. هذا هو واقع ما يريده الاستعمار وسيبقى دوماً ينشّط فعاليته ودسائسه ومؤامراته ضد المسلمين.

كما أن عملاءهم يُدخلون إلى أذهان الناس ما يريد أن يتكلمه الغربيون ويوجهون أنظار المسلمين إلى ذلك.

يذكر أحد الكتاب المصريين في أحد كتبه: إن مصر ليست لها القدرة على توفير الغذاء لأكثر من أربعين مليون نسمة لذا لا بد من سنّ قانون يحدد بمقتضاه النسل! ويضيف الكاتب قائلاً: علماً أن حكومة مصر قادرة على تأمين غذاء عشرة ملايين نسمة من طريق الثروة السمكية فقط في ما إذا أعدت برنامجاً متكاملاً للصيد والتربية. إلّا أنها عملت خلاف ذلك؛ فلماذا لا يعطي حكام مصر إلى هذه المسألة أية أهمية؟

تحديد النسل والهجرة اليهودية

تنشر بعض وسائل الإعلام إن إسرائيل تشجع كثيراً على تعدد الزوجات وزيادة نسبة الولادات، ونحن نرى الجهود الكبيرة والعمل المضني والمستمر الذي قامت - وتقوم - به إسرائيل والمنظمات اليهودية لفسح المجال أمام الهجرة اليهودية من كل أنحاء العالم إلى أرض فلسطين الإسلامية من أجل جمع اليهود واستغلال القدرة البشرية لهم.

الصهاينة قاموا بدور كبير وبذلوا جهوداً وأموالاً كثيرة من أجل ممارسة الضغوط على الحكومات المختلفة في أغلب بلدان العالم التي تسكنها أقليات

ص: 172

يهودية؛ ومن هذه الدول دول إسلامية. وكانت هجرة اليهود مستمرة، حتى أن الحكومات أحياناً كانت تضطر إلى التهجير القسري لليهود من بلدانهم إلى فلسطين، وحاولوا بشتى الوسائل إسكانهم وتوفير مستلزمات العمل لهم رغم صغر الرقعة الجغرافية التي تمثلها إسرائيل قياساً بأراضي البلدان الإسلامية.

لم نر محاولات في الدول الإسلامية - على اختلاف أنظمتها وعقائدها السياسية - كمحاولات إسرائيل لاستقطاب اليهود من كل العالم.

فإسرائيل دائماً تحاول تجميع المزيد من اليهود في الأراضي الفلسطينية ولم يقولوا في يوم ما إنهم لا يمكنهم استيعاب المزيد من المهاجرين اليهود أو إنهم يمرون بأزمات غذائية وأن عليهم تقليل عدد السكان نتيجة لهذه الأزمات التي يمرون بها، بينما نحن وبرغم من سعة أراضينا وكثرة خيراتنا ندعي ذلك!!

تحطيم القدرة البشرية

وخلافاً لما تقوم به إسرائيل من بناء واستغلال للعامل البشري نرى أن حكومات بعض البلدان الإسلامية، بكل أراضيها الشاسعة المتروكة، وبكل مواردها الاقتصادية الضخمة غير المستغلة؛ تطالب شعوبها وباستمرار بتحديد النسل وتحذر من مخاطر الانفجار السكاني والأزمة الغذائية المحلية والعالمية، بل إن هذه الحكومات غالباً ما تبرر المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها البلد بأنها نتيجة العبء الذي يشكّله المهاجرون والوافدون من البلاد الإسلامية الأخرى والتي لا تشكل في أكثر حالاتها نسبة تتراوح بين (10-20) بالمائة(1)وربما أقل من ذلك بكثير من نسبة السكان الأصليين للبلد وبدلاً من أن تستغل هذه الطاقات البشرية والإمكانات الثقافية والعلمية والتقنية وتوظف في خدمة

ص: 173


1- نقلاً عن أحد المسؤولين في احدى الدول العربية.

الإسلام والمسلمين بتوجيهها الوجهة الصحيحة، نرى أن حكام البلاد الإسلامية يبرزونها بأنها أم المشاكل.

نحن لم نسمع بأن الكثرة السكانية في البلاد الإسلامية في الأزمنة السابقة كانت تخلق أزمات أو اختلافات اقتصادية للمجتمع بالرغم من بدائية وسائل العمل والإنتاج، بل كان للعامل البشري دوره المهم في تقوية الجوانب المادية والمعنوية لنهوض المجتمع وازدهاره وسيادته.

لذا فإن بعض المتحمسين لضرورة تحديد النسل إما أن يكونوا مغفلين أو أنهم وظفوا أنفسهم لخدمة الشرق والغرب وتبرير المشاكل والمتاعب التي يسببها هؤلاء للإنسانية بصورة عامة وللبلاد الإسلامية بشكل أخص.

الخالق يتكفل الرزق

قال سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: {وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}(1).

وفي آية أخرى: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٖ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ}(2).

فنحن كمسلمين لدينا كامل الاطمئنان من أنه تعالى عندما يخلق الخلق يهيئ له مستلزمات المعيشة والبقاء، وفي الآيتين المتقدمتين يؤكد سبحانه وتعالى أنه تكفّل برزق كل المخلوقات صغيرها وكبيرها، فلا يخالجنا أي قلق يتعلق بقلة الموارد نسبة إلى زيادة عدد السكان، يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لكل ذيرمق قوت»(3).

ص: 174


1- سورة هود، الآية: 6.
2- سورة العنكبوت، الآية: 60.
3- الكافي 8: 23.

ويقول(عليه السلام) في خطبة له: «انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر... مكفول برزقها، مرزوقة بِوِفْقها(1)، لا يغفلها المنان ولا يحرمها الديان، ولو في الصفا اليابس(2)،

والحجر الجامس»(3).

وفي خطبة أخرى يقول(عليه السلام): «عياله الخلائق ضمن أرزاقهم وقدر أقواتهم»(4).

شاهد صغير

يروي أحد الفضلاء أنه في أحد الأيام وبعد جمع محصول القمح كان يتأمل في صبرة(5) القمح فرأى النحل يقترب من الصبرة فيلتقط حبة القمح ثم يترك الصبرة وبعد لحظة يأتي مرة أخرى فيلتقط حبة أخرى ويغادر الصبرة.

ولأن هذه العملية تكررت أمامه لفتتت انتباهه وبدافع من حب الاستطلاع قام بمراقبة النحل ليرى سر هذا الأمر وعندما طار النحل من الصبرة تابعه مراقباً له فرآه يقترب من قبّرة(6) عمياء تفتح منقارها فيضع النحل الحبة فيه لتأكله هذه القبرة، وهكذا كان الزنبور يكرر إطعامها.

حتى هذه القبرة العمياء تكفل اللّه سبحانه وتعالى برزقها وإطعامها وسخر لها كائناً ليس من جنسها لاشباعها! فهل يخلق الرزاق الكريم سبحانه عباده بنيالبشر دون أن يقدر معهم ما يصلحهم وما تتقوّم به حياتهم ومعيشتهم؟ تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

ص: 175


1- بِوِفْقها: أي بما يوافقها من الرزق ويلائم طبعها.
2- الصَفا: الحجر الأملس لا شقوق فيه، والجامس: الجامد.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 185، من خطبة له(عليه السلام) يحمد اللّه فيها ويشفي على رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويصف خلقاً من الحيوان.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 91، من خطبة له(عليه السلام) تعرف بخطبة الأشباح.
5- الصبرة هي الكومة من الحنطة المجتمعة في مكان واحد.
6- القبّرة: ضرب من الطير.

لا أزمة غذائية

صحيح أن هناك في بعض بقاع العالم من يتضورون جوعاً وفقراً ولكن مقابل أولئك كم هي البطون المتخمة في بقاع أخرى؟

نسمع كثيراً أن البلدان المصدرة للحبوب والمنتجات الغذائية تلجأ بين آونة وأخرى إلى إلقاء آلاف الأطنان من المحاصيل والحبوب في البحر أو تتلفها بأساليب أخرى، لتلافي هبوط أسعارها، وتعمل بهذا الاتجاه لرفع أسعارها على المستوردين والمستهلكين، لتحقيق الأرباح التجارية الطائلة عبر طرق لا أخلاقية ولا إنسانية إطلاقاً، حتى إن بعض الإحصائيات تؤكد أن ما يتلف ويحتكر من الحبوب لرفع الأسعار يسد النقص الغذائي الحاصل في كثير من الدول الافريقية. إذن فليس الخلل في نقص الثروات أو قلة الإنتاج. بل في سوء التوزيع وما يقوم به الأقوياء من افتراس للضعفاء، أو ما يمارسونه من ضغوط لإبقاء الملايين تعيش في فقر مدقع، ليصدروا لهم أسلحة الدمار والمخدرات بأثمان باهظة خيالية.

الخلل في الحكومات

بعض الإحصائيات تشير إلى أن القوى الكبيرة ارسلت إلى العالم الثالث من عام (1981- 1989م) (27 ألف) صاروخ أرض - جو و(20 ألف) مدفع و(11 ألف) دبابة و(3200) طائرة حربية و(540) باخرة حربية، وبلغ مجموع واردات هذه الدول من مبيعات الأسلحة في عام واحد (3500) مليار دولار، وأن أوربا وحدها تصرف على اليهود (100) مليار دولار سنوياً.

هذه المبالغ الضخمة لو استغلت استغلالاً صحيحاً ووجهت في الوجهة التيتخدم البشرية هل كان سيبقى بؤس وفقر في هذا العالم؟

وهل كانت الحكومات تسعى جاهدة للترويج لتحديد النسل بهذه الأعذار

ص: 176

الواهية؟ من الطبيعي إذا كانت غالبية الواردات والأموال تذهب إلى جيوب الحكام وخزانات القوى الكبرى ويدس الحاكم أنفه في كل صغيرة وكبيرة، ويحدد الأعمال والتصرفات البسيطة، ويرسم حدود المساحة التي يتحرك ضمنها المواطن، بل ويحدد حتى عدد الغرف في المسكن، ونوع البناء، فحتماً - والحالة كهذه - ستعيش الشعوب حالة من الفقر واللّهاث وراء لقمة العيش وسط هذه المشاكل التي زجّها حكام الجور والسلاطين المستبدون، الذين لا يهمهم سوى خدمة أسيادهم، وإرضاء غرورهم وطموحاتهم مهما كانت التضحيات، وهم على أتم الاستعداد لاختلاق شتى الحجج والتبريرات لتمرير مخططاتهم.

المثل السيئ للقمع

ذكر أن معاوية بن أبي سفيان عندما أراد أن يأخذ البيعة من الناس لابنه يزيد. أصدر أمراً بأن يتهيأ عدد من الجنود ليقف كل واحد منهم على رأس أحد المستمعين لخطابه. وأمرهم إذا رأوا أحداً من المستمعين اعترض عليهم فلهم الحق أن يضربوا عنقه بالسيف.

وفي نفس اليوم قال معاوية لأحد الخطباء: اصعد المنبر وتحدث عن التأييد لبيعة يزيد.

هذا الخطيب كان خبيثاً ماكراً فصعد المنبر وقال ثلاث جمل فقط، أوجز فيها ولبى غرض معاوية فقال:

هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية.

فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد.

ومن أبى فهذا وأشار إلى السيف.

ص: 177

فقال له معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء(1).

سياسة التبرير

في أيام عبد الكريم قاسم وبسبب سنّ قانون إصلاح الأراضي الذي شرّع لخدمة منافع الغرب في العراق، حدث نقص كبير في المواد الغذائية، ومن جملة تلك المواد التي صار من الصعب الحصول عليها البيض، حيث صار يباع في المحلات بالبطاقة ونقاسي في سبيل الحصول عليه الكثير من المعاناة، فذهب شخص إلى عبد الكريم قاسم وقال له: إنك قد دمرت الزراعة والثروة الحيوانية بإصلاحك الزراعي هذا، وخير دليل على ذلك أن كل المواد الغذائية ومنها البيض أصابها نقص شديد، إلّا أن عبد الكريم قاسم - ولكي لا توجّه ضربة إلى ما يسمى بإصلاحاته - تجاهل ذلك النقص الحاصل بالمواد الغذائية الأولية وأجابه قائلاً: إن الأمر على عكس ما تدعي فمنذ أن أُعلن قانون إصلاح الأراضي في العراق فإن الناس أخذوا يشترون المواد الغذائية أضعاف ما كانوا يشترونه في السابق، وهم لا يزالون كذلك. وإن البيض من جملة تلك المواد التي صاروا يشترونها بكثرة، وإن نقص البيض الذي تدعيه قد جاء من هنا!!

نعم، كل هذه الأمور هي بسبب أوامر الغرب التي وجهت إلى البلدان الإسلامية عن طريق خدامهم في المنطقة لإغراقهم بالمشاكل الجانبية وزرع الإحباط في نفوسهم، وإن الشاهد على هذه الأوامر هو أن العرب هم (210)ملايين نسمة(2) لم يتمكنوا من الوقوف بوجه دويلة إسرائيل التي لا تزيد نفوسها على(3) ملايين يهودي.

ص: 178


1- الكامل في التاريخ 3: 508.
2- حسب بعض الإحصاءات الحديثة بلغ عدد سكان الوطن العربي (450 مليون) نسمة.

خيوط الحل

لذا ومن أجل التخلص من هذه المشاكل يجب ما يلي:

أولاً: أن تسود الحرية ربوع البلدان الإسلامية، حتى تدخل الآراء بحرية وأمان ميدان السياسة، وتصبح مسألة المناقشة وطرح الآراء من مسائل الناس المهمة، فإن الرسول والأئمة(عليهم السلام) صرفوا وقتاً طويلاً في محادثة ومناقشة الناس حتى الجهال وعبّاد الأوثان منهم، علماً بأنّ توجيه أمة إلى الطريق الصحيح يكلف الإنسان المشقة والعناء وقد يصرف الإنسان المؤمن لذلك وقتاً طويلاً قد يكون بقدر عمر الإنسان نفسه. ولما كان الشخص الذي يريد أن يحصل على شهادة الدكتوراة لا بد له أن يبذل جهداً لمدة تتراوح بين (20-30) سنة وهو فرد واحد، فكيف إذا أردنا أن نعلم أمة بأكملها ونحن مطالبون بتعليمها.

وثانياً: الحث نحو العمل والزراعة والصناعة والاكتفاء الذاتي وفسح المجال أمامها وتسهيل عقباتها.

إذا سعينا لذلك فإن أكثر مشاكلنا الاجتماعية والتربوية والعسكرية والسياسية سوف تصل إلى الحل.

ومن دون ذلك فلا معنى للانفراج وارتفاع الأزمات، إنه قانون كوني وسماوي ثبت بالتجربة وهي خير برهان.

فضلاً عن العقل والنقل قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1).

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النية وعرفان الحرمة... وتفضّل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلّمين بالجهد والرغبة، وعلى

ص: 179


1- سورة طه، الآية: 124.

المستمعين بالاتباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرّحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة وعلى الفقراء بالصبر والقناعة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الإسلام والإنجاب

قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ أَفَبِالْبَٰطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}(2).

وقال سبحانه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَالْبَٰقِيَٰتُ الصَّٰلِحَٰتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٖ وَأَصْفَىٰكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}(4).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَا أَوْلَٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنيَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(5).

الإسلام والزواج

وقال تعالى: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن

ص: 180


1- المصباح للكفعمي: 280.
2- سورة النحل، الآية: 72.
3- سورة الكهف، الآية: 46.
4- سورة الزخرف، الآية: 16-17.
5- سورة المنافقون، الآية: 9.

يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(1).

وقال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَٰجًا وَذُرِّيَّةً}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَٰمَىٰ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

المرأة الولود

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن خير نسائكم الولود الودود العفيفة العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها المتبرجة مع زوجها الحصان على غيره...»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تزوجوا بكراً ولوداً ولا تزوجوا حسناء جميلة عاقراً، فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة»(6).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «النفساء تبعث من قبرها بغير حساب لأنها ماتت فيغم نفاسها»(7).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «النفساء يجرها ولدها يوم القيامة بسرره(8) إلى

ص: 181


1- سورة النور، الآية: 32.
2- سورة الروم، الآية: 21.
3- سورة الرعد، الآية: 38.
4- سورة النساء، الآية: 3.
5- الكافي 5: 324.
6- الكافي 5: 333.
7- الأمالي للشيخ الطوسي: 673.
8- السرر - بفتح السين - ما تقطعه القابلة من سرة المولود التي هي موضع القطع وما بقي بعد القطع فهو السرة.

الجنة»(1).

الزواج عبادة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق اللّه في النصف الباقي»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ركعتين يصليهما متزوج أفضل من سبعين ركعة يصليهما غير متزوج»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «لو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آية محكمة ولا سنة متبعة ولا أثر مستفيض، لكان في ما جعل اللّه من بر القريب وتقريب البعيد وتأليف القلوب وتشبيك الحقوق وتكثير العدد وتوفير الولد لنوائب الدهر وحوادث الأمور، ما يرغب في دونه العاقل اللبيب ويسارع إليه الموفق المصيب ويحرص عليه الأديب الأريب»(4).

فضل الأولاد وتربيتهم

وقال الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه، ما سألت ربي ولداً نضير الوجه ولا سألت ولداً حسن القامة، ولكن سألت ربي وُلداً مطيعين للّهخائفين وجلين منه حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع للّه قرت به عيني»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «البنات حسنات والبنون نعمة والحسنات يثاب عليها والنعمة يسأل عنها»(6).

ص: 182


1- بحار الأنوار 79: 117.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 518.
3- ثواب الأعمال: 40.
4- الكافي 5: 373.
5- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 380.
6- ثواب الأعمال: 201.

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً لم يمته حتى يريه الخلف»(1).

التكاثر والسنة

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عال ابنتين أو ثلاثاً كان معي في الجنة»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عال ثلاث بنات، يعطى ثلاث روضات من رياض الجنة كل روضة أوسع من الدنيا وما فيها»(4).

البساطة في نفقات الزواج

عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: ذكر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الفرش فقال: «فراشٌ للرجل وفراشٌ للمرأة وفراش للضيف والرابع للشيطان»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لعيسى بن موسى: «يا عيسى! المال مال اللّه عزّوجلّ، جعله ودائع عند خلقه وأمرهم أن يأكلوا منه قصداً ويشربوا منه قصداً ويلبسوا منه قصداً وينكحوا منه قصداً ويركبوا منه قصداً ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، فمن تعدى ذلك كان أكله حراماً وما شرب منه حراماً وما لبسه منه حراماً وما نكحه منه حراماً وما ركبه منه حراماً»(6).

ص: 183


1- من لا يحضره الفقيه 3: 481.
2- الكافي 6: 6.
3- مستدرك الوسائل 15: 115.
4- مستدرك الوسائل 15: 115.
5- الخصال 1: 121.
6- أعلام الدين: 269.

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في ما رواه عن أبيه(عليه السلام): «لينفق الرجل بالقصد وبلغة الكفاف ويقدّم منه فضلاً لآخرته...»(1).

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أنعم الناس عيشاً من منحه اللّه تعالى القناعة وأصلح له زوجه»(2).

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لا تجعل أكثر همّك بأهلك وولدك فإنهم إن يكونوا أولياء اللّه سبحانه فإن اللّه لا يضيع وليه وإن يكونوا أعداء اللّه فما همّك بأعداء اللّه»(3).

ص: 184


1- الكافي 4: 52.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 212.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 761.

تحليل الأحداث ضرورة حياتية

أهمية التحليل في حياة الإنسان

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْأيَٰتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٖ لَّا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا ينفع اجتهاد بغير تحقيق»(2).

وقال(عليه السلام): «لا علم لمن لا بصيرة له»(3).

وقال(عليه السلام): «لا سنة أفضل من التحقيق»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «والعالم بزمانهِ لا تَهجم عليه اللَّوابسُ»(5).

إن من أهم الأمور التي يلزم أن يتحلى بها حملة العلوم الإسلامية، هو القدرة على تحليل الأحداث؛ لكي لا تلتبس عليهم الأمور، ويختلط عندهم الخطأ بالصواب دون أن يشعروا، بل يفترض عليهم الدقة في فهم الأشياء، واستيعابها

ص: 185


1- سورة يونس، الآية: 100-102.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 778.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 783.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 775.
5- الكافي 1: 27.

بوعي، حتى يدركوا الحق، ويجتنبوا الوقوع في الخطأ.

فالذي لا يتمكن، أو لا يعرف أن يرد على القائلين بعدم وجود اللّه(1) أو القائلين بوجود إلهين اثنين أو أكثر - مثلاً - من الممكن أن يصدقهم ويذعن لهم، أو يسلك مسلكهم، وكذلك الذي لا يعلم أن الاقتصاد أو أن الحكم الرأسمالي الغربي غير سليم، ولم يحلل مفرداته، فمن المحتمل أن يكون يوماً ما أحد الرأسماليين.

فكما يحصل الإنحراف على مستوى السلوك، فأيضاً يحصل على مستوى الفكر والاعتقاد. وسبب ذلك الانحراف هو الجهل وعدم وضوح الرؤية لديه، وهكذا بالنسبة إلى سائر نواحي الحياة، فلو عجزنا عن تحليل مفردات الواقع لما فهمنا الواقع بصورة سليمة، بل قد نفهمه بصورة خاطئة أو يكون فهماً مشوشاً، وهذا يؤثر على سلوك الإنسان ومواقفه.

الجاحدون المستيقنون

نعم هناك بعض المعاندين وهم قلة.

قال اللّه تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(2).

فإن المعاندين هم الذين يعرفون الحقائق جيداً، إلّا أنهم يجحدون بها ويخالفون ما علموا به ويفضّلون العوم - أي السباحة - بالاتجاه المعاكس، أما عن خاتمة هؤلاء؛ فكما يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في دعائه المشهور، الموسوم بدعاء كميل: «أقسمت... وأن تخلد فيها المعاندين»(3)، ويؤيد ذلك قوله تعالى في

ص: 186


1- وهم ما يعرفون بالوجوديوين: وهو مذهب من المذاهب المادية التي تنكر وجود الصانع والخالق لهذا الكون.
2- سورة النمل، الآية: 14.
3- مصباح المتهجد 2: 848.

الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّاطَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}(1) وذلك بسبب كفرهم وصدهم غيرهم عن سبيل اللّه، وانحرافهم عن الحجج، وجحدهم للرسالة على علم منهم، وظلمهم لأولياء اللّه حسداً لهم، وبغياً عليهم(2).

فهؤلاء يظلمون ويكفرون ويصدون عن علم، وما هو إلّا العناد واللجاج، فهم خالدون في النار، كما هو الظاهر من الآية؛ فإن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: كفروا باللّه ورسله وما جاءوا به {وَظَلَمُواْ} أنفسهم بالعصيان والناس بالحرمان عن طريق الهداية {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} إذا ماتوا على الكفر، كما يظهر القيد من سائر الآيات {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} والمراد طريق الجنة، {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} جزاءً لما فعلوا من الكفر والظلم {خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} لا زوال للعذاب ولا انقطاع.

وقد يتساءل البعض: ولِمَ العذاب الدائم مقابل العمل الذي كانت له مدة محدودة له؟ والجواب: أن العذاب للشر الكامن الذي كان له مظهر، وذلك باقٍ أبداً، ولذا قال سبحانه: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}(3)(4).

وفي المقام آراء ومباحث عديدة للعلماء، حول خلود أهل النار، لا يسع المجال هنا لذكرها.

تحليل ثورة المختار

ولبيان نموذج من تحليل الأحداث نضرب بعض الأمثلة، ونذكر بعض المصاديق التاريخية، منها ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي، حيث استطاع أن

ص: 187


1- سورة النساء، الآية: 168-169.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 3: 244.
3- سورة الأنعام، الآية: 28.
4- تفسير تقريب القرآن 1: 586.

يحرر الكثير من البلاد الإسلامية من سيطرة ملوك بني أمية، ويجعلها تحت لواءولاء أهل البيت(عليهم السلام)، باستثناء بلاد الشام ومصر وأجزاء من البصرة والحجاز.

وقد وقع فيه البعض، لكن بعد المراجعة والتحقيق والتحليل يظهر صحة عقيدته وولائه وشرعية ما قام به ضد الظلم والطغيان على تفصيل سيأتي بيانه.

وفي البحار: إن ابن زياد حبس ميثم التمار ومعه المختار بن أبي عبيدة الثقفي، فقال ميثم للمختار وهما في حبس ابن زياد: (إنك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين(عليه السلام) فتقتل هذا الجبار الذي نحن في سجنه وتطأ بقدمك هذا على جبهته وخديه).

فلما دعا عبيد اللّه بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد اللّه يأمره بتخلية سبيله.

وذلك أن أخته كانت تحت عبد اللّه بن عمر بن الخطاب فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد، فشفع فأمضى شفاعته فكتب بتخلية سبيل المختار على البريد فوافى البريد وقد أخرج ليضرب عنقه فأطلق(1).

وقد نزل مسلم بن عقيل(عليه السلام) عند وصوله الكوفة في بيت المختار وأقبلت الشيعة تختلف إليه وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا(2).

ومدحه العلامة الحلي(رحمه اللّه) في رجاله(3).

وفي الحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «لا تسبوا المختار، فإنه قتل قتلتنا وطلب بثارنا وزوج أراملنا وقسم فينا المال على العسرة»(4).

ص: 188


1- بحار الأنوار 41: 345.
2- إعلام الورى: 223.
3- رجال العلامة الحلي: 168.
4- رجال الكشي: 125.

وروي أن الإمام الصادق(عليه السلام) ترحم على المختار(1).

وعن الأصبغ، قال رأيت المختار على فخذ أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يمسح رأسه ويقول: «يا كيّس يا كيّس»(2).

نعم كانت حكومة المختار حكومة إسلامية وشيعية، والظاهر أن عقيدته كانت سليمة. وقد ذكره العلامة الأميني(رحمه اللّه) وأثنى عليه الثناء البالغ حيث قال:

رجل الهدى، الناهض المجاهد، والبطل المغوار... .

وقال: ومن عطف على التاريخ والحديث وعلم الرجال نظرة تشفعها بصيرة نفاذة علم أن المختار في الطليعة من رجالات الدين والهدى والإخلاص، وأن نهضته الكريمة لم تكن إلّا لإقامة العدل باستيصال شأفة الملحدين، واجتياج جذوم الظلم الأموي، وإنه بمنزح من المذهب الكيساني، وإن كل ما نبزوه من قذائف وطامات لا مقيل لها من مستوى الحقيقة والصدق؛ ولذلك ترحم عليه الأئمة الهداة سادتنا: السجاد والباقر والصادق (صلوات اللّه عليهم)، وبالغ في الثناء عليه الإمام الباقر(عليه السلام)، ولم يزل مشكور عند أهل البيت الطاهر هو وأعماله(3).

ص: 189


1- رجال العلامة الحلي: 169.
2- رجال الكشي: 127.
3- ويقول الأميني(رحمه اللّه): وقد أكبره ونزهه العلماء الأعلام منهم: سيدنا جمال الدين ابن طاووس في رجاله. وآية اللّه العلامة في الخلاصة. وابن داود في الرجال. والفقيه ابن نما في ما أفرد فيه من رسالته المسماة بذَوب النضار. والمحقق الأردبيلي في حديقة الشيعة. وصاحب المعالم في التحرير الطاووسي. والقاضي نور اللّه المرعشي في المجالس. وقد دافع عنه الشيخ أبو علي في منتهى المقال. وغيرهم. وقد بلغ من إكبار السلف له أن شيخنا الشهيد الأول ذكر في مزاره زيارة تخص به ويزار بها، وفيها الشهادة الصريحة بصلاحه ونصحه في الولاية وإخلاصه في طاعة اللّه ومحبة الإمام زين العابدين(عليه السلام)، ورضا رسول اللّه وأمير المؤمنين (صلوات اللّه عليهما وآلهما) عنه، وأنه بذل نفسه في رضا الأئمة(عليهم السلام) ونصرة العترة الطاهرة والأخذ بثأرهم. والزيارة هذه توجد في كتاب (مراد المريد) وهو ترجمة مزار الشهيد للشيخ علي بن الحسين الحايري، وصححها الشيخ نظام الدين الساوجي مؤلف (نظام الأقوال) ويظهر منها أن قبر المختار في ذلك العصر المتقادم كان من جملة المزارات المشهورة عند الشيعة، وكانت عليه قبة معروفة كما في رحلة ابن بطوطة 1: 138. ولقد تصدى لتدوين أخبار المختار وسيرته وفتوحه ومعتقداته وأعماله جماعة من الأعلام، فمنهم: أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي المتوفى (157ه)، له كتاب (أخذ الثار في المختار). وأبو المفضل نصر بن مزاحم المنقري الكوفي العطار المتوفى (212ه) (أخبار المختار). وأبو الحسن علي بن عبد اللّه بن أبي سيف المدايني (أخبار المختار). وأبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي الصدوق له (كتاب المختار). وأبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، له (مختصر أخبار المختار). والشيخ أحمد بن المتوج له (الثارات) أو (قصص الثار). منظومة. والفقيه نجم الدين جعفر الشهير بابن نما له (ذوب النضار في شرح الثار) طبع برمته في المجلد العاشر من البحار. والشيخ ميرزا محمد علي الأوردبادي، له (سبيك النضار). أو (شرح حال شيخ الثار) في مائتي وخمسين صحيفة، وقد أدى فيه حق المقال، وأغرق نزعاً في التحقيق، ولم يبق في القوس منزعاً، قرأت كثيراً منه ووجدته فريداً في بابه لم يؤلف مثله، جزاه اللّه عن الحق والحقيقة خيراً. انظر: الغدير 2: 343.

وما قاله البعض: من أن المختار ألقى بعض المجرمين في الماء المغلي، وقطع أعضاء البعض الآخر أو مثّل بهم، ما هذه الأقوال إلّا افتراءات واتهامات غير صحيحة(1).

ولعل سائلاً يسأل: كيف تمكن المختار من تجريد بعض البلاد الإسلامية من سلطة الظلم المتمثلة بالأمويين؟

هناك سببان لظهور ثورة المختار، وانكسار الأمويين:

السبب الأول: هو أن الكوفة كانت عاصمة البلاد الإسلامية في زمن الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، وكان الإمام(عليه السلام) قد هيأ شيعته فيها للوقوف بوجه الطغاة من الأمويين وغيرهم من أعداء أهل البيت(عليهم السلام) في المستقبل، أضف إلى ذلك:سعة مساحة الكوفة وأطرافها المترامية، حيث كان الإمام(عليه السلام) يتصل بأطرافها

ص: 190


1- ويحتمل بعض المحققين أن مثل ذلك - على فرض صحته أو صحة بعضه - قام به بعض الناس لشدة حقدهم على من ظلم عترة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يصدر بأمر من المختار.

ويزرع فيهم المبادئ الإسلامية الحقة، فبالرغم من مجيء معاوية ابن أبي سفيان (لعنة اللّه عليهما)، وتمكنه من السيطرة الكاملة على البلاد، إلّا أن حب أهل البيت(عليهم السلام) وولائهم كان راسخاً في قلوب الكوفيين، ولهذا كانت الكوفة دائماً مهيأة للثورة ضد الأمويين الذين أسرفوا في العداء لأهل البيت(عليهم السلام)، وكل من والاهم. ولهذا عندما ظهر المختار (رضوان اللّه عليه) ونادى بالثأر للحسين(عليه السلام)، خرجت السيوف لتنضم إلى دعوته(1).

والسبب الآخر: هو أن مروان الذي كان حاكماً على الشام؛ كان يتصف بالضعف الشديد، بسبب سيطرة عبد اللّه بن الزبير على مناطق الجزيرة كلها والعراق، الذي استعمل أخاه مصعباً على العراق. وكان الضحّاك بن قيس قد بايعه أهل الشام، وهو يدعو إلى ابن الزبير سراً، وكان زفر بن الحرث الكلابي بقنسرين يبايع لابن الزبير، والنعمان بن بشير بحمص أيضاً يبايع لابن الزبير، وناتل بن قيس في فلسطين يبايع لابن الزبير، ثم قامت ثورة التوابين التي هزّت عرش حكومة الأمويين(2)، وغيرها من الحركات والثورات التي أدت كلها إلى إضعاف أمرهم.

أضف إلى ذلك: أن مروان كان يمضي التدبير على غير روية(3)، والحروب

ص: 191


1- فإن قيل: لماذا حاربوا الحسين(عليه السلام) من قبل؟ قلنا: إن الذين حاربوا الحسين(عليه السلام) أكثرهم من غير أهل الكوفة، أضف إلى ذلك وجود الإغراءات وكذا الإرهاب الأموي الدموي والتضليل العام ووجود نفوس مريضة من الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. واغتيال واعتقال قيادات الشيعة في الكوفة أمثال: حجر بن عدي الكندي وأصحابه، وعمرو بن الحمق، واعتقال المختار الثقفي وميثم التمار وسليمان بن صرد الخزاعي، وكثير غيرهم.
2- ثورة التوابين: وهي من جملة الثورات التي قامت في الكوفة بعد استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام)، وذلك في سنة (65) من الهجرة.
3- انظر: التنبيه والأشراف: 269.

التي كان يقودها كلها أضعفت الحكومة المركزية، وأدّت إلى ترجيح كفة ثورة المختار، وسيطرته على الكوفة، وفرض نفسه حاكماً مطاعاً. وهناك أسباب أخرى اجتمعت وأدت إلى انتصار المختار.

وهكذا في كل ثورة، فإن فيها أسباب ومسببات قد تكون بعضها خفية.

فإذا لم تحلل الحوادث التاريخية بشكل جيد وصحيح؛ فسوف يجهل الإنسان كثيراً من الحقائق، وتخفى عليه أمور مهمة.

تحليل أحداث التأريخ ضرورة

وهناك بعض الناس يرفضون مسألة التحليل التاريخي والسياسي والاجتماعي، حيث إنهم يكتفون بالإيمان بالغيب، وترك الواقع والأمور إلى الغيب ينتظرون ما يفعل بهم القضاء والقدر من دون معرفة صحيحة لمعنى الغيب والقضاء والقدر.

والحقيقة: إن الإيمان بالغيب أمر ضروري جداً، وكذلك القضاء والقدر، ولكن ذلك لا يدعونا إلى أن نترك التمسك بالأسباب الطبيعية والحياتية، التي جعلها اللّه عزّ وجلّ أسباباً توصلية، بل إن الطريق الصحيح، بعد التوكل على اللّه سبحانه وتعالى، هو التمسك بالأسباب الدنيوية؛ التي سنها الباري جلّ وعلا، يقول القرآن الكريم عن ذي القرنين: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(1) أي: إنه استطاع أن يصل إلى القدرة عن طريق الأخذ بالأسباب الحياتية(2).

فالأمر الذي يستفاد من تحليل الأحداث - مضافاً إلى المعرفة الصحيحة لما جرى - هو: معرفة كيفية مواجهة أعدائنا، وكيفية تحقيق حكم الإسلام، ونشر

ص: 192


1- سورة الكهف، الآية: 89.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 6: 380 و 382.

مفاهيمه وثقافته، وهذا لا يكون إلّا بالاستفادة من الأسباب الحياتية، وبانتهاج النهج السليم، الذي يوصلنا إلى الهدف، بأسرع وقت.

ومسألة التحليل في معرفة كيفية نجاح ثورة المختار ومن خلال سيرته العملية وأقواله ورسائله وغيرها من الأمور، يفيدنا أن حركته كانت ذات طابع شيعي، وقد أراح الإنسانية والمسلمين من سلطة بني أمية الظالمة في بلاد عديدة، وقد كان هو مرضياً عند أهل البيت(عليهم السلام). وإنما يمكن التوصل إلى هذه النتيجة بتحليل كل الظروف الموضوعية المحيطة بالمختار.

تحليلات الماركسية المغلوطة

كان ماركس يدعو إلى إقامة نظام شيوعي بدل النظام الرأسمالي، زاعماً أن الشيوعية هي مرحلة الوحدة الإنسانية، وبداية السعادة البشرية، والقضاء على كل أنواع الظلم والاستبداد. هكذا قال ماركس، وتنبأ بأن الثورة الإصلاحية الشيوعية ستحدث في أوربا لتهد النظام الرأسمالي وتقيم النظام الاشتراكي فيها.

ولكن ما حدث كان هو العكس تماماً؛ فعندما تفجرت الثورة الاشتراكية الشيوعية في روسيا، وتسلط الطغاة على الشعب الروسي، وأجبروه على الدخول في تنظيمات الحزب الشيوعي، أخذوا يمارسون التسلط الحديدي على الشعب، وبقيت أوروبا إلى اليوم محتفظة بنظامها الرأسمالي، وذهبت كل أقاويل ماركس أدراج الرياح. وبمجرد أن هبت رياح التغيير نجد أن الأنظمة الشيوعية في أوروبا والاتحاد السوفيتي بدأت تتساقط الواحدة تلو الأخرى، لتترك ما جاء به ماركس وتقع في أحضان الرأسمالية - غالباً - .

الإسلام والعدالة الاجتماعية

أما الإسلام العظيم فهو يرفض كلا النظامين الاشتراكي والرأسمالي، ويدعو

ص: 193

إلى مجتمع متكافئ عادل، خالٍ من الطبقات المصطنعة، ويدعو إلى إقامة نظامه الاقتصادي الذي يضمن مصالح الجميع؛ فقد جاء في قوله تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}(1)، وقوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوٰاْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوٰاْ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ}(2). حيث إن الآية الشريفة تؤكد أن من امتنع عن الربا فله ما سلف، أي: أن له حق الاحتفاظ بما عنده من ربح، سواء كان في حقوق اللّه، أو في حقوق الناس، فإنه لا يؤاخذ عليها بعينها، لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته، كما تخلّص من أصله، من حيث صدوره بل أمره فيه إلى اللّه. فإن{وَحَرَّمَ الرِّبا} لما فيه من المضار، ويكفي أن نلمح إلى ضرر واحد هو أن معطي الربا، إما ساقته الضرورة إلى الاقتراض كمرض أو نحوه مما الجأه للاقتراض برباء، فما أقبح أن يستغل الإنسان أخيه في مثل هذا الموقع مما يجدر به أن يساعده ويسعفه، وأما اقترض للتجارة وهذا لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة: الأول: أن يخسر، الثاني: أن لا يربح ولا يخسر، وما أقبح في هاتين الصورتين أن يأخذ صاحب المال زيادة، بينما خسر العامل في الأول، ولم يربح في الثاني، الثالث: أن يربح وقد قرر الإسلام المضاربة والاشتراك في الربح، في ما الربا يُجبر المقترض أن يدفع بمقدار خاص إلى المقرض بينما قد ربح بمقداره وقد ربح أقل وقد ربح أكثر(3).

المهم في هذا المقام: أن حكم اللّه بالنسبة إلى الأموال هو: إقرارها فيأيديهم، وعدم سلبها، وجواز الكسب حيث يوجب زيادة المال مراعياً في ذلك

ص: 194


1- سورة البقرة، الآية: 279.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- انظر: تفسير تقريب القرآن 1: 296.

الشروط المقررة شرعاً، وهذا حكم الإسلام.

كما أن الإسلام لا يقرّ المبدأ الماركسي القائل بلزوم التساوي في العطاء للعمال واعتبار هذا عين العدالة، بل الإسلام يقرّ أن لكل إنسان عطاءً يقابل مقدار ما يبذله من جهد، فالتفريق بين العامل الذكي والعامل الغبي ضروري، وبين العامل الذي يعمل بتقنية عالية، وآخر عكسه، أمر ضروري يقره العقل، بالإضافة إلى ذلك فإن الإسلام يعطي الحرية الكاملة لمعتنقيه، فلهم اختيار الأعمال التي يرونها مناسبة لهم، ويمتلكون أيضاً فيها الخيرة؛ إذ الإسلام أيضاً يدعو إلى عدم سلب حقوق الآخرين، وأن لا يكون إجحاف وغبن في التعاملات المتبادلة؛ يقول القرآن الكريم: {وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}(1).

وبكلمة موجزة، فإن الاقتصاد الإسلامي لا يوافق قانونه كلا النظامين الماركسي والرأسمالي(2)، بل يمتلك حالة الوسط بين الأمرين؛ كما قال تعالى: {جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}(3)، وكما في الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خير الأمور أوسطها»(4).

الإسلام دين الاعتدال

وهكذا الإسلام لا يقبل الفكر القائل: لا إله لهذا الكون، كما ادعىالماديون(5)، وفي المقابل: يرفض مقولة تعدد الآلهة التي تدعيها المسيحية

ص: 195


1- سورة الإسراء، الآية: 35.
2- للإمام الراحل(رحمه اللّه) مؤلفات عدة في بيان النظرية الإقتصادية الإسلامية، منها المخطوط ومنها المطبوع، وهي: كتاب (الفقه: الإقتصاد) جزءان، وكتاب (الاقتصاد الإسلامي المقارن)، و(الفقه: المال)، و(الاقتصاد عصب الحياة)، وغيرها.
3- سورة البقرة، الآية: 143.
4- مستدرك الوسائل 8: 255.
5- راجع كتاب (نقد نظريات فرويد)، و(نقد المادية الديالكتيكية)، و(وقفة مع الوجوديين)، للإمام الراحل(رحمه اللّه).

بشكل مبطّن(1)، بل الإسلام يؤكد ويبرهن على وجود خالق واحد مدبر لهذا الكون، لا شريك له. فالإسلام يطرح أفكاره المتلائمة مع فطرة الإنسان دائماً وعلى مر العصور.

هذا على مستوى الفكر، وكذلك في بقية المستويات يؤكد الإسلام على حالة الاعتدال، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(2).

وعلى هذا فالإسلام لا يقرّ بالفكر الماركسي، ولا بالنظام الاشتراكي الذي يسلب حقوق البشر، ولا بالنظام الرأسمالي الذي يطلق الحرية للإنسان في كل شيء حتى إذا كان على حساب الآخرين. لا سيما في الحصول على معاشه، مما يؤدي بالفرد إلى طرق سبل الرذيلة والفساد؛ مثل فتح بيوت الدعارة والفساد،وحانات الخمر، وظلم الآخرين، وهو بالتالي يؤول إلى تفسخ المجتمع وانحطاطه. بل الإسلام يعطي الحرية في مجالات المنافسة الحميدة، مثل طلب

ص: 196


1- ترتكز المسيحية على خمسة أمور هي جوهر العقيدة عندهم: 1- التثليث: وهو أهم وأول أسرار المسيحية (أب، وابن، وروح القدس). 2- ألوهية المسيح: وهي أن عيسى لم يكن المسيح الموعود بل أنه ابن اللّه نزل ليقدم نفسه قرباناً ويصلي تكفيراً عن خطيئة البشر. وهذه من أعمال بولس منشأ المسيحية. 3- ألوهية روح القدس: وهو الذي حل على مريم العذراء لدى البشارة، وعلى المسيح في العماد، وعلى الرسل بعد صعود المسيح إلى السماء، وأن روح القدس لا يزال موجوداً وهو ينزل على الآباء والقديسين في الكنيسة. 4- صلب المسيح لتكفير عن خطيئة البشر. 5- محاسبة المسيح للناس، وأن الأب أعطى سلطان الحساب للابن، ذلك لأن الابن بالإضافة إلى ألوهيته فهو ابن الإنسان، فهو أولى بمحاسبة الإنسان. وللاطلاع الأكثر انظر: كتاب: الهدى إلى دين المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، للشيخ محمد جواد البلاغي(رحمه اللّه).
2- سورة الفرقان، الآية: 67.

العلم والتقوى وجهاد النفس وغيرها، وبالمقابل: الإسلام يقر الملكية الفردية للأشخاص وملكية الدولة بشروط خاصة.

قضية فلسطين وتحليل الموقف

اشارة

مسألة فلسطين تحتاج هي الأخرى إلى تحليل دقيق، لكي يدرك المرء السبب الرئيسي، والأسباب الثانوية، التي أدت إلى احتلالها وبقائها إلى الآن في يد الأعداء.

في البدء نقول: إن الدولة العثمانية التي كانت فلسطين تحت سيطرتها، كانت تتسم - خاصة في فتراتها الأخيرة - ، بالتخلف والضعف والاضمحلال والظلم والاستبداد، ففي عام (1909م) حاول كثير من السلاطين العثمانيين الإصلاح، وإعادة الروح لهذه الامبراطورية، وتسديد ديونها الثقيلة، ولكن دون فائدة. ومن جهة أخرى كانت الحركة الصهيونية قد استغلت مشاكل الدولة العثمانية المستعصية، وخاصة حاجتها إلى المال، فجاءت تعرض على السلطان عبد الحميد الثاني الملايين، ورغم رفضه إلّا أن الدول الصليبية والحركة الصهيونية كانتا تسعيان جاهدتين للسيطرة على المشرق، وكان في المقدمة هرتزل زعيم الحركة الصهيونية.

وأول من دعا إلى انشاء وطن لليهود، تم بموجبه اتفاقية (سايكس بيكو) عام (1916م) التي أقرت وضع فلسطين تحت نظام دولي. وأيضاً عملت بريطانيا على طرح اقتراح إنشاء وطن قومي لليهود، عبر ما عرف ب(وعد بلفور) المشؤوم (1917م)، ودعمت فرنسا كل ادعاءات بريطانيا بفلسطين، مقابل مصالحمشتركة، ثم جاء دور مؤتمر (سان ريمو) بصورة رسمية، ليؤكد أن فلسطين أصبحت تحت الانتداب البريطاني، ومنحت السلطة المنتدبة كامل السلطة

ص: 197

التشريعية والتنفيذية، فقامت بتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين، وإصدار الجنسية الفلسطينية لهم، وإنشاء المنظمة الصهيونية العالمية للدعاية للصهيونية واليهود في كل الدول، داعية اليهود للهجرة إلى فلسطين، ثم قاموا بإنشاء حركة هجرة الشباب، وأخذت منظمة الشباب النسائية الأمريكية بتمويل هذه الحركة، ثم قاموا - أيضاً - بعملية سحب والإستيلاء على الأراضي من الفلاحين الفلسطينيين، التي أخذت تشتد وتتسارع سنة بعد سنة، مما أدى إلى توقف العمل وتفشي البطالة، والتضخم السكاني في المدن، وصيرورة الأراضي لليهود.

هذا بالإضافة أن أسباباً أخرى، كلها اجتمعت وجعلت من فلسطين محتلة تحت الانتداب البريطاني، العامل الذي ساعد على إيجاد الكيان الصهيوني فيها، والى الآن.

ومن جهة أخرى فإن هناك أسبابا لبقاء فلسطين محتلة، من أهمها ضعف الدول الإسلامية، وتنازلها عن قضية فلسطين مقابل مصالحها الخاصة، كما فعل السادات عام (1978م)، عندما عقد الصلح مع إسرائيل. كل هذه الأمور أدت إلى ترسيخ الاحتلال وسقوط فلسطين بيد اليهود الصهاينة.

كما أن من الاسباب الرئيسية المؤدية لبقاء (فلسطين محتلة تحت سيطرة اليهود الصهاينة) إلى الآن هو ضياع مفهوم (الأخوة الإسلامية) الأصيل من المجتمعات والدول الإسلامية، وانتشار الأفكار التي تثير نعرات التفرقة الطائفية في المجتمع إلى اليوم على قدم وساق، وهكذا ظهور الدعوات القومية والأفكار الإلحادية منها: البعثية والشيوعية، بين المسلمين.

ومن أهم أسباب بقاء فلسطين محتلة هو اتخاذ سياسة العنف والارهاب من قبل الحركات الإسلامية.

ومن جانب آخر استطاع الاستعمار عبر وسائله الخبيثة أن يبث في المسلمين

ص: 198

روح الانهزام والإحباط، ويفهم المسلمين بأنهم غير قادرين على التقدم في الحياة بمفردهم، بل لا بد من الاستعانة بالمستعمرين والسير خلف الغرب، وحاول الغرب أن ينشر أفكاره العلمانية. وأحياناً حاول أن يصوغ الثقافة الإسلامية بشكل يتناسب مع أفكاره، تلك الثقافة التي تدعو المسلم نحو الخمول والكسل، والابتعاد عن اللّه عزّ وجلّ، وترك الإسلام واعتباره دين طقوس لا غير.

ولكن إذا أراد المسلمون التحرر والعزة والعيش الكريم عليهم أولاً التمسك باللّه تبارك وتعالى، والرجوع إلى أحكام الإسلام ونشر أفكاره الأصيلة التي بثها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام)، ومن أهمها: قانون (الأمة الواحدة) و(الأخوة الإسلامية) و(عدم استبداد الحكام) وعدم الفرق بين مسلم ومسلم، العربي وغير العربي، الأبيض والأسود وهكذا... لأن الإنسان متى ما كان مخلصاً في إيمانه مع اللّه، فإن اللّه عزّ وجلّ يمدّه بقوة خفية غيبية، وتصميم وإرادة وعزم وثبات.

فالطريق الصالح لإنقاذ وتحرير فلسطين هو الرجوع الحقيقي إلى الإسلام، والالتزام بالمبادئ الإسلامية التي تخلى عنها البعض كلياً والبعض الآخر جزئياً، وتمسكوا بالأفكار المنحرفة الشرقية والغربية التي لا نفع فيها، فأصبحت الأمة مشتتة وفلسطين قضية عربية فقط مع كونها قضية إسلامية، واتخذت الحركات السياسية طريقة العنف والإرهاب، وهذه كلها من أسباب تأخر الأمة وبقاء الاحتلال.

إذن السبب الوحيد في بقاء اليهود وإلى يومنا هذا في فلسطين هو ابتعادنا عن الإسلام، بالإضافة إلى سوء استخدامنا وسوء إدارتنا لقدراتنا وثرواتنا الماديةوالعلمية.

فيجب علينا السعي والجد في تحصيل العلوم والإمكانيات، والتحرك بروح ملؤها الإيمان باللّه والتوكل عليه، وإشاعة المفاهيم الروحية السامية بين أفراد

ص: 199

شعوبنا الإسلامية، لكي يتم لقاء الجميع في مشترك واحد، وهو اللّه عزّ وجلّ، مضافاً إلى ضرورة التحلي بالسلم واللاعنف في جيمع نواحي الحياة.

دعوة مفتوحة للجميع

يقول تعالى في كتابه المجيد: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِيْ الْمُرْسَلِينَ}(1) الآية تنفي أي مبدل لكلمات اللّه، سواء كان من ناحيته تعالى، بأن تتبدل مشيئته في خصوص كلمة، بأن ينقضها بعد إبرامها، أو كان التبديل من غيره تعالى، بأن يظهر عليه ويقهره، وهذه الكلمات التي لا تقبل التبديل والتغير هي سنن اللّه عزّ وجلّ في هذا الكون حيث قال عزّ وجلّ: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(2). وهذا هو معنى {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ}. أي: لا مبدل لسنن اللّه عزّ وجلّ التكوينية والتشريعية. فاللّه عزّ وجلّ جعل في هذا الكون، وفي هذه الحياة، سنناً لا تتبدل، ومن أخذ بهذه السنن وصل إلى كماله، وحقق جميع أهدافه ومن لم يأخذ بها فسوف يشقى، ولا يصل إلى كماله المنشود، ومرامه المأمول.

يقول اللّه عزّ وجلّ: {وَأَلَّوِ اسْتَقَٰمُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّاءً غَدَقًا}(3)، فكما أن الإستقامة على الطريقة أي طريقة الإسلام الحقة التي تقتضي الثبات والإيمان الخالص باللّه وبآياته، تتحقق النتيجة المذكورة، وهي {مَّاءً غَدَقًا} أي: كثيراً،وهذا كناية عن الإفضال عليهم، وهي التوسعة والرزق والبركات المفاضة من السماء والأرض؛ فكذلك التمسك بالسنن بصورة صحيحة تعطي نتائج رائعة وحقيقية، ولا يستطيع أحد أن يقاوم هذه السنن الإلهية.

ص: 200


1- سورة الأنعام، الآية: 34.
2- سورة الأحزاب، الآية: 62.
3- سورة الجن، الآية: 16.

فعلى الإنسان أن يسير مع القرآن، ومع الإسلام، ومع الإيمان باللّه عزّ وجلّ، ومع كل ما نطق به القرآن الكريم، وعليه الأخذ بالأسباب والمسببات الكونية، فإنها سنن اللّه في الكون {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(1) وأن العمل على عكس ما أمر به اللّه وما جاء بها الإسلام والقرآن كريم يؤدي إلى زوال النعم، وعدم تحقق التقدم، واستبعاد إحراز الأهداف؛ قال تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... إنه ما عاش قوم قط في غضارة من كرامة نعم اللّه في معاش دنيا ولا دائم تقوى في طاعة اللّه والشكر لنعمه، فأزال ذلك عنهم، إلّا من بعد تغيير من أنفسهم، وتحويل عن طاعة اللّه، والحادث من ذنوبهم وقلة محافظة، وترك مراقبة اللّه جلّ وعزّ، وتهاون بشكر نعمة اللّه؛ لأن اللّه عزّ وجلّ يقول في محكم كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٖ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}(3) ولو أن أهل المعاصي وكسبة الذنوب، إذا هم حذروا زوال نعم اللّه وحلول نقمته وتحويل عافيته، أيقنوا أن ذلك من اللّه جلّ ذكره بما كسبت أيديهم، فأقلعوا وتابوا وفزعوا إلى اللّه جلّ ذكره، بصدق من نياتهم وإقرار منهم بذنوبهم وإساءتهم، لصفح لهم عن كلذنب، وإذا لأقالهم كل عثرة ولرد عليهم كل كرامة نعمة، ثم أعاد لهم من صلاح أمرهم ومما كان أنعم به عليهم كلَّ ما زال عنهم وأفسد عليهم. فاتقوا اللّه أيها الناس حق تقاته، واستشعروا خوف اللّه جلّ ذكره...»(4).

ص: 201


1- سورة الأحزاب، الآية: 62.
2- سورة الأنفال، الآية: 53.
3- سورة الرعد، الآية: 11.
4- الكافي 8: 256.

وقال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «الذنوب التي تغيّر النعم: البغي على الناس، والزوال عن العادة في الخير واصطناع المعروف، وكفران النعم، وترك الشكر، قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1).

والذنوب التي تورث الندم: قتل النفس التي حرم اللّه، قال اللّه تعالى {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} وقال عزّ وجلّ في قصة قابيل حين قتل أخاه هابيل فعجز عن دفنه... : {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّٰدِمِينَ}(2) وترك صلة القرابة حتى يستغنوا، وترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وترك الوصية وردّ المظالم ومنع الزكاة حتى يحضر الموت وينغلق اللسان.

والذنوب التي تنزل النقم: عصيان العارف بالبغي والتطاول على الناس والاستهزاء بهم والسخرية منهم.

والذنوب التي تدفع القسم: إظهار الافتقار والنوم عن العتمة وعن صلاة الغداة واستحقار النعم وشكوى المعبود عزّ وجلّ.

والذنوب التي تهتك العصم: شرب الخمر واللعب بالقمار وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح وذكر عيوب الناس ومجالسة أهل الريب.

والذنوب التي تنزل البلاء: ترك إغاثة الملهوف وترك معاونة المظلوم وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والذنوب التي تديل الأعداء: المجاهرة بالظلم وإعلان الفجور وإباحة المحظور وعصيان الأخيار والانطباع للأشرار.

ص: 202


1- سورة الرعد، الآية: 11.
2- سورة المائدة، الآية: 31.

والذنوب التي تعجل الفناء: قطيعة الرحم واليمين الفاجرة والأقوال الكاذبة والزنا وسد طرق المسلمين وادعاء الإمامة بغير حق.

والذنوب التي تقطع الرجاء: اليأس من روح اللّه والقنوط من رحمة اللّه والثقة بغير اللّه والتكذيب بوعد اللّه عزّ وجلّ.

والذنوب التي تظلم الهواء: السحر والكهانة والإيمان بالنجوم والتكذيب بالقدر وعقوق الوالدين.

والذنوب التي تكشف الغطاء الاستدانة بغير نية الأداء والإسراف في النفقة على الباطل والبخل على الأهل والولد وذوي الأرحام وسوء الخلق وقلة الصبر واستعمال الضجر والكسل والاستهانة بأهل الدين.

والذنوب التي ترد الدعاء: سوء النية وخبث السريرة والنفاق مع الإخوان وترك التصديق بالإجابة وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها وترك التقرب إلى اللّه عزّ وجلّ بالبر والصدقة واستعمال البذاء والفحش في القول.

والذنوب التي تحبس غيث السماء: جور الحكام في القضاء وشهادة الزور وكتمان الشهادة ومنع الزكاة والقرض والماعون وقساوة القلب على أهل الفقر والفاقة وظلم اليتيم والأرملة وانتهار السائل وردّه بالليل»(1).

بين التحليل والسنن الإلهية

يقول اللّه تبارك وتعالى حكاية عن قصة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}(2) هنا وفي هذه الآية يدعو نوح(عليه السلام) قومه إلى سنة من سنن اللّه، ويحرضهم على العمل والتمسك بها، بذكر النتائج المترتبة على هذه السنة

ص: 203


1- معاني الأخبار: 270.
2- سورة نوح، الآية: 10.

{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٖ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرًا}(1).

ولكنهم خالفوا نبيهم فنرى في سياق الآيات الشريفة أنهم عندما لم يتمسكوا بالسنن، ولم يستجيبوا لدعوة نوح(عليه السلام) جاءت النتائج التي حاكوها بأيديهم: {وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}(2) فكانت النتيجة كما يلي: {مِّمَّا خَطِئَٰتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارًا فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا}(3). فكما أن اللّه عزّ وجلّ أودع في عالم المادة جملة من القوانين والقابليات، كذلك في عالم المعنى، فما ذكرناه مصداق للسنن الكونية في عالم المعنى الذي تكون نتائجه ملحوظة في عالم المادة.

ومن هنا تبرز أهمية التحليل في الأمور الكونية، مادية ومعنوية، للوصول إلى أصل السنن الإلهية، والعمل بها، فكما أن ذا القرنين أخذ بالأسباب الطبيعية، واستطاع أن يبني سداً ضخماً، كما حكاه القرآن: {فَمَا اسْطَٰعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَٰعُواْ لَهُ نَقْبًا}(4).

وكما استطاع نيوتن من خلال تحليله العميق لسبب سقوط التفاحة أن يكشفعن وجود قانون الجاذبية، وهكذا.

إذن بالتحليل الواعي والتفكير الجدي المتواصل الصحيح يستطيع الإنسان أن يصل إلى حقائق الأشياء وأصولها، ويحصل على نتائج سليمة واعية. وهكذا يلزم تحليل الأحداث لمعرفة ما يجري على الأمة الإسلامية فإن العارف بزمانه لا

ص: 204


1- سورة نوح، الآية: 11-12.
2- سورة نوح، الآية: 23.
3- سورة نوح، الآية: 25.
4- سورة الكهف، الآية: 97.

تهجم عليه اللوابس.

«اللّهم صل على محمد وآله محمد، اللّهم واقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصيبات الدنيا»(1)

بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الكريم

التدبر في القرآن

قال اللّه تعالى: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٖ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(4).

التحليل الاقتصادي

قال تعالى: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةَ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(6).

ص: 205


1- مصباح المتهجد 2: 568.
2- سورة ص، الآية: 29.
3- سورة القمر، الآية: 22.
4- سورة محمد، الآية: 24.
5- سورة الحشر: 7.
6- سورة البقرة: 195.

وقال سبحانه: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَٰزِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعْلُومٖ}(1).

الإسلام معتدل في نهجه

قال اللّه تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(2).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}(5).

تحليل الأحداث ينجي من المهالك

قال اللّه تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(6).

وقال سبحانه: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ}(8).

ص: 206


1- سورة الحجر: 19- 21.
2- سورة الإسراء، الآية: 29.
3- سورة الفرقان، الآية: 67.
4- سورة الإسراء، الآية: 110.
5- سورة البقرة، الآية: 143.
6- سورة الأنعام، الآية: 11.
7- سورة النمل، الآية: 69.
8- سورة الروم، الآية: 42.

من هدي السنّة المطهّرة

التدبر في القرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لابن مسعود: «يا ابن مسعود، اذا تلوت كتاب اللّه تعالى فأتيت على آية فيها أمر ونهي فرددها، نظراً واعتباراً فيها، ولا تَسهُ عن ذلك»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر»(3).

التحليل الاقتصادي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من غرس شجراً أو حفر وادياً بدءاً لم يسبقه إليه أحد، وأحيا أرضاً ميتة فهي له، قضاء من اللّه ورسوله»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا ضرر ولا ضرار»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولاه مصر: «... وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله؛ فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم، لأن الناس كلهم عيالٌ على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لايدرك إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارةٍ أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلّا قليلاً. فإن شكوا ثقلاً أو علةً أو انقطاع شربٍ أو بالةٍ أو إحالة أرضٍ اغتمرها غرقٌ أو أجحف بها عطشٌ خففتَ عنهم بما ترجو أن يصلح به

ص: 207


1- مكارم الأخلاق: 452.
2- منية المريد: 368.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 318.
4- الكافي 5: 280.
5- الكافي 5: 280.

أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم؛ فإنه ذخرٌ يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قوّتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك(1) لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبةً أنفسهم به، فإن العمران محتملٌ ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر...، ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه؛ فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترءون عليها، فإنهم سلمٌ لا تخاف بائقته وصلحٌ لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثيرٍ منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات وذلك باب مضرةٍ للعامة وعيبٌ على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدلٍ وأسعارٍ لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرةً بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبهفي غير إسرافٍ...»(2).

الإسلام معتدل في نهجه

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام) لما تلا هذه الآية: «{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ

ص: 208


1- الإجمام: الترفيه والإراحة.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53، من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولّاه مصر.

وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(1) قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده فقال: هذا الإقتار الذي ذكره اللّه في كتابه، ثم قبض قبضة أخرى فأرخى كفه كلها ثم قال: هذا الإسراف، ثم أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال: هذا القوام»(2).

وقال العياشي: استأذنت الرضا(عليه السلام) في النفقة على العيال؟ فقال: «بين المكروهَين» قال: فقلت: جعلت فداك، لا واللّه ما أعرف المكروهين؟

فقال: «بلى يرحمك اللّه أما تعرف أن اللّه عزّ وجلّ كره الإسراف وكره الإقتار فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}»(3)(4).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «إن للسخاء مقداراً فإن زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقداراً فإن زاد عليه فهو جبن، وللاقتصاد مقداراً فإن زاد عليه فهو بخل، وللشجاعة مقداراً فإن زاد عليه فهو تهور»(5).

معرفة الأحداث تنجي من المهالك

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فانما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر،وانتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً يتجنب فيه الصرعة في المهاوي...»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في وصيته لعبد اللّه ابن جندب: «وقف عند كل أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه؛ قبل أن تقع فيه فتندم»(7).

ص: 209


1- سورة الفرقان، الآية: 67.
2- الكافي 4: 54.
3- سورة الفرقان، الآية: 67.
4- الخصال 1: 54.
5- الدرة الباهرة: 45.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 153 من خطبة له(عليه السلام) في صفات الغافلين.
7- تحف العقول: 304.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد»(1).

تحليل أحوال الأمم الماضية

قال أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه): «وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع النعم ف- : {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَٰلًا وَأَوْلَٰدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(2) فإن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء(3) والنجداء(4) من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل(5)، بالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة والأخطار الجليلة والآثار المحمودة، فتعصبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض. واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم واحذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم،فالزموا كل أمرٍ لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها، والتواصي بها، واجتنبوا كل أمرٍ كسر فقرتهم، وأوهن منتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي. وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في

ص: 210


1- الكافي 8: 23.
2- سورة سبأ، الآية: 35.
3- المجداء: الشرفاء والكرماء من القوم.
4- النجداء: وهم أهل الاعانة والاستغاثة.
5- اليعاسيب جمع يعسوب: وهو أمير النحل، ويستعمل مجازاً في رئيس القوم.

حال التمحيص والبلاء؛ أ لم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا حالاً، اتخذتهم الفراعنة عبيداً، فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلةً في امتناعٍ، ولا سبيلاً إلى دفاعٍ، حتى إذا رأى اللّه سبحانه جد الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً وأئمةً أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم، فانظروا كيف كانوا، حيث كانت الأملاء مجتمعةً، والأهواء مؤتلفةً، والقلوب معتدلةً، والأيدي مترادفةً، والسيوف متناصرةً، والبصائر نافذةً، والعزائم واحدةً، أ لم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين، فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة وتشتتت الألفة واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين وتفرقوا متحاربين، وقد خلع اللّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين.

فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل(عليهم السلام) فما أشد اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال، تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم، لياليكانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق، وبحر العراق، وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح(1)، ومهافي(2) الريح، ونكد المعاش، فتركوهم عالةً مساكين، إخوان دبرٍ ووبرٍ، أذل الأمم داراً وأجدبهم قراراً، لا يأوون إلى جناح

ص: 211


1- الشيح: نبات معروف ينبت في البادية.
2- المهافي: المواضع التي تهفو الرياح أي تهب.

دعوةٍ يعتصمون بها، ولا إلى ظل ألفةٍ يعتمدون على عزها، فالأحوال مضطربةٌ والأيدي مختلفةٌ والكثرة متفرقةٌ، في بلاء أزلٍ وأطباق جهلٍ، من بناتٍ موؤودةٍ وأصنامٍ معبودةٍ وأرحامٍ مقطوعةٍ وغاراتٍ مشنونةٍ.

فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولاً(1) فعقد بملته طاعتهم، وجمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين، وفي خضرة عيشها فكهين، قد تربعت الأمور بهم في ظل سلطانٍ قاهرٍ، وآوتهم الحال إلى كنف عزّ غالبٍ، وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملكٍ ثابتٍ، فهم حكامٌ على العالمين، وملوكٌ في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم، ويمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم، لا تغمز لهم قناةٌ ولا تقرع لهم صفاةٌ. ألّا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهلية، فإن اللّه سبحانه قد امتن على جماعة هذه الأمة، في ما عقد بينهم من حبل هذه الألفة، التي ينتقلون في ظلها ويأوون إلى كنفها، بنعمةٍ لا يعرف أحدٌ من المخلوقين لها قيمةً؛ لأنها أرجح من كل ثمنٍ، وأجل من كل خطرٍ. واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً،وبعد الموالاة أحزاباً، ما تتعلقون من الإسلام إلّا باسمه، ولا تعرفون من الإيمان إلّا رسمه، تقولون النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه، انتهاكاً لحريمه، ونقضاً لميثاقه، الذي وضعه اللّه لكم حرماً في أرضه، وأمناً بين خلقه، وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصارٌ ينصرونكم، إلّا المقارعة بالسيف، حتى يحكم اللّه

ص: 212


1- ألا وهو سيد الكائنات المبعوث رحمة للعالمين الرسول الأعظم محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

بينكم.

وإن عندكم الأمثال من بأس اللّه وقوارعه وأيامه ووقائعه، فلا تستبطئوا وعيده جهلاً بأخذه، وتهاوناً ببطشه، ويأساً من بأسه، فإن اللّه سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن اللّه السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي. ألّا وقد قطعتم قيد الإسلام وعطلتم حدوده وأمتم أحكامه»(1).

ص: 213


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

توصيات إلى العاملين للإسلام

الدعوة إلى الإسلام

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(1).

وقال سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

هناك حقيقة يعترف بها حتى بعض أعداء الإسلام وهم يستيقنونها في أنفسهم، وهي أن الإسلام لو طبق نظامه وقوانينه على العالم لتحققت العدالة الاجتماعية كاملة، وتحقق الرفاه والسعادة البشرية بحيث لا يبقى مجال أبداً لأية قوة ظالمة أو حكومة غاشمة متسلطة على رقاب الشعوب.

ومن هنا جاءت الدعوة الإلهية لجميع العباد بالدخول في الإسلام.

من أساليب الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

إن الإسلام دعا الجميع إلى الانضمام تحت لوائه، وكانت الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجلى ذلك في أسلوب دعوة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) غير المسلمين إلى الإسلام، فقد كان من أساليبه التي اتبعها بأمر اللّه عزّ وجلّ - باعتباره

ص: 214


1- سورة النحل، الآية: 125.
2- سورة آل عمران، الآية: 85.

قائداً للمسلمين - مع باقي الحكام والملوك أن دعاهم إلى الإسلام وترك دياناتهم التي تخالف العقل والفطرة، وضمن لهم السلم والسلامة وأنهم لو دخلوا الإسلام فإنه سيبقيهم في مناصبهم التي هم عليها. كما أظهر لهم أن لا حاجة لإرسالهم الأموال والموارد التي كانت تجمع في دولتهم بشرط أن تصرف على الشعوب، إلّا في حالة واحدة وهي تلك الأموال الفائضة عن حاجة ذلك الشعب.

فقد ذكر أن (كسرى) كتب إلى (باذان) - وكان والياً على اليمن - : بلغني أن في أرضك رجلاً يتنبأ فاربطه وابعث به إلي، فبعث (باذان) قهرمانه وهو (بانوبه)، وكان كاتباً حاسباً، وبعث معه برجل من الفرس يقال له: (خرخسك) فكتب معهما إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى وقال لبانوبه: ويلك، انظر ما الرجل، وكلمه، وأتني بخبره.

فخرجا حتى قدما المدينة على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكلمه بانوبه وقال: إن شاهنشاه (ملك الملوك) كسرى، كتب إلى الملك باذان يأمره، أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتبت فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكف عنك به، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.

وكانا قد دخلا على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما،وقال: «ويلكما من أمركما بهذا؟».

قالا: أمرنا بهذا ربنا، يعنيان كسرى.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي».

ثم قال لهما: «ارجعا حتى تأتياني غداً». وأتى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الخبر من السماء: أن اللّه عزّ وجلّ قد سلط على كسرى ابنه (شيرويه) فقتله في شهر كذا وكذا لكذا وكذا من الليل، فلما أتيا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لهما: «إن ربي قد قتل

ص: 215

ربكما ليلة كذا وكذا من شهر كذا وكذا، بعد ما مضى من الليل كذا وكذا، سلط عليه شيرويه فقتله».

فقالا: هل تدري ما تقول؟! إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا، فنكتب بها عنك ونخبر الملك؟

قال: «نعم، أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهي إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملّكتك على قومك»(1).

وروي أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتب إلى باذان كتاباً جاء فيه: «إن اللّه وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا فانتظر ذلك»، فلما أتى الكتاب باذان توقف وقال: إن كان نبياً فسيكون ما قال، فلما جاء إليه كتاب شيرويه أسلم، وأسلم معه الأبناء من فارس من كان منهم باليمن، وبعث إليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنيابة اليمن بكمالها، فلم يعزله عنها حتى مات(2).

