القطوف الدانية المجلد 4

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 4/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

---------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر: دار العلم

المطبعة: إحسان

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

كمية: 500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

---------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الثالث): 9-204541-964-978

---------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

العمل الصالح طريق التغيير

اشارة

العمل الصالح طريق التغيير(1)

الإخلاص في العمل

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءَايَٰتٖ مُّبَيِّنَٰتٖ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}(2).

عندما يفتح المجتمع صدره واسعاً للموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة... لتنمو فيه بذور الإخلاص وتتكاثر؛ فسوف يجد نفسه - تلقائياً - وقد خطا خطواته الأولى نحو السعادة والتطوّر.

والمخلصون - وحدهم - هم الذي يستشعرون المتعة واللذة حين يستمعون للمواعظ، وتراهم ينصتون إليها خاشعين، ولا يعدلون بها أي شيء آخر، فان العمل الخالص وإن قلّ إلّا أنه ينمو ويثمر.

ستة آلاف كلمة

وإننا نجد هذا المعنى بكل وضوح في أمير المؤمنين(عليه السلام)، حين يخيّره الرسول العظيم(صلی الله عليه وآله وسلم) - كما جاء في (المواعظ العددية)(3)

- فيقول له: «يا علي! تريد ستمائة ألف، أو ستمائة ألف دينار، أو ستمائة ألف كلمة؟ قال: يا رسول اللّه ستمائة ألف كلمة. فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): اجمع ستمائة ألف كلمة في ست كلمات، يا علي

ص: 5


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 14/ذي الحجة/1406ه.
2- سورة النور، الآية: 34.
3- المواعظ العددية: 187.

إذا رأيت الناس يشتغلون بالفضائل فاشتغل أنت بإتمام الفرائض، وإذا رأيت الناس يشتغلون بعمل الدنيا فاشتغل أنت بعمل الآخرة، وإذا رأيت الناس يشتغلون بعيوب الناس فاشتغل أنت بعيوب نفسك، وإذا رأيت الناس يشتغلون بتزيين الدنيا فاشتغل أنت بتزيين الآخرة، وإذا رأيت الناس يشتغلون بكثرة العمل فاشتغل أنت بصفوة العمل، وإذا رأيت الناس يتوسلون بالخلق فتوسل أنت بالخالق».

إن هذه الرواية تهتم بالإخلاص والصفاء في العمل أكثر مما تهتم بالنتائج، لأن فائدة العمل تستمد من الإخلاص والصفاء فيه، فلا عمل يصعد إلى اللّه تعالى إلّا بنية خالصة، مهما كانت المنافع التي تنشأ عنه.

ولذا قد يكون العمل الضئيل المخلص أرفع وأسمى من عمل جبار وكبير لأن الميزان في العمل ليس الكثرة أو الكبر بل الإخلاص هو المعيار الأساسي في العمل عند اللّه الحكيم، وبهذا يفتح الإسلام الطريق أمام أي فرد - مهما كانت إمكاناته وقدراته - على النفع الاجتماعي، والعمل المخلص النافع، للارتقاء إلى أسمى درجة في سلم النفس الإنسانية ومراحل كمالها، فقد قال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا}(1).

إذاً هذا هو تكريم الإسلام لقيمة الإخلاص والصفاء في العمل، وإن الرواية التي يرويها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ما هي إلّا خلاصة لإحدى آيات القرآن المجيد القائلة: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(2)، إذ تشير إلى أن الميزان الذي على أساسه يكون تكريم وتقييم الإنسان هو العمل الصالح فالمقياس الواقعي للتمييز

ص: 6


1- سورة مريم، الآية: 96.
2- سورة هود، الآية: 7.

هوالعمل الصالح ومن خلاله نستطيع تقييم الإنسان الصالح، ومن خلال العمل السيئ يمكن تشخيص الفرد غير الصالح {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}(1) {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(2).

العمل الصالح

وفي هذه الآيات وآيات أخرى من القرآن الكريم نلحظ تأكيداً واضحاً على أن العمل الصالح المخلص هو الذي يرفع الإنسان، كما في قوله تعالى: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَٰتُ الْعُلَىٰ}(3).

والآن لنعد إلى أنفسنا حتى نعرف قدرنا. إذ «ولا معرفة كمعرفتك بنفسك»(4)

كما عن الإمام الباقر(عليه السلام)، وقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل المعرفة، معرفة الإنسان نفسه»(5)، وقال(عليه السلام): «من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، وخبط في الضلال والجهالات»(6).

بين العمل الصالح والعمل الطالح

والسؤال الذي يُطرح هو: هل توجد لدينا القدرة على تمييز العمل الصالح عن العمل الطالح أم لا؟

في الحديث الوارد عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «لا يُقبل عمل إلّا بمعرفة ولا معرفة إلّا بعمل، ومن عرف دلته معرفته على العمل ومن لم يعرف فلا عمل

ص: 7


1- سورة الأنفال، الآية: 37.
2- سورة الكهف، الآية: 7.
3- سورة طه، الآية: 75.
4- تحف العقول: 286.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 189.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 656.

له»(1).

وكذلك عن الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يقبل اللّه عملاً إلّا بمعرفة، ولا معرفة إلّا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له ألّا إن الإيمان بعضه من بعض»(2).

وهذا السؤال بدوره ينشئ سؤالاً آخر وهو: بعد تمييز العمل الصالح عن طريق هذه القواعد التي وضعها أئمة أهل البيت(عليهم السلام) يحق لنا التساؤل: هل أننا نعمل به أم لا؟ القرآن الكريم يؤكد {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً}(3).

وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}(4).

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}(5).

وكذلك قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشرف عند اللّه سبحانه بحسن الأعمال لا بحسن الأقوال»(6).

وكذلك قال(عليه السلام): «العمل شعار المؤمن»(7).

وقال الإمام الهادي(عليه السلام): «الناس في الدنيا بالأموال وفي الآخرة بالأعمال»(8).

وجاء رجل إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: ما ينفي عني حجة الجهل؟ قال(صلی الله عليه وآله وسلم):

ص: 8


1- تحف العقول: 294.
2- الكافي 1: 44.
3- سورة النحل، الآية: 97.
4- سورة القصص، الآية: 67.
5- سورة فاطر، الآية: 7.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 105.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 32.
8- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 139.

«العلم»، قال: فما ينفي عني حجة العلم؟ قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «العمل»(1).

وكذلك قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العمل العمل، ثم النهاية النهاية، والاستقامة الاستقامة، ثم الصبر الصبر، والورع الورع، ان لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم وإن لكم علماً فاهتدوا بعلمكم، وإن للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته...»(2).

في مقام الجواب عن السؤال نقول:

إن الناس - غالباً - وبسبب وجود حسن الظن عندهم يدّعون كلا العملين(3)، إلّا أن هذا الظن عند بعض الناس يكون جهلاً مركباً لا أكثر، ومما يؤكد ذلك هو تأخر المسلمين في القرن الأخير هذا، بحيث اُصبح حال بعض المسلمين أسوأ دنيوياً حتى من أولئك الذين يعبدون البقر والأصنام، فمثلاً في الهند هناك عشرات الملايين من عبّاد البقر والبوذيين وعبدة النار وغيرهم، ونراهم يتمتعون بكامل حرياتهم بالرغم من انحرافهم ويحظون بأهمية على المستوى العالمي، في حين أن بعض المسلمين على العكس من ذلك بحيث لا يتمتعون بالحريات الهامشية فضلاً عن الحريات الأساسية لكل إنسان، كحرية السفر أو حرية التعبير عن الرأي او التجارة وغيرها من الحريات.

من أسباب تخلف المسلمين

من أهم الأسباب التي أوصلت المسلمين إلى هذه الحالة - إضافة إلى ما قلناه -هو ابتعادهم عن الدين ودخول العقائد المنحرفة الاستعمارية إلى أغلب البلدان

ص: 9


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 64.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176 يعظ ويبين(عليه السلام) فضل القرآن وينهى عن البدعة ويحث على العمل.
3- أ: القدرة على تمييز العمل الصالح من الطالح. ب: العمل بالصالح من الأعمال.

الإسلامية، وانتشار التحلل الخلقي في وسط الشباب المسلم، إلى غير ذلك من الأسباب التي قد تكون علتها الأساسية الاستبداد والدكتاتورية السياسية التي رسِمها الاستعمار لنا كنموذج للحكم والحكومة.

وبعد كل هذه الويلات التي تجري على المسلمين والمصائب يمكن أن يقال بأن حال المسلمين البعيدين عن الدين هو أسوأ من حال الهندوس (عبّاد البقر)؟

ولأجل العودة إلى روح التقدم والخروج من هذه الحالة المتخلفة علينا الرجوع إلى تعاليم الدين التي هي ثورة فكرية تقود الإنسان إلى الكمال والرقي في جميع ميادين الحياة المختلفة، فالمنقذ الوحيد الذي يغير سوء حالنا إلى أحسن حال هو الدين الإسلامي والالتزام الكامل بقوانينه ومبانيه.

وقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1)، وهذه الآية تبين لنا الإيمان التام بالرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) والطاعة الكاملة في ما يأمر به وينهى عنه، سواء أكان ما يأمر به أو ينهى عنه حكماً من الأحكام الشرعية، أو كان صادراً عنه لكونه الوليّ الذي له حق التصرف في أمور الأمة والالتزام بتعاليمه، فإنا إذا وضعناها نصب أعيننا (في حال كوننا نعيش الصراعات في قبال النظم والأحكام الفاسدة) نكون قد وضعنا منهجاً تربوياً صحيحاً يساهم في تكوين الأجواء الإسلامية الواعية والصالحة لتربية الفرد والأسرة والمجتمع المسلم، وبذلك نكون قد ساهمنا في وضع اللبنات الأولى لمسار إسلامي متصاعد. وهذه الخطوط العامة التي وضعها القرآن الكريم لا من أجل تكوين الإنسان المتدينفقط، وإنما على أساس تكوين أجواء صالحة يحكمها الإسلام

ص: 10


1- سورة الحديد، الآية: 28.

بمفاهيمه المتحركة والمتجذرة في النفس الإنسانية. وبذلك نضمن مستقبلاً زاهراً، كما ساهمت دعوة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في بداية الدعوة الإسلامية في بناء شخصيات عظيمة كأبي ذر، وعمار، والمقداد، وسلمان(عليهم السلام) وغيرهم، وهذه المهمة مهمة حضارية ستظل أمانة في أعناق أبناء الأمة الإسلامية في جميع طبقاتهم.

العقائد المنحرفة

وفي نفس الوقت من الواجب عليهم أن يتبصروا في أمر دينهم؛ وذلك من أجل أن لا يغفلوا عن دخول العقائد المنحرفة في دينهم عن طريق المنافقين فقد قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُنَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَٰبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(1).

القرآن الكريم يكشف لنا عن ملامح وصور وتحركات المنافقين وأصحاب العقائد الفاسدة فإنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا النفاق والكفر، يريدون أن يفسدوا على المسلمين إسلامهم ويعملوا على إغراء الآخرين بالسير على طريقهم. وهذا الأسلوب الذي يستخدمونه الآن هو نفس الأسلوب الذي استخدمه المنافقون في زمن النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، عندما كان(صلی الله عليه وآله وسلم) يدعو المسلمين إلى الخروج إلى معركة أحد، فقد حاولوا الإيحاء باهتمامهم بالجهاد في سبيل اللّه لغرض تثبيط المؤمنين وهم يبثون مكائدهم وشرورهم في كل موقفٍ من المواقف التي تتحرك فيها المعركة، فاذا حصلت لهم القناعة، فإنهم يذهبون إلى المعركة في الصفوف الأولى، وإن لم يقتنعوا فإنهم يرفضون الاشتراك في القتال، وبهذه الصورة واجهوا

ص: 11


1- سورة آل عمران، الآية: 78.

دعوة الخروج للقتال فقد قالوا بأنهم يعتقدون بأن الموقف ليس موقف قتال، أرادوا من هذا الموقف الإيحاء للمسلمين باتخاذ نفس الموقف، ولكن اللّه يحدثنا عن هذه الصورة ليكشف زيف الواقع الذي يعيشونه: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَٰنِ يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}(1)، فإن {هُمْ} أي هؤلاء المنافقين {لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَٰنِ} فكلما عمل المنافق بالخلاف كان أقرب إلى الكفر، وكلما عمل بالوفاق كان أقرب إلى الإيمان {يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فأفواههم تنطق بالإيمان وقلوبهم تضمر الكفر والعصيان(2).

فليست القضية الانحراف العملي بل هي الانحراف العقائدي والفكري الذي هو الأساس في كل الانحرافات المتعلقة بالسلوك.

الثوب الجديد

اليوم ظهر المنافقون بثوب جديد، وأفكار هدامة، بطراز يختلف عن الطراز القديم، أمثال الفرق المصطنعة على أيادي الاستعمار(3) والتي تعتبر ضلالات لأفكار منحرفة وشيطانية في نفس الوقت، ولها تأثير سلبي خطير على مسيرة الإسلام، فالتصدي لها يعد واجباً شرعياً إسلامياً، لأنهم شوّهوا حقائق هذا الدين الحنيف؛ بسبب انحرافهم الفكري والعقيدي عن جادة الحق والصواب المتمثلة بالكتاب والسنة النبوية الشريفة لأنهما وديعتان عظيمتان وأمانتان كبيرتان، وقد عرَّفهما الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) بقوله: «وإني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي، كتاب اللّه حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي وإن

ص: 12


1- سورة آل عمران، الآية: 167.
2- تفسير تقريب القرآن 1: 416.
3- أمثال الوهابية والبابية المذهبين اللذين أسسهما الاستعمار، للتفصيل راجع: مذكرات مستر همفر، ومذكرات كينياز دالكوركي.

اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا بماذا تخلفوني فيهما»(1).

ولكن - ويا للأسف - حدثت حوادث، وطرأت حواجز عرقلت مسيرة الأمة الإسلامية وحرفتها عن طريقها المستقيم التي تسير به، وخصوصاً في عصرنا الحاضر هذا.

الانحراف الفكري وأثره في الإسلام

قبل أكثر من خمسين عاماً تسلطت عائلة آل سعود - الذين لم يكن يزيد عددهم على خمسة آلاف نفر - على بيت اللّه الحرام، ولم يكن وصولهم إلى دفة الحكم إلّا بمساندة الاستعمار البريطاني، حيث سلموهم زمام الأمور في دولة تعد ذات أهمية كبيرة بالنسبة للعالم الإسلامي؛ لأن فيها مهبط الوحي وفيها بيت اللّه الحرام ومسجد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقبره، وكذلك قبور بعض الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، ولكن استطاعت بريطانيا وأعداء الإسلام أن يمرروا من خلال حكام هذه العائلة الضربات تلو الضربات لجذور الدين الإسلامي، ويتخذوا من أرض الإسلام الأولى وقاعدته ومنطلقه، قاعدة لضربه. علماً بأن هذه الضربات كانت مباشرة، وقد أثمرت ثمارها بعد تنفيذها - مع الأسف - فتمكنوا من منع المسلمين من الحج بحرية وتمكنوا من تخريب قبور أئمة البقيع(عليهم السلام) مرتين، ومنعوا الناس من زيارتهم واتهموهم بالكفر والشرك والإلحاد، ولا يزالون يحوكون المؤامرات تلو المؤامرات ضد المسلمين إلى يومنا هذا.

لكن هل وقف المسلمون متحدين لمواجهة هذا اللون من الانحراف الضال، والعمل غير اللائق والمعادي للإسلام، مع أن المسلمين يمتلكون القدرة

ص: 13


1- كمال الدين 1: 235.

والمهارة لردع ذلك، ولكن - للأسف الشديد - بعض المسلمين لا يشعرون بالمسؤولية تجاه هذه الأعمال المنحرفة ووضع حد لها لحد الآن.

إن أعداءنا بثوا ولا يزالون يبثون الأفكار الفاسدة في العالم الإسلامي من خلال الكتب الكثيرة، والصحف والمجلات والأقمار الصناعية والإذاعات المرئية والمسموعة إذ ملأوها بالأفكار الهدامة، والسب والشتم لأئمة الإسلام وقادته، الذين قام الدين على أكتافهم، وهم أهل البيت(عليهم السلام).

نقل الأموات

إن عداوتهم لنا جدية ومتأصلة في هذا المجال، لأننا أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، وقد قلت ذات مرة لأحد الأخوة أن يكتب جواباً على الكتابات المنحرفة والمنكرة، إلّا أنه أجابني قائلاً: أنا ليس عندي سعة بال لنقل الأموات، وكان يعني نقل الكلمات الميتة في كتب الأعداء، ولكن كان علينا أن لا ننسى قول نبينا الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، ليس وراء ذلك شيء من الإيمان - وفي رواية أن ذلك أضعف الإيمان - »(1).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجهدك، وجاهد في اللّه حقّ جهاده ولا تأخذك في اللّه لومة لائمٍ، وخض الغمرات للحقّ حيث كان»(2).

وكلام النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) حجة علينا يوم القيامة ويجب علينا رفع هذه الشبهات والضلالات الموجودة فينا نحن المسلمين، والتي تدور في أذهان

ص: 14


1- عوالي اللئالي 1: 431.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه.

البعض بأن الرد على مزاعم المنحرفين أنه (نقل أموات) ما هي إلّا مغالطة وفرار عن العمل، وهل التأليف والرد على كتب الأعداء وتفنيد مزاعمهم وبلسان العصر يعد نقل أموات؟! إن هذا لا يعد نقل أموات بل واجب شرعي فرضته الشريعة المقدسة، وغداً نحن مسؤولون عنه؛ ألم يقل الحق تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}(1) فان عدم الشعور بالمسؤولية تجاه هداية المجتمع، وبالخصوص الشباب منهم، والذود عن حريم المذهب أمام الأعداء سيعود علينا بالأخطار الجسام، فلا يجب أن يكون موقفنا تجاه المخاطر كقول الشاعر:

ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت(2)

فإن السير بلا هدف ولا مسؤولية ولا اهتمام يعتبر مسيراً عشوائياً وتخبطاً لا يسمن ولا يغني من جوع، فلا بد للمسلمين من اتباع أساليب جديدة عصرية تستمد قواعدها من القرآن الكريم وسنة النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) لنشر تعاليم دينهم والدفاع عنه؛ لأن اللّه سبحانه أنزلها من أجل هداية الناس يحاسبنا حينما نقصر في الدعوة إليه وتوضيح طريق العبودية الحقّة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(3).

متطلبات العصر

وكذلك يجب علينا أن نتعامل مع متطلبات العصر بحسب التقدم والتطور، لأننا لا يمكن أن نساوي بين أنوار الشمع التي كان يستخدمها الناس في القديم

ص: 15


1- سورة الصافات، الآية: 24.
2- المصرع من شعر إيليا أبو ماضي (1890م - 1957م) أحد رواد الشك والحيرة في عصرنا، شعره هو: جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت *** ولقد أبصرت قُدّامي طريقاً فمشيت وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت *** كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!
3- سورة الذاريات، الآية: 56.

مع أنوار مصابيح الكهرباء في عصر التقدم والتطور هذا! ولا يمكن أن يستوي السفر بالطائرة مع السفر على ظهور الحيوانات؛ فإن ذلك غير معقول ونرى هذا المعنى في قوله جلّ وعلا: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَٰتُ وَلَا النُّورُ}(1).

والذي لا يدرك ذلك يكون قد شارك في صب المصائب على المسلمين.

كيف نخطو إلى الأمام

والآن وبعد أن عرفنا كل هذا نطرح سؤالاً مهماً، وهو كيف يمكننا أن نخطو إلى الأمام؟

إن الغرب والشرق هم الذين يقومون بقتل أبناء الإسلام كل حين، وما يزال البعض من أولئك الأعداء الغربيين والشرقيين يتحكمون في بلادنا الإسلامية، وينهبون ثرواتها وخيراتها ويزرعون الأفكار المنحرفة في قلب بلداننا، لنأخذ في ذلك مثال الحج الذي قال اللّه تعالى عنه: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ}(2) فقد اتخذه الأعداء مركزاً للنفاق والتفرقة وتشتيت المسلمين، فهناك في مكة يوجه الأعداء الكلمات الجارحة للمسلمين المؤمنين فيقولون للمسلم: كافر وللمؤمن منافق، ولمحب آل الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) مشرك وملحد؛ لذا يجب بث روح التوعية الإسلامية بين الناس وإطلاعهم حول كل ما يدور على الساحة العالمية. وبكل ما يتعلق بشؤون الحياة العلمية والاجتماعية، وعلى كل ما يحتاجه المسلمون من مقومات وذلك لاستعادة عزتهم وشرفهم وكرامتهم، وعلى المختصين أن يسعوا أكثر فأكثر في طريق إيجاد الحلول الصائبة لمشاكل المسلمين، وذلك بالاعتماد على

ص: 16


1- سورة فاطر، الآية: 19-20.
2- سورة الحج، الآية: 28.

الروح الإيمانية الصادقة وعلى العقيدة السمحاء، وبذلك فإن الإنسانية تأخذ طريقها الصحيح والسليم إذا تفاعلت مع تلك الروح.

قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1).

من جرائم المستكبرين

لقد خطط الاستعمار طويلاً لإيجاد طرق وأساليب مختلفة يمزق بها العالم الإسلامي إلى دويلات، ويخلق لأهلها المشاكل والاختلافات، فتركمنستان هي بلدة كبيرة يقع بين الصين والاتحاد السوفييتي(2)، وكانت جزءاً من البلاد الإسلامية، إلّا أن الروس اقتطعوها من البلاد الإسلامية، وضموها إلى بلادهم، بعد أن قتلوا فيها أكثر من ثلاثمائة ألف مسلم، وكذلك مدينة بخارى(3) إحدى المدن العامرة التي كان فيها قبل الغزو حوالي (300) مدرسة للعلوم الإسلامية غير أنها هدمت بأيدي الغزاة السوفييت.

وقد ذكر في كتاب للسيد باب خاني أنه في المائتي سنة الماضية، كان التعداد السكاني لإيران يقدر بمائة مليون نسمة، لكن وبسبب غفلة بعض الحاكمين آنذاك قسمت إيران إلى أجزاء، ومنذ ذلك الحين والى الآن أصبح تعداد سكان إيران ما يقارب (50) مليون نسمة.

وخلاصة القول: إن المسلمين إذا لم يدخلوا ساحة المعركة بسلاح الإخلاص والإيمان والعلم ويعملوا وفق مخطط ومنهج مدروس فسوف لن يتمكنوا من النجاة من المخططات الاستعمارية التي لم ينفذها أعدائهم بعد.

ص: 17


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- ألقيت هذه المحاضرة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي.
3- وتقع في الجنوب الغربي لروسيا، ضمن جمهورية (اوزبكستان) وهي شهيرة بمساجدها ومدارسها.

طريق التغيير

ولعل أهم برنامج عملي يمكن أن يأخذ بأيدينا إلى الخلاص لو التزمنا به ومشينا في طريقه هو عبارة عن ما يلي:

أولاً: تأسيس التنظيمات الإسلامية الجماهيرية الاستشارية الحرة، وذلك لأن: «من استبدّ برأيه هلك ومن شاور الرّجال شاركها في عقولها»(1)، والإسلام يحبذ الاستشارة في كل شيء حتى في الأمور الصغيرة فكيف بالأمور المرتبطة بعالم الإسلام والمسلمين.

ثانياً: توحيد الحركات الإسلامية العاملة؛ إذ من الضروري أن تنصهر كل الحركات العاملة في حركة واحدة موحدة، مادام الهدف هو تطبيق الإسلام ونشر أحكامه في أرجاء المعمورة؛ قال اللّه تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(2)، ومن الواضح أن الاختلاف في الحركات الإسلامية يوجب تقسيم الطاقات إلى عدة جوانب ولا يمكن إنقاذ المسلمين بدون طاقة كبيرة فعالة وعاملة.

ثالثاً: نشر الوعي في البلاد الأجنبية، وذلك يتم عبر تثقيف المسلمين المتواجدين في البلاد الأجنبية بالثقافة الإسلامية وتعليمهم كيفية التبليغ للإسلام، وإيصال صوت الإسلام إلى الكفار والمعادين للإسلام، وذلك عبر جميع الوسائل المتاحة والمتوفرة لدى المسلمين من إذاعات وصحف ومجلات وغيرها.

رابعاً: الإيثار في العمل التنظيمي، لأنه يسبب ثقة الجماهير بالشخص والحركة، فالإيثار في كل شيء إذا راعته الحركة انتصرت. يقول الإمام علي(عليه السلام):

ص: 18


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 161.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.

«بالإيثار على نفسك تملك الرقاب»(1).

وقال(عليه السلام): «من شيم الأبرار حمل النفوس على الإيثار»(2).

وكذلك قال(عليه السلام): «الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان»(3).

خامساً: انتخاب حاكم أعلى للمسلمين، أو مجلس للحكومة، مكوّن من الأمة ومخلصيهم حسب أكثرية الآراء؛ فإن «ما تشاور قوم إلّا هدوا إلى رشدهم»(4)، وكذلك يجب ان يتصف بحسن الولاية يقول رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من ولي شيئاً من أمور أمتي فحسنت سريرته لهم رزقه اللّه تعالى الهيبة في قلوبهم، ومن بسط كفه لهم بالمعروف، رزق المحبة منهم، ومن كف يده عن أموالهم وقى اللّه عزّ وجلّ ماله، ومن أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحباً، ومن كثر عفوه مد في عمره، ومن عمّ عدله نصر على عدوه...»(5).

وكذلك يجب أن يتصف بالقدرة على الولاية والتحلي بالأخلاق الإنسانية الرفيعة يقول اللّه تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}(6).

مجلس الشورى

من الواضح أن هذه الخطط والبرامج تخضع إلى مجلس شورى الفقهاء المراجع، الذين هم امتداد لخط النبي وأهل البيت(عليهم السلام)، كما فصلنا ذلك في بعض الكتب(7).

ص: 19


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 302.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 677.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 90.
4- تحف العقول: 233.
5- كنز الفوائد 1: 135.
6- سورة الأنفال، الآية: 34.
7- انظر: كتاب (الشورى في الإسلام) للإمام الشيرازي(رحمه الله).

وبعد التدرع بهذا الدرع - الإيمان والإخلاص والانتماء أخيراً إلى مجلس شورى الفقهاء - الذي يناسب هذه المعركة تتم المواجهة للدفاع عن الدين الحنيف ويمكن لهم الخوض ضد الأعداء نزالاً ومواجهة في كل الميادين وخاصة في المجالات الفكرية والثقافية، وإن لم يفعلوا ذلك فسيكون غدهم أسوأ من حاضرهم والعياذ باللّه.

إلى العاملين

أريد أن أذكر هنا {فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(1) ان الدرع الأول الواقي والحصن المنيع لهذه المواجهة، هو التمسك بمبادئ الدين الإسلامي وعترة المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم)؛ ذلك لأن للدين دوراً هاماً في تصحيح أفكار الإنسان عن طريق جذور الدين المتصلة بالفطرة الإنسانية، وبالربط بين الفطرة والدين وبالعمل على تقوية هذه الرابطة سوف يحصل الإنسان على الاستقامة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(2).

وهذه الآية تبين لنا علاقة الدين بالإنسان وتأثير الدين في حركة الإنسان، فإن دعوة الإنسان إلى هذه الفطرة تجعله جبلاً راسخاً صلباً.

وأما الحصن الثاني الذي يكون موازياً للأول فهو ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) فقد جاء عن الإمام الرضا(عليه السلام): «عن موسى بن جعفر عن جعفر بن محمد عن محمد بن علي عن علي بن الحسين عن الحسين بن علي عن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) عن جبرائيل عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم قال: يقول اللّه تبارك وتعالى: ولاية علي بن أبي طالب حصني فمن دخل حصني أمن

ص: 20


1- سورة الذاريات، الآية: 55.
2- سورة الروم، الآية: 30.

ناري»(1).

وهذا الحصن المنيع فيه دعائم قوية وصلبة متمثلة بأهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام) وفيهم النجاة والنصر كما أكد ذلك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من دخل فيها نجا ومن تخلف عنها غرق»(2).

وخلاصة الأمر أن الدين الإسلامي هو الحصن المنيع في خضم هذه المتقلبات والفتن التي تجري في العالم وخصوصاً في العالم الإسلامي، وكذلك هو الأساس الذي كثيراً ما ركز عليه القرآن: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(3).

عن الإمام الباقر(عليه السلام) في شرح هذه الآية المباركة يقول: «فإن اتباعكم إياه - أي أمير المؤمنين(عليه السلام) - وولايته أجمع لأمركم وأبقى للعدل فيكم»(4).

إن أهل الذكر الذين ورثوا العلم القرآني نجد علمهم نوراً وكلامهم هداية؛ لأن حديثهم حديث رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والرسول لا ينطق عن الهوى، وقد قال المفسرون أن قوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي ولاية أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فهذه الولاية إذن تحيي النفوس وتبني الفرد، والأسرة، والمجتمع، وتوضح طريق الحق والعدل في العلم والعمل والتقوى والعبادة والسلوك وحفظ الكرامة.

«اللّهم أحيني حياة محمد وذريته وأمتني مماتهم وتوفني على ملتهم واحشرني في زمرتهم ولا تفرق بيني وبينهم طرفة عين أبداً في الدنيا والآخرة»(5).

ص: 21


1- معاني الأخبار: 371.
2- الاحتجاج 1: 273.
3- سورة الأنفال، الآية: 24.
4- تفسير القمي 1: 271.
5- مصباح المتهجد 2: 780.

من هدي القرآن الحكيم

المؤمن بعمله

قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَٰتِبُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}(2).

وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}(3).

وقال جلّ وعلا: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}(4).

وقال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَالْمَلَٰئِكَةِ وَالْكِتَٰبِ وَالنَّبِيِّۧنَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَى الزَّكَوٰةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَٰهَدُواْ وَالصَّٰبِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(5).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال عزّ وجلّ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ

ص: 22


1- سورة الأنبياء، الآية: 94.
2- سورة النساء، الآية: 124.
3- سورة طه، الآية: 112.
4- سورة الروم، الآية: 44.
5- سورة البقرة، الآية: 177.

عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِوَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(2).

وقال جلّ وعلا: {يَٰبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(3).

وقال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ الْأُمُورِ}(4).

الشورى والاستشارة

قال عزّ وجلّ: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(5).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(6).

سوء العاقبة

قال جلّ وعلا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(7).

ص: 23


1- سورة آل عمران، الآية: 104.
2- سورة التوبة، الآية: 71.
3- سورة لقمان، الآية: 17.
4- سورة الحج، الآية: 41.
5- سورة آل عمران، الآية: 159.
6- سورة الشورى، الآية: 38.
7- سورة المائدة، الآية: 45.

وقال تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَمِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الظَّٰلِمِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَٰلِمُونَ}(3).

الانحراف عن الصراط السوي

قال جلّ وعلا: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}(4).

وقال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا}(6).

وقال سبحانه: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا}(7)

وقال جلّ وعلا: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٖ}(8).

الحكومات الجائرة وآثارها

قال تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}(9).

ص: 24


1- سورة الأنعام، الآية: 135.
2- سورة يونس، الآية: 39.
3- سورة القصص، الآية: 59.
4- سورة البقرة، الآية: 108.
5- سورة النساء، الآية: 116.
6- سورة النساء، الآية: 136.
7- سورة الأحزاب، الآية: 36.
8- سورة الجاثية، الآية: 23.
9- سورة النمل، الآية: 34.

وقال عزّ وجلّ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَٰدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلَٰدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ}.(1)

وقال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةًمِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الاستشارة عين الهداية

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من اللّه، فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف فإنّ في ذلك العطب»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا مال أعود من العقل... ولا مظاهرة أوثق من المشاورة»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال لقمان لابنه: إذا سافرت مع قوم، فأكثر استشارتك إياهم في أمرك وأمورهم... وإذا استشهدوك على الحق، فاشهد لهم. واجهد رأيك لهم إذا استشاروك ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر، ولا تجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد، وتنام وتأكل وتصلي، وأنت مستعمل فكرك وحكمتك في مشورته، فإن من لم يمحّض النصيحة لمن استشاره سلبه اللّه تبارك وتعالى رأيه ونزع عنه الأمانة»(5).

ص: 25


1- سورة الفجر، الآية: 6-12.
2- سورة القصص، الآية: 4.
3- المحاسن 2: 602.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 113.
5- الكافي 8: 348.

العمل رفيق المؤمن

قال النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «... فإنكم اليوم في دار عمل ولا حساب، وأنتم غداً في دار حساب ولا عمل»(1).وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العمل رفيق الموقن»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «... إنه ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، ولا ينال أحد ولاية اللّه إلّا بالطاعة. ولقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لبني عبد المطلب: ايتوني بأعمالكم لا بأحسابكم وأنسابكم، قال اللّه تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٖ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَٰلِدُونَ}»(3)(4).

الموعظة حياة القلوب

من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن(عليه السلام) إنه قال: «أحي قلبك بالموعظة»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قيل لأمير المؤمنين(عليه السلام): عظنا وأوجز، فقال: الدنيا حلالها حساب، وحرامها عقاب، وأنّى لكم بالرَّوح ولما تأسّوا بسنة نبيكم، تطلبون ما يطغيكم(6)، ولا ترضون ما يكفيكم»(7).

وورد في حديث مناجاة موسى(عليه السلام) مع اللّه تبارك وتعالى: «... وخذ موعظتك

ص: 26


1- الخصال 1: 51.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 54.
3- سورة المؤمنون، الآية: 101-103.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 235.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصيته(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام) كتبها إليه.
6- يُطغيكم من طغى يطغي.
7- الكافي 2: 459.

من الدهر وأهله، فإن الدهر طويله قصير وقصيره طويل وكل شيء فانٍ، فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لكي يكون أطمع لك في الآخرة لا محالة»(1).

من مواعظ أبي الحسن الهادي(عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه جعل الدنيا دار بلوى،والآخرة دار عقبى، وجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً»(2).

من فضائل علي(عليه السلام)

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن أخي ووزيري وخليفتي في أهلي وخير من أترك بعدي، يقضي ديني، وينجز بوعدي علي بن أبي طالب»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما نزلت عليه - على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) - آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا أرض، ولا دنيا وآخرة ولا جنة ولا نار ولا سهل ولا جبل ولا ضياء ولا ظلمة إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بيدي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصّها وعامّها وأين نزلت وفيم نزلت إلى يوم القيامة»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فان عندي علم الأولين والآخرين أما واللّه لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم... ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني فوالذي فلق الحبة وبرئ النسمة لو سألتموني عن آية آية لأخبرتكم بوقت نزولها وفي من نزلت...»(5).

ص: 27


1- الكافي 8: 46.
2- تحف العقول: 483.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 61.
4- تحف العقول: 196.
5- الإرشاد 1: 35.

من أقوال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في الضلالة وأنها الخسران المبين:

قال(عليه السلام) وقد مر بقتلى الخوارج يوم النهروان: «بؤساً لكم، لقد ضركم من غركم»، فقيل له: من غرهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: «الشيطان المضل، والأنفسالأمّارة بالسوء غرتهم بالأماني وفسحت لهم بالمعاصي ووعدتهم الإظهار فاقتحمت بهم النار»(1).

وقال(عليه السلام): «انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم... لا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان: رجل وكله اللّه إلى نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته...»(3).

وقال(عليه السلام): «الضلالة على وجوه: فمنه محمود، ومنه مذموم، ومنه ما ليس بمحمود ولا مذموم، ومنه ضلال النسيان: فامّا الضلال المحمود وهو المنسوب إلى اللّه تعالى كقوله: {يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ}(4) هو ضلالهم عن طريق الجنة بفعلهم.

والمذموم هو قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}(5) و{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ}(6) ومثل ذلك كثير، وأما الضلال المنسوب إلى الأصنام فقوله في قصة

ص: 28


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 323.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 97 من خطبة له(عليه السلام) في أصحابه وأصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 17في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة.
4- سورة المدثر، الآية: 31.
5- سورة طه، الآية: 85.
6- سورة طه، الآية: 79.

إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ}(1) والأصنام لا يضللن أحداً على الحقيقة، إنما ضل الناس بها وكفروا حين عبدوهامن دون اللّه عزّ وجلّ.

وأما الضلال الذي هو النسيان فهو قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَىٰهُمَا الْأُخْرَىٰ}(2) وقد ذكر اللّه تعالى الضلال في مواضع من كتابه فمنهم ما نسبه إلى نبيه على ظاهر اللفظ كقوله سبحانه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ}(3) معناه: وجدناك في قوم لا يعرفون نبوتك فهديناهم بك»(4).

مفاسد المستكبرين

قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «شر خلق اللّه خمسة: إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه، وفرعون ذو الأوتاد، ورجل من بني إسرائيل ردهم عن دينهم، ورجل من هذه الأمة يبايَع على كفر عند باب لُد»(5).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) عندما سأل عن قول اللّه عزّ وجلّ {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ}(6) لأي شيء سمي ذا الأوتاد؟ قال: «لأنه كان إذا عذب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه ومد يده ورجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض، وربما بسطه على خشب منبسط، فوتد رجليه ويديه بأربعة أوتاد، ثم تركه على حاله حتى

ص: 29


1- سورة إبراهيم، الآية 35-36.
2- سورة البقرة، الآية: 282.
3- سورة الضحى، الآية: 7.
4- بحار الأنوار 5: 208.
5- الخصال 1: 319، واللد: بالضم والتشديد، قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين، والرجل المقصود هو معاوية بن أبي سفيان.
6- سورة الفجر، الآية: 10.

يموت فسماه اللّه عزّ وجلّ فرعون ذا الأوتاد لذلك»(1).

وقال(عليه السلام): «فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته الرئيس منهم، وأتباع الوالي فمندونه ولاة الولاة... حرام... وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دوسَ الحق كله، وإحياء الباطل كله، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب، وقتل الأنبياء، والمؤمنين، وهدم المساجد، وتبديل سنة اللّه وشرايعه، فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم، إلّا بجهة الضرورة، نظير الضرورة إلى الدم والميتة»(2).

ص: 30


1- علل الشرائع 1: 70.
2- تحف العقول: 332.

الغرب والحصار الاقتصادي على المسلمين

شمولية الإمداد الإلهي

اشارة

قال اللّه تعالى في محكم كتابه العزيز: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى في هذه الآية الشريفة يقول: إننا نساعد جميع البشر، المؤمن منهم والكافر، وعطاء اللّه تعالى يصل إلى الجميع. حيث إنه سبحانه وتعالى لا يمنع لطفه عن شخص في الدنيا، فهو كما يعطي المؤمن يعطي الكافر، لكن الفرق في السعادة، فالكافر لا يهنأ بالسعادة، كما أن الآخرة خاصة بالمؤمن.

{كُلًّا} من المؤمن والكافر {نُّمِدُّ} أي: نعطيهم من الدنيا {هَٰؤُلَاءِ} الذين يريدون الآخرة {وَهَٰؤُلَاءِ} الذين يريدون العاجلة {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} يا رسول اللّه، أي: من نعمته وفضله {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} أي: ممنوعاً، فإنه يشمل البرّ والفاجر.

والعلماء المفسرون يذكرون في هذه الآية بأنها تثبت الاختيار وعدم الجبر؛ وذلك لأنه لو كان اللّه تعالى لا يمد الإنسان إلّا بالحسنات لما تسنى للناس أن يُمتحنوا، لأن الناس يمتحنون في الخير والشر، بأن يعطيهم اللّه تعالى الحياة

ص: 31


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

والقدرة والإمكان، فيتبين منهم الصالح ومنهم الطالح.

وقد يتسائل المرء: من أين تأتي قوة الإنسان التي يختار بها طريقه ويسعى بها فيه؟

الحقيقة إن قوة الاختيار وقوة السعي هي من عند اللّه، فحتى العصاة يستمدون قوتهم في الاختيار من اللّه، فليس عطاء اللّه ممنوعاً عن أحد، وهذا منتهى الحرية الممنوحة للبشر.

ولكن لماذا ذكرت كلمة {كُلًّا} قبل {نُّمِدُّ} ولم تذكر بعدها، فقال عزّ وجلّ: {كُلًّا نُّمِدُّ} ولم يقل: (نمد كلاً هؤلاء وهؤلاء)؟

والجواب: يحتمل أن تكون إحدى جهات التقديم هي التأكيد على عموم الإمداد الإلهي، وشموليته لجميع المؤمنين والكافرين، كما في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}(1) حيث إن الأصل فيها (نعبد إياك) أي: (نعبدك)، ولكن لأن اللّه أهم من كل شيء في الوجود، فلذلك قدم {إِيَّاكَ} على {نَعْبُدُ}. هذا فضلاً عن أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص، فتكون العبادة محصورة باللّه تعالى ومختصة به.

ورجوعاً للآية فإن الباري تعالى أعطى القدرة لجميع البشر بلا استثناء، للأشرار وللأخيار، لمعاوية ولأمير المؤمنين(عليه السلام)، وكذا ليزيد (لعنه اللّه) وللإمام الحسين(عليه السلام)، وكذا لهارون العباسي وللإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)؛ وذلك من أجل أن يتبين من هو هارون العباسي ومن يتبعه، ومن هو الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) وشيعته، وهكذا.

إذن، العطاء الإلهي مطلق غير محدود بشخص؛ وذلك لسنة كونية تمهد للجميع فرصة انتخاب الخير والفضيلة، ولمكان إطلاق العطاء ونفي الحظر

ص: 32


1- سورة الفاتحة، الآية: 5.

والحبس عن أحد، قال تعالى في الآية: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1). أما ما يوجد من التحديد والتقدير والمنع، واختلاف الناس في ما بينهم في الرزق والصحة والعلم وغير ذلك من موارد العطاء، فإنه من ناحية الناس أنفسهم وخصوص استعدادهم لقبول العطاء الإلهي، وليس من جهة المعطي الكريم. فالإشكال في القابل وليس في الفاعل على ما هو مذكور في علم الكلام.

كان هذا مدخلاً للحديث عن الاقتصاد في البلاد الإسلامية، ودور الشرق والغرب في التأثير عليه والعمل على تحطيم البنية الاقتصادية لدى المسلمين.

من هو المتقدم الفائز

قد عرف بهذه المقدمة أن سنة اللّه في الكون هي إمداد الجميع، فمن يعمل هو الذي يتقدم على من لا يعمل، وهذا قانون يجري في جميع مجالات الحياة والتي منها المسألة الاقتصادية. فبما أن الغرب أخذ يعمل ويعمل في المجال الاقتصادي انتصر وتقدم على المسلمين الذين كسلوا في هذا المجال، وقد ورد في الحديث الشريف: «من لا معاش له لا معاد له»، وهذا لا ينافي ما ورد في ذم الدنيا ومتاعها الفاني على ما هو مذكور في الكتب المفصلة.

حيث روي عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لما قبض رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أتاهم آت فوقف بباب البيت، فسلم عليهم، ثم قال: السلام عليكم يا آل محمد: {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(2)، في اللّه عزّ وجلّ خلف من كل هالك، وعزاء من كل مصيبة، ودرك لما فات. فباللّه فثقوا، وعليه فتوكلوا، وبنصره لكم عند المصيبة

ص: 33


1- سورة الإسراء، الآية: 20.
2- سورة آل عمران، الآية: 185.

فارضوا؛ فإنما المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، ولم يروا أحداً. فقال بعض من في البيت: هذا ملك من السماء بعثه اللّه عزّ وجلّ إليكم ليعزيكم، وقال بعضهم: هذا الخضر(عليه السلام) جاءكم يعزيكم بنبيكم(صلی الله عليه وآله وسلم)»(1).

فإن قوله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ} معناه: وما لذات الدنيا وشهواتها، وما فيها من زينة إلّا متعة تستبطن الغرور والخداع بشيء، فإنه لا حقيقة له عند الاختبار والامتحان؛ لأنكم تلتذون بما يمتعكم من دنياكم، ثم هو عائد عليكم بالفضائح والمصائب فلا تركنوا إليه ولا تسكنوا إليه، فإنما الدنيا غرور وإنما أنتم منها في غرور. فمن الجدير بالإنسان أن يحصل بحياته ورئاسته وماله تلك الدار الباقية، لا أن يغتر بالدنيا ويعصي اللّه سبحانه حتى يدخل النار.

فإن الانسان قد يضيِّع الحقيقة ويتصور بأن الأمر انتهى، وقد وصل إلى هدفه ومبتغاه، كأن يتصور مثلاً: بأنه عندما ينتصر على عدوه أن المشكلات قد حلّت فيمضي في سبيله، ولا يدور في ذهنه بأنه من الممكن أن يكرّ عليه عدوه مرة أخرى ويقضي عليه وهو في غفلة! ولكن هذا غرور وغفلة لا تجر إلّا إلى السقوط والفشل.

إذن مثل هذه الروايات تدل على عدم الركون إلى الدنيا على حساب الآخرة، بأن يضيع الإنسان آخرته لأجل دنيا فانية، وهي لاتنافي ضرورة الاهتمام بالمسألة الاقتصادية لكي تكون الأمة قوية عزيزة، تقرر مصيرها بأنفسها، ولا تكون ألعوبة بيد المستعمرين.

غفلة المسلمين

وللأسف فإن المسلمين اليوم قد وقعوا في مشكلة الغفلة، التي هي أحد

ص: 34


1- الكافي 3: 222.

أسباب سيطرة دول الاستعمار القديم والحديث على بلدان العالم الثالث واقتصادها، من حيث نهب ثرواتهم وتحطيم بنيتهم الاقتصادية.

فالباكستان - مثلاً - هي إحدى دول العالم الثالث التي سقطت بسبب إنهيار اقتصادها، فعندما أرادت باكستان أن تنتزع استقلالها من الغرب قام الغرب بالقضاء على هذا الاستقلال عن طريق هدم اقتصادها، ففي عام (1948م) حصلت باكستان على استقلالها الظاهري(1)، ولكن منذ ذلك الحين ولحد الآن وقعت فيها عدة انقلابات عسكرية، راح ضحية تلك الانقلابات الآلاف من الناس، وهذا بسبب التدخل والنفوذ الغربي.

تحطيم البنية الاقتصادية

يتم تحطيم البنية الاقتصادية لأي مجتمع عبر طرق عديدة منها:

1- بواسطة إغراق السوق بسيل من البضائع الأجنبية، فيتسبب عن ذلك ارتفاع نسبة العرض وهبوط نسبة الطلب، والنتيجة تكون انخفاض قيمة البضائع والسلع المحلية، وسقوط اعتبارها في الأسواق.

2- بواسطة إخلاء السوق من البضائع، إلى درجة ارتفاع الطلب ارتفاعاً فاحشاً، وازدياد نسبة الأموال في أيدي الناس مما يعني انخفاض قوتها الشرائية، كل ذلك مضافاً إلى هبوط نسبة العرض، فتكون النتيجة أن تفقد الأموال قيمتها وقدرتها الشرائية، وهو ما يسمونه اليوم ب(الركود الاقتصادي).

وهذا أسلوب معروف في علم الاقتصاد تقوم به الدول الغربية - غالباً - وتطبقه

ص: 35


1- لأن دول العالم الثالث ترزح تحت نير سيطرة الاستعمار المبطن بعد أن فضح الاستعمار السافر والاحتلال المباشر، فإن ظاهر الأوضاع الخارجية للدول الاستقلال، ولكن الواقع هو أن أكثر الحكومات والدول في العالم الثالث تدور إما في الفلك الغربي أو الشرقي، ولا تتحرك أو تخطو خطوة واحدة إلّا بمعونتهم وموافقتهم، طبق الكلمة المعروفة: إن الاستعمار عندما خرج من الباب دخل من الشباك.

في أي مكان تريد السيطرة عليه، واحتلاله اقتصادياً وسياسياً. وقد يكون ذلك تحت سِتار: الإصلاح الاقتصادي وأمثاله. وذلك لأن الاقتصاد عصب الحياة، فإذا انهار الاقتصاد في بلد ما سيكون هناك مبرر كاف لتدخل الدول القوية في شؤون الدول الضعيفة والتحكم بها، بحجة الإصلاح الاقتصادي ودعم البلاد. هذه هي الحالة العامة التي نجدها في أغلب بلدان العالم الثالث.

الإنجليز ودورهم في تدمير الاقتصاد العراقي

حكى والدي(رحمه الله) عن أوضاع الاقتصاد العراقي إبان الاحتلال الإنجليزي فقال:

عندما دخل الإنجليز في العراق إبان ثورة العشرين، كانت عائلتي تتشكل من عشرة أفراد، وكنت أتقاضى شهرياً ليرة واحدة من آية اللّه العظمى الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله)، وكانت الليرة في ذلك الزمان تساوي ثلاث عشرة روبية، وعندما دخل الإنجليز في العراق أعطوا لكل فرد في الجيش عشر روبيات لكل يوم(1)!

وقد ألزموا الجنود أن ينفقوها إلى المساء، فكان أفراد الجيش عندما يدخلون السوق يشترون - مثلاً - الدجاجة التي سعرها عُشر الروبية بروبية كاملة! وذلك لتوفر الأموال عندهم ولزوم صرفها إلى المساء.

وواضح أن هدف المحتل الإنجليزي - من هذه العملية - كان هو التلاعب بالاقتصاد العراقي وتقليل نسبة العرض ورفع نسبة الطلب أو العكس، فجعلوا الليرة التي كانت تكفي عائلة ذات عشرة أفراد لشهر كامل، تصرف من قبل فرد من أفراد الجيش في يوم واحد؛ ليصاب الناس بالفقر الفاحش؛ إذ ليس كل الناس كان يحصل على ما يحصل عليه جنود الاحتلال من رواتب.

ص: 36


1- الليرة عملة تركية كانت متداولة في العراق زمن الدولة العثمانية. (الروبية) عملة هندية أُدخلت الى العراق بعد احتلال القوات الإنجليزية للعراق.

ومن جهة أخرى أرادوا إجهاض قاعدة الاكتفاء والاعتدال الذاتي التي يقرها الاقتصاد الإسلامي، حيث جاء في رواية عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المؤمن سيرته القصد وسنته الرشد»(1)، والقصد هو التوسط بين الإفراط والتقتير، ومن مصاديق ذلك التدبير في المعيشة، واستغلال الثروات الموجودة في ربوع البلاد الإسلامية، وتنميتها والعمل على تكثيرها.

وفي رواية أخرى عن سليمان بن معلى بن خنيس عن أبيه قال: سأل أبو عبد اللّه(عليه السلام) عن رجل وأنا عنده؟

فقيل له: أصابته الحاجة.

قال(عليه السلام): «فما يصنع اليوم؟».

قيل: في البيت يعبد ربه.

قال(عليه السلام): «فمن أين قوته؟».

قيل: من عند بعض إخوانه.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «واللّه للَّذي يقوته أشدُّ عبادة منه»(2).

وذات يوم رأى أحد الأصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له، والعرق يتصاب عن ظهره، فقال: جعلت فداك، أعطني أكفك؟

فقال الإمام(عليه السلام): «إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة»(3).

ص: 37


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 80.
2- الكافي 5: 78.
3- الكافي 5: 76.

الاكتفاء الذاتي ضرورة

ومن هنا يعلم ضرورة تطبيق ما يوجب الاكتفاء الذاتي في البلدان الإسلامية؛ فلأجل تقوية الاقتصاد الإسلامي وتعديله: يلزم على المسلمين أن يتفقوا على أن لا يستوردوا أية بضاعة أجنبية، سواء من الغذاء أو الملابس أو غيرها من الكماليات وغيرها؛ لأن المسلمين ماداموا يستوردون البضائع وغيرها من الغرب، ولا يأكلون مما يزرعون، ولا يلبسون مما يخيطون وينسجون، فانكسارهم اقتصادياً حتمي لا محالة. أما إذا اعتمدوا على أنفسهم وهيئوا ما يحتاجون إليه من المواد الأولية من داخل بلادهم، واستغنوا عن الغرب ومنتجاته، وقنعوا بمنتجاتهم الوطنية كما فعلت الهند إبان نهضتها وثورتها ضد الإنجليز المحتلين، فإنهم سيكونون أسياد أنفسهم وسيقوى عصب اقتصادهم، ولن يحتاجوا حينئذٍ إلى الغرب والشرق أبداً.

فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استغن عن من شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، وأفضل على ما شئت تكن أميره»(1).

تجربة الهند مع الاحتلال البريطاني

قام غاندي بتطبيق الاكتفاء الذاتي على بلاده حتى حقق استقلال الهند عن الإنجليز اقتصادياً وسياسياً، وذلك عبر أساليب عديدة، أهمها أمران:

أحدهما: أنه منع صنع الخمر وشربه والتعامل به، وكان يقول: إننا بحاجة إلى العقل حتى نقف ضد الإنجليز والغرب، والخمر مزيل للعقل.

وعندما أعلن ذلك المنع قام أتباعه بحملة على أشجار العنب فأبادوا مليون شجرة عنب كانت تستغل لأجل تحضير الخمر، وذلك لأن القضاء على تناول

ص: 38


1- أعلام الدين: 159.

الخمر لا بد له من القضاء على جذوره وهي أشجار العنب.

ثانيهما: مقاطعة البضائع الإنجليزية، ومن أهمها الامتناع عن لبس الملابس الإنجليزية واستعمالها؛ ليُفهم الإنجليز بأنه لم يعد لهم في الهند مكان، وتحسباً من عرقلة ذلك القرار قرر أنه كل من لم يلتزم بهذا القرار - واستعمل الملابس الإنجليزية مثلاً - لا يحق له الاشتراك في المؤتمر الوطني الهندي.

لقد كان في قصة الهند وابتلائهم بالمحتلين البريطانيين، وكيفية تخلصهم من سلطتهم الجائرة واحتلالهم المشين، عبرة لمن اعتبر؛ فإن البريطانيين كانوا قد احتلوا بلاد الهند مدة ثلاثمائة سنة، ولم يتركوا الهنود يتقدمون في شيء من أبعاد الحياة، لكن الهنود لما استقلوا وذلك منذ خمسين سنة، نفضوا عن أنفسهم غبار الاحتلال والتبعية، وعملوا بجد واجتهاد حتى تقدموا في إنتاج كل شيء، من الذرة إلى غيرها من الصناعات، وزرعوا كل شيء يحتاجون إليه من الذرة إلى غيرها من المزروعات، وبلغوا في كل ذلك درجة الاكتفاء الذاتي، على الرغم من أن نفوس الهند تقرب من مليار نسمة، ومع أنه قد صادر المستعمرون البريطانيون في هذه القرون الثلاثة التي كانوا يحتلون فيها بلادهم، كل خيرات وموارد وثروات البلاد، حتى افتقروا أشد الفقر، لكنهم لما اهتموا وعملوا تمكنوا من التقدم وذلك بهذا الشكل من التقدم الهائل.

السعي إلى الاكتفاء الذاتي

لذا يلزم على بلادنا الإسلامية أن تطبق برامج عديدة للاكتفاء الذاتي في جميع احتياجاتها اليومية - نعم الضرورات تقدر بقدرها حسب تشخيص الخبراء - فتوفر لنفسها جميع احتياجاتها الغذائية بدءً من البيض والدجاج واللحم والزيوت، وهكذا بالنسبة إلى الصناعات، وما إلى ذلك من المواد الأولية، من نفس أرضها وثروتها الحيوانية والزراعية، إلى استخراج المعادن الوفيرة المدفونة

ص: 39

بأرضنا التي أنعم اللّه بها علينا، بحيث تبلغ درجة الاكتفاء الذاتي وتزيد كثيراً.

نعم، إذا التفت المسلمون الى أهمية الاكتفاء الذاتي من خلال برمجة دقيقة بإشراف الأخصائيين، وكذلك استغلال أوقات الفراغ أو الطاقات المعطلة في عملية البناء والتنمية، كان ذلك - قطعاً - يعود بالفائدة والرفاه على المجتمع الإسلامي ككل.

فعلى سبيل المثال: إذا امتلكت كل عائلة ماكنة خياطة، وحقل صغير للدواجن تربي فيه الطيور والدجاج والأغنام والماعز، وحوض لتربية الأسماك، وزرعت حديقة البيت - وإن كانت صغيرة - بالخضروات وأشجار الفاكهة وما أشبه. فإن مثل هذه الأعمال مضافاً إلى واردها وانتاجها قادرة على معالجة الكثير من المشكلات الاقتصادية وغيرها؛ فهي تحل مشكلة الفراغ، وأيضاً بعض مشكلة الغلاء، وأيضاً المشاكل النفسية التي تعاني منها الأسر بسبب الضائقة المالية.

علماً أن التعاون هو السبيل لحل معظم المشاكل الإجتماعية، ولا يقتصر هذا البرنامج على الفرد والأسرة فقط بل يسري إلى المنظمة والهيئة وإلى المستويات الكبيرة الأخرى من تشكلات المجتمع. فإذا كان بمقدور الفرد الواحد أن يحقق قسطاً من الاكتفاء الذاتي فكيف بالمنظمة المشتملة على الآف الأفراد، وقد ورد في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «كلوا جميعاً ولا تفرقوا؛ فإن البركة مع الجماعة»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يد اللّه مع الجماعة»(2).

وهذا أمر تكويني قبل أن يكون غيبياً.

ص: 40


1- بحار الانوار 63: 349.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127 من كلام له(عليه السلام) يبين فيه بعض أحكام الدين.

وإذا كان بمقدور المنظمة إنجاز أكبر الأعمال الممكنة في نطاق الاكتفاء الذاتي فإن بمقدور السلطات عمل ما هو أكبر من ذلك؛ لأنها تمتلك من الإمكانات التي تتيح لها إنجاز أعمال أكبر من الآخرين، بشرط أن تكون حكومة قائمة على مبدأ الشورى المستندة إلى الأحزاب الحرة ذات المؤسسات الدستورية وبشكل تعددي بعيد عن أساليب الظلم والاستبداد.

وبغير ذلك فإن عدونا سيستفيد من نقطة ضعفنا هذه، وينفذ ويتسلل إلى داخل بلادنا الإسلامية تحت عناوين متعددة، مثل الإصلاح الاقتصادي وما أشبه؛ ليحطمنا ويهزمنا من الداخل.

لا لليأس

من أهم ما يلزم على الأمة في التخلص من الهيمنة الاقتصادية الغربية إبعاد حالة اليأس والإحباط وضعف الأمل عن نفوس الأمة، فهي جميعها تعتبر من أهم عوائق التقدم والرقي، قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(1).

وقد ذكر في تفسير الآية الكريمة: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ} أي: لا تقنطوا من رحمته، ولعل الإتيان بلفظ الرَّوْح، لأجل أن المهموم المكظوم المحتبس النفس، يحتاج الى رَوْح ونسيم ليُرَوِّح عنه، ويخفف وطأ الأنفاس المحترقة الموجبة لخنقه واحتباس نفسه، و: {إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ} ورحمته {إِلَّا الْقَوْمُالْكَٰفِرُونَ} باللّه وبفضله، أما المؤمن فإنه يرجو من اللّه الفرج من الشدة، والخلاص من الكربة(2).

ص: 41


1- سورة يوسف، الآية: 87.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 34.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كل قانط آيس»(1).

وقال(عليه السلام): «قتل القنوط صاحبه»(2).

وقال(عليه السلام): «للخائب الآيس مضض الهلاك»(3).

إن الشدة التي فيها انقطاع الأسباب وانسداد طرق النجاة؛ تشكل اختناقاً للإنسان، ويقابلها الخروج إلى فسحة الفرج والظفر، فالرَّوْح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدة، بإذن اللّه ومشيئته، وعلى من يؤمن باللّه أن يعتقد بأن اللّه يفعل ما يشاء؛ ولذا قال اللّه تعالى حاكياً على لسان يعقوب(عليه السلام): {إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(4).

وقال حاكياً على لسان إبراهيم(عليه السلام): {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}(5).

وقد عد اليأس من رَوْح اللّه من الكبائر الموبقة؛ كما يعتبر اليأس والتشاؤم من أهم عوالم التأخر.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الكبائر أربع: الإشراك باللّه، والقنوط من رحمة اللّه،والأمن من مكر اللّه»(6).

وعن صفوان الجمال قال: شهدت أبا عبد اللّه(عليه السلام) واستقبل القبلة قبل التكبير وقال: «اللّهم، لا تؤيسني من روحك، ولا تقنطني من رحمتك، ولا تؤمني

ص: 42


1- عيون الحكم والمواعظ: 375.
2- عيون الحكم والمواعظ: 370.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 267.
4- سورة يوسف، الآية: 87.
5- سورة الحجر، الآية: 56.
6- النوادر للراوندي: 16.

مكرك؛ فإنه لا يأمن مكر اللّه إلّا القوم الخاسرون». قلت: جعلت فداك، ما سمعت بهذا من أحد قبلك؟! فقال(عليه السلام): «إن من أكبر الكبائر عند اللّه اليأس من روح اللّه، والقنوط من رحمة اللّه، والأمن من مكر اللّه»(1).

إذن، ما دام المسلمون متشائمين ويائسين، وقانطين من رحمة اللّه، لا يمكنهم تجاوز مشاكلهم والتقدم ببلادهم نحو الأمام، وبالتالي هم عاجزون عن مواجهة الاستعمار وعملائهم الطغاة أمثال صدام ولا يتمكنون من مواجهة الحصار الاقتصادي الذي فرضه الغرب على المسلمين في العديد من البلاد الإسلامية كالعراق وليبيا، والسودان، وأفغانستان، وغيرها.

لذا يلزم أن لا يوجد في قاموس حياتنا مفردات التشاؤم واليأس وما أشبه، وذلك انطلاقاً من أوامر وتوجيهات القرآن الكريم والسنة المطهرة كما في الأحاديث الشريفة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الفقيه كل الفقيه من لم يقنِّط الناس من رحمة اللّه، ولم يؤيسهم من روح اللّه، ولم يؤمنهم من مكر اللّه»(2).

قصة واقعية

عندما كنا في إحدى البلاد الإسلامية(3)،رغب أحد الأصدقاء في شراء شاتين، فطلب ذلك من أحد باعة الشياه. فقال: وأي نوع تريدون، شاة محلية أم أجنبية؟!

قال: وهل هناك فرق بينهما؟

ص: 43


1- الكافي 2: 544.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 90.
3- وهي دولة الكويت، حيث أقام الإمام الشيرازي(رحمه الله) فيها ثمان سنين، بعد خروجه القسري من العراق عام (1391ه)، ثم هاجر بعدها إلى مدينة قم المقدسة عام (1399ه).

قال: نعم، الفرق واضح وكبير جداً.

قال: كيف ذلك؟!

قال: سترون. وذهب وأحضر شاتين مستوردة من دولة هولندا، كأنهما - وبدون مبالغة - عجلان سمينان، وأحضر شاتين محليتين كان وزنهما لا يتجاوز نصف وزن الشاة الأجنبية، وبعد الاستفسار عن الثمن تبين أن قيمة الشاة المستوردة السمينة لا يزيد على ثلث قيمة الشاة المحلية الضعيفة!! يعني: إن الشاة الأجنبية الواحدة تعادل شاتين محليتين أو أكثر من ناحية الوزن، في حين أن قيمتها لا تتعدى الثلث إن لم تكن أقل من ذلك... ولماذا؟!

لأن الزراعة وتربية المواشي في البلاد الإسلامية دون مستوى الزراعة وتربية المواشي في الدول الأخرى بدرجات كبيرة، مع أن المفروض أن يكون العكس، وأن تكون البلاد الإسلامية هي المتطورة والمتقدمة كما كانت عليه سابقاً. وذلك لاشتمالها على مختلف الثروات في أراضيها ومياهها ومعادنها وغير ذلك، وهذا واضح وجلي عند أبسط مقارنة بين الثروات والنعم التي أنعم اللّه بها على بلاد المسلمين من: المياه والأنهار، والتربة الخصبة الغنية، وكثرة الأيادي العاملة، وبين غيرها من البلاد, ولكننا نجد الفرق شاسعاً في الإنتاج ونوعيته.

وهو الحال نفسه بالنسبة إلى الثروات الحيوانية والمائية، وما أشبه ذلك من موارد الطاقة، وكل ذلك حدث نتيجة التقصير والتقاعس من قبل المسلمين، وبتخطيط من قبل دول الكفر والاستعمار، وقبول من دولنا، وتطبيق من قبل حكامنا العملاء. إذ لا يخفى أن إحدى المخططات التي اتخذها الغرب من أجل القضاء على اقتصاد المسلمين، هو سلب الحرية الاقتصادية التي أمر بها الإسلام، أي: حرية الكسب والتجارة والزراعة وحيازة المباحات وما أشبه، فأصبحت البلاد الإسلامية تعمل بقوانين غربية وشرقية لا إسلامية، الأمر الذي

ص: 44

كان له أشد الأثر في تجميد السيولة المالية لدى المسلمين التي كانت ترد إلى بلاد الإسلام بشكل رئيسي من خلال الحريات الاقتصادية - سابقاً - وشعار الباب المفتوح وفق حدود الإسلام وشروطه السمحة اليسيرة.

العلاج الإسلامي الاقتصادي

إن العلاج الناجع لحل المشكلة الاقتصادية يكمن في العمل ضمن إطار القوانين الإسلامية في باب الاقتصاد، ففي نظر الإسلام الناس أحرار في أن يتاجروا ويعملوا أي عمل، ويقوموا بأي كسب - باستثناء ما حرمه اللّه سبحانه وتعالى - وفي أي زمان ومكان شاؤوا، ولا يحق لأي شخص، أو دولة، أن تضيق أو تمنع من ذلك أو تشترطه بأخذ موافقة أو إجازة أو دفع ضريبة أو ما أشبه.

إن منطق الإسلام يتجلى أكثر من خلال أحكامه العامة السمحة، وقواعده الفقهية السهلة التي لا تقبل التبديل أو التحول، وإحدى تلك القواعد الفقهية المسلم بها، والتي ذكر بعض العلماء أنها من ضروريات الدين الإسلامي ولوازمه هي: (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)(1).

وهذه القاعدة تضمن حريةالإنسان الاقتصادية وتقدمه في مختلف جوانب الحياة كما أنها تعبر عن مجمل (حقوق الإنسان) في الإسلام.

ولقد سعى الاستعمار جاهداً من أجل إبعاد المسلمين عن هذا المنطق الواضح الصريح، بعد أن أدرك أن في إبعادهم السبيل الأقصر لتقويض دعائم بلادهم، ومحاصرة قواهم المالية... فقام في سبيل ذلك بوضع قوانين وشرائط وقيود للكسب والتجارة، حتى لا يجد المسلمون حرية في معاشهم وكسبهم فيسلبوا بذلك فرصة التقدم والازدهار.

ص: 45


1- وتسمّى بقاعدة السلطنة والتسلط.

فإذا كان العجب يبطل بعد معرفة السبب كما يقولون؛ فإن: (الدواء لا يتعين إلّا بتشخيص الداء)، فعلينا أن نتعرف على الداء في مجتمعاتنا، ثم تشخيص الدواء على المنطق الإسلامي، فإن قوانين الإسلام الاقتصادية هي الدواء، كما يلزم علينا أن نتشبع بروح الإسلام ومبادئه أولاً، حتى يتسنى لنا مقاومة خطط الأعداء والمستعمرين، والاستغناء عن سيطرتهم الاقتصادية على بلادنا، وهو الداء المشخّص لنتحرر من أسر التبعية والحصار.

كذلك كان موقف الإسلام، وكذلك كان موقف من يؤمنون به، ويلتزمون بسننه وأحكامه؛ لذا لا بد لنا من الابتعاد كل البعد عن الإسراف بكل معانيه فكرياً كان أم مادياً، وإذا كان إهدار الموارد وتضييع الثروات يعد ترفاً وإسرافاً؛ فإن من الإسراف الفكري إهمال الفكر وتعطيل العقول، واليأس من الوصول إلى الحلول.

وعلينا أن نفعل نفس ما فعله المجدد الشيرازي (رضوان اللّه عليه)، حيث حرر إيران من الهيمنة الاقتصادية الإنجليزية بكلمة واحدة مختصرة، عندما أفتى بتحريم استعمال التنباك مطلقاً، ورغم أن كلمته وفتواه المشهورة كانت مختصرة، إلّا أن محتواها كان عظيم الخطر في معناه وأثره. وفتواه هي:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم: استعمال الدخانيات اليوم في إيران في حكممحاربة الإمام صاحب الزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف».

نعم، قاد المجدد ثورة التنباك ضد الإنجليز وحكومة ناصر الدين شاه القاجاري، بعد أن قادت بريطانيا جيوشاً جرارة على إيران، وذلك في ربيع الثاني سنة (1309ه)، وكان قوامها (400 ألف مقاتل)، وكان هدفهم السيطرة على اقتصاد إيران عبر أساليب عديدة، أهمها الحصول على امتيازات التبغ زراعة وشراءً وتصديراً مقابل (250) ألف ليرة إنجليزية، تقدمها لندن لناصر الدين شاه القاجاري أحد ملوك ايران في العصر القاجاري. فأحبط المجدد الشيرازي(رحمه الله)

ص: 46

المؤامرة بعد أن أصدر فتواه الشهيرة، فاضطرت جيوش الإنجليز إلى حزم حقائبها، ثم الخروج من إيران تجر أذيال الخيبة والإنكسار.

كما أن المجدد الشيرازي(رحمه الله) قام بدور آخر في إنقاذ المجتمع الإسلامي وذلك بإيقاف الظلم الطائفي الذي قام به الحاكم المستبد (عبد الرحمن خان) في أفغانستان، الذي قام بقتل الشيعة وجعل من رؤوسهم منائر في كل مكان، فأوقف الفتنة الطائفية التي كان يريدها أعداء الإسلام، فكما قارع الاستعمار البريطاني في ثورته السلمية في قصة التبغ والتي أيقظت العالم الإسلامي وأعطته الوعي السياسي في تاريخه الحديث، كان ينبه المسلمين ويحفظهم من الأخطار التي يسببها النفوذ الأجنبي في بلادهم.

وهكذا يلزم أن يكون دور العلماء في إرشاد الناس نحو الخير والفضيلة في مختلف المجالات الاقتصادية وغيرها.

اقتصاد الدول المتقدمة

في إحدى الدول المتقدمة اقتصادياً وهي اليابان وعلى أثر النظام الاقتصادي الناجح الذي اتبعوه، باعتمادهم على أنفسهم وتخلصهم من النفوذ الغربي،استطاعوا أن يستفيدوا حتى من قشور الباقلاء التي نعدها من الأوساخ وفضلات الطعام، فصنعوا منها ألواح الخشب المضغوط التي تستعمل في صنع الدواليب والصناديق والأدوات المنزلية الخشبية، وسائر الاستخدامات الاخرى.

وإنني أتذكر قبل الحرب العالمية كيف كانت الصناعة اليابانية معروفة بعدم الإتقان، ولم يكن يرغب فيها الناس. أما بعد أن جعلوا في بلادهم التعددية الحزبية، وانتهجوا منهج الإتقان في أمورهم، واتخذوا سياسة اقتصادية ناجحة، وصلوا إلى ما وصلوا إليه من القوة الاقتصادية المنافسة لأقوى الدول، حتى اشتهرت الجودة في مختلف صناعتهم، وأصبح الإقبال عليها والمشترون لها

ص: 47

أكثر حتى مما يصنعه الغرب. وهذا كله بسبب الإتقان في الأمور.

كما إنني أتذكر ذات مرة أن أعداد الفئران تكاثرت بشكل مخيف في الكويت، ومهما استعمل الناس من أنواع السموم والمبيدات لم ينفع، فقلت لأحد الخبراء المسلمين وقد التقيت به في تلك الفترة: ما هو الطريق لحل هذه المشكلة؟

فقال: سآتي لكم بشيء جئت به من الصين، فذهب وعاد ومعه وسيلة عجيبة، ولكن فكرتها سهلة، وكانت عبارة عن مصباح كهربائي خاص، باستطاعته - للخاصية الموجودة فيه - أن يجذب الفئران نحوه كجذب المغناطيس للمعادن، ثم يقضي عليها!

الجد والاجتهاد في العمل

من أهم مقومات الاقتصاد الناجح هو الجد والاجتهاد في العمل، وعليه سار المسلمون فتقدموا، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1).

وفي خبر الشيخ الشامي، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا شيخ، من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كان في الدنيا همته كثرت حسرته عند فراقها، ومن كان غده شراً من يومه فمحروم، ومن لم ينل ما يرى من آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك، ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى، ومن كان في نقص فالموت خير له»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله، فحسن منقلبه؛ إذ رضي عنه ربه. وويل لمن طال عمره، وساء عمله، فساء منقلبه؛ إذ سخط عليه

ص: 48


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 435.

ربه عزّ وجلّ»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «اطلبوا المعروف والفضل من رحماء أمتي، تعيشوا في أكنافهم، فالخلق كلهم عيال اللّه، وإن أحبهم إليه أنفعهم لخلقه، وأحسنهم صنيعاً إلى عياله، وإن الخير كثير وقليل فاعله»(2).

وعن جعفر بن محمد(عليهما السلام) عن آبائه(عليهم السلام) عن علي(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «بادر بأربع قبل أربع: بشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل مماتك»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما من يوم يمر على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فقل فيَّ خيراً، واعمل فيَّ خيراً، أشهدلك به يوم القيامة؛ فإنك لن تراني بعده أبداً»(4).

وعن علي الهادي(عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إياكم والإيكال بالمنى! فإنها من بضائع العجزة»(5).

قصة من التاريخ

ولننظر أخيراً إلى هذه القصة، ونتعلم من صاحبها درس التدبير والجد والعمل، ولنتعرف على بعض الأساليب الاقتصادية الناجحة عنده:

يذكر أن شخصاً يدعى (أبو البركات)، كان من التجار الكبار المشهورين بتجارة الجياد، بعد أن كان قد رباها ودربها بشكل تكون مفيدة للحرب ضد

ص: 49


1- من لا يحضره الفقيه 4: 396.
2- أعلام الدين: 276.
3- الخصال 1: 239.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 108.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 580.

الكفار؛ لذلك كان من ينوي الذهاب إلى الحرب يأتي إليه ويشتري منه ما شاء من الجياد.

يقول أبو البركات: ذات يوم جاءني شخص وقال: أريد أن آتي إلى محل جيادك لأشتري عدة أفراس للمجاهدين، قلت له: لا مانع من ذلك، وتوجهنا بالمسير نحو الإصطبل، وفي الطريق لفت نظري عمل كان يقوم به هذا الشخص، حيث كان كثيراً ما يهوي إلى الأرض ويأخذ شيئاً منها ويضعه في كيس كان معه، حتى وصلنا الإصطبل، فاشترى مني عدة جياد أصيلة قوية وسريعة وبأثمان غالية، فسألته قائلاً: إني رأيت منك في الطريق شيئاً عجيباً، فما هذا العمل الذي كنت تعمله؟

قال: هذا عملي وكسبي اليومي! حيث إني أطوف الشوارع والأزقة، فأينما عثرت على قشر رمان، أو خشبة، أو قطعة حديد، أو ما أشبه ذلك أجمعها، ثمأجعل الحديد في جانب، والخشب في جانب، وهكذا، وبعد ذلك أبيعها، فالحديد للحداد، وقشور الرمان للدباغ، والخشب للخباز أو لمن يستعمله، وقد جمعت من هذا العمل هذا المال الذي اشتريت به منك هذه الجياد لإعانة المجاهدين في سبيل اللّه والإسلام.

وهذه القصة تدل على أن العمل يثمر وإن كان في نظر البعض تافهاً.

لذا يلزم العمل والجد والاجتهاد حتى يرجع الاقتصاد الإسلامي إلى بلادنا، وتكون دفة الاقتصاد بيد المسلمين لا بيد أعدائهم، فقد ورد في وصايا الإمام الحسن(عليه السلام): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»(1).

ص: 50


1- بحار الأنوار 44: 139.

كما يجب العمل لاستعادة ثروات الأمة المصادرة، حتى يعود للمسلمين عزهم وغناهم، كما كانوا عليه في العصور الأولى للإسلام. وإلّا فإن «من لا معاش له لا معاد له» على ما ورد في الحديث.

«اللّهم صل على محمد وآل محمد، وأسألك الربح من التجارة التي لا تبور، والغنيمة من الأعمال الخالصة الفاضلة في الدنيا والآخرة، والذكر الكثير لك والعفاف والسلامة من الذنوب والخطايا، اللّهم ارزقنا أعمالاً زاكية متقبلة، ترضى بها عنا، وتسهل لنا سكرة الموت، وشدة هول يوم القيامة، اللّهم إنا نسألك خاصة الخير وعامته لخاصنا وعامنا، والزيادة من فضلك في كل يوم وليلة، والنجاة من عذابك، والفوز برحمتك»(1).

من هدي القرآن الحكيم

لزوم العمل

قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوٰةُ فَانتَشِرُواْ فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٖ فَصَّلْنَٰهُ تَفْصِيلًا}(3).

الأنبياء(عليهم السلام) والعمل

قال عزّ وجلّ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ

ص: 51


1- مصباح المتهجد 2: 443.
2- سورة الجمعة، الآية: 10.
3- سورة الإسراء، الآية: 12.

بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مََٔارِبُ أُخْرَىٰ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَعَلَّمْنَٰهُ صَنْعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَٰكِرُونَ}(2).

التقدير في المعيشة

قال سبحانه: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(4).

أسلوب الكفار والمستعمرين

قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِالْأخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَٰنُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا}(5).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ}(7).

ص: 52


1- سورة طه، الآية: 17- 18.
2- سورة الأنبياء، الآية: 80.
3- سورة الإسراء، الآية: 29.
4- سورة الفرقان، الآية: 67.
5- سورة النساء، الآية: 38-39.
6- سورة الأنفال، الآية: 36.
7- سورة البقرة، الآية: 264.

من مقومات العزة

قال تعالى: {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٖ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرًا}(1).

وقال سبحانه: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

لزوم العمل

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم بالخشية من اللّه في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والاكتساب في الفقر والغنى، وأن تصلوا من قطعكم، وتعفوا عمن ظلمكم، وتعطفوا على من حرمكم، وليكن نظركم عبراً،وصمتكم فكراً، وقولكم ذكراً، وإياكم والبخل، وعليكم بالسخاء، فإنه لا يدخل الجنة بخيل، ولا يدخل النار سخي»(4).

وقال رجل لأبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): إني لا أحسن أن أعمل عملاً بيدي ولا أحسن أن أتجر، وأنا محارف(5) محتاج؟

فقال: «اعمل فاحمل على رأسك، واستغن عن الناس؛ فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قد حمل حجراً على عاتقه فوضعه في حائط من حيطانه، وإن الحجر لفي مكانه

ص: 53


1- سورة نوح، الآية: 12.
2- سورة هود، الآية: 52.
3- جامع الأخبار: 139.
4- بحار الأنوار 1: 141.
5- المحارَف: المحروم الذي إذا طلب لا يرزق.

ولا يدرى كم عمقه إلّا أنه ثمَّ»(1).

الأنبياء(عليهم السلام) والعمل

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه حين أهبط آدم(عليه السلام) إلى الأرض أمره أن يحرث بيده، فيأكل من كده بعد الجنة ونعيمها...»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يضرب بالمر(3)

ويستخرج الأرضين، وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يمص النوى بفيه ويغرسه فيطلع من ساعته، وإن أمير المؤمنين(عليه السلام) أعتق ألف مملوك من ماله وكد يده»(4).

وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إني لأعمل في بعض ضياعي حتى أعرق وإن لي من يكفيني، ليعلم اللّه عزّ وجلّ أني أطلب الرزقالحلال»(5).

التقدير في المعيشة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن البشر بالناس نصف العقل، والتقدير نصف المعيشة، والمرأة الصالحة أحد الكاسبين»(6).

وعن داود بن سرحان قال: رأيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يكيل تمراً بيده، فقلت: جعلت فداك، لو أمرت بعض ولدك، أو بعض مواليك فيكفيك؟

فقال: «ياداود، إنه لا يصلح المرء المسلم إلّا ثلاثة: التفقه في الدين، والصبر

ص: 54


1- الكافي 5: 76، ومعنى الرواية: أي كونه ثمة إلى الآن.
2- تفسير العياشي 1: 40.
3- المَر: المسحاة.
4- الكافي 5: 74.
5- الكافي 5: 77.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 614.

على النائبة، وحسن التقدير في المعيشة»(1).

وقال(عليه السلام): «عليك بإصلاح المال؛ فإن فيه منبهةً للكريم واستغناءً عن اللئيم»(2).

وعن معتب قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام) - وقد تزيَّد السعر بالمدينة - «كم عندنا من طعام؟».

قال: قلت: عندنا ما يكفيك أشهراً كثيرةً.

قال(عليه السلام): «أخرجه وبعه».

قال: قلت له: وليس بالمدينة طعام؟

قال(عليه السلام): «بعه».

فلما بعته، قال(عليه السلام): «اشتر مع الناس يوماً بيوم - وقال - يامعتب اجعل قوتعيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة؛ فإن اللّه يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها، ولكني أحبت أن يراني اللّه قد أحسنت تقدير المعيشة»(3).

آثار المال في المجتمع الإسلامي

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنما أتخوف على أمتي من بعدي ثلاث خصال: أن يتأولوا القرآن على غير تأويله، أو يتّبعوا زلة العالم، أو يظهر فيهم المال حتى يطغوا ويبطروا، وسأنبئكم المخرج من ذلك: أما القرآن فاعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وأما العالم فانتظروا فيئته ولا تتبعوا زلته، وأما المال فإن المخرج منه شكر النعمة وأداء حقه»(4).

ص: 55


1- الكافي 5: 87.
2- الكافي 5: 88.
3- الكافي 5: 166.
4- الخصال 1: 164.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المال للفتن سبب وللحوادث سلب»(1).

من مقومات العزة

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أتت الموالي أمير المؤمنين(عليه السلام) فقالوا: نشكوا إليك هؤلاء العرب، إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية، وزوّج سلمان وبلالاً وصهيباً، وأبوا علينا هؤلاء، وقالوا: لا نفعل.

فذهب إليهم أمير المؤمنين(عليه السلام) فكلمهم فيهم، فصاح الأعاريب: أبينا ذلك يا أبا الحسن، أبينا ذلك!

فخرج وهو مغضب يجر رداءه، وهو يقول: يا معشر الموالي، إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى، يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون، فاتجروا بارك اللّه لكم؛ فإني سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول:الرزق عشرة أجزاء، تسعة في التجارة وواحدة في غيرها»(2).

وعن المعلى بن خنيس قال: رآني أبو عبد اللّه(عليه السلام) وقد تأخرت عن السوق، فقال لي: «اغد إلى عزك»(3).

ص: 56


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 77.
2- الكافي 5: 318.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 192.

الفهم السياسي

السياسة وقانون الأسباب والمسببات

اشارة

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرحٍ علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً...»(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى قد جعل الدنيا خاضعة لقانون الأسباب والمسببات، فكل شيء في الحياة خاضع لعلل ومعاليل وقوانين وأنظمة خاصة، فلا يمكن أن يصل الإنسان إلى الهدف دون أن يوفّر الأسباب الموصلة إليه.

فعندما يريد شخص أن يصبح عالماً يلزم عليه - أولاً - أن يوفّر المقدمات التي توصله إلى ذلك، مثل الاستعداد للتعلم، واغتنام فرص التعليم الجيدة، والبحث عن المعلّم الجيد والكفوء، والمال الكافي لشراء ما يحتاج إليه من لوازم الدراسة والحياة العلمية، إذ بدون توفر هذه المقدمات لا يمكن - عادة - أن يصبح ذلك الشخص عالماً.

وكل مقدمة من هذه المقدمات تختلف من حيث الأهمية عن غيرها؛ فإذا لم يمتلك ذلك الشخص استعداداً للتعلم، بأن كان بليداً أو مجنوناً - مثلاً - لا يمكنه الوصول إلى النتيجة المرجوة. أما إذا امتلك استعداداً جيداً للتعلم وامتلك عقلاً

ص: 57


1- الكافي 1: 183.

سليماً في تقبل المعلومات، ولكنه لم يمتلك المال الكافي لتوفير ما يحتاجه من المستلزمات، فالنتيجة تكون مختلفة، فالبعض تمكن من الحصول على العلم لجدّه واجتهاده وتحمله الصعاب، كما نرى مصاديق عديدة من علمائنا الأعلام ممن كان يفتقد المال ولكنه وصل إلى درجة ومكانة علمية مرموقة.

فقد روي عن أحد العلماء الماضين (رحمهم اللّه) أنه سافر لطلب العلم ولم يكن لديه مال؛ وكان في غاية الفقر والفاقة - والفقر شيمة العلماء غالباً - وبدأ دراسته الدينية بجدّ واجتهاد، وكان يطالع ويقرأ حتى في الساعات المتأخرة من الليل، إلى أن ينتهي زيت السراج الذي يقرأ على ضوئه، وبما أنه لم يكن يستطيع أن يوفر ثمن زيت السراج، رغم قلة سعره، لكنه لم يعذر نفسه في ترك المطالعة وطلب العلم؟ كلا، فإنه كان حريصاً على تحصيل العلم، فكان يضطر إلى الدخول في بيوت مراحيض المدرسة، ليطالع على سراجها، وكانت تأبى عزته ونفسه أن يدع غيره يشعر بما هو فيه من الفقر، فيوهم الداخلين بالتنحنح أنه جالس لقضاء الحاجة.

وتتجلى في هذه الحادثة عزة نفسه وقوة إرادته، وصبره في طلب العلم بدرجة غير اعتيادية.

وهذه قصة واحدة من جده واجتهاده، وما خفي من أحواله فأكثر، فقد ظل هذا العالم صابراً مثابراً، حتى وصل إلى ما وصل إليه من المكانة السامية، فكان عالماً علماً... .

نعم كان ذلك الرجل هو العالم الجليل الشيخ محمد مهدي النراقي(رحمه الله)(1)

ص: 58


1- هو الشيخ محمد مهدي بن أبي ذر النراقي (1128-1209ه) أحد أعلام المجتهدين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر من الهجرة، ومن أصحاب التأليفات القيمة.

صاحب كتاب (جامع السعادات)، وغيره من الكتب القيمة.

وهذه القصة تدل على أن الدنيا وما يحصل الإنسان فيها من الدرجات لا تكون إلّا خاضعة لقانون الأسباب والمسببات، نعم بعض الأسباب تكون سهلة وبعضها صعبة، وعادةً ينبغي سلوك الأسباب الصعبة في الوصول إلى المراتب العالية وتحصيل الكمالات.

واليوم إذا أراد المسلمون الوصول إلى هدفهم المنشود وإقامة حكومة الإسلام الموحدة التي تجمع جميع المسلمين في دولة واحدة قوية، لا بد لهم من تهيئة المقدمات والأسباب لذلك، ومن هذه المقدمات والأسباب: الفهم السياسي.

الفهم السياسي

الفهم، بصورة عامة هو: الإدراك والعلم والمعرفة. وواسطة هذه المعرفة والعلم هي العقل، أي إن الإنسان بواسطة عقله يفهم الأشياء، ومن هذا الباب نجد أن بعض الناس الذين يملكون عقلاً سليماً لهم نبوغ في مختلف مجالات الحياة؛ وذلك لرجاحة عقلهم،وحسن تعاملهم مع القضايا والأحداث،التي تدور حولهم، بينما نجد البعض الآخر لا يمتلك هذه الخاصية، التي هي (الفهم) أو المعرفة والفطنة، إما لخلل عقلي، وهذا خارج عن إرادة الإنسان وإمكانه عادةً، أو لتقصير منه، وذلك لعدم تحصيله للعلوم والمعارف ومعرفته بالأوضاع التي توصله إلى الفهم والإدراك.

إذاً، بإمكان الإنسان أن يصبح فاهماً، وبإمكانه أن يكون كثير العلم والإدراك، وذلك بجده واجتهاده، وأيضاً بيده أن يصبح أبلهاً أو بليداً أو شخصاً عادياً لا يهتم ولا يعي لما يجري حوله من القضايا والأحداث، وهذا يعتبر نقصاً للإنسان؛ لأنالعلم كمال وتركه نقص.

ثم إن الفهم بصورة عامة يتعدد إلى عدة أنواع بتعدد مجالات الحياة

ص: 59

المختلفة، ومدار بحثنا حول مجال (الفهم السياسي) اللازم أن يتمتع به الفرد المسلم. ولتوضيح المطلب نحتاج إلى بيان بعض الأمور وشرح بعض المفردات.

مفهوم السياسة

السياسة هي: فن إدارة البلاد والعباد، وقد جاء في وصف الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) في زيارة الجامعة: «ساسة العباد»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «نحن ساسة البلاد»(2).

وفي الأحاديث: «الإمام عارف بالسياسة».

وفي بعضها: «عالم بالسياسة»(3).

وفيها: «ثم فوض إليه - النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) - أمر الدين والأمة ليسوس عباده»(4).

وفي الخبر: «كان بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم».

وقال(عليه السلام): «فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعفة والعلم بالسياسة»(5).

وفي اللغة(6):

السياسة:القيام على الشيء بما يصلحه.

وساس الأمر سياسة: قام به.

وسست الرعية سياسة: أمرتها ونهيتها.

وساس زيد سياسة: أمر وقام بأمره.

ص: 60


1- تهذيب الأحكام 6: 96.
2- بحار الأنوار 25: 23.
3- انظر: الكافي 1: 201، الأمالي للشيخ الصدوق: 679.
4- الكافي 1: 266.
5- تحف العقول: 137.
6- انظر: لسان العرب والنهاية في غريب الحديث مادة (سوس).

إذن السياسة ليست من العلوم الحديثة، بل لعلها وجدت بوجود الإنسان في هذه المعمورة، وبواسطتها ينظم الإنسان حياته.

وكل إنسان يحتاج إلى السياسة، وفي جميع المجالات، سياسة مع نفسه،سياسة في تعامله وتعايشه مع عائلته، سياسة مع صديقه، سياسة مع عدوه، وسياسة مع جميع أفراد المجتمع.

ومن هذا الباب، فإن أغلب الناس سياسيون، ولكن بدرجات متفاوتة، أعلاهم مرتبة الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام).

وبهذا المعنى العام فإن جميع الأديان السماوية حثت على السياسة وخصوصاً ديننا الإسلامي، فهو يعتبر السياسة من صميم الإسلام، وقد حاول الأعداء أن يفصلوا الدين عن السياسة؛ وذلك لكي يكسبوا المناصب الدنيوية ويبعدوا المؤمنين عن مسيرة الحياة، فأشاعوا أقاويل متعددة، وجندوا الأقلام المرتزقة المنحرفة وصرفوا الأموال الطائلة، في محاولة منهم لفصل الدين عن السياسة، وصوروا للناس بأن رجال الدين لا يصلحون للسياسة، فهم يصلحون للعبادة فقط، حتى قال بعضهم: إن العالم الديني الكامل هو الذي يعمل بالعبادة والإرشاد، ولا يتدخل في شؤون السياسة(1).

ص: 61


1- فصل الدين عن الدولة أو السياسة، مفهوم سياسي واجتماعي حديث نشأ إبان عصر النهضة الأوربية، وهو ما ينادي به دعاة (العلمانية) وقد عارضوا تسلط الكنيسة على الدولة وهيمنتها على المجتمع، ورأوا أن من شأن الدين أن يعتني بتنظيم العلاقة بين البشر وربهم فقط، ونادوا بفصل الدين عن الدولة، وبهذه تكون العلمانية قد فصلت بين الممارسات الدينية التي اعتبرتها ممارسة شخصية، والممارسة السياسية التي نظرت إليها كممارسة اجتماعية. وكان ذلك رد فعل على ما قامت به الكنيسة ورجالاتها من الظلم والجور على الناس وخاصة في القرون الوسطى، ولكن الإسلام وتعاليمه السماوية يختلف تماماً عن ذلك، فإنه دين الرحمة والسعادة للدنيا والآخرة، وفيه البرنامج الكامل لمختلف شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية وغيرها. يقول الإمام الشيرازي(رحمه الله) في موسوعة (الفقه) كتاب السياسة: إن السياسة هي من صميم الإسلام؛ لأن الإسلام هو الدين المستوعب لأحكام ما يفعله الإنسان سواء كان من فعل الجوارح الظاهرة أم من فعل الجوانح، فكل أفعال الإنسان مشمولة للأحكام الخمسة، حتى أن تفكيره السيء منهي عنه بالتحريم أو الكراهة، وتفكيره الحسن مأمور به بالوجوب أو الاستحباب. ثم أورد(رحمه الله) جملة من الروايات الخاصة بالسياسة كقول الإمام الرضا(عليه السلام): «عالم بالسياسة». وأيضا ما ورد في زيارة الجامعة في أوصاف الأئمة(عليهم السلام): «وساسة العباد وأركان البلاد». وما ورد في كتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولاه مصر واعمالها: «فاصطف لولاية أعمالك أهل العلم والسياسة». وقوله(عليه السلام): «فول جنودك انصحهم في نفسك للّه ولرسوله ولإمامك.. وأجمعهم علما وسياسة». - إلى أن قال(رحمه الله) - ومما تقدم يظهر: أن السياسة من صميم الإسلام، وأن كل محاولة لفصل الدين عن السياسة هي من قبيل محاولة فصل العبادة عن الإسلام، وقد كان دأب الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) والعلماء أخذ زمام السياسة بأيديهم ما قدروا، فإن لم يتمكنوا من ذلك وجهوا الناس إلى وجوب ذلك مهما قدروا... حتى جاء دور المستعمر فأدخل في الميدان عنصرا جديداً هو عنصر انفصال الدين عن السياسة، ثم أشاع بواسطة عملائه أن العالم الديني الخيّر هو الذي يشتغل بالعبادة والإرشاد, ولا يتدخل في شؤون السياسة، وذلك لأنهم رأوا أن العلماء هم السد المحكم أمام استعمارهم للبلاد وتسلطهم على رقاب العباد. للمزيد انظر: موسوعة الفقه، كتاب السياسة 105: 42 وما بعدها.

ولكن تعاليم الإسلام تخالف هذه النظرية، وتحث المسلمين، وخصوصاً العلماء منهم على ممارسة السياسة بالمعنى الصحيح وضمن الأطر الشرعية، وأن يجعلوها جزءاً من وقتهم ليديروا شؤون الناس إدارة صحيحة وشرعية، تبعد كيد الأعداء والطامعين عن التحكم في مصير البلاد والعباد.

وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «الجود رئاسة، الملك سياسة»(1).وقوله(عليه السلام): «فضيلة الرئاسة حسن السياسة»(2).

وقوله(عليه السلام): «ولّ أمر جنودك أفضلهم في نفسك حلماً، وأجمعهم للعلم

ص: 62


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 18.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 483.

وحسن السياسة»(1).

وقال(عليه السلام): «الاحتمال زين السياسة»(2).

وقال(عليه السلام): «حسن السياسة قوام الرعية»(3).

وقال(عليه السلام): «حسن السياسة يستديم الرئاسة»(4).

وقال(عليه السلام): «حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة»(5).

وقال(عليه السلام): «من سما إلى الرئاسة صبر على مضض السياسة»(6).

وقال(عليه السلام): «من قصر عن السياسة صغر عن الرئاسة»(7).

وقال(عليه السلام): «ملاك السياسة العدل»(8).

وقال(عليه السلام): «لا رئاسة كالعدل في السياسة»(9).

وقال(عليه السلام): «نعم السياسة الرفق»(10).

وقال(عليه السلام): «جمال السياسة العدل في الإمرة والعفو مع المقدرة»(11).

وقال(عليه السلام): «رأس السياسة استعمال الرفق»(12).

ص: 63


1- دعائم الإسلام 1: 358.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 46.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 344.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 344.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 344.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 621.
7- عيون الحكم والمواعظ: 450.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 702.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 792.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 718.
11- غرر الحكم ودرر الكلم: 341.
12- غرر الحكم ودرر الكلم: 378.

وقال(عليه السلام): «بئس السياسة الجور»(1).

وقال(عليه السلام): «آفة الزعماء ضعف السياسة»(2).

وقد سبق أن السياسة لا تنحصر بأمور الملك والرئاسة فحسب؛ بل تتدخل في جميع مجالات الحياة، حتى بالنسبة لذات الإنسان نفسه، فهو محتاج إلى السياسة في إدارة شؤون حياته، كما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من ساس نفسه أدرك السياسة»(3).

ومن هنا قلنا: بأن السياسة - في معناها الواسع - : (إدارة البلاد والعباد)(4).

وهذه الإدارة يلزم أن تكون مدروسة دراسة جيدة، وبطريقة علمية وبإشراف وتوجيه علماء الدين الأعلام مع استشارة الأخصائيين الدنيويين؛ لأن في ذلك حفاظاً على أمور المسلمين في الدنيا والآخرة، فلا يصلح لإدارة شؤون العباد والبلاد علم بدون دين، لأن في ذلك خسراناً للآخرة، ولا يصلح كذلك الدين بدون العلم؛ لأن في ذلك مضيعة للدنيا، والإسلام لا يقر ذلك، وإنما الإسلام دين الدنيا والآخرة، ويريد أن يقترن الدين مع العلم في إدارة شؤون الناس وقضاياهم.

روي عن الإمام أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لا يقبل اللّه عزّ وجلّ عملاً إلّا بمعرفة، ولا معرفة إلّا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له، ألّا إن الإيمان بعضه من بعض»(5).

ص: 64


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 310.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 279.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 591.
4- انظر: موسوعة الفقه (كتاب السياسة) 105: 39.
5- الكافي 1: 44.

التوعية والتثقيف

اشارة

من أهم مقومات الفهم السياسي هو: التثقيف والتوعية، وهي إحدى الأسس الرئيسية لنهضة الأمة الإسلامية، وترسيخ مبادئها وتطبيقها على أرض الواقع بشكل تام وصحيح.

يقول اللّه سبحانه: {إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً}(1) حيث يصف الباري تعالى النبي إبراهيم(عليه السلام) بالأمة؛ وذلك لرشده ووعيه وثقافته الدينية والدنيوية العالية، كما قال عزّ وجلّ في سورة أخرى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَٰهِيمَ رُشْدَهُ}(2)، والرشد بمعنى امتلاكه للحجة التي توصله إلى المعرفة.

وإذا أردنا المعرفة والحصول على الفهم السياسي، فعلينا بالجهاد الفكري والجهاد العلمي ضد الجهل، وبكل الوسائل المتاحة المشروعة، بالقلم واللسان، وبمختلف الوسائل العصرية؛ لتصل تعاليم الإسلام وأهدافه الإنسانية إلى كل قرية قرية، قريبة أو بعيدة، وكل بيت بيت، صغير وكبير، وكل فرد فرد، فتبدأ الأمة بالنهضة من جديد بامتلاكها الحجة من جرّاء رشدها وفهمها السياسي.

وبالتالي لا تهجم عليها اللوابس من جراء التخلف، ففي حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال فيه: «لا يصلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم، ويظفر من يحلم، والعلم جُنة، والصدق عز، والجهل ذل،والفهم مجد، والجود نجح، وحسن الخلق مجلبة للمودة، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس...»(3).

ولا بأس هنا بالإشارة إلى قصتين فيهما دلالة على أهمية الوعي والفهم

ص: 65


1- سورة النحل، الآية: 120.
2- سورة الأنبياء، الآية: 51.
3- تحف العقول: 356.

السياسي للإنسان المسلم لما يدور حوله من أمور:

الاستهلال والفهم السياسي

كان من عادة المؤمنين في العراق - كما في سائر دول الإسلام - الاستهلال، وذلك لثبوت وإثبات أول شهر رمضان المبارك، وكذلك عيد الفطر السعيد، فإن كثيراً من الناس كان يلزم نفسه بالمستحبات، مضافاً إلى التزامهم بالواجبات وتركهم للمحرمات.

كما كانوا يقومون بالاستهلال للأول من شهر ذي الحجة لتعيين عيد الأضحى، فكانوا يخرجون إلى خارج المدينة، ويستهلون فرادى وجماعات... .

وهكذا كانت كربلاء المقدسة، وكان لنا في بقية مدن العراق أيضاً أصدقاء كثيرون يستهلون ثم يخبروننا بالنتيجة.

وذات مرة ونحن في كربلاء المقدسة، جلسنا ننتظر استقصاء أخبار رؤية هلال العيد، والناس أيضاً قد حضروا مجلسنا بجمع غفير لمعرفة الخبر والعمل بالوظيفة الشرعية، وعند ذلك رجع البعض من الذين قد خرجوا للاستهلال وقالوا: إنهم لم يروا الهلال... .

وفجأة رأينا مجموعة أخرى يزعمون أنهم من المستهلين أخذوا يشيعون بأنهم قد رأوا الهلال فعلاً.

فأصبح الناس في حيرة، فهناك أخبار تقول برؤية الهلال، لكن لم يستطع أحدمعرفة الرائي الحقيقي والشاهد عليه، وأخذ بعض الناس يضغطون علينا كي نفتي بثبوت الهلال، ويقولون: إن الشياع تحقق في هذه المسألة، غير أننا لم نكن قد حصلنا على مستند صحيح كي نفتي على ضوئه بثبوت الهلال، فأخذنا بالبحث لمعرفة المصدر لهذه الإشاعة التي حصل لها رواج بين الناس، وبعد التحقيق ومتابعة الموضوع، اتضح لنا أن حكام بغداد أرادوا أن يكون العيد في اليوم التالي

ص: 66

فأوعزوا إلى محافظ كربلاء بوضع خطة لإيهام الناس بتحقق رؤية الهلال، فأخذ عملاء السلطة وجلاوزتها يدّعون بالباطل رؤية الهلال، ويشيعون ذلك بين الناس... .

وأرادت الدولة بذلك أن تستغفل الناس لإعلان العيد في الصباح، أو أنها على الأقل تحصل على نتيجة أخرى، وهي زعزعة الثقة بالعلماء من قبل أبناء الشعب، وخلق حالة من البلبلة في المدينة، وبالنتيجة فهي خطوة مربحة لسياسة الدولة على أي صورة وقعت؛ نعم حتى مثل رؤية الهلال وثبوته ربما يكون الإنسان بحاجة إلى الفهم السياسي، لكي لا يلتبس الأمر عليه ولا يفتي بغير الحق.

العلماء والفهم السياسي

وهذا أمر يدعو أهل العلم لأن تكون لديهم معرفة تامة بالسياسة، كما في معرفتهم بالأحكام الشرعية؛ وذلك لعدم انفصال الدين عن السياسة، الأمر الذي روج له المستعمرون وأشاعوه، وقد أرادوا بذلك رفع السدّ المحكم من أمامهم المتمثل بالعلماء، بعد أن ذاقوا منهم وبال الهزيمة مراراً من العلماء من أمثال: السيد المجاهد(1)، والميرزا المجدد الشيرازي، والآخوند الخراساني، والميرزامحمد تقي الشيرازي، وغيرهم، وذلك في حركات متعاقبة، وفي أماكن مختلفة ذكرناها في محلها.

فأولئك العلماء المجاهدون كان رائدهم قول الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه»(2).

ص: 67


1- السيد محمد بن علي المجاهد الطباطبائي الكربلائي، نجل صاحب كتاب (الرياض) وسبط الوحيد البهبهاني، ولد في كربلاء سنة (1180ه) وتوفى في قزوين عائداً من جهاد الروس سنة (1242ه) ونقل جثمانه إلى كربلاء المقدسة ودفن بين الحرمين الشريفين.
2- الكافي 1: 54.

وفي حديث آخر عن الصادقين(عليهما السلام): «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، فإن لم يفعل سلب نور الإيمان»(1).

نعم السياسة تعتبر من واقع الإسلام؛ باعتباره الدين الذي يريد من الأحكام الشرعية والعبادات أن تظهر على مختلف جوانب حياة المسلم وأفعاله وأفكاره، وأنه دين للدنيا والآخرة، فإن كل فعل من الأفعال قد جاء حكمه وبيانه في الكتاب والسنة، وقد أثبتنا عدم انفصال السياسة عن الدين من النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) في بعض كتبنا(2).

من هنا يلزم على طلبة العلوم الدينية - كما يلزم على غيرهم - التحلي بالفهم السياسي، وإننا إذا رجعنا إلى الكتاب والسنة وعرفنا ما فيهما من أحكام ولوازم حياتية، فسنعرف السياسة بشكل واضح، فلا تنطلي علينا ألاعيب المستعمرين والحكام الظلمة، وإلى جانب ذلك نحتاج أيضاً إلى قراءة مختلف الكتب السياسية، ومعرفة محتواها، ومتابعة الأحداث التي تجري من حولنا في بلادنا وفي جميع أنحاء العالم، من منشئها إلى هدفها، وبذلك يحصل الفهم السياسي.ولكننا - وللأسف - فصلنا السياسة عن الدين، كما أراده المستعمرون، مما جر على بلادنا ويلات عديدة ونكبات حقيقية.

احتلال أفغانستان

كيف تبدلت بلاد أفغانستان التي تعدادها (21 مليون) نسمة(3)، إلى دولة يحكمها الشيوعيون؟ الذين أخذوا بزمام الأمور على الرغم من قلة عددهم الذي

ص: 68


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 113.
2- انظر: موسوعة (الفقه) كتاب السياسة 105: 39، و(السبيل إلى إنهاض المسلمين)، و(الفقه: طريق النجاة)، و(الحكم في الإسلام) و(الفقه: الدولة الإسلامية) وغيرها.
3- قدّر عدد سكان أفغانستان وفي آخر إحصائية لعام (2017م) قدّر بأكثر من (35 مليون) نسمة.

لا يتجاوز (3000) فرد شيوعي، بحيث خلف مجيء النظام الشيوعي حوالي سبعة ملايين مشرد، ومليوني إنسان ما بين قتيل وجريح في أفغانستان.

نعم قد خطط لمجيء الشيوعيين إلى أفغانستان كل من بريطانيا والاتحاد السوفيتي، حيث قامت بريطانيا بإعداد (محمد طرقي)(1) في الهند فجعلوه مديراً لإدارة إحدى الشركات هناك، وبهذا المنصب حصل على نفوذ كبير، ولأنه كان يؤمن بالشيوعية أخذ يقوم بتنظيم العمال حتى وجد (طرقي) فرصة مناسبة لعودته إلى أفغانستان، وقام بانقلاب عسكري استولى بواسطته على الحكم في أفغانستان، فبدأ بتبديل القوانين الإسلامية التي كانت تطبق في البلاد، بقوانين علمانية إلحادية، فتبدلت الأوضاع في هذا البلد إلى اضطرابات وأزمات. وكان هذا طبعاً من آثار عدم الوعي والمعرفة بالأمور السياسية.

وما نقلناه من أحداث أفغانستان، تبين علاقة السياسة بالتاريخ ودراسة الشخصيات التي تدير دفة الحكم، ويظهر مدى احتياج الأمة إلى الفهم السياسي بالإضافة إلى معرفة الدين والتاريخ، فإنه كما يحتاج السياسي إلى معرفة الاقتصاد والحقوق والاجتماع وعلم النفس كذلك غيره بحاجة إلى المعرفةالسياسية، وقد قالوا إن هذه العوامل الستة تكمل الإنسان من جهة الوعي السياسي.

وفي عهد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر عندما ولاه على مصر قال: «... فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعلم والسياسة، وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام...»(2).

ص: 69


1- نور محمد تَرَكي من أبرز زعماء الحزب الشيوعي الأفغاني، أصبح رئيساً للجمهورية وللوزراء.
2- تحف العقول: 137.
شهادة زور

ومن القصص التي تبين لزوم التحلي بالفهم السياسي حتى للعلماء، هي قصة ترتبط برؤية الهلال أيضاً والظروف التي لابستها، فقد أعلن أحد وكلاء المراجع آنذاك في أحد أقضية العراق(1) عن ثبوت رؤية الهلال - في حين لم يكن هناك دليل على ذلك، كما تبين لنا بعد ذلك - وقد حدثت في المدينة انشقاقات بين الناس، فبعض الناس اعتبر ذلك اليوم عيداً فقاموا بفتح المطاعم والمقاهي وأظهروا الإفطار، في حين اعتبر البعض الآخر أن ذلك اليوم ليس عيداً، وامتنعوا عن فتح تلك المحلات.

وكنا قد شككنا في صحة ما تردد حول رؤية الهلال؛ لذا قررنا السفر إلى المدينة نفسها أثناء النهار، فرأينا ما كان قد حدث في تلك المدينة من أوضاع مضطربة، وبعد ما تحدثنا مع ذلك الوكيل، وسألناه عن الدليل الذي بموجبه اطمأن إلى رؤية الهلال، قال: إن الحكم قد صدر مني، إلّا أنه كان (هواء في شبك) أي: أن هناك من استغفله فأعلن العيد. وبعد التحقيق عن منشأ الموضوع، تبين أن الدولة واعتماداً على خطة مسبقة ولغرض زعزعة ثقة الناس بالعلماء،قامت بتجنيد عدد من أفرادها ممّن يتظاهرون بالصلاح، ليشهدوا زوراً برؤية الهلال، وأن ذلك الشخص الذي صدق قولهم كان غير مطلع على مجريات الأمور السياسية، وكان يتعامل مع الأمور ببساطة، فلم يرجع في ذلك الأمر إلى من وكّله من المراجع آنذاك، فوقع في هذه المصيبة.

مواجهة الأعداء والفهم السياسي

إن تاريخنا وخصوصاً نحن الشيعة، مليء بمحاولات من قبل الأعداء ضدنا،

ص: 70


1- الحادثة وقعت في قضاء المسيب الذي يبعد 30 كم عن مدينة كربلاء المقدسة.

وهو الذي يتطلب الوعي والفهم السياسي لنا، ويفرضه علينا، والذي يجعله من ضمن الفرائض على المسلمين.

وقد بينت حياة الأئمة الأطهار(عليهم السلام) ومعاصرتهم للظالمين من حكام بني أمية والعباسيين، واتخاذهم(عليهم السلام) المواقف الصحيحة، دروساً لنا في غاية الأهمية، وخاصة في حق الشخص الذي يتمتع بسلطة دينية أو دنيوية، ولقد غرس أئمتنا المعصومين(عليهم السلام) المعرفة والوعي والفهم السياسي في نفوس أصحابهم، لكي لا تهجم عليهم اللوابس والأفكار المنحرفة من قبل الحكام آنذاك ولا يضلونهم، فكانوا واعين لها تمام الوعي.

ثم إن الحصول على الفهم السياسي لا يحتاج إلى جهد كثير، ولكن المسلمين - على الأخص رجال الدين - تركوا العمل بها واعتبروا السياسة من شؤون الدولة المتسلطة وليست من شؤون الدين، وهذا من أهم أسباب عدم وجود الفهم السياسي بالمقدار الكافي في أوساط المسلمين، حيث تصور البعض أن السياسة هي شأن الطغاة حفاظاً على الحياة الدنيا، متناسين أنهم مسؤولون في الآخرة عن الناس الذين يعتبرون رجال الدين والعلماء أسوة وقدوةلهم؛ قال تعالى في محكم كتابه: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَٰمِهِمْ}(1). وعن الإمام الرضا(عليه السلام) بإسناده عن آبائه(عليهم السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في قول اللّه عزّ وجلّ: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَٰمِهِمْ} قال: «يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم»(2).

اذن يلزم على جميع المسلمين وخاصة الحوزات العلمية والعلماء التحلي

ص: 71


1- سورة الإسراء، الآية: 71.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 33.

بالفهم السياسي وذلك للحفاظ على الأمة من الضياع ومن مخططات الأعداء.

التفرقة مخطط الأعداء

كان في مدينة النجف الأشرف رجل من العلماء الزهّاد اسمه (الشيخ علي القمي)، وكان هناك رجل آخر يحمل نفس الاسم أي (علي القمي) وكان يسمى أيضاً (علي الأردهالي)، إلّا أن هذا الأخير كان مختل العقل، وفي إحدى ليالي الجمع من شهر رمضان المبارك، وكانت تصادف ليلة القدر أيضاً؛ قام (علي القمي) المختل العقل بتخطى صفوف المصلين بين صلاة المغرب والعشاء، وذلك في الصلاة التي كان يؤمها السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله)، راح إلى ابن السيد الأصفهاني (السيد حسن) وطلب منه مبلغاً من المال، وكان ابن السيد الأصفهاني رجلاً طيباً يحظى بتقدير واحترام الناس، وكان أيضاً معتمداً عند والده(رحمه الله)، فأعطاه مبلغاً لكنه كان أقل مما طلبه، غير أن (علي القمي أو الأردهالي) حينما عد النقود ووجدها ناقصة عن الذي طلبه، قال للسيد: هل هذا هو المقدار الذي طلبته أنا؟ إنني أحتاج أكثر من هذا المقدار!

فقال له السيد حسن: صحيح أن هذا المبلغ هو أقل مما أردت، إلّا أنّي الآنلم يكن معي مبلغ غير هذا الذي أخذته، ويمكنك أن تأتي في وقت آخر لتأخذ الباقي... .

إلّا أن ذلك المجنون (علي الأردهالي) سرعان ما أخرج سكيناً من جيبه وضرب السيد في رقبته مما تسبب في وفاته على الفور، فراع هذا الحادث قلوب الناس وتأثروا كثيراً.

وفي المقابل أعداء الدين الذين خططوا لهذا العمل استفادوا من هذه الحادثة، وأرادوا بث الفرقة بين الناس، فبثوا إشاعة مفادها أن الشخص الذي قام بضرب ابن السيد الأصفهاني(رحمه الله) هو رجل أفغاني، فراح السذج من الناس وأينما

ص: 72

وجدوا شخصاً أفغانياً انهالوا عليه بالضرب، وهذه الأعمال - كما لا يخفى - تؤدي إلى تمزيق روابط الأخوة والوحدة الإسلامية.

وكثير مثل هذا الحدث ما يجري في بلادنا بسبب مخططات الأعداء، وكلها يعود إلى عدم الوعي والفهم السياسي في أوساط الأمة، وعدم المعرفة الكاملة بالدين؛ إذ لا فرق بين عربي وأعجمي إلّا بالتقوى، وقد قال اللّه تعالى من قبل ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «المؤمنون اخوة، إذا ضُرب رجل منهم عِرْقٌ سهر الآخرون؛ لأن أرواحهم واحدة»(2). فلايوجد فرق بين العراقي والأفغاني، بل هناك روابط أخوية دينية واجتماعية بينهم.

من مقومات الفهم السياسي

إن الفهم السياسي بحاجة إلى مقومات عديدة، فالسياسي مثلما يحتاج إلىمعرفة الدين يحتاج إلى معرفة الاجتماع، وقد أشرنا إلى لزوم معرفة الإنسان بالدين والاجتماع والتاريخ والاقتصاد، ليكون واعياً في كل جوانب الحياة، فإذا كان واعياً بمبدأ الأخوة والأمة الواحدة فسوف لا تهجم عليه مثل هذه الإشاعة المستندة على أساس باطل، بأن هناك فرقاً بين الأفغاني والعراقي، فكلاهما مسلم، والمسلم أخو المسلم، وأينما يحل في بلاد المسلمين فهو بلده دون تفرقة أو تمييز.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليس بلد بأحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك»(3).

ص: 73


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- أعلام الدين: 440.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 442.

التحقيق والتدبر

إن من مقومات الفهم السياسي والوعي هو التدبر في ما نقرأه ونطالعه، على الأخص القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ومنها الأحاديث والرسائل والحِكَم الواردة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو سيد البلغاء والمتكلمين في كتاب (نهج البلاغة)، وخاصة تلك الخطب السياسية كالخطبة الشقشقية، وعهد الإمام(عليه السلام) إلى مالك الأشتر لمّا ولاه مصر، وكتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، ورسائله إلى معاوية، وغيرها.

قال الإمام(عليه السلام) في نهج البلاغة: «ولا أخذت منه إلّا كقوت أتان دَبِرَة»(1) وهو من كتابه(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف حيث بلغه أنه دُعي إلى وليمة قوم من أهل البصرة، فأسرع إليها.

وقد فسر ابن أبي الحديد المعتزلي العبارة المتقدمة بما يلي: هي التي عقرظهرها فقل أكلها(2)، وتبعه بعض الشراح أيضاً.

لكن بعض المحققين يرى غير ذلك، اعتماداً على بعض المصادر التي نقلت الكلمة (فوت) بالفاء لا بالقاف، وبذلك تكون العبارة «إلّا كفوة أتان دبرة» وقال: إن معنى (كفوة) جمع كفة: الخبز، و(الأتان) بمعنى حافة البئر(3)، وهي ما يوضع حول فوهة البئر من الحصى الناعم، الذي يعطي لذلك المكان قوة ومتانة ويمنعه من الانهدام، وإن مكاناً هكذا يكون محلاً خصباً لزراعة المحاصيل التي تكون

ص: 74


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 45، من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 207.
3- جاء في لسان العرب: وأَتانُ الضَّحلِ صخرةٌ تكون على فَمِ الرَّكِيِّ، فيركبُها الطُّحْلُبُ حتى تَمْلاسَّ فتكون أَشَدَّ ملاسةً من غيرها، وقيل: هي الصخرةُ بعضُها غامِرٌ وبعضُها ظاهِرٌ. والأَتانُ: مقامُ المُسْتَقي على فَمِ البئر، وهو صخرةٌ. لسان العرب 13: 6، مادة (أتن).

جذورها عشبية ولا تحتاج إلى الغور في الأرض كالحنطة والشعير وأمثالهما... و(دبِرَة) بمعنى الحديقة النضرة، التي توضع خلف الدار. وخلاصة معنى كلام الإمام(عليه السلام) تكون هكذا - بناءً على هذا النقل - : أنه(عليه السلام) أراد أن يعلن للعالم أنه لم يأخذ من بيت المال حتى ذلك السهم الذي يستحقه، وأنه كان يعمل بيده ويهيئ لقمة العيش لنفسه، فأراد في «كفوة أتان دبره» أنه كان يهيئ قوته من ذلك الزرع الذي يزرعه في مساحة كانت له خلف بيته.

نعم إن التدبر في معاني الكلمات وبذل قصارى الجهد في كشف المراد قد يوصل الإنسان إلى بعض الحقائق في كلمات الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام). وكذلك سائر كلمات المعصومين(عليهم السلام)، فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن حديثنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلّا صدور منيرة أو قلوب سليمة أو أخلاق حسنة، إن اللّه أخذ من شيعتنا الميثاق كما أخذ على بني آدم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}(1) فمن وفى لناوفى اللّه له بالجنة، ومن أبغضنا ولم يؤد إلينا حقنا ففي النار خالداً مخلداً»(2).

فالتحقيق والتدبر والتأني يلزمنا في كل موقف، وخصوصاً المواقف والتحولات السياسية في البلدان والحكومات، والتي تؤثر بشكل وآخر على البلدان الإسلامية؛ ولذا نجد أن غياب التدبر السياسي، وغياب الوعي والفهم السياسي، جعل العراق يعيش الويلات والتفرقة والمصادمات والتهجير والقتل على يد (300 نفر) من الصليبيين، في مؤامرة قادها البعثيون، - وبضمنهم صدام - وأخذوا بزمام السلطة في العراق.

وقد صار العراق بسبب هذه الحكومات مرتعاً لتفشي الرشوة والمحسوبية

ص: 75


1- سورة الأعراف، الآية: 172.
2- الكافي 1: 401.

والاستبداد في الحكم، ونهب حقوق الأكثرية وإفشاء التمايز والطائفية بين الشعب، بإخراج أعداد كبيرة من بلدهم وتشريد آخرين(1) وكان منهم الكثير من علماء الدين، وملاحقتهم واعتقالهم وإعدامهم بدون جرم ولا قانون، ونهب ثروات الشعب، وإغلاق المعاهد والمدارس العلمية والدينية، وهناك الملايين من أبناء الشعب العراقي مشردون ومطاردون، والبعض منهم في داخل وطنه مشرد ومهدد بالاعتقال، فضلاً عن الذين يرزحون في سجون البعث، ومن أعدمهم النظام، وكل ذلك من آثار قلة الوعي والفهم السياسي والقصور في النظرة المستقبلية في الأمور السياسية، وغيرها من الأسباب... .

وهذا نفسه حصل لأفغانستان سابقاً... وغيرها من الدول الإسلامية.

فإن من أهم أسباب الاستبداد والظلم قلة الوعي والفهم السياسي على تفصيل مذكور في محله.

إيجاد الوعي العام

فعلى المسلمين إذا أرادوا النهوض والتخلص من هذه الأنظمة القمعية والاستبدادية، إيجاد الوعي العام والفهم التام بكل الجوانب السياسية والإدارية والاقتصادية والدينية، تحت ظل قوانين الكتاب والسنة المطهرة المروية عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، ليكون مستقبل الإسلام والمسلمين مزدهراً ومتقدماً. ولا مجال آنذاك لهذه الأنظمة الطاغية، والهجمات المنحرفة من قبل الأعداء، وبذلك يعيش الإنسان في بلده معززا مكرماً، وما ذلك على اللّه بعزيز.

ص: 76


1- إشارة إلى جريمة التهجير أو ما عرف بالتسفير من عام (1968م) وبدفعات متعددة. للمزيد انظر: (التهجير جناية العصر)، و(القوميات في خمسين سنة)، و(كيف ولماذا أخرجنا من العراق)، للإمام الشيرازي(رحمه الله).

«اللّهم صل على محمد وآله، ومتعني بالاقتصاد، واجعلنا من أهل السداد، ومن أدلة الرشاد، ومن صالحي العباد، وارزقني فوز المعاد، وسلامة المرصاد، اللّهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها، وابق لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإن نفسي هالكة أو تعصمها»(1).

من هدي القرآن الحكيم

لكل شيء سبب

قال تبارك وتعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَءَاتَيْنَٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٖ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا}(2).

وقال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْأَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٖ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا * كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا *حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا}(4).

معارف ضرورية

معرفة اللّه سبحانه وتعالى:

قال جلّ وعلا: {هَٰذَا بَلَٰغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

ص: 77


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة الكهف، الآية: 84-85.
3- سورة الكهف، الآية: 88-89.
4- سورة الكهف، الآية: 90-93.
5- سورة إبراهيم، الآية: 52.

معرفة الدين

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1).

معرفة الناس

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(2).

ضرورة نشر المعرفة

قال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّىٰمِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ}(3).وقال سبحانه: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(5).

دور العلماء في مواجهة الانحراف

قال سبحانه وتعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَٰمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَِٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(7).

ص: 78


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- سورة إبراهيم، الآية: 5.
4- سورة الجاثية، الآية: 20.
5- سورة الطلاق، الآية: 10-11.
6- سورة الأنبياء، الآية: 57.
7- سورة طه، الآية: 42-44.

وقال جلّ اسمه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَٰهِۧمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَىٰهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحْيِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

لكل شيء سبب

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا فشا أربعة ظهرت أربعة: إذا فشا الزنا ظهرت الزلزلة، وإذا فشا الجور في الحكم احتبس القطر، وإذا خفرت الذمة أُديل(3)لأهل الشرك من أهل الإسلام، وإذا منعت الزكاة ظهرت الحاجة»(4).

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) جالساً في أصحابه إذ مرت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم، فقال(عليه السلام): «إن أبصار هذه الفحول طوامح(5) وإن ذلك سبب هَبَابها(6)، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله؛ فإنما هي امرأة كامرأة...»(7).

وقال الإمام موسى الكاظم(عليه السلام): «كلما أحدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا

ص: 79


1- سورة الممتحنة، الآية: 4.
2- سورة البقرة، الآية: 258.
3- أُخفرت الذمة وخُفرت الذمة: أي نقض العهد بين المشركين والمسلمين، يقال: أخفرتُ الرجلَ وخفرتُ الرجلَ: إذا نقضت عهده وغدرت به، الإدالة: الغلبة.
4- الكافي 2: 448.
5- طوامح: - جمع طامحة أو طامح - وتقول: طمح البصر إذا ارتفع وطمح: أبعد في الطلب.
6- هَبَابها: أي هيجان هذه الفحول لملامسة الأنثى.
7- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 420.

يعملون أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعدون»(1).

العلم والمعرفة

1- اكتساب العلم:

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألّا إن اللّه يحب بغاة العلم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة... وسلاح على الأعداء»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أغدُ عالماً أو متعلماً وإياك أن تكون لاهياً متلذذاً»(4).

2- معرفة اللّه عزّ وجلّ:جاء رجل إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: ما رأس العلم؟

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «معرفة اللّه حق معرفته»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): ­«إن معرفة اللّه عزّ وجلّ... نور من كل ظلمة وقوة من كل ضعف»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عرف اللّه سبحانه لم يشق أبداً»(7).

3- فهم الدين وإدراكه:

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «لو أُتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه

ص: 80


1- تحف العقول: 410.
2- الكافي 1: 30.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 615.
4- المحاسن 1: 227.
5- جامع الأخبار: 5.
6- الكافي 8: 247.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 650.

لأدبته»(1).

وقال(عليه السلام): «ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام».(2)

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «تفقهوا في دين اللّه، فإن الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة والسبب إلى المنازل الرفيعة...»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس! لا خير في دين لا تفقه فيه...»(4).

دور العلماء في مواجهة الانحراف

قال الإمام الجواد(عليه السلام): «... والعلماء في أنفسهم خانة، إن كتموا النصيحة، إن رأوا تائهاً ضالاً لا يهدونه، أو ميتاً لا يحيونه، فبئس ما يصنعون؛ لأن اللّه تباركوتعالى، أخذ عليهم الميثاق في الكتاب أن يأمروا بالمعروف وبما أُمروا به، وأن ينهوا عما نهوا عنه...»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... وما أخذ اللّه على العلماء ألّا يقاروا على كِظّة ظالم، ولا سَغَب(6) مظلوم...»(7).

وقال الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام): «اعتبروا أيها الناس! بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول: {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ الرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ

ص: 81


1- المحاسن 1: 228.
2- المحاسن 1: 229.
3- تحف العقول: 410.
4- المحاسن 1: 5.
5- الكافي 8: 54.
6- ألّا يُقاروا: ألّا يوافقوا مقرّين، الكِظّة: ما يعتري الآكل من الثقل والكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق، السَّغَب: شدة الجوع، والمراد منه هظم حقوقه.
7- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3 من خطبة له(عليه السلام) تعرف بالشقشقية.

الْإِثْمَ...}(1)... وإنما عاب اللّه ذلك عليهم، لأنّهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك...»(2).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام) في كتابه للزهري: «أخذ على العلماء في كتابه إذ قال: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}(3) وأعلم أن أدنى ما كتمت وأخف ما احتملت أن آنست وحشة الظالم...»(4).

السياسة من صميم الإسلام

قال الإمام علي النقي(عليه السلام) في الزيارة الجامعة: «... أهل بيت النبوة... خزان العلم... وقادة الأمم... وساسة العباد...»(5).

وعن سماعة عن أبي الحسن موسى(عليه السلام) قال: قلت له: أكل شيء في كتاب اللّه وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم)؟ أو تقولون فيه؟

قال: «بل كل شيء في كتاب اللّه وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم)»(6).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلّا أنزله في كتابه وبينه لرسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى على ذلك الحد حداً»(7).

ص: 82


1- سورة المائدة، الآية: 63
2- تحف العقول: 237.
3- سورة آل عمران، الآية: 187.
4- تحف العقول: 275.
5- من لا يحضره الفقيه 2: 610.
6- الكافي 1: 62.
7- الكافي 1: 59.

الفئات الاجتماعية بين الحق والباطل

الحق والباطل

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ليس من باطل يقوم بإزاء حق إلّا غلب الحقُ الباطلَ، وذلك قول اللّه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}»(2).

وجاء في تفسير الآية الكريمة(3): إنا نلقي الحق على الباطل فيهلكه، والمراد به: إن حجج اللّه تعالى الدالة على الحق تبطل شبهات الباطل.

يقال: دَمَغَ الرجل إذا شجّ شجّة تبلغ أمّ الدماغ، فلا يحيا صاحبها بعدها.

وفي مجمع البحرين: فيدمغه أي يكسره، وأصله أن يصيب الدماغ بالضرب، والدامغ: المهلك، من دمغه دمغاً أي شجه بحيث يبلغ الدماغ فيهلكه(4).

وفي مجمع البيان: بل نورد الأدلة القاهرة على الباطل، وقيل: نرمي بالحجة على الشبهة، وقيل: بالإيمان على الكفر {فَيَدْمَغُهُ} أي يعلوه ويبطله، وقيل: يهلكه. {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي: هالك مضمحل(5).

ص: 83


1- سورة الأنبياء، الآية: 18.
2- المحاسن 1: 226.
3- التبيان في تفسير القرآن 7: 237.
4- مجمع البحرين 5: 8 مادة (دمغ).
5- تفسير مجمع البيان 7: 77.

فئات المجتمع

من المعلوم أنه في أي مجتمع من المجتمعات توجد فئات مختلفة، فهناك طبقة مستكبرة، وهناك طبقة مستضعفة، وثالثة: روحانية، وهي المتمثلة بالأنبياء والرسل(عليهم السلام) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) ورجال الدين وطلبة العلم الأتقياء الورعين، وطبقات أخرى وتقسيمات أُخَر.

فالطبقة المستكبرة عادةً تقوم بعملين:

أحدهما: سلب حقوق الآخرين وكبت حرياتهم.

وثانيهما: استثمار واستغلال طاقاتهم لصالحها بغير حق؛ وذلك لأجل إشباع شهواتهم وغرائزهم البهيمية، والعيش في رفاه وترف، حتى لو أدى ذلك إلى موت الآخرين من الجوع والمرض.

أما الطبقة الأخرى، وهي الطبقة الروحانية التي تتكون من الأنبياء(عليهم السلام) والعلماء الأتقياء الذين يسعون لإيجاد ونشر العدل والعدالة في المجتمع، وهؤلاء دائماً ضد الطبقة الأولى المستكبرة أو الظالمة، فالطبقة الروحانية تبذل الجهود الكبيرة، لأجل دفع المستكبرين عن استكبارهم وطغيانهم والدفاع عن المظلومين.

وأما الطبقة الثالثة: وهي الطبقة المحرومة والمستضعفة، والمغلوب على أمرها، والمسلوب حقها في الحياة الكريمة، فهي تنشد استرجاع حقوقها، وردع الظالمين والمستكبرين والمفسدين عنها، إلّا أنها في كثير من الأحيان تصاب بالخيبة لضعفها وعدم وجود من ينصرها ويدافع عنها بالقدر المطلوب، أو لوجود موانع في البين.

وهذه الطبقات الثلاث عادةً موجودة في مختلف المجتمعات.

فالطبقة المستضعفة غالباً ما تكون على إرتباط وثيق بالطبقة الروحانية التي تنادي بحقوقها وتناضل ضد استضعافها، وأحياناً يكون في بعض المجتمعات

ص: 84

إندماج كلي بين الطبقة الثانية والثالثة، فيتكون المجتمع من طبقتين فقط هما:الظلمة الطغاة، والمستضعفون. ولكن بشكل عام يمكن تقسيم الفئات الاجتماعية إلى ثلاثة أقسام، بل وأكثر بحسب الاعتبارات المختلفة.

وهنا لا بد من القول بخطأ ما ادّعاه ماركس(1) من أن المجتمع لا بد أن يكون طبقة واحدة، وليست هناك إلّا طبقتان: طبقة غنية وأخرى مستضعفة، فلا بد أن يُقضى نهائياً على الطبقة الغنية، وأن لا يبقى في المجتمع إلّا طبقة واحدة. فهو لا يعترف بوجود فئة ثالثة التي مهمتها تغذية الجانب الروحي للإنسان، وهذه الطبقة (رجال الدين الروحانيين) التي كانت موجودة تمارس دورها الفعال منذ أن خلق اللّه البشر على هذه الأرض، أي: منذ زمن نبي اللّه آدم(عليه السلام) وإلى يومنا هذا وحتى قيام الساعة. وقد ورد أن اللّه عزّ وجلّ بدأ بالخليفة قبل الخليقة(2).

والأنبياء المعصومون والائمة الطاهرون(عليهم السلام) والعلماء الصالحون كانوا دائماً من هذه الطبقة؛ فكانوا يسعون في استرداد الحق لأهله والدفاع عن المظلومين والمستضعفين والأخذ بأيدي جميع الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة، ومن هنا كان الظالمون يحاربونهم بكل حقد.

إن الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) ضحوا بأنفسهم في سبيل اللّه وإنقاذ المستضعفين، وقد أمرهم اللّه بذلك، وهذا واجب شرعي حتى إذا كان الإنسان بنفسه في مأمن من ظلم الظلمة ولم تسلب أمواله وحقوقه، فإنه مأمور بالدفاع عن الآخرين والمظلومين والمستضعفين.

قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

ص: 85


1- كارل ماركس: (1818- 1883م) فيلسوف اشتراكي ألماني.
2- انظر: كمال الدين 1: 4.

وَالْوِلْدَٰنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّاوَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}(1).

صراع الحق والباطل

وهكذا هناك صراع دائم بين الطواغيت والمؤمنين، بين جبهة الباطل وجبهة الحق، إنه صراع فئوي قديم، بين فئتين اجتماعيتين:

الأولى: تريد تفعيل الباطل بكل ألوانه وأشكاله، وتحارب الحق والعدل والمفاهيم السماوية.

والثانية: ترفض كل مظاهر الباطل، وتتمرد على كل أهداف الطغاة، مضحية بأغلى الدماء وأشرف النفوس وأطهر الأرواح وأثمن الرجال؛ من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، فهو صراع تاريخي لم تخلُ منه بقعة في عالم الإنسان على هذه البسيطة.

وقد أشار المولى عزّ وجلّ في كتابه الكريم إلى نتيجة الصراع الدائر بين هذه الطبقات، وخاطب أولئك الذين يزعمون بأن للباطل دولة مستمرة، وأن الحق سيُغلب، فقال عزّ من قائل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}(2)؛ ذلك لأن للحق صفعات قوية ضد الباطل، وأن الحق غير قابل للإنكسار والاندثار.

وقد قالوا: إن القذف هو رمي الشي من جانب إلى آخر(3). والدمغ في اللغة:

ص: 86


1- سورة النساء، الآية: 75.
2- سورة الأنبياء، الآية: 18.
3- قذف: قذف بالشيء يقذف قذفاً فانقذف: رمى، والتقاذف: الترامي. والقذف بالحجارة: الرمي بها. يقال: هم بين حاذفٍ وقاذفٍ وحاذٍ وقاذٍ على الترخيم، فالحاذف بالحصى، والقاذف بالحجارة. انظر: لسان العرب 9: 276 مادة (قذف).

هو ضرب دماغ الشخص الآخر، ورأسه بالحجارة أو باليد(1).

وربنا سبحانه يصوّر غلبة الحق وانتصاره على الباطل بهذه الصورة الجميلة والمتحركة التي تجعل القارئ يتصور الحق كأن له يداً قوية يضرب بها على رأس الباطل فيزيله من الوجود.

كيف يتكون الباطل؟

اشارة

قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا أيها الناس، إنما هو اللّه والشيطان، والحق والباطل، والهدى والضلالة، والرشد والغيّ، والعاجلة والآجلة والعاقبة، والحسنات والسيئات، فما كان من حسناتٍ فللّه، وما كان من سيئات فللشيطان لعنه اللّه»(2).

وهنا قد يتبادر إلى الذهن سؤال مهم:

كيف يتكون الباطل؟ ولماذا وجد الباطل في هذه الدنيا؟

وفي الجواب على ذلك نقول:

إن الإنسان بطبعه المختار - حيث خلقه اللّه عزّ وجلّ مختاراً - يحمل ميولاً مختلفة، ورغبات عارمة، وأماني لا حدود لها، بل وأطماعاً ربما تصل حد الخيال. لذا نرى بعض الناس لا يشبع ولايقنع ولا يكتفي أبداً، وهذه الميول والرغبات والشهوات إذا انفلتت من سيطرة العقل انطلقت في عالم الباطل، وكلما سخف عقل الإنسان سخفت أفعاله وأعماله وأقواله؛ لأن العقل عقال من الجهل، ومانع من الخطأ، وعاصم من النتائج السيئة، فإذا عطّل الإنسان عقله أو

ص: 87


1- الدمغ: كسر الصاقورة عن الدماغ، ودمغه: أصاب دماغه، ودمغه دمغاً: شجه حتى بلغت الشجة الدماغ، واسمها الدامغة، وفي حديث الإمام علي(عليه السلام): «دامغ جيشات الأباطيل» أي: مهلكها انظر: لسان العرب 8: 424 مادة (دمغ).
2- الكافي 2: 16.

أهمله أو أعطاه إجازة، فإن ذلك يعني بداية الباطل، وشروع حياة غير منتظمة، وسلوك لا متزن، وتصرفات غير واعية، وانطلاق للهوى بكل تفاصيله، فيخضع العقل للشهوات، لتبدأ الحياة الحيوانية جولتها، لأن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو العقل، فإذا انعدم الأخير أو انعدم تأثيره على سلوك الإنسان تحوّل إلى حيوان، فيبدأ يتحرك لإشباع شهواته وأهوائه، دونما حد أو حساب، وهذا هو الباطل.

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «لما خلق اللّه العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك، ولا أكملتك إلّا في من أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب وإياك أثيب»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل غطاء ستير، والفضل جمال ظاهر، فاستر خلل خلقك بفضلك، وقاتل هواك بعقلك، تسلم لك المودة وتظهر لك المحبة»(2).

وقال(عليه السلام): «لا عقل مع هوى»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «حرام على كل عقل مغلول بالشهوة أن ينتفع بالحكمة»(4).

وكذلك يتحرك الهوى بصورة لا تعرف التوقف فيسعى إلى امتلاك كل شيء حتى ولو لم يكن مشروعاً، وأكل كل ما يشتهي، ولبس كل ما يتمنى، ولا شك أن الطرق إلى تحقيق كل ذلك متعسرة غالباً، فيبدأ بطيّ المراحل عبر الباطل؛ فمثلاً: بدل أن يتزوّج الرجل وينعم بزوجة صالحة، رغم أنه قد يتكلف بعض التكاليف

ص: 88


1- الكافي 1: 10.
2- الكافي 1: 20.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 770.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 350.

المادية كتقديم المهر والنفقة وما أشبه، تراه يجنح عن الطريق السوي عبر أقصر الطرق وأسهلها - كما يتصور - فيسقط في وحل الزنا والفاحشة.

وبدل أن يعمل لتكون عنده أموال محللة، يقضي بها احتياجاته ومستلزماته المعيشية، كأن يشتري الطعام والملابس، نراه يقوم بسرقة الأموال لأنه يزعم بأنها أيسر عليه.

وهكذا باقي الانحرافات التي تدل على انحراف الشخص عن نور العقل والشرع، حتى يصل إلى قمة الباطل فيشرك باللّه العظيم ويخالف الأنبياء والأئمة المعصومين(عليهم السلام) ويقتل الأبرياء ويسحق الكرامات من أجل إشباع رغباته الشيطانية.

قمة الباطل

أما الطغاة الذين جلسوا على عروش الحكم ظلماً واستبداداً، فهؤلاء أسوأ حالاً؛ وهم في قمة الباطل، إنهم يذبحون الناس من أجل لذائذ بسيطة، ويريقون دماء المئات والآلاف من أجل شهوات قصيرة وأفكار ضالة.

قال تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}(1).

وهكذا تبدأ صورة الباطل تتحرك وتتفشى... .

الظلم عنوان الباطل

إن من أبرز مظاهر الباطل هو الظلم والتعسف والتعدي على حقوق الناس وأعراضهم. فيكون جلّ أهداف المبطلين هو الإفساد في كل شيء من أجل توفير كل ما يشتهونه.

ص: 89


1- سورة البقرة، الآية: 49.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «غرض المبطل الفساد»(1).

ولا يخفى أن الباطل يتشكل بألوان وأشكال مختلفة، ولعلها لكي تجذب المغفلين، ولذلك عندما يبدأ صراع الطبقة المستكبرة مع الطبقتين المحرومة والمؤمنة الروحانية، فإن قسماً كبيراً ممن يؤيدون صراع المستكبرين يتشكلون من المغفلين والهمج الرعاع.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن قلوب الجهال تستفزها الأطماع، وترتهنها المنى، وتستعلقها الخدائع»(2)(3).

الحق هو المنتصر

ولكن دائماً وأبداً تكون الحقائق هي صاحبة الانتصار والخلود والعمر المديد، لأنها تحفر لنفسها بيتاً في كل فؤاد واعٍ، وتجذّر نفسها بعمق، ولذلك تكون قوية منتصرة.

إن الحق ينحت في قلوب الفئات المؤمنة والمحرومة موضعاً يسكن فيه ويخلد، فينطلق مع الروح إذا ما ماتوا، ويبقى خالداً رغم جولات الباطل، لأن الباطل بكل أراجيفه إنما هو قشر وسطح لا يلبث أن يطير مع الريح، وينمحي في أول ضربة عليه من الحق. قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(4). وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ}(5). وقال تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ}(6). وقال سبحانه: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَٰطِلَ

ص: 90


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 474.
2- الاستفزاز أي: الاستخفاف، وترتهنها من الرهينة، وتستعلقها من عقل الشيء إذا ربطه.
3- الكافي 1: 23.
4- سورة الإسراء، الآية: 81.
5- سورة سبأ، الآية: 48.
6- سورة سبأ، الآية: 49.

وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(1).

وفي البحار عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لما ولد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ألقيت الأصنام في الكعبة على وجوهها، فلما أمسى سمع صيحة من السماء: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}»(2)(3).

وعن ابن مسعود قال: دخل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ} {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}»(4).

وقد ورد أنه دخل عبد المطلب(عليه السلام) بيت اللّه الحرام مع حفيده النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، فلما وضع رجله في البيت سمع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «بسم اللّه وباللّه» وإذا البيت يقول: السلام عليك يا محمد ورحمة اللّه وبركاته، وإذا بهاتف يهتف ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}»(5).

وفي قصة ولادة الإمام المهدي(عليه السلام) قال الإمام العسكري(عليه السلام) لعمته حكيمة(عليها السلام): «هاتي ابني إليّ» تقول: «فكشفت عن سيدي فإذا هو ساجد متلقياً الأرض بمساجده وعلى ذراعه الأيمن مكتوب: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(6) الحديث»(7).

ص: 91


1- سورة الشورى، الآية: 24.
2- سورة الإسراء، الآية: 81.
3- بحار الأنوار 15: 274.
4- بحار الأنوار 21: 106.
5- بحار الأنوار 15: 291.
6- سورة الإسراء، الآية: 81.
7- الغيبة للشيخ الطوسي: 239.

جولة ودولة

دخل شيخ كبير على الإمام الصادق(عليه السلام) فقال: يا أبا عبد اللّه، أشكو إليك ولدي وعقوقهم، وإخواني وجفاهم لي عند كبر سني!

فقال أبو عبد اللّه: «يا هذا إن للحق دولة، وللباطل دولة، وكل واحد منهما في دولة صاحبه ذليل، وإن أدنى ما يصيب المؤمن في دولة الباطل العقوق من ولده والجفاء من إخوانه، وما من مؤمن يصيبه شيء من الرفاهية في دولة الباطل إلّا ابتلي قبل موته إما في بدنه وإما في ولده وإما في ماله، حتى يخلصه اللّه مما اكتسب في دولة الباطل، ويوفر له حظه في دولة الحق، فاصبر وأبشر»(1).

قال الحق تعالى: {كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَٰطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}(2).

وقيل: للباطل جولة وللحق دولة(3).

ولا شك أن أهل الحق هم الأنبياء والأئمة الطاهرون(عليهم السلام) والعلماء الصالحون والشرفاء وبغاة الحرية، بينما أهل الباطل هم الذي تخلوا عن إنسانيتهم، وتحركوا بالحيوانية التي تكمن في داخلهم. يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «حق وباطل ولكل أهل»(4).

وقال تبارك وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي: ننصر الفئة المحقة على المستكبرين المبطلين {عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} حتى كأن ذلك يتم بسرعة المباغتة والمفاجأة.

ص: 92


1- الكافي 2: 447.
2- سورة الرعد، الآية: 17.
3- شرح نهج البلاغة 9: 73.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 351.

ثم يقول سبحانه في نفس الآية: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}(1) فالويل للكثير من الناس ممن لا يفهمون بأن الباطل زاهق، وأنه ليس إلّا كالطبل الفارغ، الذي وإن علا صوته وكبر حجمه، إلّا أنه إذا ثقب ينتهي مفعوله، فعلى الإنسان المؤمن أن لايخشى أراجيف المبطلين وأبواقهم، لأن سياسة المبطلين زائلة لامحالة، وما على المؤمن إلّا أن يقف بوجه مكائدهم الشيطانية.

الباطل والتعبئة ضد الإسلام

كما يلزم أن نعرف أن هناك الكثير من قوى الباطل في العالم وهي متعددة، قد حشدت قواها وطاقاتها ضد الإسلام والمسلمين، واستضعاف الشعوب وسلب حقوقهم، بأفكارهم الضالة، وأبواقهم الدعائية الماكرة، ووسائل إرهابهم وإرعابهم الجهنمية، وعبر عملائهم في بلادنا من الحكومات الاستعمارية.

نعم، تلك هي الحقيقة التي لا يجوز إغفالها، بل لايمكن تجاوزها والقفز عليها، فالعالم مليء بالتكتلات والقوى المنحرفة، وقد اتفقت على رفع حرابها في صدور ونحور المسلمين... فالإعلام لهم وهم المسيطرون عليه، فيظهرون أنفسهم من خلاله على أنهم مدافعون عن حقوق البشر، وهم يقتلون الآلاف من المسلمين المستضعفين في مختلف بقاع العالم، ثم يبررون ذلك بالضرورة ومقتضى الأمن. لكن إلقاء القبض على جواسيس الغرب والقتلة والسفاكين والإرهابيين جريمة عظمى بحق العالم والإنسانية!، لايمكن السكوت عليها وتستوجب إنزال أشد أنواع العقوبات على المسلمين، إنها جولة المستكبرين وأتباعهم.

الإسلام العزيز يقول: إذا كان للباطل جولة فإن للحق دولة، ويقول تبارك

ص: 93


1- سورة الأنبياء، الآية: 18.

وتعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَٰلِبُونَ}(1)، ولكن - لاشك - في أن ذلك إنما يتم بعد صراع مرير، ودماء زكية، ومواجهات حادة، وجهاد ثقافي وعلمي وسياسي واقتصادي وفي مختلف المجالات، دفاعاً عن الحق والحقيقة، وانتصاراً للمظلومين المضطهدين، حتى ينتصر المسلمون تحت راية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشريف، لتكون دولة الحق الإلهية، ونهاية جولة الباطل إلى الأبد، وما ذلك على اللّه بعزيز، وإنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً.

فئة المستضعفين

قلنا: إن المجتمع ينقسم - في بدو النظر - إلى ثلاث فئات، وإن فئة المستضعفين قد تتحد أحياناً مع فئة الروحانيين، لتشكل المواجهة ضد الطغيان، وقلنا أيضاً: إن المجتمع سوف يظهر على شكل فئتين فقط: فئة الحق، وفئة الباطل. ولكن هناك قسماً من المستضعفين لايحبهم اللّه؛ لأنهم يهربون من المواجهة والتصدي للطغاة تحت حجج وتبريرات عديدة.

يقول عزّ من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(2).

فإن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ} أي: تقبض الملائكة أرواحهم؛ فإن لملك الموت أعواناً كما ورد في السنة، ودلت عليه هذه الآية {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي: في حال كونهم ظالمين لأنفسهم؛ لأنهم بقوا في دار الهوان، حيث يسومهم الكفار العذاب، ويمنعونهم من الإيمان باللّه والرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، وقد كان

ص: 94


1- سورة الصافات، الآية: 173.
2- سورة النساء، الآية: 97.

بإمكان هؤلاء أن يهاجروا إلى دار الإيمان ويؤمنوا. ولعل الآية أعم منهم ومن المؤمنين الذي بقوا في دار الكفر ولا يتمكنون من إظهار واجبات الإسلام، والعمل بما أوجبه اللّه سبحانه {قَالُواْ} أي: قالت الملائكة لهم عند قبض أرواحهم {فِيمَ كُنتُمْ} أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ وهو إستفهام تقديري توبيخي {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} يستضعفنا أهل الشرك في بلادنا فلا يتركوننا لأن نؤمن، أو لا يتركوننا نعمل بالإسلام، {قَالُواْ} أي: قالت الملائكة لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} حتى تخرجوا من سلطة الكفار وتتمكنوا من العمل بالإسلام وبشرائعه {فَأُوْلَٰئِكَ} الذين سبق وصفهم {مَأْوَىٰهُمْ} مرجعهم ومحلهم {جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أي: أنها مصير سيء لعذابها وأهوالها(1).

نعم، يقول اللّه عزّ وجلّ عن هؤلاء المستضعفين إنهم ظالمي أنفسهم، واللّه لايحب الظلم بكل ألوانه، فأولئك الذين يقومون بتبرير تقاعسهم وسكوتهم بأنهم ضعفاء لا يقدرون على شيء - وهذا خلاف الواقع - فإننا نرى من خلال هذه الآية أن اللّه لا يقبل منهم العذر، لماذا؟

لأن الإنسان بإمكانه أن يغير الواقع الموجود من الظلم والطغيان، وذلك لوجود الإرادة عند كل فرد من البشر، واللّه يريد من الإنسان المؤمن أن يكون قوي الإرادة راسخ الإيمان، صلباً في خندق التحدي.

ولا يرضى للمؤمن أن يذل نفسه ويرضخ للظلم والجور.

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، ألم تسمع لقول اللّه عزّ وجلّ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ

ص: 95


1- تفسير تقريب القرآن 1: 529.

وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(1) فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً يعزه اللّه بالإيمان والإسلام»(2).

ثم إن هؤلاء الذين ادعوا أنهم مستضعفون، إذا لم يلتحقوا بفئة الإيمان والحق لمواجهة الطغاة، ولم يهاجروا من دولة الظلم، فإنهم وبلا شك سوف ينصهرون في دولة الباطل، بل ربما أصبحوا أداوات بيد الطغاة، ومنفذين لمشاريعهم الاستبدادية، لضعفهم وخوفهم من بطشه، فيفضّلون طاعة الظالمين ومسايرتهم على مواجهتهم والاعتراض عليهم، وبذلك ستكون هذه الفئة من المجتمع، قاعدة عريضةً تتحرك مع الطغاة وتكثّر للطاغية سواده وقواعده، ولو فرضنا أنها لم تساعده ولم تتحرك معه، إلّا أن سكوتها على أعمال الظالمين نوع تشجيع، فكأنها أيدت الظالمين والظلم بسكوتهم؛ تقول الآية: {فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(3)، حيث اعتبرهم اللّه عزّ وجلّ من أهل النار، وإن كانوا مؤمنين مؤدين للتكاليف، ولكن السكوت عن الظلم من أكبر القبائح والذنوب.

ولقد ذكر التأريخ كثيراً من مصاديق هذه الفئة المستضعفة!، فالذين كتبوا الرسائل لسيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) ودعوه للثورة على الظلم والاستبداد، وقفوا في معسكر بني أمية في كربلاء، ليقتلوه ويمنعوه الماء، هو وأطفاله وأصحابه الكرام، مع أنهم كانوا يصلون ويصومون، ويعرفون حق المعرفة أنه(عليه السلام) أمامهم وأنه ابن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

روى حذيم بن شريك الأسدي قال: لما أتى علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام) بالنسوة من كربلاء وكان مريضاً، وإذا نساء أهل الكوفة ينتدبن

ص: 96


1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- الكافي 5: 63.
3- سورة النساء، الآية: 97.

مشققات الجيوب، والرجال معهن يبكون، فقال زين العابدين(عليه السلام) بصوت ضئيل وقد نهكته العلة: «إن هؤلاء يبكون علينا فمن قتلنا غيرهم؟!».

فأومت زينب بنت علي بن أبي طالب(عليها السلام) إلى الناس بالسكوت، قال حذيم الأسدي: لم أر واللّه خفرة(1) قط أنطق منها، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي(عليه السلام) وقد أشارت إلى الناس بأن أنصتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثم قالت بعد حمد اللّه تعالى والصلاة على رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم):

«أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر والخذل، ألّا فلا رقأت(2) العبرة ولا هدأت الزفرة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، هل فيكم إلّا الصلف والعجب والشنف(3) والكذب وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة، ألّا بئس ما قدمت لكم أنفسكم، أن سخط اللّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون أخي؟!

أجل واللّه، فابكوا، فإنكم أحرى بالبكاء، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فقد أبليتم بعارها، ومنيتم بشنارها(4)، ولن ترحضوها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم، ومقر سلمكم، وآسي كلمكم، ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقاتلتكم، ومدرة حججكم، ومنار محجتكم. ألّا ساء ما قدمت لكم أنفسكم، وساء ما تزرون ليومبعثكم، فتعسا تعساً، ونكساً نكساً، لقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت

ص: 97


1- الخفر: شدة الحياء، وامرأة خفرة: حيية متخفرة. كتاب العين: ج4 ص253 مادة (خفر).
2- الختل: الخداع، رقأت: جفّت.
3- الصلف: الذي يمتدح بما ليس عنده، الشنف: البغض بغير حق، الغمز: الطعن والعيب، الدمنة: المزبلة.
4- الشنار: العار.

الصفقة، وبؤتم بغضب من اللّه، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

أتدرون ويلكم؛ أي كبد لمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) فرثتم؟ وأي عهد نكثتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي حرمة له هتكتم؟ وأي دم له سفكتم؟

لقد جئتم شيئا إدّاً، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض، وتخر الجبال هداً. لقد جئتم بها شوهاء صلعاء عنقاء سوداء فقماء خرقاء(1)، كطلاع الأرض، أو مل ء السماء، أفعجبتم أن تمطر السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنكم المهل، فإنه عزّ وجلّ لايحفزه البدار، ولا يخشى عليه فوت النار...»(2).

وهذه هي طبيعة فئة المستضعفين المتخاذلين.

فانظر إلى قبح عملهم وعظمة فعلهم، لا لشيء إلّا لأنهم جبناء، فقدوا إرادتهم، واستسهلوا الخضوع للظالمين، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، ورضوا أن يكونوا من أهل النار، باختيارهم السيئ وتفكيرهم الضحل، لأن لهم قلوباً لا يفقهون بها، وإيماناً متزلزلاً لا ينتفعون من آثاره: {فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(3).

حتى تنتصر فئة الحق

الحق قد لا يجد ناصراً، وربما كانت الفئة المحقة هي الأقلية، فالقرآن الكريمكثيراً ما يطرح مسألة: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(4).

ص: 98


1- الشوهاء: القبيحة، والفقماء: إذا كانت ثناياها العليا إلى الخارج فلا تقع على السفلى، والخرقاء: الحمقاء.
2- الاحتجاج 2: 303.
3- سورة النساء، الآية: 97.
4- سورة سبأ، الآية: 13.

أو {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْأخِرِينَ}(1).

أو: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ}(2).

إلى غير ذلك من الآيات التي توحي بأن فئة الحق قليلة، والباطل فئاته كثيرة، إلّا أن هذه الكثرة وتلك القلة لا تعني شيئاً بقدر ما تحمل الفئة الحقة من معان إيمانية روحية سامية، فعندما يتمسك المؤمنون باللّه، ويتوكلون عليه، ويجسدون العقيدة في أرض الواقع، نجدهم ينتصرون على كثرة الباطل، وليس هذا فحسب، بل ويزهقونه أيضاً؛ لأن دمغة الحق قوية جداً.

والتاريخ ملئ بالشواهد على ذلك:

فهذه معركة بدر... وأحد... والخندق... وحنين...

وكذلك على الصعيد الفردي، حيث ينتصر المؤمن على شيطانه، ويغلب هواه، ويعمل خالصاً لوجه اللّه تعالى.

كانتصار الإمام علي(عليه السلام) على عمرو بن عبد ودّ العامري حيث قام بقتله خالصاً لوجه اللّه عزّ وجلّ بعد أن تركه ومشى خطوات ليسكن غضبه. وأمثال ذلك كثير في قصص الأنبياء والأئمة والصالحين(عليهم السلام)... .

شروط الانتصار

اشارة

ولكي تحقق الفئة المؤمنة الانتصار دائماً وأبداً، وتكسب الميدان كله، وتمحقالباطل وتزهقه وتمحوه، لا بدّ من توفر عدة شروط في الفئة المحقة وأفرادها، نذكر شيئاً منها على سبيل المثال لا الحصر:

ص: 99


1- سورة الواقعة، الآية: 13-14.
2- سورة المؤمنون، الآية: 70.
1- الوعي السياسي

روى المفضل عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «يا مفضل، لا يفلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم، ويظفر من يحلم، والعلم جُنّة، والصدق عزّ، والجهل ذُلّ، والفهم مجد، والجود نجح، وحسن الخلق مجلبة للمودة، والعالم بزمانه لاتهجم عليه اللوابس، والحزم مساءة الظن... ومن هجم على أمرٍ بغير علمٍ جدع أنف نفسه، ومن لم يعلم لم يفهم، ومن لم يفهم لم يسلم، ومن لم يسلم لم يُكرم، ومن لم يُكرم يُهضم، ومن يُهضم كان ألوم، ومن كان كذلك كان أحرى أن يندم»(1).

لذا فإن من أهم الأمور التي يجب أن يتحلى بها الفرد المؤمن؛ الوعي السياسي. وذلك لأن مصيره سيكون تحت اللون السياسي الذي يحكم البلاد، بل وأمور معاشه خاضعة لسياسة الدولة؛ لأن الفرد يؤثر ويتأثر بسياسة بلده.

أما أنه يؤثر، فإنه إذا كان صاحب إرادة صلبة لا يخشى أي أحد، يعلن جهاراً: أن هذا باطل، وهذا فساد، وهذا ظلم، بل ويحشّد الآخرين حوله للجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويخوض الصعاب لمواجهة الباطل، وبهذا الشكل فهو يؤثر في سياسة البلد، لاسيّما إذا كان المعترض حزباً أو كتلة أو جمعية.

وأما أنه يتأثر بسياسة الدولة، فإن الأخيرة تفرض أحكاماً وضعية خاصة، تحكمالفرد والمجتمع ككل، فيتأثر منها، وربما تسيئ إلى معاشه أيضاً.

فيلزم أن يتحلى المؤمن بالدراية والوعي بما يتعلق بالسياسة الإقليمية والدولية، وما يدور حوله، وما يجري بين يديه وخلفه، ويطلع على ألوان

ص: 100


1- الكافي 1: 26.

السياسة الحاكمة في العالم، ونقاط الضعف ومراكز القوة فيها، فيقرأ الاشتراكية والرأسمالية ومساوءهما، فإنه بدون الإطلاع والمعرفة لا يمكنه أن يكتشف السلبيات ونقاط الضعف في سياسة الدولة ومخططات الحكّام، وبالتالي تمرّ عليه ألوان من الخدع والأكاذيب عبر أشكال من الاستبداد المقنّع والمقنّن. وحينذاك سوف لا يعترض أبداً، لأنه لايدري ماذا يحصل وماذا حصل؟

أما إذا تحلى بالمعرفة والوعي السياسي، فإنه يدرك تحركات الدولة ومخططات الحكومات وما تريده الأحزاب والحركات، وما أشبه، ويقرأ ما وراء السطور، فيحصّن نفسه ومجتمعه من مكرها ومخططاتها الشيطانية.

2- الإرادة الصلبة

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصالٍ: وقوراً عند الهزاهز، صبوراً عند البلاء، شكوراً عند الرخاء، قانعاً بما رزقه اللّه، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعبٍ، والناس منه في راحةٍ»(1).

من أهم ما يلزم أن يتصف به المؤمن والفئة المحقة هي الإرادة الصلبة، فإنها من أهم صفات النجاح، وهي شرط لكي لا ينثني الإنسان أمام الأزمات والشدائد التي تعصف به وبالمجتمع الاسلامي.

فالإرادة تعني قوة الإيمان، والثقة باللّه، وقوة النفس، والصبر والصلابة فيمواجهة الضعوط والمشاكل... وبالإرادة يرسم الإنسان مصيره ويخط لون حياته، وبها يختار اختياراته الصحيحة الصائبة، وبالإرادة تتحرك الأمم وتطالب بالتحرر من وطأة المستعمرين.

ص: 101


1- الكافي 2: 47.

ولذلك عندما جاء الاستعمار والطواغيت، حاولوا دائماً أن يذوّبوا إرادة الإنسان، ويقهروها بالإرهاب والظلم، حتى إذا ما انتهت واضمحلت الإرادة صار الإنسان كالحيوان، بل ربما أشد حمقاً وغباءً، وأشد ظلماً وتعسفاً كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(1).

نعم، إذا انعدمت الإرادة وصودرت، ساء الاختيار لدى الإنسان، وعليه تسوء كل أفعاله وأقواله وأعماله، فيخضع للظالمين، ويأتي بكل ما يملونه عليه؛ لأنه فقد جوهر التصدي والمواجهة بفقد إرادته، فهو لا يقدر أن يصمم، ولا يقدر أن يتخذ لنفسه قراراً، بل ينتظر دائماً من الآخرين أن يقرروا له ويحرّكوه فيتحرك كالدُمية، وهكذا يسيطر الشيطان عليه.

فمن أجل أن يبقى المؤمن حراً قوياً صلباً في طريق الحق، عليه أن يقوي من إرادته الإيمانية، ولا يتنازل عنها، مهما كانت الضغوط والمشاكل والعقبات.

وطريق تقوية الإرادة هو الإنقطاع إلى اللّه عزّ وجلّ، والنظر إليه سبحانه بعين الواثق المطمئن، والمواصلة في العبادة والطاعة، والاستغراق في حب اللّه تبارك وتعالى، ودعائه والتوكل عليه، وتوكيل كافة الأمور إليه عزّ وجلّ، فهو تعالى صاحب التأثير المطلق في الوجود.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «مثل المؤمن القوي كالنخلة، ومثل المؤمن الضعيفكخامَة(2) الزرع»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المؤمن بُشره في وجهه، وحُزنه في قلبه، أوسع

ص: 102


1- سورة الفرقان، الآية: 44.
2- الخامَة: الغظة الليلنة من الزرع.
3- جامع الأخبار: 183.

شي ء صدراً، وأذلّ شي ء نفساً، يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويلٌ غمّه، بعيدٌ همّه، كثيرٌ صمته، مشغولٌ وقته، شكورٌ صبور، مغمورٌ بفكرته، ضنينٌ بخَلَّته، سهل الخليقة، لين العريكة، نفسه أصلب من الصلد(1)، وهو أذل من العبد»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن له قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط في هُدى، وبرّ في استقامة، وعلم في حلم، وكيس في رفق، وسخاء في حق، وقصد في غنى، وتجمل في فاقة، وعفو في قدرة، وطاعة للّه في نصيحة، وانتهاء في شهوة، وورع في رغبة، وحرص في جهاد، وصلاة في شغل، وصبر في شدة، وفي الهزاهز وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور... لا يُرى في حكمه نقص، ولا في رأيه وهن، ولا في دينه ضياع، يرشد من استشاره ويساعد من ساعده، ويكيع عن الخنا والجهل»(3).

3- نشر القيم والفضائل

على الفئة المؤمنة الروحانية المتمثلة بالعلماء الصالحين بأصنافهم كافة، علماء اجتماع، علماء نفس، علماء دين... أن ينشروا المفاهيم الإنسانية، والقيم والفضائل، التي تهذب الشعوب، وتفعّل فيها الأخلاقيات والملاكات الخيرة،وأن يتعاونوا على البر والتقوى والعمل الصالح، ويظهروا الإحترام للفرد والمجتمع ليتحسس الإنسان بإنسانيته، فإن الطواغيت طالما استهزؤوا واستخفوا بالجماهير.

كما أن على هذه الفئة أن تغذي الأفراد بالأفكار الصحيحة التي تزيد من

ص: 103


1- ضنين: بخيل؛ الخَلّة: الحاجة؛ الخليقة: الطبيعة؛ العريكة: النفس؛ الصلد: الحجر الصلب.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 333.
3- الكافي 2: 231.

وعيهم الأخلاقي والثقافي والعقائدي، وتثقفهم بالدين ومسائله، وتظهر لهم العقيدة الإسلامية بأجلى صورها الواضحة، وتجذرها في قلوبهم، لينطلقوا في أجواء العلم والمعرفة.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «جاء رجل إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، ما العلم؟ قال: الإنصات. قال: ثم مه؟ قال: الاستماع. قال: ثم مه؟ قال: الحفظ. قال: ثم مه؟ قال: العمل به، قال: ثم مه يا رسول اللّه؟ قال: نشره»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «زكاة العلم نشره... زكاة العلم بذله لمستحقه، وإجهاد النفس في العمل به»(2).

وقال(عليه السلام): «الكاتم للعلم غير واثق بالإصابة فيه»(3).

وقال(عليه السلام): «جمال العلم نشره، وثمرته العمل به، وصيانته وضعه في أهله»(4).

وقال(عليه السلام): «شكر العالم على علمه عمله به وبذله لمستحقه»(5).

وبما سبق وبمراعات سائر شروط الانتصار، يمكن لفئة الحق أن تنتصر على فئة الباطل، وأن تغلق المنافذ التي يمر عبرها الطاغوت ويمرر ألاعيبه منخلالها، من منافذ الجهل والابتعاد عن الدين، لأن الجهل عامل قوي لاستعمار الشعوب، والابتعاد عن الدين وعن اللّه عامل أقوى لكي تبقى الشعوب تحت ذل المستكبرين. فإن الإيمان باللّه يدعو الإنسان إلى التحرر من كل عبودية، سوى العبودية للّه عزّ وجلّ، ويوجب الانقضاض على الظالمين، لأن اللّه لا يحب

ص: 104


1- الكافي 1: 48.
2- مستدرك الوسائل 7: 46.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 338.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 407.

الظلم بعد أن كتب على نفسه الرحمة.

يقول الإمام زين العابدين(عليه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق:

«اللّهم صل على محمد وآله، ولا أُظلمنّ وأنت مطيق للدفع عني، ولا أُظلمنّ وأنت القادر على القبض مني، ولا أَضلّنّ وقد أمكنتك هدايتي، ولا أفتقرنّ ومِن عندك وسعي، ولا أطغينّ ومِن عندك وجدي، اللّهم إلى مغفرتك وفدتُ، وإلى عفوك قصدتُ، وإلى تجاوزك اشتقتُ»(1) بحق محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

التمسك بالدين شرط الانتصار

قال تعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(2).

وقال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}(5).

الصمود والاستقامة في العمل

قال اللّه تعالى: {أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ}(6).

ص: 105


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة يوسف، الآية: 40.
3- سورة الروم، الآية: 30.
4- سورة آل عمران، الآية: 85.
5- سورة الشورى، الآية: 13.
6- سورة فصلت، الآية: 6.

وقال سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَأَلَّوِ اسْتَقَٰمُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّاءً غَدَقًا}(3).

الوعي والبصيرة

قال اللّه تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ}(4).

وقال سبحانه: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}(5).

وقال عزّ وجلّ: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(6).

عاقبة الظلم والظالمين

قال جلّ وعلا: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّٰلِمِينَ}(7).وقال اللّه تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}(8).

وقال سبحانه: {مَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ حَمِيمٖ وَلَا شَفِيعٖ يُطَاعُ}(9).

ص: 106


1- سورة هود، الآية: 112.
2- سورة الأحقاف، الآية: 13.
3- سورة الجن، الآية: 16.
4- سورة الأنعام، الآية: 104.
5- سورة يوسف، الآية: 108.
6- سورة الحاقة، الآية: 12.
7- سورة الأعراف، الآية: 44.
8- سورة الفرقان، الآية: 37.
9- سورة غافر، الآية: 18.

وقال عزّ وجلّ: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(1).

وقال جلّ وعلا: {أَلَا إِنَّ الظَّٰلِمِينَ فِي عَذَابٖ مُّقِيمٖ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

التمسك بالدين شرط الانتصار

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «ملاك الدين الورع، ورأسه الطاعة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الدين أقوى عماد»(4).

وقال(عليه السلام): «الدين يَعصِم»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «وحُبنا أهل البيت نظام الدين»(6).

الصمود والاستقامة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العمل العمل، ثم النهاية النهاية، والاستقامة الاستقامة...»(7).

وقال(عليه السلام): «من طلب السلامة لزم الإستقامة»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن له قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط في هدى، وبرّ في استقامة...»(9).

ص: 107


1- سورة غافر، الآية: 52.
2- سورة الشورى، الآية: 45.
3- مكارم الأخلاق: 468.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 35.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 17.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 296.
7- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهي عن البدعة.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 593.
9- الكافي 2: 231.

الوعي والبصيرة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين: عالم مطاع، أو مستمع واعٍ»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية»(2).

وقال(عليه السلام):«من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «دعامة الإنسان العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالماً حافظاً ذاكراً فطناً فهماً، فعلم بذلك كيف ولم وحيث، وعرف مَن نصحه ومَن غشّه، فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله، وأخلص الوحدانية للّه والإقرار بالطاعة، فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات، ووارداً على ما هو آتٍ، يعرف ما هو فيه، ولأي شي ءٍ هو هاهنا، ومن أين يأتيه، وإلى ما هو صائر، وذلك كله من تأييد العقل»(4).

عاقبة الظلم والظالمين

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «وإياكم والظلم، فإن الظلم عند اللّه هو الظلمات يوم القيامة»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الظلم في الدنيا بوار وفي الآخرة دمار»(6).

ص: 108


1- الكافي 1: 33.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 239 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها آل محمد(صلی الله عليه وآله وسلم).
3- الكافي 8: 23.
4- الكافي 1: 25.
5- الخصال 1: 176.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 90.

وقال(عليه السلام): «ظالم الناس يوم القيامة منكوب بظلمه معذّب محروب»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما أحد يظلم بمظلمة إلّا أخذه اللّه بها في نفسه وماله...»(2).

ص: 109


1- عيون الحكم والمواعظ: 324.
2- الكافي 2: 332.

القرآن منهج وسلوك

الدستور الكامل للبشر

اشارة

قال سبحانه وتعالى: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(1).

فإن {هَٰذَا} القرآن الذي أنزل إليك {بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ} جمع بصيرة، فكما أن البصيرة في الإنسان كاشفة له طريق الفلاح، كذلك القرآن كاشف طريق السعادة، أي: بينات تبصرهم أمورهم، {وَهُدًى} أي: هداية إلى الطريق {وَرَحْمَةٌ} أي: فضل وترحم، يرحمهم اللّه به إذ يريهم السعادة الأبدية {لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ} به ويعلمون أنه الحق، وإنما خصهم لأنهم المنتفعون، أما غيرهم فهم في ضلال ونقمة(2).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ اللّه سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنّه حبل اللّه المتين وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب وينابيع العلم، وما للقلب جلاءٌ غيره»(3).

فقد أنزل اللّه سبحانه وتعالى كتابه العزيز على رسوله الأمين(صلی الله عليه وآله وسلم) دستوراً دائماً لبني البشر، ملبياً فيه جميع طلباتهم على مرّ العصور والأزمنة إلى يوم

ص: 110


1- سورة الجاثية، الآية: 20.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 5: 108.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.

القيامة، إنه لم يدّخر صغيرة ولا كبيرة من شأنها أن تصلح بال البشر، إلّا أحصاها لهم، وبيّنها بمختلف الحالات والسبل، لكي يتبين الرشد من الغي، وتتم الحجة للّه على الناس أجمعين، وذلك بعد أن رسم لكل من المخلوقات طريق سلوكه وما يحتاج إليه في مختلف مجالات الحياة.

ثم إن الأسلوب الذي جاء به القرآن من بسيط في المنهج، وسلس في البيان، ومطابق للفطرة الإنسانية، إلّا أنه بالنسبة إلى الأطر التي بناها قاطع وصارم، فمبانيه صارمة ومرنة في آن واحد. فمن حيث وضوح المضمون نجد أنّ إلى جانب وضوح كلّ قاعدة نوعاً من التحصين الذي يقف في مواجهة الفوضى والأهواء، ولكنّها تترك لكل فرد حرياته المشروعة، وتكيّفه في نطاقه على مثله الأعلى، وبهذه الطريقة كان قد بلغ القرآن درجة الكمال العليا، التي لا يمكن لغيره أن يصلها، كيف لا؟ وهو الطريق الأقوم الذي رسمه اللّه سبحانه وتعالى للبشر.

قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}(1).

فإن الذي يهدي إليه القرآن أقوم وأكمل مما يهدي إليه غيره من الكتب.

قال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(2)

فمجرى السنّة الإلهية قد تمثل في القرآن من حيث هداية الإنسان إلى سبيل الحق.

ص: 111


1- سورة الإسراء، الآية: 9.
2- سورة الأنعام، الآية: 161.

قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).

فإن معنى: {يَهْدِي بِهِ} أي: بكل واحد من النور والكتاب، كما قال سبحانه: {فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}(2) أي كل واحد منهما {اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ} أي: من اتبع رضوان اللّه - أي رضاه - بقبول القرآن ونبوة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) {سُبُلَ السَّلَٰمِ} أي: طُرُق السلامة في كل شيء، السلامة في الدين، والسلامة في الدنيا، والسلامة في الآخرة للفرد وللمجتمع،{وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ} فإن الحياة ظلمات لا يدري الإنسان كيف يسير في دروبها، وبالقرآن والنبي يهتدي إلى الحق ويُنير طريقه {بِإِذْنِهِ} بإذن اللّه ولطفه {وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ} يوصلهم إلى سعادة الدنيا والآخرة(3).

القرآن سبب للهداية

ورد عن علي بن عقبة عن أبيه قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «اجعلوا أمركم للّه ولا تجعلوه للناس؛ فإنه ما كان للّه فهو للّه وما كان للناس فلا يصعد إلى اللّه، ولا تخاصموا الناس لدينكم؛ فإن المخاصمة ممرضةٌ للقلب، إن اللّه تعالى قال لنبيه(صلی الله عليه وآله وسلم): {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(4) وقال: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(5) ذروا الناس، فإن الناس أخذوا عنالناس، وإنكم أخذتم عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إني سمعت أبي(عليه السلام) يقول:

ص: 112


1- سورة المائدة، الآية: 16.
2- سورة البقرة، الآية: 259.
3- تفسير تقريب القرآن 1: 621.
4- سورة القصص، الآية: 56.
5- سورة يونس، الآية: 99.

إن اللّه عزّ وجلّ إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع إليه من الطير إلى وكره»(1).

نعم، ما من شك في أن الهداية من اللّه سبحانه، وإنما الهداة: القرآن الحكيم والرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت الطاهرون(عليهم السلام)، وسيلة وظرف للفيض الإلهي ولتبليغ أوامر اللّه عزّ وجلّ كما قال جلّ وعلا: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(2).

وفي تفسير هذه الآية المباركة نقول: بيّن اللّه تبارك وتعالى أن الكفار الذين لا يؤمنون ليس على الرسول حسابهم، حتى يجهد نفسه لكي يهديهم، بل إنما عليه البلاغ ف{إِنَّكَ} يا رسول اللّه {لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي لا تتمكن من هداية من تحب أن يهتدي من الناس، فإن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يحب هداية عمه أبي لهب وغيره من أشراف قريش، بل الناس أجمعين، ولكنه لم يكن يتمكن من ذلك، والمراد بالهداية العمل الذي يجبرهم على الإسلام، لا مجرد إراءة الطريق، {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} بأن يلطف به الألطاف الخفية حيث يراه مستعداً للإيمان مهيئاً نفسه للإذعان، فإرائة الطريق من اللّه والرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) عامة لكل أحد. أما الألطاف الخفية فالرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) لا يقدر عليها واللّه قادر عليها، لكنه إنما يلطف بها على من أعد نفسه وأخذ يأتي في الطريق. ولعل ممن تنطبق هذه الآية الكريمة عليه هو (سيد قطب) صاحب كتاب (في ظلال القرآن) الذي لم يهتدبنور الإيمان؛ إذ ملأ قلبه بالحقد والغل للرسول وآله وذويه(عليهم السلام)، فتراه في عرض تفسيره وطوله ينتقص من الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وعمه(عليه السلام) وسائر ذوي قرابته في

ص: 113


1- الكافي 1: 166.
2- سورة القصص، الآية: 56.

لفائف من الكلام المزيف بالتقليد الأعمى عن الأمويين أعداء اللّه والرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) والشجرة الملعونة في القرآن، فقد أخذ يطبق هذه الآية الكريمة على أبي طالب(عليه السلام)، مع أنه قد ورد من طرق العامة والخاصة أن أبا طالب من أول المؤمنين بالرسول، ولو كان أبو طالب أباً لأحد كبرائهم لأهالوه بمقام الملائكة المكرمين، لكن ذنبه الوحيد أنه أبو علي أمير المؤمنين(عليه السلام) (1). وماذا يقال في من يطبق آية {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ}(2) على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، ليبرئ ساحة عثمان الذي وردت فيه الآية، وهكذا وهلم جرا، وقد صدق اللّه سبحانه حيث يقول: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وهل من محمل لعمل من يخوض دقائق الأمور، فيعرف الشعرة في الليل المظلم، ثم لا يرى الشمس الضاحية في وسط السماء، إلّا العناد، وإنه استحق عليه كلمة العذاب؟ وقد كنت أريد أن أنزه هذا السفر عن مثل هذه الأمور لكن غلو (قطب) جرني إلى ذلك فإنه أتى بكل ما لفقته الأموية النكراء، ولكن في لفائف حريرية، وقفازات براقة، فيظن الغير أنه بريء عن العصبية الجاهلية {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ}(3) و{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(4) أي: القابلين للهداية، أو الذين اهتدوا فيجازيهم حسب علمه(5).

إذن، هناك أسباب ظاهرية لهذه الهداية ومن هذه الأسباب القرآن الكريم، فقد فرض اللّه (جلت عظمته) على الناس العلم والعمل بما في القرآن الكريم، فلا

ص: 114


1- للتفصيل انظر: (إيمان أبي طالب) شمس الدين أبي علي بن فخار بن معد الموسوي المتوفى (630ه).
2- سورة عبس، الآية: 1.
3- سورة الشعراء، الآية: 227.
4- سورة الأنعام، الآية: 117.
5- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 164.

عذر لهم في تركه بعد أن وفر لهم من يعينهم على ذلك وهم الرّسول وأهل بيته(عليهم السلام) التراجمة والمفسرون له. فقد قال سبحانه وتعالى: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(1).

وقال تبارك تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(2).

وقد فرض اللّه على العباد طاعتهم ولم يفرض طاعة غير من اصطفاه وطهره، فمن خالف اللّه تعالى ورسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وأسند أمره إلى غير المصطفين خسر دنياه وآخرته.

قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}(3).

فإن قوله تعالى: {يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ} أي: أسفاً وندماً لما سبق منه من الظلم، والعض هو الأخذ بالأسنان، وكأن المتندم إنما يفعل ذلك لإرادة إيلام جسمه انتقاماً لما صدر منه مما ألقاه في هذا الندم، والعض على اليدين في الندم الشديد {يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} أي: ليتني اتبعت محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) واتخذت معه في سبيل الهداية حتى لا أبتلي بهذا اليوم العصيب(4).

أهل البيت(عليهم السلام) والقرآن

في الحديث الشريف وفي تفسير الآية التي مرت {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ

ص: 115


1- سورة النحل، الآية: 43.
2- سورة فاطر، الآية: 32.
3- سورة الفرقان، الآية: 27.
4- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 9.

الذِّكْرِ} ورد عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): «إن من عندنا يزعمون أن قول اللّه عزّ وجلّ: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(1) أنهم اليهود والنصارى، قال: إذاً يدعونكم إلى دينهم - قال: - قال بيده إلى صدره: نحن أهل الذكر ونحن المسئولون»(2).

وعن عبد اللّه بن عجلان عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

قال(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): الذكر أنا والأئمة أهل الذكر».

وقوله عزّ وجلّ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسَْٔلُونَ}(3).

قال أبو جعفر(عليه السلام): «نحن قومه ونحن المسئولون»(4).

أما وصي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين(عليه السلام) ففي الروايات أنه المخصوص في الآية السابقة بكلمة (السبيل) حيث قال تعالى: {يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}(5)، حيث قال (صلوات اللّه وسلامه عليه) في خطبة له(عليه السلام): «فأنا الذّكر الّذي عنه ضلّ، والسّبيل الّذي عنه مال، والإيمان الّذي به كفر، والقرآن الّذي إيّاه هجر، والدّين الّذي به كذّب، والصّراط الّذي عنه نكب»(6).

وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: وفد على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أهل اليمن،فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «جاءكم أهل اليمن يبسون بسيسا»(7) فلما دخلوا على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «قوم رقيقة قلوبهم، راسخ إيمانهم، ومنهم المنصور يخرج في

ص: 116


1- سورة النحل، الآية: 43.
2- الكافي 1: 211.
3- سورة الزخرف، الآية: 44.
4- الكافي 1: 211.
5- تفسير القمي 2: 112.
6- الكافي 8: 28.
7- بسست الناقة وأبسستها إذا سقتها وزجرتها وقلت لها: بِس بِس - بكسر الباء - ، انظر: لسان العرب 6: 27 مادة (بسس). وفي بحار الأنوار 36: 114، «يبشون بشيشاً» من البشاشة أي طلاقة الوجه.

سبعين ألفا ينصر خلفي وخلف وصيي، حمائل سيوفهم المسك».

فقالوا: يارسول اللّه، ومن وصيك؟

فقال: «هو الذي أمركم اللّه بالاعتصام به، فقال جلّ وعزّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}»(1).

فقالوا: يا رسول اللّه، بين لنا ما هذا الحبل؟

فقال: «هو قول اللّه: {إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ}(2) فالحبل من اللّه كتابه والحبل من الناس وصيي».

فقالوا: يا رسول اللّه، من وصيك؟

فقال: «هو الذي أنزل اللّه فيه: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}»(3).

فقالوا: يا رسول اللّه، وما جنب اللّه هذا؟

فقال:«هو الذي يقول اللّه فيه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}(4) هو وصيي والسبيل إلي من بعدي».

فقالوا: يا رسول اللّه، بالذي بعثك بالحق نبيا أرناه فقد اشتقنا إليه؟

فقال: «هو الذي جعله اللّه آية للمؤمنين المتوسمين، فإن نظرتم إليه نظر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عرفتم أنه وصيي، كما عرفتم أني نبيكم، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه، فمن أهوت إليه قلوبكم فإنه هو؛ لأن اللّه عزّ

ص: 117


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- سورة آل عمران، الآية: 112
3- سورة الزمر، الآية: 56.
4- سورة الفرقان، الآية: 27

وجلّ يقول في كتابه: {فَاجْعَلْ أَفِْٔدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}(1) أي: إليه وإلى ذريته(عليهم السلام)» ثم قال: فقام أبو عامر الأشعري في الأشعريين، وأبو غرة الخولاني في الخولانيين، وظبيان وعثمان بن قيس في بني قيس، وعرنة الدوسي في الدوسيين، ولاحق بن علاقة، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه وأخذوا بيد الأنزع الأصلع البطين، وقالوا: إلى هذا أهوت أفئدتنا يا رسول اللّه.

فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «أنتم نجبة اللّه حين عرفتم وصي رسول اللّه قبل أن تعرفوه، فبم عرفتم أنه هو؟»

فرفعوا أصواتهم يبكون ويقولون: يا رسول اللّه، نظرنا إلى القوم فلم تحن لهم قلوبنا، ولما رأيناه رجفت قلوبنا ثم اطمأنت نفوسنا وانجاشت أكبادنا وهملت أعيننا وانثلجت صدورنا، حتى كأنه لنا أب ونحن له بنون.

فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(2) أنتم منهم بالمنزلة التي سبقت لكم بها الحسنى، وأنتم عن النار مبعدون».

قال - جابر - : فبقي هؤلاء القوم المسمَّون حتى شهدوا مع أمير المؤمنين(عليه السلام) الجمل وصفين فقتلوا بصفين رحمهم اللّه، وكان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بشرهم بالجنةوأخبرهم أنهم يستشهدون مع علي بن أبي طالب(عليه السلام) (3).

كيف لا؟! وهو باب مدينة العلم المتمثلة بالرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقد قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(4) فاللازم التمسك بالقرآن والعترة معاً، كما صرح بذلك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل

ص: 118


1- سورة إبراهيم، الآية: 37
2- سورة آل عمران، الآية: 7.
3- الغيبة للنعماني: 39.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 345.

بيتي إن تمسكتم بهم لن تضلوا...»(1).

القرآن في الروايات

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يضل، والمحدّث الذي لا يكذب»(2).

وقال(عليه السلام): «اتبعوا النور الذي لا يطفأ، والوجه الذي لا يبلى، واستسلموا وسملوا لأمره، فإنكم لن تضلوا مع التسليم»(3).

وقال(عليه السلام): «من اتخذ قول اللّه دليلاً هدي إلى التي هي أقوم»(4)

إشارة إلى الآية الشريفة: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(5) ومن اهتدى للتي هي أقوم عاش سعيداً ومات حميداً، فهو سعيد في الدارين.

ومن هنا ورد في الأدعية المأثورة: «اللّهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ونفسي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لكسميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وشفاء صدري، وذهاب غمي، وجلاء حزني، يا أرحم الراحمين»؛ فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما أصاب أحداً هم أو غم... - الدعاء - إلّا أذهب اللّه غمه ونفّس كربه وقضى حوائجه»(6).

ص: 119


1- كفاية الأثر: 163.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176 من خطبة له(عليه السلام) فيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 155.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 111.
5- سورة الإسراء، الآية: 9.
6- إرشاد القلوب 1: 81.

التدبر في القرآن

اشارة

قال تبارك وتعالى: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ألّا أخبركم بالفقيه حق الفقيه: من لم يقنط الناس من رحمة اللّه، ولم يؤمنهم من عذاب اللّه، ولم يرخص لهم في معاصي اللّه، ولم يترك القرآن رغبة عنه في غيره، ألّا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألّا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألّا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر»(4).

نعم، بعد كل ذلك التأكيد والتحريض على التدبر حري بنا أن نبذل ما بوسعنا للتدَّبر في القرآن، لا مجرد القراءة فقط، وللأسف فإن البعض في زماننا هذا، يقرأ القرآن أو يستمع إلى تلاوته، لكن كقالب بلا روح، وكحروف بلا معان، وكلمات بلا مفهوم، وبالنتيجة فإنهم لا يفهمون من القرآن شيئاً، مع أن الفهم هو المقدمة الطبيعية للعمل، خلاف ما كان يحصل لدى المسلمين القدماء الذين كانوا لا يقرأون آية إلّا وتفكروا فيها حتى يفهموها الفهم الكامل؛ وذلك لأنهم كانوا

ص: 120


1- سورة ص، الآية: 29.
2- سورة النساء، الآية: 82.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 318.
4- الكافي 1: 36.

يمتازون بميزات عديدة عن المسلمين في عالمنا اليوم، وممكن أن تكون هذه الميزات هي بعض أسباب الانفصال الذي يحصل بين بعض المسلمين وبين القرآن.

ومن ضمن هذه الأسباب: عدم وضوح الرؤية، فإن البعض قد ارتكزت في ذهنه فكرة:أن القرآن بعيد عن الإدراك البشري، وذلك من حيث أنه كلام اللّه العليم الخلاق اللامتناهي، وكلام مثله سبحانه يجلّ عن أن يدركه مخلوق ضعيف وجاهل مثل الإنسان.

ولعل هذا التصور ناتج من: عدم الاستعداد الفكري؛ إذ عدم الاستعداد للتدبر في القرآن له دور مؤثر في فصل فهم روح القرآن عند البعض، فإن من يودّ أن تأتيه اللقمة سائغة من دون أن يجهد نفسه بعض الشيء في تحصيلها لا يصل إلى ما يريد، وكذلك فإن ابتعاد الجيل المسلم المعاصر عن اللغة العربية الأصلية، كان له دور كبير في عدم فهم الآيات القرآنية.

وبما أن الفهم أساس العلم فالمسلمون حيث لم يفهموا القرآن ابتعدوا عنه كثيراً.

فهذه جملة أسباب يمكن الوقوف عندها ومعالجتها بالشكل الصحيح، كييعود المبتعدون عن القرآن إلى رشدهم، ولكي ترتفع الشبهات التي تجول في أذهانهم.

علماً بأن اللّه عزّ وجلّ قد جعل للقرآن من يفسر آياته ويبينها وهم رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام).

القرآن للجميع

قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ وَلَئِن جِئْتَهُم

ص: 121

بَِٔايَةٖ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) مبيناً حقيقة القرآن: «نور لمن استضاء به، وشاهد لمن خاصم به، وفلج لمن حاج به، وعلم لمن وعى، وحكم لمن قضى»(2).

ولا يخفى أن القرآن الكريم هو رسالة اللّه للإنسان في الأرض، ومن الطبيعي أن تكون الرسالة متناسبة مع فهم المرسل إليه، وفي حدود مدركاته؛ ولذا نرى أنّ معظم خطاباته جاءت موجهة لعامة الناس، من قبيل قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ} و: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} ومن الضروري أن يكون هؤلاء المخاطبون قادرين على فهم هذه الخطابات أو بعضها إن لم نقل أجمعها - ولو بالرجوع إلى من عيّنهم اللّه لتفسيرها، فهذا لا يعني عدم لزوم الرجوع إلى أهل الذكر في تفسير الآيات، بل المقصود أن القرآن نزل للجميع وليس لفئة خاصة محددة من البشر، وبإمكان الجميع أن يتدبروا في القرآن ويدركوا مفاهيمه بحسب تفاوت قدراتهم العلمية، نعم هناك آيات متشابهات، أو مؤولات، يكون الإنسان بحاجة إلى مراجعة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام) في معرفة المقصود منها.

من خصائص القرآن

إن من الميزات والخصائص التي يختص بها القرآن الكريم، أنه جديد دائماً، جديد في كلماته ومعانيه، وإيحاءاته وآياته، فحين يتلو الإنسان آيات القرآن بتأمل وإنصات، يشعر بأنه خطاب جديد: يُنذر ويحذّر، ويوجّه ويُبشّر، وفي الآيات والروايات إشارات على تجدد القرآن وحداثته، وأنه لم يفقد يوماً تجدده، ولن يُعدم حداثته أبداً، قال اللّه تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِيَ

ص: 122


1- سورة الروم، الآية: 58.
2- عيون الحكم والمواعظ: 498.

تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {تِلْكَ ءَايَٰتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثِ بَعْدَ اللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ}(2).

وقال(عليه السلام): «إن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلّا به»(3).

مع الفضيل بن عياض

ذكر في أحوال الفضيل بن عياض(4) أنه كان في بداية حياته من الأشرار، وكان مجرد ذكر اسمه كافياً لإثارة الرعب في القلوب، فقد كان يقطع الطريق على القوافل، ويسلب المسافرين كل ما يملكون من نقود وأمتعة، وفي أحد الأيام وقعت عينه على فتاة وأخذت بمجامع قلبه، فصمم في نفسه أمراً سيّئاً، وفي نفس تلك الليلة جاء يتسلق جدار ذلك البيت الذي تسكنه الفتاة، وهو ينوي الاعتداء عليها واغتصابها، وفي هذه الأثناء تناهى إلى مسامعه صوت والد البنت الذيكان قد قام في الليل للتهجد والعبادة يعلو صوته بتلاوة هذه الآية الكريمة: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}(5).

فأخذ الفضيل بن عياض يتأمل في هذه الآية بضع ثوان، فهزته من الأعماق وأخذ يردد في نفسه ويتمتم: يارب بلى قد آن، ثم نزل من أعلى الجدار متذكراً تائباً، وذهب باتجاه المسجد فاعتكف فيه وصار من الأخيار إلى آخر حياته. فهذا

ص: 123


1- سورة الزمر، الآية: 23.
2- سورة الجاثية، الآية: 6.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 18 من كلام له(عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا وفيه يذم أهل الرأي.
4- هو أبو علي الفضل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي (105-187ه) الزاهد المشهور.
5- سورة الحديد، الآية: 16.

الإنسان قد تدبر بآية واحدة من آيات القرآن، فكيف بالذي يتدبر في القرآن أجمع(1).

بعض آثار التلاوة

لقد كان أولياء اللّه المعصومون(عليهم السلام) يتلون القرآن بوعي وتدبر، حتى كان يظهر ذلك عليهم بوضوح، فقد كانت جلودهم تقشعر وقلوبهم ترتجف حينما يقرؤون آية، بل ربما كانوا يصعقون لعظمة وقع الآية في نفوسهم، فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «واللّه لقد تجلى اللّه لخلقه في كلامه، ولكن لا يبصرون»(2).

وقال أيضاً(عليه السلام) وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشياً عليه، فلما سري عنه قيل له في ذلك؟

فقال: «مازلت أردد الآية على قلبي وعلى سمعي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته»(3).

وروي عنه(عليه السلام) أيضا أنه كان يتلو القرآن في صلاته فغشي عليه، فلما أفاقسئل: ما الذي أوجب ما انتهت حالك إليه؟

فقال - ما معناه - : «ما زلت أكرر آيات القرآن حتى بلغت إلى حال كأنني سمعت مشافهة ممن أنزلها على المكاشفة والعيان»(4).

وهذا ما يفيضه القرآن على المتدبر بآياته من خشوع وخشية من اللّه سبحانه وتعالى.

ص: 124


1- انظر: سفينة البحار 7: 103.
2- عوالي اللئالي 4: 116.
3- تفسير الصافي 1: 73.
4- فلاح السائل: 107.

القرآن والخوف من اللّه

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1).

فإن معناه: ليس يخاف اللّه حق خوفه ولا يحذر معاصيه خوفاً من عقابه إلّا العلماء، الذين يعرفون حقيقة ذلك، فأما الجهال ومن لا يعرف اللّه فلا يخافونه مثل ذلك، وكذلك ينظر العلماء في حجج اللّه وبيناته ويفكرون في ما يفضي بهم إلى معرفته(2).

لذا فإن الاعتبار بالآيات القرآنية إنما يؤثر أثره، ويورث حقيقة الإيمان باللّه، وواقع الخشية من اللّه وبكل معنى الكلمة، في العلماء الذين يعرفون اللّه سبحانه وتعالى معرفة تامة، تطمئن بها قلوبهم، وتزول عبرها حيرة الشك والقلق عن نفوسهم، فيتجسد لديهم الخوف الحقيقي وهو الخوف المطلوب - الخوف من اللّه - فهو خالق الكون والإنسان، وهو القوة المسيطرة، فهو المصوّر المنشئ الخالق البارئ، الذي يمدنا بالوجود والحياة، والخيرات والنعم، ولو تركنا لحالنا أو وكلنا إلى أنفسنا لحظة واحدة، أو طرفة عين، لأصبح وجودنا عدماً محضاً.

سئل أبو عبد اللّه(عليه السلام): ما كان في وصية لقمان؟

قال(عليه السلام): «كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف اللّه عزّ وجلّ خيفةً لو جئته ببر الثقلين لعذبك، وارج اللّه رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك» ثم قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «كان أبي يقول: ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا»(3).

ص: 125


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- التبيان في تفسير القرآن 8: 427.
3- الكافي 2: 67.
طبيعة الخوف

إن الخوف الذي هو من طبيعة الإنسان وفطرته - في الجملة - ليس نقصاً أو عيباً، فلو نظر الإنسان إلى حيوان مفترس لانتابه شيء من الشعور بالخوف، الخوف من أن ينقضَّ عليه ويؤدي به إلى الموت، وهذا شعور طبيعي لدى الإنسان، والقرآن لا ينكره ولا يعتبره نقصاً أو عيباً، وإنما النقص والعيب في الخوف مما لا يُخاف منه، وفي الإفراط أو التفريط في الشعور بالخوف من غير اللّه سبحانه، فإن الخوف من اللّه سبحانه لا إفراط فيه وهو ممدوح، وإنما الخوف المذموم هو الذي يحصل من الأشياء التي لا تستحق أن يخافها الإنسان، وفي الحالة التي يقف فيها الخوف عقبة في طريق تقدم الإنسان وحريته وكرامته، فإنها هي الحالة المرفوضة بالأساس وهي التي تسمى بالجبن، لا تلك الحالة الطبيعية، التي يمرَّ بها حتى الأنبياء والأولياء، من ذوي النفوس المختارة الزَّكية، الطاهرة النقية، الذين أشار اللّه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز إلى بعض منهم.

نموذجان قرآنيان للخوف الممدوح
النموذج الأول

لقد أشار اللّه تعالى إلى النبي موسى(عليه السلام) ذلك الرسول الذي أعده اللّه تعالى لمواجهة الطاغية المتجبر: فرعون، وزوّده بالآيات والمعجزات، ولكنه رغم ذلك كله يقول سبحانه: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ}(1).

وذلك حينما ألقى السحرة الحبال والعصيّ، فتحولت إلى حيّات كادت تلتهم جموع المتفرجين، ولكنه تدارك الموقف بعد أن أسعفته السماء بتوجيهها وعنايتها، فكسر هذا الهاجس لديه وتحدى السحرة بكل ثبات، وقد جاء في

ص: 126


1- سورة طه، الآية: 67.

بعض التفاسير قوله تعالى: {أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ} أي: وجد في نفسه ما يجده الخائف، ويقال:أوجس القلب فزعاً،أي: أضمر، والسبب في ذلك أنه خاف أن يلتبس على الناس أمرهم فيتوهموا أنهم فعلوا مثل ما فعله، ويظنوا المساواة فيشكوا ولا يتبعونه، وقيل: إنه خوف الطباع إذا رأى الإنسان أمراً فظيعاً فإنه يحذره ويخافه في أول وهلة، وقيل: إنه خاف أن يتفرق الناس قبل إلقائه العصا، وقبل أن يعلموا ببطلان السحرة فيبقوا في شبهة، وقيل: إنه خاف لأنه لم يدر أن العصا إذا انقلبت حية هل تظهر المزية؛ لأنه لم يعلم أنها تتلقفها وكان ذلك موضع خوف، لأنها لو انقلبت حية ولم تتلقف ما يأفكون ربما ادعوا المساواة لا سيما والأهواء معهم والدولة لهم، فلما تلقفت زالت الشبهة(1).

فإن قيل: فمن أي شي ء خاف موسى(عليه السلام) حتى حكى اللّه تعالى عنه من الخيفة في قوله تعالى - الآية - أو ليس خوفه يقتضي شكه في صحة ما أتى به؟

الجواب: لم يخف من الوجه الذي تضمنه السؤال، وإنما رأى من قوة التلبيس والتخييل ما أشفق عنده من وقوع الشبهة على من لم يمعن النظر، فأمنه اللّهتعالى من ذلك وبين له أن حجته ستتضح للقوم بقوله تعالى: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ}(2)(3).

إذن، خوف موسى(عليه السلام) كان لأجل هداية الناس وفي سبيل اللّه تعالى وليس خوفاً لمصلحة شخصية.

النموذج الثاني

وهكذا في قصة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مع ما قد أمده اللّه تعالى بالعزيمة وعدم

ص: 127


1- انظر: تفسير مجمع البيان 7: 39.
2- سورة طه، الآية: 68.
3- انظر: تنزيه الأنبياء: 71.

الخوف، فإنه(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما علم من قبل اللّه سبحانه أن ربيبه: زيد بن حارثة الذي رباه ورعاه سيطلّق زوجته: زينب بنت جحش، وأن اللّه سيزوجه إياها، كان(صلی الله عليه وآله وسلم) يؤكد على زيد لكي لا يطلقها خوفاً من الاتهامات والشائعات، التي يمكن أن تحاك من قبل المنافقين ضدّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، لكن الوحي نزل على الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وقال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَٰجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}(1).

ولقد ورد في تفسير الآية المباركة: أنه لما تزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، ثم أراد اللّه سبحانه أن يزيل العقبة التي كانت بعد أمام المسلمين في أمر التزوج من نساء أدعيائهم، فقد كانوا يرون أن ذلك من قبيل نكاح الأب زوجة ابنه؛ ولذا لما طلق زيد زينباً - ولعله كان لما نقل أنها كانت حادة المزاج، فلم يتلائم الزوجان - نكحها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تتميماً للتشريع الذي سبق في أولالسورة {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}(2) ومن غريب الأمر: أن جماعة من الناس اختلقوا حول هذه القصة روايات تنافي أصول الإسلام والعقيدة، حتى أن علي بن إبراهيم القمي(3) على جلالته لم يسلم من الوقوع ضحية ذلك الاختلاف، كما لم يسلم من الوقوع ضحية قول المعاندين في آية: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}(4)، فسبحان من لم يخلق الإنسان معصوماً إلّا الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)

ص: 128


1- سورة الأحزاب، الآية: 37.
2- سورة الأحزاب، الآية: 4.
3- علي بن ابراهيم بن هاشم القمي صاحب التفسير المعروف باسمه.
4- سورة القصص، الآية: 56.

ومن إليهم، {وَ} اذكر يا رسول اللّه {إِذْ تَقُولُ} لزيد بن حارثة الذي دعوته ابناً لك قبل نزول آية: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بالإسلام والإيمان، ومصاحبة الرسول {وَأَنْعَمْتَ} أنت {عَلَيْهِ} بالكفاية والتربية والتحرير والتعليم، وتزويجه بزينب {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} ولا تطلقها، فقد وقعت بينهما المشاجرة، فأراد زيد طلاقها - وقد تقدم أنها كانت ذات حدة في أخلاقها، كما ذكروا - والإتيان بلفظ {عَلَيْكَ} لما في الإمساك من الثقل، حتى كأنه حمل على الإنسان {وَاتَّقِ اللَّهَ} يا زيد في مفارقتها ومضارتها، ومعاشرتها، فلا تعاشرها إلّا حسناً جميلاً {وَ} قد كان اللّه سبحانه أخبر الرسول أنه سيطلق زينباً، وان الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) يتزوجها لتحطيم قاعدة (البنوة) الجاهلية، ولما كان الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) يعلم ما يحدثه هذا العمل من الضجة، في ذلك المجتمع الجديد العهد بالإسلام، خشى إظهاره؛ ولذا قال سبحانه له(صلی الله عليه وآله وسلم) و{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} يا رسول اللّه، إرادتك زواجها بأمر اللّه بعد طلاقها {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} أي الشيء الذي اللّه يظهره بعد ذلك {وَتَخْشَى النَّاسَ}.

وقد قال بعض: كيف يخشى النبي الناس؟

فلنقل: هل كان النبي يخشى من العقرب أن تلدغه، أو السبع أن يفترسه؟ فإن قالوا: نعم، قلنا: ما الفرق حتى جوزتم تلك الخشية، ولم تجوزوا هذه الخشية، من كلام الناس وطعنهم؟ وإن قالوا: لا، قلنا: فأي دليل على أنه ينافي مقام العصمة الخشية من الضار والمؤذي، فإن ما ثبت هو أن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) معصوم، لا أنه مسلوب عنه صفات البشرية من خشية واضطراب، وجوع وعطش، وفي قصة موسى(عليه السلام): {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا}(1) و: {فَخَرَجَ مِنْهَا

ص: 129


1- سورة طه، الآية: 45.

خَائِفًا}(1)، وأما قوله: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ} فهو من باب الجناس المليح، نحو قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٖ}(2) وقول الرضا(عليه السلام): «إن كنت باكياً لشيء، فابك للحسين(عليه السلام)»(3) فإن الإنسان إذا هاج به وصف نفسي، قيل له: وجّه هذا الوصف إلى جهة أصلح، فمن هاجت به العاطفة نحو جارة، قلنا له: اعطف على ولدك، أو نقول: إن ولدك أحق بالعطف، ولا نريد بذلك أن العاطفة نحو الجار غير حسنة، وإنما نريد توجيهه نحو ما هو الأصلح بحاله {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا} أي: من زوجته زينب {وَطَرًا} أي: حاجة، بأن تم حاجته فيها، وطلقها، حيث لم يتلائما {زَوَّجْنَٰكَهَا} أي: أمرنا بتزويج زينب {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَٰجِ أَدْعِيَائِهِمْ} أي: لتكون أنت أول من ينقض هذه العادة الجاهلية عملاً؛ حتى لا يتحرج المؤمنون بعدك من أخذ زوجة المتبنى لهم {إِذَا قَضَوْاْ} أولئك الأدعياء {مِنْهُنَّ} أي: من زوجاتهم {وَطَرًا}أي: حاجة، بأن طلقوهن، فإن الطلاق لا يكون إلّا بعد عدم الرغبة، والحاجة في الزوجة {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} أي: أن الشيء الذي يريده اللّه لا بد وأن يُفعل ويُؤتى في الخارج، فتزوجها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وضمها إلى نسائه(4).

إذن، هذه الحالة من الخوف الممدوح هي حالة طبيعية لدى كل إنسان، ويظهر منه أن عظمة الرجال الأشداء ليست في أنهم لا يخافون، وإنما لأنهم يكسرون حاجز الخوف ولا يتركونه يسيطر عليهم في تقييد أفعالهم، فالخوف الذي يحدّد الإنسان ويجبّنه هو الخوف المذموم ولا بد من تجاوزه والتخلي عنه

ص: 130


1- سورة القصص، الآية: 21.
2- سورة الروم، الآية: 55.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 130.
4- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 337.

بشتى الوسائل، أما الخوف الممدوح والمطلوب بقاؤه فهو: الخوف من اللّه سبحانه وتعالى؛ إذ أية قوة تستحق أن يخشاها الإنسان في هذا الوجود، لا تساوي أي شيء أمام قوة اللّه تبارك وتعالى.

تخويف القرآن من العذاب

قال اللّه تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لِّكُلِّ عَبْدٖ مُّنِيبٖ}(1).

فإنه ليس بإمكاننا أن نقدّر مدى احتياجنا إلى رحمة اللّه تبارك وتعالى، فإن وجودنا كله مرتبط بمشيئته عزّ وجلّ، فإذا اقتضت مشيئته أن نكون عدماً محضاً فلا مانع يمنع من ذلك.

قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بَِٔاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرًا}(2).ومن المعلوم: أن هذه الأرض التي نحن عليها، نتغذى منها ونستمد مما بثّ اللّه تعالى فيها من مختلف النعم، تغمر مياه المحيطات والبحار أكثر من ثلاثة أرباعها، فمالذي يمنع هذه البحار والمحيطات أن تزحف بطوفانها على الربع المسكون فتغرقه وتجعله كأن لم يكن لو لا إرادة اللّه؟

قال سبحانه وتعالى: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ}(3).

نعم، هذا نزرٌ يسير من مظاهر احتياجنا إلى رحمة اللّه في الحياة الدنيا، فكيف بنا إذا غادرنا هذه الحياة وانتقلنا إلى الحياة الآخرة؟!

ص: 131


1- سورة سبأ، الآية: 9.
2- سورة النساء، الآية: 132-133.
3- سورة يس، الآية: 43.
القرآن ومستدعيات الخوف الحقيقي

إن الارتباط بمشيئة اللّه ورحمته في الحياة الأخرى، سوف يكون أشد وأقوى بكثير مما عليه في الحياة الدنيا، فهناك حيث الوحشة والوحدة والحساب والعقاب، حتى إن الإنسان يفرّ من عائلته وذويه، وأقربائه وأصدقائه، ويكون همه النجاة بنفسه.

قال سبحانه وتعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِيٕٖ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٖ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٖ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}(1).

إذن، هناك ما يستدعي الخوف الحقيقي؛ إذ كل ما كان يحذره الإنسان في الحياة الدنيا ويخافه لا يكون أمام أخطار الآخرة وصعوباتها إلّا كلا شيء، فلتكن لدينا وقفة تأمَّل نستحث بها أفكارنا، ونسأل: لماذا يتولد لدينا الخوف ويسيطر على تصرفاتنا بسبب قوى زائفة؟ ومن أجل قدرات زائلة؟ لا تملك أيّ اعتبار أمامتلك القوة الحقيقية والقدرة الذاتية، ألّا وهي قوة اللّه سبحانه وتعالى وقدرته الأزلية؟

فإن اللّه سبحانه وتعالى يذكّر بهذه الحقيقية في كتابه العزيز بقوله عزّ وجلّ: {ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(2).

وقال سبحانه وتعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(3).

فعلى الإنسان أن يدرك هذه الحقيقة، ويعلم أن جميع أعماله سوف تعرض

ص: 132


1- سورة عبس، الآية: 33-42.
2- سورة آل عمران، الآية: 175.
3- سورة التوبة، الآية: 13.

عليه يوم القيامة، وأن هذه الدنيا وصعوباتها هي محطة للابتلاء والاختبار لمقدار قوة إرادة الإنسان وكيفية سلوكه، يقول اللّه سبحانه وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(1).

ثمرة الخوف من اللّه تعالى

فالخوف من اللّه ومن عذاب الآخرة، الذي يحصل عليه الإنسان من خلال التدبر في آيات القرآن، يدفع بالإنسان إلى العمل الصالح، الذي يرضي اللّه ورسوله، ويسعد المؤمن في هذه الدنيا ويوم القيامة، ويجنبه العذاب والشقاء في الدارين.

إذن، فالخوف من اللّه منهج سديد وسلوك قويم، يزرع في صاحبه العفة والتقوى ويدعوه إلى الالتزام بحدود اللّه، وترك المعاصي والذنوب، والابتعاد عن الظلم والاعتداء على الآخرين.

فهذا هابيل ابن آدم(عليهما السلام) لم يقتل أخاه قابيل لأنّ الخشية من اللّه ملأت قلبه،على العكس من قابيل الذي بادر إلى قتله، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 27 لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ}(2).

وهكذا يكون الإنسان عضواً نافعاً في المجتمع إن خاف اللّه تبارك وتعالى خوفاً صادقاً، فإن الخوف من اللّه عزّ وجلّ هو من الأسباب التي تدعو الإنسان إلى احترام بني نوعه، وإلى تحمل جزء من المسؤولية تجاه نفسه والمجتمع.

ص: 133


1- سورة الملك، الآية: 2.
2- سورة المائدة، الآية: 27-28.

الدنيا والآخرة في القرآن

ثم إن الذي يفصل بين حياته اليوم، وبين حياته غداً، لا يستطيع أن يؤمن بتأثير عمله وسلوكه الفعلي في حياته المستقبلية.

كما إن الذي يفصل بين نفسه، وبين الطبيعة والمجتمع، لا يستطيع أن يفهم التأثير المتبادل بينهما، فكما أن الطبيعة والمجتمع لهما تأثير عليه، فكذلك أعماله لها تأثير على الطبيعة والمجتمع، والتدبر في القرآن يورث وجداناً واعياً يعي هذا التأثير والترابط، والوجدان الواعي يدعو إلى الإيمان، الذي هو أعلى درجات الكمال والوعي، فالإيمان باللّه يقف في أعلى درجات الكمال الإنساني؛ لأنه يولّد لدى الإنسان شعوراً خاصاً بقدرة اللّه سبحانه وتعالى، وإحساساً كبيراً بتحقق اليوم الآخر - اليوم الذي تعرض فيه الأعمال ويكون به الحساب والجزاء، ثم الثواب أو العقاب - وبذلك يسعى الإنسان لاكتساب الفضائل واجتناب الرذائل؛ لأنه لا يرى أحداث الحياة من خلال محيطه ومجتمعه - أو المجتمع البشري - وحده، بل يراها من خلال الكون وحركته المنتظمة الهادفة، كما أنه لا يرى مسيرة حياته إلى حين الموت فقط، وإنما يراها متعدية إلى ما بعد الموتوالمراحل العليا للحياة الآخرة، السائرة في اتجاه الكمال المطلق، يعني إلى اللّه سبحانه وتعالى.

فمن هنا تكون مسؤولية المؤمن باللّه واليوم الآخر أكبر وأوسع من غيره؛ لأنها تتجاوز حدود الحياة الدنيا لتصل إلى الحياة الآخرة، وهذا الاعتقاد الصحيح يحمله على أن يضحي بالمصالح الآنية الزائفة كسباً للمصالح الأخروية الكبرى الآتية، وحيث إنه يرى سعادته من سعادة المجتمع وشقاءه من شقائه فيسعى جادّاً في سبيل تحقيق الأهداف العليا المتمثلة برعاية مصالح الآخرين، على أن يضحي بشهواته الرخيصة ومصالحه الآنية ولا يكون كل ذلك إلّا بالتعمق والتدبر

ص: 134

في القرآن الحكيم والعمل بجميع أوامره، والانتهاء عن كل نواهيه.

القرآن يدعو إلى الأفضل

كان هناك تلميذان يسيران في طريقهما إلى المدرسة صباحاً، فشاهدا رجلاً كان قد تسلّق نخلة له ليجني الرطب، فقال أحدهما - وكان بعيداً عن تعاليم القرآن - : لنسخر من هذا الفلاح!

فقال الآخر: وكيف؟

قال: تعال معي لنخفي حذاءه وننتظره حتى ينزل، وعندما لا يجد حذاءه فسيذهب ويفتش عنه هنا وهناك فنسخر منه!

اشمأز التلميذ الآخر - الذي كان متأدباً بآداب القرآن وتعاليمه - لسماعه هذا الاقتراح وقال: لدي عمل أفضل من هذا.

فقال له الأول: وما هو؟

قال: أن نضع النقود التي أخذناها من أبوينا هذا الصباح في داخل حذاء هذا المزارع، وحين ينزل ويجدها في حذائه فإنه سيفرح كثيراً. وعندها نفرح نحن لفرحه. أليس هذا العمل أفضل من الأول؟اقتنع التلميذ الأول بكلام زميله وأختار العمل الثاني وذلك لإدراكهما المصلحة الكبرى التي تحصل من وراء هذا العمل، وهي: مصلحة تعود ليس إليهما فقط، وإنما للرجل المزارع كذلك.

فهذه النتيجة طبيعية تحصل لأناس يعيشون في مجتمع متأدب بآداب القرآن، ويعتقدون بأن الأعمال تعرض يوم القيامة على أصحابها فيجازون بها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وهذا الاعتقاد القرآني حقيقة ناصعة، تدفع الإنسان إلى ترك الأعمال الشريرة وفعل الأعمال الخيرة.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من رجلٍ علّم ولده القرآن إلّا توّج اللّه أبويه يوم

ص: 135

القيامة تاج الملك وكُسِيَا حلّتين لم ير الناس مثلهما»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنّ هذا القرآن مأدبة اللّه فتعلّموا مأدبته ما استطعتم، إنّ هذا القرآن حبل اللّه، وهو النور البيّن والشفاء النافع، عصمة لمن تمسّك به ونجاة لمن تبعه»(2).

ثمار التدبر في القرآن

كان أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) إذا أخذ مصحف القرآن قبل أن يقرأ القرآن وقبل أن ينشره يقول حين يأخذه بيمينه: «بسم اللّه، اللّهم إني أشهد أن هذا كتابك المنزل من عندك على رسولك محمد بن عبد اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وكتابك الناطق على لسان رسولك، وفيه حكمك وشرائع دينك، أنزلته على نبيك، وجعلته عهداً منك إلى خلقك وحبلاً متصلاً في ما بينك وبين عبادك، اللّهم إني نشرت عهدك وكتابك، اللّهم فاجعل نظري فيه عبادة، وقراءتي تفكراً، وفكري اعتباراً، واجعلنيممن اتعظ ببيان مواعظك فيه، واجتنب معاصيك، ولا تطبع عند قراءتي كتابك على قلبي ولا على سمعي، ولا تجعل على بصري غشاوة، ولا تجعل قراءتي قراءة لا تدبر فيها، بل اجعلني أتدبر آياته وأحكامه، آخذاً بشرائع دينك ولا تجعل نظري فيه غفلة ولا قراءتي هذرمة(3)، إنك أنت الرؤوف الرحيم»(4).

نعم، إن التعاليم الحقة التي جاء بها القرآن الكريم، إنما تحصل بالتدّبر في آياته والغوص في معانيه، علماً بأن الاعتبار بها حقّ الاعتبار، والاستفادة منها حق الاستفادة، تبدي آثارها وتعطي ثمارها لا على الفرد نفسه، بل على عموم

ص: 136


1- وسائل الشيعة 6: 168.
2- وسائل الشيعة 6: 168.
3- هذرمة: الإسراع في الكلام.
4- إقبال الأعمال 1: 110.

المجتمع ككل.

فالقرآن إذن هو منهج وسلوك، وهو يؤدي بالفرد الإنساني إلى أن يكون عضواً نافعاً في المجتمع، بعد أن ترتكز في ذهنه حالة الخوف من اللّه التي تؤدي إلى أن تكون كل أعماله محسوبة ومدروسة، سواء في وحدته وانفراده، أم في مجتمعه وذويه.

فعن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبداللّه(عليه السلام): «يا إسحاق! خف اللّه كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك»(1).

فالإنسان عندما يكون لديه تفكير كهذا، يجعل اللّه أمامه في كل صغيرة وكبيرة، ومن البديهي أن تكون أعماله حينئذ صالحة ونواياه خيرة، فتصب في خدمة الآخرين ومصلحة المجتمع مادام ارتباطه بالمجتمع، والتلميذ الذي نمتفي قلبه نيَّة الخير - كما أشرنا إليه آنفاً - لا بد وأن يكون قد استقاها من مجتمعه الخيّر ومن أبويه الصالحين.

إذن، فليكن لنا القرآن دليلاً ونوراً نستنير به في هذه الدنيا الزائلة، للفوز بالأخرى الأبدية والباقية. قال الإمام الحسن(عليه السلام): «ما بقي في الدنيا بقية غير هذا القرآن فأتخذوه إماماً يدلكم على هداكم، وإن أحق الناس بالقرآن من عمل به وإن لم يحفظه، وأبعدهم منه من لم يعمل وإن كان يقرؤه»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنّ هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد وإن جلاءها قراءة القرآن»(3).

ص: 137


1- الكافي 2: 68.
2- إرشاد القلوب 1: 79.
3- إرشاد القلوب 1: 78.

وقال ابن عباس: قارئ القرآن التابع له، لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة(1).