وهكذا كتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى العديد من ملوك العالم أن: «أسلم تسلم».

وذلك عندما رجع(صلی اللّه عليه وآله وسلم)من صلح الحديبية في ذي الحجة من السنة السادسة للهجرة، فأخذ يبعث إلى الملوك ورؤساء الدول والقبائل يدعوهم إلى الإسلام. وكل هذه الرسائل كانت تحكي عن الدعوة إلى الصلح والأمن والسلام.

وإليكم نماذج منها:

رسالة إلى هرقل

1- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى هرقل عظيم الروم:

ص: 216


1- بحار الأنوار 20: 389.
2- انظر: مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 332.

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه، عبده ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، أسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم اليريسين(1) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا اللّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون».

والأريسين أو اليريسين: جمع أريس، أي المزارع.

رسالة إلى كسرى

2- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى كسرى ملك إيران:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله، وشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لاشريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بداعية اللّه عزّ وجلّ، فإني أنا رسول اللّه إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم فإن أبيت فعليك فإن إثم المجوس عليك»(2).

رسالة إلى النجاشي

3- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك الحبشة:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى النجاشي ملك الحبشة: إني أحمد إليك اللّه الملك القدوس السلام المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة، فحملت بعيسى، وإني أدعوك إلى

ص: 217


1- بحار الأنوار 20: 386.
2- بحار الأنوار 20: 389.

اللّه وحده لا شريك له، فإن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول اللّه وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى»(1).

رسالة إلى النجاشي الثاني

4- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى النجاشي الثاني:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى النجاشي عظيم الحبشة: سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية اللّه، فإني رسوله، فأسلم تسلم {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(2) فإن أبيت فعليك إثم النصارى)(3).

ولا يخفى أن لقب ملك الحبشة كان (الأضخم).

رسالة إلى المقوقس

5- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المقوقس كبير القبط(4):

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى المقوقس عظيم القبط: سلام على من اتبع الهدي، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم

ص: 218


1- بحار الأنوار 20: 392، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 430.
2- سورة آل عمران، الآية: 64.
3- انظر: بحار الأنوار21: 23، وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 455.
4- انظر: بحار الأنوار 20: 382 وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 416.

يؤتك اللّه أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط، و{يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ})(1).

رسالة إلى ملك مصر

6- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك مصر:

روي أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتب رسالة ثانية إلى المقوقس ملك مصر، وفي ما يلي نصها:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عند رسول اللّه إلى صاحب مصر، أما بعد، فإن اللّه أرسلني رسولاً، وأنزل علي كتاباً قرآناً مبيناً، وأمرني بالإعذار والإنذار ومقاتلة الكفار، حتى يدينوا بديني، ويدخل الناس فيه، وقد دعوتك إلى الإقرار بوحدانيته تعالى، فإن فعلت سعدت، وإن أبيت شقيت، والسلام)(2).

رسالة إلى صاحب دمشق

7- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى الحارث بن أبي شمر: سلام على من اتبع الهدى، وآمن به وصدق، وإني أدعوك أن تؤمن باللّه وحده لا شريك له، يبقى ملكك)(3).

رسالة إلى ملك البحرين

8- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المنذر بن ساوي ملك البحرين:

ص: 219


1- سورة آل عمران، الآية: 64.
2- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 418.
3- انظر: بحار الأنوار 20: 383 وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى المنذر بن ساوي: سلمأنت، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلّا هو، أما بعد: فإن من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ذمة اللّه وذمة رسوله ممن أحب ذلك من المجوس فإنه آمن، ومن أبى فعليه الجزية)(1).

رسالة إلى ملك اليمامة

9- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى هوذة بن علي ملك اليمامة:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى هوذة بن علي: سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك)(2).

رسالة إلى ملوك عمان

10- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جيفر وعبد ملكي عمان:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد عبد اللّه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، إني رسول اللّه إلى الناس كافةً لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما)(3).

ص: 220


1- انظر: بحار الأنوار 21: 49 وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 649.
2- انظر: بحار الأنوار 20: 394 وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 343.
3- انظر: بحار الأنوار 18: 138 وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 361.

وقد كان هذا الأسلوب الهادئ والهادف نابعاً من تلك الحكمة العالية التيكان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتحلى بها، حيث ساعد في الدعوة للإسلام كثيراً، وعلم الناس أن هذا الدين ليس من ورائه أطماع دنيوية رخيصة ولا منافع شخصية تعود بشكل أو آخر على صاحب الدعوة الإسلامية الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ ولهذا السبب حينما سمع الناس نداء الإسلام وعرفوا صدقه لبّوا الدعوة واستقبلوها بكل شوق لاطمئنانهم على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم.

رسالة إلى يهود خيبر

11- ومن كتاب لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى يهود خيبر:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه صاحب موسى وأخيه المصدّق لما جاء به، ألّا إن اللّه قال لكم: يا معشر أهل التوراة، وإنكم لتجدون ذلك في كتابكم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَْٔهُ فََٔازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَا}(1). وإني أنشدكم باللّه، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاكم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني هل تجدون في ما أنزل اللّه عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(2) فأدعوكم إلى اللّه ونبيه)(3).

ص: 221


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة البقرة، الآية: 256.
3- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 487.

رسالة إلى أهل جرباء وأذرح

12- وكتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أهل جرباء وأذرح:(بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي رسول اللّه، لأهل جرباء وأذرح، إنهم آمنون بأمان اللّه وأمان محمد، وإن عليهم مائة دينار في كل رجب، ومائة أوقية طيبة، وإن اللّه عليهم كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين ومن لجأ إليهم من المسلمين)(1).

رسالة إلى أهل نجران

13- وكتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأهل نجران:

(... لنجران وحاشيتها جوار اللّه وذمة محمد النبي رسول اللّه، على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعيرهم وبعثهم وأمثلتهم، لا يغير ما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم وأمثلتهم، لا يفتن أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا واقه من وقاهيته(2)

على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم رهق ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين بنجران، ومن أكل منهم رباً من ذي قبل فذمتي منه برئية، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، ولهم على ما في هذه الصحيفة جوار اللّه وذمة محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبداً حتى يأمر اللّه ما نصحوا وأصلحوا في ما عليهم غير مكلفين شيئاً بظلم)(3).

رسالة إلى اليهود عامة

14- وفي بعض المصادر أنه كتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معاهدة له مع عامة

ص: 222


1- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 3: 113.
2- الواقه: قيم البيعة، والوقاهية: الوظيفة.
3- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 3: 152 و 3: 165.

اليهود، ليحافظ بذلك على الأمن والأمان والسلم والسلام لعموم الشعب من مسلمين وغيرهم، وكانت لمثل هذه المعاهدات والرسائل الأثر البالغ فيالتعرف على سماحة الإسلام وأخلاقياته، وكان ذلك سبباً في إسلام الكثير من اليهود:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم(1) وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف

ص: 223


1- الربعة: الحالة التي جاء الإسلام وهم عليها.

والقسط بين المؤمنين.

وبنو النبيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً(1)بينهم، أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة(2) ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين. وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن. وإن ذمة اللّه واحدة، يجير عليهم أدناهم. وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

وإن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصرين عليهم. وأن سلم المؤمنين واحدة، لايسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلّا على سواء وعدل بينهم. وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً. وإن المؤمنين يبئ بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه. وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش، ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن. وإنه من اعتبط(3) مؤمناً قتلاً عن بيّنة، فإنه قود به، إلّا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلّا قيام عليه. وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن باللّه واليوم الآخر: أن ينصر محدثاً، ولايؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة اللّه وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين

ص: 224


1- المفرح: المثقل بالدين والكثير العيال.
2- الدسيعة: العظيمة.
3- اعتبطه: قتله بلا جناية منه توجب قتله.

دينهم، مواليهم وأنفسهم إلّا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ(1) إلّا نفسه وأهل بيته.

وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بن عوف. وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلّا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلّا نفسه وأهل بيته. وإن جفنة - بطن من ثعلبة - كأنفسهم. وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف. وإن البر دون الإثم. وإن موالي ثعلبة كأنفسهم. وإن بطانة(2) يهود كأنفسهم. وإنه لا يخرج منهم أحد إلّا بإذن محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وإنه لاينحجز(3) على ثأر جرح. وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، إلّا من ظلم. وإن اللّه على أبر هذا(4).

وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه. وإن النصر للمظلوم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. وإن الجار كالنفس، غير مضابى ولا آثم. وإنه لا تجار حرمة إلّا بأذن أهلها. وإن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وإن اللّه على أتقى ما في هذا الصحيفة وأبره.

وإنه لا تجار قريش، ولا من نصرها. وإن بينهم النصر على من دهم يثرب،

ص: 225


1- يوتغ: يهلك.
2- بطانة الرجل: خاصته وأهل بيته.
3- الحجز: الفصل والمنع، وحجز عليه ماله.
4- أي على الرضا به.

وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلّا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم، من جانبهم الذي قبلهم.

وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة. وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلّا على نفسه، وإن اللّه على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلّا من ظلم وأثم. وإن اللّه جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم))(1).

وهذه المكاتيب تدل على أسلوب التبليغ الإسلامي وأنه يلزم على العاملين للإسلام الاتصاف بهذه الأخلاقيات والفضائل.

المستعمرون وتشويه سمعة الإسلام

لقد لاحظ المعاندون من غير المسلمين سرعة انتشار هذا الدين الحنيف؛ حيث هو الدين الموافق للفطرة السليمة والعقل النظيف، فبعدما تقدم الإسلام ذلك التقدم الهائل، خاصة في البلاد التي خضعت للإسلام بدون أي حرب أو تهديد، بل كان انتشار الإسلام فيها عبر دعوة العلماء والتجار، فخاف الغربيون على مصالحهم فعمدوا - خاصة عندما دب الضعف في دولة الإسلام خلال القرون الثلاثة الأخيرة - بتشويه صورة الإسلام أمام العالم، عبر أكاذيب وأباطيل يروجونها ضد الإسلام، وإظهاره للعالم على خلاف حقيقته. وهم يهدفون من وراء ذلك عدة أمور:

فمن جانب لينفروا العالم عن الإسلام بتضعيفه وتهميشه في أعين الناس،

ص: 226


1- انظر: مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 3: 6-44.

ومن جانب آخر لكي يبقوا هم أسياد العالم، ويستمروا في تسلطهم وظلمهم للشعوب، واستعمارهم للدول، ونهبهم لممتلكاتها وخيراتها.

هذا على الرغم من أن بعض حكام الغرب، وبعض رجال الدين المسيحي - البابوات -(1) يدركون جيداً أن الإسلام هو الدين الحق، وهو الدين الذي سيعم العالم كله، فقد قال تبارك وتعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(2)، إلّا أنهم يحاولون أن يضعوا العراقيل في طريقه، ولكن اللّه يأبى إلّا أن يتم نوره، والإسلام سينتشر سريعاً - بإذن اللّه - وسيكون الدين الأقوى والأكثر انتشاراً حتى في الغرب، لما يحمله من أفكار تتلاءم مع فطرة الإنسان السليمة.

كما أن الإنسانية ترى فيه كمالها المنشود وسعادتها المفقودة، ولا سيما الجانب الأخلاقي والروحي في الإسلام؛ فهو من أفضل طرق الهداية والتبليغ وكسب الناس إلى الإسلام.

الأخلاق الإسلامية سر التقدم

لذا يلزم أن يتحلى المسلمون وخاصة الدعاة منهم، بالأخلاق الإسلامية الرفيعة التي أمر بها اللّه تعالى في كتابه الكريم، حيث امتدح الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(3) وجسّد ذلك الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأفعاله وأقواله وسيرته، وكذلك هي متجسدة في أفعال وأقوال الأئمة الطاهرين من أهل البيت (صلوات اللّه أجمعين).

ص: 227


1- والبابا مصطلح يراد به الحبر الأعظم والرئيس الأعلى للكنيسة.
2- سورة التوبة، الآية: 32-33.
3- سورة القلم، الآية: 4.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(1).

وكذلك ورد عن عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) أنه قال: «إنا لنحب من شيعتنا: من كان عاقلاً فهماً، فقيهاً حليماً، مدارياً صبوراً، صدوقاً وفيّاً - ثم قال - إن اللّه تبارك وتعالى خص الأنبياء بمكارم الأخلاق، فمن كانت فيه فليحمد اللّه على ذلك، ومن لم يكن فيه فليتضرع إلى اللّه وليسأله إياه».

قال قلت: جعلت فداك، وما هي؟

قال: «الورع والقنوع والصبر والشكر والحلم والحياء والسخاء والشجاعة والغيرة والبر وصدق الحديث وأداء الأمانة»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن من مكارم الأخلاق صدق الحديث وإعطاء السائل وصدق الناس وصلة الرحم وأداء الأمانة والتذمم للجار والتذمم للصاحب وإقراء الضيف»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام):«ذللوا أخلاقكم بالمحاسن، وقوِّدوها إلى المكارم، وعودوا انفسكم الحلم، واصبروا على الإيثار على أنفسكم في ما تحمدون عنه، ولا تداقوا الناس وزناً بوزن(4)، وعظموا أقداركم بالتغافل عن الدني من الأمور، وأمسكوا رمق الضعيف بجاهكم وبالمعونة له إن عجزتم عمّا رجاه عندكم ولا تكونوا بحاثين عمّا غاب عنكم؛ فيكثر عائبكم، وتحفظوا من الكذب فإنه منأدنى الأخلاق قدراً، وهو نوع عن الفحش وضرب من الدناءة، وتكرموا بالتعامي

ص: 228


1- بحار الأنوار 16: 210.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 192.
3- الجعفريات: 151.
4- أي: لا تحاسبهم بالدقة في الأمور.

عن الاستقصاء»(1).

وقال النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاث خصال من كن فيه فقد حاز خصال الخير: من إذا قدر لم يتناول ما ليس هو له، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل»(2).

وعن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد(عليهما السلام): «أنصف الناس من نفسك، وواسهم من مالك، وارض لهم ما يرضونه، واذكر ثواب اللّه، وإياك والكسل والضجر في ما يقربك منه، وعليك بالصدق والورع وأداء الأمانة، وإذا وعدتم لا تخلفوه، وذلك لكم دون غيركم»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «المكارم عشر، فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن، فإنها تكون في الرجل ولا تكون في ولده، وتكون في الولد ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في الحر».

قيل: وما هن؟

قال: «صدق البأس، وصدق اللسان، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وإقراء الضيف، وإطعام السائل والمكافأة على الصنائع، والتذمم للجار(4) والتذمم للصاحب، ورأسهن الحياء»(5).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): عليكمبمكارم الأخلاق؛ فإن ربي عزّ وجلّ بعثني بها، وإن من مكارم الأخلاق أن يعفو

ص: 229


1- تحف العقول: 224.
2- مستدرك الوسائل 11: 189.
3- مستدرك الوسائل 11: 189.
4- التذمم للجار: وهو أن يحفظ ذمامه ويطرح عن نفسه ذم الناس له إن لم يحفظه، وحاصل المعنى: أن يدفع الضرر عمن يصاحبه سفراً أو حضراً وعمن يجاوره.
5- الكافي 2: 55.

الرجل عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وأن يعود من لا يعوده»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «طلبت القدر والمنزلة فما وجدت إلّا بالعلم، تعلموا يعظم قدركم في الدارين، وطلبت الكرامة فما وجدت إلّا بالتقوى، اتقوا لتكرموا، وطلبت الغنى فما وجدت إلّا بالقناعة، عليكم بالقناعة تستغنوا، وطلبت الراحة فما وجدت إلّا بترك مخالطة الناس إلّا لقوام عيش الدنيا، اتركوا الدنيا ومخالطة الناس تستريحوا في الدارين، وتأمنوا من العذاب، وطلبت السلامة فما وجدت إلّا بطاعة اللّه، أطيعوا اللّه تسلموا، وطلبت الخضوع فما وجدت إلّا بقبول الحق، اقبلوا الحق فإن قبول الحق يبعد من الكبر، وطلبت العيش فما وجدت إلّا بترك الهوى، فاتركوا الهوى ليطيب عيشكم، وطلبت المدح فما وجدت إلّا بالسخاء، كونوا أسخياء تمدحوا، وطلبت نعيم الدنيا والآخرة فما وجدت إلّا بهذه الخصال التي ذكرتها»(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال لولده: «إن اللّه عزّ وجلّ جعل محاسن الأخلاق وُصلة بينه وبين عباده، فنحب أحدكم أن يمسك بخُلُق متصل باللّه»(3).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «الأخلاق منائح من اللّه عزّ وجلّ فإذا أحب عبداً منحه خلقاً حسناً، وإذا أبغض عبداً منحه خلقاً سيئاً»(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لو كنا لا نرجو جنة ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق؛ فإنها مما تدل على سبيل

ص: 230


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 478.
2- جامع الأخبار: 123.
3- مستدرك الوسائل 11: 192.
4- الإختصاص: 225.

النجاح».

فقال رجل: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين، سمعته من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟

قال: «نعم، وما هو خير منه، لمّا أتانا سبايا طي، فإذا فيها جارية - إلى أن قال(عليه السلام) - فقالت: يا محمد، إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب؛ فإني ابنة سيد قومي، كان أبي يفك العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضيف ويشبع الجائع ويكسي المعدوم ويفرج عن المكروب، أنا ابنة حاتم طي، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): خلوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، فقام أبو بردة فقال: يا رسول اللّه، اللّه يحب مكارم الأخلاق؟ فقال: يا أبا بردة، لا يدخل الجنة أحد إلّا بحسن الخلق»(1).

نعم، بهذه الأخلاق والتعاليم يلزم أن يتحلى دعاة الإسلام والمبلغين له؛ ليكونوا دعاة حقيقيين إلى الإسلام، فيمتلكوا السلاح الرابح في المعركة.

واجبنا تجاه المحافظة على الإسلام ونشره

اشارة

إذن وبعد ما ذكرنا في هذه المقدمة، التي تطرقنا فيها إلى تقدم الإسلام من جهة، ومحاربة الغرب له من جهة أخرى، نبين ما يلزم على المسلمين ملاحظته:

مؤسسات الدعوة وكوادرها

أولاً: يلزم على المسلمين العمل لإيجاد مؤسسات، تتضمن كادراً مثقفاً وواعياً يبحث فيها كيفية إحباط دسائس ومؤامرات أعداء الإسلام، الإعلامية والسياسية والاقتصادية وغيرها، ووضع برامج وخطط لهذه المؤسسات الإسلامية تساهم فيتطوير ورفع المستوى العلمي والفكري والأخلاقي لأفراد المجتمع الإسلامي.

ص: 231


1- مستدرك الوسائل 11: 193.

العمل الثقافي

ثانياً: العمل على نشر المفاهيم الصحيحة والعقائد الإسلامية وإيصالها إلى العالم، بواسطة القلم، والخطابة، والمحاضرات، وعقد الندوات، وإرسال المبلغين، وإنشاء المؤتمرات الثقافية لذلك الهدف.

السيد الرضي(رحمه اللّه) وعمله الإسلامي

ومن أبرز الأمثلة على هذه النقطة، هو نشاط السيد الرضي(رحمه اللّه) في بغداد، الذي أسس تجمعاً يجمع تحت لوائه غير المسلمين، ويُطلعهم على محاسن الإسلام، وأهدافه السامية، وقوانينه السمحاء، وذلك من أجل جذبهم إلى الإسلام من جهة، ومن جهة أخرى رفع كل الشبهات والتصورات الوهمية التي كانوا يحملونها عن الإسلام.

وكان ممن رباهم الشريف الرضي(رحمه اللّه) هو (مهيار الديلمي)(1) الذي كان مجوسياً في بداية أمره وأسلم على يد الشريف الرضي(رحمه اللّه)، وبعد التوجيه المركّز، والإرشاد المتواصل له من قبل السيد الرضي(رحمه اللّه) ومؤسسته، أصبح (حامل لواء التشيع) في عصره، وقد كان من الشعراء أيضاً وله ديوان يعتبره البعض من أفضل الدواوين في الشعر العربي والإسلامي.

فهذا مثال بسيط، وشاهدنا نحن على أسلوب الدعوة وفائدة إنشاء المؤسسات الإسلامية، ونشر الأفكار والتعاليم الدينية من خلالها، فعلى العاملين للإسلام أن يهتموا بذلك.

ذكاء وحذر

ثالثاً: يلزم على العاملين لنشر وتبليغ الدين أن يتصفوا بالذكاء في العمل،

ص: 232


1- انظر: ترجمته وبعض قصائده بعد الهداية في كتاب الغدير 4: 238.

والحذر الدائم من مكائد أعداء الإسلام، كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في وصف المؤمن: «المؤمن كيس فطن حذر»(1).

دور العلماء

رابعاً: كما عليهم المحافظة على علمائهم وحمايتهم، والدفاع عنهم؛ ليتمكنوا من أداء دورهم في الحفاظ على الأمة ومعتقداتها وثرواتها، لأن أعداء الإسلام يحاولون تشويه سمعة العلماء وإسقاطهم في أعين الناس، ويتحينون الفرص لتصفيتهم معنوياً وجسدياً؛ لأن الغربيين أدركوا أهم جهة في قوة المسلمين، حيث علموها في علمائهم ومراجع تقليدهم، فقد كان ذلك واضحاً في قصة التنباك وغيرها(2).

فخططوا تخطيطاً دقيقاً وبدهاء وخبث، في العمل على قطع صلة الأمة والمسلمين عن مراجعها وعلمائها، فدخلوا من باب الاغتيالات الفردية؛ وقد حاول طغاة العراق وبأمر من الاستعمار، بتصفية العلماء في قصص مشهورة، ومرة خططوا لاغتيال أبناء كبار مراجع الشيعة في العراق عبر خطة مدبرة، وبما أن بعض هؤلاء كان مقيماً في لندن فقد أجلوا اغتياله إلى وقت آخر، أي إلى حين أن يخرج من لندن، حيث لم يكن الاستعمار البريطاني يريد أن يثير الرأي العام ضده وتلطيخ سمعته السياسية بتهمة الاغتيالات والتصفية الجسدية هناك، وذلك باغتيال أحد علماء المسلمين في عقر داره، فيعود ضرر ذلك عليهم؛ إذ أنهم طالما تبجحوا وادعوا إطلاق الحريات والديمقراطية في العالم. فتربصوا به حتىسافر إلى السودان فاغتالوه على أيدي عملائهم من حزب البعث هناك(3).

ص: 233


1- جامع الأخبار: 85.
2- كثورة العشرين في العراق عام (1920م).
3- هو الشهيد العلامة السيد مهدي الحكيم(رحمه اللّه)، الابن الثالث للمرجع الديني الإمام السيد محسن الحكيم(رحمه اللّه).

ولو كان المسلمون على وعي وحذر ويقظة وتنبه لمخططات الأعداء، لما وقعت هذه الأمور التي أضرت بالمسلمين كثيراً.

إذن، المطلوب هو المحافظة على العلماء والحوزات العلمية بوعي وحذر، لكي يقوم العلماء بواجبهم، فلا تعطى فرصة لأعداء الإسلام للعمل ضد الإسلام والمسلمين، وليتمكن العلماء من إفشال مخططاتهم التي تستهدف ضرب هذا الدين المبين.

العلم دائماً

خامساً: ومن الأمور التي يجب أن تكون في سعي العاملين، هو العمل الدؤوب في تحصيل العلم والزيادة منه، وخاصة ما يرتبط بالمعارف الإسلامية، وعدم ترك هذا التعلم والتعليم، وفي القرآن الكريم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(1).

ذلك لأجل أن نكون دائماً على أتم الاستعداد لنشر الإسلام ومعارفه، وتكون لنا ملكة الرد على شبهات أعدائه المبطلين.

هكذا الحرص على التعلم والتعليم

كان في مدينة (شيراز) أحد العلماء وقد اهتم بكتابة شرح قانون ابن سينا، ففي أثناء شرحه واجهته مسألة عجز عن بيانها، فحاول التعرف على شخص قادر على حلها، فقالوا له: إن هناك عالماً في مدينة أصفهان له القدرة على الإجابة الصائبة، وعندما وصله الشارح لم يحصل منه على جواب، ثم قيل له: أن هناك عالماً آخر في مدينة قزوين، يستطيع أن يجيبك على سؤالك هذا، فذهب إلى هناك، وعندماطرح السؤال أبدى القزويني عجزه أيضاً. بعد ذلك قالوا للشارح: أن عالماً كبيراً في بغداد يدعى نصير الدين الطوسي، وهو عالم عصره ومتبحر في أغلب العلوم،

ص: 234


1- سورة طه، الآية: 114.

ولم يعجزه مثل هذا السؤال أبداً. فذهب الرجل الشارح إلى بغداد، متحملاً مصاعب الطريق ووعثاء(1) السفر. فبعدما وصل إلى بغداد أرشدوه إلى دار نصير الدين الطوسي، فقيل له: إنه يخرج في الصباح لإنجاز أعماله ثم يعود إلى منزله وقت صلاة الظهر ليصلي ويستريح شيئاً من الوقت. فقرر ذلك الرجل (الشارح) الوقوف على قارعة الطريق الذي يمر منه العلامة نصير الدين الطوسي، لكي يرى موكب الطوسي حينما يمر بالقرب منه، ولما أن وصل تقدم إليه الرجل وعرض عليه حاجته، فقال له الخواجة: ائتني في هذا الوقت (وهو وقت استراحته) حتى أجيبك على جميع ما عندك من إشكالات. وفعلاً التقى ذلك الرجل بالخواجة وأجابه على كل ما طرحه من أسئلة.

من هذه القصة وغيرها نستدل على مدى اهتمام العلماء الماضين وسعيهم وهمتهم على تحصيل العلوم، بالرغم من كثرة المشاكل وشدة المعاناة، فكانوا يقطعون المفازات(2) البعيدة، والفجاج العميقة، من أجل الحصول على إجابات للأسئلة، التي يشكل حلها عندهم، أو للمزيد من الإيضاحات، كما حصل لهذا السائل الذي قطع تلك المسافات البعيدة الصعبة حتى نال جواباً لتلك المسألة من الخواجة نصير الدين الطوسي(رحمه اللّه).

إذن يلزم علينا أن نوجد هذه الحالة في أنفسنا - حالة الاهتمام بالعلم والعلماء - والعمل الدؤوب، لأجل تحصيل المعارف الإسلامية الصحيحة، بحيث تصبحالصفة الغالبة على أوقاتنا هي النشاط والفعالية، في مختلف أبعاد الحياة، لنصل إلى أهدافنا المتوخاة، إن شاء اللّه.

ص: 235


1- وعثاء السفر: مشقته وشدته.
2- تسمى الصحراء بالمفازة لأن من خرج منها وقطعها فاز، انظر: لسان العرب 5: 393، مادة (فوز).

مكارم الأخلاق

سادساً: المواظبة على اكتساب مكارم الأخلاق؛ فإن حسن الخلق ضروري ومهم في نجاح العمل، إذ ليس الهدف النهائي هو الاكتفاء بتحصيل العلم وتعبئة أنفسنا بالمفاهيم والأفكار فقط، وإنما الهدف من تحصيل العلوم الإلهية هو تجسيدها على الواقع العملي، لأن ثمرة العلم لا تحصل بذلك فقط، بل لا بد - ولكي يثمر العلم - أن يقترن العلم بالعمل الصالح والخلق الرفيع والإقتداء بخلق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمتنا الطاهرين(عليهم السلام) وقد سبق وذكرنا في بداية الكلام: أن الأخلاق من عوامل الجذب، ومن عوامل النجاح، أما العلم بدون الأخلاق وبدون العمل فهو مورد الحديث الشريف: «أشد الناس عذاباً عالم لا ينتفع من علمه بشيء»(1).

وهنا نذكر قصة - على سبيل المثال - لها دلالة واضحة على أهمية الأخلاق في العمل والجذب الاجتماعي، وعلى كون الأخلاق الحسنة من العوامل الأساسية المؤثر في هداية الناس:

الأخلاق عامل الجذب

ذكر أنه كان أحد المشايخ - وكان من تلاميذ الميرزا المجدد السيد محمد حسن الشيرازي(رحمه اللّه) صاحب ثورة (التنباك) - معروفاً بالتقوى والصلاح، وقد نقل حادثة تعرض لها فقال:

إنه كان ذات مرة وهو في طريقه من الكوفة إلى النجف الأشرف، وإذا بمجموعة من اللصوص يجتمعون عليه بقصد الاعتداء عليه وسرقته، فأمروه بالتجرّد من ثيابه وأن يسلمها لهم بما فيها، ففعل الشيخ ما طلبوا منه، فتجرّد من

ص: 236


1- عدة الداعي: 76.

ملابسه باستثناء الإزار، ثم سلمها إليهم، ولكنه قال لهم: ملابسي بما فيها قد وهبتها لكم؛ حتّى لا تقعوا في معصية اللّه من أجل غصب ملابسي!

وإذا بهذا الكلام يفعل شبه المعجزة في اللصوص، فحصلت فيهم ردة فعل داخلي قادتهم إلى الانتباه والإرتداع، وإذا بهم لايأخذون الثياب، ويتوبون على يديه قائلين: إنه ليس من الحقّ عصيان اللّه تعالى بالسرقة، بعد أن نرى منك مثل هذه الشفقة علينا، وبالفعل فقد تابوا وصار أمرهم إلى خير، وهكذا يفعل الرفق بالنفوس.

مقابلة الإساءة بالإحسان

وحكي عن الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه) أيّام تواجده في سامراء بأنّ جماعة من أهالي سامراء غير الشيعة كانوا قد أغروا صغارهم وشبانهم لأذيّة الميرزا والشيعة، وتحمل الشيعة منهم الأذى بأمر الميرزا، وفي ذات يوم أراد أحد أولئك الشبان - المؤذين للميرزا والشيعة - أن يتزوّج، فقال في نفسه: سوف أذهب إلى الميرزا وأطلب منه مؤنة الزواج فإن أعطاني شيئاً فبها ونعمت وإلّا آذيته.

وبالفعل جاء إلى الميرزا وعرض عليه أمر زواجه ثم طالبه بمساعدة مالية، وبشكل فظ وفج.

فقال له الميرزا: وكم مصرف زواجك؟

قال الشاب: خمسون ليرة - الكلفة تلك الأيام - .

فأعطاه الميرزا المبلغ من دون مماكسة؟!

فتعجبّ الشاب كثيراً وجاء إلى أبيه وحكى له القصّة، فتعجّب أبواه أيضاًوانبهرا من مقابلة الميرزا إساءتهم بالإحسان، وأخذ الشاب يحكي القصّة لكلّ من يراه، حتّى أنه حكى ذلك في ديوان أحد شيوخ العشائر في سامرّاء، فتعجّب الجميع، وقالوا بكلمة واحدة: لاينبغي ايذاء مثل هذا الرجل الكريم.

ص: 237

ثم قام جماعة من الشيوخ والوجهاء ومعهم القرآن الحكيم والسيف وأتوا إلى دار الميرزا، وكان مثل هذا العمل عادة منهم لإظهار التوبة عند الكبراء، فلمّا التقوا بالميرزا قالوا له وهم نادمون معتذرون: إنّ أولادنا آذوك ولم يحفظوا حرمتك، وقد جئناك معتذرين، فإن رأيت أن تغفر لنا وهذا القرآن نحلف به: أننا لا نعود إلى ما يسخطك عنّا أبداً، وإن رأيت أن تقتص منّا فهذا السيف خذه واقتص به منّا.

فأجابهم الميرزا بكل عطف وحنان قائلاً: لابأس عليكم، إنّ هؤلاء الشباب أولادي، وهل يقتص الأب من أولاده؟! ثم إني مطمئنّ بحسن جواركم، وطيب تعاملكم، فلا حاجة لشيء من الأمرين، فشكروا الميرزا على قبوله عذرهم وقاموا وخرجوا من عنده وهم فرحون مستبشرون، وصار هذا الصنيع من الميرزا سبباً من أسباب الألفة بين السنّة والشيعة، والإجلال والإكبار من الأهالي للميرزا وأصحابه.

قصة أخرى

وروي أنه كان أحد العلماء في مدينة بلوشستان ويدعى (عبد العزيز)، يتمتع بنفوذ ووجاهة دينية واجتماعية في تلك المدينة، وكان عالماً اجتماعياً وله تخصص فريد في العلاقات الاجتماعية وحسن المعاشرة مع الناس، فمثلاً: في إحدى المرات حينما كان يريد المجيء إلى إحدى المدن المجاورة لمدينته هاجمه مجموعة من الشباب وسببوا له عدة جراحات في جسده. ولكنه وبالرغم من أنه كان من حقه معاقبتهم على إيذائه وردعهم بالعنف والشدة عن تكرارعملهم هذا فلم يقابلهم بالمثل، بل بعث لهؤلاء الشباب مقداراً من المال، وحذرهم من تكرار مثل ذلك العمل.

وبهذا الأسلوب استطاع أن يجذب حتى أعداءه ويعمل عملاً واسعاً لأجل

ص: 238

الإسلام والمسلمين.

الإخلاص في العمل

سابعاً: من أهم الصفات التي يلزم على العاملين والمبلغين للإسلام أن يلتزموا به هو الإخلاص في أعمالهم، وجعلها للّه تعالى؛ فاللازم أن يكون المسلمون مخلصين في كل أعمالهم وتحركاتهم، فيعملون للّه ومن أجل اللّه وفي سبيل اللّه وبكل إخلاص، وإذا كان عنوان العمل هو بناء حكومة إسلامية، فيجب - من باب أولى - أن يكون ذلك بكامل الإخلاص لأن الهدف إقامة حكم اللّه وتثبيت معالم دينه. لا الحصول على مكاسب دنيوية ولمجرد الجلوس على كرسي الحكم وامتلاك السلطة وما أشبه، فإن العمل مهما كان كبيراً أو صغيراً يلزم أن تكون نية العامل خالصة لوجه اللّه وابتغاء مرضاته.

أعلى نماذج الإخلاص

وخير قدوة للإخلاص هم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) وذويهم.

ورد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(1) قال: «ليس يعني أكثر عملاً؛ ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية اللّه والنية الصادقة والحسنة - ثم قال - الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ،والنية أفضل من العمل. ألّا وإن النية هي العمل» ثم تلا قوله عزّ وجلّ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ}(2) «يعني: على نيته»(3).

ص: 239


1- سورة الملك، الآية: 2.
2- سورة الإسراء، الآية: 84.
3- الكافي 2: 16.

وقد ورد في معركة الخندق: أنه لما رأى المسلمون الجيوش والأحزاب التي اجتمعت لقتال المسلمين، عظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظنٍ، وظهر النفاق من بعض المنافقين، فأقام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة، لم يكن بينهم قتال إلّا الرمي بالنبل إلّا أن فوارس من قريش منهم: عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد اللّه، قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيولهم حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيئوا للحرب يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان، ثم أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق، فقالوا: واللّه، إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فضربوا خيولهم فاقتحموا، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ منهم الثغرة التي منها اقتحموا وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود فارس قريش... فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده وكان يعد بألف فارس، وكان يسمى فارس يليل... وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المداد، وكان أول من طفره عمرو وأصحابه، فقيل في ذلك:

عمرو بن عبد كان أول فارس *** جزع المداد وكان فارس يليل

وذكر ابن إسحاق: أن عمرو بن عبد ود كان ينادي: من يبارز؟

فقام علي(عليه السلام) وهو مقنع في الحديد، فقال: «أنا له يا نبي اللّه».

فقال - رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - : «إنه عمرو اجلس».

ونادى عمرو: ألّا رجل ويؤنبهم ويسبهم، ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قُتل منكم دخلها.

ص: 240

فقام علي(عليه السلام) فقال: «أنا له يا رسول اللّه».

ثم نادى الثالثة فقال:

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع *** موقف البطل المناجز

إن السماحة والشجاعة *** في الفتى خير الغرائز

فقام علي(عليه السلام) فقال: «يا رسول اللّه، أنا»

فقال: «إنه عمرو؟».

فقال(عليه السلام): «وإن كان عَمراً». فاستأذن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأذن له... فألبسه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) درعه (ذات الفضول) وأعطاه سيفه (ذا الفقار) وعممه (السحاب) على رأسه تسعة أكوار، ثم قال له: «تقدم». فقال لما ولى: «اللّهم، احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه»... فمشى إليه وهو يقول:

لا تعجلن فقد أتاك *** مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة *** والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى *** ذكرها عند الهزاهز

قال له عمرو: من أنت؟

قال: «أنا علي».

قال: ابن عبد مناف؟

فقال: «أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف».

فقال: غيرك يا ابن أخي، من أعمامك من هو أسن منك؛ فإني أكره أن أهريق

ص: 241

دمك.

فقال: «لكني واللّه ما أكره أن أهريق دمك».

فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضباً فاستقبله علي بدرقته فضربه عمرو في الدرقة فقدها، وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي(عليه السلام) على حبل العاتق فسقط... وتسيف علي(عليه السلام) رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه، وثارت بينهما عجاجة فسُمع علي(عليه السلام) يكبر فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قتله والذي نفسي بيده».

... وأقبل - علي -(عليه السلام) نحو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووجهه يتهلل، فقال عمر بن الخطاب: هلا استلبته درعه؛ فإنه ليس للعرب درع خيراً منها؟

فقال(عليه السلام): «ضربته فاتقاني بسوأته فاستحييت من ابن عمي أن أستلبه».

قال حذيفة: فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أبشر يا علي، فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم؛ وذلك أنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلّا وقد دخله وهن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّا وقد دخله عزّ بقتل عمرو». وروي: أنه ضَرب علي(عليه السلام) ضربة ما كان في الإسلام أعز منها، يعني ضربة عمرو بن عبد ود، وضُرب علي(عليه السلام) ضربة ما كان في الإسلام أشأم منهايعني ضربة ابن ملجم عليه لعائن اللّه.(1)

وروي أنه(عليه السلام) لما أدرك عمرو بن عبد ود لم يضربه فوقعوا في علي(عليه السلام) فرد عنه حذيفة فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مه يا حذيفة فإن علياً سيذكر سبب وقفته» ثم إنه ضربه فلما جاء سأله النبي عن ذلك فقال: «قد كان شتم أمي، وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظِّ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي ثم قتلته في اللّه»(2).

ص: 242


1- بحار الانوار 20: 202.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 115.

كتمان المعروف

وهكذا يكون أتباع أهل البيت(عليهم السلام) فإنهم يعملون بكل إخلاص ولوجه اللّه تعالى.

أذكر عندما كنا في كربلاء المقدسة، في يوم من الأيام الحارة جداً وبعد الانتهاء من صلاة الجماعة لفريضة الظهر والعصر، توجهت إلى البيت، وفي أثناء الطريق شعرت بوجود شخص يسير خلفي ويتبعني، فقلت في نفسي: لعله لا يقصدني أو لم يقصد متابعتي، لذا واصلت مسيري حتى وصلت إلى الدار، وفتحت الباب، فاقترب ذلك الشخص مني وبدأ بالسلام، فقدّم لي ظرفاً فيه مقدار من المال كحقوق شرعية عنده، وحينذاك عرفت الرجل وكان وجيهاً مخلصاً يدعى الحاج علي الوكيل(رحمه اللّه)، ففهمت أنه طول الطريق كان يريد أن يسلمني ذلك المبلغ ولكن بعيداً عن أعين الناس، إذ كان يريد أن يكون عمله خالصاً لوجه اللّه وحده، خالياً من الرياء، فلهذا ما نقلت هذا الأمر إلّا بعد وفاته.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن لكل حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من عمل اللّه»(1).

الصبر دائماً

ثامناً: وهذه آخر نقطة مهمة أردنا بيانها، هي الصبر وطول النفس؛ إذ يلزم أن يتحلى العاملون للإسلام بأكثر قدر ممكن من الصبر وطول النفس، وعدم العجلة في الحصول على النتائج.

فإن للصبر في العمل الإسلامي دوراً كبيراً، ولسعة الصدر دوراً أكبر، فقد عمل الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة(عليهم السلام)، وصبروا على المعاناة، في سبيل نتائج تتحقق في المستقبل البعيد، ولعلها في اليوم الموعود.

ص: 243


1- روضة الواعظين 2: 414.

ولقد كان طول النفس دوماً أسلوب العقلاء والزعماء الناجحين، بعد أن خبروا تكاليف الحياة، وعلموا أن المرامي البعيدة لا تتأتى إلّا بالصبر والاحتمال وطول الأناة.

وهكذا يعمل أغلب أعداء الإسلام حيث يضعون خططاً بعيدة المدى ويصبرون على ذلك، كما حدث ذلك فعلاً في مجلس العموم البريطاني حين صوّب على قانون يقضي باتباع السياسات والخطط التي تعطى نتائج مؤثرة ومغرية، ولو بعد حين!

لذا يلزم على العاملين للإسلام التحلي بالصبر وعدم توقع ظهور النتيجة المطلوبة على الفور وبلا طي للزمن، أو بلا تهيئة للمقدمات اللازمة، وينبغي علينا أن نكون على حذر لئلا نصبح مصداقاً لهذه الآية الكريمة: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْأخِرَةَ}(1).

وبطبيعة الحال فإن الإنسان يحب تحصيل النتائج بأسرع ما يمكن، غير أن ذلك يتنافى أحياناً مع الظروف الموضوعية والمتطلبات الواقعية للعمل.

نعم، هذه بعض التوصيات المختصرة لمن يعمل في سبيل خدمة الإسلام، ولمن يحب هذا الدين العظيم، ويحرص على نشره في ربوع العالم، حتى تنقذ الشعوب المستضعفة من براثن الظلم والاضطهاد، ولن يتحقق هذا الأمر إلّا بتأييد من اللّه عزّ وجلّ والصبر والمصابرة والمرابطة والعمل المتواصل لإعلاء كلمة «لا إله إلّا اللّه، محمد رسول اللّه» في آفاق الأرض(2).

ص: 244


1- سورة القيامة، الآية: 20-21.
2- للمزيد والتفصيل انظر: الكتب التالية: (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، و(طريق النجاة)، و(ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين)، و(السبيل لإنهاض المسلمين)، و(الدولة الإسلامية)، وكثير غيرها مما ألفها الإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

مضافاً إلى ضرورة التحلي بالعلم والفضائل، فإن قيمة كل امرئ هي ما يحمله من علم، ومن صفات الخير والأخلاق الحسنة، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1). حيث أراد الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يكون كل إنسان مسلم متسلحاً بالعلم لكي يحافظ على عقيدته من جهة، ويعمل على إيصال صوت الإسلام أينما حل من جهة أخرى، هذا بالإضافة إلى سائر الشروط الضرورية في سبيل نجاح الدعوة، ونشر الإسلام والمحافظة عليه.

«اللّهم واجعلنا ممن تنتصر به لدينك وتعز به نصر وليك، ولا تستبدل بنا غيرنا»(2) بحق محمد وآل محمد.

من هدي القرآن الكريم

أسلوب الدعوة

قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَأَحْسَنُ}(3).

وقال سبحانه: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(5).

وقال جلّ وعلا: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(6).

ص: 245


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- مصباح المتهجد 1: 411.
3- سورة النحل، الآية: 125.
4- سورة الإسراء، الآية: 28.
5- سورة طه، الآية: 44.
6- سورة البقرة، الآية: 256.

الإخلاص في العمل

قال عزّ وجلّ: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}(1).

وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).

وقال سبحانه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةِ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فََٔاتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}(3).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(4).

ضرورة نشر الإسلام

قال عزّ وجلّ: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(5).

وقال سبحانه: {رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْالصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(6).

وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

نشر العلوم الإسلامية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربعة تلزم كل ذي حجى وعقل من أمتي».

ص: 246


1- سورة الجن، الآية: 20.
2- سورة الفاتحة، الآية: 5.
3- سورة البقرة، الآية: 265.
4- سورة الأنعام، الآية: 162.
5- سورة سبأ، الآية: 28.
6- سورة الطلاق، الآية: 11.
7- سورة المائدة، الآية: 15-16.

قيل: يا رسول اللّه، ما هن؟

قال: «استماع العلم وحفظه ونشره والعمل به»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من المفروض على كل عالم أن يصون بالورع جانبه، وأن يبذل علمه لطالبه»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لكل شيء زكاة وزكاة العلم أن يعلمه أهله»(3).

وقال الإمام أبو جعفر(عليه السلام): «زكاة العلم أن تعلّمه عباد اللّه»(4).

الأخلاق الفاضلة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضلكم إيماناً أحسنكم أخلاقاً»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «صل رحمك ولو بشربة من ماء، وأفضل ما توصلبه الرحم كف الأذى عنها...»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «التُقى رئيس الأخلاق»(7).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إذا وعدتم الصغار فأوفوا لهم»(8).

الإخلاص عبادة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمعاذ بن جبل: «أخلص العلم يجزك منه القليل»(9).

ص: 247


1- تحف العقول: 57.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 678.
3- عدة الداعي: 72.
4- الكافي 1: 41.
5- تحف العقول: 45.
6- الكافي 2: 151.
7- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 410.
8- عدة الداعي: 84.
9- المحجة البيضاء 8: 126.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ولا بد للعبد من خالص النية في كل حركة وسكون؛ لأنه إذا لم يكن هذا المعنى يكون غافلاً»(1).

وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «أفضل العبادة الإخلاص»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزم الإخلاص في السر والعلانية»(3).

وقال: «الإخلاص غاية»(4).

وقال(عليه السلام): «الإخلاص ملاك العبادة»(5).

أسلوب الدعوة إلى اللّه عزّ وجلّ

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورعوالاجتهاد والصلاة والخير فإن ذلك داعية»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لن يجدي القول حتى يتصل بالفعل»(7).

وقال الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام): «أبلغ خيراً وقل خيراً»(8).

ص: 248


1- بحار الأنوار 67: 210.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 329.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 148.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 20.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 49.
6- الكافي 2: 78.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 552.
8- الإختصاص: 343.

حديث مع الناشئين

شباب المستقبل

اشارة

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في كلام له: «المرء حيث وضع نفسه برياضته وطاعته فإن نزّهها تنزّهت وإن دنّسها تدنّست»(1).

يبين أمير المؤمنين(عليه السلام) إن الإنسان له القدرة على أن يوصل نفسه إلى ما يريد بشرط أن يبذل في سبيله السعي اللازم، فعند ما تريد أن تكون مهندساً، محامياً، طبيباً، عالماً، خطيباً، كاسباً، كاتباً، عاملاً، فلاحاً، فأنت قادر على ذلك في ما إذا وفّرت في نفسك مؤهلاته وذهبت وراء أسباب تحقيقه(2). وللإنسان الحرية في - اختيار نوع الملابس ومحل السكن وقت نومه وطريقة أكله، إلّا أن هذه الأشياء هي بيد اللّه سبحانه أولاً وبالذات ولكنه سبحانه جعل لها أسباباً لتحصيلها، ومن هذه الأسباب اهتمام الإنسان وإرادته وعلمه.

وأنتم أيها الشباب بإمكانكم أن تكونوا من أعظم الكبار في المستقبل. وقد ورد عن الإمام الحسن(عليه السلام) أنه دعا بنيه وبني أخيه فقال: «إنكم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين فتعلموا العلم، فمن يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه

ص: 249


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 104.
2- فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب فجعل لكل شيء سبباً وجعل لكل سبب شرحاً وجعل لكل شرح علماً وجعل لكل علم باباً ناطقاً عرفه من عرفه وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحن». انظر الكافي 1: 183.

وليضعه في بيته»(1) يعني أنتم الآن صغار لكن في المستقبل تكونون كباراً، آباءً وأجداداً، بل عمدة البلاد، وإن أيّاً منكم يستطيع وبالتوكل على اللّه وبذل الهمة والمثابرة أن يكون عظيماً من العظماء، وأن يكون له موقع ومنصب يستطيع من خلاله أن يخدم الدين والناس.

نعم، أنتم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين لذا من الضروري أن تفكروا في بناء أنفسكم بناءً تنفعون به أنفسكم وتنفعون شعبكم في العراق(2)، وبالتالي تنفعون الأمة الإسلامية - ذات المليار ونصف المليار مسلم(3) - في المستقبل، كذلك تتمكنون أن تؤدوا دوراً بارزاً في بناء كيان الإنسانية كلّها بالإرادة والعمل فإن كل العظماء كانوا ذات يوم أطفالاً، فالميرزا الشيرازي الكبير(رحمه اللّه) كان في يوم ما طفلاً وكان في يوم ما طالباً من الطلاب في النجف الأشرف وكان يدرس في المدارس الدينية إلّا أنه تمكن في ما بعد من أن يصبح مرجعاً عاماً للتقليد ومن ثم يطرد الإنكليز من إيران.

وأنتم كذلك قادرون على أن تكونوا ذات يوم عظماء وشخصيات كبيرة ومؤلفين وكتّاباً وعلماء مجتهدين، وشخصيات بارزة في المجتمع الإسلامي وحتى على صعيد المجتمع العالمي. لذا يجب أن تفكروا من الآن بذلك.

أصبح رئيساً

كان أحد المعلّمين في إحدى البلاد الإسلامية يدرّس صفاً من الطلاب تعداده (40 طالباً) وفي ذات يوم سأل المعلّم أحد الطلاب هذا السؤال: ماذا ترغب أن تكون في المستقبل؟ فقال الطالب أريد أن أكون محامياً، فقال له المعلّم: بارك اللّهفيك، وسأل الطالب الثاني، فقال أريد أن أكون طبيباً، فقال له المعلّم: بارك اللّه

ص: 250


1- منية المريد: 340.
2- خصهم بالعراق لأن الحديث كان مع الشباب العراقيين في المهجر.
3- حسب بعض الإحصائيات الأخيرة فإن نفوس المسلمين بلغت المليارين.

فيك وسأل الثالث، فقال: أريد أن أكون مهندساً حتى وصل المعلّم إلى طفل آخر - وكانوا جميعاً في الصف الرابع الابتدائي - فسأله نفس السؤال الأول: ماذا ترغب أن تكون في المستقبل؟ فقال الطفل: أنا أريد أن أصبح رئيساً للجمهورية في هذا البلد، فبدأ الأطفال الآخرون بالضحك عليه، إلّا أن المعلّم قال لهم لا تضحكوا من قوله فمن هو رئيس الجمهورية، ألم يكن ذات يوم طفلاً، فليكن هذا الطالب هو الذي سيصبح في المستقبل رئيساً للجمهورية هنا سكت الأطفال وأحس الطفل بالثقة من خلال تشجيع معلّمه له، فأخذ يدرس ويجد ويجتهد حتى تحقق حلمه وأصبح رئيساً للجمهورية في ذلك البلد والقصة مشهورة.

من طلب شيئاً ناله

اشارة

من كلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «من لم يجهد نفسه في صغره، لم ينبل في كبره»(1) وفي كلام آخر له(عليه السلام): «من طلب شيئاً ناله أو بعضه»(2) والطفل الذي يسعى للوصول إلى هدفه سائراً إليه في الطريق السليم فإنه سيدركه لا محالة، فهؤلاء العلماء والعظماء والمخترعون والمصلحون والكتاب الكبار كانوا في يوم ما أطفالاً مثلكم فكونوا أنتم كأولئك الأطفال الذين يصبحون في المستقبل شخصيات مرموقة لكي تخدموا الأمة الإسلامية وبالتالي تخدمون الإنسانية جمعاء، أما الطريق إلى ذلك فيتلخص في أمور منها:

الأول: طلب العلم

تحصيل العلم، على أن تدرسوا وتتعلموا بجد واجتهاد فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 251


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 606.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 618.

قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة فاطلبوه في مظانه، واقتبسوه من أهله، فإن تعليمه للّه حسنة وطلبه عبادة والمذاكرة به تسبيح والعمل به جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة إلى اللّه تعالى»(1) وطلب العلم هذا يحتاج إلى دراسة دائمة وعمل لا يعرف الكلل والملل. وعن الإمام السجاد(عليه السلام) قال: «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال أنّ أمقت عبيدي إليّ الجاهل المستخف بحق أهل العلم التارك للاقتداء بهم، وأن أحب عبيدي إليّ التقيّ الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء التابع للحلماء القابل عن الحكماء»(2).

وإن اللّه تعالى خلق العالم وهو قادر بذاته وعالم بذاته وعالم بجميع مخلوقاته فالعلم والقدرة عين ذاته ولم يفته منها شيء، فخلق الخلق بالتدبير وهذا شأن القادر العالم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا}(3).

ويستفاد من هذه الآية الشريفة أن النظام والتدبير قوامهما بالعلم وكفى بهذه الآية دليلاً واضحاً على شرف العلم لاسيما علم التوحيد الذي هو أساس كل علم، ومدار كل معرفة «أول الديانة به معرفته وكمال معرفته توحيده وكمال توحيده نفي الصفات عنه...»(4)، وجعل سبحانه العلم أعلى شرف وأدل منة منّ

ص: 252


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 176.
2- الكافي 1: 35.
3- سورة الطلاق، الآية: 12.
4- الكافي 1: 140.

اللّه على ابن آدم بعد خلقه وإخراجه من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود، فقالتعالى في أول سورة أنزلها على نبيه الأعظم محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(1).

وحسب بعض المباني الأصولية القائلة بأن أول ما خلق اللّه تعالى هو القلم، وجاء في تفسير مجمع البيان أن قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} أي: علم الكاتب أن يكتب بالقلم أو علم الإنسان البيان بالقلم، أو علم الكتابة بالقلم، أمتنّ سبحانه على خلقه بما علمهم من كيفية الكتابة بالقلم؛ لما في ذلك من كثرة الانتفاع في ما يتعلق بالدين والدنيا، قال قتادة: القلم نعمة من اللّه عظيمة، لو لاه لم يقم دين ولم يصلح عيش(2).

الثاني: الإخلاص والتوكل على اللّه

الإخلاص للّه سبحانه وتعالى في كل الأمور والتوكل عليه فإن {مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(3) أي: أن من يكل أموره إلى اللّه يكفيه كل مخوف ومشكلة وينجيه من كل هلكة(4). والخوف من اللّه سبحانه وتعالى.

يُذكر أنه كان لرجل فقير طفل صغير وفي أحد الأيام قال لولده الصغير: تعال معي لنذهب إلى أحد بساتين المنطقة لنسرق مقداراً من الفاكهة، وعندما وصل الأب مع ابنه إلى البستان، قال الأب لابنه: أنت عليك أن تقف هنا وتنتبه إلى كل الجهات بحذر، فإذا رأيت أحداً قادماً إلى هنا أو كان أحد يرانا من بعيد فأخبرني

ص: 253


1- سورة العلق، الآية: 1-5.
2- تفسير مجمع البيان 10: 399.
3- سورة الطلاق، الآية: 3.
4- تفسير تقريب القرآن 5: 442.

بسرعة؛ لكي نأوي إلى مكان آخر، فبينما كان الطفل واقفاً والأب منشغلاً بقطعالثمار صاح الطفل: يا بابا يا بابا إن هناك أحداً يرانا، فخاف الأب ونزل من على الشجرة بسرعة وهنا سأل ابنه: من الذي رآنا؟ فقال الابن الصغير: يا بابا إن الربّ العظيم هو الذي يرانا وهو مطّلع على كل شيء، إن هذا الطفل لخوفه الشديد وحذره من اللّه حاول أن يثني أباه عن السرقة بهذه الطريقة، وقد أثرت في والده كثيراً مما سبب ندمه وخجله من ابنه الصغير وترك السرقة من ذلك الحين.

وقد أكد اللّه تعالى على ذلك في قوله: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}(1). ولذا كان من اللازم على الإنسان أن يراقب نفسه باستمرار لئلا ينحرف عن منهاج الإسلام. وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوها قبل أن تُوزنوا»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً إلّا أعطاه فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلّا من عند اللّه عزّ ذكره، فإذا علم اللّه عزّ وجلّ ذلك من قلبه لم يسأله شيئاً إلّا أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها فإن للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقداره ألف سنة ثم تلا: {فِي يَوْمٖ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ}»(3)(4)، وهكذا فإن الاخلاص للّه تعالى والخوف والخشية من اللّه تعالى يبعث في النفس الطمأنينة والاستقرار وبالتالي يمكن أن يصل الإنسان إلى أي هدف يريد تحقيقه وذلك بالتوكل على اللّه تعالى.

ص: 254


1- سورة الرعد، الآية: 21.
2- أعلام الدين: 251.
3- سورة السجدة، الآية: 5.
4- الكافي 8: 143.

الثالث: خدمة الناس

اشارة

حب الخير للجميع، فإن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «... وخير الناس من انتفع به الناس»(1)، وفي حديث آخر من وصيته للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك»(2) إن نبينا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) كانوا يخدمون الناس دائماً وينجزون الأعمال التي يعود نفعها إلى الناس.

ففي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام): «لقي رجل أمير المؤمنين(عليه السلام) وتحته وَسْق من نوى، فقال له: ما هذا يا أبا الحسن تحتك؟ فقال(عليه السلام): مائة ألف عذق إن شاء اللّه، قال: فغرسه فلم يغادَر منه نواة واحدة»(3).

نعم، كان الإمام علي(عليه السلام) حينها ينقل مائة ألف نواة تمر لكي يغرسها في الصحراء الواحدة بعد الأخرى، وتحمّل(عليه السلام) التعب الكثير في سبيلها حتى نمت تلك النوى جميعاً وأصبحت فعلاً مائة ألف شجرة نخيل، وإن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقوم بهذا العمل طالباً بذلك رضا اللّه وخدمة الناس وكان بالإضافة إلى ذلك يجعل نخله وبساتينه وقفاً في سبيل اللّه ويرعى بذلك حال المحتاج والفقير. وهذه من علامات المؤمن.

عظيم أخلاق وآداب

قال الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام): أعرف الناس لحقوق إخوانه وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند اللّه شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند اللّه من الصديقين، ومن شيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام) حقاً، لقد ورد على أمير المؤمنين

ص: 255


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 21.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصيته(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام).
3- الكافي 5: 75، وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يخرج ومعه أحمال النوى، فيقال له: يا أبا الحسن ما هذا معك؟ فيقول: نخل إن شاء اللّه فيغرسه فلم يغادر منه واحدة».

أخوان له مؤمنان أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين أيديهما ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطشت وإبريق خشب ومنديل وجاء ليصب على يد الرجل ماء فوثب أمير المؤمنين(عليه السلام) وأخذ الإبريق ليصبه على يد الرجل، فتمرغ الرجل في التراب وقال: يا أمير المؤمنين يراني اللّه وأنت تصب على يدي!، قال: اقعد واغسل فإن اللّه عزّ وجلّ يراك وأخاك الذي لا يتميز منك ولا يتفضل عنك، يزيد بذلك في خدمه في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب ذلك في ممالكه فيها، فقعد الرجل، فقال له علي(عليه السلام): أقسمت عليك بعظيم حقي الذي عرفته ونحلته وتواضعك للّه حتى جازاك أن تدنى لما شرفك به من خدمتي لك لما غسلت يدك مطمئناً كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبر، ففعل الرجل ذلك، فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده؛ ولكن اللّه عزّ وجلّ يأبى أن يساوي بين أب وابنه إذا جمعهما مكان، لكن قد صب الأب على الأب فليصب الابن على الابن فصب محمد بن الحنفية على الابن، قال الحسن بن علي(عليه السلام): فمن اتبع علياً على ذلك فهو الشيعي حقاً»(1).

وقال علي بن الحسين(عليهما السلام):«أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى(عليه السلام) حببني إلى خلقي وحبب الخلق إلي، قال: يا رب كيف أفعل؟ قال: ذكرهم آلائي ونعمائي ليحبوني، فلئن ترد آبقاً عن بابي أو ضالاً عن فنائي أفضل لك من عباده مائة سنة بصيام نهارها وقيام ليلها، قال: موسى(عليه السلام) ومن هذا العبد الآبق منك؟ قال: العاصي المتمرد، قال: فمن الضال عن فنائك؟ قال: الجاهل بإمام زمانه فيعرفه، والغائب عنه بعد ما عرفه، الجاهل بشريعة دينه وبمن يعرفه شريعته، وما يعبد به

ص: 256


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 107.

ربه ويتوسل به إلى مرضاته»(1).

كما جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام): «بدنه منه في تعب والناس منه في راحة»(2).

فمن الواجب علينا التأسي بأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة؛ لأنهم قدوة وأسوة لنا في كل أعمالنا وأفعالنا، وهذا الطريق طريق رضا اللّه سبحانه وتعالى وخدمة الناس وحب الخير للجميع هو القاعدة الرصينة التي تمهد لنا السبيل نحو بناء مجتمع إسلامي متكامل.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير الناس من نفع الناس»(3).

الرابع: أحكام الإسلام

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا أيها الناس، إنه لم يكن للّه سبحانه حجة في أرضه أوكد من نبينا محمد صلوات اللّه عليه وآله ولا حكمة أبلغ من كتابه القرآن العظيم، ولا مدح اللّه تعالى إلّا من اعتصم بحبله واقتدى بنبيه وإنما هلك من هلك عندما عصاه وخالفه واتبع هواه؛ فلذلك يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}»(4)(5).

يلزم الالتزام بكل الأحكام الإسلامية من صلاة وصوم وصدق وأمانة ووفاء وحياء وإطاعة الوالدين والإحسان إليهم وما أشبه من الواجبات والمستحبات. والاجتناب عن الغيبة والنميمة وترك الكذب وكل الأعمال السيئة، وعلى الإنسان

ص: 257


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 108.
2- الكافي 2: 47.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 357.
4- سورة النور، الآية: 63.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 806.

ومنذ صغره أن يتعلم أحكام الإسلام. ويحفظ القرآن في هذا السن المبكر ما استطاع.

ذكر أن أحد الشعراء المعروفين وهو الفرزدق، جاء به أبوه يوماً إلى أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) يسأله - وكان الفرزدق حينها طفلاً صغيراً - قائلاً: يا أمير المؤمنين إني علمت ولدي الشعر وكلام العرب على أحسن وجه. فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): لماذا لم تعلمه القرآن فلو كنت قد علمته القرآن لكان الفضل له. ولمّا سمع الفرزدق هذا الكلام من أمير المؤمنين(عليه السلام) أثَّر على قلبه تأثيراً بالغاً فاستجاب لكلام الإمام(عليه السلام) وقرر أن يحفظ القرآن بأكمله، وفعلاً وُفّق لحفظ القرآن(1)، فالقرآن هو الصراط المستقيم وهو كتاب الهداية والنور والرحمة وهو كتاب العقل والتفكير.

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «إن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلّا به»(2).

وقال(عليه السلام): «في القرآن نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم»(3).

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ}(4) فإن هذه الروايات والآيات تشير إلى أبعاد القرآن الكريم التي لا حدود لها وأسراره الإلهية. ولذا جاء في فضل حفظ القرآن الكثير من الروايات، نذكر منها هذا الحديث الشريف عن الإمام أبو جعفر الباقر(عليهما السلام) قال: «يجي ءالقرآن يوم

ص: 258


1- انظر البداية والنهاية 9: 293، وأنساب الأشراف 12: 68.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 18، من كلام له(عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 313.
4- سورة الرعد، الآية: 31.

القيامة في أحسن منظور إليه صورة فيمر بالمسلمين فيقولون هذا الرجل منا، فيجاوزهم إلى النبيين فيقولون هو منا، فيجاوزهم إلى الملائكة المقربين فيقولون هو منا، حتى ينتهي إلى رب العزة عزّ وجلّ فيقول: يا رب، فلان بن فلان أظمأت هواجره وأسهرت ليله في دار الدنيا، وفلان بن فلان لم أظمئ هواجره ولم أسهر ليله، فيقول تبارك وتعالى: أدخلهم الجنة على منازلهم فيقوم فيتبعونه فيقول للمؤمن: اقرأ وارقه، قال فيقرأ ويرقى حتى يبلغ كل رجل منهم منزلته التي هي له فينزلها»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الحافظ للقرآن، العامل به، مع السفرة الكرام البررة»(2).

فاهتمّوا - بحفظ القرآن الكريم - وأنتم بهذا السن اليافع لتسعدوا في الدنيا والآخرة.وبعد أن تربّوا في ذواتكم وأنفسكم هذه الخصوصيات الأربع التي ذكرناها، لا بد لكم من التحلّي بالهدفية، لأن المسيرة الواقعية تتطلب أهدافاً واضحة.

تطبيق حكم اللّه في الأرض

اشارة

بما أنكم صغار اليوم ويوشك أن تصيروا كبار القوم لا بد أن يكون هدفكم الأول هو إقامة حكم اللّه في الأرض، وسيكون ذلك في القريب العاجل إن شاء اللّه.

وستزول تلك الأيادي الاستعمارية الظالمة التي تسلطت على رقاب شعبنا في العراق، أمثال نظام الطاغية صدام وعفلق وجماعتهما، ويبزغ في العراق، فجر الحكم الإسلامي وتكون الحاكمية فيه للّه ولرسوله وللأئمة الأطهار(عليهم السلام) وللعلماء

ص: 259


1- الكافي 2: 601.
2- الكافي 2: 603.

والمتدينين من أبناء الشعب العراقي المظلوم، إذن يجب أن يكون هدفنا إقامة حكم اللّه فإذا أقمنا حكم اللّه في الأرض نكون قد ربحنا الحياة في الدنيا وربحنا كذلك في الآخرة إن شاء اللّه تعالى.

الهدف النبيل

وإن تحقيق هذا الهدف النبيل يحتاج إلى أمرين:

أولاً: بناء النفس من الداخل أي تربية النفس على الفضائل التي ترضي اللّه سبحانه وتعالى؛ لأن اللّه تعالى خلق النفس وعرّفها طريق الطاعة والمعصية أو الخير والشر أو الفجور والتقوى كما جاء في قوله تعالى: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(1) فقد أفلح ونجح وفاز من زكّى نفسه في هذه الدنيا وربّاها على الفضائل، وخسر وندم من ربّاها على المعاصي والخمول والعمل الطالح. لذا فإن تحقيق هذا الأمر شاق على الأنفس ويحتاج إلى مدة طويلة وتحمل للآلام والمتاعب والصبر وهذا هو الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، وقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث سرّية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول اللّه وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم):أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(2).

ثانياً: العمل الجاد والمتواصل وعدم التخلّي عن الهدف حتى يأذن اللّه بنصره؛ لذا يجب أن نستمر بهمة عالية حتى نصل إلى الهدف النبيل وهو (تطبيق أحكام اللّه في الأرض) الذي راحت من أجله عشرات بل مئات الآلاف من

ص: 260


1- سورة الشمس، الآية: 7-10.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 466.

النفوس الزكية منذ الصدر الأول للإسلام وإلى يومنا هذا.

فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «اعلموا أنه ليس بين اللّه وبين أحد من خلقه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلهم إلّا طاعتهم له فاجتهدوا في طاعة اللّه إن سركم أن تكونوا مؤمنين حقاً حقاً»(1). وإن هذه الطاعة متمثلة بتطبيق أحكام اللّه في الأرض، ولا يتحقق ذلك إلّا بالعمل والجد والاجتهاد في سبيل الوصول إليه.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

العمل الصالح

قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}(4).

وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}(5).

ص: 261


1- الكافي 8: 11.
2- الكافي 3: 424.
3- سورة النحل، الآية: 97.
4- سورة الكهف، الآية: 88.
5- سورة القصص، الآية: 67.

وقال تبارك وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَٰتُ الْعُلَىٰ}(2).

طلب العلم وأهميته

قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ}(3).

وقال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

وقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(6).

الإخلاص والتوكل على اللّه

قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(7).

ص: 262


1- سورة طه، الآية: 82.
2- سورة طه، الآية: 75.
3- سورة آل عمران، الآية: 164.
4- سورة الزمر، الآية: 9.
5- سورة البقرة، الآية: 269.
6- سورة العلق، الآية: 1-5.
7- سورة مريم، الآية: 51.

وقال تعالى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(1).

وقال سبحانه: {قُلْ مَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٖ وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(4).

وقال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

تربية الناشئين

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «علّموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم اللّه به لا تغلب عليهم المرجئة برأيها»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة»(7).

وقال(عليه السلام): «الغلام يلعب سبع سنين ويتعلّم الكتاب سبع سنين ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين»(8).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إنا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا

ص: 263


1- سورة الأعراف، الآية: 29.
2- سورة ص، الآية: 86.
3- سورة الشعراء، الآية: 109.
4- سورة الشورى، الآية: 10.
5- سورة الطلاق، الآية: 3.
6- وسائل الشيعة 21: 478.
7- تهذيب الأحكام 8: 111.
8- الكافي 6: 47.

كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم إن كان إلى نصف النهار أو أكثرمن ذلك أو أقل، فإذا غلبهم العطش والغرث(1) أفطروا حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم فإذا غلبهم العطش أفطروا»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام متتابعة فقد وجب عليه صيام شهر رمضان»(3).

تأديب الأحداث

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم يغفر لكم»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته للإمام الحسن(عليه السلام): «إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبّك»(5).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «... مُر الصبي فليتصدق بيده بالكسرة والقبضة والشيء وإن قل، فإن كل شيء يراد به اللّه وإن قلّ بعد أن تصدق النية فيه عظيم، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(6) وقال: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَٰمٌ فِي يَوْمٖ ذِي مَسْغَبَةٖ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٖ}(7) علم اللّه أن كل أحد

ص: 264


1- الغَرَثْ: الجوع.
2- الكافي 3: 409.
3- الكافي 4: 125.
4- مكارم الأخلاق: 222.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصيته(عليه السلام) لولده الإمام الحسن(عليه السلام).
6- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
7- سورة البلد، الآية: 11-16.

لايقدر على فك رقبة فجعل إطعام اليتيم والمسكين مثل ذلك تصدق عنه»(1).

ومن وصايا لقمان(عليه السلام) لابنه: «يا بني، إن تأدّبت صغيراً انتفعت به كبيراً»(2).

حقوق الأولاد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رحم اللّه والدين أعانا ولدهما على برّهما»(3).

وقال أبو الحسن موسى(عليه السلام): «جاء رجل إلى النّبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، ما حقّ ابني هذا؟ قال: تحسّن اسمه وأدبه وضعه موضعاً حسناً»(4).

وكان داود بن زربيٍّ شكا ابنه إلى أبي الحسن(عليه السلام) في ما أفسد له، فقال(عليه السلام): «استصلحه فما مائة ألفٍ في ما أنعم اللّه به عليك»(5)(6).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «صلّى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنّاس الظّهر والعصر فخفّف الصلاة في الرّكعتين، فلمّا انصرف قال له النّاس: يا رسول اللّه، أحدث في الصّلاة شي ء؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وما ذاك؟ قالوا: خفّفت في الرّكعتين الأخيرتين، فقال: لهم أما سمعتم صراخ الصّبيّ»(7).

و قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«يلزم الوالدين من العقوق لولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما»(8).

وكتب الإمام عليّ بن موسى الرّضا(عليهما السلام) إلى محمّد بن سنان في ما كتب من

ص: 265


1- الكافي 4: 4.
2- تفسير القمي 2: 164.
3- الكافي 6: 48.
4- الكافي 6: 48.
5- الكافي 6: 48.
6- بيان: أي اطلب صلاحه فإن هذا المبلغ من الدينار أو الدرهم وإن أفسده فهو يسير في جنب نعمة الولد.
7- تهذيب الأحكام 3: 274.
8- الكافي 6: 48.

جواب مسائله: «حرّم اللّه قتل النّفس لعلّة فساد الخلق... - إلى قوله(عليه السلام) - وحرّم اللّه تبارك وتعالى عقوق الوالدين لما فيه من الخروج من التّوقير للّه عزّ وجلّ والتّوقير للوالدين وكفران النّعمة وإبطال الشّكر وما يدعو من ذلك إلى قلّة النّسل وانقطاعه لما في العقوق من قلّة توقير الوالدين والعرفان بحقّهما وقطع الأرحام والزّهد من الوالدين في الولد وترك التّربية لعلّة ترك الولد برّهما وحرّم اللّه تعالى الزّنا لما فيه من الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترك التّربية للأطفال وفساد المواريث وما أشبه ذلك من وجوه الفساد...»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): حقّ الولد على والده إذا كان ذكراً أن يستفره أمّه(2) ويستحسن اسمه ويعلّمه كتاب اللّه ويطهّره ويعلّمه السّباحة، وإذا كانت أنثى أن يستفره أمّها ويستحسن اسمها ويعلّمها سورة النّور ولا يعلّمها سورة يوسف ولا ينزلها الغرف ويعجّل سراحها إلى بيت زوجها...»(3).

وعن يونس بن رباطٍ عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:«قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): رحم اللّه من أعان ولده على برّه» قال قلت: كيف يعينه على برّه؟ قال: «يقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره ولا يرهقه ولا يخرق به(4) فليس بينه وبين أن يصير في حدٍّ من حدود الكفر إلّا أن يدخل في عقوقٍ أو قطيعة رحمٍ ثمّ قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الجنّة طيّبة طيّبها اللّه وطيّب ريحها يوجد ريحها من مسيرة ألفي عامٍ ولا يجد ريح الجنّة عاقّ ولا قاطع رحمٍ ولا مرخي الإزار خيلاء»(5)(6).

ص: 266


1- من لا يحضره الفقيه 3: 565.
2- يستفره أي: يستكرم أمه ولا يدعو بالسب لأمه واللعن والفحش.
3- الكافي 6: 49.
4- الخُرْق: الحمق والجهل، أي لا ينسب اليه الحمق.
5- الإرخاء: الإرسال، والخيلاء: التكبر.
6- الكافي 6: 50.

طلب العلم وأهميته

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «اغد عالماً أو متعلماً ولا تكن الثالث فتعطب»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من عبد يغدو في طلب العلم أو يروح إلّا خاض الرحمة وهتفت به الملائكة: مرحباً بزائر اللّه، وسلك من الجنة مثل ذلك المسلك»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الناس اثنان عالم ومتعلّم وسائر الناس همجُ والهمج في النار»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، إعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألّا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال...»(5).

أهمية السعي

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لن يضيع من سعيك ما أصلحك وأكسبك الأجر»(6).

وقال(عليه السلام): «التشمر للجد من سعادة الجد»(7).

وقال(عليه السلام): «من بذل جهد طاقته بلغ كنه إرادته»(8).

ص: 267


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- كنز الفوائد 2: 109.
3- ثواب الأعمال: 131.
4- الخصال 1: 39.
5- الكافي 1: 30.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 554.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 127.
8- عيون الحكم والمواعظ: 462.

الإخلاص للّه تعالى

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن أمير المؤمنين (صلوات للّه عليه) كان يقول: طوبى لمن أخلص للّه العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ولم ينس ذكر اللّه بما تسمع أذناه ولم يحزن صدره بما أعطي غيره»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، شهادة ممتحناً إخلاصها، معتقداً مصاصها(2)، نتمسك بها أبداً ما أبقانا وندّخرها لأهاويل ما يلقانا فإنها عزيمة الإيمان وفاتحة الإحسان ومرضاة الرحمن ومدحرة الشيطان...»(3).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ {حَنِيفًا مُّسْلِمًا}(4): «خالصاً مخلصاً ليس فيه شيء من عبادة الأوثان»(5).

فضل القرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تعلموا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شاب جميلٍ شاحب اللون، فيقول له القرآن: أنا القرآن الذي كنت أسهرت ليلك وأظمأت هواجرك وأجففت ريقك وأسلت دمعتك - إلى أن قال - : فأبشر، فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه ويعطى الأمان بيمينه والخلد في الجنان بيساره ويكسى حلتين، ثم يقال له: اقرأ وارقه فكلما قرأ آية صعد درجة، ويكسى أبواه حلتين إن كانا مؤمنين، ثم يقال لهما: هذا لما علمتماه القرآن»(6).

ص: 268


1- الكافي 2: 16.
2- مصاص كل شيء: خالصه.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 2 بعد انصرافه(عليه السلام) من صفين.
4- سورة آل عمران، الآية: 67.
5- الكافي 2: 15.
6- الكافي 2: 603.

قال أبو عبد اللّه الإمام الصادق(عليه السلام): «إن الدواوين يوم القيامة ثلاثة، ديوان فيه النعم، وديوان فيه الحسنات، وديوان فيه السيئات، فيقابل بين ديوان النعم وديوان الحسنات، فتستغرق النعم عامة الحسنات، ويبقى ديوان السيئات، فيدعى بابن آدم المؤمن للحساب فيتقدم القرآن أمامه في أحسن صورة، فيقول: يا رب، أنا القرآن وهذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي ويطيل ليله بترتيلي وتفيض عيناه إذا تهجد، فأرضه كما أرضاني، قال: فيقول العزيز الجبار: عبدي ابسط يمينك فيملؤها من رضوان اللّه العزيز الجبار ويملأ شماله من رحمة اللّه، ثم يقال: هذه الجنة مباحةٌ لك فاقرأ واصعد فإذا قرأ آية صعد درجة»(1).

أفضل الأعمال

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحب الأعمال إلى اللّه سرور تدخله على المؤمن تطرد عنه جَوْعته وتكشف عنه كربته»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سأل ربّه سبحانه ليلة المعراج فقال: يا ربّ أي الأعمال أفضل؟ فقال اللّه تعالى: ليس شيء أفضل عندي من التوكل عليّ والرضا بما قسمت...»(3).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «وإن أعظمكم عند اللّه عملاً أعظمكم في ما عند اللّه رغبةً، وإن أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم خشية للّه، وإن أقربكم من اللّه أوسعكم خُلقاً، وإن أرضاكم عند اللّه أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم على اللّه أتقاكم للّه»(4).

ص: 269


1- الكافي 2: 602.
2- الكافي 2: 191.
3- إرشاد القلوب 1: 199.
4- الكافي 8: 68.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «احرصوا على قضاء حوائج المؤمنين وإدخال السرور عليهم ودفع المكروه عنهم فإنه ليس من الأعمال عند اللّه عزّ وجلّ بعد الإيمان أفضل من إدخال السرور على المؤمنين»(1).

ص: 270


1- بحار الأنوار 71: 313.

حكومة الأكثرية

المسؤوليات الاجتماعية

حكومة الأكثرية(1)

قال اللّه تعالى: {لَقَدْ جِئْنَٰكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ}(2).

تعد المسؤوليات الاجتماعية من المسؤوليات الصعبة والمهمة؛ لأنها تتطلب التضحية والبذل والعطاء؛ وليس الكل قادراً على تفهمها، بل إن بعضهم ليس على استعداد حتى لبحثها والخوض فيها، ولو كانوا مستعدين يوماً لتعلّم هذه المسائل، فهم غير مستعدين لإبداء نشاط إيجابي واضح وصحيح للعمل في هذا المجال؛ لذا نرى أن تأخّر المسلمين في بعض المجالات وبالخصوص في مجالات (الحقوق، والسياسة، والاقتصاد أو التجارة، وشبهها) ناشئ من عدم أداء بعضهم للواجب الملقى على عاتقهم بشكل صحيح ومتقن. والغريب أن البعض يعتقدون بأنهم متقدمون في هذا المجال، وحين تنكشف الحقيقة لهم بأنهم قد قصروا في أداء الواجب يلقون باللوم على عاتق الآخرين، في حين أنهم جزء لا يتجزأ من أولئك الأفراد المتأخرين.

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن اللّه يبغض من عباده المائلين فلا تزلّوا عن الحق، فمن استبدل بالحق هلك وفاتته الدنيا وخرج منها ساخطاً»(3).

ص: 271


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 5/ربيع الأول/1411ه.
2- سورة الزخرف، الآية: 78.
3- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 381.

فهناك أفراد في المجتمع - مثلاً- يدرسون من أجل أن يكونوا خطباء ويصعدون المنبر في النهاية، إلّا أنهم لا يأتون بجديد سوى أنهم يعتبرون هذا العمل وظيفة شرعية أو للكسب، لا وظيفة اجتماعية وحيوية أيضاً، فلا يتعرضون لقضايا الأمة ومشاكلها؛ لأنهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم، وحينذاك تكون النتيجة أن يظل المسلمون في تأخرهم الذي هم عليه الآن، وتظهر المشاكل في ضياع حقوق الناس، وسيطرة الأقلية على الأكثرية.

مشكلتان رئيسيتان

اشارة

إن بحثنا يدور حول التحولات التي تجري في العراق، وقد طالعت الكثير عن ماضي العراق وحاضره، فوجدت أن فيه مشاكل قد تكون مشتركة في كل البلاد الإسلامية، وقد تكون خاصة به تبعاً لتركيبة الشعب أو لجغرافية منطقته، أو لتاريخه المليء بالأحداث الساخنة والمتميزة، إلّا أن حقيقة الأمر هي أن مشكلتين رئيسيتين موجودتين في العراق:

أولهما: عدم الوعي والتخلف في ميادين السياسة والحقوق، وغيرها من ميادين الحياة المهمة، وهذا التخلف جعل الكثير من أبناء الشعب لا يعرف ما يدور حوله من مكائد ومؤامرات استعمارية.

وثانيهما: سيطرة الأقلية على الأكثرية.

فالمشكلة لا تقتصر على سلب الحقوق ومصادرة تضحيات الأكثرية، بل تتعداهما إلى أن المستفيد من هذه التضحيات هم أناس بعيدون عن الجهاد والتضحية، سوى أنهم مرتبطون ببريطانيا، وقبلها كانوا يقتاتون على الحكم العثماني، فهم يتحينون الفرص الملائمة ليضربوا أصحاب الحق. في حين أن

ص: 272

الشيعة يشكلون نسبة (85%) من مجموع الشعب(1). وهم الذين وقفوا بوجه الاستعمار البريطاني ومن قبله العثمانيين وقدموا الشهداء والتضحيات الجليلة، ولكننا نراهم معزولين ومبعدين عن الحكم، ويعانون من الظلم والاضطهاد، فضلاً عن أن القانون الديمقراطي الذي يحكم أوسع رقعة جغرافية من العالم اليوم يقضي بأن الاتجاه السياسي والمذهبي للدولة يجب أن يختاره الشعب طبق ميزان التوزيع وحق الأكثرية، مع احترام حقوق الأقليات، فنسبة (85%) هي التي يجب أن تحكم في العراق مع ضمان احترام حقوق الأقليات الأخرى بقدر نسبتها التي أشرنا إليها.

سؤال

والسؤال هنا: لو كان هدف الطاغية صدام هو العمل الحزبي السياسي فقط، وليس التعصب المذهبي، فلماذا كل هذه المحاربة للشيعة، لماذا هذا التبعيد؟ ولماذا كل هذه الضغوط على الحوزات العلمية الشيعية؟ وليس هذا منحصراً في صدام وحده، بل كل الذين جاءوا إلى السلطة من ملكيين وبعثيين وقوميين وشيوعيين وغيرهم، مما يكشف عن كون حقيقة الحكم في العراق بشتى صوره وأصنافه راجع إلى الاضطهاد المذهبي والتعصب الطائفي.

نصب تأريخي

عبد المحسن السعدون من الشخصيات التي يرد أسمها في تاريخ العراق الذي تسلّم منصب رئاسة الوزراء في العراق، وكان يتمتع آنذاك بقدرة عالية في تنفيذ أوامره، وكان عميلاً شديد الولاء لبريطانيا، وقد استفادت منه كثيراً في تمرير

ص: 273


1- هذه إحصائية أجراها السيد محمد الصدر رئيس الوزراء العراق أواخر الأربعينيات. للتفصيل انظر كتاب تلك الأيام للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

مؤامراتها على العراق. ومن شنائع ما قام به هو إبعاد العديد من علماء الشيعة وبعض مراجعهم، ومنهم المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) إلى إيران، لكن مع كل ذلك فإن نصبه التذكاري لا يزال موجوداً في بغداد، وإن بعض الشيعة لا يسألون من هو هذا الشخص؟ وماذا كان؟ وكيف بقي تمثاله قائماً في شوارع بغداد إلى الآن؟

ولا يدرون أن هذا التمثال هو لذلك الشخص، الذي أبعد المراجع العظام، وزعماء الطائفة الشيعية الموقرة من العراق إلى إيران، والشيء العجيب أن الحكومات الملكية تأتي ثم الشيوعيون والديمقراطيون والجمهوريون، وهذا التمثال موجود من دون أن تتعرض له الحكومات المتعددة بسوء؛ وذلك لأن كل هذه الحكومات التي جاءت إلى السلطة كانت - وما زالت - تعمل ضد الشيعة، وهدفها قمع الشيعة وسحق حقوقها.

التعصب الشديد ضد الشيعة

في أيام الحكم الملكي في العراق قررنا أن نؤسس مدرسة باسم مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)، ولكن لأن السلطة كانت بيد السُّنة (الذين يشكلون 12% من الشعب)، فإن الحكومة رفضت أن تمنحنا الإجازة لذلك؛ لأنها تعد ذلك تقوية للشيعة، وقالت: يجب أن تغيروا اسم هذه المدرسة إلى اسم آخر، إلّا أننا بذلنا السعي الكثير ولمدة ستة أشهر حتى استطعنا أن نبقي اسم المدرسة (مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام))، أما لو كانت المدرسة تحمل اسماً لغير أئمة الشيعة(عليهم السلام) أو لا يرمز إلى التشيع لكانت الإجازة تمنح بفترة قليلة جداً وبلا صعوبة!

القيادة الرشيدة ووحدة الأمة

قام الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) خلال قيادته لثورة العشرين ضد

ص: 274

قوات الاحتلال البريطانية، بخطوات واسعة في سبيل تحقيق وحدة الأمة، وجعلها قوة موحدة متماسكة ضد الاحتلال، وإزالة الخلافات من خلال هذه الوحدة بين السنة والشيعة، في الحركة السياسية، فقد وجّه(رحمه اللّه) عدة رسائل إلى شخصيات سُنية وشيعية، يطلب منها الاتحاد والتعاون.

ففي رسالة بعثها إلى جعفر أبو التمن، بتاريخ (3 رجب 1338ه) جاء فيها:

سرَّنا اتحاد كلمة الأمة البغدادية، واندفاع علمائها ووجوهها وأعيانها، إلى المطالبة بحقوق الأمة المشروعة، ومقاصدها المقدسة، فشكر اللّه سعيك ومساعي إخوانك وأقرانك من الأشراف، وحقق المولى آمالنا وآمال علماء وفضلاء حاضرتكم، الذين قاموا بواجباتهم الإسلامية.

هذا وإننا نوصيكم أن تراعوا في مجتمعاتكم قواعد الدين الحنيف، والشرع الشريف، فتظهروا أنفسكم بمظهر الأمة المتينة الجديرة بالاستقلال التام، المنزّهة عن الوصاية الذميمة، وأن تحفظوا حقوق مواطنيكم الكتابيين الداخلين في ذمة الإسلام، وأن تستمروا في رعاية الأجانب الغرباء، وتصونوا نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، محترمين كرامة شعائرهم الدينية، كما أوصانا بذلك نبينا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والسلام عليكم وعلى العلماء والأشراف والأعيان.

وجاء في رسالة ثانية أرسلها بتاريخ (4 رجب 1338ه) إلى الشيخ أحمد الداود أحد علماء السنة في بغداد:

تلقيت بالابتهاج برقيتكم، فما وجدتها أعربت مقدراً، ولا أبرزت مستتراً، هذا ما أعتقده في عامة المسلمين أن يكونوا على مبدأ القرآن، ومنهج الحق، وقول الصدق، فكيف بمن ربّي في حجر العلم... ولا أرى أنه يسرك أن تراني مقتنعاً بما عاهدت عليه اللّه وقد أخذ في ذلك عليك عهدك من قبل أن يبرأك... وليكن

ص: 275

التوفيق رائدك في عمل الخير، وكن لساناً ناطقاً بالصواب، داعياً إلى الشرع الشريف أهله، سالكاً بهم محجته البيضاء... .

ومن رسالة أخرى أرسلها الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه) في (3 رجب) إلى الشيخ موحان الخير اللّه أحد رؤساء عشائر المنتفك جاء فيها:

... إن جميع المسلمين إخوان، تجمعهم كلمة الإسلام، وراية القرآن الكريم والنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فالواجب علينا جميعاً الاتفاق والاتحاد والتواصل والوداد، وترك الاختلاف، والسعي في كل ما يوجب الائتلاف، وتوحيد الكلمة، وجمع شتات الأمة، والتعاون على البر والتقوى، والتوافق في كل ما يرضي اللّه تعالى، فإنكم إن كنتم كذلك جمعتم بين خير الدنيا والآخرة، ونلتم الدرجة العلياء، والشرف الدائم والذكر الخالد... .

ولكن حينما نستقرئ أحداث ثورة العشرين نرى أن استجابة السنة لم تكن بنفس المستوى الذي تحرك فيه علماء الشيعة، وشيوخ العشائر بشكل خاص، والشيعة كأفراد بشكل عام، في مقاومة الإنكليز وعملائهم في الداخل، فقد ظل بعض شيوخ العشائر السنية وبعض علمائها يوالون الإنكليز.

والسبب في ذلك عدم انسجامهم مع فكرة تأسيس حكومة مستقلة في العراق، إذ أنهم كانوا يعلمون بأن من الطبيعي أن تكون الحكومة القادمة شيعية، باعتبار أن القائد العام للثورة كان شيعياً، بل ومرجعاً دينياً، وهو الإمام الشيرازي(رحمه اللّه)، ومعه علماء الشيعة، ومركز قوة المقاومة العشائرية بيد العشائر الشيعية، فمن الطبيعي أن تكون الحكومة شيعية أيضاً(1)؛ لذلك اتجه بعض السنة وقتها إلى موالاة الحكم البريطاني، ضد أبناء شعبهم ودينهم، ليحقق لهم مطامحهم في

ص: 276


1- وللأغلبية الساحقة في العدد كما مر سابقاً.

الحكم والخلاص من الشيعة بالرغم من حدوث التقارب الشيعي السني تحت مظلة الميرزا الشيرازي خلال التحضير للثورة ولكن موالاة بعض السنة للحكم البريطاني مكّن الانكليز من تقييد ومحاصرة الثورة.

ضعف الوعي

من الأشياء العجيبة، والتي تشير إلى عدم وعي بعض الشيعة في العراق، هو أن الحكام الذين جاءوا إلى السلطة من فيصل الأول، وفيصل الثاني وعبد الكريم قاسم، ثم إلى عبد السلام عارف، وعبد الرحمن عارف، وأحمد حسن البكر، وصدام حسين، كانوا كلهم من السنّة، وإن تلبسوا بلباس البعث ونحوه.

فأين ذهبت نسبة (85%) الذين هم من الشيعة في العراق، فالالتزام الديني لا يعني ترك الحقوق وعدم الاشتغال بالسياسة وما أشبه.

إن بعض الشيعة ملتزمون بطقوسهم وعباداتهم التزاماً تاماً، وإن العتبات المقدسة ومراقد الأئمة الأطهار(عليهم السلام) ملأى بالزائرين الشيعة، وكذلك الجيش غالبيته من الشيعة - عدا كبار الضباط فإنهم من السنة عادة - وكل المحافظات العراقية عدا أربع محافظات، وهذه هي أيضاً يوجد فيها عدد كبير من الشيعة، ولكننا نراهم خلال الستين سنة الماضية أشبه شيء بكرة من طين تعبث بها الأيدي السنية دون رحمة.

لذا نقول: إن الشيعة في العراق لو استمروا على هذه الحال، فإنهم سوف يبقون - لا سمح اللّه - على التخلف والتأخر وضياع الحقوق!

وعلى هذا لو أن (نظام صدام) الحالي أزيل من السلطة، وجاء شخص آخر هو أيضاً ليس من الشيعة، فربّما سيقول بعض الشيعة: الحمد للّه لقد انتهى عهد صدام، وجاء شخص جديد إلى الحكم هو أفضل منه، لكنه بعد أن يحكم قبضته

ص: 277

على السلطة فإنه يفعل ما فعله الذين سبقوه أيضاً؛ لأن الجوهر واحد في الحكومات السابقة وإن تبدّلت الصور.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من لا يعقل يهن ومن يهن لا يوقّر»(1).

وقال(عليه السلام): «ضلال العقل يبعد من الرشاد ويفسد المعاد»(2).

الطائفية في كل شيء

قطع الكهرباء

في أحد الأيام قمنا ببناء مسجد في العراق بين مرقد الشهيد الحر الرياحي (رضوان اللّه عليه) ومركز مدينة كربلاء المقدسة باسم (مسجد المتقين) وبينما كنت ذاهباً يوماً لزيارة المرقد المطهر للإمام الحسين(عليه السلام)، جاءني شخص وأنا في طريقي إلى حرم الإمام(عليه السلام) وقال لي: قطعوا التيار الكهربائي عن مسجد المتقين؛ بسبب عدم تسديد مبلغ ثمانية دنانير كمصرف كهرباء، طالباً مني تسديد هذا المبلغ.

فقلت له: اذهب وقل لذلك الشخص الذي قطع الكهرباء عن المسجد: كيف يصحّ أن تبنوا مسجداً للسنة في كربلاء بمبلغ (250.000) دينار، في حين أن كربلاء ليس فيها سنّة ليصلوا بهذا المسجد، لكن من أجل ثمانية دنانير تقطعون الكهرباء عن مسجد شيعي، يستفيد منه كثير من المصلين؟!

ألّا يعبِّر هذا عن مدى الطائفية للحكومة؟!

الاعتقال من الحمام

نقل لنا سلطان الواعظين صاحب كتاب (ليالي بيشاور)، أثناء زيارته لكربلاء،

ص: 278


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 578.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 426.

قال: في زمن عبد الكريم قاسم، ذهبت إلى حمام في الكاظمين(1)، وكنت وقتها مريضاً جداً، وأثناء ما كنت في الحمام كان عدد من الرجال يستحمون أيضاً، وفجأة قام جنودٌ من قبل السلطة بمداهمة الحمام وأخذونا منه، ثم نقلونا في سيارات مغلقة إلى وزارة الدفاع، وكان الهواء حينها بارداً جداً، وهناك وضعونا في مرآب(2) قذر متعفن، فوجدنا هناك الآلاف من الذين اعتبروهم إيرانيين، وقد وضعوا في حالة يرثى لها، وحينما حلّ وقت الظهر حيث كنا جياعاً جداً، جاءوا لنا (بالتمن والمرق) إلّا أنهم وضعوه في عربات تدفع بالأيدي، تستخدم لنقل الطابوق والتراب عادة، وقالوا لنا تحرّكوا مجموعات مجموعات، كل مجموعة تقف على عربة وتتناول الطعام وذلك زيادة بالتنكيل والإهانة لنا.

كان الوضع يجري هكذا في العراق، وكان رئيس الدولة هو عبد الكريم قاسم. رغم هذا وذاك شاهدنا بأعيننا ذلك الشيعي الجاهل، الذي رسم صورة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي وسطها صورة عبد الكريم قاسم والى يساره صورة الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وهو يربط سيفاً على محزم عبد الكريم قاسم، وكانت الصورتان معلقتين على باب الدخول لحرم الإمام أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) بأمر من الحكومة!!

المشكلة الثانية

كانت المشكلة الدائرة بين الدول الكبرى هو تنافسها للاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من العالم، ففي العراق كان الصراع قائماً بين أمريكا وبريطانيا. ففي حقبة من الزمن كانت أمريكا تدّعي بأنها تملك الحق في السيطرة على

ص: 279


1- أي مدينة الكاظمية.
2- مرآب: مكان لإصلاح السيارات وإيواءها.

العراق، ومرة أخرى تتصدى بريطانيا لهذا الإدعاء وبقيت هاتان الدولتان تتعاقبان على امتصاص ثروات العراق، وتدمير ما بقي من هذه الثروة.

وقد قرأت في إحدى المجلات، أن كيلو اللحم في العراق - اليوم - أصبح يباع بما يعادل أربعة آلاف تومان، في حين أتذكر جيداً، أن كيلو اللحم كان يباع سابقاً ب(24 فلساً)، أي ما يعادل (24) رغيف من الخبز، أما الآن فإن كيلو اللحم يعادل ألف رغيف من الخبز، مع العلم أن المعروف عن العراق أنه كان من الدول المصدرة للحوم سابقاً، أما اليوم فقد أصبح مستورداً لها.

كيفية الخلاص

مما لا شك فيه أن حكومة البعث ستسقط باذنه تعالى، فقد قيل: أن حبل الظالم قصير وإن طال، والذي يبدو للنظر أن هناك عدة مسائل يجب الاهتمام بها لحل مشاكل العراق مستقبلاً بعد سقوط حكومة البعث الحاكمة، منها:

1- إن الحكومة القادمة يجب أن تكون بيد الشيعة؛ لأنهم الأكثرية، وحتى لو قيل: إن هذا الحاكم الفلاني هو إنسان طيب ومسلم وملتزم حتى بالمستحبات، فلا ينبغي أن ننخدع بذلك(1)، بل يجب أن يكون حاكم البلاد شيعياً لأن الأكثرية في البلاد هم الشيعة، وإن القانون الإلهي والقانون المتعارف عليه دولياً يقرّ بذلك، نعم من الضروري أن نعطي للآخرين حقوقهم بقدر تمثيلهم في الشعب.

2- تصعيد الإعلام، وبيان ذلك لكل العالم بأن العراق يجب أن يكون حاكمه شيعياً، فينبغي أن يكون الطرح شجاعاً من غير خوف أو وجل وعلى مستوى واسع، فيطرح هذا الرأي على البقال والخباز والمهندس والموظف والعسكري

ص: 280


1- قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تغترن بمجاملة العدو فإنه كالماء وإن أطيل إسخانه بالنار لم يمنع من إطفائها» عيون الحكم والمواعظ: 519.

وعلى غيرهم من شرائح المجتمع، وهؤلاء هم الذين يمثلون (الوحدة القاعدية) وهم جماهير الناس، وحين تكون لهم مطالبات دينية أو دنيوية فإنها توجب الضغط على القوى الكبرى أو الدولة في سياستها خاصة، إيجاباً أو سلباً أو تعديلاً. وأسلوب ضغط الجماهير وإن لم يكن بشكل خاص، إلّا أنه بالنتيجة يؤثر على الرأي العام ككل، وبالتالي الضغط على أصحاب النفوذ والقوى، فإذا كانت الدولة استشارية تتفادى سخط الرأي العام وترضخ لمطالبه، وإذا كانت ديكتاتورية فهي تتجاهل الرأي العام وبالتالي ستكون نتيجتها السقوط الحتمي.

إن الإعلام والتأثير على الرأي العام سوف يوجد تكاتفاً واسعاً في الرأي وسيكون بالنتيجة سدّاً بوجه القوى الكبرى، التي تمنع من تحقيق ذلك.

وقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من جهل وجوه الآراء أعيته الحيل»(1).

ثمار ضغط الرأي العام

حينما أخذ المأمون السلطة من أخيه الأمين، في خديعة يذكر التاريخ مفرداتها بالتفصيل، ثم روّج حيلة معينة انطلت على بعض الشيعة آنذاك بحيث صدّقوها(2)، لكنه حينما جاء إلى السلطة قام بقتل ذرية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن والاهم، وإن أكثر هذه القبور المتناثرة في إيران والعراق هي من فعل المأمون وجلاوزته، أخيراً عاد المأمون إلى بغداد وكأنه لم يفعل شيئاً.

وفي يوم من الأيام شاهد (يحيى بن أكثم) - الذي كان وزيراً للمأمون - أنالمأمون يذرع القصر جيئة وذهاباً، وهو يقول: مالك يا جُعَل(3) أتحلل وتحرم؟

ص: 281


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 584.
2- وهي الإدعاء بالثورة لأجل إرجاع حق آل محمد(عليهم السلام) - ذرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) - في الخلافة.
3- الجُعَل: دابة سوداء من دواب الأرض وقيل هو أبو جَعْران، لسان العرب 11: 112، مادة (جعل).

وكان المأمون يريد بخطابه الخليفة الثاني، ويقول له: هل لك حق التحليل والتحريم؟ يقول يحيى بن أكثم: فقلت للمأمون: ما هي المناسبة لكلامك هذا؟ فقال المأمون: يا ابن أكثم لماذا حرم الخليفة الثاني المتعة، في حين أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد حللّها، أما الآن يا ابن أكثم، فأصدر أمراً إلى المنادين، لينادوا بين الناس أنه من الآن فصاعداً قد أجزت حلية الزواج المؤقت.

يقول ابن أكثم: فقلت للمأمون: لا تفعل هذا أيها الخليفة، لأنك حينما قتلت الأمين صار لك معارضون (وهم أهل السنة)، ولو أنك فعلت اليوم هذا فإنهم سوف يؤلبون عليك الرأي العام ويثور الناس ضدك. بهذا استطاع ابن أكثم أن يخوّف المأمون حتى صرفه عن الرأي(1).

فالشاهد أن الرأي العام قادر على أن يؤثر في القرارات المتخذة سواء كانت بحق أو باطل.

فعلينا أيضاً كسب الرأي العام، وقضيتنا قضية الحق أمام الباطل، فنحتاج في هذه المرحلة إلى الإعلام المركّز والصحيح.

لماذا الحكومة بيد الشيعة؟

يذكر الشيخ جعفر الرشتي(رحمه اللّه): أنه قبل ثمانين سنة - حيث لم تكن الجنسية التي جاء بها الاستعمار لبلادنا قد عرفت بين الناس - كان هناك جسر على طريق بغداد قبل الوصول إلى مدينة كربلاء بفرسخ واحد، وكذلك كان على طريق (كربلاء - النجف) مكان يدعى ب(خان الهندي)، وهو يبعد عن كربلاء فرسخاً واحداً أيضاً، يقول الشيخ الرشتي: وكان الزوّار في ذلك الزمان لكثرتهم ينامونعلى هذا الطريق، أي من جسر الأبيض(2) حتى كربلاء، ومن كربلاء حتى خان

ص: 282


1- انظر وفيات الأعيان 6: 149.
2- ما يسمى اليوم عند أهالي كربلاء (القنطرة البيضة).

الهندي في الطرف الآخر من المدينة، فانظر كم كان عدد الزائرين آنذاك؟

وهنا نتساءل: أين ذهبت تلك الأعداد من الزوار؟

والجواب: لما أحكمت الحكومات السنية قبضتها على الشيعة، قامت بمنع كل هذه الجموع من الشيعة، ومنعتهم من زيارة إمامهم أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، وسائر الأئمة، وذلك إما باستخدامهم القوة والبطش، أو بإدخال الأفكار المنحرفة غربية وشرقية إلى عقول بعض السذج لكي يصرفوهم عن سبيل أئمة الهدى(عليهم السلام)، إذ يروّجون لهم بأن هذه الأعمال والشعائر هي من الخرافات، وتقف حائلاً أمام التقدم والحضارة وغيرها من الدعاوى الباطلة.

وما نراه في بعض الأحيان من السماح للزوار إنما يكون لظروف طارئة وأغراض استدعت ذلك، كامتصاص للنقمة أو إيجاد قاعدة جماهيرية تمتدحهم على خطوتهم فيجلبون رضى الشعب ويثبتون قواعدهم أكثر فأكثر، وإلّا فالأصل عندهم هو المنع من جميع ذلك وبشتى الوسائل والطرق فلهذا وغيره يجب أن تكون الحكمة بيد الشيعة.

إيجاد الديمقراطية في العراق

كما يجب أن يكون الحكم في العراق قائماً على أساس إعطاء الناس حقوقهم في إبداء الرأي بحرية، وأن يعمل بالشورى والمشورة، وأن تعطى للأحزاب الإسلامية حرية العمل والتنافس، وأن يكون لها الحق في نقد الحكومة، وحينذاك سوف لا تكون الحكومة قادرة حتى على قتل خمسة أشخاص بالباطل، كما رأينا ذلك بأعيننا، حينما كانت التعددية الحزبية - على علاتها - هي الحاكمة.

أما إذا انفردت بالسلطة حكومة دكتاتورية فسيؤول وضع العراق من سيئ إلى أسوأ.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ تُعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق

ص: 283

وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

نتائج الإعراض عن الحق

قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَٰؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وِزْرًا}(3).

وقال سبحانه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَٰمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(4).

إيثار الحق والعمل به

قال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ}(5).

وقال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَٰتِحِينَ}(6).

التعصب الأعمى

وقال سبحانه: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَٰهِلِيَّةِ}(7).

ص: 284


1- الكافي 3: 424.
2- سورة الأنعام، الآية: 5.
3- سورة طه، الآية: 100.
4- سورة البقرة، الآية: 75.
5- سورة النساء، الآية: 135.
6- سورة الأعراف، الآية: 89.
7- سورة الفتح، الآية: 26.

وقال جلّ وعلا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(1).

وقال تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَٰرَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(2).

الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامي

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(3).

وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

إيثار الحق والعمل به

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم»، قيل: يا رسول اللّه ومن هم؟ فقال: «الذين يقبلون الحق إذا سمعوه ويبذلونه إذا سُئلوه ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم، هم السابقون إلى ظل العرش»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «...يا علي، ثلاثة تحت ظل العرش يوم القيامة، رجل أحب لأخيه ما أحبّ لنفسه، ورجل بلغه أمر فلم يتقدم فيه ولم يتأخر حتى يعلم أن ذلك الأمر للّه رضاً أو سخط، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى يصلحذلك العيب من نفسه، فإنه كل ما أصلح من نفسه عيباً بدا له منها آخر...»(6).

ص: 285


1- سورة البقرة، الآية: 206.
2- سورة محمد، الآية: 23-24.
3- سورة الأنبياء، الآية: 92.
4- سورة آل عمران، الآية: 103.
5- النوادر للراوندي: 15.
6- تحف العقول: 7.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحق وإن ضرّك على الباطل وإن نفعك، وأن لا يجوز منطقك علمك»(1).

الشيعة مع الحق

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا، الذين إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركة على من جاوروا سلم لمن خالطوا»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إنما شيعة علي الحلماء، العلماء، الذبل الشفاه، تعرف الرهبانية على وجوههم»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «شيعتنا أهل الهدى، وأهل التقى، وأهل الخير، وأهل الإيمان وأهل الفتح والظفر»(4).

المؤمنون أخوة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... المؤمنون أخوة تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الإخوان في اللّه تعالى تدوم مودتهم لدوامسببها»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله لا يخونه ولا

ص: 286


1- الخصال 1: 53.
2- الكافي 2: 236.
3- الكافي 2: 235.
4- الكافي 2: 233.
5- الكافي 1: 404.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 96.

يظلمه ولا يغشّه ولا يعده عدة فيخلفه»(1).

الاهتمام بأمور المسلمين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عليك بالنصح للّه في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(3).

وقال(عليه السلام): «إنه من عظم دينه عظم إخوانه، ومن استخف بدينه استخف بإخوانه...»(4).

الموعظة والإرشاد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: «... واتبع الموعظة، فإنه أقوى لهم على العمل بما يحب اللّه، ثم بثّ فيهم المعلِّمين، واعبد اللّه الذي إليه ترجع، ولا تخف في اللّه لومة لائم...»(5).

ص: 287


1- الكافي 2: 166.
2- الكافي 2: 163.
3- الكافي 2: 164.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 98.
5- تحف العقول: 26.

خدمة الناس والتقوى

اشارة

قال الإمام الحسين(عليه السلام): «اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم اللّه عليكم فلا تملّوا النعم فتحور(1) نقماً واعلموا أن المعروف مكسب حمداً ومعقب أجراً، فلو رأيتم المعروف رجلاً رأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين، ولو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجاً(2) مشوهاً تنفر منه القلوب وتغض دونه الأبصار»(3).

إذا قال الإنسان: إني نذرت أن أعطيك عشرة آلاف تومان فهذه نعمة أنعمها اللّه عليك، أو قال آخر: إني نذرت أن أعطيك هذه السيارة فهذه أيضاً نعمة أنعمها اللّه عليك، ولكن هل تصورت يوماً ما إذا طلب منك أحد مالاً لأجل ترميم داره أو شفاء مريضه أن هذه نعمة أيضاً؟

في نظر الإمام الحسين(عليه السلام) إن هذه ليست نعمة فقط بل هي من أفضل وأهم النعم فإن ما يحصله الإنسان من متاع الحياة الدنيا كالسيارة أو المال الكثير سينفد بعد فترة زمنية أو يتلف ولا يبقى منه شيء.

أما إذا جاءك شخص بحاجة ولبيتها له أو أعطيته سؤله فهذا لا يعدم أبداً فقد قال تعالى: {وَالْبَٰقِيَٰتُ الصَّٰلِحَٰتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}(4).

ص: 288


1- حار حوراً: رجع.
2- السمج: القبيح.
3- كشف الغمة 2: 29.
4- سورة الكهف، الآية: 46.

والمراد بالباقيات الصالحات الأعمال الصالحة، فإن أعمال الإنسان محفوظة له عند اللّه بنص القرآن فهي باقية وإذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات وهي عند اللّه خير ثواباً لأن اللّه سبحانه يجازي فاعلها خير الجزاء... وخير أملاً لأن ما يؤمل بها من رحمة اللّه وكرامته ميسور للإنسان فهي أصدق أملاً من زينة الدنيا وزخارفها التي لا تفي للإنسان في أكثر ما تعد والآمال المتعلقة بها كاذبة على الأغلب وما صدق منها غار خدوع.

{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٖ}(1).

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذبح الشاة

ذات يوم ذبح النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شاة في بيته ووزعها على الفقراء إلّا الرقبة فرأت عائشة أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعطى كل الشاة فلم يبق إلّا أن يعطي الرقبة أيضاً ولذا قالت: يا رسول اللّه لقد ذهبت كل الشاة ولم يبق منها إلّا الرقبة! فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): بل لم يذهب من الشاة إلّا الرقبة لأننا سنأكلها، أما الشاة فستبقى إلى يوم القيامة حسنة مكتوبة لنا(2).

إن قضاء حوائج المؤمنين بل الناس جميعاً من النعم الإلهية الكبيرة التي يوفق لها بعض الناس خصوصاً في هذا العصر حيث ازدادت حوائج الناس واتسعت مشاكلهم وأزماتهم التي تستدعي التعاون والاهتمام من أجل رفعها وقضائها من قبل الجميع.

الإمام الصادق(عليه السلام) والأمر بالإنفاق

عن أبان بن تغلب قال: قلت للصادق(عليه السلام): ما حق المؤمن على أخيه؟

ص: 289


1- سورة النحل، الآية: 96.
2- انظر مستدرك الوسائل 7: 266.

فقال(عليه السلام): «لا ترده».

فقلت: بلى، فقال: «أن تقاسمه مالك شطرين» قال: فعظم ذلك عليّ، فلما رأى(عليه السلام) شدته عليّ قال: «أما علمت أن اللّه تعالى ذكر المؤثرين على أنفسهم ومدحهم في قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}»(1) فقلت: بلى، فقال: «فإذا قاسمته وواسيته وأعطيته النصف من مالك لم تؤثره، إنما تؤثره إذا أعطيته أكثر مما تأخذه»(2).

فمن الضروري على المؤمن أن يغتنم الفرصة ليخدم الناس ويساعدهم ويقضي حوائجهم، ولا يخفى أن قضاء حوائج الناس لا يعني فقط حوائجهم المادية بل أعم من ذلك فيشمل حتى الجوانب الروحية والأخلاقية والخدمات الأخرى... .

مثلاً: إن زيداً من الناس له بنات كثيرات فبإمكاننا مساعدته في أمر تزويج بناته، وذلك بأن نرشد المؤمنين الراغبين في الزواج إليه، أو أن فلاناً يريد الزواج فأعنه حتى يعثر على فتاة صالحة، أو أن فلاناً لا يعرف القراءة والكتابة فساعده حتى يتعلمها، أو فلاناً أصابته كربة أو نائبة فأنت تسعى في أن تنفس عنه كربته... .

وقد جاءت في ذلك روايات عديدة ومفصّلة منها:

سئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أي الأعمال أحب إلى اللّه؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اتباع سرور المسلم»، قيل: يا رسول اللّه وما اتباع سرور المسلم؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شبع جوعته وتنفيس كربته وقضاء دينه»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان في حاجة أخيه المسلم كان اللّه في

ص: 290


1- سورة الحشر، الآية: 9.
2- أعلام الدين: 126.
3- قرب الإسناد: 145.

حاجته ما كان في حاجة أخيه»(1).

وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من سرّ مؤمناً فقد سرني ومن سرني فقد سر اللّه»(2).

وطبعاً إن سرور اللّه تعالى يراد منه ما يترتب على السرور من اللطف والرحمة، وسرور المؤمن يتحقق بفعل أسبابه وموجباته كأداء دينه أو تكفل مؤونته أو ستر عيوبه أو دفع جوعته أو تنفيس كربته أو قضاء حاجته أو إجابة مسألته وغيرها من دواعي إدخال السرور والفرح في قلوب الناس... .

الإمام الصادق(عليه السلام) والنجاشي

عن محمد بن جمهور قال: كان النجاشي(3) وهو رجل من الدِّهاقين(4)عاملاً على الأهواز وفارس فقال بعض أهل عمله لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إن في ديوان النجاشي عليّ خراجاً(5) وهو ممن يدين بطاعتك فإن رأيت أن تكتب إليه كتاباً، قال: فكتب إليه - أبو عبد اللّه(عليه السلام) - : «بسم اللّه الرحمن الرحيم سر أخاك يسّرك اللّه».

قال: فلما ورد عليه الكتاب دخل عليه وهو في مجلسه فلمّا خلا ناوله الكتاب وقال: هذا كتاب أبي عبد اللّه(عليه السلام)، فقبّله ووضعه على عينيه وقال له: ما حاجتك؟قال: خراج عليّ في ديوانك فقال له: كم هو؟ قال: عشرة آلاف درهم، فدعا كاتبه وأمره بأودائها عنه ثم أخرجه منها أن يثبتها له لقابل ثم قال له: سررتك؟

ص: 291


1- وسائل الشيعة 16: 367.
2- الكافي 2: 188.
3- يظهر من كتب الرجال أن النجاشي المذكور في الخبر اسمه عبد اللّه وأنه ثامن آباء احمد بن علي النجاشي صاحب الرجال المشهور.
4- الدِّهقان: التاجر فارسي معرب، أنظر لسان العرب 10: 107 مادة (دهق).
5- الخراج ما يأخذه السلطان من الأراضي وأجرة الأرض للأراضي المفتوحة عنوة.

فقال له: نعم قال: أمر له بعشرة آلاف درهم أخرى، فقال له: هل سررتك؟ فقال: نعم جعلت فداك، قال: ثم أمر له بمركب وجارية وغلام ثم أمر له بتخت ثياب، في كلّ ذلك يقول له هل سررتك؟ فكلّما قال له: نعم زاده حتى فرغ، ثم قال له: احمل فرش هذا البيت الذي كنت جالساً فيه حين دفعت إليّ كتاب مولاي الذي ناولتني فيه وارفع إليّ جميع حوائجك قال: ففعل، وخرج الرجل فصار إلى أبي عبد اللّه(عليه السلام) بعد ذلك فحدّثه بالحديث على جهته وجعل يسرّه بما فعل فقال له الرجل: يا ابن رسول اللّه كأنه قد سرك بما فعل بي؟ فقال: «إي واللّه لقد سرّ اللّه ورسوله»(1).

إن وظيفة المسلم أن يتفقد حاجات الناس ويسعى في سبيل قضائها ولا ينتظر أن يستغيثه أحد لقضاء حاجته وأنّما يلتزم هو بالمبادرة في قضاء الحوائج، وفي القرآن الكريم: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ}(2).

وفي الرواية: «إن الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب...»(3).

اللّه يتقبل الأعمال

في كتاب التحصين عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخاطب أبا ذر الغفاري: «يا أبا ذر قلوبهم إلى اللّه وعملهم للّه»(4).

ولذلك يخاطب لقمان ولده: «يا بني أخلص العمل فإن الناقد بصير»(5).

إذن ففي مقابلك الذي يقبل الأعمال أو يردها هو اللّه تعالى العالم بجميع

ص: 292


1- الاختصاص: 260.
2- سورة التوبة، الآية: 104.
3- تفسير العياشي 2: 108.
4- التحصين في صفات العارفين: 23.
5- الإختصاص: 341.

الموجودات والكائنات وخصوصياتها وما يدور في خلدها. فاسع لأن يكون سعيك خالصاً لوجهه الكريم بلا أن يداخلك الوسواس أو العجب، فقد ورد عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «قال إبليس لعنة اللّه عليه لجنوده إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل فإنه غير مقبول منه: إذا استكثر عمله ونسي ذنبه ودخله العجب»(1)؛ لأنه بصير بكل حالاتك وأوضاعك ومشاعرك وما ينتابك من إحساس فان {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ}(2).

إنفاق أهل البيت(عليهم السلام)

الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وفاطمة الزهراء(عليها السلام) والحسن والحسين(عليهما السلام) وفضة أعطوا خمسة عشر(3) قرصاً من الخبز في سبيل اللّه في قصة مفصلة وكان ذلك خالصاً لوجه اللّه فأنزل اللّه تعالى في ذلك آية يقرأها المسلمون منذ أربعة عشر قرناً والى الآن وهي درس عملي لجميع المسلمين في الانفاق والعطاء في سبيل اللّه {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}(4)، إن العمل الصالح الذي يؤتى به لأجل السمعة والرياء لا ينفع بأن نقول نحن فعلنا ذلك، ونحن قمنا بذلك، ونحن هيئنا ذلك، وهكذا بل يجب أن يكون العمل خالصاً للّه.

الإخلاص في خدمة الناس

الإمام زين العابدين(عليه السلام) عندما ودّع هذه الدنيا تبين أنه كان هناك أربعمائة عائلة فقيرة تحت تكفله ولم تكن هذه الأربعمائة عائلة تعرف أن الذي يوصل

ص: 293


1- الخصال 1: 112.
2- سورة الإسراء، الآية: 25.
3- أنظر الأمالي للشيخ الصدوق: 257.
4- سورة الإنسان، الآية: 8-9.

الغذاء والمعونة إليهم هو الإمام السجاد(عليه السلام) وعندما كانوا يغسّلون الإمام(عليه السلام) رأوا على كتفه ثفنات(1) وكان ذلك أثر حمل الغذاء الكثير والثقيل الذي كان يوصله في جوف الليل إلى الفقراء والمساكين بعيداً عن أعين الناس وفي الرواية عن الصادق(عليه السلام): «يا بن جندب لا تتصدق على أعين الناس ليزكوك، فإنك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تطلع عليها شمالك»(2).

أهمية خدمة المسلمين

السيد البروجردي(رحمه اللّه) وبكاؤه خوفاً من اللّه

يقول أحد علماء قم وكان من زملاء السيد البروجردي في المباحثة وله الآن تسعون سنة من العمر:

إن السيد البروجردي كان في أواخر حياته متأثراً ومتألماً جداً فذات يوم قلنا للسيد لماذا نراك متأثراً ومتألماً؟ فقال: إنني في أواخر أيام حياتي وعلى وشك الموت وأنا متأثر لأنني سأموت ولم أقدم أية خدمة في سبيل الإسلام! - والحال إننا نجد أن خدمات السيد البروجردي تفوق الذكر وهي لم تخف على أحد من الناس سواء في العراق أو في لبنان أو في إيران أو غيرها من البلاد - فقلنا له: لماذاتقول هذا الكلام وأنت لك في طهران فقط أربعمائة مسجد أسستها، فعندما سمع هذا الكلام منّا أغرورقت عيناه بالدموع واستعبر باكياً وقال: أنتم تحسنون الظن بي كثيراً! ولكن يجب أن نرى أيها وقع مورداً لقبول اللّه ورضايته هكذا يفكر مثل

ص: 294


1- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 153، والثفنات: لحم ميت شبيه بركبة البعير التي يتصلب لحمها على أثر الاصطكاك بالأرض.
2- تحف العقول: 305.

السيد البروجردي(رحمه اللّه) فكيف بنا نحن؟؟

وعندما مات لم يكن يملك من حطام الدنيا شيئاً، نعم، كان لديه ثلاثمائة ألف تومان من الحقوق الشرعية، وقد أوصى بها أن تعطى شهرية لطلاب العلوم الدينية.

زهد وورع السيد البروجردي(رحمه اللّه)

نقل أحد الأصدقاء قصة عن السيد البروجردي(رحمه اللّه) قال:

بأن السيد أصابته وعكة صحية فقال طبيبه الخاص بعد فحصه: بأن سبب مرضه الضعف الجسمي وعليه أن يقوي نفسه ليستعيد صحته وذلك بأن يعطى اللحم المشوي، فيقول خادمه (الحاج أحمد):

فاتبعت وصية الطبيب وشويت له لحماً وقدمته له في وقت الغداء، وعندما رأى السيد ذلك قال لي: يا حاج أحمد ما هذا الذي جئت به إلي؟ ارفعه من بين يدي!

فقلت له: إن هذه وصية الطبيب من أجل صحتك وسلامتك، فقال إذا لم ترفع هذا من أمامي فإني لن آكل هذا اليوم أي شيء، يقول الحاج أحمد: فرفعت اللحم المشوي من بين يديه وعند ذلك تناول طعامه اليومي.

فعل الخيرات

يقول اللّه تعالى في القرآن الكريم أن بعض الناس يلقون في جهنم ويلاقون أشد الحساب وذلك لأنهم لا يفعلون الخير ولا يدلون عليه قال تعالى: {أَرَءَيْتَالَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ}(1).

أي يا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أرأيت هذا الكافر الذي يكذب بالجزاء والحساب وينكر

ص: 295


1- سورة الماعون، الآية: 1-3.

البعث مع وضوح الأمر في ذلك وقيام الحجج على صحته، ثم يبدأ بنقل أهم صفاته بعد التكذيب بالدين وهي: أنه يدفع اليتيم الفقير المحتاج عن حقه بجفوة وقسوة وقهر لأنه لا يؤمن بالجزاء في مقابله ولذلك ليس له رادع عنه. ولا يحض على طعام المسكين أي لا هو يطعمه ويشبعه رحمة وشفقة به ولا يأمر طعامه فهو لا يطعمه إذا قدر عليه ولا يحض عليه إذا عجز هو عن اطعامه كلّ ذلك لأنه يكذب بالجزاء، وقد ورد أن بعض كفار قريش كان كذلك إذا جاء يتيم يطلب رفده طرده بقساوة(1).

وإذا كان ذلك موجباً للذم والتوبيخ بالنسبة للكافر، فمن يعمل باسم الإسلام وهو بعيد عنه كان أولى بالذم والتوبيخ إذ المنافق أسوأ حالاً من الكافر. وفي آية أخرى يقول تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}(2).

لينطق بهما فيبين باللسان ويستعين بالشفتين على البيان أي: نحن أعطيناه عينين يرى بهما عمل الخير فيفعل مثله، وأعطيناه لساناً ليحركه في فعل الخير أو الحض والتشجيع عليه، ويرى العمل السيئ فيجتنب عنه ويحرك لسانه في ترك ذلك والاجتناب عنه.

ثم يقول: {وَهَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ}(3) يعني: قد بينا له الطريقين طريق الخير وطريق الشر واللّه تعالى سمّى الطريقين بالنجدين لأنهما يوجبان الرفعة والشرف للإنسان.

أما العامل بالخير فواضح وأما الشر سمي نجداً من حيث أن اجتنابه يوجب الرفق أيضاً، وقد يكون من باب التغليب.

ص: 296


1- انظر تفسير القمي 2: 444.
2- سورة البلد، الآية: 8-9.
3- سورة البلد، الآية: 10.

وعلى أي حال فإذا حاسبنا اللّه سبحانه يوم القيامة بهذه الآية الشريفة فماذا سيكون حينئذ جوابنا؟!

إذن على الإنسان أن يشغل نفسه دائماً بفعل الخيرات ولا يدع للمدح أو للذم تأثيراً في نفسه سلباً أو إيجاباً، قال الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) لهشام: «يا هشام، لو كان في يدك جوزة وقال الناس في يدك لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس أنها جوزة ما ضرّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة»(1).

التقوى

المسألة المهمة والضرورية التي يجب أن يلتفت إليها كلّ الأخيار والمحبين للهدى والصلاح هي مسألة التقوى والورع عن محارم اللّه، والقرآن يقول في سورة التغابن: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(2)، والتي نزلت لغرض دعوة السامعين إلى الإيمان باللّه تعالى ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واليوم الآخر، وترغيبهم إلى طاعة اللّه (جل وعلا) وطاعة رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلى صالح الأعمال وفضائل الأخلاق بذكر مآلها من الجنة ونعيمها... وتحذيرهم من الكفر والطغيان وذميم الصفات وموجباتها من حب الدنيا واعراضها بذكر وبالها من النار وعذابها وتنبيههم بنكال اللّه تعالى في الكافرين السابقين... وجاءت هذه الآية تفريعاً على ما تقدمها من آيات تحثالمؤمنين على التقوى في اتباع أوامر اللّه تعالى واجتناب نواهيه جهد استطاعتهم إذ لكل نفس طاقة من التحمل وقدر من القوة وإن اللّه لا يكلف نفساً إلّا وسعها فلا تدعوا من الإتقاء شيئاً تسعه طاقاتكم وجهدكم.

ص: 297


1- تحف العقول: 386.
2- سورة التغابن، الآية: 16.

محكمة القيامة

بناءً على رأي بعض المفسرين إن آخر آية نزلت على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي آية: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}(1) أي: اتقوا ذلك اليوم الذي تقفون فيه أمام المحكمة الإلهية العادلة التي لا تضاهيها أية محكمة أخرى، ولا يمكن التخلص منها أبداً؛ لأن الحاكم فيها هو اللّه العالم بكل شيء ولا تخفى عليه خافية في الأرض وفي السماء «ولا يمكن الفرار من حكومتك»(2) وهي المكان الذي تعرض فيه علينا جميع أعمالنا مكتوبة في صحيفة لا يدخلها الكذب والزور ويقولون لنا: {كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(3).

ففي ذلك اليوم بعض الناس ينكرون بأنهم قد فعلوا المنكر فيأمر اللّه تعالى أعضاءهم وأيديهم وأرجلهم ويقول لها تكلمي بإذني فتتكلم اليد والرجل بل وحتى الأعضاء التناسلية تشهد بالمنكرات التي فعلها صاحبها بها.

{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٖ}(4).

فإذن يجب الخوف من اللّه تعالى وطاعته في كل حال والقرآن يقول: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(5).

كي تكونوا من المفلحين الفائزين يوم القيامة.

حتى النيات يعلم بها اللّه تعالى

على الإنسان أن لا يرتكب الحرام بل عليه أن لا يفكر بالمنكر والحرام! لأن

ص: 298


1- سورة البقرة، الآية: 281.
2- مصباح المتهجد 2: 845.
3- سورة الاسراء، الآية: 14.
4- سورة فصلت، الآية: 21.
5- سورة المائدة، الآية: 100.

اللّه عالم ومحيط به، إذا كنت على علم بأن صديقك يضمر لك السوء في نفسك أو مالك أو عرضك فهل تسافر معه أو تأمنه على شيء من ذلك؟

طبعاً ستقول في الجواب: كلا وألف كلا، إذن على الإنسان أن لا يفكر بالحرام؛ لأن اللّه تعالى يعلم بالأسرار وبكل شيء وفي القرآن قال تبارك وتعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}(1) أي: إنه يعلم حتى بنيات البشر ومطلع عليها مهما بالغ الإنسان في إضمارها واخفائها، ويقول سبحانه في القرآن الكريم: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}(2) أي: الحقائق التي يسرها الإنسان ويخفيها ولا يطلع أحداً عليها... وبُيّن ذلك في الرواية بأنه يؤتى بإنسان يوم القيامة ويعطونه صحيفة بيده فيقرأ فيجد فيها أنه قد بنى مسجداً، فيقول: يا رب لم تكن لي أموال لأبني مسجداً ولا بد بأنه حصل هناك اشتباه في هذه الصحيفة؟! فيأتيه الخطاب: بأن الملائكة لا تشتبه أبداً ولكنك في حياتك تمنيت يوماً وأنت تعبر على مسجد بأنه إذا كانت لي أموال لبنيت مسجداً ونحن قد جزيناك على نيتك هذه بثواب من بنى مسجداً واقعاً وكتبنا ذلك في صحيفة أعمالك(3).

وورد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) - في حديث طويل - وفيه يقول السائل فما علة الملائكة الموكلين بعباده يكتبون عليهم ولهم، واللّه عالم السر وما هو أخفى؟قال: «استعبدهم بذلك وجعلهم شهوداً على خلقه ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة اللّه مواظبة وعن معصيته أشد انقباضاً، وكم من عبد يهم بمعصيته فذكر مكانهما فارعوى وكف، فيقول: ربي يراني وحفظتي علي بذلك تشهد، وإن اللّه برأفته ولطفه أيضاً وكلهم بعباده يذبون عنهم مردة الشياطين وهوام

ص: 299


1- سورة طه، الآية: 7.
2- سورة الطارق، الآية: 9.
3- انظر الكافي 2: 85.

الأرض وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن اللّه إلى أن يجيء أمر اللّه...»(1).

والقرآن الكريم يقول: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(2).

والقيامة هي المكان الذي لا يمكن لأحد التجاوز عنها وليس للإنسان فيها أي مخلّص أو مفر، لذلك على الإنسان أن يحفظ نفسه ويصونها من السقوط في مهاوي الرذيلة والحرام والمنكر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ لأنه سوف يواجه يوماً لا ناصر ولا معين له فيه إلّا عمله الصالح {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٖ وَلَا نَاصِرٖ}(3).

التنبيه من الغفلة

من الأعمال المستحبة في الإسلام الحضور عند المحتضر، وكذلك زيارة القبور؛ وذلك لأن هذه الأمور تنبه الإنسان من غفلته وتوجهه إلى نفسه وأعماله، وتجعله يبتعد ويمتنع عن فعل المنكرات، ويسعى في الإتيان بالخيرات والأعمال الصالحة.

وكتب الإمام الحسن(عليه السلام) إلى قوم يعزونه في ابن له، ومنها: «أضحوا قد اخترمتهم الأيام، ونزل بهم الحمام، فخلفوا الخلوف، وأودت بهم الحتوف، فهم صرعى في عساكر الموتى...»(4).

كان الإمام(عليه السلام) يستعمل هذا الأسلوب كطريق ناجح وعظيم لتذكير الناس ووعظهم وإرشادهم وتنبيههم من غفلتهم، كما كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مهتم كثيراً بوعظ الناس وتذكيرهم بالنهاية المحتومة للحياة الدنيا، حتى أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم أخذ بيد أبي ذر وجاء به إلى خربة كانت في أطرافها عظام لميت وبقايا أثواب

ص: 300


1- الاحتجاج 2: 348.
2- سورة غافر، الآية: 19.
3- سورة الطارق، الآية: 10.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 202.

متهرئة ووسخة، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر: أأخبرك عن حقيقة الدنيا؟

هذه النجاسات هي غذاء أهل الدنيا أما الأثواب العفنة والمتهرئة فهي كانت لباس أهل الدنيا يلبسونها بتجمل وتكبر، وأما هذه العظام فهي عظام أهل الدنيا(1).

ونقرأ هذا المعنى في نهج البلاغة في قوله(عليه السلام) وقد مرّ بقذر على مزبلة قال: «هذا ما بخل به الباخلون»(2).

فعلى الإنسان أن يعتبر عند رؤية هذه الدنيا الفانية وما تؤول إليه، وعليه أن يتخذ طريق التقوى والرشاد لأن {خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}(3).

وهي الوسيلة الكبيرة التي تنجي الإنسان في الآخرة وتكتب له حسن العاقبة.«يا رب يا رب يا رب، اسألك بحقك وقدسك، وأعظم صفاتك وأسمائك، أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة وأعمالي عندك مقبولة، حتى تكون أعمالي وأورادي كلها ورداً واحداً، وحالي في خدمتك سرمداً، يا سيدي يا من عليه معولي، يا من إليه شكوت أحوالي»(4).

ص: 301


1- أنظر تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 130، وفيه: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا هريرة، ألّا أريك الدنيا جميعاً بما فيها؟» قلت: بلى يا رسول اللّه. فأخذ بيدي وأتى بي وادياً من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذرات وخرق وعظام ثم قال لي: «يا أبا هريرة، هذه الرؤوس كانت تحرص على الدنيا كحرصكم وتأمل آمالكم ثم هي عظام بلا جلد ثم هي صائرة رماداً، وهذه العذرات ألوان أطعمتكم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها من بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت والرياح تصفقها وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد. فمن كان راكناً إلى الدنيا فليبك...».
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 195.
3- سورة البقرة، الآية: 197.
4- مصباح المتهجد 2: 849.

من هدي القرآن الحكيم

الإيثار

قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(1).

التقوى مفتاح الأعمال

قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(3).

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَئَِّاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}(5).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}(6).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(7).

مميزات المتقين

قال سبحانه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(8).

ص: 302


1- سورة الحشر، الآية: 9.
2- سورة الأعراف، الآية: 96.
3- سورة البقرة، الآية: 194.
4- سورة الأعراف، الآية: 201.
5- سورة الطلاق، الآية: 5.
6- سورة الأنفال، الآية: 29.
7- سورة الحجرات، الآية: 13.
8- سورة الزمر، الآية: 33.

وقال تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).

وقال تعالى: {وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

خدمة الناس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلّا أعطاه اللّه مثل عددهم خُدّاماً في الجنة»(4).

وروي أنه تعالى أوحى إلى داود(عليه السلام): «مالي أراك منتبذاً(5)؟

قال: أعيتني الخليقة فيك قال: فماذا تريد؟ قال محبتك، قال: فإنّ محبتي التجاوز عن عبادي فإذا رأيت لي مريداً فكن له خادماً»(6).

وعن جميل عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سمعته يقول: «المؤمنون خدم بعضهملبعض» قلت له: وكيف يكونون خدماً بعضهم لبعض؟ قال: «يفيد بعضهم بعضاً»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أخدم أخاك فإن استخدمك فلا ولا كرامة»(8).

ص: 303


1- سورة البقرة، الآية: 237.
2- سورة المائدة، الآية: 8.
3- سورة القصص، الآية: 83.
4- الكافي 2: 207.
5- انتبذ: تنحى وبعد.
6- مستدرك الوسائل 12: 428.
7- الكافي 2: 167.
8- الإختصاص: 243.

الإيثار

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الإيثار أعلى المكارم»(1).

وقال(عليه السلام): «الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان»(2).

ورُوي عن نبي اللّه موسى(عليه السلام) أنه قال: يا رب أرني درجات محمد وأمته؟

قال: يا موسى إنك لن تطيق ذلك ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي - قال - فكشف له عن ملكوت السماء فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها وقربها من اللّه عزّ وجلّ.

قال: يا رب بماذا بلغته إلى هذه الكرامة؟

قال: بخُلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمر إلّا استحييت من محاسبته وبوأته من جنتي حيث يشاء(3).

التقوى في المؤمن

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «التقى رئيس الأخلاق»(4).

وسئل أمير المؤمنين(عليه السلام) أي عمل أفضل؟ قال: «التقوى»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه فإنها خير ما تواصى العباد به وخير عواقب الأمور عند اللّه»(6).

وقال(عليه السلام): «التقوى حصن حصين لمن لجأ إليه»(7).

ص: 304


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 54.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 90.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 173.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 410.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 394.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 173، من خطبة له(عليه السلام) في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.

وقال(عليه السلام): «فاعتصموا بتقوى اللّه فإن لها حبلاً وثيقاً عروته ومعقلاً منيعاً ذروته»(1).

التقوى مصباح الهدى

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فإن تقوى اللّه مفتاح سداد وذخيرة معاد وعتق من كل ملكة ونجاة من كل هلكة بها ينجح الطالب وينجو الهارب وتنال الرغائب»(2).

عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سألته في قول اللّه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(3). ما ذلك الطائف؟ فقال: «هو السيء يهم العبد به ثم يذكر اللّه فيبصر ويقصّر»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى والأبصار اللامحة إلى منار التقوى، أين القلوب التي وهبت للّه وعوقدت على طاعة اللّه»(5).

ويروى أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دخل البيت عام الفتح ومعه الفضل بن عباسوأسامة بن زيد ثم خرج فأخذ بحلقة الباب ثم قال:

«الحمد للّه الذي صدق عبده وأنجز وعده وغلب الأحزاب وحده إن اللّه أذهب نخوة العرب وتكبرها بآبائها وكلكم من آدم وآدم من تراب وإن أكرمكم عند اللّه أتقاكم»(6).

ص: 305


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 190، من خطبة له(عليه السلام) يحمد اللّه ويثني على نبيه ويعظ بالتقوى.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 230، من خطبة له(عليه السلام).
3- سورة الأعراف، الآية: 201.
4- تفسير العياشي 2: 44.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 144، من خطبة له(عليه السلام).
6- مشكاة الأنوار: 59.

معنى التقوى

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فإن تقوى اللّه دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس أنفسكم وجلاءٌ عشا بصاركم وأمن فزع جأشكم وضياءُ سواد ظلمتكم... فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها وأحلولت له الأمور بعد مرارتها وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها...»(1).

وقال(عليه السلام): «التقوى آكد سبب بينك وبين اللّه إن أخذت به، وجُنّة من عذاب أليم»(2).

ومن وصايا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر: «يا أبا ذر كن بلعمل بالتقوى أشدّ اهتماماً منك بالعمل فإنه لا يقل عمل بالتقوى»(3).

علامات التقوى

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وقلة الفخر والبخل وصلة الأرحام ورحمة الضعفاء وقلة المؤاتاة للنساء، وبذل المعروف، وحسن الخلق، وسعةالحلم، واتباع العلم في ما يقرب إلى اللّه عزّ وجلّ طوبى لهم وحسن مآب»(4).

ص: 306


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبّه على إحاطة علم اللّه... ويحث على التقوى.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 117.
3- مكارم الأخلاق: 468.
4- الخصال 2: 483.

دروس من الهجرة

المقدمة

قال تعالى: {قُلْ يَٰعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةٌ}(1).

وتفسير الآية المباركة هكذا: {قُلْ} يا رسول اللّه {يَٰعِبَادِ} وأصله يا عبادي {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فعل ماضي {اتَّقُواْ} أيها الناس{رَبَّكُمْ} أي:خافوا عقابه،فلا تخالفوا أوامره، فإنه{لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} في العقيدة والعمل {فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} المراد بها الجنس، فإن اتباع مناهج اللّه سبحانه، يوجب الغنى والصحة والأمن والعلم والفضيلة وسائر الخيرات، كما دل عليه الدليل والتجارب {وَ} إذا رأيتم أنكم لا تتمكنون من الإتيان بالطاعة في مكان فهاجروا، ف{أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةٌ} إلى حيث تتمكنون من أن تحسنوا هناك، وحيث إن الهجرة توجب أتعاباً جمّة فقال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى} يُعطى وافياً {الصَّٰبِرُونَ} في الشدائد {أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٖ} فإنه لكثرته لا يتمكن الإنسان من عده، وإن كان بقدر معلوم عند اللّه سبحانه(2).

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَٰئِكَ

ص: 307


1- سورة الزمر، الآية: 10.
2- تفسير تقريب القرآن 4: 551.

مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(1).

وفي هذه الآية المباركة يتوجه الخطاب إلى طائفة أخرى من القاعدين عن الهجرة الذين لم يعدهم اللّه الحسنى، بل وعدهم العذاب لأنهم هم السبب في ظلم الكفار لهم وهضمهم حقوقهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ} أي تقبض الملائكة أرواحهم، فإن لملك الموت أعواناً كما ورد في الروايات الشريفة، ودلت عليه هذه الآية، {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي: في حال كونهم ظالمين لأنفسهم، لأنهم بقوا في دار الهوان حيث يسومهم الكفار العذاب ويمنعونهم من الإيمان باللّه والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقد كان بإمكان هؤلاء أن يهاجروا إلى دار الإيمان ويؤمنوا، ولعل الآية أعم منهم ومن المؤمنين الذين بقوا في دار الكفر ولا يتمكنون من إظهار واجبات الإسلام والعمل بما أوجبه اللّه سبحانه {قَالُواْ} أي: قالت الملائكة لهم عند قبض أرواحهم: {فِيمَ كُنتُمْ} أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم، وهو استفهام تقريري توبيخي {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} ليستضعفنا أهل الشرك في بلادنا فلا يتركوننا لأن نؤمن، أو لايتركوننا لأن نعمل بالإسلام {قَالُواْ} أي: قالت الملائكة لهم {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} حتى تخرجوا من سلطنة الكفار، وتتمكنوا من الإسلام أو من العمل بشرائعه.

ص: 308


1- سورة النساء، الآية: 97-100.

{فَأُوْلَٰئِكَ} الذين سبق وصفهم {مَأْوَىٰهُمْ} مرجعهم ومحلهم {جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أي: أنها مصير سيئ لعذابها وأهوالها.

ثم استثنى سبحانه من هؤلاء من لا يتمكن من الهجرة فإنه ليس مكلفاً، وإنما أمره إلى اللّه تعالى {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} الذين استضعفهم الكفار في بلادهم {مِنَ الرِّجَالِ} العجزة {وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ} وهاتان الطائفتان في طبيعتهم العجز عن الفرار والهجرة {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} أي: علاجاً لأمرهم وفكاً لأنفسهم عن سلطة المشركين {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} للفرار والهجرة، {فَأُوْلَٰئِكَ} العاجزون من المستضعفين {عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي: لعل اللّه سبحانه يغفر لهم ذنبهم، ودخول عسى في مثل هذه الآية للدلالة على كون الأمر بيد اللّه سبحانه، وأنه كان قادراً على أن يأمرهم بما يحرجهم من وجوب خروجهم وإظهار دينهم وإن بلغ لهم الأمر ما بلغ.