وفي الختام نسأل اللّه تعالى وندعوه بالمأثور من دعاء الإمام زين العابدين(عليه السلام) مردّدين: «اللّهم... واجعل القرآن وسيلة لنا إلى أشرف منازل الكرامة، وسُلّماً نعرج فيه إلى محل السلامة، وسبباً نجزى به النجاة في عرصة القيامة، وذريعة نقدم بها على نعيم دار المقامة، اللّهم صل على محمد وآله واحطط بالقرآن عنا ثقل الأوزار، وهب لنا حسن شمائل الأبرار...»(2).

من هدي القرآن الحكيم

القرآن دستور الحياة

قال اللّه تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِوَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(3).

وقال سبحانه: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(6).

ص: 138


1- إرشاد القلوب 1: 78.
2- الصحيفة السجادية: من دعاء ختم القرآن.
3- سورة المائدة، الآية: 15-16.
4- سورة الأنعام، الآية: 155.
5- سورة النحل، الآية: 44.
6- سورة الجاثية، الآية: 20.

وقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(1).

القرآن كتاب هدى ورحمة

قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰلِلْمُسْلِمِينَ}(5).

التدبر في القرآن

قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(6).

وقال سبحانه: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}(8).

ص: 139


1- سورة الزمر، الآية: 27.
2- سورة الإسراء، الآية: 82.
3- سورة البقرة، الآية: 1-2.
4- سورة الأعراف، الآية: 52.
5- سورة النحل، الآية: 89.
6- سورة محمد، الآية: 24.
7- سورة ص، الآية: 29.
8- سورة المؤمنون، الآية: 68.

وقال جلّ وعلا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(1).

الخوف الحقيقي في القرآن

قال سبحانه: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ}(5).

وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

القرآن دستور الحياة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «القرآن على خمسة أوجه: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال، وما آمن بالقرآن من استحل محارمه. وشر الناس

ص: 140


1- سورة النساء، الآية: 82.
2- سورة السجدة، الآية: 16.
3- سورة آل عمران، الآية: 175.
4- سورة آل عمران، الآية: 191.
5- سورة المائدة، الآية: 28.
6- سورة الأنعام، الآية: 15.

من يقرأ القرآن ولا يرعوي شيء به»(1).

وقالت السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) في خطبتها المعروفة في أمر فدك: «لله فيكم عهد قدّمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم: كتاب اللّه بيّنة بصائرها، وآي منكشفة سرائره، وبرهان متجلية ظواهره، مديم للبريّة استماعه، وقائد إلى الرضوان أتباعه، ومؤدٍ إلى النجاة أشياعه، فيه تبيان حجج اللّه المنيرة، ومحارمه المحرمّة، وفضائله المدوّنة، وجمله الكافية، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، وبيناته الجلية...»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اتخذ قول اللّه دليلاً هدي إلى التي هي أقوم»(3).

القرآن إمام ورحمة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «عليكم بالقرآن فاتخذوه إماماً فإنه كلام رب العالمينالذي منه بدأ وإليه يعود»(4).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «نعم الشفيع القرآن لصاحبه يوم القيامة»(5).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحداث، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا، إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم»(6).

ص: 141


1- إرشاد القلوب 1: 78.
2- علل الشرائع 1: 248.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 111.
4- كشف الغمة 2: 164.
5- نهج الفصاحة: 787.
6- الكافي 2: 600.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أونقصان من عمى»(1).

التدبر في القرآن

قال الإمام الكاظم موسى بن جعفر(عليهما السلام) عن آبائه(عليهم السلام): «سئل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عن قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا}(2) قال بيّنه تبياناً، ولا تنثره نثر الرمل، ولا تهذّه هذّ(3) الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكون هم أحدكم آخر السورة»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا لا خير في قراءة ليست فيها تدبر، ألّا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه»(5).

القرآن والخوف الحقيقي من اللّه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من خاف اللّه أخاف اللّه منه كل شيء، ومن لم يخف اللّه أخافه اللّه من كل شيء»(6).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من عبد مؤمن تخرج من عينيه دمعة وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية اللّه تعالى ثم تصيب شيئاً من حرّ وجهه، إلّا حرّمه اللّه تعالى على النار»(7).

ص: 142


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176، ومن خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.
2- سورة المزمل، الآية: 4.
3- الهذ: الإسراع في القطع وفي القراءة.
4- بحار الأنوار 89: 215.
5- معاني الأخبار: 226.
6- جامع الأخبار: 97.
7- المحجة البيضاء 7: 279.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن المؤمن لا يصبح إلّا خائفاً وإن كان محسناً، ولا يمسي إلّا خائفاً وإن كان محسناً، لأنه بين أمرين: بين وقت قد مضى لا يدري ما اللّه صانع به، وبين أجل قد اقترب لا يدري ما يصيبه من الهلكات»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}(2) قال: «من علم أن اللّه يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى»(3).

وقال لقمان(عليه السلام) لابنه: «يا بني خف اللّه خوفاً لو أتيته بعمل الثقلين خفت أن يعذبك، وارجُهُ رجاء لو أتيته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر لك»(4).

ص: 143


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 208.
2- سورة الرحمن، الآية: 46.
3- الكافي 2: 70.
4- إرشاد القلوب 1: 105.

القرآن يتحدى

المقدمة

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّۧنَ عَلَىٰ بَعْضٖ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}(1).

وفي تفسير الآية المباركة:

{وَرَبُّكَ} يا رسول اللّه {أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} فكل تحت علمه الشامل، ملائكة كانوا، أم بشراً أم جناً، وبمقتضى علمه الشامل بالبواطن، فضّل بعض النبيين على بعض، ومنه يعرف وجه تفضيل النبيين على سائر الناس؛ وإنما جيء بهذا الأمر هنا لأن سوق الآيات حول العقيدة مبدئها ورسالتها ومعادها {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّۧنَ عَلَىٰ بَعْضٖ} حيث إن نفسياتهم كانت مختلفة، بعضها أرقى من بعض {وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ} النبي(عليه السلام) {زَبُورًا} كما أتيناك القرآن، فلا مجال للكفار أن يقولوا: إن الأنبياء جاءوا بخوارق كونية، فما معنى مجيئك، بهذا الكتاب، وهلّا كان كعصى موسى(عليه السلام)، أو إبراء الأكمه والأبرص كعيسى(عليه السلام)؟(2).

فكان من أنبياء اللّه سبحانه وتعالى داود(عليه السلام) وهو من أنبياء بني إسرائيل،

ص: 144


1- سورة الإسراء، الآية: 55.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 320.

ومنهم أيضاً ابنه سليمان بن داود(عليهما السلام)، وهما(عليهما السلام) من عظام أنبياء اللّه تعالى رغم أنهما ليسا من أولي العزم؛ إذ أن أولي العزم من الأنبياء هم خمسة فقط: نبي الإسلام محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، وموسى، وعيسى، وإبراهيم، ونوح(عليهم السلام) أما سائر الأنبياء الذين يبلغ عددهم (124000) بين نبي ورسول - على القول المشهور - فليسوا بأولي العزم، حيث روي عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قوله: «إن للّه تعالى مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي، أنا سيدهم وأفضلهم وأكرمهم على اللّه عزّ وجلّ، ولكل نبي وصي أوصى إليه بأمر اللّه تعالى ذكره، وإن وصيي علي بن أبي طالب لسيدهم وأفضلهم وأكرمهم على اللّه عزّ وجلّ»(1).

وروي عن ابن عباس أنه قال: أول المرسلين آدم(عليه السلام) وآخرهم محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) وكانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، الرسل منهم ثلاثمائة وخمسة، ومنهم خمسة أولوا العزم صلوات اللّه عليهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد(عليهم السلام)، وخمسة من العرب: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد(عليهم السلام)، وخمسة عبرانيون: آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم(عليهم السلام)، وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، والكتب التي أنزلت على الأنبياء(عليهم السلام) مائة كتاب وأربعة كتب، منها على آدم خمسون صحيفة، وعلى إدريس ثلاثون، وعلى إبراهيم عشرون، وعلى موسى التوراة، وعلى داود الزبور، وعلى عيسى الإنجيل، وعلى محمد الفرقان(عليهم السلام)»(2).

وروي أيضاً: كان خمسة من الأنبياء سريانيون: آدم وشيث وإدريس ونوحوإبراهيم(عليهم السلام) وكان لسان آدم(عليه السلام) العربية وهو لسان أهل الجنة، فلما أن عصى ربه

ص: 145


1- من لا يحضره الفقيه 4: 180.
2- الاختصاص: 264.

أبدله بالجنة ونعيمها الأرض والحرث، وبلسان العربية السريانية، وقال: كان خمسة عبرانيون: إسحاق ويعقوب وموسى وداود وعيسى(عليهم السلام)، ومن العرب: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد(عليهم السلام)، وخمسة بعثوا في زمن واحد: إبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويعقوب ولوط(عليهم السلام)، بعث اللّه إبراهيم وإسحاق(عليهما السلام) إلى الأرض المقدسة، وبعث يعقوب(عليه السلام) إلى أرض مصر، وإسماعيل(عليه السلام) إلى أرض جرهم، وكانت جرهم حول الكعبة سكنت بعد العماليق؛ وسموا عماليق لأن أباهم كان عملاق بن لود بن سام بن نوح صلى اللّه عليهم، وبعث لوط إلى أربع مدائن: سدوم وعامور وصنعا وداروما، وثلاثة من الأنبياء ملوك: يوسف وداود وسليمان(عليهم السلام)، وملك الدنيا مؤمنان وكافران فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان(عليهما السلام)، وأما الكافران: فنمرود بن كوش بن كنعان، وبخت نصر(1).

ومما يشير إلى عدد الأنبياء ما روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من أحب أن يصافحه مائة ألف نبي وعشرون ألف نبي فليزر قبر الحسين بن علي(عليهما السلام) في النصف من شعبان؛ فإن أرواح النبيين(عليهم السلام) تستأذن اللّه في زيارته فيؤذن لهم»(2).

وعلى قول آخر فإن عدد الأنبياء(عليهم السلام) (320000) نبي ورسول. فقد روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال أبوذر: يا رسول اللّه، كم بعث اللّه من نبي؟

فقال: ثلاثمائة ألف نبي وعشرون ألف نبي.

قال: يا رسول اللّه، فكم المرسلون؟

فقال: ثلاثمائة وبضعة عشر.

قال: يا رسول اللّه، فكم أنزل اللّه تعالى من كتاب؟

ص: 146


1- الاختصاص: 264.
2- تهذيب الأحكام 6: 48.

فقال: مائة وأربعة وعشرون كتاباً، أنزل على إدريس(عليه السلام) خمسين صحيفة وهو أخنوخ، وهو أول من خط بالقلم، وأنزل على نوح(عليه السلام) عشر صحائف، وأنزل على إبراهيم(عليه السلام) عشراً، وأنزل التوراة على موسى(عليه السلام)، والزبور على داود(عليه السلام)، والإنجيل على عيسى(عليه السلام)، والقرآن على محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)»(1).

وعلى قول آخر: إن عددهم(عليهم السلام) (144000) نبي، كما روي عن صفوان بن مهران الجمال، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال لي: «يا صفوان، هل تدري كم بعث اللّه من نبي؟». قال: قلت: ما أدري. قال: «بعث اللّه مائة ألف نبي وأربعة وأربعين ألف نبي، ومثلهم أوصياء، بصدق الحديث وأداء الأمانة والزهد في الدنيا، وما بعث اللّه نبياً خيراً من محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ولا وصياً خيراً من وصيه(عليه السلام)»(2).

إذن، كما أن بعض الأنبياء والرسل(عليهم السلام) مفضّل على بعض كما قال سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٖ}(3) حيث فيهم أفضلهم وهم أولوا العزم، وهم أصحاب الشرائع والعزائم، كما ورد في الروايات الشريفة، فقد ورد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «سادة النبيين والمرسلين خمسة وهم أُولو العزم من الرسل وعليهم دارت الرحى، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى اللّه عليه وآله وعلى جميع الأنبياء»(4).

أما ما وجه تسمية هؤلاء الأنبياء الخمسة بأولي العزم، فذلك مما بينتهالروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، فقد ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «إنما سمي أولو العزم أولي العزم لأنهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع، وذلك

ص: 147


1- الاختصاص: 264.
2- الاختصاص: 263.
3- سورة البقرة، الآية: 253.
4- الكافي 1: 175.

أن كل نبي كان بعد نوح(عليه السلام) كان على شريعته ومنهاجه، وتابعاً لكتابه إلى زمان إبراهيم الخليل(عليه السلام)، وكل نبي كان في أيام إبراهيم وبعده كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه، وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى(عليه السلام)، وكل نبي كان في زمن موسى(عليه السلام) وبعده كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى أيام عيسى(عليه السلام)، وكل نبي كان في أيام عيسى(عليه السلام) وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، فهؤلاء الخمسة هم أولوالعزم، وهم أفضل الأنبياء والرسل(عليه السلام) وشريعة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة، فمن ادعى بعد نبينا أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه»(1).

أنبياء اللّه وكتب السماء

ثم إن الأنبياء(عليهم السلام) على قسمين:

1- قسم منهم من أنزل اللّه سبحانه عليه كتباً تشريعية تحتوي على أحكام اللّه وحدوده، مثل:

آدم وإبراهيم وإدريس(عليهم السلام)، كما روي في تفسير الآية المباركة: {صُحُفِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ}(2)، وفي هذه الآية دلالة على أن إبراهيم(عليه السلام) كان قد أنزل عليه الكتاب، خلافاً لمن يزعم أنه لم ينزل عليه كتاب. وواحدة الصحف: صحيفة.

وروي عن أبي ذر أنه قال: قلت: يا رسول اللّه! كم الأنبياء؟

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً».

قلت: يا رسول اللّه! كم المرسلون منهم؟

ص: 148


1- علل الشرائع 1: 122.
2- سورة الأعلى، الآية: 19.

قال:«ثلاثمائة وثلاثة عشر، وبقيتهم أنبياء».

قلت: كان آدم(عليه السلام) نبياً؟

قال: «نعم، كلمه اللّه، وخلقه بيده. يا أبا ذر! أربعة من الأنبياء عرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك».

قلت: يا رسول اللّه! كم أنزل اللّه من كتاب؟

قال: «مائة وأربعة كتب، أنزل اللّه منها على آدم(عليه السلام) عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان».

وفي الحديث أنه كان في صحف إبراهيم(عليه السلام): ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه، عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه. وقيل: إن كتب اللّه كلها أنزلت في شهر رمضان(1).

وتوراة موسى(عليه السلام) وإنجيل عيسى(عليه السلام).

وكتاب المجوس الذي يسمى (جاماسب) كما ورد في بعض الروايات حيث روي عن الإمام الباقر(عليه السلام): «والمجوس تؤخذ منهم الجزية؛ لأن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، وكان لهم نبي اسمه: دامسب فقتلوه، وكتاب يقال له:جاماسب، كان يقع في اثني عشر ألف جلد ثورٍ فحرقوه»(2).

وفي نص آخر عنه(عليهم السلام) قال: «المجوس تؤخذ منهم الجزية؛ لأن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، وكان لهم نبي اسمه: داماست فقتلوه، وكتاب

ص: 149


1- تفسير مجمع البيان 10: 332.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 53.

يقال له: جاماست كان يقع في اثني عشر ألف جلد ثور فحرقوه»(1).

ولعل هذا الاسم (جاماست) كان على حسب اللغة العربية، و(أوستا) كان على لغة غير العرب(2).

2- وقسم آخر منهم من لم يكن له كتاب وإنما كانت نبوته امتداداً لنبوة سابقة، كالأنبياء الذي جاءوا من بعد النبي عيسى(عليه السلام) حيث كانوا يعملون بما أتى به عيسى(عليه السلام) ويأخذون بتعاليمه.

ثم استمر الحال على ذلك إلى أن بعث اللّه تعالى خاتم الأنبياء محمد بن عبد اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حيث به وبكتابه اختتمت الأديان والكتب، وتعين القرآن هو الكتاب الإلهي، والقانون السماوي، والدستور الشرعي للحياة، الذي يحتوي على كل شيء. حيث قال تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(3).

ومن بعده جاء الأئمة الأطهار(عليهم السلام) يواصلون طريقة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بنفس الكتاب ونفس التشريع، ونفس الأخلاق ونفس السيرة. فقد روي عن أبي جعفر عن أبيه(عليهما السلام) قال: «ما بعث اللّه نبياً إلّا أعطاه من العلم بعضه ما خلا النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فإنهأعطاه من العلم كله فقال: {تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ}(4) وقال: {وَكَتَبْنَا لَهُ} لموسى {فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٖ}(5) و: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَٰبِ}(6) ولم يخبر أن

ص: 150


1- وسائل الشيعة 15: 127.
2- اختلف في اسم نبي المجوس واسم كتابهم، للمزيد انظر: جواهر الكلام 21: 227.
3- سورة النحل، الآية: 89.
4- سورة النحل، الآية: 89.
5- سورة الأعراف، الآية: 145.
6- سورة النمل، الآية: 40.

عنده علم الكتاب والمن لا يقع من اللّه على الجميع، وقال لمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم): {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(1) فهذا الكل ونحن المصطفون، وقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): رب زدني علماً، فهي الزيادة التي عندنا من العلم الذي لم يكن عند أحد من الأوصياء والأنبياء ولا ذرية الأنبياء غيرنا، فهذا العلم علمنا البلايا والمنايا وفصل الخطاب»(2).

القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية

اشارة

لا يخفى أن أهم كتب السماء من بين كتب الأنبياء(عليهم السلام) هو القرآن الكريم، ثم إن بين القرآن وسائر الكتب فرقاً رئيسياً وهو: أن كتبهم جاءت لزمن محدود، وعصر مؤقت؛ لأنها كانت في مجال إعداد، وفي ظرف تمهيد لمجيء الدين السماوي الكامل، حتى جاء الإسلام ومعه القرآن الحكيم وهو الدين الأبدي، والقانون الدائم للحياة، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).

نعم، إن القرآن الحكيم هو الكتاب التام الكامل، والمعجزة السماوية الخالدة، إنه هدى لكل الخلق، وإرشاد لجميع الناس في كل زمان ومكان، وهوالقانون الإلهي الثابت، والدستور السماوي الدائم في الأرض إلى يوم القيامة؛ ولذا لم يشر القرآن الكريم إلى حفظ الكتب السماوية السابقة من يد التحريف والتزييف، ولا إلى بقائها بعيدة عن التبديل والتغيير، بل بالعكس فقد صرّح القرآن الكريم بأن تلك الكتب قد حرّفت وبدّلت، فإن الزبور والتوراة والإنجيل

ص: 151


1- سورة فاطر، الآية: 32.
2- تفسير فرات الكوفي: 145.
3- سورة آل عمران، الآية: 85.

جميعاً محرّفة، كما يشير إلى ذلك قوله عزّ وجلّ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ}(1). يعني: {الْكَلِمَ} جمع كلمة و{عَن مَّوَاضِعِهِ} أي: وتحريفهم الكلم على قسمين: قسم بمحو بعض التوراة واثبات غيره مكانه، وقسم بتأويله على غير المعنى المقصود منه(2).

وقوله سبحانه وتعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٖ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(3). والمراد بقوله تعالى: {نُنسِهَا} أي: نترك الكتاب حتى يضمحل ويذهب، ويبيد ويُنسى عند البشر. وإنما يقع النسخ والإنساء في ما يؤتى بالمثل؛ لأن المثل أصلح من المنسوخ والمنسي؛ فمثلاً: إذا سقطت ورقة مالية عن الاعتبار فيأتي الحاكم بورقة أخرى مثلها في القيمة، كما أنه قد يأخذ درهماً من زيد ليعطيه بدله ديناراً و: {أَلَمْ تَعْلَمْ} أيها اليهودي المنكر للنسخ {أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} فإن اليهود كانوا يلقون الشبهة بأنه كيف يمكن نسخ كتابهم بالقرآن، وأنه إن كان كتابهم صالحاً فلماذا ينسخ، وإن لم يكن صالحاً فلماذا أنزله اللّه تعالى؟!

وقد كان الجواب: إن عدم النسخ إما لعدم مثل أو أصلح، وإما لعدم قدرة اللّهتعالى على النسخ، وكِلا الأمرين مفقودان؛ فالمثل والأصلح موجودان واللّه على كل شيء قدير(4).

إذن: فالصيغة الأخيرة الكاملة لتوجيهات السماء إلى الأرض، والدستور

ص: 152


1- سورة المائدة، الآية: 13.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 1: 618. وللتفصيل في إثبات تحريف التوراة والإنجيل انظر: كتاب (الهدى إلى دين المصطفى) و(الرحلة المدرسية) و(التوحيد والتثليث) للشيخ محمد جواد البلاغي(رحمه الله).
3- سورة البقرة، الآية: 106.
4- انظر: تفسير تقريب القرآن 1: 165.

الكامل والشامل لكل مجالات الحياة وتطورات الزمن، هو: القرآن الكريم، وقد تعلقت إرادة اللّه جلّ شأنه بحفظه وبقائه بعيداً عن التحريف والتبديل، حيث قال جلّ وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَٰفِظُونَ}(1).

فقد سمي القرآن ذكراً لأنه يذكّر الإنسان بالعقيدة والنظام مما فطر في جبلة الإنسان لكنه ذهل عنه {وَإِنَّا لَهُ لَحَٰفِظُونَ} من التغيير والتحريف والزيادة والنقصان، والذي اعتقده وفاقاً لغير واحد من علمائنا الأخيار أن هذا القرآن الذي هو بأيدينا اليوم بين الدفتين هو عين ما انزل بلا أيّ تغيير أو تبديل، وأن السور والآيات إنما رتبت كما أمر الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، وإن كان النزول مختلفاً، والرسول لم يفعل هذا الترتيب إلّا بأمر اللّه سبحانه، كما قال سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(2) وهكذا كان اعتقاد والدي(رحمه الله)، كما ذكره في نشرة (أجوبة المسائل الدينية) الكربلائية، وذكرت طرفاً من الكلام في أوائل نشرة (الأخلاق والآداب) الكربلائية، في تفسيري لسورة الحمد وبعض سورة البقرة(3).

وصية الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بالقرآن والعترة

أوصى رسول الإسلام(صلی الله عليه وآله وسلم) بالقرآن الكريم وأمر بالتمسك به والعمل عليهكقانون دائم يتبعه الناس كافة إلى يوم القيامة، كما أوصى بأهل بيته المعصومين(عليهم السلام) وأمر بالاعتصام بحبلهم، والطاعة لهم، كمفسّرين مطّلعين على ما جاء به القرآن الحكيم من أحكام وتعاليم، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، وهو كتاب اللّه

ص: 153


1- سورة الحجر، الآية: 9.
2- سورة النجم، الآية: 3-4.
3- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 156.

حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني في عترتي»(1).

وبذلك يكون قانون الإسلام هو الحاكم إلى يوم القيامة، فحلال محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق(صلی الله عليه وآله وسلم) إنه قال: «إن اللّه بعث محمداً نبيا فلا نبي بعده، أنزل عليه الكتاب فختم به الكتب فلا كتاب بعده، أحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم»، ثم أومأ بيده إلى صدره وقال: «نحن نعلمه»(2).

وروي عن الإمام أبي محمد العسكري(عليه السلام) أنه قال:

«كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا: سحر مبين تقوله، فقال اللّه: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ}(3) أي: يا محمد، هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها: ألف لام ميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثم بيّن أنهم لا يقدرون عليه بقوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْكَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا}(4) ثم قال اللّه: {الم}، هو القرآن الذي افتتح بألم هو {ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ} الذي أخبرت به موسى فمن بعده من الأنبياء، فأخبروا بني إسرائيل: أن سأنزله عليك يا محمد كتاباً عزيزاً {لَّا يَأْتِيهِ الْبَٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا

ص: 154


1- الطرائف 1: 115.
2- كشف الغمة 2: 197.
3- سورة البقرة، الآية: 1-2.
4- سورة الإسراء، الآية: 88.

مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٖ}(1)،{لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ}(2) لا شك فيه؛ لظهوره عندهم كما أخبرهم به أنبياؤهم: أن محمداً ينزل عليه كتاب لا يمحوه الباطل يقرؤه هو وأمته على سائر أحوالهم {هُدًى} بيان من الضلالة {لِّلْمُتَّقِينَ} الذين يتقون الموبقات، ويتقون تسليط السفه على أنفسهم، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضا ربهم.

قال: وقال الصادق(عليه السلام): ثم الألف حرف من حروف قول اللّه، دل بالألف على قولك: اللّه، ودل باللام على قولك: الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين، ودل بالميم على أنه المجيد المحمود في كل أفعاله، وجعل هذا القول حجة على اليهود؛ وذلك أن اللّه لما بعث موسى بن عمران ثم من بعده من الأنبياء إلى بني إسرائيل، لم يكن فيهم أحد إلّا أخذوا عليهم العهود والمواثيق ليؤمنن بمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) العربي الأمي المبعوث بمكة، الذي يهاجر إلى المدينة يأتي بكتاب من الحروف المقطعة افتتاح بعض سوره، يحفظه أمته فيقرءونه قياماً وقعوداً ومشاة وعلى كل الأحوال، يسهل اللّه عزّ وجلّ حفظه عليهم، ويقرنون بمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) أخاه ووصيه علي بن أبي طالب(عليه السلام) الآخذ عنه علومه التي علمها والمتقلد عنه الأمانة التي قدرها، ومذلل كل من عاند محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) بسيفه الباتر،ويفحم كل من جادله وخاصمه بدليله القاهر، يقاتل عباد اللّه على تنزيل كتاب اللّه حتى يقودهم إلى قبوله طائعين وكارهين.

ثم إذا صار محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى رضوان اللّه عزّ وجلّ وارتد كثير ممن كان أعطاه ظاهر الإيمان، وحرفوا تأويلاته وغيروا معانيه ووضعوها على خلاف وجوهها،

ص: 155


1- سورة فصلت، الآية: 42.
2- سورة البقرة، الآية: 2.

قاتلهم بعد على تأويله حتى يكون إبليس الغاوي لهم هو الخاسر الذليل المطرود المغلول.

قال: فلما بعث اللّه محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) وأظهره بمكة، ثم سيره منها إلى المدينة وأظهره بها، ثم أنزل إليه الكتاب وجعل افتتاح سورته الكبرى بألم يعني: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ} وهو ذلك الكتاب الذي أخبرت أنبيائي السالفين أني سأنزله عليك يا محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) {لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ} فقد ظهر كما أخبرهم به أنبياؤهم: أن محمداً ينزل عليه كتاب مبارك لا يمحوه الباطل، يقرؤه هو وأمته على سائر أحوالهم، ثم اليهود يحرفونه عن جهته، ويتأولونه على غير وجهه، ويتعاطون التوصل إلى علم ما قد طواه اللّه عنهم من حال آجال هذه الأمة، وكم مدة ملكهم، فجاء إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) منهم جماعة، فولى رسول اللّه علياً(عليه السلام) مخاطبتهم، فقال قائلهم: إن كان ما يقول محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) حقاً لقد علمنا كم قدر ملك أمته، هو إحدى وسبعون سنة، الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون؟

فقال علي(عليه السلام): فما تصنعون ب{المص}(1)، وقد أنزل عليه؟ قالوا: هذه إحدى وستون ومائة سنة.

قال: فما ذا تصنعون ب{الر}(2) وقد أنزلت عليه؟ فقالوا: هذه أكثر؛ هذهمائتان وإحدى وثلاثون سنة.

فقال علي(عليه السلام): فما تصنعون بما أنزل عليه {المر}(3)؟ قالوا: هذه مائتان وإحدى وسبعون سنة.

ص: 156


1- سورة الأعراف، الآية: 1.
2- سورة يونس، الآية: 1.
3- سورة الرعد، الآية: 1.

فقال علي(عليه السلام): فواحدة من هذه له، أو جميعها له؟ فاختلط كلامهم فبعضهم قال له: واحدة منها، وبعضهم قال: بل يجمع له كلها، وذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة، ثم يرجع الملك إلينا، يعني إلى اليهود.

فقال علي(عليه السلام): أ كتاب من كتب اللّه نطق بهذا، أم آراؤكم دلتكم عليه؟! فقال بعضهم: كتاب اللّه نطق به، وقال آخرون منهم: بل آراؤنا دلت عليه، فقال علي(عليه السلام): فأتوا بالكتاب من عند اللّه ينطق بما تقولون؟ فعجزوا عن إيراد ذلك وقال للآخرين: فدلونا على صواب هذا الرأي؟ فقالوا: صواب رأينا دليله: أن هذا حساب الجمل.

فقال علي(عليه السلام): كيف دل على ما تقولون وليس في هذه الحروف إلّا ما اقترحتم بلا بيان، أرأيتم إن قيل لكم: إن هذه الحروف ليست دالة على هذه المدة لملك أمة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ولكنها دلالة على أن كل واحد منكم قد لعن بعدد هذا الحساب، أو أن عدد ذلك لكل واحد منكم ومنا بعدد هذا الحساب دراهم أو دنانير، أو أن لعلي على كل واحد منكم دين عدد ما له مثل عدد هذا الحساب؟

قالوا: يا أبا الحسن، ليس شيء مما ذكرته منصوصاً عليه في {الم} و{المص} و{الر} و{المر}؟

فقال علي(عليه السلام): ولا شيء مما ذكرتموه منصوص عليه في {الم} و{المص} و{الر} و{المر}؟ فإن بطل قولنا لما قلنا بطل قولك لما قلت؟فقال خطيبهم ومنطيقهم: لا تفرح يا علي؛ بأن عجزنا عن إقامة حجة في ما تقولهن على دعوانا فأي حجة لك في دعواك، إلّا أن تجعل عجزنا حجتك، فإذاً ما لنا حجة في ما نقول ولا لكم حجة في ما تقولون؟

قال علي(عليه السلام): لا سواء، إن لنا حجة هي المعجزة الباهرة، ثم نادى جمال اليهود: يا أيتها الجمال، اشهدي لمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ولوصيه، فتبادر الجمال: صدقت

ص: 157

صدقت، يا وصي محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكذب هؤلاء اليهود.

فقال علي(عليه السلام): هؤلاء جنس من الشهود، يا ثياب اليهود التي عليهم، اشهدي لمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ولوصيه، فنطقت ثيابهم كلها: صدقت صدقت يا علي، نشهد: أن محمداً رسول اللّه حقاً، وأنك يا علي وصيه حقاً، لم يثبت محمداً قدماً في مكرمة إلّا وطئت على موضع قدمه بمثل مكرمته؛ فأنتما شقيقان من إشراق أنوار اللّه، فميزتما اثنين، وأنتما في الفضائل شريكان إلّا أنه لا نبي بعد محمد(صلی الله عليه وآله وسلم).

فعند ذلك خرست اليهود، وآمن بعض النظارة منهم برسول اللّه، فغلب الشقاء على اليهود وسائر النظارة الآخرين؛ فذلك ما قال اللّه: {لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ} أنه كما قال محمد ووصي محمد عن قول محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) عن قول رب العالمين، ثم قال: {هُدًى} بيان وشفاء {لِّلْمُتَّقِينَ} من شيعة محمد وعلي، أنهم اتقوا أنواع الكفر فتركوها، واتقوا الذنوب الموبقات فرفضوها، واتقوا إظهار أسرار اللّه وأسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) فكتموها، واتقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقين لها وفيهم نشروها»(1).

نعم إن القرآن الكريم والعترة الطاهرة هما الثقلان اللذان تركهما وخلفهما رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في أمته، وقد تحدى اللّه عزّ وجلّ بهما الناس أجمعين، فلايمكن لأحد أن يأتي بمثل القرآن، ولا بمثل أهل البيت(عليهم السلام).

إعجاز القرآن

اشارة

قال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَٰلَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا

ص: 158


1- معاني الأخبار: 24.

لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الظَّٰلِمِينَ}(1).

كان القرآن الكريم منذ بداية نزوله كتاباً معجزاً، يتحدى كل البشر إلى يوم الحشر بالإتيان ولو بسورة من مثله، وظل كذلك إلى يومنا هذا، ولسوف يبقى كذلك إلى يوم القيامة، فهو المعجزة الخالدة، وليس كسائر المعجزات الآنية التي تظهر بين الحين والآخر، ثم تختفي، ولا مثل المخترعات التي تأتي لفترة ثم يأتي شيء آخر أفضل منه.

مثلاً: عندما اخترع الأمريكيون جهاز الحاسوب، كان في أول الأمر شيئاً مدهشاً، لكن بعد مدة قليلة اخترع اليابانيون حاسوباً أحسن من حاسوب الأمريكيين، وهكذا العالم الآن يتسابق في هذا المجال لتقديم الأفضل، وكلما جاء شيء جديد تميز عن سابقه بمواصفات ومميزات متطورة ومتقدمة جعلت السابق متأخراً عن اللاحق، فالقنبلة الذرية عندما اخترعها العالم الألماني كانت شيئاً عجيباً في وقتها، وبعد ذلك صنعوا القنبلة الهيدروجينية وهي أخطر من الذرية، وبعد ذلك صنعوا شيئاً أعظم وهو القنبلة النيترونية.

وهكذا في عالم النظريات العلمية: من طبية واقتصادية وغيرهما من سائرالعلوم الأخرى، فإنها تتطور كل يوم ويأتي العلماء بالشيء الجديد والنظرية الفضلى.

إذن: فكل اختراع جديد ينسخ ما كان قديماً من الاختراعات، وكذلك النظرية الجديدة تنسف النظرية القديمة، إلّا القرآن، فإنه غض جديد، لن يبلى ولن يفنى إلى يوم القيامة، ولن يستطيع أحد أن يأتي بمثله فكيف الإتيان بأفضل منه؟

ص: 159


1- سورة يونس، الآية: 37-39.

نعم، إن القرآن الكريم قد بقي جديداً طرياً، لا يبلى ولا يفنى مهما تطاولت العصور، وتمادت الأزمان، لأنه المعجزة الإلهية الخالدة، ولن يستطع جميع الخلق من الأولين والآخرين، من الإنس والجن مهما بلغوا من العلم والذكاء، والفطنة والكياسة، وإن كان بعضهم لبعض ظهيراً، أن يتحدّوا القرآن الكريم ويأتوا بمثله، ولا أن يحطوا من عظمته وإعجازه بتحريفه وتشويهه. قال عزّ من قائل: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}(1).

القرآن يتحدى الجميع

إن القرآن الكريم معجزة في كل جوانبه وأبعاده، كيف لا وهو المعجزة الإلهية الخالدة، وإعجازه ظاهر بيّن لا يحتاج إلى دليل وبرهان، إذ أن إعجازه واضح في كل لفظة من ألفاظه، وفي كل معنى من معانيه، وفي كل جانب من جوانبه. إنه روعة في بيانه وبلاغته، وروعة في أحكامه وقوانينه، وروعة في منهاجه وأسلوبه، وروعة في كل شيء ومعجزة خالدة فيه.

نعم، إن من أعجاز القرآن انبهار كل من يتلوه أو يستمع إليه وهو يملك بعضالإلمام باللغة العربية، وذلك في كل زمان ومكان، وبأي مستوى كان، فمعجزة القرآن معجزة متجددة أبدية، باقية وخالدة، بهرت جميع أهل الفصاحة والبلاغة، وكل العلماء والفصحاء،وحيرت أفكارهم،وأربكت عقولهم، وأدهشت ألبابهم وقلوبهم.

أجل، لقد تحدى القرآن الناس في أول نزوله، وبقي هذا التحدي كما هو إلى

ص: 160


1- سورة الإسراء، الآية: 88-89.

يومنا هذا، فلم يتمكن أحد من مقابلته، وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على خلود المعجزة القرآنية؛ إذ أنها لم تبهر العرب في أول نزول القرآن فحسب، بل بهرت الناس في كل عصر ومصر، وبقوا منبهرين غير قادرين على شيء من المقابلة وهم يسمعون آية التحدي.

آية التحدي

قال تبارك وتعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}(1).

إن القرآن ليس كلاماً عادياً، يتمكن كل أحد من الإتيان بمثله فقوله تعالى: {قُل} أي: يا رسول اللّه لهؤلاء {لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ} متعاونين بعضهم مع بعض {عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ} في جميع خصوصياتها البلاغية والمنهجية والعلمية، وسائر وجوه الإعجاز المقررة في كتب الكلام، {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} لأنه خارج عن طوقهم وقدرتهم {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا} أي معيناً، وظهراً يساعد بعضهم بعضاً، وقد مضى على القرآن ألف وأربعمائة عام، ولم يأت من يأتي بمثل القرآن، نعم جاء مسيلمة بالمضحكات، كقوله: (والنساءذات الفروج) وجاء الباب بالمبكيات كقوله: (إنا جعلناك خوصاناً خويصاً للخاوصين) أما من كان من أبلغ الناس وكان من المشركين، ففكر وقدر، ثم قال: إن هذا إلّا سحر يؤثر.

وكما أنه لم يأت بعصى موسى(عليه السلام) وإحياء عيسى(عليه السلام)، وغرق نوح(عليه السلام) أحد كذلك لم يأت بقرآن محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) أحد، و: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِن

ص: 161


1- سورة الإسراء، الآية: 88-89.

كُلِّ مَثَلٖ} بيّنا للناس، وجئنا بالأمثلة المختلفة في ألبسة شتى، كالإتيان بقصة موسى في سبعين لباساً، وهكذا، وهذا معنى التصريف، فإنه أن يقلب الشيء الواحد في صور شتى {فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} أي: جحوداً للحق مع إتمام الحجة عليهم.

إن اللّه أعطى القرآن إلى البشر معجزة للرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) ومنهاجاً للحياة السعيدة، وكلمة باقية يستنير بها الأقوام، ويهتدون سبيلاً، لكن الكفار الذين أبوا إلّا الجحود والتوغل في العناد، أغمضوا النظر عنه، واخذوا يتطلبون خوارق مادية لا تنفعهم في الحياة ولا تبقى مع الأجيال، وإنما طلبوها لمجرد العناد بعد وضوح الحجة(1).

نعم، لقد مرّ على هذا التحدي ألف وأربعمائة سنة، بل أكثر، وما زال قائماً باقياً يهدر في الآفاق، وينقر في الأسماع، وجميع الخلق يصغي لهذا التحدي ويخضع له مستسلماً منقاداً، خاشعاً عاجزاً، لا يجد بداً من الإذعان به، والاستسلام له.

هذا ولا يخفى أن أكثر الناس إدراكاً وفهماً لإعجاز القرآن الكريم هم العلماء والبلغاء، والأدباء والمفكرون، فإذا قارنوا بينه وبين كلام المخلوقين قالوا: أينالثرى من الثريا؟!

نعم، إن العرب المعاصرين للقرآن الحكيم على ما كانوا عليه من البلاغة والفصاحة، رأوا أنفسهم عاجزين أمام القرآن العظيم منذ أول لحظة ظهر فيها القرآن،وأيقنوا أنهم لا يتمكنون من الإتيان بمثله أبداً، وليس فقط بمثل القرآن وإنما حتى الإتيان بمثل سورة واحدة من القرآن الحكيم؛ ولذا يقول اللّه سبحانه

ص: 162


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 342.

وتعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ}(1)، ويقول عزّ وجلّ في آية أخرى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّثْلِهِ}(2)، والمعروف أن في القرآن سوراً كبيرة وسوراً قصيرة، والقصيرة منها ربما تكون سطراً واحداً، مثل سورة الإخلاص، وسورة الكوثر، كما في قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَعْطَيْنَٰكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(3)، ولم يستطع أي أحد أن يأتي بمثل هذه السورة الصغيرة.

النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) ينذر قومه

إن رسول الإسلام محمد بن عبد اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان أشرف قريش حسباً ونسباً، إنه كان من قبيلة بني هاشم التي عُرف رجالها بأنهم: سادة البطحاء، لكنه مع ذلك السؤدد والكرامة لم يكن من الأثرياء والأغنياء، ولا من أصحاب الأموال والأقطاعات، وكان طبيعة ذلك المجتمع القبلي، الذي كان يعيش فيه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مجتمعاً قاسياً غليظاً لا يؤمن إلّا بالقيم المادية، ولا يعطي وزناً إلّاللمال والثروة، في وسط هذا المجتمع القاسي والجافي، الغليظ والشديد أعلن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) عن معجزته الخالدة: القرآن الكريم، ودعاهم إلى الإيمان به، ولكن قريش حينما وجدت نفسها عاجزة عن معرفة سر القرآن وعظمته، وقد تحداها القرآن بالشيء المألوف لديها، والشائع عندها، وهو البلاغة والفصاحة، قابلته بالعداوة، وجابهته بكيل التهم، وحاولت بكل الوسائل إطفاء نوره، ومحو آثاره، عناداً ولجاجاً.

ص: 163


1- سورة البقرة، الآية: 23.
2- سورة يونس، الآية: 38.
3- سورة الكوثر، الآية: 1-3.

وإنما كان ذلك منهم عناداً ولجاجاً؛ لأنهم لما سمعوا بالقرآن أدركوا حقيقته الإعجازية، واستيقنوا عظمة بيانه، وإعجاز بلاغته، واستسلموا أمام تحدياته وأذعنوا بعجزهم عن مقابلته، ومع ذلك لم يؤمنوا به.

أقسام الحكومات في عصر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)

اشارة

ولبيان الموقف الذي اتخذه الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) مع قريش وحكومتها آنذاك، لا بد من الكلام بإيجاز عن أقسام الحكومات.

1- الحكومة الدكتاتورية: وهي التي تبتني على استبداد الشخص الحاكم، فإن فرداً واحداً يحكم إما بالتسلط، أو بالانقلاب العسكري، أو بالوراثة، أو غيرها من الأمور الاستبدادية، التي يتبعها الديكتاتور للوصول إلى الحكم، وهو يستعمل القانون كخادم لأغراضه دون أن يكون خادماً لتحقيق الغايات الرفيعة، وحماية الشعب.

2- الحكومة الأرستقراطية: وتبتني على حكم الأشراف، فإذا فرضنا بلداً فيه قبائل عديدة، ولكل قبيلة رئيس، فهؤلاء الرؤساء يجلسون في البلد في مكان خاص، ويحكمون البلاد بينهم، فلا يوجد مجلس ولا رئيس جمهورية ولا أمير يحكم، وإنما الذي يحكم هم رؤساء القبائل أو العشائر.

إلى غيرها من أقسام الحكومات(1).

النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) والوليد بن المغيرة

كانت حكومة مكة حكومة (أرستقراطية)، فقد كان فيها أربعون عشيرة بين كبيرة وصغيرة، وكان لكل واحدة منها زعيم، وهؤلاء الزعماء يجتمعون في مكان

ص: 164


1- راجع للتفصيل (الفقه، السياسة): 276 في أنواع الحكومات.

خاص يسمى (دار الندوة)(1) وكان من الزعماء رجل يدعى الوليد بن المغيرة(2)،وكان - بالإضافة إلى منصبه - يمتلك عشيرة كبيرة، وأولاداً كثيرين، وأموالاً جمة، وفي نفس الوقت كان من أبلغ العرب، وله شعر في غاية الجودة والمتانة، فقيل له: إن رجلاً يدعي أنه نبي مبعوث من قبل اللّه، فسأل: ممن هو؟

فأجابوا: من قريش.

فسأل: من هو؟

قالوا: محمد بن عبد اللّه.

ص: 165


1- وهي دار بناها قصي بن كلاب بن مرة في مكة إلى جانب الكعبة المشرفة، عندما جدد بناء البيت في القرن الثاني قبل الهجرة، وكانت تجتمع فيها قريش للمشاورة والحكومة والقضاء، فلا تزوج امرأة ولا يعقد لواء ولا يعذر غلام ولا تدرع جارية إلّا فيها، وقد سميت (ندوة) لأنهم كانوا يندون فيها للخير والشر، وهذا اللفظ مأخوذ من لفظ (الندي والنادي والمنتدى) وهو مجلس القوم الذي يندون حوله، أي: يذهبون قريباً منه ثم يرجعون. وقيل هي دار الدعوة يدعون للطعام والتدبير وغيرهما، وهذه الدار تعتبر من المسجد الحرام، وانتقلت هذه الدار بعد وفاة قصي بن كلاب إلى ابنه الأكبر عبد الدار، ثم لم تزل في أيدي بنيه حتى صارت إلى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي فباعها من معاوية بمائة ألف درهم، فلامه معاوية على ذلك وقال: بعت مكرمة آبائك وشرفهم، فقال: ذهبت المكارم إلّا التقوى، واللّه لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر وقد بعتها بمائة ألف درهم وأشهدكم أن ثمنها في سبيل اللّه تعالى فأينا المغبون؟ وفي هذه الدار أقر مشركو مكة مقاطعة بني هاشم، وفيها أيضاً تآمر المشركون على قتل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم). انظر: معجم البلدان 2: 423 و 5: 179-186 و... .
2- هو الوليد بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم، أبو عبد شمس من قضاة العرب في الجاهلية، ومن زعماء قريش ومن زنادقتها، أدرك الإسلام وهو شيخ هرم، فعاداه وقاوم دعوته، وقد ذكر أنه هو الذي جمع قريش وقال: إن الناس يأتونكم أيام الحج فيسألونكم عن محمد، فتختلف أقوالكم فيه، فيقول هذا: كاهن، ويقول هذا: شاعر، ويقول هذا: مجنون، وليس واحد مما يقولون، ولكن أصلح ما قيل فيه (ساحر) لأنه يفرق بين المرء وأخيه والزوج وزوجته. هلك الوليد بن المغيرة بعد الهجرة بثلاثة أشهر، ودفن بالحجون وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً مجرباً من دهاة العرب يتحاكمون إليه في الأمور وينشدونه الأشعار، فما أختاره من الشعر كان مختاراً، وهو أحد المستهزئين الخمس الذين كفى اللّه شرهم. انظر: الأعلام 8: 122 والكنى والألقاب 1: 40.

ثم التقى الوليد برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقال متسائلاً: هل تدعي أنك نبي؟

قال الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم): نعم.

قال الوليد: لو كان اللّه بعث رسولاً لبعثني أنا؛ لأني أمتلك أموالاً وأولاداً وشخصية كبيرة.

فلم يجبه الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) شيئاً وتركه، فاجتمع أشراف قريش في دار الندوة، وقالوا: ماذا تقول يا وليد في حلّ هذه المشكلة؟

قال الوليد: ما هو دليل محمد على النبوة؟

قالوا: دليله القرآن.

قال: ما هو القرآن؟

قالوا: كلمات يأتي بها ويقرأها ويقول: كلكم لا تتمكنون من الإتيان بمثل هذه الكلمات.

فطلب الوليد أن يأتوا له ببعض آياته، وجاء بعض ممن سمع القرآن وتلاه على الوليد، وعندما سمع الكلمات أنبهر الوليد وجذبته حلاوة القرآن؛ لأن مثل الوليد، وهو البليغ الفصيح، أعرف بالبلاغة والفصاحة، وأقدر على تشخيص إعجاز القرآن من غيره؛ لذلك قال: أعيدوا عليّ هذا الكلام ثانية، فإني لم أسمع كلاماً كهذا في حياتي، فأعادوا عليه الكلام، فذهب يفكّر فيه لمدة ثم قال لهم:ماذا تقولون يا معشر قريش وأشرافها فيه؟

قالوا: نقول: كاهن.

قال: لا واللّه، ما هو بكاهن؛ لأن الكاهن يتكلم بكلام خفي لا يسمع، ولا هو سجع الكاهن.

قالوا: فنقول: مجنون.

قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ومحمد ليس له حركات

ص: 166

المجنون، ولا يسير في الطرقات كالمجنون، ولا تخالجه الوسوسة، وغيرها من علامات الجنون.

قالوا: فنقول: شاعر.

قال: وما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.

قالوا: فنقول: ساحر.

قال: ما هو بساحر. لقد رأينا السحّارة وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

قالوا: فما تقول يا وليد؟

قال: واللّه إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، فشبّه كلامه بالنخلة التي ثبت أصلها وقوي وطاب فرعها إذا جنى، ولكن أشراف قريش طلبوا من الوليد أن يقول شيئاً في رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وفي قرآنه، حتى يوصلوه إلى الناس ويبعدوهم به عن النبي وعن قرآنه.

فقال الوليد: إن أقرب القول فيه أن تقولوا أنه ساحر، فأنزل اللّه تعالى في الوليد بن المغيرة هذه الآيات: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِأيَٰتِنَا عَنِيدًا *سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}(1).

القرآن يتوعّد المفترين

نقل العلامة الطبرسي(رحمه الله) في تفسيره (مجمع البيان) سبب نزول هذه الآيات

ص: 167


1- سورة المدثر، الآية: 11-26.

من سورة المدثّر:

أنهم حينما قالوا للوليد: نقول إنه ساحر، قال: وما الساحر؟ قالوا: بشر يحببون بين المتباغضين، ويبغضون بين المتحابين، قال: فهو ساحر، فخرجوا فكان لا يلقى أحد منهم النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إلّا قال: يا ساحر، يا ساحر، واشتد عليه ذلك فأنزل اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}(1). وبعد أن بيّن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) لأصحابه الآيات وقال: «إنها نزلت في الوليد بن المغيرة» جاء إلى الوليد جماعة؛ وقالوا له: إن محمداً يقول: نزلت آيات فيك، فطلب الوليد سماعها، ولم يذهب بنفسه إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه استثقل الأمر عليه، وأراد المحافظة على شخصيته بين أشراف قريش، فجاءوا بالآيات وقرؤوها عليه، وهنا ذكر المؤرخون: إنه لما سمع الوليد الآيات أخذته رعدة شديدة وقام يرتجف ارتجافاً شديداً - كأنه مصاب بنوبة من القشعريرة - وأغمي عليه من وقع الآيات المندوة به، ولم يمر عليه أكثر من ثلاثة أيام حتى هلك، وانتقل من هذه الدار حاملاً معه أعماله السيئة، وإضلاله الناس عن الحق، وقد وعده اللّه أن يلقيه في أسفل دركات جهنم، وهي النار المسماة ب- :«سقر». وهذه الحالة إنما أصابت الوليد بعد سماعه الآيات المذكورة، لأنه بليغ وعالم بالشعر واللغة فمن الطبيعي أنه عرف أنها من كلام اللّه عزّ وجلّ، ولكنه لايتحمل كلاماً كهذا... فلم يؤمن(2).

ص: 168


1- انظر: تفسير مجمع البيان 10: 178، وشجرة طوبى 2: 230.
2- انظر: تفسير القمي 2: 393، وقد ورد في كتاب الاحتجاج سبب آخر لهلاك الوليد بن المغيرة، حيث روي أن يهودياً قال لأمير المؤمنين(عليه السلام) - في حديث - : فإن هذا موسى بن عمران قد أرسله اللّه إلى فرعون وأراه الآية الكبرى؟ فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لقد كان كذلك، ومحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) أرسل إلى فراعنة شتى مثل: أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة، وشيبة وأبي البختري والنضر بن الحرث وأبي بن خلف ومنبه ونبيه ابني الحجاج وإلى الخمسة المستهزئين الوليد بن المغيرة المخزومي والعاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن أبي الطلالة، فأراهم الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق». قال له اليهودي: لقد انتقم اللّه عزّ وجلّ لموسى من فرعون؟ قال له علي(عليه السلام): «لقد كان كذلك، ولقد انتقم اللّه جلّ اسمه لمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) من الفراعنة؛ فأما المستهزؤون فقال اللّه: {إِنَّا كَفَيْنَٰكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ} سورة الحجر، الآية: 95. فقتل اللّه خمستهم كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد: فأما الوليد بن المغيرة فمر بنبل لرجل من خزاعة قد راشه ووضعه في الطريق فأصابه شظية منه فانقطع أكحله حتى أدماه فمات، وهو يقول: قتلني رب محمد، وأما العاص بن وائل السهمي، فإنه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده تحته حجر فسقط فتقطع قطعة قطعة فمات وهو يقول: قتلني رب محمد، وأما الأسود بن عبد يغوث، فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة فاستظل بشجرة فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشجرة، فقال لغلامه: امنع هذا عني، فقال: ما أرى أحداً يصنع شيئاً إلّا نفسك، فقتله، وهو يقول: قتلني رب محمد، وأما الأسود بن الحرث فإن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) دعا عليه أن يعمي اللّه بصره وأن يثكله ولده، فلما كان في ذلك اليوم خرج حتى صار إلى موضع أتاه جبرئيل بورقة خضراء فضرب بها وجهه، فعمي، فبقي حتى أثكله اللّه ولده، وأما الحرث بن أبي الطلالة فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشياً، فرجع إلى أهله فقال: أنا الحرث فغضبوا عليه فقتلوه، وهو يقول: قتلني رب محمد، وروي: أن الأسود بن الحرث أكل حوتاً مالحاً فأصابه غلبة العطش، فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه فمات وهو يقول: قتلني رب محمد، كل ذلك في ساعة واحدة؛ وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالوا له: يا محمد ننتظر بك إلى الظهر، فإن رجعت عن قولك وإلّا قتلناك، فدخل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) منزله فأغلق عليه بابه مغتماً لقولهم، فأتاه جبرئيل عن اللّه من ساعته، فقال: يا محمد، السلام يقرأ عليك السلام وهو يقول لك: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} سورة الحجر، الآية: 94، يعني أظهر أمرك لأهل مكة وادعهم إلى الإيمان، قال: يا جبرئيل، كيف أصنع بالمستهزئين، وما أوعدوني؟ قال له: {إِنَّا كَفَيْنَٰكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ} سورة الحجر، الآية: 95 قال: يا جبرئيل كانوا الساعة بين يدي؟ قال: كفيتهم، وأظهر أمره عند ذلك، وأما بقية الفراعنة قتلوا يوم بدر بالسيف، فهزم اللّه الجميع وولوا الدبر» انظر: الاحتجاج 1: 216.

وهكذا تحدّى القرآن الحكيم، كل شخصية كبيرة أو صغيرة، وكل بليغ وفصيح، منذ ذلك الزمان إلى يومنا هذا، مضافاً إلى أن القرآن الحكيم يحتوي على أشرف العلوم وكثير من المغيبات وما يحتاجه الإنسان لسعادته في الدنيا والآخرة فهو معجزة في ألفاظه ومعانيه، ومن ذلك اليوم وحتى يومنا هذا وما بعده لم يستطع ولن يستطيع الملحدون أو غيرهم أن يتحدّوا القرآن فيأتوا بمثله ولا

ص: 169

بعشر سور منه، بل ولا بسورة واحدة منه ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

مُفترو القرن العشرين

لقد تعصبت الجاهلية الأولى لعقيدة الآباء والأسلاف وافتروا على القرآن عناداً ولجاجاً فلم يؤمنوا به، ومضت الأعوام والقرون حتى جاءت الجاهلية الثانية، فتعصب أبناؤها كأسلافهم الأقدمين، وافتروا على القرآن عناداً وإلحاداً، وزادوا على الجاهلية الأولى، إن الأولى اكتفت بالكلام، وهؤلاء كتبوا في ذلك الكتب، وصنفوا المصنفات وأرادوا بث الشبهات حول القرآن الكريم والدين الإسلامي والرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم).

وإني أدعو جميع المنصفين، وأهل التحقيق والتدقيق إلى مراجعة تلك الكتب التي لم تدخر شتيمة إلّا ونثرتها على الإسلام والمسلمين، ولا فرية إلّا وألصقتها بالقرآن الكريم والنبي العظيم(صلی الله عليه وآله وسلم)، ومن جملة تلك الكتب، ما صدر في بلد إلحادي، وكان القائمون عليه ملحدون، وبطبيعة الحال الملحد ينكر أوضح الواضحات وهو: وجود الخالق لهذا الكون، والصانع لهذا العالم، مع إنه يستحيل أن يوجد شيء من الخلق بلا موجد ولا صانع، فكيف بهذا الكون الفسيح، والعالم الرحيب الدقيق؟ ومن ينكر الخالق لا رادع له من أن ينكر القرآن ويفتري عليه، فهو لا يؤمن بحقيقة ويرى كل شيء وهماً وخيالاً؛ ولكن القرآن الحكيم بقي معجزة يعجز الجميع عن الإتيان بمثله أو جزئه.

نعم، إن بعض الملحدين صعدوا إلى القمر وصنعوا المركبة الفضائية والطائرات وأشياء أخرى، ولكنهم في المعنويات متأخرون جداً، بل هم يكفرون بها ويحاربونها ويحاربون كل من يدعو إليها؛ ولذا حينما وجدوا أنفسهم عاجزين عن الوقوف بوجه القرآن، قالوا بتخرصات هوجاء، وأقوال باهتة خالية من الدليل والموضوعية، وبعيدة كل البعد عن المنطق والفكر الصحيح، وهذا

ص: 170

يعتبر اعتداء على مشاعر المسلمين، وانتهاك لمقدساتهم، وهذا عمل لا يمت إلى الإنسانية وإلى احترام حقوق الإنسان بصلة، لا من قريب ولا من بعيد، بل هو عمل الجاهلين الحاقدين.

الإلحاد المنّظم وحرب المقدسات

إن الملاحدة المنكرين لوجود اللّه تعالى، والمنكرين للقرآن بالتبع، كانوا موجودين في العالم دائماً وعلى مر التاريخ، ولكنهم كانوا مبعثرين، وليس لهم نظم في الصفوف، وتبليغ ودعايات للأفكار، كما نرى عليه اليوم الإلحاد الشيوعي في الاتحاد السوفيتي(1)، وما أشبه، حتى إنهم نظموا جماعات باسم الإلحاد وإنكار الخالق، وأنشئوا المراكز وفتحوا المدارس من أجل إدخال الناس في الإلحاد؛ ولذا ندعو الشباب إلى المطالعة والمعرفة، والوعي واليقظة، ليبصروا الحقائق، ويطلعوا على مكائد الملحدين، ويقفوا على كيفية ترويجهم للإلحاد، كي يأمنوا مكرهم ولا يقعوا في شباكهم، بل ويحبطوا مخططهم الإلحادي، وينقذوا الناس من فخاخهم. إن الملحدين في هذا العصر وفي وقت لا يتعدى الثلاث سنوات استطاعوا أن يزيدوا في دوائر إلحادهم ومؤسساتهمالإلحادية، وفي نشر أفكارهم المنحرفة والباطلة، وطبعوا ما يزيد على (217 كتاباً) في إنكار اللّه، وتكذيب جميع الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، والافتراء على كتب السماء وخاصة القرآن الحكيم، وهذا خطر يهدد العقل والعقلاء، والإنسان والإنسانية، فيلزم صدّه وإيقافه عند حدّه، وكشفه وفضحه(2).

ص: 171


1- أي: روسيا الفعلية فإنها كانت في زمان تأليف الكتاب تحت سيطرة الملحدين وكانت تدعى بالاتحاد السوفيتي، ومنها تسربت الأفكار الإلحادية إلى البلاد الإسلامية ومنها العراق.
2- وللإمام الشيرازي(رحمه الله) مؤلفات قيمة في هذا المجال، منها: (كيف عرفت اللّه) مطبوع عدة مرات، و: (هل تحب معرفة اللّه؟) مطبوع عدة مرات، وكثير غيرها من مؤلفاته في العقائد.
بداية التنظيم الإلحادي

اجتمع ثلاثة أشخاص من الملحدين في مكة أيام الحج لرد القرآن، وهم كما ورد في كتاب (الاحتجاج): عبد اللّه بن المقفع، وأبو شاكر الديصاني، وابن أبي العوجاء، فتوغلوا بين الحجيج لبث أفكارهم المسمومة في ما بينهم. وفكروا في أن يبطلوا الحج من خلال إبطال القرآن؛ لأنه أساس الإسلام والأحكام، والرسالة والرسول، ومكة والحج، وكل ما يمت إلى الإسلام بصلة، وكان هؤلاء الملاحدة الثلاثة فصحاء وبلغاء، ومن الذين درسوا العلوم، فقرروا أن يجتمعوا في السنة القادمة، وكل واحد منهم يأتي بمثل للقرآن كل بمقدار الثلث - أي: كل واحد منهم عشرة أجزاء - ثم يعرضون قرآنهم الجديد الذي يتحدى قرآن النبي محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) على زعماء المسلمين في مكة، ويقولون بأنهم قد تحدّوا القرآن وجاءوا بمثله.

ولكن حينما جاء موسم الحج من العام القادم، واجتمع بعضهم ببعض لم يأتوا حتى بآية واحدة مثل آيات القرآن، فقال أحدهم: إني لما طالعت القرآن بدقة علمت أنه لا أتمكن أن آتي بمثله؛ وذلك لأني وجدت في القرآن آية من المستحيل أن يأتيالبشر بمثلها، وهي التي تقول: {فَلَمَّا اسْتَئَْسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا}(1).

وهذه الآية الكريمة جاءت ضمن قصة يوسف(عليه السلام) وذلك عندما أراد إخوته أن يستبدلوا بنيامين الذي تم حجزه عنده بأحدهم، ولكنه رفض اقتراحهم ولم يستسلم لطلبهم؛ فلذا تقول الآية (فلما استيئسوا) من أن يأخذوا معهم أخاهم بنيامين (خلصوا نجياً)، وقال بعض المفسرين: إن الآية في غاية الفصاحة، وقمة البلاغة فلما يئس أخوة يوسف من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوه من أخذ

ص: 172


1- سورة يوسف، الآية: 80.

أحدهم مكانه وتخلية سبيل بنيامين ليذهب معهم {خَلَصُواْ نَجِيًّا} أي: انفردوا عن الناس من غير أن يكون معهم من ليس منهم، ليتناجوا في ما بينهم عما ينبغي لهم أن يهيّؤوه من أعذار عند ذهابهم إلى أبيهم وحدهم من غير أخيهم، وليتخذوا القرار الأخير في أنهم يرجعون أم يقيمون.

والخلاصة: انهم اعتزلوا عن الناس متناجين، وهذا اللفظ هو من جملة ألفاظ القرآن التي هي في غاية الفصاحة، ومنتهى البلاغة، إنه يحتوي على الإيجاز في اللفظ مع كثرة المعنى(1).

ولذا لم يستطع ذلك العالم الملحد، البليغ الفصيح أن يتحدى آية واحدة من القرآن فكيف بثلثه، بل أصبح الأمر لديه محالاً، لأنه أيقن بأنه معجزة، وقطع بأنه لا يتمكن من أن يأتي بمثل القرآن مع وجود مثل هذه الآية فيه.

أما الشخص الثاني فقال: إنني وعلى مرور الآنات في السنة كلما ضغطت على فكري، وأمعنت النظر في أمري، لم أتمكن من أن آتي بشيء مثل القرآن؛ لأني وجدت في القرآن ما لا أتمكن من الإتيان بمثله، فقد مرررت بما ورد فيقصة نوح من قوله تعالى: {وَقِيلَ يَٰأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَٰسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ}(2).

وهذه الآية المباركة جاءت ضمن قصة نوح(عليه السلام) وفي قضية طوفانه، وهي أيضاً من الآيات المعجزة في البلاغة والفصاحة، والتي جمعت معان كثيرة في ألفاظ وجيزة.

أما الشخص الثالث فقال: أنا مثلكما أيضاً، فأني لم أتمكن من الإتيان به،

ص: 173


1- انظر: تفسير مجمع البيان 5: 440.
2- سورة هود، الآية: 44.

لأني وجدت في القرآن آية في شأن أم موسى أعجزتني عن التحدّي، وهي قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}(1).

وهذه الآية المباركة تبين قصة موسى(عليه السلام) وكيفية ولادته وإرضاعه، وإلقائه في اليم ثم إرجاعه إلى أمه، ثم إرساله نبياً إلى فرعون، وهي أيضاً من الآيات التي جمعت في كلمات وجيزة وبليغة معان كثيرة وكبيرة.

وفي تلك الأثناء، وفي حين كان هؤلاء الملاحدة الثلاثة جالسين يتحدثون مر عليهم الإمام الصادق(عليه السلام) فتلا عليهم قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا}(2)(3).

وبتلاوته(عليه السلام) هذه الآية الكريمة عليهم، كشف عن تواطئهم على التحدي الذي قرّروه سراً بينهم، وأخبرهم أيضاً عن عجزهم على الإتيان ولو بسورة من مثله.

واجبنا تجاه القرآن الحكيم

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من قرأ القرآن حتى يستظهره ويحفظه أدخله اللّه الجنة وشفعه في عشرة من أَهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم...»(5).

ص: 174


1- سورة القصص، الآية: 7.
2- سورة الإسراء، الآية: 88.
3- انظر: الاحتجاج 2: 377، والصراط المستقيم 1: 42.
4- وسائل الشيعة 6: 169.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.

إن القرآن الحكيم كتاب سماوي أنزله اللّه تعالى لهداية البشر، فيتوجب على جميع المسلمين المكلفين أن يقرءوه، ويتدبروا آياته، ويتعلموا أحكامه، ويطبقوه في حياتهم، حتى يستعيدوا مجدهم وعزهم، ويستنزلوا الرحمة الإلهية عليهم، ولكن الذي يؤسف له حقاً، أن نرى القرآن مهجوراً في أوساطنا، ولا سيما بين الشباب، إلى درجة أن بعضهم لا يتمكن حتى من قراءة القرآن، فضلاً عن التدبر فيه، ومطالعة تفاسيره، والالتزام بحدوده.

ومن المؤسف أيضاً أن نرى البعض قد اقتصر على مجرد التبرك بالقرآن، فتراهم يقتنونه بخط جميل، وزخارف ملونة، ثم يضعونه على أحد رفوف المنزل وكفى!

ونرى البعض أنه يكلف نفسه فقط لتعلم قراءة سورة الفاتحة وسورة الإخلاص بالصورة الصحيحة، لتكون قراءته في الصلاة صحيحة، أما أكثر من ذلك فلا يهتم.

وعليه: فاللازم إقامة المحافل العديدة لتعليم القرآن الحكيم، وإدارة مجالس تجويد القرآن الكريم، وذلك في البيوت والمساجد والحسينيات، وحتى في المدارس والجامعات، لنربي جيلنا تربية إسلامية، ونغذيه بالثقافة القرآنية، فقد كانأول ما يتعلمه آباؤنا في السابق هو القرآن الكريم، ونحن كذلك شملنا هذا التعليم؛ إذ كنا نذهب إلى الكتاتيب، فكان المدرّس يعلّمنا من أول يوم قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} ثم يعلّمنا حروف التهجئة: (ألف، باء، تاء، ثاء...). وبعده يعلّمنا سورة الحمد وسورة الإخلاص، ثم جزء عمّ، ثم جزء تبارك، ثم والذاريات، ثم ننتقل من ذلك الصف إلى الصف الآخر، وعندما ينتهي أحدنا من ختم القرآن كان يفتخر به أهله وذووه، ويقيمون له احتفالاً (زفّة) احتفاءً به وتكريماً له، ويدعون الناس إلى ذلك الاحتفال، وهذه كانت سنة إسلامية متبعة في البلاد الإسلامية تحفز الفرد المسلم على التعلم والحفظ مع التطبيق.

ص: 175

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله اللّه عزّ وجلّ مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة، يقول: يا رب، إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي فبلغ به أكرم عطاياك، - قال: - فيكسوه اللّه العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة، ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب، قد كنت أرغب له في ما هو أفضل من هذا، فيعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره، ثم يدخل الجنة، فيقال له: اقرأ واصعد درجة، ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول: نعم» قال: «ومن قرأه كثيرا وتعاهده بمشقة من شدة حفظه، أعطاه اللّه عزّ وجلّ أجر هذا مرتين»(1).

تعلّم القرآن وتعليمه

لقد وردت روايات عديدة تحث على تعلم القرآن وتعليمه، وحفظه وتطبيقه،فقد روي عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أفضل العبادة قراءة القرآن»(2).

وروي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «تعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «الحافظ للقرآن، العامل به، مع السفرة الكرام البررة»(4).

أما اليوم فلا نرى إلّا عكس ذلك، فالطفل يدخل المدرسة الابتدائية، ويبقى

ص: 176


1- الكافي 2: 603.
2- وسائل الشيعة 6: 168.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 110 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.
4- الكافي 2: 603.

يتدرّج في مراحل الدراسة إلى أن يتخرج من الجامعة، وهو مع ذلك لم يدرس القرآن كمنهج دراسي، والبعض الآخر لم يقرأ القرآن حتى في داخل داره، ولا في محل عمله، والبعض الآخر لا يحسن قراءته، بل لم يعرف حتى قراءته، وهذا كله في صالح من تخطيط أعداء الإسلام لإبعاد المسلمين عن القرآن، وعن وعي أفكاره، والتدبر في أحكامه. ويدل على ذلك ما نشر في كتبهم من قول أحدهم في مقال له: (إنا رأينا أن الذين قادوا الحملة ضدنا نحن المستعمرين كانوا المتدينين بقيادة علمائهم، ففكرنا في أن نفصل بين الشعب وعلمائه، ووجدنا أن أفضل وسيلة لذلك تأسيس مدارس خالية من القرآن والدين). وبذلك استطاعوا إبعاد الشباب المسلم عن القرآن والدين(1).

نعم، هناك البعض المؤمن من شبابنا يجيدون قراءة القرآن ويلتزمون بتعاليمه، لكنهم لم يتعلموا قراءته ولم يلتزموا بتعاليمه عن طريق المدارس، وإنما عن طريق الوالدين أو أقاربهم المتدينين أو هيئات القرآن الحكيم في المساجد والمدارس، فجزاهم اللّه خيراً.

القرآن مصدر التقدّم والتطور

قيل لأبي الحسن الأول(عليه السلام): جعلت فداك، أخبرني عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) ورث النبيين كلهم؟

قال: «نعم».

قلت: من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه؟

ص: 177


1- راجع حول ذلك كتاب: (مذكرات المس بيل) والتي كانت في العراق قبل ثورة العشرين، و(مذكرات كينياز دالكوركي) و(بروتوكولات حكماء صهيون) للوقوف على خطر اليهود ومخططاتهم في العالم، وكتاب: (التبشير والاستعمار)، وكل هذه الكتب تحتوي على خطط الغربيين والشرقيين واليهود والصليبيين وعملائهم في البلاد الإسلامية.

قال: «ما بعث اللّه نبياً إلّا ومحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) أعلم منه».

قلت: إن عيسى بن مريم كان يحيي الموتى بإذن اللّه؟

قال: «صدقت، وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير، وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقدر على هذه المنازل». فقال: «إن سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وشك في أمره، {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}(1) حين فقده، فغضب عليه، فقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَاْذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَٰنٖ مُّبِينٖ}(2)؛ وإنما غضب لأنه كان يدله على الماء، فهذا وهو طائر قد أعطي ما لم يعط سليمان، وقد كانت الريح والنمل والإنس والجن والشياطين والمردة له طائعين، ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء وكان الطير يعرفه، وإن اللّه يقول في كتابه:{وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ}(3) وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه: ما تسير به الجبال، وتقطع به البلدان، وتحيا به الموتى، ونحن نعرف الماء تحت الهواء، وإن في كتاب اللّه لآيات ما يراد بها أمرٌ إلّا أن يأذن اللّه به مع ما قد يأذن اللّه مما كتبه الماضون، جعله اللّه لنا في أم الكتاب، إن اللّه يقول: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٖ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ}(4) ثم قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(5) فنحن الذين اصطفانا اللّه عزّ وجلّ وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شيء»(6).

ص: 178


1- سورة النمل، الآية: 20.
2- سورة النمل، الآية: 21.
3- سورة الرعد، الآية: 31.
4- سورة النمل، الآية: 75.
5- سورة فاطر، الآية: 32.
6- الكافي 1: 226.

إذن القرآن الكريم هو المصدر الأساسي للتقدم والتطور والسعادة في الدنيا والآخرة. وإذا أردنا أن نعرف شيئاً عن مكائد أعداء الإسلام ومخططاتهم الشيطانية تجاه المسلمين، نرى كيف أنهم يحاربون القرآن ويسعون لإبعاد الأمة عنه، ننقل هذا الكلام عن أحد رؤوسهم؛ ليكون شبابنا على معرفة بأهمية القرآن الكريم، وضرورة التدبر فيه والعمل به، لنهوض أمتنا الإسلامية؛ إذ في القرآن يكمن سر قوتنا وتقدمنا، فقد قال هذا الشخص في أحد مجالسهم التآمرية والقرآن بيده: (إذا أردتم أن تترسخ أقدامكم في البلاد الإسلامية فعليكم أن تأخذوا هذا الكتاب من يد المسلمين؛ لأن هذا الكتاب مبعث الاقتصاد، مبعث السيادة، مبعث العزم، مبعث الاجتماع، مبعث العائلة، مبعث التربية، مبعث تمام فكر المسلمين).

نعم، أدرك أعداء الإسلام أن القرآن الحكيم هو مصدر عزنا وكرامتنا، ورمز تقدمنا وتطورنا، فخطّطوا وبكل دقة مهارة للحيلولة بيننا وبينه، ولذا يتوجب على أبناء الأمة الإسلامية، الرجوع إلى القرآن الكريم، والجدّ في تعلّمه وتطبيق أحكامه، وإدخاله ضمن مناهج التعليم لكل المراحل الدراسية، وإقامة محافل القرآن في المساجد والحسينيات، والدور والبيوت، وإعطاء الأهمية القصوى لقراءة القرآن وتجويده وحفظه وإتقانه، وتعلمه وتدبره، ومعرفة أحكامه وتطبيقه؛ لأن القرآن كتاب حياة وتقدم وعزة وسيادة في الدنيا والآخرة، وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «اللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(1).

«اللّهم انفعنا بالقرآن العظيم، وأهدنا بالآيات والذكر الحكيم... اللّهم اجعلنا ممن يعتقد تصديقه، ويقصد طريقه، ويرعى حقوقه، ويتبع مفترض أوامره،

ص: 179


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه لعنه اللّه ابن ملجم.

ويرتدع منهي زواجره، ويستضيء بنور بصائره، ويقتني بأجر ذخائره، برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

من هدي القرآن الحكيم

بعثة الأنبياء وبعض أهدافها

قال اللّه تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(2).

وقال سبحانه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(3).وقال عزّ وجلّ: {رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(4).

القرآن يتحدى الجن والأنس

قال جلّ وعلا: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٖ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٖ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}(5).

وقال اللّه تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا}(6).

ص: 180


1- بحار الأنوار 89: 369.
2- سورة الحديد، الآية: 25.
3- سورة هود، الآية: 88.
4- سورة الطلاق، الآية: 11.
5- سورة هود، الآية: 13-14.
6- سورة الإسراء، الآية: 88.

وقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(2).

قال جلّ وعلا: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(3).

صيانة القرآن من التحريف

قال اللّه تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَٰفِظُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٌ * لَّا يَأْتِيهِ الْبَٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٖ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}(7).

ص: 181


1- سورة الطور، الآية: 33-34.
2- سورة يونس، الآية: 38.
3- سورة البقرة، الآية: 23.
4- سورة الحجر، الآية: 9.
5- سورة فصلت، الآية: 41-42.
6- سورة النساء، الآية: 82.
7- سورة الأعراف، الآية: 52-53.

التدبر في القرآن

قال اللّه تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).

وقال سبحانه: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

الشمولية والتكامل في القرآن

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذيلايغش، والهادي الذي لايضل، والمحدث الذي لايكذب»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ}(5) يعني: القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه؟ قال: «لا يأتيه الباطل من قبل التوراة، ولا من قبل الإنجيل والزبور، وأما من خلفه لا يأتيه من بعده كتاب يبطله»(6).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام) لما سأله رجل وقال: ما بال القرآن لايزداد عند النشر والدراسة إلّا غضاضة(7)؟ فقال(عليه السلام): «لأن اللّه لم ينزله لزمان دون زمان، ولا

ص: 182


1- سورة المائدة، الآية: 15- 16.
2- سورة ص، الآية: 29.
3- سورة محمد، الآية: 24.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176، ومن خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.
5- سورة فصلت، الآية: 41.
6- تفسير القمي 2: 266.
7- شيء غضّ: أي طري.

لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام) عند ذكر القرآن الكريم فعظّم الحجة فيه والآية والمعجزة في نظمه: «هو حبل اللّه المتين - إلى أن قال: - لا يخلق على الأزمنة، ولا يغث على الألسنة؛ لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، وحجة على كل إنسان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد»(2).

القرآن يتحدى الأجيال

قال العالم موسى بن جعفر(عليهما السلام) في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَامِن ثَمَرَةٖ رِّزْقًا قَالُواْ هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(3): «فلما ضرب اللّه الأمثال للكافرين المجاهرين الدافعين لنبوة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) والناصبين المنافقين لرسول اللّه، الدافعين ما قاله محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) في أخيه علي(عليه السلام) والدافعين أن يكون ما قاله عن اللّه عزّ وجلّ وهي آيات محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ومعجزاته مضافة إلى آياته التي بينها لعلي(عليه السلام) بمكة والمدينة، ولم يزدادوا إلّا عتواً وطغياناً، قال اللّه تعالى لمردة أهل مكة وعتاة أهل المدينة: {إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا} حتى تجحدوا أن يكون محمد رسول اللّه، وأن يكون هذا المنزل عليه كلامي، مع إظهاري عليه بمكة الباهرات من الآيات،

ص: 183


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 87.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 130.
3- سورة البقرة، الآية: 23- 25.

كالغمامة التي كانت تظله بها في أسفاره، والجمادات التي كانت تسلم عليه من الجبال والصخور والأحجار والأشجار، وكدفاعه قاصديه بالقتل عنه وقتله إياهم، وكالشجرتين المتباعدتين اللتين تلاصقتا فقعد خلفهما لحاجته، ثم تراجعتا إلى أمكنتهما كما كانتا، وكدعائه الشجرة فجاءته مجيبة خاضعة ذليلة، ثم أمره لها بالرجوع فرجعت سامعة مطيعة {فَأْتُواْ} يا قريش واليهود، ويامعشر النواصب المنتحلين الإسلام الذين هم منه برآء، ويا معشر العرب الفصحاء البلغاء ذوي الألسن {بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ} من مثل محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) من مثل رجل منكم لا يقرأ ولا يكتب، ولم يدرس كتاباً، ولا اختلف إلى عالم، ولا تعلم من أحد، وأنتم تعرفونه في أسفاره وحضره، بقي كذلك أربعين سنة، ثم أوتي جوامع العلم حتى علم علم الأولين والآخرين، فإن كنتم في ريب من هذه الآيات فأتوا بسورة من مثل هذا الرجل مثل هذا الكلام ليتبين أنه كاذب كما تزعمون؛ لأن كل ما كان من عند غير اللّه فسيوجد له نظير في سائر خلق اللّه، وإن كنتم معاشر قراء الكتب من اليهود والنصارى في شك مما جاءكم به محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) من شرائعه،ومن نصبه أخاه سيد الوصيين وصياً، بعد أن أظهر لكم معجزاته، منها: أن كلمته الذراع المسمومة، وناطقه ذئب، وحنَّ إليه العود وهو على المنبر،ودفع اللّه عنه السم الذي دسته اليهود في طعامهم، وقلب عليهم البلاء وأهلكهم به، وكثر القليل من الطعام {فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ} من مثل هذا القرآن، من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، والكتب المائة والأربعة عشر، فإنكم لا تجدون في سائر كتب اللّه سورة كسورة من هذا القرآن، وكيف يكون كلام محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) المنقول أفضل من سائر كلام اللّه وكتبه، يا معشر اليهود والنصارى، ثم قال لجماعتهم: {وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ} ادعوا أصنامكم التي تعبدونها أيها المشركون، وادعوا شياطينكم يا أيها اليهود والنصارى، وادعوا

ص: 184

قرناءكم الملحدين يا منافقي المسلمين من النصاب لآل محمد الطيبين(عليهم السلام)، وسائر أعوانكم على إرادتكم {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} بأن محمداً يقول هذا من تلقاء نفسه لم ينزله اللّه عليه، وأن ما ذكره من فضل علي على جميع أمته، وقلده سياسته ليس بأمر أحكم الحاكمين، ثم قال عزّ وجلّ: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي: لم تأتوا أيها المقرءون بحجة رب العالمين {وَلَن تَفْعَلُواْ} أي: ولا يكون هذا منكم أبداً {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} توقد فتكون عذاباً على أهلها {أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ} المكذبين بكلامه ونبيه الناصبين العداوة لوليه ووصيه، قال: فاعلموا بعجزكم عن ذلك أنه من قبل اللّه تعالى، ولو كان من قبل المخلوقين لقدرتم على معارضتي فلما عجزوا بعد التقريع والتحدي، قال اللّه عزّ وجلّ: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا}»(1)(2).

القرآن مصون من التحريف

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً! وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد، أفأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل اللّه سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) عن تبليغه وأدائه، واللّه سبحانه يقول: {مَّا

ص: 185


1- سورة الإسراء، الآية: 88.
2- بحار الأنوار 89: 28.

فَرَّطْنَا فِي الْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ}(1) وفيه تبيان كل شيء، وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وأنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(2) وأن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلّا به»(3).

وقال(عليه السلام): «هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الشبه والآراء»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن القرآن واحد نزل من عند واحد، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة»(5).

التدبر في القرآن

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر»(6).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن، أو يكون في تعليمه»(8).

ثواب قراءة القرآن

قال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن هذا القرآن مأدبة

ص: 186


1- سورة الأنعام، الآية: 38.
2- سورة النساء، الآية: 82.
3- الاحتجاج 1: 261.
4- عيون الحكم والمواعظ: 513.
5- الكافي 2: 630.
6- الكافي 1: 36.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 318.
8- الكافي 2: 607.

اللّه تعالى فتعلموا من مأدبة اللّه عزّ وجلّ ما استطعتم، فإنه النور المبين، والشفاء النافع فتعلموه، فإن اللّه تعالى يشرفكم بتعلمه، تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإن أخذهما بركة، وتركهما حسرة، ولا يستطيعهما البطلة، يعني: السحرة، وإنهما ليجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو عقابتان أو فرقان من طير صواف، يحاجان عن صاحبهما، ويحاجهما رب العالمين رب العزة، يقولان: يا رب الأرباب، إن عبدك هذا قرأنا، وأظمأنا نهاره، وأسهرنا ليله، وأنصبنا بدنه» إلى أن قال(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): وإن والدي القارئ ليتوّجان بتاج الكرامة، يضيء نوره من مسيرة عشرة آلاف سنة، ويكسيان حلة لا يقوم لأقل سلك منها مائة ألف ضعف ما في الدنيا، بما يشتمل عليه من خيراتها، ثم يعطى هذا القارئ الملك بيمينه في كتاب، والخلد بشماله في كتاب، يقرأ من كتابه بيمينه: قد جعلت من أفاضل ملوك الجنان، ومن رفقاء محمد سيد الأنبياء وعلي خير الأوصياء، والأئمة منبعدهما سادة الأتقياء، ويقرأ من كتابه بشماله: قد أمنت الزوال والانتقال عن هذا الملك، وأعذت من الموت والأسقام وكفيت الأمراض والأعلال، وجنبت حسد الحاسدين، وكيد الكائدين. ثم يقال له: اقرأ وأرق، ومنزلك عند آخر آية تقرؤها، فإذا نظر والداه إلى حليتيهما وتاجيهما قالا: ربنا أنّى لنا هذا الشرف ولم تبلغه أعمالنا؟ (فقال لهما كرام ملائكة اللّه عن اللّه عزّ وجلّ: هذا لكما لتعليمكما) ولدكما القرآن، قوله عزّ وجلّ: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}»(1)(2).

ص: 187


1- سورة البقرة، الآية: 1-2.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 60.

اللاعنف منهج وسلوك

اشارة

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(1).

العنف لغة

اشارة

العنف: أي الخرْق بالأمر وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق. عَنُفَ به وعليه، يَعْنُفُ عُنْفاً وعنافة وأعْنَفَه وعَنَّفَه تعْنيفاً، وهو عنيفٌ، إذا لم يكن رفيقاً في أمره. واعْتنف الأمر: أخذه بعنف.

وهو الشدة والمشقّة، وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشر مثله.

والعنيف: الذي لا يحسن الركوب وليس له رفق بركوب الخيل، وقيل: الذي لا عهد له بركوب الخيل، والجمع عُنُفٌ؛ قال:

لم يركبوا الخيل إلّا بعدما هرموا *** فهم ثقالٌ على أكتافها عنف

وأعنف الشي ء: أخذه بشدَّة. واعتنف الشي ء: كرهه، واعْتنف الأرض: كرهها واسْتوخمها. واعْتنفته الأرض نفسها: نبتْ عليها.

وقال أبو عبيد: اعْتنفْتُ الشي ء كرهْتُه ووجدت له علي مشقة وعنْفاً. واعْتنفْت الأمر اعْتنافاً: جهلته.

قال: واعتفْت الأمر اعْتنافاً، أي: أتيته ولم يكن لي به علم.

ص: 188


1- الكافي 2: 119.

قال الباهلي: أكلت طعاماً فاعْتنَفَتهُ، أي: أنكرتهُ، قال الأزهري: وذلك إذا لم يوافقه.

ويقال: طريق مُعْتنفٌ أي غير قاصدٍ. وقد اعْتنف اعْتنافاً إذا جار ولم يقْصِد، وأصله من اعتنفت الشي ء إذا أخذته أو أتيته غير حاذق به ولا عالم، والتعنيف: التعيير واللوم(1).

العنف والنفس الإنسانية

كثيراً ما نسمع بمصطلح (العنف) وتصادفنا في حياتنا اليومية نماذج كثيرة من هذا القبيل، فنلاحظ أحياناً أناساً تثور ثائرتهم لأتفه الأسباب، ويقدمون على أعمال خطيرة في حالة غضبهم يندمون عليها أشد الندم في ما بعد، وهذه الحالة حيرت عقول أغلب المحللين الاجتماعيين وعلماء النفس.

فالنفس الإنسانية فيها قوى خيرة تجر الإنسان إلى عمل الخير والصلاح، وفيها أيضاً قوى عدوانية شريرة تحاول جر الإنسان إلى الأعمال الشريرة، والعنف من المصاديق الظاهرية لتغلب القوى الشريرة في الإنسان على القوى الخيرة، وهو من المشاكل المهمة التي صادفت الإنسان في سالف الزمان وإلى يومنا هذا؛ فكثير من الحروب المدمرة وجرائم القتل الفردية والجماعية، وانتشار الحقد والعداوة بين الناس، كان بسبب العنف، أو كان العنف السبب الرئيسي فيها، فإن الحرب العالمية الأولى - على سبيل المثال - كانت لأسباب عديدة ولكن السبب المباشر - على ما قالوا - كان اغتيال ولي العهد النمساوي في سراييفو بيد أحد الوطنيين الصرب؛ وذلك بسبب النزعة القومية للصرب. فعزمت النمسا على ضرب النزعة القومية في البلقان والقضاء عليها بإعلان الحرب على صربيا، وما

ص: 189


1- انظر: لسان العرب 9: 257، مادة (عنف) ومجمع البحرين 5: 104، مادة (عنف).

لبثت أن تداخلت التحالفات واشتعلت الحروب في جميع أنحاء أوروبا وامتدت إلى تركيا والشرق. وفاقت هذه الحرب كل ما سبقها من الحروب هولاً وتدميراً، فقد اشترك فيها نحو (65 مليون) مجند وكان القتلى نحو (9 ملايين) من العسكريين ويقدر عدد الضحايا المدنيين بعشرة ملايين، هذا عدا المشوهين والجرحى.

ومن ثمة كانت هذه الحرب أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية التي اشترك فيها نحو (92 مليون) مجند.

وقد اختلف في عدد القتلى الذي قدر بحوالي (49 مليون) قتيل(1).

هذا في التاريخ الحديث، أما في التاريخ القديم فمن الأمثلة على ذلك هو ما يسمى بحرب داحس والغبراء التي جرت بين قبيلتي عبس وذبيان لخلاف وقع على سباق بين فرسين عرفت الحرب باسميهما (داحس والغبراء) واستمرت هذه الحرب أربعين سنة(2).

والحرب الأخرى حرب البسوس التي استمرت أربعين عاماً من سنة (494 - 534م) بين بكر وتغلب، والبسوس بنت منقذ التميمية، زارت أختها أم جساس ابن مرة، ومع البسوس جار لها من جرم يقال له: سعد بن شمس ومعه ناقة له، فرماها كليب وائل لما رآها في مرعى قد حماه، فأقبلت الناقة إلى صاحبها وهي ترغو وضرعها يشخب لبناً ودماً، فلما رأى ما بها انطلق إلى البسوس فأخبرها بالقصة، فقالت: واذلاه واغربتاه، وأنشأت تقول أبياتاً تسميها العرب أبيات الفناءوهي:

ص: 190


1- انظر: المنجد في الأعلام: الحرب العالمية الأولى (28/7/1914- 11/11/1918م) حرف (الحاء).
2- المنجد في الأعلام: داحس والغبراء، حرف (الدال).

لعمري لو أصبحت في دار منقذ *** لما ضيم يعد وهو جار لأبياتي

ولكنني أصبحت في دار غربة *** متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي

فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل *** فإنك في قوم عن الجار أمواتي

ودونك أذوادي فخذها وآتني *** بها حلة لا يغدرون ببنياتي

فسمعها ابن أختها جساس فقال لها: أيتها الحرة اهدئي فواللّه لأقتلن بلقحة جارك كليباً، ثم ركب فخرج إلى كليب فطعنه طعنة أثقلته فمات منها، ووقعت الحرب بين بكر وتغلب، فدامت أربعين سنة وجرت خطوب وصار (شؤم البسوس) مثلاً ونسبت الحرب إليها وهي من أشهر حروب العرب(1).

العدوانية وعلاجها

لقد حاول أغلب المحللين الاجتماعيين وعلماء النفس وضع القواعد السلوكية والقوانين الاجتماعية لتنظيم أعمال الإنسان وإيجاد الضوابط المحكمة للسيطرة على عدوانية النفس الإنسانية، أو على الأقل تحجيم آثارها، ولكنهم فشلوا في علاج هذه الحالة العلاج الشافي والفعّال، وذلك لعدة أسباب منها:

أولاً: إن محاولاتهم العلاجية كانت جزئية، ونظرتهم للنفس الإنسانية كانت ضيقة؛ ولهذا كانت أغلب محاولاتهم موضعية ووقتية؛ فقد ركزوا على جانبواحد من جوانب النفس الإنسانية وحاولوا ربط هذه الحالة به، فبعضهم نسب

ص: 191


1- الغدير 4: 122.

ذلك إلى الجن والشياطين وما إلى ذلك، أي: ربط حالة العدوانية التي تظهر على النفس الإنسانية بهذه الموضوعات.

ثانياً: البعض الآخر رد ذلك إلى نفس الإنسان، وقال: إن الإنسان مجبور على إظهار عدوانيته، لأن نفسه فيها جانب شرير وجانب خير، إلى غير ذلك من التفسيرات غير الصحيحة.

وكل هذه الآراء والتبريرات غير صحيحة ولا تعالج عدوانية الإنسان، بل في بعض الأحيان تزيد هذه الآراء من العدوانية؛ لأنه سوف يجد مبرراً لأفعاله العدوانية إما بنسبتها إلى قوى خارجية كالجن والشياطين، أو نسبتها إلى نفسه ولكن من جانب الاضطرار والإجبار.

العلاج الإسلامي

أما الإسلام فقد وضع البدائل، ودل الإنسان على العلاج الشافي لهذا المرض العضال، فأوجد له تعاليم وسنّ له القوانين التي إذا اتبعها بصورة موزونة وسليمة فإنه بلا شك سوف يتغلب على هذه المشكلة وتهدأ نفسه ويرتاح ضميره أي يصبح هادئاً مطمئناً.

فمثلاً: ينصح لعلاج الغضب بالتفكر بالآيات والروايات الشريفة التي وردت في ذم الغضب ومدح كظم الغيظ والعفو والحلم، وبالتفكر في توقعه عفو اللّه عن ذنوبه وكف غضبه عنه.

ومما روي حول الغضب ما جاء عن أبي جعفر(عليه السلام) وقد ذكر الغضب عنده فقال(عليه السلام): «إن الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتى يدخل النار، فأيما رجل غضب على قوم وهو قائم فليجلس من فوره ذلك؛ فإنه سيذهب عنه رجزالشيطان، وأيما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسه، فإن الرحم إذا

ص: 192

مست سكنت»(1).

وقال بعضهم: (علاج الغضب أن تقول بلسانك: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم وهكذا أمر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يقال عند الغيظ)(2).

العمل والتقدم

ومن أسباب العنف الجهل، أما الإسلام فقد أكد على العلم في آيات وروايات عديدة، كما أكد على العمل المقترن بالعلم واللاعنف أيضاً.

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «طلب المراتب والدرجات بغير عمل جهل»(3).

وقال(عليه السلام): «العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه، وإلّا ارتحل عنه»(4).

إنّ من الواضح والجلي أن سر تقدم الإنسان كفرد، وتقدم المجتمعات والشعوب بصورة عامة وازدهارها مرتبط بالعمل الجاد المتواصل الذي يقوم به الأفراد أو المجتمعات، ولم يحصل أن أمة من الأمم امتلكت ناصية العلم والتقدم والرقي مع تكاسل أفرادها وفتور هممهم وعدم التفاتهم إلى مسؤوليتهم، وعندما ينتاب أبناء الأمة الفتور والكسل والتقاعس عن العمل يكون مصير أمتهم الجمود والتأخر والتخلف عن مسيرة الأمم المتقدمة، فقد قال أميرالمؤمنين(عليه السلام): «من رقى درجات الهمم عظمته الأمم»(5).

ص: 193


1- الكافي 2: 302.
2- انظر: بحار الأنوار 70: 272 ضمن الحديث 22.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 435.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 366.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 621.

وقال(عليه السلام): «ما رفع إمرأ كهمته ولا وضعه كشهوته»(1).

وقال(عليه السلام): «ينبغي أن يكون التفاخر بعلي الهمم والوفاء بالذمم والمبالغة في الكرم، لا ببوالي الرمم ورذائل الشيم»(2).

وقال (صلوات اللّه وسلامه عليه): «كن بعيد الهمم إذا طلبت، كريم الظفر إذا غلبت»(3).

إذن، العمل صفة ملازمة للتقدم والرقي، قال تعالى في كتابه الكريم: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ}(4). فقد ذكر سبحانه أنه تبارك وتعالى لا يمنع لطفه عن أحد، فهو كما يعطي المؤمن يعطي الفاسق، لكن الفرق في السعادة هنا، فإن الفاسق لا يهنأ بالسعادة، كما أن الآخرة خاصة بالمؤمن فإن {كُلًّا} من المؤمن والكافر {نُّمِدُّ} أي: نعطيهم من الدنيا {هَٰؤُلَاءِ} الذين يريدون الآخرة {وَهَٰؤُلَاءِ} الذين يريدون العاجلة {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} يا رسول اللّه، أي: نعمته وفضله {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} أي: ممنوعاً فإنه يشمل البر والفاجر(5).

فليست الملازمة محصورة بأمة من الأمم أو مذهب دون آخر، بل بقدر ما تعطي تأخذ، وبقدر ما تكرس الأمم حياتها للعمل فإنها تتقدم، ولا شك في صحة هذا الأمر ومصاديقه أشهر من أن تحصر بأمثلة.

تقدم الغرب

إن الملاحظ للتقدم التقني والحضاري والعمراني لدول الشرق والغرب من

ص: 194


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 701.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 798.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 530.
4- سورة الإسراء، الآية: 20.
5- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 298.

غير المسلمين، يجد أن التقدم الذي أحرزته هذه الدول في بعض جوانب الحياة المادية - تقنياً وما أشبه - كان نتيجة طبيعية؛ لأنها سلكت بعض سبل التقدم وعملت بجد وتواصل، وسبقتنا في هذه الميادين. نحن لدينا القرآن الحكيم، لدينا سيرة النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وآل بيته(عليهم السلام) ولكن تخاذل البعض منا وفتورهم جعلنا نعيش في الهامش فلم نستطع أن نساير ركب التقدم.

إن اللّه سبحانه وتعالى جعل الدنيا دنيا الأسباب والمسببات؛ إذ لكل معلول علة، ولكل نتيجة سبب وطريق، فمن سلك الطريق وكان طريقه صحيحاً وصل إلى النتيجة المطلوبة، والعكس بالعكس. ومن الواضح أن طريق التقدم والتكامل في هذه الحياة هو العمل الجاد، فمن التزم به تقدم حتى لو كان كافراً، ومن تخلى عنه تأخر حتى لو كان مؤمناً، يعني ليس هناك تقدم بدون عمل سليم وجدِّي فقد قال سبحانه وتعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

نحن مسلمون، ويقيناً أننا على الحق في المبدأ والعقيدة، وطريقنا طريق الحق، والمبادئ الإسلامية السمحاء هي التي تضمن السعادة والرفاه للإنسان، ومن كان طريق الحق مسلكه فإن الفلاح والنصر حليفه، فقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عمل بالحق أفلح»(2)، وقال(عليه السلام): «العاقل يعتمد على عمله،الجاهل يعتمد على أمله»(3)، وما هذه النتائج السيئة التي حصلنا عليها إلّا نتيجة طبيعية لقلة عملنا وفتور همتنا، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن ماضي يومك

ص: 195


1- سورة الإسراء، الآية: 20.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 155.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 151.

منتقل، وباقيه متهم، فاغتنم وقتك بالعمل»(1).

وقال(عليه السلام): «بادروا أعمالكم وسابقوا آجالكم فإنكم مدينون بما أسلفتم ومجازون بما قدمتم ومطالبون بما خلفتم»(2)، فنحن لم نعمل بالقدر الذي يفترض علينا أن نعمله ولذلك سبقتنا الأمم العاملة في كثير من جوانب الحياة.

العمل شعار المؤمن

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «العمل شعار المؤمن»(3).

وفي كلام آخر له(عليه السلام): «العمل رفيق الموقن»(4).

نعم، لكي يلحق المسلمون بركب الأمم المتقدمة لا بد لهم من العمل المتواصل الدؤوب وبقدر العمل ستكون النتائج، حيث يقول تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}(5) فإن قوله سبحانه يعني: ليس له من الجزاء إلّا جزاء ما عمل دون غيره، فإنه لو لم يعمل شيئاً ما استحق شيئاً لا ثواباً ولا عقاباً(6).

وفي الآية التي تليها قال الحق تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ}(7) فإنه يراهبنفسه - أي جزاء العمل - في دار الدنيا جزاءً بالمدح أو بغير ذلك، فإن الدنيا قبل الآخرة دار المكافآت، ولا يجتني الجاني من الشوك العنب - كما في المثل -(8).

فالنتيجة في الدنيا هي الثمرة التي تجنيها الشعوب العاملة من رفعة وتقدم

ص: 196


1- عيون الحكم والمواعظ: 150.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 152.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 151.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 151.
5- سورة النجم، الآية: 39.
6- انظر: التبيان في تفسير القرآن 9: 435.
7- سورة النجم، الآية: 40.
8- تفسير تقريب القرآن 5: 273.

وعزّ وسيادة، في الوقت الذي تبتلي فيه الشعوب الخاملة بالفقر والتأخر والشعور بالإحباط والتقصير.

يقول أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «من قصر في العمل ابتلي بالهم...»(1).

أما في الآخرة فالعمل ميزان الأعمال حيث يقول تعالى: {... أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}(2).

وطبيعي أن الذي نقصده بالعمل هو العمل الصالح المثمر، الذي فيه خير الدنيا والآخرة الذي أمرنا به اللّه تعالى؛ إذ قال عزّ وجلّ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(3).

فأعمالنا تقع تحت رقابته تعالى، كما أنها تعرض على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) فهل من اللائق أن يكون عمل الإنسان يميل إلى العنف بمحضر الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)؟

فقد قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ما لكم تسوؤن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)؟». فقال رجل: جعلت فداك وكيف نسوؤه؟

فقال: «أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية اللّه ساءهذلك، فلا تسوؤا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وسرُّوه»(4).

وعن بريد العجلي قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): {اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}؟ فقال: «ما من مؤمن يموت ولا كافر فيوضع في قبره حتى

ص: 197


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 127.
2- سورة آل عمران، الآية: 195.
3- سورة التوبة، الآية: 105.
4- الكافي 1: 219.

يعرض عمله على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وعلى علي(عليه السلام) فهلمَّ جَرّا إلى آخر من فرض اللّه طاعته على العباد»(1).

العمل المصحوب باللاعنف

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان في ما أوصى به رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) علياً(عليه السلام): ... يا علي ثلاث من لم تكن فيه لم يقم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّ وجلّ، وخُلُق يداري به الناس، وحلم يرد به جهل الجاهل»(2).

إنّ الإنسان الذي يتولى عملاً من الأعمال أو مسؤولية من المسؤوليات، غالباً ما يواجه ببعض العقبات والصعوبات والمعوقات التي تعترض سير عمله، وقد تكون هذه العقبات مادية أو معنوية. وتختلف ردود أفعال الناس تجاه هذه العقبات من شخص لآخر تبعاً لدرجة الوعي والإيمان الذي يمتلكه الفرد، وتبعاً لتكامل شخصية العامل - من ناحية الخبرة والنضوج والهمة - فقد قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «قدر الرجل على قدر همته، وصدقه على قدر مروءته، وشجاعته على قدر أنفته، وعفته على قدر غيرته»(3).

فقد ينهزم شخص أمام أبسط العقبات؛ لأنه لا يعتقد بإمكانية تجاوزها، وقد يصمد آخر أمام أعتى وأشد الصعوبات.إذن، فالذي يترتب علينا هو أن نهيئ أنفسنا ونعدها إعداداً يمكننا من مجابهة الصعوبات التي تعترض طريق عملنا؛ لنواصل العمل بكل جد ومثابرة.

أما كيف يمكن تجاوز الصعوبات حتى يستمر العمل ويعطي نتائجه؟

فإن أهم ما يتطلبه العمل الصحيح الذي يعطي ثماره ويرضاه اللّه سبحانه

ص: 198


1- بصائر الدرجات 1: 428.
2- الخصال 1: 124.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 49.

وتعالى، هو أن يكون مصحوباً باللاعنف وممتزجاً بالتقوى والورع والأخلاق، روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «دخل يهودي على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وعائشة عنده، فقال: السام عليكم، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): عليكم، ثم دخل آخر، فقال مثل ذلك، فرد عليه كما رد على صاحبه، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك، فرد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كما رد على صاحبيه، فغضبت عائشة فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة، يا معشر اليهود، يا إخوة القردة والخنازير!

فقال لها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا عائشة، إن الفحش لو كان ممثلاً لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شي ء قط إلّا زانه، ولم يرفع عنه قط إلّا شانه...»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما وضع الرفق على شيء إلّا زانه، ولا وضع الخُرق(2) على شي ء إلّا شانه، فمن أعطي الرفق أعطي خير الدنيا والآخرة، ومن حُرِمه فقد حرم خير الدنيا والآخرة»(3).

لذا يجب أن يخلو عملنا من العنف، ويمتاز بالتفاهم والخُلُق الرفيع واحترام الرأي الآخر، ومتى ما اقترنت هذه الصفات مع عمل أي فرد أو جماعة أو أمة فإنها سترتقي به سلم التقدم والسيادة، فعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «إن يهودياً يقال له: حويحر كان له على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) دنانير فتقاضى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)فقال له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك، فقال: إني لا أفارقك يا محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) حتى تعطيني، فقال: إذاً أجلس معك، فجلس(صلی الله عليه وآله وسلم) معه، فصلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يتهددونه ويتوعدونه، ففطن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: ما الذي

ص: 199


1- الكافي 2: 648.
2- الخُرق: الجهل والحمق.
3- النوادر للراوندي: 4.

تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يهودي يحبسك؟! فقال: نهى تبارك وتعالى أن أظلم معاهداً ولا غيره.

فلما ترحل النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل اللّه. أما واللّه ما فعلتُ بك الذي فعلت إلّا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت في التوراة محمد بن عبد اللّه، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، وليس بفظ ولا غليظ ولا سحاف(1) في الأسواق، ولا مرس بالفحش، ولا قول الخطأ. أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنك رسول اللّه، وهذا مالي فاحكم فيه بما أراك اللّه تعالى. وكان اليهودي كثير المال»(2).

الغضب من مصاديق العنف

الغضب لغة: نقيض الرضا، وهو من مصاديق العنف(3).

وقد ورد النهي عنه في الروايات الشريفة قال النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «أركان الكفر أربعة: الرغبة والرهبة والسّخط والغضب»(4).وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ خلق الجنة قبل أن يخلق النار - إلى أن قال: - وخلق الرحمة قبل الغضب، وخلق الخير قبل الشر...»(5).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال الحواريون لعيسى ابن مريم(عليه السلام): يا معلم الخير، أعلمنا أي الأشياء أشد؟

ص: 200


1- في مستدرك الوسائل: ولا سخّاب: أي صيّاح.
2- الجعفريات: 182.
3- وقد غضب عليه غضباً ومغضبةً، وأغضبته أنا فتغضَّبَ، وغضب له: غضب على غيره من أجله ورجلٌ غضبٌ، وغَضُوبٌ، وغُضُبٌّ، بغير هاء، وغُضُبَّة وغَضُبَّة - بفتح الغين وضمها وتشديد الباء - وغضبان: يغضبُ سريعاً، وقيل شديد الغضب، والأنثى غَضْبى وغضوب، لسان العرب 1: 648، مادة (غضب).
4- الكافي 2: 289.
5- الكافي 8: 145.

فقال: أشد الأشياء غضب اللّه عزّ وجلّ.

قالوا: فبم يُتّقى غضب اللّه؟

قال: بأن لا تغضبوا.

قالوا: وما بدء الغضب؟

قال: الكبر والتجبر ومحقرة الناس»(1).

نعم، إذا لم يتمالك الإنسان غضبه وتركه يسيطر عليه فعند ذلك تكون أفعاله قريبة إلى الخطأ بنسبة كبيرة، وربما يتحول إلى وحش كاسر يهدم حياته ويضر بحياة الآخرين، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «الغضب ممحقة لقلب الحكيم - وقال - من لم يملك غضبه لم يملك عقله»(2).

والشواهد الخارجية كثيرة على ذلك، فتلاحظ الإنسان الغضوب يقدم على أعمال غير عقلائية، مثلاً يكسر زجاج البيت أو التحف النادرة فيحطم كل ما يصادفه في حالة غضبه، ولكن عندما يهدأ يندم على كل عمل قام به في حالة غضبه، وهو دليل على أن تصرفاته لا تكون عن تعقل وإدراك، وإنما تصرف قريب من تصرفات الإنسان المريض (المجنون)، وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحدة ضرب من الجنون؛ لأن صاحبها يندم، فإن لم يندمفجنونه مستحكم»(3).

وقد وصف الغضب بأنه مهما اشتدت نار الغضب وقوي اضطرامها أعمى صاحبه وأصمه عن كل موعظة، فالموعظة لا تؤثر عليه بل تزيده غيظاً؛ لأن نور العقل ينمحي بدخان الغضب الذي ينبعث من غليان دم القلب إلى الدماغ،

ص: 201


1- الخصال 1: 6.
2- الكافي 2: 305.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 255.

فصار دماغه ككهف أضرمت فيه نار فاسودَّ جوانبه وامتلأ بالدخان، وكان فيه سراج ضعيف فانطفأ وانمحى نوره، فلا يثبت فيه قدم ولا يسمع فيه كلام ولا ترى فيه صورة ولا يقدر على إطفائه لا من داخل ولا من خارج، ... فيحرق جميع ما يقبل الاحتراق، فكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ، وربما يقوى نار الغضب فتفنى الرطوبة التي بها حياة القلب فيموت صاحبه غيظاً... ، ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغيّر اللون وشدة الرعدة في الأطراف، وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام، واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمرّ الأحداق، فلو رأى الغضبان في حال غضبه قبح صورته لسكن غضبه؛ حياءً من قبح صورته واستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره؛ لأن القبح منه انتشر إلى الظاهر... ، فأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش وقبح الكلام، الذي يستحيي منه ذوو العقول ويستحي منه قائله عند فتور الغضب(1)، لذا قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما رأى قوماً يدحرجون حجراً: «أشدكم من ملك نفسه عند الغضب، وأحملكم من عفا بعد المقدرة»(2).

نصائح الأطباء

إن أغلب الأطباء وعلماء الاجتماع ينصحون الإنسان أن لا يقدم في حالة غضبه على تناول الطعام أو الشراب أو أي عمل ذي أهمية؛ لأن نتائج هذه الأعمال سوف تكون سلبية، فقد ذكرت الأبحاث الحديثة حول موضوع الغضب: إن الغضب كصورة من صور الانفعال النفسي يؤثر على قلب الشخص الذي يغضب تأثير العدو أو الجري على القلب، وانفعال الغضب يزيد من عدد مرات

ص: 202


1- انظر: سفينة البحار 6: 651.
2- تحف العقول: 45.

انقباضه في الدقيقة الواحدة فيضاعف بذلك كمية الدماء التي يدفعها القلب، أو التي تخرج منه إلى الأوعية الدموية مع كل واحدة من هذه الانقباضات أو النبضات، وهذا بالتالي يجهد القلب؛ لأنه يقسره على زيادة عمله عن معدلات العمل الذي يفترض أن يؤديه بصفة عادية أو ظروف معينة.

وقد لوحظ أن الإنسان الذي اعتاد على الغضب يصاب بارتفاع ضغط الدم ويزيد عن معدله الطبيعي، كما أن شرايينه تتصلب جدرانها وتفقد مرونتها وقدرتها على الاتساع لكي تستطيع أن تمرر تلك الكمية من الدماء الزائدة التي يضخها القلب المنفعل؛ لهذا يرتفع الضغط عند الغضب.

كما ذكر أن الغضب المكبوت له مساوئ لا تقل عن الغضب الصريح، فقد تصل الحالة إلى الإصابة بمرض السرطان، كما الغضب الصريح قد يؤدي إلى الإصابة بأزمات قلبية قاتلة.

فمادامت نتائج الغضب سلبية إلى هذا الحد وأكثر من ذلك، فلندع الغضب ونكون هادئين في جميع تصرفاتنا مع أنفسنا ومع الآخرين حتى نحصل على نتائج إيجابية مرضية للّه عزّ وجلّ ورسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) ولأنفسنا.

منهج اللاعنف

في سيرة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)إنَّ المتتبع لسيرة النبي المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار(عليهم السلام) يلاحظ بكل وضوح أن منهجهم بعيد كل البعد عن العنف والعصبية، ففي كل الجوانب تجدهم(عليهم السلام) ميّالين إلى السلم والتفاهم، فلم يدوّن لنا التاريخ نموذجاً واحداً على عمل عنيف قاموا به، بل على العكس فإن جميع أعمالهم كانت مفعمة بالحب والخير والصلاح والإصلاح. فالرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) رغم الآلام

ص: 203

والخطوب التي حفّت بحياته، نجده باسم الثغر، يعامل صديقه وعدوه بصدر رحب ملؤه الحب والحنان، وبهذا الأسلوب استطاع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يستميل قلوب الناس إليه وإلى دعوته حتى أعدائه، وبهذه الطريقة اكتسح الظلام الذي كان يعم المعمورة، فحرّر الفكر من الأوهام الجاهلية، وكشف الواقع المشرق للحياة، بأسلوبه الهادي الرقيق ولم يستخدم العنف في دعوته، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(1).

وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(2)، قوله تعالى: {وَإِنَّكَ} أي يا رسول اللّه {لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} إذ تحتمل المشاق والمتاعب في التبليغ بكل رحابة صدر، وقد أوذي(صلی الله عليه وآله وسلم) حتى قال: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(3)(4)، فهو(صلی الله عليه وآله وسلم) القائل: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(5).

وكذلك روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قوله لبحر السقَّاء: «يا بحر، حسن الخُلق يسر» - ثم قال - «ألا أخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة؟»

قلت: بلى.

قال: «بينا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ذات يوم جالس في المسجد، إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه، فقام لها النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فلم تقل شيئاً، ولم يقل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) شيئاً، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) في الرابعة وهي خلفه فأخذت هُدبةً(6) من ثوبه ثم رجعت، فقال لها

ص: 204


1- سورة الأنبياء، الآية: 107.
2- سورة القلم، الآية: 4.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 247.
4- انظر: تفسير تقريب القرآن 5: 479.
5- بحار الأنوار 16: 210.
6- هدبة الثوب: ما على أطرافه.

الناس: فعل اللّه بك وفعل، حبست رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً، ولا هو يقول لك شيئاً، ما كانت حاجتك إليه؟

قالت: إن لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ من هدبة من ثوبه ليستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني، وأكره أن أستأمره في أخذها فأخذتها»(1).

والنماذج على سيرة النبي المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال أكثر من أن تحصى، فمعاملته(صلی الله عليه وآله وسلم) مع الأعرابي الذي جرّ بُرده وأثّر ذلك في رقبته الشريفة مشهورة ومتواترة، فقد روى أنس بن مالك قال: إنّ النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أدركه أعرابي فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال له: يا محمد، مر لي من مال اللّه الذي عندك!

فالتفت إليه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فضحك وأمر له بعطاء(2).

فهو(صلی الله عليه وآله وسلم) الذي قيل فيه: كان رسول اللّه حيياً لا يسأل شيئا إلّا أعطاه،فهو(صلی الله عليه وآله وسلم): أشد حياءً من العذراء في خدرها(3).

وكذلك معاملة اللين والرفق التي استخدمها(صلی الله عليه وآله وسلم) مع قومه الذين شردوه وكذبوه، فهذا أبو سفيان وزوجته هند وهما من أعداء الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) وغيرهما من أمثال وحشي الذي غدر بعم النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) حمزة(عليه السلام) وقتله ومثَّل بجسده الشريف ماذا كان ردّ النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) عليهم؟

ولم يعاقبه النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) على تجاسره هذا.

ص: 205


1- الكافي 2: 102.
2- مكارم الأخلاق: 17.
3- مكارم الأخلاق: 17.

وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لما كان فتح مكة قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): عند من المفتاح؟

قالوا: عند أم شيبة، فدعا شيبة فقال: اذهب إلى أمّك فقل لها ترسل بالمفتاح.

فقالت: قل له: قتلت مقاتلنا وتريد أن تأخذ منا مكرمتنا؟

- إلى أن قال - فوضعته في يد الغلام فأخذه ودعا - لأحد المسلمين - فقال له: هذا تأويل رؤياي من قبل.

ثم قام(صلی الله عليه وآله وسلم) ففتحه، وستره فمن يومئذ يستر، ثم دعا الغلام فبسط رداءه فجعل فيه المفتاح وقال: «رده إلى أمّك».

قال: ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم فأتى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال:

«لا إله إلّا اللّه، أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده»، ثم قال: «ما تظنون وما أنتم قائلون؟»

فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً ونظن خيراً، أخ كريم وابن عم.قال: «فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّٰحِمِينَ}(1) ألّا إن كل دم ومال ومأثرة كان في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي، إلّا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما. ألّا إنّ مكة محرمة بتحريم اللّه لم تحل لأحد كان قبلي ولم تحل لي إلّا ساعة من نهار، فهي محرمة إلى أن تقوم الساعة لا يختلى خلاها ولا يقطع شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلّا لمنشد، ثم قال: ألّا لبئس جيران النبي كنتم، لقد كذبتم وطردتم وأخرجتم وفللتم ثم ما رضيتم حتى جئتموني في

ص: 206


1- سورة يوسف، الآية: 92.

بلادي تقاتلوني، فاذهبوا فأنتم الطلقاء».

فخرج القوم كأنما أنشروا من القبور ودخلوا في الإسلام.

قال: ودخل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مكة بغير إحرام وعليهم السلاح، ودخل البيت لم يدخله في حج ولا عمرة ودخل وقت الظهر، فأمر بلالاً فصعد على الكعبة وأذّن، فقال عكرمة: واللّه إن كنت لأكره أن أسمع صوت ابن رياح ينهق على الكعبة، وقال خالد بن أسيد: الحمد للّه الذي أكرم أبا عتاب من هذا اليوم أن يرى ابن رياح قائماً على الكعبة. قال سهيل: هي كعبة اللّه وهو يرى ولو شاء لغير - قال - وكان أقصدهم. وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقول شيئاً واللّه لو نطقت لظننت أن هذه الجدر تخبر به محمداً.

وبعث(صلی الله عليه وآله وسلم) إليهم فأخبرهم بما قالوا، فقال عتاب: قد واللّه قلنا يا رسول اللّه ذلك فنستغفر اللّه ونتوب إليه، فأسلم وحسن إسلامه وولاّه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مكة»(1).

نعم، مع كل هذه الأعمال التي عملها هؤلاء، عفى عنهم الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما ظفر بهم في فتح مكة.

فهذه النماذج من الأعمال التي قام بها رسول الإنسانية(صلی الله عليه وآله وسلم) تجاه أعدائه هي دروس وعبر، أراد(صلی الله عليه وآله وسلم) منها تعليم الناس المنهج الحق وسلوك طريق اللاعنف.

منهج أهل البيت(عليهم السلام)

إن منهج اللاعنف والرفق هو المنهج والسلوك الذي سار عليه آل البيت(عليهم السلام)، فكل إمام من أئمة الهدى له سفر خالد في مجال اللين والهداية.

فالإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول في كتابه لمالك الأشتر عندما ولّاه مصر:

ص: 207


1- بحار الأنوار 21: 132.

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به عبد اللّه عليٌ أمير المؤمنين مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاّه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها.

أمره بتقوى اللّه وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لايسعد أحد إلّا باتباعها ولا يشقى إلّا مع جحودها وإضاعتها».

ثم قال(عليه السلام): «ثم اعلم يا مالك، أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشحّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبت أو كرهت، وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزللوتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك واللّه فوق من ولاك وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم».

ثم قال(عليه السلام): «ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع؛ فإن ذلك إدغال(1) في القلب ومنهكة للدين وتقرب من الغير، وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك

ص: 208


1- الإدغال: إدخال الفساد.

أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك اللّه فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك(1)، ويفي ء إليك بما عزب عنك من عقلك.

إياك ومساماة اللّه في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن اللّه يذل كل جبار ويهين كل مختال، أنصف اللّه وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده، ومن خاصمه اللّه أدحض حجته، وكان للّه حرباً حتى ينزع أو يتوب، وليس شي ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن اللّه سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد، وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية».

ثم قال(عليه السلام): «وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق مَن سترها، فلا تكشفن عمّا غاب عنكمنها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، واللّه يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر اللّه منك ما تحب ستره من رعيتك، أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يضح لك».

ثم قال(عليه السلام): «والصق بأهل الورع والصدق، ثم رُضهم على ألّا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة، ولا يكونن المحسن والمسي ء عندك بمنزلة سواء؛ فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه.

ص: 209


1- يطامن الشيء: يخفض منه، الطِّماح: النشوز والجماح، الغَرْب: الحدة.

واعلم أنه ليس شي ء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المئونات عليهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده».

ثم قال(عليه السلام): «واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلّا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود اللّه، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى اللّه له سهمه ووضع على حده، فريضةً في كتابه، أو سنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم) عهداً منه عندنا محفوظاً.

فالجنود بإذن اللّه حصون الرعية، وزين الولاة، وعزّ الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلّا بهم، ثم لا قوام للجنود إلّا بما يخرج اللّه لهم من الخراج، الذييقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه في ما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلّا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعاً إلّا بالتجار وذوي الصناعات، في ما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي اللّه لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه اللّه من ذلك إلّا بالاهتمام والاستعانة باللّه وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه في ما خف عليه أو ثقل.

ص: 210

فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف.

ثم الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة. ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة؛ فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شي ء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك. ولا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه. وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.

وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلّا بسلامة صدورهم ولا تصح نصيحتهم إلّا بحيطتهم على ولاة الأمور، وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم؛ فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء اللّه».

ثم قال(عليه السلام): «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحّكه(1) الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفي ء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون

ص: 211


1- تمحّكه الخصوم: تجعله ماحقاً لجوجاً.

أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخَذَهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك؛ ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا.

ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة؛ فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إشراقاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً».

ثم قال(عليه السلام): «وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلّا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة(1) أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خَفَّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شي ء خففت به المئونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن

ص: 212


1- انقطاع شِرب: أيُّ ماء تسقى في بلاد تسقى بالأنهار، انقطاع بالة: أي ما يبلّ الأرض من ندى ومطر في ما تسقى بالمطر، إحالة أرض: أي تحويلها البذور إلى فساد بالتعفّن.

ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيّبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر».

ثم قال(عليه السلام): «ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلّابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترءون عليها، فإنهم سِلْم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك».

ثم قال(عليه السلام): «ثم اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزَمنى(1)، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ للّه ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه، ولا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحْكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى اللّه يوم تلقاه؛ فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى

ص: 213


1- الزَمنى: جمع زمين وهو المصاب بالزَمانة أي العاهة، يريد أرباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب.

الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى اللّه في تأدية حقه إليه، وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل، وقد يخففه اللّه على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود اللّه لهم. واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه للّه الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك؛ حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع. ثم احتمل الخرق منهم والعي ونح عنهم الضيق والأنَف، يبسط اللّه عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً وامنع في إجمال وإعذار».

ثم قال(عليه السلام): «وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً، فإنفي الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيماً.

وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك؛ فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين، إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه، أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا

ص: 214

مئونة فيه عليك من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة».

ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة.

وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضةً منك لنفسك، ورفقاً برعيتك وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق. ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضًا؛ فإن في الصلح دعةً لجنودك، وراحةً من همومك وأمناً لبلادك».

ثم قال(عليه السلام): «وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليسمن فرائض اللّه شي ء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون في ما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا(1) من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك ولا تخيسن(2) بعهدك، ولا تختلن عدوك؛ فإنه لا يجترئ على اللّه إلّا جاهل شقي، وقد جعل اللّه عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه».

ثم قال(عليه السلام): «إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شي ء أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، واللّه سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد في ما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا

ص: 215


1- لما استوبلوا من عواقب الغدر: أي وجدوها وبيلة مهلكة.
2- خاس بعهده: خانه ونقضه.

تقوين سلطانك بسفك دم حرام؛ فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند اللّه ولا عندي في قتل العمد؛ لأن فيه قود البدن. وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك، أو سيفك، أو يدك، بالعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم، وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء؛ فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد في ما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند اللّه والناس، قال اللّه تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَنتَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ}»(1).

ثم قال(عليه السلام): «وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة والتغابي عمّا تُعنى به، مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم، املك حمية أنفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك، واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك، فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.

والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا(صلی الله عليه وآله وسلم)، أو فريضة في كتاب اللّه، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك؛ لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك

ص: 216


1- سورة الصف، الآية: 3.

إلى هواها، وأنا أسأل اللّه بسعة رحمته وعظيم قدرته، على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إليه راجعون، والسلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً كثيراً، والسلام»(1).

نعم، بهذا الشكل والنموذج كانت جميع توجيهاته وتصرفاته (صلوات اللّهوسلامه عليه) مع الناس مبنية على منهج النصح الهادئ البعيد عن التجريح والعنف، فالخوارج الذين شهروا سيوفهم بوجه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وأصحابه وأقاموا عليه حرباً ضروساً، راح ضحيتها الآلاف من المؤمنين، ومع ذلك رأينا أن التاريخ حفظ لنا: أنه لم يقطع عطاء الخوارج من بيت المال. فهل هناك حرية وأخلاق ولين ورحمة كهذه على مر التاريخ(2).

وإنّ من أظهر مصاديق اللاعنف في الحوار والتعامل مع المخالف في الرأي هو ما يتبين ويظهر جلياً في سيرة أئمة أهل البيت(عليهم السلام) مع معارضيهم والمخالفين لهم بالرأي بل حتى مع أشد المحاربين، حتى أن المخالف لايقوم عن مجلسهم إلّا معترفاً بفضلهم وعلمهم مقراً بأن اللّه جعلهم مستودع علمه وحكمته، فيقوم القائم منهم وهو يردد: اللّه أعلم حيث يضع رسالته.

ص: 217


1- نهج البلاغة، الكتاب الرقم: 53 كتبه(عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولّاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر، وهو أطول عهدٍ كتبه وأجمعه للمحاسن، وقد أخذنا منه مقتطفات تفيد المطلب.
2- انظر: مستدرك الوسائل 11: 65. ولمعرفة المزيد من سياسة اللاعنف للنبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (صلوات اللّه وسلامه عليه) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) راجع كتاب (السياسة من واقع الإسلام) لسماحة المرجع الدين آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله).

هل تعرف الصلاة؟

روي عن أبي حازم قال: قال رجل لزين العابدين(عليه السلام): تعرف الصلاة؟ فحملت عليه، فقال(عليه السلام): «مهلاً يا أبا حازم، فإن العلماء هم الحلماء الرحماء» ثم واجه السائل فقال: «نعم أعرفها» فسأله عن أفعالها وتروكها وفرائضها ونوافلها حتى بلغ قوله: ما افتتاحها؟

قال: «التكبير».

قال: ما برهانها؟

قال: «القراءة».قال: ما خشوعها؟

قال: «النظر إلى موضع السجود».

قال: ما تحريمها؟

قال: «التكبير».

قال: ما تحليلها؟

قال: «التسليم».

قال: ما جوهرها؟

قال: «التسبيح».

قال: ما شعارها؟

قال: «التعقيب».

قال: ما تمامها؟

قال: «الصلاة على محمد وآل محمد».

قال: ما سبب قبولها؟

قال: «ولايتنا والبراءة من أعدائنا».

ص: 218

فقال: ما تركت لأحد حجةً ثم نهض يقول: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته وتوارى(1).

أي شيء تعبد؟

وعن عبد اللّه بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر محمد بن علي الباقر(عليهما السلام) فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر، أي شي ء تعبد؟

قال: «اللّه تعالى».قال: رأيته؟

قال: «بل لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ورأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس ولا يدرك بالحواس ولا يشبَّه بالناس، موصوف بالآيات معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك اللّه لا إله إلّا هو» قال: فخرج الرجل وهو يقول: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته(2).

الموعظة المهذبة

وروي: أن طاوسٌ اليماني دخل على جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) وكان(عليه السلام) يعلم أنه يقول بالقدر، فقال له: «يا طاوس، من أقبل للعذر من اللّه ممن اعتذر وهو صادق في اعتذاره؟».

فقال: لا أحد أقبل للعذر منه.

فقال له: «من أصدق ممن قال: لا أقدر وهو لا يقدر؟».

فقال طاوس: لا أحد أصدق منه.

فقال له الصادق(عليه السلام): «يا طاوس، فما بال من هو أقبل للعذر لا يقبل عذر من

ص: 219


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 130.
2- الكافي 1: 97.

قال لا أقدر وهو لا يقدر؟!».

فقام طاوس وهو يقول: ليس بيني وبين الحق عداوة، واللّه أعلم حيث يجعل رسالاته فقد قبلت نصيحتك(1).

إنني أصلحت أمره

وروي: أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى(عليه السلام) ويسبّه إذا رآه ويشتم علياً(عليه السلام)، فقال له بعض جلساته يوماً: دعنا نقتلهذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن(عليه السلام) بالحمار حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه، وقال له: «كم غرمت في زرعك هذا؟».

قال: مائة دينار.

قال: «وكم ترجو أن تصيب فيه؟».

قال: لست أعلم الغيب.

قال: «إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه؟».

قال: أرجو فيه مائتي دينار.

قال: فأخرج له أبو الحسن(عليه السلام) صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال: «هذا زرعك على حاله واللّه يرزقك فيه ما ترجو».

قال: فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن(عليه السلام) وانصرف، قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً فلما نظر

ص: 220


1- أعلام الدين: 317.

إليه قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته، قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قضيتك قد كنت تقول غير هذا؟!

قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن(عليه السلام) فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: «أيما كان خيراً، ما أردتم أو ما أردت؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شره»(1).

أنت احب خلق اللّه إلي

وروى المبرد وابن عائشة أن شامياً رآه - أي الإمام الحسن الزكي(عليه السلام) - راكباً، فجعل يلعنه والحسن لا يرد، فلما فرغ أقبل الحسن(عليه السلام) عليه، فسلّم عليه وضحك، وقال: «أيها الشيخ، أظنك غريباّ ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حمّلناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك؛ لأن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كبيراً».

فلما سمع الرجل كلامه بكى ثم قال: أشهد أنك خليفة اللّه في أرضه، اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق اللّه إلي والآن أنت أحب خلق اللّه إلي، وحول رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم(2).

طِب نفساً

وقال الواقدي: كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن الحسين(عليهما السلام) في إمارته،

ص: 221


1- الارشاد 2: 233.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 19.

فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس، فقال: ما أخاف إلّا من علي بن الحسين(عليهما السلام)،وقد وقف عند دار مروان، وكان علي(عليه السلام) قد تقدم إلى خاصته: «ألا يعرض له أحد منكم بكلمة» فلما مر ناداه هشام: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته.

وزاد ابن فياض في الرواية في كتابه: أن زين العابدين(عليه السلام) أنفذ إليه وقال: «انظر إلى ما أعجزك من مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك، فطب نفساً منّا ومن كل من يطيعنا».فنادى هشام: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته(1).

وشتم بعضهم زين العابدين(عليه السلام) فقصده غلمانه فقال: «دعوه فإن ما خفي منا أكثر مما قالوا» ثم قال له: «ألك حاجة يا رجل؟».

فخجل الرجل فأعطاه ثوبه وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل صارخاً يقول: أشهد أنك ابن رسول اللّه(2).

أشهد أنك من أولاد الرسل

وكان علي بن الحسين(عليهما السلام) خارجاً من المسجد فلقيه رجل فسبّه، فثارت إليه العبيد والموالي، فقال علي بن الحسين(عليهما السلام): «مهلاً عن الرجل» ثم أقبل(عليه السلام) عليه فقال: «ما ستر عنك من أمرنا أكثر أ لك حاجة نعينك عليها».

فاستحيا الرجل ورجع إلى نفسه، فألقى عليه خميصة(3) كانت عليه وأمر له بألف درهم، قال: فكان الرجل يقول بعد ذلك: أشهد أنك من أولاد الرسل(4).

ص: 222


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 163.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 157.
3- الخميصة: ثوب خز أو صوف مربّع معلّم.
4- كشف الغمة 2: 101.

وعنك أغضي

واستطال رجل على علي بن الحسين(عليهما السلام) فتغافل عنه، فقال له الرجل: إياك أعني، فقال له علي بن الحسين(عليهما السلام): «وعنك أغضي»(1).

ولا يستخفنك الذين لا يوقنون

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن علياً(عليه السلام) كان في صلاة الصبح فقرأ ابن الكواء وهو خلفه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَوَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

فأنصت علي(عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتى فرغ من الآية، ثم عاد في قراءته.

ثم أعاد ابن الكواء الآية فأنصت علي(عليه السلام) أيضاً، ثم قرأ فأعاد ابن الكواء فأنصت علي(عليه السلام) ثم قال(عليه السلام): {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}(3) ثم أتم السورة ثم ركع»(4).

اللاعنف عند العلماء

أنشد شاعر قصيدة هجا فيها المرجع الكبير السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله) من المراجع، وينقل عن الشاعر نفسه أنه قال: في أحد أيام الصيف وكان الوقت ظهراً شديد الحر، وبينما كنت جالساً في منزلي سمعت الباب يطرق وعندما ذهبت وفتحت الباب وإذا بذلك المرجع يقف خلف الباب، فاستغربت كثيراً!

وبعد أن سلم علي قال: أتقبلني أن أكون ضيفك، فقلت له بتعتعة لسان:

ص: 223


1- كشف الغمة 2: 101.
2- سورة الزمر، الآية: 65.
3- سورة الروم، الآية: 60.
4- تهذيب الأحكام 3: 35.

تفضل.

فدخل، فتحرجت وتألمت كثيراً، وقلت في نفسي: لربما أن السيد سمع تلك القصيدة.

وبعد أن تفقد أحوالي، قال لي: ألّا تقرأ لي تلك الأبيات التي أنشدتها، فامتنعت إلّا أنني بعد إلحاح السيد وإصراره قرأت القصيدة، ولكني كنت في حالة يرثى لها من الخجل الشديد وبعد إتمام القصيدة - وطبقاً لما تعارف عليهالناس هناك في العراق حيث كانوا يكرمون الشعراء وأهل الأدب - أخرج السيد ظرفاً من جيبه وناولني إياه قائلاً: خذ هذه الهدية. ثم انصرف، عندئذ عرفت مكارم أخلاقه التي تعلمها من أهل بيت النبوة(عليهم السلام) وأنه المتخرج من تلك المدرسة الإلهية، فقررت أن لا أعود لمثلها أبداً.

هذا التصرف الذي أبداه هذا العالم الجليل تجاه الشاعر الذي هجاه، لهو نابع عن إيمان صادق ووعي صحيح واتباع لأوامر اللّه سبحانه وتعالى، واقتداء بسيرة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة(عليهم السلام) وتطبيقاً لما قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1) وعلى ضوء ذلك جنى ثماره في الدنيا حيث ضمن بأن هذا الشاعر لا يهجوه بعد ذلك وكسب وده واحترامه، وكذلك احترام الناس، فضلاً عن نيل ثواب ذلك العمل في الآخرة.

قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(2).

ص: 224


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- سورة آل عمران، الآية: 133-134.

الاختلاف السلبي والإيجابي

قال تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(2).

إنّ الاختلاف ليس حالة سلبية دائماً، وإنما قد تكون حالة ايجابية محفّزة نحو اختيار السبيل الأمثل والاستفادة من وجهات النظر المختلفة. فالاختلاف حالةطبيعية في حياة الإنسان وخصوصاً في الرأي وهذه سنة اللّه تعالى في الكون، ولكن نتيجة لقلة الوعي وضيق الصدر يصبح هذا الاختلاف سبباً للتصارع والتصادم بين الناس فيصبح الإنسان نتيجة لذلك عنيفاً في تصرفاته وسلوكه الخارجي بل حتى مع نفسه، ويبني أغلب أموره وعلاقاته على أساس العنف والخشونة وعدم إبداء المرونة في تقبل الرأي المخالف لرأيه، وهذا هو الاختلاف السلبي.

إذن الاختلاف على قسمين: منه سلبي، إذا كان يؤدي إلى صراع وتقاتل، وإيجابي إذا أدى إلى التنافس الشريف المبني على أساس القواعد السلمية، فمن اللازم علينا أن يكون خلافنا من القسم الثاني - إيجابياً - وأن نتمتع ببعد نظر وصدر واسع، يتسع لاستقبال الآراء المغايرة لوجهات نظرنا، وأن نستثمر هذا الاختلاف لنخرج بالرأي الصائب ونرتقي إلى هذه الحالة الإيجابية في توظيف الخلاف لخدمة قضايانا الإسلامية فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب»(3).

وقال(عليه السلام): «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ»(4).

ص: 225


1- سورة الروم، الآية: 22.
2- سورة المطففين، الآية: 26.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 158.
4- الكافي 8: 22.

أما حالة العنف والخشونة - الناتجة من الاختلاف السلبي - من دون مبرر سوى اختلاف وجهات النظر، فتعني التوقف في بداية المشوار والاصطدام مع الآخرين نتيجة لقلة الوعي وضيق الأفق، وخير شاهد على ذلك: أننا نرى في البلدان التي يحكمها حزب واحد أن هذا الحزب يمسك بزمام الأمور بالقوة والعنف ويفرض وجهة نظره على كافة الأصعدة ويخضع الآخرين لأسلوب تفكيره، فتكون نسبة الخطأ في اتخاذ مواقفه عالية جداً لأنه ينظر للحياة من زاويةضيقة؛ لذلك نرى ضرورة الاهتمام بآراء ووجهات نظر الآخرين واحترامها، حتى نتمكن من التفاهم حول القضايا المختلف عليها. وعلى العكس من ذلك فإن إهمال وتجاهل آراء الآخرين عند الاختلاف حول القضايا هي التي تؤدي إلى نشوب التباغض ومن ثم خسران العمل.

سئل أحد رؤساء الدول الغربية(1):

من هو الشخص الذي يستطيع أن يصبح رئيساً للجمهورية من بعدك؟

فقال: ذلك الشخص الذي يتمتع - كحد أدنى - بتحمل اختلاف الرأي.

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «من جهل وجوه الآراء أعيته الحيل»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رأس السياسة استعمال الرفق»(3).

أسباب الاختلاف

الاختلاف - وخصوصاً في الرأي - ينشأ بسبب أمور منها:

1- الاختلاف في الاجتهاد، مثلاً: إن المرحوم الوالد(رحمه الله) كان رأيه الفقهي أن

ص: 226


1- هو الرئيس الفرنسي شارل ديغول (1890-1970م) قائد فرنسي ورجل دولة.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 584.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 378.

الكر يساوي 36 شبراً مكعباً من الماء، وكذلك المرحوم السيد عبد الهادي الشيرازي(رحمه الله)، في الوقت الذي كان المرحوم الحاج حسين القمي(رحمه الله) يرى أن الكر هو ما وصل إلى 43 شبراً مكعباً تقريباً وهناك من الفقهاء من يقول بكون الكر 27 شبراً، والحال أن هؤلاء الفقهاء درسوا معاً، وربما كان أحدهم ملازماً للآخر، وربما عاشوا في مكان واحد أيضاً، ولكن مع ذلك كانت اجتهاداتهم مختلفة وهذا أمر طبيعي يرتبط بقدرة الاستنباط الشرعي.

2- الاختلاف في المصالح، هناك اختلاف يحدث أحياناً نتيجة لمصالح الحياة المتباينة. فمثلاً، عندما كنا في كربلاء المقدسة كنا دائماً نستيقظ من النوم مبكراً ونبدأ بممارسة نشاطاتنا اليومية من درس وبحث وتدريس قد يطول إلى منتصف الليل، وعند عودتنا إلى المنزل نكون متعبين جداً فيصادف في هذا الوقت المتأخر من منتصف الليل أن يطرق الباب أناس يطلبون منا أن نقدم لهم بعض الخدمات لرفع الاختلاف الذي حصل في ما بينهم أو لقضاء بعض حوائجهم وتخفيف معاناتهم، وكان ذلك يحول دون راحتنا وراحة عائلتنا، فهنا ينشب التعارض بين المصلحتين وهذا طبيعي، وقد اعتاد الناس عليه بمراجعة أمثالنا لقضاء حوائجهم. أو كمثال آخر في الزمان السابق حيث كان الأطباء يداوون مرضاهم في بيوتهم - كما كان هو المعتاد في ذلك الزمان - وقد يتضايق الطبيب وعائلته حينما يأتي المريض ليلاً يتأوه من الألم ويبكي فيؤدي ذلك إلى انزعاجهم وسلب راحتهم فيحصل تعارض بين المصالح، مصلحة الطبيب التي هي راحته وراحة عائلته، ومصلحة المريض الذي يريد التداوي ودفع الآلام، وهذه الاختلافات هي من مصالح الحياة الشخصية وهي اختلافات طبيعية.

3- اختلاف العالِم والجاهل، غالباً ما نرى الاختلاف قائماً بين العالم

ص: 227

والجاهل في كثير من جوانب الحياة حتى المتعلقات الشخصية سواء كان في ما يتعلق بوجهات النظر أو في ما يتعلق بالمأكل والملبس... فنتيجة العلم أن تكون الآراء متعقلة وموزونة وكذلك كل ما يتعلق به من أمور، ولذا يتصرف الإنسان العالم وفق القوانين والموازين السليمة عادة، على العكس من الجاهل الذي تكون تصرفاته غير مدروسة عادة، فالعالم تبرز رؤيته وتحليله للحياة بأسلوبيختلف عن الرؤية والتحليل الذي يتبعه الجاهل تماماً، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الجاهل يستوحش مما يأنس به الحكيم»(1).

وقال(عليه السلام): «الجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن من قبل عالماً»(2).

والعالِم مكلف شرعاً أن يرشد الجاهلين ويعلمهم، لا أن يصطدم معهم ويغيضهم، ومما ورد في مسؤولية العالم تجاه الجاهل عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلموا»(3).

وقال(عليه السلام): «على العالم أن يتعلم ما لم يعلم، ويعلم الناس ما قد علم»(4).

وهذه الأقسام الثلاثة التي ذكرناها في الاختلاف لا تحتاج أبداً إلى العنف والخشونة وتعالي الأصوات، بل إن هذا سوف يزيد الأمور تعقيداً وصعوبة، وكل اختلاف مرهون بسببه ومراجعة مقدماته بكل لين وفهم المقابل.

اللاعنف والمناظرة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ضبط النفس عند الرغب والرهب من أفضل

ص: 228


1- عيون الحكم والمواعظ: 53.
2- عيون الحكم والمواعظ: 53.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 478.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 43.

الأدب»(1).

وقال(عليه السلام): «طلب التعاون على إقامة الحق ديانة وأمانة»(2).

من الأمور التي اعتاد عليها بعض الناس في هذه الأيام عند المناظرة هو علوالصوت وافتعال الضوضاء لإرباك وتخويف الخصم، فتلاحظ عندما يناظر شخص شخصاً آخر يرفع صوته ويفتعل حركات مصطنعة لإخافة الطرف المقابل، وهذا الأسلوب غير صحيح؛ فالغلبة على الخصم لاتأتي برفع الصوت والجدال غير المجدي، وإنما تأتي بالمناظرة الهادئة المبنية على الأسس السليمة، وبالجدال الحسن عندما يكون ذلك بحاجة إلى البحث والحوار قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(3). وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اللجوج لا رأي له»(4).

وفي كلام آخر له(عليه السلام) يقول: «الإصرار شر الآراء»(5).

وقال(عليه السلام): «غير منتفع بالحكمة عقل مغلول بالغضب والشهوة»(6).

فإذا أردنا أن نصل مع الآخرين إلى الحل الصحيح والاجتماع على رأي صائب فنحصل على النتيجة المطلوبة، يلزم علينا أن نسلك طريقاً بعيداً عن العنف ونتبع أسلوب التفاهم بالحكمة والموعظة الحسنة والهدوء في معاملتنا مع الآخرين.

حينئذٍ نصل موفقين إن شاء اللّه تعالى إلى الغاية والهدف.

ص: 229


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 427.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 437.
3- سورة النحل، الآية: 125.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 50.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 47.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 472.

ثمار اللاعنف

اشارة

قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).إنّ ثمرة الأعمال تتحدد حسب نوعية الأعمال التي يقوم بها الإنسان، فثمرة الخير خير، وثمرة الشر شر، وتعود نتائج هذه الثمرة بالدرجة الأولى على الإنسان نفسه، فاذا عمل عملاً صالحاً فإن نتائجه سوف تظهر لنفسه، سواء في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما، وكذلك العمل غير الصالح، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}(2).

وأسلوب الرفق واللين (اللاعنف) له نتائج وثمارٌ عملية إيجابية كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

الأول: رضا اللّه تعالى

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «توخ رضا اللّه وتوق سخطه وزعزع قلبك بخوفه»(3).

يلزم أن يكون هدفنا في جميع أعمالنا هو رضا اللّه سبحانه وتعالى، فالإنسان في هذا الدنيا محاط بكثير من الأمور التي تحاول أن تجرفه إلى الهاوية، فعليه الحذر والحيطة واتباع الأسلوب الهادئ في جميع أموره.

سُئل أحد المراجع كيف أنت؟

قال: كيف بإنسان وضع قدميه في هذه الدنيا من غير اختيار، وهو يودع الدنيا من غير اختيار، وهو بين هذه وتلك جاهل ضعيف حيران.

ص: 230


1- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
2- سورة الجاثية، الآية: 15.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 318.

لذا ينبغي على الإنسان أن يكون يقظاً ويتجنب اللاعنف وسوء الخلق، وتكون جميع أعماله خالصة للّه تعالى طالباً مرضاته تعالى في الغاية والوسيلة على حد سواء، والقرآن الكريم وأحاديث المعصومين(عليهم السلام) هي بحر زاخر بالمعاني والإشارات الظريفة التي لو تمسك بها الإنسان، لوصل إلى سعادته المنشودة،فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تحر رضى اللّه وتجنب سخطه فإنه لا يدلك بنقمته، ولا غناء بك عن مغفرته، ولا ملجأ لك منه إلّا إليه»(1).

وفي كثير من الموارد حث القرآن الكريم والسنة النبوية على انتهاج الأسلوب اللين والرفق؛ لأن في ذلك مرضاة اللّه تعالى، ومن يرضى اللّه عنه يجعل له مخرجاً في جميع أموره، فقال تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ}(2).

فالثمرة الأولى والأساسية في اتباع أسلوب اللاعنف في الحياة هو رضا اللّه تعالى.

الثاني: الطمأنينة بين الناس

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الرفق يؤدي إلى السلم»(3).

وقال(عليه السلام): «ما استجلبت المحبة بمثل السخاء والرفق وحسن الخلق»(4).

وقال(عليه السلام): «من ترفق في الأمور أدرك أربه منها»(5).

من الثمار الإيجابية لأسلوب اللاعنف في الحياة هو انتشار الأمان والطمأنينة

ص: 231


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 322.
2- سورة الطلاق، الآية: 2-3.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 51.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 689.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 623.

بين الناس، وإذا استثنينا المعارك في زمن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لأنها كانت دفاعية بتمامها بعد نفاذ كل الطرق السلمية، فكثير من الحروب والصراعات الدولية والقبلية وحتى الشخصية التي قامت في الزمن الماضي وفي زماننا هذا، لو بحثنا عن الأسباب التي أدت إليها لوجدنا بأنغالبيتها قامت بسبب التعصب وعدم التعقل (أي العنف والتهور)، ونحن هنا لا نريد ذكر احصائية عن الخسائر والويلات والخسائر البشرية والاقتصادية التي جرتها تلك الحروب والصراعات على البشرية، وإنما نريد أن نذكر بأن هذه الحروب والصراعات كان من الممكن تحاشيها لو أتبع أسلوب التفاهم والحوار بدلاً من أسلوب العنف، ولأصبحت هذه الخسائر البشرية والاقتصادية أداة بناء في المجتمعات، فعلينا إذن أن نعتبر من تلك الدروس والعبر التي سطّرها ويسطّرها لنا التاريخ في الماضي وفي وقتنا هذا.

الثالث: محبوبية الإنسان

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس»(1).

من الثمار الإيجابية التي يجنيها الإنسان من (سياسة اللاعنف) في حياته هي محبوبية ذلك الإنسان في المجتمع والتفاف الناس حوله، فسياسة اللين والرفق التي كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يتبعها في تعامله مع الناس كان لها الأثر البليغ في دخول الناس في دعوته والالتفاف حوله، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ}(2).

وهكذا جميع الأئمة الأطهار(عليهم السلام) الذين جرت الأخلاق السامية في نفوسهم

ص: 232


1- الكافي 2: 120.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.

مجرى الدم في العروق، فهذا الإمام السجاد(عليه السلام) يلتقي به شيخ من أهل الشام، والإمام(عليه السلام) بحالة يرثى لها من الأسر والمعاناة، رجلاه مقيدتان بالحديد على ظهر الناقة، يُسار به إلى يزيد بن معاوية، ومع هذا كله يقف الشيخ ويأخذ بزمام ناقة الإمام(عليه السلام) ويوجه له خطاباً عنيفاً ينم عن جهله بحقيقه الأمر، فيقول: الحمدللّه الذي قتلكم وفضحكم، وأكذب أحدوثتكم، وأراح العباد والبلاد منكم! ... فيقابل الإمام(عليه السلام) هذه الخشونة والغلظة بطيب الكلام ولين الأخلاق فيقول(عليه السلام): «يا شيخ هل قرأت القرآن؟».

فقال الشيخ: نعم ما أنت والقرآن؟

فقال(عليه السلام): «يا شيخ، هل قرأت: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}»(1)؟

فقال الشيخ: نعم، وما أنت وهذه الآية؟

وذكر له الإمام(عليه السلام) بعض آيات القربى ثم قال: «يا شيخ، واللّه نحن القربى!»(2)

فلما استيقن الشيخ وعلم أن هذا هو ابن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو مظلوم ثارت ثائرته ضد حكومة بني أمية الطاغية الباغية.

فهذه ثمرة اللاعنف، حول العدو إلى محب، فالإمام السجاد(عليه السلام) لم تثر ثائرته بوجه هذا الشيخ، بل كلّمه بلين ورفق حتى استطاع توصيل الحقيقة إليه.

نعم، إن المسلمين بأمس الحاجة إلى أن يعتبروا اللاعنف منهجاً وسلوكاً في جميع أعمالهم... .

«اللّهم صل على محمد وآله، وحلني بحلية الصالحين، وألبسني زينة

ص: 233


1- سورة الشورى، الآية: 23.
2- انظر: اللّهوف: 176.

المتقين في بسط العدل، وكظم الغيظ، وإطفاء النائرة، وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين، وإفشاء العارفة، وستر العائبة، ولين العريكة وخفض الجناح، وحسن السيرة، وسكون الريح، وطيب المخالقة، والسبق إلى الفضيلة، وإيثار التفضل،وترك التعيير، والإفضال على غير المستحق»(1).

من هدي القرآن الحكيم

اللاعنف سلوك حسن

قال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(2).

وقال سبحانه: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}(4).

بالعمل تنال الدرجات العلى

قال جلّ وعلا: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(5).

وقال سبحانه: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(6).

وقال تعالى: {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(7).

وقال سبحانه: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا}(8).

ص: 234


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة البقرة، الآية: 83.
3- سورة العنكبوت، الآية: 46.
4- سورة الأنفال، الآية: 61.
5- سورة الأحقاف، الآية: 19.
6- سورة الأنعام، الآية: 132.
7- سورة الطلاق، الآية: 11.
8- سورة الكهف، الآية: 110.

ثمار العمل

قال عزّ وجلّ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).وقال جلّ وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}(2).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(3).

وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}(4).

الاختلاف

قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَٰحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

اللّه رفيق يحب الرفق

قال أبو جعفر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما

ص: 235


1- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
2- سورة النور، الآية: 55.
3- سورة البقرة، الآية: 82.
4- سورة ص، الآية: 28.
5- سورة هود، الآية: 118.
6- سورة يونس، الآية: 19.

لا يعطي على العنف»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى رفيقٌ يحب الرفق، فمن رفقه بعباده تسليله أضغانهم ومضادتهم(2) لهواهم وقلوبهم، ومن رفقه بهم أنه يدعهمعلى الأمر يريد إزالتهم عنه رفقاً بهم؛ لكيلا يلقي عليهم عرى الإيمان ومثاقلته جملة واحدة فيضعفوا، فإذا أراد ذلك نسخ الأمر بالآخر فصار منسوخاً»(3).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عبادة اللّه إلى عباد اللّه؛ فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا علي، إن هذا الدين متينٌ فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت - يعني المفرط - لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، واحذر حذر من يتخوف أن يموت غداً»(5).

الغضب أول العنف

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عامل بالعنف ندم»(6).

وقال(عليه السلام): «لا تَغْضَبوا ولا تَعْضَبوا(7) أفشوا السلام وأطيبوا الكلام»(8).

ص: 236


1- الكافي 2: 119.
2- التسليل: انتزاع الشيء وإخراجه برفق، والأضغان: الأحقاد التي في القلوب والعداوة والبغضاء، والمضادة: منع الخصم عن الأمر برفق.
3- الكافي 2: 118.
4- الكافي 2: 86.
5- الكافي 2: 87.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 577.
7- لا تعضبوا: أي لا تقطعوا.
8- الكافي 2: 645.

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «مكتوب في التوراة في ما ناجى اللّه عزّ وجلّ به موسى(عليه السلام): يا موسى أمسك غضبك عمن ملَّكتُك عليه أكفَّ عنك غضبي»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رجل للنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يا رسول اللّه علمني،قال(صلی الله عليه وآله وسلم): اذهب ولا تغضب، فقال الرجل: قد اكتفيت بذاك، فمضى إلى أهله، فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلما رأى ذلك لبس سلاحه ثم قام معهم، ثم ذكر قول رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): لا تغضب، فرمى السلاح ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدو قومه، فقال: يا هؤلاء، ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعلي في مالي أنا أوفيكموه، فقال القوم: فما كان فهو لكم، نحن أولى بذلك منكم، قال: فاصطلح القوم وذهب الغضب»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن في التوراة مكتوباً: يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك في من أمحق، وإذا ظلمت بمظلمةٍ فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك»(3).

وقال رجل لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): أوصني.

فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تغضب».

ثم أعاد عليه. فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تغضب» ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»(4).

أخذت باليسير

وعن حنان بن سدير قال: كنت أنا وأبي وأبو حمزة الثمالي وعبد الرحيم

ص: 237


1- الكافي 2: 303.
2- الكافي 2: 304.
3- الكافي 2: 304.
4- تحف العقول: 47.

القصير وزياد الأحلام حُجاجاً، فدخلنا على أبي جعفر(عليه السلام) فرأى زياداً وقد تسلخ جلده، فقال له: «من أين أحرمت؟».

قال: من الكوفة.قال: «ولم أحرمت من الكوفة؟».

فقال: بلغني عن بعضكم أنه قال: ما بعد من الإحرام فهو أعظم للأجر.

فقال: «ما بلَّغك هذا إلّا كذاب».

ثم قال لأبي حمزة الثمالي: «من أين أحرمت؟».

فقال: من الربذة.

فقال له: «ولم لأنك سمعت أن قبر أبي ذر بها فأحببت أن لا تجوزه».

ثم قال لأبي وعبد الرحيم: «من أين أحرمتما؟».

فقالا: من العقيق.

فقال: «أصبتما الرخصة واتبعتما السنة، ولا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلّا أخذت باليسير؛ وذلك لأن اللّه يسير يحب اليسير ويعطي على اليسير ما لا يعطي على العنف»(1).

ثمار اللاعنف

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما اصطحب اثنان إلّا كان أعظمهما أجراً وأحبّهما إلى اللّه عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما وضع الرفق على شيء إلّا زانه، ولا وضع الخرق على شي ء إلّا شانه، فمن أعطي الرفق أعطي خير الدنيا والآخرة، ومن حرمه فقد حرم خير

ص: 238


1- الاستبصار 2: 162.
2- الكافي 2: 120.

الدنيا والآخرة»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من رفق بمصاحبه وافقه، ومن أعنف به أخرجهوفارقه»(2).

وقال(عليه السلام): «موافقة الأصحاب تديم الاصطحاب، والرفق في المطالب يسهل الأسباب»(3).

وقال(عليه السلام): «اجملوا في الخطاب تسمعوا جميل الجواب»(4).

وقال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «من قسم له الرفق قسم له الإيمان»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما استجلبت المحبة بمثل السخاء والرفق وحسن الخلق»(6).

نوعية العمل المقبول عند اللّه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من عمل أحب إلى اللّه تعالى وإلى رسوله من الإيمان باللّه والرفق بعباده، وما من عمل أبغض إلى اللّه تعالى من الإشراك باللّه تعالى والعنف على عباده»(7).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام) في الدعاء: «وأعني على صالح النية ومرضي القول ومستحسن العمل»(8).

ص: 239


1- النوادر للراوندي: 4.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 468.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 712.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 158.
5- الكافي 2: 118.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 689.
7- النوادر للراوندي: 153.
8- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في يوم عرفة.

وفي وصية رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر أنه قال: «يا أبا ذر: كن بالعمل بالتقوى أشد اهتماماً منك بالعمل، فإنه لا يقل عمل بالتقوى وكيف يقلُّ عمليتقبل...»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا خير في عمل إلّا مع اليقين والورع»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من شيء أحب إلى اللّه عزّ وجلّ من عمل يداوم عليه وإن قلّ»(3).

اللاعنف في المعيشة

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «أيما أهل بيت أعطوا حظهم من الرفق فقد وسع اللّه عليهم في الرزق، والرفق في تقدير المعيشة خيرٌ من السعة في المال، والرفق لا يعجز عنه شيء، والتبذير لا يبقى معه شيء، إن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن في الرفق الزيادة والبركة، ومن يحرم الرفق يحرم الخير»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما زوي الرفق عن أهل بيت إلّا زوي عنهم الخير»(6).

اللاعنف في التبليغ

عن هشام بن أحمر عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: قال لي وجرى بيني وبين رجل

ص: 240


1- مكارم الأخلاق: 468.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 793.
3- الكافي 2: 82.
4- الكافي 2: 119.
5- الكافي 2: 119.
6- الكافي 2: 119.

من القوم كلامٌ فقال لي: «أرفق بهم، فإنّ كفرَ أحدهم في غضبه، ولا خير في منكان كفره في غضبه»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن عيسى(عليه السلام) لما أراد وداع أصحابه جمعهم وأمرهم بضعفاء الخلق ونهاهم عن الجبابرة، فوجه اثنين إلى أنطاكية فدخلا في يوم عيد لهم، فوجداهم قد كشفوا عن الأصنام وهم يعبدونها، فعجّلا عليهم بالتعنيف، فشُدا بالحديد وطرحا في السجن، فلما علم شمعون بذلك أتى أنطاكية حتى دخل عليهما في السجن وقال: ألم أنهكما عن الجبابرة؟

ثم خرج من عندهما وجلس مع الناس مع الضعفاء، فأقبل فطرح كلامه الشيء بعد الشيء، فأقبل الضعيف يدفع كلامه إلى من هو أقوى منه وأخفوا كلامه خفاءً شديداً، فلم يزل يتراقى الكلام حتى انتهى إلى الملك، فقال: منذ متى هذا الرجل في مملكتي؟

فقالوا: منذ شهرين.

فقال: علي به، فأتوه فلما نظر إليه وقعت عليه محبته، فقال: لا أجلس إلّا وهو معي.

فرأى في منامه شيئاً أفزعه، فسأل شمعون عنه، فأجاب بجواب حسن فرح به، ثم ألقي عليه في المنام ما أهاله فأولها له بما ازداد به سروراً، فلم يزل يحادثه حتى استولى عليه، ثم قال: إن في حبسك رجلين عابا عليك.

قال: نعم.

قال: فعلي بهما.

فلما أتي بهما قال: ما إلهكما الذي تعبدان؟

ص: 241


1- الكافي 2: 119.

قالا: اللّه.

قال: يسمعكما إذا سألتماه، ويجيبكما إذا دعوتماه.

قالا: نعم.

قال شمعون: فأنا أريد أن أستبرئ ذلك منكما.

قالا: قل.

قال: هل يشفي لكما الأبرص.

قالا: نعم.

قال: فأتي بأبرص فقال: سلاه أن يشفي هذا.

قال: فمسحاه فبرأ.

قال: وأنا أفعل مثل ما فعلتما.

قال: فأتي بآخر فمسحه شمعون فبرأ.

قال: بقيت خصلة إن أجبتماني إليها آمنت بإلهكما.

قالا: وما هي؟

قال: ميت تحييانه.

قالا: نعم.

فأقبل على الملك وقال: ميت يعنيك أمره؟

قال: نعم ابني.

قال: اذهب بنا إلى قبره فإنهما قد أمكناك من أنفسهما.

فتوجهوا إلى قبره فبسطا أيديهما، فبسط شمعون يديه فما كان بأسرع من أن صدع القبر وقام الفتى فأقبل على أبيه، فقال أبوه: ما حالك؟

قال: كنت ميتاً ففزعت فزعة فإذا ثلاثة قيام بين يدي اللّه باسطوا أيديهم يدعون اللّه أن يحييني وهما هذان وهذا.

ص: 242

فقال شمعون: أنا لإلهكما من المؤمنين.

فقال الملك: أنا بالذي آمنت به يا شمعون من المؤمنين.

وقال وزراء الملك: ونحن بالذي آمن به سيدنا من المؤمنين.

فلم يزل الضعيف يتبع القوي فلم يبق بأنطاكية أحد إلّا آمن به»(1).

اللاعنف السياسي

كانت سياسة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وكذلك أمير المؤمنين(عليه السلام) على اللين والسلم واللاعنف، أما الذين تقمصوا الخلافة فلم يسيروا على سيرة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، فعن ابن عباس قال: بعث أبو بكرٍ عمرَ بنَ الخطاب إلى علي(عليه السلام) حين قعد عن بيعته. وقال: ائتني به بأعنف العنف!(2).

وورد في قصة أبي ذر(رحمه الله) أنه: كتب عثمان إلى معاوية أن احمل أباذر على ناب صعبة وقتب، ثم ابعث معه من يخشن به خشناً عنيفاً حتى يقدم به عليّ، قال - الراوي - : فحمله معاوية على ناقة صعبة عليها قتب ما على القتب إلّا مسح، ثم بعث معه من يسيره سيراً عنيفاً.

قال: وخرجت معه فما لبث الشيخ إلّا قليلاً حتى سقط ما يلي القتب من لحم فخذيه وقرح، فكنت إذا كان الليل أخذت ملائي فألقيتهما تحته، فإذا كان السحر نزعتهما مخافة أن يروني فيمنعوني من ذلك(3).

لا للعنف

عن أبي جعفر(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) أن علياً(عليه السلام) كان يقول: «لا قطع على أحد تخوف من ضرب ولا قيد ولا سجن ولا تعنيف إلّا أن يعترف، فإن اعترف قطع،

ص: 243


1- قصص الأنبياء(عليهم السلام) للراوندي: 274.
2- بحار الأنوار 28: 388.
3- تقريب المعارف: 266.

وإن لم يعترف سقط عنه لمكان التخويف»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(2): «عفواً من غير عقوبة ولا تعنيف ولا عتب»(3).

اللاعنف دائماً

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام) لبريد بن معاوية: «بعث أمير المؤمنين(عليه السلام) مصدّقاً من الكوفة إلى باديتها، فقال له: يا عبد اللّه انطلق وعليك بتقوى اللّه وحده لا شريك له، ولا تؤثرن دنياك على آخرتك، وكن حافظاً لما ائتمنتك عليه، راعياً لحق اللّه فيه، حتى تأتي نادي بني فلان. فإذا قدمت فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، ثم قل لهم:

يا عباد اللّه، أرسلني إليكم ولي اللّه لآخذ منكم حق اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حق فتؤدون إلى وليه؟

فإن قال لك قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم منهم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلّا خيراً، فإذا أتيت ماله فلا تدخله إلّا بإذنه فإن أكثره له، فقل: يا عبد اللّه أتأذن لي في دخول مالك، فإن أذن لك فلا تدخله دخول متسلّط عليه فيه ولا عنف به، فاصدع المال صدعين ثم خيّره أي الصدعين شاء، فأيهما اختار فلا تعرض له، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيّره فأيهما اختار فلا تعرض له، ولا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق اللّه تبارك وتعالى من ماله، فإذا بقي ذلك فاقبض حق اللّه منه، وإن استقالك فأقله، ثم اخلطها واصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق اللّه في ماله، فإذا قبضته فلا توكل به إلّا ناصحاً شفيقاً

ص: 244


1- تهذيب الأحكام 10: 128.
2- سورة الحجر، الآية: 85.
3- بحار الأنوار 75: 357.

أميناً حفيظاً غير معنف لشي ء منها، ثم احدر كل ما اجتمع عندك من كل ناد إلينا نصيّره حيث أمر اللّه عزّ وجلّ، فإذا انحدر بها رسولك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها ولا يفرق بينهما، ولا يمصرن(1) لبنها فيضر ذلك بفصيلها، ولا يجهد بها ركوباً، وليعدل بينهن في ذلك، وليوردهن كل ماء يمر به، ولا يعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطريق في الساعة التي فيها تريح وتغبق، وليرفق بهن جهده حتى يأتينا بإذن اللّه صحاحاً سماناً، غير متعبات ولا مجهدات، فيقسمن بإذن اللّه على كتاب اللّه وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم) على أولياء اللّه، فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك، ينظر اللّه إليها وإليك وإلى جهدك ونصيحتك لمن بعثك وبعثت في حاجته، فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: ما ينظر اللّه إلى ولي له يجهد نفسه بالطاعة والنصيحة له ولإمامه إلّا كان معنا في الرفيق الأعلى».

قال: ثم بكى أبو عبد اللّه(عليه السلام) ثم قال: «يا بريد، لا واللّه ما بقيت للّه حرمة إلّا انتهكت، ولا عمل بكتاب اللّه ولا سنة نبيه في هذا العالم، ولا أقيم في هذا الخلق حد منذ قَبض اللّه أمير المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه ولا عمل بشيء من الحق إلى يوم الناس هذا - ثم قال: - أما واللّه لا تذهب الأيام والليالي حتى يحيي اللّه الموتى ويميت الأحياء ويرد الحق إلى أهله ويقيم دينه الذي ارتضاه لنفسه ونبيه فأبشروا ثم أبشروا ثم أبشروا فواللّه ما الحق إلّا في أيديكم»(2).

اللاعنف من صفات المؤمن

وصف أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) المؤمن بهذه الصفات فقال:

ص: 245


1- مَصَر الرجل الشاة: إذا حلبها بأطراف الأصابع الثلاث.
2- الكافي 3: 536.

«يا همام، المؤمن هو الكيس الفطن، بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذل شيء نفساً، زاجر عن كل فان، حاض على كل حسن، لا حقود ولا حسود، ولا وثَّاب ولا سبَّاب، ولا عياب ولا مغتاب، يكره الرِّفعة، ويشنأ السمعة(1)، طويل الغم، بعيد الهم، كثير الصمت، وقور ذكور، صبور شكور، مغموم بفكره، مسرور بفقره، سهل الخليقة، لين العريكة، رصين الوفاء، قليل الأذى، لا متأفك ولا متهتك، إن ضحك لم يخرق، وإن غضب لم ينزق(2)، ضحكه تبسم، واستفهامه تعلم، ومراجعته تفهم، كثير علمه، عظيم حلمه، كثير الرحمة، لا يبخل ولا يعجل، ولا يضجر ولا يبطر، ولا يحيف في حكمه، ولا يجور في علمه، نفسه أصلب من الصلد(3)، ومكادحته أحلى من الشهد، لا جشع ولا هلع، ولا عنف ولا صلف، ولا متكلف ولا متعمق، جميل المنازعة، كريم المراجعة، عدل إن غضب، رفيق إن طلب، لا يتهور ولا يتهتك ولا يتجبر...»(4).

اللاعنف مع الحيوان

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه رفيق يحب الرفق ويعين عليه فإذا ركبتم الدواب العجف فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض مجدبة فانجوا عنها، وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها»(5).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تضربوا وجوه الدواب وكل شيء فيه الروح؛ فإنه يسبّح بحمد

ص: 246


1- يشنأ السمعة: أي يبغض الرياء.
2- نزق: خف عند الغضب.
3- أصلب من الصلد: أي من الحجر الصلب.
4- الكافي 2: 226.
5- الكافي 2: 120.

اللّه»(1).

وعن إبراهيم بن علي عن أبيه قال: حججت مع علي بن الحسين(عليهما السلام) فالتاثت(2) عليه الناقة في سيرها، فأشار إليها بالقضيب ثم قال: «آه لو لا القصاص» وردّ يده عنها(3).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «إذا سرت في أرض خصبة فارفق بالسير، وإذا سرت في أرض مجدبة فعجل بالسير»(4).

أهمية العمل

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «... والعمل كنز، والدنيا معدن...»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «... وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم يرشدك والعمل يبلغ بك الغاية»(7).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «يا هشام إن كل الناس يبصر النجوم ولكن لا يهتدي بها إلّا من عرف مجاريها ومنازلها، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلّا من عمل بها»(8).

ص: 247


1- المحاسن 2: 633.
2- التاثت عليه الناقة: أي أبطأت في سيرها.
3- الإرشاد 2: 144.
4- من لا يحضر الفقيه 2: 290.
5- أعلام الدين: 341.
6- الكافي 2: 75.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 115.
8- تحف العقول: 392.

المرأة المسلمة والوصايا الأخيرة

1- التقوى والخوف من اللّه

اشارة

الموضوع الأول هو التقوى.

كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) على عظمته يخاف اللّه عزّ وجلّ دائماً، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يغمى عليه من شدة الخوف من اللّه سبحانه وتعالى.

فهل رأيتم شخصاً يغمى عليه من الخوف.

الأنبياء(عليهم السلام)، الأئمة الأطهار(عليهم السلام) وأولياء اللّه الصالحون، كانوا يخافون اللّه أشد الخوف ومن شدة الخوف كان يغمى عليهم.

في السنة الثالثة من البعثة اُسري بالنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومن ثم عرج به إلى السماوات العلى، يقول اللّه تعالى في القرآن الكريم: {سُبْحَٰنَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ}(1)، والمسجد الأقصى هو بيت المقدس الذي احتلته اليهود بالقهر والطغيان، ففي ليلة المعراج ذهب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى هناك ثم عرج إلى السماوات، فشاهد الجنة والنار بكل تفاصيلها وبكافة خصائصها وجزئياتها، كما ورد في الروايات.

فلما عاد النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى الأرض من رحلة المعراج، عاش عشرون عاماً بعد

ص: 248


1- سورة الإسراء، الآية: 1.

رجوعه، وقد ذكر المؤرخون أنه لم ير ضاحكاً بعد ذلك أبداً. نعم كان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يبتسم، ولكن لا يضحك لشدة خوفه من اللّه عزّ وجلّ ولما رآه من نار جهنم وعذابها.

وللمثال نذكر إنه لو فقد شخص عزيزاً له - لا سمح اللّه ولا قدر - عندما يسمع هذا المصاب بشيء مفرح قد ترتسم البسمة على شفتيه، من دون أن تكون صادرة من قلبه وأعماقه، هكذا كان نبي الإسلام(صلی الله عليه وآله وسلم) بعد قصة الإسراء والمعراج.

يقول اللّه تعالى في القرآن المجيد: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَٰتِنَا}(1). فلما عاين(صلی الله عليه وآله وسلم) جهنم لم يضحك بالرغم من أن اللّه تعالى بشره بأنه مبعد عنها كل البعد، ولكنّ رؤية عذاب اللّه والأفراد المعذبين في جهنم تذهب بالضحكة من شفاه الإنسان.

مثلاً إذا كان الإنسان في بيته ويسمع صوت تعذيب شخص من البيت المجاور، فيتأثر ويتألم بالرغم من أنه لم يعذب شخصياً، ولكنّ روحه تتألم.

نعم، جهنم صعبة جداً وغير قابلة التحمل أصلاً. لذا يلزم على الإنسان أن يخشى اللّه ويتقيه.

معنى التقوى

التقوى تعني أن الإنسان يخشى اللّه ويخافه دائماً، وأن تكون أعضائه وجوارحه كلها خاشعة ومطيعة للّه تعالى، هذه هي التقوى.

أما الأشخاص الذين يسمعون الأغاني فإنهم لا يخافون اللّه.

وأولئك الذين يُقدمون على الحرام ويرتكبون المعاصي لا يخافون اللّه.

والشخص الذي يكذب لا يخاف اللّه.

والمرأة السافرة أو التي لا تعتني بحجابها لا تخاف اللّه.

ص: 249


1- سورة الإسراء، الآية: 1.

إن على الإنسان أن يتذكر التقوى دائماً وأن لا ينسى ذكر اللّه أبداً.

فإن التقوى باعثة للسمو والرفعة في الدنيا والآخرة.

التقوى لا ترتبط بالآخرة فقط، بل خيرها يشمل الدنيا أيضاً. فإن الإنسان لا يستأجر شخصاً خائناً، والسارق لا يقبله صاحب أي محل ولا يتعامل معه، أما الشخص المتقي فإنه معزز ومكرم في الدنيا من قبل الجميع، وهكذا في الآخرة فإن {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا}(1).

لذا يلزم رعاية التقوى في جميع الأحوال، ويجب على الإنسان أن يجعل رجله وعينه وأذنه وكافة أعضائه وجوارحه منقادة لأمر اللّه، وأن يرى نفسه وأعماله تحت نظر اللّه دائماً وأن لا يغفل عن اللّه أبداً.

الشاب الذي أسلم تواً

جاء في التاريخ(2):

إن شاباً من الأعراب جاء إلى نبي الإسلام(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكان من أطراف المدينة، قال: ما الإسلام؟

فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): الإسلام أن تشهد الشهادتين: «لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه»، الشهادة التي يتشهد بها كافة المسلمين.

أسلم ذلك الشاب، وسأل: ثمّ ماذا؟

فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): عليك أن تتعلم القرآن.

ثمّ التفت(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى أحد المسلمين في المسجد وقال: علمه القرآن، فعلمه هذه السورة:

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا *

ص: 250


1- سورة القصص، الآية: 80.
2- انظر: بحار الأنوار 89: 107.

وَقَالَ الْإِنسَٰنُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا * يَوْمَئِذٖ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْاْ أَعْمَٰلَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).

فلما تعلم الشاب هذه السورة القصيرة قام ليرجع إلى قريته، فقال له معلم القرآن: إن القرآن كتاب مفصل وفيه سور كثيرة، وقد علمتك سورة واحدة فقط.

فقال الشاب: لهذه السورة معان كبيرة وقد تعلمت منها الكثير، ويكفيني منها قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}.

ماذا تعني الذرة؟

إذا نفذ شعاع الشمس من خلال ثقب صغير في غرفة مظلمة، فإن الإنسان سوف يشاهد فيها الكثير من الذرات الصغيرة جداً التي تسبح في الفضاء، فكل واحدة منها تسمى ذرة.

إن اللّه تعالى يبين في هذه الآية الشريفة، أن المعيار في ثواب الأعمال وعقابها هو وزن هذه الذرة، يعني: إذا عمل الإنسان بمقدار وزن ذرة خيراً، فسيشاهد نتيجة عمله الخير، وإذا عمل بنفس المقدار شراً، فسيشاهد نتيجة عمله الشر أيضاً، نعم أيّ عمل يعمله الإنسان من خير وشر فسيرى نتيجة عمله في الدنيا قبل الآخرة.

وكيف كان، فإن التقوى هو أن يراقب الإنسان دائماً، يده، عينه، أذنه وكافة أعضائه وجوارحه ويسيطر عليها، لأن اللّه مطلع على كل الأشياء ويرى أعماله ويحاسبه عليها، فإذا تكلم الإنسان قليلاً أو كثيراً، أفحش لا سمح اللّه في كلامه، أو أكل مال الناس، أو استمع الأغاني، أو نظر إلى الحرام، فكل هذه تحصى عليه

ص: 251


1- سورة الزلزلة، الآية: 1- 8.

وتكتب في سجل عمل الإنسان وسيؤاخذ عليها.

إن من صفات اللّه تعالى السميع والبصير، يعني: يسمع كل صوت ويرى كل شيء، ومن صفاته أيضاً {إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(1)، يعني: كل ما يخطر بقلب الإنسان فإن اللّه به عليم وعليه يترتب الجزاء.

إن في يوم القيامة يؤتى بشخص وقد كتب في صحيفة أعماله: ثواب بناء (مسجد جوهر شاد)(2)، فيقول: يا رب إن الملائكة قد اشتبهت فأنا لم أبن مسجد جوهر شاد.

فيقول اللّه تعالى: لم تشتبه الملائكة، بل إنك قد مررت في أحد الأيام من أمام باب مسجد جوهر شاد، فقلت في نفسك: لو كان عندي مال لبنيت به مثل هذا المسجد، فكتبنا لك ثوابه.

أو إن أحد الأشخاص ولا سمح اللّه يمر من أمام نادي من نوادي الحرام فيقول لو بنيت مثل هذا، فتكتب هذه الفكرة في سجل أعماله(3)، أو يسمع بمظلوم قد ظلمه ظالم، فلم ينتصر له ويسكت عنه ويرضى بظلمه، فيكتب له الوزر.

ولقد أشار اللّه تعالى إلى هذا المعنى في القرآن الكريم.

لذا يجب مراقبة النفس دائماً والمراقبة والخوف من اللّه هو التقوى، فالتقوى يعني: أن يراقب الإنسان نفسه دائماً.

من كرامات الحمّال التبريزي

في إحدى أزقة مدينة تبريز أشرف طفل على الوقوع من فوق السطح، وقد

ص: 252


1- سورة الأنفال، الآية: 43.
2- مسجد كوهر شاد: مسجد معروف بجوار مرقد الإمام الرضا(عليه السلام) في مدينة مشهد المقدسة.
3- فإن نية السيئة تسجل ويعاتب عليها الإنسان في يوم القيامة، ولكن لا يعاقبه اللّه عليها، أما نية الخير فتسجل ويثاب الإنسان عليها.

وقف مجموعة من الناس خائفين لا يعلمون ماذا يفعلون، وفي هذه الأثناء مر حمّال بسيط يحمل حملاً فوق رأسه، فلما وقع نظره على الطفل وكان يهوي من السطح إلى الأرض أشار بيده المرتعشة إلى الطفل، وفجأة تعلق الطفل بين السماء والأرض، فمد الرجل يده إلى الطفل وأخذه بلطف وجعله على الأرض.

وهنا التف الناس حوله وجعلوا يسألونه، فقال أحدهم: هل أنت الإمام المهدي(عليه السلام)؟

وقال آخر: هل أنت الخضر(عليه السلام)؟

وقال ثالث: هل أنت ولي من أولياء اللّه؟

في كل ذلك يجيب الحمّال قائلاً: كلا، لم أكن الإمام المهدي ولا الخضر ولا ولياً من أولياء اللّه، بل أنا عبد من عباد اللّه، وقد سمعت كلام اللّه أكثر من سبعين سنة، والآن قد سمع اللّه كلامي.

يقال إن قبر هذا الرجل المؤمن موجود الآن في مدينة تبريز وله ضريح، ويذهب الناس لزيارته ويتوسلون إلى اللّه عند قبره فيستجاب دعاؤهم.

نعم، من يسمع كلام اللّه، يسمع اللّه كلامه.

الإنسان عادة مبتلى في هذه الدنيا. يحزن، يفتقر، يمرض طفله، تحصل له مشكلة، إن البشر عموماً هكذا، فإذا ما أطاع اللّه فإن اللّه يستجيب له دعاءه، هذه سنة إلهية وقد أشار اللّه تعالى إليها في القرآن بقوله: {أَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}(1).

نعم، كل هذه الأمور تشكل التقوى.

إن الأنبياء(عليهم السلام) جميعاً أوصوا بالتقوى، وكذلك الأئمة(عليهم السلام) أكدوا على التقوى،

ص: 253


1- سورة البقرة، الآية: 40.

وقد أمرت كافة الكتب السماوية بالتقوى أيضاً.

التقوى: تعني أن يعلم الإنسان بأن اللّه حاضر عنده وناظر إليه دائماً.

الأعمى الذي ارتد بصيراً

يقال: إن رجلاً أعمى كان يقف إلى جانب قبر الإمام الرضا(عليه السلام) في الحرم الشريف ويسترحم الناس. وفي أحد الأيام ارتفعت الأصوات في الحرم بشدة حتى ملأت كل مكان. وفي هذه الأثناء اقترب شخص من الأعمى وقال له: يا عم منذ متى وأنت أعمى؟

قال الأعمى وهو لا يعرف الرجل الذي يكلّمه: أربعون عاماً.

قال له: كم عاماً لك وأنت تسترحم الناس في حرم الإمام الرضا(عليه السلام)؟

قال: عشرون عاماً.

قال: وأين كنت في العشرين عاماً الأخرى؟

قال: في مدينتي.

قال: عشرون عاماً في صحن الإمام الرضا(عليه السلام)؟

قال: نعم.

قال: فلماذا لم تطلب من الإمام الرضا(عليه السلام) في هذه المدة الطويلة شفاء عينيك؟

ثمّ قال له بشدة: هل تعرفني؟

قال الأعمى: كلا.

قال له: أنا نادر شاه(1).

وكان نادر شاه حاكماً مستبداً ولا يبالي بإراقة الدماء، فارتعدت فرائص الرجل

ص: 254


1- نادر شاه الأفشار (1688- 1747): حاكمٌ إيراني.

الأعمى حين طرق سمعه اسم الملك نادر شاه.

ثمّ قال نادر شاه لمرافقيه: امسكوا به، حتى أكمل الزيارة وأعود، فإذا ما بقي هذا الرجل أعمى فاضربوا عنقه.

فخاف ذلك الشخص الأعمى كثيراً، ولشدة خوفه سقط على الأرض مرتعشاً، وانقطع بكله إلى اللّه، وتوجه بقلبه إلى الإمام الرضا(عليه السلام) وقال: يا سيدي يا علي بن موسى الرضا، إن نادر شاه إنسان قاتل، فإذا رجع ولم يرني مبصراً قتلني، كان يقول ذلك بقلب منكسر، ويتوسل بالإمام(عليه السلام) في أن يشفع له إلى اللّه تعالى في شفائه وإبصاره، فشافاه اللّه تعالى بشفاعة الإمام الرضا(عليه السلام) وأبصرت عيناه.

عاد نادر شاه وإذا به يرى الأعمى وقد أبصر، فقال له: ماذا حدث؟

فال: أبصرت ببركة الإمام الرضا(عليه السلام).

قال له نادر شاه: كيف أبصرت في لحظات، ولم تبصر مدة عشرين عاماً؟

قال: الآن دعوت صادقاً من أعماق قلبي وأقسمت اللّه بحق الإمام الرضا(عليه السلام) بكل وجودي، وذلك لشدة الخوف على نفسي الذي اعتراني من تهديدك إياي بالقتل، وبالفعل لم يخيب الإمام(عليه السلام) رجائي.

قال له نادر شاه: صدقت، ثم خرج من الحرم الرضوي الشريف، بعد أن أمر بإعطائه مبلغاً جيداً من المال، ويقال إن قبر هذا الشخص في مشهد موجود إلى الآن.

نعم، إذا انقطع الإنسان إلى اللّه عزّ وجلّ، ووسط عنده المعصوم(عليه السلام) بقلب منكسر ونية صافية، فإن حوائجه تقضى إن شاء اللّه تعالى.

تهيأ البيت المناسب

قال أحد أصدقائنا من الكربلائيين: عندما أخرجنا من العراق وجئنا إلى إيران وسكنا مدينة قم المقدسة، سعيت كثيراً لأجل شراء بيت حتى مللت. كان المال

ص: 255

موجوداً أما لم أجد البيت المناسب الذي أطلبه. أردت أن أستأجر بيتاً ولكن لم أجد المكان المناسب. وفي أحد الأيام حزنت كثيراً فذهبت إلى مرقد السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام) وقلت لها بقلب منكسر: سيدتي ومولاتي أنا ضيفك وقد نزلت بجوارك، فهل هكذا تحمين النازلين، وتضيّفين الداخلين عليك؟

قلت ذلك بحرقة قلب ثمّ خرجت من المرقد المبارك نحو الصحن، وإذا بي أرى في الصحن الشريف واحداً من المعارف قد قصدني وقال: منذ مدة وأنت تبحث عن بيت فهل وجدت شيئا؟

قلت: كلا.

قال: تعال معي فإن هناك بيتاً مناسباً.

فذهبت معه فأراني بيتاً، فأعجبني حيث لاحظت أنه هو نفس البيت الذي كنت أبحث عنه، فاشتريته وإلى الآن أسكن فيه.

نعم يبدو أن هذا الرجل عندما كان يذهب إلى المرقد الشريف لم يدعُ من أعماق قلبه وإنما كان الدعاء يجري على لسانه دون قلبه، والحال إن اللّه تعالى يريد قلب الإنسان، فالقرآن يصرح: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(1)، يعني: في يوم القيامة لا ينفع الإنسان شيء من المال والبنين ولا يفلح أحد قط إلّا من جاء بقلب سليم.

فإذا كان قلب الإنسان - لا سمح اللّه ولا قدر - غير سليم فإنه سيكون منالأشقياء والعياذ باللّه.

وفي آية أخرى قال تعالى: {ءَاثِمٌ قَلْبُهُ}(2) فالقلب قد يكون عاصياً آثماً.

ص: 256


1- سورة الشعراء، الآية: 89.
2- سورة البقرة، الآية: 283.

لذا يجب علينا دائماً أن لا ننسى التقوى. وأن نخاف اللّه في كل صغيرة وكبيرة، فإن الذي يخاف اللّه خافه كل شيء، ومن كان مع اللّه كان اللّه معه، يعينه وينجيه من المشاكل، قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(1).

فالتقوى إذن موضوع بحثنا الأول.

إنه يجب على الجميع أن يكونوا متقين.

الرجل يجب أن يكون متقياً.

المرأة يجب أن تكون متقية.

الشاب يجب أن تكون له تقوى.

الفتاة يجب أن تكون لها تقوى.

إن الذي لا يملك التقوى يضر نفسه قبل غيره، فاللّه تعالى لا يستجيب دعاءه ولا يقضي له حوائجه.

امرأة من زنجان

وفدت عليّ قبل شهر أو أكثر امرأة من مدينة زنجان وقالت: إن لي مشكلة.

قلت: وما هي مشكلتك؟

قالت: لي بنت وقد حان وقت زواجها ولكن لم يتقدم أحد لخطبتها.

فقلت لها: من أي مدينة أنت؟

قالت: من زنجان.

قلت: استغفري اللّه يومياً مائة مرة (أستغفر اللّه وأتوب إليه) واقرأي كل يوم الدعاء المروي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام): (يا من تحل به

ص: 257


1- سورة الطلاق، الآية: 2-3.

عقد المكاره) المذكور في أوائل كتاب مفاتيح الجنان(1)، يسهل اللّه عليك إن شاء اللّه تعالى.

ذهبت المرأة ثمّ جاءت بعد مدة وقالت: التزمت بالاستغفار والدعاء، وقد تزوجت ابنتي بحمد اللّه تعالى.

إن هذه المرأة انقطعت بقلبها إلى اللّه، واستغفرته ودعته من أعماق قلبها وبنية صادقة، فاستجاب اللّه لها دعاءها.

كونوا مع اللّه يكون اللّه معكم، قال اللّه تعالى في القرآن المجيد: {أَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}(2)، أي أسمعوا كلامي لأسمع كلامكم.

وفي آية أخرى عبّر عن ذلك بالبيع، فكما إن الإنسان يدفع المال ليأخذ في مقابله الخبز مثلاً، فكذلك اللّه تعالى يقول لعباده بيني وبينكم تتم معاملة بيع،{فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ}(3).

هذا هو الموضوع الأول وهو التقوى.

2- حسن الأخلاق

وأما الموضوع الثاني والذي يلزم أن يكون في أذهاننا دائماً ونلتزم به في جميع الأحوال، هو: حسن الخلق.

إن عاقبة الخلق الحسن الجنة وعاقبة الخلق السيئ النار، كما ورد فيالحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «عليكم بحسن الخلق فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق فإن سوء الخلق في النار لا محالة»(4).

ص: 258


1- أورده المرحوم الشيخ عباس القمي في مفاتيح الجنان: وكذا الكفعمي في المصباح: 233.
2- سورة البقرة، الآية: 40.
3- سورة التوبة، الآية: 111.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 31.

وفدت عليّ قبل مدة في هذا المكان مجموعة من النسوة المؤمنات من مدينة يزد وكن حوالي 500 امرأة. فقلت لهن: إن الآيات والروايات تقول إن مَثَل جهنم مَثَل بيت مملوء بالنار ثم تكبّل يدا الإنسان ورجلاه ثمّ يلقى في النار فيعذب من دون أن يستطيع القيام بأي عمل.

يقول اللّه تعالى في القرآن: إذا عمل الإنسان عملاً سيئاً، أو ساءت أخلاقه، أو اقترف ذنباً، فستكبل يداه ورجلاه ويلقى في جهنم، {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٖ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}(1)، أي: قيدوه في سلسلة من نار طولها سبعون ذراعاً - يعني: مائة وأربعين شبراً، إذ الذراع هو مقدار ما بين رؤوس الأصابع إلى المرفق - فإن العاصي يقيد في هذه السلسلة النارية ويسحب إلى جهنم نعوذ باللّه.

والمقيّد بهكذا سلسلة لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شيئاً، بل لا يستطيع أن يتحرك أصلاً.

فإذا وقع لا سمح اللّه ولا قدر مثل هذا البلاء على الإنسان فماذا يكون مصيره؟

بحمد اللّه أنتن مثقفات وتدركنَ هذه المعاني، أنتن متعلمات وقد درستن وطالعتن الكتب، وتحضرنَ المجالس الدينية والحسينية وتسمعنَ هذا الخطاب، لذا يجب أن تكنَ حسنات الأخلاق دائماً.

قال اللّه تعالى لموسى(عليه السلام) قبل أربعة آلاف سنة - على ما جاء في التوراة - : «كما تدين تدان»(2)، يعني: كيفما تتعامل مع الآخرين يتعامل الناس معك أيضاً، فإذا ساءت أخلاقك مع الناس ساءت أخلاقهم معك، وإذا حسنت أخلاقك مع

ص: 259


1- سورة الحاقة، الآية: 32.
2- الكافي 2: 138.

الناس حسنت أخلاقهم معك، وإذا عاملتهم بسوء عاملوك بسوء، وإذا عاملتهم بلطف عاملوك بلطف أيضاً، وهكذا.

لذا يجب عليكن أن تكنَ حسنات الأخلاق دائماً. فإذا كان الإنسان سيئ الأخلاق في وقت ما فسينال جزاءه في الدنيا، ويتعرض هو أيضاً لمعاملة سيئة، فقد يكون ابنه لا سمح اللّه سيئ الأخلاق مثلاً، أو يكون أخوه أو أخته لا سمح اللّه ولا قدر سيئي الأخلاق.

نعم، إنه «كما تدين تدان»، يعني: كل ما تعمل سوف تجزى بمثله. فإذا أحسنت فسترى الإحسان وإذا أسأت فسترى ما يسوءك.

إن الإنسان يجب عليه أن يكون دائماً وفي كل الأحوال حسن الأخلاق، وأن لا يكون سيئ الأخلاق حتى إذا أساء إليه شخص آخر، فالمرأة لا سمح اللّه ولا قدر إذا أساء إليها زوجها، أو أبوها، أو أخوها، أو أختها، أو ابنها، أو جارتها، فيجب عليها في مقابل ذلك أن تكون حسنة الأخلاق.

إذن لا تنسين إن شاء اللّه ما قلناه:

أولاً: التقوى دائماً وفي كل حال.

ثانياً: الأخلاق الحسنة دائماً وفي كل حال.

يقول النبي عيسى(عليه السلام) في هذا المعنى، وهو من الأنبياء العظام: «إن لطم خدك الأيمن فأعطه الأيسر وتقرب إليه بالمودة جهدك وأعرض عن الجاهلين»(1).

3- القدرة على الكتابة والتأليف

الموضوع الثالث: القدرة على الكتابة والتأليف.

ص: 260


1- الكافي 8: 138.

يلزم على كل واحدة منكن أن تسعى لتنمية قدراتها على الكتابة والتأليف. فبحمد اللّه تعالى أنتن متعلمات وقد درستن بعض العلوم الدينية، لذا يلزم أن تكتبن الكتب النافعة والمفيدة للمجتمع وخاصة النسوي منه، لزميلاتكن ومثيلاتكن من البنات والنساء.

إن المسيحيين واليهود، مع قلة معنوياتهم فإن نساءهم أيضاً يؤلفن الكتب، أما نحن الشيعة مع كثرة معنوياتنا فإن نساءنا وبصورة خاصة لا يؤلفن الكتب، مع العلم أن أول سيدة ألفت كتاباً في الإسلام هي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام).

إن فاطمة الزهراء(عليها السلام) وهي القدوة والأسوة كانت بنت تسع سنين حيث تزوجت من الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).

ثم قضت تسع سنين أخرى في بيت أمير المؤمنين(عليه السلام) ثمّ استشهدت.

إنها(عليها السلام) خلال هذه المدة القصيرة أنجبت خمسة أو ستة من الأولاد الكرام، إضافة إلى أنها(عليه السلام) كانت تكنس البيت، وتغسل الملابس وتخيطها، وتستقي الماء من البئر، لأن الماء سابقاً لم يوصل بالأنابيب. وكانت(عليها السلام) تطحن بالرحى وتخبز الخبز أيضاً لأن في ذلك الوقت لم توجد المطاحن كما لم توجد المخابز المتعارفة في يومنا هذا، فكان كل واحد يطحن لنفسه ويخبز الخبز في بيته.

إن السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) على عظمتها وفضلها وعلى ما كانت عليه منهذه الأعمال المتعبة، كانت(عليها السلام) تؤلف الكتب أيضاً، وكتابها هو (مصحف فاطمة) حيث جاء فيه كل ما سمعته عن أبيها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مضافاً إلى علوم أخرى مما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، وقد توارثه أولادها الطاهرون(عليهم السلام) وهو اليوم عند ولدها الإمام المهدي(عليه السلام).

وفي الخبر: جاءت فاطمة الزهراء(عليها السلام) إلى أبيها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يوماً وطلبت

ص: 261

منه خادماً يعينها في أعمال بيتها، فقال لها النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): هل أعلمك شيئاً هو خير لك من الخادم(1).

قالت: بلى يا رسول اللّه.

فعلمها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) التسبيح المعروف باسم (تسبيح الزهراء(عليها السلام))، والذي نسبح به عقب كل صلاة على الصورة التالية: أربع وثلاثون مرة (اللّه أكبر)، وثلاث وثلاثون مرة (الحمد لله) وثلاث وثلاثون مرة (سبحان اللّه).

نعم إن فاطمة الزهراء(عليها السلام) مع كل هذه الصعوبات والمشكلات، والأعمال البيتية وتربية الأولاد، كانت تؤلف الكتب أيضاً.

أما نساؤنا اليوم فلا يؤلفن. في الوقت الذي أعداؤنا يؤلفون الكتب، ونساء المسيح واليهود يؤلفن الكتب.

هناك سيدة مسيحية في الغرب تدعى (أغاثا كريستي)(2) ألفت مائة وأربعة عشر كتاباً، وأنا شخصياً قرأت قسماً من كتبها، وقد تُرجمت كتبها إلى لغات عديدة وطبعت منها ملايين النسخ وبشكل جذاب.

ما الشيء الذي ينقصنا عنها؟

إنه لا ينقصنا عنها شيء سوى عدم توجهنا إلى ما للكتاب من أثر كبير في التهذيب والتثقيف، لذا يلزم على السيدات أن يكتبن ويؤلفن الكتب، وهذا الأمر سهل جداً، ولكن يحتاج إلى قليل من الهمة.

4- المنبر والخطابة

الموضوع الرابع: المنبر والخطابة.

ص: 262


1- انظر: من لا يحضره الفقيه 1: 320.
2- أغاثا كريستي (1891-1976): روائية إنجليزية.

كل واحدة منكن يلزم أن تكون واعظة وترتقي المنبر، وهذا الأمر بسيط جداً.

يلزمكن ارتقاء المنبر والوعظ وهداية بقية النساء، فإن كثيراً من السيدات لا يعرفن المسائل الشرعية، وفي كل يوم تأتي مجموعة من النساء إليَّ، وقسم منهن لا يعرفن حتى أبسط المسائل بالرغم من تواجدهن في قم، وهذا تقصيرنا نحن حيث لم نعلّم هؤلاء النسوة مسائلهن الشرعية.

على هذا يلزمكن ارتقاء المنبر وتعليم النساء المسائل الدينية.

لا تقولن: لا نستطيع، لا يمكن ذلك، إنه صعب، إنه مشكل. كلا ليس كذلك فإن كل إنسان يريد عمل الخير يمده اللّه تعالى ويساعده، وفي القرآن المجيد: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1)، يعني: إن الأفراد الذين يجاهدون من أجلنا، ويعملون من أجلنا، فإنا نهديهم الصراط المستقيم، وهذه من السنن الإلهية.

إن شاء اللّه تعالى لا يذهب عن بالكن المنبر، فإنه موضوع مهم جداً.

5- المحراب

الموضوع الخامس وهو - للأسف - قليل جداً في مجتمعاتنا: مسألة المحرابوإمامة الجماعة.

يلزم أن يكون للنساء محراب. وأن تكون لهن إمامة جماعة، وهذا الأمر بسيط جداً.

ففي الحسينية أو المسجد القريب من بيتكن تقام صلاة الجماعة، وواحدة من المؤمنات تؤم الباقين، فلصلاة الجماعة أجر كثير.

وقد جاء في الروايات بأن اللّه تعالى يعطي إمام الجماعة من الثواب بقدر ما

ص: 263


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.

يعطي كل المأمومين دون أن ينقص منهم شيئاً من الثواب.

وقد عيّن نبي الإسلام(صلی الله عليه وآله وسلم) امرأة للنساء تصلي بهن جماعة، على الرغم من أن صلاة الجماعة كانت تقام بإمامته(صلی الله عليه وآله وسلم) في المسجد، وكان الرجال والنساء يشتركون فيها، فعلى الرغم من كل ذلك فإن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كان قد دعا سيدة تسمى (أم ورقة)(1) وأمرها بأن تصلي بالنساء جماعة(2).

وكانت النساء اللواتي ترغب بالصلاة مع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يذهبن إلى مسجد النبي(صلی الله عليه وآله وسلم). وأما النساء اللواتي يرغبن بالصلاة مع أم ورقة يذهبن إلى ذلك المسجد ويصلين معها.

نعم يلزم على النساء أن يكون لهن المحراب، ويرتقين المنبر، ويكتبن ويؤلفن الكتب.

6- الزواج

اشارة

الموضوع السادس: هو الزواج، وهو موضوع مهم جداً حيث يلزم الإسراع في تزويج الشباب من الفتيان والفتيات.قبل قليل أشرنا إلى أن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قد زوّج ابنته فاطمة الزهراء(عليها السلام) وكان لها من العمر آنذاك تسع سنوات. مع أن البنات ذات التسع سنوات هن بنات صغيرات عادة، لكن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فعل ذلك كي يعلم الناس جميعاً الإسراع في مسألة تزويج بناتهم.

ومن جهة أخرى جعل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) مهر زواج ابنته قليلاً جداً، وحكمة هذا العمل هو التسهيل في أمر الزواج، حتى يتمكن الشباب في أول شبابهم أن

ص: 264


1- الصحابية الأنصارية أم ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث بن عويمر.
2- انظر: تذكرة الفقهاء 4: 237.

يتزوجوا ولا يبقوا في المجتمع من دون زوجات.

أما الآن وفي كافة الدول يوجد كثير من الشباب وليس لهم زوجات، وهناك الكثير من البنات وليس لهن أزواج، وهذه المسألة سببت كثيراً من المشاكل والمفاسد.

ما أكثر النساء في العراق اللواتي من دون أزواج، وما أكثرهن في إيران، وما أكثرهن في سوريا ولبنان وبقية الدول الأخرى.

لماذا حدث هذا؟

هل فكرنا في سببه؟

إن السبب هو ابتعادنا عن القوانين الإسلامية.

طبعاً توجد هنالك وإلى الآن عوائل مؤمنة تلتزم بالتسهيل في أمر الزواج وعدم تشديده، لكنهم قليلون، بينما يجب أن نكون جميعاً كذلك، فلقد جاءني شخص من سوريا وقال لي: ذهبت إلى مدينة حلب السورية وقلت: أريد الزواج، فعرفوا لي رجلاً مؤمناً وقالوا: إن عنده بناتاً مؤمنات. فذهبت إليه خاطباً، فاحترمني وأخذني إلى بيته وجلب لي الشاي، ثمّ قال: عندي من البنات أربعة فأحضرهن جميعاً وكن كلهن متدرجات في العمر، ومبكرات في السن، وقال: أيواحدة شئت لتتزوج بها فانتخبها.

وقد تزوج بإحداهن وأصبح بها سعيداً، وصارت له منها أولاد.

هذه هي طريقة الدين الإسلامي المبين.

نعم، يستفاد من طريقة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام) في أمر الزواج هو عدم التشديد والتضييق، وعدم خلق المشكلات والمعضلات من دون سبب.

فإذا يسر الإنسان فإن اللّه ييسر له.

ص: 265

وفي القرآن الحكيم: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(1).

يعني: إن اللّه تعالى يريد أن نكون سهلي التعامل في كل شيء، وخاصة في أمر الزواج، إن اللّه تعالى لا يريد بأحد منا العسر بل يريد بنا اليسر، فيلزم علينا التسهيل في جميع الأمور. وإذا سهلنا في الأعمال فإن الأمور سوف تسهل وتسير نحو الأحسن ونتخلص من المشاكل.

نعم عليكن أنتن أيتها النساء المحترمات أن تربين أولادكن تربية جيدة، فإن تربية الأولاد مهمة جداً، ومن ناحية أخرى عليكن ببناتكن فزوجوهن من الشباب المؤمنين سريعاً.

سلمان الفارسي في المدائن

يبعد مرقد سلمان الفارسي(رحمه الله) عن مدينة بغداد بحوالي ستة فراسخ، وقد ذهبت إلى زيارته في منطقة تسمى ب(سلمان باك) قرب طاق كسرى المعروف، وذلك عندما كنا في العراق.

لقد أصبح سلمان حاكم إيران في وقته وكانت عاصمة إيران آنذاك المدائن، وتوجد إلى الآن بقية من آثارها بالقرب من مدينة بغداد.

وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «تزوج سلمان امرأة من كندة فدخل عليها فإذا لها خادمة و على بابها عباءة فقال: سلمان إن في بيتكم هذا لمريضاً أو قد تحولت الكعبة فيه فقيل: إن المرأة أرادت أن تستر على نفسها فيه قال: فما هذه الجارية قالوا كان لها شي ء فأرادت أن تخدم قال: إني سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: أيما رجل كانت عنده جارية فلم يأتها أو لم يزوجها من يأتيها ثم فجرت كان عليه وزر مثلها»(2).

ص: 266


1- سورة البقرة، الآية: 185.
2- بحار الأنوار 22: 383.

هذا بالنسبة إلى البنات الشابات حيث يلزم أن يُزوجن سريعاً.

وكذلك بالنسبة إلى الشباب فإنه يجب السعي والإسراع في تزويجهم.

فإذا كان عندنا شاب وشابة، وما أكثرهم اليوم، فإنه يلزم علينا أن نسرع في الزواج بينهما، فإن الزواج كما في الحديث أفضل عمل وأفضل بناء في الإسلام بعد الإيمان باللّه ورسوله والأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

إن كثيراً من الشباب يأتون إلى زيارتي، وعندما أوصيهم في الإسراع بالزواج، يقول بعضهم: بأن والديه لا يرغبان بأن يتزوج سريعاً، وهذا غير صحيح.

لقد جاء شاب إلى الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): أ لك زوجة؟

قال الشاب: لا يا رسول اللّه.

قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): هل أنت مريض، أو بك علة؟

قال: لا.

قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): إذن أنت من إخوان الشياطين ورهبان النصارى(1).

يعني: إذا لم يتزوج الشاب كان أخ الشيطان وكان معدوداً من رهبانالمسحيين، ولا يحسب في طريقته هذه على المسلمين.

إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كان في غاية الأدب ويتكلم مع الآخرين بأدب كبير، ولكن من أجل أهمية الموضوع تكلم معه هكذا.

وعليه: فإذا كان لديكم شاب فزوجوه سريعاً.

7- العمل

الموضوع السابع الذي أريد الحديث عنه هو العمل.

يلزم على النساء أن يقمن بالأعمال المناسبة في البيت، مثل حياكة السجاد،

ص: 267


1- انظر: مستدرك الوسائل 14: 155.

التطريز، الخياطة وما أشبه، فإن فيه ثلاث فوائد:

1- يوجب النشاط في روح الإنسان، وقد ثبت هذا الأمر بالتجربة.

2- يوجب سلامة البدن لأن الحركة تبعث على السلامة.

3- يوجب تقوية الإنسان من الناحية الاقتصادية.

فيمكن لكل امرأة أن تمارس عملاً مناسباً لشأنها في البيت كالخياطة، والتطريز، والتحبيك وحياكة السجاد وما أشبه ذلك.

وفي الخبر: إنه جاء شخص إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: هل تعمل؟

قال: لا، إني عاطل.

فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «سقط من عيني»(1).

وفي القرآن الكريم قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ}(2).

8- مجالس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام)

اشارة

وفي الختام أوصيكن بالموضوع الثامن وهو إقامة مجالس عزاء الإمامالحسين(عليه السلام) في البيت.

لقد كنا حتى هذا اليوم ضيوفاً على اللّه بمناسبة شهر رمضان المبارك وكان يقام في كل ليلة منه مجلساً دينياً وحسينياً، فإنه يلزم أن تستمر هذه المجالس طيلة السنة، فإن هذه المجالس الحسينية مفيدة جداً، وتبعث بالبركة وتوجب خير الدنيا والآخرة، حيث يذكر فيها مصيبة سيد الشهداء(عليه السلام)، وتبين المسائل الشرعية، وتشتمل على الوعظ والإرشاد، والوصية بالأخلاق والآداب، ويوجب الذهاب والإياب من قبل المؤمنين وكل هذه تبعث بالبركة وترفع المشاكل.

ص: 268


1- انظر: جامع الأخبار: 139.
2- سورة التوبة، الآية: 105.

إنني عندما كنت في الكويت، أصررت كثيراً على الشيعة هناك بأن يقيموا مجالس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام) في البيوت، إلى أن تحقق ذلك بحمد اللّه تعالى، وأخذت المجالس في بعض المناسبات تتراوح بين مائتين وثلاثمائة.

نعم، يلزم على كل شخص أن يقيم مجلساً حسينياً في بيته، وهذا العمل بسيط جداً، فأقمن مجالس العزاء في بيوتكن، علماً بأنه يمكن للمرأة أن ترتقي المنبر للنساء، وتقرأ التعزية، وتبين الأحكام الشرعية، وتتكلم عن الأخلاق، وترشد الآخرين إلى تعاليم الإسلام، فإن هذه الأعمال سهلة جداً.

لقد جاء في الروايات والآيات القرآنية: إن الإنسان عند ما يموت ويوضع في قبره - ونحن أيضاً نموت، فاليوم أحدنا يموت، وغداً شخص آخر يموت وهكذا - نعم عند ما يموت الإنسان، ينتبه من غفلته فيبكي كثيراً على ما فاته من العمر المفيد ولم يستفد منه جيداً، حيث بالموت ينتهي كل ما كان بوسعه ولم يبق في اليد من وسيلة، فيقول كما في القرآن الكريم: {رَبِّ ارْجِعُونِ}، ولكن يأتي الجواب: {كَلَّا}.

يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَقَائِلُهَا}(1).

كن وصيّ نفسك

كان لي صديق في طهران، وكان مؤمناً ملتزماً، فجاءني يوماً إلى هنا وقال: أريد أن أكتب وصية حتى إذا توفيت يعملوا لي الخيرات والأعمال الصالحة من بعدي.

قلت له: لا توص.

قال: لماذا؟

ص: 269


1- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.

قلت: يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «كن وصي نفسك»(1)، فكل وصية تريد أن توصي بها أنجزها أنت بنفسك في حياتك، فإن كنت تريد أن تعطي في سبيل اللّه سجاداً، أو مالاً، أو تبني مسجداً، أو كل عمل بر وإحسان تريده، فأنجزه أنت.

لم يقبل مني ذلك، وأوصى بما أراد، وبعد مدة توفي إلى رحمة اللّه، وكان لديه أربعة أولاد وقد ترك مبلغاً من المال يقرب من خمسة مليارات تومان، فبالرغم من أنه كان إنساناً مؤمناً ولكن أبناءه تنازعوا من بعده على الإرث وراحت الأموال ووصل بهم الأمر إلى المحاكم والسجون وأحدهم لحد الآن في السجن.

إذا أراد الإنسان أن يعمل خيراً يلزم أن يعمله بنفسه، كما قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كن وصي نفسك».

كثير من الناس، عندما كنا في العراق أو الكويت أو إيران، يوصون بأعمال الخير من بعدهم ولكن لا يقومون بها بأنفسهم وعندما يموتون ينتهي كل شيءولا يعمل الآخرون لهم أي عمل خيري.

اسأل اللّه أن يوفقكن جميعاً ويؤيدكن لما فيه رضاه.

وفي الختام أكرر وصيتي بعدم الغفلة عن إقامة مجالس الإمام الحسين(عليه السلام) الأسبوعية وما أشبه، حتى ولو لم يحضر إلّا خمسة أشخاص أو عشرة، فإن هذه المجالس تدفع البلاء، وتحل المشاكل وتزيد في الرزق.

وعند ما كنا في الكويت جاءني شخص وقال: لدي أربع بنات لم يتزوجن، ولم يتقدم أحد لخطبتهن فماذا أعمل؟

قلت له: هل تعمل بما أقوله لك؟

ص: 270


1- الكافي 7: 65.

قال: نعم.

قلت: في أي منطقة تسكن؟

قال: في منطقة الصلبيخات، (وكانت تبعد عن بيتنا 40 كيلو متراً تقريباً).

قلت له: أقم مجلس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام) أسبوعياً في بيتك.

قال: وما ربط مجلس العزاء الأسبوعي بتزويجي بناتي؟

قلت: عندما تأتي النساء إلى منزلكم لمجلس العزاء، سوف يشاهدن بناتكم ويتعرفن عليهن ويعجبن بهن فيتقدمن لخطبتهن لشبابهن.

فقبل ذلك وبعد مضي سنة جاءني وقال: زوجت كل بناتي ببركة هذه المجالس المقدسة.

نعم يلزم عليكن جميعاً التقوى والخوف من اللّه، وحسن الأخلاق، ورعاية الآداب، والتأليف والتصنيف وارتقاء المنبر والمحراب، والتسريع في تزويج الشباب والشابات، وإقامة المجالس الحسينية الأسبوعية في بيوتكن.

نسأل من اللّه أن يتقبل أعمال الجميع ويؤيد الجميع، للعمل الصالح، وصلىاللّه على محمّد وآله الطاهرين(1).

من هدي القرآن الكريم

التقوى والأخلاق الحسنة

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(2).

وقال سبحانه في وصف عباده المؤمنين: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَٰمًا * وَالَّذِينَ

ص: 271


1- ألقيت المحاضرة في ليلة عيد الفطر سنة (1422 ه).
2- سورة القلم، الآية: 4.

يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَٰعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَٰلِحًا فَأُوْلَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَئَِّاتِهِمْ حَسَنَٰتٖ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٖ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَٰمًا * خَٰلِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَا}(1).

وقال عزّ وجلّ: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْأخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(2).

وقال جلّ اسمه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٖ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* الصَّٰبِرِينَ وَالصَّٰدِقِينَ وَالْقَٰنِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}(3).

الأخلاق السيئة وعدم التقوى

فال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ

ص: 272


1- سورة الفرقان، الآية: 63-77.
2- سورة البقرة، الآية: 1-5.
3- سورة آل عمران، الآية: 15-17.

عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}(2).

وقال جلّ اسمه: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(3).

وقال تعالى: {قُلْ يَٰقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّئَِّاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةِ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٖ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

التقوى

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «خطب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس واللّه ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلّا وقد نهيتكم عنه، ألّا وإن الروح الأمين نفث في روعي(6) أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا

ص: 273


1- سورة آل عمران، الآية: 137.
2- سورة النساء، الآية: 123.
3- سورة المائدة، الآية: 100.
4- سورة الأنعام، الآية: 135.
5- سورة يونس، الآية: 27.
6- الرُوع: العقل والقلب.

اللّه وأجملوا في الطلب ولا يحمل أحدكم استبطاء شيء من الرزق أن يطلبه بغير حله فإنه لا يدرك ما عند اللّه إلّا بطاعته»(1).

وروي عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء»(2).

وعن الوشاء عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: سمعته يقول:«الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قسم في الناس شيء أقل من اليقين»(3).

الخوف من اللّه

عن حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إن مما حفظ من خطب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهايةً فانتهوا إلى نهايتكم، ألّا إن المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما اللّه صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما اللّه قاض فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، وفي الشبيبة قبل الكبر،وفي الحياة قبل الممات، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب وما بعدها من دار إلّا الجنة أو النار»(4).

وعنه(عليه السلام) قال: «من عرف اللّه خاف اللّه ومن خاف اللّه سخت نفسه عن الدنيا»(5).

ص: 274


1- الكافي 2: 74.
2- تهذيب الأحكام 6: 181.
3- الكافي 2: 51.
4- الكافي 2: 70.
5- الكافي 2: 68.

وعنه(عليه السلام) قال: «خف اللّه كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «رأس الحكمة مخافة اللّه»(2).

حسن الخلق

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»(3).

وعن عمار بن مروان الكلبي قال: أوصاني أبو عبد اللّه(عليه السلام) فقال: «أوصيك بتقوى اللّه وأداء الأمانة وصدق الحديث وحسن الصِّحابة لمن صحبت ولا قوة إلّا باللّه»(4).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «أربع من كن فيه كمل إيمانه وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك، قال: وهو الصدق وأداء الأمانة والحياء وحسن الخلق»(5).

وعن علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: «قيل يا رسول اللّه: ما أفضل حال أعطي للرجل؟ قال:(صلی الله عليه وآله وسلم): الخلق الحسن، إن أدناكم مني وأوجبكم علي شفاعةًأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانةً وأحسنكم خلقاً وأقربكم من الناس»(6).

ورد في شأن نزول قول اللّه تعالى لنبيه(صلی الله عليه وآله وسلم): {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(7) أنه قد كان(صلی الله عليه وآله وسلم) قد لبس برداً نجرانياً ذا حاشية قوية فبينما هو يمشي إذ جذبه أعرابي من خلفه فجرت في عنقه فقال: له أعطني عطائي يا محمد، فالتفت(صلی الله عليه وآله وسلم) إليه

ص: 275


1- الكافي 2: 68.
2- الاختصاص: 343.
3- الكافي 2: 99.
4- الكافي 2: 669.
5- الكافي 2: 99.
6- مستدرك الوسائل 8: 442.
7- سورة القلم، الآية: 4.

مبتسماً وأمر له بعطائه، فنزل قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} فمدحه اللّه بهذه مدحة لم يمدح بها أحد من خلقه(1).

وعن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «البر وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار»(3).

وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام) قال: «أتي النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بسبعة أسارى فقال لي يا علي: قم فاضرب أعناقهم قال: فهبط جبرئيل(عليه السلام) في طرف العين فقال: يا محمد اضرب أعناق هؤلاء الستة وخل عن هذا، فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا جبرئيل ما بال هذا من بينهم؟ فقال: لأنه كان حسن الخلق سخياً على الطعام سخي الكف، قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): فقلت: يا جبرئيل عنك أو عن ربك، فقال: لا بل عن ربك عزّ وجلّ يا محمد»(4).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن حسن الخلق يثبت المودة وحسن البشر يذهب بالسخيمة ومن أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة فاستنزلوا الرزق بالصدقة وإياكم أن يمنع أحدكم من ذي حق حقه فينفق مثله في معصيته»(5).

التأليف والكتابة

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «اكتبوا فإنكم لا تحفظون

ص: 276


1- إرشاد القلوب 1: 133.
2- الكافي 2: 99.
3- الكافي 2: 100.
4- مستدرك الوسائل 8: 442.
5- إرشاد القلوب 1: 133.

حتى تكتبوا»(1).

وعن المفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبهم»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «القلب يتكل على الكتابة»(3).

المنبر

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) إذا صعد المنبر قال: ينبغي للمسلم أن يتجنب مواخاة ثلاثة الماجن(4) والأحمق والكذاب»(5)

الحديث.

وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «من السنة إذا صعد الإمام المنبر أن يسلم إذا استقبل الناس»(6).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) قال: «كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا خرج إلى الجمعة قعد على المنبر حتى يفرغ المؤذنون»(7)

صلاة الجماعة

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «الصلاة في جماعة تفضل على كل صلاة الفرد بأربع وعشرين درجةً تكون خمساً وعشرين صلاةً»(8).

ص: 277


1- الكافي 1: 52.
2- الكافي 1: 52.
3- الكافي 1: 52.
4- الماجن: مَن لا يبالي قولاً وفعلاً.
5- الكافي 2: 376.
6- تهذيب الأحكام 3: 244.
7- تهذيب الأحكام 3: 244.
8- تهذيب الأحكام 3: 25.

وعن زرارة والفضيل قالا: قلنا له(عليه السلام): الصلوات في جماعة فريضة هي؟ فقال: «الصلوات فريضة وليس الاجتماع بمفروض في الصلاة كلها، ولكنها سنة ومن تركها رغبةً عنها وعن جماعة المؤمنين من غير علة فلا صلاة له»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن صفوف أمتي كصفوف الملائكة في السماء والركعة في الجماعة أربع وعشرون ركعة كل ركعة أحب إلى اللّه تعالى عن عبادة أربعين سنة»(2).

العمل

عن ابن عباس أنه قال: كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا نظر إلى الرجل فأعجبه قال: «هل له حرفة؟» فإن قالوا: لا، قال: «سقط من عيني» قيل: وكيف ذاك يا رسول اللّه؟ قال: «لأن المؤمن إذا لم يكن له حرفة يعيش بدينه؟»(3)

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين(عليهما السلام) يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين(عليهما السلام) حتى رأيت ابنهمحمد بن علي(عليهما السلام) فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي(عليهما السلام) وكان رجلاً بديناً وهو متكئ على غلامين له أسودين أو موليين له فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا واللّه لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه فسلم علي بِبُهْرٍ(4) وقد تصبب عرقاً فقلت: أصلحك اللّه شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا لو جاءك

ص: 278


1- الكافي 3: 372.
2- روضة الواعظين 2: 335.
3- جامع الأخبار: 139.
4- البُهْر: تتابع النفس.

الموت وأنت على هذه الحال، قال: فخلى عن الغلامين من يده ثم تساند وقال: لو جاءني واللّه الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات اللّه أكف بها نفسي عنك وعن الناس وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي اللّه، فقلت: يرحمك اللّه أردت أن أعظك فوعظتني»(1).