لا يقال: إن كان المراد بالمستضعفين الكفار فكيف يعفى عن الكفر؟

لأنه يقال: الدليل العقلي والنقلي قد دل على امتحان الضعفاء والعجزة والبله ومن إليهم في الآخرة، وذلك بخلاف الكافر المعاند الذي مصيره النار حتماً.

{وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا} يعفو عمّن يشاء {غَفُورًا} يغفر الذنوب، ولعل الفرق بين العفو والغفران أن العفو غفران بلا ستر، والغفران عفو مع الستر، فإن عدم العقاب لا يلازم الستر.

وقد يمنع عن الهجرة خوف أن لا يجد الإنسان في محله الجديد ما يلائم مسكنه ومكسبه، ولكنه ليس إلّا توهماً؛ فإن الأرض واسعة والكسب ممكن في كل مكان {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأمره سبحانه ومن أجله {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا} المرغم مصدر بمعنى المتحول، وأصله من الرغام وهو

ص: 309

التراب(1) {وَسَعَةً} أي في الكسب وسائر شؤون الحياة. {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} يهاجر وطنه ومحله، وينقطع عنه {إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} والهجرة إلى اللّه أي: إلى محل أمره، والهجرة إلى الرسول إما حقيقي كما في زمان حياته(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإما مجازي كما إذا هاجر إلى بلاد الإسلام حسب أمر الرسول {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} أي: يموت في طريقه {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} لأنه خرج في سبيله وحسب أمره فأجره وثوابه عليه سبحانه {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} يغفر ذنوب المهاجر {رَّحِيمًا} يرحمه بإعطائه الثواب، وفي الحديث: «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنة،وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(2).

وقد ورد في بعض التفاسير أن السبب في نزول هذه الآية أنه لما نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من المسلمين كان بمكة يسمى (جندب بن ضمرة) فقال: واللّه ما أنا مما استثنى اللّه، إني لأجد قوة، وإني لعالم بالطريق، وكان مريضاً شديد المرض، فقال لبنيه: واللّه لا أبيت بمكة حتى أخرج منها، فإني أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير حتى إذا بلغ التنعيم مات، فنزلت الآية(3).

مدرسة الهجرة

اشارة

بعد ما ذكرنا بعض التوضيح للآيات الشريفة، والتي موضوعها الهجرة وما يحيط بها، نقول: إن الحياة مدرسة زاخرة بالدروس التي تمد الإنسان بمختلف

ص: 310


1- انظر لسان العرب 12: 245، مادة (رغم).
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 33.
3- انظر تفسير تقريب القرآن 1: 529. وانظر بحار الأنوار 19: 30.

أسباب التقدم والكمال، ومن هذه الدروس درس (الهجرة)، فعلى الإنسان المسلم أن يستفيد من هذا الدرس، ويوظّفه لصالحه ولصالح مجتمعه.

وكما أن الإنسان يواجه في الهجرة المتاعب والآلام الكثيرة من ترك الوطن والأهل والشعور بالغربة ونحو ذلك، إلّا أنه في مقابل ذلك يجني فوائد عظيمة، حيث ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام):«ليس في الغربة عار إنما العار في الوطن والافتقار»(2).

وهذا بالإضافة إلى الثواب الأخروي العظيم الذي سوف يناله نتيجة هجرته في سبيل اللّه تعالى، بنص القرآن الكريم، كما قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْأخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(3). فإن الذين هاجروا من ديارهم فراراً بدينهم، وإتباعاً لنبيهم، من بعد أن ظلمهم قومهم وآذوهم وبخسوهم حقوقهم، فإن اللّه تعالى يبوئهم في الدنيا حسنة، والتبوء الإحلال بالمكان للمقام، يقال: تبوأ منزلاً يتبوأ إذا اتخذه، وبوأه غيره تبويئاً إذا أحله غيره(4).

لذا فإن الهجرة تعتبر مدرسة تعلم الإنسان المهاجر الصبر والشجاعة من خلال إقدامه على تحمل المعاناة، وكيفية التكيّف مع الظروف المحيطة به من فقر وقلة ناصر ومعين، ونحو ذلك. وفي نفس الوقت تحفظ نفس الإنسان ودينه

ص: 311


1- من لا يحضره الفقيه 3: 156.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 560.
3- سورة النحل، الآية: 41.
4- التبيان في تفسير القرآن 6: 383.

وماله من بطش الظَلمة وطغيانهم الذين ترك بلده بسببهم مضافاً إلى ما يقوم المهاجر بتبليغ دينه في أرض المهجر.

الهجرة وتقسيماتها

للهجرة معان متعددة من أهمها:

1- الهجرة المكانية، وهو الخروج من أرض إلى أخرى.

2- الهجرة من السيئات والخروج من ذل معصية اللّه إلى عزّ طاعته. كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اهجروا الشهوات فإنها تقودكم إلى ارتكاب الذنوب والتهجم على السيئات»(1).

وبحثنا هنا يدور حول القسم الأول من الهجرة، أي: (الهجرة المكانية)، أما الهجرة من السيئات فهي مما لا تختص بزمان أو مكان، وإنما تتعلق بالإنسان المؤمن مادام حياً، وأينما كل وحلّ، بل إن ذلك من مقومات شخصية المؤمن، وكما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لكميل بن زياد: «ياكميل، قل الحق على كل حال، وواد المتقين، واهجر الفاسقين، وجانب المنافقين ولا تصاحب الخائنين»(2).

من أسباب الهجرة

إن الهجرة المكانية تحصل لأسباب عديدة منها:

1- الظلم.

2- التبليغ.

3- الجهاد.

ونحو ذلك.

ص: 312


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 152.
2- تحف العقول: 173.

وللهجرة المكانية مصاديق متعددة في الخارج، وخير مصداق نستشهد به هو هجرة المسلمين إلى الحبشة، وكذلك هجرتهم الثانية إلى المدينة المنورة، ونستخلص من هاتين الهجرتين الدروس الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية الكثيرة، ولعل دراستها والاستفادة منها في وقتنا الحاضر تعيننا أكثر على فهم ظروفنا الحالية وطريقة معالجتها، خصوصاً بعد أن عادت اليوم الجاهلية إلى الناس، ولكن بأسلوب جديد يكاد يكون أكثر خطورة من ذي قبل، فكثرت الضغوط على المسلمين، ومن جميع الاتجاهات، ونشبت الحروب المدمّرة في البلاد الإسلامية، وكثر القتل والسبي والنهب في صفوف المسلمين من قبل الحكّام الظلمة وعملاء الغرب والشرق، وأنشئت السجون والمعتقلات الرهيبة، وانتشر الظلم والفساد في المنطقة،مما أدى إلى ازدياد أعداد المهاجرين والمهجّرين والمشردين من أرض الوطن الإسلامي إلى شتى بقاع العالم، وما أحوج المسلمين اليوم إلى الدروس العظيمة التي أفرزتها هجرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين، وأساليبهم المبتكرة في التغلب على الأوضاع الصعبة التي عاشوها، وكيفية تعاملهم مع الأعداء الذين أحاطوا بهم.

المسلمون الأوائل وقريش

اشارة

كان المسلمون في بادئ الأمر فئة قليلة مستضعفة من الناحية العددية والاقتصادية والعسكرية مقارنة بقريش وسائر الكفار؛ حيث كانت قريش تمتلك قوة اقتصادية هائلة في مكة، ولها تحالفات تجارية قوية مع أغلب القبائل العربية، وتملك أراض واسعة وسلطاناً مترامي الأطراف، تنطوي تحت لوائه قبائل عربية كبيرة ذات سطوةٍ وهيبةٍ كبيرتين مقارنة بغيرها، فضلاً عن العنجهية والتكبّر المتمثلين بجاهلية قريش.

ص: 313

كل هذه العوامل والأسباب جعلت قريشاً تعلن الحرب ضد الإسلام، وحاولت إخماد جذوة هذا الدين الفتي الذي تتعارض تعاليمه السمحاء مع مصالح قريش الدنيوية وجاهليتهم واستكبارهم واستبدادهم، فسارعوا إلى محاربة كل من يؤمن بهذا الدين أو يمت له بصلة، ومارسوا بحق أتباعه شتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، ابتداءً بتسخيف هذا الدين واتهام صاحبه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالسحر أو الجنون (والعياذ باللّه)، وانتهاء بترويج الإشاعات الباطلة بشرعية هذا الدين، وما إلى ذلك من أساليب العاجزين، فقال تبارك وتعالى: {ص وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاقٖ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٖ فَنَادَواْ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٖ * وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٌ كَذَّابٌ}(1).

وفي هذا المعنى قال أمير المؤمنين(عليه السلام):

«أنا وضعت في الصغر بكلاكل(2) العرب، وكسرت نواجم قرون(3) ربيعة ومضر، وقد علمتم موضعي من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده ويشمني عَرفه(4)، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة(5) في فعل، ولقد قرن اللّه به(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله

ص: 314


1- سورة ص، الآية: 1-4.
2- الكلاكل: الصدور، عبّر بها عن الأكابر.
3- النواجم من القرون: الظاهرة الرفيعة، يريد بها أشراف القبائل.
4- عَرْفه: رائحته الذكية.
5- الخطلة: واحدة الخطل كالفرحة واحدة الفرح، والخطل الخطأ ينشأ عن عدم الروية.

ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقلت: يا رسول اللّه، ما هذه الرنة؟

فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّا أنك لست بنبي. ولكنك لوزير وإنك لعلى خير.

ولقد كنت معه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما أتاه الملأ من قريش، فقالوا له: يا محمد، إنك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمراً إن أنت أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وما تسألون؟

قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن اللّه على كل شيء قدير، فإن فعل اللّه لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟

قالوا: نعم.

قال: فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير، وإن فيكم من يطرح في القليب(1)، ومن يحزّب الأحزاب، ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا أيتها الشجرة، إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر، وتعلمين أني رسول اللّه، فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن اللّه. فو الذي بعثه بالحق، لانقلعت بعروقها وجاءت، ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 315


1- القليب كأمير: البئر والمراد منه قليب بدر.

مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا - علواً واستكباراً - : فمرها فليأتك نصفها ويبقي نصفها.

فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دوياً، فكادت تلتف برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقالوا - كفراً وعتواً - : فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرجع.

فقلت أنا: لا إله إلّا اللّه، فإني أول مؤمن بك يا رسول اللّه، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى، تصديقاً بنبوتك، وإجلالاً لكلمتك.

فقال القوم كلهم: بل ساحر كذاب، عجيب السحر خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك إلّا مثل هذا - يعنوني - وإني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم، سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار، عُمّار الليل ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللّه وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون(1) ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل»(2).

وهكذا كانت قريش تتهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالسحر والجنون وكانوا يمارسون القتل والتعذيب بحق أتباعه، كما أعلنوا المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية بوجههم، بحيث لم يتعاملوا معهم ببيع أو شراء أو زواج أو أي نوع من أنواع التعامل،وبالمقابل حاولوا إغراء الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين بالسلطة والمال للعدول

ص: 316


1- يغلّون: يخونون.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

عن دينهم ومعتقدهم، فاستخدموا أسلوب الترهيب والترغيب في الضغط على المسلمين ولكن قوة الإيمان والاعتقاد هي التي حالت دون ذلك.

صحيفة قريش

لقد عانى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المصاعب الجمة في سبيل هداية قومه من قريش وغيرهم، ولاقى منهم ما لاقى من المؤامرات تلو المؤامرات، وكان من أشدها وأشرسها على المسلمين عامة وعلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حصارهم في شعب أبي طالب(عليه السلام).

فعندما أسري برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى بيت المقدس، حمله جبرئيل على البراق فأتى به بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء(عليهم السلام) وصلى بهم وردّه، فمرّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في رجوعه بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية فشرب منه واكفأ ما بقي، وقد كانوا أضلوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه، فلما أصبح قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لقريش: «إن اللّه قد أسرى بي إلى بيت المقدس فأراني آيات الأنبياء ومنازلهم، وإني مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم، فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك».

فقال أبو جهل: قد أمكنتم الفرصة منه، فسألوه كم فيها من الأساطين والقناديل؟ فقالوا: يا محمد، إن هاهنا من قد دخل بيت المقدس، فصف لنا أساطينه وقناديله ومحاريبه؟

فجاء جبرئيل(عليه السلام) فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما سألوه عنه.

فلما أخبرهم قالوا: حتى يجيء العير نسألهم عمّا قلت.

فقال لهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تصديق ذلك أن العير يطلع عليكم عند طلوعالشمس يقدمها جمل أحمر عليه عزارتان».

ص: 317

فلما كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون: هذه الشمس تطلع الساعة، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم العير حين طلوع القرص يقدمها جمل أحمر، فسألوهم عمّا قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

قالوا: لقد كان هذا، ضل لنا بعير، في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد أريق الماء. فلم يزدهم ذلك إلّا عتواً.

فاجتمعوا في دار الندوة وكتبوا بينهم صحيفة أن لا يوُاكلوا بني هاشم، ولا يكلموهم،ولا يبايعوهم،ولا يزوّجوهم، ولايتزوجوا إليهم، ولا يحضروا معهم، حتى يدفعوه إليهم ليقتلوه، وأنهم يد واحدة على محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليقتلوه غيلة، أو صراحاً.

فلما بلغ ذلك أبا طالب(عليه السلام) جمع بني هاشم ودخل الشعب، وكانوا أربعين رجلاً، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن والمقام، لئن شاكت محمداً شوكة لأثبن عليكم يا بني هاشم. وحصن الشعب، وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول اللّه مضطجع ثم يقيمه ويضطجعه في موضع، فلا يزال الليل كله هكذا، وكَّله ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار، وأصابهم الجهد، وكان من دخل من العرب مكة لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً، أو باع منهم شيئاً انتهبوا ماله. وكان أبو جهل، والعاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكة، فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ويحذرونه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله.

وكانت خديجة لها مال كثير فأنفقته على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشعب.

ولم يدخل في الصحيفة مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد المطلب بن عبد مناف، وقال: هذا ظلم.

ص: 318

وختموا الصحيفة بأربعين خاتماً ختمها كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلقوها في الكعبة، وتابعهم أبو لهب على ذلك.

وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخرج في كل موسم ويدور على قبائل العرب فيقول لهم: «تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب اللّه ربي وثوابكم على اللّه الجنة» وأبو لهب في أثره فيقول: لا تقبلوا منه فإنه ابن أخي وهو ساحر كذاب. فلم يزل حاله فبقوا في الشعب أربع سنين لا يأمنون إلّا من موسم، ولايشترون ولايبايعون إلّا في الموسم.

وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة: موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجة، فكان إذا جاء الموسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون ثم لا يجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني، فأصابهم الجهد وجاعوا.

وبعثت قريش إلى أبي طالب: ادفع إلينا محمداً لنقتله ونملكك علينا.

فقال أبو طالب(عليه السلام) قصيدته الطويلة، يقول فيها:

فلما رأيت القوم لا ود فيهم *** وقد قطعوا كل العرى والوسائل

ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب *** لدينا ولا يعني بقول الأباطل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطوف به الملاك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت اللّه نبزى محمداً *** ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع دونه *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد *** وأحببته حب الحبيب المواصلوجدت

بنفسي دونه وحميته *** ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها *** وشيناً لمن عادى وزين المحافل

ص: 319

حليماً رشيداً حازماً غير طائش *** يوالي إله الحق ليس بماحل

فأيده رب العباد بنصره *** وأظهر ديناً حقه غير باطل

فلما سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه.

فلما أتى لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشعب أربع سنين بعث اللّه على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم اللّه، ونزل جبرئيل(عليه السلام) على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبره بذلك، فأخبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبا طالب.

فقام أبو طالب(عليه السلام) فلبس ثيابه ثم مشى حتى دخل المسجد على قريش وهم يجتمعون فيه، فلما بصروا به قالوا: قد ضجر أبو طالب وجاء الآن ليسلم ابن أخيه. فدنا منهم وسلم عليهم، فقاموا إليه وعظموه وقالوا: يا أبا طالب قد علمنا أنك أردت مواصلتنا والرجوع إلى جماعتنا، وأن تسلم إلينا ابن أخيك.

قال: واللّه ما جئت لهذا، ولكن ابن أخي أخبرني، ولم يكذبني: أن اللّه أخبره أنه قد بعث على صحيفتكم القاطعة دابة الأرض، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم اللّه، فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقاً فاتقوا اللّه وارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم، وإن كان باطلاً دفعته إليكم، فإن شئتم قتلتموه وإن شئتم استحييتموه.

فبعثوا إلى الصحيفة فأنزلوها من الكعبة وعليها أربعون خاتماً فلما أتوا بها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه، ثم فكوها فإذا ليس فيها حرف واحد إلّا: باسمكاللّهم. فقال لهم أبو طالب: يا قوم اتقوا اللّه وكفوا عمّا أنتم عليه. فتفرق القوم ولم يتكلم أحد منهم.

ورجع أبو طالب إلى الشعب وقال في ذلك قصيدته البائية التي أولها:

ص: 320

ألّا من لهم آخر الليل منصب *** وشعب القضاء من قومك المتشعب

وقد كان في أمر الصحيفة عبرة *** متى ما يخبر غائب القوم يعجب

محا اللّه منها كفرهم وعقوقهم *** وما نقموا من ناطق الحق معرب

وأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً *** ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب

وأمسى ابن عبد اللّه فينا مصدقاً *** على سخط من قومنا غير معتب

فلا تحسبونا مسلمين محمداً *** لذي عزة منا ولا متعزب

ستمنعه منا يد هاشمية *** مركبها في الناس خير مركب

وقال عند ذلك نفر من بني عبد مناف، وبني قصي، ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم منهم: مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي، وكان شيخاً كبيراً كثير المال له أولاد، وأبو البختري ابن هشام، وزهير بن أمية المخزومي في رجال من أشرافهم: نحن براء مما في هذه الصحيفة. وقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل.

وخرج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الشعب ورهطه وخالطوا الناس، ومات أبو طالب(عليه السلام) بعد ذلك بشهرين وماتت خديجة(عليها السلام) بعد ذلك. وورد على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمران عظيمان وجزع جزعاً شديداً(1).

أهداف قريش

وكانت من أهداف قريش في هذه الأعمال وغيرها النقاط التالية:

1- الضغط على الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين ليتركوا هذا الدين، ويعدلواإلى ديانة قريش، إما بالترغيب أو الترهيب، خصوصاً وأنهم كانوا أقليّة.

2- حصر المسلمين بطائفة قليلة، ليحولوا دون انتشار الإسلام بين الناس، ففرضوا الحصار الشديد على المسلمين وحاولوا منع اختلاطهم بالناس،

ص: 321


1- إعلام الورى: 49.

وخصوصاً القبائل العربية من غير قريش عند مجيئها إلى مكة.

الفشل الذريع

إلّا أن جميع هذه التدابير فشلت فشلاً ذريعاً وذلك بفضل السياسة الحكيمة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث استخدم أسلوب الهجرة لفك الحصار عن المسلمين، والانتشار في الأرض لإنقاذ المسلمين من الضغوطات أولاً، ولنشر الدين الإسلامي ثانياً.

مضافاً إلى الإيمان القوي الذي كان يحمله المسلمون بحيث لم تؤثر فيهم كل تلك الضغوط من قتل وسبي ومقاطعة اقتصادية واجتماعية، بل ازدادوا إيماناً باللّه تعالى ورسوله يوماً بعد يوم، وتمكنوا من التأثير على بعض الناس للدخول في الإسلام، ولذا فإنه وبالرغم من المحاصرة والمقاطعة أخذ هذا الدين بالتوسع والانتشار، فأعلنت قريش الحرب بصورة أشد وأوسع، وبدأت تزيد من ضغوطها، وأخذ القتل والتعذيب ينال كل من يعلن إسلامه، وأصبح الخطر يهدد جميع المسلمين في كل زمان ومكان، فأمر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المسلمين بالسفر إلى الحبشة.

لماذا الحبشة؟

ولكن لماذا اختار الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحبشة للهجرة الأولى دون سواها من البقاع؟

في جواب ذلك نقول:أولاً:

لأن ملك الحبشة المسمى (النجاشي)(1) كان ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، وهذا ما صرّح به الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما أمر المسلمين بالخروج إلى

ص: 322


1- اسمه أصحمة وهو بالعربية عطية، وقيل: صحمة، وإنما النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة، كقولهم، كسرى ملك الفرس أو قيصر ملك الروم، اختار الإسلام وحسن إسلامه ولما توفي نعاه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودعا له.

الحبشة حيث قال: «إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد، فأخرجوا إليه حتى يجعل اللّه عزّ وجلّ للمسلمين فرجاً»(1).

ثانياً: لبعد الحبشة عن مكة، وهذا يساعد في الحد من ضغوط قريش على المسلمين.

ثالثاً: لقوة الحبشة، فالحبشة في ذلك الوقت كانت مملكة قوية لا تستطيع قريش محاربتها والإغارة عليها.

رابعاً: لضعف النفوذ المكّي على السلطة الحاكمة في الحبشة بخلاف بقية المناطق الأخرى والتي يحظى بها المكّيون بنفوذ قوي وواسع، سواء كان تجارياً أو سياسياً أو دينياً.

لهذه الأسباب وغيرها اختار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحبشة دون سواها.

فخرج عدد من المسلمين سراً إلى الحبشة، وقد ذكر في بعض كتب التاريخ: إن المسلمين الذين خرجوا في بادئ الأمر إلى الحبشة كانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة. فخرجوا إلى البحر واستأجروا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وذلك في شهر رجب من السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وكانت هذه الهجرة هي الهجرة الأولى، ثم خرج جعفر بن أبي طالب (رضوان اللّه عليهما) من بعد ذلك، وتتابع المسلمون في الهجرة إلى الحبشة حتى وصلعددهم إلى اثنين وثمانين رجلاً من غير النساء والصبيان(2).

موقف قريش من الهجرة

عندما هاجر المسلمون إلى الحبشة، وسمع بذلك أهل مكة، نزل هذا الخبر

ص: 323


1- بحار الأنوار 18: 412.
2- بحار الأنوار 18: 412.

كالصاعقة على رؤوس الشرك والضلال من زعماء قريش، حيث غيّر الكثير من حساباتهم التي وضعوها للحد من انتشار هذا الدين، فمن ضمن الأهداف التي كانوا يرومونها من الضغط على الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأتباعه هي:

حصر المسلمين والحد من دعوتهم، وذلك بمنعهم من الالتقاء بأهل مكة وغير أهل مكة والحيلولة دون هجرتهم إلى المناطق المجاورة، فقد كان زعماء الشرك في مكة يعلمون أن المسلمين لو استطاعوا النفوذ إلى المناطق المجاورة، لعملوا على كسب أهل هذه المناطق للدخول في الإسلام؛ لأن الإسلام دين الفطرة والعقل ويأمر بكل الأشياء الحسنة، وينهى عن كل الأشياء القبيحة، فقد أحل اللّه تبارك وتعالى الطيبات وحرم عزّ وجلّ الخبائث، ولما يتمتع به المسلمون من إيمان قوي وحنكة وذكاء، فيستطيعون بواسطة هذا كسب الناس إلى دينهم، وهذا ما حصل فعلاً، حيث إن المسلمين استطاعوا أن يُدخلوا مجموعات كبيرة من الناس إلى الدين الإسلامي وكان من ضمنهم ملك الحبشة نفسه، ولكن نظراً للعنجهية التي كانت مسيطرة على تفكير زعماء الشرك في مكة، والجهل المتغلغل إلى أبعد نقطة في عقولهم، ولتعارض تعاليم الإسلام مع المفاسد والأطماع غير الشرعية التي كانوا يدعون لها، فإنهم لم يرضخوا للأمر الواقع ولم يقبلوا النتيجة، بل فكروا في كل وسيلة يستطيعون بواسطتها إرجاعهؤلاء المسلمين إلى مكة، فأوصلهم جهلهم إلى إرسال مبعوثين إلى ملك الحبشة، يحملون معهم الهدايا الثمينة إليه، ليطالبوه بتسليم المسلمين إليهم، ظناً منهم أن الهدايا ستؤثر أثرها بالملك فيستجيب لطلبهم، ولكن النتيجة جاءت عكسية وليس كما يظنون.

قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ

ص: 324

إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(1).

سفراء قريش إلى ملك الحبشة

جاء في التفاسير: إن سبب نزول قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ}(2) أنّه لما اشتدت قريش في أذى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه الذين آمنوا به بمكة قبل الهجرة، أمرهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يخرجوا إلى الحبشة، وأمر جعفر بن أبي طالب(عليه السلام) أن يخرج معهم، فخرج جعفر ومعه سبعون رجلاً من المسلمين حتى ركبوا البحر، فلما بلغ قريش خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي ليردوهم إليهم، وكان عمرو وعمارة متعاديين، فقالت قريش: كيف نبعث رجلين متعاديين؟ فبرئت بنو مخزوم من جناية عمارة، وبرئت بنو سهم من جناية عمرو بن العاص، فخرج عمارة وكان حسن الوجه شاباً مترفاً، فأخرج عمرو بن العاص أهله معه، فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر، فقال عمارة لعمرو بن العاص: قل لأهلك تقبلني، فقال عمرو: أيجوز هذا، سبحان اللّه؟! فسكت عمارة فلما انتشا عمرو وكان على صدر السفينة، دفعه عمارة وألقاهفي البحر، فتشبث عمرو بصدر السفينة وأدركوه فأخرجوه، فوردوا على النجاشي، وقد كانوا حملوا إليه هدايا فقبلها منهم.

فقال عمرو بن العاص: أيها الملك، إن قوماً منا خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وصاروا إليك فردهم إلينا، فبعث النجاشي إلى جعفر فجاؤوا به، فقال: يا جعفر، ما يقول هؤلاء؟

ص: 325


1- سورة الأنعام، الآية: 123.
2- سورة المائدة، الآية: 82.

فقال جعفر: أيها الملك وما يقولون؟

قال: يسألون أن أردكم إليهم.

قال: أيها الملك سلهم: أعبيد نحن لهم؟

فقال عمرو: لا بل أحرار كرام.

قال: فسلهم: ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟

قال: لا ما لنا عليكم ديون.

قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟

قال عمرو: لا.

قال: فما تريدون منا، آذيتمونا فخرجنا من بلادكم؟

فقال عمرو بن العاص: أيها الملك خالفونا في ديننا، وسبوا آلهتنا، وأفسدوا شبابنا، وفرقوا جماعتنا، فردهم إلينا لنجمع أمرنا.

فقال جعفر: نعم أيها الملك، خالفناهم بأنه بعث اللّه فينا نبياً أمر بخلع الأنداد، وترك الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة، وحرم الظلم والجور، وسفك الدماء بغير حقها، والزنا والربا والميتة والدم، وأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

فقال النجاشي: بهذا بعث اللّه عيسى بن مريم(عليه السلام)، ثم قال النجاشي: يا جعفرهل تحفظ مما أنزل اللّه على نبيك شيئا؟

قال: نعم.

فقرأ عليه سورة مريم، فلما بلغ إلى قوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَٰقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا}(1) فلما سمع النجاشي بهذا بكى بكاءً

ص: 326


1- سورة مريم، الآية: 25-26.

شديداً، وقال: هذا واللّه هو الحق.

فقال عمرو بن العاص: أيها الملك إن هذا مخالفنا فرده إلينا.

فرفع النجاشي يده فضرب بها وجه عمرو، ثم قال: اسكت، واللّه يا هذا، لأن ذكرته بسوء لأفقدنك نفسك.

فقام عمرو بن العاص من عنده والدماء تسيل على وجهه، وهو يقول: إن كان هذا كما تقول أيها الملك فإنا لا نتعرض له.

وكانت على رأس النجاشي وصيفة له تذب عنه، فنظرت إلى عمارة بن الوليد وكان فتى جميلاً فأحبته، فلما رجع عمرو بن العاص إلى منزله، قال لعمارة: لو راسلت جارية الملك؟ فراسلها فأجابته، فقال عمرو: قل لها تبعث إليك من طيب الملك شيئا، فقال لها فبعثت إليه، فأخذ عمرو من ذلك الطيب، وكان الذي فعل به عمارة في قلبه حين ألقاه في البحر، فأدخل الطيب على النجاشي، فقال: أيها الملك إن حرمة الملك عندنا وطاعته علينا وما يكرمنا إذا دخلنا بلاده، ونأمن فيه، أن لا نغشه ولا نريبه، وأن صاحبي هذا الذي معي قد أرسل إلى حرمتك وخدعها، وبعثت إليه من طيبك، ثم وضع الطيب بين يديه، فغضب النجاشي وهم بقتل عمارة، ثم قال: لا يجوز قتله؛ فإنهم دخلوا بلادي فأمان لهم، فدعا النجاشي السحرة فقال لهم: اعملوا به شيئا أشد عليه من القتل، فأخذوه ونفخوافي احليله الزئبق فصار مع الوحش يغدو ويروح وكان لا يأنس بالناس، فبعثت قريش بعد ذلك فكمنوا له في موضع حتى ورد الماء مع الوحش، فأخذوه، فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتى مات.

ورجع عمرو إلى قريش فأخبرهم أن جعفر في أرض الحبشة في أكرم كرامة، فلم يزل بها حتى هادن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قريشاً وصالحهم وفتح خيبر، فوافى بجميع من معه، وولد لجعفر بالحبشة من أسماء بنت عميس عبد اللّه بن جعفر،

ص: 327

وولد للنجاشي ابن فسماه محمداً... .

وبعث النجاشي ثلاثين رجلاً من القسيسين، فقال لهم: انظروا إلى كلامه - أي كلام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وإلى مقعده ومشربه ومصلاه، فلما وافوا المدينة دعاهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ} إلى قوله تعالى {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(1) فلما سمعوا ذلك من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكوا وآمنوا، ورجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقرءوا عليه ما قرأ عليهم، فبكى النجاشي وبكى القسيسون، وأسلم النجاشي ولم يظهر للحبشة إسلامه وخافهم على نفسه، وخرج من بلاد الحبشة إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما عبر البحر توفي، فأنزل اللّه على رسوله {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ}(2) إلى قوله {وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}(3)(4).

رواية أخرى في قصة الهجرة

رواية أخرى في قصة الهجرة(5)

روي عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أرض النجاشي ونحن ثمانون رجلاً، ومعنا جعفر بن أبي طالب، وبعثت قريش خلفنا عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص مع هدايا فأتوه بها، فقبلها، وسجدوا له، فقالوا: إن قوماً منا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك.

فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم أحد منكم أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى

ص: 328


1- سورة المائدة، الآية: 110.
2- سورة المائدة، الآية: 82-85.
3- تفسير القمي 1: 176.
4- سورة المائدة، الآية: 85.
5- الخرائج والجرائح 1: 133.

النجاشي، فقال عمرو وعمارة: إنهم لايسجدون لك. فلما انتهينا إليه زبرنا الرهبان أن اسجدوا للملك. فقال لهم جعفر: لا نسجد إلّا للّه.

فقال النجاشي: وما ذاك؟

قال: إن اللّه بعث فينا رسوله، وهو الذي بشّر به عيسى اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد اللّه لا نشرك به شيئاً، وأن نقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر، فأعجب النجاشي قوله.

فلما رأى ذلك عمرو قال: أصلح اللّه الملك، إنهم يخالفونك في ابن مريم.

فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول اللّه: هو روح اللّه وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر.

فتناول النجاشي عوداً من الأرض، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذا، ثم قال النجاشي لجعفر: أتقرأ شيئاً مما جاء به محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟

قال: نعم.

قال: اقرأ، وأمر الرهبان أن ينظروا في كتبهم، فقرأ جعفر: {كهيعص}(1) إلى آخر قصة عيسى(عليه السلام) وكانوا يبكون. ثم قال النجاشي: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد: أنه رسول اللّه، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، ولو لا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه، اذهبوا أنتم سيوم(2) - أي آمنون - وأمر لنا بطعام وكسوة، وقال: ردوا على هذين هديتهما. وكان عمرو قصيراً، وعمارة

ص: 329


1- سورة مريم، الآية: 1.
2- سَيم: قوم سيوم أي آمنون. قال ابن الأثير: هي كلمة حبشية وتروى بفتح السين، وقيل: سيوم جمع سائم أي: تسومون في بلدي كالغنم السائمة لا يعارضكم أحد، انظر لسان العرب 12: 314 مادة (سوم).

جميلاً، وشربا في البحر الخمر، فقال عمارة لعمرو: قل لامرأتك - وكانت معه - : تقبلني. فلم يفعل عمرو، فأخذه عمارة فرمى به في البحر، فناشده حتى خلاه فحقد عليه عمرو(1).

ص: 330


1- وفي ذخائر العقبى: 209، في جعفر بن أبي طالب، روي الخبر بهذا اللفظ: عن أم سلمة قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا اللّه لا نؤذى، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة، فجمعوا له أدما كثيراً ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلّا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك عبد اللّه بن ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي بهداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، قال: فخرجا فقدما على النجاشي فدفعا إلى كل بطريق هديته، وقالا: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فقالوا: نعم، ثم قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلم بما عابوا عليهم. فقالت البطارقة - بطارقته - : صدقوا فأسلمهم إليهم، فغضب النجاشي وقال: لاها اللّه إذن، لا أسلمهم إليهم، ولا أكيد قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هؤلاء في أمرهم، فإن كان كما يقولون سلمتهم إليهما، وإن كان على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قال: ثم أرسل إلى أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدعاهم، فلما أن جاءهم الرسول اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول واللّه ما علمناه، وما أمرنا به نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين من دين هذه الأمم؟ قالت: وكان الذي يكلمه جعفر بن أبى طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيئ الجوار، يأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث اللّه إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللّه عزّ وجلّ لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد اللّه لا نشرك به شيئاً، وأمر بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به، فعبدنا اللّه عزّ وجلّ ولم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما نهرونا فظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن اللّه عزّ وجلّ شيء؟ قال: نعم. قال: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} سورة مريم، الآية: 1، فبكى واللّه النجاشي حتى اخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم، ثم قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقوا فواللّه لا أسلمهم إليكم أبداً. قالت: فلما خرجنا من عنده، قال عمرو بن العاص: لآتينه غداً أعيبهم عنده بما أستأصل به خضراءهم، فقال له عبد اللّه بن ربيعة، وكان أتقى الرجلين: لا تفعل فإن لهم أرحاماً، قال: لا واللّه لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عمّا يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم فسألهم عنه؟ قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم؟ قالوا: نقول واللّه ما قال اللّه عزّ وجلّ وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ قال له جعفر بن أبى طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو عبد اللّه وروحه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قال: فضرب النجاشي يده على الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، ثم قال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لنا بها، فواللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة، أو ما أطاع اللّه الناس في فأطيعهم فيه. قال: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.

وهكذا حفظ اللّه تعالى المسلمين من مكر قريش ودسائسهم، كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ}(1).

ص: 331


1- سورة آل عمران، الآية: 54.

أبو طالب(عليه السلام) كافل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والرسالة

أبو طالب(عليه السلام) كافل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والرسالة(1)

كان لوفاة أبي طالب(عليه السلام) عمّ النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووالد أمير المؤمنين(عليه السلام) الأثر الكبير في نفس رسول اللّه وكانت وفاته من الأسباب التي أمر اللّه تعالى نبيه بالهجرة من مكة موطن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومولده؛ إذ كان أبو طالب(عليه السلام) هو السندوالناصر والكافل والمحامي والمدافع عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في دعوته ورسالته.

ولا بأس هنا بالإشارة إلى بعض سيرته الإيمانية الطيبة مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومع الرسالة المحمدية الشريفة.

فهو أبو طالب واسمه عبد مناف، وقيل: إن اسمه عمران، وقيل: اسمه كنيته، والصحيح أن اسمه عبد مناف(2)، وبذلك نطقت وصية أبيه عبد المطلب حين أوصى إليه برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد روي: أنه عندما حضرت عبد المطلب الوفاة

ص: 332


1- كان لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تسعة أعمام هم بنو عبد المطلب: الحارث، والزبير، وأبو طالب، وحمزة، والغيداق، والضرار، والمقوم، وأبو لهب واسمه: عبد العزى، والعباس. ولم يعقب منهم إلّا أربعة: الحارث وأبو طالب، والعباس، وأبو لهب، - إلى أن قال - وأما أبو طالب عم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكان مع أخيه عبد اللّه ابني أم، وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، واسمه عبد مناف وله أربعة أولاد ذكور: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي، ومن الإناث أم هاني، واسمها فاختة وجمانة، أمهم جميعاً فاطمة بنت أسد، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وأعقبوا إلّا طالباً، وتوفي قبل أن يهاجر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بثلاث سنين، ولم يزل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ممنوعاً من الأذى بمكة موقى له حتى توفي أبو طالب، فنبت به مكة ولم يستقر له بها دعوة حتى جاءه جبرئيل(عليه السلام) فقال: إن اللّه يقرئك السلام، ويقول لك: اخرج من مكة فقد مات ناصرك... . وأما العباس فكان يكنى أبا الفضل، وكانت له السقاية وزمزم، وأسلم يوم البدر، واستقبل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عام الفتح بالأبواء، وكان معه حين فتح وبه ختمت الهجرة، ومات بالمدينة في أيام عثمان، وقد كف بصره، وكان له من الولد تسعة ذكور، وثلاث إناث... إعلام الورى: 144.
2- وفي ذكر نسب أمير المؤمنين(عليه السلام) قالوا: علي بن أبي طالب واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، واسم عبد المطلب شيبة بن هاشم، واسم هاشم عمرو بن عبد مناف، واسم عبد مناف المغيرة بن قصي، واسم قصي زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. انظر عمدة عيون صحاح الأخبار: 23.

- إلى أن قال - مال عبد المطلب إلى جنبه، وأقبل بوجهه على أبي طالب؛ لأنه لم يكن في أولاد عبد المطلب أرفق منه برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا أميل منه، ثم أنشأ يقول:

أوصيك يا عبد مناف بعدي *** بموحد بعد أبيه فردي

فارقه وهو ضجيع المهدي *** فكنت كالأم له في الوجدي

قد كنت ألصقه الحشى والكبدي *** حتى إذا خفت فراق الوحدي

أوصيك أرجى أهلنا بالرفدي *** يابن الذي غيبته في اللحدي

بالكره مني ثم لا بالعمدي *** وخيرة اللّه يشاء في العبدي

ثم قال عبد المطلب: يا أبا طالب، إنني القي إليك بعد وصيتي.

قال أبو طالب: ما هي؟

قال: يا بني، أوصيك بعدي بقرة عيني محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنت تعلم محله مني،ومقامه لدي، فأكرمه بأجل الكرامة، ويكون عندك ليله ونهاره ومادمت في الدنيا، اللّه ثم اللّه في حبيبه.

ثم قال لأولاده: أكرموا وجللوا محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكونوا عند إعزازه وإكرامه، فسترون منه أمراً عظيما علياً، وسترون آخر أمره ما أنا أصفه لكم عند بلوغه.

فقالوا بأجمعهم: السمع والطاعة يا أبانا، نفديه بأنفسنا وأموالنا ونحن له فدية.

قال أبو طالب: قد أوصيتنا بمن هو أفضل مني ومن إخواني؟

قال: نعم، - ولم يكن في أعمام النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أرفق من أبي طالب قديماً وحديثاً في أمر محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ، ثم قال: إن نفسي ومالي دونه فداء، أنازع معاديه، وأنصر مواليه، فلا يهمنك أمره.

ثم إن عبد المطلب غمض عينيه وفتحهما ونظر قريشاً وقال: يا قوم، أليس

ص: 333

حقي عليكم واجباً؟

فقالوا بأجمعهم: نعم، حقك على الكبير والصغير واجب، فنعم القائد ونعم السائق فينا كنت، فجزاك اللّه تعالى عنا خيراً، ويهون عليك سكرات الموت، وغفر لك ما سلف من ذنوبك.

فقال عبد المطلب: أوصيكم بولدي محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأحلوه محل الكرامة فيكم، وبروه ولا تجفوه، ولا تستقبلوه بما يكره.

فقالوا بأجمعهم: قد سمعنا منك وأطعناك فيه(1).

وقد ورد الكثير من الروايات الدالة وبشكل قاطع على إيمانه وكاملمساندته(عليه السلام) للرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).

وقد صرح في شعره بما يدل أشد الدلالة على إيمانه(عليه السلام) برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونبوته، حيث يقول(3):

إن ابن آمنة النبي محمداً *** عندي بمثل منازل الأولاد

فأقر بنبوته كما هو واضح.

ومنها: قوله لما رأى بحيرا الراهب الغمامة على رأس رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال فيه:

فلما رآه مقبلاً نحو داره *** يوقيه حر الشمس ظل غمام

ص: 334


1- انظر بحار الأنوار 15: 152 وانظر الفضائل لابن شاذان: 45.
2- قال العلامة المجلسي: أجمعت الشيعة على إسلامه(عليه السلام) وأنه قد آمن بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أول الأمر ولم يعبد صنماً قط، بل كان من أوصياء إبراهيم(عليه السلام)... وقال الطبرسي: قد ثبت إجماع أهل البيت(عليهم السلام) على إيمان أبي طالب، وإجماعهم حجة؛ لأنهم أحد الثقلين اللذان أمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالتمسك بهما. بحار الأنوار 35: 138.
3- إعلام الورى: 19.

حنا رأسه شبه السجود وضمه *** إلى نحره والصدر أي ضمام

إلى أن قال:

وذلك من أعلامه وبيانه *** وليس نهار واضح كظلام

فافتخاره بذلك وجعله من أعلامه دليل على إيمانه.

ومنها: قوله في رجوعه من عند بحيرا وذكر اليهود:

لما رجعوا حتى رأوا من محمد *** أحاديث تجلو غم كل فؤاد

ومنها: أنه أرسل إليه عقيلاً وجاء به في شدة الحر لما شكوا منه، وقال له: إن بني عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عنهم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم: أترون هذه الشمس؟

فقالوا: نعم.

فقال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها شعلة.

فقال لهم أبو طالب: واللّه، ما كذب ابن أخي قط فارجعوا عنه، وهذا غاية التصديق.

ومنها: قوله في جواب ذلك في أبياته:

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وأبشر وقر بذاك منك عيونا

إلى أن قال:

وعرضت ديناً قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا

وقال:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً *** نبياً كموسى خط في أول الكتب

فقد أقر بنبوته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأكد ذلك بأن شبهه بموسى(عليه السلام) وزاد في التأكيد بقوله: خط في أول الكتب، فاعترف بأنه قد بشر بنبوته كل نبي له كتاب، وهذا أمر لا

ص: 335

يعترف به إلّا من قد سبق له قدم في الإسلام، ثم وكّد اعترافه أيضاً بقوله:

وإن عليه في العباد محبة *** ولا خير ممن خصه اللّه بالحب

فاعترف بمحبة الخلق له وبمحبة اللّه له وجعله خير الخلق بقوله: (ولا خير) إلى آخره، يعني لا يكون أحد خيراً ممن خصه اللّه بحبه بل هو خير من كل أحد.

نعم، يستدل بما مضى وبغيره مما لا يسع المجال لذكره على إيمان أبي طالب(عليه السلام) وقد ذكر المحققين كثيراً من القصص والأشعار الدالة على وبشكلقاطع على إيمان أبي طالب(عليه السلام)(1).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) يرثي أباه أبا طالب بعد وفاته، فقال:

أرقت لنوح آخر الليل غردا *** لشيخي ينعى والرئيس المسودا

أباطالب مأوى الصعاليك ذاالندى *** وذا الحلم لا خلفا ولم يك قعددا

أخا الملك خلى ثلمة سيسدها *** بنو هاشم أو يستباح فيمهدا

فأمست قريش يفرحون بفقده *** ولست أرى حياً لشي ء مخلدا

أرادت أموراً زينتها حلومهم *** ستوردهم يوماً من الغي موردا

يرجون تكذيب النبي وقتله *** وأن يفتروا بهتاً عليه ومحجدا

كذبتم وبيت اللّه حتى نذيقكم *** صدور العوالي والصفيح المهندا

ويبدو منا منظر ذو كريهة *** إذا ما تسربلنا الحديد المسردا

فإما تبيدونا وإما نبيدكم *** وإما تروا سلم العشيرة أرشدا

وإلّا فإن الحي دون محمد *** بنو هاشم خير البرية محتدا

وإن له فيكم من اللّه ناصراً *** ولست بلاق صاحب اللّه أوحدا

نبي أتى من كل وحي بخطه *** فسماه ربي في الكتاب محمدا

ص: 336


1- انظر بحار الأنوار 35: 139.

أغر كضوء البدر صورة وجهه *** جلا الغيم عنه ضوؤه فتوقدا

أمين على ما استودع اللّه قلبه *** وإن كان قولاً كان فيه مسددا(1)

أما كفالته ونصرته لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو مما تواتر ذكره في الأخبار، فقد روي عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(2) قال علي(عليه السلام) - وقالابن عباس - : «كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يربيه، وعبق من سمته وكرمه وخلائقه ما أطاق، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لي: يا علي، قد أمرت أن أنذر عشيرتي الأقربين فاصنع لي طعاماً واطبخ لي لحماً» قال علي(عليه السلام): «فعددتهم بني هاشم بحتا فكانوا أربعين - قال - فصنعت الطعام، طعاماً يكفي لاثنين أو ثلاثة، قال: فقال لي المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم): هاته.

قال: فأخذ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شظية من اللحم فشظاها بأسنانه، وجعلها في الجفنة.

قال: وأعددت لهم عُسّاً من لبن، قال: ومضيت إلى القوم فأعلمتهم أنه قد دعاهم لطعام وشراب، قال: فدخلوا وأكلوا ولم يستتموا نصف الطعام حتى تضلعوا، قال: ولعهدي بالواحد منهم يأكل مثل ذلك الطعام وحده.

قال: ثم أتيت باللبن، قال: فشربوا حتى تضلعوا، قال: ولعهدي بالواحد منهم وحده يشرب مثل ذلك اللبن، قال: وما بلغوا نصف العُس.

قال: ثم قام فلما أراد أن يتكلم اعترض عليه أبو لهب لعنه اللّه فقال: أ لهذا دعوتنا؟ ثم أتبع كلامه بكلمة ثم قال: قوموا، فقاموا وتفرفوا كلهم.

قال: فلما كان من الغد، قال لي: يا علي أصنع لي مثل ذلك الطعام والشراب، قال: فصنعته ومضيت إليهم برسالته.

قال: فأقبلوا إليه فلما أكلوا وشربوا قام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليتكلم فاعترضه أبو

ص: 337


1- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 152.
2- سورة الشعراء، الآية: 214.

لهب لعنه اللّه.

قال: فقال له أبو طالب(عليه السلام): اسكت يا أعور، ما أنت وهذا.

قال: ثم قال أبو طالب(عليه السلام): عنه لا يقومن أحد.

قال: فجلسوا، ثم قال للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): قم يا سيدي، فتكلم بما تحب وبلغ رسالة ربك، فإنك الصادق المصدق.

قال: فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم: أرأيتم لو قلت لكم إن وراء هذا الجبل جيشاً يريد أن يغيرعليكم أكنتم تصدقوني؟

قال: فقالوا: كلهم نعم؛ إنك لأنت الأمين الصادق.

قال: فقال لهم: فوحدوا اللّه الجبار، واعبدوه وحده بالإخلاص، واخلعوا هذا الأنداد الأنجاس، وأقروا واشهدوا بأني رسول اللّه إليكم وإلى الخلق، فإني قد جئتكم بعز الدنيا الآخرة.

قال: فقاموا وانصرفوا كلهم، وكان الموعظة قد عملت فيهم»(1).

ودخل أبو طالب(عليه السلام) على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرآه كئيباً، وقد علم مقالة قريش - حين طلبوا تسليم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، لا تحزن، ثم قال:

واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر وقرّ بذاك منك عيونا

ودعوتني وذكرت أنك ناصحي *** ولقد نصحت وكنت قبل أمينا

وذكرت دينا قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا(2)

وقال(عليه السلام) للرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): اخرج يابن أخي فإنك المنيع كعباً والمنيع

ص: 338


1- الطرائف 1: 299.
2- بحار الأنوار 35: 147.

حزباً والأعلى أباً، واللّه لا يسلقك لسان إلّا سلقته ألسن حداد، واجتذبته سيوف حداد، واللّه لتذللن لك العرب ذل البهم لحاضنها، ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً، ولقد قال: إن من صلبي لنبياً لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به(1).

وروي أن أبا طالب(عليه السلام) فقد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فظن أن بعض قريش اغتاله فقتلهفبعث إلى بني هاشم، فقال: يا بني هاشم، أظن أن بعض قريش اغتال محمداً فقتله، فليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة وليجلس إلى جنب عظيم من عظماء قريش، فإذا قلت: أبغي محمداً قتل كل رجل منكم الرجل الذي إلى جانبه، وبلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جمع أبي طالب وهو في بيت عند الصفا، فأتى أبا طالب وهو في المسجد، فلما رآه أبو طالب أخذ بيده ثم قال: يا معشر قريش، فقدت محمداً فظننت أن بعضكم اغتاله، فأمرت كل فتى شهد من بني هاشم أن يأخذ حديدة ويجلس كل واحد منهم إلى عظيم منكم، فإذا قلت: أبغي محمداً قتل كل واحد منهم الرجل الذي إلى جنبه، فاكشفوا عمّا في أيديكم يا بني هاشم، فكشف بنو هاشم عمّا في أيديهم فنظرت قريش إلى ذلك، فعندها هابت قريش رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم أنشأ أبو طالب يقول:

ألّا أبلغ قريشاً حيث حلت *** وكل سرائر منها غرور

فإني والضوابح غاديات *** وما تتلو السفافرة(2) الشهور

لآل محمد راع حفيظ *** وود الصدر مني والضمير

فلست بقاطع رحمي وولدي *** ولو جرت مظالمها الجزور

ص: 339


1- الطرائف 1: 302.
2- وفي نسخة أخرى: (السفاسرة) وهي تعني أصحاب الأسفار والكتب، انظر لسان العرب 4: 371، مادة (سفر).

أيأمر جمعهم أبناء فهر*** بقتل محمد والأمر زور

فلا وأبيك لا ظفرت قريش *** ولا لقيت رشاداً إذ تشير

بنيَّ أخي ونوط القلب مني *** وأبيض ماؤه غدق كثير

ويشرب بعده الولدان رياً *** وأحمد قد تضمنه القبور

أيا ابن الأنف أنف بني قصي *** كأن جبينك القمر المنير

وله(عليه السلام) أيضاً:

فكيف يكون ذلكم قريشاً *** وما مني الضراعة والفتور

علي دماء بدن عاطلات *** لئن هدرت بذلكم الهدور

لقام الضاربون بكل ثغر *** بأيديهم مهندة تمور

وتلقوني أمام الصف قدماً *** أضارب حين تحزمه الأمور

أرادي مرة وأكر أخرى *** حذاراً أن تغور به الغرور

أذودهم بأبيض مشرفي *** إذا ما حاطه الأمر النكير

وجمعت الجموع أسود فهر *** وكان النقع فوقهم يثور

كأن الأفق محفوف بنار *** وحول النار آساد تزير

بمعترك المنايا في مكر *** تخال دماءه قدراً تفور

إذا سالت مجلجلة صدوق *** كأن زهاءها رأس كبير

وشظباها محل الموت حقاً *** وحوض الموت فيها يستدير

هنالك أي بني يكون مني *** بوادر لا يقوم لها الكثير

تدهدهت الصخور من الرواسي *** إذا ما الأرض زلزلها القدير

ولا قفل بقيلهم فإني *** وما حلت بكعبته النذور

ص: 340

وفي دون نفسك إن أرادوا *** بها الدهياء أو سالت بحور

إلى أن قال:

لك اللّه الغداة وعهد عم *** تجنبه الفواحش والفجور

بتحفاظي ونصرة أريحي *** من الأعمام معضاد يصور

وروي أنه(عليه السلام) قال: حدثني محمد ابن أخي وكان واللّه صدوقاً - قال - قلت له: بم بعثت يا محمد؟

قال: «بصلة الأرحام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة»(1).

وفاة أبي طالب(عليه السلام)

توفي أبو طالب(عليه السلام) في آخر السنة العاشرة من مبعث الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم توفيت خديجة(عليها السلام) بعده بثلاثة أيام، فسمى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك العام عام الحزن، فقال: «مازالت قريش قاعدة عني حتى مات أبو طالب»(2).

ولما قبض أتى أميرُ المؤمنين(عليه السلام) رسولَ اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فآذنه بموته فتوجع لذلك النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «امض يا علي، فتول غسله وتكفينه وتحنيطه، فإذا رفعته على سريره فأعلمني».

ففعل ذلك أمير المؤمنين(عليه السلام) فلما رفعه على السرير اعترضه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فرقّ له، وقال: «وصلتك رحم، وجزيت خيراً، فلقد ربيت وكفلت صغيراً، وآزرت ونصرت كبيراً». ثم أقبل على الناس، فقال: «أما واللّه، لأشفعن لعمي شفاعة يعجب بها أهل الثقلين»(3).

ص: 341


1- بحار الأنوار 35: 149.
2- قصص الأنبياء، للراوندي: 317.
3- انظر إيمان أبي طالب(عليه السلام): 265.

وروي عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول اللّه، ما ترجو لأبي طالب؟

قال: «كل خير أرجوه من ربي».(1)نعم، هذه هي الحماية والمساندة والرعاية والحب الكبير من أبي طالب(عليه السلام) عمّ النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبموته وموت خديجة الكبرى(عليها السلام) سمى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك العام بعام الحزن.

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الطائف

اشتد الضغظ على المسلمين المتواجدين في مكة، بعد فشل مهمة الوفد الذي أرسلته قريش لإرجاع المهاجرين المسلمين من الحبشة، حيث أمعنت قريش في تعذيب المسلمين، وخصوصاً بعد وفاة أبي طالب(عليه السلام) عم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فبوفاته فقد المسلمون ركناً أساسياً من أركان الحماية المنيعة القائمة بوجه قريش؛ إذ بعد هذه الحادثة أخذ مشركو قريش يسومون المسلمين أبشع أنواع الاضطهاد، فأخذ الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفكر في إيجاد وسيلة لرفع هذا الضغط عن المسلمين، فرأى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يهاجر المسلمون من مكة، فوقع اختياره في بادئ الأمر على الطائف؛ لأنها منطقة جبلية لا تبعد عن مكة كثيراً، ومناخها معتدل صيفاً وشتاءً، وفيها خصائص اقتصادية جيدة، فكانت تنتج التمور والحبوب والرمان وغيرها من المواد، وتتاجر بها مع التجار من أهل مكة، إلى غيرها من المؤهلات التي دعت الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لاختيارها. فصمم على الهجرة إليها لكي يبني قاعدة للمسلمين هناك، وأخذ يدعو أهلها إلى الإسلام.

ولكن أهل الطائف لم يكن ردهم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأفضل من رد أهل

ص: 342


1- الطرائف 1: 305.

مكة؛ وذلك لأن أهل الطائف تربطهم علاقات تجارية وعقائدية وثيقة مضافاً إلى صلة القربى مع أهل مكة، مما جعلهم على نمط واحد من التفكير، فتركهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد أن جاءهم ودعائهم إلى الإسلام، ولكنهم دفعوا صبيانهم وسفهاءهم لأن يتعرضوا للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويرموه بالحجارة.

فقد روي أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما مات أبو طالب(عليه السلام) لج المشركون في أذيته، فصار يعرض نفسه على القبايل بالإسلام والإيمان، فلم يأت أحد من القبائل إلّا صده ورده. فقال بعضهم: اعلم أنه لا يقدر أن يصلحنا وهو قد أفسد قومه، فعمد إلى ثقيف بالطائف فوجد سادتهم جلوساً، وهم ثلاثة إخوة، فعرض عليهم الإسلام وحذرهم من النار وغضب الجبار.

فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان اللّه بعثك نبياً.

وقال آخر: يا محمد، عجز اللّه أن يرسل غيرك؟

وقال آخر: لا تكلموه إن كان رسولاً من اللّه كما يزعم، هو أعظم قدراً أن يكلمنا، وإن كان كاذباً على اللّه فهو أسرف بكلامه.

وجعلوا يستهزئون به، فجعل يمشي كل ما وضع قدماً وضعوا له صخرة، فما فرغ من أرضهم إلّا وقدماه تشخب دماً، فعمد لحائط من كرومهم، وجلس مكروباً، فقال: «اللّهم، إني أشكو إليك غربتي وكربتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، أنت رب المكروبين، اللّهم إن لم يكن لك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي الثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، لك الحمد حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم».

قيل: وكان في الكرم عتبة بن ربيعة وشيبة، فكره أن يأتيهما، لما يعلم من عداوتهما. فقالا لغلام لهما يقال له: عداس: خذ قطفين من العنب، وقدحاً من

ص: 343

الماء، واذهب بهما إلى ذلك الرجل، وإنه سيسألك أهدية أم صدقة، فإن قلت: صدقة لم يقبلها، بل قل له: هدية.

فمضى ووضعه بين يديه، فقال: «هدية أم صدقة؟».فقال: هدية، فمد يده، وقال: بسم اللّه، وكان عداس نصرانياً، فلما سمعه عجب منه، وصار ينظره، فقال له: «يا عداس من أين؟».

قال: من أهل نينوى.

قال: «من مدينة الرجل الصالح أخي يونس بن متى».

قال: ومن أعلمك؟

فأخبره بقصته، وبما أوحي إليه.

فقال: ومن قبله؟

فقال: «نوح، ولوط» وحكاه بالقصة.

فخر ساجداً للّه، وجعل يقبل قدميه، هذا وسيداه ينظران إليه.

فقال أحدهما للآخر: سحر غلامك، فلما أتاهما قالا له: ما شأنك سجدت وقبلت يديه؟

فقال: يا أسيادي ما على وجه الأرض أشرف ولا ألطف ولا أخير منه.

قالوا: ولم ذلك؟

قال: حدثني بأنبياء ماضية، ونبينا يونس بن متى، فقالا: يا ويلك فتنك عن دينك؟

فقال: واللّه إنه نبي مرسل.

قالا له: ويحك عزمت قريش على قتله، فقال: هو واللّه يقتلهم ويسودهم ويشرفهم، إن تبعوه دخلوا الجنة، وخاب من لايتبعه، فقاما يريدان ضربه فركض

ص: 344

للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأسلم(1).

وقال ابن شهر آشوب: لما توفي أبو طالب(عليه السلام) لم يجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ناصراً ونثروا على رأسه التراب، قال: ما نال مني قريش شيئاً حتى مات أبو طالب، وكان يستتر من الرمي بالحجر الذي عند باب البيت من يسار من يدخل وهو ذراع وشبر في ذراع إذا جاءه من دار أبي لهب ودار عدي بن حمران - إلى أن قال - لما توفي أبو طالب واشتد عليه البلاء عمد إلى ثقيف بالطائف رجاء أن يؤُدوه سادتها: عبد نائل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن نمير الثقفي، فلم يقبلوه وتبعه سفهاؤهم بالأحجار ودموا رجليه، فخلص منهم واستظل في ظل حبلة منه، وقال: «اللّهم إني أشكو إليك من ضعف قوتي وقلة حيلتي وناصري، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين» فأنفذ عتبة وشيبة ابنا ربيعة إليه بطبق عنب على يدي غلام يدعى عداساً وكان نصرانياً، فلما مد يده وقال: «بسم اللّه».

فقال: إن أهل هذا البلد لا يقولونها.

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أين أنت؟».

قال: من بلدة نينوى.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى».

قال: وبما تعرفه؟

قال: «أنا رسول اللّه، واللّه أخبرني خبر يونس».

فخر عداس ساجداً لرسول اللّه وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء، فقال عتبة لأخيه: قد أفسد عليك غلامك، فلما انصرف عنه سئل عن مقالته فقال: واللّه إنه نبي صادق، فقالوا: إن هذا رجل خداع لا يفتننك عن نصرانيتك، وقالوا: لو

ص: 345


1- حلية الأبرار 1: 129.

كان محمد نبياً لشغلته النبوة عن النساء ولأمكنه جميع الآيات ولأمكنه منعالموت عن أقاربه. انتهى(1).

الرجوع إلى مكة

وبعد تعنت أهل الطائف ووقوفهم بوجه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لم يبق أمامه إلّا خياران: الرجوع إلى مكة، أو الذهاب إلى منطقة أخرى غير الطائف ومكة، فاختار(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأول، وعزم على ذلك، وذهب إلى مكة وأشرف على الدخول إليها. ولكن دخول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى مكة ليس بالأمر الهين، خصوصاً بعدما فقد سنده القوي، عمه أبا طالب(عليه السلام)، فكَرِه لذلك دخول مكة وليس له مجير فيها.

في بعض الأحاديث: انه لما رجع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الطائف، وأشرف على مكة وهو معتمر، كره أن يدخل مكة وليس له فيها مجير، فنظر إلى رجل من قريش، قد كان أسلم سراً، فقال له: «ائت الأخنس بن شريق فقل له: إن محمداً يسألك أن تجيره حتى يطوف ويسعى فإنه معتمر» فأتاه وأدى إليه ما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال الأخنس: إني لست من قريش، وإنما أنا حليف فيهم، والحليف لا يجير على الصميم - إلى أن قال - فرجع إلى رسول اللّه فأخبره، وكان رسول اللّه في شعب حراء مختفياً مع زيد...(2).

وأخذ الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرسل هذا الرجل إلى بعض شخصيات مكة المعروفة لإجارته، وربما كان من أهداف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو إتمام الحجة عليهم من جميع النواحي التي منها الناحية الاجتماعية والأخلاقية، إلّا أن كل ذلك جوبه بالرفض والتهرب، نظراً لحقدهم وكراهتهم لدعوة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أو خوفاً مما ستجره عليهم

ص: 346


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 67.
2- بحار الأنوار 19: 7.

من العداء والأذى من أشياع الضلال في مكة.كل هذا، والرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يهن في دعوته، بل أخذ يعرض نفسه وينشر دعوته على أغلب الشخصيات، كما جاء في كتب الأخبار، فقد روي أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال للرجل المسلم الذي بعثه إلى الأخنس وغيره: «اذهب إلى مطعم بن عدي، فاسأله أن يجيرني حتى أطوف وأسعى»، فجاء إليه وأخبره، فقال: أين محمد؟ فكره أن يخبره بموضعه، فقال: هو قريب، فقال: ائته، فقل له: إني قد أجرتك، فتعال وطف واسع ما شئت(1).

فأتى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فطاف وسعى تحت إجارة مطعم بن عدي فلما انتهى من الطواف والسعي جاء(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى مطعم وقال له: «أبا وهب! قد أجرت وأحسنت، فردّ عليّ جواري»، قال: وما عليك أن تقيم في جواري؟ قال:«أكره أن أقيم في جوار مشرك أكثر من يوم». قال مطعم: يا معشر قريش، إن محمداً قد خرج من جواري(2).

فخرج(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى شعب مكة وواصل هناك مهامه الرسالية.

الفترة الحرجة

وبعد أن عاد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الشعب أخذ يقلب فكره في سبيل إيجاد قاعدة انطلاق لنشر الإسلام، أو على الأقل إيجاد حل مؤقت في هذه الفترة الحرجة، فالناصر القوي الذي يستطيع الوقوف بوجه قريش ويصد اعتداءاتهم وهو أبو طالب(عليه السلام) قد فقده المسلمون، والأعداء يزدادون يوماً بعد آخر عناداً وصداً عن الدين، ومهمته في الطائف فشلت لتعنّت أهلها، والحبشة أيضاً لم تعد تتمكن من احتواء المسلمين لوجود موانع صارفة للهجرة الجماعية إليها كان منها بعد

ص: 347


1- بحار الأنوار 19: 7.
2- بحار الأنوار 19: 7.

الحبشة عن مكة، وإغلاق الطرق المؤدية إليها من قبل المشركين، ووجودشخصيات متنفذة في الحبشة، كبعض القساوسة والبطارقة، وهؤلاء يعلم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن مصالحهم الدنيوية وتمسكهم بعقائدهم المحرّفة، يمنع من قبولهم الإسلام، بل يحاربونه، وهذا خطر على الإسلام الفتي، إلى غير ذلك من الأسباب. فهذه الأسباب وغيرها شغلت فكر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجعلته ينظر إلى إيجاد قاعدة صلبة وأمينة يستطيع بواسطتها نشر الإسلام في أرجاء المعمورة.

بارقة الأمل

في السنة الحادية عشرة من البعثة الشريفة حصل تحول كبير في حياة المسلمين؛ إذ صادف هذا العام، وفي موسم الحج، قدوم وفد من قبيلتي الأوس والخزرج إلى مكة، وهاتان القبيلتان بينهما عداوة قديمة أسفرت عن حروب شرسة وطويلة، وكان كل قبيلة يطمح في الحصول على تحالف مع قريش لغرض ترجيح ميزان القوى لصالحها، وقبل أن يجروا تحالفاتهم مع زعماء قريش اتصل بهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وعرض عليهم الإسلام فلم يكن ردهم سلبياً؛ وذلك لأن اليهود المقيمين في المدينة (أرض الأوس والخزرج) قد أخبروا هاتين القبيلتين بظهور نبي قريباً، كما هو موجود في كتبهم، وحين التقى الوفد بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعلن فوراً إسلامه بعد أن تيقن أن هذا الشخص هو نبي مرسل من اللّه تعالى.

وعاد الوفد إلى المدينة يحمل أفكاراً جديدة، وأخذ ينشرها بين الناس، وكانت هذه تعد بارقة الأمل الأولى التي بزغت في سماء الإسلام في تلك الفترة الحرجة.

روي عن علي بن إبراهيم قال: قدم أسعد بن زرارة، وذكوان ابن عبد قيس في موسم من مواسم العرب، وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد

ص: 348

بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخرحرب بينهم يوم بغاث(1)، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرغ لشيء. قال: وما شغلتكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟

قال له عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول اللّه، سفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شباننا، وفرق جماعتنا.

فقال له أسعد: من هو منكم؟

قال: ابن عبد اللّه بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم - النظير وقريظة وقينقاع - أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب.

فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود، قال: فأين هو؟

فقال: جالس في الحجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم، فلا تسمع منه ولاتكلمه؛ فإنه ساحر يسحرك بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر، لا بد لي أن أطوف بالبيت؟

فقال: ضع في أذنيك القطن.

ص: 349


1- يوم بغاث أو بعاث، بضم الباء: يوم معروف، كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، هو من مشاهير أيام العرب، وبعاث: اسم حصن للأوس، انظر لسان العرب 2: 117، مادة (بعث).

فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني، أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنعم صباحاً. فرفع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأسه إليه، وقال: «قد أبد لنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم».

فقال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمد؟

قال: «إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأني رسول اللّه، وأدعوكم {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.(1)

فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأنك رسول اللّه، يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها اللّه بك فلا أجد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم اللّه لنا أمرنا فيك، واللّه يا رسول اللّه، لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد للّه الذي ساقني إليك، واللّه ما جئت إلّا لنطلب

ص: 350


1- سورة الأنعام، الآية: 151-152.

الحلف على قومنا، وقد أتانا اللّه بأفضل مما أتيت له.

ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول اللّه الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلم وأسلم، فأسلم ذكوان، ثم قالا: يارسول اللّه، ابعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمصعب بن عمير، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم ولم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، وكان مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد، فأمره رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخروج مع أسعد، وقد كان تعلم من القرآن كثيراً، فخرج هو مع أسعد إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير، وقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان، وكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كل يوم ويطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الإسلام فيجيبه الأحداث، وكان عبد اللّه بن أُبيّ شريفاً في الخزرج، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعت على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه، وقد كانوا اتخذوا له إكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها، وذلك أنه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بغاث ولم يعن على الأوس، وقال: هذا ظلم منكم للأوس ولا أعين على الظلم، فرضيت به الأوس والخزرج، فلما قدم أسعد كره عبد اللّه ما جاء به أسعد وذكوان وفتر أمره.

فقال أسعد لمصعب: إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس، وهو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فإن دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا، فهلم نأتي محلتهم. فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم واجتمع إليه قوم من أحداثهم وهو يقرأ عليهم القرآن، فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فقال لأسيد بن حضير وكان من أشرافهم: بلغني أن أبا أمامة أسعد

ص: 351

ابن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شباننا، فأته وانهه عن ذلك.

فجاء أسيد بن حضير، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب بن عمير: إن هذا الرجل شريف، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا، فأصدق اللّه فيه. فلما قرب أسيد منهم قال: يا أبا أمامة، يقول لك خالك: لا تأتنا في نادينا، ولا تفسد شباننا، واحذر الأوس على نفسك.

فقال مصعب: أو تجلس فنعرض عليك أمراً، فإن أحببته دخلت فيه، وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه.

فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن.

فقال: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟

قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلي ركعتين. فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر، ثم خرج وعصر ثوبه، ثم قال: اعرض عليّ، فعرض عليه شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فقالها، ثم صلى ركعتين، ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا أبعث إليك الآن خالك وأحتال عليه في أن يجيئك.

فرجع أسيد إلى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: اقسم أن أسيداً قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا، فأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب: {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}(1) فلما سمعها، قال مصعب: واللّه، لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، فبعث إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلى ركعتين، ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه وقال: أظهر أمرك ولا تهابن أحداً. ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح: يا بني عمرو بن عوف لايبقين رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي إلّا أن

ص: 352


1- سورة فصلت، الآية: 1-2.

يخرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب.

فلما اجتمعوا قال: كيف حالي عندكم؟

قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا، ولا نرد لك أمراً، فمرنا بما شئت.

فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم علي حرام حتى تشهدوا أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، والحمد للّه الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به. فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلّا وفيها مسلم أو مسلمة، وحول مصعب بن عمير إليه وقال له: أظهر أمرك وادع الناس علانية. وشاع الإسلام بالمدينة وكثر، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود.

وبلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام، وكتب إليه مصعب بذلك، وكان كل من دخل في الإسلام من قريش ضربه قومه وعذبوه، فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأمرهم بالخروج إلى المدينة، فكانوا يتسللون رجلاً فرجلاً فيصيرون إلى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم...(1).

لماذا المدينة المنورة؟

منذ ذلك الحين راح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخطط في سبيل إرساء قواعد الإسلام في المدينة المنورة، بعد أن وقع اختياره عليها لتكون القاعدة الأمينة، لنشر الدين الإسلامي، وذلك لعدة أسباب منها:

أولاً: النضج الفكري الذي كان يتمتع به أهل المدينة بالمقارنة مع أهل مكة، حيث كان أهل المدينة غير منغلقين على أنفسهم دينياً، مضافاً إلى الديانات اليهودية والمسيحية التي كانت تبشر بنبي آخر الزمان.

ص: 353


1- إعلام الورى: 55.

ثانياً: ظهور الرغبة الصادقة عند بعض أهالي المدينة في اعتناق الإسلام على العكس من مكة التي وقفت بوجه الإسلام بكل ما تستطيع.

ثالثاً: البعد النسبي بين مكة والمدينة، فالمدينة لا هي بعيدة جداً عن مكة بحيث يصعب الاتصال بها، ولا هي قريبة جداً بحيث تؤثر بها دسائس مكة.

رابعاً: الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به المدينة من الناحية الاقتصادية والعسكرية، فالمدينة تشرف على الطرق الرئيسية، التي تمر بها التجارة من وإلى مكة، وبهذا الموقع اكتسبت قدرة على فرض الحصار على مكة بقطع تجارتها دون العكس، بالإضافة إلى أنها منطقة زراعية، وأرضها خصبة بعكس مكة، أما من الناحية العسكرية فهي محصنة من أغلب جهاتها، وواقعة بين موانع طبيعية محصنة فمن الغرب والشرق، تحيط بها أراض وعرة متكونة من الحجارة المسننة والتي يصعب على كثير من الناس والحيوانات إجتيازها.

وأما جهاتها الأخرى فتحيط بها أشجار النخيل الكثيفة بحيث تشكل مانعاً بوجه هجمات الأعداء إذا ما حاولوا الإغارة عليها، كل هذه العوامل وغيرها جعلت الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يركز تركيزاً مباشراً على المدينة، ويتخذها كقاعدة للانطلاق، وفعلاً تحقق طموح الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك، وجاءت النتائج كما خطط لها.

بيعة الأنصار الأولى والثانية

بعد رجوع وفد أهل المدينة إلى أرضهم - كما مر - أخبروا أهلها بأنهم لم يجروا أي اتفاق مع زعماء قريش. بل التقوا بنبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي كانت اليهود تتوعدهم به وبايعوه، فعمَّ الخبر جميع أهل المدينة، واستبشر بعضهم به، وفي العام الثاني أرسلوا إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفداً يضم اثني عشر رجلاً، فواجهوا رسول

ص: 354

اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وبايعوه في العقبة، وسميت هذه البيعة ببيعة النساء، أو بيعة العقبة الأولى، وكانت هذه البيعة تنص على أن لا يشركوا باللّه ولا يسرقوا، قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليلة العقبة الأولى، ونحن اثنا عشر رجلاً، أنا أحدهم، فلما انصرفوا بعث معهم مصعب بن عمير إلى المدينة يفقِّه أهلها ويقرئهم القرآن(1). وكان ذلك في السنة الثانية عشرة للبعثة الشريفة كما جاء في بعض كتب الأخبار(2).

وكذلك روي أنه: في السنة الثالثة عشرة كانت بيعة العقبة الثانية، وذلك أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خرج إلى الموسم، فلقيه جماعة من الأنصار، فواعدوه عند العقبة أوسط أيام التشريق، قال كعب بن مالك: اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلاً، ومعهم امرأتان من نسائهم... فبايعنا وجعل علينا اثنا عشر نقيباً منّا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ثم أمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه بالخروج إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً، وأقام هو بمكة ينتظر أن يؤذن له(3).

وروي: فلما قدمت الأوس والخزرج مكة، جاءهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لهم: «تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم على اللّه الجنة؟».

قالوا: نعم يا رسول اللّه، فخذ لنفسك وربك ما شئت.

فقال: «موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق».

فلما حجوا رجعوا إلى منى، وكان فيهم ممن قد أسلم بشر كثير، وكان أكثرهم مشركين على دينهم وعبد اللّه بن أبي فيهم، فقال لهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في اليومالثاني من أيام التشريق: «فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة ولا تنبهوا نائماً،

ص: 355


1- بحار الأنوار 19: 24.
2- بحار الأنوار 19: 23.
3- بحار الأنوار 19: 24.

وليتسلل» وكان رسول اللّه نازلاً في دار عبد المطلب، وحمزة وعلي والعباس معه، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج، فدخلوا الدار، فلما اجتمعوا قال لهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم على اللّه الجنة؟»

فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد اللّه بن حزام: نعم يا رسول اللّه، فاشترط لنفسك ولربك.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تمنعوني مما تمنعون أنفسكم، وتمنعون أهلي مما تمنعون أهليكم وأولادكم؟»

قالوا: فما لنا على ذلك؟

قال: «الجنة، تملكون بها العرب في الدنيا، وتدين لكم العجم، وتكونون ملوكاً».

فقالوا: قد رضينا.

فقام العباس بن نضلة وكان من الأوس فقال: يا معشر الأوس والخزرج، تعلمون على ما تقدمون عليه؟ إنما تقدمون على حرب الأحمر والأبيض، وعلى حرب ملوك الدنيا، فإن علمتم أنه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تغروه، فإن رسول اللّه وإن كان قومه خالفوه فهو في عزّ ومنعة.

فقال له عبد اللّه بن حزام وأسعد بن زرارة وأبو الهيثم بن التيهان: ما لك وللكلام يا رسول اللّه، بل دمنا بدمك، وأنفسنا بنفسك، فاشترط لربك ولنفسك ما شئت.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكفلون عليكم بذلك، كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً».

فقالوا: اختر من شئت.

ص: 356

فأشار جبرئيل(عليه السلام) إليهم. فقال: «هذا نقيب، وهذا نقيب» حتى اختار تسعة من الخزرج، وهم: أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وعبد اللّه بن حزام وهو أبو جابر بن عبد اللّه، ورافع بن مالك، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبد اللّه بن رواحة، وسعد بن الربيع، وعبادة بن الصامت. وثلاثة من الأوس، وهم: أبو الهيثم بن التيهان - وكان رجلاً من اليمن حليفاً في بني عمرو بن عوف - وأسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة. فلما اجتمعوا وبايعوا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صاح بهم إبليس: يامعشر قريش والعرب، هذا محمد والصباة من الأوس والخزرج على هذه العقبة يبايعونه على حربكم. فأسمع أهل منى، فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح، وسمع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) النداء فقال للأنصار: «تفرقوا».

فقالوا: يا رسول اللّه، إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لم أؤمر بذلك، ولم يأذن اللّه لي في محاربتهم».

فقالوا: يا رسول اللّه، فتخرج معنا؟

قال: «أنتظر أمر اللّه».

فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح، وخرج حمزة ومعه السيف فوقف على العقبة هو وعلي بن أبي طالب(عليه السلام)، فلما نظروا إلى حمزة قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم عليه؟

قال: ما اجتمعنا، وما هاهنا أحد، واللّه لا يجوز أحد هذه العقبة إلّا ضربته بسيفي.

فرجعوا وغدوا إلى عبد اللّه بن أبي وقالوا: قد بلغنا أن قومك بايعوا محمداً على حربنا؟ فحلف لهم عبد اللّه أنهم لم يفعلوا ولا علم له بذلك، وأنهم لميطلعوه على أمرهم، فصدقوه. وتفرقت الأنصار ورجع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى

ص: 357

مكة(1).

هاتان البيعتان فتحتا صفحة جديدة للمسلمين، لنشر الدين الإسلامي في المعمورة، بعد أن كسروا الطوق الذي فرضه جبابرة قريش عليهم، وذلك بفعل إيمانهم وصبرهم وجهادهم وثقتهم باللّه سبحانه وتعالى، وعلى رأس كل هذه الأشياء والمقومات تقف قيادة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحكيمة، والتي تستند على بعد النظر، ودراسة الأحداث التي تدور في فلك قريش وما يدور حولها، دراسة موضوعية وافية، ووضع البدائل المناسبة للأزمات والمعضلات التي تواجه الإسلام.

مؤامرة قتل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

بعد أن فشلت جميع خطط قريش للقضاء على الإسلام، أو الحد من انتشاره، وخصوصاً بعد الهجرة الثانية التي قام بها المسلمون إلى المدينة المنورة أحسوا بالخطر الداهم الذي سوف يعصف بهم، ولكن ما يخفف عنهم هذه الوطأة وجود النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بينهم، ففكروا كثيراً بعقولهم الناقصة، وسرح بهم خيالهم المبني على الأطماع والتكبر، فتصوروا أنهم لو قضوا على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لانتهى كل شيء، ولقضي على دعوته ناسين أو متناسين أن عملهم العدائي الذي تكرر مراراً منذ اليوم الأول لظهور الإسلام لم يثمر ولم يحقق أي إنتاج يضعف الرسالة، بفضل عناية اللّه ولطفه، وحنكة نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ورد في بعض التفاسير أن قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْيَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ}(2)، نزل في قصة دار

ص: 358


1- إعلام الورى: 59.
2- سورة الأنفال، الآية: 30.

الندوة.

وذلك أن نفراً من قريش اجتمعوا فيها، وهي دار قصي بن كلاب، وتآمروا في أمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال عروة بن هشام: نتربص به ريب المنون، وقال أبو البختري: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه، وقال أبو جهل: ما هذا برأي، ولكن اقتلوه، بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد، فيرضى حينئذ بنو هاشم بالدية، فصوّب إبليس هذا الرأي، وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد، وخطّأ الأولين. فاتفقوا على هذا الرأي، وأعدوا الرجال والسلاح، وجاء جبرائيل(عليه السلام) فأخبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فخرج إلى الغار، وأمر علياً(عليه السلام) فبات على فراشه، فلما أصبحوا وفتشوا عن الفراش وجدوا علياً(عليه السلام)، وقد رد اللّه مكرهم، فقالوا: أين محمد؟ فقال: لا أدري، فاقتصوا أثره، وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الجبل، ومروا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت.

فقالوا: لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثاً ثم قدم المدينة(1).

المدينة المنورة والهجرة

ينقل لنا التاريخ بأن المدينة على الرغم من توفر شيء من النضج الفكري فيها، وما يلازم ذلك عادة من المرونة العقيدية، مضافاً إلى بعض الإيجابيات الأخرى إلّا أنه كانت توجد فيها مقابل ذلك بعض السلبيات أيضاً، مثل: الصراعات الدموية الطويلة القائمة بين أهم قبيلتين فيها وهما قبيلتي (الأوس)و(الخزرج) وكذلك بعض العادات الجاهلية المتفشية في تفكير الغالبية من أهالي المدينة مثل التعصب والثأر بأسلوبه الجاهلي، وتفشي الربا إذ كان اليهود

ص: 359


1- تفسير مجمع البيان 4: 457.

في ذلك الوقت يمسكون بعصب الحياة في المدينة عن طريق المال والخداع، حيث كانوا يستغلون الأهالي، وينشرون الربا والفساد... وكل واحد من هذه السلبيات كان كفيلاً بالقضاء على الأفكار والتيارات الجديدة التي تدخل المدينة، فكيف إذا كانت هذه السلبيات مجتمعة؟ ولكن على الرغم من ذلك كله، استطاع الإسلام أن يشق طريقه ويزرع بذرته الأولى في المدينة، ولكن هذه البذرة الطيبة كانت تحتاج إلى عناية كبيرة لكي تصبح شجرة وتعطي ثمارها.

وعلى هذا الأساس كان عمل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تلك الفترة يتمثل بمرحلتين:

المرحلة الأولى: مرحلة التثبيت والبناء.

المرحلة الثانية: مرحلة الانتشار.

مرحلة التثبيت والبناء

بدأت هذه المرحلة منذ اللحظات الأولى لقدوم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة، وشملت مجموعة من المشاريع والأعمال من أهمها:

أولاً: بناء المسجد.

من أهم ما قام به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في بداية دخوله للمدينة المنورة هو بناء المسجد؛ وذلك لحاجة الناس في ذلك الوقت إلى مركز يجتمعون فيه لأداء الصلوات وتبادل الآراء، وإعداد الخطط، وتعليم وتعلّم القرآن، وكذلك حل الخصومات والمشاكل، وغيرها من الأعمال، ولهذا أمر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببنائه وتشييده، فأصبح ذلك المسجد كالجامعة في مفهوم اليوم، بل أعظم وأشمل منها فالجامعةاليوم تحتوي على مجموعة من الكليات والأقسام فكذلك المسجد كان يحتوي على كثير من الأقسام والفروع، جهة للقضاء وأخرى للاجتماعات، وثالثة لتعليم

ص: 360

القرآن، وهكذا.

ثانياً: المؤاخاة بين المسلمين.

لقد كانت هذه الخطوة ضرورية؛ كأحد أسباب العلاج للنعرات والعداوات والضغائن التي ألمعنا إليها آنفاً، لاسيما في ما بين الأوس والخزرج، أضف إلى ذلك الأزمات المتجددة التي خلقتها قوافل المهاجرين اللاجئين الذين كانوا بأمس الحاجة إلى المسكن والمأكل، وغيرها من الأمور. ومن هنا كان نداء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تآخوا في اللّه...»(1).

روي عن ابن عباس - وغيره - قال: لما نزل قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2) آخى رسول اللّه بين الأشكال والأمثال، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان وعبد الرحمن، وبين سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، وبين طلحة والزبير، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب الأنصاري، وبين أبي ذر وابن مسعود، وبين سلمان وحذيفة، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي الدرداء وبلال، وبين جعفر الطيار ومعاذ بن جبل، وبين المقداد وعمار، وبين عايشة وحفصة، وبين زينب بنت جحش وميمونة، وبين أم سلمة وصفية، حتى آخى بين أصحابه بأجمعهم على قدر منازلهم، ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنتأخي وأنا أخوك يا علي»(3).

ولقد كانت هذه الخطوة أعظم أساس قامت عليه الأمة الإسلامية، وأحسن

ص: 361


1- انظر الغدير 3: 116، وفيه: قال محمد بن إسحاق: وآخى رسول اللّه بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال في ما بلغنا ونعوذ باللّه أن نقول عليه ما لم يقل: «تآخوا في اللّه أخوين أخوين». ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: «هذا أخي». فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب(عليه السلام) أخوين.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 185.

دواء أزيل به ما تبقى في النفوس من ضغينة وعداوة، وفي نفس الوقت كانت مفتاحاً لحل الأزمات الأخرى.

ثالثاً: الصحيفة.

الصحيفة(1) عبارة عن نظام تدار بواسطته الأمور العامة للمسلمين وغيرهم

ص: 362


1- نظراَ لأهمية هذه الوثيقة التاريخية وتوخياً للفائدة نورد نصها هنا، ليتسنى لنا الاطلاع - ولو بجزء بسيط - على الحنكة السياسية والقدرة الإدارية العظيمة التي كان عليها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى الأخص في مراحل بناء اللبنات الأولى لهذا الدين العظيم، وقد تضمنت الصحيفة ما يلي: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم وهم يَفْدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على رِبْعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على رِبْعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربْعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على رِبعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على رِبعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على رِبعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو البيت على رِبعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على رِبْعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحاً - المفرح المثقل بالدين - بينهم أن يُعطوه بالمعروف في فداء أو عَقْل. وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عِدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولدَ أحدهم، ولا يَقْتل مؤمنٌ مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وإن ذمة اللّه واحدة، يُجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس؛ وإنه من تبعنا من يهود، فإنه له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم؛ وإن سِلْم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه، إلّا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً، وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هَدْي وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن؛ وإنه مَنْ اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيّنة، فإنه قودٌ به إلّا أن يرضى وليُّ المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلّا قيامٌ عليه. وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن باللّه واليوم الآخر، أن ينصر مُحْدِثاً ولا يؤويه؛ وإنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة اللّه وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإنه مردَّه إلى اللّه عزّ وجلّ، وإلى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلّا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغَ إلّا نفسه، وأهل بيته، وإن ليهود بني النجّار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلّا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلّا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطنٍ من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشُطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلّا بإذن محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإنه لاينحجز على ثأر جُرْح، وأنه من فتك فبنفسه [ فتك ]، وأهل بيته، إلّا من ظلم، وإن اللّه على أبرّ هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم؛ وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلّا بإذن أهلها، وإن ما كان بين أهل الصحيفة من حَدَثٍ أو اشتجار يخاف فساده، فإن مردَّه إلى اللّه عزّ وجلّ، وإلى محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإن اللّه على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا تُجار قريش ولا من نصرها، وإذا دُعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلّا من حارب في الدين، على كل أُناس حصتهم من جانبهم الذي قِبلَهم، وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبٌ إلّا على نفسه، وإن اللّه على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإن من خرج آمنٌ ومن قعد آمنٌ بالمدينة، إلّا من ظلم أو أثم، وإن اللّه جارٌ لمن برّ وأتقى ومحمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)». انظر السيرة النبوية 2: 348.

ممن جاورهم، فالمجتمع المدني في ذلك الوقت كان خليطاً من القبائل العربية وغير العربية، وكذلك كانت تتعايش معه مجموعة من الديانات اليهودية والمسيحية، وإن مجتمعاً كهذا لهو بحاجة إلى نظام يدير شؤون الناس، فأوجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصحيفة.

ص: 363

فقد روي عن أبي عبد اللّه، عن أبيه(عليهما السلام) قال: «قرأت في كتاب لعلي(عليه السلام) أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب: أن كل غازية غزت بما يعقِّب بعضها بعضاً بالمعروف والقسط بين المسلمين، فإنه لا يجوز حرب إلّا بإذن أهلها، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه وأبيه، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلّا على عدل وسواء»(1).

في بادئ الأمر أراد اليهود استمالة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جانبهم، بمعنى آخر: حاولوا ضم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تحت السيادة اليهودية بزعمهم، وذلك نظراً للنفوذ الاقتصادي القوي الذي كان اليهود يتمتعون به، ولكن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعمله هذا - إعلان الصحيفة - جعل اليهود وغيرهم من الأقليات تحت السيادة الإسلامية، وبعد أن وفر لهم الحماية أعطاهم كامل الحرية الدينية، سواء أرادوا البقاء على عقيدتهم، أم الدخول في الإسلام.

وهكذا استطاع(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يبني مجتمعاً متماسكاً تسوده المحبّة والأمان، وزرع لدى الإنسان المسلم شخصية فريدة من نوعها بين المجتمعات الأخرى.

وبالإضافة إلى كل هذه الأعمال، ركز(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على سد الثغرات، وتحصين المدينة المنورة بوجه الأعداء، وكذلك حث المسلمين على التدريب على الرمايةوصناعة السيوف والرماح والدروع... استعداداً للدفاع في قبال مخطط المشركين لمحاربة المسلمين والقضاء عليهم.

مرحلة نشر الدين الإسلامي

بعد أن اطمأن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الحالة العامة التي وصل إليها المسلمون من

ص: 364


1- الكافي 5: 31.

إيمان وتقوى واستعداد دائم للجهاد في سبيل اللّه وما إلى ذلك، شرع في المرحلة الثانية من مهمته، وهي نشر الدين الإسلامي في أرجاء المعمورة، وهذه المرحلة هي هدف الرسالة. فالإسلام لا يقتصر على أهل المدينة فقط، أو أهل الطائف فقط، وإنما هو دين البشرية جمعاء، وأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو مرسل إلى الناس كافة لينقذهم من الظلمات إلى النور.

كتبه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الملوك والحكام

اشارة

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(1)، فإن: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ} يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} أي: للناس عامة، وكان تقديم{كَافَّةً} لإفادة أن الغرض المسوق له الكلام هو عموم الرسالة، وإنما {كَافَّةً} بمعنى عامة؛ لأنها إذا عمتهم فقد كفتهم(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الآية: «بعثت إلى الأحمر والأسود والأبيض»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بعثت إلى الثقلين»(4).

وقد روي أنه: اتخذ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الخاتم في المحرم ونقش عليه «محمدرسول اللّه» وكاتب الملوك في شهر ربيع الأول، ونفذت كتبه ورسله إليهم يدعوهم للإسلام. وافتتح كتبه إليهم ب«بسم اللّه الرحمن الرحيم»(5).

ولهذا أخذ الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرسل الرسل إلى الملوك وزعماء القبائل

ص: 365


1- سورة سبأ، الآية: 28.
2- تفسير تقريب القرآن 4: 386.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 229.
4- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 229.
5- انظر التنبيه والإشراف: 225.

يدعوهم إلى الدخول في الإسلام(1) وينذرهم من العدول والصد عن نداء الحق بالحكمة والموعظة الحسنة.

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى كسرى ملك الفرس

أرسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبد اللّه بن حذافة بن قيس السهمي إلى كسرى بن هرمز ملك الفرس ومن كان في سلطته بكتاب جاء فيه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله، وشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بداعية اللّه عزّ وجلّ، فإني أنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الناس كافة، لأنذر {مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(2)، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك».(3)

فلما وصل إليه الكتاب مزقه واستخف به وقال: من هذا الذي يدعوني إلىدينه ويبدأ باسمه قبل اسمي؟ وبعث إليه بتراب، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مزق اللّه ملكه كما مزق كتابي، أما إنه ستمزقون ملكه، وبعث إلي بتراب، أما إنكم ستملكون أرضه» فكان كما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(4).

وذكر أن كسرى كتب في الوقت إلى عامله باليمن (باذان) ويكنى أبا مهران: أن

ص: 366


1- اختلف المؤرخون في تأريخ بدء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإرسال الكتب والمراسيل إلى الملوك وغيرهم، فمنهم من قال كان ذلك في سنة ست من الهجرة في ذي القعدة، وقيل في ذي الحجة، وقيل في سنة سبع، وقيل كان ذلك بين الحديبية وبين وفاته(صلی اللّه عليه وآله وسلم). انظر تاريخ الطبري 2: 288، البداية والنهاية 4: 298. وانظر بحار الأنوار 20: 382.
2- سورة يس، الآية: 70.
3- انظر بحار الأنوار 20: 389.
4- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 79.

احمل إلي هذا الذي يذكر أنه نبي، وبدأ باسمه قبل اسمي، ودعاني إلى غير ديني. فبعث إليه - إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - فيروز الديلمي في جماعة مع كتاب يذكر فيه ما كتب به كسرى، فأتاه فيروز بمن معه،فقال له:إن كسرى أمرني أن أحملك إليه، فاستنظره ليلة.

فلما كان من الغد حضر فيروز مستحثاً، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أخبرني ربي أنه قتل ربك البارحة، سلط اللّه عليه ابنه شيرويه على سبع ساعات من الليل، فامسك حتى يأتيك الخبر». فراع ذلك فيروز وهاله.

وعاد إلى باذان فأخبره، فقال له باذان: كيف وجدت نفسك حين دخلت عليه؟ فقال: واللّه ما هبت أحداً كهيبة هذا الرجل. فوصل الخبر بقتله في تلك الليلة من تلك الساعة، فأسلما جميعاً(1).

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى قيصر عظيم الروم

وأرسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر عظيم الروم بكتاب جاء فيه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه عبده ورسوله إلى هرقلعظيم الروم، وسلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، أسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم اليريسين(2) و{يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ

ص: 367


1- بحار الأنوار 20: 382.
2- اليريسين أو الأريسيين أو الأريسين قيل هم الأكارون وقيل الخدم والأعوان ومعناه: إن عليك إثم رعاياك ممن صددته عن الإسلام فاتبعوك على كفرك، أي: إن عليك مثل إثمهم.

بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}»(1)(2).

وقد ذكر أن هرقل بعث رجلاً من غسان وأمره أن يأتيه بخبر محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقال له: احفظ لي من أمره ثلاثاً: انظر على أي شيء تجده جالساً، ومَن على يمينه، وإن استطعت أن تنظر إلى خاتم النبوة فافعل.

فخرج الغساني حتى أتى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوجده جالساً على الأرض، ووجد علي بن أبي طالب(عليه السلام) عن يمينه، وجعل رجليه في ماء يفور، فقال: من هذا على يمينه؟ قيل: ابن عمه.

فكتب ذلك ونسي الغساني الثالثة. فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تعال، فانظر إلى ما أمرك به صاحبك». فنظر إلى خاتم النبوة، فانصرف الرسول - أي رسول الملك - إلى هرقل. قال: ما صنعت؟

قال: وجدته جالساً على الأرض والماء يفور تحت قدميه. ووجدت علياً ابن عمه عن يمينه، وأنسيت ما قلت لي في الخاتم، فدعاني فقال: «هلم إلى ما أمرك به صاحبك». فنظرت إلى خاتم النبوة.

فقال هرقل: هذا الذي بشّر به عيسى بن مريم، إنه يركب البعير فاتبعوهوصدقوه. ثم قال للرسول: أخرج إلى أخي فأعرض عليه، فإنه شريكي في الملك. فقلت له: فما طاب نفسه عن ذهاب ملكه(3).

وردّ قيصر دحية بن خليفة مكرما، وأهدى إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هدية وكتب إليه كتابا يعتذر فيه، فكتب: إلى أحمد رسول اللّه الذي بشّر به عيسى، من قيصر ملك الروم: إنه جاءني كتابك مع رسولك، وإني أشهد أنك رسول اللّه، نجدك

ص: 368


1- سورة آل عمران، الآية: 64.
2- بحار الأنوار 20: 386.
3- الخرائج والجرائح 1: 104.

عندنا في الإنجيل بشّرنا بك عيسى بن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك وأغسل قدميك.

وجعل كتاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الديباج والحرير وجعله في سفط، فلما وصل كتابه إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يبقى ملكهم ما بقى كتابي عندهم»(1).

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المقوقس ملك الإسكندرية

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المقوقس(2) ملك الإسكندرية

وأرسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية، بكتاب وفيه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد اللّه إلى المقوقس عظيم القبط(3)، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، واسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط، و{قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًامِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}»(4)(5).

وقد روي أن المقوقس قال: إني نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولاينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكذاب، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى، وسأنظر، ثم

ص: 369


1- انظر تاريخ اليعقوبي 2: 78.
2- المقوقس: بضم أوله وثانيه وكسر رابعه، هو جريح بن ميني، ومعنى المقوقس مطول البناء، وطائر مطوق سواده في بياض، وهو لقب لكل من ملك مصر والإسكندرية كفرعون وكسرى.
3- القبط بكسر القاف وسكون الباء الموحدة، هم سكان مصر الأصليون.
4- سورة آل عمران، الآية: 64.
5- انظر بحار الأنوار 20: 383.

أخذ الكتاب وجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته(1).

وكان المقوقس قد دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية، فكتب إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): بسم اللّه الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد اللّه من المقوقس عظيم القبط: سلام عليك، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبثياب، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك(2).

وقال حاطب: كان المقوقس لي مكرماً في الضيافة وقلة اللبث ببابه، وما أقمت عنده إلّا خمسة أيام ودفع له مائة دينار وخمسة أثواب(3).

وقد روي أن المقوقس قال لحاطب(4): القبط لا يطاوعوني في اتباعه ولاأحب أن تعلم بمجاورتي إياك، وأنا أظن بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد.

وبعث معه جيشا إلى أن دخل جزيرة العرب ووجد قافلة من الشام تريد المدينة فرد الجيش وارتفق بالقافلة(5).

ص: 370


1- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 1: 189.
2- انظر مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 424.
3- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 426.
4- حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو بن عمير بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي حليف بني أسد بن عبد العزى، ويقال إنه حالف الزبير، وقيل: كان مولى عبيد اللّه بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد فكاتبه فأدى مكاتبته، شهد بدرا، يكنى أبا عبد اللّه، وقيل: أبا محمد من بني خالفة بطن من لخم، وقيل: إنه من مذحج، بعثه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المقوقس ثم أرسله عمر أيضا إليه، فيه نزل قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} سورة الممتحنة، الآية: 1. انظر تفسير فرات الكوفي: ص480 سورة الممتحنة ح625.
5- انظر مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 426.
كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى النجاشي

وأرسل(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي ملك الحبشة بكتاب وفيه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول اللّه إلى النجاشي ملك الحبشة، إني أحمد إليك اللّه، الملك القدوس السلام المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح اللّه {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ}(1) البتول الطيبة فحملت بعيسى، وإني أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له، فإن تبعتني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول اللّه، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، والسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى»(2).

فكتب النجاشي إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جواب كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفيه:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، إلى محمد رسول اللّه من النجاشي، سلام عليك يا نبي اللّه ورحمة اللّه وبركاته، الذي لا إله إلّا هو الذي هداني إلى الإسلام. أما بعد، فقد بلغني كتابك يا رسول اللّه في ما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماءوالأرض، إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقاً(3) إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقدم ابن عمك وأصحابك، وأشهد أنك رسول اللّه، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه للّه رب العالمين، وقد بعثت إليك يا نبي اللّه، فإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول اللّه، فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته. وذكر أنه بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة حتى إذا توسطوا البحر غرقت بهم السفينة فهلكوا(4).

ص: 371


1- سورة النساء، الآية: 171.
2- بحار الأنوار 20: 391.
3- الثفروق: قمع البسرة والتمرة، وقيل: الثفروق هو ما يلزق به القمع من التمرة، لسان العرب 10: 34، مادة (ثفرق).
4- بحار الأنوار 20: 392.

وروي أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتب كتاباً للنجاشي فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): «اكتب جواباً وأوجز» فكتب: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أما بعد، فكأنك من الرقة علينا منا، وكأنا من الثقة بك منك؛ لأنا لا نرجو شيئا منك إلّا نلناه، ولا نخاف منك أمرا إلّا أمنّاه، وباللّه التوفيق».

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الحمد للّه الذي جعل من أهلي مثلك، وشد أزري بك»(1).

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك اليمامة

وأرسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سليط بن عمرو إلى ملك اليمامة هوذة بن علي الحنفي يدعوه إلى الإسلام، وجاء في رسالته:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم: من محمد رسول اللّه إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك»(2).

فلما أتاه سليط بن عمرو أرسل إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفداً فيهم مجاعة بن مرارة والرجال بن عنفوة يقول له: إن جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصره، وإلّا قصد حربه، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا ولا كرامة، اللّهم اكفنيه» فمات بعد قليل(3).

وروي أن هوذة بن علي ملك اليمامة كتب إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتابا جاء فيه: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك. ثم أجاز سليطاً بجائزة وكساه أثواباً من نسج هجر(4).

ص: 372


1- بحار الأنوار 20: 397.
2- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 343.
3- بحار الأنوار 20: 394.
4- بحار الأنوار 20: 394.

وقيل: إن هوذة أهدى إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) غلاماً اسمه: كركرة(1).

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك عمان

وكتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتاباً إلى جيفر وعبد ابني الجلندي وكانا على ملك عمان، وفيه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد عبد اللّه ورسوله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول اللّه إلى الناس كافةً لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما»(2).

وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال عندما أرسل رسوله إلى أهل عمان:«أما إنهم سيقبلون كتابي ويصدقوني ويسألكم ابن الجلندي هل بعث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معكم بهدية،فقولوا: لا، فسيقول: لو كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث معكم بهدية لكانت مثل المائدة التي نزلت على بني إسرائيل وعلى المسيح(3).

الخلاصة

ظهر مما سبق أن بعض هؤلاء آمن برسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل النجاشي ملك الحبشة، وحاكم اليمامة، وحاكم عمان، وهرقل ملك الروم.

والبعض الآخر رد رداً مناسباً مثل المقوقس، حيث أرسل رسالة جوابية إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومعها هدية، فقبل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هديته.

أما البعض الآخر فكان رده سلبياً مثل كسرى ملك الفرس، حيث مزق رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهان رسوله، كما جاء في كتب الأخبار.

ص: 373


1- إعلام الورى: 147.
2- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 361.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 114.

وما يهمنا هنا هو ليس تدوين الوقائع، بل الاستشهاد بها، لكي نعلم بأن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يضع يداً على الأخرى في الهجرة وينتظر الفرج، بل جاهد جهاداً لا هوادة فيه، وروّض الظروف الصعبة التي مرت به، ووظفها لصالح التبليغ الديني، وهذا هو الدرس المهم الذي نريد أن نستفيد من حديثنا عن هجرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين الأوائل وكيفية تعاملهم مع الظروف التي تواجههم في الهجرة، وتطبيقها على حياتنا اليومية، خاصة وأن عالمنا الإسلامي اليوم - ونتيجة الظروف التي أوجدها الأعداء، وبعض العوامل الأخرى - يعيش كثير من أبنائه في المهجر، إما مهاجرين أو مهجّرين. ونتعرف أيضاً على طريقة مقاومة هذه الظروف لتحويل الهجرة إلى نصر نحقق فيه أهدافنا الإسلامية.

من دروس الهجرة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه امرأً تفكر فاعتبر واعتبر فأبصر»(1).

وقال(عليه السلام): «إن في كل شيء موعظة وعبرة لذوي اللب والاعتبار»(2).

تعد الهجرة لو استفيد منها مدرسة لإعداد المجاهدين، وفي الوقت نفسه هي محل اختبار للإنسان. إن في الهجرة دروساً وعبراً كثيرة وعلى الإنسان المسلم الذي اضطرته الظروف إلى التغرب عن بلده أن يستفيد منها ويصبّها في صالح دينه ومجتمعه، ونحاول هنا باختصار أن نذكّر ببعض الأمور، التي ينبغي على الإنسان المسلم المهجّر، أو المهاجر العمل بها:

أولاً: التمسك بحبل اللّه تعالى.

قال تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}(3).

ص: 374


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 103، ومن خطبة له(عليه السلام).
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 224.
3- سورة آل عمران، الآية: 103.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داود(عليه السلام): ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهن إلّا جعلت له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيته إلّا قطعت أسباب السماوات والأرض من يديه وأسخت(1) الأرض من تحته، ولم أبال بأي واد هلك»(2).

على الإنسان المسلم أن يتوجه بكل إحساسه إلى اللّه تعالى، ويؤمن إيماناً مطلقاً بأن اللّه سبحانه وتعالى بيده كل شيء، وهو عزّ وجلّ يراقب كل حركاته وسكناته، وعلى المؤمن أن يحسب هجرته وجميع أعماله في سبيل اللّه، ولا يخرجها من هذا الإطار.

ثانياً: الصبر.

قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام):«الصبر على مضض الغصص يوجب الظفر بالفرص»(4).

إن الإنسان المهاجر أو المهجر سوف يتعرض عادة إلى مضايقات ومشاكل كثيرة، سواء كان في ما يتعلق بعمله الجهادي، أو في ما يتعلق بمعيشته وما يترتب عليها. فهنا يحتاج إلى قلب صبور، يتحمل الاخفاق والعوز، لكي يتغلب على الظروف، بل لا بد له أن يخلق الظروف المناسبة، كما فعل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فعندما هاجر هو وسائر المسلمين إلى المدينة، في بادئ الأمر كانت الظروف

ص: 375


1- ساخت بهم الأرض: خسفت.
2- الكافي 2: 63.
3- سورة النحل، الآية: 96.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 119.

المحيطة به(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صعبة جداً، من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك من جهة العدو وقوته وغيرها من المضايقات. ولكن صبر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإيمانه القوي وكذلك كان المسلمون، غيّر كل هذه الظروف، وروّضها لصالح الإسلام، فالصبر عامل مهم في حسم النتيجة نحو الأفضل. كما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الصبر أعون شيء على الدهر»(1).

ثالثاً: اختيار المكان المناسب.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليس بلد أحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك»(2).وقال(عليه السلام): «شر الأوطان ما لم يأمن في القطان»(3)(4).

فإن الإنسان المسلم المهاجر في سبيل اللّه تعالى عليه أن يختار المكان المناسب لهجرته، كما فعل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فالشخص الذي يهاجر من بلد يخاف فيها على دينه، أو عرضه، أو نفسه، أو ماله، إلى بلد آخر لا يحفظ له هذه الحقوق، فإن النتائج ربما تكون أسوأ؛ لأنه بالإضافة إلى ضياع حقوقه، فإنه سوف يبتلى بالغربة وأمثالها. بينما إذا اختار البلد المناسب فإنه ربما يعاني من الغربة ومشاكلها، إلّا أنه سوف يحفظ بعض حقوقه على الأقل، كالنفس والعرض والمال مثلاً.

كلمة أخيرة

يعيش عالمنا الإسلامي اليوم في صراعات مدمرة أثارها الأعداء بتخطيط

ص: 376


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 67.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 558.
3- القُطّان: المقيمون.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 410.

مسبق، حتى لا يتفرغ الإنسان المؤمن لهدفه الأسمى، وهو نشر الإسلام، فأججوا الحروب هنا وهناك في عالمنا الإسلامي: في لبنان، وأفغانستان، والعراق، ومصر، والجزائر وتونس، وكشمير، وغيرها.

وكذلك عملوا على زرع الخلافات السياسية والدينية بين شعوبنا الإسلامية.

وكذلك نصبوا على بلادنا الحكام العملاء الظلمة، فتسلطوا على رقاب المسلمين، ونهبوا خيراتهم، ومارسوا بحقهم أبشع أنواع الجرائم والكبت ومصادرة الحريات والاعتقال والتعذيب، فنتج من هذا وغيره ملايين المشردين، بل الأكثر من ذلك.

إن الأعداء لم يكتفوا بتشريد هؤلاء، بل عملوا على تشديد الخناق، وضيقواعليهم سبل العيش بشتى أنواع المضايقات، كما فعل أعداء الإسلام بالمسلمين الأوائل، ولكن في ذلك الوقت استطاع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يحبط جميع مخططات الأعداء، وذلك بإيجاد الحلول المناسبة لها فتمكن(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك من حفظ المسلمين ونشر الرسالة.

لذا فاللازم علينا أن نهتدي بسيرة المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) والمسلمين الأوائل، في كيفية التعامل مع الأعداء، ومع الظروف التي عاشوها في المهجر والاستفادة من تجاربهم التي مروا بها فنوظفها لصالح الأمة؛ حتى نتجاوز المحنة فنوفق لخدمة هذا الدين الحق.

قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1).

فالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطط وأعد المسلمين فكرياً وعسكرياً، في سبيل تجاوز المحن، والظفر في عمله، فباشر أولاً بتثبيت كيان المسلمين في المهجر،

ص: 377


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.

وإعدادهم تعبوياً ونفسياً، ومن ثم قام بنشر الدين في الآفاق، فعلينا أن نستفيد من هذا الدرس العظيم ونقوم بمراجعة تفاصيله مراجعة دقيقة، مبنية على أساس التجارب والعبر، وبطرق علمية سليمة، وندرس جميع الظروف المحيطة بنا، سواء كان في طرفنا أو في الطرف الآخر، حتى نرزق النصر إن شاء اللّه تعالى.

«اللّهم إني أسألك بنور وجهك المشرق الحي الباقي الكريم، وأسألك بنور وجهك القدّوس، الذي أشرقت له السماوات والأرضون، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن تصلي على محمد وآله وأن تصلح لي شأني كله»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الإيمان والهجرة

قال تعالى: {وَالسَّٰبِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْأخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(3).

وقال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(4).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا

ص: 378


1- مصباح المتهجد 1: 101.
2- سورة التوبة، الآية: 100.
3- سورة النحل، الآية: 41.
4- سورة النساء، الآية: 100.

حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصَّٰدِقُونَ}(2).

تعلم الصبر

قال تعالى: {وَالصَّٰبِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰأَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا}(4).

وقال سبحانه: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَٰكِمِينَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(6).

وقال تبارك وتعالى: {يَٰبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٖ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}(8).

ص: 379


1- سورة الحج، الآية: 58.
2- سورة الحشر، الآية: 8.
3- سورة البقرة، الآية: 177.
4- سورة الأنعام، الآية: 34.
5- سورة يونس، الآية: 109.
6- سورة هود، الآية: 115.
7- سورة لقمان، الآية: 17.
8- سورة النحل، الآية: 127.

وقال جلّ وعلا: {قُلْ يَٰعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٖ}(1).

نشر الدعوة الإسلامية

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}(3).

وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌلِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(4).

الثبات على المبدأ

قال جلّ وعلا: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا}(5).

وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}(7).

ص: 380


1- سورة الزمر، الآية: 10.
2- سورة سبأ، الآية: 28.
3- سورة الحجر، الآية: 94.
4- سورة التوبة، الآية: 122.
5- سورة الأحزاب، الآية: 23.
6- سورة آل عمران، الآية: 173.
7- سورة الأنفال، الآية: 15.

من هدي السنّة المطهّرة

الإيمان والهجرة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد - صلى اللّه عليهما وآلهما -»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا عصي اللّه في أرض أنت فيها فأخرج منها إلى غيرها»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «...ومن دخل في الإسلام طوعاً فهو مهاجر»(3).وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... والمهاجر من هجر السيئات وترك ما حرَّم اللّه»(4).

تعلم الصبر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثلاث من كن فيه رزق من خير الدنيا والآخرة هن: الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء، والشكر في الرخاء»(5).

وقال(عليه السلام): «الصبر عنوان النصر»(6).

وقال(عليه السلام): «بالصبر تدرك معالي الأمور»(7).

وقال(عليه السلام): «من صبر فنفسه وقّر، وبالثواب ظفر، وللّه سبحانه أطاع»(8).

ص: 381


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 33.
2- تفسير مجمع البيان 8: 37.
3- الكافي 8: 148.
4- الكافي 2: 235.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 331.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 45.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 301.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 648.

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «يا حفص إن من صبر صبر قليلاً، وإن من جزع جزع قليلاً - ثم قال: - عليك بالصبر في جميع أمورك. فإن اللّه عزّ وجلّ بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأمره بالصبر...»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من لا يعد الصبر لنوائب الدهر يعجز»(3).

نشر الدعوة الإسلامية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في سبب تسميته بالداعي - : «وأما الداعي، فإني أدعو الناس إلى دين ربي عزّ وجلّ»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فبعث اللّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته بقرآن قد بينه وأحكمه، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه»(5).

ومن كتاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أهالي نجران:

«بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد رسول اللّه إلى أسقف نجران وأهل نجران، إن أسلمتم فإني أحمد إليكم اللّه إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد...»(6).

ص: 382


1- الكافي 2: 89.
2- الكافي 2: 88.
3- الكافي 2: 93.
4- معاني الأخبار: 52.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 147، ومن خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها الغاية من البعثة.
6- بحار الأنوار 21: 285.

وقال الإمام أبو جعفر(عليه السلام) في رسالته إلى بعض حكام بني أمية: «ومن ذلك ما ضيع الجهاد الذي فضله اللّه عزّ وجلّ على الأعمال... اشترط عليهم فيه حفظ الحدود، وأول ذلك الدعاء إلى طاعة اللّه عزّ وجلّ من طاعة العباد، والى عبادة اللّه من عبادة العباد...»(1).

الثبات على المبدأ

لما أظهر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الدعوة بمكة اجتمعت قريش إلى أبي طالب(عليه السلام) فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سفه أحلامنا.. فإن كان الذي يحمله على ذلك العُدْم جمعنا له مالاً حتى يكون أغنى رجل في قريش ونملكه علينا، فأخبرأبو طالب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك فقال: «لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري ما أردته»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دعا إلى طاعته، وقاهر أعداءه جهاداً عن دينه، لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه، والتماس لإطفاء نوره»(3).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «لا واللّه، لا أعطيكم - مخاطباً أعداءه - بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد»(4).

ص: 383


1- الكافي 5: 3.
2- تفسير القمي 2: 228.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 190، من خطبة له(عليه السلام) يحمد اللّه ويثني على نبيه ويعظ بالتقوى.
4- الإرشاد 2: 98.

دعاة التغيير ومستقبل العراق

الأمانة في الاستخلاف

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}(1).

إن خلافة الإنسان، هي عبارة عن رعايته لما استؤمن عليه، مما خلق اللّه عزّ وجلّ، وأدائه الأمانة على أحسن وجه أراده اللّه تبارك وتعالى منه؛ ليتم الهدف الذي من أجله خلق اللّه الدنيا، وجعل الإنسان خليفته فيها، فتكون الدنيا وسيلة للوصول إلى الدار الآخرة، والدرجات العالية.

فقد قال تعالى في القرآن الحكيم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(2).

وقال سبحانه: {يَٰدَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ}(3).

ص: 384


1- سورة الأعراف، الآية: 129.
2- سورة البقرة، الآية: 29-30.
3- سورة ص، الآية: 26.

وقال عزّ وجلّ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٖدَرَجَٰتٖ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ}(1).

و قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو المسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في مال أبيه راع وهو مسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(2).

لذا كان من واجب الإنسان أن يبني حياته الاجتماعية على أساس من العدل والتآلف، والأخوّة والمحبّة؛ لتتحقق للمجتمعات سعادتها، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما المؤمنون إخوة بنو أبٍ وأمٍّ، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون»(3).

وعن جابر الجعفي قال: تقبَّضت بين يدي أبي جعفر(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، ربما حزنت من غير مصيبة تصيبني، أو أمر ينزل بي حتى يتعرف ذلك أهلي في وجهي وصديقي؟

فقال(عليه السلام): «نعم يا جابر، إن اللّه عزّ وجلّ خلق المؤمنين من طينة الجنان، وأجرى فيهم من ريح روحه؛ فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، فإذا أصاب روحاً من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزن حزنت هذه؛ لأنها منها»(4).

نعم، فهذا المؤمن أخو المؤمن وبالتالي يكون هذا الإنسان المؤتمن في

ص: 385


1- سورة الأنعام، الآية: 165.
2- عوالي اللآلي 1: 129.
3- الكافي 2: 165.
4- الكافي 2: 166.

مستوى الأمانة والاستخلاف. ولعل أوضح مثال للإنسان غير الصالحللاستخلاف طغاة العراق الذين ألبسوه ثوب الدمار والذلّ، قتلاً وتشريداً لخيرة أبنائه؛ بغية سلخ هذا الشعب وهذه الأمة عن دينها، والقضاء على قيمها ومبادئها السامية. إلّا أن إرادة الشعب دائماً أقوى من إرادة أولئك الطغاة؛ لأن الشعب يستمد قوته من الإيمان باللّه، والتوكل عليه، وطلب العون منه.

فرغم استمرار مأساة الشعب العراقي المظلوم، ورغم الوحشية والقسوة في قمع هذا الشعب نجد فيه من يقف كالطود في وجه هذا الكابوس الجاثم على صدره، جادّاً في منعه من تحقيق أهدافه الخبيثة في سلب ثروات الشعب الضخمة. وهدف هؤلاء المخلصين هو تطبيق أحكام الإسلام وإعلانه ديناً ونظاماً لما تتضمن تلك الأحكام سعادة الإنسان ورفاهه وحريته في الدنيا والآخرة.

ولكي تكون هذه الحركة المضادة لمخططات النظام صحيحة ومتقنة، لا بد من الإشارة إلى بعض النقاط الواجب مراعاتها في العمل والتحرك، لكي تعطي الجهود أكلها وجناها، ولعل أهم هذه الأمور هي: المرتكزات السياسية بكافة مفرداتها وأشكالها.

الفهم السياسي

اشارة

قال تبارك وتعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

إن من أهم تلك المفردات السياسية التي يجب على دعاة التغيير أن يتحلّوا بها هو: الفهم السياسي؛ إذ بدون الفهم المذكور لا يتمكن الإنسان من الشروع

ص: 386


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

في العمل، وإن بدأ فإنه لا يتمكن من الاستقامة والاستمرار ومهما كان يملك منالجلد والمقاومة، فإنه سيعجز عن مواصلة السير إلى الهدف المنشود.

ومن الواضح، أن بعض المثقفين من المتدينين، أو غيرهم، لايعرفون السياسة ولا يفهمونها إلّا فهماً سطحياً، فهماً مجرداً عن التجربة والتطبيق، فهم - غالباً - منشغلين بدراسة العلوم النظرية وغيرها؛ ولذا نرى المسلمين يصب عليهم البلاء صباً، وهم عاجزون عن معرفة السبب الحقيقي، والمصدر الكامن وراء ذلك، وبالتالي يعجزون عن رفعه وعلاجه، ومن ثم الخروج من المأزق بسلام.

فمن اللازم دراسة السياسة دراسة مستوعبة، وممارستها في الواقع العملي، وحيث لا يمكن تجريد السياسة عن علمي الاجتماع والاقتصاد، فيتوجب على دعاة التغيير من العاملين في الحقل السياسي دراستهما أيضاً.

ثم إنَّ الفهم السياسي بمفرده، مجرداً عن التجربة الميدانية، يعتبر نقصاً في شخصية العامل، فلا بد من النزول إلى الساحة السياسية بكل ميادينها، والإطلاع على مستواها ونمطها، ومدى استعدادها لتقبل التغيير.

غاندي والاستقلال

حينما كان غاندي منشغلاً بتحرير الهند سافر إلى إنجلترا لأمرٍ ما، وبينما كان جالساً في أحد المجالس قام إليه أحد الحاضرين، فسأله قائلاً: إن عيسى [على نبينا وعلى آله وعليه السلام] ولأجل إصلاح الناس، قال: (إذا ضربك أحد على خدّك الأيمن، فأدر له خدّك الأيسر)(1)، فالشيء الذي جئت به لإصلاح الناس، لا أثر له سوى استنهاضك للشعب الهندي ضد بريطانيا.

قال غاندي: إن كلام المسيح - (عليه السلام) - حق، ولكنني أقول:

ص: 387


1- انظر الكافي 8: 138 وفيه: «.. وإن لطم خدك الأيمن فأعطه الأيسر».

إنّ على الإنسان أن يتحمل كل ما يعترضه من صعوبات، وأن يبقى مع الحق،والحق يكمن في تخليص أبناء بلدي من أيدي المستغلين.

وهذا له الأثر الواضح في عملية الإصلاح على مرّ التاريخ، وبشهادة الجميع سوى من عميت بصيرته، فإنه يرى استنهاض الشعب عملاً غير مفيد؛ لأنه يؤدي إلى فقدان مصالحه.

قصة من الواقع المؤلم

نقل لي أحد الأفاضل: أن وزيراً قاجارياً كان قد صادقه أيام زيارته للعراق، فنقل له هذه القصة:

كان في الجبال بين طهران وخراسان راهب مسيحي متبتّل متعبّد معروف في أوساط الناس بالزهد والانقطاع إلى اللّه تعالى، وكان في صومعة في الجبل، منذ أكثر من خمسين سنة، ولكني فوجئت ذات مرة بكتاب من الراهب يدعوني فيه لزيارته في يوم كذا؛ وحيث كنت أعرف زهده وتقواه، وكنت أجلّه واحترمه لبّيت دعوته، وحضرت عنده وإذا بي أجد عنده مجموعة من الناس تضم عدداً كبيراً من شخصيات البلد، وكلهم كانوا قد دعوا أيضاً، وبعد أن استقرّ بنا المجلس، قال الراهب: اعلموا أني لم أكن راهباً في يوم من الأيام وانما أنا من البريطانيين تلبّست بهذا الزيّ لخدمة وطني، وكنت أقوم في هذه المدة الطويلة بدور التجسس في إيران وأفغانستان؛ لغرض الحصول على المعلومات عن طريق العملاء!! والآن وأنا أحسّ باقتراب موتي أتوب إلى اللّه مما عملته، وإني أظهر لكم إسلامي، وأرجو إذا متّ أن تجهزوني كما تجهزون المسلمين، ثم بدأ يبكي ليثير فينا أكبر قدر ممكن من الشفقة عليه والعاطفة، فهذه طريقتهم دائماً.

ولعل خطوته الأخيرة هذه أي: إخبارهم بأمره، وإعلان إسلامه، وبكائه، أيضاً

ص: 388

كانت ضمن برنامجه الموجّه؛ لكي يبيّن لنا قوة دولته.

نعم، هكذا يتغلغل الاستعمار في بلادنا، يدسّ عملاءه في كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية التي تغطّ في سبات وجهل عمّا يدور حولها، مما يسهل الأمر للاستعمار بالتدخل في شؤوننا.

لذا لا بد أن لا ينخدع الإنسان بالمظاهر، فليس المعيار ظاهر الإنسان، وإنما المعيار القلب السليم والعمل النابع من الإخلاص والإيمان.

وهذه الأمور من الأمور الخفية التي لا تنكشف للإنسان إلّا إذا كان دعاة التغيير أصحاب فهم سياسي وبصيرة نافذة ترى الأشياء على واقعها، وكما في الحديث الشريف: «المؤمن ينظر بنور اللّه»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... واقطع عمّن ينسيك وصله ذكر اللّه تعالى، وتشغلك ألفته عن طاعة اللّه؛ فإن ذلك من أولياء الشيطان وأعوانه، ولا يحملنك رؤيتهم إلى المداهنة عند الخلق، فإن في ذلك خسراناً عظيماً نعوذ باللّه تعالى»(2).

وقال لقمان لولده: «... ولا تأمن من الأعداء؛ فإن الغل في صدورهم»(3).

من أوليات الفهم السياسي

إن من أوليات الفهم السياسي: أن نعرف أن هناك ثلاثة أشياء ليست من الإسلام في شيء، وإن جاء المستغلّون لها بألف حجة ودليل، وهي:

1- إن كل شيء يهدّد وحدة المسلمين، ويفرقهم على أساس من القومية أو الطائفية أو العنصرية، فهو ليس من الإسلام في شيء. والمفروض أن تذوب كل

ص: 389


1- بصائر الدرجات 1: 357.
2- مصباح الشريعة: 43.
3- الإختصاص: 338.

هذه التقسيمات من خلال وحدة الإسلام العظيم، الذي يرى كل المسلمينسواسية، وأنهم أخوة تتكافأ دماؤهم. فقد قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى»(2).

وأبرز مثال على ذلك هو: الأخوّة التي عقدها النبي بين الأنصار والمهاجرين، حيث كان الإسلام فوق كل الفوارق الأخرى، والتاريخ يشهد بقوة ذلك المجتمع من جرّاء وحدة القلوب، ومن ثم وحدة الصف(3).

2- إن كل من يصل إلى الحكم بلا استفتاء حرّ من الشعب، وبلا شورى منهم، ولا انتخاب واختيار، فهذه الصورة ليست من الإسلام في شيء، سواء كان وصوله إلى الحكم بسبب العشيرة، أو القبيلة، أو بسبب الملكية الوراثية، أو بسبب الانقلاب العسكري، أو بغير ذلك.

3- إن كل بلد يُجهر فيه بالمعاصي والمحرمات، وهو على مرأى ومسمع من الحكومة أو بتشجيع منها، فذلك دليل على انحراف تلك الحكومات عن الإسلام وابتعادها عنه.ولربما محاربتها له. فعلى التيار الإسلامي الذي ينشد التغيير أن لا تغيب عنه هذه الأساليب والألوان، التي تقوم بها تلك الحكومات.

دائماً مع الناس

اشارة

إنّ على الرجال المعنيين بقضية العراق أن يشخصوا العلاقات البارزة في

ص: 390


1- سورة المؤمنون، الآية: 52.
2- الإختصاص: 341.
3- انظر وسائل الشيعة 24: 283.

مستقبله، وهذا التحرك يجب أن يكون مقترناً بالإخلاص التام، والتوكل على اللّه- عزّ وجلّ - أولاً، وصمود الإرادة ثانياً، والابتعاد عن الاستبداد الحزبي ثالثاً.

فمن المغالطات في بعض التنظيمات الحزبية هو ابتعادها عن الناس، وعدم تفاعلها معهم، إلّا في المواقف الحرجة التي تفرض عليهم أن يتعاملوا مع الناس، والناس لا يتفاعلون إلّا مع من يتفاعل معهم، لا في قضاء الحاجات فحسب، بل في الآراء والأعمال أيضاً.

فإن الناس يريدون من هو منهم وإليهم، وهم منه وإليه، ولا يريدون جماعة تعمل خارج نطاقهم، وتتكبّر عليهم، وتستبد بالآراء دونهم؛ ولذا لا تتمكن أمثال هذه التنظيمات من تحريك الناس، فالواجب على المنظمات الإسلامية وأشباهها، وعلى من يريد إنقاذ المسلمين في العراق، وفي غير العراق أمران هما: الإستشارة، والتواضع. كما يوصينا بذلك أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: «الشركة في الرأي تؤدي إلى الصواب»(1).

وقال(عليه السلام): «لا تستصغرن عندك الرأي الخطير إذا أتاك به الرجل الحقير»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «التواضع أن تعطي الناس ما تحب أن تعطاه»(3).

وسئل(عليه السلام): ما حد التواضع الذي إذا فعله العبد كان متواضعاً؟

فقال(عليه السلام): «التواضع درجات، منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم، لا يحب أن يأتي إلى أحد إلّا مثل ما يؤتى إليه، إن رأى سيئة درأها(4)

ص: 391


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 107.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 750.
3- الكافي 2: 124.
4- درأها: دفعها.

بالحسنة، كاظم الغيظ عاف عن الناس، واللّه يحب المحسنين»(1).

تحمّل المصاعب

إنّ على المعنيين بقضية العراق، وتحريره من الكابوس الجاثم على صدره، أن يتحملوا الصعوبات والمشاقّ؛ فإن تحملها يسجل للإنسان التأريخ المشرق، ويدفع الأجيال إلى الأمام؛ وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «إن اللّه عزّ وجلّ فرض الجهاد وعظمه وجعله نصره وناصره، واللّه ما صلحت دنيا ولا دين إلّا به»(2).

ولذا نرى تحمل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المشاق الجسدية والروحية، حتى قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما أوذي نبي مثلما أوذيت»(3)

وهكذا الأئمة المطهرون(عليهم السلام) ومن سار على نهجهم من الأولياء والمخلصين والعلماء.

التعددية الحزبية

اشارة

قال تبارك وتعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(4).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب»(5).

من المفردات السياسية المهمة التي يجب أن يحملها الإنسان المغيّر، هي الإطلاع والمعرفة بفوائد التعددية الحزبية، والأضرار الناجمة عن نظرية الحزب الواحد، الذي عادة ما يؤدي إلى ظهور الدكتاتورية، بينما التعددية تعطي فرصة للشعب وللأفراد، واللّجوء إلى أيّ حزب أرادوا، وإعطاء صوتهم لأي حزب يرون

ص: 392


1- الكافي 2: 124.
2- الكافي 5: 8.
3- مناقب آل أبي طالب(عليه السلام) 3: 247.
4- سورة الشورى، الآية: 38
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 158.

أنه يخدم الشعب، ويحافظ على وحدته.

ففي ظل التعددية يرتفع ستار الجبر والضغط على الشعب، وتتوفر الحريات ضمن إطار الشرع المقدس، وبموجبها يعلن الفرد ويصرح عن رأيه.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «امخضوا الرأي مخض السقاء ينتج سديد الآراء»(1).

الأحزاب في العراق

كان في العراق (44) حزباً - كما أتذكر - وكانت جميعها تعمل بحرّية - نسبياً - . وكان أكبر هذه الأحزاب أربعة منها، وهي: حزب الاستقلال، وحزب الدستور، والحزب الديمقراطي، وحزب الأمة. فعلى الرغم من أن هذه الأحزاب لم تكن إسلامية، ولانقرّ بها؛ لأنّ الحزب في نظرنا يجب أن يستمد مبادئه من القرآن الكريم والسنة الشريفة، ويتّبع القيادة الرشيدة للمرجعية، إلّا أنها كانت أحزاباً وطنية، وتقوم أحياناً على خدمة الناس والبلاد، والدفاع عنهما، وحل مشاكل الأفراد؛ ولذلك كان الناس يعكسون احترامهم وتقديرهم لهذه الأحزاب. بينما في نظرية الحزب الواحد، غالباً ما تُفرض سياسة الحزب ورؤاه الخاصة على الأمة، فيكون الأفراد مجبرين على سياسة هذا الحزب، ولا خيار لهم، لخلو الساحة من أي منافس آخر.

المعالم الواضحة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليف إذا وعد»(2).

وعن سليمان الجعفري قال: قال أبو الحسن الرضا(عليه السلام): «أتدري لم سمي إسماعيل صادق الوعد؟».

ص: 393


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 158.
2- الكافي 2: 364.

قلت: لا أدري.

قال: «وعد رجلاً فجلس حولاً ينتظره»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من المروءة أن تقتصد فلا تسرف وتعد فلا تخلف»(2).

من الضروري للعاملين والساعين نحو مستقبل العراق أن يوضحوا معالم طريقتهم وسياستهم ومفرداتها، وأن يحذروا الخوض في الوعود - بلا ميزان - للناس، سواء قبل الوصول إلى الحكم، أو بعد الوصول إليه، فإن الإنسان قد يحاول بسبب الوعود الخلاّبة أن يجتذب الناس حوله، بينما ذلك يأتي بعكس النتيجة، فإنه كثيراً ما لا يتمكن الإنسان من الوفاء بوعده، فينفضّ الناس من حوله، على أنه ينبغي لنا جميعاً أن لا ندّخر وسعاً لتقويم كل اعوجاج، وللوقوف بوجه كل من يعمل ضد حرية الناس، وضد حقوق المسلمين، وغير المسلمين.

البرنامج المتكامل

إن وضوح المعالم لا يقتصر على المفردات الداخلية للعمل السياسي، بل تشمل القضايا الإقليمية والدولية، فمثلاً: إن مسألة الجوار، وحسن التعامل والترابط من أهم المسائل في عالم اليوم، فلا بدّ من الإلتقاء مع الجيران وتنسيق الخطوات، ووضع نوع الروابط، التي يجب اختيارها مع هذه الدول المجاورة للعراق. وجعل هذه النقطة من الأسس الرئيسية التي تثبت في برنامج العمل المستقبلي. فلا بد من إيجاد صيغة للتفاهم مع الدول المجاورة.

كما أن البعض يتصور أن الحصول على التأييد الشعبي الكبير بإلقاء الوعود

ص: 394


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 79.
2- عيون الحكم والمواعظ: 473.

الفارغة، وتحسين الصورة من قبل أتباعه، من أهم خطوات العمل. ولكن الأمر على العكس تماماً؛ إذ أن الدخول في منافسات التأييد الشعبي مع الآخرين سوف يرهق الأموال والخزينة ويستنزفها، وبالتالي سيأتي يوم تسحب الجماهير منه تأييدها، بمجرد التقصير في أدنى نقطة في الحياة الاجتماعية ونظمها، وهذا سيؤدي إلى السقوط أو الضعف الواضح، الذي يؤدي هو بدوره إلى فتح جبهات مناهضة.

إن السير مع الجماهير بإخلاص تام، وخدمتهم بأكبر قدر ممكن، وعدم تجاهل أي منهم، وتوضيح خط سير الحركة الإسلامية التغييرية، وإعلان شعار واضح، وإبراز رجال لا تحوم حولهم الشبهات، كل ذلك هو المهم في عمل القادة والحركات؛ لأن الجماهير هي أساس الحكم، وليس شخص الحاكم أو الحركة، وكذلك بناء علاقات إنسانية مستقلة ومتينة مع الجيران، دون غموض أو تبعية، ورفع الحواجز والقيود التي وضعها المستعمرون في البلاد الإسلامية، من حدود ووثائق تُقيّد حرية الفرد والأمة.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة. اللّهم ما عرّفتنا من الحق فحمّلناه، وما قصرنا عنه فبلّغناه»(1) بحق محمّد وآله الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

الأمانة

قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ}(2).

ص: 395


1- مصباح المتهجد 2: 581.
2- سورة المؤمنون، الآية: 8.

وقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(2).

وقال عزّ شأنه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا}(3).

وقال سبحانه: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَٰنَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}(4).

الوعي

قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ}(5).

وقال سبحانه: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَٰنَ اللَّهِ وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(7).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا}(8).

ص: 396


1- سورة الأحزاب، الآية: 72.
2- سورة الأنفال، الآية: 27.
3- سورة النساء، الآية: 58.
4- سورة البقرة، الآية: 283.
5- سورة الأنعام، الآية: 104.
6- سورة يوسف، الآية: 108.
7- سورة الحاقة، الآية: 12.
8- سورة المزمل، الآية: 19.

الإصلاح

قال جلّ وعلا: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(1).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(2).

وقال سبحانه: {فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(3).

وقال تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}(5).

الإخلاص

وقال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(7).

وقال سبحانه: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}(8).

ص: 397


1- سورة النساء، الآية: 114.
2- سورة النساء، الآية: 145-146.
3- سورة الأعراف، الآية: 35.
4- سورة الأنفال، الآية: 1.
5- سورة هود، الآية: 88.
6- سورة النساء، الآية: 146.
7- سورة الأعراف، الآية: 29.
8- سورة الزمر، الآية: 3.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}(1).

وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الأمانة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أكفلوا لي ستةً أكفل لكم بالجنة: إذا تحدّث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف...»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزال أمتي بخير، ما تحابوا وتهادوا وأدوا الأمانة واجتنبوا الحرام ووقروا الضيف وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة، فإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين»(5).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده؛ فإن ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(6).

وقال(عليه السلام): «عليك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار، وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زيناً

ص: 398


1- سورة البينة، الآية: 5.
2- سورة التوبة، الآية: 105.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 27.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 108.
5- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 29.
6- الكافي 2: 105.

ولا تكونوا شيناً، وعليكم بطول الركوع والسجود، فإن أحدكم إذا أطال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال: يا ويله، أطاع وعصيت، وسجد وأبيت»(1).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إن أهل الأرض لمرحومون ما تحابوا وأدوا الأمانة وعملوا بالحق»(2).

الوعي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة يذكر فيها آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية(4)، لا عقل سماع ورواية فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل»(5).

وقال(عليه السلام) لكميل بن زياد: «يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع(6) أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الانفاق، وصنيع المال يزول بزواله...»(7).

ص: 399


1- الكافي 2: 77.
2- مشكاة الأنوار 52.
3- الكافي 1: 33.
4- عقل الوعاية: حفظ في فهم. والرعاية: ملاحظة أحكام الدين وتطبيق الأعمال عليها وهذا هو العلم بالدين.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 239، من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
6- الرَّعاع: سفلة الناس.
7- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 147، من كلام له(عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي.

الإصلاح

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي أيوب الأنصاري: «يا أبا أيوب ألّا أخبرك وأدلّك على صدقة يحبها اللّه ورسوله: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتباعدوا»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثابروا على صلاح المؤمنين والمتقين»(2).

وقال(عليه السلام): «من كمال السعادة السعي في إصلاح إصلاح الجمهور»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما عمل رجل عملاً بعد إقامة الفرائض خيراً من إصلاح بين الناس، يقول خيراً ويتمنى خيراً»(4).

الإخلاص

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مخبراً عن جبرئيل عن اللّه عزّ وجلّ أنه قال: «الإخلاص سرّ من أسراري أستودعته قلب من أحببت من عبادي»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بالإخلاص فإنه سبب قبول الأعمال وأشرف الطاعة»(6).

وقال(عليه السلام): «من عري عن الهوى عملُه حَسُن أثره في كل أمر»(7).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما أخلص العبد الإيمان باللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - أو قال: ما أجمل عبد ذكر اللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - إلّا زهّده اللّه عزّ وجلّ في الدنيا وبصّره داءها ودواءها، فأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه» ثم تلا:

ص: 400


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 6.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 334.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 678.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 522.
5- منية المريد: 133.
6- عيون الحكم والمواعظ: 335.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 657.

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(1) «فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلاً، ومفترياً على عزّ وجلّ وعلى رسوله وعلى أهل بيته صلى اللّه عليهم إلّا ذليلاً»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الإخلاص يجمع فواضل الأعمال، وهو معنى، مفتاحه القبول وتوقيعه الرضا، فمن تقبل اللّه منه ورضي عنه فهو المخلص وإن قلّ عمله ومن لا يتقبل اللّه منه فليس بمخلص وإن كثر عمله اعتباراً بآدم(عليه السلام) وإبليس»(3).

ص: 401


1- سورة الأعراف، الآية: 152.
2- الكافي 2: 16.
3- بحار الأنوار 67: 245.

دور الاستعمار في تفكيك الأمة

الأمة الإسلامية الواحدة

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

تشير الآية الكريمة إلى واحدة من أهم القوانين الإسلامية الحيوية وهي قانون الأمة الواحدة، فالأمة الإسلامية - وبصريح القرآن - أمة واحدة لا تتجزأ، ولا يصح جعلها أمماً متعددة يكون بعضها كالأجانب بالنسبة إلى البعض.

أما اعتبار بعض المسلمين أجانب، فهو حرام في الشريعة المقدسة، فليس هناك فرق بين لون ولون، ولا لسان ولسان، ولا عرق وعرق، ولا منطقة ومنطقة، فالعراقي والهندي والإيراني والخليجي والمصري والمغربي و.... كلهم يشكلون أمة واحدة وشعباً واحداً تحت نظام واحد وقانون واحد وبلد إسلامي واحد للجميع.

فلا يحق منع أي فرد مسلم في أي دولة إسلامية من الإقامة والعمل، والسفر والحضر، والزواج والمتجر، والمشاركة في أي نشاط سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وما أشبه.

فالآية الكريمة تخاطب المسلمين جميعاً وتصرح لهم: بأنكم أمة واحدة،

ص: 402


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.

وتنتمون لشريعة واحدة، وقانون واحد، ورب واحد، ومعبود واحد، فاللّه تعالى هو الرب والصانع لكل المخلوقات، وهو الوحيد الذي يستحق العبادة، ويجب على الجميع التمسك بشرعه واتباع هداه.

قال الشيخ الطبرسي(رحمه اللّه) في تفسير هذه الآية: أي هذا دينكم دين واحد، وأصل الأمة: الجماعة التي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماعهم بها على مقصد واحد(1).

ولكن هذا المعنى هو غير المعنى الظاهري للآية الكريمة، فإن الآية الواحدة ممكن أن يقصد بها عدة معان، فإذا فسرت بمعنى لا يعني نفي المعنى الآخر.

فالمعنى الظاهري للأمة الواحدة هي الجماعة الواحدة كما صرح به المفسرون، في مقابل الأمم المتعددة المتناحرة المتضاربة.

كما يمكن الاستفادة من الآية الكريمة في عموم نشر الرسالة، دون تخصيصها بقوم دون قوم، على ما ذكرناه في (التقريب):

{إِنَّ هَٰذِهِ} أي: البشر المتناثر في الأرض المتباعد في الزمان {أُمَّتُكُمْ} أيها الأنبياء {أُمَّةً وَٰحِدَةً} فلا أمم تحت لواء الأنبياء، وإنما أمة واحدة... {وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ} رب واحد {فَاعْبُدُونِ} أي أطيعوني واتخذوني إلهاً دون غيري(2).