الزواج

عن الإمام الصادق(عليه السلام): «ركعتان يصليهما المتزوج أفضل من سبعين ركعةً يصليها أعزب»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من تزوج أحرز نصف دينه» وفي حديث آخر «فليتق اللّه في النصف الآخر أو الباقي»(3).

وعن محمد بن مسلم أن أبا عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة حتى إن السقط ليجيء محبنطئاًعلى باب الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول لا حتى يدخل أبواي الجنة قبلي»(4).

المجالس الحسينية

عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه قال: قال الرضا(عليه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذُكِّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(5)

ص: 279


1- الارشاد 2: 161.
2- الكافي 5: 328.
3- الكافي 5: 329.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 383.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 73.

وروي عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إذا كان يوم القيامة نصب لفاطمة(عليها السلام) قبة من نور ويقبل الحسين(عليه السلام) ورأسه في يده فإذا رأته شهقت شهقة فلا يبقى في الموقف ملك ولا نبي إلّا بكى لبكائها، فيمثله اللّه عزّ وجلّ في أحسن الصورة فيخاصم قتلته بلا رأس فيجمع اللّه لي قتلته والمجهرين عليه ومن شرك في دمه...»(1).

قال الصادق(عليه السلام): «رحم اللّه شيعتنا، شيعتنا واللّه المؤمنين فقد شركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة»(2).

وعن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إذا كان يوم القيامة جاءت فاطمة(عليها السلام) في لمة أي جماعة من نسائها، فيقال لها: ادخلي الجنة، فتقول: لا أدخل حتى أعلم ما صنع بولدي من بعدي، فيقال لها: انظري في قلب القيامة فتنظر إلى الحسين(عليه السلام) قائماً وليس عليه رأس فتصرخ صرخة وأصرخ لصراخها وتصرخ الملائكة لصراخها فيغضب اللّه عزّ وجلّ لنا عند ذلك فيأمر ناراً يقال لها هبهب قد أوقد عليها ألفعام حتى اسودت لا يدخلها رَوح أبداً ولا يخرج منها غم أبداً فيقال التقطي قتلة الحسين وحملة القرآن فتلتقطهم فإذا صاروا في حوصلتها صهلت وصهلوا بها وشهقت وشهقوا بها وزفرت وزفروا بها فينطقون بألسن ذلقة طلقة: يا ربنا في ما أوجبت لنا النار قبل عبدة الأوثان، فيأتيهم الجواب عن اللّه تعالى أن من علم ليس كمن لا يعلم»(3).

ص: 280


1- مثير الأحزان: 81.
2- مثير الأحزان: 81.
3- ثواب الأعمال: 217.

المرأة في المجتمع المعاصر

مريم البتول(عليها السلام)

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَٰهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(1).

لقد جاءت هذه الآية الكريمة المباركة في سياق ذكر الأنبياء والصديقين(عليهم السلام)(2)، والتي خصت بمحتواها نبأ السيدة مريم(عليها السلام) وهي ابنة عمران أم المسيح(عليه السلام)، وكفاها فخراً أن يدخل ذكرها في ذكر الأنبياء(عليهم السلام) في كلامه تعالى وهي ليست منهم.

نعم، تعتبر السيدة مريم(عليها السلام) نموذجاً ومُثلاً عظيماً من النساء خلد ذكرها القرآن الكريم، وذلك لما تمتعت به من صفات مباركة وسيرة صالحة، وقد عانت الكثير حين ولدت نبي اللّه السيد المسيح (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) بطريقة إعجازية غير ما جرت به القوانين المتعارفة والسنن الكونية المألوفة.

وكان من أشهر ألقابها: البتول، وهي المنقطعة عن الرجال والنكاح والتزويج، أو هي المنقطعة إلى اللّه بالعبادة(3).

ص: 281


1- سورة الأنبياء، الآية: 91.
2- حيث ورد في سياق السورة المباركة ذكر الأنبياء: داود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون وزكريا ويحيى وعيسى (على نبينا وآله وعليهم السلام).
3- قال العلامة فخر الدين الطريحي في (مجمع البحرين): قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} - سورة المزمل، الآية: 8 - أي: انقطع إلى اللّه تعالى وانفرد. والتبتل: الانقطاع إلى اللّه تعالى وإخلاص النية. وأصل ذلك من البتل وهو القطع، كأنه قطع نفسه عن الدنيا. يقال: بتلت الشيء أبتِله بالكسر، إذا قطعته وأبنته من غيره. وفي الخبر: «لا رهبانية ولا تبتل في الإسلام». أراد بالتبتل: الانقطاع عن الدنيا وترك النكاح. والبتول كرسول: العذراء المنقطعة عن الأزواج. ويقال: هي المنقطعة عن الدنيا. والبتول: فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم). قيل: سميت بذلك لانقطاعها إلى اللّه، وعن نساء زمانها ونساء الأمة فعلاً وحسباً وديناً. وفي الرواية وقد سئل(صلی الله عليه وآله وسلم): إنا سمعناك يا رسول اللّه تقول: «إن مريم بتول، وإن فاطمة بتول» ما البتول؟ فقال: «البتول التي لم تر حمرة قط». وبجميع ما ذكرناه وردت الرواية عنهم(عليهم السلام). انظر: مجمع البحرين 5: 316 مادة (بتل).

معجزة مريم وابنها(عليهما السلام)

ولتوضيح الآية الشريفة نقول - بإيجاز - : {وَ} أي: اذكر يا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) المرأة {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي: حفظت نفسها عن الفساد، وهذا لرد اليهود الذين قالوا فيها شراً. والفرج في اللغة العربية بمعنى مقدم الثوب؛ فإن الناس رجالاً ونساءً كانوا يجعلون في أطراف ثيابهم فرجاً، وهو ما تعورف عليه عند أهل البادية، حيث يجعلون تحت اليدين فرجة من اليمين وفرجة من اليسار؛ ولذا سمي مقدم الثوب فرجاً (من الانفراج). فيا رسول اللّه اذكر - في هذا الكتاب - مريم الصديقة(عليها السلام) أم عيسى التي أحصنت فرجها، يعني حفظت ثوبها، وهذا كناية عن العفة؛ لأنها حفظت ثوبها من الزنا، وهذا مدح لها بالعفة والصيانة، وردّ لما أتهمها به اليهود.

وهنا لا بد أن نذكر أن على النساء الإقتداء بالسيدة مريم(عليها السلام) في كيفية وطريقة الحجاب التي أمر اللّه بها، وهكذا الإقتداء بالنساء الطاهرات من أهل البيت(عليهم السلام) كالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، والسيدة زينب(عليها السلام)، وسائر أمهات المعصومين(عليهم السلام) وبناتهم وأخواتهم ومن أشبه، حيث يلزم عليهن الاحتياط والدقةفي الحجاب والتحفظ، بأن لا يرى الرجل يدها ولا شعرها ولا قدميها، وهذا

ص: 282

التحفظ من لوازم العفة - والحمد للّه ما أكثر النساء المؤمنات العفيفات اللواتي يحتطن في هذا الأمر - .

كما عليهن أن ينصحن الأخريات في الالتزام بما قد يغفلن عنه، أو لا يشعرن بما يصدر منهن من تصرفات تنافي عفة المرأة وكرامتها. والسيدة مريم(عليها السلام) كانت قد أحصنت فرجها، يعني أنها كانت منذ صغرها متحفظة، ومحافظة على نفسها وعلى ثوبها وعلى وجهها وعلى شعرها وعلى يدها وعلى رجلها.

وفي الآية الكريمة إشارة - أيضاً - إلى مسؤولية الفتيات المؤمنات بوجوب مراعاة الحجاب من أجل حماية الدين والمجتمع.

أما قوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} فإن النافخ كان جبرائيل(عليه السلام)، لكنه حيث كان بأمر اللّه تعالى، نُسب النفخ إليه تعالى، والروح أضيف إليه سبحانه تشريفاً(1)، كإضافة البيت إليه، وقد كان النفخ في جيب ثوبها، وتكوّن من ذلك النفخ السيد المسيح(عليه السلام)، والضمير هنا وهو (الهاء) يعود إلى البتول مريم(عليها السلام)، والنفخ فيها من الروح كناية ودلالة واضحة على عدم استناد ولادة عيسى(عليه السلام) إلى العادة الجارية والمتعارفة عند البشر في حالة الإنجاب، من تطور النطفة أولاً ثم نفخ الروح فيها، فإذا لم يكن هناك نطفة لم يبق سوى نفخ الروح فيها، وهي الكلمة الإلهية كما قال اللّه تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(2) أي كلاهما - آدم وعيسى(عليهما السلام) - استغنيا عن النطفة المتعارفة عند البشر.

وقوله {مِن رُّوحِنَا} من قبيل (الإضافة التشريفية) فيقال: بيت اللّه يعنى مكة

ص: 283


1- أي: روح خلقها اللّه عزّ وجلّ وتشرفت بخلقه لها.
2- سورة آل عمران، الآية: 59.

المكرمة، فلا يقصد منه أن اللّه يسكن في هذا البيت، بل: إضافة البيت إلى اللّه إضافة تشريفية، وكذلك حينما نقول: (علي ولي اللّه)، فإضافة علي(عليه السلام) إلى اللّه تعالى تشريف لعلي(عليه السلام)(1)، أو في الآية الكريمة: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَٰهَا}(2)، فإن كل النوق هي من خلق اللّه وهي ملك اللّه، فلا خالق ولا مالك حقيقي في هذا الكون غير اللّه، لكن الإضافة هنا أيضاً تشريفية. كذلك عندما نقول: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله) فإن أكبر مقامات التشريف وأعظمها درجة عند اللّه تعالى هي العبودية الحقة، وإن كمال العبودية وتمامها درجة لا ينالها إلّا المصطفون من الأنبياء والرسل(عليهم السلام) وعلى رأسهم نبينا محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، وإلّا فكلنا عباد اللّه حتى الشيطان والكافر والفاسق فكلهم عباد اللّه وإن لم يلتزموا بمقتضيات العبودية ولم يرعوا حق المولوية.

على هذا الأساس لما أراد اللّه أن يشرف عيسى ومريم(عليهما السلام) ذكرهما في هذه الآية المباركة: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} وقد ورد في معنى النفخ قولان:

الأول: إن اللّه تعالى أجرى روح المسيح بن مريم(عليه السلام) كما يجري الهواء بالنفخ، فتكون إضافة الروح إلى الباري عزّ وجلّ إضافة تشريفية لإظهار منزلة عيسى(عليه السلام) ومقامه عند اللّه.

الثاني: إن اللّه تعالى أمر جبرائيل(عليه السلام) فنفخ في جيب مريم(عليها السلام) بإذن اللّه تعالى فصار المسيح(عليه السلام) في رحمها.

{وَجَعَلْنَٰهَا} أي: جعلنا مريم {وَابْنَهَا} المسيح {ءَايَةً لِّلْعَٰلَمِينَ} أي: دلالة على وجود اللّه وقدرته، والمراد ب{ءَايَةً} الجنس، فلا يقال: أنهما آيتان، يعني:

ص: 284


1- أي أنه ولي من اللّه عزّ وجلّ.
2- سورة الشمس، الآية: 13.

جعلنا مريم(عليها السلام) وجعلنا عيسى(عليه السلام) آية ومعجزة وعلامة لكل أهل الأرض؛ لأن العالم ما شهد ولا رأى قبل عيسى(عليه السلام) إنساناً يولد من امرأة بكر لم يمسها بشر، فهو خلق من الأم فقط بدون أن يكون هناك أب(1).

نعم، هذه معجزة؛ لأن الناس ومنذ أن خلق آدم وحواء إلى عيسى لم يسمعوا بأن أحداً خلق من غير أب سوى آدم وحواء، فإن اللّه تعالى خلقهما من غير أبوين.

وهذه المعجزة التي يذكرها القرآن الحكيم ويمدح السيدة مريم(عليها السلام) ويبين مكانتها في المجتمع وأنها (آية) إلى اللّه عزّ وجلّ ودلالة عليه، تعطي دوراً مهماً للمرأة وتنسب إليها مهام ومسؤوليات في سبيل الخير والفضيلة والدلالة على اللّه سبحانه؛ لأن الإسلام لا يجعل من المرأة آلة أو أداة لإشباع الغريزة وتقديم الخدمة، بل منحها وقلدها دوراً مهماً في الحياة، من أجل إيجاد مجتمع تربوي صالح، ومن هذا المنطق نبحث في موضوع المرأة في الرؤية الإسلامية بإيجاز.

لمحة عن حياة المرأة عبر التاريخ

نبتدئ بلمحة مختصرة عما جرى على المرأة عبر التاريخ وقبل بزوغ شمس الإسلام...

مروراً بالأمم غير المتمدنة...

ثم حياة المرأة في الأمم المتمدنة قبل الإسلام...

ثم المرحلة الذهبية التي طرأ عليها من تغير وتطور وعزّ واحترام وضمانلجميع الحقوق في فجر الإسلام...

ثم حياة المرأة من خلال ما يسمى بالمدنية والحضارة الغربية، ولو مروراً

ص: 285


1- انظر: تفسير مجمع البيان 7: 111، وتفسير تقريب القرآن 3: 568.

سريعاً، حتى تتبلور لدينا فكرة واضحة عن دور الإسلام العميق الذي أعطى للمرأة مكانتها ومنزلتها، تلك المنزلة السامية، والدرجة الرفيعة والمكانة المرموقة في داخل المجتمع، وأعطاها كامل حقوقها الإنسانية وحافظ على شخصيتها وشرفها.

فعند ملاحظة حياة المرأة في الأمم غير المتمدنة، كالأمم التي كانت قاطنة في بعض مناطق أفريقيا، واستراليا، والجزائر البعيدة، وأمريكا القديمة وغيرها، نجد أن حياة النساء في هذه الأمم بالنسبة إلى حياة الرجال كانت كحياة الحيوانات الداجنة التي تربى في الحقول والمزارع والبيوت؛ إذ كان الرجل يتصرف بها كما يتصرف الإنسان بالحيوان وكيف ما يشاء، فكما يستفاد من الحيوانات من شعرها ووبرها ولحمها وعظمها ودمها وجلدها وحليبها وحراستها وفي حمل الأثقال وفي الحرث وفي الصيد، إلى غير ذلك من احتياجات الإنسان الحياتية والمعيشية الكثيرة، كذلك كانت نفس النظرة بالنسبة للمرأة! حيث كانت موضعاً لقضاء حاجاته ورغباته وآلة بيده ليس إلّا، دون ملاحظة إنسانيتها ومشاعرها وآمالها وآلامها ورغباتها.

فكان للرجل المتسلط عليها كالأب أو الزوج أو الأخ الأقوى أن يبيعها، أو يهبها، أو يقرضها للخدمة أو الفراش أو الإستيلاد، أو لأي غرض من أغراض الإقراض. بل كان له الحق في أن يقتلها، أو يتركها تموت من الجوع، أو حتى يأكلها، إن رغب أو اضطر لذلك.

وما كان على المرأة في هذه المجتمعات إلّا أن تطيع وتنفذ الأوامر، فهي لمتكن تخدم في البيت وتربي الأولاد وما أشبه من احتياجات الأسرة فقط، بل كانت تكلف وتجبر على القيام بأعمال شاقة فوق قدرتها وطاقتها، كإعداد الطين للبناء وغير ذلك من الحرف والصناعات التي تشق على الرجال فكيف بالنساء.

ص: 286

أما حياتها في الأمم المتمدنة التي كانت قبل الإسلام فلم تكن بأحسن كثيراً منها في الأمم السابقة؛ فهي ليست ذات استقلال وحرية، لا في إرادتها ولا في أعمالها، وتعاني من عدم احترامها كزوجة لها شخصيتها ومكانتها وإنسانيتها؛ إذ ليس لها استقلالية وحرية في قرار يختص بها فضلاً عن غيرها.

وبالمقابل كان عليها أن تتحمل المعاناة والمصاعب في جميع مرافق الحياة من كسب وكدٍّ وأعمال قاسية وصعبة - خاصة من ناحية بنيتها الجسمية - وغير ذلك، فلم يكن عليها أن تختص بأمور البيت والأولاد، بل كان عليها أن تطيع الرجل في جميع ما يأمرها ويريد منها، حتى إذا لم ترغب بذلك وكان فوق طاقتها.

وكان يمكن لعدة رجال أن يتزوجوا امرأة واحدة يشتركون في التمتع بها، ويلحق أولادها بأقواهم.

أما في أيام حيضها ودورتها الشهرية كان عليها أن تتحمل كل أنواع الازدراء والنفور، حيث يجب عليها أن تنفرد عن عائلتها بأكلها وشربها؛ فهي نجسة خبيثة في نظرهم.

ومما يذكر عن حال المرأة تحت ظل ما عرف بشريعة حمورابي(1):

ص: 287


1- حمورابي: ملك البابليين عام (1792- 1750 ق.م) صاحب الشريعة البابلية الشهيرة، بلغت المملكة البابلية أوج عظمتها في عهده، بعد حروب عدة نجح في إخضاع دويلات ما بين النهرين، اشتهر حمورابي بالحكمة وكان يلتجأ إليه في المظالم. يعتبر البعض شريعة حمورابي أول شريعة حاولت تحديد المسؤولية الجنائية في عالم كانت تتحكم فيه شريعة الغاب أو مزاجية الحاكم واستبداده، لذا اعتبروا تشريعاته أول قانون جنائي في تاريخ الإنسانية. كتب حمورابي كتباً كثيرة تخص المعابد وإدارة شؤونها، وأعظم ما خلده التاريخ وأذاع شهرته المسلة القانونية المعروفة بمسلة حمورابي، التي يبلغ سمكها ثمانية أقدام وهي من الحجر الأسود، وقد نقش عليها بالخط المسماري الشرائع السومرية القديمة.

إن المرأة كانت تابعة للرجل بكافة أمورها دون أي استقلال؛ إذ أن الزوجة التي لم تُطع زوجها، أو استقلت بعمل معين دون موافقته، كان يحق للرجل أن يطردها من بيته، أو يتزوج عليها زوجة أخرى، وتعامل الأولى كملك يمين، بل كان لزوجها الحق في قتلها إن أخطأت في بعض شؤون المنزل بإغراقها في الماء. لذا كان للرجل أن يمسكها متى أراد، ويتركها متى شاء، وما عليها إلّا تنفيذ أوامر الرجل.

وكذلك هو حال المرأة السومرية(1) شأنها كسابقتها من ناحية المعاملة الفَظة والغليظة، والتعامل على أساس أنها تابعة للرجل في كل شيء، وما خلقت إلّا لإسعاده.

أما المرأة في بلاد الروم، فهي الأخرى لم تكن بأفضل حال، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الروم من أقدم الأمم وضعاً للقوانين المدنية، نلاحظ أنها وضعت بعض القوانين التي تخص البيت والأسرة. وجعلت لرب البيت - الزوج أو الأب - نوع ربوبية وسلطة شبه مطلقة على ذويه، فقد كان يعبده أهل بيته، وله الاختيار التام والمشيئة النافذة في جميع أمور العائلة من زوجة وأولاد حتى القتل لو رأى أن الصلاح فيه، ولا يعارضه في ذلك معارض. وكانت تعتبر النساء أدنى مرتبة منكل الرجال في العائلة حتى من الأبناء التابعين، فلا تسمع لهن شكوى، ولا تنفذ لهن معاملة. ولم تكن المرأة تعتبر جزءاً أصيلاً في البيت، بل هي تبع، والقرابة الرسمية المعتبرة في التوارث ونحوه مختصة بما بين الرجال من علاقة، وأما النساء فلا. وكان بيد الرجل زمام حياتها يفعل بها ما يشاء، فربما باعها أو وهبها،

ص: 288


1- قامت حضارة سومر القديمة على مجرى نهري دجلة والفرات وتأسست فيها المدن السومرية القديمة، وهي من أولى الحضارات التي عرفها التاريخ ذا سعة شاملة، وهي من أعظمها ابداعاً وإنشاءً.

أو ربما أقرضها للتمتع، وربما أعطاها في سداد دَين عليه أو خراج ونحوهما، وربما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما.

ومما يدل على امتهان كرامة المرأة ما ظهر - بشكل واضح - في مجتمع الروم من مظاهر الفسق والفجور، جعل المرأة ألعوبة بيد الرجل يقضي منها حاجته، فكثرت الدعارة والفحشاء، وزينت البيوت بصور ورسوم كلها دعوة سافرة إلى الفجور، وأصبحت المسارح مظاهر للخلاعة والتبرج الممقوت.

والمرأة اليونانية، أيضاً وضعها كان قريباً من وضع المرأة عند الروم.

أما المرأة الصينية، فاعتبرها القانون الصيني تابعة للرجل، تنفذ أوامره وتقضي حاجته، ولا ميراث لها. وزواج المرأة كان نوعاً من استعبادها، وكانت لا تشارك زوجها ولا أبناءها الغذاء، بل عليها أن تجلس جانباً لوحدها، كما يحق لمجموعة من الرجال أن يتزوجوا امرأة واحدة يشتركون في التمتع بها والاستفادة من أعمالها.

وكان قدماء المصريين يعاملون المرأة معاملة حقيرة شأنها شأن الخدم، وللرجل أن يتزوج بأخته، ولا يدعوها تخرج من البيت إلّا لعبادة الآلهة، بل إنهم كانوا يقدمون أجمل فتاة عندهم قربان وترضية وسكناً لغضب النيل وفيضانه بعدما يزينوها بأبهى حلة لكي يرضى بها، فيلقونها في نهر النيل في مراسم خاصة لئلا يفيض عليهم.

ولم تكن المرأة الفارسية أوفر حظاً من صويحباتها الهنديات والمصريات، فالمجتمع الفارسي القديم كان ينظر إلى المرأة نظرة احتقار وازدراء، وهو يعاقبها أشد المعاقبة وأقساها لأي إساءة أو تقصير في حق زوجها.

أما المرأة الهندية، فبالرغم من أن بلاد الهند آنذاك كانت تعتبر ذات حضارة نسبية تتصف بالعلم والتمدن والثقافة، إلّا أنهم كانوا يعاملون المرأة معاملة قاسية

ص: 289

لا رحمة فيها. فالمرأة عندهم مملوكة للرجل في العائلة كالأب أو الزوج أو ولدها الكبير، محرومة من التملك حتى بالإرث، وعليها أن ترضى بأي رجل يقبل به أبوها أو أخوها، وهي مجبرة على العيش معه إلى آخر حياته، وليس لها حق المطالبة بالطلاق لأي سبب من الأسباب، وفي أيام حيضها عليها أن تنفرد بمأكلها ومشربها، لأنها نجسة خبيثة - باعتقادهم - .

والأدهى من ذلك كله أنها كانت تحرق مع زوجها إذا مات، فإذا مات الرجل منهم يحرقونه بالنار، ويأتون بزوجته المسكينة ويلبسونها أفخر ثيابها وحليها ويلقونها على جثة زوجها المحترقة لتأكلها النيران معه. والمرأة عندهم هي مصدر الشر والإثم والانحطاط الروحي والخلقي.

وفي بعض التقارير: إن نظام (ساتي) في الهند كان يحتم على المرأة التي يتوفى عنها زوجها أن تلحق به من خلال حرق نفسها لتكون قريبة منه بحياته ومماته.

وكلمة (ساتي) تعني المرأة الطاهرة أو المقدسة التي تحرق نفسها لأجل زوجها، أو وفقاً لفلسفة طبقة الراجبوت فإن ساتي تعني المرأة الصالحة التي أصبحت قادرة على تقديم نفسها كهبة حيث كان يعتقد أنه بفعلها هذا ستخلص نفسها وأفراد أسرتها وذويها من هم البعث من جديد أو التجسيد وهو (تحولروح الميت إلى حيوان أو طائر) حسب المعتقد الهندوسي!

وكانت النساء في تلك الحقبة التاريخية يؤدين هذه العادة - باختيار أو بإكراه - تعبيراً عن الإخلاص والتودد لأزواجهن وللحفاظ على شرفهن من أن يدنس.

تذكر كتب الفيشنو الهندوسية المقدسة أن عادة الساتي كانت تمارس ما بين القرن الأول والثاني للميلاد.

وعلى الرغم من استنكار جميع الأوساط لهذا النظام غير الإنساني فإن قصص

ص: 290

المهابراتا تروي أن امرأة تدعى المادري أحرقت نفسها في موكب إحراق زوجها وذلك في القرن السادس للميلاد.

وكان نظام الساتي يمارس في ولايات الهند الشمالية والجنوبية إضافة إلى أنه كان يمارس حتى في عهد المغول وإبان أيام حكم الإسكندر الأكبر الذي بذل جهوداً كبيرة للقضاء على هذه العادات إلّا أن جميع الجهود ذهبت أدراج الرياح أمام التعصب القبلي الأعمى لهذا النظام الذي كان مترسخاً لاسيما في أذهان النساء.

وطريقة ممارسة هذا النظام كانت تتم عند موت الزوج حيث تؤخذ جثته إلى المحرقة وتؤمر زوجته فتتزين بأحسن ما عندها من ثياب وتتعطر بأحسن عطر ثم تتبع الجنازة برفقة ذويها وأهلها إلى أن تصل إلى المحرقة.

وكانت المحرقة تشعل عند قدومهم ثم تؤمر الزوجة فتجلس عند جنازة الزوج المتوفى ثم تبدأ بالنواح على رحيله عنها حتى تصل إلى درجة تفقد صوابها وبعدها يقوم عدد من الرجال بربطها فوق جثة زوجها ويصبون فوقهما سائلاً سريع الاشتعال ثم تضرم فيهما النار حتى تصبح جثتاهما رماداً.

ولم يستثن من هذه العادة الظالمة تلك الفتيات الصغيرات اللائي تزوجن في سن مبكرة جداً وأغلبهن في العاشرة من أعمارهن فكان عليهن إحراق أنفسهنبحجة المحافظة على شرفهن من أن لا يدنسه أحد بعد أزواجهن وحسب التقاليد والأعراف الهندوسية فإن الأرامل لا يحق لهن الزواج مرة أخرى إذا توفي عنهن أزواجهن.

أما اللائي كن يمتنعن عن القيام بهذا العرف فكان جزاؤهن أن يقذفن بالقوة داخل النار، وإن حاولن الهرب كن يحضرن مرة أخرى ويرمين في النار لأنهن حسب زعمهم يردن تدنيس شرفهن وشرف القبيلة ثم يصب فوقهن حديد

ص: 291

مصهور ليمتن طاهرات غير مدنسات!

المرأة في الجاهلية

اشارة

أما حالة المرأة عند العرب الجاهليين الذين كانوا قاطنين في شبه الجزيرة، فإنها إن لم تكن أسوأ من غيرها في الأمم الأخرى لم تكن بأفضل؛ إذ كانوا لا يرون للمرأة استقلالاً في الحياة ولا حرمة ولا شرافة، وكانت النساء لا تورث، وكانت تلك القبائل من العرب يئدون البنات، حيث ابتدأ في ذلك بنو تميم لواقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر(1) أسرت فيها عدة من بناتهم فأغضبهم ذلك فابتدروا بالوأد قضاءً على المرأة، ثم سرت العادة في غيرهم من القبائل.

وخير وصف لذلك ما جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في إحدى خطبه الشريفة وقد وصف حال العرب قبل الإسلام فقال:

«فالأحوال مضطربةٌ، والأيدي مختلفةٌ، والكثرة متفرّقةٌ، في بلاء أزلٍ(2)، وأطباق جهلٍ، من بناتٍ موءودةٍ(3)، وأصنامٍ معبودةٍ، وأرحامٍ مقطوعةٍ، وغاراتٍمشنونةٍ»(4).

وذُكر في قصة وأد البنات أنه: كان قوم من العرب يئدون البنات، قيل: إنهم بنو تميم خاصة، وإنه استفاض منهم في جيرانهم، وقيل: بل كان ذلك في تميم وقيس وأسد وهذيل وبكر بن وائل، وقال قوم: بل وأدوا البنات أنفة، وزعموا أن تميماً منعت النعمان الإتاوة سنة من السنين، فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر، وجل من معه من بكر بن وائل، فاستاق النعم وسبى الذراري، فوفدت بنو تميم إلى

ص: 292


1- النعمان بن المنذر أبو قابوس ملك الحيرة في العراق.
2- الأَزل: الشدة.
3- مَوْؤودة من وَأَدَ بنته - كوعد - : أي دفنها وهي حية.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

النعمان واستعطفوه، فرق عليهم وأعاد عليهم السبي، وقال: كل امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلهن اخترن آباءهن إلّا ابنة قيس بن عاصم فإنها اختارت مَن سباها وهو عمرو بن المشمرخ اليشكري، فنذر قيس بن عاصم المنقري التميمي أن لا يولد له بنت إلّا وأدها، والوأد أن يخنقها في التراب ويثقل وجهها به حتى تموت، ثم اقتدى به كثير من بني تميم، قال سبحانه: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(1)، أي: على طريق التبكيت والتوبيخ لمن فعل ذلك أو أجازه.

روى الزبير في (الموفقيات): إن أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري: ما حملك على أن وأدت؟ قال: مخافة أن يخلف عليهن مثلك(2).

وقال ابن عباس: كانت المرأة - في الجاهلية - إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة، وقعدت على رأسها، فإن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاماًحبسته(3).

وكان الرجل من ربيعة أو مضر يشترط على امرأته، أن تستحيي جارية وتئد أخرى، فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: (أنتِ عليَّ كظهر أمي إن رجعت إليكِ ولم تئديها)، فتتخذ لها في الأرض خداً، وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها ثم يتداولنها حتى إذا أبصرته راجعاً دستها في حفرتها ثم سوت عليها التراب.

وقيل: كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه، فعاتبهم اللّه على ذلك،

ص: 293


1- سورة التكوير، الآية: 8-9.
2- انظر: شرح نهج البلاغة 13: 177.
3- بحار الأنوار 7: 93.

وتوعدهم بقوله: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(1).

وروي في قصة تبين مدى القساوة والظلم الذي كان يلحق المرأة والبنت في الجاهلية، أن رجلاً من أصحاب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كان لايزال مغتماً بين يدي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما لك تكون محزوناً؟».

فقال: يا رسول اللّه، إني أذنبت ذنباً في الجاهلية، فأخاف أن لا يغفره اللّه لي وإن أسلمت!

فقال له: «أخبرني عن ذنبك؟».

فقال: يا رسول اللّه، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إليَّ امرأتي أن أتركها، فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها فيالبيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي.

فسرّت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت عليَّ المواثيق بأن لا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت في البئر، ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني وجعلت تبكي، وتقول: يا أبتِ، أيش تريد أن تفعل بي!

فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت عليَّ الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبتِ لا تضيع أمانة أمي.

فجعلت مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها فأرحمها، حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبتِ، قتلتني.

ص: 294


1- سورة التكوير، الآية: 8-9.

فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت.

فبكى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وقال: «لو أمرت أن أعاقب أحداً بما فعل في الجاهلية لعاقبتك»(1).

وهكذا كانت تُظلم المرأة بكل قسوة، ولم تكن تحظى بنظرة التقدير والاحترام في المجتمع الجاهلي والقبلي قبل الإسلام، فهي تابعة لأبيها أو لزوجها، لا يحق لها التصرف بأي شيء لأنها وما تملك لوليها.

وقد كان من حق الولد أن يمنع أرملة أبيه من الزواج، بمجرد أن يضع عليها ثوبه فيرثها، بل كان له أن يتزوجها وبغير مهر إن شاء، أو يزوجها لمن يشاء ويأخذ مهرها.

وكانت هذه العادة سائدة حتى بُعث نبي الرحمة والإنسانية الرسول العظيم(صلی الله عليه وآله وسلم)، فأبلغهم نزول التحريم من اللّه لهذا النوع من الزواج.

فقد ذكر في قصة كبشة بنت معن بن عاصم، أنها لما مات زوجها أبو قيس بن الأسلت انطلقت إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقالت: يا نبي اللّه، لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح، فنزل قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}(2)، فهي أول امرأة حرمت على ابن زوجها.

وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا مات الرجل وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه فيمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت قبيحة حبسها حتى تموت. وظل هذا شأنهم إلى أن نزل الوحي بتحريم ذلك(3).

ص: 295


1- تفسير القرطبي 7: 97.
2- سورة النساء، الآية: 22.
3- انظر: الدر المنثور 2: 131.

وكانت العرب تتشاءم إذا ولدت لأي أحد منهم بنت، فإن الرجل منهم يعتبرها عاراً على نفسه، كما جاء في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَٰرَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}(1) لكن يسره الابن مهما كثر ولو بالإدعاء والإتحاف، حتى أنهم كانوا يتبنون أولاد الزنا، وربما تنازع رجال من صناديدهم وأولي الطول منهم في ولد ادعاه كل لنفسه.

العزة في الإسلام

أما الإسلام فإنه أبدع في حق المرأة أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ عصور طويلة؛ فإنه خالف تلك العادات الظالمة بأجمعها، حيث بين أن المرأة كالرجل في الإنسانية يتساويان، وكل إنسان ذكراً كان أم أنثى فإنه يشترك في حقيقة واحدة، وهي أنه لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى، وبهذا صدح القرآن الكريم حينما قال سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَلِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2).

ثم قال سبحانه وتعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ}(3).

وقال جلّ شأنه: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}(4).

ص: 296


1- سورة النحل، الآية: 58-59.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- سورة آل عمران، الآية: 195.
4- سورة النساء، الآية: 123-124.

وقال عزّ وجلّ: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٖ}(2).

فصرح تبارك وتعالى أن الساعي - ذكراً كان أم أنثى - غير خائب، وإن العمل غير مضيع عند اللّه، وأكد اللّه سبحانه وتعالى على أن لا تمايز إلّا بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخلق الحسن، والصبر، والحلم.

فالمرأة المؤمنة السالكة بدرجات الإيمان، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلاً، أو الحسنة خلقاً، أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال، وهذا هو الميزان في الإسلام، فلا كرامة إلّا للتقوى والفضيلة.

ولا إشكال ولا ريب أن الإسلام له الفضل في التقدم الباهر الذي رافق المرأة في إطلاقها من قيد الأسر والعبودية، فأعطاها الاستقلال في الإرادة والعمل مع الحفاظ على شخصيتها وكرامتها، وأن أمم الغرب في ما صنعوا من أمرها جمعوا بين الخير والشر لها، أما الخير فقلدوا فيه الإسلام وإن أساءوا التقليد والمحاكاة.

وبشكل إجمالي إن الغرب أساء إلى المرأة حيث كلفها فوق طاقاتها وجعل منها ضحية للشهوات فعمل على المساواة غير العادلة بين الرجل والمرأة.

المرأة بين الإفراط والتفريط

بلغ التقدم الحضاري والتقني في هذا العصر أوج تطوره وأعلى مراتبه وبصورة

ص: 297


1- سورة النحل، الآية: 97.
2- سورة غافر، الآية: 40.

مذهلة، ولكن ازداد وضع المرأة سوءاً، حيث أصبحت على قائمة ضحايا هذه الثورة التقنية، يتقاذفها التيار شرقاً وغرباً.

ولقد ظُلمت المرأة من قبل البعض - جهلاً وعصبية - من خلال تحجيمها وحرمانها من حقوقها التي منحها الإسلام، كحق التعليم والعمل - الواقع ضمن الضوابط الشرعية - أو حق إبداء الرأي والشورى وغيرها من الحقوق الكثيرة التي ضمنها الإسلام للمرأة، فوقعت المرأة ضحية بين إفراط وتفريط، إفراط الغرب وتفريط بعض المجتمعات في الشرق.

نعم، المرأة في هذا العالم - أي عالمنا اليوم - سواء كانت في الغرب أم الشرق، فقد وقعت في إفراط أو تفريط، ولا يقصد في هذا البحث فرد أو مجموعة خاصة من الأفراد، بل البحث عن المجتمعات بشكل عام، وما وصلت إليه المرأة عموماً:

المرأة والمجتمع المعاصر

إن ما وصل إليه حال المرأة في الدول المتقدمة لا يليق بشأنها ومكانتها،كمخلوق أراد له الباري عزّ وجلّ أن يعيش عفيفاً، محترماً حرّاً... لا أن تستخدم للدعاية الرخيصة والعروض الفاضحة والتصدير(1)، حتى صارت صورها تلصق على علب السجائر وعلب المأكولات. ووصلت بهم الحال أنهم جعلوها واجهة رخيصة لدور السينما والتلفزيون بأشكال شتى. في حين أن دور المرأة ووجودها في الحياة أشرف من هذا كله، حيث إنها تمثل نصف المجتمع، ولا يخفى أنه ليس المقصود بالنصف هنا نسبة (50%) فقط على أساس التعداد السكاني للعالم، وإنما على أساس الدور والوظيفة الحيوية في المجتمع؛ وذلك لأن نسبة

ص: 298


1- تصدير المرأة عبر ما يسمى بتجارة الرقيق الأبيض.

المرأة العددية غالباً ما تشكل نسبة أكبر، إذ غالباً ما يكون تعداد النساء أكثر من الرجال، فالمقصود بالنصف هو النصف الوظيفي، فالمرأة هي نصف المجتمع فهي والرجل جزءان أحدهما يكمل الآخر؛ لذا فليس من كرامة المرأة أن تكون وسيلة للدعاية والإعلانات الرخيصة والمبتذلة التي تحط من كرامتها وتوهن دورها الكبير في الحياة.

وقد أكد القرآن في آيات عديدة أن خلق النساء لا يختلف عن خلق الرجال في الطينة، فإن للمرأة ثقل في المجتمع كما للرجل ذلك، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}(1). ويعني بالنفس الواحدة نفس آدم(عليه السلام)، لذا لا توجد في الإسلام نظرة احتقار تجاه المرأة في طبيعة خلقها وأصل تكوينها.

الإسلام والعظيمات من النساء

في التاريخ الإسلامي يلاحظ الكثير من النساء اللاتي بلغن درجات رفيعةومراتب عالية لم يبلغها إلّا القليل من الرجال.

كالمرتبة التي بلغتها أم المؤمنين السيدة خديجة الكبرى(عليها السلام). فقد كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) شديد الحب لها، روي: أن عجوزاً دخلت على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فألطفها فلما خرجت، سألته عنها عائشة؟ فقال: «إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان»(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «ذكر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) خديجة(عليها السلام) يوماً وهو عند نسائه فبكى، فقالت عائشة: ما يبكيك على عجوز حمراء من عجائز بني أسد؟!

ص: 299


1- سورة النساء، الآية: 1.
2- كشف الغمة 1: 508.

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): صدَّقَتني إذ كذبتم، وآمنَتْ بي إذ كفرتم، وولدَت لي إذ عقمتم. قالت عائشة: فما زلت أتقرب إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بذكرها»(1).

أما فاطمة الزهراء(عليها السلام) فهي التي لم يبلغ درجتها(عليها السلام) رجل غير الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).

كما قال فيها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، يرضى اللّه لرضاها، ويغضب لغضبها، وهي سيدة نساء العالمين»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «وأما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جلّ جلاله ظهر نورها لملائكة السماء، كما يظهر نور الكواكب لأهل الأرض»(3).

وروي في كرامتها عند اللّه سبحانه وتعالى أنها(عليها السلام) كانت تحدّث أمها وهي في بطنها. فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن خديجة لما تزوج بها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) هجرها نسوة قريش، فكن لا يدخلن عليها، ولا يسلمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة لذلك، وكان جزعها وغمها حذراً عليه، فلما حملت بفاطمة(عليها السلام) كانت فاطمة تحدثها من بطنها وتصبرها، وكانت تكتم ذلك من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فدخل(صلی الله عليه وآله وسلم) عليها يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة، فقال لها: يا خديجة، من تحدثين؟

قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني.

ص: 300


1- كشف الغمة 1: 508.
2- إرشاد القلوب 2: 232.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 113.

قال: يا خديجة، هذا جبرائيل يبشرني بأنها أنثى، وأنها النسل الطاهرة الميمونة، وأن اللّه سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه...»(1).

وقال ابن عباس: خطب جماعة من الأكابر والأشراف فاطمة(عليها السلام) فكان لا يذكرها أحد عند رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلّا أعرض عنه؛ فقال: «أتوقع الأمر من السماء فإن أمرها إلى اللّه تعالى»(2).

قال سعد بن معاذ الأنصاري لعلي(عليه السلام): خاطب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) في أمر فاطمة(عليها السلام)، فو اللّه، إني ما أرى أن النبي يريد لها غيرك، فجاء أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فتعرض لذلك، فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «كأن لك حاجة يا علي؟».

فقال: «أجل يا رسول اللّه».

قال:«هات».

قال:«جئت خاطباً إلى اللّه وإلى رسول اللّه فاطمة بنت محمد».

فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «مرحباً وحباً». وزوّجه بها، فلما دخل البيت دعا فاطمة(عليها السلام) وقال لها: «قد زوّجتكِ يا فاطمة سيداً في الدنيا، وأنه في الآخرة من الصالحين، ابن عمك علي بن أبي طالب».

فبكت فاطمة(عليها السلام) حياء، ولفراق رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم). فقال لها النبي: «ما زوجتكِ من نفسي؛ بل اللّه تعالى تولى تزويجكِ في السماء». وكان جبرائيل(عليه السلام) الخاطب، واللّه تعالى الولي، وأمر شجرة طوبى فنثرت الدر والياقوت والحلي

ص: 301


1- الخرائج والجرائح 2: 524.
2- إرشاد القلوب 2: 232.

والحلل، وأمر الحور العين فاجتمعن فلقطن، فهن يتهادينه إلى يوم القيامة، ويقلن: هذا نثار فاطمة، فلما كان ليلة زفافها إلى علي(عليه السلام) كان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قدامها، وجبرائيل عن يمينها، وميكائيل عن شمالها، وسبعون ألف ملك خلفها، يسبحون اللّه تعالى ويقدسونه إلى طلوع الفجر(1).

وروي أنها(عليها السلام) يوم القيامة تلتقط شيعتها ومحبيها من هول يوم القيامة، كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء. فقد قال الإمام الباقر(عليه السلام): «واللّه يا جابر، إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الردي ء...»(2).

المساواة في الإنسانية

اشارة

إن الإسلام لا يرى فرقاً في الإنسانية بين الرجل والمرأة، إذ يضع القرآن الكريم إلى جانب كل رجل عظيم امرأة عظيمة ومقدسة. فيذكر بكل تقديرزوجات آدم وإبراهيم وأم عيسى وموسى(عليهم السلام)، وما ذلك إلّا لعناية فائقة بالمرأة واعتراف بدورها العظيم في دفع الحياة البشرية نحو المحبة والإيمان والعفة.

مساواة أم ظلم؟

إن مدعي المساواة بين الرجل والمرأة في جميع المجالات ومن دون ملاحظة خصوصيات المرأة النفسية والجسدية وما أشبه، قاموا بدفع المرأة لمزاولة الأعمال الصعبة والثقيلة التي هي فوق طاقتها وغير مناسبة لتكوينها النفسي والجسدي، حيث ملئوا المعامل والمصانع بالنساء، حتى أوصلوا المرأة إلى مناجم الفحم وصناعة الصلب والحديد. وقد تسبب من جراء ذلك

ص: 302


1- إرشاد القلوب 2: 232.
2- تفسير فرات الكوفي: 299.

تنافس وأنانية بين الرجل والمرأة وسبب البطالة للرجال والخلل في توازن المجتمع، بحيث لو أن الرجل يعمل شهرياً بأجر مقداره مائة صارت المرأة تنافسه وتعمل بسبعين. وبهذا تكون المرأة قد تخلت أو تركت ما كان عليها في الحياة الموافق لتكوينها النفسي والجسدي، وهو بناء البيت العائلي السعيد وتربية الأطفال تربية روحية وجسدية وإعدادهم كجيل سليم للمستقبل، فهي قد عُزلت عن البيت وعن تدبير شؤونها المنزلية، وقد سبب ذلك صعوبة إيفاء الرجل بالتزاماته المادية تجاه العائلة، فأضاعت نفسها وبيتها وأطفالها وغالباً زوجها.

يذكر البعض من الذين سافروا إلى أوروبا - لغرض الدراسة أو التجارة أو ما أشبه - إن المرأة في بلاد الغرب وحتى في بعض البلدان الشرقية التي تسير على النهج الغربي، تقوم بأعمال وأدوار لا تليق بها، فهي تقوم بتنظيف الشوارع كموظفة في البلدية، وفي بلدان أخرى جعلوا من المرأة شرطية مرور وشرطية مكافحة الجرائم ومجندة حرب وما شابه.

فهل دفع المرأة إلى هذه الأعمال الثقيلة أو الخشنة المرهقة من الإنصاف بالمرأة والعدالة؟!

وهل هو اهتمام بشؤون المرأة؟! كلا، وإنما هم أرادوا أن يستغلوا المرأة لشهواتهم المادية أبشع استغلال وبكل شراهة وجشع، فجعلوها كوسيلة رخيصة تدر عليهم المال.

في حين أن المرأة خلقت للأعمال غير الشاقة، نظراً للبنية الجسدية والروحية التي وهبها اللّه لها، حيث إن المرأة خلقت بلطف وقد جعلها اللّه سكناً يسكن إليها الرجل، تسره إذا نظر إليها، وتقوم بتربية أجيال صالحة، قال تعالى: {وَمِنْ

ص: 303

ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(1).

وهذه الآية لها دلالة واضحة على أن اللّه سبحانه وتعالى جعل لكم من شكل أنفسكم ومن جنسكم أزواجاً لتطمئنوا بها وتألفوا بها، فيستأنس بعضكم ببعض، لا أن تكلف وتلقى في أتون الأعمال الخشنة والمرهقة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»(2).

الغرب وموقفه من قضية الزواج

اشارة

دأبت الثقافات الحديثة الغربية منها والشرقية على التشجيع على عدم الزواج، أو على الأقل التأخر في الزواج، بحجج وأعذار واهية. فمرة بأن يكوّن الشاب نفسه مادياً، وأخرى بأن تنضج الفتاة فكرياً وجسدياً، وأخرى بتطويل - ما أبدعوه - لفترة الخطوبة حتى يفهم الطرفان بعضهما بعضاً... .

فملئوا بسبب ذلك البيوت بالعوانس من الرجال والنساء، حتى أصبح عدد النساء الراغبات عن الزواج، أو اللاتي فاتهن قطار الزواج، يشكلن نسبة كبيرة في المجتمع، هذا إضافة إلى أعداد الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن في أتون الحروب أو غيبوا في السجون أو طلّقوا(3).

ونحن نتذكر جيداً أنه في السابق ما كنا نرى أن المرأة الباكر تبقى بدون زواج إلى عمر متأخر، وإن وجدت هذه الحالة فهي نسبة ضئيلة جداً لا تتعدى الواحدة

ص: 304


1- سورة الروم، الآية: 21.
2- الكافي 5: 510.
3- كما هو الحال في العراق، حيث ذكرت بعض الإحصائيات أن عدد الأرامل في العراق وحده هو ما يزيد على المليون ونصف إمرأة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أعمارهن بين السابعة والعشرين والأربعين.

أو الاثنتين من العوانس.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من شاب تزوج في حداثة سنه إلّا عجّ شيطانه: يا ويله، يا ويله؛ عصم مني ثلثي دينه، فليتق اللّه العبد في الثلث الباقي»(1).

ولكن بما أن الغرب قام بتصدير أفكاره المنحرفة إلى بلداننا أصبحنا نشاهد حالة العزوبة وبكثرة.

لماذا الزواج؟

ولرب سائل يسأل لماذا الزواج؟

نعم، إن الإنسان بتكوينه مجبول على حب الاقتران مع جنسه الآخر، وإشباع رغباته وشهواته المودعة في داخله، مضافاً إلى أن الزواج أساس للأسرة وهي سنة كونية لا تختص بالإنسان، بل إن الطبيعة قائمة على أساس مبدأ الزوجية العامة، كما أثبت العلم أن كل ما في الكون من الكائنات يخضع لقانون الزوجية... وهذه الحقيقة كشفها القرآن قبل أربعة عشر قرناً، حيث قال اللّه سبحانه وتعالى:{سُبْحَٰنَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}(2).

أي أن الزوجية تجري في النبات كما تجري في الحيوان وفي الإنسان.

وفي آية أخرى قال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}(3)، وهكذا بقية الآيات المباركة التي تتناول موضوع الزوجية.

إذن، فكل شيء خاضع لقانون الزوجية في الحياة، والإنسان أيضاً خاضع لهذا القانون فلا مفر له من الزواج. وإلّا فالمأساة تكبر أمامه شيئاً فشيئاً حتى تصل به

ص: 305


1- النوادر للراوندي: 12.
2- سورة يس، الآية: 36.
3- سورة الذاريات، الآية: 49.

إلى محطة الجنون، كما يقول علماء النفس. وهذا ما وقع في الغرب... حيث امتدت فيه الإباحية الجنسية إلى أسفل درك، وامتدت واتسعت حالات الشذوذ حتى أهلكت الحرث والنسل. فلم تقف عند الزنا واللواط، وإنما بلغت من الانحراف الجنسي حداً لا يطاق. فضاعت المرأة الغربية في هذا الوادي من الفساد، وضاعت بضياعها العفة والحياة وفضائل الأسرة وكرامتها.

من أجل ذلك أكدت الشريعة الإسلامية على الزواج المبكر، واعتبرته الحل الناجح السريع للمشكلة، فقد وردت الروايات الكثيرة وجاءت الأخبار العديدة التي تدفع الشباب نحو الزواج وتحذر المجتمع من خطر الشاب الأعزب ومن خطر العزوبية.

كان النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباه فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فليصم، فإن الصومله وجاء»(1). والباه تعني: القدرة على النكاح(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم) - في حديث طويل - : «ليس شيء مباح أحب إلى اللّه من النكاح؛ فإذا اغتسل المؤمن من حلاله بكى إبليس، وقال: يا ويلتاه، هذا العبد أطاع ربه وغفر له ذنبه»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقالت: يا رسول اللّه، إن عثمان يصوم النهار ويقوم الليل؟!

فخرج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مغضباً يحمل نعليه حتى جاء إلى عثمان فوجده

ص: 306


1- مستدرك الوسائل 14: 153.
2- الباه والباهة: النكاح، وقيل الباه: الحظّ من النكاح، لسان العرب 13: 480 مادة (بوه).
3- مستدرك الوسائل 14: 154.

يصلي، فانصرف عثمان حين رأى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا عثمان، لم يرسلني اللّه تعالى بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم وأصلي وألمس أهلي، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أيضاً قال: «إن ثلاث نسوة أتين رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت إحداهن: إن زوجي لا يأكل اللحم، وقالت الأخرى: إن زوجي لا يشم الطيب، وقالت الأخرى: إن زوجي لا يقرب النساء.

فخرج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم، ولا يشمون الطيب، ولا يأتون النساء، أما إني آكل اللحم، وأشم الطيب، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتيفليس مني»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): ­«شرار موتاكم العزاب»(3).

وفي الحديث: «من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق اللّه في النصف الباقي»(4).

لذا فإن الزواج هو الموافق للفطرة البشرية السليمة، وهو الطريق الصحيح لإرواء الظمأ الجنسي.

الطلاق يهتز منه عرش الرحمن

من المشاكل التي تعاني منها المرأة في المجتمع المعاصر إشاعة حالة

ص: 307


1- الكافي 5: 494.
2- الكافي 5: 496.
3- المقنعة: 497.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 518.

الطلاق وهجر الأسرة، ولا يخفى أن المجتمع سابقاً كان يلوم الرجل كثيراً إذا طلق زوجته، حتى أن أهله وأصدقاءه ينظرون إليه بازدراء، وذلك لأن حالة الطلاق كانت حالة نادرة شاذة، وقد ارتفعت هذه النسبة وأصبحت المرأة اليوم تعاني من ضياع المصير وفقدان المستقبل. مع أن الإسلام لم يرتض بالطلاق وجعله حلاً أخيراً، وفي حالات الضرورة فقط من باب آخر الدواء الكي(1).

ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «ما من شي ء مما أحله اللّه عزّ وجلّ أبغض إليه من الطلاق، وإن اللّه يبغض المطلاق الذواق»(2).

حتى أن علماءنا ما كانوا يمارسون إجراءات الطلاق بين الزوجين، إلّا بعد استنفاد كل سبل الإصلاح، حيث كانوا - ولا زالوا - يحاولون دائماً إتباع سبيل الإصلاح بين الزوجين المتخاصمين، فتراهم يتكلمون مرة مع الزوج، وأخرى مع الزوجة، وأحياناً أخرى مع أهليهما، ويحاولون التريث والتأجيل آملين الإصلاح في ما بعد، فإذا لم تنفع كل تلك الأساليب كانوا يجعلون آخر العلاج الطلاق.

ص: 308


1- إذ أن الشروط في عقد النكاح بسيطة حيث يلزم قراءة الصيغة وهي عبارة عن الإيجاب والقبول، فالإيجاب مثل: (زوجتك نفسي)، أو قول الأب - الولي للبنت ووكيلها - : (زوجتك ابنتي)، أو قول الوكيل: (زوجتك موكلتي)، والقبول مثل: (قبلت الزواج)، أو (النكاح)، ويتراضا الطرفان على مهر لايجحف بهما، وللزوجة إسقاط المهر، وليس من شروط عقد النكاح الشهود، ولكن يستحب الإشهاد. أما شروط الطلاق، فقد شدد الإسلام في عملية الطلاق لما فيه من خراب الأسرة، ولقد اشترط الشرع الإسلامي فيه عدة شروط: 1- أن تكون الزوجة طاهرة من الحيض غير مدخول بها، مع الصيغة المعروفة مثلاً: (أنتِ طالق)، أو (زوجتي طالق). 2-أن يكون الطلاق مع إحضار الشهود وبغير الشهود يبطل الطلاق. 3-وأن يكون الطلاق من الزوج أو ممن يوكله الزوج. إلى غير ذلك مما ذكر في الفقه.
2- الكافي 6: 54.

بينما تشير بعض الإحصائيات أن نسبة الطلاق في بعض البلاد وصلت في سنة (1970م) إلى (15%)، وفي سنة (1972م) إلى (20%) حتى وصلت نسبة الطلاق في سنة (1978م) إلى (40%)، وهكذا أخذت الأسر تتهدم وتتفكك. ولا ينحصر هذا الأمر بالشرق ولا بالغرب، بل أن نسبة الطلاق ازدادت كذلك في بعض البلدان الإسلامية التي تقلد الغرب أيضاً، وأصبحت المرأة مظلومة في أغلب الميادين، في المجال الاجتماعي وفي المجال الفكري وفي المجالين السياسي والثقافي وغيرهما.

وما أكثر النساء اللاتي تعرضن للسقوط بسبب ظلم المجتمع الذي يعشنَ فيوسطه، وقد تضطر بعضهم إلى القيام بأعمال غير مشروعة من أجل لقمة العيش، وتنزلق إلى مهالك ممارسة رذيلة البغاء، وهذا هو أبعد حد للاستهانة بكرامة المرأة وعفتها، وإن أمثال هذه الحالات كثيرة جداً في المجتمعات الأوروبية، وهناك أقل منها في البلاد الإسلامية.

أذكر عندما كنا في العراق أني قرأت في صحيفة لإحدى الدول الإسلامية: إن أحد النواب طلب من الحكومة إجازة فتح المبغى، فأبرق في حينها بعض الأصدقاء ببرقية إلى زعيم تلك الدولة واستنكروا فيها هذا الطلب، واظهروا تعجبهم من نائب مجلس الأمة بطلب هذا الشيء لإفساد شعبه وبلده؟! فأجابهم حينها بأننا لا نقدم على مثل هذا الأمر، ومن المستحيل أن نسمح بهذا الأمر في هذا البلد. وإلى الآن لم يسمح بوجود مبغى في البلد، وهذه نعمة كبيرة مَنّ اللّه بها على هذا البلد، حيث أنجى أهله من دور البغاء والتظاهر بالفساد الأخلاقي.

وعلينا نحن المسلمين أن لا ننخدع أبداً بنظام شرقي أو غربي؛ فإن الإسلام

ص: 309

وحده هو الذي يحترم المرأة بكامل احترامها، ويحترم الأم ويحترم البنت والأخت وكذلك العمة والخالة والجدة.

وأي نظام آخر غير الإسلام لا يكن للمرأة هذا الاحترام أو القداسة، بمقدار ما في الإسلام من احترام ومحبة ومودة لها.

مكانة المرأة في الإسلام

اشارة

لقد كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يقوم لفاطمة الزهراء(عليها السلام) وعمره الشريف ستون سنة، في حين كان عمر فاطمة(عليها السلام) لايتعدى خمس عشرة سنة، ثم كان يأخذ بيدهاويقبّلها ويجلسها في مكانه. ويقول(صلی الله عليه وآله وسلم): «هي روحي التي بين جنبيّ»(1)، وكانت تكنى كما في الحديث ب«أم أبيها»(2).

فهو(صلی الله عليه وآله وسلم) أراد بذلك أن يعلمنا قدر المرأة في الإسلام ومكانتها في المجتمع من جانب، كما أراد أن يظهر فضل فاطمة الزهراء(عليها السلام) من جانب آخر.

هذا هو احترام الإسلام للمرأة البنت، وكذلك كان(صلی الله عليه وآله وسلم) يظهر ويبين دائماً احترام الإسلام للمرأة الأخت.

الشيماء بنت حليمة السعدية

ذكر جماعة من أصحاب الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، قالوا: بينما كنا جالسين إلى جانب الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في المسجد دخلت فتاة بدوية يظهر أنها من صحراء الحجاز، لأن نساء الحجاز آنذاك يتميزن بالسمرة والضعف والملابس البسيطة، فقام لها الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) احتراماً وفرش لها عباءته وأجلسها في جانب من المسجد، وأخذ يكلمها ويبتسم في وجهها باحترام، وأكرمها، ولبى حاجتها.

ص: 310


1- بحار الأنوار 27: 62.
2- بحار الأنوار 43: 19.

وعندما سُئل عنها أجاب(صلی الله عليه وآله وسلم) بأنها شيماء أخته من الرضاعة.

وفي التاريخ أنه بعد معركة حنين التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً باهراً، جاءت الشيماء بنت حليمة أخت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) من الرضاعة إلى الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) فحباها وأكرمها وبسط لها رداءه، وكلمته في السبايا، وقالت: إنما هن خالاتك وأخواتك. فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما كان لي ولبني هاشم فقد وهبته لكِ»، فوهب المسلمون ما كان في أيديهم من السبايا كما فعل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكلمته في مالك بن عوف النضري رئيس جيش هوازن، وآمنه، فجاء وأسلم، ووجهه رسولاللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لحصار الطائف(1).

الزوجات

كذلك كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يظهر خُلُقه العظيم وتعامله الطيب جلياً باحترام أزواجه احتراماً كبيراً، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «تزوج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بخمس عشرة امرأة، فماتت منهن اثنتان، ودخل بثلاث عشرة منهن، وقبض عن تسع، فأما التي لم يدخل بهما فعمرة والشنباء، وأما الثلاث عشرة اللاتي دخل بهن: فأولهن خديجة بنت خويلد، ثم سودة بنت زمعة، ثم أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية، ثم أم عبد اللّه عائشة بنت أبي بكر، ثم حفصة بنت عمر، ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث أم المساكين، ثم زينب بنت جحش، ثم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، ثم ميمونة بنت الحارث، ثم زينب بنت عميس، ثم جويرية بنت الحارث، ثم صفية بنت حيي بن أخطب، والتي وهبت نفسها للنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) خولة بنت حكيم السلمي، وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه: مارية القبطية وريحانة الخندفية، والتسع اللاتي قبض

ص: 311


1- تاريخ اليعقوبي 2: 63، وقريب منه في بحار الأنوار 21: 172.

عنهن: عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وأم حبيبة بنت أبي سفيان وصفية بنت حيي بن أخطب وجويرية بنت الحارث وسودة بنت زمعة.

وأفضلهن خديجة بنت خويلد(عليها السلام) ثم أم سلمة بنت أبي أمية، ثم ميمونة بنت الحارث»(1).

وعلى الرغم من انشغاله(صلی الله عليه وآله وسلم) بشؤون الإسلام والمسلمين؛ إذ كان هو القائد،وهو القاضي، وهو إمام الجماعة، وهو المتصدي للشؤون الخارجية والداخلية في البلاد الإسلامية، ومع كل هذا كان إذا خرج يودع نساءه الواحدة بعد الأخرى، وإذا دخل عليهن جاء وسلم عليهن واحدة واحدة. وقد ذكر في سيرته(صلی الله عليه وآله وسلم) العطرة مع نسائه ومسامحته لهن ورحمته بهن وعطفه عليهن الكثير.

الإسلام وحجاب المرأة

إن المجتمع إذا تمسك بالإسلام فلن يرى إلّا الخير والفضيلة والتقدم والازدهار للرجل والمرأة، وحينذاك لا يُرى السفور ولا الخلاعة ولا التبرج ولا الاختلاط المحرم، وكذلك تكون المرأة في غنى عن زجها في ساحة الأعمال الثقيلة المرهقة وتحفظ لها كرامتها وشرفها.

نعم، الإسلام غني بأحكامه عمّا يستورد من الغرب والشرق من الأفكار والتقاليد والعادات... .

وأكثر من ذلك فقد جعل القرآن من النساء مَن هي في عداد المعصومين(عليهم السلام)، وفي مصاف الأولياء والصديقين، وجعلها آية للعالمين، وآية في الشرف والعفة، وآية في الإيمان والحرية، ومن أظهر مصاديق ذلك: الصديقة الطاهرة فاطمة

ص: 312


1- وسائل الشيعة 20: 244.

الزهراء(عليها السلام)، ومن بعدها السيدة مريم العذراء(عليها السلام)، وغيرها من بنات الرسالة من أهل البيت(عليهم السلام) كالعقيلة زينب(عليها السلام).

ولكن - وللأسف - أصبح الإسلام في واد، والمسلمون في واد آخر، فإن الإسلام أراد للمرأة أن تقتدي بمريم(عليها السلام) في العفة والحجاب، وتربية الأبناء تربية صالحة، حتى قال عنها القرآن: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَٰهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(1).وفي آية أخرى قال تبارك وتعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَٰنَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَٰنِتِينَ}(2).

نرجو من اللّه أن يهدي نساءنا إلى سعادة الدنيا والآخرة، وأن يأخذ بأيديهن للاقتداء بسيرة سيدة نساء عصرها مريم بنت عمران(عليها السلام) وسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها أفضل صلوات المصلين).

«اللّهم رزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة... وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة... وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة»(3).

ص: 313


1- سورة الأنبياء، الآية: 91.
2- سورة التحريم، الآية: 12.
3- المصباح للكفعمي: 280.

تقارير وإحصاءات عن المرأة في المجتمع المعاصر

اشارة

تقارير وإحصاءات عن المرأة في المجتمع المعاصر(1)

ص: 314


1- التمييز ضد النساء في بريطانيا أخذت ظاهرة (التمييز ضد النساء) تتفاقم على المستوى الرسمي في بريطانيا. ففي أحدث دراسة أنجزتها المؤسسة الملكية البريطانية أشارت فيها للمطالبة بضرورة إنشاء مؤسسة وطنية تهتم بمشكلات المرأة الباحثة هناك، وتعمل مع جهات حكومية محددة في بريطانيا لإنصاف النساء الباحثات وضمان تعيينهن في مناصب مرموقة أسوة بالباحثين الرجال. جاء ذلك تعقيباً على احتجاج خمسين ألف باحثة بريطانية تركن أعمالهن وعدن إلى منازلهن في السنوات الأخيرة إثر فقدانهن الأمل في إنصافهن وتعيينهن في وظائف تليق بمستوى شهاداتهن الجامعية بالمقارنة مع الرجال المفضلين عليهن لكونهن إناث!. وأكدت الدراسة تراجع نسبة تعيين النساء في المناصب المرموقة حيث بلغت نسبتهن في الجمعية الملكية (7/3%) وفي الأكاديمية الملكية للهندسة (1%) وفي معهد علم الأحياء (6%) من إجمالي العاملين، بالإضافة إلى تجاهل إشراكهن في اللجان الحكومية المسئولة عن تطور العمل والعلوم وتعرضهن للشائعات المغرضة والتهكم والتحرش والاستفزاز من جانب الرجال. وبهذا الصدد صرحت مديرة المؤسسة الملكية البريطانية وأستاذة علم الصيدلة في جامعة أوكسفورد قائلة: إننا نبحث عن جيل جديد من العقول الباحثة للشابات اللائي يحتل البحث العلمي مكاناً مميزاً في حياتهن... ونطالب بتخصيص جزء من الزمالة العلمية للباحثات لتشجيعهن على العودة لممارسة العمل البحثي وإخراجهن من دائرة الإحباط. وفي المنازل البريطانية التي اتخذن هؤلاء النساء الباحثات منها مقرات دائمة بعد تركهن للوظائف لا شيء يمكن أن تقدمه المنازل لهن بصورة عامة إذ إن هناك نوعاً آخر من المآسي التي تحدث في المنازل، فقد أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستصدر ورقة تشاورية بهدف استنباط وجهات نظر علمية حول سبل التصدي لجرائم العنف المنزلي الآخذة بالانتشار في بريطانيا. وبهذا الصدد تقول إحصائية حكومية بريطانية إن (25%) من المجموع الكلي لجرائم العنف المختلفة في عموم بريطانيا مردّه العنف المنزلي، ويودي بحياة امرأتين أسبوعياً، كما أن (50%) من معدلات الجرائم التي تطال النساء ينفذها أزواج أو أصحاب حاليون أو سابقون ضد زوجاتهم أو صديقاتهم. وعقب وزير الداخلية البريطاني على معاناة النساء البريطانيات جراء جرائم المنازل قائلاً: إن الحكومة ستفي بالتزاماتها في التصدي لظاهرة العنف المنزلي بكافة مستوياتها، وهذه جريمة يتعين بذل قصارى الجهود لمواجهتها، وضمان حصول ضحاياها على أعلى مستوى من الحماية والدعم. كما أكدت الحكومة البريطانية في بيان أصدرته بهذا الشأن بأنها: تنوي تشديد قوانين العنف المنزلي، وإدخال تحسينات على الحلول والإجراءات المدنية والجزائية المتوفرة حالياً، لإفساح المجال أمام ضحايا هذه الظاهرة لطلب الحماية التي يستحقونها. وفي جانب معتم ثان من اقتراف الجريمة ضد النساء في بريطانيا فقد أثارت حادثة مقتل شقيقتين الكبرى 12 سنة والصغرى 8 سنوات، في ليلة رأس السنة الميلادية جراء إطلاق النار عليهن في لندن، من قبل رجل حكم عليه بالسجن المؤبد على خلفية اعتقاد بوجود علاقة جنسية كانت تربطه بالفتاة الكبرى التي لم تتجاوز الثانية عشرة، وكانت أختها 8 سنوات قد لقيت حتفها ضمن الحادث لسبب لم يعرف، بسبب التكتم الذي أحيطت به هذه القضية المأساوية، حيث أصبح الاعتداء على الأطفال الإناث في بريطانيا شائعاً، والجهات الرسمية هناك لا تتدخل إلّا بعد نهاية حادثة مقتل، أو اغتصاب للنساء بغض النظر عن مقدار أعمارهن، فالمهم في جرائم أولئك الرجال أن تكون ضحاياهم من الإناث. معاناة المرأة في الهند أكدت أحدث الإحصائيات في الهند: تضاؤل أعداد الإناث مقارنة بعدد الذكور هناك، وأن تناقص عدد الإناث وعنوسة الرجال أدت إلى غلاء المهور، وصار الزواج هناك مسألة عرض وطلب تماماً مثل التجارة. وقد أشار التعداد العام للسكان في الهند إلي أن نسبة الفتيات بلغت 820 أنثى مقابل كل ألف ذكر في الشريحة العمرية لأقل من 6 سنوات، وكانت هذه النسبة 879 أنثى مقابل ألف ذكر عام 1991. وأرجعت الدراسات السبب في تناقص عدد الإناث في الهند إلى انتشار ظاهرة وأد البنات في السنوات الأخيرة، فقد أتاحت الرسائل المتطورة في مجال التكنولوجيا الخاصة بالطب معرفة نوع الجنين في رحم الأم مسبقاً وعندما يعلم الزوجان أن الطفل القادم هو أنثى، يسارعون بإجهاضه على الفور، كما أسفر عن تناقص أعداد الإناث في الهند، وتفاقم مشكلة عنوسة الرجال، وصعوبة العثور على عروسة، مما أدى أيضاً إلى ظهور نظام جديد هناك عرف باسم: ثمن العروسة، وهو نظام يجعل العريس يدفع مبلغاً كبيراً من المال لأهل العروس حتى يوافقوا على إتمام الزيجة. وكانت التقاليد الهندية في ما مضي تقضي بأن تدفع العروسة المهر لعريسها، وأدى تفاقم هذه المشكلة إلى تدخل القانون الهندي بنص يمنع الفحوص الطبية التي تكشف عن نوع الجنين قبل ولادته، بل من حق الشرطة هناك أن تشن حملات اعتقال للأطباء الذين يمارسون هذه الفحوصات. وظاهرة وأد البنات في الهند بلغت درجة بالغة القسوة، حيث أن الآباء يلجأون إلى قتل بناتهم حديثات الولادة، إما بتجويعهن حتى الموت، أو دس السم لهن في الطعام. وعلقت مديرة الشعبة لدراسات المرأة بجامعة كوركستيرا في الهند على هذا الأمر بقولها: إن انخفاض عدد الإناث في الهند صار صدمة. إن طقوس الزواج في المجتمع الهندي تختلف من القرى إلى المدن والولايات، وحسب العادات والتقاليد والأعراف والديانات والفكر والطبقات، فلكل منهم طقوسه المعينة في الزواج، إلّا أنهم يجمعون على شيء واحد، وهو دفع المرأة لمهر عريسها، وهو ما يعرف باسم: دوري. فالمرأة الهندية ملزمة بدفع كامل مهرها، إلّا أن هناك بعض العائلات توافق على تأجيل باقي المهر، وأن يتم تسديده في وقت لاحق، ولكن يجب أن يسدد حتى وإن استمر الزواج لسنوات، فعليها أن تدفع جميع المستحقات المترتبة للزوج، وإلّا فالويل كل الويل لها إذا لم تلتزم بدفعها في ما بعد. ومن الممكن أن تتزوج في الهند وأنت في سن الخامسة، وربما لا تستطيع ذلك وأنت في ريعان الشباب، والأغرب من ذلك أن هناك عائلات تحجز الصبي منذ ولادته لتزويجه من ابنتها حيث تقوم بالتكفل بجميع نفقاته حتى إكمال دراسته وتأمين مستقبله فقط لكي يتزوج من ابنتهم. وقالت أستاذة الاجتماع بجامعة دلهي: إن الزواج في الهند يمر بعدة مراحل أهمها الاتفاق على المهر، وفي حال تم الاتفاق فإن باقي الأمور تكون ثانوية - وأضافت - أن هنالك الكثير من الزيجات لم يكتب لها النجاح بسبب عدم اتفاق العائلات على المهر (دوري)، حيث تبالغ بعضها بطلب مهور مرتفعة جداً من الزوجة التي تكون هي أو عائلتها غير قادرين على توفيرها. وقالت: إن الزواج يعرف في الهند بأنه (مهرجان الأعين) حيث ترى العين ما لا تراه يومياً من زينة وألوان، في الوقت الذي يرتدي فيه العروسان والضيوف أبهى الملابس الملونة وهي من الحرير، ومصنوعة خصيصاً لتك المناسبات - وأضافت - أن احتفالات الأعراس في الهند تستمر ليوم ونصف اليوم، كما أنها تعتبر قبل كل شيء مناسبة دينية يحضرها الأقارب والأصدقاء، وعلى أهل الزوجة التكفل بجميع نفقاتها. وقالت عن الكيفية التي تحدث فيها الخطبة والاتفاق على الزواج: إن الفتاة الراغبة بالزواج من شخص ما تقوم بزيارته في منزله، فإن حدث وأعجب بها فإنه يعلن عن موافقته عليها، في الوقت الذي قد تجيب فيه الفتاة وعائلتها بالرفض أو القبول - وأضافت - أنه إذا اتفق الطرفان على الزواج فإن العائلتين تجتمعان لمناقشة التفاصيل، حيث يفرض على الفتاة التكفل بجميع متطلباته، بدءاً بالمهر وتحديد الوقت المناسب للاحتفال، وتوفير صالة الاحتفال والمصروفات الأخرى. وذكرت أن السن التي يتم فيها الزواج تختلف من منطقة إلى أخرى مضيفة أن هناك بعض القبائل الصغيرة في ولاية راجستان شمال الهند تعتبر سن الخامسة هو العمر المناسب لزواج أبنائها. وقالت: إنه في الوقت الذي توجد فيه عائلات تزوج أبناءها في سن صغيرة، هناك عائلات أخرى ترفض هذا النوع من الزواج - وبينت - أن المجتمع الهندي منقسم إلى جزأين شمالي وجنوبي، حيث تختلف العادات والتقاليد بين هذه المجتمعات، مضيفة أن الأسر الشمالية تفضل أن يكون الزوج من خارج الأسرة، أما في المناطق الجنوبية فأن الأسر تفضل زواج تربطه صلة الدم والقرابة. وأضافت أن هناك ظاهرة أخرى متفشية في مناطق وسط الهند بولاية ماديا براديش، وهي ظاهرة التبادل بحيث يزوج كل شخص أخته للشخص الآخر. أما في جنوب الهند فإن الوضع مختلف تماماً فقد يسمح للعم والخال أن يتزوج من ابنة أخيه أو أخته وبخاصة الإبنة الكبرى، حيث تؤمن تلك العائلات بمبدأ أن الفتاة لن تحمل اسماً غير اسم عائلتها التي ولدت بها. وقالت: إن ظواهر أخرى تفشت في الهند مثل زواج الحب، إلّا أنه اصطدم كذلك بعقبة المهر، مضيفة أن هناك ظاهرة بدأت بالانتشار منذ مطلع عام 1990م، وهي الزواج عن طريق الصور أو ما يعرف بالخاطبات، حيث تقوم الأسرة بتوزيع صورة ابنتها على العائلات عن طريق جيرانها أو أصدقائها على الأسر التي بها شباب. وذكرت أن العادات والتقاليد فرضت على أسرة الفتاة بمختلف ولايات ومناطق الهند أن تدفع المهر لزوجها، ويكون في أغلب الأحيان أموالاً سائلة تسلم لعائلة العريس، إضافة إلى الهدايا كالذهب والأدوات المنزلية - وأضافت - أنه في بدايات القرن العشرين كان المهر الذي تفرضه عائلة الزوج على الزوجة مرتفعاً جداً، وفي بعض الأحيان يصر أهل الزوج على الحصول كذلك على تعويضات لابنهم لإكمال دراساته العليا، وتأمين ما يضمن مستقبله وشراء سيارة أو دراجة بخارية للزوج. حرق الزوجة مع جثمان زوجها قال رئيس وزراء ولاية مهاديا براديشديش: إن المرأة التي أحرقت نفسها مع زوجها بإحدى قرى الولاية، كانت قد أُجبرت على ذلك من قبل رجال المنطقة. وقالت صحيفة (تايمز أوف انديا) من موقعها على الإنترنت: إن رئيس الوزراء أكد في برلمان الولاية على أن المرأة كانت قد أُجبرت على حرق نفسها مع زوجها المتوفى، بتحريض من رجال المدينة - وأضاف - أنه لم تكن للمرأة علاقة حميمة مع زوجها، وأنها منفصلة عنه منذ فترة طويلة - مؤكداً - أن السلطات الأمنية بالولاية اعتقلت 15شخصاً، ووجهت لهم تهمة التحريض على القتل. وذكر أن شهود عيان كانوا يحضرون مراسم الحرق للزوج المتوفى، أكدوا على أن مجموعة من القرويين بالمنطقة أحضروا زوجة المتوفى، وأرغموها على القفز داخل المحرقة التي تنصب عادة للمتوفين الهندوس. إن إرغام المرأة التي تدعى: (كوتوبي) على تنفيذ مطالب القرويين، أعاد إلى الأذهان طقوساً هندوسية قديمة يطلق عليها اسم: (ساتي)، تجبر المرأة على حرق نفسها مع زوجها المتوفى؛ لأنها تعتبر أنه لا حياة لها من دون زوجها. الإيدز يهدد عجلة التنمية في الهند تتعرض النساء في الهند لخطر الإصابة بفيروس مرض الإيدز، حتى عن طريق الزواج وليس العلاقات الجنسية غير الشرعية فحسب، وهذا المشهد أخذ يتكرر في كل أنحاء الهند. يقول أحد الأطباء المختصون بمرض الإيدز في المستشفى الحكومي في ولاية بوني في الهند: إنه لتصريح جريء، ولكنه صحيح للأسف. ويقدر هذا الطبيب وآخرون أن أكثر من مليون امرأة في الهند ستتعرض للإصابة بفيروس الإيدز، وستأتي العدوى ل- (60%) منهن من أزواجهن بعضهن سيكن في عمر السادسة عشرة فقط، والكثيرات منهن سيتلقين هذه الأنباء المدمرة لدى خضوعهن لفحص اعتيادي لمرض الإيدز أثناء حملهن الأول، ويبدو أن التقاليد التي تمنح المرأة دوراً ثانوياً في المجتمع هي المسئولة عن ذلك. إن هذا يؤكد على وجه مرعب للأزمة التي تواجه الهند، فوباء الإيدز المتنامي في البلاد يتحدى التقاليد الراسخة حول مكانة المرأة، ويهدد القيم الأخلاقية والثقافية الأخرى المتعارف عليها، وذلك من خلال تعرية الجانب الأسوأ من البلاد، وهو يضع مسألة التمييز ضد قطاعات المجتمع المهمشة تحت المجهر، ويثير أسئلة غير مريحة عن حقوق الإنسان والرعاية الصحية. وفي الإحصاء الأخير، قدرت الحكومة الهندية عدد السكان المصابين بفيروس الإيدز في البلاد بحوالي 4 ملايين نسمة، وزعمت بأن الوباء آخذ بالاستقرار، ولكن الآخرين من أمثال الأطباء والعاملين الاجتماعيين والناشطين يقولون: إن الأعداد في ارتفاع مستمر، مما قد يجعل الهند أكبر ساحة لحالات العدوى بفيروس الإيدز في العالم. ويقول الطبيب المختص بمرض الإيدز في المستشفى الحكومي في ولاية بوني في الهند: ترتبط الهندوسية في الهند بالشوفينية الذكورية، وسيميز دين كهذا متحيز لأحد الجنسين ضد النساء على الدوام، وبالتالي فإنهن سيكن أكثر تعرضاً للخطر في ما يتعلق بفيروس الإيدز. وإن الكثير من النساء لا يعرفن سوى القليل عن أزواجهن في علاقات الزواج المرتبة، ويفتقدن للسيطرة في علاقاتهن الزوجية، وفي حين تصر معظم النساء العاملات في مجال الدعارة الآن على استخدام زبائنهن للواقي، فإن معظم الزوجات لا يستطعن أن يطلبن من أزواجهن مثل هذا الطلب. وذكرت المنظمة الوطنية للسيطرة على الإيدز ومقرها نيودلهي: إن عدد الأشخاص المصابين بفيروس الإيدز حتى عام 2001م بلغ 97ر3 ملايين شخص. أما التقديرات غير الرسمية، فتضع عدد الحاملين لفيروس المرض بين 4-10 ملايين شخص، وترى أن عدد الإصابات سيتضاعف كل ثلاثة إلى أربعة أعوام، ويقدر تقرير حديث لمجلس الاستخبارات الوطني الأميركي: إن ما بين 20 و25 مليون هندي سيصابون بالمرض بحلول عام 2010م، إذا لم يتم فعل أي شيء لاقتلاع المرض، وسيشكل هذا العدد حوالي (2%) من عدد السكان - مقارنة بأكثر من (20%) بالنسبة لبعض الدول الأفريقية - ولكن الرقم بحد ذاته قد يشل عجلة التطور والتنمية في الهند. المرأة والتعري في إيطاليا أصبح التعري في إيطاليا إحدى الطرق السهلة للوصول إلى مواقع التأثير السياسي في البلاد، فإحدى الممثلات استطاعت الوصول إلى مقعد في البرلمان بعدما كانت تجوب الشوارع وهي عارية الصدر. أما إحدى الممثلات التي كانت مشهورة بأفلام التعري، فقد وصل زوجها إلى منصب رئيس وزراء، مما يشير إلى مدى النفوذ الذي وصل إليه دعاة التعري في إيطاليا. إن الأمر لا يقف عند الشواطئ وانتشار الدعارة أو الأفلام، بل أن التعري يتخذ وسيلة أيضاً للاحتجاج السياسي في إيطاليا، وأبرز مثال على ذلك هو ما حدث في ميدان (مونت سيتوريو) في العاصمة روما، حيث يقع مقر البرلمان الإيطالي، حيث قامت مظاهرة كبيرة شاركت فيها المئات من الممثلات الإيطاليات في شهر أيلول (سبتمبر) عام 1996م، احتجاجاً على الدعوات التي أعلنها رئيس رابطة الشمال الإيطالية، والتي دعا فيها إلى انفصال شمال إيطاليا الغني عن جنوبه الفقير، فخرجن الممثلات يعبرن عن رفضهن للإسفاف الذي دعا إليه رئيس الرابطة، فرفعن لافتة كبيرة كتبن عليها: لا إسفاف أكثر من الاستخفاف بالوحدة. وفجأة خلعن جميعاً ثيابهن، ووقفن عرايا في الميدان تحت حماية الشرطة التي كانت تحمي العري أمام البرلمان! ومن الجدير بالذكر هو أن بلاء سرطان الجلد يعصف بالإيطاليين بشكل كبير، نتيجة المبالغة في التعري دون غيرهم، فقد ارتفعت نسبته بينهم إلى (300%)، وحسب إحصاءات وزارة الصحة الإيطالية فقد رصدت الحكومة في عام واحد هو العام 1996م أكثر من أربعمائة مليار ليرة لمكافحة هذا المرض، دون أن تكون هناك أي نتائج ملموسة. إحصاءات من الأمم المتحدة ذكرت نائبة الأمين العام للأمم المتحدة في خطاب لها في الاحتفال الذي أقامته الأمم المتحدة بمقرها: أن هناك (500) مليون امرأة في العالم لا يعرفن القراءة والكتابة، أي ثلثي الأميين في العالم. وناشدت النساء أيضاً لأداء دورهن المأمول في الحملة الدولية لمكافحة مرض الإيدز؛ لأن نصف الناس الذين يصابون به هم من النساء. وحددت أن (58%) ممن يحملون فيروس الإيدز بأفريقيا من النساء.

ص: 315

ص: 316

ص: 317

ص: 318

أوروبا تدعو إلى تشريع وإباحة الدعارة

يعتزم أعضاء في البرلمان البلجيكي التقدم بمشروع قانون يبيح الدعارة للحد من تجارة الرقيق الأبيض، وحسم الوضع القانوني والاجتماعي لواحدة من أقدم المهن في العالم. ويمكن للقانون في حالة صدوره أن يوفر للحكومة بعض العائدات الضريبية التي تعوزها، إذ ستخضع بائعات الهوى لضريبة الدخل مما قد يدر ما يزيد على 50 مليون يورو في العام.

وقال النواب الاشتراكيون والليبراليون في البرلمان: إن مشروع القانون يهدف إلى محاربة الرقيق الأبيض، والحفاظ على الصحة العامة، وتوفير عقود عمل للمشتغلات بمهنة الدعارة.

وقال نائب ليبرالي: سننتشل أقدم مهنة في التاريخ من غياهب عدم الشرعية

ص: 319

والظلام.

وقال سناتور اشتراكي: إن الدعارة ظلت في بلجيكا أسيرة منطقة رمادية من الناحية القانونية.

وقالت عضوة حزب الخضر والوفد البلجيكي في البرلمان الأوروبي - والتي عرفت بتبنيها لهذه القضية - : إن إباحة الدعارة قد تدر عائداً للحكومة يصل إلى 50 مليون يورو من ضرائب الدخل سنوياً.

ودعا حاكم منطقة روسية النواب إلى تشريع الدعارة مشيراً إلى أن تنظيم هذا القطاع الذي يشهد ازدهاراً كبيراً سيسمح بمكافحة الجنوح، وانتشار الأمراض التي تنتقل عن طريق العلاقات الجنسية.

وبدؤوا بتشريع الدعارة في منطقته ساراتوف. وقال المكلف بحقوق الإنسان: إنه يعتزم تنظيم هذا المجال بحيث يتمكن من مكافحة الأمراض التي تنتقل عن طريق العلاقات الجنسية والسل - وقال متوجهاً إلى الصحافيين - : إن الأمر يتعلق بصحة الأمة.

وفي ألمانيا فإن بعض مدنها تفرض (ضريبة) على بيوت الدعارة، فبعد أن أصبح اقتصاد البلاد على حافة الركود، لجأت مدن ألمانية تواجه أزمات مالية إلى فرض (ضريبة) على بيوت الدعارة من أجل الحصول على مبالغ مالية لتعويض ما تعانيه من عجز في ميزانياتها.

وقالت برلين وكولونيا: إنهما ربما توسعان دائرة (الضريبة) الحالية المفروضة على أندية القمار والمناسبات العامة لتشمل بيوت الدعارة ومعارض بيع الأدوات الجنسية.

وقامت مدينتا جلسنكيرشن ودورستن الألمانيتان بالفعل بهذه الخطوة إلّا أنهما لم تحققا سوى نجاح محدود، إذ لم يسدد الضرائب سوى (10%) فقط من

ص: 320

بيوت الدعارة منذ فرض هذه الضريبة.

ويفتش مسئولو الضرائب عن أماكن تقديم العاهرات اللائي تعملن في بيوتهن لبحث إمكانية إخضاعهن للضريبة التي تصل إلى (6/5) يورو يومياً عن كل عشرة أمتار مربعة من مساحة مكان العمل. أما أي منشأة أصغر من ذلك فهي معفاة من هذه الضريبة.

ويقول الناطق باسم مدينة جلسنكيرشن الألمانية: إن مفتشو الضرائبالتابعون لنا يمشطون الإعلانات الجنسية في الصحف ثم يقومون بزيارة هذه الأماكن ومعهم أدوات القياس.

وقالت مجموعة ترعى حقوق العاهرات وتدعى (هيدرا) في بيان لها: إن هذه الضريبة عبثية تماماً، وهل ستحدد الضرائب بناء على مساحة بيت الدعارة، وإذا كان الأمر كذلك فإن زبائن برلين سيتعين عليهم إشباع احتياجاتهم في حجيرات مكتظة أو وقوفاً.

أما في أسبانيا فإن أحد سياسيها عرض على الشبان في جنوب البلاد تسهيلات تجعلهم يمارسون الحب بنصف الثمن مع وعد انتخابي بتقديم دعم مالي لخفض أسعار الغرف الفندقية للشبان الصغار.

وقال مرشح حزب الخضر لمنصب رئيس بلدية غرناطة: إن مجلس المدينة سيعطي الشبان حتى سن الخامسة والعشرين (قسيمة لممارسة الحب) ستسمح لهم بالنزول في الفنادق المحلية بنصف الثمن إذا فاز في الانتخابات المحلية.

ويميل الشبان في أسبانيا التي يدين غالبية سكانها بالكاثوليكية إلى العيش في المنازل لفترة أطول من أقرانهم في دول شمال أوروبا وهو ما دعا المرشح إلى القول بأن السماح للشبان بممارسة الحب في الفنادق بدلاً من المتنزهات العامة حرية شخصية مهمة.

ص: 321

ويقول مفوض مجلس أوروبا لحقوق الإنسان حول الاتجار بالبشر وتجارة الدعارة: إن بعض الأرقام مذهلة ويجب قطعاً أخذها في الاعتبار، ملمحاً إلى أن عدد المضيفات الأجانب اللواتي يعملن في الحانات والملاهي الليلية مرتفع جداً قياساً إلى التعداد السكاني لهذا البلد.

وتفيد الأرقام الرسمية أن جزيرة قبرص التي تضم نحو (700) ألف نسمة،تضم (78) من الحانات، و(38) من الملاهي الليلية تستخدم (1270) فنانة.

وقد كشف تحقيق برلماني مؤخراً أن بين (3000) و(3500) امرأة يتحدر معظمهن من أوروبا الشرقية تصلن كل عام إلى الجزيرة للعمل في حانات أو ملاه ليلية، لكنهن يقعن في حالات كثيرة في شبكات البغاء.

وفي واشنطن اتهمت وزارة الخارجية الأمريكية (15) دولة، من بينها السودان وتركيا واليونان، بعدم بذل الجهد الكافي لمنع الاتجار في الرق والجنس. وقال وزير الخارجية الأمريكية كولن باول: إنه أمر مروع وغير مقبول أخلاقياً أن يستغل مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال ويحولهم متربحون من البؤس الإنساني إلى رقيق.

ومن الأخبار الغريبة في هذا الباب هو ما أعلنه بيت دعارة أمريكي بأنه يقدم الجنس مجاناً للجنود العائدين من الحرب.

وقال أحد أصحاب البيوت المرخصة للدعارة في نيفادا لرويترز: إنه سيقدم أيضاً خفضاً قدره (50%) للعسكريين الذين سيستفيدون من خدماته في الأسابيع القليلة القادمة.

إلى غير ذلك من المآسي والويلات التي أخذت بالمرأة إلى المجهول وكلها من جراء ترك القوانين الإسلامية التي ضمنت للمرأة حريتها وتطورها وكرامتها وشرفها، وبكلمة واحدة سعادتها في الدنيا والآخرة.

ص: 322

تفاقم ظاهرة الطلاق في إيران

في حديثه لمراسل وكالة (إيسنا) الإيرانية، قال مسئول قسم التوجيه والتعاون القضائي في المجمع الأسري بمحافظة تبريز: إن معضلة الطلاق في مجتمعنا ستتحول في السنوات القادمة إلى أزمة حقيقية.

وأضاف: إن الطلاق المتسرع وغير المستند إلى خبرة ووعي كاف، والذييشكل النسبة الغالبة، أضحى يثقل كاهل المجتمع، ويتسبب في تصدعات اجتماعية خطيرة.

وذكر هذا المسئول: بأن نسبة الطلاق الناشئ عن: إدمان المخدرات هي (87/9%)، وعن تدخل الآخرين من طرفي الزوج والزوجة (55/9%)، وعن عدم الانسجام والتفاهم (91/8%)، وعن البطالة (55/8%)، وعن سوء الظن (7%)، وعن فقدان العاطفة بين الزوجين (73/5%)، وعن الزواج الإجباري (5/5%).

وقال: بما أن المشكلة الأصلية التي يعاني منها المدمنون تتمثل في البطالة، والحاجة إلى العطف، فلهذا ندعو المسئولين إلى المتابعة والمزيد من الاهتمام بهذا الصدد.

ومضى يقول: نسبة الطلاق في أوساط المتعلمين أقل، ولكن في حالة حصول طلاق لدى هؤلاء الأفراد، فإنهم قليلاً ما يقومون بمراجعة المراكز المتخصصة.

وعد هذا المسئول ضغوط المعيشة ومشكلة السكن، السبب الرئيسي للجوء النساء إلى الطلاق، وفي المقابل اعتبر قلة الحنان والبرود لدى النساء، سبباً أساسياً وراء نزوع الرجال إلى تطليق زوجاتهم.

الإجهاض في العالم

تدل الإحصائيات على مستوى العالم بأن (50) مليون عملية إجهاض تجري سنوياً في العالم بينها (20) مليون في ظروف غير صحية، ويجدر العلم بأن

ص: 323

(13%) من جميع وفيات الأمومة عالمياً سببه الإجهاض غير المأمون.

الاغتصاب

إن غالبية المراهقين في الولايات المتحدة الأمريكية يفقدون عذريتهم خلال شهر ديسمبر / كانون الأول وهو موسم أعياد الميلاد ونهاية السنة، ويرىالمختصون التربويون أن الأعياد وما يحيطها من أجواء لها تأثير كبير على هذه الظاهرة، وأن العديد من المراهقات والمراهقين الذين يتواعدون بشكل جدي يختارون شهر ديسمبر / كانون الأول لممارسة الجنس لأول مرة، وكذلك فإن المراهقين الرومانسيين معرضين لممارسة الجنس أكثر ب(3) مرات من الذين لا يرتبطون بعلاقات حميمة، وشملت الدراسة إجابات وثقت زهاء ما أوضحه (21) ألف مراهق ومراهقة ابتداء من عمر الثانية عشرة هذا وكان عدد من الباحثين من جامعة ميسسبي قد كُلفوا إنجاز الدراسة المتقدمة التي بان من خلالها أن الشهر الأخير من كل سنة قد جعلوه مناسبة للفساد في الغرب بدلاً من أن يجعلوه مناسبة للاحتفال بزواج شرعي حميم.

ولعل عدم وجود رادع أو أخلاقيات تؤخذ بالحساب أمام الملأ قد شجع على استسهال عمل اقتراف الخطيئة على كونه مندرجاً تحت عنوان ممارسة الحرية الشخصية التي عادة ما تدفع ثمنها الفتاة في أهم جانب من مستقبلها العاطفي إذ إن غالبية الفتيات الغربيات ممن لم يبلغن أكثر من (24) سنة يبدأ لديهن الشعور باليأس من الحصول على زوج نتيجة لإمكانية استحصال الفتاة من علاقة عاطفية خالية من رابطة الزواج المقدس حتى في الدين المسيحي.

الاكتئاب يصيب المرأة أكثر من الرجل

حذرت دراسة طبية من ارتفاع معدل الإصابة بالكآبة بين السيدات. وأكدت

ص: 324

الدراسة أنه رغم التطور الملحوظ في دراسة هذه الظاهرة من جوانبها المختلفة فإن الكثير من الحالات لا يتم تشخيصها بدقة الأمر الذي يؤدي إلى إصابة المرضى بمضا وقال المختصون إن وجود (48) نوعاً من أمراض الاكتئاب التي تصيب الإنسان يشكل صعوبة في التشخيص لدى بعض الأطباء خاصة أنأعراض المرض تتشابه في معظمها، ورأوا أن الاكتئاب النفسي هو السبب المباشر لمعظم الأمراض التي تتعلق بالمناعة الذاتية للجسم كالأورام والسرطان والسكر وضغط الدم وأمراض الكبد والإعاقة الذهنية، والاكتئاب عادة يصيب الإنسان عندما يفقد الأمل في المستقبل أو يتعرض للبطالة والفقر الشديد والعجز والحرمان.

وتشير بعض الدراسات إلى ارتفاع نسبة الإصابة بالاكتئاب بين سكان المدن عن القرى نظراً لضوضاء والزحام والانطواء وتكالب الناس على المادة، وأشار الأخصائيون إلى أن هناك نوعين من الاكتئاب الأول يتميز بتخيل الهلاوس والأوهام ويرتبط بالحالة المزاجية والآخر النوع الموسمي مثل الاكتئاب الذي يصيب البعض مع بداية فصل الشتاء مشيرين إلى أن هذا المرض يصيب المرأة ثلاثة أضعاف الرجل.

المرأة الأفريقية والإيدز

أكد خبراء أفارقة في اليوم الأخير من (المؤتمر الإفريقي السابع حول المرأة والإيدز) الذي عقد في دكار أن (13) مليون امرأة مصابة بالإيدز في البلدان الواقعة جنوب الصحراء.

وقدرت دراسات عرضت في مؤتمر دكار نسبة الإصابات الجديدة بالإيدز عند النساء الشابات اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين (15) و(24) عاماً، ب(60%)، وأوضحت البروفسورة مديرة الاستراتيجيات والأبحاث في المنظمة الدولية

ص: 325

لمكافحة الإيدز: أن ذلك يعود إلى (البلوغ الجنسي المبكر) لدى تلك الشابات.

العنف ضد النساء

- غالبية دول أميركا اللاتينية والوسطى سنَّت قوانين تعاقب كل مرتكبي العنف ضد النساء في هذه الدول.- أكد مركز الأبحاث الإسباني أن سيدة من كل ثلاث في العالم تتعرض أو تعرضت للعنف الزوجي.

- تجارة الرقيق هي ثالث تجارة غير مشروعة من حيث الدخل الذي تدره على أميركا.

- أصاب مرض الإيدز (14) مليون امرأة في العالم.

- (4) ملايين امرأة يرغمن كل عام على ممارسة الدعارة، منهن (500) ألف امرأة في دول الاتحاد الأوروبي وحده.

- (60) مليون أنثى لا تولد (إجهاض انتقائي) أو يقتلن بعيد ولادتهن لمجرد كونهن إناثاً (وأد البنات)!

- منظمة (أكبات) لمكافحة السياحة الجنسية أكدت بأن فتيات في سن السابعة من النيبال وبنغلادش، يتدربن في كبرى مراكز البغاء بالهند.

- سجل (مركز حوادث الاغتصاب) في بانكوك أن (10%) من المترددات عليه قد اصابهن مرض نقص المناعة (الإيدز) بسبب الاغتصاب.

- توجد في أمريكا (400) منظمة مختصة بمكافحة العنف ضد النساء.

- عدد المدخنات في العالم بلغ (200) مليون امرأة، بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية.

- النساء المدخنات أكثر تعرضاً للإصابة بمرض العقم، كما ثبت أن هناك صلة بين التدخين والعقم عند الرجال.

ص: 326

- (2/1) مليون امرأة وفتاة دون سن ال- (18) سنة على نطاق العالم يجري الاتجار بهن كل عام لأغراض البغاء.

- (3) ملايين امرأة وفتاة عربية يعشن في أوروبا.

- (6) ملايين امرأة بدون بعل في مصر عام (97).- (25%) نسبة النساء العاملات في العالم العربي.

- (39%) نسبة النساء العاملات في الدول النامية.

- (600) ألف امرأة إسبانية ضحية سوء المعاملة الزوجية سنوياً.

- (200) ألف حالة انتحار تحصل في الصين سنوياً أغلبها بين النساء.

- (4%) من الإيطاليات بين سن ال(14-59) عاماً ضحايا الاغتصاب الجنسي.

- (1740) جريمة اغتصاب وعنف جنسي شهدتها نساء لندن عام (1997).

نسبة التحرش الجنسي بالنساء العاملات

- (20%) في فرنسا

- (6/16%) في الأرجنتين

- (8/10%) في رومانيا

- (7/9%) في كندا

- (6/8%) في بريطانيا

النساء الداعرات

- (5/1%) من مجموع النساء في إندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند منغمسات في أعمال الدعارة.

- (300) ألف في تايلاند.

- (230) ألف في إندونيسيا.

ص: 327

- (142) ألف في ماليزيا.

- (500) ألف في الفلبين.

- (4000) بيت دعارة في موسكو.

- (000 50) عاهرة في موسكو يعرضن خدماتهن في الشوارع.- (4) مليارات دولار سنوياً تدر على إسرائيل من صناعة الدعارة والجنس.

إلى غير ذلك من الإحصاءات والتقارير الكثيرة في هذا الباب.

من هدي القرآن الحكيم

المرأة في الإسلام

قال اللّه تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَٰتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ وَالْقَٰنِتِينَ وَالْقَٰنِتَٰتِ وَالصَّٰدِقِينَ وَالصَّٰدِقَٰتِ وَالصَّٰبِرِينَ وَالصَّٰبِرَٰتِ وَالْخَٰشِعِينَ وَالْخَٰشِعَٰتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَٰتِ وَالصَّٰئِمِينَ وَالصَّٰئِمَٰتِ وَالْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَٰفِظَٰتِ وَالذَّٰكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(1).

المرأة الصالحة

قال عزّ وجلّ: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَٰهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَالصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}(3).

الزواج في الإسلام

قال اللّه تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ

ص: 328


1- سورة الأحزاب، الآية: 35.
2- سورة الأنبياء، الآية: 91
3- سورة النساء، الآية: 34.

أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ}(1).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٖ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}(2).وقال عزّ وجلّ: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

سيدة نساء العالمين

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه تعالى أختار من النساء أربع: مريم، وآسية، وخديجة، وفاطمة»(4).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «أما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين»(5).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما، وأمهما أفضل نساء أهل الأرض»(6).

حق المرأة الأم

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الجنة تحت أقدام الأمهات»(7).

ص: 329


1- سورة النحل، الآية: 72.
2- سورة الفرقان، الآية: 74.
3- سورة النور، الآية: 32.
4- بحار الأنوار 43: 19.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 113.
6- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 62.
7- مستدرك الوسائل 15: 180.

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «تحت أقدام الأمهات روضة من رياض الجنة»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «واعلم، أن حق الأم ألزم الحقوق وأوجب؛ لأنها حملت حيث لا يحمل أحد أحداً، وَوَقَتْ بالسمع والبصر وجميع الجوارح مسرورة مستبشرة بذلك، فحملته بما فيه من المكروه الذي لا يصبر عليه أحد، ورضيت بأن تجوع ويشبع، وتظمأ ويروى، وتعرى ويكتسي، وتظله وتضحى،فليكن الشكر لها والبر والرفق بها على قدر ذلك، وإن كنتم لا تطيقون بأدنى حقها إلّا بعون اللّه»(2).

وقال رجل لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن والدتي بلغها الكبر، وهي عندي الآن أحملها على ظهري، وأطعمها من كسبي، وأميط عنها الأذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي استحياءً منها وإعظاماً لها، فهل كافأتها؟

قال: «لا؛ لأن بطنها كان لك وعاءً، وثديها كان لك سقاءً، وقدمها لك حذاءً، ويدها لك وقاءً، وحجرها لك حواءً، وكانت تصنع ذلك لك وهي تمنى حياتك، وأنت تصنع هذا بها وتحب مماتها»(3).

وقيل: يا رسول اللّه، ما حق الوالد؟

قال: «أن تطيعه ما عاش».

فقيل: وما حق الوالدة؟

فقال: «هيهات هيهات، لو أنه عدد رمل عالج، وقطر المطر أيام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها»(4).

ص: 330


1- مستدرك الوسائل 15: 181.
2- بحار الأنوار 71: 77.
3- مستدرك الوسائل 15: 180.
4- عوالي اللئالي 1: 269.

وقيل للإمام زين العابدين(عليه السلام): أنت أبر الناس بأمك، ولا نراك تأكل معها؟!

قال: «أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال موسى بن عمران: يا رب، أوصني؟ قال: أوصيك بي. فقال: يا رب أوصني؟ قال: أوصيك بي - ثلاثاً - . قال: يا رب، أوصني؟ قال: أوصيك بأمك. قال: يا رب، أوصني؟ قال: أوصيك بأمك. قال: أوصني؟ قال:أوصيك بأبيك...»(2).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «أما حق أمك، فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً. ووَقَتْكَ بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظلك...»(3).

حب النساء

حب النساء(4)

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «كلما ازداد العبد إيماناً أزداد حباً للنساء»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أخلاق الأنبياء صلى اللّه عليهم حب النساء»(6).

وقال(عليه السلام): «كل من اشتد لنا حباً أشتد للنساء حباً وللحلواء»(7).

ص: 331


1- مكارم الأخلاق: 221.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 511.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 621.
4- إن الإسلام أكد على حب المرأة من الزوجة والأم والبنت والأخت ومن أشبه في مقابل أولئك الذين يبغضون المرأة وتسود وجوههم وهم كاظمين من الأنثى.
5- النوادر للراوندي: 12.
6- الكافي 5: 320.
7- السرائر 3: 636.

الزوجة الصالحة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من سعادة المرء الزوجة الصالحة»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ما أفاد عبد فائدة خيراً من زوجة صالحة، إذا رآها سرته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله»(2).

المرأة وخدمة الزوج

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «سألت أم سلمة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عن فضل النساء في خدمة أزواجهن؟ فقال: ما من امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تريد به صلاحاً نظر اللّه إليها ومن نظر اللّه إليه لم يعذبه»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «جهاد المرأة حسن التبعل»(4).

أبغض الحلال عند اللّه الطلاق

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ يبغض كل مطلاق ذواق»(5).

وقال رسول(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من شيء أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ من بيت يخرب في الإسلام بالفرقة...»(6). يعني الطلاق.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ يحب البيت الذي فيه العرس، ويبغض البيت الذي فيه الطلاق، وما من شيء أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ من الطلاق»(7).

ص: 332


1- الكافي 5: 327.
2- الكافي 5: 327.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 618.
4- الكافي 5: 9.
5- الكافي 6: 55.
6- الكافي 5: 328.
7- الكافي 6: 54.

المرأة في المنظار الإسلامي

كمال الخلقة

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ}(1).

الآية الكريمة تدل على أن اللّه عزّ وجلّ خلق الأشياء في أحسن صورة وأكملها {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(2)، وخاصة بالنسبة إلى الإنسان حيث يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ}(3)، وهذه الآيات تشمل المرأة كما تشمل الرجل، من هنا يتضح أن المرأة في المنظار الإسلامي مخلوقة بأحسن الصور وأكملها ولا نقص فيها.

فإن قوله تعالى: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا} أي: في الأرض {مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ} أي: في دقة وإحكام وتقدير، فالنبات ليس اعتباطاً في مقدار حجمه وشكله ولونه وسائر مزاياه، بل كل ذلك بالوزن والتقدير، وليس المراد بالوزن - معناه الخارجي - بل تشبيه بالموزون الذي ليس فيه زيادة ونقصان، يقال: فلان شخص موزون، أي دقيق الصفات متساوي الجهات، لا زيادة في حركاته وسكناته ولا نقصان(4).

والإنبات في هذه الآية الكريمة يشمل الإنسان أيضاً؛ لأن النبات هو الخارج بالنمو حالاً بعد حال، كما هو واضح في الآية الأخرى التي تقول: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم

ص: 333


1- سورة الحجر، الآية: 19.
2- سورة المؤمنون، الآية: 14.
3- سورة الإسراء، الآية: 70.
4- تفسير تقريب القرآن 3: 162.

مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا}(1).

إن جميع المخلوقات قد دبرت على أكمل وجه وفي غاية الدقة والكمال(2). فإنه تبارك وتعالى يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٖ}(3)، أي أنه تعالى خلق كل شيء مقدراً بمقدار توجبه الحكمة، ولم يخلقه جزافاً ولا ناقصاً، سواء في المخلوقات الصغيرة كالنملة - مثلاً - أو في المخلوقات الكبيرة من الحيوانات كالفيل مثلاً، فكل ما يحتاج إليه المخلوق فقد حباه اللّه تعالى به ووهبه له؛ لأن اللّه تعالى ليس بخيلاً؛ بل هو فياض مطلق قد أعطى كل شيء قدره وبحسب قابليته: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(4). وهناك أيضاً أدلة علمية أخرى تدل على أن مخلوقات اللّه تعالى قد خلقت بميزان دقيق(5).

لا تفاوت في خلق اللّه

إذن، الباري تعالى خلق المخلوقات جميعاً على أتم وجه وعلى ما تقتضيه الحكمة، وكذلك هو خَلَق الرجل والمرأة على أحسن تقويم، فإن المرأة من ناحية الخلقة لا يشوبها أي نقص - كما قد يتوهمه البعض - وفي كل شؤونها خلقت كاملة.

وفي الآية الشريفة: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}(6).

ص: 334


1- سورة نوح، الآية: 17.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 9: 324.
3- سورة القمر، الآية: 49.
4- سورة المؤمنون، الآية: 14.
5- انظر: تفسير مجمع البيان 10: 69.
6- سورة الملك، الآية: 3-4.

ومعناه: {مَّا تَرَىٰ} أيها الرائي {فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ} واختلاف، من جهة أن الجميع مخلوقة بدقة وإتقان وكمال لائق به {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} أي: ردّه إلى الكون، بعد أن كان سابقاً إليه، وكأنه كان ناظراً بلا التفات إلى هذه الجهة، فقيل له: رد بصرك بقصد التفحص والبحث {هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ}؟ أي: شقوق وفتوق كالبناء الذي ينفطر لخلل فيه، فهل في الكون خلل يدل على الوهن والضعف، أم أن كل شيء وضع في محله اللائق به حسب الحكمة والصلاح؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي: كرة بعد كرة، والمراد مكرراً إذ لعل البصر اشتبه في المرة الأولى، فلم يرَ فتقاً - فإن الإنسان إذا كرر النظر إلى شيء أدرك خلله - فانظر إلى الكون مرة أخرى فاحصاً عن الخلل، لكنه لا تجده بل {يَنقَلِبْ} أي: يرجع {إِلَيْكَ} أيها الإنسان {الْبَصَرُ} الذي سرحته في الكون {خَاسِئًا} قد خسئ وطرد وعجز عمّا طلبه - من الفتق - {وَهُوَ حَسِيرٌ} قد حسر، أي: كلَّ وعَيَّ ولم يجد خللاً ووهناً، وما يوجد من الأمراض وما أشبه، إنما هو للامتحان والعبرة، لا لنقص في الخلق(1).

ولا يخفى أنه ليس المقصود من هذه الآية الشريفة الرجال فقط، بل هي شاملة لكل خلق اللّه تبارك وتعالى ومنهم الرجال والنساء. أما الفروق الموجودة في ما بين الرجل والمرأة إنما هي فروق بسيطة وجسدية ونفسية، كلٌ خلق بمقتضى حكمته جلّ وعلا، ولما أعد له، ولو لا وجود الاختلاف والفرق في الخلقة بينهما لكان نقصاً في الصنع والتدبير الإلهي، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

إذن الاختلافات التكوينية بين الرجل والمرأة لا تُعد كمالاً في الرجل ونقصاً

ص: 335


1- تفسير تقريب القرآن 5: 466.

في المرأة؛ بل لكل كماله وبحسبه، فإن المرأة قد خلقت كاملة من جهة كونها إنساناً، ومن حيث مكانتها في المجتمع البشري، فلها كل الحق في أن تتمتع بكامل حقوقها كإنسان، لكن المرأة خلقت بكيفية خاصة بها كما خلق الرجل بكيفية خاصة به، فالمرأة مثلت جانب اللين والنعومة، والرجل يمثل جانب الصلابة والشدة والخشونة، ولو كان كلاهما غليظين أو ناعمين لكان نقصاً في الخلقة، وهذا الاختلاف ناتج من تقدير العليم الخبير ليكمل بعضهما البعض ويسد كل منهما حاجة الآخر، ويكوّنا معاً الأسرة والمجتمع الكاملين؛ لأن الحياة الإنسانية تحتاج لكلا الجنسين، فالاختلاف وظيفي وليس اختلافاً في إنسانية أحدهما عن الآخر.

الثواب والعقاب للمرأة والرجل

اشارة

قال تعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ}(1)، وهذا تصريح من الآية الكريمة بأن اللّه ينظر إلى الرجل والمرأة من حيث قانون الثواب والعقاب نظرة واحدة ولا يضيع أجر أحد.

إن الإسلام ينظر إلى النوع الإنساني... إلى المرأة والرجل على حد سواء، دون فرق في الإنسانية، وهما وليدا عمل تناسلي مشترك، والفرق في الخلق لأن كلاً منهما يتطلب مزايا خلقية خاصة تختلف عن الآخر فسجلته فيه، كما خلق النبات والحيوان والإنسان ليكمل بعضهم البعض الآخر، فالنبات خلق بشكل يختلف عن الحيوان، وكل واحد يكمل الآخر؛ فلا بد من الاختلاف لضرورته.

لذا فالمرأة في حد ذاتها ومن حيث الخلقة كاملة لا يشوبها أي نقص، وأسلوب المرأة وطريقتها طريقة كاملة، وقد خلق اللّه تعالى المرأة منذ أول

ص: 336


1- سورة آل عمران، الآية: 195.

خلقتها، وهي ملازمة للرجل وفي جانبه.

رجال عظماء ونساء معظمات

عند قراءة سيرة العظماء وتاريخهم، نرى كم هو جميل أن يكون إلى جانب الرجال البارزين العظماء أصحاب الإنجازات الكبيرة والمؤثرة في تأريخ البشرية، نجد إلى جانبهم نساء بارزات عظيمات كانت لهن أدوار ومهام مصيرية في سيرة هؤلاء الرجال، بل وكان لهن التأثير المصيري في التأريخ الإنساني، ولعل بعض الرجال لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه لو لا مساندة هذه المرأة، أو تلك التي وقفت إلى جانبه.

فمثلاً، كانت أمنا حواء في جوار آدم(عليهما السلام).

وكذلك كانت هاجر في جوار إبراهيم خليل الرحمن(عليهما السلام).

وأخت موسى(عليها السلام) كانت إلى جواره(عليه السلام).

ومريم(عليها السلام) إلى جانب عيسى(عليه السلام).

والسيدة خديجة(عليها السلام) إلى جانب الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم).

والصديقة فاطمة الزهراء(عليها السلام) بجانب مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام).

والسيدة زينب(عليها السلام) بجانب الإمام الحسين(عليه السلام)، وهكذا.

كل واحدة من هؤلاء النسوة الكريمات كانت لهن أدوار ومهام مصيرية في حياة الرجال العظماء ممن عاصروهن.

السيدة خديجة الكبرى(عليها السلام)

إن من أوائل النساء اللواتي تحملن المسؤوليات الجمة، والصعاب التي تنوء بحملها الجبال الرواسي، هي أم المؤمنين والمؤمنات السيدة العظيمة خديجة الكبرى(عليها السلام)، فقد كانت لها مواقف مشهودة إلى جوار نبينا الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم).

ولهذه المرأة منزلة خاصة عند اللّه وعند رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم)، إلى درجة أن اللّه تعالى

ص: 337

كان يبعث لها سلاماً خاصاً، وقد ورد في بيان مكانتها ومنزلتها روايات عديدة، بشأن مساندتها ودعمها لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وفي سبيل الدين الحق وذلك بأموالها الكثيرة التي أنفقتها في سبيل اللّه، حتى قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في رواية: «ما قام ولا استقام ديني إلّا بشيئين مال خديجة وسيف علي بن أبي طالب»(1).

وعنها قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أفضل نساء الجنة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «حدث أبو سعيد الخدري: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: إن جبرئيل(عليه السلام) قال لي ليلة أسري بي وحين رجعت، فقلت: يا جبرئيل، هل لك من حاجة؟ فقال: حاجتي أن تقرأ على خديجة من اللّه ومني السلام، - وحدثنا عند ذلك - أنها قالت حين لقاها نبي اللّه عليه وآله السلام فقال لها الذي قال جبرئيل، قالت: إن اللّه هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعلى جبرئيل السلام»(3).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب»(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «ذكر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) خديجة يوماً وهو عند نسائه فبكى، فقالت عائشة: ما يبكيك على عجوز حمراء من عجائز بني أسد؟ فقال: صدقتني إذ كذبتم، وآمنت بي إذ كفرتم، وولدت لي إذ عقمتم. قالت عائشة: فما زلت أتقرب إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بذكرها»(5).

ص: 338


1- شجرة طوبى 2: 233.
2- الخصال 1: 205.
3- تفسير العياشي 2: 279.
4- كشف الغمة 1: 507.
5- كشف الغمة 1: 508.

وقال العلامة المجلسي(رحمه الله) في بحار الأنوار: نقلت من كتاب (معالم العترة النبوية)... عن محمد بن إسحاق قال: كانت خديجة بنت خويلد(عليها السلام) امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) من صدق حديثه، وعظيم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه وعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجراً إلى الشام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له: ميسرة، فقبله منها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)...

وكانت خديجة(عليها السلام) امرأة حازمة لبيبة، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، وكل قومها قد كان حريصاً على ذلك - على الزواج منها - لو يقدر عليه.

وفي الحديث: «كانت خديجة أول من آمن باللّه ورسوله، وصدقت بما جاء من اللّه، ووازرته على أمره، فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك، إلّا فرج اللّه ذلك عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بها، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت رحمها اللّه»(1).

وعن ابن إسحاق قال: ... وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام، وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يسكن إليها(2).

نعم، كانت السيدة خديجة(عليها السلام) عزيزة عند النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، وتتمتع بمكانة خاصةفي قلبه، فكان يحبها حباً جماً، ويعتز بها ويقدر مواقفها الشريفة، والشواهد على

ص: 339


1- كشف الغمة 1: 511.
2- بحار الأنوار 16: 8.

ذلك عديدة. ويكفي دليلاً على عظمتها ومكانتها، أنها كانت تخفف عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وتسلي خاطره من كل ما كان يلاقيه من إيذاء وهوان من قبل مشركي قريش، ولم تسبب له أي أذى أو مشكلة أبداً.

ولم تطلب خديجة(عليها السلام) من النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) شيئاً أبداً إلّا حاجة واحدة فقط، وهذه كانت عبر ابنتها الصديقة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، حيث إنها سمعت من النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) عن أهوال القبر وما يلاقي الميت فيه، على الرغم من إيمانها العظيم وسابقتها ودرجتها عند اللّه، إلّا أنها كانت تخاف القبر فطلبت من النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يكفنها بعباءته الشريفة التي كان يصلي فيها، لكي تشملها الرحمة الإلهية، ببركة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ويرتفع عنها العذاب(1).

الزهراء(عليها السلام) أعظم أسوة للنساء

أما الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء(عليها السلام) فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي صاحبة المواقف العظيمة مع أبيها وبعلها وبنيها(عليهم السلام) في أداء رسالة السماء والدفاع عن الحق وفضح الظالمين.

إن السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) قدوة لنساء العالمين إلى يوم يبعثون؛ وذلك في مختلف مجالات الحياة، فهي أسوة في الأسرة وتربية الأولاد واتخاذ المواقف الحرجة تجاه الظالمين إذ أنها لما رأت أن القوم راحوا يبتعدون عمّا أمر به الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) في أمر الخلافة، انبرت لهم واتخذت موقفها السياسي الحكيم، فخطبت خطبتها المفصلة المشهورة، وأخذت تدافع عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وعن الإسلام والقرآن في قصص عديدة ومواقف مشهودة.

وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة جداً، عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وعن الأئمة

ص: 340


1- انظر: شجرة طوبى 2: 235.

المعصومين(عليهم السلام).

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إنما سميت فاطمة(عليها السلام) محدثة؛ لأن الملائكة كانت تهبط من السماء، فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، اللّه اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين. يا فاطمة، اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها. فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران، فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وإن اللّه عزّ وجلّ جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها، وسيدة نساء الأولين والآخرين»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه تعالى إذا بعث الخلائق من الأولين والآخرين نادى منادي ربنا من تحت عرشه: يا معشر الخلائق، غضّوا أبصاركم لتجوز فاطمة بنت محمد سيدة نساء العالمين على الصراط. فيغض الخلائق كلهم أبصارهم، فتجوز فاطمة على الصراط، لا يبقى أحد في القيامة إلّا غض بصره عنها، إلّا محمد وعلي والحسن والحسين والطاهرون من أولادهم؛ فإنهم محارمها، فإذا دخلت الجنة بقي مرطها(2) ممدوداً على الصراط، طرف منه بيدها وهي في الجنة، وطرف في عرصات القيامة. فينادي منادي ربنا: يا أيها المحبون لفاطمة تعلقوا بأهداب مرط فاطمة سيدة نساء العالمين. فلا يبقى محب لفاطمة إلّا تعلق بهدبة من أهداب مرطها، حتى يتعلق بها أكثر من ألف فئام وألف فئاموألف فئام».

قالوا: وكم فئام واحد يا رسول اللّه؟

ص: 341


1- علل الشرائع 1: 182.
2- المِرط: كساء من صوف ونحوه يئتزر به.

قال: «ألف ألف من الناس»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «رائحة الأنبياء رائحة السفرجل، ورائحة الحور العين رائحة الآس، ورائحة الملائكة رائحة الورد، ورائحة ابنتي فاطمة الزهراء رائحة السفرجل والآس والورد»(3).

وعن عائشة قالت: (ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقام إليها، فأخذ بيدها وقبّل يدها وأجلسها في مجلسه، وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا دخل عليها رحبت به وقامت إليه، وأخذت بيده فقبّلتها)(4).

وقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «... ففاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة»(5).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «... وأما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسية متى قامت في محرابها بين يدي ربها جلّ جلاله ظهر نورها لملائكة السماء، كما يظهر نور الكواكب لأهلالأرض، ويقول اللّه عزّ وجلّ لملائكته: يا ملائكتي، انظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي، قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي

ص: 342


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 434.
2- الطرائف 1: 262.
3- بحار الأنوار 63: 177.
4- بشارة المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم): 253.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 461.

أشهدكم أني قد آمنت شيعتها من النار...»(1).

بطلة كربلاء

أما السيدة الحوراء زينب(عليها السلام) بنت أمير المؤمنين(عليه السلام) عقيلة بني هاشم، فهي صاحبة الشرف الرفيع، والمجد الأصيل، فهي بنت علي وفاطمة(عليهما السلام) وجدها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) الذي قال: «إن اللّه عزّ وجلّ جعل ذرية كل نبي من صلبه خاصة، وجعل ذريتي من صلبي ومن صلب علي بن أبي طالب، إن كل بني بنت ينسبون إلى أبيهم إلّا أولاد فاطمة فإني أنا أبوهم»(2).

وهي شقيقة سيدي شباب أهل الجنة الإمامين الهمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) ريحانتي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

لها من الشرف الرفيع، والعلم والغزير، والفضل والتقوى، والكمال والزهد، والورع وكثرة العبادة ومعرفة اللّه، ما لم يعرف لأحد من النساء إلّا لأمها الصديقة الكبرى(عليها السلام). وقد كان بارزاً وواضحاً لكل الناس حب الخمسة الأطهار من أهل العباء(عليهم السلام) لها، ورعايتهم إياها أشد الرعاية والعطف والاهتمام.

تكنى: أم كلثوم، وأم الحسن، وتلقب: الصديقة الصغرى، والعقيلة، وعقيلة بني هاشم، وعقيلة الطالبيين، والموثقة، والعارفة، والعالمة غير المعلمة، والكاملة، وعابدة آل علي، وغير ذلك من الصفات العالية والنعوت الراقية.

ومما يذكر في أحوالها، أنه حدّث يحيى المازني قال: كنت في جوار أميرالمؤمنين(عليه السلام) في المدينة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب(عليها السلام) ابنته، فلا واللّه ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت

ص: 343


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 113.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 387.

الخروج لزيارة جدها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تخرج ليلاً والحسن(عليه السلام) عن يمينها والحسين(عليه السلام) عن شمالها وأمير المؤمنين(عليه السلام) أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين(عليه السلام) فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن(عليه السلام) مرة عن ذلك؟ فقال(عليه السلام): «أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب»(1).

ولعظم منزلتها ذكر: أن الإمام الحسين(عليه السلام) كان إذا زارته السيدة زينب(عليها السلام) يقوم إجلالاً لها، وكان يجلسها في مكانه (صلوات اللّه عليهما).

ومما ورد عن معرفتها وعلمها، قول الإمام زين العابدين(عليه السلام): «أنتِ بحمد اللّه عالمة غير معلَّمة، وفهِمة غير مفهَّمة»(2).

وكانت زينب(عليها السلام) تجلس في بيتها أيام إقامة أبيها(عليه السلام) في الكوفة، وكانت تفسر القرآن للنساء، وتعلّمهم الأحكام الشرعية والآداب الإسلامية.

وذكر في أحوالها أنها(عليها السلام) ما تركت تهجدها للّه تعالى طول دهرها، فلم تترك صلاة الليل أبداً، حتى ليلة الحادي عشر من المحرم. حيث روي عن زين العابدين(عليه السلام) أنه قال: «رأيتها تلك الليلة تصلي من جلوس».

وعنه(عليه السلام) أيضا قال: «إن عمتي زينب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تركت نوافلها الليلية».

وأن الإمام الحسين(عليه السلام) لما ودّع أخته السيدة زينب(عليها السلام) وداعه الأخير قال لها: «يا أختاه، لا تنسيني في نافلة الليل»(3).

وكانت لزينب(عليها السلام) نيابة خاصة عن الإمام الحسين(عليه السلام)، وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام، حتى برئ زين العابدين(عليه السلام) من مرضه.

ص: 344


1- عوالم العلوم 11: 955.
2- الاحتجاج 2: 305.
3- انظر: عوالم العلوم 11: 954.

ومن الشرف العظيم لزينب(عليها السلام): أن الإمام الحسين(عليه السلام) ائتمنها على أسرار الإمامة، فقد ورد عن أحمد بن إبراهيم قال: دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا(عليهما السلام)، أخت أبي الحسن صاحب العسكر(عليه السلام) في سنة اثنتين وستين ومائتين، فكلمتها من وراء حجاب، وسألتها عن دينها فسمّت لي من تأتم بهم، ثم قالت: والحجة بن الحسن بن علي(عليهم السلام)، فسمّته.

فقلت لها: جعلني اللّه فداك، معاينة أو خبراً؟

فقالت: خبراً عن أبي محمد(عليه السلام)، كتب به إلى أمه.

فقلت لها: فأين الولد؟

فقالت: مستور.

فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟

فقالت لي: إلى الجدة أم أبي محمد(عليه السلام).

فقلت لها: اقتدي بمن وصيته إلى امرأة؟

فقالت: اقتداء بالحسين بن علي(عليهما السلام)، والحسين بن علي أوصى إلى أخته زينب بنت علي(عليها السلام) في الظاهر، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين(عليهما السلام) من علم ينسب إلى زينب(عليها السلام) ستراً على علي بن الحسين(عليهما السلام) - ثم قالت - : إنكم قوم أصحاب أخبار، أما رويتم أن التاسع من ولد الحسين بن علي(عليهما السلام) يقسّم ميراثه وهو في الحياة(1).

وقال الطبرسي: إن زينب(عليها السلام) روت أخباراً كثيرة عن أمها الزهراء(عليها السلام). وروي: أنها(عليها السلام) كانت تروي عن أمها وأبيها وأخويها(عليهم السلام)، وعن أم سلمة وأم هانيء وغيرهما من النساء. وممن روى عنها ابن عباس، وعلي بن الحسين(عليهما السلام)، وعبد

ص: 345


1- كمال الدين 2: 507.

اللّه بن جعفر، وفاطمة بنت الحسين الصغرى، وغيرهم. وقال أبو الفرج: زينب العقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة(عليها السلام) في فدك فقال: حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي(عليهما السلام)(1).

وروي: أنها في طفولتها كانت جالسة في حِجر أبيها - وهو(عليه السلام) يلاطفها بالكلام - فقال لها: «يا بنية قولي: واحد».

فقالت: «واحد».

فقال لها: «قولي: اثنين».

فسكتت.

فقال لها: «تكلمي يا قرة عيني».

فقالت(عليها السلام): «يا أبتاه ما أطيق أن أقول اثنين بلسان أجريته بالواحد».

فضمها (صلوات اللّه عليه) إلى صدره وقبّلها بين عينيها.

السيدة زينب(عليها السلام) والطف

لقد شاركت العقيلة الحوراء السيدة زينب(عليها السلام) أخاها الإمام الحسين(عليه السلام) في كل ما جرى عليه في كربلاء يوم عاشوراء، فكانت حقاً خير شريك ومعين في تلك الأهوال والشدائد.

وكان جلدها وصبرها في تلك الظروف الأمثولة الكبرى للتضحية في سبيل اللّه، فهي(عليها السلام) لما وقفت على جسد أخيها الحسين(عليه السلام) بعد أن استشهد واحتزاللعناء رأسه الشريف، رفعت الجسد الطاهر لأبي الأحرار، وهي ترنو ببصرها إلى السماء وتقول: «اللّهم تقبل منها هذا القربان».

ولما وصلت(عليها السلام) مع السبايا من آل بيت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى الكوفة ألقت خطبتها

ص: 346


1- انظر: عوالم العلوم 11: 957.

على أهل الكوفة، تلك الخطبة البليغة التي مازالت تتردد على طول الزمان، فقد قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرت إلى زينب بنت علي(عليهما السلام) يومئذ ولم أر واللّه، خفرة قط أنطق منها، كأنما تفرع عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثم قالت:

«الحمد للّه، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار، أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل(1) والغدر، أتبكون! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي {نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَٰنَكُمْ دَخَلَا بَيْنَكُمْ}(2)، ألّا وهل فيكم إلّا الصلف(3) والنطف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة(4)، ألّا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون وتنتحبون؟! إي واللّه، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنآنها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم الأنبياء، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنارحجتكم، ومدرة(5) سنتكم، ألّا ساء ما تزرون وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من اللّه، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

ص: 347


1- الختل: الخداع.
2- سورة النحل، الآية: 92.
3- الصلف: الذي يمتدح بما ليس عنده.
4- الفضة: الجص، والملحودة: القبر.
5- المدرة: زعيم القوم ولسانهم المتكلم عنهم.

ويلكم يا أهل الكوفة، أي كبد لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فريتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي دم له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم، لقد جئتم بهم صلعاء عنقاء، سواء فقماء(1)، كطلاع الأرض(2)، وملاء السماء، أفعجبتم أن قطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لاتنصرون. فلا يستخفنكم المهل؛ فإنه لا تحفزه(3) البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإن ربكم لبالمرصاد».

قال: فواللّه لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى أخضلت لحيته، وهو يقول: بأبي أنتم وأمي، كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يبزى(4).

وروي: أنه لما جلس ابن زياد في القصر للناس، وأذن إذناً عاماً، وجيء برأس الحسين(عليه السلام) فوضع بين يديه، وأدخل نساء الحسين(عليه السلام) وصبيانه إليه، فجلست زينب بنت علي(عليها السلام) متنكرة، فسأل عنها، فقيل: هذه زينب بنت علي، فأقبل عليها فقال: الحمد للّه الذي فضحكم قتلكم، وأكذب أحدوثتكم!

فقالت زينب(عليها السلام): «الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيه محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) وطهرنا منالرجس تطهيراً، وإنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا».

فقال ابن زياد: كيف رأيتِ فعل اللّه بأهل بيتك؟

قالت: «كتب اللّه عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتحاجون إليه وتختصمون عنده».

ص: 348


1- الفقماء: إذا كانت ثناياها العليا إلى الخارج فلا تقع على السفلى.
2- طلاع الأرض: ملئوها.
3- يحفزه: يدفعه.
4- بحار الأنوار 45: 108.

فغضب ابن زياد واستشاط.

فقال عمرو بن حريث: أيها الأمير إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ولا تذم على خطابها.

فقال لها ابن زياد: لقد شفى اللّه نفسي من طاغيتك، والعصاة من أهل بيتك!

فزقت(1) زينب وبكت وقالت له: «لعمري، لقد قتلت كهلي، ... وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت».

فقال ابن زياد: هذه سجاعة، ولعمري لقد كان أبوها سجاعاً شاعراً.

فقالت: «ما للمرأة والسجاعة...».

ثم التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين(عليه السلام)، فقال له: من أنت؟

فقال(عليه السلام): «أنا علي بن الحسين».

فقال: أليس قد قتل اللّه علي بن الحسين؟!

فقال له علي(عليه السلام): «قد كان لي أخ يسمى علياً قتله الناس».

فقال له ابن زياد: بل اللّه قتله.

فقال علي بن الحسين(عليهما السلام): «اللّه يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها».فقال ابن زياد: وبك جرأة لجوابي! ... اذهبوا به فاضربوا عنقه.

فتعلقت به زينب(عليها السلام) عمته، وقالت: «يا ابن زياد، حسبك من دمائنا» واعتنقته وقالت: «واللّه، لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه».

فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة، ثم قال: عجباً للرحم! واللّه إني لأظنها ودّت أني قتلتها معه، دعوه فإني أراه لما به.

ص: 349


1- فرقت: أي صاحت.

فقال علي(عليه السلام) لعمته: «اسكتي يا عمة حتى أكلمه»، ثم أقبل(عليه السلام) فقال: «أبالقتل تهددني يا ابن زياد؟! أما علمت أن القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة».

ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين(عليهما السلام) وأهله فحملوا إلى دار إلى جنب المسجد الأعظم، فقالت زينب بنت علي(عليها السلام):

«لايدخلن علينا عربية إلّا أم ولد أو مملوكة؛ فإنهن سبين كما سبينا»(1).

أما خطبتها التي ألقتها في بلاط يزيد اللعين، فكانت حينما رأت يزيد اللعين يضرب بقضيبه ثنايا أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) فقامت(عليها السلام) وقالت:

«الحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على رسوله وآله أجمعين، صدق اللّه كذلك يقول: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(2)، أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى، أن بنا على اللّه هواناً وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟!

مهلاً مهلاً، أنسيت قول اللّه تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌلِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(3).

أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب

ص: 350


1- انظر: الارشاد 2: 115، واللّهوف: 162.
2- سورة الروم، الآية: 10.
3- سورة آل عمران، الآية: 178.

والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من رجالهن وليّ، ولا من حماتهن حمي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء، وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت، من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:

و أهلوا واستهلوا فرحاً *** ثم قالوا: يا يزيد لا تشل

منتحياً على ثنايا أبي عبد اللّه(عليه السلام)، سيد شباب أهل الجنة، تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك، زعمت أنك تناديهم، فلتردن وشيكاً موردهم، ولتودّن أنك شللت وبكمت، ولم يكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت. اللّهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا، فواللّه ما فريت إلّا جلدك، ولا جززت إلّا لحمك، ولتردن على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع اللّه شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم، {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْيُرْزَقُونَ}(1) حسبك باللّه حاكماً، وبمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سوّى لك، ومكنك من رقاب المسلمين، {بِئْسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلًا}(2)، وأيكم {شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا}(3).

ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك،

ص: 351


1- سورة آل عمران، الآية: 169.
2- سورة الكهف، الآية: 50.
3- سورة مريم، الآية: 75.

وأستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى، ألّا فالعجب كل العجب لقتل حزب اللّه النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفوها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً، لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلّا ما قدمت {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلْعَبِيدِ}(1)، فإلى اللّه المشتكى وعليه المعوّل، فكِد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فواللّه لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم يناد المناد: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّٰلِمِينَ}(2).

فالحمد للّه الذي ختم لأولنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل اللّه أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}»(3)(4).نعم، قاربت السيدة زينب(عليها السلام) أمها الصديقة الزهراء(عليها السلام) في الكرامات، والصبر في النائبات، بحيث خرقت العادات ولحقت بالمعجزات(5).

وهذه نماذج من كرامة المرأة وعلو شأنها في الإسلام.

زوجات وأمهات الأئمة(عليهم السلام)

اشارة

كذلك وقفت النساء الكريمات الطاهرات من الأمهات والزوجات مع الأئمة

ص: 352


1- سورة فصلت، الآية: 46.
2- سورة هود، الآية: 18.
3- سورة آل عمران، الآية: 173.
4- بحار الأنوار 45: 133.
5- للمزيد انظر كتاب (زينب الكبرى(عليها السلام)) للشيخ جعفر النقدي، وكتاب (زينب الكبرى من المهد إلى اللحد) للسيد محمد كاظم القزويني.

الأطهار(عليهم السلام) مواقف مشرفة وجليلة، وأنيطت بهن مهام رسالية وتبليغية كبيرة. ومنهن:

السيدة حميدة المصفاة

السيدة حميدة(1) أم الإمام الكاظم(عليه السلام) التي وقفت إلى جانب الإمام الصادق(عليه السلام)، وقد قال(عليه السلام) فيها: «حميدة مصفاةٌ من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إليَّ كرامةً من اللّه لي والحجة من بعدي»(2).

ومما يدل على فضلها وعلمها: أن جماعة في الحج سألوا الإمام الصادق(عليه السلام) فقالوا: إن معنا صبياً مولوداً فكيف نصنع به؟ فقال: «مر أمه تلقى حميدة فتسألها كيف تصنع بصبيانها». فأتتها فسألتها كيف تصنع، فقالت: إذا كان يوم التروية فأحرموا عنه، وجردوه وغسلوه، كما يجرد المحرم، وقِفوا به المواقف، فإذا كان يوم النحر، فارموا عنه واحلقوا عنه رأسه، ومري الجارية أن تطوف به بين الصفا والمروة(3). وقصة زواج السيدة حميدة بالإمام الصادق(عليه السلام) تتضمن كرامات عديدة، فقد روي: أن ابن عكاشة بن محصن الأسدي دخل على أبي جعفر(عليه السلام)، وكان أبو عبد اللّه(عليه السلام) قائماً عنده، فقدم إليه عنباً، فقال: «حبة حبة، يأكله الشيخ الكبير والصبي الصغير، وثلاثة وأربعة يأكله من يظن أنه لا يشبع، وكله حبتين حبتين، فإنه يستحب».

ص: 353


1- هي السيدة حميدة المغربية (البربرية) بنت صاعد البربري. وكانت من أشراف العجم. وقيل: أندلسية. لقبها: لؤلؤة. وقد دعاها الإمام الباقر(عليه السلام) بالمحمودة، ولقبها الإمام الصادق(عليه السلام) بالمصفاة من الأدناس. كانت من المتقيات الثقاة، وكانت الملائكة تحرسها - كما في الحديث الشريف - وكان الإمام الصادق(عليه السلام) يرسلها مع اُم فروة لقضاء حقوق أهل المدينة.
2- الكافي 1: 477.
3- الكافي 4: 301.

فقال لأبي جعفر(عليه السلام): لأي شيء لا تزوج أبا عبد اللّه(عليه السلام)! فقد أدرك التزويج؟ قال: وبين يديه صرة مختومة. فقال: «أما إنه سيجيء نخاس من أهل بربر، فينزل دار ميمون، فنشتري له بهذه الصرة جارية». قال: فأتى لذلك ما أتى.

فدخلنا يوماً على أبي جعفر(عليه السلام)، فقال: «ألّا أخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم قد قدم، فاذهبوا فاشتروا بهذه الصرة منه جارية».

قال: فأتينا النخاس، فقال: قد بعت ما كان عندي، إلّا جاريتين مريضتين إحداهما أمثل من الأخرى.

قلنا: فأخرجهما حتى ننظر إليهما، فأخرجهما.

فقلنا: بكم تبيعنا هذه الجارية المتماثلة؟

قال: بسبعين ديناراً.

قلنا: أحسن.

قال: لا أنقص من سبعين ديناراً.

قلنا له: نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت ولا ندري ما فيها، وكان عنده رجلأبيض الرأس واللحية، قال: فكوا وزنوا.

فقال: النخاس: لا تفكوا فإنها إن نقصت حبة من سبعين ديناراً لم أُبايعكم.

فقال الشيخ: ادنوا. فدنونا وفككنا الخاتم ووزنا الدنانير، فإذا هي سبعون ديناراً لا تزيد ولا تنقص. فأخذنا الجارية فأدخلناها على أبي جعفر(عليه السلام) وجعفر(عليه السلام) قائم عنده، فأخبرنا أبا جعفر(عليه السلام) بما كان. فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال لها: «ما أسمكِ؟».

قالت: حميدة.

فقال: «حميدة في الدنيا، محمودة في الآخرة، أخبريني عنكِ، أ بكر أنتِ أم ثيب؟».

ص: 354

قالت: بكر.

قال: «وكيف ولا يقع في أيدي النخاسين شيء إلّا أفسدوه؟».

فقالت: قد كان يجيئني، فيقعد مني مقعد الرجل من المرأة، فيسلط اللّه عليه رجلاً أبيض الرأس واللحية، فلا يزال يلطمه حتى يقوم عني، ففعل بي مراراً، وفعل الشيخ به مراراً.

فقال(عليه السلام): «يا جعفر، خذها إليك». فولدت خير أهل الأرض موسى بن جعفر(عليهما السلام)(1).

وفي ولادة الإمام الكاظم(عليه السلام) المباركة جاء عن أبي بصير أنه قال: كنت مع أبي عبد اللّه(عليه السلام) في السنة التي وُلد فيها ابنه موسى(عليه السلام)، فلما نزلنا الأبواء، وضع لنا أبو عبد اللّه(عليه السلام) الغداء ولأصحابه، وأكثره وأطابه، فبينا نحن نتغدى إذ أتاه رسولحميدة: أن الطلق قد ضربني، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا.

فقام أبو عبد اللّه(عليه السلام) فرحاً مسروراً، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه، ضاحكاً سنه. فقلنا: أضحك اللّه سنك، وأقر عينك ما صنعت حميدة؟

فقال: «وهب اللّه لي غلاماً، وهو خير مَن برأ اللّه، ولقد خبرتني بأمر كنت أعلم به منها!».

قلت: جعلت فداك، وما خبرتك عنه حميدة؟

قال: «ذكرت أنه لما وقع من بطنها، وقع واضعاً يديه على الأرض، رافعاً رأسه إلى السماء، فأخبرتها أن تلك أمارة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وأمارة الإمام(عليه السلام) من بعده»(2).

ولما وُلد موسى بن جعفر(عليه السلام)، دخل أبو عبد اللّه(عليه السلام) على حميدة البربرية أم

ص: 355


1- الكافي 1: 476.
2- بصائر الدرجات 1: 440.

موسى(عليه السلام)، فقال لها: «يا حميدة، بخ بخ حل الملك في بيتك»(1).

وقد وُلدت للإمام الصادق(عليه السلام) غير الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام): إسحاق ومحمد وفاطمة(2).

وكانت السيدة حميدة ذات مكانة عالية عند أهل البيت(عليهم السلام)، وقد اهتمت بأمر تزويج ولدها الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، وهي التي اشترت السيدة نجمة (تكتم) والدة الإمام الرضا(عليه السلام) لولدها، وزوّجته منها بأمر الإمام الصادق(عليه السلام)، بل بأمر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً.

فعن علي بن ميثم، عن أبيه، قال: لما اشترت الحميدة، أم موسى بن جعفر(عليهما السلام) أم الرضا(عليه السلام) نجمة، ذكرت حميدة أنها رأت في المنام رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لها:«يا حميدة، هبي نجمة لابنك موسى، فإنه سيولد له منها خير أهل الأرض». فوهبتها له، فلما ولدت له الرضا(عليه السلام) سماها الطاهرة، وكانت لها أسماء منها: نجمة وأروى وسكن وسمان وتكتم وهو آخر أساميها(3).

وكذلك كانت أم الإمام الرضا(عليه السلام) أيضاً من النساء الكريمات اللواتي خلد التاريخ ذكرهن.

وكذلك السيدة حكيمة(عليها السلام) التي وقفت إلى جانب الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)(4).

ص: 356


1- الفصول المختارة: 313.
2- كشف الغمة 2: 161.
3- عيون أخبار الرضا(عليه السلام)1: 16.
4- وهي النجيبة الكريمة العالمة والفاضلة التقية حكيمة بنت أبي جعفر الجواد بن الإمام الرضا بن الإمام موسى بن جعفر(عليهم السلام)، كانت مخصوصة بالأئمة(عليهم السلام) ومودعة أسرارهم، وكانت أم الإمام الحجة(عليه السلام) عندها، وكانت حاضرة عند ولادتها، وكانت تراه حيناً بعد حين في حياة الإمام العسكري(عليه السلام) وكانت من السفراء والأبواب بعد وفاة الإمام العسكري(عليه السلام).

أم الإمام المنتظر(عليه السلام)

أما السيدة نرجس(عليها السلام)(1) فقد كانت جليلة القدر،عظيمة المنزلة، لما ستتحمل من مسؤولية عظيمة، ألّا وهي أنها ستكون أم خاتم الأوصياء المهدي المنتظر صاحب العصر والزمان الحجة ابن الحسن(عليهما السلام).

نعم، هي متميزة بمكانة عالية عند اللّه عزّ وجلّ، فهي صديقة طاهرة، تقية نقية، رضية مرضية، وقد وردت لها زيارة خاصة بها يستدل بها على علو شأنها حيث ورد فيها:

«السلام على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) الصادق الأمين. السلام على مولانا أميرالمؤمنين. السلام على الأئمة الطاهرين الحجج الميامين. السلام على والدة الإمام، والمودعة أسرار الملك العلام، الحاملة لأشرف الأنام. السلام عليكِ أيتها الصديقة المرضية. السلام عليكِ يا شبيهة أم موسى، وابنة حواري عيسى. السلام عليكِ أيتها التقية النقية. السلام عليكِ أيتها الرضية المرضية. السلام عليكِ أيتها المنعوتة في الإنجيل، المخطوبة من روح اللّه الأمين، ومن رغب في وصلتها محمد سيد المرسلين، والمستودعة أسرار رب العالمين. السلام عليكِ وعلى آبائكِ الحواريين. السلام عليكِ وعلى بعلكِ وولدكِ. السلام عليكِ وعلى روحكِ وبدنكِ الطاهر. أشهد أنكِ أحسنتِ الكفالة، وأديتِ الأمانة، واجتهدتِ في مرضاة اللّه، وصبرتِ في ذات اللّه، وحفظتِ سر اللّه، وحملتِ ولي اللّه، وبالغتِ في حفظ حجة اللّه، ورغبتِ في وصلة أبناء رسول اللّه، عارفة بحقهم، مؤمنة بصدقهم، معترفة بمنزلتهم، مستبصرة بأمرهم، مشفقة عليهم، مؤثرة هواهم.

ص: 357


1- هي السيدة نرجس بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، واُمها من ولد الحواريين تنسب إلى شمعون وصي المسيح(عليه السلام). من أسمائها أيضاً: مليكة وصقيل وسوسن وريحانة ومريم. وقيل: حكيمة، وقيل: خمط. ولكن أشهر أسمائها: نرجس. وكنيتها: اُم محمد.

وأشهد أنكِ مضيتِ على بصيرة من أمركِ، مقتدية بالصالحين، راضية مرضية، تقية نقية زكية، فرضي اللّه عنكِ وأرضاكِ، وجعل الجنة منزلكِ ومأواكِ، فلقد أولاكِ من الخيراتِ ما أولاكِ، وأعطاكِ من الشرف ما به أغناكِ، فهناكِ اللّه بما منحكِ من الكرامة وأمراكِ»(1).

ومن الشواهد الدالة على عظم مكانتها، أنها ممن تُرجى شفاعتها، لما وصلت إليه من المراتب العالية، ففي الدعاء بعد زيارتها نقرأ:

«اللّهم إياك اعتمدت، ورضاك طلبت، وبأوليائك إليك توسلت، وعلى غفرانك وحلمك اتكلت، وبك اعتصمت، وبقبر أم وليك لذت، فصل على محمد وآل محمد، وانفعني بزيارتها، وثبتني على محبتها، ولا تحرمنيشفاعتها، وشفاعة ولدها عجل اللّه فرجه، وارزقني مرافقتها، واحشرني معها ومع ولدها صلى اللّه عليه، كما وفقتني لزيارة ولدها وزيارتها. اللّهم إني أتوجه إليك بالأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم، وأتوسل إليك بالحجج الميامين، من آل طه ويس، أن تصلي على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، وأن تجعلني من المطمئنين الفائزين، الفرحين المستبشرين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واجعلني ممن قبلت سعيه، ويسرت أمره، وكشفت ضره، وآمنت خوفه. اللّهم بحق محمد وآل محمد، صل على محمد وآل محمد، ولا تجعله آخر العهد من زيارتي إياها، وارزقني العود إليها، أبداً ما أبقيتني، وإذا توفيتني فاحشرني في زمرتها، وأدخلني في شفاعة ولدها وشفاعتها، واغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات، وآتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا برحمتك عذاب النار، والسلام عليكم يا

ص: 358


1- زاد المعاد: 539.

ساداتي ورحمة اللّه وبركاته»(1).

ببركتها زال البلاء

إن أهل البيت(عليهم السلام) أبواب اللّه، والحجج على العالمين بعد الأنبياء(عليهم السلام)، ولهم من الكرامات والمعاجز ما يعجز عن عدها وحصرها العادون. وإن السيدة نرجس(عليها السلام) هي - أيضاً - باب من أبواب اللّه تعالى، يقصده المحتاجون والمنكوبون، فلا يعودون إلّا بحوائج مقضية، وهموم مكشوفة بإذن اللّه تعالى.

ومن الشواهد الكثيرة على ذلك، ما نقل في أحوال العلامة الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) أنه قد أصاب مدينة سامراء مرض الطاعون، وأخذ من أهلها مأخذاً عظيماً، بحيث إن أهالي الموتى عجزوا عن دفن موتاهم، فأصبحوا يأتون بهمويتركونهم في الشوارع آنذاك. وفي شدة المحنة جاء الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) إلى منزل السيد محمد الفشاركي(رحمه الله) الذي كان في منزله مع كوكبة من العلماء، فدار البحث حول الوباء الذي يهدد حياة الجميع، وبينما هم على ذلك وإذا بالميرزا الشيرازي يلتفت إليهم قائلاً: إذا أصدرت حكماً فهل هو نافذ أم لا؟

فرد الجميع: نعم إنه نافذ ويجب إجراؤه.

فقال الميرزا: إني أصدرت حكماً على جميع الشيعة القاطنين في سامراء أن يقرؤوا زيارة عاشوراء من اليوم إلى عشرة أيام، ويهدوا ثوابها إلى روح السيدة نرجس(عليها السلام) والدة الإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، ليبتعد عنهم البلاء.

فأبلغ الحاضرون حكمه ذاك لجميع الشيعة، فشرع الموالون بقراءة الزيارة، وإذا بالطاعون يرتفع عنهم منذ قراءتهم للزيارة، بينما بقي غيرهم يموتون كالعادة حتى انجلى الأمر عن الجميع.

ص: 359


1- زاد المعاد: 540.

وقد سأل بعض أتباع المذاهب الأخرى أبناء الشيعة في سامراء عن سبب ارتفاع الطاعون عنهم فأخبروهم بالحال، فشرعوا أيضا بقراءة الزيارة وإهدائها إلى السيدة نرجس(عليها السلام)، فدفع البلاء عن الجميع.

نعم، فكما أن هناك من الرجال الأفذاذ العظماء يذكرهم التأريخ بكل إجلال وتبجيل، كذلك هناك الكثير من النساء اللواتي يقترن ذكرهن بالفضائل والكرامات والمعاني الإنسانية الرفيعة.

إذ لا يخفى، أن النساء على طول التاريخ يشكلن نصف خلق اللّه تعالى من الآدميين(1)، وهذا النصف يتوقف عليه تكامل الحياة الإنسانية واستمراريتها.

اختلاف الوظائف

يستفاد من النصوص الشرعية أحكام تستثني المرأة عن تولي بعض الوظائف والمهام؛ فلا يناط بها أمر القضاء(2)، ولا تتولى القتال في باب الجهاد، نعم قد تشارك في ميادين الحرب لا لأجل القتال بل لمداواة الجرحى وتقديم بعض المساعدات، وهذه الأحكام ليست نقصاً لها بل رعاية لمشاعرها، لأن تكوين المرأة النفسي والعاطفي لا يسمح بذلك.

حيث قد تتعارض عاطفتها مع عقلها، وربما تكون الغلبة والنصر للعاطفة... وهذه القضايا تقتضي في أغلب الموارد الجدية، والوقوف الحاسم الحازم؛ لذلك فهي لا تنسجم مع كيان المرأة العاطفي.

ولو حمَّلنا النساء هذه القضايا، نكون كمن وضع حمل الحديد الذي يزن عدة أطنان، الخاص بالشاحنات والسيارات الضخمة على السيارة الصغيرة التي لا

ص: 360


1- المراد من النصف: العرفي لا الهندسي والعددي.
2- انظر: جواهر الكلام 40: 14.

تتحمل إلّا أربعة أو خمسة أشخاص فقط، فالسيارة الصغيرة كاملة ومتكاملة من كل جهاتها الخاصة بها، ولكنها لا تنسجم مع حمل الحديد ولا يسعها ذلك، وهذه لا تعتبر نقصاً في السيارة الصغيرة، وكذلك بالنسبة للمرأة، وقد أثبتت التجربة بأن المرأة بفطرتها وخلقتها لا تنسجم مع هذه المناصب، وأحدهما غريب على الآخر.

إن ذلك لا يعني انتقاصاً من مكانة المرأة، بل لتخصصها وإعدادها لشؤون أخرى تقتضي مواصفاتها الجسمية والنفسية، كالتربية والتعليم، وتنشئة الجيل الصالح الذي يقود المجتمع في المستقبل. كما قال الشاعر:

الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيب الأعراق

الأم روض إن تعهّده الحيا *** بالري أورق أيّما إيراق

الأم أستاذ الأساتذة الألى *** شغلت مآثرهم مدى الآفاق(1)

أو ذلك الشاعر الذي يقول:

هي الأخلاق تنبت كالنبات *** إذا سقيت بماء المكرمات

تقوم إذا تعهدها المربي *** على ساق الفضيلة مثمرات

وتسمو للمكارم باتساق *** كما اتسقت أنابيب القناة

وتنعش من صميم المجد روحاً *** بأزهار لها متضوعات

ولم أر للخلائق من محل *** يهذبها كحضن الأمهات

فحضن الأم مدرسة تسامت *** بتربية البنين أو البنات

وأخلاق الوليد تقاس حسناً *** بأخلاق النساء الوالدات

ص: 361


1- الأبيات للشاعر حافظ إبراهيم الملقَّب بشاعر النيل.

وليس ربيب عالية المزايا *** كمثل ربيب سافلة الصفات

وليس النبت ينبت في جنان *** كمثل النبت ينبت في الفلاة(1)

المساواة بين الرجل والمرأة

لقد قام أدعياء التقدم والتطور في الشرق والغرب بظلم المرأة حيث جروها إلى الابتذال والفساد وكلّفوها فوق طاقاتها، وذلك برفعهم شعار: (المطالبة بمساواة المرأة مع الرجل في جميع الحقوق والواجبات وفي جميع مجالات الحياة)، ويقصدون من المساواة التشابه والتماثل في كل شيء؛ وهذا يستلزم أن يكونا متماثلين في التكوين الجسدي والنفسي أيضاً، مع أن الواقع لا يساعد على ذلك.نعم، إن الأصل في الإسلام هو المساواة بين الرجل والمرأة في كل الأمور إلّا ما خرج بالدليل وهو قليل جداً، ولذا فإن الإسلام قد أعطى المرأة كامل حقوقها، وضمن لها كرامتها وشرفها، وأبعدها عما يضرّ بها.

هذا والواقع الخارجي يدل على عدم تمكن المرأة من التصدي لكثير من تلك المناصب والمشاغل الصعبة، فلو أننا سألنا الغربيين أو الشرقيين كم هناك في بريطانيا - مثلاً - من النساء من حازت على منصب القضاء؟ وكم هناك في أمريكا من النساء من نالت منصب الوزارة أو رئاسة الحكومة؟ لكان جوابهم أنه قليل جداً(2).

إذن، هم أنفسهم عندما يطالبون بالمساواة لا يلتزمون بالمساواة في كل الأمور، مضافاً إلى أن المرأة ليست لها قدرة على التساوي مع الرجل في كل شيء، لأنها تتمتع بخصائص تكوينية تختلف عمّا عند الرجل؛ ولذلك فإن من

ص: 362


1- من قصيدة للشاعر معروف الرصافي.
2- خاصة لو لاحظنا النسبة العددية للنساء أمام الرجال، وتشدقهم الدائم بادعاء المساواة بين الرجل والمرأة.

الحكمة أن نعمل على صرف طاقات المرأة في المجالات التي تنسجم مع خصائصها الأنثوية، وتوجيه طاقات الرجل في المجالات الأخرى التي تناسب إمكاناته الرجولية أيضاً. والحكمة ليست إلّا وضع الشيء المناسب في مكانه المناسب كما أوضحه الإسلام، وإلّا لكان فوضى واختلالاً في النظام وأمور الحياة كما فعل الغرب بدعوته إلى المساواة.

تعدد الزوجات

أما ما يقال من أنه: لماذا يجوز تعدد الزوجات للرجل، ولا يجوز تعدد الأزواج للمرأة؟

فقد قال تبارك وتعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْخِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً}(1).

وعن محمد بن سنان، قال: إن الرضا(عليه السلام) كتب إليه في ما كتب من جواب مسائله علة تزويج الرجل أربع نسوة، فقال(عليه السلام): «وتحرم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد؛ لأن الرجل إذا تزوج أربع نسوة كان الولد منسوباً إليه، والمرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو؛ إذ هم المشتركون في نكاحها، وفي ذلك فساد الأنساب والمواريث والمعارف»(2)، وهذا من الحكمة في ذلك.

ثم إن الرجال هم أكثر عرضة للموت والمخاطر من النساء كما في الحروب، مضافاً إلى مخاطر الأعمال الشاقة والسفر الخطر في التجارة والتكسب وما أشبه، فتبقى الكثيرات بلا أزواج، فإن الإسلام قد حل هذه المسألة حيث أجاز للرجال الزواج بأكثر من واحدة، بشرط العدالة.

ص: 363


1- سورة النساء، الآية: 3.
2- علل الشرائع 2: 504.

ولا يخفى أن من أسباب تشويه سمعة هذا القانون عند البعض - طبعاً - إنما هو نابع من سوء سلوك بعض الرجال، وعدم عدالتهم في ما بين زوجاتهم، ولو كان الرجال الذين لهم عدة زوجات يراعون العدالة بين زوجاتهم، لما اصطبغ هذا القانون بصبغة سيئة عند البعض، فإنه باستطاعة الزوجتين أن تعيشا معاً وبلا مشاكل، وهذا مما لا يرفضه العقل ولا الفطرة.

ونحن نسأل: أيهما أفضل أن تعيش المرأة إلى آخر عمرها بدون زوج، أم أن تعيش في كنف رجل متزوج يراعي العدالة بينها بين الأخرى؟

حسن معاشرة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) مع زوجاته

رغم أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قد توفي عن تسع نساء، وأنه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان قد تزوج منخمسة عشر امرأة، إلّا أنه لم يروَ أي خبر عن سوء خلق أو عدم عدالة في ما بينهن، بل العكس من ذلك، فقد كان(صلی الله عليه وآله وسلم) يتحمل سوء معاملة بعضهن وإيذائهن له، حتى هدّدهن الباري تعالى في القرآن.

فقد ذكر أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أن زينب قالت لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): لا تعدل وأنت رسول اللّه! وقالت حفصة: إن طلقنا وجدنا أكفاءنا في قومنا. فاحتبس الوحي عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عشرين يوماً - قال - فأنف اللّه عزّ وجلّ لرسوله فأنزل: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْأخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}(1) - قال: - فاخترن اللّه ورسوله(صلی الله عليه وآله وسلم)، ولو اخترن أنفسهن لَبِنَّ، وإن اخترن اللّه ورسوله فليس بشيء»(2).

ص: 364


1- سورة الأحزاب، الآية: 28-29.
2- الكافي 6: 138.

ومما يروى عن عدالة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بين زوجاته وأخلاقه الكريمة، أنه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يجمع نساءه في كل ليلة ليسلّم عليهن ويسلّمن عليه، ويطلع على أحوالهن، ثم يطلب منهن أن تذهب كل واحدة إلى حجرتها. فقد روي أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يقسم بين أزواجه ويقول: «اللّهم هذا قسمي في ما أملك، فلا تؤاخذني في ما تملك ولا أملك»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به بينهن»(2).

وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج أسمهاأخرجها(3).

وروي: أن علياً(عليه السلام) كان له امرأتان فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى(4).

ولو تصرف كل من تزوج بعدة نساء مع نسائه كما فعل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وسعى لتوفير العدالة في ما بينهن، لزال ذلك الانطباع السيئ عن ذهن المجتمع حول تعدد الزوجات.

إذن، فإن قانون تعدد الزوجات إنما هو حل معقول لمشكلة كثير من النساء في المجتمع، مع العلم أن موضوع تعدد الزوجات لم يبتدئه الإسلام ابتداءً وإنما كان موجوداً فأقره الإسلام، ولكن الإسلام حدده ووضع له قيوداً وشروطاً خاصة.

وبنفس المنطق الغربي الذي يتشدق به دعاة المساواة بين المرأة والرجل في

ص: 365


1- عوالي اللئالي 2: 134.
2- تفسير مجمع البيان 3: 208.
3- انظر: مسالك الأفهام 8: 334.
4- وسائل الشيعة 21: 343.

الحقوق يمكن أن نسألهم: أليس حق الزواج من أهم حقوق الإنسان في المجتمع؟ وإن العمل بقانون الزوجة الواحدة يحرم شريحة كبيرة من النساء المؤهلات للزواج من هذا الحق، باعتبار زيادة عدد الإناث على الذكور؟!

وهذه الزيادة جلية وواضحة في الإحصاءات المأخوذة في غالبية بلدان العالم، ويكفي أن نعلم أن ألمانيا وعلى أثر الحروب التي نشبت بينها وبين الدول حرمت أعداداً كبيرة من النساء من الزواج، مما حدا بهن لمطالبة الحكومة بإلغاء قانون الزوجة الواحدة، وطلبت الحكومة الألمانية - على ما ذكر - من الجامع الأزهر تزويدها بالتوجيهات التي تخص موضوع تعدد الزوجات، ولكن الأمر لم يتم لاعتراض الكنيسة آنذاك، إذ فضلت شيوع الفاحشة على تبنيالحكم الإسلامي القائل بتعدد الزوجات.

ثم إن مسألة تعدد الزوجات ليست واجبة، وإنما أباحها الإسلام مقابل شروط وحسابات هي فوق اعتبارات الغريزة؛ لحماية المجتمع الإنساني من الفقر وسد النقص، ولذلك لم نجد حالة من الهرج والمرج جراء إباحة تعدد الزوجات، بل العكس فما نراه اليوم من تفكك الأسر، وفساد العلاقات الإنسانية، وشيوع الأمراض الجنسية، ما هو إلّا بسبب الإباحية، والتخبط في العلاقة بين الرجل والمرأة.

المرأة ظُلمت مرتين

اشارة

لقد ظلم الغربيون المرأة في شخصيتها الاجتماعية والعائلية، من خلال أساليب وممارسات مغلوطة؛ إذ أنهم في الواقع أرادوا استخدامها كوسيلة للكسب المادي الرخيص، عندما جعلوها سلعة سهلة رخيصة في متناول الجميع، وأداة إمتاع لإرضاء وإشباع الغرائز والشهوات المنحرفة والمحرمة، ودفعوها إلى الوقوع في المحذورات، فأبعدوها عن دورها التربوي الإنساني العظيم والمحتشم، فكانوا بذلك قد انتهكوا إنسانيتها وحقوقها الاجتماعية

ص: 366

وعفتها، ولكنهم غلّفوا جميع هذه الانتهاكات - لمكانة وشخصية المرأة المسكينة - بطابع المطالبة بحرية المرأة والمساواة مع الرجل.

ومن جانب آخر نجد بعض المسلمين يضع المرأة في زاوية ضيقة، ويمنعها من حقوقها المادية والإنسانية، ومن أداء دورها في الأسرة وفي المجتمع بشكل مشروع، وهي جاهلية جديدة، ومورثات وتقاليد اجتماعية ليست من الدين في شيء. وكانت النتيجة أن ظُلمت المرأة تارة بيد الغربيين والشرقيين من غير المسلمين، وأخرى بيد بعض المسلمين.

وبإلقاء نظرة سريعة على معاملة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة(عليهم السلام) للمرأة، يتضحلنا كيف أنه(صلی الله عليه وآله وسلم) حفظ للمرأة كافة حقوقها، وأشركها في الميادين الاجتماعية والحيوية، وذلك مع مراعاة العفة وخصوصيات المرأة التكوينية.

فقد روي - كما سبق - عن عائشة: (أن فاطمة(عليها السلام) كانت إذا دخلت على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قام لها من مجلسه وقبّل رأسها وأجلسها مجلسه، وإذا جاء إليها لقيته وقبَّل كل واحد منهما صاحبه وجلسا معاً).

وروي: (كان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا أراد سفراً كان آخر الناس عهداً بفاطمة، وإذا قدم كان أول الناس عهداً بفاطمة(عليها السلام)).

ولو لم يكن لها(عليها السلام) عند اللّه تعالى فضل عظيم لم يكن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يفعل معها ذلك.

وعن عبد اللّه بن الحسن قال: دخل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) على فاطمة فقدمت إليه كسرة يابسة من خبز شعير فأفطر عليها، ثم قال: «يا بنية، هذا أول خبز أكل أبوكِ منذ ثلاثة أيام». فجعلت فاطمة تبكي ورسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يمسح وجهها بيده(1).

ص: 367


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 333.

وحتى مشاركة المرأة للرجل في الأمور السياسية في عصر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كانت واضحة من خلال بيعة النساء للنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة، فعند ما فرغ(صلی الله عليه وآله وسلم) من بيعة الرجال جاءت النساء إليه يبايعنه، فنزلت الآية الكريمة: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَٰتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَئًْا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٖ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٖ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).

فإنها نزلت يوم فتح مكة، وذلك أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قعد في المسجد يبايع الرجال إلى صلاة الظهر والعصر، ثم قعد لبيعة النساء وأخذ قدحاً من ماء،فأدخل يده فيه، ثم قال للنساء:

«من أرادت أن تبايع فلتدخل يدها في القدح؛ فإني لا أصافح النساء».

ثم قرأ(صلی الله عليه وآله وسلم) عليهن ما أنزل اللّه من شروط البيعة عليهن، فقال: «{عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَئًْا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٖ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٖ فَبَايِعْهُنَّ}(2)»(3).

ولعل الوجه في بيعة النساء مع أنهن لسن من أهل النصرة بالمحاربة، هو أخذ العهد عليهن بما يصلح من شأنهن في الدين والأنفس والأزواج.

بطولة المرأة

كان للنساء المسلمات أدوار عديدة ومهمة في التاريخ الإسلامي، كما في صدر الإسلام وخاصة في الحالات الضرورية، وقد استفاد النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) من طاقات المرأة حتى في الحروب لكن بشكل يتناسب مع شأن المرأة كمداواة الجرحى،

ص: 368


1- سورة الممتحنة، الآية: 12.
2- سورة الممتحنة، الآية: 12.
3- تفسير القمي 2: 364.

وربما كانت ترى المرأة ضرورة الخوض في المعركة، وذلك في الحالات الاضطرارية جداً للدفاع عن حريم الإسلام وشخص رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

ففي غزوة أحد قامت أم عمارة (نسيبة بنت كعب) بالدفاع عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) في أحرج المواقف التي مرت خلال هذه الحرب، وكانت تصول وتجول بين يدي الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) حتى قال عنها(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما التفت يميناً وشمالاً إلّا وأنا أراها تقاتل دوني»(1).

وحينما جرح ابنها عمارة في ذراعه ضمدتها ودفعته للقتال مرة أخرى، وهي تقول له: قم يا بني، فضارب القوم وجاهد في سبيل اللّه، فيلتفتإليها الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) قائلاً: «ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟»(2).

روي أنه: في معركة أحد لم يبق مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلّا أبو دجانة سماك بن خرشة، وأمير المؤمنين(عليه السلام)، وكلما حملت طائفة على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) استقبلهم أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه)، فيدفعهم عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ويقتلهم حتى انقطع سيفه، وبقيت مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) نسيبة بنت كعب المازنية، وكانت تخرج مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في غزواته تداوي الجرحى، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع فحملت عليه، فقالت: يا بني، إلى أين تفر عن اللّه وعن رسوله؟ فردته فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها، فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «بارك اللّه عليك يا نسيبة»(3).

وكانت تقي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بصدرها وثدييها ويديها حتى أصابتها جراحات كثيرة(4).

ص: 369


1- شرح نهج البلاغة 14: 268.
2- شرح نهج البلاغة 14: 267.
3- تفسير القمي 1: 115.
4- تفسير القمي 1: 115.

ونظر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة، فناداه: «يا صاحب الترس، ألق ترسك ومر إلى النار». فرمى بترسه، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «يا نسيبة، خذي الترس». فأخذت الترس وكانت تقاتل المشركين، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان وفلان»(1).

وفي شرح النهج: وكانت أم سعد بنت سعد بن الربيع تحدث، فتقول: دخلت عليها فقالت لها: يا خالة حدثيني خبرك؟ فقالت: خرجت أول النهار إلى اُحد،وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو في الصحابة والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فجعلت أباشر القتال، وأذب عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بالسيف، وأرمي بالقوس حتى خلصت إليَّ الجراح، فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور. فقلت: يا أم عمارة، مَن أصابك بهذا؟ قالت: أقبل ابن قميئة - وقد ولى الناس عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) - يصيح: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا. فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه، فكنت فيهم فضربني هذه الضربة. ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو اللّه كان عليه درعان. فقالت لها: يدك ما أصابها؟ قالت: أصيبت يوم اليمامة، لما جعلت الأعراب تنهزم بالناس، نادت الأنصار: أخلصونا فأخلصت الأنصار، فكنت معهم حتى انتهينا إلى حديقة الموت، فاقتتلنا عليها ساعة حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة، ودخلتها وأنا أريد عدو اللّه مسيلمة، فيعرض لي رجل فضرب يدي فقطعها، فو اللّه، ما كانت ناهية ولا عرجت عليها حتى وقفت على الخبيث مقتولاً، وابني عبد اللّه بن يزيد المازني

ص: 370


1- تفسير القمي 1: 115.

يمسح سيفه بثيابه. فقلت: أقتلته؟ قال: نعم. فسجدت شكرا للّه عزّ وجلّ وانصرفت.

وقال الواقدي: وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحداً تسقي الماء، قال: سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول يومئذ: «لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان». وكان يراها يومئذٍ تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: ليت الراوي لم يكنِ هذه الكناية وكان يذكرهما باسمهما، حتى لا تترامى الظنون إلى أمور مشتبهة، ومن أمانة المحدثأن يذكر الحديث على وجهه، ولا يكتم منه شيئاً، فما باله كتم اسم هذين الرجلين(1).

أما العلامة المجلسي(رحمه الله) فقد علق على كلام ابن أبي الحديد فقال:

أقول: إن الراوي لعله كان معذوراً في التكنية باسم الرجلين تقية، وكيف كان يمكنه التصريح باسم صنمي قريش وشيخي المخالفين، الذين كانوا يقدمونهما على أمير المؤمنين(عليه السلام)، مع أن كنايته أبلغ من الصريح؛ إذ الظاهر أن الناس كانوا لا يبالون بذكر أحد من الصحابة بما كان واقعاً إلّا بذكرهما وذكر ثالثهما. وأما سائر بني أمية وأجداد سائر خلفاء الجور فلم يكونوا حاضرين في هذا المشهد في عسكر المسلمين، حتى يكنى بذكرهم تقية من أولادهم وأتباعهم، وقد تقدم في رواية علي بن إبراهيم ذكر الثالث أيضا معهما، وذكره كان أولى لأن فراره كان أعرض، وسيأتي القول في ذلك. انتهى كلام المجلسي(رحمه الله)(2).

ص: 371


1- شرح نهج البلاغة 14: 265.
2- بحار الأنوار 20: 133.

إلى أن قال الواقدي: فلما حضرت نسيبة الوفاة كنت في من غسلها، فعددت جراحها جرحاً جرحاً فوجدتها ثلاثة عشر، وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها لقد داوته سنة، ثم نادى منادي النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بعد انقضاء أحد إلى حمراء الأسد، فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم، ولقد مكثنا ليلتنا نكمد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) من حمراء الأسد لم يصل إلى بيته، حتى أرسل إليها عبد اللّه بن كعب المازني يسأل عنها، فرجع إليه فأخبره بسلامتها فسر بذلك.

قال الواقدي: وحدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية، قال: قالت أم عمارة:لقد رأيتني وانكشف الناس عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فما بقي إلّا نفير ما يتمون عشرة، وأنا وأبنائي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون عنه منهزمين، فرآني ولا ترس معي ورأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال: «يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى من يقاتل». فألقى ترسه فأخذته، فجعلت أترس به على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، ولو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم، فيقبل رجل على فرس فضربني وترست له، فلم يصنع سيفه شيئاً وولى، وأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يصيح: «يا ابن عمارة، أمك أمك». قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب.

قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد اللّه بن زيد المازني، قال: جرحت جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجل كأنه الرقل، ولم يعرج عليَّ ومضى عني، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «اعصب جرحك». فتقبل أمي إليَّ ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح، فربطت جرحي والنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) واقف ينظر، ثم قالت: انهض يا بني فضارب القوم، فجعل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «ومن يطيق ما تطيقين يا أم

ص: 372

عمارة؟». قالت: وأقبل الرجل الذي ضربني، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «هذا ضارب ابنكِ». فاعترضت أمي له فضربت ساقه فبرك، فرأيت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) تبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال: «استقدتِ يا أم عمارة». ثم أقبلنا نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «الحمد للّه الذي ظفركِ، وأقر عينكِ من عدوكِ، وأراكِ ثأركِ بعينكِ»(1).

وفي رواية أخرى قال: والنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) ينظر إليَّ ويتبسم، فنظر إلى جرح بأميعلى عاتقها، فقال: «أمك أمك، اعصب جرحها، بارك اللّه عليكم من أهل بيت، لمقام أمك خير من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك - يعني زوج أمه - خير من مقام فلان، رحمكم اللّه من أهل بيت». فقالت أمي: ادع لنا اللّه يا رسول اللّه أن نرافقك في الجنة؟ فقال: «اللّهم اجعلهم رفقائي في الجنة». قالت: فما أبالي ما أصابني من الدنيا(2).

وقال الواقدي: وخرجت فاطمة(عليها السلام) في نساء وقد رأت الذي بوجه أبيها(صلی الله عليه وآله وسلم) فاعتنقته، وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ورسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «اشتد غضب اللّه على قوم دموا وجه رسوله»(3).

وروى محمد بن إسحاق: أن علياً(عليه السلام) قال لفاطمة بيتي شعر، وهما:

أفاطم هاكِ السيف غير ذميم *** فلست برعديد ولا بلئيم

لعمري لقد جاهدت في نصر أحمد *** وطاعة رب بالعباد رحيم

ص: 373


1- شرح نهج البلاغة 14: 266.
2- شرح نهج البلاغة 14: 269.
3- شرح نهج البلاغة 15: 35.

وقال الواقدي: فلما أحضر علي(عليه السلام) الماء أراد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يشرب منه فلم يستطع وقد كان عطشاً، ووجد ريحاً من الماء كرهها، فقال: «هذا ماء آجن». فتمضمض منه للدم الذي كان بفيه ثم مجه. وغسلت فاطمة به الدم عن أبيها(صلی الله عليه وآله وسلم).

فخرج محمد بن مسلمة يطب مع النساء، وكن أربع عشرة امرأة قد جئن من المدينة يتلقين الناس، منهن فاطمة(عليها السلام) يحملن الطعام والشراب على ظهورهن،ويسقين الجرحى ويداوينهم.

قال الواقدي: قال كعب بن مالك: رأيت عائشة وأم سليم على ظهورهما القرب تحملانها يوم أحد، وكانت حمنة بنت جحش تسقي العطشى وتداوي الجرحى، فلم يجد محمد بن مسلمة عندهن ماء، ورسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قد اشتد عطشه، فذهب محمد بن مسلمة إلى قناة ومعه سقاؤه حتى استقى من حسى قناة عند قصور التميميين اليوم، فجاء بماء عذب فشرب منه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ودعا له بخير، وجعل الدم لا ينقطع من وجهه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو يقول: «لن ينالوا منا مثلها حتى نستلم الركن». فلما رأت فاطمة(عليها السلام) الدم لايرقأ وهي تغسل جراحه، وعلي(عليه السلام) يصب الماء عليها بالمجن، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم، ويقال: إنها داوته بصوفة محرقة. وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بعد يداوي الجراح الذي في وجهه بعظم بال حتى ذهب أثره، ولقد مكث يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهراً أو أكثر من شهر، ويداوي الأثر الذي في وجهه بعظم(1).

قال الواقدي: وخرجت السمداء بنت قيس إحدى نساء بني دينار، وقد أصيب

ص: 374


1- شرح نهج البلاغة 15: 35.

ابناها مع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بأحد: النعمان بن عبد عمر، وسليم بن الحارث، فلما نعيا لها قالت: فما فعل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)؟

قالوا: بخير، هو بحمد اللّه صالح على ما تحبين.

فقالت: أرونيه أنظر إليه.

فأشاروا لها إليه.فقالت: كل مصيبة بعدك يا رسول اللّه جلل.

وخرجت تسوق بابنيها بعيراً تردهما إلى المدينة، فلقيتها عائشة.

فقالت: ما وراءكِ؟ فأخبرتها.

قالت: فمن هؤلاء معكِ؟

قالت: ابناي، حل حل(1)

تحملهما إلى القبر(2).

الإمامة في الصلاة

ومما يدل على مكانة المرأة في الإسلام، أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) جعلها إماماً لجماعة النساء في الصلاة، وكانت أول امرأة انتخبت لهذا المنصب المهم هي أم ورقة(3).

الحضور في ميادين العلم

وهناك الكثير من الشواهد التي تبين اهتمام الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)

ص: 375


1- حل حل: كلمة زجر للبعير كي يتحرك.
2- شرح نهج البلاغة 15: 37.
3- انظر: تذكرة الفقهاء 4: 336، ووسائل الشيعة 8: 336 أم ورقة: هي بنت عبد اللّه بن الحارث بن عمير بن نوفل الأنصارية: ويقال لها بنت نوفل، فنسبت إلى جدها الأعلى، وهي التي استأذنت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) في الخروج إلى بدر وقالت: لعل اللّه يرزقني الشهادة، فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «اقعدي في بيتك، فإن اللّه سيهدي اليك الشهادة في بيتك» وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يزورها ويسميها الشهيدة، وقد أمرها أن تؤم أهل دارها وأن تتخذ في دارها مؤذناً.

بمكانة المرأة والتعامل معها كعنصر فعال في المجتمع، ومن ذلك وجوب طلب العلم عليها، حيث قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، فاطلبوه في مظانه، واقتبسوه من أهله؛ فإن تعليمه للّه حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذلهلأهله قربة إلى اللّه تعالى»(1).

اتقوا اللّه في النساء

اشارة

وفي حديث الحولاء أنها قالت: يا رسول اللّه، صلى اللّه عليك، هذا كله للرجل؟!

قال: «نعم».

قالت: فما للنساء على الرجال؟

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أخبرني أخي جبرئيل ولم يزل يوصيني بالنساء حتى ظننت أن لا يحل لزوجها أن يقول لها: أف.

يا محمد، اتقوا اللّه عزّ وجلّ في النساء؛ فإنهن عوان بين أيديكم، أخذتموهن على أمانات اللّه عزّ وجلّ ما استحللتم من فروجهن بكلمة اللّه وكتابه، من فريضة وسنة وشريعة محمد بن عبد اللّه، فإن لهن عليكم حقاً واجباً لما استحللتم من أجسامهن، وبما واصلتم من أبدانهن، ويحملن أولادكم في أحشائهن حتى أخذهن الطلق من ذلك. فأشفقوا عليهن، وطيبوا قلوبهن حتى يقفن معكم، ولا تكرهوا النساء، ولا تسخطوا بهن، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلّا برضاهن وإذنهن»(2).

ص: 376


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 176.
2- مستدرك الوسائل 14: 252.

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أحسن الناس إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله، وأنا ألطفكم بأهلي»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «فأي رجل لطم امرأته لطمة، أمر اللّه عزّ وجلّ مالكاً خازن النيرانفيلطمه على حر وجهه سبعين لطمة في نار جهنم، وأي رجل منكم وضع يده على شعر امرأة مسلمة سمّر كفه بمسامير من نار»(2).

العلوية المزمنة

وهناك قصص عديدة تدل على مكانة المرأة المسلمة عند اللّه عزّ وجلّ، نشير إلى بعضها:

يذكر أنه: كانت في شارع دار الرقيق ببغداد جارية علوية، أقامت مزمنة نحو خمس عشرة سنة، وكان رجل يتفقدها ويبرها، وكانت مسجّاة لا تنقلب من جنب إلى جنب حتى تُقلب، ولا تقعد حتى تُقعد، وكان لها من يخدمها في ذلك، وكانت فقيرة لا قوت لها هي وخادمتها إلّا مما تبرها الناس. فلما مات الرجل اختل أمرها، فبلغ جارية الوزير المهلبي خبرها فكانت تقوم بأمرها، وأجرت عليها جراية في كل شهر، وكسوة في كل سنة.

قال: فباتت ليلة من الليالي على حالها تلك، ثم أصبحت من غد وقد بُرئت ومشت، وقامت وقعدت. فقالت: إني ضجرت من نفسي ضجراً شديداً، فدعوت اللّه عزّ وجلّ طويلاً بالفرج مما أنا فيه أو بالموت، وبكيت بكاء متصلاً، وبت وأنا قلقلة متألمة ضجرة، وكان سبب ذلك: أن الخادمة تضجرت وخاطبتني بما ضاق منه صدري، فلما استثقلت في نومي دخل عليَّ رجل فارتعدت منه، وقلت: يا

ص: 377


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 38.
2- مستدرك الوسائل 14: 250.

هذا، كيف تستحل أن تراني؟

فقال: «أنا أبوك». فظننته أمير المؤمنين(عليه السلام).

فقلت: يا أمير المؤمنين، ما ترى ما أنا فيه؟

فقال: «أنا أبوك محمد رسول اللّه».فبكيت، وقلت: يا رسول اللّه، ادع لي بالعافية. قالت: فحرك(صلی الله عليه وآله وسلم) شفتيه بشيء لم أفهمه، ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «هاتي يديكِ». فأعطيته يدي، فأخذها وجذبني بهما فقمت.

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم) لي: «امشي على اسم اللّه تعالى».

فقلت: كيف أمشي؟

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «يديكِ»، فأخذهما وما زال يمشي وهما في يديه ساعة. ثم أجلسني حتى فعل بي ذلك ثلاث مرات، ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «قد وهب اللّه عزّ وجلّ لك العافية فاحمديه واتقيه»، وتركني ومضى.

فانتبهت وأنا لا أشك أنه واقف لسرعة المنام، فصحت فظنت الجارية أني أريد قضاء الحاجة فتثاقلت.

فقلت: ويحكِ أسرجي السراج، فإني رأيت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم). فانتبهت المرأة فوجدتني مسجاة فشرحت لها المنام.

فقالت: أرجو أن يكون اللّه عزّ وجلّ قد وهب لك العافية، هاتي يديكِ فأعطيتها يدي فأجلستني - ثم قالت لي - قومي. فقمت معها ومشيت متوكئة عليها، ثم جلست وفعلت ذلك ثلاث مرات، الأخيرة منهن مشيت وحدي، فصاحت الخادمة سروراً بالحال وإعظاماً لها، فقدّر الجيران أني قد متّ، فجاءوني فقمت ومشيت معهم.

قالوا: وما زالت قوتها تزيد وكانت من أصلح النساء وأورعهن في أهل زمانها،

ص: 378

وقد زوجت من رجل علوي موسر، وصلحت حالها ولا تعرف إلّا بالعلوية المزمنة(1).

في مواجهة الطغاة

استأذنت سودة بنت عمارة بن الأسك الهمدانية على معاوية ابن أبي سفيان فأذن لها، فلما دخلت عليه.

قال: هيه يا بنت الأسك، أ لستِ القائلة يوم صفين:

شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة *** يوم الطعان وملتقى الأقران

وانصر علياً والحسين ورهطه *** واقصد لهند وابنها بهوان

إن الإمام أخو النبي محمد *** علم الهدى ومنارة الإيمان

فَقِهِ الحتوف وسر أمام لواءه *** قدماً بأبيض صارم وسنان

قالت: أي واللّه، ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب.

قال لها: فما حملكِ على ذلك؟

قالت: حب علي(عليه السلام) وإتباع الحق... .

ثم قالت: إنك أصبحتَ للناس سيداً، ولأمرهم متقلداً، واللّه سائلك من أمرنا، وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يقدم علينا من ينوء(2) بعزك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسلبنا الجليلة، هذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك، فقتل رجالي، وأخذ مالي، يقول لي: فوهي بما استعصم اللّه منه والجأ إليه فيه، ولو لا الطاعة لكان فينا عزّ ومنعة، فأما عزلته عنا فشكرناك، وأما لا فعرفناك.

ص: 379


1- الفرج بعد الشدة 1: 181-183.
2- ينوء: أي ينهض.

فقال معاوية: أ تهدديني بقومك، لقد هممت أن أحملكِ على قتب أشرس، فأردكِ إليه ينفذ فيكِ حكمه.

فأطرقت تبكي ثم أنشأت تقول:

صلى الإله على جسم تضمنه *** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً *** فصار بالحق والإيمان مقرونا

قال لها: ومن ذلك؟

قالت: علي بن أبي طالب(عليه السلام).

قال: وما صنع بكِ حتى صار عندكِ كذلك؟

قالت: قدمتُ عليه في رجل ولاه صدقتنا قدم علينا من قبله، فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين، فأتيت علياً(عليه السلام) لأشكو إليه ما صنع فوجدته قائماً يصلي، فلما نظر إليَّ انفتل من صلاته، ثم قال لي برأفة وتعطف: «أ لكِ حاجة؟».

فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: «اللّهم إنك أنت الشاهد عليَّ وعليهم، أني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك». ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجواب، فكتب فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}(1) {وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ}(2) إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام».

فأخذته منه، واللّه ما ختمه بطين، ولا خزمه بخزام، فقرأته.

ص: 380


1- سورة الأعراف، الآية: 85.
2- سورة هود، الآية: 85-86.

فقال لها معاوية: لقد لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئاً ما تفطمون - ثم قال - اكتبوا لها برد مالها، والعدل عليها.

قالت: أ لي خاص أم لقومي عام؟

قال: ما أنت وقومكِ؟

قالت: هي واللّه إذن الفحشاء واللؤم، إن لم يكن عدلاً شاملاً وإلّا فأنا كسائر قومي.

قال: اكتبوا لها ولقومها(1).

معاوية وسجن النساء

لما قُتل علي بن أبي طالب(عليه السلام)، بعث معاوية في طلب شيعته، فكان في من طلب عمرو بن الحمق الخزاعي، فراغ منه فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد، فحبسها في سجن دمشق سنتين، ثم إن عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة فقتله، وبعث برأسه إلى معاوية، وهو أول رأس حمل في الإسلام، فلما أتى معاوية الرسول بالرأس بعث به إلى آمنة في السجن، وقال للحرسي: احفظ ما تتكلم به حتى تؤديه إليَّ، واطرح الرأس في حجرها.

ففعل هذا، فارتاعت له ساعة، ثم وضعت يدها على رأسها، وقالت: وا حزنا لصغره في دار هوان، وضيق من ضيمه سلطان، نفيتموه عني طويلاً وأهديتموه إليَّ قتيلاً، فأهلاً وسهلاً بمن كنت له غير قالية، وأنا له اليوم غير ناسية. ارجع به أيها الرسول إلى معاوية فقل له - ولا تطوه دونه - : أيتم اللّه ولدك، وأوحش منك أهلك، ولا غفر لك ذنبك.

فرجع الرسول إلى معاوية فاخبره بما قالت، فأرسل إليها فأتته وعنده نفر فيهم

ص: 381


1- بلاغات النساء: 47.

أياس بن حسل، أخو مالك بن حسل، وكان في شدقيه نتوء(1) عن فيه، لعظم كان في لسانه، وثقل إذا تكلم.فقال لها معاوية: أأنتِ يا عدوة اللّه صاحبة الكلام الذي بلغني؟!

قالت: نعم، غير نازعة عنه، ولا معتذرة منه، ولا منكرة له، فلعمري لقد اجتهدت في الدعاء إن نفع الاجتهاد، وأن الحق لمن وراء العباد، وما بلغت شيئاً من جزائك، وأن اللّه بالنقمة من ورائك. فأعرض عنها معاوية.

فقال أياس: أقتل هذه يا أمير...، فو اللّه ما كان زوجها أحق بالقتل منها.

فالتفتت إليه، فلما رأته ناتئ الشدقين، ثقيل اللسان، قالت: تباً لك، ويلك بين لحيتيك كجثمان الضفدع، ثم أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس، {إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}(2).

فضحك معاوية، ثم قال: للّه دركِ أُخرجي، ثم لا أسمع بكِ شيء من الشام.

قالت: وأبي لأخرجن، ثم لا تسمع لي في شيء من الشام، فما الشام لي بحبيب، ولا أُعرج فيها على حميم، وما هي لي بوطن، ولا أحن فيها إلى سكن، ولقد عظم فيها ديتي، وما قرت فيها عيني، وما أنا فيها إليك بعائدة، ولا حيث كنت بحامدة.

فأشار إليها ببنانه أُخرجي، فخرجت وهي تقول: وا عجبي لمعاوية، يكف عني لسانه، ويشير إليَّ الخروج ببنانه، أما واللّه ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد سديد، أوجع من نوافذ الحديد، أو ما أنا بابنة الشريد(3).

ص: 382


1- نتوء: انتفاخ.
2- سورة القصص، الآية: 19.
3- بلاغات النساء: 87.

ماذا تقول لربك يا معاوية؟

يذكر أن امرأة دخلت على معاوية كأنها قلعة ومعها جاريتان لها، ... ثمقالت: الحمد للّه يا معاوية الذي خلق اللسان، فجعل فيه البيان، ودل به على النعم، وأُجري به القلم، في ما أُبرم وحتم، ودرأ وبرأ، وحكم وقضا، صرف الكلام باللغات المختلفة على المعاني المتفرقة، ألفها بالتقديم والتأخير، والأشباه والمناكر، والموافقة والتزايد، فأدته الآذان إلى القلوب، وأدته القلوب إلى الألسن، بالبيان استدل به على العلم، وعُبد به الرب، وأُبرم به الأمر، وعُرفت به الأقدار، وتمت به النعم، فكان من قضاء اللّه وقدره أن قربت زياداً، وجعلت له بين آل سفيان نسباً، ثم وليته أحكام العباد، يسفك الدماء بغير حلها ولا حقها، ويهتك الحرم بلا مراقبة اللّه فيها، خؤون غشوم، كافر ظلوم، يتخير من المعاصي أعظمها، لا يرى للّه وقاراً، ولا يظن أن له معاداً، وغداً يعرض عمله في صحيفتك، وتوقف على ما اجترم بين يدي ربك، ولك برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أسوة، وبينك وبينه صهر، فلا الماضين من أئمة الهدى اتبعت، ولا طريقتهم سلكت، جعلت عبد ثقيف على رقاب أمة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) يدبر أمورهم، ويسفك دماءهم، فماذا تقول لربك يا معاوية، وقد مضى من أجلك أكثره، وذهب خيره، وبقي وزره.

إني امرأة من بني ذكوان، وثب زياد المدعى إلى أبي سفيان، على ضيعتي التي ورثتها عن أبي وأمي، فغصبنيها وحال بيني وبينها، وقتل من نازعه فيها من رجالي، فأتيتك مستصرخة، فإن أنصفت وعدلت، وإلّا وكلتك وزياد إلى اللّه عزّ وجلّ، فإن تبطل ظلامتي عندك ولا عنده، والمنصف لي منكما حكم عدل.

فبهت معاوية ينظر إليها متعجباً من كلامها، ثم قال: ما لزياد لعن اللّه زياداً،

ص: 383

فإنه لا يزال يبعث على مثالبه من ينشرها، وعلى مساويه من يثيرها. ثم أمر كاتبهبالكتاب إلى زياد يأمره بالخروج إليها من حقها(1).

الإسلام رفع شأن المرأة

والخلاصة: إن الإسلام بكتابه الكريم وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم)وسيرة أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) أجلَّ شأن المرأة وبيّن مسؤولياتها، وضمن لها مكانتها العالية ودورها السامي في المجتمع التي حباها اللّه تعالى بها، وأراد لها العزة والرفعة، وعمل على استنقاذها من الظلم والحيف الذي وقع عليها سابقاً وسيقع لاحقاً. ومنع استغلالها كوسيلة لإشباع الشهوات والرغبات، وسعى في وضعها في مكانتها اللائقة الكريمة التي أكرمها اللّه بها، من حيث إنها تتساوى في الإنسانية مع الرجل، كما قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2).

وفي الدعاء:

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة... واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدد أسماعنا عن اللغو والغيبة، وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع

ص: 384


1- بلاغات النساء: 90.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.

والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

نساء صالحات

قال سبحانه: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ}(3).

وقال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَٰهَا بِإِسْحَٰقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَٰقَ يَعْقُوبَ}(4).

وقال سبحانه: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}(5).

نساء غير صالحات

قال عزّ وجلّ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٖ وَامْرَأَتَ لُوطٖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَٰلِحَيْنِ}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدِ}(7).

ص: 385


1- المصباح للكفعمي: 280.
2- سورة آل عمران، الآية: 35.
3- سورة التحريم، الآية: 11.
4- سورة هود، الآية: 71.
5- سورة الأحزاب، الآية: 50.
6- سورة التحريم، الآية: 10.
7- سورة المسد، الآية: 4- 5.

المرأة والزواج

قال اللّه تعالى: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(1).

وقال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَٰجًا وَذُرِّيَّةً}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً}(4).

وقال اللّه تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ}(5).

تعدد الزوجات والعدالة

قال سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَٰمَىٰ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً}(6).

الحجاب واجب للمرأة المسلمة

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}(7).

ص: 386


1- سورة النور، الآية: 32.
2- سورة الروم، الآية: 21.
3- سورة الرعد، الآية: 38.
4- سورة النساء، الآية: 4.
5- سورة النساء، الآية: 34.
6- سورة النساء، الآية: 3.
7- سورة الأحزاب، الآية: 59.

من هدي السنّة المطهّرة

في فضل المرأة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا بني...، ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها؛ فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن من خير نسائكم الولود الودود، الستيرة العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرجة مع زوجها... التي تسمع قوله وتطيع أمره»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تحملوا النساء أثقالكم واستغنوا عنهن ما استطعتم...»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «جهاد المرأة حسن التبعل»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً»(5).

نساء صالحات

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلّا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد»(6).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه تبارك تعالى... اختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة»(7).

ص: 387


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) يوصي بها الإمام الحسن(عليه السلام).
2- من لا يحضره الفقيه 3: 389.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 764.
4- الكافي 5: 9.
5- الكافي 5: 324.
6- تفسير مجمع البيان 10: 65.
7- الخصال 1: 225.

المرأة والزواج

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تزوجوا فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كثيراً ما كان يقول: من كان يحب أن يتبع سنتي فليتزوج فإن من سنتي التزويج»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ولو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آية محكمة ولا سنة متبعة ولا أثر مستفيض، لكان في ما جعل اللّه من بر القريب، وتأليف القلوب، ... ما يرغب في دونه العاقل اللبيب، ويسارع إليه الموفق المصيب...»(4).

المرأة في الإسلام

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير نسائكم الخمس». قيل: يا أمير المؤمنين وما الخمس؟ قال: «الهينة اللينة المواتية، التي إذا غضب زوجها لم تكتحل بغمض حتى يرضى، والتي إذا غاب زوجها حفظته في غيبته، فتلك عامل من عمال اللّه...»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «كنت قاعداً في البقيع مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في يوم دجن ومطر، إذ مرت امرأة على حمار فهوت يد الحمار في وهدة فسقطت

ص: 388


1- النوادر للراوندي: 35.
2- بحار الأنوار 100: 220.
3- الخصال 2: 614.
4- الكافي 5: 373.
5- الكافي 5: 325.

المرأة، فأعرض النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بوجهه، قالوا: يا رسول اللّه، إنها متسرولة؟ قال: اللّهم اغفر للمتسرولات - ثلاثاً - يا أيها الناس، اتخذوا السراويلات فإنها من أستر ثيابكم، وحصنوا بها نساءكم إذا خرجن»(1).

وقال(عليه السلام): «صيانة المرأة أنعم لحالها وأدوم لجمالها»(2).

ص: 389


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 78.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 418.

المرأة في ظل الإسلام

حقوق المرأة

اشارة

قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ}(1).

وقال سبحانه: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}(3).

وقال تعالى: {ئََٰادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}(4).

إلى غيرها من الآيات الشريفة، مضافاً إلى الكثير من الروايات الدالة على حقوق المرأة ولزوم احترامها وحفظ كرامتها.

دعاة المساواة

غالب الكلام في موضوع (الحرية والمساواة) في عالم اليوم يدور حول حرية المرأة وحقوقها، والمساواة بينها وبين الرجل... ودعاة المساواة وحقوق المرأة الغربيون هم أول من ظلمها حقّها، ولتعاسة أغلب النساء في عالم اليوم تراهن

ص: 390


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- سورة الملك، الآية: 3.
3- سورة النساء، الآية: 1.
4- سورة البقرة، الآية: 35.

يتمنين لو أنهن لو يسمعن بهذه الدعاوى ولم يستمعن إليها.

نعم، هناك من انتفع من هذه الدعاوى من النساء لكن ذلك اقتصر علىشريحة معينة منهن، ويمكن أن نقول: إن الطبقة التي انتفعت من هذه الدعاوى هي بعض الطبقة (المترفة) أو قسم من الطبقة الغنية، أما الطبقات المسحوقة فكان نصيبها منها السحق والاضطهاد.

فإن دعاة المساواة وحقوق المرأة لمّا دعوا إلى نزول المرأة إلى ميدان العمل لمشاركة أخيها الرجل - كما يدّعون - بحجة المشاركة في البناء، لم يحددوا نوع العمل الذي يجب أن يسند إليها ليتلائم مع طبيعتها النسوية، مما دعا إلى ظهور اشكالات أخرى، فعندما تخرج المرأة للعمل وغالباً ما يكون عملها في الميادين التي لا يمكنها اصطحاب أولادها، فإنها تترك وراءها بيتاً فيه أطفال صغار بحاجة إلى خدمة ورعاية وليس هناك من يخدمهم ويرعاهم؛ لأن الأب هو الآخر يخرج كزوجته للعمل، فمن سيقوم برعاية هؤلاء الصغار إذن؟ ومن سيسد فراغ الأم؟!

هنا يبرز الرّق مرة أخرى، لأن الذي سيقوم بخدمة ورعاية الأطفال بالإضافة إلى بقية الأشغال المنزلية هو أيضاً من نفس الجنس، أي أن من يسد مسدّ المرأة هي المرأة وبذلك ستبتلي امرأة أخرى باسم ال(خادمة) أو ما أشبه، وستتنعم أخرى باسم ال(سيدة)، إذن ما الذي فعله دعاة حقوق المرأة، أو هل أن الدعاوى تختص (بالسيدات) دون (الخادمات)؟!

فإذا كان هدف الدعاة هو التحرر والخروج للعمل فلماذا تخرج واحدة، لتخنق واحدة أخرى أو أكثر؟!

هذا من جانب، أما الجانب الآخر فهو ما يختص بالعمل نفسه، فلماذا تختص وتقتصر الميادين السهلة على شريحة معينة من (المترفات)، في حين أن الميادين الشاقة تكتظّ بالطبقات العامة من (المسحوقات)؟

ص: 391

فهل تتناسب هذه الأعمال الشاقة مع طبيعة المرأة؟ فإذا كان الجواب: نعم، فلماذا تستنكرون الأعمال التي تقوم بأدائها المرأة الريفية في بلادنا من حراثةورعي وجمع حطب، وما يتطلبه ظرف الريف، وتدعون بأن المرأة الشرقية مضطهدة من قبل الرجل؟ وأن وظيفتها شاقة ومرهقة؛ ولذلك تزعمون أنكم تطالبون بتحررها؟ فهل تحررها في نظركم هو جلوسها في البيت دون مشاركتها الرجل في العمل خارج البيت، أم تحررها في خروجها إلى الحقل للمشاركة في العمل الشاق الذي يشابه الأعمال الشاقة التي تؤديها نساء الطبقات (المسحوقة) في بلدان تدعي (تحرر المرأة)؟!

هذا إذا كان الجواب: نعم، أي إذا كانت تلك الأعمال الشاقة تتناسب مع طبيعة المرأة.

أما إذا كان الجواب (لا)، أي أن الأعمال الشاقة لا تتناسب مع طبيعة المرأة، فلماذا تكلفون المرأة بما لا تطيق بدعاواكم هذه؟ وتدعون أنكم تريدون إنصاف المرأة؟ كما وتدعون المطالبة بحقوقها، فهل من الإنصاف أن تطالبوا برفع الحيف عنها بتكليفها بما لا يطاق لتصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار؟

أم إن هناك شيئاً آخر دفعكم لمثل هذه الدعاوى؟!

شعار تحرر المرأة ماركة تجارية

مما سبق نعرف أن دوافع اطلاق مثل هذه الشعارات المزيفة كثيرة، منها ما خفي ومنها ما ظهر.

لكن الدافع الأقوى كان دافعاً اقتصادياً بحتاً حيث إن إطلاق مثل هذه الدعاوى برز على إثر الثورة الصناعية في الغرب، وما نجم عنها من توسع في الدوائر الإنتاجية ووسائلها، وتزايد رؤوس الأموال ونفوذ أصحابها في مراكز القرار ومواطن الدعاية والإعلام، والشيء الذي جعلهم يروّجون لمثل هذه الدعاوى

ص: 392

واضح، حيث إن مؤسساتهم الإنتاجية الواسعة بحاجة إلى أيدي عاملة وبأجورمنخفضة، حيث إن العمل في مؤسساتهم كان مقتصراً على الرجال، فبهذه الدعاوى حصلوا على كم هائل من الأيدي العاملة الرخيصة لديمومة إنتاجهم وزيادته بكلفة أقل وذلك عن طريق استخدام النساء كأيدي عاملة رخيصة لتشغيل مؤسساتهم من وراء دعاواهم تلك.

مضافاً إلى أنهم لترويج بضاعتهم والدعاية لها جعلوا من المرأة آلة رخيصة للإعلان وهتكوا عزها وسترها بذلك، كما جرّوها إلى الفساد والدعارة ليحصلوا عن طريقها على الأرباح الهائلة، فكان الهدف من هذه الشعارات الاستثمار الاقتصادي عبر المرأة المسكينة!

أي المجتمعين أفضل للمرأة؟

لو خيرنا المرأة العاقلة بين العيش في ظل المجتمع الغربي وبين العيش في ظل المجتمع الإسلامي فماذا ستختار بعد أن تطلّع على كل مالها وما عليها من المجتمعين؟

فهي بين أمرين أما أن تختار: الحشمة، والوقار، والعفة، والكرامة، والفضيلة، والعزة، والأخلاق، والتقدم، وكل الصفات الحسنة التي تزيدها فخراً وشموخاً.

وإما أن تختار: الفساد، والانحلال، والانهيار، والوقاحة، والهوان، والرذيلة، والذل، والخداع، والغش، وكل الصفات السيئة التي تحط من قدرها، وتجعلها لعبة دنيئة يعبث بها من أراد ثم ينبذها بعد أن يملّها.

وقطعاً إن المرأة العاقلة ستختار الفضيلة، أما غيرها فستفضل الرذيلة وتنغمس فيها دون الالتفات للهوان الذي ينزل بها، فيسهل عليها الهوان، كما قال الشاعر:

من يَهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرحٍ بميتٍ إيلام

ص: 393

فهل أن العيش أفضل في ظل مجتمع يجعلها سائبة تبحث وراء لقمة العيش،وتلاقي ما تلاقية من تعب ونصب وإهانة وازدراء، وهدر للكرامة وتعرض للآلام وانغماس في المزالق؟

أم العيش أفضل في ظل مجتمع يكفل لها عيشها، ويضمن لها حريتها، ويصون كرامتها، ويدعها تعيش في بحبوحة من الرفاه والعيش الرغيد بفخر واعتزاز؟

وهل أن العيش خير لها في مجتمع يحرمها من حقها الطبيعي في الحياة وهو الأمومة - وهو حلم كل فتاة - ليجعلها سلعة تعرض في سوق المستهلكين، أو ليجعلها كرة يتلقفها الصولجان ليرميها إلى آخر؟

أم أن العيش خير لها في مجتمع يمنحها دستوره الكريم كل شيء، فيقول اللّه تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}(1).

أين هي المساواة؟

كثيراً ما أطلق شعار المساواة بين المرأة والرجل من قبل التقدميين حسب ادعائهم، حتى بلغ ذلك درجة الضجيج، فهل المساواة هي في تشبّه المرأة بالرجل والرجل بالمرأة، والاختلاط المبتذل؟ وأين هذه المساواة التي أصبحت علامة تجارية في الغرب من المساواة التي يصرح بها القرآن الكريم: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}(2)؟

وأين هي من قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ

ص: 394


1- سورة البقرة، الآية: 187.
2- سورة النساء، الآية: 1.

شُعُوبًاوَقَبَائِلَ}(1).

وكذلك قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَٰتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ وَالْقَٰنِتِينَ وَالْقَٰنِتَٰتِ وَالصَّٰدِقِينَ وَالصَّٰدِقَٰتِ وَالصَّٰبِرِينَ وَالصَّٰبِرَٰتِ وَالْخَٰشِعِينَ وَالْخَٰشِعَٰتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَٰتِ وَالصَّٰئِمِينَ وَالصَّٰئِمَٰتِ وَالْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَٰفِظَٰتِ وَالذَّٰكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(2).

فالمرأة إلى الآن لم تحصل على أقل حقوقها في الغرب وكل ما حصلت عليه من المساواة هو ابتذالها وجعلها في متناول الأيدي بغية الحصول عليها بسهولة لمن أراد ذلك، حالها حال بقية المعروضات، بل قد تفضلُها بعض تلك المعروضات، لما تجده من صيانة واضحة أثناء العرض، أو ما توسم به من ثمن باهظ!!

وغاية ما حصلت عليه هو إهانتها، فتارة تستخدم (كعارضة أزياء) وتارة للدعاية التجارية الرخيصة، كاستخدام صورتها على أغلفة الصابون، وأخرى للترويج، كتوظيفها في المحلات التجارية (كبائعة أو خادمة في المطعم) وإلى كثير من هذه الحالات التي تحط من قدر المرأة وتجعلها سلعة تباع وتشترى... بغض النظر عن الأشغال الشاقة التي تقوم بأدائها المرأة وهي خارجة عن طاقتها وغير مناسبة للطافتها، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة(3)، كما ورد في الحديث الشريف كما ذكرنا سابقاً.إذن: فأين هي المساواة؟!

التشبه بالرجال يعني الاسترجال

إذا كانت المساواة تعني التشبه كما يرى البعض، فهذا يعني أن المراد من

ص: 395


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- سورة الأحزاب، الآية: 35.
3- انظر: نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) يوصي بها الإمام الحسن(عليه السلام)، وفيه عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تملّك المرأة ما جاوز نفسها فان المرأة ريحانة وليست بقهرمانة».

ذلك هو أن تتخلى المرأة عن انوثتها للتحوَّل إلى ذكر، وهذا ما يأباه العقل، وترفضه الأنثى، حيث يعني ذلك إن المرأة ستترك دورها لتؤدي دور الرجل.

وهنا ستختل الموازين الطبيعية، ويحل الخراب، وعلى تعبير بعض الحكماء: إن البيت الذي تمارس فيه الدجاجة دور الديك مصيره إلى الخراب.وهذا الحال يشمل الرجال أيضاً لو تشبهوا بالمرأة.

وكلامنا هنا حول (التشبّه) بكل الجنسين فهو منبوذ ومرفوض لما له من أثر سلبي على سير الحياة الطبيعية ومخالفته للنواميس الطبيعية، وقد نهى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عن تشبّه الرجال بالنساء وتشبّه النساء بالرجال، فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه رأى رجلاً به تأنيث في مسجد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال له: «أخرج من مسجد رسول اللّه يا من لعنه رسول اللّه». ثم قال علي(عليه السلام): «سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: لعن اللّه المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال»(1).

إذن تشبّه النساء هو غير مساواتهن لهم، فأن تكون المرأة مسترجلة هو شيء مستهجن، وعلى النساء أن يرفضنّه حتى لو فرض عليهن فرضاً؛ لأن ذلك يعني أن نفرض على المرأة ما لا يناسبها ولا ينسجم مع عواطفها وخلقتها، ونفصلها عن شخصيتها التي تعتز بها، وتتقمص شخصية أخرى لا تلائمها ولا تحقق لها رغباتها، فهي تجد سعادتها مثلاً في شعورها بأنها في أسرة محترمة تقوم بدورها كأم وكزوجة، ويحميها رجل قوي وهو شيء طبيعي لدى المرأة السوية. لكن هذا الشعور لا يتوافق مع شخصيتها الجديدة المتقمّصة.

كذلك نجد أن الأدوار التي ستمارسها عند تقمصها لشخصية الرجل لا

ص: 396


1- علل الشرائع 2: 602.

تنسجم مع ما يبحث عنه الجنس الآخر، فكل جنس يميل إلى المخالف لجنسه. أما أن تأتي المرأة لتتشبه بالخشونة والبطولة وما شابه، فهذا يعني أنها أصبحت محل اشمئزاز ونفور، وهذا ليس ثوبها.

أما رأي الإسلام فيها فهو الصواب التي يتضمن سعادتها في الدارين، وقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»(1).

فهذه هي شخصية المرأة التي لا بد لها أن تحافظ عليها؛ لذلك ينهى الإسلام عن تشبهها بالرجال لأنها ستفقد أعزّ خاصية إلى نفسها، وهي أن ترى نفسها أنثى مرغوباً فيها من قبل زوجها كما أراد اللّه تعالى ذلك.

مكانة المرأة

إذا كان الرجل يمثل العين أو اليد اليمنى للمجتمع فالمرأة بمثابة العين أو اليد اليسرى له، وقد كان البعض يقول:

ان كان الرجل يمثل النهار بما فيه من عمل وطلب للفضل فان المرأة تمثل الليل بما فيه من سكن وسكينة.

وقد قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ}(2).

من هذه الآية الكريمة نعرف أن السكن والسكينة والاستقرار والراحة بعد التعب أو قل ما شئت بخصوص ذلك كله يعود إلى الليل.

وقال تعالى في آية أخرى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْإِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(3).

ص: 397


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) إلى ولده الإمام الحسن(عليه السلام).
2- سورة القصص، الآية: 73.
3- سورة الروم، الآية: 21.

أما العمل وطلب الفضل والمعاش فكله يعود إلى النهار... ويوضح ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}(1).

ولا يمكننا أن نفضّل الليل على النهار ولا النهار على الليل، فالحياة بحاجة إلى النهار وضيائه والليل وسكونه.

أي بحاجة للمرأة والسكون إليها والرجل وما يقدمه من عمل، هذا خلاصة تمثيل ذكره البعض، ومن الواضح أن المقصود ليس المعنى الحرفي للمثال، وإلّا فالمرأة لها دورها المشروع في المجتمع وهي أيضاً بإمكانها أن تقدم أعمالاً كثيرة تناسب شأنها وكرامتها.

التساوي في الشرع الإسلامي

قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(2) إن المرأة لها مكانة في الإسلام مساوية لمكانة الرجل في جميع الحقوق والواجبات والأصل هو التساوي في ذلك، إلّا بعض المستثنيات التي هي في مصلحة الرجل والمرأة كليهما فالرجل هو الأب والمرأة هي الأم وهذا لا يعني الظلم بحق أحدهما، بل هو المناسب لخلقتهما وعواطفهما وكذلك في درجة القوامة حيث قال تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(3).

فإن: {الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْأَمْوَٰلِهِمْ}(4) ودرجة القوامة هذه ليست نقصاً في المرأة مطلقاً بل القوامة أو (القيادة أو الإمارة) شيء لا بد منه لتسيير الحياة بصورة منظمة و«... إنه لا بد

ص: 398


1- سورة النبأ، الآية: 10-11.
2- سورة البقرة، الآية: 228.
3- سورة البقرة، الآية: 228.
4- سورة النساء، الآية: 34.

للناس من أمير بر أو فاجر»(1) أي أن القوامة مفروضة حتى على الرجل نفسه، فهل أن الرجال يرفضون تنصيب قائد عليهم؟

والمفروض أن مجموعة من الرجال إذا سافروا فعليهم أن يرشحوا أحدهم للإمارة، فكيف إذا كان ذلك في بيت واحد يحتوي على ذكر وأنثى وأولاد وبنات... وكان ذلك في الغالب مدى الحياة، أفلا يرشح أحدهما للإمارة أو القوامة؟ وكل القوانين الطبيعية ترشح الذكر، وليس الحال هذا خاصاً بالإنسان وحده، بل إن ذلك لدى الحيوانات والطيور أيضاً.

فنرى أن الذكر هو المتقدم على الأنثى في السير، أو أن الذكر هو الذي يسعى للحصول على الطعام والحماية، في حين أن الأنثى وظيفتها الحضانة والرعاية، ولعل ذلك سنة اللّه عزّ وجلّ في مخلوقاته جميعاً.

ولها دور العالِم

قال تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}(2).

إن الرجل هو المسؤول الأول عن توفير الحماية للبيت، وتوفير كل مستلزمات العيش والسكن... ولنقل: إن المرأة (مدللة) في ظل الرجل وهذا لا يعني أن المرأة معطلة بلا عمل؟ وأن وظيفتها فقط توفير الجو البيتي الملائم للرجل؟ بل إن لديها عملاً أعظم من هذا؟ ومن أعظم مهامها هو تربية الأجيال التي ستمسكبأزمة المجتمع... فإن الكثير ممن يدعي (التقدم) يقول: إن المرأة في الإسلام سجينة أربعة جدران، وهي معطلة عن العمل، وإن النصف الثاني من المجتمع مشلول! وإن المرأة غير منتجة بل مستهلكة!

ص: 399


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 40، من كلام له(عليه السلام) للخوارج.
2- سورة النساء، الآية: 32.

لكن أيها المدعي لماذا لا تجر إشكالك هذا إلى العلماء والفلاسفة والكتّاب والمفكرين الكبار والشعراء وغيرهم، الذين يجلسون في غرفهم الخاصة ويسجنون بين أربعة جدران! فهم ممن يقدمون أكبر الخدمات للمجتمع مع كونهم جالسين في بيوتهم.

أليست المرأة كالعالِم والفيلسوف... فلو قارنا بينه وبينها في العمل لكانت خدمتها للمجتمع لا تقل درجة عن خدمة العالم له، فالعالم وظيفته إعداد الجيل...! والمرأة وظيفتها اعداد الجيل أيضاً، وهي أشرف وظيفة وأقدس عمل، ولذلك يقول الشاعر:

الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيب الأعراق

وكذا الحال بالنسبة للأدباء والمفكرين وغيرهم، فان وظيفتهم بناء الجيل وتربيته ومن وراء أربعة جدران أيضاً، حيث أن عملهم يتطلب التأمل والتفكّر، ولا يتم لهم ذلك إلّا في الجلوس بين هذه الجدران... كما أن عملهم هذا ليس إنتاجياً بل خدمة كبيرة للمجتمع، فلماذا هذا التمييز بين المرأة وهؤلاء؟!

فالمرأة مثلها مثلهم، واجبها ووظيفتها أن تربي الأجيال، وتعدهم إعداداً كاملاً للمستقبل؛ ليكونوا رجاله العظام.

أي أن المرأة (مصنع الرجال العظماء) فهل هناك فخر، أكبر من هذا.

فتلك سيدتنا فاطمة الزهراء(عليها السلام) انظر ماذا أعدت وقدمت.

وتلك أم البنين(عليها السلام) فانظر إلى ما أعدت أيضاً وقدمت.

وبعد هذا الإعداد والإنتاج العظيم فما ينبغي على المرأة أن تنتج؟!

وما نوع الإنتاج المطلوب؟!

إذن يمكننا أن نقول: إن الإعداد والتربية من باب (الفريضة) على المرأة، أما عمل المرأة في المجالات الأخرى المناسبة لها خارج البيت فهو من باب

ص: 400

(النافلة).

وقد وزع الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) الأدوار بين الإمام أمير المؤمنين علي وفاطمة(عليهما السلام)، وجعل(صلی الله عليه وآله وسلم) باب الدار حداً فاصلاً بين عمل الإمام(عليه السلام) وعمل فاطمة(عليها السلام)، حيث إن الباب وما دونه داخل البيت هو من واجبات فاطمة(عليها السلام)، والباب وما وراءه خارج البيت هو من واجبات أمير المؤمنين(عليه السلام)(1).

المعززة المكرمة

المرأة في ظل الإسلام معززة ومكرمة بشكل لم ير التاريخ لها عزاً وكرامة إلّا في تعاليم الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام).

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا جاء أحدكم بشيء لأولاده فليبدأ بالإناث قبل الذكور»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «خير أولادكم البنات»(3).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ومن فرّح ابنته فكأنما اعتق رقبة ولد إسماعيل»(4).وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «البنات حسنات والبنون نعمة، فالحسنات يثاب عليها والنعمة يسأل عنها»(5).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من عال بنتاً من المسلمين فله الجنة»(6).

ص: 401


1- انظر: قرب الإسناد: 52، وفيه عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) قال: «تقاضى علي وفاطمة إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمته ما دون الباب، وقضى على علي ما خلفه، قال: فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلّا اللّه، باكفائي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تحمل رقاب الرجال».
2- انظر: الأمالي للشيخ الصدوق: 577 وفيه قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج وليبدأ بالإناث قبل الذكور...» الحديث.
3- مكارم الأخلاق: 219.
4- روضة الواعظين 2: 429.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 481.
6- عوالي اللئالي 3: 294.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن إبراهيم(عليه السلام) سأل ربه أن يرزقه ابنة تبكيه وتندبه بعد موته»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «نعم الولد البنات، ملطفات مجهزات، مونسات، مباركات مفليات»(2).

والآن بعد هذه المأثورات الشريفة، ألّا يحق للبنت أن ترفع رأسها شموخاً في ظل الإسلام؟ فهل هناك حيف واقع عليها؟! ألّا يفهم من هذا أن البنت معززة مكرمة في ظل الإسلام؟ بل هي المفضلة في كل هذه الأحاديث الشريفة؟ ثم ألّا يجدر بالولد أن يطالب بالمساواة معها؟! فهل هنالك مجتمع غير الإسلام يمنحها هذا الشرف وهذا التكريم الذي لا يعرف الحدود؟ كل هذا لأجل عيني البنت، فماذا تبتغي البنت أكثر من هذا؟!