ويمكن أيضا أن يستفاد من الآية ضرورة تمسك الأمة بالحق في المعتقدات وعدم تشتتهم في العقائد، فهم أمة واحدة، ولا يجوز أن يختار كل واحد منهم وبحسب هواه معتقداً وديناً وشرعاً، بل على الكل أن يتبع القرآن الكريم والرسول العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) والأوصياء الطاهرين

ص: 403


1- تفسير مجمع البيان 7: 111.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 569.

المعصومين(عليهم السلام).كما قال تعالى: {وَمَا ءَاتَىٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(2).

آية الأمة الواحدة

مع كل هذه المعاني المذكورة، تبقى آية الأمة الواحدة المذكورة في سورة الأنبياء(3) حجة في معناها الظاهري، فالأمة تحت راية كل نبي هي أمة واحدة، والأمة الإسلامية هكذا، لا يمكن أن نجعلها أمما مختلفين، كما صنعه الغرب في بلادنا، حيث يعتبر العراقي في إيران، وكذلك العكس، أجنبياً.

بل العراقي والإيراني والهندي والأفغاني والتركي والكردي و... كلهم سواء يشكلون أمة واحدة، لا فرق بينهم في القانون الإسلامي، فيحق لكل منهم أن يعيش في أي بلد إسلامي، من دون مراجعة لدائرة من دوائر الدولة لأخذ الإقامة أو دفع رسوم وضريبة.

كما يجوز له أن يسافر إلى أي بلد إسلامي آخر من دون حاجة إلى جواز سفر وتأشيرة وما أشبه.

كما يجوز له أن يعمل في أي بلد إسلامي ويؤسس المصانع والمتاجر والمزارع وما أشبه بلا حاجة إلى أخذ رخصة أو دفع ضريبة.

ص: 404


1- سورة الحشر، الآية: 7.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} سورة الأنبياء، الآية: 92.

كما يجوز له أن يتزوج بأي امرأة من أي بلد إسلامي مراعياً الشروط الشرعيةالمقررة، وكذلك بالنسبة إلى الفتاة المسلمة أن تتزوج بأي مسلم من أي بلد إسلامي.

وهكذا له أن يستفيد من حقوقه كمواطن في أي بلد إسلامي، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والأسرية وغيرها.

أما ما نراه اليوم من تشتيت الأمة الإسلامية، فهذا عراقي، وذاك إيراني، والآخر هندي، وأفغاني، ومصري وجزائري و... بحيث يحرم من حقوقه في بلد آخر ويعامل معه كالأجنبي، فهو خلاف صريح الإسلام.

على أرض الواقع

وعلى أرض الواقع، والتعايش الاجتماعي فيلزم أن يبقى الناس كذلك أمة واحدة، لا فرق بين الأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، وقد نهاهم اللّه تعالى عن التفرقة والتشتت، فقال عزّ من قائل: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1).

فالخطاب للمؤمنين: يا أيها المؤمنون، {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ} يعني: اليهود والنصارى، {مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ} أي من بعد ما نصبت لهم الأدلة، ولا يدل ذلك على عناد الجميع، لأن قيام البينات إنما يعلم بها الحق إذا نظر فيها، واستدل بها على الحق(2).

آية أخرى تؤكد على الأمة الواحدة

ثم لأهمية قانون (الأمة الواحدة) نرى أن هذه الآية جاءت مرة أخرى في

ص: 405


1- سورة آل عمران، الآية: 105.
2- انظر التبيان في تفسير القرآن 2: 550.

القرآن الكريم، وبشكل آخر في تتمتها، فالباري عزّ وجلّ أنزل (آية الأمةالواحدة) مرتين وجعلهما في كتابه العزيز، قال تعالى في سورة أخرى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(1).

فمرة وردت الآية في سورة الأنبياء.

ومرة في سورة (المؤمنون) مع فرق في نهايتهما.

المعصوم(عليه السلام) يؤكد على الأمة الواحدة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... والزموا السواد الأعظم، فإن يد اللّه مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان؛ كما أن الشاذ من الغنم للذئب»(2).

وقال(عليه السلام): «ليردعكم الإسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي(3)، ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين اللّه الذي لا يقبل من أحد غيره، وكلمة الإخلاص التي هي قوام الدين وحجة اللّه على الكافرين، واذكروا إذ كنتم قليلاً مشركين متفرقين متباغضين، فألف بينكم بالإسلام، فكثرتم واجتمعتم وتحاببتم، فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم، ولا تباغضوا بعد أن تحاببتم»(4).

وقال الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): «... فإنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلّا اشتد أمرهم واستحكمت عقدتهم»(5).

وقد طرحت السيرة النبوية هذه الوحدة طرحاً عملياً وطبقتها على أرض

ص: 406


1- سورة المؤمنون، الآية: 52.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127 من كلام له(عليه السلام) يبين فيه بعض أحكام الدين.
3- التباغي: ظلم بعضهم بعضاً، والتهاذي: التكلم بغير المعقول لمرض ونحوه.
4- الغارات 2: 272.
5- وقعة صفين: 114.

الواقع، وبينت الأسس التي تقوم عليها والمبادئ التي تعتمدها، وذلك في إطار دولة الإسلام المباركة التي أقامها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة، وحكّم فيها قانون الإسلام، فكل من كان يسلم من أي قومية أو لغة أو عرق أو لون، كان كسائر المسلمين بلا فرق، وكان واحداً من تلك الأمة الإسلامية.

فقانون الأمة الواحدة وهو قانون يفرز وحدة الأمة ويقويها حينما يمنع تجزئتها على صعيد الواقع، يقول الباري تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(1)، فلا يقبل هذا القانون تحول الدولة الإسلامية إلى دويلات متعددة ومتفرقة، ولهذا صرح الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خطبة حجة الوداع - مؤكداً على هذا الأمر - بقوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«... أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلّا بالتقوى، ألّا هل بلغت؟».

قالوا: نعم، قال: «فليبلغ الشاهد الغائب»(2).

وفي حديث آخر: قال سيدنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلّا بالتقوى، قال اللّه تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}»(3)(4).

وعن الأصبغ بن نباتة قال: أتى أمير المؤمنين(عليه السلام) عبد اللّه بن عمر، وولد أبي

ص: 407


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- تحف العقول: 34، باب ما روي عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في طوال هذه المعاني.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.
4- معدن الجواهر: 21.

بكر، وسعد بن أبي وقاص، يطلبون منه التفضيل لهم؟!

فصعد المنبر ومال الناس إليه فقال(عليه السلام): «الحمد للّه ولي الحمد... أما بعد أيها الناس، فلا يقولنّ رجال قد كانت الدنيا غمرتهم فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا أفره الدواب، ولبسوا ألين الثياب، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إن لم يغفر لهم الغفار، إذا منعتهم ما كانوا فيه يخوضون، وصيرتهم إلى ما يستوجبون، فيفقدون ذلك فيسألون، ويقولون: ظلمنا ابن أبي طالب، وحرمنا ومنعنا حقوقنا، فاللّه عليهم المستعان، من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وآمن بنبينا وشهد شهادتنا ودخل في ديننا، أجرينا عليه حكم القرآن وحدود الإسلام، ليس لأحد على أحد فضل إلّا بالتقوى، ألّا وإن للمتقين عند اللّه تعالى أفضل الثواب وأحسن الجزاء والمآب، لم يجعل اللّه تبارك وتعالى الدنيا للمتقين ثواباً، وما عند اللّه خير للأبرار. انظروا أهل دين اللّه في ما أصبتم في كتاب اللّه، وتركتم عند رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجاهدتم به في ذات اللّه، أ بحسب، أم بنسب، أم بعمل، أم بطاعة، أم زهادة، وفي ما أصبحتم فيه راغبين؟ فسارعوا إلى منازلكم رحمكم اللّه، التي أمرتم بعمارتها، العامرة التي لا تخرب، الباقية التي لا تنفد، التي دعاكم إليها، وحضكم عليها، ورغبكم فيها، وجعل الثواب عنده عنها. فاستتموا نعم اللّه عزّ ذكره بالتسليم لقضائه، والشكر على نعمائه، فمن لم يرض بهذا فليس منا ولا إلينا، وإن الحاكم يحكم بحكم اللّه، ولا خشية عليه من ذلك، أولئك هم المفلحون...»(1).

بداية التجزئة

اشارة

لقد نشأت الدولة الإسلامية الموحدة في المدينة المنورة في السنة الأولىللهجرة، وقد جعل الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أساس هذه الدولة: العدالة، والمساواة

ص: 408


1- الكافي 8: 360.

أمام القانون، والأخوة، والتعاون، والأمة الواحدة، وأول عمل قام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) به أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، وجعل أموالهم واحدة، وأهدافهم مشتركة، ومصالحهم واحدة، وقد كان هذا الاشتراك داعياً إلى الاتحاد أكثر.

وقد اتبع هذا النظام في المدن والبلاد العديدة، التي دخلت إلى الإسلام في ما بعد، فكان الجميع في ظل الأمة الواحدة.

ولما ارتحل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ربه، كانت الدولة الإسلامية قد امتدت إلى بلاد جديدة، خارج حدود المدينة ومكة، كاليمن وتبوك وأطراف الجزيرة العربية، وكانت بأجمعها تحت قانون الأمة الواحدة، وبعد وفاة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) توسعت الدولة الإسلامية أكثر، فشملت النوبة، ومصر، والشام، والعراق، وفارس، وأرمينية، وأذربيجان، وجرجان، وطبرستان، والأهواز، وغيرها، وكان السائد في البلاد هو قانون الأمة الواحدة، والدين الواحد، والهدف الواحد، والشعور الواحد، والقانون الواحد، بالرغم من وجود التسميات العديدة للبلاد. لأن تلك المسميات يومئذ لم تكن حاجزاً بين المسلم الذي يعيش في مصر وبين أخيه الذي يعيش في العراق مثلاً، وهكذا في البلاد الأخرى الإسلامية، ولم يكن - ببركة الإسلام - للنعرات القومية والإقليمية أو العنصرية يومئذ وجود.

وباختصار: فإن قانون الأمة الواحدة كان هو القانون الجاري بين المسلمين منذ عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى قرون عديدة.

أما الحدود والتقسيمات الجغرافية المصطنعة فقد ظهرت منذ خمسين سنة أو أكثر قليلاً(1). وإن كان في بداية التوسع الإسلامي قد بادر بعض المسلمين ممن

ص: 409


1- المحاضرة ألقيت قبل عام (1400)ه. علماً أن تقسيم البلاد الإسلامية قد برز بشكل واضح بعد انهيار الدولة العثمانية وخسارتها في الحرب العالمية الأولى، وبوشر بتنفيذ اتفاقية (سايكس - بيكو) بين الحلفاء المنتصرين في الحرب.

دخلوا الإسلام لمصلحة ذاتية بعض نوبات الاختلاف، غير أن وجود الأئمة المعصومين(عليهم السلام) بين الناس وتوجيههم لهم قد منع الدخلاء والأجانب والأعداء من توسيع دائرة التفرقة والخلاف ليظل الإسلام والأمة المرحومة شامخة وموحدة، وباءت بالفشل كل محاولات معاوية ويزيد وأضرابهما من الأمويين وممن غصب الخلافة، ومن تبعهم من العباسيين، ودسائسهم التي كانوا يحوكونها، من أجل طمس معالم الدين وإماتة أحكامه، وذلك بفضل المواقف الشجاعة والحكيمة التي سطّرها أئمة الهدى (عليهم الصلاة والسلام).

نعم، إن تشتت الأمة كما أشرنا، لم يخيم على بلادنا إلّا في العصور المتأخرة، حين استطاع الغرب والشرق، أن يضللا الناس ويجرانهم نحو الانحدار، حيث غيروا قانون الأمة الواحدة إلى قانون الأمة المتشتتة المتنازعة المتحاربة، وقاموا بتأجيج نار التفرقة والعنصرية والتعصب القومي ونحوه في ما بين الأمة. مضافاً إلى ما سعوا إليه من فصل الناس والجماهير عن قياداتهم الدينية ومراجعهم الشرعية.

وهكذا تحولت الأمة إلى أمم عديدة، والدولة إلى دول متفرقة، بل دويلات متناحرة، لا تقوى على أن ترد عن أنفسها ضرراً، أو تجلب لها نفعاً، ثم اصطنعت بحجة مواكبة العصر والتمدن موجة من التخلف والجاهلية المعاصرة، فاستبدلت بالأحكام الوضعية والثقافات المستوردة وأحلتها محل أحكام اللّه وتعاليم كتابه، وبهذا نمت المشكلات المعقدة، والنعرات الغربية على مجتمعاتنا، والتي بقيتآثارها إلى يومنا هذا حاكمة بين المسلمين، وهكذا نشاهد الآن، حكومات متعددة متناحرة، وقوانين متعددة تشتت الأمة، وبلاد متناثرة تحت نير الدول الاستعمارية.

ص: 410

المأساة والعلاج

يبلغ عدد المسلمين اليوم حسب بعض الإحصائيات المنشورة مليار مسلم(1). لكنهم مبعثرون جغرافياً، وإقليمياً، ونفسياً، وأغلبهم يعيشون تحت سيطرة الاستعمار، والاستغلال الأجنبي.

وقد تبدلت القوانين الإسلامية في البلاد الإسلامية إلى قوانين وضعية وهدامة، مدسوسة من الغرب والشرق، بعدما كانت قوانين إلهية سهلة سمحة، وهذا سبب للبلاد الإسلامية التجزؤ والتشتت والوقوع تحت نير الاستعمار، حيث نشأ من عدم اتخاذ الإسلام - بالكامل - منهجاً عملياً في الحياة، وقد صدق اللّه سبحانه وتعالى حيث قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(2). أي: ومن أعرض عن القرآن وقوانينه وأحكامه، وعن الدلائل التي أنزلها اللّه لعباده، وصدف عنها، ولم ينظر فيها، وعن الحجج التي نصبهم أئمة للخلق، فتركهم ولم يتبعهم {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي: عيشاً ضيقاً، وهو أن يقتر عليه الرزق عقوبة له على إعراضه، فإن وسع عليه فإنه يضيق عليه المعيشة بأن يمسكه ولا ينفقه على نفسه. وإن أنفقه فإن الحرص على الجمع وزيادة الطلب يضيق المعيشة.(3)

ومن تفسير هذه الآية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي لم يتبع أوامري التي ذكرته بها، وسميت الأوامر ذكراً لما أودع في فطرة الإنسان من أصولها وجذورها،{فَإِنَّ لَهُ} في الدنيا {مَعِيشَةً ضَنكًا} أي ضيقة؛ وذلك لأن أوامر اللّه سبحانه هي الملائمة للحياة، فالإعراض عنها يوجب ضيق العيش مادياً أو روحياً، ولذا نرى الكفار في أوج ماديتهم الظاهرية في أضنك الحالات الروحية وأضيق المجالات

ص: 411


1- وفي بعض الإحصائيات الأخيرة ذكر أن نفوس المسلمين يناهز المليارين.
2- سورة طه، الآية: 124.
3- انظر تفسير مجمع البيان 7: 63.

النفسية {وَنَحْشُرُهُ} أي نحشر المعرض، ومعنى الحشر جمعه مع سائر بني نوعه {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ} عن العين لا يرى شيئاً(1).

والضنك: معناه الضيق، الذي هو ضد السعة، كما ذكره الراغب في المفردات(2).

وإن ذكر اللّه سبحانه وتعالى يعني السعة والتحرر من العبودية ومن الانحلال ومن الأهواء الشيطانية.

ومن الواضح: أن الذكر العملي من أجلى مصاديق الذكر، وذلك باتباع الأحكام الإلهية، من دون استثناء أو تبعيض، فإنها مناهج عملية للمسلمين في كل شؤون حياتهم، فإن صلاة الجماعة، والأمر بالمعروف، والصوم، والحج، والتصدق، والجهاد، وغيرها، كلها أعمال عبادية تتضمن مفاهيم سياسية، فيها رضا اللّه تعالى، كما تتضمن مفاهيم اجتماعية تدعو المسلمين للاجتماع والقوة، والاكتفاء الذاتي، والتحرر من الاستعمار ومن القوانين الوضعية، والسعة في العيش الرغيد، بدون قيود. ولقد لمس الناس كل هذه الصورة الجميلة في إطار الدولة الإسلامية الموحدة في زمن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام).(3)

وقد استفاد أعداء الإسلام من القوانين الإسلامية الحيوية في تمشية أمور حياتهم وتطورهم وتقدمهم، وعملوا ليل نهار على أن لا يعمل المسلمون بها لكي يتأخروا، وكانت النتيجة ما نشاهده اليوم ونلمسه من مظاهر الضعف والتمزق والتخلف في الأمة وفي كل المجالات! ولا تكاد تمر بنا فترة دون أن

ص: 412


1- تفسير تقريب القرآن 3: 515.
2- مفردات غريب القرآن: 512، مادة (ضنك).
3- انظر كتاب: (حكومة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام))، و: (الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين(عليه السلام)) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

تصدمنا أنباء حرب هنا، ونزاع هناك بين تلك الدولة الإسلامية وجارتها الإسلامية الأخرى... وما ذلك إلّا بسبب الإعراض عن ذكر اللّه، وهجران أحكامه وقوانينه وخاصة قانون الأمة الواحدة. فالعيشة ضنك، والسمة جهل وتأخر، وانهيار تام.

وها نحن جميعاً نرى المأساة الأخيرة، للشعب الأفغاني ذلك البلد المسلم، الذي لاقى شتى أنواع الظلم والاضطهاد على أيدي الشيوعية الظالمة، عندما أرسل السوفييت عشرات الألوف من قواتهم وعملائهم للقضاء على كرامة الإنسان المسلم واستعماره في أفغانستان، فجاءوا إليها كالسيل الجارف، وهم يحملون روح الشر والعدوان ضد الإسلام والمسلمين، فكان دأبهم اليومي هو قتل المسلمين وهدم بيوتهم، وزجّ القسم الآخر منهم إلى السجون، وتعذيبهم بأبشع أنواع التعذيب، وغالبية المسلمين يتفرجون، فكيف حدث ذلك في هذا البلد المظلوم؟(1)

إن ذلك لم يحدث فجأة، وبدون تخطيط وعمل. إذ أننا لو رجعنا إلى الوراء قليلاً وبحثنا في التأريخ لأدركنا سبب ما يحدث في هذا البلد وسائر البلدانالإسلامية.

حكومة القاجار في إيران

كانت الحكومة القاجارية، قبل ما يقارب ال(250) سنة هي الماسكة بزمام الحكم في إيران، ولقد جاء القاجار بحالتين إلى هذه الدولة، ولا نريد البحث

ص: 413


1- بعد إنقلاب عام (1978م) الذي جاء بالحزب الشيوعي للحكم إلى أفغانستان بدأت حركة الرفض الشديد للنظام الشيوعي القائم، فأخذت الدولة الشيوعية حملة من الاعتقالات ضد الشعب الأفغاني، مما أثار موجة استياء عامة أعقبها حركة هجرة من البلاد، وموجة من المقاومة الشعبية في أطراف البلاد ضد الحكم الجديد، ومن خلال هذه الأحداث وجد السوفييت الفرصة السانحة لغزو أفغانستان فدخلوا العاصمة كابل عام (1979م)، وقد مر الغزو السوفيتي بثلاث مراحل مهمة:

بشكل مفصل في هذا الجانب هنا. ولكن للإشارة فقط نقول: إنه لم يكن اسم الحكومة الروسية قبل (150) سنة (السوفييت(1)) ولم يكن النظام الشيوعي بعد قد ظهر هناك إلى الوجود. وكانت الديانة الحاكمة هي المسيحية. ولاشك في أنه قبل ظهور الحكومة المسيحية فيها، أي قبل (450) سنة، كانت - الغالبية العظمى - في بلاد السوفييت تحت الحكم الإسلامي، حتى أنه يذكر بأن المسلمين هم الذين بنوا قصور الكرملين(2). ولكن بعد ذلك سيطرت الدولة المسيحية التي جاءت بدعم الدول الغربية زمام الحكم من المسلمين، وذلك عبر مؤامرة ماكرة مفصلة مذكورة في التاريخ.

وأن أول ما فعلته الحكومة المسيحية بعد مجيئها إلى الحكم كان اغتصاب الأراضي الواسعة من بلاد المسلمين التي تشمل اليوم الجمهوريات ذات الأغلبيةالإسلامية وهي: (أوزبكستان، داغستان، طاجيكستان، القفقاز، قرقيزيا، أرمينيا، وتركمنستان).

ووقعت هذه الحوادث في زمن كان حكام القاجار مشغولين بالبذخ والترف والليالي الماجنة، فالانحلال كان سمة الدولة البارزة، مما أدى إلى انحلال الحكومة القاجارية في إيران، وقد كان في نية الحكومة الروسية أن تضم إليها كل

ص: 414


1- السوفيت: كلمة روسية معناها مجلس وهي الوحدة الأولى التي تشغل قاعدة التنظيم السياسي في روسيا، وقد شكلت أولاها عام (1905م) باعتبارها لجان ثورية نظمها الاشتراكيون الثائرون من عمال المصانع.
2- الكرملين: هي نوع من القلاع في عدة مدن روسية كان تستخدم مقراً للإدارة ومركزاً دينياً، وفي نفس الوقت تكون حصوناً لصد الغارات الحربية في العصور الوسطى، ومن أشهر هذه القلاع كرملين استرخان، وقازان، وموسكو، وبسكوف، ونفغورد. أما قصر الكرملين الشهير اليوم: فهو القصر الذي بني في القرن التاسع عشر، وقد أعاد السوفيت بناءه ليكون مقراً لمجلس السوفيت الأعلى (برلمان الأتحاد السوفيتي) والحكومة.

الأراضي الإيرانية، ولكنها واجهت مقاومة شديدة وفعالة من قبل رجال الدين، كان أبرز زعماء هذه المقاومة المرجع الديني الكبير السيد محمد المجاهد(رحمه اللّه) وغيره من العلماء، الذي حاول أن يصدهم عن هذا العمل، وبالفعل تمكن من الحؤول دون استيلائهم على كل الأراضي الإيرانية.

ونفوس السوفييت الآن ما يقارب ال(260) مليون نسمة، وفي إحصاءاتهم أن عدد المسلمين عندهم ما يقارب ال(50) مليون نسمة، ولكن حسب بعض الإحصاءات الأخرى فإن عدد المسلمين في الاتحاد السوفييتي يزيد على ذلك بكثير!

إن هذا العدد الهائل من المسلمين، هم اليوم واقعون تحت ضغط وأذى الحكومة السوفيتية، وعندما تبدلت الحكومة القيصرية، إلى حكومة شيوعية، كانت نتيجة هذا التغيير والتحول، هو قتل (50) ألف رجل دين، و(5) ملايين مسلم، بسبب عدم تقبلهم للأفكار الشيوعية الملحدة، وتمسكهم بالدين الإسلامي، واتباعهم العلماء والمراجع العظام.

إضاعة أفغانستان

ولما كانت الحكومة القاجارية مشغولة بالترف والبذخ واللّهو، والانشغال بالنساء، وأمثال هذه التوافه، وقد دبّ الضعف الشديد في رجال الحكمالقاجاري بحيث تسلمت امرأة تدعى (مهد العليا) رئاسة الحكومة، وكان من صفات هذه المرأة أنها لو غضبت على أي شخص، تأمر جلاوزتها أن يقلعوا عينيه من محجرهما، وفي أحد الأيام غضبت (مهد العليا) على (عباس ميرزا)(1)، وأصدرت الأمر بقلع عينيه، ففر عباس ميرزا حافي القدمين ولجأ إلى السفارة

ص: 415


1- ابن فتح علي شاه ولي العهد وحاكم أذربيجان.

الإنكليزية، لكي يحافظ على حياته، وعندما كتبت الملكة (مهد العليا) رسالة إلى السفير الإنكليزي تطلب فيها إخراج عباس ميرزا من السفارة وتسليمه إليها، رد السفير الإنكليزي على ذلك، فقال: إن عباس ميرزا يعتبر لاجئاً سياسياً، ومسؤولية الحفاظ على حياته تقع على السفارة.

ومن الواضح، أن السفير الإنكليزي، لم يرد بهذا الرد لأجل سواد عيون عباس ميرزا، وإنما هي المصلحة والأطماع، فإن الإنكليز كانوا يريدون من وراء هذا الجواب، تحقيق أهداف أكبر، وأهم... كما سنشير إليه.

وفي أحد الأيام، وصلت رسالة إلى الملكة من بريطانيا مفادها: إنكم تجاسرتم علينا، ولا نرى جزاءً لتجاسركم هذا، إلّا بدخول الجيش الإنكليزي في الأراضي الإيرانية!

وبعد فترة، دخل الجيش الإنكليزي مدينة بوشهر، عن طريق البحر. وبدأ بالتوغل في الأراضي الإيرانية، إضافة إلى الأعمال البشعة التي قام بها من القتل والسلب وانتهاك أعراض الناس، ومصادرة أموالهم وتخريب الأراضي الزراعية، وتدمير الأماكن العامة.

وهنا وجدت الملكة (مهد العليا) نفسها ضعيفة، أمام الزحف الإنكليزي فيبلدها، فارتأت أن ترتكب جناية أخرى في حق الشعب الإيراني، وكانت الجناية أنها (أعطت أفغانستان هدية للإنكليز، في مقابل توقف الزحف الإنكليزي، من الحدود الجنوبية نحو العاصمة)، وكان هذا من الأسباب الرئيسية لانفصال أفغانستان عن إيران، وجعلها دولة مستقلة منفصلة، واقعة تحت سيطرة الإنكليز.

مسؤولية المسلمين أمام الزحف السوفييتي

لما هجم جيش السوفييت على أفغانستان وسيطر عليها، قام الجيش الكافر

ص: 416

خلال ال(20) شهراً الأولى من غزوه للأراضي الأفغانية، بقتل ما يقارب ال(200) ألف إنسان، وشرد مليونين آخرين فروا بأنفسهم، لا يمتلكون ملجأً يلتجئون إليه، هذا بالإضافة إلى (100) ألف شخص مفقود و(50) ألف معوّق(1).

فعلى المسلمين في كل أنحاء العالم، أن لا يسمحوا للروس وغيرهم من المحتلين المغتصبين بالاستمرار في جورهم وظلمهم للمسلمين في أفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين، ويلزم عليهم العمل في سبيل إعلاء كلمة (لا إله إلّا اللّه)، في ذلك البلد المستضعف، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ...}(2). والمستضعف في أوضح معانيه: هو ذلك الشخص الذي سلبوا منه كرامته وحريته، وسلطوا عليه شتى أنواع الأذى والتعذيب، مضافاً إلى أن مجاهدة العدو فرض على جميع أبناء الأمة، بحيث لو تركوا الجهاد، لأتاهم العذاب من بين أيديهم ومن خلفهم.

فالحث من اللّه سبحانه على تخليص المستضعفين هو المستفاد من الآيةالكريمة، حيث قال عزّ وجلّ: {وَمَا لَكُمْ} أيها المؤمنون {لَا تُقَٰتِلُونَ} فأي عذر لكم في ترك القتال مع اجتماع الأسباب الموجبة للقتال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طاعة اللّه، وقيل: في دين اللّه، أو في نصرة دين اللّه. أو في اعزاز دين اللّه وإعلاء كلمته، {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} أي: وفي المستضعفين، أو في سبيل المستضعفين: أي نصرتهم، وقيل: في إعزاز المستضعفين وفي الذب عنهم {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ} وقيل: يريد بذلك قوماً من المسلمين بقوا بمكة ولم يستطيعوا

ص: 417


1- هذه الإحصاءات هي إلى عام 1400ه، وإلّا فقد ارتفعت النسبة بكثير بعد ذلك.
2- سورة النساء، الآية: 75.

الهجرة(1).

وسئل الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): عن الجهاد أسنّة هو أم فريضة؟ قال(عليه السلام): «الجهاد على أربعة أوجه: فجهادان فرض، وجهاد سنة لا يقام إلّا مع فرض، وجهاد سنة، فأما أحد الفرضين: فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي اللّه عزّ وجلّ وهو من أعظم الجهاد، ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض، وأما الجهاد الذي هو سنة لا يقام إلّا مع فرض؛ فإن مجاهدة العدو فرض على جميع الأمة، ولو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب، وهذا هو من عذاب الأمة، وهو سنة على الإمام أن يأتي العدو مع الأمة فيجاهدهم، وأما الجهاد الذي هو سنة، فكل سنة أقامها الرجل، وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها، فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال، لأنه إحياء سنة»(2).

ولكن المسلمين اليوم تركوا الجهاد، ولم يلبوا نداءات المستضعفين في أفغانستان؟!

ولم يتصدوا لطغيان وظلم وأطماع القوى المستكبرة التي لا تراعي أي حقومبدأ من أبسط حقوق الإنسان، إلّا في سبيل تحقيق مصالحهم الخاصة غير المشروعة، ولا تهتم أبداً للأعداد الهائلة التي سحقتها أسلحتها الفتاكة؟! فإن هؤلاء المحتلين يصرحون وبكل صلافة: إنا لو قتلنا جميع الناس، وبقي لنا عشرهم يقبلون الشيوعية كان ذلك كافياً لنا. إن إفناء مليارات البشر لا تحرك فيهم شعرة، وفي المقابل ترى القرآن يصرح: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(3).

ص: 418


1- انظر تفسير مجمع البيان 3: 132.
2- الخصال 1: 240.
3- سورة المائدة، الآية: 32.

ماذا يعمل الأعداء

يعمل الأعداء ليل نهار على تفتيت الأمة الإسلامية، فإن الأمة إذا كانت (أمة واحدة) كما جعلها الباري عزّ وجلّ وأمر بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام)... لم يتمكن أحد من السيطرة عليها ونهب ثرواتها.

فلا بد من العمل الدؤوب حتى إرجاع قانون (الأمة الواحدة) للمسلمين.

فإن أهل الباطل يعملون لباطلهم بكل جد واجتهاد، في كل صغيرة وكبيرة.

فهل رأيتم اليهود أو سمعتم عنهم في مشاريعهم التي تصب في خدمة مصالحهم، والتي يهدفون من ورائها دعم قضاياهم ومخططاتهم الباطلة والظالمة؟

فباستطلاع بسيط في قضايا اليهود، يرى الإنسان الكثير من البرامج والمشاريع الصغيرة والكبيرة التي لا غاية منها إلّا دعم مخططاتهم. وكمثال على ذلك نذكر هذه القصة:

نقل أحد تجار طهران قائلاً: ذهبت مرة إلى أحد تجار الأقمشة الكبار، وبعد أن اشتريت مقداراً من القماش من صاحب المحل، أعطاني صندوقاً صغيراً،وقال: إنك رجل طيب وتحب الخير، فخذ هذا الصندوق واجمع فيه بعض المساعدات والتبرعات لإسرائيل!

يقول التاجر الطهراني: ارتجف بدني، وشعرت بالمهانة الشديدة لجرأة هذا التاجر على جمع المال لليهود المغتصبين وفي البلاد الإسلامية!! فقلت له في غضب: لو كنت أعلم بأنك إسرائيلي، وتدعم المعتدين من اليهود لما اشتريت منك شيئاً أبداً.

نعم، هذا هو دأب اليهود، وشغلهم الشاغل، فهم يهتمون دائما وبكل جد في سبيل الحفاظ على عقيدتهم المنحرفة، ويبذلون جهداً واسعاً في دعم كيانهم

ص: 419

الغاصب، وإن بعض الإسرائيليين يوزعون المئات، بل الآلاف من أمثال هذه الصناديق الصغيرة بين الناس، لأجل مساندة إسرائيل الغاصبة.

وبحجم هذه التحديات الخطيرة، فالمسؤولية الملقاة على عواتقنا كبيرة وخطيرة جداً، وتحتاج إلى بذل الجهد في جميع المجالات لنشر الإسلام ومبادئه الحقة.

التخلص من المآسي وإرجاع قانون الأمة

اشارة

هناك عدة نقاط رئيسية في مسألة العلاج للخروج من مأساة المسلمين والتخلص من الاستعمار، وإرجاع قانون (الأمة الواحدة)، نذكرها باختصار:

الأول: الوعي

لا بد من تعميم الوعي الإسلامي، ومن اللازم على كل مسلم أن يعمم الثقافة الإسلامية في جميع جوانب الحياة الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وخاصة ما يرتبط بقانون (الأمة الواحدة) وذلك بواسطة كافة الوسائل الإعلامية المتاحة، كالإذاعة والصحف والمجلات والنوادي والكتبوالمؤتمرات وغيرها.

ولعلنا نحتاج إلى طبع ملياري كتاب لننشرها في مختلف البلاد الإسلامية، تتحدث عن أوضاع المسلمين ومآسيهم وطرق معالجتها وكذلك في خصوص قانون (الأمة الواحدة)، وهذا أقل الواجب.

وإلّا فيلزم علينا أن نبذل الجهد الكبير لنشر أكثر ما يمكن من الكتب في سبيل التوعية الإسلامية العامة لكل البشر، وبلغاتهم المختلفة، أي ستة مليارات من الكتب، لكل إنسان كتاب واحد على الأقل.

فإنه بغير الوعي واليقظة لا يمكن التخلص من المؤامرات التي تحاك ضدنا،

ص: 420

فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(1).

وبشكل عام، الروايات التي تحث على طلب العلم والقراءة والكتابة وما أشبه كلها تدل على ضرورة الوعي في الأمة كما هو واضح.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج»(3).

وقال(عليه السلام) للمفضل: «تأمل يا مفضل، ما أنعم اللّه تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا النطق الذي يعبر به عمّا في ضميره - إلى أن قال(عليه السلام) - وكذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين للآتين، وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها، وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات والحساب، ولو لاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعضوأخبار الغائبين عن أوطانهم ودرست العلوم وضاعت الآداب، وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم، وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم، وما روي لهم مما لا يسعهم جهله...»(4).

وإن أول سورة نزلت في القرآن الكريم على المشهور هي سورة (العلق) التي تبدأ بآيات حول العلم والقراءة والكتابة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(5) وفيها الدعوة إلى القراءة والعلم والكتابة.

ص: 421


1- الكافي 1: 27.
2- روضة الواعظين 1: 11.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 108.
4- بحار الأنوار 3: 82.
5- سورة العلق، الآية: 1-5.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار وتواضعوا لمن تُعلِّمونه العلم وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم»(2).

وقال النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من خرج يطلب باباً من العلم ليرد به باطلاً إلى حق وضالاً إلى هدى كان عمله كعبادة أربعين عاماً»(3).

ومعلوم أن التفقه هو الفهم، ومن جزئياته فهم الحياة، وبهذه الروح الخلاقة، والفكر الواعي استطاع الإسلام أن يتقدم، وتصل حضارته إلى أقصى نقطة في العالم.

الثقافة وأثرها

لقد اهتم العالم بالثقافة، لأن الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتهم، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع، وهي التي تعيّن مستقبل الأمم.

فالثقافة الإسلامية الأصيلة تجعل الأمة واحدة وتسير سيراً متميزاً في الحياة، فكرياً وعملياً ونظرياً وسلوكياً. والمسلمون في الصدر الأول تحلوا بهذه الثقافة الرائعة فانتشر الإسلام في نصف الكرة الأرضية، بأقل من ثلث قرن من بداية الهجرة الشريفة.

والمسلمون قبل ستة عقود - وفي العراق بالذات - امتلكوا قسماً من هذه الثقافة المعجزة فحرروا أنفسهم من الاستعمار، فما بين الأعوام (1918-1920م)

ص: 422


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- الكافي 1: 36.
3- منية المريد: 101.

استطاعوا إحراز النصر على أعظم إمبراطورية في العالم، التي اشتهرت بأنها: الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.

كيف استطاعوا ذلك؟ مع أن عددهم يومئذ كان لا يزيد على ال(4) ملايين نسمة؟

كان من أسباب ذلك الوعي الإسلامي، حيث تمكن الشعب العراقي وبقيادة المرجع الأعلى الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) من القيام بثورة العشرين.

لقد ذكرنا أن السبب الأول والأكبر كان هو الوعي، والثقافة الدينية، واتباع القيادة المرجعية الرشيدة آنذاك، بالرغم من عدم امتلاكهم للأسلحة الحربية المتطورة، ولا الأجهزة المخابراتية الحديثة، وإنما كانوا شعباً أعزل إلّا من الوسائل الحربية البدائية، التي كانوا يمتلكونها، كمثل (الفالة والمكوار) وغيرها من الأدوات البدائية التي اعتادوا عليها في حياتهم المعيشية. ولكن الثقافة الإسلامية والإيمان باللّه كانت هي السلاح الرئيسي لهم، وهي التي جعلتهميقاومون ويقدمون المئات والمئات من الضحايا، في سبيل دفع المعتدين، فتغلبوا على أسلحتهم المتطورة، ثم بعد ذلك استطاع الشيخ الشيرازي(رحمه اللّه) من تشكيل حكومة إسلامية، وكان مقرها في كربلاء المقدسة.

ولكن بعد مرور فترة زمنية، استطاع العملاء أن يسيطروا على الشعب المسلم - بعد أن عملوا دائبين ليل نهار - على إبعاد الجماهير عن فكرهم وثقافتهم، وبعد أن تم لهم ما أراد صاروا يذبحون الأبناء ويستحيون النساء ويقودون الآلاف نحو السجون والسراديب المظلمة بكل قساوة وعنف في وضح النهار، وبعض الأبناء في الأمة يتحملون جزءاً من السبب في ذلك، لأنهم لم يسيروا على طريق الآباء. وكما قال سبحانه وتعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوٰةَ وَاتَّبَعُواْ

ص: 423

الشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}(1).

وهذا هو الفرق بين الأمس واليوم، إذ أن النصر في الأمس جاء مع الوعي والتمسك بالدين، والهزيمة اليوم حلت مع الجهل بالتعاليم الإسلامية والتمسك بالثقافة الغربية الوضعية، التي وضعها الاستعمار بنفسه لاستغلالنا، وفرض الجهل بالتعاليم الأصيلة، حتى فرض علينا في النهاية قبول التقسيم والتفرقة، والحدود المصطنعة وترك قانون (الأمة الواحدة).

الثاني: التنظيم

لا بد للمجتمع الإسلامي من التنظيم والتدبير.

قال الإمام الرضا(عليه السلام) في حديث: «... إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين»(2).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا أراد اللّه بعبد خيراً ألهمه الاقتصاد وحسن التدبير وجنّبه سوء التدبير والإسراف»(3).

وقال الإمام(عليه السلام): «التدبير بالرأي، الرأي بالفكر»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن حسن المعونة، خفيف المئونة، جيد التدبير لمعيشته، ولا يلسع من جحر مرتين»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة»(6).

ص: 424


1- سورة مريم، الآية: 59.
2- الكافي 1: 200.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 291.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 19.
5- الكافي 2: 241.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 344.

وسُئل الإمام الحسن(عليه السلام) عن المروءة؟ فقال(عليه السلام): «حفظ الرجل دينه، وقيامه في إصلاح ضيعته، وحسن منازعته، وإفشاء السلام، ولين الكلام، والكف والتحبب إلى الناس»(1).

يعتبر التنظيم من المقومات الأساسية للأمة الإسلامية في تحركاتها، والتي كانت سببها في انتصار السلف، ويعتبر التنظيم حلقة مهمة في المجتمع، وأيّة جماعة تريد الوصول إلى الهدف سواء كان سامياً أم كان دانياً فهي بحاجة إلى التنظيم، ومن خلاله يتم التعرف أيضاً على نقاط الضعف والقوة في سلوك الطريق، ولا شك في أن الذي ينظم أمور حياته الخاصة الشخصية أو الاجتماعية فإن اللّه تعالى سيوفقه للنجاح في مهمته، قال اللّه تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا}(2).

وقد حثت الشريعة الإسلامية على التنظيم في مختلف المجالات الحيوية، قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنيه الحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه): «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى اللّه، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم...»(3).

الثالث: السلم

السلم من الدعائم المهمة لإرجاع قانون (الأمة الواحدة)، ولتصافي النفوس وترابط القلوب بعضها مع بعض، والتي تزرع الاطمئنان والأمن في المجتمع، وتقضي على الأحقاد والعداوات وأعمال العنف التي تحول دون تحقيق الأهداف.

ص: 425


1- معاني الأخبار: 257.
2- سورة الإسراء، الآية: 84.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.

قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في حديث: «... ومن ألقى إليكم السلم فاقبلوا منه واستعينوا بالصبر، فإن بعد الصبر النصر من اللّه...»(2).

وقال(عليه السلام): «السلم ثمرة الحلم»(3).

وقال(عليه السلام): «السلم علة السلامة، وعلامة الاستقامة»(4).

وقال(عليه السلام): «سالم الناس تسلم دنياك»(5).

وقال(عليه السلام): «سالم الناس تسلم، واعمل لآخرتك تغنم»(6).

وقال(عليه السلام): «من سالم الناس كثر أصدقاؤه وقل أعداؤه»(7) وقال(عليه السلام): «من رضي من الناس بالمسالمة سلم من غوائلهم»(8).

هذا وفي الروايات أن السلم الحقيقي هو في اتباع تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) والقبول بولايتهم.

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(9).

قال: قلت: ما السلم؟ قال: «الدخول في أمرنا»(10).

ص: 426


1- سورة الأنفال، الآية: 61.
2- الكافي 5: 41.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 51.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 72.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 401.
6- عيون الحكم والمواعظ: 285.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 595.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 643.
9- سورة الأنفال، الآية: 61.
10- الكافي 1: 415.

الرابع: الرجوع إلى أحكام اللّه

يلزم الرجوع إلى حكم اللّه تعالى وقانونه في توحيد المسلمين ورفع الحواجز، والحدود المصطنعة، التي ولدت التفرقة وتفكيك وحدة الأمة، فإعراض المسلمين عن الأحكام الإلهية ولّد هذه التجزئة، واستغلال الغرب لبلادنا. وكما جاء في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1).

ومن وصايا الإمام الصادق(عليه السلام) لعبد اللّه بن جندب: «يا ابن جندب، قديماً عُمّر الجهل وقوي أساسه، وذلك لاتخاذهم دين اللّه لعباً، حتى لقد كان المتقرب منهم إلى اللّه بعمله، يريد سواه أولئك هم الظالمون»(2).

الخامس: الاكتفاء الذاتي

يلزم السعي لتطبيق الاكتفاء الذاتي في المجتمع الإسلامي؛ فإنه من مقوماتقانون الأمة الواحدة.

فعلى أساس الاكتفاء الذاتي يسود المجتمع التعاون والإخاء والتكامل في أغلب النواحي الاقتصادية، وكذلك يتحقق الاستغناء عن الشرق والغرب.

إن اللّه جعل في أراضي المسلمين الخير الوفير من الزراعة والمعادن وغيرها، مما يساعد على الاكتفاء الذاتي.

وعندما يفهم أبناء الأمة ضرورة الاكتفاء الذاتي وحصول التكامل الاقتصادي، فهذا الإحساس بالمسؤولية تجاه الأمة يستطيع تفجير طاقاتها، ويحرك عجلة الإنتاج نحو الخروج بالأمة من قيود العبودية والتبعية، ويدخلها في إطار الحرية والوحدة والتطور والتقدم.

ص: 427


1- سورة طه، الآية: 124.
2- تحف العقول: 301.

والاكتفاء الذاتي بحاجة إلى أمور عديدة، منها الهجرة والزهد والعمل والجهد وغيرها.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «إذا أعسر أحدكم فليضرب في الأرض ويبتغي من فضل اللّه ولا يغم نفسه»(1).

وروي: أن سلمان (رضوان اللّه عليه) كان يسف الخوص وهو أمير على المدائن ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل إلّا من عمل يدي، وكان تعلم سف الخوص من المدينة.(2)

وفي كتاب سلمان إلى عمر بن الخطاب قال: «وأما ما ذكرت أني أقبلت على سف الخوص وأكل الشعير، فما هما مما يعير به مؤمن ويؤنب عليه، وايم اللّه يا عمر، لأكل الشعير وسف الخوص والاستغناء عن رفيع المطعم والمشرب، وعنغصب مؤمنٍ حقه، وادعاء ما ليس له بحق، أفضل وأحب إلى اللّه عزّ وجلّ وأقرب للتقوى، ولقد رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أصاب الشعير أكل وفرح به ولم يسخطه».(3)

وسأل الإمام الصادق(عليه السلام) عن معاذ بيّاع الكرابيس؟

فقيل له: ترك التجارة.

فقال: «عمل الشيطان عمل الشيطان؛ من ترك التجارة ذهب ثلثا عقله، أما علم أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما قدمت عير من الشام فاشترى منها واتجر فربح فيها ما قضى دينه».(4)

ص: 428


1- مستدرك الوسائل 13: 7.
2- بحار الأنوار 22: 390.
3- الإحتجاج 1: 131.
4- تهذيب الأحكام 7: 4.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما غدوة أحدكم في سبيل اللّه بأعظم من غدوته يطلب لولده وعياله ما يصلحهم».(1)

وقال(عليه السلام): «الشاخص في طلب الرزق الحلال كالمجاهد في سبيل اللّه»(2).

وروي أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وقف بغزوة تبوك بشاب جلد يسوق أبعرة سمانا، فقال أصحابه: يا رسول اللّه، لو كان قوة هذا وجلده وسمن أبعرته في سبيل اللّه، لكان أحسن! فدعاه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «أ رأيت أبعرتك هذا أي شي ء تعالج عليها؟».

قال: يا رسول اللّه، لي زوجة وعيال، وأنا أكتسب بها ما أنفقه على عيالي، فأكفهم عن الناس وأقضي ديناً علي.

قال: «لعل غير ذلك؟».قال: لا، فلما انصرف قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لئن كان صادقاً إن له لأجراً مثل أجر الغازي وأجر الحاج وأجر المعتمر».(3)

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تحت ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلّا ظله رجل ضارب في الأرض يطلب من فضل اللّه ما يكف به نفسه ويعود به على عياله»(4).

وحكي عن داود(عليه السلام): إنه كان يتوخى من تلقاه من بني إسرائيل فيسأله عن حاله؟ فيثني عليه، حتى لقي رجلاً فقال: نعم العبد لو لا خصلة فيه، فقال: «وما هي؟».

قال: إنه يأكل من بيت المال، فبكى داود وعلم أنه قد أتي، فأوحى اللّه عزّ

ص: 429


1- السرائر 2: 228.
2- عوالي اللئالي 3: 194.
3- عوالي اللئالي 3: 194.
4- عوالي اللئالي 3: 194.

وجلّ إلى الحديد: «أن لن لعبدي داود».

فألان اللّه له الحديد، فكان يعمل كل يوم درعاً يبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة وستين درعاً فباعها بثلاث مائة وستين ألفاً، فاستغنى عن بيت المال.(1)

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة سلام اللّه عليها تطحن وتعجن وتخبز»(2).

وروى سيابة: إن رجلاً سأل الصادق(عليه السلام): أسمع قوماً يقولون: إن الزراعة مكروهة؟ فقال(عليه السلام): «ازرعوا واغرسوا، فلا واللّه ما عمل الناس عملاً أحل ولا أطيب منه، واللّه ليزرعن وليغرسن النخل بعد خروج الدجال»(3).

النتيجة

ويعرف مما سبق بأن هذه النقاط الخمس هي من أهم الأمور التي بواسطتها يتم خروج الأمة من هذا الوضع المأساوي، وإعادة مجدها الحضاري ووحدتها وتطبيق قانون (الأمة الواحدة) في مختلف البلاد الإسلامية حتى تصبح بلداً واحداً ذا شعب واحد، سواء في أفغانستان أو فلسطين أو العراق الذي مر ويمر بظروف صعبة للغاية بسبب تعاقب الطواغيت على حكمها وخاصة في فترة البعثيين. أو غيرها من البلاد.

فإن الحديث عن جزء من بلاد المسلمين يجرنا إلى جميع البلاد الإسلامية باعتبارها أمة واحدة وإن اختلفت التسميات؛ فلذا كان لا بد من تعميم الكلام ليشمل البلاد الإسلامية أجمع، وكيفية معالجة ما قام به الاستعمار في تفكيك وحدتها، وقد ذكرنا بإيجاز بعض النقاط الرئيسية للعلاج في سبيل إعادة وحدة

ص: 430


1- عوالي اللئالي 3: 199.
2- الكافي 5: 86.
3- الكافي 5: 260.

الأمة وتحقيق الحكومة الإسلامية الكبيرة، وهذه النقاط واضحة المعالم. وهي موجودة في الكتاب والسنة بشكل متكامل. ولكن تحتاج في مرحلة تطبيقها إلى دراسة وتخطيط؛ لكي نتمكن من العمل بها على أرض الواقع بشكل صحيح، واللّه الموفق المستعان.

«اللّهم صل على محمد وآل محمد، وأبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبة، ومن حسد أهل البغي المودة، ومن ظنة أهل الصلاح الثقة، ومن عداوة الأدنين الولاية، ومن عقوق ذوي الأرحام المبرة، ومن خذلان الأقربين النصرة، ومن حب المدارين تصحيح المقة، ومن رد الملابسين كرم العشرة، ومن مرارة خوف الظالمين حلاوة الأمنة...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الأمة الإسلامية الواحدة

قال تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(3).

وقال سبحانه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(5).

ص: 431


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة المؤمنون، الآية: 52.
3- سورة الأنبياء، الآية: 92.
4- سورة آل عمران، الآية: 110.
5- سورة آل عمران، الآية: 103.

الاختلاف والفرقة ونتائجها

قال جلّ وعلا: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1).

وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا}(2).

وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ}(3).

العلم أصل كل خير

وقال عزّ وجلّ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(5).

وقال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}(6).

الشعور بالمسؤولية

وقال سبحانه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(8).

وقال جلّ وعلا: {فَلَنَسَْٔلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}(9).

ص: 432


1- سورة آل عمران، الآية: 105.
2- سورة الروم، الآية: 31-32.
3- سورة الأنعام، الآية: 65.
4- سورة المجادلة، الآية: 11.
5- سورة طه، الآية: 114.
6- سورة يوسف، الآية: 76.
7- سورة الصافات، الآية: 24.
8- سورة الحجر، الآية: 92-93.
9- سورة الأعراف، الآية: 6.

من هدي السنّة المطهّرة

الأمة الإسلامية الواحدة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزال أمتي بخير ما تحابوا وتهادوا، وأدوا الأمانة، واجتنبوا الحرام»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزال أمتي بخير ما لم يتخاونوا وأدوا الأمانة»(2).

وقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمنون يد واحدة على من سواهم»(3).

الاختلاف والفرقة ونتائجها

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الاجتماع رحمة والفرقة عذاب»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وايم اللّه ما اختلفت أمة بعد نبيها إلّا ظهر باطلها على حقها، إلّا ما شاء اللّه»(5).

وقال(عليه السلام): «كثرة الخلاف شقاق»(6).

وقال(عليه السلام): «عرجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة»(7).

وقال(عليه السلام): «الأمور المنتظمة يفسدها الخلاف»(8).

العلم أصل كل خير

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من طلب علماً فأدركه كتب اللّه له كفلين من الأجر،

ص: 433


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 29.
2- ثواب الأعمال: 251.
3- بحار الأنوار 58: 150.
4- إرشاد القلوب 2: 335.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 235.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 524.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 464.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 63.

ومن طلب علماً فلم يدركه كتب اللّه له كفلاً من الأجر»(1).

وقال لعلي(عليه السلام): «فواللّه لئن يهدي اللّه بك رجلاً خير لك من أن تكون لك حمر النعم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن العلم يهدي ويرشد وينجي، وإن الجهل يغوي ويضل ويردي»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قليل من العلم خير من كثير العبادة»(4).

الشعور بالمسؤولية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألّا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم بتقوى اللّه في ما أنتم عنه مسئولون وإليه تصيرون، فإن اللّه تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(6) ويقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(7) ويقول: {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(8) فاعلموا يا عباد اللّه، إن اللّه جلّ وعزّ سائلكم عن الصغير من عملكم والكبير»(9).

ص: 434


1- منية المريد: 99.
2- عمدة عيون صحاح الأخبار: 145.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 242.
4- بحار الأنوار 1: 185.
5- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 6.
6- سورة المدثر، الآية: 38.
7- سورة آل عمران، الآية: 28.
8- سورة الحجر، الآية: 92-93.
9- الأمالي للشيخ المفيد: 261.

دور الشباب في إنهاض الأمة

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدوة وأسوة

اشارة

قال عزّ وجلّ في كتابه العزيز: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

وقال سبحانه وتعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(2).

جاء في تفسير هذه الآية: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ} معاشر المكلّفين {فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: قدوة صالحة، يقال: لي في فلان أسوة، أي: لي به إقتداء، والأسوة من الإتساء، كما أن القدوة من الإقتداء، اسم وضع موضع المصدر. والمعنى: كان لكم برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إقتداء، لو اقتديتم به في نصرته والصبر معه في مواطن القتال، كما فعل هو يوم أُحد إذ انكسرت رباعيته(3)، وشُجَّ حاجبه، وقتل عمه، فواساكم مع ذلك بنفسه، فهلاّ فعلتم مثل ما فعله هو. وقوله: {لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ} بدل من قوله {لَكُمْ}، وهو تخصيص بعد العموم للمؤمنين، يعني: أن الأسوة برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما تكون {لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ} أي: يرجو ما عند اللّه

ص: 435


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- الرباعية: بالفتح، السن التي بين الثنية والناب من كل جانب، والجمع رباعيات بالتخفيف، وللإنسان أربع رباعيات، انظر مجمع البحرين 4: 331، مادة (ربع).

من الثواب والنعيم، عن ابن عباس. وقيل: معناه يخشى اللّه ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال(1).

فحياة الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مليئة بالدروس الأخلاقية والعبر التي ينبغي للإنسان المسلم أن يتبعها ويطبقها في سلوكه اليومي.

فمن جملة هذه الدروس التي حفظها لنا التاريخ أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حياته الشريفة، وبإخلاصه وجهده المبارك وصبره وتحمله، تمكن من نشر الفكر الإسلامي وقضى على عادات الجاهلية التي كانت متفشية حينذاك، فعمل من أجل بناء مجتمع تسوده المحبة والإخاء، واستطاع أن ينقل الإنسان المسلم إلى أعلى مراتب العلم والكمال، وأن يحدث هذا التغيير العملي العظيم في واقع المجتمع الجاهلي، الذي كان يسوده التخلف والجهل والظلم والظلام، وذلك بقوة إيمانه، وعميق فكره، وطول صبره على الأذى، حتى قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لقد أخفت في اللّه وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في اللّه وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين ليلة ويوم مالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلّا شيء يواريه إبط بلال»(2).

وعن حفص بن غياث، قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا حفص، إن من صبر صبر قليلاً، وإن من جزع جزع قليلاً - ثم قال: - عليك بالصبر في جميع أمورك؛ فإن اللّه عزّ وجلّ بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فأمره بالصبر والرفق فقال: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ}(3)، وقال تبارك وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا

ص: 436


1- تفسير مجمع البيان 8: 144.
2- حلية الأبرار 1: 351.
3- سورة المزمل، الآية: 10-11.

يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(1).

فصبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى نالوه بالعظائم، ورموه بها، فضاق صدره، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّٰجِدِينَ}(2).

ثم كذبوه ورموه، فحزن لذلك، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا}(3).

فألزم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نفسه الصبر، فتعدوا فذكروا اللّه تبارك وتعالى وكذبوه، فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي، ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٖ * فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ}(4)، فصبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جميع أحواله، ثم بشر في عترته بالأئمة(عليهم السلام) ووصفوا بالصبر، فقال جلّ ثناؤه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(5)، فعند ذلك قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فشكر اللّه عزّ وجلّ ذلك له فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}(6).

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إنه بشرى وانتقام، فأباح اللّه عزّ وجلّ له قتال المشركين، فأنزل اللّه:

ص: 437


1- سورة فصلت، الآية: 34-35.
2- سورة الحجر، الآية: 97-98.
3- سورة الأنعام، الآية: 33-34.
4- سورة ق، الآية: 38­-39.
5- سورة السجدة، الآية: 24.
6- سورة الأعراف، الآية: 137.

{فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ}(1) {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}(2) فقتلهم اللّه على يدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأحبائه، وجعل له ثواب صبره، مع ما ادخر له في الآخرة، فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقر اللّه له عينه في أعدائه، مع ما يدخر له في الآخرة»(3).

فاستطاع(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يقضي على جميع المحاولات التي كان من ورائها إلقاء الفتن والتفرقة والاختلاف بين فئات المجتمع، حيث بيّن(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم أن المسلمين يد واحدة على من سواهم، وقوة واحدة وأخوة في اللّه، لا يفرق بين أحد منهم؛ لأنهم ما داموا يشكّلون شرائح المجتمع الإسلامي، وينصرون اللّه ورسوله، فإنه لا فرق بين غني ولا فقير، ولا كبير وصغير، ولا ضعيف وقوي إلّا بالتقوى والإيمان، وأن أكرمهم عند اللّه أتقاهم، حيث قال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(4).

وكما استطاع(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن ينقي المجتمع الإسلامي من حالة التمايز وحالة الخصوصيات الطبقية التي كانت منتشرة بين مختلف طبقات المجتمع قبل الإسلام. فمثلاً، كان الغني يظلم الفقير، والقوي يأكل الضعيف، وكان كل واحد منهم يريد سحق الآخر، وكان الشاب في العصر الجاهلي يحاول وبكل ما أوتي من قوة أن يُلغي دور كبار السن، وفي الوقت نفسه كان أولئك الشيوخ الطاعنون في السن يحاولون إلغاء دور الشباب، باعتبارهم أصحاب تجربة طويلة وحنكة في الحياة.

ص: 438


1- سورة التوبة، الآية: 5.
2- سورة البقرة، الآية: 191.
3- الكافي 2: 88.
4- سورة الحجرات، الآية: 13.

فقد قال أمير المؤمنين في خطبة له(عليه السلام): «فاللّه اللّه في كبر الحمية وفخر الجاهلية؛ فإنه ملاقح(1) الشنئان(2) ومنافخ الشيطان، التي خدع بها الأمم الماضية والقرون الخالية، حتى أعنقوا(3) في حنادس(4) جهالته ومهاوي ضلالته، ذللا(5) عن سياقه، سُلُساً في قياده، أمراً تشابهت القلوب فيه، وتتابعت القرون عليه، وكِبراً تضايقت الصدور به.

ألّا فالحذر الحذر، من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة(6) على ربهم، وجاحدوا اللّه على ما صنع بهم، مكابرة لقضائه، ومغالبة لآلائه؛ فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم أركان الفتنة، وسيوف اعتزاء الجاهلية(7). فاتقوا اللّه ولا تكونوا لنعمه عليكم أضداداً، ولا لفضله عندكم حساداً، ولا تطيعوا الأدعياء(8) الذين شربتم بصفوكم كدرهم(9)، وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهم آساس(10) الفسوق وأحلاس(11) العقوق، اتخذهم إبليس مطايا ضلال، وجنداً بهم يصول على

ص: 439


1- المَلاقِح: الفحول التي تلقح الإناث وتستولد الأولاد.
2- الشنآن: البغض.
3- أعنقوا: من أعنقت الثريا، أي غابوا واختفوا.
4- الحنادس: جمع حندس، الظلام الشديد.
5- الذلل: جمع ذلول، من الذل، ضد الصعوبة، والسياق هنا السوق.
6- الهجينة: الفعلة المستهجنة.
7- اعتزاء الجاهلية: تفاخرهم بأنسابهم، كل منهم يعتزي أي: ينتسب إلى أبيه، وما فوقه من أجداده.
8- الادعياء: جمع دعي، وهو من ينتسب إلى غير أبيه، والمراد منهم الأخساء المنتسبون إلى الأشراف، والأشرار المنتسبون إلى الأخيار.
9- أي: خلطوا صافي إخلاصكم بكدر نفاقهم، وسلامة أخلاقكم مرض أخلاقهم.
10- آساس: جمع أساس، دعامة الشيء.
11- الأحلاس: جمع حلس، كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازماً له، فقيل لكل ملازم لشيء هو حلسه، والعقوق العصيان.

الناس، وتراجمة ينطق على ألسنتهم، استراقاً لعقولكم، ودخولاً في عيونكم، ونفثاً في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله وموطئ قدمه ومأخذ يده.

فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته ووقائعه ومثلاته، واتعظوا بمثاوي خدودهم ومصارع جنوبهم، واستعيذوا باللّه من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر، فلو رخص اللّه في الكبر لأحدٍ من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه، ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر ورضي لهم التواضع. فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفروا في التراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا قوماً مستضعفين، قد اختبرهم اللّه بالمخمصة، وابتلاهم بالمجهدة، وامتحنهم بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره، فلا تعتبروا الرضى والسخط بالمال والولد، جهلاً بمواقع الفتنة والاختبار، في موضع الغنى والاقتدار، فقد قال سبحانه وتعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَٰتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ}(1) فإن اللّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم»(2).

الرسالة العظيمة والمرأة

وهكذا تجد الصراع قائماً حول المرأة، فقد كانت المرأة في ذلك العصر مغلوبة على أمرها، ومنتهكة الحقوق، مسلوبة الحرية؛ فقد كانوا لا يسمحون لها بأن تُظهر قدراتها لممارسة دورها المشروع في الحياة، والمشاركة في بناء وتطوير المجتمع، فيصف أمير المؤمنين(عليه السلام) حال العرب في الجاهلية فيقول: «فاعتبروابحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل(عليهم السلام) فما أشدّ اعتدال الأحوال

ص: 440


1- سورة المؤمنون، الآية: 55-56.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192، من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

وأقرب اشتباه الأمثال - إلى أن قال - فتركوهم عالة مساكين إخوان دَبَر ووَبَر(1)، أذل الأمم دارا، وأجدبهم قرارا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلى ظلّ ألفة يعتمدون على عزّها، فالأحوال مضطربة والأيدي مختلفة، والكثرة متفرّقة، في بلاء أَزْل(2) وأطباق جهل، من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة وغارات مشنونة»(3)(4).

فجاء الإسلام العزيز وأكرم المرأة أيما إكرام، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان(5) عندكم»(6).

وقيل لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في حديث - : فما للنّساء على الرجال؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أخبرني أخي جبرئيل، ولم يزل يوصيني بالنساء حتى ظننت أن لا يحل لزوجها أن يقول لها: أف - فقال جبرئيل - يا محمد، اتقوا اللّه عزّ وجلّ في النساء فإنهن عوان بين أيديكم، أخذتموهن على أمانات اللّه عزّ وجلّ ما استحللتم من فروجهن، بكلمة اللّه وكتابه من فريضة وسنة وشريعة محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فإن لهن عليكم حقاً واجباً لما استحللتم من أجسامهن، وبما واصلتم من أبدانهن، ويحملن أولادكم في أحشائهن حتى أخذهن الطلق من ذلك. فأشفقوا عليهن، وطيبوا قلوبهن حتى يقفن معكم، ولا تكرهوا النساء ولاتسخطوا بهن، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلّا برضاهن وإذنهن»(7).

ص: 441


1- الدَبَر: القرحة في ظهر الدابة، الوَبَر: شعر الجمال والمراد أنهم رعاة.
2- بلاء أَزْل: الشدة.
3- شنَّ الغارة: صَبَّها من كل وجه.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192، من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.
5- عوان: أي أسيرات.
6- مستدرك الوسائل 14: 252.
7- مستدرك الوسائل 14: 252.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلّا فرحه اللّه تعالى يوم القيامة»(3).

الابتعاد عن الروح الإسلامية

وما زال ذلك الاختلاف والتمايز الجاهلي في تلك العصور، يتغلغل بين صفوف بعض المجتمعات التي يعيش أفرادها بعيداً عن الإسلام والروح الإسلامية، فكما لا يخفى أن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قضى على حالة التفاضل بالجاه والأنساب، التي كانت منتشرة وقت ذاك، حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة: «أيها الناس، إن اللّه تبارك وتعالى قد ذهب عنكم بنخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألّا إنكم من آدم وآدم من طين، وخير عباد اللّه عنده أتقاهم، إن العربية ليست بأب والد ولكنها لسان ناطق فمن قصر به عمله فلم يبلغه رضوان اللّه حسبه، ألّا إن كل دم كان في الجاهلية أو إحنة فهو تحت قدمي هاتين إلى يوم القيامة»(4).

إذ أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قام بإرساء قواعد وقوانين جديدة، على أساسها يكون التفاضل، وهي قاعدة التقوى والإيمان، وحث على المنافسة بين المسلمين في أعمال

ص: 442


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 392.
2- من لايحضره الفقيه 3: 443.
3- الكافي 6: 6.
4- معاني الأخبار: 207.

الخير والصلاح، حيث باشر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعملية المساواة بين المسلمين، وذلك عن طريق جمع شمل جميع الفئات المتنازعة والمتصارعة، وجعلها في خط واحد، وهدف مشترك، وهو خط الإسلام الصحيح ومبادئه، وبدون أن يفرّط بأحد منهم، فكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً ما يتلو على أسماعهم الآية الشريفة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1)، وكذلك دائماً يقول لهم: «ألّا أنكم وُلد آدم، وآدم من تراب، واللّه لعبد حبشي حين أطاع اللّه خير من سيد قرشي عصى اللّه»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «كان سلمان جالساً مع نفر من قريش في المسجد فأقبلوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم، حتى بلغوا سلمان فقال له عمر بن الخطاب: أخبرني، من أنت، ومن أبوك، وما أصلك؟

فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه عزّ وجلّ بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، هذا نسبي وهذا حسبي.

قال: فخرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسلمان (رضي اللّه عنه) يكلمهم، فقال له سلمان: يا رسول اللّه ما لقيت من هؤلاء، جلست معهم فأخذوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم، حتى إذا بلغوا إلي قال عمر بن الخطاب: من أنت وما أصلك وما حسبك؟فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): فما قلت له يا سلمان؟

قال: قلت له: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاً فأغناني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً

ص: 443


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- تفسير القمي 2: 94.

فأعتقني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، هذا نسبي وهذا حسبي.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا معشر قريش، إن حسب الرجل دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، وقال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1) ثم قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لسلمان: ليس لأحد من هؤلاء عليك فضلٌ إلّا بتقوى اللّه عزّ وجلّ، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل»(2).

فجعل لكل فرد من أفراد المجتمع دوره الذي يؤدّيه لخدمة دينه وأمته الإسلامية، فكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحترم الشباب أمثال (علي(عليه السلام)، مصعب، أسامة، بلال) ويمجّد بمواقفهم البطولية وقدراتهم، وكان أيضاً يكرّم كبار السن، ويبين دورهم الكبير بين المسلمين.

ونتيجة لهذه المساواة، وتنظيم وتعبئة طاقات المسلمين وتوحيد صفوفهم وجهودهم، عمّت المجتمع الإسلامي آنذاك حالة رفاه عام، في مختلف مجالات الحياة، فساد الأمن والاستقرار ربوع الدولة الإسلامية.

لكنك إذا أخذت بعين الاعتبار مثل هذا الاحترام والمساواة في الحياة الغربية، فإنك ستجدها بلا شك خالية من مثل هذه العقائد النبيلة السامية؛ ولهذا كثير من الغربيين لا يحترمون كبار السن أبداً، حتى إذا كان ذلك الكبير والده أو والدته أوأحد أقربائه، بل إنه ما إن يكبر ويصبح عاجزاً عن أداء العمل تراهم يذهبون به إلى مصحات خاصة، تسمى: ب(دور العجزة) ويبقى هناك إلى أن يموت وينتهي أجله، ولا يستفيدون عادة من آرائهم وتجاربهم الحياتية الطويلة، لكونهم ينظرون

ص: 444


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الكافي 8: 181.

إلى الأشخاص بمقدار ما يمتلكون من قدرة العمل والإنتاج المادي، بينما الإنتاج المادي ليس بوحده مقياساً للشخص في الإسلام، بل إن مقياس وقيمة الشخص التي ينظر لها الإسلام عند كبار السن أو الشباب أو النساء هو مقدار التقوى والإيمان الذي يمتلكه ذلك الشخص؛ لذا فقد وردت أحاديث كثيرة تؤكد على توقير الشيوخ من الآباء والأجداد وحتى غير الأقرباء، وتحث على احترامهم ورعايتهم، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عرف فضل كبيرٍ لسنه فوقّره آمنه اللّه من فزع يوم القيامة»(1).

وعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «إن من إجلال اللّه عزّ وجلّ إجلال الشيخ الكبير»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رأي الشيخ أحب إلي من حيلة الشاب»(3).

وخلاصة الكلام، فإن رسول الهداية(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جاء إلى البشر عامة والمسلمين بوجه أخص وهو قدوة وأسوة لهم، وذلك بالنص الصريح والمحكم للقرآن الكريم. حيث قال اللّه تبارك وتعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(4).

واقع بلا أسوة

عندما ننظر إلى واقع حياتنا المعاصرة، نتساءل أين هي هذه الأسوة المباركة التي تحدث عنها اللّه في كتابه الكريم، وأمرنا بالتأسي بها؟

وأين التطبيق العملي لها؟

ص: 445


1- الكافي 2: 658.
2- الكافي 2: 658.
3- كنز الفوائد 1: 367.
4- سورة الأحزاب، الآية: 21.

إننا نتحدث عن الأسوة دائماً في كتبنا، ونتكلم بها في كل مجلس، لكن التأسي بها في الواقع الخارجي غير موجود، نرى أن هذه الآية الشريفة غدت وكأنها حبر على ورق، مع العلم بأن القرآن عندما يتطرق لمثل هذه الأمور فإنما هو لمصلحتنا، وللحفاظ على مستقبلنا وديننا وحياتنا.

إن الذي نريد الإشارة إليه هو أننا - وللأسف الشديد - فقدنا الكثير والكثير من الأعمال والأفعال التي كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتخذها أساساً وقواعد لبناء وإرساء معالم الدين الإسلامي، التي هي عبرة لكل من يعتبر على مرّ العصور وكرّ الأزمان اللاحقة، لذا يلزم أن نطبق تلك الأفعال ونجعلها دروساً نسلك بها مناهجها، حتى نستطيع التحرز من الوقوع بمطبات ومهالك، تؤثر على مستقبلنا ومستقبل أمتنا الإسلامية.

لكن الذي نراه في هذا الوقت، أن بعضنا قد أصبح متأسياً ومتبعاً لعادات وتقاليد الحياة الغربية، لا الحياة الشريفة لرسولنا الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمتنا القادة الهُداة الطاهرين(عليهم السلام).

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يختار الشباب الصالحين

اشارة

لقد كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يختار الشباب المؤمنين الصالحين، ويجعلهم في بعض المناصب والوظائف الحساسة، لإدارة ما يرتبط بالأمة الإسلامية؛ والسبب في ذلك الاختيار يرجع إلى عدة أمور:

أولاً: لأن الشاب في بداية شبابه يشعر بأن له قوة عظيمة تمكنه أن يكون مؤثراًفي العالم، وله القابلية على العمل والإبداع، وهو ذو حب كبير للنشاط والخدمة، واستعداد دائم للتضحية من أجل أفكاره وآرائه، ويحاول أن يضحّي بنفسه من أجلها، فإنه عادة لايتشبّث بالحياة كثيراً كالرجل الكبير؛ لأن طبيعة الإنسان كل ما

ص: 446

طال بقاؤه في الدنيا ازداد حرصاً وطمعاً فيها، وكما جاء في حديث الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال: «يهرم ابن آدم وتشبّ منه اثنتان: الحرص والأمل»(1).

أما كثير من الشباب فتقل فيهم هذه الحالات عادة.

ثانياً: في مرحلة الشباب يشعر الشاب بتفتح عقله، وكذلك يشعر بأن مواهبه تتفجّر، حيث يبدأ بالتفكير الدقيق، فتشخص في ذهنه الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام عن الحياة والمجتمع، والتي لا بد له من تحصيل الإجابة عليها؛ لذلك نراه يقوم بالبحث عن الأجوبة، ولو كلّف ذلك حياته أحياناً، فتراه مستعداً لأن يعتنق الفكرة الجديدة التي ينسجم معها أحياناً مهما كانت خطورتها ومصاعبها.

وإننا إذا راجعنا التاريخ متتبعين فيه حياة الأنبياء(عليهم السلام) يتبين لنا أن العديد من الرسالات السماوية إنما قامت على أكتاف الشباب، فهم الذين كانوا يتسابقون إلى الإيمان بالدين وتقبل تلك الأفكار الجديدة، وكانوا على أهبة الاستعداد دائماً للتضحية في سبيل هذه المبادئ القيمة.

فمثلاً: نبي اللّه نوح(عليه السلام) حينما أعلن دعوته التوحيدية في ذلك المجتمع المنحل، من الذي استجاب له ونصره؟ ومن الذي لبّى نداءه، وهو نداء الحق؟

نجد أن الذي تجاوب معه(عليه السلام) هم مجموعة من الشباب الفقراء المؤمنين،الذين سارعوا لنصرة نوح(عليه السلام) والإيمان بما جاء به من الحق، أما بقية قومه وهم كثرة، فإنهم ظلوا على كفرهم، ولم يؤمنوا به، ولم يكتفوا بهذا، بل كانوا ينتقصون منه(عليه السلام) ومن أتباعه، ويقولون لهم: أنتم مجموعة من الشباب الفقراء الخاملي الذكر في المجتمع، كما ورد في القرآن الكريم حيث قال عزّ وجلّ: {مَا نَرَىٰكَ إِلَّا

ص: 447


1- إرشاد القلوب 1: 39.

بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}(1).

وعندما صدع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالدين الجديد والأفكار الإسلامية الجديدة، نرى أن الذين سارعوا إلى الإيمان به(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واعتنقوا الدين الجديد كان منهم ثلة ومجموعة من الشباب، فأول من آمن وأسلم هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) والذي كان عمره لا يتجاوز العشر سنين(2)، وكان منهم جعفر بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، ومصعب بن عمير، وبلال الحبشي، ومعاذ بن جبل، وزيد وغيرهم(3)... وهذا سبب من أسباب عديدة وقع بموجبها اهتمام الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالشباب وتحميلهم مسؤوليات كبيرة في أمور الدولة الإسلامية.

روي عن إسماعيل بن عبد الخالق قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: «أتيت البصرة؟».

فقال: نعم.

قال:«كيف رأيت مسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه؟».

فقال: واللّه إنهم لقليل، ولقد فعلوا، وإن ذلك لقليل.

فقال: «عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى كل خير...»(4).

ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «أَي بني، إني لما رأيتني قد بلغت سناً ورأيتني أزداد وهناً بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً منها، قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا؛ فتكون كالصعب النفور، وإنما

ص: 448


1- سورة هود، الآية: 27.
2- انظر بحار الأنوار 35: 43.
3- لا يخفى أن كل هؤلاء الصحابة قد أسلموا في بداية الدعوة المحمدية وأغلبهم لايتجاوز عمره العشرين عاماً.
4- الكافي 8: 93.

قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك؛ لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه»(1).

طاقات الشباب

عندما يمر الإنسان بمرحلة الشباب تتفجر طاقاته العقلية والبدنية وتتفتق مواهبه، وكل ذلك يؤهله ويشجعه لكي يقوم بدور ما في المجتمع. فإذا فسحنا المجال للشاب لأن يمارس دوراً اجتماعياً، ووجهناه الوجهة المناسبة والملائمة له للقيام بدور صالح مفيد في المجتمع، يساعده على بناء شخصيته، وينمي فيه كفاءاته، ويزوده بالخبرة الاجتماعية، نكون قد أحسنّا الاستفادة من ملابسات مرحلة الشباب ومميزاتها.

وإن لم نهتم بهذه المسالة، ولم نفسح المجال للشباب في ممارسة رغبته المشروعة بأداء دور اجتماعي ضمن توجيه صالح، فستكون النتيجة أحد أمرين: إما أن تخمد طاقات الشاب وتقتل مواهبه وتدفن طموحاته، وإما أن يبادر إلى ممارسة أدوار منحرفة ويقوم بأعمال فاسدة.

لذا يلزم تعليمهم وتوجيههم الوجهة الصحيحة، وفي هذا قال الإمامالباقر(عليه السلام): «لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه لأدبته»(2).

لا لقياس العمر

لعل أكثر المجتمعات الحالية - وهذا ما يؤسف له - بما في ضمنها بعض المجتمعات الإسلامية ما زالوا يقيّمون الإنسان بمقياس العمر والزمن... وما دام

ص: 449


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له، للحسن بن علي(عليهما السلام).
2- المحاسن 1: 228.

الشباب لم يقطعوا من الحياة إلّا مسافة قصيرة فإن مجتمع الكبار لا ينظر إليهم نظرة ثقة واحترام - في بعض الأحيان - ولا يفسح لهم مجال التحرك والنشاط، على العكس من المقياس الذي اتخذه الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حياته الشريفة، فقد أعلن(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفض الإسلام لمقياس العمر والسن، وجعل المقياس الصحيح هو التقوى والعمل والكفاءة والقدرة على الإبداع، فكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يختار من بين أفراد المجتمع الإسلامي الطاقات المتفجرة، ويولّيهم إدارة وقيادة المسلمين.

فقد ولّى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عتاب بن أسيد على مكة وعمره ثمانية عشر سنة، حيث روي عن الإمام السجاد(عليه السلام) قال: «لما بعث اللّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة وأظهر بها دعوته، ونشر بها كلمته، وعاب أديانهم في عبادتهم الأصنام، وأخذوه وأساؤوا معاشرته، وسعوا في خراب المساجد المبنية كانت لقوم من خيار أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشيعته وشيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام). كان بفناء الكعبة مساجد يحيون فيها ما أماته المبطلون، فسعى هؤلاء المشركون في خرابها، وأذى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسائر أصحابه، وألجاؤه إلى الخروج من مكة إلى المدينة، التفت خلفه إليها فقال: اللّه يعلم أني أحبك، ولو لا أن أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً، ولا ابتغيت عنك بدلاً، وإني لمغتم على مفارقتك. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا محمد، إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، ويقول: سأردك إلى هذا البلدظافراً، غانماً، سالماً، قادراً، قاهراً، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖ}(1) يعني: إلى مكة ظافراً غانماً.

وأخبر بذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه، فاتصل بأهل مكة فسخروا منه، فقال اللّه تعالى لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): سوف أظهرك بمكة، وأجري عليهم حكمي، وسوف أمنع

ص: 450


1- سورة القصص، الآية: 85.

عن دخولها المشركين حتى لايدخلها منهم أحد إلّا خائفا، أو دخلها مستخفياً من أنه إن عثر عليه قتل. فلما حتم قضاء اللّه بفتح مكة استوسقت له، أمّر عليهم عتاب بن أسيد، فلما اتصل بهم خبره قالوا: إن محمداً لا يزال يستخف بنا؛ حتى ولى علينا غلاماً حديث السن ابن ثماني عشرة سنة، ونحن مشايخ ذوو الأسنان، خدام بيت اللّه الحرام وجيران حرمه الأمن، وخير بقعة له على وجه الأرض.

وكتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعتاب بن أسيد عهداً على أهل مكة، وكتب في أوله:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جيران بيت اللّه وسكان حرم اللّه، أما بعد:

فمن كان منكم باللّه مؤمناً، وبمحمد رسول اللّه في أقواله مصدقاً، وفي أفعاله مصوباً، ولعلي أخي محمد رسوله وصفيه ووصيه وخير خلق اللّه بعده موالياً، فهو منا وإلينا. ومن كان لذلك أو لشيء منه مخالفاً، فسحقاً وبعداً لأصحاب السعير، لا يقبل اللّه شيئاً من أعماله وإن عظم وكثر، ويصليه نار جهنم خالداً مخلداً أبداً. وقد قلد محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عتاب بن أسيد أحكامكم ومصالحكم، قد فوض إليه تنبيه غافلكم، وتعليم جاهلكم، وتقويم أود مضطربكم، وتأديب من زال عن أدب اللّه منكم؛ لما علم من فضله عليكم من موالاة محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن رجحانه في التعصب لعلي ولي اللّه، فهو لناخادم، وفي اللّه أخ، ولأوليائنا موال، ولأعدائنا معاد، وهو لكم سماء ظليلة، وأرض زكية، وشمس مضيئة، وقمر منير، قد فضله اللّه تعالى على كافتكم بفضل موالاته ومحبته، لمحمد وعلي والطيبين من آلهما. وحكمته عليكم، يعمل بما يريد اللّه فلن يخليه من توفيقه، كما أكمل من موالاة محمد وعلي شرفه وحظه، لا يؤامر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا يطالعه، بل هو السديد الأمين، فليعمل المطيع منكم، وليف بحسن معاملته، ليسر بشريف الجزاء، وعظيم الحباء، وليوفر

ص: 451

المخالف له بشديد العقاب، وغضب الملك العزيز الغلاب. ولا يحتج محتج منكم في مخالفته بصغر سنه؛ فليس الأكبر هو الأفضل، بل الأفضل هو الأكبر، وهو الأكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعاداة أعدائنا، فلذلك جعلناه الأمير لكم والرئيس عليكم، فمن أطاعه فمرحباً به، ومن خالفه فلا يبعد اللّه غيره.

قال: فلما وصل إليهم عتاب، وقرأ عهده، وقف فيهم موقفاً ظاهراً، ونادى في جماعتهم حتى حضروه، وقال لهم: معاشر أهل مكة إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رماني بكم شهاباً محرقاً لمنافقيكم، ورحمة وبركة على مؤمنيكم، وإني أعلم الناس بكم وبمنافقيكم، وسوف آمركم بالصلاة فيقام لها، ثم أتخلف أراعي الناس، فمن وجدته قد لزم الجماعة التزمت له حق المؤمن على المؤمن، ومن وجدته قد قعد عنها فتشته، فإن وجدت له عذراً أعذرته - إلى أن قال - فأما بعد، فإن الصدق أمانة، والفجور خيانة، ولن تشيع الفاحشة في قوم إلّا ضربهم اللّه بالذل، قويكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، وضعيفكم عندي قوي حتى آخذ له الحق، اتقوا اللّه وشرفوا بطاعة اللّه أنفسكم، ولا تذلوها بمخالفة ربكم.

ففعل واللّه كما قال، وعدل وأنصف وأنفذ الأحكام، مهتدياً بهدى اللّه، غيرمحتاج إلى مؤامرة ولامراجعة»(1).

نعم، حينما نطالع سيرة قادة الإسلام وتاريخهم المشرّف، نراهم يتعاملون مع الشباب بتشجيع واحترام، ويمنحون ذوي الكفاءة منهم ثقة عظيمة، ويحمّلونهم مسؤوليات خطيرة.

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعيّن أسامة قائداً للجيش

كذلك في آخر حياة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الشريفة هيأ جيشاً كبيراً فيه أكابر الصحابة

ص: 452


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 554.

وشيوخ المسلمين لحرب الروم، وجعل قيادة ذلك الجيش لتلك المعركة الخطيرة، بيد أسامة بن زيد، وهو شاب لم يبلغ العشرين من العمر... وقد كان من ضمن الجيش الخاضع لقيادة أسامة الشاب: أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير... وأمثالهم. وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكرراً: «أنفذوا جيش أسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه»(1).

وقد ذكر المؤرخون أن أسامة كان ذكياً منذ صغره ومقداماً، وكان عمره اثنتي عشرة سنة عندما تقدم للتطوع في غزوة أحد(2).

موقعة حنين

وهكذا كان الشباب المؤمنون لهم الدور البارز في التاريخ الإسلامي. ففي موقعة حُنين حينما انهزم جيش المسلمين لم يثبت إلّا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعشرة من المسلمين، كان أحد أولئك الثابتين الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وبعض أولاد العباس، فقد روي: لما كانت غزوة حنين، فاستظهر فيها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكثرةالجمع فخرج ومعه عشرة آلاف من المسلمين، فظن أكثرهم أن لن يغلبوا؛ لما شاهدوا من كثرة جمعهم وعددهم وعدتهم، وأعجب أبا بكر الكثرة يومئذ فقال: لن يغلب اليوم من قلة، فكان الأمر بخلاف ما ظنوه وعانهم أبو بكر، فلما التقوا لم يلبثوا وانهزموا بأجمعهم، ولم يبق مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلّا تسعة من بني هاشم وعاشرهم أيمن ابن أم أيمن وقتل رحمه اللّه، وثبت التسعة الهاشميون ورجعوا بعد ذلك وتلاحقوا وكانت الكرة لهم على المشركين، فأنزل اللّه في إعجاب أبي بكر بالكثرة: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَئًْا وَضَاقَتْ

ص: 453


1- بحار الأنوار 30: 430.
2- المغازي 1: 216.

عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(1) يريد علياً(عليه السلام) ومن ثبت معه من بني هاشم: أمير المؤمنين(عليه السلام) وثمانية: العباس بن عبد المطلب عن يمين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ والفضل بن العباس عن يساره، وأبو سفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند نفر بغلته، وأمير المؤمنين بالسيف بين يديه، ونوفل بن حرث، وربيعة بن الحرث، وعبد اللّه بن الزبير بن عبد المطلب، وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب حوله(2).

مصعب بن عمير

كانت الأخلاق التي يحملها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها الأثر البالغ والمشجِّع على دخول الناس في الإسلام، وكما وصفه الباري في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(3). وكان من ضمن هؤلاء الذين تأثروا بأخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاعتنقوا الإسلام الشاب مصعب بن عمير، فقد تأثر بأخلاق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والصفات الحميدة التي يحملها تأثراً كبيراً، وانجذب إليها انجذاباً شديداً، دون أن يبالي

ص: 454


1- سورة التوبة، الآية: 25-26.
2- كشفة الغمة 1: 221، ذكر الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وفي ذلك يقول مالك بن عبادة الغافقي: لم يواس النبي غير بني *** هاشم عند السيوف يوم حنين هرب الناس غير تسعة ورهط *** فهم يهتفون بالناس أين ثم قاموا مع النبي على الموت *** فأبوا زيناً لنا غير شين وثوى أيمن الأمين من *** القوم شهيداً فاعتاض قرة عين وقال العباس بن عبد المطلب في هذا المقام: نصرنا رسول اللّه في الحرب تسعة *** وقد فر من قد فر عنه فاقشعوا وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه *** على القوم أخرى يا بني ليرجعوا وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه *** لما ناله في اللّه لا يتوجع يعني به أيمن ابن أم أيمن.
3- سورة القلم، الآية: 4.

بردود الفعل التي سيواجهها من قومه، وهذه هي طبيعة الشباب الذين يمتلكون الصفاء الروحي.

بينما بعض كبار السن قد لا يؤمل منهم ذلك؛ لكونهم كبروا في الأجواء الفاسدة، بحيث يصعب قلع تلك الحالات والصفات التي انغرست في نفوسهم.

فمصعب (رضوان اللّه عليه) ذلك الشاب الذي تمتع بصفاء روحي، اعتنق الإسلام بكل روحه وجوانحه، ولم يبال بما سيحدث له من المشاكل والضغوط بسبب ذلك التعصب الجاهلي الذي كان والداه يحملانه. ففي بداية إسلامه أخفى دينه، وكان مجبراً على ذلك؛ لكون الذين أسلموا قبله كانوا يلاقون أنواع الأذى والعذاب من مشركي قريش وأتباعهم. وفي أحد الأيام وعندما كان يصلي، وإذا بأحد المشركين يشاهده وهو في حالة الصلاة، فأخذ ذلك المشرك ينقل ما شاهده من ذلك المشهد - العجيب في نظره - إلى والدي مصعب، فلما سمعابذلك الخبر وتيقنا بأن ولدهما قد دخل في الدين الجديد، الذي جاء به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تألما كثيراً؛ لكونهما كانا يصفان الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاتهامات والأكاذيب الباطلة، فكيف الآن وهما يريان ولدهما قد انضم إلى دين ذلك الرجل الذي كانا يتهمانه بالأباطيل ومختلف التهم.

فقاما بنصحه بترك هذا الدين، وعدم الالتقاء بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولكن ولدهم الشاب لم يتزلزل إيمانه، فأخذا يفكران بطريقة أخرى علّهما يجعلان مصعباً بعيداً عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فسجناه وحرماه من كل النعم والملذات التي كان فيها، ولكنه لم يبال ولم يتنازل عن عقيدته التي تمسك بها، وكان مستعداً لأن يضحي حتى بنفسه في سبيل إيمانه.

ص: 455

رسول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

في أحد الأيام جاء رجلان من قبيلة الخزرج إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكان أحدهما يسمى: ابن زرارة، والثاني: عبد قيس، وقد أقبلا من المدينة فدخلا مكة على حين غفلة من أهلها الذين كان أكثرهم كفاراً، فلمّا حضرا عند الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أوضحا له بأنهما يريدان إنهاء حالة الحرب التي كانت قائمة بينهم وبين القبائل الأخرى، والتي دامت أكثر من مائة سنة، فعرض عليهما رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإسلام، فأسلما، ثم طلبا من الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يرسل معهما إلى المدينة شخصاً من المسلمين ليدعو أهل المدينة إلى الإسلام، وبالفعل استجاب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لطلبهما، فأرسل معهما مصعب بن عمير إلى المدينة.

وكان في المدينة آنذاك ما يقارب العشرة آلاف نسمة، وكانت معيشتهم قاسية، حيث كان اقتصادهم يعتمد على الزراعة فقط، وبالإضافة إلى ذلك كان اليهود يمتلكون قدرة كبيرة من الناحية الاقتصادية، علاوة على ما طبعوا عليه من نشرالمفاسد الأخلاقية والجنسية كيفما شاؤوا، أينما حلوا وارتحلوا، وذلك لجلب الناس إليهم، لتكون لهم السيادة عليهم.

فبسبب هذه الظروف الشديدة كان يمكن لمصعب (رضوان اللّه عليه) أن يختار القرى المجاورة للمدينة، لينطلق منها في عمله التبليغي بدل المدينة، ولكن مع هذا نراه يذهب إلى المدينة، ويجعلها محطته الأولى في عمله الرسالي، متحملاً المصاعب الجسام؛ كل ذلك في سبيل اللّه تعالى، ولكونه قد آمن بالإسلام، ومن آمن بالإسلام والعقيدة الصالحة حق الإيمان فإنه يبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس، وتسهل أمامه الصعوبات والمهمات.

دخل مصعب المدينة، وكأنه رحمة من اللّه قد نزلت على أهلها، وبالفعل كان مصعب رحمة لهم، وذلك لما يحمل في نفسه من نفحات الإيمان والهدى،

ص: 456

مضافاً إلى جمال سيرته وصورته وصوته، فأخذ يدعو الناس إلى الإسلام، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، مبيناً لهم خصائص وامتيازات الدين الجديد، فكان الناس يجتمعون عنده ويسلمون على يديه. وكلما كانت تخرج جماعة منه إلّا وتأتي جماعة أخرى، حتى أنه لم يبق بيت في المدينة إلّا وقد دخله الإسلام؛ وذلك الإقبال الكبير من قبل أهالي المدينة على الإسلام يرجع إلى أنهم كانوا يمتلكون نفوساً طيبة وصافية، فاستطاع مصعب الشاب أن ينفذ إلى نفوسهم، وأن يُدخل في قلوبهم الإيمان بسرعة، بالإضافة إلى عمله الدؤوب وقدرته على إدارة الأمور، وامتلاكه للأخلاق العالية، كل هذه الأمور أدّت بأهل المدينة لأن يختاروا الإسلام على معتقداتهم القديمة.

وهكذا ذهبت الأحقاد والأضغان التي كانت في قلوبهم في ما بين الأوس والخرزج، وذلك بسبب توجههم الإيماني، كما قال اللّه في كتابه الكريم:{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(1).

فقد ورد: إن المراد ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة، إلى أن ألف اللّه بين قلوبهم بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد(2).

واستطاعوا أن يحفظوا الكثير من الآيات المباركة والسور القرآنية، وكانوا يصلّون جماعة في صفوف متراصة، وإذا ما ظهر أحد يحتاج إلى مساعدة ومعونة كانوا يسعون لقضاء حوائجه، وكانت حالة الصفاء والتقوى والعلم هي المعيار والمقياس الأساسي الذي يتميز به الأشخاص.

ص: 457


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- انظر مجمع البيان 2: 357.

استشهاد مصعب بن عمير

شارك مصعب بن عمير مع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معارك كثيرة وكان فارساً شجاعاً لا يهاب شيئاً، وآخر معركة شارك بها مع الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي معركة أُحد، وكان ممن حمل الراية في يوم أُحد، وعندما نشبت المعركة، واشتد القتال بين المعسكر الإسلامي ومعسكر المشركين، شعر مصعب بأن الشهادة قد اقتربت إليه وكان يتمنى ذلك اليوم الذي يستشهد فيه في سبيل اللّه؛ ولهذا فإنه توجه إلى اللّه تعالى ودعاه بأن لا تسقط الراية من يده حتى بعد استشهاده، وبالفعل قد استجاب دعاءه فعندما حان وقت استشهاده، وكانت المعركة قد ألهبت نيرانها، بعث اللّه عزّ وجلّ ملكاً من الملائكة إلى الأرض، وكان هذا الملك قد نزل وهو في صورة مصعب بعد أن سقط مصعب شهيداً على الأرض، فأخذ الملك الراية من يد مصعب وحملها إلى أن انتهت الحرب.

وبعد أن خمد لهيب الحرب سأل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أحوال مصعب؟ فأجابهالمسلمون بأنه ما زال على قيد الحياة، وأنه ما زال يحمل الراية بيده فلم تسقط الراية من يده منذ بداية الحرب إلى انتهائها، فطلب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يحضره عنده، عندها تقرّب الملك الذي نزل بصورة مصعب قائلاً: يا رسول اللّه إني ملك من الملائكة جئت بأمر اللّه عزّ وجلّ وحملت الراية بدلاً من مصعب؛ لأن مصعب قبل أن يستشهد دعا ربه بأن لا تسقط الراية من يده، فاستجاب له ربه فأمرني أن أهبط إلى ساحة المعركة، وأحمل الراية بدلاً من مصعب، هذا حسب بعض التواريخ(1)، وفي بعض الروايات روي: إن مصعب عندما استشهد أعطى الرسول

ص: 458


1- انظر بحار الأنوار 20: 143، والمغازي 1: 234.

الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اللواء إلى الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)(1).

ذو البجادين

كان عبد اللّه ذو البجادين(2) شاباً من إحدى القبائل القاطنة في أطراف المدينة المنورة، مات أبوه - رئيس القبيلة - وتولى الرئاسة عمه الذي كانت له بنت جميلة وكان صاحب ثروة عريضة وزعامة على القبيلة. هذا الشاب كان مرشحاً لأن يكون زوجاً للفتاة، وأن يرث الزعامة والمال والمكانة الاجتماعية المميزة بعد عمه.

كان هذا الفتى يذهب إلى المدينة كل شهر لأجل شراء ما تحتاجه القبيلة، وذات مرة وأثناء جولته في المدينة رأى رجلاً يخطب في ساحة تحيط بها جدرانأربعة على مجموعة من الناس، وقف يسمع، جذبته الخطبة، سأل رجلاً: من الخطيب، ومن المستمعون؟

أجابه الرجل: الخطيب، محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والجالسون هم المسلمون، وهذا المحوطة مسجد بناه المسلمون.

رجع الشاب إلى قبيلته، وفي الشهر التالي عاد إلى المدينة للاشتراء وذهب إلى المسجد للاستماع، وفي المرة الثالثة والرابعة كان يحس بأنه ينجذب أكثر فأكثر نحو هذا النبي العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وفي أحد الأيام خاطب عمه قائلاً: يا عم، لماذا نشتري كل شهر مرة، فلنشتر كل أسبوع مرة؛ حتى تكون البضائع والمواد التي نشتريها جديدة، وقبل العم،

ص: 459


1- انظر بحار الأنوار 20: 144، وروي: أعطى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اللواء مصعب بن عمير يوم أحد فاستشهد ووقع اللواء من يده، فتشوفته القبائل، فأخذه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدفعه إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام) فجمع له يومئذ الراية واللواء، فهما إلى اليوم في بني هاشم. الإرشاد 1: 79.
2- عبد اللّه بن عبد نهم بن عفيف المزني، صحابي راجز.

وهكذا أصبح باستطاعة الشاب أن يستمع إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كل أسبوع مرة واحدة، وبعد مدة أسلم الشاب، فجاء إلى عمه قائلاً: يا عم، قد أسلمت.

فقال العم: أصبوت إلى دين محمد؟

قال: إن دين محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الإسلام لا انحراف فيه.

قال العم: يا بني لو أصررت على إسلامك فلن أزوجك ابنتي.

أجابه الشاب: هذا هين، لا رغبة لي في النساء.

قال له العم: وسوف أمنعك من دخول بيتي.

أجابه الشاب: إن ذلك سهل، فأرض اللّه واسعة.

قال له عمه: سأحرمك من الثروة.

أجابه: إن الثروة مال فانٍ وزائل.

فقال: ستحرم عن رئاسة القبيلة.

أجابه الشاب: إنني لا أريد الزعامة.

فقال له عمه: يجب عليك أن تنفصل عن قبيلتنا.أجابه: سوف أخرج.

فقال له العم: وعليك أن تنزع كل ملابسك وتعطيها لي.

أجابه: لا بأس.

فجرده عمه القاسي من كل ملابسه وتركه عارياً، ولما رأته أمه عارياً أشفقت عليه وأعطته بجاداً(1) شقّه نصفين، وجعل نصفه إزاراً والنصف الآخر مئزراً ولبسهما، ثم اتجه نحو المدينة المنورة ووصلها ليلاً - وليس معه أي شيء - واتجه نحو المسجد ونام الليل فيه، وعندما جاء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى صلاة الصبح،

ص: 460


1- كساء من أكسية العرب مخطط.

رأى شاباً غريباً فسأله: «من أنت؟».

فذكر له الشاب اسمه الجاهلي: عبد العزى.

فقال له الرسول: «إن اسمك هو عبد اللّه ذو البجادين».

وبدأ الشاب يأتمر بأوامر الإسلام وكان من خيرة المسلمين حتى استشهد في إحدى المعارك(1).

فما الذي غير شخصية عبد اللّه ذي البجادين، وأحدث انقلاباً في ضميره؟

إن الذي تغيّر في هذا الشاب هو معرفته بالدين الجديد العظيم، الذي تنجذب إليه النفوس البريئة والنظيفة غير المتطبعة على الانحراف.

الشباب والعمل التنظيمي

اشارة

وهنا لا بأس بالإشارة إلى نقطة مهمة في أمر الشباب، وذلك من باب التذكرة، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(2)، لذا فمن الضروري العملبذلك في سبيل إنقاذ المسلمين وهو:

تنظيم الشباب

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لولديه الإمامين الحسن المجتبى والحسين الشهيد (صلوات اللّه عليهما): «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى اللّه ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم فإني سمعت جدكما(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام اللّه»(3).

لا بد للمسلمين من التنظيم؛ إذ عليهم أن يؤسسوا تنظيمات صالحة لكي تقوم

ص: 461


1- انظر أسد الغابة 3: 122.
2- سورة الذاريات، الآية: 55.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام).

بتنظيم الشباب ورعايتهم، لأنهم إذا لم يفعلوا ذلك فسيأتي غيرهم من مروجي الأحزاب الفاسدة والمنحرفة، فينظمهم ويرسّخ في أذهانهم أفكار منحرفة ومزيفة، وقد تكون أساساً أحزاباً ضد الإسلام، وهذا ما شاهدناه بالفعل في بعض بلادنا(1).

فإن الشاب يمتلك أماني وطموحات وأهداف كبيرة، وهو يحث الخطى في أغلب الأحيان لتحقيقها، وكذلك عنده حاجيات ومتطلبات، يحاول ويجهد نفسه أن يقضيها. لذا فمن الضروري أن نهتم بتنظيم الشباب تنظيماً حسب الموازين العلمية والشرعية، وحسب متطلبات العصر(2).

ويلزم أن يكون التنظيم عملياً بكل أبعاده، في خلاياه الحزبية والسياسية والثقافية والاجتماعية، فمثلاً: يلزم التأكيد على أهداف ومبادئ مهمة أكد عليهاالإسلام، منها:

مبدأ الحرية، حيث قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(3).

ومبدأ الأمة الواحدة؛ حيث قال سبحانه: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(4) وقال عزّ وجلّ: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(5).

ص: 462


1- كما حصل في العراق وأفغانستان وما أشبه؛ حيث روجوا فيهما لأحزاب وأفكار عديدة كالقومية والشيوعية والبعثية والاشتراكية والرأسمالية وغيرها، وهي أحزاب ومبادئ منحرفة عن الإسلام وتهدف إلى التخلي عن الإسلام تحت مسميات عديدة، وتنعت الملتزمين به بالرجعيين والمتخلفين، وما إلى ذلك.
2- للتفصيل انظر كتاب (نحو يقظة إسلامية) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه)، و(الفقه) كتاب الدولة الإسلامية.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.
4- سورة الأنبياء، الآية: 92.
5- سورة المؤمنون، الآية: 52.

ومبدأ الأخوة؛ حيث قال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1).

كما يجب التأكيد على ترسيخ مبدأ اللاعنف والرفق - الذي هو من صميم الإسلام - في صفوف التنظيم وبين الشباب المسلم، فقد قال اللّه تعالى:

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(2).

وورد في الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «إن الرفق لم يوضع على شيء إلّا زانه، ولا نزع من شيء إلّا شانه»(3).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن لكل شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق، فمن رفقه بعباده تسليله أضغانهم، ومضادتهم لهواهم وقلوبهم، ومن رفقه بهم أنه يدعهم على الأمر يريد إزالتهم عنه رفقاً بهم؛ لكيلا يلقي عليهم عرى الإيمان ومثاقلتهجملة واحدة فيضعفوا، فإذا أراد ذلك نسخ الأمر بالآخر فصار منسوخاً»(5)، لذا يلزم زرع هذه المبادئ في نفوسهم، والتعاون على تطبيقها.

وكذلك يلزم العمل على ترسيخ مبدأ عدم وجود الحدود الجغرافية في ما بين البلاد الإسلامية، ولأنه مبدأ الإصلاح الحكيم، فيلزم عليهم أن يغيروا المحيط الفاسد بما يقتضيه الشرع، لا أن ينخرطوا في المحيط ويذوبوا فيه فإنه تبارك وتعالى قال: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(6).

ص: 463


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سورة فصلت، الآية: 34-35.
3- الكافي 2: 119.
4- الكافي 2: 118.
5- الكافي 2: 118.
6- سورة المؤمنون، الآية: 52.

من لوازم التنظيم

إذا كان التنظيم يتوقف على السرية والكتمان؛ لبعض الظروف التي تعيشها البلاد الإسلامية من سيطرة الطغاة والدكتاتوريين فلا بأس بذلك، فإنه يلزم أن يكون الأمر سراً في ما يقتضي السّرية، فقد ورد في الحديث الشريف: «واستعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان»(1).

ومن الواضح أن في حياة الإنسان - فرداً وجماعة - أسرار خاصة وعلاقات متمايزة، لا يحب أو لا يصلح أن يطلّع عليها أحد من الناس، فإنه لا تخلو حياة الإنسان من أسرار ذات علاقة بعائلته ورزقه وعمله وعيشه، فحياة الإنسان مهما كانت جليّةً وواضحة، منطوية - عادة - على أمور من الأفضل أو اللازم أن لا يطّلع عليها أحد، وقد قال سبحانه: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِ حَدِيثًا}(2) الآية.

وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أراد الحرب أخفى توقيتها؛ حتى لايعرف العدو فيأخذ حيطته وحذره فتكون الحرب أشد، أو قد تسبب خسارة المسلمين للحربوبالتالي وقوع عدد كبير من الضحايا. وقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخفى نية فتحه لمكة المكرمة؛ وذلك حذراً من إراقة الدماء في قصة مفصلة دونها التاريخ(3).

وقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا}(4).

ص: 464


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 127.
2- سورة التحريم، الآية: 3.
3- انظر بحار الأنوار 21: 102، وفيه قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها».
4- سورة النساء، الآية: 83.

وهكذا نجد أن السرّية في الجملة لازمة بالنسبة إلى أمثال هذه الأمور في العديد من المؤسسات على تباين أعمالها واختلاف تخصصاتها، سواء المؤسسة الكبيرة المديرة التي تسمى بالحكومة أو الحزب الحاكم، أو المؤسسة الصغيرة. فإنه للمخترعين والمكتشفين أسرار يحبّون أن تُصان ويلجئون لحمايتها بأخذ حق الاختراع؛ حتى لا يسطو عليه أحد ولا يدّعيه آخرون. وكذلك أسرار في الصحافة ودور النشر والتوزيع وما أشبه، حيث يسعى أصحابها إلى كتمانها حرصاً على حمايتها من التراجع والتأخر، وهكذا المؤسسات الهندسية ومكاتب التعهدات والمؤسسات التجارية التي ينافسها غيرها في السوق، بل وحتى للطهاة والطّباخين وصانعي الحلويات وما أشبه أسرارهم الخاصة، كما يُشاهد أيضاً أن للمرضى أسراراً عند أطبائهم لا يحبّون أن يطلّع عليها أحد.

فيصحّ إذن أن يكون للتنظيم الذي يدار من جهة القيادة الصحيحة الشرعية أسراره الخاصة في حقولهم المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليس معنى ذلك أنهم يريدون الإيقاع بالآخرين أو المؤامرة على الدولة، أو ما أشبه ذلك.

من هم قادة الشباب؟

ثم إن اللازم على التنظيم أن يقدم للشباب قادة صلحاء فيلزم أن يكون التنظيم بيد القادة الناضجين الذين يخافون اللّه عزّ وجلّ واليوم الآخر، ويحبّون الناس شيوخاً وشباباً، ويسعون في هدايتهم إلى الخير، فإن هذا من أهم ما يلزم تأسيسه لإدارة أمور الشباب، وبذلك يتمكنون من اطّراد العمل الصالح باستقامة وتقدم وعلو، فإن: «يد اللّه مع الجماعة»(1) والقوى إذا اجتمعت بعضها إلى بعض تأتي

ص: 465


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127، من كلام له(عليه السلام) وفيه يبيّن بعض أحكام الدين.

بشبه المعجز في السعة والعلو والعمق، كما قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في آخر وصية له:

«أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى اللّه ونظم أمركم»(1)، وقبل ذلك قال تبارك وتعالى: {مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ}(2).

فإن اللّه سبحانه وتعالى خلق الخلق من الذرة، أو الأصغر منها، إلى المجّرة أو الأكبر منها بكل دقة وتنظيم ووزن، حتى أن الأمر إذا زاد أو نقص عن حده التكويني أو التشريعي أوجب اضطراباً متزايداً أو في الجملة.

والإنسان إذا رأى النملة الصغيرة جداً يرى الموزونية الشاملة والنظم الدقيق في جميع أعضائها وجوارحها ومتطلباتها وشهواتها، فإذا كانت رجلها - مثلاً - عوجاء ناقصة أوجبت لها تعرجاً واضطراباً، وهكذا، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(3).

القائد الناجح والشباب

نقل لي أحد المراجع عن قائد ثورة العشرين الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) فقال: إن الإمام الثائر قد التفّتْ حوله الجماهير التفافاً عجيباً، الشيوخ والعشائر، الكبار والصغار، ضد بريطانيا الغاصبة، وكان وراء بريطانيا في ذلك اليوم أكثر من ألف مليون إنسان - الهند بكاملها والصين والشرق الأوسط ومناطق أخرى من أفريقيا وغيرها - لكن هذا القائد الإسلامي المحنّك تمكن أن يطرد الاستعمار البريطاني من العراق. وكان الازدحام هائلاً حول الميرزا محمد تقي الشيرازي، ومن الطبيعي أن المرجع وعمره الكبير لا يتمكن أن يجمع بين

ص: 466


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام).
2- سورة الحجر، الآية: 19.
3- سورة المؤمنون، الآية: 14.

قيادة الثورة المتأججة؛ فهو كالقائد في ميدان المعركة المشتعلة، وبين تلبية حوائج الناس، فقال لنا - نحن معاشر الطلبة - وكنا في مقتبل العمر ذلك اليوم:

أيها الطلبة، إني قبل الثورة كنت أتمكن من قضاء حوائجكم شخصياً، وأما بعد الثورة فإني مشغول بالمسؤوليات، ولا أتمكن من قضاء حوائجكم فرداً فرداً، كما أنكم لا تتمكنون أن تصلوا إليّ للازدحام الذي حولي، فإذا كانت لأحدكم حاجة فإني في كل يوم بعد صلاة الصبح أخرج إلى الشوارع المحيطة بأطراف كربلاء المقدسة، فيتمكن كل طالب علم أو أي شخص آخر يريد لقائي على انفراد، أن يأتي في ذلك الوقت لأقضي حاجته.

فهذا العالم - الراوي للقصة - يقول: إني شخصياً ذهبت إليه مرات عدة وعندي حاجة مادية أو معنوية، وكنت أرى الشيخ يمشي وحده، على النهر أو في الشارع المحاط بالأشجار، وأحياناً يذهب إليه فقير أو طالب أو جماعة لأخذ حاجاتهم وهكذا.

فهذا الإمام الأسوة والقائد الأعلى للمسلمين في ذلك اليوم كان يعطي بعضوقته لفرد فرد من أفراد الأمة ويقضي حاجاتهم، مما سبب التفاف الجماهير حوله وطاعته بمختلف فئات المجتمع خاصة شبابهم، وهو سبب تمكنه من طرد بريطانيا من بلد المقدسات العراق، وإنما تمكّن من ذلك للمحبوبية المنقطعة النظير التي اكتسبها جراء أخلاقه الطيبة وجماهيريته الواسعة.

فاللازم على المجتمع الإسلامي أن يسعى بكل جهده للاهتمام بمتطلبات الشباب ورغباتهم المشروعة؛ والتي منها إيجاد التنظيمات الصالحة، إذ أن الشاب إذا لاحظ أن مجتمعه عاجز عن تلبية طموحاته وأهدافه، فربما سيقع في المحرمات والمعاصي، كالجائع الذي لا يستطيع الحصول على ما يسد جوعه،

ص: 467

فتراه يسعى في الحصول على رغيفه حتى إذا كان عن طريق السرقة في بعض الأحيان، فكذلك الشاب لا بد له من إيجاد وسائل وطرق تؤدي لحل مشاكله، وطرق تقوم بتلبية أمانيه، كي لا ينجرف إلى تيار الفساد والعصيان، وأفضل وسيلة لذلك هي التنظيم الصالح.

ربما يقرؤه أحد الشباب

ذكر أحد الأشخاص قصة فقال: كنت أعمل في سوق الصفّارين ببغداد وهو سوق كبير، والعاملون فيه كلهم مسلمون، وكنت واحداً من الصفّارين، وقد كان أحد المسيحيين يأتي كل أسبوعين أو كل شهر مثلاً، ويقدّم لكل صفّار كتاباً، وربما كان الكتاب مجلداً ضخماً بقيمة دينار كامل - وهو مبلغ كبير في ذلك الزمان - وعندما كان المبشر المسيحي يخرج من السوق، كان الصفارون يلقون بالكتب في النار (في الكورة التي يستخدموها لصهر النحاس وما أشبه، حيث إنهم يعلمون أنها كتب مسيحية وحفظ كتب الضلال محرم).

يقول الراوي: فكرت ذات مرة أن أقول للمسيحي واقع الحال؛ حتى يمتنع عنالاستمرار في توزيع الكتب، وبالفعل عندما جاء هذه المرة ووزع الكتب، ولما أراد الذهاب تعقبته وقلت له: إنك تعلم أيها المبشِّر المسيحي إن هؤلاء مسلمون، وهم يحرقون هذه الكتب التي تعطيها لهم، فلماذا تفعل ذلك، إذ أنها جهود لا طائل تحتها ولا ثمرة لها؟!

فتبسم المسيحي، وقال: إني أعلم بذلك منذ اليوم الأول؛ لأني رأيت بطرف عيني إحراقهم للكتب!!

فقلت له: إذن ما الداعي لما تفعل؟!

قال: صحيح إن هؤلاء يحرقون الكتب ولكن ربما لا يحرق أحدهم الكتاب،

ص: 468

بل يذهب به إلى داره فيقع في يد ابنه الشاب أو ابنته الشابة، فيطالعه أو تطالعه ويؤثر عليهما ولو جزئياً، وهذا ربح لنا!!

هكذا يضحون بالمال والأتعاب والطاقات في سبيل تحريف شخص واحد، فهؤلاء يعملون هكذا، أما نحن فلإننا لم نستطع أو لم نبذل الجهد المطلوب لتثقيف شبابنا وفتياتنا - وهذا هو سبب تأخرنا - نجد كثيراً من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن الفكر الإسلامي في مجال السياسة الإسلامية، والاجتماع والاقتصاد وغيرها من معالم الإسلام، كما لا يعرفون شيئاً عن كيفية عمل المستعمرين في بلادنا وأساليبهم وخططهم، ولا يعرفون كيف يواجهونهم ويسدون الطريق عليهم.

الشباب والمبادئ والقيم

من اللازم أن يكون المعيار في العمل القيم والمبادئ والمعرفة الدينية، دون العمر أو القوميات أو اللون أو العرق؛ فإن الدين أعلى القيم وأشرفها، ولا بد من وضع الإنسان المؤمن المتقي والعارف بدينه وعقيدته في مكانه المناسب، كمافي القول المأثور: الرجل المناسب في المكان المناسب(1)، حتى وإن كان هذا الرجل من قومية أخرى، فلا فرق في الإسلام بين الهندي والباكستاني والعراقي والمصري والتركي والإيراني أو من أشبه؛ إذ ليست الجنسية والقومية هي المعيار في تحديد شخصية الإنسان، بل إن المعيار هو التقوى والكفاءة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2).

ص: 469


1- انظر نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 كتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) للأشتر النخعي، وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن. وفي هذا العهد يبين الإمام(عليه السلام) لمالك المقاييس والضوابط لاختيار العمال كل حسب مؤهلاته وإمكانياته.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم بنو آدم طفّ الصاع إلّا من أكرمه اللّه بالتقوى، إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم»(2).

وروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «كان سلمان جالساً مع نفر من قريش في المسجد، فأقبلوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم حتى بلغوا سلمان، فقال له عمر بن الخطاب: أخبرني من أنت، ومن أبوك، وما أصلك؟

فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه عزّ وجلّ بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، هذا نسبي وهذا حسبي.

قال: فخرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسلمان (رضي اللّه عنه) يكلمهم، فقال لهسلمان: يا رسول اللّه، ما لقيت من هؤلاء، جلست معهم فأخذوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم، حتى إذا بلغوا إلي قال عمر بن الخطاب: من أنت، وما أصلك، وما حسبك؟

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): فما قلت له يا سلمان؟

قال: قلت له: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاً فأغناني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، هذا نسبي وهذا حسبي.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا معشر قريش، إن حسب الرجل دينه، ومروءته خلقه،

ص: 470


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- مستدرك الوسائل 11: 267.

وأصله عقله، وقال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

ثم قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لسلمان: ليس لأحد من هؤلاء عليك فضلٌ إلّا بتقوى اللّه عزّ وجلّ، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل»(2).

بالإضافة لمشورة سلمان التي عمل بها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قضية حفر الخندق(3).

ومن هنا يلزم الاهتمام بعقائد الشباب ومبادئهم وقيمهم؛ فإن العقيدة هي التي تحمي الإنسان في مختلف المراحل الحياتية، فالعقيدة الصحيحة بشكل كامل هي الضمان لعدم الانجراف في مختلف المفاسد، أما العقيدة المنحرفة بشيء من الانحراف فبقدر انحرافها يكون لها الأثر السلبي، وإذا بقي لها نوع منالصحة فبقدر صحتها تكسب الإيجابيات، قال سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٖ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}(4).

فالشرق حيث تجرّد عن العقيدة الدينية بشكل مطلق، وأخذ يحاربها بمختلف صورها، سبّب أكبر شقاء للبشرية، وقد سجل التأريخ مآسيه البشعة، فقد ذكر أن ستالين وحده قتل ما يزيد على عشرين مليون إنسان غير قتلاه في الحروب، إلى أن تحطم الاتحاد السوفياتي تحطماً كاملاً.

وأن (ماو)(5)قتل تسعاً وثلاثين مليونا صبراً وقد تحطم بعد مدّة.

ص: 471


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الكافي 8: 181.
3- انظر تفسير القمي 2: 177.
4- سورة الحج، الآية: 40.
5- ماو تسه تونغ (1893-1976م) زعيم صيني صاحب الثورة الاشتراكية.

والغرب وإن كان أظهر اللامبالاة أمام العقيدة والدين إلّا أنه اضطر إلى تقوية الكنيسة واتباع رجالها في العقيدة المسيحية.

ومنه يعلم حال اليهود والهندوك ومن أشبه.

الشباب وطلب العلم

إن العقيدة الصحيحة عصمة للإنسان وللمجتمع من الانحراف الفكري والعملي، وعلى هذا فاللازم على القادة والعلماء الاهتمام بعقائد الشباب كل الاهتمام، وإلّا أصبح أمرهم مبعثراً، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}(1) فإن الإنسان الذي لا ينظّم حياته وفي مختلف مراحلها وأبعادها ومنها العقيدية يكون أمره فرطاً، لا يعرف من أين يأخذ، وأين يعطي، وأين يسير، وماذا يعمل، وكيف يبني... حاله حال العنب الذي انفرط عن عنقوده، فإنه لا جامع له.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم من معدن العلم، وإياكم والولائج؛ فهمالصادون عن سبيل اللّه» ثم قال: «ذهب العلم وبقي غبرات العلم في أوعية سوءٍ، واحذروا باطنها فإن في باطنها الهلاك، وعليكم بظاهرها فإن في ظاهرها النجاة»(2).

وحيث إن العقيدة الإسلامية المباركة مطابقة للعقل والفطرة والدليل، فالشباب يقبلونها بسرعة، وإنما المهم تسييرهم في أول الخط حتى يسيروا إلى آخر الخط باستقامة وثبات، إن شاء اللّه تعالى، قال الإمام الباقر(عليه السلام): «كل ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل»(3).

كما على الشباب الالتفات إلى ضرورة تحصيل العلم والدراسة بما للكلمة

ص: 472


1- سورة الكهف، الآية: 28.
2- بحار الأنوار 2: 93.
3- وسائل الشيعة 27: 75.

من معنى، لا كالمتعارف في هذا الزمان حيث إنهم إذا اشتغلوا بدراسة العلوم، وأنهوا الجامعة ابتدؤوا الحياة تاركين التقدم العلمي وتطوير معلوماتهم أو تنويعها من دون استفادات أخرى من التجارب والنظريات الجديدة؛ لذا يلزم المواظبة على طلب العلم دائماً، فقد روي عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اطلبوا العلم من المهد إلى اللّحد»(1)، وهذا صحيح قطعاً، فمن المهد يتعلم الطفل كما ثبت في العلم الحديث، وقد ورد عن المعصومين(عليهم السلام) استحباب ذكر الأذان في الأذن اليمنى والإقامة في الأذن اليسرى من المولود(2).

وهكذا يكون العلم مستمراً إلى اللّحد، ولذا ورد في الأحاديث: أن الميت يلقّن في قبره، وربما كان ذلك ليتذكر ما نساه بسبب أهوال القبر، فإن الإنسان لا تموت روحه؛ فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «ينبغي أن يتخلف عند قبر الميتأولى الناس به بعد انصراف الناس عنه، ويقبض على التراب بكفيه ويلقنه برفيع صوته، فإذا فعل كفي الميت المسألة في قبره»(3).

هذا من جهة الامتداد الزمني، أما من جهة الامتداد المكاني، فقد رُوي عنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اطلبوا العلم ولو بالصين»(4). حيث إن الصين كانت أبعد نقطة حضارية معلومة في ذلك العصر، ولعل السفر من الحجاز إليها - ذهاباً وإياباً - كان يتطلب سنوات من الزمن.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج»(5).

ص: 473


1- نهج الفصاحة: 218.
2- فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من ولد له مولود فليؤذن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة وليقم في أذنه اليسرى؛ فإنها عصمة من الشيطان الرجيم». تهذيب الأحكام 7: 437.
3- علل الشرائع 1: 308.
4- روضة الواعظين 1: 11.
5- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 108.

وفي حديث آخر قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال:«سارعوا في طلب العلم، فوالذي نفسي بيده، لحديث واحد في حلال وحرام تأخذه من صادق خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة»(2).

قصة في طلب العلم

يذكر أن أحد العلماء الفقهاء زار أحد العلماء الرياضيين وهو في حالة الاحتضار، فسأله العالم المحتضر عن مسألة فقهية عميقة، مثل إرث الأجداد الثمانية.

فقال له الفقيه: كيف تسأل هذا السؤال ولا تحتاج إليه، لأنك على أبوابالآخرة وتقضي آخر يوم من أيام الدنيا؟

فأجابه العالم الرياضي بجواب جميل جداً قائلاً: هل إذا مت وأنا أعلم هذه المسألة أفضل أو مت وأنا لا أعلم هذه المسألة؟

قال الفقيه: إذا كنت تعرف هذه المسألة كان أفضل.

فقال العالم الرياضي للفقيه: إذن فتفضل بالجواب، وأخذ الفقيه يبيّن له الجواب... وما أن انتهى من الجواب إلّا وقد مات العالم الرياضي.

فهكذا يلزم أن يكون الاهتمام بالعلم.

فكلما كان الإنسان أعلم كان أفضل لحياته ومماته، لنفسه ولغيره.

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة وبُعدَ المعصية، وصدق النية، وعرفان الحُرمة،

ص: 474


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- المحاسن 1: 227.

وأكرمنا بالهُدى والاستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهّر بطوننا من الحرام والشُّبهة، وأكفف أيدينا عن الظلم والسرقة، وأغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدُد أسماعنا عن اللغو والغيبة، وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

القدوة والأسوة الحسنة

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ}(2).

وقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ

ص: 475


1- المصباح للكفعمي: 280.
2- سورة الممتحنة، الآية: 6.
3- سورة آل عمران، الآية: 31.
4- سورة يونس، الآية: 35.

وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

درجات التفضيل بين الناس

قال سبحانه وتعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُنَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(2).

وقال سبحانه: {لَّا يَسْتَوِي الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ عَلَى الْقَٰعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَلَلْأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَٰتٖوَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}(4).

العمل التبليغي

قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}(5).

وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ

ص: 476


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة التوبة، الآية: 19.
3- سورة النساء، الآية: 95.
4- سورة الإسراء، الآية: 21.
5- سورة الأحزاب، الآية: 39.
6- سورة النحل، الآية: 125.

الْمُسْلِمِينَ}(1).

العمل مقياس للكفاءة

قال عزّ وجلّ: {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَٰتُ الْعُلَىٰ}(3).

وقال سبحانه: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(4).

وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو القدوة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمقتص لأثره»(6).

وقال(عليه السلام): «ارض بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رائداً وإلى النجاة قائداً»(7).

وقال(عليه السلام): «اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى، واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن»(8).

ص: 477


1- سورة فصلت، الآية: 33.
2- سورة البقرة، الآية: 62.
3- سورة طه، الآية: 75.
4- سورة الأنعام، الآية: 132.
5- سورة ص، الآية: 28.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 160 من خطبة له(عليه السلام) في عظمة اللّه.
7- عيون الحكم والمواعظ: 76.
8- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 110 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.

وقال(عليه السلام): «يا أيها الناس، إنه لم يكن للّه سبحانه حجة في أرضه أوكد من نبينا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولا حكمة أبلغ من كتابه العظيم، ولا مدح اللّه تعالى منكم إلّا من اعتصم بحبله واقتدى بنبيه، وإنما هلك من هلك عندما عصاه وخالفه واتبع هواه؛ فلذلك يقول عزّ من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}»(1)(2).

أفضل الناس

سئل عيسى(عليه السلام) من أفضل الناس قال: «من كان منطقه ذكراً وصمته فكراً ونظره عبرة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن أفضل الناس عند اللّه من كان العمل بالحقأحب إليه وإن نقصه»(4).

وقال(عليه السلام): «فاعلم أن أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هُدِيَ وهَدَى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة»(5).

وقال(عليه السلام): «إن أفضل الناس عند اللّه، من أحيا عقله، وأمات شهوته، وأتعب نفسه لصلاح آخرته»(6).

الإخلاص في العمل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لابن مسعود: «يا ابن مسعود، إذا عملت فاعمله للّه

ص: 478


1- سورة النور، الآية: 63.
2- عيون الحكم والمواعظ: 557.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 250.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 125 من كلام له(عليه السلام) في التحكيم.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 164 من كلام له(عليه السلام) لما اجتمع الناس إليه وشكوا ما نقموه على عثمان... .
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 236.

خالصاً، لأنه لا يقبل من عباده الأعمال إلّا ما كان له خالصاً»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «طوبى لمن أخلص للّه عمله وعلمه، وحبه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وفعله وقوله»(2).

وقال(عليه السلام): «العمل كله هباء إلّا ما أخلص فيه»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «في إخلاص الأعمال تنافس أولي الألباب»(4).

العمل مقياس للكفاءة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه تعالى لا يقبل من العمل إلّا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشرف عند اللّه بحسن الأعمال لا بحسن الأقوال»(7).

وقال الإمام علي الهادي(عليه السلام): «الناس في الدنيا بالأموال وفي الآخرة بالأعمال»(8).

ص: 479


1- مكارم الأخلاق: 453.
2- تحف العقول 2: 100.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 75.
4- عيون الحكم والمواعظ: 354.
5- نهج الفصاحة: 300.
6- تنبيه الخواطر ونزهة الناظر 2: 228.
7- عيون الحكم والمواعظ: 57.
8- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 139.

شخصية المؤمن

النفس والإطراء

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «اللّهم إنك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللّهم اجعلنا خيراً مما يظنون واغفر لنا ما لا يعلمون»(1).

جاء هذا الكلام من أمير المؤمنين وإمام المتقين(عليه السلام) عندما مدحه قوم في وجهه الشريف(عليه السلام).

فقال(عليه السلام): «اللّهم إنك أعلم بي من نفسي» فإن اللّه سبحانه وتعالى يعلم دقائق وخفايا صفات الإنسان وأعماله ما لا يعلمه الإنسان بنفسه «وأنا أعلم بنفسي منهم». أي من هؤلاء المدّاحين؛ لأن كل إنسان يعرف نفسه خيراً من معرفة غيره له «اللّهم اجعلنا خيراً مما يظنون» أي مما يظن هؤلاء المادحون «واغفر لنا ما لا يعلمون» من الأخطاء، ومن المعلوم أن طلب الأئمة(عليهم السلام) للغفران، باعتبار بعض المباحات التي لا يرونها لائقة بمقامهم مع اللّه سبحانه وتعالى مضافاً إلى أنه تعليم للآخرين.

وهو توجيه للمؤمنين في الحذر من العجب بالنفس وتمكين الشيطان منهم بإعطائه هذه الفرصة وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حب الإطراء والمدح من أوثق

ص: 480


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 100.

فرص الشيطان»(1).

وقال(عليه السلام): «إياك والإعجاب وحب الإطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان»(2).

قوة الشخصية

اشارة

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «نزه عن كل دنية نفسك وابذل في المكارم جهدك تخلص من المآثم وتحرز المكارم»(3).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «يا أيها الناس نافسوا في المكارم وسارعوا في المغانم...»(4).

يتطلع كل إنسان سوي إلى التكامل في الأخلاق وتحصيل السمعة الطيبة ونيل المكانة المرموقة بين الناس، فهذه حاجة نفسية أصيلة في كل فرد، تدفعه دفعاً إلى نيل المكرمة والتمتع بالشهرة واكتساب الذكر الحميد في المجتمع، وهذا يتحصل عن طريق قيامه بالأعمال الحسنة والأفعال الطيبة، التي تعود عليه بحسن العاقبة في رضا اللّه عنه، وتأييد أفراد المجتمع ومصادقتهم على كل ما يصدر عنه من انجازات ناجحة وأعمال باهرة وفضائل محمودة، وكلما حظي المرء باحترام الناس انبسطت نفسه انبساطاً، وقويت روحه المعنوية، فدفعته من نجاح إلى نجاح آخر وأكبر.

وكلما استطاع الإنسان أن يألف الجماعة ويبادلها المودة ويشارك في سرّائها وضرّائها، كل ما ظهرت تلك الشخصية القوية في حياته التي تولد عنده نوعاً من

ص: 481


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 348.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 168.
3- عيون الحكم والمواعظ: 498.
4- كشف الغمة 2: 29.

الاطمئنان النفسي والاستقرار الروحي.

السبيل إلى الشخصية القوية

من الأمور التي لها أهمية كبرى في حياة الإنسان، هي أنه كيف يمكن للإنسان أن يكون صاحب شخصية علمية ومذهبية وعملية مرموقة بين الناس، لكي يستطيع هداية الناس إلى الطريق الإسلامي السوي؟

لعل من أولى متطلبات الشخصية الناجحة، الصدق في معاملة الناس ومطابقة الأقوال بالأفعال، ورعاية مصالحهم، والالتزام بالمبادئ السليمة، وعدم التفريط في ذلك كله، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الصدق صلاح كل شيء»(1).

وقال(عليه السلام): «عليك بالصدق فمن صدق في أقواله جلّ قدره»(2).

فالشخصية الأصيلة والجذابة في المجتمع تبنى حقاً على حسن النية التي يبديها الفرد نحو الآخرين والاهتمام المخلص بمصلحتهم، وبذلك فالشخص الذي يمتلك المكانة الاجتماعية والعلمية يستطيع العمل كثيراً في داخل مجتمعه فعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(3) قال: «يعني بالعلماء من صدَّق فعله قوله، ومن لم يصدِّق فعله قوله فليس بعالم»(4)، خلافاً للشخص الذي لا يمتلك تلك الشخصية. ويستطيع الإنسان أن يحصل على هذه الشخصية عن طريق السعي الكبير والإبداع الدائم والعمل الدؤوب والإخلاص وفي ذلك، قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا

ص: 482


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 59.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 446.
3- سورة فاطر، الآية: 28.
4- الكافي 1: 36.

سَعَىٰ}(1)، فالسعي(2) هو المشي السريع دون العدو، وان الإنسان لا يحصل على الخير إلّا من أفعال وأعمال الخير التي فعلها وهو حي في الحياة الدنيا، أما في مماته فانه لا يجني إلّا التبعات المترتبة على الأموال التي تركها، فإن كان الورثة أخياراً، فإن بذل هذه الأموال في طريق الخير يرجع ثوابها إليهم، وهو لا يحصل على ذلك الثواب؛ لأنها ليست ملكه، فقد أصبحت ملك غيره، وإن كان الورثة أشراراً فإن تبعات الآثام ونتيجة صرفها في طريق الشر تعود عليه ويتأذى بسببها. وكذا من سنّ سنة حسنة فله ثوابها وثواب من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة(3).

ثمار الخير والصلاح

إنّ اللّه سبحانه وتعالى تعهد في كتابه الشريف بتوفيق من سعى في طريق الخير والصلاح، حيث قال: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(4)، أي: إن الذين جاهدوا الكفار ابتغاء مرضاتنا وطاعة لنا، وجاهدوا أنفسهم في هواها، خوفاً منا لنهدينهم السبل الموصلة إلى ثوابنا بالنصر والمعونة في دنياهم لهداية الناس، فإن في وسط هذا الزحام الخانق، والجو الكافر، من يجاهد في اللّه بالإيمان، والأعمال الصالحة، فإنه يهتدي إلى طريق الحق الموصل له إلى سعادة الدنيا والآخرة، فإن {سُبُلَنَا} جمع سبيل وهو الطريق

ص: 483


1- سورة النجم، الآية: 39.
2- السعي: عدو ليس بشديد، يقولون: السعي العمل، أي: الكسب، انظر كتاب العين 2: 202 مادة (سعي).
3- فقد قال الصادق الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». الفصول المختارة: 136.
4- سورة العنكبوت، الآية: 69.

الذيقررنا لأجل الرشاد والصلاح والخير والسعادة، وهذا عام، فكل من جاهد في طريق فُتح أمامه باب الحق والصدق. فإن {اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} الذين يحسنون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، فإنه تعالى معهم بالنصرة والغلبة والسعادة في الدارين(1).

العمل للّه وحده

والنقطة المهمة التي يجب أن يلتفت إليها الإنسان هي أنه إذا أراد أن يكوّن لنفسه شخصية قوية لا بد أن يجعل أعماله للّه عزّ وجلّ، فإن ما كان للّه ينمو وما كان للشيطان يخبو، حيث قال الإمام الصادق(عليه السلام) لأصحابه يوماً: «اجعلوا أمركم هذا للّه ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان للّه فهو للّه، وما كان للناس فلا يصعد إلى اللّه»(2)، لذا يجب أن يكون للمرء أهداف دينية نبيلة تقود خطاه في الحياة؛ إذ على المرء العامل في سبيل اللّه أن يؤمن بأن اللّه معه طول الوقت وأنه يسدد خطاه ويعينه كل ما ألمّت به وحشة وأصابته نكبة أو ضائقة... وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك فإنك تلجئها إلى كهف(3) حريزٍ(4) ومانع عزيز، وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان»(5).

وكما قيل: مهما يكن شعورك بالوحدة فاعلم أنك لست بمفردك أبداً؛ لأن اللّه معك، سر على جانب الطريق وإنك على يقين من أنه يسير على الجانب الآخر،

ص: 484


1- انظر تفسير تقريب القرآن 4: 225.
2- الكافي 2: 293.
3- الكهف: الملجأ.
4- الحريز: الحافظ.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام).

رتب أمورك على أساس أن ربك شريك لك في كل شيء تفعله.

وبذلك تزداد طمأنينة نفسك، وتشعر في قرارة نفسك أنك على الصراط المستقيم، لا يأتيك الباطل من بين يديك أو من خلفك، وهذا من أعظم نعم اللّه على الإنسان الذي يرضى عنه اللّه والناس، لا لأجل أهداف دنيوية تافهة مؤقتة من جاه ومال وتسلط على رقاب الناس، وما مثل هذا الفرد إلّا كيان مضر في المجتمع ومفسد في الأرض.

الخالق حكيم

فإن اللّه سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً مضراً إلّا وبه منفعة في هذه الدنيا، بل كل المخلوقات لها فائدة ونفع، حتى النجاسات التي تخرج من بدن الإنسان نحن نستقذرها وننفر منها لكن لها فوائد كثيرة في الزراعة - مثلاً - ، إذ أن المزارعين يستخدمونها كسماد لأراضيهم في زراعة بعض المحاصيل الحقلية. والقصد مما سبق: هو أن كل مفيد ومضر إذا وجهناه الوجهة الصحيحة يمكن الاستفادة منه، ومن الشواهد الجلية الوضوح حول هذا البحث ما ذكر عن الصين بأن (ماوتسه تونغ) أذاع بياناً خاصاً طلب فيه من الشعب الصيني القضاء على جميع العصافير، وذلك لأجل أن لا تصيب الغابات والأشجار بأضرار ولا تلتهم الحبوب وما أشبه، فقام الناس بحملة إبادة عليها، حيث قتلوا في تلك السنة ما يقارب العشرة ملايين من تلك الطيور الصغيرة، وإن الشعب الصيني كان يعتقد أنه بعمله هذا سوف يحصل على أكبر كمية من المحاصيل والإنتاج الزراعي لتلك السنة، ولكن حدث العكس تماماً حيث أصبح انتاج المحاصيل أسوءَ حالاً من جميع السنين الماضية؛ وذلك لأنهم بعملهم هذا جعلوا مزارعهم طعمة للديدان والحشرات، حيث هجم على تلكم المحاصيل الزراعية ملايين الجراد والحشرات فأصابتها إصابة شديدة.

ص: 485

فتنبه الصينيّون إلى أن تلك العصافير التي قضوا عليها كانت الحصن المنيع للمزارع من الحشرات، وكان لها دور كبير في زيادة إنتاجهم؛ حيث كانت تقوم بعمل هام لم يستطع أحد القيام به وهو التهام تلك الديدان والآفات الحشرية التي تظهر بين سنة وأخرى، وفي السنة التالية قاموا بالحفاظ عليها بل وتربية وتكثير تلك الطيور، ليعود إنتاجهم كما كان عليه في السنين الماضية. إذن فالعصافير التي كانوا يظنون أنها عديمة الفائدة، بل تصوروا أنها حيوانات ضارة فقد ظهر لهم أنها كثيرة النفع للإنسان، ولها دور حيوي مهم في تكامل الحياة الإنسانية، وهكذا الأمر في العقارب والأفاعي والحشرات فان فائدتها أكثر بكثير من ضررها وأذاها، ويذكر بأن من فوائد العقارب والأفاعي أنها تمتص السموم الموجودة في الهواء.

إذن، فلا بد للإنسان أن يكون موجوداً نافعاً في الحياة كسائر الكائنات والمخلوقات الأخرى، فكيف لا يكون كذلك وقد سلّحه اللّه تعالى بكل اللوازم، حيث سخر له ما في السماوات والأرض ورزقه من الطيبات، وأعطاه العقل والفطرة السليمة وأرسل له رسلاً تترى وكتباً مبينة فيها شفاء لما في الصدور، فقال عزّ وجلّ: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَٰهِرَةً وَبَاطِنَةً}(1).

وقال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ بِقَدَرٖ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَٰجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَٰمِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُاْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْنِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَٰنَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا

ص: 486


1- سورة لقمان، الآية: 20.

وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}(1).

قضاء حوائج الناس

أفضل مصداق للإنسان النافع في الحياة هو ذلك الشخص الذي يقدم الخدمة والنفع للآخرين، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... أصلح الناس أصلحهم للناس، وخير الناس من انتفع به الناس»(2)، وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من كثرت نعم اللّه عليه كثرت حوائج الناس إليه فمن قام للّه فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال والفناء»(3).

وروي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) دخل مكة وهو في بعض حوائجه، فوجد أعرابياً متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول: يا من لا يحويه مكان، ولا يخلو منه مكان، ولا يكفه مكان، ارزق الأعرابي أربعة آلاف درهم، قال - الراوي - : فتقدم إليه أمير المؤمنين(عليه السلام) وقال: «ما تقول يا أعرابي؟» فقال الأعرابي: من أنت؟ فقال: «أنا علي بن أبي طالب» قال: أنت واللّه حاجتي، قال(عليه السلام): «سل يا أعرابي» قال: أريد ألف درهم للصداق، وألف درهم أقضي بها ديني، وألف درهم أشتري بها داراً، وألف درهم أتعيش بها، قال له(عليه السلام): «أنصفت يا أعرابي، إذا خرجت من مكة فسل عن داري بمدينة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)» فأقام الأعرابي أسبوعاً بمكة وخرج في طلب أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى المدينة، ونادى: من يدلني على دار أمير المؤمنين(عليه السلام)؟ فلقيه الحسن [الحسين](عليه السلام) فقال: «أنا أدلك على دار أمير المؤمنين» فقال الأعرابي: من أبوك؟ قال: «أمير المؤمنين(عليه السلام)» قال: من أمك؟ قال: «فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين(عليها السلام)» قال: من جدك؟ قال: «رسول اللّه

ص: 487


1- سورة الزخرف، الآية: 10-13.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 396.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 372.

محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب(صلی اللّه عليه وآله وسلم)» قال: من جدتك؟ قال: «خديجة بنت خويلد(عليها السلام)» قال: من أخوك؟ قال: «حسين [حسن] بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام)» قال: لقد أخذت الدنيا بطرفيها امش إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وقل له: إن الأعرابي صاحب الضمان بمكة على الباب، فدخل الحسين(عليه السلام) وقال: «يا أبة، أعرابي بالباب يزعم أنه صاحب ضمان بمكة».