وقد كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يحب ابنته فاطمة(عليها السلام) ويجلّها ويكنّيها ب(أم أبيها)(3). أما الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فقد عامل بناته (عليهن السلام) بنفس أسلوب الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، أما الإمام الحسين(عليه السلام) فمواقفه مع ابنته سكينة(عليها السلام) معروفة... فقد كان(عليه السلام) يصفها بأنها غالب عليها الاستغراق في ذات اللّه، وكانيلقبها بخيرة النساء(4)، وقد كان يحبها حباً جماً، وقد استشهد على ذلك بشعر

ص: 402


1- الكافي 6: 5.
2- عدة الداعي: ص89.
3- انظر: بحار الأنوار 43: 19.
4- انظر: مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 109، وفيه: ... ثم ودع النساء وكانت سكينة تصيح فضمها إلى صدره وقال: سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي *** منك البكاء إذا الحمام دهاني لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة *** مادام مني الروح في جثماني وإذا قتلت فأنت أولى بالذي *** تأتينه يا خيرة النسوان

منسوب، يبرز فيه مدى حب الإمام(عليه السلام) لأبنته سكينة وزوجته الرباب وهو:

لعمرك أنني لأحب داراً *** تحل بها سكينة والرباب(1)

الأخت

هذا عن تكريم البنات، أما عن تكريم الأخوات فلا يقل شأناً عن تكريم البنات، ونبدأ من تكريم الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) لها فقد ورد أنه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان جالساً المجلس، وقد دخلت عليه امرأة فقام إجلالاً لها، وعظّمها، وافترش لها رداءه، فجلست وراح يحدثها، ويصغي لكلامها، وهو مقبل عليها بكله، حتى إذا فرغت من الكلام، وقامت منصرفة، ودّعها النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، وسار خطوات معها، تقدم أحد الأصحاب يسأله عن هذه المرأة التي استحقت كل هذا التكريم منه، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): إنها أختي من الرضاعة، انها شيماء بنت حليمة السعدية(2)!

أما مواقف الإمام الحسين(عليه السلام) مع أخته السيدة زينب(عليها السلام) فقد تجلّت لنا في واقعة الطف وقد أعدّها لما بعد واقعة الطف وعوّل عليها في اكمال دوره في ثورته... وقد كان يجلّها ويحترمها إلى أبعد الحدود، وقد كان يحاورها كعالمة وحليمة، فقوله لها قبل بدء المعركة: «يا أختاه لا يذهبن بحلمك الشيطان»(3)دليل واضح واعتراف صريح من إمام معصوم ب(حلم) سيدتنا زينب(عليها السلام) وكان تعامله معها دائماً على هذا الأساس.

ونكتفي بهذا القدر من الشواهد على تكريم الأخت فهي كثيرة جداً.

الزوجة

أما تكريم الزوجات فهذا ما غصت به كتب الروايات الشريفة، وقد رحل

ص: 403


1- شرح الأخبار 3: 177.
2- انظر: قصص الأنبياء(عليهم السلام) للراوندي: 351.
3- اللّهوف: 83.

رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وكان يوصي بالمرأة خيراً. والإسلام منح الزوجة حقوقاً ساوت حقوق الزوج إن لم نقل فاقت عليها في بعض الأحيان، فقد حذر الإسلام من الاعتداء والتجاوز عليها وعلى حقوقها.

وكان التحذير شديد اللّهجة، فيقول الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «اتقوا اللّه في الضعيفين: اليتيم والمرأة، فإن خياركم خياركم لأهله»(1).

وعنه أيضاً(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»(2).

هكذا يتعامل الإسلام مع المرأة (الزوجة) بالمعروف أولاً وآخراً، فقد قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(3) كما يقول تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(4).

وقد كان الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يشارك فاطمة(عليها السلام) في كثير من الأعمال المنزلية فقد كان يتناوب معها على (الرحى) لطحن الحبوب، وإن الرجل الذي يشارك امرأته في مثل هذه الأعمال يعد من السعداء وأهل المعروف، فعلى الزوج أن يكون رفيقاً بزوجته ورفيقاً لها.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «دخل علينا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وفاطمة جالسة عند القدر، وأنا أنقي العدس، قال: يا أبا الحسن، قلت: لبيك يا رسول اللّه.

قال اسمع مني، وما أقول إلّا من أمر ربي، ما من رجل يعين إمرأته في بيتها إلّا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، وأعطاه اللّه تعالى من الثواب مثل ما أعطاه اللّه الصابرين وداود النبي ويعقوب وعيسى(عليهم السلام).

ص: 404


1- قرب الإسناد: 92.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 555.
3- سورة النساء، الآية: 19.
4- سورة البقرة، الآية: 228.

يا علي، من كان في خدمة العيال في البيت ولم يأنف، كتب اللّه تعالى اسمه في ديوان الشهداء وكتب اللّه له بكل يوم وليلة ثواب ألف شهيد، وكتب له بكل قدم ثواب حجة وعمرة وأعطاه اللّه تعالى بكل عرق في جسده مدينة في الجنة.

يا علي، ساعة في خدمة العيال خير من عبادة ألف سنة وألف حج وألف عمرة، وخير من عتق ألف رقبة وألف غزوة وألف عيادة مريض، وألف جمعة وألف جنازة، وألف جائع يشبعهم وألف عار يكسوهم، وألف فرس يوجهها في سبيل اللّه، وخير له من ألف دينار يتصدق على المساكين، وخير له من أن يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومن ألف أسير أسر فأعتقها وخير له من ألف بدنة يعطي للمساكين، ولا يخرج من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة.

يا علي، من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنة بغير حساب، يا علي خدمة العيال كفارة للكبائر ويطفئ غضب الرب، ومهور حور العين، ويزيد في الحسنات والدرجات.

يا علي، لا يخدم العيال إلّا صدّيق أو شهيد أو رجل يريد اللّه به خير الدنيا والآخرة»(1).

كما عليها أن تكون هي كذلك فإن «جهاد المرأة حسن التبعل»(2) أي أن للمرأة أجر المجاهد دون أن تشترك في المعركة، وذلك بمجرد حسن تبعّلها.

وقد قال الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم): «أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة»(3).

فانظر كيف يمهد الإسلام سبل السعادة الزوجية ويشد الزوجين إلى بعضهما

ص: 405


1- جامع الأخبار: 102.
2- الكافي 5: 9.
3- نهج الفصاحة: 359.

ويبني حولهما سوراً منيعاً للعيش بداخله في بحبوحة الهدوء والطمأنينة والسلامة والاستقرار.

أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك!

وأما الأمهات فقد وضعت الجنة تحت أقدامهن قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الجنة تحت أقدام الأمهات»(1) وجاء رضاهن بعد رضا اللّه تعالى والإحسان اليهنّ جاء بعد عبادة اللّه سبحانه: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا}(2).

وورد أن عقوق الأم من أكبر الكبائر بعد الشرك باللّه «وليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة، [و قال(صلی الله عليه وآله وسلم):] أكبر الكبائر الشرك باللّه وعقوق الوالدين»(3) والبر للأم يتقدم على البر للأب بثلاث مراتب!

يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «جاء رجل إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه من أبر؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): أمك.

قال: ثم من؟قال(صلی الله عليه وآله وسلم): أمك.

قال: ثم من؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): أمك.

قال: ثم من؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): أباك»(4).

وهكذا إلى كثير من الشواهد التي تؤكد على منزلة الأم لدى الإسلام.

ص: 406


1- مستدرك الوسائل 15: 180.
2- سورة الإسراء، الآية: 23.
3- مستدرك الوسائل 15: 193.
4- الكافي 2: 159.

إلى جانب العظام

قالوا: إلى جانب كل رجل عظيم امرأة!

ولنبدأ بأعظم خلق اللّه محمد(صلی الله عليه وآله وسلم).

فهناك نساء عدة في حياته فمن هي المرأة العظيمة التي وقفت إلى جانبه؟!

فمن هي المرأة التي شدّت على ساعده ومن هي المرأة التي صدّقته حين كذّبه الناس وآمنت به إذ كفر الناس؟

تلك هي خديجة الكبرى (رضوان اللّه عليها).

وقد ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) قال: «ذكر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) خديجة يوماً وهو عند نسائه فبكى، فقالت عائشة: ما يبكيك على عجوز حمراء من عجائز بني أسد؟

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): صدقتني إذ كذبتم، وآمنت بي إذ كفرتم، وولدت لي إذ عقمتم»(1).

لقد كانت خديجة هذه المرأة العظيمة من أوسط قريش نسباً وأعظمهم شرفاً،وأكثرهم مالاً وكل قومها قد كان حريصاً على الاقتران بها لو يقدر عليه. إلّا أنها فضلّت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته على كل الأشراف من قومها... على الرغم من كونه مقلاً في المال. وذكر المحققون أن خديجة(عليها السلام) كانت من النساء أول من آمنت باللّه ورسوله وصدّقت بما جاء من عند اللّه، ووازرته على أمره، فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من ردٍ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلّا فرج اللّه ذلك عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بها، فإذا رجع إليها تخفف عنه، وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت رحمها اللّه(2).

ص: 407


1- كشف الغمة 1: 508.
2- انظر: بحار الأنوار 16: 10.

نعم لقد كانت تصبّره فطالما قالت له: «يا بن عم اثبت وابشر»(1).

وقد أنفقت كل أموالها في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، وعانت معاناة في حياتها تفوق التصور من أجل مساندة دعوة زوجها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى أن ماتت بعد الحصار الذي فرضه المشركون على بني هاشم في شعب أبي طالب، بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام، وسمّي ذلك العام ب(عام الحزن) تأبيناً لتلك المرأة العظيمة واعتزازاً بها.

نموذج آخر

وبعد ما ذكرنا من تضحية السيدة خديجة ومكانتها عند رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ننتقل الكلام إلى ابنة هذه المرأة العظيمة(عليها السلام)، فهي سيدة نساء العالمين، وقد وقفت إلى جانب زوجها(عليه السلام) نعم، إن فاطمة الزهراء(عليها السلام) وقفت إلى جانب زوجها أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام)، كما وقفت أمها إلى جانب الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم). وقد زادت عليها بأنها وقفت إلى جانب أبيها(صلی الله عليه وآله وسلم) بالإضافة إلى وقوفها إلى جانبزوجها(عليه السلام)، ومواقفها مشهودة ومشرفة والأمثلة كثيرة على ذلك، مضافاً إلى كونها أفضل أم حيث ربّت الحسن والحسين والسيدة زينب وأم كلثوم(عليهم السلام).

أما باقي النساء اللاتي وقفن إلى جانب الرجال العظماء فأمثالهن كثيرة أيضاً ومن أعظمهن زينب(عليها السلام) حيث وقفت بجانب أخيها الإمام الحسين(عليه السلام) في مواقف مشرفة خلدها التاريخ.

ومن تلك النساء أيضاً:

هاجر التي وقفت إلى جانب النبي إبراهيم(عليه السلام).

وامرأة أيوب التي وقفت إلى جاب النبي أيوب(عليه السلام) في شدّته.

ص: 408


1- كشف الغمة 1: 511.

والرباب زوجة الإمام الحسين(عليه السلام).

وزوجة وهب (رضوان اللّه عليه) في معركة الطف التي وقفت إلى جانبه دفاعاً عن الحسين(عليه السلام)(1) حتى استشهدت(2).

وزوجة الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) حميدة.

وزوجة الإمام العسكري(عليه السلام) نرجس(عليها السلام) والدة الإمام المهدي(عليه السلام) وهي امرأة في غاية الإيمان والفضيلة ومرقدها عند ضريح الإمام الهادي(عليه السلام) في سامراء ولها زيارة خاصة كزيارة الإمام الهادي(عليه السلام).

ومن الأمهات أيضاً:

أم عيسى(عليه السلام) مريم بنت عمران(عليها السلام).

وأم موسى(عليه السلام) قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ}(3).

وأم إسماعيل(عليه السلام) هاجر.

وأم عمار ابن ياسر (سميّة).

وأم وهب في معركة الطف أيضاً.

وأم القاسم(عليها السلام) رملة.

والمرأة العظيمة التي ضحت بأربعة رجال عظماء وهي أم البنين(عليها السلام).

وأما الأخوات فمنهن كلثم أخت موسى(عليه السلام) والحوراء زينب(عليها السلام) وأختها أم كلثوم، وشيماء أخت الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) من الرضاعة.

ومن البنات إضافة إلى فاطمة(عليها السلام) بنت الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وزينب بنت أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام)، نجد سكينة بنت الحسين(عليه السلام) وبنتي النبي

ص: 409


1- انظر: اللّهوف: 105.
2- انظر: بحار الأنوار 45: 17.
3- سورة القصص، الآية: 7.

شعيب(عليه السلام)... إلى شخصيات نسائية أخرى كثيرة.

ولا ننسى بعد هذا المورد أن نذكر امرأة عظيمة الشأن لكنها تحت إمرة رجل كافر وهي زوجة فرعون آسيا بنت مزاحم، فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أفضل نساء أهل الجنة أربع: خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون»(1).

مهمات ووظائف

هناك مهمات عديدة ملقاة على الجميع وعلى عاتق النساء على وجه الخصوص نشير إلى بعضها:

1- يجب تربية الفتيات الصغيرات تربية إسلامية صحيحة من خلال تعليمهن القرآن وتفسيره، وسيرة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وتاريخ الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، وتفسير نهج البلاغة، وبقية الآداب الإسلامية كالصلاة، والصوم، وغير ذلك من العبادات.

2- تعليم الفتيات كيفية إدارة بيت الزوجية في المستقبل لكونهن زوجاتوأمهات في المستقبل وهذا فن لا بد من تعلمه جيداً.

3- لا بد من تعليمهن الصناعات اليدوية من حياكة السجاد، والخياطة، والتطريز، وشغل فراغهن بما ينفعهن وينفع أسرهن.

4- دعوة البنات إلى القيام بكافة الأعمال المنزلية منذ الصغر لإتقان ذلك والاستئناس به عند الكبر.

5- تحفيظهن القرآن الكريم، فنحن عندما كنا في كربلاء المقدسة أسسنا مدارس متعددة لحفظ القرآن للأولاد بنين وبنات، وكان عدد الحافظات ما يقارب (1500) بنت، كن يحفظن القرآن بالإضافة إلى أعمالهن المنزلية وتعلم

ص: 410


1- الخصال 1: 205.

الخياطة، والتطريز. فان تعلم مثل هذه الأمور مفيد في المستقبل؛ إذ يمكن لهن أن يساهمن في إدارة احتياجات المنزل مع الرجل، إذ تذكر الروايات أن فاطمة الزهراء(عليها السلام) كانت تعمل بعض الأعمال في المنزل؛ لتعين الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في خارج البيت، في الوقت الذي كانت إدارة البيت آنذاك صعبة بكثير مما هي عليه اليوم، حيث إنه كثرت الوسائل وأعمال المنزل تدار عبر الأجهزة الكهربائية الحديثة، وأما قديماً فقد كانت النساء يطحنَّ الشعير ويصنعن الخبز، إلى غير ذلك من الأمور التي قلما نراها في حياتنا الحاضرة.

6- لا بد على النساء من أن يضعن صناديق خيرية لجمع التبرعات والمساعدات في سبيل ثقافة المرأة المسلمة فهناك الكثير من العوائل التي لها بنات صغيرات يردن الذهاب إلى المدرسة ولكن لا يمتلكن المال لشراء الملابس والقرطاسية وما أشبه ذلك.

فقد ورد عن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه إذا أردت أن تنظر إلى أحسن الناس فانظر إلى من هو أكثر نفعاً للآخرين، حيث قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «خير الناس من انتفع بهالناس»(1) فليس الذي يكثر من الصلاة فقط والذي يكثر من الذهاب إلى الحج، ويؤدي عباداته فقط من دون أن يسعى لخدمة الآخرين وهو أفضل.

فإن كثيراً من الناس بحاجة إلى المساعدة في كل المناطق والمدن، فلا بد للإسراع في فتح مثل هذه الصناديق؛ لمساعدة العوائل التي لم يدخل في بيتها الطعام المناسب، أو البيت الذي لا يملك الوقود لدفع البرد، أو المكيفة لتبريد الهواء والاحتياجات الأخرى التي تسد الحاجة.

7- تأسيس صناديق التبرع لتسهيل أمور الزواج، فعلى الأخوات اللاتي

ص: 411


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 21.

يجتمعن في مثل هذه الحوزات والهيئات أن يسعين في تأسيس مؤسسات لدعم الزواج المبكر وصناديق لجمع الأموال والتبرعات، ثم صرفها لهذا الغرض. فقد كان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا رأى الشاب يقول له: هل لك زوجة؟ فإذا قال لا، عندها يتوجه إلى بعض المؤمنين أصحاب الخير والمال فيقول لهم: زوجوا هذا الشاب!(1) فإن الإسلام يهتم بشؤون الفرد الدنيوية والأخروية، وعندما كنا في كربلاء المقدسة كانت لبعض الأخوة مؤسسة باسم لجنة الزواج الخيرية، وكانت هذه اللجنة تختص في أمر تزويج الشباب، فكانوا يعطون للذي يريد الزواج قرضاً، فإذا كان الشاب يستطيع أن يرد القرض يؤخذ منه على شكل أقسام بسيطة وبعيدة الأمد، وأما إذا كان غير قادر على تسديد القرض فيجعلونه هبة له، بالإضافة إلى وجود المحسنين الذين يتبرعون بالمدافئ والأفرشة والأغطية، وغير ذلك من الحاجات اللازمة، وقد روي عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أن من سعى في أمر تزويج الشابسواء كان شاباً أو شابة فإن له حسنة في كل خطوة يخطوها(2)، وفي بعض الروايات أن الحسنة الواحدة أكبر من جبل أحد، ويعطي له هذا الثواب سواء وفق في سعيه أو لم يوفق.

8- تشكيل الهيئات الحسينية في وسط النساء في كل المناطق.

9- على النساء اللاتي يمتلكن الوقت الكافي أن يشتغلن في الأعمال الاجتماعية العامة التي هي عادة خارج المنزل ولكن مع حفظ الموازين الشرعية، فهناك الكثير من مدارس البنات الابتدائية وغيرها تفتقد المعلمات، وهناك الكثير من المستشفيات التي تفتقر إلى العدد الكافي من الممرضات، ولكون المرأة

ص: 412


1- انظر: الكافي 5: 347.
2- انظر: ثواب الأعمال: 288.

نصف المجتمع فعليها أن تدير بعض الدوائر الاجتماعية أيضاً - كل ذلك بشرط أن تصون عفتها وكرامتها، ولا يتعارض عملها مع أحكام الإسلام - فالمرأة لها حقوق كاملة كما للرجل، فإنكم إذا ذهبتم إلى الحج ترون النساء يؤدين مناسك الحج كالرجال، وهكذا قال الإمام الرضا(عليه السلام) ترون النساء يزرن كما يزور الرجال، والحال هذا في المساجد وغيرها.

التأكيد على الزواج

ومن أهم النقاط التي لا بد أن أكررها عليكم أن تسهلوا أمر الزواج، فلا تضعوا العراقيل والحواجز أمام هذا الأمر الإلهي، فإن الشرط الذي يجب توفره في الرجل هو سلامة الدين والأخلاق، كما جاء ذلك في الروايات الواردة عن المعصومين(عليهم السلام) فقد كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر(عليه السلام) في أمر بناته وأنه لا يجد أحداً مثله، فكتب إليه أبو جعفر(عليه السلام): «فهمت ما ذكرت من أمر بناتك وإنك لا تجد أحداً مثلك، فلا تنظر في ذلك رحمك اللّه فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: إذاجاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(1).

وليس الملاك هو نوع عمله وكسبه، فإذا كان يوفر رزقه عن طريق حلال فهذا يكفي، ولا تصرّوا على إمتلاكه رصيداً في البنك... وغير ذلك من القيود التي لم يجعلها اللّه عزّ وجلّ معياراً في الشرع.

والآن بعد أن عرفنا وعرفت المرأة بعض ما لها وما عليها يمكننا أن نقول: إن المرأة لن تسعد ولن تهنأ، ولن تحقق ذاتها، ولن تشعر بعزتها وكرامتها، إلّا في ظل الإسلام، كما ونقول: (لا منفعة ترتجيها إلّا في ظل الإسلام).

نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لرضاه ولخدمة الآخرين وما فيه خير الإسلام

ص: 413


1- الكافي 5: 347.

والمسلمين، ونسأله تعالى أن يتفضل على مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة إنه سميع مجيب.

من هدي القرآن الحكيم

المثل الأعلى لنساء العالم

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ}(1).

وقال سبحانه: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ...}(3).

المرأة والعمل الصالح

قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَالْجَنَّةَ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّ}(5).

لا تفاوت بين الرجل والمرأة

قال تعالى: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ}(6).

وقال سبحانه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَٰرَىٰ

ص: 414


1- سورة آل عمران، الآية: 42.
2- سورة آل عمران، الآية: 61.
3- سورة التحريم، الآية: 11.
4- سورة النساء، الآية: 124.
5- سورة الأحزاب، الآية: 59.
6- سورة الملك، الآية: 3.

مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

المرأة في ظل الإسلام

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه تعالى يوصيكم بالنساء خيراً فإنهن أمهاتكم وبناتكم وخالاتكم»(3).

وقال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب(عليه السلام)، دخلت على نساء رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول اللّه، إن النساءلفي خيبة وخسار! فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ومم ذلك؟» قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَٰتِ} أي المخلصين الطاعة للّه والمخلصات(4).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلّا فرحه اللّه تعالى يوم القيامة»(5).

ص: 415


1- سورة النحل، الآية: 58-59.
2- سورة النساء، الآية: 1.
3- نهج الفصاحة: 313.
4- تفسير مجمع البيان 8: 158.
5- الكافي 6: 6.

أقسام النساء

1- الأمهات

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «قال موسى بن عمران(عليه السلام) يا رب أوصني قال: أوصيك بي، فقال: يا رب أوصني، قال: أوصيك بي، ثلاثاً، قال يا رب أوصني قال: أوصيك بأمك، قال: يا رب أوصني، قال: أوصيك بأمك، قال: يا رب أوصني، قال: أوصيك بأبيك، قال فكان يقال لأجل ذلك أن للأم ثلثي البر وللأب الثلث»(1).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إن اللّه تعالى يوصيكم بأمهاتكم ثلاثاً، إن اللّه تعالى يوصيكم بآبائك مرتين، إن اللّه تعالى يوصيكم بالأقرب فالأقرب»(2).

وعن الإمام السجاد(عليه السلام) قال: «أما حق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، ووَقَتْكَ بجميع جوارحها، ولن تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك،وتظلك وتضحى، وتهجر النوم لأجلك، ووَقَتْك الحر والبرد لتكون لها، وإنك لا تطيق شكرها إلّا بعون اللّه وتوفيقه»(3).

2- الزوجة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أيما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تريد به صلاحاً إلّا نظر اللّه عزّ وجلّ إليها، ومن نظر اللّه إليه لم يعذّبه»(4).

ص: 416


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 511.
2- نهج الفصاحة: 312.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 371.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 411.

وجاء رجل إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: ­«إن لي زوجة إذا دخلت تلقتني، وإذا خرجت شيعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت: ما يهمك إن كنت تهتم لرزقك فقد تكفل به غيرك، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك اللّه هماً، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن للّه عمالاً وهذه من عمّاله لها نصف أجر الشهيد»(1).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «ما أفاد عبد فائدة خيراً من زوجة صالحة: إذا رآها سرّته، واذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله»(2).

3- البنات

عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة»(3).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «نعم الولد البنات المخدّرات من كانت عنده واحدة جعلها اللّه له ستراً من النار ومن كانت عنده ابنتان أدخله اللّه بهما الجنةومن كن ثلاثاً أو مثلهن من الأخوات وضع عنه الجهاد والصدقة»(4).

وعن الجارود بن المنذر قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «بلغني أنه ولد لك ابنة فتسخطها! وما عليك منها، ريحانة تشمها وقد كفيت رزقها، وقد كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أبا بنات»(5).

4- الأخوات

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): من عال ثلاث بنات أو ثلاث

ص: 417


1- من لا يحضره الفقيه 3: 389.
2- قرب الأسناد: 20.
3- نهج الفصاحة: 752.
4- روضة الواعظين 2: 369.
5- الكافي 6: 6.

أخوات وجبت له الجنة، فقيل يا رسول اللّه واثنتين؟ فقال: واثنتين، فقيل: يا رسول اللّه وواحدة؟ فقال: وواحدة»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من عال ابنتين أو أختين أو عمتين أو خالتين حجبتاه من النار»(2).

يوصيكم اللّه تعالى بالنساء خيراً

عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «من أبتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار»(3).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «خيركم خيركم لنسائه ولبناته»(4).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عيالهكان كحامل صدقة إلى قوم محاويج وليبدأ بالإناث قبل الذكور...»(5).

خير النساء

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في خير النساء:

1- «أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً»(6).

2- «خير نسائكم العفيفة الغلمة»(7).

3- «خير نسائكم الولود الودود العفيفة، العزيزة في أهلها الذليلة مع

ص: 418


1- الكافي 6: 6.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 482.
3- نهج الفصاحة: 722.
4- نهج الفصاحة: 472.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 577.
6- الكافي 5: 324.
7- الكافي 5: 324.

بعلها...»(1).

4- قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أكثروا الخير بالنساء»(2).

الحث على الزواج

عن الصادق(عليه السلام) قال: «تزوجوا ولا تطلقوا فإن اللّه لا يحب الذواقين والذواقات»(3).

من أخلاق الأنبياء

وعنه(عليه السلام) قال: «من أخلاق الأنبياء صلى اللّه عليهم حب النساء»(4).

فما للنساء؟

وفي حديث سئل(صلی الله عليه وآله وسلم) فما للنساء؟ قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا هي حملت كتب اللّه لها أجر الصائم القائم، فإذا أخذها الطلق لم يدر ما لها من الأجر إلّا اللّه الواحدالقهار، فإذا وضعت كتب اللّه لها بكل مصة - يعني من الرضاع - حسنة ومحى عنها سيئة، وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): النفساء إذا ماتت من النفاس جاءت يوم القيامة بغير حساب؛ لأنها تموت بغمها»(5).

ص: 419


1- الكافي 5: 324.
2- مكارم الأخلاق: 197.
3- مكارم الأخلاق 197.
4- الكافي 5: 320.
5- عوالي اللئالي 2: 292.

المنهل العذب

اللين وحسن المعاملة

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من لانت كلمته وجبت محبته»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ثلاث من أبواب البرّ، سخاء النفس، وطيب الكلام، والصبر على الأذى»(2).

إن اللين في القول والمعاملة الحسنة من صفات المؤمنين، وكثيراً ما حثت عليهما الشريعة المقدسة وأوصت الإنسان باتباعهما، فهذه الخصال الحسنة لها تأثير قوي في نفوس الناس واستمالة قلوبهم حتى مع الأعداء، فعندما تتكلم معهم بقول ليِّن وتعاملهم معاملة حسنة فإنّك تستطيع أن تحدّ أو تقلل من عداوتهم، أو على الأقل تلقي الحجّة عليهم.

فقد قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(3).

الولي الحميم

وفي تفسير هذه الآية الكريمة قلنا: وإذ جرى حديث الدعوة، لا بد وأن يسير

ص: 420


1- تحف العقول: 91.
2- المحاسن 1: 6.
3- سورة فصلت، الآية: 34.

السياق إلى واجب الداعي أمام الأتعاب والمصاعب التي يواجهها الدعاة إلىاللّه {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} فإن الحسنة المأمور بها الداعي في مقابل الجهال، خير من السيئة التي هي مقتضى تقابل السيئة بمثلها، وهذه الجملة كمقدمة لقوله - تعالى - ادفع يا رسول اللّه، أو أيها الذي تواجَه بالسيئة {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي ادفع أذى الكفار وكيدهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق في دفع الأذى والكيد، وقد جمع الإمام السجاد(عليه السلام) ذلك في قطعة من دعاء (مكارم الأخلاق) هي قوله(عليه السلام): «سددني لأن أعارض من غشني بالنصح وأجزي من هجرني بالبر وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة»(1)، فإذا فعلت ذلك كان الذي بينك وبينه عداوة وغضاضة كأنه ولي أي موال لك حميم كثير المودة والمحبة(2).

وجاء في مجمع البيان للطبرسي(رحمه الله): قال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}، قيل معناه: لا تستوي الملة الحسنة التي هي الإسلام والملة السيئة التي هي الكفر،وقيل معناه لا تستوي الأعمال الحسنة ولا الأعمال القبيحة، وقيل: لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة، فلا يستوي الصبر والغضب والحلم والجهل والمداراة والغلظة والعفو والإساءة، ثم بين سبحانه ما يلزم على الداعي من الرفق بالمدعو فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} خاطب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال ادفع بحقك باطلهم وبحلمك جهلهم وبعفوك إساءتهم {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} معناه: فإنك إذا دفعت خصومك بلين ورفق ومداراة صار عدوك الذي

ص: 421


1- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأفعال ومرضي الأفعال.
2- تفسير تقريب القرآن 4: 652.

يعاديك في الدين بصورة وليك القريب فكأنه وليك في الدين وحميمك فيالنسب(1).

القول اللين مع الأعداء

عندما ذهب نبي اللّه موسى (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) إلى فرعون أمره اللّه تعالى أن يخاطب فرعون باللين والرفق. قال اللّه تعالى: {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(2).

فقد قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ قال لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ} يقول اللّه عزّ وجلّ: كنّياه وقولا له يا أبا مصعب»(3).

ففرعون ذلك المتجبر الظالم الذي مارس بحق الناس ألوان الظلم والتعسف، فقد ذكر في التاريخ: إن فرعون كان يأخذ النساء الحوامل ويبقر بطونهنّ ويستخرج الأجنة فإذا كان مولوداً ذكراً قطع رأسه، وبهذه الكيفية وغيرها قتل فرعون أكثر من مائة ألف من الأطفال، ووصل به الاستخفاف بأرواح الناس وممتلكاتهم والاستهزاء بهم حتى ادّعى أنه الرب الأعلى حيث قال مخاطباً الناس كما في قوله تعالى: {أَنَا۠ رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}(4) ومع كل هذه الجرائم البشعة التي مارسها فرعون بحق الناس أمر اللّه موسى(عليه السلام) أن يكلمه باللين والرفق، وهذا بحد ذاته دليل واضح على استخدام اللين في الكلام والمعاملة سواء كان مع الأصدقاء أو الأعداء.

ص: 422


1- تفسير مجمع البيان 9: 23.
2- سورة طه، الآية: 43-44.
3- معاني الأخبار: 385.
4- سورة النازعات، الآية: 24.

والمتتبع لسيرة المصطفى وآل بيته الأطهار(عليهم السلام) سوف يلاحظ وبوضوح أنهذه الخصلة الحميدة (اللين والرفق) كانت علامة بارزة في تعاملهم مع شيعتهم ومحبيهم، بل ومع أعدائهم أيضاً، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى ولا عجب لأنهم(عليه السلام) المنهل العذب الذي يرتوي منه الناس؛ ومنبع الأخلاق الحميدة وجميع الفضائل الحسنة.

عطاء سيد الشهداء(عليه السلام)

قدم أعرابي المدينة، فسأل عن أكرم الناس بها فدل على الحسين(عليه السلام) فدخل المسجد فوجده مصلياً، فوقف بإزائه وأنشأ:

لم يخب الآن من رجاك ومن *** حرك من دون بابك الحلقة

أنت جواد وأنت معتمد *** أبوك قد كان قاتل الفسقة

لو لا الذي كان من أوائلكم *** كانت علينا الجحيم منطبقة

قال: فسلم الحسين(عليه السلام) وقال: «يا قنبر، هل بقي شيء من مال الحجاز؟».

قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فقال(عليه السلام): «هاتها قد جاء من هو أحق بها منا»، ثم نزع برديه ولف الدنانير فيهما، وأخرج يده من شق الباب حياء من الأعرابي، وأنشأ:

«خذها فإني إليك معتذر *** واعلم بأني عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغداة عصا *** أمست سمانا عليك مندفقة

لكن ريب الزمان ذو غير *** والكف مني قليلة النفقة»

قال: فأخذها الأعرابي وبكى، فقال(عليه السلام): «لعلك اسقللت ما أعطيناك؟»، قال: لا ولكن كيف يأكل التراب جودك؟»(1).

ص: 423


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 65.

الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وحسن المعاملة

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

المتتبع لسيرة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وخصوصاً في جانب معاملة الناس بلا شك يعجز عن الوصف الكامل لهذه السيرة، فقد كان(صلی الله عليه وآله وسلم) منبع الأخلاق الطيبة حتى مع أعدائه ومبغضيه، والشواهد على ذلك كثيرة، فعفوه عن قومه الذين عملوا في سبيل القضاء عليه شتى أنواع المكائد ومارسوا أبشع الأعمال من المصاديق الواضحة على سيرته(عليه السلام)(2).

وقد ذكر في التاريخ أن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في غزوة أحد كسرت رباعيته وشجّ وجهه من قبل جهال قومه، ولكنه(صلی الله عليه وآله وسلم) قابل كل هذا بأسلوب لم تعهده العرب من قبل هو (أسلوب العفو والرحمة) ولم يكتف رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بالعفو عنهم، بل دعا لهم بالهداية وقد روي أنه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللّهم إهد قومي فانهم لا يعلمون»(3)،

قومه الذين أذاقوه أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بدءاً بتكذيبه ونعته بنعوت كاذبة إلى وضع الأشواك في طريقه وقتل أتباعه وآل بيته، وقد كان بإمكان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يقضي عليهم ولو دعا اللّه تعالى أن يجتثهم لأجتثهم جميعاً لكنه مع كل ذلك كان يدعو لهم بالهداية.

فأي قلب هذا وأي إنسانية انطوى عليها الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، فهذه الأعمال وغيرها هي التي جعلت الإسلام حياً في ضمائر الناس، وهي التي جعلت أعدائه(صلی الله عليه وآله وسلم) يطمعون في عفوه وصفحه.

ص: 424


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- انظر: مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 206.
3- انظر: مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 192، والخرائج والجرائح 1: 164، والاحتجاج 1: 211.

من عظيم أخلاقه(صلی الله عليه وآله وسلم)

ينقل أن عبد اللّه بن الزبعري كان يهجو رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ويعظم القول فيه والوقيعة في المسلمين فلما فتحت مكة هرب منها، وحينما عرف أن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) رسول الرحمة والإنسانية، رجع إلى مكة واعتذر من الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) مما بدا منه فقبل الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) عذره، وعلى إثر ذلك أسلم، بل وقد أمر له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بحلة، وقد أنشد - الزبعري - يقول:

ولقد شهدت بأن دينك صادق *** حقاً وإنك في العباد جسيم

واللّه يشهد أن أحمد مصطفى *** مستقبل في الصالحين كريم

وقال أيضاً - الشاعر - :

فالآن اخضع للنبي محمد *** بيد مطاوعة وقلب نائب

ومحمد أوفى البرية ذمة *** وأعزّ مطلوب وأظفر طالب

هادي العباد إلى الرشاد *** وقائد للمؤمنين بضوء نور ثاقب

إني رأيتك يا محمد عصمة *** للعالمين من العذاب الواصب(1)

وهذه الأخلاق وهذه السيرة ليست مع قومه فقط وإنما مارسها مع اليهود أيضاً، فقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال: «إن يهودياً كان له على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) دنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك، فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): إذن اجلس معك فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة وكان أصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يتهددونه ويتواعدونه فنظر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إليهم، فقال: مالذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول اللّه

ص: 425


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 166.

يهوديٌ يحبسك؟

فقال: لم يبعثني ربي عزّ وجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره، فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وشطر مالي في سبيل اللّه...»(1)،

وهكذا كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يعامل الناس باللين والرفق حتى استطاع بهذا الأسلوب أن يكسب قلوب الناس وعواطفهم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(2).

فهنا - في هذه الآية المباركة - بيّن سبحانه أن مساهلة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إياهم ومجاوزته عنهم من رحمته تعالى حيث جعله لين العطف حسن الخلق {فَبِمَا رَحْمَةٖ} أي فبرحمة {مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} معناه: أن لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين لأنك تأتيهم مع سماحة أخلاقك وكرم سجيتك بالحجج والبراهين {وَلَوْ كُنتَ} يا محمد {فَظًّا} أي جافياً سيئ الخلق {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي قاسي الفؤاد غير ذي رحمة ولا رأفة {لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} أي لتفرق أصحابك عنك ونفروا منك... وقيل معناه: فاعف عنهم فرارهم من أحد واستغفر لهم من ذلك الذنب {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي:

استخرج آراءهم واعلم ما عندهم، واختلفوا في فائدة مشاورته إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد على أقوال أحدها: إن ذلك على وجه التطيب لنفوسهم والتآلف لهم والرفع من أقدارهم ليبين لهم أنهم ممن يوثق بأقوالهم ويرجع إلى آرائهم.

وثانيها: إن ذلك لتقتدي به أمته في المشاورة ولم يروها نقيصة، كما مدحوا

ص: 426


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 465.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.

بأن أمرهم شورى بينهم. وثالثها: إن ذلك لأمرين، لإجلال أصحابه ولتقتدي أمته في ذلك. ورابعها: إن ذلك ليمتحنهم بالمشاورة ليتميز الناصح من الغاش. وخامسها: إن ذلك في أمور الدنيا ومكائد الحرب ولقاء العدو وفي مثل ذلك يجوز أن يستعين بآرائهم(1).

وهو(صلی الله عليه وآله وسلم) القائل: «أدبني ربي فأحسن تأديبي»(2).

عصر المرحمة

كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) دائم الحركة والتنقل بين أصحابه يزور القبائل ويجتمع بالناس ويرشدهم ويعود المرضى ويقضي حوائج المحتاجين، كما أنّه بنى ملجأ(3) في المسجد نزل فيه الذين لا مأوى لهم، وكذلك امتاز(صلی الله عليه وآله وسلم) بالعفو، فعفوه لا نظير له، فقد عفا عن المرأة اليهودية التي وضعت له السم(4)، وعفا عن قاتل عمّه حمزة، وعفا عن هند امرأة أبي سفيان التي أمرت بقتل حمزة وشق صدره واخراج كبده وبعد ذلك لاكت كبده(رحمه الله)، حتى سميت هند بآكلة الأكباد؛ ولذلك جاء وصفها هذا في زيارة عاشوراء «اللّهم إن هذا يوم تبركت به بنو أمية (وابن آكلة الأكباد) اللعين ابن اللعين...»(5)، وعفا أيضاً عن أبي سفيان رأس الشرك والظلال الذي ترأس الحملة ضد دعوته(صلی الله عليه وآله وسلم)(6).

وهناك الكثير من الشواهد والأعمال التي تدل على عظم أخلاقه وعفوه حتى

ص: 427


1- انظر: تفسير مجمع البيان 2: 428.
2- بحار الأنوار 16: 210.
3- يطلق عليه صُفّة المسجد يسكن فيه من لا مأوى لهم وقد وصل عددهم كما في بعض التواريخ إلى أربعمائة فقير.
4- انظر: الأمالي للشيخ الصدوق: 224.
5- مصباح المتهجد 2: 775.
6- انظر: بحار الأنوار 21: 101.

خاطبه اللّه قائلاً: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(1).

فقد روي أن إعرابياً من بني سليم جاء إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فلما وقف بازائه ناداه: يا محمد يا محمد... أنت الساحر الكذاب الذي ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة هو أكذب منك، أنت الذي تزعم أن لك في هذه الخضراء إلهاً بعث بك إلى الأسود والأبيض، واللات والعزى لو لا أني أخاف أن قومي يسمونني العجول لضربتك بسيفي هذا ضربة أقتلك بها فأسود بك الأولين والآخرين، فوثب إليه - أحد أصحابه - ليبطش به، فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «اجلس... فقد كاد الحليم أن يكون نبياً»، ثم التفت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى الأعرابي، فقال له: «يا أخا بني سليم هكذا تفعل العرب؟ يتهجمون علينا في مجالسنا يجبهوننا بالكلام الغليظ؟ يا أعرابي، والذي بعثني بالحق نبياً إن من ضرّ بي في دار الدنيا هو غداً في النار يتلظى، يا أعرابي، والذي بعثني بالحق نبياً إن أهل السماء السابعة يسمونني: أحمد الصادق، يا أعرابي، أسلم تسلم من النار، يكون لك ما لنا وعليك ما علينا، وتكون أخانا في الإسلام...» وبعد ذلك أسلم الرجل وصار داعياً إلى الإسلام(2).

هكذا كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يعامل الناس حتى أخرجهم من الظلام الدامس الذي كانوا يعيشون فيه من القتل والسبي والظلم والتشريد إلى النور الساطع الذي كشف كل ذلك وأزاله.

اليوم يوم المرحمة

حقاً، يصح لنا أن نسمّي عصر الرسالة بعصر المرحمة والأمان والحرية، وهذا

ص: 428


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- انظر: بحار الأنوار 43: 69.

ما صرح به رسول الرحمة(عليه السلام) عندما فتح جيش المسلمين مكة.

فقد روي أن راية رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كانت مع سعد بن عبادة... فلمّا حاذاهما سعد - أبو سفيان والعباس - نادى: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل اللّه قريشاً... فوقف النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وناداه: لا يا أبا سفيان، بل اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ اللّه قريشاً وأرسل إلى سعد فعزله عن اللواء(1).

فأمر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بأخذ الراية بقوله(صلی الله عليه وآله وسلم): «أدرك سعداً فخذ الراية منه وأدخلها إدخالاً رفيقاً»، فأخذها علي(عليه السلام) وأدخلها كما أمر(صلی الله عليه وآله وسلم)(2).

فرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما ظفر بعدوه عفى عنه بل التاريخ ينقل أن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما فتح مكة لم يخرج حتى من كان غاصباً لدور المسلمين، بل أسكن أصحابه في منطقة خارج مكة حتى يبنوا لهم دوراً بدل دورهم التي غصبها بعض من بقي في مكة.

هذه هي المعاملة التي كان يتبعها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مع الناس والتي كانت من ضمن الأسباب التي رسخت وشجعت الناس على الدخول في الإسلام أفواجاً أفواجاً.

الأخلاقية الفاضلة

قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا}(3).

ص: 429


1- انظر: بحار الأنوار 21: 105 و 107.
2- انظر: إعلام الورى: 109، وبحار الأنوار 21: 130.
3- سورة النصر، الآية: 1-3.

جاء في بعض التفاسير لهذه السورة المباركة: أن اللّه سبحانه وتعالى بشّر رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) في هذه السورة بالنصر والفتح قبل وقوع الأمر {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} أي جماعة بعد جماعة وزمرة بعد زمرة، والمراد بالدين الإسلام والتزام أحكامه واعتقاد صحته... فكانوا يدخلون في دين اللّه أفواجاً أي جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً أو اثنين اثنين فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام...(1).

وما كان هذا ليحصل لو لا الأخلاقية الفاضلة والسيرة الحسنة التي تحلى بها النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وكذلك لرؤية الناس الحقائق المكنونة في الإسلام فلم يجبرهم رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) على الدخول في الإسلام بل اتبع أسلوب اللين والرفق والرحمة والعفو وما إلى ذلك من الفضائل الحميدة، مما ترك أثراً فاعلاً في قلوب الناس فدخلوا في الإسلام وهنالك آيات كثيرة أشارت إلى ذلك.

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(2) وهذه الآية تدل على أن أسلوب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كان أسلوباً ليّناً لا غلظة فيه.

وقال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(3) وهذا دليل على أن الدعوة إلى الدين يجب أن تكون باللين والرفق لا بالإجبار والإكراه.

وفي هذا المعنى ورد عن سليمان بن مهران قال: دخلت على الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) وعنده نفر من الشيعة فسمعته وهو يقول: «معاشر الشيعة، كونوا لنا

ص: 430


1- انظر: تفسير مجمع البيان 10: 466.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة البقرة، الآية: 256.

زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول وقبيح القول»(1).

أمير المؤمنين(عليه السلام) وحسن المعاملة

لقد حَذا أمير المؤمنين(عليه السلام) حذو الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في جميع ما صدر منه، كيف لا وهو نفس الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)؟ كما أشارت الآية الكريمة: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ}(2) ولذا فهو(عليه السلام) امتداد طبيعي لحياة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في كافة الجوانب إلّا النبوة وكذلك في جانب معاملة الناس وقضاء حوائجهم.

فقد روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) في خبر: أن الإمام علي(عليه السلام) «رجع إلى داره في وقت القيظ فاذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدّى علي وحلف ليضربني، فقال(عليه السلام): يا أمة اللّه أصبري حتى يبرد النهار ثم أذهب معك إن شاء اللّه، فقالت: يشتد غضبه وحرده عليّ، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا واللّه أويؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟

فمضى إلى بابه فقال: السلام عليكم، فخرج شاب فقال علي(عليه السلام): يا عبد اللّه اتق اللّه فإنك قد أخفتها وأخرجتها، فقال الفتى: وما أنت وذاك؟ واللّه لاحرقنَّها لكلامك، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، تستقبلني بالمنكر وتنكر بالمعروف؟

قال: فأقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين، فسقط الرجل في يديه فقال: يا أمير المؤمنين أقلني عثرتي، فواللّه لأكونن لها أرضاً

ص: 431


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 400.
2- سورة آل عمران، الآية: 61.

تطأني،...

فقال(عليه السلام): يا أمة اللّه أدخلي منزلك ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه»(1).

الأئمة(عليهم السلام) ولين الكلام

قال أحد النصارى للإمام الباقر(عليه السلام): أنت بقر؟

قال(عليه السلام): «أنا باقر»، قال: أنت ابن الطباخة؟ قال: «ذاك حرفتها»، قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية؟ قال(عليه السلام): «إن كنت صدقت غفر اللّه لها، وإن كنت كذبت غفر اللّه لك»، فأسلم النصراني(2)، لما رأى عظيم أخلاقه.

الكلام عن سيرة أحد الأئمة الأطهار(عليهم السلام) عن نفسه، أو عن تعامله مع الناس، أو عن شجاعته، أو كرمه،... هو عين الكلام عنهم جميعاً(عليهم السلام) لأنهم خلقوا من نور واحد وطينة واحدة، وما يصدر عن أحدهم بلا شك سوف يصدر عينه عنهم(عليهم السلام) لو عرض لهم وفي نفس الظروف، لأنهم معصومون عن الخطأ وجميع الأفعال والأقوال التي صدرت منهم(عليهم السلام) هي على أكمل وجه، وهذا ثابت في عقيدتنا، وكل ما ينافي ذلك فهو باطل وناتج عن أثر شبهة أو جهل سواء كان تقصيراً أو قصوراً.

كلهم(عليهم السلام) نور واحد

يقول البعض من الناس إن الإمام الحسن(عليه السلام) ميال إلى السلام والصلحبعكس الإمام الحسين(عليه السلام) فإنه ميال إلى القتال والتحدي. وهذا خلاف الحقيقة فانهم(عليهم السلام) ميالون إلى السلام في ظروفه بل ويهيئون ظروف هذا السلام، وميالون

ص: 432


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 106.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 207.

إلى القتال في ظروفه اضطراراً، فلو كان الإمام الحسين(عليه السلام) في محل الإمام الحسن(عليه السلام) لفعل مثلما فعل الإمام الحسن(عليه السلام) بلا زيادة أو نقصان، وكذلك الإمام الحسن(عليه السلام) لو كان في يوم كربلاء لفعل مثلما فعل الإمام الحسين(عليه السلام).

وخلاصة ما نريد بيانه: إن جميع الأفعال والأقوال التي صدرت منهم(عليهم السلام) هي الأعمال والأقوال التي ينبغي لها أن تصدر، ولا يمكن أن تصدر من واحد دون الآخر في نفس الظروف.

فعندما نستشهد برواية أو قصة عن أحد الأئمة(عليهم السلام)، فمثلاً: إذا قلنا بأن الإمام السجاد(عليه السلام) كان يفعل كذا وكذا فإن كل إمام منهم(عليهم السلام) يفعل نفس الفعل مع نفس الظروف، وفي علم الكلام هناك مبحث يقرره علماؤنا: أن علمهم(عليهم السلام) واحدٌ مستمد من علم الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) فلا فرق بين واحد وآخر لا في العلم، ولا في الفضيلة ولا في أي شيء آخر، وكل كلام عن فضل أحدهم ينطبق على الجميع بلا تفاوت، ففي الرواية المتقدّمة عن الإمام الباقر(عليه السلام) وكيفية المعالجة أو الردّ الذي أجاب به النصراني لو حصل لأي إمام من الأئمة الأطهار(عليهم السلام) لكان الرد واحداً، فهم جميعاً(عليهم السلام) يعاملون الناس باللين والرفق في أقوالهم وفي أفعالهم(عليهم السلام) وهذا الأسلوب مستمد من سيد البشرية جمعاء نبي الرحمة(صلی الله عليه وآله وسلم).

وبهذه الطريقة وبهذا الأسلوب استطاع آل المصطفى(عليهم السلام) أن يهدوا ويؤثروا بل يسودوا على كثير من الناس حتى أعدائهم ومخالفيهم، فهذه الرواية وكثير غيرها تبين ذلك.

فذلك النصراني الذي كان يبغض آل البيت(عليهم السلام) بحيث وصلت به الضغينةوالحقد إلى درجة التجاسر على الإمام الباقر(عليه السلام) واسماعه كلمات قاسية، ولكن الإمام(عليه السلام) وبكل ثبات وهدوء رد عليه بأسلوب هادئ وليّن، ولم يستخدم العنف في ذلك، بل قال(عليه السلام) له: «إن صدقت في كلامك غفر اللّه لها، وإن كذبت غفر

ص: 433

اللّه لك» هذه هي الروح الإيمانية العظيمة التي أثّرت في قلب ذلك النصراني وهدته إلى الحق، وتلك الروح هي التي أثمرت هداية المئات، بل الآلاف من ذوي القلوب المتحجرة التي كانت الغالبية من الناس تحملها في صدر الإسلام، وأصبحوا من أثر هذه الروح دعاة حق مخلصين، واستمر تدفق ينابيع هذه الروح الطيبة العذبة اللطيفة إلى يومنا هذا، وسوف يستمر إن شاء اللّه تعالى إلى آخر الزمان في قلوب المخلصين أتباع المنهج القويم، المتمثل بآل المصطفى(عليهم السلام).

أتباع آل البيت(عليهم السلام)

اشارة

فإذا كنا ندّعي بأننا أتباع هذا النهج فلنتمسك به قولاً وفعلاً، ولنتعامل مع الناس - مع كل الناس - بأسلوب لطيف وليّن حتى يصدق علينا بأننا أتباع آل البيت(عليهم السلام).

وليس هذا فقط - وإن كان في هذا الفوز بالجنة - وإنّما كذلك للكلام الليّن الرقيق تأثير كبير في حياتنا اليومية التي نعيشها فالأستاذ والعامل والمهندس والتاجر وجميع شرائح المجتمع بالإضافة إلى محبوبيتهم بين الناس، فإنهم يحصلون على منافع عظيمة نتيجة كلامهم الليّن وأسلوبهم الرقيق في التعامل، فالتاجر يزداد وفود الناس على بضاعته والمهندس تتوفر له فرص عمل جيدة وكذلك العامل والأستاذ وهكذا... .

وبهذا يحصل صاحب الكلام اللَّين والمعاملة الحسنة على محبة اللّه تعالى ومحبة الناس، بعكس الإنسان غليظ الطبع خشن المعاملة، فإن الناس يتفرقونعنه ولا يميلون إليه، ولعل أغلب الناس لا يساعدونه إن ألمت به مصيبة ويتركونه لمصيره، وفي حياتنا المعاصرة نماذج كثيرة من هذا، بل إن ما يعيشه الناس اليوم من تناحر وتصارع أغلبه ناشئ عن الغلظة والعنف وسوء المعاملة بينهم، فلو

ص: 434

اتبعوا أسلوب اللين والرفق في ما بينهم لتحولت الضغينة والعداوة السائدة اليوم إلى محبة وسلام، وعاش الناس أمة واحدة كما خلقهم اللّه تعالى. وقد قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(1).

علماؤنا الأعلام وحسن المعاملة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا كميل هلك خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة»(2).

كما أن الأئمة(عليهم السلام) امتداد طبيعي لسيرة الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) فإن العلماء امتداد لسيرة الأئمة، والتاريخ يحتفظ في ذاكرته بكثير من العلماء الأفاضل الذين ساروا على نهج الرسالة.

الخاجة نصير الدين الطوسي(رحمه الله) والرفق في المعاملة

ينقل أن أحد الأشخاص من ذوي الألسن اللاذعة كتب رسالة إلى الخاجة(رحمه الله) تفيض بالشتم والسباب والكلام البذئ، وكان من ضمنها أنه خاطبه بالكلب! فلما قرأها الخاجة(رحمه الله) لم يبد أي غضب أو عصبية أو يرد عليه بالمثل، بل كتب له رسالة جواباً على رسالته قال له فيها: إنني لست بكلب؛ وذلك لأن الكلب يمشي على أربع، ولا يستطيع التكلم والكتابة، وله مخالب وهو يعوي! أما أنا فأمشيعلى رجلين وأستطيع أن أتكلم وأكتب وليس لي مخالب بل لي أظافر حسنة ولا أعوي.

هذه هي أخلاق عُلمائنا لا يبادلون الإساءة بالإساءة، بل يقابلون الإساءة

ص: 435


1- سورة المؤمنون، الآية: 52.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 147.

بالإحسان.

شاهد آخر

كان في مدينة كربلاء المقدسة شخص قد أضمر العداء لأحد العلماء(1) الأبرار، وقد أنشأ قصيدة كاملة يهجو فيها هذا العالم، وكان يقرؤها في كلّ محفل ومجلس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

ينقل صاحب القصيدة إنه في ذات يوم حار عند الظهيرة طُرق باب داري وقد انتهيت من تناول الغذاء توّاً، وعندما فتحت الباب فوجئت بالعالم الذي أنشأت القصيدة في هجوه خلف الباب، فدعوته إلى الدخول، وعندما استقر بنا المجلس طلب مني مترجياً أن أقرأ عليه القصيدة، فامتنعت عن ذلك، فلم يرض إلّا بقراءتها عليه، فاستسلمت للأمر وقرأتها وأنا أتصبب عرقاً من الخجل، وعندما انتهيت منها أخرج من جيبه ظرفاً فيه مقدار من المال وأعطاه لي، وقال: جرت العادة إذا قرأ شخص قصيدة أن يعطوه هدية، فأرجو منك قبول الهدية مني، ومن شدة دهشتي لم أعرف بماذا أجيبه، فوضع المال في يدي وخرج، فبدّل بمعاملته هذه كل الحقد الدفين الذي كنت أحمله ضدّه إلى ود ومحبة له.

نعم هذه المعاملة مستمدة من سيرة المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار(عليهم السلام). إذ هم مقتدى كل مؤمن ومؤمنة.

فمن وصايا الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية قال: «وأحسنإلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك، وأرض لهم ما ترضاه لنفسك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وحَسّن مع جميع الناس خلقك، حتى إذا غبت عنهم حنّوا إليك، وإذا مت بكوا عليك، وقالوا: إنا للّه وإنا إليه راجعون.

ص: 436


1- هو السيد أبو الحسن الإصفهاني(رحمه الله).

ولا تكن من الذين يقال عند موته الحمد للّه رب العالمين، واعلم أن رأس العقل بعد الإيمان باللّه عزّ وجلّ مداراة الناس ولا خير في من لا يعاشر بالمعروف...»(1).

نسأل اللّه العلي القدير أن يحلينا بحلية الصالحين ويلبسنا زينة المتقين في بسط العدل وكظم الغيظ وإطفاء النائرة وضم أهل الفرقة وإصلاح ذات البين.

«الحمد للّه الذي يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره، الحمد للّه كما يُحبّ اللّه أن يحمد، الحمد للّه كما هو أهله، اللّهم أدخلني في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد، وأخرجني من كل سوء أخرجت منه محمداً وآل محمد، صلى اللّه على محمد وآل محمد»(2).

من هدي القرآن الحكيم

الرفق ولين الكلام

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(3).

وقال سبحانه: {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِحُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ}(4).

وقال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(5).

ص: 437


1- من لا يحضره الفقيه 4: 387.
2- الكافي 2: 529.
3- سورة آل عمران، الآية: 159.
4- سورة البقرة، الآية: 83.
5- سورة طه، الآية: 44.

قول الخير والقول الحسن

قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَٰنِ عَدُوًّا مُّبِينًا}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(2).

وقال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَٰهِلِينَ}(3).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(4).

وقال سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(5).

الصفح الجميل

قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(6).

وقال سبحانه: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}(7).

وقال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}(8).

ص: 438


1- سورة الإسراء، الآية: 53.
2- سورة الفرقان، الآية: 63.
3- سورة القصص، الآية: 55.
4- سورة الأحزاب، الآية: 70-71.
5- سورة فصلت، الآية: 34.
6- سورة الحجر، الآية: 85.
7- سورة المعارج، الآية: 5.
8- سورة المزمل، الآية: 10.

من هدي السنّة المطهّرة

حفظ اللسان

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «نجاة المؤمن في حفظ لسانه»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «قلت أربع كلمات أنزل اللّه تعالى تصديقي بها في كتابه قلت: المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر فأنزل اللّه تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(2)...»(3).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لا يزال العبد المؤمن يكتب محسناً مادام ساكتاً، فإذا تكلم كتب محسناً أو مسيئاً»(4).

وقال(عليه السلام): «أمرني والدي(عليه السلام) بثلاث ونهاني عن ثلاث فكان في ما قال لي: يا بني، من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم ومن لا يملك لسانه يندم، ثم أنشدني فقال(عليه السلام):

عود لسانك قول الخير تحظ به *** إن اللسان لما عودت يعتاد

موكل بتقاضي ما سننت لهفي *** الخير والشر فانظر كيف تعتاد»(5)

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «حق اللسان إكرامه عن الخنا(6). وتعويده

ص: 439


1- الكافي 2: 114.
2- سورة محمد، الآية: 30.
3- بحار الأنوار 101: 370.
4- الكافي 2: 116.
5- الخصال 1: 169.
6- الخنا: الفحش من القول.

الخير وترك الفضول التي لا فائدة لها. والبر بالناس. وحسن القول فيهم»(1).

التأدب بآداب اللّه

قال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «... من تأدب بأدب اللّه عزّ وجلّ أدّاه إلى الفلاح الدائم. ومن استوصى بوصية اللّه كان له خير الدارين»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من لم يصلح على أدب اللّه سبحانه لم يصلح على أدب نفسه»(3).

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أدبني ربي فأحسن تأديبي»(4).

قول الخير

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «والذي نفسي بيده، ما أنفق الناس من نفقة أحبّ من قول الخير»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «قولوا الخير تعرفوا به واعملوا الخير تكونوا من أهله»(6).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قلب الأحمق في فمه وفم الحكيم في قلبه»(7).

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «القول الحسن يثري المال وينمي الرزق

ص: 440


1- من لا يحضره الفقيه 2: 619.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 17.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 654.
4- بحار الأنوار 16: 210.
5- المحاسن 1: 15.
6- الكافي 2: 225.
7- تحف العقول: 489.

وينسي في الأجل ويحبب إلى الأهل ويدخل الجنة»(1).

الرفق واللاعنف

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما اصطحب اثنان إلّا كان أعظمهما أجراً وأحبهما إلى اللّه عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه»(2).

وقال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(3).

ومن كتاب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) لبعض عماله: «واخلط الشدة بضغث(4) من اللّين، وارفق ما كان الرفق ارفق... واخفض للرعية جناحك وابسط لهم وجهك وألن لهم جانبك وآس بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك، والسلام»(5).

وقال أبي عبد اللّه(عليه السلام): «من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس»(6).

ص: 441


1- الأمالي الشيخ الصدوق: 2.
2- الكافي 2: 120.
3- الكافي 2: 119.
4- الضغث: بالكسر والفتح، قبضة الحشيش المختلط اليابس رطبها ويابسها، مجمع البحرين 2: 257 مادة (ضغث).
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 46، من كتاب له(عليه السلام) إلى بعض عما له.
6- الكافي 2: 120.

النضج وأثره في حياة الإنسان

آثار النضج

اشارة

قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّٰلِحُونَ}(1).

إن من الأمور الصعبة والمهمة التي يلزم على الإنسان السعي وراءها وتحصيلها هو النضج، بمعنى أن يكون الإنسان ناضجاً في فكره وسلوكه. ولصعوبة الوصول إلى هذا المستوى نرى أنه لا يستطيع كل شخص الوصول إليه، ولا يتمكن تحصيله بسهولة؛ إذ أن هذا المستوى يتحصل من أثر توالي الأحداث، وتقلب الأحوال، وممارسة الصعاب، وحفظ التجربة، وبهذه الأمور وشبهها ينقدح النضج في داخل الإنسان ويترعرع وينمو.

وفي الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «من تورط في الأمور غير ناظر في العواقب فقد تعرض لمفظعات النوائب، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم، والعاقل من وعظته التجارب، وفي التجارب علم مستأنف، وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال»(2).

فعندما يصل الإنسان إلى مفترق طرق، ويكون نهباً لمشاكل وصعاب،

ص: 442


1- سورة الأنبياء، الآية: 105.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 388.

تتقاذفه من هنا وهناك، حينئذ يتبين جوهر الإنسان حيث النضج أو عدمه.

ذكر في قصة: أن امرأة كانت تصر على زوجها ليتزوج بامرأة أخرى، ولكنه لم يكن يستجيب لها، بل كان يعللها ويسوفها، وبعد مدة رضخ لرأيها وتزوج بامرأة أخرى، وبمجرد أن رأت الزوجة الأولى الوضع الجديد، وأن ضرة نزلت بيتها انقلب حالها واضطربت، وفجأة خرجت من البيت كاشفة شعرها مضطربة، متوجهة إلى المسجد، وجاء زوجها في إثرها ودار بينهم كلام طويل حتى انتهى إلى توافق الزوجين وتصالحهما ثم عادا معاً إلى الدار.

والشاهد في هذه الرواية: إن المرأة هذه ربما لم تكن تمتلك النضج الكافي ولم تعلم بما سيجري عليها؛ وإنما كانت تتأثر بتقلب الأحوال بسرعة عجيبة بحيث تفقد معها عقلها وتتصرف تصرفاً غير لائق بها، كما خرجت إلى المسجد كاشفة عن رأسها؛ فلم تكن تعلم بأنها غير قادرة على تحمل (ضرّة) تنزل عليها، ولكن عندما تحقق الأمر خرجت وهي كاشفة الرأس.

مراقبة النفس

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أحكم التجارب سلم من المعاطب»(1).

وقال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «ابن آدم، إنك لاتزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وماكانت المحاسبة من همك، وما كان الخوف لك شعاراً، والحزن لك دثاراً، ابن آدم إنك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي اللّه عزّ وجلّ ومسئول، فأعد جواباً».(2)

إن الإنسان ربما يقف على اعتاب المستقبل وهو جاهل تماماً بما تخبئ له

ص: 443


1- عيون الحكم والمواعظ: 431.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 115.

الأيام التالية، ولا يقدر أن يكشف ذلك أو يتنبأ به ليتخذ بإزائه الموقف الصحيح المعقول؛ ولذلك عليه أن يراقب نفسه وتصرفاته بدقة حتى لا يأتي عليه يوم يفقد فيه عقله وتوازنه أمام الحوادث والمشكلات بسبب قلة تجاربه، فيظهر أمام الآخرين وقد انكشف جوهره، وشخصيته الضعيفة المنهزمة وغير الناضجة.

وكيل السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله)

كان من الأساليب الحكيمة للسيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) في إدارة شؤون الناس، هو أنه(رحمه الله) كان يختار ويصطفي رجالاً من العلماء ليكونوا وكلاء عنه في البلدان المختلفة... فيبعثهم إلى مختلف البلاد لإدارة شؤون الناس، والقيام بالمهام الدينية هناك، من الوعظ والإرشاد وتوضيح المسائل الشرعية والإجابة عنها وإجراء عقود النكاح وغير ذلك من الوظائف التي تخص العلماء ورجال الدين عادة.

وقد ذكر أنه بعث مرة أحد الأفراد وكيلاً عنه إلى إحدى المناطق، وبعد مدة حدث خلاف كبير في تلك المنطقة، ولعل وكيل السيد كان طرفاً في النزاع، وهو أمر لا يليق بوكيل المرجع الديني؛ حيث يفترض فيه أن يكون دوره دائماً الإصلاح بين الناس لا صنع الخلاف بينهم. فاستقدمه السيد ليطلع على واقع الأمر ويعرف سبب الاختلاف، وعندما حضر هذا الوكيل عند السيد الاصفهاني قال له السيد: نحن بحاجة إلى وجودك في النجف عندنا هنا. قال ذلك من دون أن يستفسر سبب الاختلاف أو وجهه. ويلزم هنا أن نلاحظ كيف أن السيد(رحمه الله) غيّر مهمة وكيله إلى مهام أخرى باحترام حيث قال: نحن بحاجة إلى وجودك هنا.

وكان هذا أسلوباً حكيماً وسليماً ومؤدباً يستعمله فقهاؤنا في حل المشاكل؛ إذ

ص: 444

يتجنبون دائماً الشدة والعنف والغلظة في التعامل مع الأصدقاء والأعداء، ولا يوجهون إهانة لطرف من الأطراف أبداً، وهذه أخلاق الإسلام وسياسته الصالحة في إدارة الناس، قال اللّه تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(1).

ثم بعد ذلك استفسر بعض الحاضرين من السيد(رحمه الله) عن السبب الذي دعاه إلى عزل هذا الوكيل وبهذه الطريقة الهادئة، من دون سؤاله عن تفاصيل الاختلاف وسببه؟!

فأجاب السيد: عرفت بأنه لا يليق لهذا المنصب؛ وذلك أني عندما دعوته ليجلس بجانبي - حيث كان جالساً في نهاية المجلس - رأيته قام وجاء إليّ مهرولاً، فعرفت أنه لا يتمتع بالوقار والنضج في السلوك، وهذه صفات لا تمنح صاحبها أهلية إدارة مثل هذا المنصب الحساس، ولذلك لم أسأله عن سبب الاختلاف، لعدم الداعي له بعد الذي رأيته منه.

ولا يخفى أن وكيل المرجع هو وجه المرجع ومرآته التي تعكس - عادة - أخلاقه وسلوكه.

وذكر عن بعض الفضلاء الذي كان يجالس أحد مراجعنا الكبار (قدس اللّه أسرارهم) قال مرة: كلما استمرت مجالستي لهذا المرجع الكبير ازددت إعجاباً به وإخلاصاً له، فضلاً عن إعجابي الشديد بعلميته القوية وتقواه وأخلاقه الفاضلة؛ وذلك لما كنت أراه من شدة ارتباطه بالناس من جهة، وشدة تأثر الناس به والتزامهم بتوجيهاته وإرشاداته، وكان سبب قوة روابطه الاجتماعية وتأثيره المتزايدفي المجتمع هو النضج الكامل الذي كان يتمتع به في كل شؤونه.

ص: 445


1- سورة آل عمران، الآية: 159.

النضج الاجتماعي

ذكر في قصة: أن عبداً هرب من سيده والتجأ إلى غابة، وبعد عدة أيام فوجئ بأسد ضار كان يتوثب لافتراسه وهو يزأر، فاستيقن أنه سوف يكون طعمة للأسد الذي سينهش لحمه ويفترسه بعد قليل، ولكن عندما اقترب منه الأسد جلس على الأرض متألماً من شيئ أصابه وهو يشير إلى قدمه، فانتبه العبد إلى أن هناك شوكة كبيرة في رجل الأسد تؤلمه كثيراً أعجزته عن الوثوب عليه وافتراسه، فعمد العبد إلى تلك الشوكة وأخرجها من رجل الأسد؛ ليحظى بعد ذلك بصداقة الأسد جراء عمله هذا... .

فقام الأسد بإظهار تودده وحبه للعبد، حيث كان يأتي لزيارته في مخبأه كل يوم، واستمرت الأيام على هذه الحالة والأسد يزور الرجل كل يوم. حتى كان ذات يوم فلم يأت الأسد كعادته فاحتمل العبد بأن الأسد قد وقع في شباك الصيادين، وبعد مدة عثر عمال السيد على الغلام فأخذوه مكتوفاً إلى مولاه في المدينة وحكم عليه بالموت، وكانت طريقة القتل في تلك المدينة تتم بإلقاء المحكوم عليه بالموت في حفرة كبيرة لا يستطيع الفرار منها، ثم يطلقون عليه أسداً جائعاً يفترسه حتى الموت، فعندما جعلوا هذا العبد في الحفرة أمام الأسد الضارٍ، وإذا بالأسد أقبل عليه يهز ذيله لإظهار حبه وصداقته له، فعرف العبد بأن هذا الأسد صاحبه السابق، وقد أدهش المنظر الناس كثيراً، وحملهم على اعتبار ما جرى مكرمة عظيمة وفضلاً للعبد، فأخذوا يصفقون له ويعظمونه، ثم جعلوه ملكاً عليهم طبقاً لما كان مرسوماً عندهم، من أن تنصيب الملك وعزله كان يتم بيدهم واختيارهم.

وشاهد كلامنا في هذه القصة - وإن كانت غير واقعية ومن صنع الخيال الأدبي - هو أن الناس كانوا لا يتمتعون بالنضج السياسي والثقافي في حق الانتخاب؛فلذلك عزلوا ملكهم السابق عن منصبه وعينوا شخصاً آخر مكانه بلا داع أو مبرر.

ص: 446

فهل يستطيع عبد غير ناضج على إدارة المدينة؟!

فهل كان تنصيب رجل محنك صاحب تجربة وأهلية سياسية وإدارية، متمتع بالصفات التي تؤهله لمنصب الرئاسة والملوكية، أفضل؟ أم تنصيب العبد الذي لم يكن يمتلك من مؤهلات الإدارة سوى ما رأوه من علاقته بالأسد؟!

من الواضح أن المجتمع الذي لا يتصرف في شؤونه العامة طبق البصيرة والنضج، ولا يحكم العقل والمنطق السليم في أموره سوف يتردى في الحياة، وتسوء أوضاعه يوماً بعد يوم.

النضج حاجة عامة

إن النضج والوعي مسألة لا تخص أحداً دون أحد، بل تعم وتشمل حتى الهيئات والأحزاب والتجمعات المختلفة، وهو من العوامل الرئيسية لنجاح بعض الأحزاب أو الهيئات دون الأخرى؛ لأن موضوع النضج والاحتكام إلى العقل والبصيرة في السلوك من الأمور العامة التي تشمل الجميع.

وهو ليس بالأمر السهل والهين، وإنما بحاجة إلى التعب والجد والاجتهاد ليل نهار، والتحمل الكثير للصعاب والمشاكل، حتى يحصل الإنسان على درجة من التعقل والنضج تكون على شكل ملكة ثابتة في ذاته وكيانه، بحيث يستطيع أن يحل أكثر مشكلاته وأموره، ويتخذ مواقفه دائماً بالتي هي أحسن، وتحت ظل الحكمة والحنكة والذكاء.

الاستشارة من مقومات النضج

ومن أهم مقومات النضج هو الاستشارة، فإذا أراد الإنسان أن يكون ناضجاً في قراراته فعليه باستشارة ذوي الرأي، ولا يستبد برأيه في الأمور.

علماً بأن الاستشارة تبدأ بأصغر الأمور وتنتهي بأعظمها وهي إدارة البلاد

ص: 447

والعباد، فلا يحق للحاكم - غير المعصوم(عليه السلام) - أن يتخذ قرارات بشأن الأمة من دون الاستشارة، ومن هنا رأينا ضرورة شورى الفقهاء المراجع، واستشارة الأخصائيين الزمنيين، وعقد المؤتمرات الأقليمية والعالمية، واحترام الرأي الآخر، في سبيل الإنهاض بالأمة.

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «بعثني رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن فقال وهو يوصيني: يا علي ما حار من استخار، ولا ندم من استشار»(1).

وقال الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام): «من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً، وعند الخطأ عاذراً»(2).

وقال علي(عليه السلام): «ما عطب امرؤ استشار»(3).

وقال(عليه السلام): «لا رأي لمن انفرد برأيه»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وإن الجاهل من عد نفسه بما جهل من معرفة العلم عالماً، وبرأيه مكتفياً»(6).

ضياع الجهود

كان في إحدى المناطق مجموعة من الرجال العاملين والنشطين من أجل الإسلام، يتعاهدون الموعظة والإرشاد دائماً من العلماء والخطباء، وكان العلماء

ص: 448


1- وسائل الشيعة 8: 78.
2- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 123.
3- الخصال 2: 620.
4- كنز الفوائد 1: 367.
5- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 112.
6- تحف العقول: 73.

ينصحونهم بالوحدة والتلاحم والانسجام، ولكنهم اتخذوا سبيل الاختلاف والاضطراب في ما بينهم، فخيم عليهم النزاع والتنافر حتى آل الأمر بهم في النهاية إلى تفرقهم وتلاشى كيانهم، فضيعوا كل الأتعاب والنشاطات التي بذلوها في هذا السبيل، وكان ذلك بسبب عدم النضج والتعقل والوعي في إدارة العمل.

ومن الواضح أنهم افتقدوا حب الناس وخسروا شعبيتهم التي قدّموا من أجلها الكثير؛ وذلك لأن الذي يعجز عن حل مشاكله ولم يتمكن من كسب وإدارة أعضائه الخاصين والعاملين معه فهو عن كسب الآخرين أعجز.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلاث(1) بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم. فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها، والتواصي بها. واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم، وأوهن منتهم(2)، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي.

وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء وأجهد العباد بلاء وأضيق أهل الدنيا حالاً، اتخذتهم الفراعنة عبيداً فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار، فلم تبرحالحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة لايجيدون حيلة في امتناع ولاسبيلاً إلى دفاع حتى إذا رأى اللّه سبحانه جدَّ الصبر منهم على الأذى في محبته والاحتمال

ص: 449


1- المثلات: العقوبات.
2- المُنّة: القوة.

للمكروه من خوفه جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العزّ مكان الذل والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً وأئمة أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم. فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة. ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين؟ فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، وقد خلع اللّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين...»(1).

النضج الطبي

أصيب شخص في العراق بألم شديد في قدمه، فراجع الكثير من الأطباء لأجل العلاج ولكنه لم يجد عندهم شفاء ولا فائدة، وفي النهاية يئسوا من معالجته والقضاء على آلامه إلّا بقطع رجله، فلم يستجب المريض لذلك.

وفي ذات يوم سافر هذا المريض إلى مدينة الكوفة فصادف على جسر الكوفة رجلاً من البدو، وبعدما تعرف عليه وصادقه، شكا له مرضه الشديد، فوصف له ذلك البدوي علاجاً، فقال: خذ عدة ضفادع وشق بطونها من الوسط، وضعها على موضع الألم وشدها برباط.

يقول صاحب القصة: فعلت ذلك كما قال لي البدوي، وبعد أربع وعشرينساعة فقط ارتفع الألم وارتحت منه، ولم يعد ليّ ذلك الألم أبداً!

والشاهد في هذه القصة هو: الإشارة إلى أن أهمية العلوم ليست فقط بالتعلم

ص: 450


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

وفهم مسائلها، بل الأهم من ذلك هو النضج، وهكذا في الطب، حيث من الضروري النضج الطبي لدى الأطباء، وعدم التسرع واليأس من علاج المريض لمجرد ممارسة العلاج معه لفترة معينة، بلا تأكد تام وكامل من طرق العلاج؛ إذ أن بعض الأطباء ربما لا يتمتع بالتجارب الكافية التي تمنحه القدرة اللازمة على مكافحة الأمراض وتشخيص العلاج لها، ولا يمتاز بالنضج والمهارة الكافية في عمله، الأمر الذي يدعو أحياناً إلى التسرع في الحكم على المريض بعلاجات صعبة وعسيرة، كان من الممكن علاجه بطرق أسهل وأيسر لو تأنى ودقق وفحص أكثر، كما حكم بعضهم على هذا المريض بقطع ساقه بلا تحقيق أو تدقيق في احتمال وجود علاج آخر، أو بالاعتقاد بأن هذا العلاج - القطع - هو الوحيد.

النضج العلمي لدى الشيخ الأنصاري(رحمه الله)

لقد امتاز الشيخ المرتضى الأنصاري(رحمه الله) بالعمق والنضج العلمي الشديد في آرائه، فقد كان يتابع أقوال وآراء سائر الفقهاء، قولاً قولاً ورأياً ورأياً، ويفسرها ويوضحها، ويقلب وجوهها، ولايقبلها أو يؤيدها أو يردها بدون تدقيق وتحقيق.

مثلاً:

قاعدة: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)(1)، وقاعدة: (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده)(2) وغيرها من القواعد

ص: 451


1- قاعدة فقهية شهيرة، مستنبطة من الحديث الشريف لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «على اليد ما أخذت حتى تؤدي». نهج الحق وكشف الصدق: 456، أي: أن كل من استولى على مال غيره ووقع تحت يده كان ضامناً له، تلف عنده أو عند غيره. للمزيد راجع القواعد الفقهية للإمام الشيرازي(رحمه الله) الفصل الأول قاعدة اليد، ضمان اليد.
2- المراد منه: أن كل عقد يوجب الضمان في فرض الصحة يكون كذلك في فرض الفساد، والمراد منه هو الذي يتعلق بالمعاملة المادية، وهي قاعدة استقرائية حصلت في باب العقود التي تنبثق منها القاعدة، ووجد الفقهاء أن كل عقد مثل البيع والجعالة وغيرهما، الذي يحقق الضمان في صحيحه يتحقق الضمان في فاسده، ولكل من الموارد دليل خاص مذكور في محله.

الفقهية المهمة، كان يدقق النظر فيها ويقلب وجوه النظر والرأي حتى ينتهي إلى النتيجة قبولاً أو رداً، بتحقيق ودقة، وبلا تسرع وملل؛ ولذا نجد أن كتابيه (الرسائل) في الأصول و(المكاسب) في فقه التجارة، أصبحا من أهم المحاور التي تدور حولها الدراسة الدينية في الحوزات العلمية، بسبب نضج مؤلفها وضلوعه في العلم، وقوته في التدقيق والتحقيق، وشمولها لأدق الآراء وأعمقها في هذين العلمين.

نظرة إلى التاريخ العباسي

كان هارون العباسي أحد سلاطين بني العباس، وللأسف يعتبره بعض الغربيين الملك الأكبر للبلاد الإسلامية، حيث جعلوا منه شخصية عالمية مهمة؛ تشويهاً للإسلام. ولو لا وجود الحوزة العلمية في إيران لسرى ذلك التشويه حتى إلى إيران أيضاً في تقديس هذا السلطان الظالم، كما نواجه ذلك في صلاح الدين الأيوبي حيث يقدسه البعض مع ما ارتكب من الجرائم الكبيرة في حق الإسلام والمسلمين.

يذكر أنه في إحدى السنين عزل هارون واليه على خراسان (الفضل بن يحيى البرمكي)(1) ونصب مكانه (علي بن ماهان) وكان ابن ماهان رجلاً متملقاً وظالماًوقاسي القلب؛ ولذلك كان يمعن في أخذ الضرائب والأموال من الناس، ويجحف في ذلك كثيراً ويرسلها إلى بغداد محملة على آلاف النياق.

ص: 452


1- أبو العباس الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك (147-193) أخو هارون من الرضاعة، قلده هارون العباسي الوزارة وتولى خراسان، والبرامكة أسرة عريقة من بلخ ينتسبون إلى جدهم برمك الذي كان عالماً في الطب والتنجيم. وقد تقلدت هذه الأسرة منصب الوزارة للعباسيين فترة طويلة وكان لهم دوراً بارزاً في سياسة الدولة العباسية. وإن أول من اتصل من البرامكة بالعباسيين هو خالد بن برمك، الذي عرف بحصافة الرأي وشدة البأس، ولما تسلم الحكم هارون العباسي، بوأ البرامكة مكانة رفيعة حيث أوكل لهم الوزارة، وفي سنة (189ه) تبدل طالعهم وأفل نجم ونزلت بهم النكبة التي عرفت بنكبة البرامكة، فقتل أغلب رجالهم وسجن الباقين حتى ماتوا في السجون، وصودرت أموالهم. انظر: تتمة منتهى الآمال للشيخ عباس القمي.

وذات يوم قال هارون ليحيى وهو أبو جعفر البرمكي سائلاً: أين كانت تذهب هذه الأموال في زمن ولاية ابنك على خراسان، ولم يكن يبعثها إلى بغداد؟

وكان هارون يريد بقوله هذا أن يشير إلى عدم أهلية الفضل البرمكي وكفاءته في الولاية؟!

فقال له يحيى: سوف يأتي يوم تضطر إلى صرف عشرة أضعاف هذه الأموال التي بعثها إليك (علي بن ماهان) من خراسان لتعيد سلطانك على أهلها وتخضعها لحكمك، ومع ذلك لا يعود الأمر إلى ما كان عليه أولاً! وكان يحيى صادقا في كلامه هذا وذلك لكثرة توغله في القضايا السياسية، وكانت رؤيته هذه نتيجة نضجه السياسي.

وهكذا صار الأمر حيث ثار أهل خراسان ضد ظلم وإجحاف (علي بن ماهان)، مما اضطر هارون إلى تعبئة جيش كامل من أجل السيطرة على تلك الثورة الناشبة في خراسان وإخمادها، وقاد بنفسه ذلك الجيش وقد مرض في أثناء ذلك ومات هناك ودفن بخراسان، بعدما صرف أضعاف أضعاف ما أخذه (علي بن ماهان) من أهل خراسان!!

والانتهاء إلى هذه النتيجة كان واضحاً؛ لأن الحاكم الذي يضغط على الناس ويكرههم على دفع الضرائب والأموال يخرج حبه من قلوب الناس، ويفقدمكانته عندهم، الأمر الذي يعجل في سقوطه.

نضج الميرزا الشيرازي(رحمه الله)

ينقل المرحوم السيد علي شبر(رحمه الله) بأنه أرسل مجموعة من العلماء رسالة إلى الميرزا الشيرازي(رحمه الله) في العراق تنص على أن وكيل الميرزا في المكان الفلاني، أصبح متبطراً معتنياً بالأمور الدنيوية والمادية، وهو لا يليق بأن يكون وكيلاً عن

ص: 453

المرجع الأعلى للطائفة، فطلبوا من الميرزا عزله عن هذا المنصب الحساس.

ولكن الميرزا تأنى في قراره وتصبر في اتخاذ الموقف، حتى فاتحه بعض علماء سامراء المقدسة بهذا الشأن وطلبوا منه بيان وجه توقف الميرزا في عزل هذا الوكيل؟

فأجابهم الميرزا: بأن هذا الوكيل كانت له - قبل أن يكون وكيلنا - شخصية اجتماعية بين الناس بدرجة خمسين بالمائة مثلاً، وعندما أصبح وكيلاً عني بلغت شخصيته الاجتماعية مائة بالمائة، ولو عزلته عن الوكالة فأكون سبباً لذهاب كل شخصيته وسقوطه اجتماعياً، ولا يجوز لي أن آخذ نصف شخصيته التي كانت له قبل الوكالة، وإنني الآن في تفكير متواصل لأجد طريقة جيدة عن كيفية استرجاع النصف المكمل لشخصيته فقط من دون المس بنصفه الأول!!

نعم، بهذه الخصائص النبيلة تمكن علماؤنا من قيادة الناس وإنقاذهم من الاستعمار في أيام المحن والآلام، والحفاظ على الإسلام في كل عصر(1).

والمسلمون إذا أوجدوا في أنفسهم البصيرة وبلغوا مرتبة سامية من النضج فيالعلم والعمل، سوف يتمكنون من نشر الإسلام وتطبيقه في العالم، وعند ذلك يدخل الناس في دين اللّه أفواجاً أفواجا، وتعود للمسلمين سيادتهم وعزتهم التي كانت لهم في الصدر الأول بإذن اللّه تعالى.

كان المجدد الشيرازي(رحمه الله) من كبار العلماء الناضجين، ويتبين ذلك من خلال مواقفه الحكيمة في قصة التبغ (التنباك)، وقصة يهود همدان، وقصة شراء أراضي طوس من قبل الروس، وقصة إنقاذ شيعة أفغانستان حيث قام السلطان

ص: 454


1- كما أن من أهم الأسباب التي جعلت العالم الغربي اليوم يتقدم ويحكم الدنيا هو بعض ما امتلك من النضج العلمي والعملي الذي يتمتعون به وإن كان لأهدافهم الدنيوية!!

المخالف المتعصب بذبحهم حتى جعل منائر من رؤوسهم.

وعندما هاجر الميرزا الكبير إلى سامراء المقدسة انتقلت الحوزة العلمية إليها وتجمع فيها العلماء والفضلاء وانتشرت تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) وقوي أتباعهم وشيعتهم.

أسس مدرستين علميتين في سامراء، وبنى جسراً على شط سامراء، وبنى حمامين للمدينة للرجال وللنساء، قام بترميم روضة العسكريين(عليهما السلام) المطهرة، بنى سوقاً كبيراً للمدينة، وبنى حسينية لإقامة مجالس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام) فيها، بنى دوراً كثيرة للفقراء، وكان ينفق حتى على فقراء السنة، في عام 1311ه قام بعض أيادي الاستعمار بإشعال نار الفتنة بين الشيعة والسنة، فقام الميرزا بإخماد تلك النيران بنضجه وحكمته ودرايته، فلما أراد الوالي العثماني ببغداد والقنصلية البريطانية التدخل فيها أخبرهم بأن المسألة بسيطة وسنقوم بحلها ولا حاجة لتدخلهم فيها.

الهجمات الاستعمارية

إن العالم الغربي والشرقي المعادي للإسلام يشن في هذا اليوم هجمات دعائية كاذبة ضد الإسلام والمسلمين، ويتهمهم بأنهم أمة متأخرة تنشر التفرقة والحرب والانحطاط أينما حلت، وقد نجح في تشويه صورة الأمة إلى حد كبيربحيث أصبح العالم - بعضه - لا يقيم للإسلام والمسلمين قيمة أو أهمية، وهذا بسبب قلة الوعي والنضج والحكمة التي أصبحت في المسلمين، فعلينا أن نزيح عن أفكار العالم هذه النظرة الخاطئة بنشر الموازين العلمية والتقدمية والأحكام الإلهية المنسجمة مع الفطرة الإنسانية في العالم.

وهذا ليس بالأمر الهيّن والسهل الممكن إلّا بالعمل بموازين الإسلام، وإيجاد النضج الكامل والوعي التام في أنفسنا لنصل إلى درجة نكون فيها قادرين على

ص: 455

هداية العالم أجمع، ونشر العدل والرفاه والصلاح والاستقرار في كل البقاع والأرجاء.

قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1).

نور المؤمنين في القيامة

جاء في الآيات الكريمة والروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) أن المؤمن يأتي يوم القيامة وتشع جبهته نوراً، وهو يحمل في يده اليمنى صحيفة أعماله الصالحة فرحاً ومستبشراً، كما أنه ينظر بنوره هذا إلى مسافات تختلف بحسبه(2) وذلك حسب أعماله الصالحة في الدنيا. فمنهم من يكون نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه، ومنهم من يكون نوره كشجرة، ومنهم من يكون نوره مثل راية بيده، ومنهم من يعطى أصغر من ذلك، وبعض لا يعطى إلّا على إبهام قدميه يضيء مرة ويطفأ أخرى.

قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم}(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما المؤمنون يوم القيامة نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم حتى ينزلوا منازلهم من الجنان»(4).

وفي تفسير القمي: يقسم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم، يقسم للمنافق فيكون نوره بين إبهام رجله اليسرى فينظر نوره، ثم يقول للمؤمنين: مكانكم حتى أقتبس من نوركم فيقول المؤمنون لهم: {ارْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ

ص: 456


1- سورة التوبة، الآية: 33.
2- أي بحسب النور وشدته وضعفه.
3- سورة الحديد، الآية: 12.
4- تفسير نور الثقلين 3: 612.

نُورًا}(1) فيرجعون ويضرب بينهم بسور له باب فينادون من وراء السور المؤمنين {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ}(2)، قال: بالمعاصي {وَارْتَبْتُمْ} قال: أي شككتم...(3).

فالعمر قصير جداً والإنسان في كل آن معرض لزيارة ملك الموت له لأخذ روحه ونقله إلى عالم الأموات {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسُ بِأَيِّ أَرْضٖ تَمُوتُ}(4).

لذا على الإنسان أن يجمع ذرات النور ليوم الآخرة ما أمكنه، بواسطة الطاعات والأعمال الصالحة، ومن أهم الطاعات التي سعى إليها الأنبياء والنبي الأعظم والأئمة الطاهرون(عليهم السلام) هو نشر أحكام اللّه وتطبيق أحكام الإسلام، فلذا علينا أن نجعل معظم جهودنا في هذه الطاعة المهمة، ونهيئ لأنفسنا النضج الكامل حتىنستطيع أن نؤدي واجباتتنا ومسؤولياتنا على أتم صورة وأحسن وجه لكي ننجح في إصابة الأعمال الحسنة وحتى لا نكون مسيئين من حيث نتصور أننا محسنين.

كما قال اللّه تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(5).

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية، وصدق النية وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة، وأملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهر بطوننا من الحرام والشبهة، واكفف أيدينا عن الظلم

ص: 457


1- سورة الحديد، الآية: 13.
2- سورة الحديد، الآية: 14.
3- تفسير القمي 2: 351.
4- سورة لقمان، الآية: 34.
5- سورة الكهف، الآية: 103-104.

والسرقة، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدد أسماعنا عن اللّهو والغيبة، وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

النضج الفكري والحرية

قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(3).

النضج وعواقب الأمور

قال سبحانه: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّارَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(5).

نور المؤمن في القيامة

قال عزّ وجلّ: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِ}(6).

ص: 458


1- المصباح للكفعمي: 280.
2- سورة الزمر، الآية: 17-18.
3- سورة البقرة، الآية: 256.
4- سورة الرعد، الآية: 22.
5- سورة الأعراف، الآية: 128.
6- سورة الزمر، الآية: 22.

وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}(1).

وقال سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}(2).

وقال جلّ وعلا: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}(3).

المؤمن وقور

قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}(5).

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

النضج الفكري والحرية

وفي حديث المعراج قال تعالى لحبيبه المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم): «يا أحمد! استعمل عقلك قبل أن يذهب فمن استعمل عقله لا يخطئ ولا يطغى»(7).

وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «الرأي مع الأناة، وبئس الظهير الرأي الفطير»(8)(9).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما يهلك الناس لأنهم لايسألون»(10).

ص: 459


1- سورة النور، الآية: 40.
2- سورة الأنعام، الآية: 122.
3- سورة الحديد، الآية: 28.
4- سورة الفرقان، الآية: 63.
5- سورة لقمان، الآية: 19.
6- سورة الفتح، الآية: 4.
7- إرشاد القلوب 1: 205.
8- الفطير: كل ما أعجل عن إدراكه، أي البديهي.
9- كشف الغمة 2: 349.
10- الكافي 1: 40.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ»(1).

النضج وعواقب الأمور

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن يك خيراً أو رشداً اتبعته وإن يك شرا أو غياً تركته»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لولده الحسين(عليه السلام): «من تورط في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب، التدبير قبل العمل يؤمنك الندم»(3).

وقال(عليه السلام): «الفكر في العواقب ينجي من المعاطب»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قف عند كل أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه قبل أن تقع فيه فتندم»(5).

وفي ما أوصى آدم(عليه السلام) إلى ابنه شيث: «إذا عزمتم على أمر فانظروا إلى عواقبهفإني لو نظرت في عاقبة أمري لم يصبني ما أصابني»(6).

المؤمن وقور

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أحسن زينة الرجل السكينة مع الإيمان»(7).

عن الحلبي قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): أي الخصال بالمرء أجمل؟ فقال: «وقار بلا مهابة، وسماح بلا طلب مكافأة، وتشاغل بغير متاع الدنيا»(8).

ص: 460


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 173.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 410.
3- تحف العقول: 90.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 78.
5- تحف العقول: 304.
6- بحار الأنوار 75: 452.
7- الأمالي للشيخ الصدوق: 488.
8- الكافي 2: 240.

نور المؤمن في القيامة

قال الإمام السجاد(عليه السلام) في الدعاء: «اللّهم وما أجريت علي ألسنتنا من نور البيان وإيضاح البرهان فاجعله نوراً لنا في قبورنا ومبعثنا ومحيانا ومماتنا»(1).

النضج والتعلم في الشباب

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من تعلم العلم في شبابه كان بمنزلة النقش في الحجر ومن تعلمه وهو كبير كان بمنزلة الكتاب على وجه الماء»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «لو أتيت بشاب من شبّاب الشيعة لا يتفقه لأدبته».

وفي حديث قال(عليه السلام): «لأوجعته»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لست أحب أن أرى الشاب منكم إلّا غادياً في حالين: إما عالماً أو متعلما،ً فإن لم يفعل فرط، فإن فرط ضيع، وإن ضيع أثم، وإن أثم سكن النار، والذي بعث محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) بالحق»(4).

ص: 461


1- بحار الأنوار 91: 126.
2- دعائم الإسلام 1: 82.
3- المحاسن 1: 228.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 303.

النضج وسمو النفس

اشارة

النضج وسمو النفس(1)

ضبط النفس

اشارة

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام): «مرّ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بقوم يرفعون حجراً، فقال: ما هذا؟ قالوا: نعرف بذاك أشدنا وأقوانا، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): ألّا أخبركم بأشدكم وأقواكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: أشدكم وأقواكم الذي إذا رضى لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له بحق»(3).

وعي الإنسان ونضجه وعقلانية تصرفاته من المسائل الصعبة غاية الصعوبة - في الدنيا - مهما كان مجال الإنسان وتخصصه تاجراً كان أو إدارياً أو طالباً، ولأن النضج والفهم والنظرة العميقة للأمور عمل صعب، فإن تحصيلها لا يتم إلّا عن طريق المشقة وبذل الجهد والمواصلة في الفحص وكسب التجارب، ولعل أول الطرق إلى ذلك هو ضبط النفس والسيطرة عليها والوصول بها إلى درجات الكمال، وقد أشار اللّه تعالى إلى ذلك بقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ

ص: 462


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 17 / صفر / 1407ه- .
2- سورة المائدة، الآية: 105.
3- معاني الأخبار: 366.

أَنفُسَكُمْ لَايَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1) لكن اللّه سبحانه يأمرنا أن لا نترك سبيل الهداية، وأن نحفظ أنفسنا ولا نتأثر بمن ضل من الناس، لأنه عزّ وجلّ هو المرجع النهائي للجميع.

فعندما بيّن سبحانه أحوال الكفار وأنهم ضالون أمر المسلمين باتباع الحق، وأنهم لا يضرهم ضلال من ضل. حينما كانوا هم مهتدين {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ} هو اسم فعل بمعنى الزم واحفظ، أي احفظوا {أَنفُسَكُمْ} عن الضلال والانحراف {لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ} من الناس {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أي: إذا كنتم مهتدين، ومن المعلوم إن من شروط الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد وسائر الواجبات التي هي من هذا القبيل(2).

فعلى الإنسان المؤمن أن يسلك الطريق الصحيح بصبر واستقامة وضبط لميول النفس، ولا تزحزحه أو تغره الحياة التي يعيشها الناس الضالّون؛ قال تعالى: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(3).

وإن ضبط النفس - هنا - أخص من كبر النفس. وهو ملكة التحمل في خوض الأهوال، وقوة المقاومة مع الشدائد والآلام بحيث لا يعتريه إنكسار، وإن زادت وكثرت الأهوال والشدائد، ولا سيما في الأمور الإيمانية والاعتقادية، بحيث لا يتزلزل بالشبهات والتشكيكات. وهذا الاطمئنان من شرائط كسب الكمال وفضائل الأعمال، إذ ما لم تستقر النفس على معتقداتها في المبدأ والمعاد لم يحصل لها العزم البالغ على تحصيل ما تتوقف فائدته عليهما، من الاهتمام

ص: 463


1- سورة المائدة، الآية: 105.
2- تفسير تقريب القرآن 2: 28.
3- سورة المائدة، الآية: 100.

والعمل بالأمور الحسنة، وتجنب الأمور القبيحة. وهذه الفائدة ستعطي المجتمع الإسلامي النضج والوعي والإيمان. وتسلك به طريق الهداية.

أما الضد: فسيدخله في المتاهات والحيرة. ولا أقل من الخمول في الهمة وعدم الغيرة والحمية على الدين وسوء الظن والغضب في كل الأعمال. فقد قال الإمام الباقر أبو جعفر(عليه السلام): «من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه حشى اللّه قلبه أمنا وإيماناً يوم القيامة - قال - ومن ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا غضب حرَّم اللّه جسده على النار»(1).

تنازع من أجل مائة دينار

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض عمّا تبذل من نفسك عوضاً»(2).

وقال(عليه السلام): «عوّد نفسك فعل المكارم وتحمل أعباء المغارم تشرف نفسك وتعمر آخرتك ويكثر حامدوك»(3).

في إحدى مدن العراق، تنازع شخصان من الوجهاء وأهل المكانة المعروفين لدى الناس على مائة دينار! وتشاجرا للحد الذي كتبت إحدى الجرائد عن هذا الموضوع ونشرته في صفحتها الأولى، فوضعت صورة هذين الشخصين تتوسطها صورة الدينار وكتبت تحت الصورتين - تعليقاً - إن هذين الشخصين يريدان أن يصيرا زعيمين للبلاد في المستقبل.

وهذه القصة تكشف عن مدى دناءة الهمة وضعف النفس لدى البعض،وقصوره عن طلب المعالي من الأمور والقناعة، وهذه إحدى نتائج ضعف النفس

ص: 464


1- تفسير القمي 2: 277.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) لإبنه الإمام الحسن(عليه السلام).
3- عيون الحكم والمواعظ: 341.

وصغرها التي أشرنا إليها، وهي ضد ضبط النفس الناتج عن قلة النضج والوعي عند من يتحمل كهذه المسؤولية والمقام.

النضج والحكمة

اشارة

ومن العوامل التي تقع في طريق تحصيل النضج والحكمة:

أولاً: النفس منطقة الخطر
كيف نتصرف بحكمة، ونكتسب التعقل ونلتزم جانب الإنصاف؟

لا شك في أن ذلك أمر لا يُدرك إلّا بشق الأنفس، وطالما قصرت - وما زالت تقصر - دونه رغبات الناس، وطموحات الرجال. ذلك لأن أول المحكات فيه محك النفس، وهي نقطة الضعف ومكمن الخطر. ونحن لا نريد بذلك أن نلغي العوامل الأخرى الهامة من قبل تحصيل المعارف واكتساب التجارب، وتحمل الصعوبات في ذلك، غير أن أول الطرق إلى ذلك - في ما نرى - هو ضبط النفس الأمّارة بالسوء، والسيطرة على ضعفها، للوصول بها إلى درجات الكمال. والآية الكريمة التي ذكرناها آنفاً(1) إشارة واضحة إلى ذلك.

إذ أن نفس الإنسان ميالة للدعة، والهروب من المسؤولية، سريعة الرضا بالمستوى المتوافر، كثيرة التبرير للهفوات والتراجعات! فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إياكم وغلبة الدنيا على أنفسكم فإن عاجلها نغصة وآجلها غصة»(2).

وقال(عليه السلام): «ألّا إنه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنة فلا تبيعوها إلّا بها»(3).

ص: 465


1- سورة المائدة، الآية: 105.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 175.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 177.
ثانياً: عامل الصبر

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزموا الصبر فإنه دعامة الإيمان وملاك الأمور»(1).

في علم الأخلاق هناك وصيتان:

1- إن الإنسان إذا حصل على الفضائل، وغرق فيها، فعليه أن لا يخبر أحداً بذلك.

2- لو تعرض الإنسان إلى المشاكل، وغرق فيها، فعليه أن لا يخبر بذلك أحداً. فإن الإنسان الذي يشتكي عند الناس من مشاكله دائماً أو يتباهى أو يشير إلى بعض فضائله ومزاياه، فذلك الإنسان ليس لديه بعد نظر ولا نضج؛ لأن مدح النفس يؤدي إلى سقوط الإنسان من أنظار الناس في المجتمع فإن «من مدح نفسه فقد ذبحها»(2) وكذلك فإن إظهار المعاناة والشكوى للناس هي من الأمور التي يتشفى بها الأعداء، ويحزن لها الأصدقاء، وإن كلا العملين دليل على عدم النضج والوعي في بعض الأحيان.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «علامة الصابر في ثلاث أولها: أن لا يكسل، والثانية أن لا يضجر، والثالثة أن لا يشكو من ربه تعالى، لأنه إذا كسل فقد ضيع الحق وإذا ضجر لم يؤد الشكر وإذا شكا من ربه عزّ وجلّ فقد عصاه»(3).

وقال الإمام علي(عليه السلام): «خير الناس من إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا ظلم غفر»(4).

ص: 466


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 155.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 661.
3- علل الشرائع 2: 498.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 358.
ثالثاً: عامل العلم والتجربة
اشارة

ومن بعد عامل النفس والصبر يأتي عامل العلم والخبرة، ذلك لأن من يريد أن يحصل على النضج والوعي الكافي عليه أن يتسلح بالعلم، فالجاهل لا يمكن أن يكون واعياً وناضجاً أبداً فإن «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

وقال زين العابدين(عليه السلام): «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج»(2).

نضج ووعي السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله)

ينقل أحد رؤساء العشائر في العراق: إن أحد الخطباء من طلبة الحوزة جاء إلى منطقتهم لغرض التبليغ، وتحدث لهم لمدة عشر ليال عن الخمس والزكاة ووجوبهما وتحدث أيضاً في مواضيع أخرى، وعندما أراد الذهاب بعد ذلك والعودة إلى النجف الأشرف - يقول رئيس العشيرة - طلبت منه أن يتسلم خمس أموالي، وقد بلغ خمسة آلاف دينار وأعطيته المبلغ ليوصله إلى السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) وبعد أن ودعناه، جئت وأخبرت أصدقائي عمّا جرى، فلاموني وقالوا لي: كيف حصل لك الاطمئنان به فأعطيته ذلك المبلغ الضخم؟ فمن الممكن أن لا يوصل المبلغ إلى السيد، وما عليك الآن إلّا أن تذهب إلى النجف وتخبر السيد بالموضوع وفعلت ذلك، فوصلت إلى السيد الأصفهاني(رحمه الله) بينصلاتي المغرب والعشاء، وطلبت منه أن يعطيني وصلاً بمبلغ خمسة آلاف دينار عن الخمس، بعدما شرحت له ما حدث تفصيلاً إلّا أن السيد ودون أن يبحث أو يسأل عن شخصية الطالب، أو أن يعلمني بعدم وصول المبلغ إليه، أعطاني وصلاً

ص: 467


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- الكافي 1: 35.

عن المبلغ، فأطمئن قلبي، ورجعت لأقول لأصدقائي: إن النقود قد أوصلها الخطيب إلى السيد(رحمه الله) وهذا هو وصل الاستلام - وعلمت في ما بعد أن ذلك الخطيب لم يصل بعد إلى النجف، وأن المبلغ لم يصل إليه أيضاً - .

وبعد أن وصل الخطيب إلى النجف في وقت متأخر من الليل بعد جهد كبير تحمله من عناء السفر، ذهب إلى السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) في اليوم الآخر وسلمه المبلغ، وكان من قصده أن يأخذ من السيد وصلاً عن المبلغ ليعود به إلي، غير أن السيد أخبره بالموضوع مفصلاً، ثم قال له: إني أردت بذلك حفظ ماء وجهك كطالب لعلوم الدين، وماء وجهي بل ماء وجه كل أهل العلم.

إن هذا العمل إن دل على شيء فإنما يدل على نضج ووعي السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) نتيجة بعد النظر وعلو الهمة، المستحصلة من السعي في تحصيل الكمال، وطلب معالي الأمور من دون ملاحظة لمنافع الدنيا، والحفاظ على مكانة العلم وطلبته.

النضج اللازم في العمل

يُذكر أن فريقاً من مهندسي المباني، قرروا تشييد بناية مجهزة وواسعة، تتسع لمئات الأشخاص.

وبدءوا بالعمل ولكنهم قبل أن ينتهوا من البناء، ونظراً لعدم تناسب وزن السقف مع البناء الذي تحته، انهارت البناية على سبعين عاملاً كانوا تحتها، فماتوا تحت الأنقاض.

في حين أن المهندسين كانوا من ذوي الاختصاص، ولا يمكن أن نقول: إنهم لم يعرفوا العلوم الهندسية.

لكن مع ذلك انهار بناؤهم لأنهم لم يكونوا بدرجة من النضج والتجربة في عملهم. لأن العلم حتى يؤدي نتائجه المطلوبة، لا بد أن يخلط بالنضج

ص: 468

والتجربة، ومعرفة الأمور الفيزيائية، التي قد تخفى على الجدد من المهندسين؛ ولذا وباستمرار نسمع عن انهيار الأبنية، نتيجة الخطأ في التخطيط، أو في عدم اعتبار العوامل المؤثرة على ديمومة استقرار البناء أو لمصلحة ذاتية عند القائم بالبناء نتيجة الخسة في النفس، كالطمع في المال الكثير، الذي يسبب عدم منح البناء المقدار الكافي من المواد، مما يسبب بالنتيجة عدم رصانة البناء واستقراره لمدة طويلة، وبالتالي انهياره وربما يموت المئات من الأبرياء تحته.

شيخ الطائفة(رحمه الله)

يعد شيخ الطائفة من أكبر الشخصيات النادرة في زمانه؛ لأنه كتب الفقه بشكل بديع، بحيث نجد وبعد مرور ألف سنة لا يزال العلماء وطلاب العلوم الدينية يستفيدون منه، وكذلك يُعدّ تفسيره (التبيان) أحد مصادر التفسير الأساسية للقرآن، مع كل هذا فقد أشكل أحد العلماء على كتابات شيخ الطائفة(رحمه الله)، حيث كان له رأي حول استنباط الشيخ الطوسي(رحمه الله) وادعى أن الشيخ قد بيّن مسألة في التهذيب وخالفها في تفسيره، فقلت له: إذا كان حديث الشيخ مخالفاً لما كتبه في التهذيب فليس هذا لعدم استنباطه لتلك المسألة، بل أحياناً لقوة الاستنباط عنده في ذلك، لأن الاجتهادات المختلفة قد تكون دليلاً على أن الإنسان صاحب الرأي يتمتع بذهن دفّاق وفكر وقّاد، فإن الفكر الوقاد يفيض على صاحبه في كل يوم رأياً جديداً، وقد أشار الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى ذلكبقوله: «من أكثر الفكر في ما تعلم أتقن علمه وفهم ما لم يكن يفهم»(1).

وقال(عليه السلام): «الفكر يوجب الاعتبار ويؤمن العثار ويثمر الاستظهار»(2).

ص: 469


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 647.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 121.

ولأن العلوم العقائدية تعتمد على التفكير والتأمّل وسعة الاطلاع بحيث يجمع بين الأدلة والآراء، فالإنسان كلما بلغ مرتبة من مراتب العلم فإن تفكيره ينضج أكثر، ويساعد على ثبات النفس في آراءه، فتراه بعد نضجه يأتي بآراء أكثر وعياً وصواباً، والشيخ لكونه في حالة التدرج والصعود في مراتب العلم فالجهل بشيء قبل بلوغه وبعده لا يعتبر تناقضاً، بل هي حالة من حالات كمال النفس وترقيها إلى الأفضل في الاجتهادات.

رابعاً: العبادة والتوسّل
اشارة

لأن ما يصيبنا من خير هو من عند اللّه تعالى، ولأن لحظة ابتعاد واحدة عن اللطف الإلهي تعني التيه والضياع، ولأن الاستمداد منه يعني الارتباط بالمدد الذي لا ينقطع، وبالقدرة المطلقة التي تتلاشى دونها القدرات من جميع الجهات؛ لذلك كان لعباد اللّه المقدسين طريقهم الخاص للوصول إلى الحقائق وبلوغ المراتب العالية، من العلم باللّه، والعمل في سبيل طاعته وعبوديته. وفي الحقيقة: فإن أكثر الأخطاء والعثرات وأوخمها عاقبة عادة ما تنشأ إما من الخوف من خطر دنيوي أو من رغبة في راحة أو متاع زائلين، ومع الارتباط باللّه تعالى، لا يبقى لمثل هذا وذاك مجال فإن «من خاف اللّه أخاف اللّه منه كل شيء»(1) كماورد في الحديث الشريف، وفي قوله تعالى: {إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}(2)، والفرقان هو الهداية والنور في القلوب للتفريق بين الحق والباطل أو الفتح والنصر أو العزّ في الدنيا والثواب في الآخرة(3).