قال: فخرج إليه(عليه السلام) وطلب سلمان الفارسي (رضي اللّه عنه) وقال له: «يا سلمان، أعرض الحديقة التي غرسها لي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على التجار» فدخل سلمان إلى السوق وعرض الحديقة فباعها باثني عشر ألف درهم وأحضر المال وأحضر الأعرابي فأعطاه أربعة آلاف درهم وأربعين درهما لنفقته، فرفع الخبر إلى فقراء المدينة، فاجتمعوا إليه والدراهم مصبوبة بين يديه فجعل(عليه السلام) يقبض قبضة ويعطي رجلاً رجلاً حتى لم يبق له درهم واحد منها ودخل منزله، فقالت فاطمة(عليها السلام): «يا ابن عم، بعت الحديقة التي غرسها رسول اللّه والدي؟» فقال: «نعم بخير منها عاجلاً وآجلاً» قالت له: «جزاك اللّه في ممشاك» ثم قالت: «أنا جائعة وابناي جائعان ولا شك أنك مثلنا» فخرج(عليه السلام) ليقترض شيئاً ليصرفه على عياله فجاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «يا فاطمة، أين ابن عمي؟» فقالت له: «خرج يا رسول اللّه» فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هاك هذه الدراهم فإذا جاء ابن عمي فقولي له يبتاع لكم بها طعاماً» وخرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجاء علي(عليه السلام) وقال: «جاء ابن عمي فإني أجد رائحة طيبة؟» قالت: «نعم» وناولته الدراهم وكانت سبعة دراهم سود هجرية وذكرت له ما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «يا حسن، قم معي» فأتيا السوق وإذا هما برجل واقف وهو يقول: من يقرض اللّه الوفي الملي؟ فقال: «يا بني نعطيه الدراهم؟» قال: «بلى واللّه يا أبة» فأعطاه(عليه السلام) الدراهم ومضى إلى باب رجل ليقترض منه شيئاً، فلقيه أعرابي ومعه ناقة فقال: اشتر مني هذه الناقة، قال: «ليس

ص: 488

معي ثمنها» قال: فإني أنظرك به قال: «أ بكم يا أعرابي؟» قال: بمائة درهم قال(عليه السلام): «خذها يا حسن» ومضى، فلقيه أعرابي آخر فقال: يا علي أ تبيع الناقة؟ قال له(عليه السلام): «وما تصنع بها؟» قال: أغزو عليها أول غزوة يغزوها ابن عمك(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال(عليه السلام): «إن قبلتها فهي لك بلا ثمن» قال: معي ثمنها فبكم اشتريتها؟ قال: «بمائة درهم» فقال الأعرابي: فلك سبعون ومائة درهم فقال(عليه السلام): «خذها يا حسن وسلم الناقة إليه، والمائة للأعرابي الذي باعنا الناقة، والسبعون لنا نأخذ بها شيئاً» فأخذ الحسن(عليه السلام) الدراهم وسلم الناقة، قال(عليه السلام): «فمضيت أطلب الأعرابي الذي ابتعت منه الناقة؛ لأعطيه الثمن فرأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكان لم أره فيه قبل ذلك على قارعة الطريق، فلما نظر إلي رسول اللّه تبسم وقال: يا أبا الحسن، أ تطلب الأعرابي الذي باعك الناقة لتوفيه ثمنها؟ فقلت: إي واللّه فداك أبي وأمي، فقال: يا أبا الحسن الذي باعك الناقة جبرائيل، والذي اشتراها منك ميكائيل، والناقة من نوق الجنة، والدراهم من عند رب العالمين الملي الوفي»(1).

قال أحد العلماء الصالحين بعد أن قضى سنين طويلة في إقامة صلاة الجماعة في أحد المساجد: إني نادم ومقصّر، إذ كان يسأل نفسه: لماذا قبل هذه السنين الطوال لم أكن إماماً للجماعة ولم أسع للقيام بالأمور الاجتماعية؟ لإدراكه أن صلاة الجماعة لها ثواب عظيم، بالإضافة إلى أنها طريق صالح يستطيع العالم من خلالها خدمة الآخرين سواء الذين يأتون إلى المسجد والذين لا يأتون.

عبرة من النحلة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن مثل المؤمن كمثل النحلة، إن صاحبته نفعك، وإن

ص: 489


1- إرشاد القلوب 2: 221.

شاورته نفعك، ... وكذلك النحلة كل شأنها منافع»(1).

وقال حكيم من اليونانيين لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا، قالوا: وكيف النحل؟

قال: إنها لا تترك عندها بطالاً إلّا أبعدته وأقصته عن الخلية؛ لأنه يضيق المكان ويفني العسل ويعلم النشيط الكسل(2).

كتب أحد العلماء حول مسألة صنع العسل من قبل النحل فقال: إن النحلة الواحدة تحتاج لكي تصنع كيلو غراماً واحداً من العسل إلى ثمانية عشر ألف جلسة على الورود لكي تمتص من رحيقها بالإضافة إلى المسافة التي تقطعها النحلة في كل جلسة ما بين الخلية والأزهار، وهكذا الإنسان لا يمكن له أن يكون فرداً صالحاً وصاحب شخصية في المجتمع من دون أن يبذل جهوداً كافية في سبيل ذلك.

وقيل في هذا: إن وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة، حذق النحل وفطنته وقلة أذاه وحقارته ومنفعته وقنوعه وسعيه في النهار وتنزهه عن الأقذار وطيب أكله، وأنه لا يأكل من كسب غيره ونحوله وطاعته لأميره، وللنحل آفات تقطعه عن عمله منها الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار وكذلك المؤمن له آفات تفتره عن عمله منها ظلمة الغفلة وغيم الشك وريح الفتنة ودخان الحرام وماء السعة ونار الهوى.

وفي مستدرك الدارمي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال: «كونوا في الناس كالنحلة في الطير، إنه ليس في الطير إلّا وهو يستضعفها ولو

ص: 490


1- بحار الأنوار 61: 238.
2- بحار الأنوار 61: 238.

تعلم الطير ما في أجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها»(1).

إعانة الناس

لذا فإن السعي في قضاء حوائج الآخرين والحركة في وسط المجتمع توصل الإنسان إلى درجة عالية من السمو والكمال وهو الهدف المطلوب، وبنفس الوقت يدفع عجلة المجتمع إلى الأمام.

ومن هنا نجد أن رسول اللّه والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) كانوا جميعاً يسعون في قضاء حوائج الناس بكل ما أوتوا من قدرة وإمكان، حيث كان أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، قد جعل في وسط الكوفة بيتا سمّاه (بيت القصص) (2) حتى إذا كان لإنسان حاجة واستحيا من علي(عليه السلام) وان يواجهه بها، والكل يعلم أن علياً(عليه السلام) كان قريباً إلى قلوب كل الناس، ولم يكن ديكتاتوراً مستبداً يجتنب الناس ويتجنبونه، وكما يقول أحد تلامذة الإمام(عليه السلام): كان فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويقربنا إذا زرناه، لا يغلق له دوننا باب، ولا يحجبنا عنه حاجب...،(3) يدور في أسواق المسلمين ويقضي أوقاته في المسجد بينهم، ويقضي حاجاتهم ويخطب ويصلي بهم، ومع ذلك كان قد صنع بيتاً يسمى بيت القصص، حتى إذا عجز إنسان ما عن الوصول إلى الإمام(عليه السلام)، أو يستحي من مواجهته، كان يكتب حاجتهفي ورقة ويقذف بتلك الورقة في بيت القفص، ثم كان الإمام(عليه السلام)، يأتي إلى ذلك البيت ويفتح بابه المقفل ويأخذ الأوراق ويطلع على الحاجات ويقضيها للناس.

ص: 491


1- بحار الأنوار 61: 238.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 87 وفيه: «كان لأمير المؤمنين(عليه السلام) بيت سمّاه بيت القصص يلقي الناس فيه رقاعهم.
3- انظر الأمالي للشيخ الصدوق: 624، والقائل هو ضرار بن ضمرة النهشلي.

أهل البيت(عليهم السلام) نموذج وشاهد

اشارة

فقد جاء في الروايات أن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «رجع علي(عليه السلام) إلى داره في وقت القيظ فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي وحلف ليضربني، فقال(عليه السلام): يا أمة اللّه اصبري حتى يبرد النهار ثم أذهب معك إن شاء اللّه، فقالت: يشتد غضبه وحرده علي، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا واللّه أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟

فمضى(عليه السلام) إلى بابه فقال: السلام عليكم، فخرج شاب فقال علي: يا عبد اللّه، اتق اللّه، فإنك قد أخفتها وأخرجتها، فقال الفتى: وما أنت وذاك، واللّه لأحرقنها لكلامك، فقال أمير المؤمنين: آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف، قال: فأقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين، فسقط الرجل في يديه فقال: يا أمير المؤمنين، أقلني عثرتي، فو اللّه لأكونن لها أرضاً تطؤني، فأغمد علي سيفه وقال: يا أمة اللّه، ادخلي منزلك ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا»(1).

وقال(عليه السلام): «لما أخذت في غسل أبي علي بن الحسين(عليهما السلام) أحضرت معي من رآه من أهل بيته» فنظروا إلى مواضع السجود منه في ركبتيه وظاهر قدميه وبطن كفيه وجبهته قد غلظت من أثر السجود حتى صارت كمبارك البعير، وكان (صلوات اللّه عليه) يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، ثم نظروا إلى حبل عاتقهوعليه أثرٌ قد اخشوشن، فقالوا لأبي جعفر(عليه السلام): أما هذه فقد علمنا أنها من أثر السجود، فما هذا الذي على عاتقه؟ قال(عليه السلام): واللّه، ما علم به أحدٌ غيري وما علمته من حيث علم أني علمته، ولو لا أنه قد مات ما ذكرته، كان إذا مضى من

ص: 492


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 106.

الليل صدره قام وقد هدأ كل من في منزله، فأسبغ الوضوء وصلى ركعتين خفيفتين، ثم نظر إلى كل ما فضل في البيت عن قوت أهله فجعله في جراب ثم رمى به إلى عاتقه وخرج محتسباً، يتسلل لا يعلم به أحدٌ، فيأتي دوراً فيها أهل مسكنة وفقر فيفرق ذلك عليهم وهم لا يعرفونه إلّا أنهم قد عرفوا ذلك عنه، فكانوا ينتظرونه فإذا أقبل قالوا: هذا صاحب الجراب وفتحوا أبوابهم له، ففرق عليهم ما في الجراب وانصرف به فارغاً، يبتغي بذلك فضل صدقة السر، وفضل صدقة الليل، وفضل إعطاء الصدقة، بيده ثم يرجع فيقوم في محرابه فيصلي باقي ليله، فهذا الذي ترون على عاتقه أثر ذلك الجراب».

وقد جاء في بعض صفات الإمام الكاظم(عليه السلام) انه كان أعبد أهل زمانه، وأفقههم وأسخاهم كفاً، وأكرمهم نفساً، فقد روي: أنه كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثم يعقب حتى تطلع الشمس، ويخرّ للّه ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس(1).

وكان(عليه السلام) أوصل الناس لأهله ورحمه.. وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزنبيل، فيه العين والورق والتمور، فيوصل إليهم ذلك.. ولا يعلمون من أي وجه هو(2).

وجاء عن معلى بن خنيسٍ عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: ما حق المسلمعلى المسلم؟ قال: «له سبع حقوقٍ واجباتٍ ما منهن حق إلّا وهو عليه واجبٌ، إن ضيع منها شيئاً خرج من ولاية اللّه وطاعته ولم يكن للّه فيه من نصيبٍ» قلت له: جعلت فداك وما هي؟ قال: «يا معلى، إني عليك شفيقٌ أخاف أن تضيع ولا

ص: 493


1- انظر الإرشاد 2: 231.
2- انظر الخرائج والجرائح 2: 896.

تحفظ، وتعلم ولا تعمل» قال: قلت له: لا قوة إلّا باللّه، قال: «أيسر حق منها: أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك.

والحق الثاني: أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره.

والحق الثالث: أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك.

والحق الرابع: أن تكون عينه ودليله ومرآته.

والحق الخامس: أن لا تشبع ويجوع ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى.

والحق السادس: أن يكون لك خادمٌ وليس لأخيك خادمٌ فواجبٌ أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه.

والحق السابع: أن تبر قسمه وتجيب دعوته وتعود مريضه وتشهد جنازته، وإذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها ولا تلجئه أن يسألكها ولكن تبادره مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك»(1).

نعم، هكذا كان المعصومون(عليهم السلام) وهكذا كانت توجيهاتهم للمؤمنين في الحث على السعي لقضاء حوائج الناس، إلى جانب تعليمهم وتربيتهم على الأخلاق والفضيلة.

الشيخ الحائري وإغاثة محتاج

كان للمرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري (مؤسس الحوزة العلمية بقمالمقدسة) خادم يدعى (الشيخ علي) قال: في إحدى ليالي الشتاء كنت نائماً في ساحة منزل الشيخ، فسمعت صوتاً بالباب، فنهضت وفتحت الباب فوجدت امرأة فقيرة تقول: إن زوجي مريض وليس عندنا دواء ولا غذاء وحتى الفحم للتدفئة لا يوجد عندنا، فأجبتها بالقول: أيتها السيدة لا نستطيع في هذا الوقت من الليل أن

ص: 494


1- الكافي 2: 169.

نعمل شيئاً، وأنا أعلم بأن الشيخ ليس بحوزته شيء حتى يقوم بمساعدتك.

فرجعت المرأة خائبة، فصاح بي الشيخ بعد أن سمع كلامنا، وقال لي: يا شيخ علي إذا كان يوم القيامة وسأل اللّه مني ومنك، في هذه الساعة من الليل جاءت أمتي إلى باب داركم ولم تلبوا حاجتها؟ ماذا يكون جوابنا؟

فقلت: أيها الشيخ! ما الشيء الذي نستطيع أن نفعله الآن لهذه المرأة؟

فقال: أنت تعرف منزل هذه المرأة؟

فقلت: أعرفه ولكن يصعب الذهاب إليه الآن حيث إن الشوارع مكسوة بالطين والثلج.

فقال: قم نذهب.

فلما وصلنا رأينا زوجها المريض، وشاهدنا المنزل، ورأينا صحة أقوال المرأة.

فأمرني الشيخ بأن أذهب إلى الدكتور صدر الحكماء وأنقل له عن لسان الشيخ أن يأتي لفحص الرجل المريض، فذهبت إلى الطبيب المعالج وجئت به فكتب له العلاج وأعطاني الورقة وذهب، فطلب مني الشيخ أن أذهب إلى الصيدلية لأشتري الدواء بحساب الشيخ، فذهبت وجئت بالأدوية، ثم طلب الشيخ مني أن أذهب إلى منزل فلان لأشتري كيساً من الفحم على نفقة الشيخ، فجئت بالفحم مع مقدار من الأكل.

والخلاصة، أن عائلة الفقير في تلك الليلة قد دخلها السرور من كل جانب،فمريضهم تحسنت حالته بعد تناول الدواء وأكلوا الطعام، وتدفئوا.

ثم قال لي الشيخ: ما كمية اللحم التي تأتي بها إلى منزلنا؟

قلت: سبعمائة غرام، فقال: أعطِ نصفه إلى هذه العائلة كل يوم، والنصف الباقي يكفينا، ثم طلب مني أن نذهب لننام.

ص: 495

نموذج آخر

كان في سوق العطارين في مدينة النجف الأشرف شخص يعرف باسم الحاج محمد رضا الشوشتري وكان شخصية معروفة جداً بين الناس، ومن أسباب تكون شخصيته الكبيرة هذه أنه كان يسعى دائماً في قضاء حوائج الناس، ولما انتشر صيته وأصبح معروفاً بين الناس، واستفاد من شخصيته أيضاً في التوصل إلى الأغنياء والتجار لأجل قضاء حوائج الناس.

نقل أحد الأشخاص: بأن امرأة مرضعة جف اللبن لديها، وقد راجعت الأطباء، فقالوا لها: يجب عليك أن تأتي بثعلب صغير ليمص الحليب من ثدييك لكي يرجع الحليب إلى صدرك ثانية، احتارت المرأة من أين تأتي بهذا الثعلب الرضيع، فجأة تذكرت الحاج محمد رضا الشوشتري(رحمه اللّه) فذهبت إليه مسرعة، وأخبرته بالأمر، فقبل الحاج طلبها ولكن طلب منها أن تمهله يومين ليهيئ لها ذلك، في اليوم التالي توجه الحاج الشوشتري إلى سوق تأتي إليه النساء القرويات من المزارع والبساتين لبيع ما عندهن من الحليب والصوف والدهن وما أشبه، فأعطى لإحداهن عشر روبيات وقال لها: أريد منك أن تصيدي لي جرو الثعلب وتجلبيه لي، وفي اليوم الثاني جاءت المرأة بالجرو، فذهب به إلى المرأة التي طلبته منه، فأخذت المرأة الثعلب وبتجويز الأطباء قربته من صدرها فامتص الحليب من صدرها فجرى الحليب فيه.

فبهذه الأعمال الصالحة التي كانت تصدر من هذا الرجل الصالح جعلت إقبال الناس عليه أكثر فأكثر.

لذا فنحن أيضاً لا بد أن نمتلك هذه الحالة في أنفسنا، بل لا بد أن نتنافس في الأمور الخيرية؛ لكي نتمكن من خدمة الإسلام والمسلمين، وأن تكون أعمالنا خالصة

ص: 496

للّه عزّ وجلّ وأن لا نتعذر بأننا لا نمتلك الأهلية في القيام بالأعمال الصالحة.

يقول الإمام أبو جعفر الباقر(عليه السلام) في وصف الإنسان المؤمن قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لم يعبد اللّه عزّ وجلّ بشي ء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول والشر منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره ويستقل كثير الخير من نفسه، ولا يسأم من طلب العلم طول عمره، ولا يتبرم بطلاب الحوائج قبله، الذل أحب إليه من العز والفقر أحب إليه من الغنى، نصيبه من الدنيا القوت، والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلّا قال هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان فرجل هو خير منه وأتقى وآخر هو شر منه وأدنى، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شر منه وأدنى قال عسى خير هذا باطن وشره ظاهر، وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده وساد أهل زمانه»(1) أي: إن الإنسان المؤمن هو الذي يمتلك الصفة الخيرة، وفي نفس الوقت لا يصل منه أذى لأحد من الناس، وأي عمل أفضل من تقديم الخير والمعونة للآخرين وقضاء حوائجهم!!

حكومة الأدارسة في المغرب

هناك ما يقارب المائة من الحكومات الشيعية التي قامت في التاريخ ووصلت إلى الحكم وأخذت زمام الأمور بيدها، ولكن لم يكتب كتاب جامع ومفصليشتمل على ذكر الجزئيات والتفاصيل في هذا المجال؛ لذا فمن اللازم علينا السعي في تأليف مثل هذا الكتاب وتزويد المكتبات الإسلامية به.

إحدى هذه الحكومات هي حكومة الأدارسة


1- الخصال 2: 433.

بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).(1) وسائل الشيعة 15: 54.(2) سورة البقرة، الآية: 156.(3) بحار الأنوار 48: 165.(4) فخ: بفتح أوله، وتشديد ثانيه، والفخ واد بمكة، ويوم فخ كان أبو عبد اللّه الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الإمام الحسن المجتبى بن الإمام علي بن أبي طالب(عليهم السلام) خرج يدعو إلى نفسه في ذي القعدة سنة (169ه) فبايعه جماعة من العلويين بالخلافة بالمدينة وخرج إلى مكة، فلما كان بفخ لقيته جيوش بني العباس فقتل وأهل بيته فبقي قتلاهم ثلاثة أيام حتى أكلتهم السباع. انظر معجم البلدان 4: 237 وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ» بحار الأنوار 48: 165.(5) وقيل: في زمن موسى الهادي ابن المهدي ابن المنصور العباسي، انظر: سير أعلام النبلاء 7: 443.(6) انظر مقاتل الطالبين: 324.


1- نسبة إلى إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) الذين كانوا أبناء عم للإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، وكان الأئمة(عليهم السلام) يؤيدون مثل هؤلاء الأشخاص، وهناك ما يقارب أربعين إلى خمسين رواية في كتب التاريخ تبيّن أن الأئمة(عليهم السلام) كانوا يؤيدون هذه الحركات والنهضات الإسلامية، ومن جملة تلك الروايات الرواية الواردة عن الإمام الصادق(عليه السلام): «... ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعلي نفقة عياله»
2- أي: أحب أن أرى ذرية رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخرجون على خلفاء الجور وأنا الذي أتكفل بنفقة عيالهم. وقال الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) حينما أروه رأس الحسين بن علي بن الحسن صاحب فخ: «{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}
3- مضى واللّه مسلماً صالحاً صواماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما كان في أهل بيته مثله»
4- ، وقد يكون هذا أحد الأسباب في توجيه التهم إلى أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بجمع الأسلحة والأموال لإستخدامها في الثورة على الأنظمة الحاكمة من قبل أعدائهم وحكام الجور معاصريهم، فبعد وقعة فخ
5- هرب إدريس من يد هارون العباسي
6- وقصدالمغرب واستطاع هناك تأسيس حكومة الأدارسة

الأرض للّه ولمن عمرها

وكان من أهم الأعمال والقوانين التي وضعها موضع التطبيق والعمل هو قانون: (الأرض للّه ولمن عمرها) فقد قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «أيما رجل أتى خربة بائرةً فاستخرجها وكرى أنهارها وعمرها فإن عليه فيها الصدقة، وإنْ كانت أرض لرجل قبله فغاب عنها وتركها فأخربها ثم جاء بعد يطلبها فإن الأرض للّه ولمن عمرها»(1).

وعن أبي جعفرٍ(عليه السلام) قال: «وجدنا في كتاب علي(عليه السلام): {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2) أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض، ونحن المتقون، والأرض كلها لنا فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها فإن تركها أو أخربها، فأخذها رجلٌ من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها، فليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل حتى يظهر القائم(عليه السلام) من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومنعها إلّا ما كان في أيدي شيعتنا فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم».وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من غرس شجراً أو حفر وادياً بدءاً لم يسبقه إليه أحدٌ وأحيا أرضاً ميتة فهي له قضاء من اللّه ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(3)، ولكون الحكام السابقين كانوا يمنعون الناس من العمل وفق هذا القانون الإلهي؛ لهذا وافقوا عليه وانتخبوه حاكماً على البلاد وبقي على منصبه هذا حتى آخر عمره وأسس فيها مدن كبيرة منها مدينة باسم فاس.

ص: 499


1- الكافي 5: 279.
2- سورة الأعراف، الآية: 128.
3- الكافي 5: 279.

فخلاصة القصة: أن إدريس استطاع أن يكون حاكماً على بلاد المغرب حتى مقتله شهيداً ولكن موته لم يقض على مشروع الدولة الإدريسية الذي عمل وبذل جهده له، إذ أن أتباعه صمموا على الاحتفاظ باستقلالهم، فاستطاع أن يدخل في قلوب الناس، وذلك عن طريق إخلاصه وسعيه في تقديم الخير والعمل الصالح للآخرين. والإنسان الذي يريد أن تكون له شخصية مرموقة لا بد أن ينمي في نفسه حالة التقوى والزهد كثيراً.

الزهد والتقوى

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة صوت معروف ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجيب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة: إن ذا الصوت لا نعرفه»(1) فهذا يعني: أن المؤمن متى ما دعا اللّه عزّ وجلّ قالت الملائكة: إن هذا الصوت ليس بغريب: لهذا فهم يقولون كلمة آمين بعد دعائه، وليس معنى التقوى والزهد هو الانزواء عن المجتمع بل إن حقيقة التقوى والزهد هو الارتباط الدائم والصادق مع اللّه سبحانه وتعالى؛ لذا يقول الشاعر في وصف مولىالمتقين الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام):

هو البكاء في المحراب ليلاً *** هو الضحّاك إذا اشتد الضراب(2)

لذا يعتبر الزهد والتقوى من الصفات التي يتحلى بها المؤمنون الأتقياء، فإن هؤلاء هم الذين تنمو عندهم تلك الشخصية التي لا حدود لها.

وكما جاء عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر، إذا أراد اللّهُ عزّ وجلّ بعبد خيراً

ص: 500


1- الكافي 2: 472.
2- البيت من قصيدة للشاعر ابن الفارض أوردها في سفينة البحار 7: 66.

فقهه في الدين وزهده في الدنيا وبصَّره بعيوب نفسه، يا أبا ذر، ما زهد عبدٌ في الدنيا إلّا أنبت اللّهُ الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانهُ وبصَّره بعيوب الدنيا وداءها ودواءها، وأخْرجهُ منْها سالماً إلى دار السلام، يا أبا ذر، إذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا فاستمع منهُ فإنه يُلقّن الحكمة»(1) فإن هذا العبد الذي يتلقى الحكمة هو الذي يمكن الاعتماد عليه بالنهوض بالحركة الإسلامية.

وفقنا اللّه عزّ وجلّ جميعاً لما يحب ويرضى وجعلنا من الدعاة إلى سبيله وخدمة دينه.

{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(2).

{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ}(3).

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَءَامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(4).

من هدي القرآن الحكيم

المؤمن القوي

قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

ص: 501


1- مكارم الأخلاق: 463.
2- سورة التحريم، الآية: 8.
3- سورة البقرة، الآية: 286.
4- سورة الحشر، الآية: 10.
5- سورة البقرة، الآية: 3.

الْمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ وَأُوْلَٰئِكَ مِنَ الصَّٰلِحِينَ}(1).

وقال سبحانه: {لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوٰةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أُوْلَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(3).

إخلاص المؤمن

قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ}(4).

وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(5).وقال عزّ وجلّ: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(6).

وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوٰةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}(7).

ص: 502


1- سورة آل عمران، الآية: 114.
2- سورة النساء، الآية: 162.
3- سورة البقرة، الآية: 256.
4- سورة الزمر، الآية: 3.
5- سورة الفاتحة، الآية: 5.
6- سورة ص، الآية: 82-83.
7- سورة البينة، الآية: 5.

من خصال المؤمن

قال جلّ وعلا: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(2).

وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَٰهِلِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرَامًا}(6).وقال سبحانه: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواْ مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

كيفية خلق المؤمن وخصاله

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن في الجنة لشجرة تسمى المزن فإذا أراد اللّه أن

ص: 503


1- سورة الأعراف، الآية: 199.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- سورة المؤمنون، الآية: 1-3.
4- سورة المؤمنون، الآية: 8.
5- سورة القصص، الآية: 55.
6- سورة الفرقان، الآية: 72.
7- سورة البقرة، الآية: 262

يخلق مؤمناً أقطر منها قطرة، فلا تصيب بقلة ولا ثمرة أكل منها مؤمن أو كافر إلّا أخرج اللّه عزّ وجلّ من صلبه مؤمناً»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقوراً عند الهزاهز، صبوراً عند البلاء، شكوراً عند الرخاء، قانعاً بما رزقه اللّه، لا يظلم الأعداء ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب والناس منه في راحة، إن العلم خليل المؤمن والحلم وزيره، والعقل أمير جنوده، والرفق أخوه والبرّ والده»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لم يعبد اللّه عزّ وجلّ بشي ء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول والشر منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره ويستقل كثير الخير من نفسه، ولا يسأم من طلب العلم طول عمره، ولا يتبرم بطلاب الحوائج قبله، الذل أحب إليه من العز والفقر أحب إليه من الغنى، نصيبه من الدنيا القوت، والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلّا قال: هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان: فرجل هو خير منه وأتقى، وآخر هو شر منه وأدنى، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع لهليلحق به، وإذا لقي الذي هو شر منه وأدنى، قال: عسى خير هذا باطن وشره ظاهر وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده وساد أهل زمانه»(3).

قضاء حاجة المؤمن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد اللّه دهراً»(4).

ص: 504


1- الكافي 2: 14.
2- وسائل الشيعة 15: 185.
3- الخصال 2: 433.
4- بحار الأنوار 71: 302.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى اللّه عزّ وجلّ له يوم القيامة مائة ألف حاجة من ذلك، أولها الجنة ومن ذلك أن يدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنة بعد أن لا يكونوا نصاباً»(1)(2).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إن خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم، وإلّا لم يقبل منكم عمل حنّوا على إخوانكم وارحموهم تلحقوا بنا»(3).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «إن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده فيهتم بها قلبه فيدخله اللّه تبارك وتعالى بهمّه الجنة»(4).

مراتب الإخلاص

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مخبراً عن جبرئيل عن اللّه عزّ وجلّ: «الإخلاص سر منأسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أخلص للّه أربعين يوماً فجر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «سادة أهل الجنة المخلصون»(7).

وقالت سيدة النساء فاطمة الزهراء(عليها السلام): «من أصعد إلى اللّه خالص عبادته

ص: 505


1- قال العلامة المجلسي في مرآة العقول 9: 102، في بيان معنى الناصب: أقول: الناصب في عرف الأخبار يشمل المخالفين المتعصبين في مذهبهم فغير النُصّاب هم المستضعفون.
2- الكافي 2: 193.
3- بحار الأنوار 72: 379.
4- الكافي 2: 196.
5- منية المريد: 133.
6- عدة الداعي: 227.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 400.

أهبط اللّه عزّ وجلّ له أفضل مصلحته»(1).

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «طوبى لمن أخلص للّه عمله وعلمه، وحبه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وفعله وقوله...»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(3) قال: «ليس يعني أكثركم عملاً ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية اللّه، والنية الصادقة الحسنة - ثم قال - الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ، والنية أفضل من العمل، ألّا وإن النية هي العمل - ثم تلا قوله عزّ وجلّ - {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ}(4) يعني على نيته»(5).

أمير المؤمنين(عليه السلام) يصف المؤمن

ومن كلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) في المؤمن وصفاته وعلائمه:

1- المؤمن كيس عاقل(6).

2- المؤمن هين، لين، سهل، مؤتمن(7).

3- المؤمن قليل الزلل، كثير العمل(8).

ص: 506


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 108.
2- تحف العقول: 100.
3- سورة الملك، الآية: 2.
4- سورة الإسراء، الآية: 84.
5- الكافي 2: 16.
6- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 89.
7- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 89.
8- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 89.

4- المؤمن صدوق اللسان بذول الإحسان(1).

5- المؤمن من كان حبه للّه وبغضه للّه، وأخذه للّه وتركه للّه(2).

ص: 507


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 89.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 89.

دور الأمل في حياة الإنسان

الأمل

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الأمل رفيق مؤنس»(1).

الأمل نعمة من نعم اللّه عزّ وجلّ للإنسان، حيث تبقى شعلة الروح مشتعلة ووهاجة...، وتبقى الفكرة ناضجة... وتبقى التطلعات الإنسانية قائمة، ويبقى السعي حثيثاً نحو الأهداف بواسطة الأمل... ذلك لأنه شعور نحو الدوام وإحسان بالتواصل. إذ بالأمل تتصل حلقات الحياة، ويُستعمر عمر الإنسان بالعطاء... فهو الروح الذي يبعث الواحة في النفس، ويبعد عنها آلامها وأزماتها، أما إذا ارتفع الأمل من شعور الإنسان فإنه سوف يجد التعب والضيق الدائمين. وإن الأطباء القُدامى والمعاصرين يوصون الناس بأن لا يقولوا لمرضاهم الكلام الذي يُزيدهم ألماً ومرضاً، بل يقولوا لهم الطيب من الكلام الذي يبعث فيهم الأمل على الشفاء والعافية، ليكون الأمل الروحي له تأثير كبير في بعث الصحة في بدن المريض، كما يذكر التاريخ أنّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما كان يسمح للخوف والضعف أن ينفذ إلى نفوس المسلمين، بل يبعث في نفوسهم الأمل الكبير في النصر والتقدم. ولهذا كان المسلمون في حالة ترقّب وبشرى دائمين، فاستطاعوا بسبب الأمل تبديل السنين الصعبة بسنين طيبة يشوبها النجاح والانتصار، بفعل

ص: 508


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 56.

الأمل الكبير الذي كان عندهم. وقد قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الأمل رحمة لامتي ولولا الأمل ما أرضعت أم ولداً، ولا غرس غارس شجراً»(1).

فالأُم عندما تعطي اللبن لولدها تأمل من ذلك أن يكبر وترى منه الخير والصلاح، والغارس عندما يغرس الشجر على أمل أن يكبر، ويجني منها ثمرها، ويستفيد منها، فإذا لم يملك الطبيب أملاً فإنه يعجز عن علاج مريضه، وهكذا المريض عندما يذهب للطبيب يأمل بذلك الشفاء من مرضه، والإنسان الذي يجمع الأموال يأمل أن يجد منها اللذّة، فأما أن يتزوج بها، أو يشتري بيتاً، أو يكسب اعتباراً. والطالب الذي يذهب إلى المدرسة يأمل من ذلك أن يكون رجلاً نافعاً لمجتمعه ولنفسه، فتارة يدرس لكي يكون مهندساً أو طبيباً أو عالماً أو تاجراً، فالأمل يبعث الحيوية والنشاط في النفوس، ويدفع نحو السعي والعمل، وإذا ما استولى اليأس على مجتمعٍ، فإنه سوف يتجه نحو التأخر إلى أن يصل إلى درجة الفشل والسقوط النهائي.

الروح العالية

وإن هناك رواية تقول: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما كان يحفر الخندق مع المسلمين، ضرب ضربة بمعوله على صخرة فانقدح منها نور، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): رأيت قصور كسرى في هذا النور، وفي الضربة الثانية قال: رأيت في هذا النور المتشعشع قصور الحيرة في العراق، وضرب ثالثة قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأيت قصور الشام(2)، وفي هذا بثّ الروح الخلّاقة التي تحمل الأمل، والتفاؤل بالنصر وفتح البلاد وانتشار الدين في أقرب وقت، الأمر الذي ملأ قلوب المسلمين بالأمل والمستقبل الزاهر، وكان المسلمون

ص: 509


1- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 21.
2- انظر تفسير القمي 2: 178.

على هذا الأمل تتوالى انتصاراتهم وفتوحاتهم. لقد أودع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكلماته تلك روح التحمل والمقاومة في تلك القلوب، وأبقى فيها شعلة الثورة مضطرمة متأججة، وهاجس الجهاد من أجل إنقاذ العباد وتعبيدهم للّه عزّ وجلّ فعّالاً، وكسر شوكة الطغاة أمراً محتملاً ومقدوراً، ذلك لأن المسلمين في الغالب كان لديهم خوف دائم من اسم الامبراطورية الفارسية والرومانية، ولم يفكر أحد بأن تذوب هاتان الدولتان العظيمتان، ويكون حالهما حال الأقوام التي غضب اللّه عليها، فأذاقها الويلات. ولذا عندما أخبرهم الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بانهيار هاتين الدولتين على أيديهم استصعب بعضهم ذلك، وتصوروا أن النبي إنما يتكلم عن أماني لا واقع لها، ليخدع المسلمين: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(1). لقد كان خبر سيطرة المسلمين على بلاد الروم والشام والحيرة كبيراً على عقول بعض الناس، لأنهم كانوا يعيشون الانهزام الداخلي والفرار الروحي وضعف إرادتهم، وكل ذلك انعكس على حياتهم، فلم يحملوا أملاً ولو ضئيلاً بأنهم سوف ينتصرون على الطغاة يوماً. ولذلك كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعمل دائماً لتقوية إرادتهم وبث الأمل الصحيح والممدوح فيهم، لئلا يسيطر اليأس عليهم فيركنوا إلى الجمود والسكون. ولقد اتخذ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) طريقين لزرع الأمل في قلوب المسلمين:

الأول: عبر الكلام المتمثل بالقرآن الكريم والأحاديث، فمثلاً: الآية الكريمة: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(2)، والآية: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَٰلِبُونَ}(3)، والآية: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(4). وكذلك

ص: 510


1- سورة الأحزاب، الآية: 12.
2- سورة يوسف، الآية: 87.
3- سورة الصافات، الآية: 173.
4- سورة محمد، الآية: 7.

الأحاديث والروايات مثلاً: «كل قانط آيس»(1)، و«للآيس الخائب مضض الهلاك»(2).

الثاني: كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبث الأمل في نفوس المسلمين عبر العمل الدؤوب المتواصل مع تحمل التعب والعناء والمآسي، وعدم إظهار اليأس والقنوط والتعب.

طول الأمل

اشارة

لقد ذكرت الروايات نوعين من الأمل؛ أحدهما: ممدوح مرغوب فيه، وقد حثت عليه الآيات والروايات، والتي ذكرنا شطراً منها سابقاً، والآخر: مذموم يؤدي إلى نتيجة سيئة، وهو المسمى ب- (طول الأمل) أي: أن يعتقد الإنسان بقاءه إلى دهر طويل، ويتصور أنّ عمره مديد، وأيامه ممتدة، ويلازم هذا الاعتقاد الفاسد التعلق بكل ألوان الدنيا وزخارفها. والمتأمل في حقيقة هذه الفكرة يجدها ترجع إلى الجهل الذي خيَّم على النفس فجهلت واقع الدنيا وحقيقتها، واضمحل الهدف، واضطربت الأفكار، فلم تعد الرؤى واضحة، ولا المسير مبيّناً... ولذلك ترى الإنسان الجاهل يسلك الطرق الشيطانية التي يوحيها إليه متخيلاً أنها مما يدعو إليه العلم.

أما التوابع السيئة الناتجة من هذه الخصلة فهي:

1- انعدام الرؤية الكلية عن العالم، واختصاص التفكير والسلوك في عالم الدنيا فقط، مما يؤدي بالإنسان إلى الجحيم في الآخرة، لانعدام رصيده الإيمانيمن العمل الصالح أو العبادات.

ص: 511


1- عيون الحكم والمواعظ: 375.
2- عيون الحكم والمواعظ: 403.

2- اشتداد الحبّ للدنيا والتعلق بها، مما يؤثر أو يلغي حب اللّه في القلب، فيكون مظلماً. وعلى ذلك تنطلق السلوكيات السيئة والكلام السيء من هذا القلب.

3- لأن صاحب الأمل الطويل لا يفكّر بالموت والنهاية، فهو دائماً يضع خططاً وبرامج، ولا يرسم نهاياتها، فتبقى أموره مضطربة. وعند الموت تنهار المخططات الخيالية، والأماني الفارغة.

4- تصاعد الأماني الكاذبة في حياته، لأنه دائماً يأمل في أن يبقى فترة أطول، ويحقق كل أمانيه التي يبثّها إليه الشيطان، فيظل يعيش الأمنية الكاذبة والإيحاءات الباطلة دون أن يصل إليها إلى أن يدركه الموت: ف- «الأمل سلطان الشيطان على قلوب الغافلين»(1).

5- صاحب الأمل الطويل يسوء عمله دائماً، وتسوء سمعته على أثر ذلك، لأنه سوف يشتد التصاقاً بالدنيا وتوابعها، فيكون ذا طابع مادي محض، فتذوب كل المعنويات ومعاني الاحترام في داخله، فيتعامل مع الناس تعاملاً جافّاً، حفاظاً على أملاكه، وحرصاً على الدنيا؛ «أطول الناس أملاً أسوؤهم عملاً»(2). ولا شك فإنه تبقى هناك نتائج سيئة أعرضنا عنها خوفاً من الإطالة.

الأمل أغناه

على الرغم من وجود مساوئٍ في طول الأمل إلّا أنه لا تغيب الإيجابيات عنه إن كان معتدلاً، وهو عدم اليأس والتطلع نحو النجاح مع تهيئة الأسبابوالمقدمات. أما أن يأمل الإنسان في النجاح والرفاه بدون سعي وعمل وتهيئة،

ص: 512


1- تنبية الخواطر ونزهة النواظر 2: 18.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 196.

فإن ذلك وهم وخيال، ذلك لأن الأمل حاله حال الغضب، إذ عندما يخرج عن حدّ الاعتدال فإن الإنسان يكون على صفة الوحوش، وعندما يذوب وينمحي من شخصيته، فإنه لا يدفع لا عن العرض ولا عن المال ولا عن الدين. وهنا الاعتدال هو المفهوم من قوله(عليه السلام): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»، فهو ميزان دقيق ينبذ الإفراط، ويتجنّب التفريط.

يُحكى أنه كان في بغداد شخص فقير جداً ولم يكن قادراً على جلب الطعام لزوجته وأطفاله. فقالت له زوجته يوماً: اذهب واسع لكي تجلب لنا شيئاً نأكله، فقال الزوج: لا أعرف وسيلة أستطيع من خلالها الحصول على المال، فقالت له الزوجة: خُذ هذه الجرّة واملأها بالماء من نهر دجلة وبعه على الناس. فقال الزوج: لا بأس بذلك، فلما ذهب إلى النهر رأى على ساحل النهر جماعة عليهم آثار الثراء والنعمة، يريدون الركوب في إحدى السفن، فتقرب منهم، ودون أن يسألهم عن مقصدهم وسبب ذهابهم ركب السفينة معهم، وقال في نفسه: يظهر بأن هؤلاء مدعوون إلى وليمة ولا ضير في الذهاب معهم، فعلَّني أنقذ نفسي من الجوع، وأجلب شيئاً من الطعام الفائض عن الحاجة لعائلتي وسأل اللّه عزّ وجلّ أن يسهل له أمره، ويذلل العقبات في طريقه، ويرزقه ما يسدّ به جوع أهله. وبعد ذلك ظهر أنهم شعراء، قدموا على الحاكم لكي يقرأوا له الشعر، ويأخذوا منه الجوائز النفيسة على أشعارهم، وبعد أن أفرغ الشعراء ما في قرائحهم عند الحاكم جاء دور الرجل الذي كان قد علّق الجرّة على ظهره، فقال له الحاكم: أسمعنا ما عندك؟ فتلا بيتين من الشعر منسوبين للإمام الحسين(عليه السلام)(1) ثم أضاف عليهمابيتاً من نفسه. فقال:

ص: 513


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 66.

إذا جادت الدنيا عليك فجُد بها *** على الناس طُرّاً قبل أن تتفلَّتِ

فلا الجود مفنيها إذا هي أقبلت *** ولا البخل مبقيها إذا هي ولَّت

وبعدها أضاف من نفسه قائلاً:

ولما رأيتُ الناسَ شَدّوا رِحالِهم *** إلى بحرك الطامي أتيت بجرَّتي!

وأخذ الجرّة التي كانت على ظهره من فوره ووضعها أمامه، ولم تكن تخفى ظرافة حركته تلك، خاصة في ذلك المجلس. ولهذا أمر الحاكم بأن تُملأ جرَّته بالذهب، فحمل جرَّته وعاد إلى بيته، وصار أحد أغنياء بغداد، بعد أن كان فقيراً. وهذه نتيجة الأمل الذي بذرته المرأة في قلب زوجها، بحيث جعله يقف أمام الخليفة ليأخذ منه حاجته، مع أنه لم يكن قصارى بغيته أكثر من الحصول على طعام يسدّ رمقه وعائلته! وللّه في تسهيله شؤون، لا سيما إذا كان الأمل مقروناً بالدعاء والتوسل به عزّ وجلّ، فإن القوى الدنيوية كُلّها بيده سبحانه وتعالى؛ يقول السبزواري:

أزمّة الأمور طُرّاً بيده *** والكُلُّ مستمِدَةٌ من مَدَدِهِ

وهذا أمر يسوقنا إلى التذكير بضرورة امتزاج الأمل بأمور، حتى يكون إيجابياً ومنتجاً... وفي الطريق الصحيح:

1- أن تكون نفس الإنسان مملوءةً بالأمل والتفاؤل بالخير والمستقبل الكبير.

2- الدعاء والتضرع إلى اللّه سبحانه وتعالى في المجالات كلّها.

3- العمل والحركة في المجالات الممكنة.

الأمل والإرادة

ينقل المؤرخون أنّ رجلاً كان يغرس شجرة للجوز فمرّ عليه أنوشيروان الملك، فقال له: يا هذا إن عمرك لا يكفيك لتجد ثمرة هذه الشجرة التي تغرسها،

ص: 514

فلماذا إذن تغرسها؟ فقال الرجل: زرع الآخرون فأكلنا، ونحن نزرع ليأكل الآخرون! فقال انوشيروان له: أحسنت، ثم أعطاه مبلغاً من المال على كلماته الحكيمة وإحساسه بالمسؤولية، بعدها قال الرجل الكبير: من العجيب أن الناس جميعاً يأكلون بعد أن يزرعوا، ولكني آكل الثمر حين الزرع والعمل (قصد هدية الملك) فقال الملك انوشيروان له: أحسنت، وأعطاه هدية أخرى، فقال الرجل: من العجيب أيضاً أن الناس يأكلون ثمر الشجر في السنة مرة واحدة، وإنّي في مدة قصيرة آكل ثمر الشجر مرتين فقال له انوشيروان: أحسنت، وقدّم له جائزة ثالثة، بعدها قال أحد الوزراء: إن بقينا هنا واقفين واستمر الملك في حواره مع هذا الرجل، فإنه سوف يأخذ الكثير من أموال الخزينة!

ولقد كان أحد رجال الغرب يقول: نحن نقوم بالأعمال والمشاريع التي يبقى ثمرها مستمراً لصالح شعبنا، إلى بعد ثلاث مئة سنة.

إذن فليس من الصحيح أن يقصر الإنسان أمله على ما يجنيه بنفسه في أمد قصير. بل عليه أن يتحلّى بروحية كبيرة وأمل عظيم يحتضن به الناس والأجيال القادمة، فيعمل من أجل أن يستفيد القادمون غداً، وكما هو دأب الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، فإنهم يضعون أنفسهم في المواقف الخطيرة، لتكون النتائج عظيمة، ينهل منها الجميع. إن صاحب الأمل المعتدل في الحياة هو ذلك الإنسان الذي ملك إرادته واختياره، فلا تعرف إرادته الخضوع والخمول ولا الذلَّ ولا التوقف عن العمل المتواصل. إنها الإرادة القوية والعزيمة الصلبة. التي تدفعه نحو استيعاب الحياة والخوض فيها، دون أن يتأثر بها. وإنما يؤثر فيها من خلال الإرادة الصلبة والأمل الكبير.

وهكذا عباد اللّه الصالحون، فإنهم يعبدون اللّه من خلال الأمل... أملهم في لقائه عزّ وجلّ، وأملهم برضاه وأملهم بالنجاة في يوم يكون الأمر والحكم للواحد

ص: 515

القهّار. فالأمل هو الذي يدفعهم نحو اللّه تعالى، وهو - الأمل - بدوره نعمة من اللّه يودعها قلب عبده العابد المؤمن.

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، واجعل أوسع رزقك عليَّ إذا كبرت، وأقوى قوتك فيَّ إذا نصبت، ولا تبتلني بالكسل عن عبادتك، ولا العمى عن سبيلك، ولا بالتعرض لخلاف محبتك، ... اللّهم اجعلني أصول بك عند الضرورة، وأسألك عند الحاجة، وأتضرّع إليك عند المسكنة»(1)، بحق محمّد وآله الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

يجب أن يكون الأمل مصحوباً بأمور

الدعاء إلى اللّه تعالى

قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(2).

وقال سبحانه: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}(3).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(5).

والتوكل عليه عزّ وجلّ

قال عزّ اسمه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(6).

ص: 516


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة البقره، الآية: 186.
3- سورة الأعراف، الآية: 55.
4- سورة الفرقان، الآية: 77.
5- سورة غافر، الآية: 60.
6- سورة آل عمران، الآية: 159.

وقال جلّ شأنه: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}(1).

وقال عزّ من قائل: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(2).

وقال جلّ ثناؤه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ}(3).

والعمل

قال تعالى: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَاعْمَلُواْ صَٰلِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(6).

وقال جلّ وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ...}(7).

إبتعد عن اليأس

قال عزّ اسمه: {فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَٰنِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّاالضَّالُّونَ}(8).

ص: 517


1- سورة التوبة، الآية: 129.
2- سورة هود، الآية: 88.
3- سورة الطلاق، الآية: 3.
4- سورة الأنعام، الآية: 132.
5- سورة التوبة، الآية: 105.
6- سورة سبأ، الآية: 11.
7- سورة الجاثيه، الآية: 30.
8- سورة الحجر، الآية: 55-56.

وقال جلّ شأنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1).

وقال عزّ من قائل: {قُلْ يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

يجب أن يكون الأمل مصحوباً بأمور

الدعاء إلى اللّه تعالى

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن العبد لا يخطئه من الدعاء إحدى ثلاثة: إما ذنب يُغفَرُ له، وامّا خير يُعجَّلُ له، واما خير يدّخر له»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في بيان صفات المتقين: «ذُبلُ الشفاه من الدعاء»(4).

وقال(عليه السلام): «الدُعاءُ سلاحُ الأولياء»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من شيء أحبّ إلى اللّه من أن يُسأَل»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عليكم بالدعاء فإنكم لا تقربون بمثله»(7).

والتوكل عليه عزّ وجلّ

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أحبَّ أن يكون أقوى الناس فليتوكل على

ص: 518


1- سورة العنكبوت، الآية: 23.
2- سورة الزمر، الآية: 53.
3- المحجة البيضاء 2: 282.
4- نهج البلاغة الخطب الرقم: 121 ومن خطبة له(عليه السلام) بعد ليلة الهرير.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 46.
6- تحف العقول: 282.
7- الكافي 2: 467.

اللّه»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «والتوكل على اللّه نجاة من كل سوء، وحرز من كل عدوّ»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من توكل على اللّه لا يُغلَب ومن اعتصم باللّه لا يُهزم»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ الغنى والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا»(4).

والعمل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... ولكن الإيمان ما خلص في القلب وصدّقه الأعمال»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بإدمان العمل في النشاط ولكسل»(6).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إنّ أحبّكم إلى اللّه عزّ وجلّ أحسنكم عملاً»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «دعا اللّه الناس في الدنيا بآبائهم ليتعارفوا، وفيالآخرة بأعمالهم ليجازوا»(8).

ص: 519


1- تحف العقول: 27.
2- كشف الغمة 2: 346.
3- روضة الواعظين 2: 425.
4- الكافي 2: 65.
5- معاني الأخبار: 187.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 444.
7- الكافي 8: 68.
8- كشف الغمة 2: 207.

إبتعد عن اليأس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفاجر الرّاجي لرحمة اللّه تعالى أقربُ منها من العابد المُقنِط»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قَتَلَ القُنُوط صاحبَهُ»(2).

وقال(عليه السلام): «للآيس الخائب مَضَضُ الهلاك(3).

ص: 520


1- نهج الفصاحة: 591.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 498.
3- عيون الحكم والمواعظ: 403.

فهرس المحتويات

إلى المجاهدين في العراق

خطاب إلى المجاهدين في العراق... 5

العلماء والحوزات العلمية... 11

سجناء العراق... 13

ليل العراق المظلم... 14

القضاء على الإسلام... 15

مما يلزم على المجاهدين... 16

أولاً: رص الصفوف... 17

ثانياً: العمل للّه... 18

ثالثاً: الجهاد بمختلف الوسائل... 20

من أين يبدأ التغيير؟... 22

مقومات التغيير... 24

حكومة الأكثرية... 24

التعددية... 24

الحرية... 25

القوانين الإسلامية... 25

الاكتفاء الذاتي... 26

اللاعنف... 27

ص: 521

من هدي القرآن الحكيم... 28

أقسام الجهاد... 28

الطغاة ومصيرهم... 29

الظالمون في ضلال... 29

الإخلاص في النية... 29

من هدي السنّة المطهّرة... 30

الجهاد... 30

الهجرة إلى اللّه تعالى... 30

الطاغوت والظلم... 31

العمل الخالص لوجهه تعالى... 32

السلطان الجائر... 32

إلى الهيئات الحسينية

الشيعة وقبور الأئمة(عليهم السلام)... 33

توسع المدن بمراقدهم(عليهم السلام)... 34

وصايا تخص الهيئات المقيمة في المشاهد المشرفة... 36

معرفة الإمام... 36

شكر النعمة... 36

قلة طلاب العلوم الدينية... 37

المجالس الحسينية... 38

ثمار المجالس... 40

ترسيخ حب أهل البيت(عليهم السلام)... 41

المجالس الحسينية والعائلة... 41

نشر معارف أهل البيت(عليهم السلام)... 43

ص: 522

نفحات من حب أهل البيت(عليهم السلام)... 45

إلى الهيئات عامة... 47

من هدي القرآن الحكيم... 48

تعريف الإسلام للناس... 48

إقامة مجالس الوعظ والإرشاد... 48

إقامة مجالس التفقه في الدين... 48

الاهتمام بالأعمال الخيرية... 49

لزوم اتباع الأئمة المعصومين(عليهم السلام)... 49

ضرورة إقامة المجالس الحسينية... 49

الاهتمام كثيراً بتعليم القرآن الكريم... 49

من هدي السنّة المطهّرة... 50

نشر حب أهل البيت(عليهم السلام)... 50

الاهتمام بالقرآن وتعليمه... 50

إقامة مجالس التفقه في الدين... 50

لزوم معرفة الإمام المعصوم(عليه السلام)... 51

ضرورة إقامة المجالس الحسينية... 51

فضائل زيارة قبور المعصومين(عليهم السلام)... 52

إلى حكومة شيعية في العراق

لكل شيء سبب... 54

المنجمون وعلماء الفلك... 55

مقدمات الوصول لحكومة الأكثرية... 56

1- الإنفاق سر التقدم... 56

حفظ كامل حقوق الأقليات... 57

ص: 523

نفوذ الإنجليز في العراق عن طريق الأموال... 57

إنفاق المال في الموارد الصحيحة... 58

لا للاحتكار، نعم للإنفاق... 58

تقسيم الأموال بأمر الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه)... 60

حكومة العراق المستقبلية... 61

2- وحدة الكلمة للوصول إلى حقوق الأكثرية... 62

التلبس بالدين... 63

العزم والإرادة بعد التوكل على اللّه... 64

السكاكي: قوة الإرادة... 65

من هدي القرآن الحكيم... 67

الحكومة الإسلامية الشاملة... 67

اتباع أحكام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 67

لا للطواغيت... 68

الشورى والمشاورة... 68

أهداف الحاكم المسلم... 69

من هدي السنّة المطهّرة... 69

الحكومة الإسلامية الشاملة... 69

اتباع أحكام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمر الولاية... 70

لا للطواغيت... 70

الشورى والمشاورة... 71

أهداف الحاكم المسلم... 72

انتهاء أمد اليهود في اغتصاب فلسطين

المقدمة... 73

ص: 524

اليهود لغةً وتاريخاً... 75

ادعاءات لا أساس لها... 76

أولاد يعقوب(عليه السلام)... 76

كفر اليهود... 77

اليهود ومحاولة قتل السيد المسيح(عليه السلام)... 79

اليهود في البلاد العربية... 79

تعامل المسلمين مع اليهود... 80

اغتصاب فلسطين... 81

اليهود وإمكان هدايتهم إلى الإسلام... 82

1- إسلام يهودي في النجف الأشرف... 83

2- إسلام يهودي في بغداد... 85

زواج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) باليهودية... 88

السعي لهداية اليهود... 89

مشكلة اليهود في أنفسهم... 90

من أخطاء اليهود... 92

اليهود وغصب فلسطين... 92

مكانة بيت المقدس عند المسلمين... 93

القبلة الأولى... 93

قصة الإسراء... 94

فتح القدس... 96

بيت المقدس مسكن الأنبياء(عليهم السلام)... 97

المسجد الأقصى... 97

فصل: روايات في القدس الشريف... 97

ص: 525

دعاء سليمان(عليه السلام) لمن يزور بيت المقدس... 98

نور إلى بيت المقدس... 98

قصور الجنة... 98

الصلاة نحو بيت المقدس... 98

الصلاة تعدل حجة أو عمرة... 99

ألف صلاة... 99

سبعة عشر شهراً... 99

الزيتون... 100

شيعة فلسطين... 100

إنقاذ العتبات المقدسة

مستقبل العراق والعتبات المقدسة... 101

البيان والقلم... 102

تعميق الوعي وتعبئة الرأي العام... 103

العقل المدبر... 105

هكذا تكون القيادة الإسلامية... 106

جواب عن إشكال... 107

العلم والعمل أسسا التقدم... 108

الدعاء... 109

مستقبل العراق... 109

1- المؤسسات الدستورية... 110

2- التعددية الحزبية... 111

3- شورى المراجع... 112

من هدي القرآن الحكيم... 113

ص: 526

العلم... 113

العلماء... 113

من أخلاق خاتم الأنبياء(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 114

أهمية العقل... 114

النظر في العاقبة... 115

من هدي السنّة المطهّرة... 115

زيارة العتبات المقدسة... 115

الدعاء ودفع البلاء... 116

الالتفاف حول الإمام(عليه السلام) وإطاعته... 116

حسن التدبير... 117

سوء التدبير... 117

في العقل وأحواله... 118

المشورة... 119

الهداية إحياء... 119

قضاء الحوائج... 120

آثار الظلم في الدنيا والآخرة

عاقبة الظلم... 121

عالم البرزخ... 122

عالم القيامة... 123

أنواع الظلم... 124

جزاء الظالم يوم القيامة... 126

جزاء القتل... 127

حبس الحق... 127

ص: 527

الحق عند أمير المؤمنين(عليه السلام)... 127

إمهال الظالم... 129

أثره على المظلوم... 130

أثره على المجتمع... 131

أثره في التجاوز على القانون... 132

السكوت عن الظلم... 133

شوكة في يد الظالم... 135

من هدي القرآن الحكيم... 136

الظلم... 136

إمهال الظالمين وجزاؤهم... 137

بعض آثار الظلم والظالمين... 137

أنواع الظلم... 137

من هدي السنّة المطهّرة... 138

الظلم... 138

إمهال الظالمين وجزاؤهم... 138

بعض آثار الظلم والظالمين... 139

أنواع الظلم... 140

إعانة الظلمة... 140

الإصرار على الذنب... 141

ظلم الرعية... 141

بين المسلمين واليهود

لماذا سيطر اليهود... 142

اليهود بين الأمس واليوم... 143

ص: 528

السر في انقلاب المعادلة... 144

إحصائية... 145

مثل قرآني... 146

الاقتداء بمساوئ اليهود... 148

رسالة إلى عرفات... 149

بين السلم والعنف... 150

روح الانتفاضة... 151

وحدة الصف... 151

لا تسمعون كلام اللّه... 153

التفاوض بذلة... 153

صفات اليهود... 154

الخطر التجاري... 154

الخطر الجنسي... 156

المخدرات والإيدز... 157

الصلح مع عرفات... 158

كيفية تنبيه المسلمين... 158

من هدي القرآن الكريم... 160

اللاعنف أنجح الحلول... 160

من صفات القائد العفو والصفح... 160

الفُرقة وآثار السلبية... 161

طاعة اللّه شرط التقدم... 161

من هدي السنّة المطهّرة... 161

اللاعنف أنجح الحلول... 161

من صفات القائد... 162

ص: 529

الفرقة وآثارها السلبية... 162

العز في طاعة اللّه وتقواه... 163

تحديد النسل فكرة غربية

الإسلام والتكاثر... 164

تحديد النسل فكرة غربية... 165

ترويج الفكر الغربي... 166

مشاكل المسلمين... 166

الإسلام والزواج المبكر... 167

السبب الحقيقي لتحديد النسل؟... 171

تحديد النسل والهجرة اليهودية... 172

تحطيم القدرة البشرية... 173

الخالق يتكفل الرزق... 174

شاهد صغير... 175

لا أزمة غذائية... 176

الخلل في الحكومات... 176

المثل السيئ للقمع... 177

سياسة التبرير... 178

خيوط الحل... 179

من هدي القرآن الحكيم... 180

الإسلام والإنجاب... 180

الإسلام والزواج... 180

من هدي السنّة المطهّرة... 181

المرأة الولود... 181

ص: 530

الزواج عبادة... 182

فضل الأولاد وتربيتهم... 182

التكاثر والسنة... 183

البساطة في نفقات الزواج... 183

تحليل الأحداث ضرورة حياتية

أهمية التحليل في حياة الإنسان... 185

الجاحدون المستيقنون... 186

تحليل ثورة المختار... 187

تحليل أحداث التأريخ ضرورة... 192

تحليلات الماركسية المغلوطة... 193

الإسلام والعدالة الاجتماعية... 193

الإسلام دين الاعتدال... 195

قضية فلسطين وتحليل الموقف... 197

دعوة مفتوحة للجميع... 200

بين التحليل والسنن الإلهية... 203

من هدي القرآن الكريم... 205

التدبر في القرآن... 205

التحليل الاقتصادي... 205

الإسلام معتدل في نهجه... 206

تحليل الأحداث ينجي من المهالك... 206

من هدي السنّة المطهّرة... 207

التدبر في القرآن... 207

التحليل الاقتصادي... 207

ص: 531

الإسلام معتدل في نهجه... 208

معرفة الأحداث تنجي من المهالك... 209

تحليل أحوال الأمم الماضية... 210

توصيات إلى العاملين للإسلام

الدعوة إلى الإسلام... 214

من أساليب الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 214

رسالة إلى هرقل... 216

رسالة إلى كسرى... 217

رسالة إلى النجاشي... 217

رسالة إلى النجاشي الثاني... 218

رسالة إلى المقوقس... 218

رسالة إلى ملك مصر... 219

رسالة إلى صاحب دمشق... 219

رسالة إلى ملك البحرين... 219

رسالة إلى ملك اليمامة... 220

رسالة إلى ملوك عمان... 220

رسالة إلى يهود خيبر... 221

رسالة إلى أهل جرباء وأذرح... 222

رسالة إلى أهل نجران... 222

رسالة إلى اليهود عامة... 222

المستعمرون وتشويه سمعة الإسلام... 226

الأخلاق الإسلامية سر التقدم... 227

واجبنا تجاه المحافظة على الإسلام ونشره... 231

ص: 532

مؤسسات الدعوة وكوادرها... 231

العمل الثقافي... 232

السيد الرضي(رحمه اللّه) وعمله الإسلامي... 232

ذكاء وحذر... 232

دور العلماء... 233

العلم دائماً... 234

هكذا الحرص على التعلم والتعليم... 234

مكارم الأخلاق... 236

الأخلاق عامل الجذب... 236

مقابلة الإساءة بالإحسان... 237

قصة أخرى... 238

الإخلاص في العمل... 239

أعلى نماذج الإخلاص... 239

كتمان المعروف... 243

الصبر دائماً... 243

من هدي القرآن الكريم... 245

أسلوب الدعوة... 245

الإخلاص في العمل... 246

ضرورة نشر الإسلام... 246

من هدي السنّة المطهّرة... 246

نشر العلوم الإسلامية... 246

الأخلاق الفاضلة... 247

الإخلاص عبادة... 247

أسلوب الدعوة إلى اللّه عزّ وجلّ... 248

ص: 533

حديث مع الناشئين

شباب المستقبل... 249

أصبح رئيساً... 250

من طلب شيئاً ناله... 251

الأول: طلب العلم... 251

الثاني: الإخلاص والتوكل على اللّه... 253

الثالث: خدمة الناس... 255

عظيم أخلاق وآداب... 255

الرابع: أحكام الإسلام... 257

تطبيق حكم اللّه في الأرض... 259

الهدف النبيل... 260

من هدي القرآن الحكيم... 261

العمل الصالح... 261

طلب العلم وأهميته... 262

الإخلاص والتوكل على اللّه... 262

من هدي السنّة المطهّرة... 263

تربية الناشئين... 263

تأديب الأحداث... 264

حقوق الأولاد... 265

طلب العلم وأهميته... 267

أهمية السعي... 267

الإخلاص للّه تعالى... 268

فضل القرآن... 268

أفضل الأعمال... 269

ص: 534

حكومة الأكثرية

المسؤوليات الاجتماعية... 271

مشكلتان رئيسيتان... 272

سؤال... 273

نصب تأريخي... 273

التعصب الشديد ضد الشيعة... 274

القيادة الرشيدة ووحدة الأمة... 274

ضعف الوعي... 277

الطائفية في كل شيء... 278

قطع الكهرباء... 278

الاعتقال من الحمام... 278

المشكلة الثانية... 279

كيفية الخلاص... 280

ثمار ضغط الرأي العام... 281

لماذا الحكومة بيد الشيعة؟... 282

إيجاد الديمقراطية في العراق... 283

من هدي القرآن الحكيم... 284

نتائج الإعراض عن الحق... 284

إيثار الحق والعمل به... 284

التعصب الأعمى... 284

الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامي... 285

من هدي السنّة المطهّرة... 285

إيثار الحق والعمل به... 285

الشيعة مع الحق... 286

ص: 535

المؤمنون أخوة... 286

الاهتمام بأمور المسلمين... 287

الموعظة والإرشاد... 287

خدمة الناس والتقوى

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذبح الشاة... 289

الإمام الصادق(عليه السلام) والأمر بالإنفاق... 289

الإمام الصادق(عليه السلام) والنجاشي... 291

اللّه يتقبل الأعمال... 292

إنفاق أهل البيت(عليهم السلام)... 293

الإخلاص في خدمة الناس... 293

أهمية خدمة المسلمين... 294

السيد البروجردي(رحمه اللّه) وبكاؤه خوفاً من اللّه... 294

زهد وورع السيد البروجردي(رحمه اللّه)... 295

فعل الخيرات... 295

التقوى... 297

محكمة القيامة... 298

حتى النيات يعلم بها اللّه تعالى... 298

التنبيه من الغفلة... 300

من هدي القرآن الحكيم... 302

الإيثار... 302

التقوى مفتاح الأعمال... 302

مميزات المتقين... 302

من هدي السنّة المطهّرة... 303

ص: 536

خدمة الناس... 303

الإيثار... 304

التقوى في المؤمن... 304

التقوى مصباح الهدى... 305

معنى التقوى... 306

علامات التقوى... 306

دروس من الهجرة

المقدمة... 307

مدرسة الهجرة... 310

الهجرة وتقسيماتها... 312

من أسباب الهجرة... 312

المسلمون الأوائل وقريش... 313

صحيفة قريش... 317

أهداف قريش... 321

الفشل الذريع... 322

لماذا الحبشة؟... 322

موقف قريش من الهجرة... 323

سفراء قريش إلى ملك الحبشة... 325

رواية أخرى في قصة الهجرة... 328

أبو طالب(عليه السلام) كافل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والرسالة... 332

وفاة أبي طالب(عليه السلام)... 341

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الطائف... 342

الرجوع إلى مكة... 346

ص: 537

الفترة الحرجة... 347

بارقة الأمل... 348

لماذا المدينة المنورة؟... 353

بيعة الأنصار الأولى والثانية... 354

مؤامرة قتل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 358

المدينة المنورة والهجرة... 359

مرحلة التثبيت والبناء... 360

مرحلة نشر الدين الإسلامي... 364

كتبه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الملوك والحكام... 365

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى كسرى ملك الفرس... 366

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى قيصر عظيم الروم... 367

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المقوقس ملك الإسكندرية... 369

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى النجاشي... 371

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك اليمامة... 372

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك عمان... 373

الخلاصة... 373

من دروس الهجرة... 374

كلمة أخيرة... 376

من هدي القرآن الحكيم... 378

الإيمان والهجرة... 378

تعلم الصبر... 379

نشر الدعوة الإسلامية... 380

الثبات على المبدأ... 380

ص: 538

من هدي السنّة المطهّرة... 381

الإيمان والهجرة... 381

تعلم الصبر... 381

نشر الدعوة الإسلامية... 382

الثبات على المبدأ... 383

دعاة التغيير ومستقبل العراق

الأمانة في الاستخلاف... 384

الفهم السياسي... 386

غاندي والاستقلال... 387

قصة من الواقع المؤلم... 388

من أوليات الفهم السياسي... 389

دائماً مع الناس... 390

تحمّل المصاعب... 392

التعددية الحزبية... 392

الأحزاب في العراق... 393

المعالم الواضحة... 393

البرنامج المتكامل... 394

من هدي القرآن الحكيم... 395

الأمانة... 395

الوعي... 396

الإصلاح... 397

الإخلاص... 397

من هدي السنّة المطهّرة... 398

ص: 539

الأمانة... 398

الوعي... 399

الإصلاح... 400

الإخلاص... 400

دور الاستعمار في تفكيك الأمة

الأمة الإسلامية الواحدة... 402

آية الأمة الواحدة... 404

على أرض الواقع... 405

آية أخرى تؤكد على الأمة الواحدة... 405

المعصوم(عليه السلام) يؤكد على الأمة الواحدة... 406

بداية التجزئة... 408

المأساة والعلاج... 411

حكومة القاجار في إيران... 413

إضاعة أفغانستان... 415

مسؤولية المسلمين أمام الزحف السوفييتي... 416

ماذا يعمل الأعداء... 419

التخلص من المآسي وإرجاع قانون الأمة... 420

الأول: الوعي... 420

الثقافة وأثرها... 422

الثاني: التنظيم... 424

الثالث: السلم... 425

الرابع: الرجوع إلى أحكام اللّه... 427

الخامس: الاكتفاء الذاتي... 427

ص: 540

النتيجة... 430

من هدي القرآن الحكيم... 431

الأمة الإسلامية الواحدة... 431

الاختلاف والفرقة ونتائجها... 432

العلم أصل كل خير... 432

الشعور بالمسؤولية... 432

من هدي السنّة المطهّرة... 433

الأمة الإسلامية الواحدة... 433

الاختلاف والفرقة ونتائجها... 433

العلم أصل كل خير... 433

الشعور بالمسؤولية... 434

دور الشباب في إنهاض الأمة

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدوة وأسوة... 435

الرسالة العظيمة والمرأة... 440

الابتعاد عن الروح الإسلامية... 442

واقع بلا أسوة... 445

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يختار الشباب الصالحين... 446

طاقات الشباب... 449

لا لقياس العمر... 449

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعيّن أسامة قائداً للجيش... 452

موقعة حنين... 453

مصعب بن عمير... 454

رسول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 456

ص: 541

استشهاد مصعب بن عمير... 458

ذو البجادين... 459

الشباب والعمل التنظيمي... 461

تنظيم الشباب... 461

من لوازم التنظيم... 464

من هم قادة الشباب؟... 465

القائد الناجح والشباب... 466

ربما يقرؤه أحد الشباب... 468

الشباب والمبادئ والقيم... 469

الشباب وطلب العلم... 472

قصة في طلب العلم... 474

من هدي القرآن الحكيم... 475

القدوة والأسوة الحسنة... 475

درجات التفضيل بين الناس... 476

العمل التبليغي... 476

العمل مقياس للكفاءة... 477

من هدي السنّة المطهّرة... 477

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو القدوة... 477

أفضل الناس... 478

الإخلاص في العمل... 478

العمل مقياس للكفاءة... 479

شخصية المؤمن

النفس والإطراء... 480

ص: 542

قوة الشخصية... 481

السبيل إلى الشخصية القوية... 482

ثمار الخير والصلاح... 483

العمل للّه وحده... 484

الخالق حكيم... 485

قضاء حوائج الناس... 487

عبرة من النحلة... 489

إعانة الناس... 491

أهل البيت(عليهم السلام) نموذج وشاهد... 492

الشيخ الحائري وإغاثة محتاج... 494

نموذج آخر... 496

حكومة الأدارسة في المغرب... 497

الأرض للّه ولمن عمرها... 499

الزهد والتقوى... 500

من هدي القرآن الحكيم... 501

المؤمن القوي... 501

إخلاص المؤمن... 502

من خصال المؤمن... 503

من هدي السنّة المطهّرة... 503

كيفية خلق المؤمن وخصاله... 503

قضاء حاجة المؤمن... 504

مراتب الإخلاص... 505

أمير المؤمنين(عليه السلام) يصف المؤمن... 506

ص: 543

دور الأمل في حياة الإنسان

الأمل... 508

الروح العالية... 509

طول الأمل... 511

الأمل أغناه... 512

الأمل والإرادة... 514

من هدي القرآن الحكيم... 516

يجب أن يكون الأمل مصحوباً بأمور... 516

الدعاء إلى اللّه تعالى... 516

والتوكل عليه عزّ وجلّ... 516

والعمل... 517

إبتعد عن اليأس... 517

من هدي السنّة المطهّرة... 518

يجب أن يكون الأمل مصحوباً بأمور... 518

الدعاء إلى اللّه تعالى... 518

والتوكل عليه عزّ وجلّ... 518

والعمل... 519

إبتعد عن اليأس... 520

فهرس المحتويات... 521

ص: 544

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.