ص: 470


1- الكافي 2: 68.
2- سورة الأنفال، الآية: 29.
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 456.
خدمة الناس

خدمة الناس مظهر من مظاهر الحكمة والاتزان، فبعد أن يتمتع الإنسان بالصفات المتقدمة التي تكسبه الحكمة والنضج، تظهر على سلوك الإنسان وتصرفاته فوائد عديدة منها مساعدة الناس وخدمتهم وعادةً هؤلاء ينالون درجات رفيعة.

لقد تابعت - في فترة من الزمن - تواريخ وقصص بعض الأخيار لأتعرف على بعض الناس الذين وفقوا لرؤية الإمام الحجة(عليه السلام)؛ ولذلك سألت من أحد أصدقائنا المقدسين وكان في أكثر حالاته خاشعاً متبتلاً إلى اللّه تعالى ويحظى بمعنويات عالية، فقلت له: هل تعرف أحداً تشرف برؤية الإمام(عليه السلام)؟ وبعد الإصرار عليه ذكر هذه القصة: قال: لقد ذهبت مرة لزيارة الإمام الرضا(عليه السلام) وبعد أن انتهيت من صلاة المغرب والعشاء قررت الذهاب إلى إحدى القرى التي كان لي فيها عشيرة وأقارب، ولكني تذكرت بعد ذلك إنّ امرأة من أقاربي تسكن حالياً في مدينة مشهد المقدسة فقررت زيارتها، فلما وصلت إليها ليلاً رأيتها قد اصفرَّ لونها وبان عليها التعب الشديد، وبعد أن سلمت عليها سألتها وتفقدت أحوالها وسألت عمّا ظهر بها من التعب والإرهاق، فقالت: إن لي طفل رضيع أقوم بتربيته، وإن ابنتي كذلك قد ولدت طفلين (توأم)؛ لذا فإني لا أستطيع النوم فيالليل منذ عدة أيام حيث أسهر على مراعاتهم، يقول: ففكرت أن أبقى عندها هذه الليلة وأقوم بمساعدتها برعاية الأطفال؛ لكي تستريح هذه المرأة وتنام ليلتها، فأحضرت للأطفال الحليب ووضعته في قنينة الرضاعة، وطلبت من تلك المرأة أن تذهب وتستريح هذه الليلة، وقد استطعت حتى نصف الليل أن أقوم برعاية وتسكين الأطفال، لكن بعد ذلك استيقظ الأطفال الثلاثة من النوم وبدءوا بالبكاء ولم أتمكن من تهدئتهم، فاضطررت أن أنادي أمهم لأسألها عن سبب بكاءهم؟

ص: 471

قالت: يجب أن نغيّر لهم ثيابهم الداخلية ولكني الآن لا أملك ملابس ناشفة(1) حتى نغيرها.

فقررت أن أقسَّم عباءتي عدة أقسام واستخدمها لهذا الغرض، وفعلاً عملت ذلك وغيرنا ملابسهم فنام الأطفال وذهبت المرأة إلى مكانها لتستريح ثانية، وفي الصباح ودعتهم وذهبت متوجهاً إلى تلك القرية التي يسكنها أقاربي، وكان الطريق يمر عبر بساتين ومزارع، وفي الطريق اعترضتني مجموعة من الكلاب المسعورة واتجهت كلها نحوي لتنهشني، ففزعت جداً واعتراني الخوف الشديد، وبينا أنا كذلك ظهر من جهة البستان رجل فأشار إلى تلك الكلاب فوقفت وسكتت!! ثم قال لي: إن الشخص الذي لا ينام حتى الصباح ليحصل على رضا اللّه ويقوم بمراعاة الأطفال الرضع محفوظ من كل سوء. وما أن أكمل هذا الكلام حتى غاب من عيني ولا أدري أصعد إلى السماء أم نزل في الأرض!!

فعرفت عند ذلك أن هذا الشخص - الذي خرج لي ساعة الشدة فجأة وأشار إلى تلك الكلاب المسعورة وأسكتها، وفي نفس الوقت كان يعرف خبر رعايتي للأطفالالتي لا يعملها إلّا اللّه وأمهم وأنا - كان سيدي ومولاي صاحب الزمان(عليه السلام).

نعم، هكذا شخص يحمل هذه النفس الكبيرة والمعرفة بثواب اللّه وأجره ويقوم برعاية أطفال رضع ولا ينام حتى الصباح؛ لكي يُرضي اللّه تعالى بمساعدة تلك المرأة وأطفالها، هكذا إنسان يسبغ عليه اللّه سبحانه عنايته الخاصة ولطفه، وقال عزّ من قائل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}(2).

ص: 472


1- المقصود منها قطع من القماش تستخدم كحفاظات للأطفال للاستعمال المتكرر.
2- سورة آل عمران، الآية: 195.
زيارة مسجد السهلة

ورد في كتاب البحار: أن رجلاً صادق اللّهجة كان حلاقاً، وله أب كبير مسن وهو لا يقصرّ في خدمته، حتى أنه يحمل له الإبريق إلى الخلاء، ويقف ينتظره حتى يخرج فيأخذه منه، ولا يفارق خدمته إلّا ليلة الأربعاء؛ فإنه يمضي إلى مسجد السهلة، ثم ترك الروّاح إلى المسجد! فسئل عن سبب ذلك، فقال: خرجت أربعين أربعاء فلما كانت الأخيرة لم يتيسر لي أن أخرج إلى قريب المغرب فمشيت وحدي وصار الليل، وبقيت أمشي حتى بقي ثلث الطريق، وكانت الليلة مقمرة. فرأيت أعرابياً على فرس قد قصدني فقلت في نفسي هذا سيسلبني ثيابي، فلما انتهى إلي كلمني بلسان البدو من العرب، وسألني عن مقصدي، فقلت: مسجد السهلة، فقال: معك شيء من المأكول؟

فقلت: لا. فقال: ادخل يدك في جيبك - هذا نقل بالمعنى وأما اللفظ دورك يدك لجيبك - ، فقلت: ليس فيه شيء، فكرر عليّ القول بزجر حتى أدخلت يدي في جيبي، فوجدت فيه زبيباً كنت اشتريته لطفل عندي، ونسيته فبقي في جيبي.

ثم قال الأعرابي: أوصيك بالعود، أوصيك بالعود، أوصيك بالعود - والعود فيلسانهم اسم للأب المسن - ، ثم غاب عن بصري، فعلمت أنه المهدي(عليه السلام) وأنه لا يرضى بمفارقتي لأبي حتى في ليلة الأربعاء فلم أعد(1).

من سمات الناضجين

إن الأئمة(عليهم السلام) في كل عصر ومكان يوصون بخدمة الناس ورعاية الأهل القريب والبعيد؛ لأن رعاية وخدمة الناس من سمات الواعين الناضجين في هذه الحياة، لما فيها من دلالة على كمال النفس وسعتها، هذا فضلاً عن الفوز برضى

ص: 473


1- بحار الأنوار 53: 245.

اللّه تعالى ورسوله والأئمة الأطهار(عليهم السلام)، ولهذا نجد ذلك من أبرز سمات النبي والأئمة(عليهم السلام).

فعن أحد الصحابة أنه رأى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يوماً في شدة الحر في فناء حائط، فقال: يا أمير المؤمنين بهذه الساعة!؟

قال(عليه السلام): «ما خرجت إلّا لأعين مظلوماً أو أغيث ملهوفاً»(1).

وجاء في بحار الأنوار: أنه(عليه السلام) كان بشره دائم وثغره باسم غيث لمن رغب، وغياث لمن ذهب، مآل الآمال، وثمال الأرامل، يتعطف على رعيته، ويتصرف على مشيته ويكفه بحجته ويكفيه بمهجته.

وقال نظر علي(عليه السلام) إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ عنها القربة، فحملها إلى موضعها وسألها عن حالها، فقالت: بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل وترك عليّ صبياناً يتامى وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس فانصرف(عليه السلام) وبات ليلته قلقاً فلما أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام، فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك. فقال: «من يحمل وزري عني يومالقيامة»، فأتى وقرع الباب. فقالت: من هذا؟ قال: «أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي فإن معي شيئاً للصبيان»، فقالت: رضي اللّه عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب، فدخل وقال: «إني أحببت اكتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعلّلين الصبيان لأخبز أنا». فقالت: أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان فعلِّلهم حتى أفرغ من الخبز. قال: فعمدت إلى الدقيق فعجنته وعمد علي(عليه السلام) إلى اللحم فطبخه وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره... فلما اختمر العجين قالت: يا عبد اللّه، اسجر

ص: 474


1- الاختصاص: 157.

التنور فبادر لسجره...(1).

فإذا كان الأئمة(عليهم السلام) هكذا يقومون برعاية الناس وقضاء حوائجهم وهم القادة والأولياء في أمور العباد، فمن الأولى أن نهتم نحن أيضاً لهذا العمل الكبير؛ ولذا نجد أنهم يمنحون من يقوم برعاية أهله وإخوانه الاحترام والتقدير، ويحصل لذلك الإنسان لياقة برؤية الإمام الحجة(عليه السلام).

فكيف بمن يقوم برعاية جميع خلق اللّه تعالى وفيهم أولياء اللّه الصالحين؟ فإنه يستحق الثواب الجزيل والدرجات الرفيعة والكمال النفسي والقيادة وتوجيه الناس إلى ما فيه الخير والسعادة لتأسّيه بأهل البيت(عليهم السلام).

أبغض الناس

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2).أما الذين لا يصلون إلى هذه الدرجة من الاهتمام بالناس، فإنهم لا يتمتعون عادة بالنضج وكبر النفس؛ وبالنتيجة لا يحظى بتوفيق التأسّي والاقتداء بأهل البيت(عليهم السلام). وقد أشار إلى ذلك الإمام السجاد(عليه السلام) بقوله: «إن أبغض الناس إلى اللّه من يقتدي بسنة إمام ولا يقتدي بأعماله»(3).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «رحم اللّه عبداً حببنا إلى الناس ولا يبغِّضنا إليهم، أما واللّه لو يَرْوُون محاسن كلامنا لكانوا به أعزّ وما استطاع أحد أن يتعلق

ص: 475


1- بحار الأنوار 41: 51.
2- الكافي 2: 164.
3- الكافي 8: 234.

عليهم بشيء»(1).

ومن الواضح أن رعاية الناس تحتاج إلى ضبط النفس وعقل رزين والنضج والحكمة في العمل؛ حتى تحقق أهدافها وتعطي نتائجها من نيل مقام القرب عند أهل البيت(عليهم السلام) وغيره. فإن الإنسان الناضج الذي يرعى الناس يكون في راحة، ونفسه فرحة ومسرورة، أما غيره فقد خسر راحة الروح وفضيلة النفس.

بالإضافة إلى أن من يرعى الناس ويخدمهم هو شخص واحد، ولكنه يحظى بمحبة ورعاية كثيرين، ومن لم يراعي الناس فهو واحد أيضاً ولكن يبغضه كثيرون؛ فقد قال الإمام أبو جعفر(عليه السلام): «إن أعرابياً... أتى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: أوصني. فكان مما أوصاه: تحبب إلى الناس يحبوك»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كف يده عن الناس فإنما يكف عنهم يداًواحدة ويكفون عنه أيدياً كثيرة»(3).

لذا نرى الإسلام يحث على هذه الفضيلة حيث قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش»(4).

«اللّهم إني أسألك بنور وجهك المشرق الحي القيوم الباقي الكريم، وأسألك بنور وجهك القدوس، الذي أشرقت له السماوات والأرضون، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن تصلي على محمد وآله، وأن تصلح لي شأني كله»(5).

ص: 476


1- الكافي 8: 229.
2- الكافي 2: 642.
3- الكافي 2: 643.
4- الكافي 2: 117.
5- مصباح المتهجد 1: 101.

من هدي القرآن الحكيم

التفكر والوعي والاعتبار

قال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {تِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}(4).

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(5).

ثمار العلم

قال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(7).

وقال جلّ وعلا: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ}(8).

ص: 477


1- سورة البقرة، الآية: 219-220.
2- سورة آل عمران، الآية: 13.
3- سورة الحشر، الآية: 21.
4- سورة الأنعام، الآية: 50.
5- سورة الأعراف، الآية: 201.
6- سورة الزمر، الآية: 9.
7- سورة المجادلة، الآية: 11.
8- سورة البقرة، الآية: 247.

وقال تعالى: {يُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}(1).

المعرفة والعمل

قال سبحانه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}(3).

وقال جلّ وعلا: {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَٰهَا وَزَيَّنَّٰهَا... * ... تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٖ مُّنِيبٖ}(4).

وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَئًْا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَٰرَ وَالْأَفِْٔدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(5).

المداراة والرفق بالناس

وقال سبحانه: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}(6).

وقال عزّ وجلّ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(8).

ص: 478


1- سورة يونس، الآية: 5.
2- سورة الرعد، الآية: 19.
3- سورة الحج، الآية: 46.
4- سورة ق، الآية: 6-8.
5- سورة النحل، الآية: 78.
6- سورة النساء، الآية: 149.
7- سورة الأعراف، الآية: 199.
8- سورة التغابن، الآية: 14.

وقال تعالى: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

التفكر والوعي والاعتبار

قيل لأبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): تفكر ساعة خير من قيام ليلة؟

قال(عليه السلام): «نعم، قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): تفكر ساعة خير من قيام ليلة»، قلت: كيف يتفكّر؟ قال(عليه السلام): «يمر بالدار والخربة فيقول: أين بانوك؟ أين ساكنوك؟ مالك لا تتكلمين»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الفكر يوجب الاعتبار ويؤمن العثار ويثمر الاستظهار»(4).

وقال(عليه السلام) لكميل بن زياد(رحمه الله): «... ومن الزم قلبه فكراً ولسانه الذكر ملأ اللّهقلبه إيماناً ورحمة ونوراً وحكمة، وإن الفكر والاعتبار يخرجان من قلب المؤمن من عجائب المنطق في الحكمة، فتسمع له أقوال يرضاها العلماء وتخشع له العقلاء وتعجب منه الحكماء»(5).

وقال(عليه السلام): «إذا قدمت الفكر في أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر»(6).

ص: 479


1- سورة آل عمران، الآية: 134.
2- سورة الجاثية، الآية: 14.
3- المحاسن 1: 26.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 121.
5- إرشاد القلوب 1: 100.
6- عيون الحكم والمواعظ: 136.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أكثر عبادة أبي ذر رحمة اللّه عليه خصلتين: التفكر والاعتبار»(1).

أهمية العلم

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «سألت جبرائيل(عليه السلام) فقلت: العلماء أكرم عند اللّه أم الشهداء؟ فقال: العالم الواحد أكرم على اللّه من ألف شهيد، فإن اقتداء العلماء بالأنبياء واقتداء الشهداء بالعلماء»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فضل العلم أحب إلى اللّه عزّ وجلّ من فضل العبادة وأفضل دينكم الورع»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم ضالة المؤمن»(4).

وقال(عليه السلام): «سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم فاطلبوا العلم من مظانه واقتبسوه من أهله فإن تعلمه للّه حسنة، وطلبه عبادة،والمذاكرة فيه تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة...»(5).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «لا يستخف بالعلم وأهله إلّا أحمق جاهل»(6).

المعرفة والعمل

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «نوم مع علم خير من صلاة على جهل»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المتعبد بغير علم كحمار الطاحونة يدور ولا

ص: 480


1- الخصال 1: 42.
2- إرشاد القلوب 1: 164.
3- الخصال 1: 4.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 66.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 488.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 785.
7- منية المريد: 104.

يبرح من مكانه»(1).

وقال(عليه السلام): «يا كميل، ما من حركة إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من خرج يطلب باباً من علم ليرد به باطلاً إلى حق، أو ضلالة إلى هدى، كان عمله ذلك كعبادة متعبد أربعين عاماً»(3).

ثمرة المعرفة ونتائجها

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثمرة المعرفة العزوف عن دار الدنيا»(4). وقال(عليه السلام): «العلماء أطهر الناس أخلاقاً وأقلهم في المطامع أعراقاً»(5).

وقال أيضاً(عليه السلام): «العلم ينجي من الارتباك والحيرة»(6).

وقال أيضاً(عليه السلام): «ثمرة العلم إخلاص العمل»(7).

المداراة والرفق بالناس

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض»(8).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «أعقل الناس أشدهم مداراة للناس... وأذل الناس من أهان الناس»(9).

ص: 481


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 116.
2- تحف العقول: 171.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 619.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 329.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 120.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 92.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 328.
8- الكافي 2: 117.
9- الأمالي للشيخ الصدوق: 21.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «جاء جبرئيل(عليه السلام) إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول لك: دارِ خَلقي»(1).

وقال(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن لكل شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق»(3).

وقال(عليه السلام): «أن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(4).

ص: 482


1- الكافي 2: 117.
2- الكافي 2: 117.
3- الكافي 2: 118.
4- الكافي 2: 119.

الهداية والرشد الفكري

أصحاب الكهف

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَٰبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَا ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَىٰ ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَٰهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا * نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَٰهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَٰنِ بَيِّنٖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُاْ إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٖ مِّنْهُ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَٰهُمْ لِيَتَسَاءَلُواْ بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٖ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٖ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا * وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا

ص: 483

عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَٰزَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِم بُنْيَٰنًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمَا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَٰهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا* وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا * وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}(1).

الآيات الكريمة تتحدث عن قصة أصحاب الكهف، وكانوا في زمن ملك جبار يقال له (دقيانوس) على بعض الروايات(2) وقد هداهم اللّه سبحانه وتعالى إلى الإيمان والمعرفة بالخالق بعد أن تفكروا في خلق السماوات والأرض، وتدبروا في ما يعبده قومهم من أصنام وأوثان، فأدى هذا التفكير والتدبير إلى رشدهم ثم معرفتهم باللّه سبحانه وتعالى وارتباطهم به، مما دعاهم إلى إنكار العبودية إلى الملك نفسه وترك عبادة الأصنام، وخروجهم من بلدهم خائفين مترقبين لما فرضه الملك حينذاك من رقابة على المدينة وعلى الخارجين عن عبادته، وخصوصاً هؤلاء الفتية المؤمنة.

إذن هؤلاء جعلوا التفكير طريقاً إلى الرشد، وهو طريقٌ إلى الإيمان؛ لأن اللّه سبحانه عندما يرى العبد وقد تقدم خطوة في طريقه سبحانه يقدم إليه بخطوات،

ص: 484


1- سورة الكهف، الآية: 9-26.
2- انظر: بحار الأنوار 14: 422 والقصة منقولة بكاملها عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في بحار الأنوار 14: 411.

وقد ورد في ذلك روايات ورد في الحديث القدسي: «عبدي تقدم إلي شبراً أقدم إليك ميلاً»(1)،

وهؤلاء فكّروا وتدبروا بالخلق فوفّقهم الخالق للوصول إليه.

الرشد عند أصحاب الكهف

وقد ذكر اللّه تعالى مسألة الهداية والرشد في الآيات الكريمة المتقدمة مراراً وفيها الآية الكريمة من قوله تعالى: {رَبَّنَا ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}(2).

وأيضاً قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَٰهُمْ هُدًى}(3).

وقوله تعالى: {ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا}(4).

وقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا}(5).

وينبغي للإنسان المؤمن أن يدعو ربّه دائماً ويسأله أن يهديه سبل النجاح ويأخذ بيده إلى طريق الخير وذلك لأن على الإنسان أن يهيئ المقدمات ويسلك الطريق، ثم يسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفقه للخاتمة الحسنة والوصول إلى الهدف الناجح.

ومن أهم المقدمات الموصلة إلى النجاح هو الرشد الفكري وقد جاء الرشد

ص: 485


1- في مستدرك الوسائل 5: 297، عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا أدنى العبد من اللّه يُدني اللّه إليه، ومن تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً...».
2- سورة الكهف، الآية: 10.
3- سورة الكهف، الآية: 13.
4- سورة الكهف، الآية: 17.
5- سورة الكهف، الآية: 24.

- في بعض معانيه - بمعنى: الاهتداء إلى المطلوب وهو مقابل الغيّ حيث يقول اللّه سبحانه وتعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(1).

فعندما نقول الإنسان الراشد أو الرشيد فقد نعني به مرة الرشد الجسدي: بمعنى أن هذا الإنسان ترك وراءه مرحلة الطفولة ووضع القدم في مرحلة الشباب.ومرة نعني به الرشد العقلي والفكري: الدال على مستوى الفهم والتفكير الموصل إلى النتائج الحسنة وهذا هو الذي يدور الكلام حوله.

الرشد الفكري

اشارة

قد يحصل الإنسان على الرشد الفكري عن طريق دراسة التاريخ وتحليل أحداثه، وفي هذا القسم من دراسة فلسفة التاريخ يتعرف على أسباب ظهور العقائد واختلافها، وما هي الدوافع والمحركات للثورات والتحولات الاجتماعية في الأمم والشعوب، كمعرفة أسباب ظهور الدول الكبرى وأسباب انحطاط الدول الضعيفة، والأوضاع المأساوية التي تعيشها من التأخر والجمود الفكري الذي يطغى عليها، وكيف استعمرت من قبل الدول ومن نماذج هذه الحقيقة أيضاً معرفة أسباب ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) وشهادته، وفلسفة صلح الإمام الحسن(عليه السلام). وكذلك فلسفة تطور الدول أو التأخر للبعض الآخر.

وهكذا، فدراسة التاريخ والتعرف على فلسفته تعيننا على كشف بعض الأسرار والغوامض الخافية علينا والمرتبطة بحياتنا المعاصرة أيضاً، فنحن نؤمن إيماناً كاملاً بأن اللّه سبحانه وتعالى خلق هذا الكون وخلق عباده من طين ولم يفرق بين البشر في منحهم العقل وقوة الإدراك، ولكن مع ذلك نرى أن بعض الأشخاص يتميزون عن البعض الآخر في ذكائهم ومستوياتهم العلمية العالية

ص: 486


1- سورة البقرة، الآية: 256.

فنرى الجاهل والعالم، فياترى ما الفرق في ذلك مع أنهم متساوون من حيث العقل تكويناً؟

تنمية القدرات العقلية

من هنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: لماذا هذا التفاوت في المستويات بين الناس؟

والجواب بسيط وهو تنمية العقول التي جعلها اللّه تعالى علينا حجة، فالتنمية هي التي جعلت هذا الفرق بين المستويات.

فالناس من حيث العقل متساوون؛ لأن العقل من المواهب الإلهية فهو أمر تكويني خلقه اللّه سبحانه وأودعه في كل إنسان وليس باختيار الإنسان أن يكون عاقلاً بمعنى يمتلك عقل أو ليس بعاقل بأن يكون فاقداً له، فوجود العقل وعدمه في الإنسان ليس اختيارياً، بل عندما خلق اللّه سبحانه الإنسان خلقه عاقلاً؛ ولهذا فإن الناس متساوون من جهة العقل، ولكن أعمال العقل وتنمية القدرات العقلية من مميزات الناس وراجع إلى اختيارهم، فبعض الناس ينمون مواهبهم فيصبحوا علماء وقادة بينما البعض الآخر مع امتلاكهم العقل لا ينمون تلك العقول فيبقون طوال حياتهم ملازمين للجهل والخرافة.

قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا}(1).

في هذه الآية يبين اللّه تعالى أنه خلق الخلق، ومن البديهي أن اللّه تعالى لم ولن يخلق أحداً بقصد تعذيبه بل خلق الإنسان وزوّده بجميع المؤهلات للراحة ومكنّه منها، وأهمها العقل حيث إن هذا العقل له القدرة والاستطاعة على تمييز

ص: 487


1- سورة الأعراف، الآية: 179.

الحق من الباطل والهدى من الضلال والنقص من الكمال. وترك له الخيار في سلوك الطريق الذي يشاء منهما. وبالتالي للعقل دور كبير في سعادة الإنسان أو شقاءه وكما جاء عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «الدين لا يصلحه إلّا العقل»(1) وعنه(عليه السلام) أنه قال: «استرشد العقل وخالف الهوى تنجح»(2).

تنوع القراءات

إن تنمية هذه العقول التي أودعها اللّه تعالى فينا يتم بمراعاة أحكامها واتباع إرشاداتها، وفي هذا طرق ومقدمات عديدة منها:

قراءة الكتب المتنوعة ومباشرة الحكماء من ذوي التجربة والخبرة وبكثرة السفر والاطلاع في مختلف نواحي الحياة وغير ذلك.

إن اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلّهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: {وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٖ وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(3).

لذا يجب علينا أن نكون في تحرك مستمر ودائب في هذا المجال حتى تتنور عقولنا ويستيقظ إدراكنا الفكري.

فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لا بصيرة لمن لا فكر له»(4).

ص: 488


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 72.
2- عيون الحكم والمواعظ: 82.
3- سورة البقرة، الآية: 163-164.
4- عيون الحكم والمواعظ: 539.

وعنه(عليه السلام) قال: «رأس الاستبصار الفكرة»(1).

مصباح الفكر

ليس الرشد الفكري كالأدوية المختلفة التي توضع في علبها الخاصة ثم ترتب على رفوف الصيدلية ليستعملها المرضى وأهل الحاجة، بل إن الرشدالفكري يحتاج إلى السعي والعناء الكثير الكثير في ما إذا أردنا أن نناله، ويمكن أن نمثل ذلك ونشبهه بالغواص الذي يغوص في البحر لاستخراج اللآلئ فهذا الغواص وظيفته ليست سهلة وإنما يعاني ما يعاني لدى الغوص في أعماق البحر لكي يصل إلى تلك الحاجة التي يبحث عنها وهي اللآلئ وكما قال الشاعر:

ومن طلب العلى سهر الليالي *** يغوص البحر في طلب اللآلئ

وكذلك الرشد فإنه لا يحصّله الإنسان بالراحة، بل بالسعي والتعب والجهد وسلوك طرقه، ومن طرقه: التدبر والتفكير الدائم في مختلف جوانب الحياة وهذا الجانب يكشف عنه القرآن الكريم وبطرق مختلفة وأساليب متنوعة، حيث يقول اللّه سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا}(2).

وقوله عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(3).

وقوله جلّ ذكره: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(4).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ

ص: 489


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 57.
2- سورة الأنعام، الآية: 122.
3- سورة الزمر، الآية: 9.
4- سورة المجادلة، الآية: 11.

وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تدعوا إلى الفكر الصحيح والتأمل ودراسة مقدمات الأمور وخواتمها، لما للرشد الفكري من دور كبير في بناء حياة الإنسان وسعادته.وفي هذا جاء عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «المؤمن إذا نظر اعتبر وإذا سكت تفكر وإذا تكلم ذكر وإذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر»(2).

والفكر كلما كان أصح وأتم كانت الحياة أقوم، فالحياة القيمة ترتبط بالفكر القيم وتبتني عليه وبقدر حظها منه يكون حظها من الاستقامة والسعادة والنجاح... ، والفكر القيّم يبتني على أسس ومقومات، منها دراسة التاريخ ومواصلة التدبر والتفكير المستمر وبنظرة تحليلية.

كيف أصبح لقمان حكيماً

ذكروا في شأن لقمان(عليه السلام)(3) أن سبب اعطائه الحكمة هو أنه كان يكثر التفكير في الأشياء والتدبر في الأمور. و{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَٰنَ الْحِكْمَةَ}(4)، أي معرفة مواضع الأشياء وعلم الارتباط بين الأسباب والمسببات بحيث يعلم كيف ينهج الإنسان حتى يسعد في الحياة، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه سئل عن لقمان وحكمته التي ذكرها اللّه عزّ وجلّ؟

ص: 490


1- سورة الزمر، الآية: 18.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 116.
3- لقد اختلفوا في شأن نبوته فهناك من عدّه من الأنبياء وبعضهم من عدّه من الحكماء منهم ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقيل: إن اللّه سبحانه خيّره بين النبوة وبين الحكمة فاختار الحكمة على النبوة لصعوبة أمر الثانية وثقل مسؤوليتها. انظر: تفسير مجمع البيان 8: 80.
4- سورة لقمان، الآية: 12.

فقال(عليه السلام): «أما واللّه، ما أوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل، ولا بسط في جسم، ولا جمال، ولكنه كان رجلاً قوياً في أمر اللّه متورعاً في اللّه، ساكتاً سكيناً، عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستعبراً بالعبر، لم ينم نهاراً قط، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط، ولا اغتسال لشدة تستره، وعمقنظره، وتحفظه في أمره، ولم يضحك من شيء قط، مخافة الإثم، ولم يغضب قط، ولم يمازح إنساناً قط، ولم يفرح بشيء إن أتاه من أمر الدنيا... ولم يسمع قولاً قط من أحد استحسنه إلّا سأل عن تفسيره، وعمّن أخذه، فكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به، ويرحم لملوك والسلاطين لعزتهم باللّه وطمأنينتهم في ذلك، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه، ويجاهد به هواه، ويحترز به من الشيطان، فكان يداوي قلبه بالفكر، ويداوي نفسه بالعبر، وكان لا يظعن إلّا في ما ينفعه، فبذلك أوتي الحكمة...»(1).

وكما يذكر في الروايات إنّه: دخل ضرار بن ضمرة على معاوية بعد استشهاد أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال له: يا ضرار صف لي علياً قال: أعفني قال: لتصفّنه، قال: أما إذ لا بد فانه كان واللّه بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة...»(2).

الآن وبعد مرور أكثر من (1400 سنة) بقي ويبقى اسم أمير المؤمنين(عليه السلام) مفكراً عظيماً في كافة المجالات بالإضافة إلى عصمته وإمامته (صلوات اللّه

ص: 491


1- تفسير القمي 2: 162.
2- كشف الغمة 1: 77.

وسلامه عليه).

واليوم إن من الأمور اللازمة والمهمة بالنسبة للمسلمين وربما كانت أهميتها أكبر من بعض الأعمال الهامة والضرورية هي الرشد الفكري، لماذا؟

لأن بعض تلك الأعمال قد يستطيع المسلم تأديتها بدون آدابها ولا يلحقهضرر كبير من جرّاء التخلي عنها أو العمل بغير صورتها المطلوبة، وإن بعض الأضرار جراء تركه لبعض تلك الأعمال فإنها تصيبه هو كشخص لأنه ترك العمل الضروري ولا تمس أضرارها غيره من الناس... غير أن اليوم الذي يصبح فيه المسلمون لا يملكون الوعي والرشد الفكري ولا يعطون لذلك أي أهمية فإن المأساة حينئذ تأتيهم من حيث لا يشعرون، ويصبحون تبعاً للدول الغربية فيبتعدون عن الواجبات وتنتشر بينهم المحرمات أيضاً ويضيع الدين فضلاً عن ضياع الدنيا.

التبليغ المسيحي في العراق

هذه القصة التي سأذكرها هي من القصص التي لها تأثير كبير في النفس، وهي تكشف عمّا يعمله أعداء الإسلام لنشر أفكارهم الضالة بين مجتمعاتنا الإسلامية.

قبل عدة سنوات كان في بغداد سوق يسمى (سوق الرياحين)(1).

في إحدى المرات جاء أحد المبشرين المسيحيين لهذا السوق لغرض التبشير بالمسيحية، وأخذ يدور في السوق ويهدي لكل صاحب دكان كتباً من الإنجيل وبعض الكتب المسيحية، ولقد كان أصحاب هذه المحلات يأخذون هذه الكتب ثم يجمعونها فيحرقونها بعد ذهاب ذلك المبشر المسيحي.

ص: 492


1- وهو سوق للنحاسين الذين يصنعون فيه الأواني النحاسية قرب سوق الشورجة المعروف في العراق.

وبعد فترة طويلة رق قلب أحد النحاسين، وقال مع نفسه وهو يأخذ الكتب: وا أسفاه على هذه الكتب ذات الشكل اللطيف والمنظر الجميل يكون مصيرها إلى المحرقة، فذهب إلى المبشر المسيحي وعندما وصل إليه قال له: يا فلان انني كنت آخذ كتبك ثم أجمعها وأرميها في المحرقة، وكذلك يفعل بقية النحاسينفي هذا السوق. ألّا تأسف على هذه الكتب الجميلة أنت تعطيها ثم تكون نتيجتها في عداد المحروقات؟

فقال المبشر المسيحي وبكل هدوء وراحة، ولم يظهر على وجهه أي انزعاج: إنني كنت أعلم منذ اليوم الأول إنكم تعملون ذلك، إلّا أننا نبذل كل هذه الجهود من أجل كتاب واحد لربما يأخذه أحدكم إلى بيته ثم يأتي ابنه الشاب من بعده فيقرأه ويعتنق المسيحية!!

هذا هو الموضوع المهم لدينا ولو أن جميع الكتب حرقت فهي فداء لذلك الشاب الذي سوف يصبح مسيحياً.

فليتأمل كل شخص منا بأية طريقة جاءت المسيحية بعفلقها(1) ووضعته رمزاً للعراق. ولنتأمل، بما لحق بهذا الشعب المظلوم من ويلات ومصائب على أيدي هذه العصابة المضلة. إن اللّه أعطى لأغلب البشر القابلية على الرشد الفكري ولكن بعضهم يستخدمونها وينموها وبعضهم يقضون عليها بأيديهم.

تأثير الرشد الفكري

نعم إذا لم يحفظ المسلمون دينهم وبلادهم وثروتهم وأفرادهم، والتي يعد الرشد الفكري أحد طرقه فإن المسيحيّة واليهودية وباقي الأفكار المنحرفة الأخرى، التي تأخذ دينها كستار تستر فيه نشر أفكارها الاستعمارية المنحرفة،

ص: 493


1- إشارة إلى ميشيل عفلق أحد مؤسسي حزب البعث في العراق.

سوف تأتي تلك الفئات وتشغل هذا الفراغ الحاصل، ومن الأمثلة على ذلك نذكر ما حدث للمسلمين قبل ستة عقود، وفي العراق بالذات حيث امتلكوا قسماً من الرشد الفكري.

ففي عام (1918/1920م) استطاع المسلمون العراقيون الذين كان عددهم لايزيد على بضعة ملايين نسمة وبقيادة الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) الانتصار على أعظم امبراطورية في العالم في ذلك الزمان. الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا) القوة العظمى الوحيدة في تلك الأيام، كيف استطاعوا ذلك؟

السبب إن ثقافتهم وأفكارهم كانت ثقافة الدين والفضيلة والقرآن والسنّة، واتباع القيادة المرجعية، التي تمثل الرشد في التفكر والتعقل الصائب، رغم إنهم لم يكونوا يمتلكون أسلحة حربية متطورة، ولا أجهزة مخابرات حديثة، ولكن الأفكار والثقافة التي كانوا يحملونها ويحملها الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) هي التي جعلتهم يقاومون ويقدمون الألوف من الضحايا في سبيل دفع المعتدين، ثم بعد ذلك استطاع الإمام الشيرازي(رحمه الله) تشكيل بعض أوليات الحكومة الإسلامية في بعض مناطق العراق، ولو لا وفاة القائد لجرت الأحداث على ما يرام، ولكن بعد مرور فترة زمنية استطاع العملاء كعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وأخيراً عفلق وحزب البعث نشر أفكارهم الضالة على هذا الشعب وساموه سوء العذاب، بذبح أبنائه واستحياء نسائه وينهبون ثرواته! والسبب في ذلك هو أن الأفكار الاستعمارية حلت محل الأفكار الإسلامية الأصيلة(1).

ص: 494


1- لعله بنظرة واحدة إلى ما جرى وحل على العراق وشعبه خلال تعاقب أمثال هؤلاء على حكم البلاد تتضح الصورة أكثر.

واليوم أكثر المسلمين يعيشون حياة مأساوية، وفي العديد من البلدان الإسلامية؛ لأنهم يعيشون التأخر الفكري وعدم الوعي والرشد في أمورهم... ولو فكّروا بأوضاعهم السيئة وسعوا وراء التوعية والتثقيف ورفع المستوى الفكريوالثقافي عندهم فإن حياتهم سوف تتبدل شيئاً فشيئاً إلى الأفضل والأحسن، عن الإمام الصادق(عليه السلام): كان أمير المؤمنين(عليه السلام): يقول: «بالعقل استُخرج غور الحكمة وبالحكمة استُخرج غور العقل وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح. قال:

وكان(عليه السلام) يقول: التفكر حياة قلب البصير كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور بحسن التخلص وقلة التربص»(1).

«اللّهم وأنطقني بالهدى وألهمني التقوى ووفقني للتي هي أزكى، واستعملني بما هو أرضى، اللّهم اسلك بي الطريقة المثلى واجعلني على ملّتك أموت وأحيى، اللّهم صل على محمد وآله ومتعني بالاقتصاد واجعلني من أهل السداد، ومن أدلة الرشاد، ومن صالح العباد. وارزقني فوز المعاد. وسلامة المرصاد»(2).

من هدي القرآن الكريم

التفكير وتأثيره

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(3).

وقال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ

ص: 495


1- الكافي 1: 28.
2- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
3- سورة آل عمران، الآية: 190-191.

لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَٰبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ إِنَّ فِيذَٰلِكَ لَأيَةً لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(3).

العلم والدين

قال سبحانه: {لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}(4).

وقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَٰطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(6).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(7).

ص: 496


1- سورة الجاثية، الآية: 13.
2- سورة النحل، الآية: 10-11.
3- سورة الأعراف، الآية: 176.
4- سورة النساء، الآية: 162.
5- سورة سبأ، الآية: 6.
6- سورة آل عمران، الآية: 18.
7- سورة الأعراف، الآية: 52.

وقال سبحانه: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}(1).

الطريق إلى اللّه تعالى

قال تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَرَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}(2).

وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}(4).

العلماء ومواجهة الحكومات الظالمة

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَٰهِۧمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَىٰهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحْيِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(5).

وقال سبحانه: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَِٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ

ص: 497


1- سورة الأنعام، الآية: 50.
2- سورة الإسراء، الآية: 57.
3- سورة الأنبياء، الآية: 49.
4- سورة الكهف، الآية: 110.
5- سورة البقرة، الآية: 258.
6- سورة طه، الآية: 42-43.

الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

أصحاب الكهف

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام) في ذكر أصحاب الكهف: «لو كلفكم قومكم ما كلفهم قومهم؟» فقيل له: وما كلفهم قومهم؟ فقال(عليه السلام): «كلفوهم الشرك باللّه العظيم فأظهروا لهم الشرك وأسروا الإيمان حتى جاءهم الفرج»(3).

وقال(عليه السلام): «خرج أصحاب الكهف على غير معرفة ولا ميعاد فلما صاروا في الصحراء أخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق فأخذ هذا على هذا وهذا على هذا، ثم قالوا: أظهروا أمركم فأظهروا فاذا هم على أمرٍ واحد»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام) لرجل: «ما الفتى عندكم؟» فقال له: الشاب، فقال: «لا الفتى المؤمن إن أصحاب الكهف كانوا شيوخاً فسمّاهم اللّه عزّ وجلّ فتية بإيمانهم»(5).

العقل والدين

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين لمن لا عقل له»(6).

ص: 498


1- سورة آل عمران، الآية: 52.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- تفسير العياشي 2: 323.
4- تفسير العياشي 2: 322.
5- الكافي 8: 395.
6- تحف العقول: 54.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل رسول الحق»(1).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «... لا يكمل العقل إلّا باتباع الحق»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان عاقلاً كان له دين...»(3).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) لهشام: «يا هشام، إن لقمان قال لابنه: تواضع للحقتكن أعقل الناس»(4).

وقال(عليه السلام): «يا هشام، قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود، يا هشام، إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا فلذلك ربحت تجارتهم، يا هشام، إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض»(5).

الرشد الفكري وأثره

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فكرة ساعة خيرٌ من عبادة سنة»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الفكر يهدي إلى الرشاد»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): ­«قال أمير المؤمنين(عليه السلام): إن التفكر يدعو إلى البر والعمل به»(8).

ص: 499


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 27.
2- أعلام الدين: 298.
3- الكافي 1: 11.
4- الكافي 1: 16.
5- الكافي 1: 17.
6- بحار الأنوار 68: 326.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 41.
8- الكافي 2: 55.

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة وإنما العبادة كثرة التفكر في أمر اللّه»(2).

الخوف والرجاء من اللّه تعالى

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «عند الخوف يحسن العمل»(3).

وقال(عليه السلام): «خير الأعمال اعتدال الرجاء والخوف »(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أبي يقول: إنه ليس من عبدٍ مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء ولو وزن هذا لم يزد على هذا»(5).

وقال(عليه السلام) في وصيته لابن جندب: «يا بن جندب، يهلك المتكل على عمله ولا ينجو المجترئ على الذنوب الواثق برحمة اللّه» قلت - ابن جندب - : فمن ينجو؟ قال(عليه السلام): «الذين هم بين الرجاء والخوف كأن قلوبهم في مخلب طائر شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب»(6).

وقال(عليه السلام): «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو»(7).

ص: 500


1- تحف العقول: 386.
2- تحف العقول: 442.
3- كنز الفوائد 1: 278.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 361.
5- الكافي 2: 67.
6- تحف العقول: 302.
7- الكافي 2: 71.

أهمية العلم

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في فضل العلم: «أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسوم بينكم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه سيفي لكم به، والعلم مخزون عليكم عند أهله قد أمرتم بطلبهمنهم فاطلبوه، واعلموا أن كثرة المال مفسدة للدين مقساة للقلوب، وإن كثرة العلم والعمل به مصلحة للدين وسبب إلى الجنة، والنفقات تنقص المال، والعلم يزكو على إنفاقه، فإنفاقه بثه إلى حفظته ورواته، واعلموا أن صحبة العلم واتباعه دين يدان اللّه به، وطاعته مكسبة للحسنات ممحاة للسيئات، وذخيرة للمؤمنين، ورفعة في حياتهم، وجميل الأحدوثة عنهم بعد موتهم، إن العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه التواضع وعينه البراءة من الحسد، وأذنه الفهم، ولسانه الصدق وحفظه الفحص، وقلبه حسن النية، وعقله معرفة الأسباب بالأمور، ويده الرحمة، وهمته السلامة ورجله زيارة العلماء وحكمته الورع ومستقره النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلام، وسيفه الرضى، وقوسه المداراة، وجيشه محاورة العلماء، وماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف ومأواه الموادعة ودليله الهدى ورفيقه صحبة الأخيار»(1).

دور العلماء في مواجهة الحكومات الظالمة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا(2)

ص: 501


1- تحف العقول: 199.
2- ألّا يقاروا: ألّا يوافقوا مقرّين.

على كظة ظالم ولا سغب(1) مظلوم»(2).

وقال(عليه السلام): «لو أن حملة العلم حملوه بحقه لأحبهم اللّه وملائكته وأهل طاعتهمن خلقه، ولكنهم حملوه لطلب الدنيا فمقتهم اللّه وهانوا على الناس»(3).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «اعتبروا أيها الناس بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار... وإنما عاب اللّه ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة في ما كانوا ينالون منهم...»(4).

وقال الإمام الجواد محمد بن علي(عليهما السلام): «... والعلماء في أنفسهم خانة إن كتموا النصيحة وإن رأوا تائهاً ضالاً لا يهدونه أو ميتاً لا يحيونه فبئس ما يصنعون لأن اللّه تبارك وتعالى أخذ عليهم الميثاق في الكتاب أن يأمروا بالمعروف وبما أمروا به وأن ينهوا عمّا نهوا عنه وأن يتعاونوا على البرّ والتقوى ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان»(5).

ص: 502


1- الكِظَّة: ما يعتري الآكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق، السَغَب: شدة الجوع.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3.
3- تحف العقول: 201.
4- تحف العقول: 237.
5- الكافي 8: 54.

دور الكتابة في الحياة

الإنسان والعلم والقلم

قال تعالى: {الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(1).

لقد قدّم اللّه سبحانه وتعالى تعليم القرآن على خلق الإنسان، لما له من الجلالة والعظمة والأهمية، إذ هو مفتاح الهداية، وباب العلوم، وبه تكون الدعوة إلى اللّه تعالى، ثم جاء ذكر خلق الإنسان. وأشار سبحانه إلى واحدة من خصائصه، وهي: البيان، أي: قدرة الإنسان على الإفصاح والتكلم عمّا في داخله وضميره، وليس المعنى: أنه تعالى علّمه اللغة، بل ألهمه قدرة البيان عمّا في داخله، تارة يكون بواسطة اللسان، وأخرى بواسطة القلم. أي: إنه ألهمه، وأودع فيه قدرة الكشف، والإظهار لما يريد إظهاره. وفي آية أخرى، قال تعالى: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}(2). وهو الكشف عن النوع الثاني من البيان، والذي هو مدار بحثنا. فإن اللّه تعالى أعطى للإنسان قدرة الكتابة والتدوين بالقلم، فالقلم هو سبب لتدوين وكتابة العلم، والأخير سبب لتقدم الإنسان، وتصحيح ارتباطه باللّه عزّ وجلّ، وسبب لحصول المعرفة لديه؛ إذن كان السبب الأول هو القلم.

نعم، قد يقال: إنّ العلم لا يتوقف على القلم. وهو أمر مسلّم، ولكن لولاه لما

ص: 503


1- سورة الرحمن، الآية: 1-4.
2- سورة العلق، الآيه: 4.

حصلنا على الصحف الخطية الأُولى، للأجيال التي مضت، فنحن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولو لم نعلم أين انتهوا، لم نعلم من أين نبدأ، بل لكلّفتنا البداية الشيء الكثير من العمر والجهود، ولولا وجود الصحف الخطية للعلماء، لما علمنا قيمتهم العلمية، أو مستواهم العلمي، ورتبتهم في المجتمع، ولضاعت جهودهم. ولذلك يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «اكتُبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا»(1).

فالكتابة سببٌ للحفظ، ثم إنه حتى الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) كان قد وضع كتّاباً للوحي يكتبون القرآن، نعم، الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يحفظ القرآن، ولكنّه كان يأمر بالكتابة، لكي توزع هذه الصُّحف في مشارق الأرض ومغاربها، وكذلك لكي تحفظ إلى الأجيال اللاحقة، وإلى هذا المعنى وغيره أشار الإمام الصادق(عليه السلام)، حينما قال: «اُكتُب وبُثّ علمك في إخوانك»(2).

فالكتابة أمر ضروري جداً وهي سبب أساسي في إيصال المعرفة والعلم والمفاهيم إلى الآخرين، ولذلك ابتدأ القرآن بذكر القلم؛ قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، في فضل الكتابة والقلم: «رسولك ميزان نبلك، وقلمك أبلغ من ينطق عنك»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «عقول الفضلاء في أطراف أقلامها»(4).

إذن كما كانت اللّغات علّة وواسطة لنقل الأفكار وتلاقحها، فإن للقلم والكتابة الدور الرئيس في هذا النقل، ومما لا شك فيه أنّ الكتابة مؤثرة في الإنسان كتأثيرالكلام فيه، ولو لم تكن كذلك لما استقبلها الإنسان، ولما تعامل بها، حيث كان لها

ص: 504


1- الكافي 1: 52.
2- الكافي 1: 52.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 389.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 467.

الأثر البالغ في هداية الناس إيجاباً، كما في آيات القرآن، والأحاديث الشريفة، وقصص الأنبياء، ومكارم الأخلاق، والكتب الدينية التربوية الأخرى... ومقابل ذلك يوجد نوع من الكتابة يؤثر على الإنسان سلباً، ككتب الضلالة والرذيلة، وكذلك بعض القصص البوليسية التي أثّرت على الناس، وأدّت إلى ارتفاع مستوى الجريمة، لا سيّما في الدول الأوروبية والغربية، وأثّرت الكتابات الفكرية المادية والمنحرفة في توجيه الشباب إلى غير جادة الحق والمنطق، إذن الكتابة لها الأثر الفعّال إيجاباً وسلباً في كل عصر، ومن هنا يأتي دور المفكرين والمصلحين، لتهذيب الناس وإرشادهم إلى النافع من الكتب والمؤلّفات لئلا تؤثر على حياتهم سلباً ... .

من وسائط الهداية

اشارة

يضرب اللّه عزّ وجلّ مثالاً من خلال عرضه لقصّة سليمان(عليه السلام) مع ملكة سبأ (بلقيس)، فلما أخبره الهدهد بوجود قوم يعبدون الشمس من دون اللّه كما جاء في الكتاب العزيز: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإِ بِنَبَإٖ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٖ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ...}(1). وعند ذلك قرّر النبي سليمان(عليه السلام)، أن يكتب لهم - أولاً - كتاباً، يدعوهم فيه للتوحيد، وعبادة اللّه، وعدم التَعالي على ذلك، فأرسل كتابه مع الهدهد: {اذْهَب بِّكِتَٰبِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}(2). وفعلاً، فقد قام الهدهد بإيصال كتاب النبي سليمان(عليه السلام) إلىملكة سبأ، فعندما قرأته: {قَالَتْ يَٰأَيُّهَا الْمَلَؤُاْ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَٰبٌ كَرِيمٌ}(3).

ص: 505


1- سورة النمل، الآية: 22-24.
2- سورة النمل، الآية: 28.
3- سورة النمل، الآية: 29.

فأول ما قالته: أنها وصفت الكتاب بأنه كريم، فقد عظّمته، لأنه كان من سليمان، وعظّمته لأنه كان يحمل معاني عالية وشريفة، فأثر بها، مما جعلها تصفه بالكرم، لأن الوثنيين كلّهم قائلون بوجود اللّه تعالى، ولكنهم يتخذون أرباباً وآلهة متعددة، يتقربون من خلالها إلى اللّه عزّ وجلّ. ومن أجل ذلك فعندما رأت الملكة محتوى الكتاب: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَٰنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}(1). ووجدت ما يحمل هذا الكتاب من معاني شريفة، حيث ابتدأ بالبسملة وذكر اللّه عزّ وجلّ، ثم دعوة سليمان(عليه السلام) لهم إلى الدخول في ولايه اللّه عزّ وجلّ. فكانت هذه المعاني المقدسة من عوامل هداية ملكة سبأ إلى اتباع سليمان، وتوحيد اللّه عزّ وجلّ. فهذا نموذج قرآني يشير إلى أهمية الكتاب، ولا سيما عندما تكون هادفة، وتدعو للحق والصراط القويم.

ولقد شهد التاريخ الإسلامي هذا اللون من التبليغ، حيث كانت البلاد الإسلامية مترامية الأطراف بعيدة المدن، تفصلها مسافات شاسعة، فكانوا يستعينون بالكتابة لإيصال الأفكار. فكان اتباع الأئمة(عليهم السلام) وغيرهم يكتبون اسألتهم واستفساراتهم، على هيئة (رسائل) ثم يبعثون بها إلى الأئمة(عليهم السلام). وكان الأئمة(عليهم السلام) يجيبون عليها، ثم يرسلونها إليهم، ولقد شهدت حركة الرسائل هذه نشاطاً ملحوظاً، وبخاصة في عصر الإمام الرضا(عليه السلام)، وما بعده من الأئمة(عليهم السلام)، حيث كانت السلطات الحاكمة تفرض حصاراً على اتباع أهل البيت(عليهم السلام)، من الالتقاء بالأئمة، والتزود بعلومهم، فقد اتخذ الأئمة(عليهم السلام) أسلوب الرسائل في نشرالعقائد الحقّة، والإجابة على الشبهات، وردود بعض المسائل الفقهية، والدعوة إلى التمسك بالأخلاق والتقوى، وغيرها من الدعوات التبليغية، التي قام بها

ص: 506


1- سورة النمل، الآية: 30-31.

الهداة(عليهم السلام) عبر القلم، بل نجد أن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يُعلّم أصحابه وعمّاله في الأمصار كيفية الكتابة والخط، فيقول: «افتح برية قلمك واسمِك شحمته وأيمن قطتك يجد خطك»(1)، ويقول(عليه السلام) أيضاً: «إذا كتبت كتاباً فأعد فيه النظر قبل ختمه، فإنما تختم على عقلك»(2)، ويقول(عليه السلام): «قلمك أبلغ من ينطق عنك»(3)، وغيرها من الكلمات التي سطرها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة(عليهم السلام) في فضل القلم والكتابة والدعوة لهما.

كيفَ نَبْدأ؟ وماذا نكتب؟

من المفروض والضروري لكلّ إنسان يريد أن يصبح كاتباً أن يحصن نفسه، ويزودها بخزين ثقافي واسع، يكون بمثابة الركن الوثيق، والحجر الأساس الذي يتكئ ويعتمد عليه في كتاباته المختلفة وحريّ به أن يمتلك إرشيفاً كبيراً من المعلومات، التي تخص الباب الذي يكتب فيه، حتى تكون لدية إحاطة بالموضوع الذي يريد الكتابة عنه. وبالنتيجة سوف تكون كتاباته ذات شمولية تستوعب كافة ما يتعلق بالموضوع، وتكون مثمرة منتجة. إذ أنّ الموسوعة الثقافية والمعلوماتية سوف تحصن الكاتب من مرض التقليد، أو سرقة النصوص من الآخرين؛ لأن عادة الإنسان إذا كان مقتدراً في مجال مّا، فإنه لا يعمد إلى الزيف والتزوير في ذلك المجال. أمّا الإنسان غير المقتدر، فإنه دائماً يركن إلى سرقةالنصوص من الغير أو تقليدهم. وهناك نقطة مهمة، يحسن الإشارة إليها، هي: أن ضخامة المعلومات، وسعة الاطلاع، تكون ضرورية ومهمة، في كل موضوع يريد

ص: 507


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 49.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 49.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 49.

الكاتب الكتابة عنه، ولكن في المواضيع والأفكار المهمة تزداد هذه الأهمية أضعافاً مضاعفة، مثلاً: إذا أراد الكاتب أن يكتب عن موضوع غلاء الأسعار أو ما شاكل ذلك، فإنه بلا شك يحتاج إلى سعة اطلاع في هذا المجال. وسعة الاطلاع والمعلومات التي يجب أن يحملها الكاتب تتضاعف، وتكون ضرورة ملحة، إذا أراد الكاتب أن يكتب حول موضوع حساس، ومهم جداً.

ومن هنا يجب على الكاتب الإسلامي أن يكون بمستوى الأفكار الإسلامية العظيمة فالإسلام يريد أن تعيش الإنسانية حياةً هانئة مطمئنة، ويسلك الإنسان مسلكاً إنسانياً، خالياً من الانحرافات، والأعمال المشينة واللاأخلاقية، في الوقت الذي عمَّ فيه الانحراف المعمورة وعشعشت بها الأفكار التضليلية.

إذن لتكن البداية بكثرة المطالعة للمؤلفات والمصادر والنشرات، والمناهج التي تعلّم كيفية الكتابة وأساليبها وطرقها، والاعتماد على النفس، وشحذ الهمم، والتوكل على اللّه تعالى وطلب العناية والتسديد منه تعالى.

أما ماذا نكتب؟ فهذا يبقى على ما تفرضه طبيعة المرحلة التي نعيش فيها؛ إذ أنّ الاسلام جاء متكاملاً، ووضع في مصادره، من الكتاب والسنّة، كل ما يحتاجه الإنسان والأمة. ولكن فعل المؤامرات الخارجية، والتضليل الإعلامي، والتطبيق الخاطئ لمبادئ الإسلام من البعض، جعل المرحلة تفتقد تلك الحيوية والخصوبة. وإنّ من تلك النماذج المصادرة: أن الأمة الواحدة صارت أمماً متجزئة متناثرة. ومنها: أن الإنسان الحرّ المنطلق الذي أوجده الإسلام صار مكبّلاً ومقيداً ومنها: أن مقياس التقوى الذي جعله القرآن الكريم مقياساً للكرم والفضل بقولهسبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1). هذا المقياس بات اليوم هو القوم

ص: 508


1- سورة الحجرات، الآية: 13.

واللغة والنعرات الطائفية. ومن هنا يفترض في الكاتب أولاً أن يحمل خزيناً واسعاً من المعلومات، وثانياً: عليه أن يكتب في المسائل الحيوية، التي تهدف إلى استنهاض الأمة من جديد، ورسم القدوة لها استناداً إلى سيرة نبيها العظيم(صلی الله عليه وآله وسلم)، وأئمتها المطهرين(عليهم السلام)، وإيصال المفاهيم الإسلامية وتعاليم الإسلام السمحاء إلى أقصى نقطة في العالم، لتبديل الفكرة السلبية التي روّجها أعداء الإسلام، عن الإسلام والمسلمين، وتوضيح الغموض السائد اليوم حول الإسلام وتعاليمه. ومما لا شك فيه أنّ الدين الإسلامي دين السلام والحرية، والأخلاق الفاضلة، والعلم والتقدم، وفوق هذا كله، فهو دين الفطرة السليمة. والشاهد على ذلك: أن الدين الإسلامي ما وصل إلى بقعة من الأرض إلّا واعتنق أهلها الإسلام طواعية، إلّا المعاندين والمغرضين، فهؤلاء عرفوا الحق وانحرفوا عنه.

أثَرُ الإعْلام

اشارة

ذكرت مجلة لبنانية: بأنّ اسرائيل تصدر وتطبع، من المجلات والجرائد والكتب، بقدر ما تطبعه جميع الدول العربية، التي يبلغ عدد سكانها مجتمعين أكثر من مائة وخمسين مليون مسلم(1)، بينما يبلغ نفوس اليهود في إسرائيل ثلاثة ملايين فقط. ولهذا السبب وغيره انتشرت أفكارهم الضالّة والمنحرفة في كل مكان، لأنهم يعملون بالأسباب والمقدممات بجدّ، فيصلون إلى غاياتهم، وإن كانت سلبية، مع أنهم لا يمتلكون الإيمان الذي يمتلكه المسلم. وقد يقال: بأن الإيمان يعلو وينتصر على جميع المخططات والأهداف الاستعمارية؟ نعم، هذاصحيح، ولكن لا ينفع الإيمان بدون العمل. إذ لا بدّ من مزج العمل بالإيمان، لكي يكون الإيمان كاملاً ونافعاً. ففي عصرنا الحاضر، تحتل الصحف مكانةً

ص: 509


1- واليوم يبلغ عدد سكان البلاد العربية حوالي ثلاثمائة مليون نسمة.

بارزة في أوساط المجتمعات، ولها التأثير الفعّال في تغيير الأفكار، وخلق اتجاه فكري معيّن، يحمله بعض المواطنين دون أن يشعروا بذلك. فمن هنا نلاحظ أهمية القلم، وتأثيره على رفعة الإنسان أو هبوطه إلى مستوى الجهل. فمثلاً الكتاب الإسلامي الذي يحمل أفكاراً بناءة يشكل خطراً على الحكومات التي تضلّل شعوبها، فهو سبب لهداية الكثير من الناس، ودخولهم إلى حظيرة الإسلام، كما كان الحال - وما يزال - بالنسبة إلى كتاب (المراجعات)(1)، صاحب الأثر العظيم في نشر أفكار أهل البيت(عليهم السلام)، حيث أدّى كتابه هذا إلى رجوع الكثير من أبناء العامة إلى الطريق الصحيح في العقيدة والعمل، بعدما أماط لهم الحجاب عن الوجه الناصع لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وفكرهم الحقّ الوضّاء.

وقفةٌ مَعَ كاتب

أحد الكتّاب المعروفين(2) كتب كتاباً حول شخصية الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام). وكان الكاتب مسيحياً، وقبل مدّة التقى به بعض الأصدقاء، وقال لهم: إني مشغول في الكتابة عن شخصية الإمام الحسين(عليه السلام) منذ تسع سنوات، وسوف أنجز الكتاب بعد ثلاثة سنوات، وكان هذا الكاتب نفسه قد حضر إلى كربلاء، من ضمن المدعوين للمهرجان السنوي الذي يقام هناك، في ذكرى مولد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وكان الحديث يدور معه حول تأليفاته، ورأيه في اعتناق الإسلام، وكان يُبدي إعجابه الكبير بالإسلام وشخصياته العظيمة، فعندمانسمع أن كاتباً مسيحياً يكتب حول أئمتنا (صلوات اللّه عليهم)، ويستغرق سنوات في البحث والكتابة عنهم، فمن الأولى أن يقوم كُتّابنا بأكثر من ذلك. هذا

ص: 510


1- للسيد عبد الحسين شرف الدين(رحمه الله).
2- هو: جورج جرداق (1933م-2014).

أولاً، وأيضاً: يكون هذا الكاتب درساً لكتّابنا، في حشد الهمم والصبر، والتأني في الكتابة والبحث، لكي تكون المعاني عظيمة، وذات تأثير بالغ في الآخرين. وأن لا يكون هدفنا هو إتمام الكتابة وإخراج الكتاب إلى الأسواق.

دعوة إلى من يهمّه الأمر

اشارة

يسأل البعض عن قلّة ما كتب حول السيدة الزهراء، أو الإمام الجواد أو الهادي(عليهم السلام)، فضلاً عن أنّ الكتب التي تتكلم حول الأئمة كلهم ما زالت محصورة في بلداننا الإسلامية، ولم تخرج إلى المجتمعات الغربية، وحتى لو وصلت فإن ما وصل منها قليل كالقطرة في البحر. فما زال أئمتنا(عليه السلام) غير معروفين خارج العالم الإسلامي بالشكل المطلوب، بل وحتى في بعض بلداننا الإسلامية هناك الكثير ممن يجهلون - ولا يعلمون شيئاً عن - الأئمة(عليهم السلام)، وسيرتهم، وتأثيرهم على مسيرة الإنسانية وتقدمها. فنلاحظ مثلاً في بعض الدول الإسلامية أن بعض الكتاب يركزون على حياة شخص مثل غاندي، ويتناول كل الظروف المحيطة بذلك الشخص، ويكتب حول هذه الشخصية الكتب العديدة، ويتجاهل في نفس الوقت سيرة الأئمة(عليهم السلام)، وهم الذين رفدوا الإنسانية بكل المعاني والقيم السامية، ولأجلهم خلق الكون. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على اللامبالاة الذي يعيشها بعضنا. فالكتب التي كتبت حول الأئمة(عليهم السلام)، وحول معتقداتنا قليلة جداً بالقياس إلى ما هو مفروض أن يكتب في هذا المجال، وكذلك قليلة بالقياس إلى كتب اليهود أو النصارى حول معتقداتهم. وتكاد تكون حصيلة ذلك (10%) فقط، إذا قيست بكتابات الآخرين. فنحن بحاجة إلى إنشاءمؤسسات، تتولى مسؤولية إصدار وجمع ونشر الكتب التي تتكلم عن سيرة أهل البيت(عليهم السلام)، وتصديرها إلى أنحاء العالم بكافة اللغات، وإزالة المعوقات التي

ص: 511

تقف بوجه ذلك، والتي من ضمنها:

أولاً: تشتت الجهود: فإن أكثر الجهود مشتتة ومتناثرة فلو اجتمعت تحت مؤسسات وهيئات لكان النتاج عظيماً جداً.

ثانياً: العجز المادي، أو بالأحرى عدم مناسبة المبالغ المصروفة على مثل هكذا مؤسسات، فإن أكثر مؤسساتنا الموجودة تعاني من النقص المادي، أو أنها لا ترغب في صرف أموالها في هكذا مشاريع، بحيث لا تدرّ عليها أرباحاً مادية كبيرة. وهذا ناتج عن ضعف الإيمان وهبوط المعنويات، وعدم السعي بإخلاص لخدمة أهل البيت(عليهم السلام) ونحن بدورنا ندعو المؤسسات الإسلامية نحو الاتحاد، ومضاعفة الجهود، والاهتمام الكبير بالكتّاب الاسلاميين، وتسهيل كافة ما يحتاجون إليه.

الشعور بالمسؤوليَّة

إن الإحساس الواعي، والشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتق كل فرد مسلم، هو الذي دفع الشيخ الصدوق(رحمه الله) إلى أن يكتب كتاب الخصال، وثواب الأعمال، وأماليه، ومعاني الأخبار، وعلل الشرائع. وهو الذي دفعه أيضاً لأن يكتب كتاباً في الفقه بعنوان: من لا يحضره الفقيه. فالشيخ الصدوق هو أوّل شخص استطاع تنظيم وترتيب الأحاديث بشكل مرتب ومفيد. وهو نفس الشعور الذي دفع شيخ الطائفة الطوسي الذي انتهت إليه رئاسة المذهب وزعامته، فقد دفعه الإحساس بالمسؤولية الملقاة عليه، إلى الكتابة والتصنيف في مختلف الأبواب والعلوم الإسلامية، من الكلام والفلسفة والحديث والعقائدوالتفسير. فقد كتب كتاباً حول تفسير القرآن العظيم، باسم: التبيان ولا زال أهل العلم يستفيدون منه إلى يومنا هذا. وكتب كتاباً في الفقه أسماه: الخلاف وهو

ص: 512

كتاب مفيد جداً وقيّم. وهو ذات الشعور الذي دفع بالشيخ المفيد نحو الكتابة والتأليف، وحفظ التراث، وردّ الشبهات، والدفاع عن حرمة الإسلام، وسار على غراره الشيخ محمد باقر المجلسي صاحب بحار الأنوار، وكذلك الحر العاملي صاحب الوسائل، وغيرهم من الأعلام الذين صانوا ما تبقّى من التراث المقدس لأهل بيت العصمة والطهارة. فكما كان أولئك الأعلام لديهم هذا الحس والشعور بضرورة الكتابة، فلا بد أن نكون نحن على غرار ما كانوا عليه، فعلينا أن نسعى للكتابة والتأليف للدفاع عن مبادئ الإسلام وسيرة السلف الصالح من أتباعه، ونصون ما وصل بأيدينا بفضل أولئك الأعلام، ونثمن تلك الجهود الجبارة التي بذلت في سبيل الإسلام.

هناك بعض المجلات، والصحف والكتب، في العالم تنتقد الإسلام، وتهزأ بالأحكام والحدود الشرعية، مثل الجَلْد، والرجم بالحجارة، وباقي الحدود الأخرى. وإنهم يتصورون بأن ذلك علامة على التأخر، فياترى: هل كتبنا إلى هذه المجلات والصحف عن حقيقة الأوامر والحدود الإلهية؟ من هو المسؤول عن مخاطبة وردّ هذه المجلات والصحف؟! ومن هو المسؤول عن إفهام العالم بالقوانين الإسلامية والإجابة على هذه التساؤلات؟ إنّ المسؤولية تقع على عاتق الجميع كلاً حسب موقعه، لذا علينا التسلح بالقلم والبيان، وأن نكون كثيري العمل والنشاط، لكي ننتصر على أعدائنا، الذين يريدون لنا الدمار والهلاك، فلكي نتمكن من تحقيق هذا الأمر، لا بدّ أن يتكاتف الجميع من طلاب وعلماء، ثم يباشروا في كتابة الكتب والمقالات التي توضح للناس بأنّالإسلام دين النظام والحياة، وتردّ الشبهات والأقاويل الباطلة التي يطلقها أعداء الإسلام.

ص: 513

التخوّف الغَربي مِن الإسلام

اشارة

أحد الكتّاب الألمان(1) كتب كتاباً قبل أكثر من خمسين سنة - تقريباً - يحذر فيه العلماء ورؤساء الدول الغربية من قوة الإسلام، وتنامي قدراته، ويطلب منهم الوقوف أمام تقدمه وزحفه. فيصف الإسلام بأنه ماردٌ جبار، أي أن الإسلام صاحب قوة جبارة، وقدرة فائقة، لا تضاهيها أي نظرية أو فكرة أخرى، ولهذا فهو يحذر الحكومات الاستعمارية، والمفكرين الغربيين من الإسلام، ودليله على ذلك هو: أنه يرى الإسلام يمتلك أربع مزايا:

أولاً

أن البلاد الإسلامية يقع أغلبها في وسط الكرة الأرضية، وأنها إذا استخدمت القوة بشكل كافٍ تستطيع الهجوم والقضاء على جميع الدول الكافرة وقد قرأت في إحدى الصحف الكويتية، نقلاً عن إحدى المقالات الأوروبية: أن علماء الاتحاد السوفيتي يتوقعون ويقولون بأن بوصلاتنا القطبيه سوف تشير في المستقبل القريب إلى الكعبة المشرفة بأنها مركز القطب المغناطيسي، وأن الأنبياء(عليهم السلام) بُعثوا في هذه المناطق الحساسة والمهمة.

ثانياً

إنّ البلدان الإسلامية تمتلك ثروات طبيعية هائلة، لذا فهم ليسوا في ضائقة من الناحية الاقتصادية.

ثالثاً

إن القانون الإسلامي يشجع على الزواج، مما يؤدي ذلك إلى الازدياد السريع في تعداد المسلمين بحيث يشكلون ضغطاً كبيراً ورصيداً لا ينضب.

ص: 514


1- الكاتب باول شمتز وكتابه: (الإسلام قوة الغد).

رابعاً

السبب الرئيسي في تقدم الإسلام هو: أن الدين الإسلامي يمتلك خاصية التطور ومواكبة الزمن، أي أنّ له برامج ونظاماً للحياة في جميع مجالاتها، وفي جميع الأزمنة، ونظمه تمتاز بالفائدة الكثيرة، وكلما تأتي أجيال فإنها تقبل هذا الدين بكل قوة وكمال. فعندما يمتلك المسلمون مثل هذه المزايا الكبيرة، فسوف يقضون علينا، شئنا ذلك أم أبينا. ولهذا فيجب أن نسعى لإعادة الحروب الصليبية، وإشعال مختلف الفتن والحروب ضد المسلمين، لكي نقضي عليهم، ولكي لا يتمكنوا من السيطرة علينا في المستقبل ومن ثم القضاء عليهم.

إذ قال هذا الكلام في زمن كانت فيه أغلب الدول الإسلامية تحت السيطرة الاستعمارية الغربية. وهذا يدل على خوفهم من قوة وعظمة الإسلام المتنامية، وأنهم يخشون من يقظة المسلمين، واستفادتهم من تعاليم دينهم العظيم. فعلى هذا الأساس فإن الاستعمار وضع هذه العوامل الأربعة نصب عينيه، وأخذ يسعى دوماً إلى خلق الفتن والحروب، لجرّ الويلات والأذى والسوء على البلدان الإسلامية، بصور مختلفة. فهم من جانب قطّعوا البلاد الإسلامية إلى دويلات صغيرة، وذلك لكي يتمكنوا من السيطرة عليها بسهولة، ومن جانب آخر أشعلوا الحرب الداخلية في لبنان، وأفغانستان، وفي مصر، والسودان، والعراق، وهكذا في كل يوم نلاحظ الأيدي الخفية تتحرك لإشعال الحروب في المنطقة الإسلامية، فمن أجل ذلك: لا بدّ أن يعي المسلمون كل ما يدور حولهم، ويهتموا بالكتابة من أجل إعادة الوحدة الإسلامية إلى ما كانت عليه، ونشر الأخوّة الإسلامية، والمطالبة بالحرية الإسلامية... وكذلك يقدمون علىنشر مبادئ الإسلام في داخل المجتمعات الغربية وخارجها، وذلك بفتح مؤسسات وكيانات إسلامية في قلب الدول الكافرة والملحدة. وهذه الكيانات

ص: 515

تشق طريقها في المستقبل نحو السيطرة على فكر الفرد الأوروبي وتجذبه إلى الإسلام.

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصِدق النيّة، وعرفان الحُرمة، وأكْرِمنا بالهدى والاستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعِلم والمَعرفة، وطهِّر بطوننا من الحرام والشبْهة، واكْفف أيدينا عن الظلم والسرقة»(1)، بحق محمّد وآل محمّد.

من هدي القرآن الحكيم

ينبغي لمن يمتهن الكتابة أنْ يلتزم بأمور

1- تقوى اللّه

قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(2).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ...}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ...}(4).

وقال جلّ وعلا: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(5).

2- الإنصاف والعدل

قال عزّ اسمه: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُ بِالْعَدْلِ}(6).وقال جلّ شأنه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ

ص: 516


1- البلد الأمين: 349.
2- سورة البقرة، الآية: 194.
3- سورة آل عمران، الآية: 102.
4- سورة النساء الآية: 1.
5- سورة المائدة، الآية: 100.
6- سورة البقرة، الآية: 282.

النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}(1).

وقال عزّ من قائل: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).

وقال جلّ ثناؤه: {...وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ...}(3).

3- الصدق

وقال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ...}(6).

وقال جلّ شأنه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَٰتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ وَالْقَٰنِتِينَ وَالْقَٰنِتَٰتِ وَالصَّٰدِقِينَ وَالصَّٰدِقَٰتِ وَالصَّٰبِرِينَ وَالصَّٰبِرَٰتِ وَالْخَٰشِعِينَ وَالْخَٰشِعَٰتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَٰتِ وَالصَّٰئِمِينَ وَالصَّٰئِمَٰتِ وَالْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَٰفِظَٰتِ وَالذَّٰكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(7).

4- الوعي

قال عزّ اسمه: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ

ص: 517


1- سورة النساء، الآية: 58.
2- سورة المائدة، الآية: 8.
3- سورة الشورى، الآية: 15.
4- سورة المائدة، الآية: 119.
5- سورة التوبة، الآية: 119.
6- سورة الأحزاب، الآية: 24.
7- سورة الأحزاب، الآية: 35.

فَعَلَيْهَا...}(1).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي...}(2).

وقال عزّ من قائل: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

ينبغي لمن يمتهن الكتابة أن يلتزم بأمور

1- تقوى اللّه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أحب العباد إلى اللّه الأتقياء...»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه التي هي الزاد وبها المعاذ...»(5).

وقال الباقر(عليه السلام): «... أحب العباد إلى اللّه عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته...»(6).

قال الإمام الصادق(عليه السلام) لعمرو بن سعيد الثقفي: «... اُوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد...»(7).

2- الإنصاف والعدل

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في وصية له لعلي(عليه السلام): «يا علي سيد الأعمال ثلاث

ص: 518


1- سورة الأنعام، الآية: 104.
2- سورة يوسف، الآية: 108.
3- سورة الحاقة، الآية: 12.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 5.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 114 من خطبة له(عليه السلام) وفيها مواعظ للناس.
6- الكافي 2: 74.
7- الكافي 2: 76.

خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه عزّ وجلّ وذكر اللّه تبارك وتعالى على كل حال...»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «في العدل صلاح البرية»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في حديث له: «ألا اخبركم بأشدّ ما فرض اللّه على خلقه»، فذكر ثلاثة أشياء أولها: «إنصاف الناس من نفسك»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة»(4).

3- الصدق

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «زينة الحديث الصدق»(5).

وقال الإمام علي(عليه السلام): «الصدق أشرف رواية»(6).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «تعلّموا الصدق قبل الحديث»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من صدق لسانه زكى عمله»(8).

4- الوعي واليقظة و...

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع»(9).

ص: 519


1- الخصال 1: 125.
2- عيون الحكم والمواعظ: 353.
3- الكافي 2: 145.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 24.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 402.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 49.
7- الكافي 2: 104.
8- الكافي 2: 104.
9- الكافي 1: 33.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه إمرأً تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر...»(1).

وقال(عليه السلام): «اليقظة نور»(2)

اليقظة استبصار(3).

وقال(عليه السلام): «من تبصّر في الفطنة ثبتت له الحكمة، من ثبتت له الحكمة عرف العبرة»(4).

ص: 520


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 103 من خطبة له(عليه السلام).
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 21.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 24.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 642.

مفهوم الشجاعة

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنا وضعت في الصغر بكلاكل(1) العرب، وكسرت نواجم(2) قرون ربيعة ومضر»(3).

الشجاعة من الصفات الحميدة، ومن الفضائل التي ينبغي أن يتحلّى بها كلّ مؤمنٍ، لذا قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشجاعة زين»(4)، وذلك في مقابل الشين، وَهو الأمر المعاب غير المرغوب. والشجاعة سلاح ذو حدين، يمكن أن تستخدم بصورة صحيحة ومفيدة، ويمكن أن تتحول إلى التهور والاستهتار، فيقوم حاملها بظلم الناس، والاعتداء عليهم. وكلّما استخدمت بصورة عقلائية كان النجاح حليفها، كما هو واضح من سيرة الرسول الأكرم، والإمام أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، وبالعكس كلّما استخدمها الإنسان في الظلم والبغي والاعتداء كلّما كان الخسران والفشل يرافقها إلى أن تنعكس الآثار السلبية، الناتجة عنها، على نفس الشخص، فتؤثر عليه وتعيق مسيرة كماله، كما جاء في الحديث الشريف: «آفة الشجاعة البغي»(5). فعندما يفقد الإنسان الشجاع توازنه، ويضيّع

ص: 521


1- كلاكل: أي الصدور والتعبير به عن الأكابر.
2- نواجم: القرون الرفيعة وهو تعبير عن أشراف القبائل.
3- نهج البلاغة الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 21.
5- الخصال 2: 416.

هدفه في الحياة، وتضطرب رؤيته للأشياء، فإنه يزداد جانب التفريط، وهو التهور، وعدم الانضباط. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «آفة الشجاع إضاعة الحزم»(1).

ويقابل هذا الجانب، جانب الإفراط، وهو الجبْن والخوف، وهما من الصفات المذمومة للرّجال فلا إفراط ولا تفريط. فإن الدين الإسلامي بل حتى الطبع الإنساني، وذوق العقلاء، تقضي بأن يكون الإنسان في حالة وسط بين هاتين الصفتين، بغية الوصول إلى كماله؛ لأن الشجاعة من الكرم والجود والوفاء بالعهد، وما إلى ذلك من الصفات التي تكون سبباً للكمال والرفعة.

الشجاعة بين الاعتدال والتهوّر

إنّ الأرضيّة التي تستند عليها جميع الصفات الحميدة هي الإيمان والعقل، فكلّما قوي الإيمان باللّه، وازدادت معرفة الإنسان؛ كان مراعياً لحرمات اللّه تعالى وأحكامه. والعكس كذلك، فبقدر ما يضعف الإيمان أو ينعدم، وبقدر الجهل، وعدم المعرفة؛ يزداد الإنسان انحرافاً ويعثوا في الأرض فساداً. والشجاعة من جملة الصفات الحميدة التي تتخذ الإيمان والعقل منطلقاً لها، فإذا كانت هذه الأرضية صالحة وجيدة كان هناك اعتدال، وكان استعمال الشجاعة في موضعها ووقتها المناسب. فأمير المؤمنين(عليه السلام) من أشجع الشجعان، منذ نعمومة أظفاره. ولقد كانت الأرضية عنده خصبه، بحيث يعجز القلم واللّسان عن وصفها. فشجاعة أمير المؤمنين(عليه السلام) كانت سبباً لانتصارات الإسلام، وكفى بمنادي السماء شهادةً له بذلك حينما قال: «لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي»(2). فهل كانت شجاعته هذه على سبيل التهور وعدم الإنضباط وقلّة العلم؟

ص: 522


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 279.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 200، والهواتف: 20.

هيهات. فلم نسمع، ولم نقرأ إلى اليوم - في كتب الفريقين - أن أمير المؤمنين(عليه السلام) ظلم أحداً أو اعتدى على أحد أو استخدم شجاعته في غير طاعة اللّه عزّ وجلّ.

لنأخذ نموذجاً واحداً من سيرته العطرة، ففي حرب الأحزاب، وعندما التقى بعمرو بن عبد ودّ العامري فصرعه، وطرحه أرضاً، وجلس على صدره، نرى الإمام(عليه السلام) لم يعجّل في قتله لأن ذلك اللعين بصق في وجه الإمام(عليه السلام) فتركه لشأنه حتى خمدت فورة غضبه من ذلك ثم عاد إليه فقتله طاعة للّه تعالى لا بدافع الانتقام(1)، فمواقف أمير المؤمنين(عليه السلام) البطولية جارية إلى اليوم على لسان المسلمين عامة، ولا نجد كتاب سيرةٍ يتطرق إلى حياته(عليه السلام)، إلّا وهو يطرق باب شجاعته، ويسندها بالشواهد التاريخية.

بَين الظُلم والشجاعة

اشارة

وهكذا يتبين أن الشجاع يمكن أن يكون إنساناً يخدم الناس بواسطة شجاعته في طرد الأعداء ورفع الظلم عنهم، ويمكن أن يكون الشجاع ظالماً، والظلم من السجايا الراسخة في الكثير من النفوس. وقد عانت منه البشرية في تاريخها بشتّى ألوان المآسي والأحوال. وقد تكاثرت الآيات والأخبار الواردة بذمّه والتحذير منه؛ قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ}(2). {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(3). {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(4).

ص: 523


1- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 115.
2- سورة الأنعام، الآية: 21.
3- سورة المائدة، الآية: 51.
4- سورة آل عمران، الآية: 57.

والفارق الرئيسي بين الاتجاه الأول والاتجاه الأخير: هو مستوى الإيمان باللّه عزّ وجلّ، والمعرفة به ومدى اتساع الأُفق الفكري والنضج العقلي. وبطبيعة الحال إنّ للظلم صوراً متعددة، ولكن أشدّها وأقبحها هو ظلم الحكام والمتسلطين على الشعوب؛ لأن ظلمهم واستبدادهم غالباً ما يكون جماعياً وشاملاً، بحيث يشمل أكبر عدد من الناس، فيخنقون الحريات، ويمتهنون الكرامات، ويصادرون الأموال ويسخرونها لمصالحهم الخاصة. أما إذا كان الحاكم يسخّر سلطاته ونفوذه وشجاعته في سبيل شعبه، وفي سبيل الإنسانية بصورة عامة، كما هو الحال في ذي القرنين؛ فإن ذلك هو الهدف الحقيقي من الشجاعة؛ قال تعالى: {قَالُواْ يَٰذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}(1) حيث طلبوا منه أن يخلّصهم وينجيهم من فساد يأجوج ومأجوج، ويرفع عنهم ظلمهم وخطرهم. وفعلاً قام ذو القرنين بوضع السدّ، وحَجَز قوم يأجوج ومأجوج، وأبْعَد خطرهم عن المؤمنين: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَٰعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَٰعُواْ لَهُ نَقْبًا}(2).

تصوّر الظلم شجاعة!

رضاخان بهلوي كان يعرف باستبداده وعناده، وتأثره الكبير بالغرب، كما عُرف بعلاقاته المشبوهة بالإنجليز. وفي زمانه خضعت البلاد لنظام تسلّط بوليسي شديد. ولقد عمل رضاخان على إلغاء الحريات الفردية، هادفاً من وراء ذلك

ص: 524


1- سورة الكهف، الآية: 94.
2- سورة الكهف، الآية: 95-97.

تثبيت سلطته، وتصرّف تصرف طاغية حقيقي، فأزال كلّ المعارضين، إما بالنفي أو الإعدام، ثم ألغى مرسوم (اسم فارس) فجعله (إيران) معتبراً أنّ لفظة (فارس) رمز كريه للماضي، حيث يذكره بالتراث الإسلامي، وقد عمل غرار ما فعله أتاتورك، حيث أمر برفع الحجاب، ودعا إلى السفور، وحارب علماء الدين بقوة، وأفشى حالات الفساد والانحلال الأخلاقي والدعارة في البلاد، إلى أن أدّى هذا الوضع إلى هيجان نقمة المومنين، فاجتمع الناس بقيادة العلماء في مسجد (كوهرشاد)، في مدينة مشهد المقدسة؛ فقاموا بتنظيم مسيرة ضد هذه التصرفات المخالفة للدين والخلق الإنساني. فأمر رضاخان بإغلاق أبواب حرم الإمام الرضا(عليه السلام) ومسجد كوهرشاد(1)، ثم واجه الناس العزّل بالسلاح الفتاك، فاستشهد على إثرها المئات، ثم ألقى القبض على مجموعة من العلماء، من بينهم آية اللّه يونس الأردبيلي، الذي كان له الدور الرئيسي في هذه التظاهرة السلمية. ثم أُودعوا السجن، وصدر قرار الإعدام بحقهم، إلّا أنه لم ينفّذ. فحاول رضاخان أن يُملي ما يريد على هؤلاء المؤمنين، فوضع (18) شرطاً، إذا وقعوا عليها، فإن قرار الإعدام سوف يُلغى بحقهم، ويُفرج عنهم، وكان من ضمن الشروط هو عدم التدريس وعدم إقامة المآتم الحسينية، وصلاة الجمعة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الأذان وغلق الحوزات العلمية...، فلمّا نظر آية اللّه الأردبيلي إلى هذه الشروط، قال للضابط: أريد أن تضيف إليها شيئاً، وهو أنني لن أوقّع على هذه الورقة، وافعلوا مابدالكم. وهنا تبرز شجاعة الإنسان المؤمن، وهو اختيار الموت من أجل الدفاع عن الدين وشعائر الدين... وظل آية اللّه الأردبيلي

ص: 525


1- گوهرشاد: هي زوجة الأمير شاهرخ بن الأمير تيمور الكوركاني أمير هرات وخراسان وسمي المسجد باسمها لأنها هي التي أحدثته.

صامداً مع من معه إلى أن أُفرج عنهم، على أثر التظاهرات التي حدثت ضد الشاه في الباكستان والهند وغيرها.

فهنا كان للشجاعة التي أبداها أُولئك المؤمنون دور بارز في الحفاظ على الدين الإسلامي في إيران، ولولا هذه الاعتراضات والوقفات البطولية من قبل المؤمنين، لتمادى الشاه في هدم الدين ومسحه. وكلّما بقي الدين كانت سيرة الناس حسنة ومرضية، وغير مخالفة للطبع الإنساني، وبالتالي، فالدين يحفظ المجتمع بكامله. وهذا من إيجابيات صفة الشجاعة. فلولا الشجاعة لما دافع المرء عن دينه، ولا عن نفسه، ولا عن ماله، ولا عن أي شيء.

مواقِف بطوليّة

إنّ الثبات على المبدأ والعقيدة يتطلب من الإنسان أن يكون شجاعاً، فيقول ويصرّح بما يؤمن به، ثم يحافظ على اعتقاده وإيمانه بهذا المبدأ.

رشيد الهجري واحد من حواري الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام). وقد رافق الإمام بقلبه وفكره وعقائده، رافقه بروحه وجسده حتى أن الامام(عليه السلام)، من شدة ارتباطه ووثاقته برشيد، كان يخبره ببعض الأمور المستقبلية، لا سيما حول قتله على يد زياد ابن سمية. فعندما قبض ابن سمية عليه، قال له: بماذا أخبرك خليلك ابن أبي طالب، أنّا فاعلون بك؟ فردّ عليه قائلاً: لقد أخبرني بأنكم تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني، فقال أما واللّه لأُكذبن حديثه. خلّوا سبيله، فأطلقه الجلاوزة، فلما خرج، قال زياد لجلاوزته ردّوه. فلما أرجعوه إليه قال: واللّه لا أجد شيئاً أصلح لك مما قال صاحبك، فأمر بقطع يديه ورجليه. فبقي رشيد يتكلم، ويشتم معاوية، وزياداً، وبني أمية، فاغتاظ زياد، وأمرهم أن يصلبوه ويقطعوا لسانه، ولما همّوا بقطعه، قال هذا واللّه ما أخبرني به أمير المؤمنين

ص: 526

علي بن أبي طالب(عليه السلام)(1).

إن آلام السيف الذي قطّع رشيد الهجري إلى أوصال، ثم قطع لسانه لم تؤثر شيئاً على إيمانه الراسخ بحبّه لأمير المؤمنين وولائه وإخلاصه لأهل البيت(عليهم السلام)، وكذلك الحال مع عمرو بن الحمق الخزاعي الذي أعرب عن ولائه وإخلاصه لأمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: واللّه ما أحببتك للدنيا، ولا لمنزلة تكون لي بها، وإنما أحببتك لخمس خصال: لأنك أول المسلمين إيماناً، وابن عمّ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وأعظم المهاجرين والأنصار جهاداً وتضحية وتفانياً في سبيل النبي محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ورسالته، وزوج بضعة الرسول سيدة النساء(عليها السلام)، وأب لعترة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وذريته(عليهم السلام). واللّه لو قطعت الجبال الرواسي، وعبرت البحار الطوامي(2)، في توهين عدوك، وتلقيح حجتك، كان ذلك قليلاً من كثير ما يجب عليّ من حقك(3). وأيضاً تتبعه معاوية وزياد بن سميّة، فسجنا امرأته، ثم قتلا زوجها، وحزّا رأسه، ثم أمر زياد أن يرسلوه إلى زوجته آمنة بنت الشريد. فوضعوه في حجرها، وهي لا تعلم من أمره شيئاً، فلمّا نظرت اضطربت، وكادت أن تموت لهول الصدمة، ثم طلب منها معاوية أن تتبرأ من ولائها لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)(4).

هذه صور عن الصمود والثبات على المبدأ والاستقامة في الطريق وعدم الاكتراث بالموت والتعذيب والتهديد. هذه البطولات سجلّها الأولياء، لتظل رافداً للأجيال التي تسلك هذا الطريق. وحقاً إنّ قول كلمة الحق أمام السلطان

ص: 527


1- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 294.
2- انظر الإختصاص: 14.
3- الطوامي: الممتلئ، طمى البحر إذا امتلأ ماءً.
4- انظر بلاغات النساء: 87.

الجائر تحتاج إلى شجاعة وإرادة قويّة، نابعة من الإيمان الواقعي الخالص، ولذلك كانت هذه الكلمات التي تركها الأبطال أمام الطواغيت تعيش في كل زمان، وتتمثل بها معظم الأجيال، فنحن إلى الآن نسجّل كلمات مولاتنا زينب(عليها السلام) أمام يزيد بن معاوية، بماء من ذهب، ونقتدي بها كأُسوة وقدوة(1).

الجُبْن منقَصَة

جاء عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّ «من هاب خاب»(2).

وذلك هو واقع الأمر، فإنّ طريق الوصول إلى الأماني والأهداف المنشودة طريق مليء بالعراقيل والمخاوف والمطبّات غالباً، ولكن أهميّة الهدف الذي يسعى نحوه الإنسان يجعله في حركه دائبة، فيتحمل مشاكل الطريق وأعباءه، ويتغلب على المخاوف، فيمضي قُدماً حتى يصل إلى ضالّته. ولكن إذا أُصيب هذا الإنسان في أثناء سيره بمرض الخوف والجبن، فإنه يترك المسيرة مطلقاً، لأنّ المخاوف وما في الطريق من مشاكل، كلّها سوف تتغلب عليه فيعود خاسراً. وهذا: معنى الخيبة، وأنّ سوف تتغلب عليه فيعود خاسراً. وهذا: معنى الخيبة، وأنّ «من هاب خاب».

ومن ذلك سوف نخرج بنتيجة وهي: إنّ الجبن يعيق عملية التكامل الإنسانية، لأنه يدعو المرء إلى الجمود، وعدم الإقدام، وعدم الحركة، وهذه سوف تفقد الإنسان الكثير. وهذا ما بيّنه - أيضاً - الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، إذ قال: «الجبن منقصة»(3)، لأنه يسلب من الإنسان أحد كمالاته، وهو الشجاعة والإقدام. ثم يؤثر هذا على كلّ مجالات الحياة، فيصبغ الحياة بلون الجبن، ويصبح هذاالإنسان يخاف من كل شيء، من الإقدام على اتخاذ القرارات، ومن السير بمفرده

ص: 528


1- انظر الإحتجاج 2: 307.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 576.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 3.

في الظلام، ومن الأصوات، ومن الحقائق؛ كما هو حال الذين قالوا لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، في حرب الخندق: {... إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}(1).

إنّ من أصعب المعاوك التي خاضها المسلمون هي معركة الخندق، إذ يصفها اللّه تعالى: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَٰرُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا۠ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالًا شَدِيدًا}(2). ففي مثل هذا الموقف الرهيب، يطلب بعض المسلمين من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يسمح لهم بترك ساحة المعركة؛ لأنّ بيوتهم عورة ولم تكن كذلك، وإنما جبناً منهم، فأرادوا الفرار والهرب، وهذه من سمات الجبناء؛ الهروب في المواقف التي تتطلب منهم الثبات، فهؤلاء لم يريدوا أن ينصروا الإسلام الذي يوصلهم إلى كمالهم، ويعلّمهم طرق الخير، بل إنهم دائماً يختارون الطرق المغلقة، التي تزيد من جبنهم؛ قال تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لَأتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}(3). أي: إنهم لا يترددون في الالتجاء إلى جبهة الكفر، والتخلي عن المسلمين، لا لشيء سوى الفرار من حالة الرعب والخوف من القتل. فالجبن يقود الإنسان إلى ما يجعل الطرق أمامه مسدودة فيتشبث بكلّ شيء، وإن كان باطلاً. الجبان لديه استعداد تام - غالباً - لترك الحق والالتحاق بالباطل، لما في طريق الحق من مخاطر ومواقف تتطلب الشجاعة. ودائماً طرقالباطل مغلقة، تقود الإنسان نحو الخسران، ولذلك يحذر الإمام أمير

ص: 529


1- سورة الأحزاب، الآية: 13.
2- سورة الأحزاب، الآية: 10-11.
3- سورة الأحزاب، الآية: 14.

المؤمنين(عليه السلام) من صفة الجبن بقوله: «احذروا الجبن فإنه عار ومنقصة»(1).

مِن ملّف الشجاعة

قال ابن أبي الحديد، وهو يتحدث عن شجاعة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة، يُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فرّ في موقف قطّ، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلّا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية، وفي الحديث: (كانت ضرباته وتراً). ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو (بن العاص): لقد أنصفك، فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلّا اليوم. أتأمرني بمبارزة أبي الحسن، وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي(2).

لقد مثّل الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أروع حالات الفروسية والبطولة والإقدام. والكلام عن شجاعته كالشمس في رابعة النهار، فلقد طار صيته في كل مكان، حتى أن عضد الدولة وركن الدولة، قد رسما صورته على سيفهما تفاؤلاً بالنصر والظفر(3).

ولقد كانت شجاعته تحمل في طيّاتها أسمى معاني الفضل والكرم والحلم والعفو والسماحة فقد نُقل عن مؤدّب الواثق، قال: سمعت ابراهيم بن رياح يقول:

ص: 530


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 160.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 20.
3- عضد الدولة وركن الدولة كانا في زمن الخليفة المستكفي وهما من بني بويه الذين جاءوا من إيران واستولوا على العراق سنة (334ه) وانتهى حكمهم سنة (447 ه)، وفي عهد بني بويه انتشر العلم والأدب بكل ألوانه وكانوا من الشيعة.

تُستحق الخلافة بخمسة أشياء: بالقرب من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، والسبق إلى الإسلام، والزهد في الدنيا، والفقه في الدين، والنكاية في العدو، فلم ير هذه الخمسة أشياء إلّا في علي(1).

ولقد كان صاحب لواء رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في كل مشهد(2). ولو أعرضنا عن كل مواقفه، ونظرنا إلى موقفه في الخندق؛ لكفى. وذلك لقول رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أبشر يا علي، فلو وزن اليوم عملك بعمل جميع أمة محمّد، لرجح عملك على عملهم»(3).

لقد ذكر ابن اسحاق: أن عمرو بن عبد ودكان ينادي: من يبارز؟ فقام علي(عليه السلام)، وهو مقنع في الحديد، فقال: «أنا له يا نبي اللّه»، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنه عمرو، إجلس» ونادى عمرو: ألّا رجل؟ ويؤنبهم ويسبّهم ويقول: أين جنّتكم التي تزعمون أن من قُتِلَ منكم دخلها؟ فقام علي(عليه السلام) فقال: «أنا له يا رسول اللّه»، ثم نادى الثالثة، فقال علي: «أنا له يا رسول اللّه»، فقال: «إنه عمرو»، فقال: «وإن كان عمراً». فاستأذن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فأذن له فألبسه درعه، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعمّمه عمامته، ثم قال له تقدّم، فقال لما ولّى: «اللّهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوق رأسه، ومن تحت قدميه»، إلى أن اقتتلا، وثارت عجاجة، فسُمع علي(عليه السلام) يُكبّر، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) «قتله والذي نفسي بيده» فإذا علي(عليه السلام) يمسح سيفه بدرع عمرو، وأقبل نحو رسولاللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ووجهه يتهلل(4).

ولا نبالغ لو قلنا: إن من أصعب المواقف في تاريخ الإنسانية كلها، الذي

ص: 531


1- تاريخ مدينة دمشق 42: 437.
2- معاني الأخبار: 60.
3- كنز الفوائد 1: 298.
4- انظر بحار الأنوار 20: 203.

يتطلب شجاعة وقوة إرادة، وصموداً أقوى من الجبال، وإيماناً راسخاً وعظيماً؛ هو: موقف سيد الشهداء أبيّ الضيم الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء.

بُطولات مِن نوعٍ خاص

الإمام الحسين(عليه السلام) عاش فترة كان المجتمع الإسلامي خلالها مفككاً بسبب ما شنّته حكومة بني أمية، من حرب شعواء ضد المؤمنين، ولا سيّما آل البيت(عليهم السلام)، فسببوا بذلك ابتعاد الأمة عن منهل الإسلام وتعاليمه القيمة وأوضعوا الأحاديث وأكثروا البدع فتاهت الأمة ورجعت القهقرى تدنّوا إلى الجاهلية شيئاً فشيئاً فكان الطريق الوحيد لإنقاذ الأمة من التيه وإيقاضها من سباتها، هو تفجير ثورة حمراء والمواجهة الحاسمة مع العدو، علماً بأنه كان قد خطّط، وأعدّ إعداداً جيداً للقيام بهذه الثورة العظيمة. وفعلاً، فقد واجه الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه القلائل جيش يزيد بن معاوية، المتكوّن من الألوف المؤلّفة، وحملت الثورة في طياتها ومشاهدها صور الإيمان الخالص، والحس الأبوي العاطفي الحريص على الأمة، المتمثل بالإمام الحسين(عليه السلام)، حيث كان يدعوهم إلى مراجعة أنفسهم، ويذكّرهم بأقوال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، ورغم صعوبة الموقف كان الإمام(عليه السلام)، يوصي أصحابه بالتحلي بالصفات الحميدة، والتمسك بتعاليم الإسلام، فقد أوصاهم بعدم الغدر والخيانة، وهكذا إلى أن ظل الإمام الحسين(عليه السلام) بمفرده أمام هذه الجيوش وصمد الإمام(عليه السلام) بوجه الأعداء إلى أنسقط مضرجاً بدمائه، في سبيل اللّه. وهو يقول:

القتل أولى من ركوب العار *** والعارُ أولى من دخول النار

ويقول(عليه السلام) أيضاً:

أنا الحسين بن علي *** آليت أن لا أنثني

ص: 532

أحمي عيالات أبي *** أمضي على دين النبي(1)

ولم يعرف للذلة أو الاستسلام وكان في قلبه الشريف فكان يقول(عليه السلام): «لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفِرّ فرار العبيد»(2).

فسلام عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً.

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، واجعل لي يداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني، وظفراً بمن عاندني. وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرة على من اضطهدني»(3).

من هدي القرآن الحكيم

الشجاعة والشدّة في الحق فقط

قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَايَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}(6).

ص: 533


1- انظر تسلية المجالس 2: 318، وبحار الأنوار 45: 49 و 50.
2- الإرشاد 2: 98.
3- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
4- سورة آل عمران، الآية: 173.
5- سورة المائدة، الآية: 54.
6- سورة الأحزاب، الآية: 39.

وقال جلّ وعلا: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(1).

لا للجبن ولا للتهاون

قال عزّ اسمه: {وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(2).

وقال جلّ شأنه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا مِنَ الْأخِرَةِ فَمَا مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فِي الْأخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}(3).

وقال عزّ من قائل: {انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(4).

وقال جلّ ثناؤه: {فَلَا تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ}(5).

نعم للاعتدال والاتزان في كل شيء

قال تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(6).

وقال سبحانه: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ}(7).

المؤمن يخاف اللّه فقط ويخشاه

قال عزّ وجلّ: {وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(8).

ص: 534


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة آل عمران، الآية: 139.
3- سورة التوبة، الآية: 38.
4- سورة التوبة، الآية: 41.
5- سورة محمد، الآية: 35.
6- سورة البقرة، الآية: 195.
7- سورة الرحمن، الآية: 7-8.
8- سورة آل عمران، الآية: 175.

وقال جلّ شأنه: {فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}(1).

وقال عزّ اسمه: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}(3).

وقال عزّ من قائل: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

فضل الشجاعة:

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «... ويجب (اللّه) الشجاعة ولو على قتل حيّة»(5).

وقال الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشجاعة أحد العزين»(6).

وقال(عليه السلام) في وصف المؤمنين: «نفسه أصلب من الصلد»(7).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «المؤمن أصلب من الجبل، الجبل يستقل منه والمؤمن لا يستقل من دينه شيء»(8).

من هو الشجاع؟

قال النبي الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم): «أشجع الناس من غلب هواه»(9).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «مرّ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بقوم يرفعون حجراً، فقال: ما

ص: 535


1- سورة المائدة، الآية: 44.
2- سورة الأعراف، الآية: 154.
3- سورة الأنفال، الآية: 2.
4- سورة البينة، الآية: 8.
5- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 21.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 88.
7- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 333.
8- الكافي 2: 241.
9- من لا يحضره الفقيه 4: 395.

هذا؟ قالوا: نعرف بذاك أشدنا وأقوانا، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): ألّا أُخبركم بأشدكم وأقواكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: أشدكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له بحق»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أشجع الناس أثبتهم عقلاً في بداهة الخوف»(2).

في الجبن وذمه والنهي عنه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «شر ما في الرجل شح هالع أو جبن خالع»(3).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «اعلم يا علي أن الجبن والبخل والحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظن»(4).

وقال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «شدة الجبن من عجز النفس وضعف اليقين»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يؤمن رجل فيه الشح والحسد والجبن ولا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً»(6).

فضيلة الخوف من اللّه تعالى

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «وأما علامة التقي فستة: يخاف اللّه...»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لما كلّم اللّه عزّ وجلّ موسى بن عمران... ، قال:

ص: 536


1- معاني الأخبار: 366.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 304.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 29.
4- الخصال 1: 102.
5- عيون الحكم والمواعظ: 298.
6- الخصال 1: 83.
7- تحف العقول: 21.

إلهي فما جزاء من دمعت عيناه من خشيتك؟ قال: يا موسى أقي وجهه من حر النار وأومنه يوم الفزع الأكبر»(1).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «ابن آدم! لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك، وما كان الخوف لك شعاراً...»(2).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليهما السلام): «من خاف اللّه أخاف اللّه منه كل شيء ومن لم يخفف اللّه أخافه اللّه من كل شيء»(3).

ص: 537


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 208.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 337.
3- الكافي 2: 68.

ص: 538

فهرس المحتويات

العمل الصالح طريق التغيير

الإخلاص في العمل... 5

ستة آلاف كلمة... 5

العمل الصالح... 7

بين العمل الصالح والعمل الطالح... 7

من أسباب تخلف المسلمين... 9

العقائد المنحرفة... 11

الثوب الجديد... 12

الانحراف الفكري وأثره في الإسلام... 13

نقل الأموات... 14

متطلبات العصر... 15

كيف نخطو إلى الأمام... 16

من جرائم المستكبرين... 17

طريق التغيير... 18

مجلس الشورى... 19

إلى العاملين... 20

من هدي القرآن الحكيم... 22

المؤمن بعمله... 22

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 22

ص: 539

الشورى والاستشارة... 23

سوء العاقبة... 23

الانحراف عن الصراط السوي... 24

الحكومات الجائرة وآثارها... 24

من هدي السنّة المطهّرة... 25

الاستشارة عين الهداية... 25

العمل رفيق المؤمن... 26

الموعظة حياة القلوب... 26

من فضائل علي(عليه السلام)... 27

مفاسد المستكبرين... 29

الغرب والحصار الاقتصادي على المسلمين

شمولية الإمداد الإلهي... 31

من هو المتقدم الفائز... 33

غفلة المسلمين... 34

تحطيم البنية الاقتصادية... 35

الإنجليز ودورهم في تدمير الاقتصاد العراقي... 36

الاكتفاء الذاتي ضرورة... 38

تجربة الهند مع الاحتلال البريطاني... 38

السعي إلى الاكتفاء الذاتي... 39

لا لليأس... 41

قصة واقعية... 43

العلاج الإسلامي الاقتصادي... 45

اقتصاد الدول المتقدمة... 47

الجد والاجتهاد في العمل... 48

ص: 540

قصة من التاريخ... 49

من هدي القرآن الحكيم... 51

لزوم العمل... 51

الأنبياء(عليهم السلام) والعمل... 51

التقدير في المعيشة... 52

أسلوب الكفار والمستعمرين... 52

من مقومات العزة... 53

من هدي السنّة المطهّرة... 53

لزوم العمل... 53

الأنبياء(عليهم السلام) والعمل... 54

التقدير في المعيشة... 54

آثار المال في المجتمع الإسلامي... 55

من مقومات العزة... 56

الفهم السياسي

السياسة وقانون الأسباب والمسببات... 57

الفهم السياسي... 59

مفهوم السياسة... 60

التوعية والتثقيف... 65

الاستهلال والفهم السياسي... 66

العلماء والفهم السياسي... 67

احتلال أفغانستان... 68

شهادة زور... 70

مواجهة الأعداء والفهم السياسي... 70

التفرقة مخطط الأعداء... 72

ص: 541

من مقومات الفهم السياسي... 73

التحقيق والتدبر... 74

إيجاد الوعي العام... 76

من هدي القرآن الحكيم... 77

لكل شيء سبب... 77

معارف ضرورية... 77

معرفة الدين... 78

معرفة الناس... 78

ضرورة نشر المعرفة... 78

دور العلماء في مواجهة الانحراف... 78

من هدي السنّة المطهّرة... 79

لكل شيء سبب... 79

العلم والمعرفة... 80

دور العلماء في مواجهة الانحراف... 81

السياسة من صميم الإسلام... 82

الفئات الاجتماعية بين الحق والباطل

الحق والباطل... 83

فئات المجتمع... 84

صراع الحق والباطل... 86

كيف يتكون الباطل؟... 87

قمة الباطل... 89

الظلم عنوان الباطل... 89

الحق هو المنتصر... 90

جولة ودولة... 92

ص: 542

الباطل والتعبئة ضد الإسلام... 93

فئة المستضعفين... 94

حتى تنتصر فئة الحق... 98

شروط الانتصار... 99

1- الوعي السياسي... 100

2- الإرادة الصلبة... 101

3- نشر القيم والفضائل... 103

من هدي القرآن الحكيم... 105

التمسك بالدين شرط الانتصار... 105

الصمود والاستقامة في العمل... 105

الوعي والبصيرة... 106

عاقبة الظلم والظالمين... 106

من هدي السنّة المطهّرة... 107

التمسك بالدين شرط الانتصار... 107

الصمود والاستقامة... 107

الوعي والبصيرة... 108

عاقبة الظلم والظالمين... 108

القرآن منهج وسلوك

الدستور الكامل للبشر... 110

القرآن سبب للهداية... 112

أهل البيت(عليهم السلام) والقرآن... 115

القرآن في الروايات... 119

التدبر في القرآن... 120

القرآن للجميع... 121

ص: 543

من خصائص القرآن... 122

مع الفضيل بن عياض... 123

بعض آثار التلاوة... 124

القرآن والخوف من اللّه... 125

طبيعة الخوف... 126

نموذجان قرآنيان للخوف الممدوح... 126

النموذج الأول... 126

النموذج الثاني... 127

تخويف القرآن من العذاب... 131

القرآن ومستدعيات الخوف الحقيقي... 132

ثمرة الخوف من اللّه تعالى... 133

الدنيا والآخرة في القرآن... 134

القرآن يدعو إلى الأفضل... 135

ثمار التدبر في القرآن... 136

من هدي القرآن الحكيم... 138

القرآن دستور الحياة... 138

القرآن كتاب هدى ورحمة... 139

التدبر في القرآن... 139

الخوف الحقيقي في القرآن... 140

من هدي السنّة المطهّرة... 140

القرآن دستور الحياة... 140

القرآن إمام ورحمة... 141

التدبر في القرآن... 142

القرآن والخوف الحقيقي من اللّه... 142

ص: 544

القرآن يتحدى

المقدمة... 144

أنبياء اللّه وكتب السماء... 148

القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية... 151

وصية الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بالقرآن والعترة... 153

إعجاز القرآن... 158

القرآن يتحدى الجميع... 160

آية التحدي... 161

النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) ينذر قومه... 163

أقسام الحكومات في عصر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)... 164

النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) والوليد بن المغيرة... 164

القرآن يتوعّد المفترين... 167

مُفترو القرن العشرين... 170

الإلحاد المنّظم وحرب المقدسات... 171

بداية التنظيم الإلحادي... 172

واجبنا تجاه القرآن الحكيم... 174

تعلّم القرآن وتعليمه... 176

القرآن مصدر التقدّم والتطور... 177

من هدي القرآن الحكيم... 180

بعثة الأنبياء وبعض أهدافها... 180

القرآن يتحدى الجن والأنس... 180

صيانة القرآن من التحريف... 181

التدبر في القرآن... 182

من هدي السنّة المطهّرة... 182

ص: 545

الشمولية والتكامل في القرآن... 182

القرآن يتحدى الأجيال... 183

القرآن مصون من التحريف... 185

التدبر في القرآن... 186

ثواب قراءة القرآن... 186

اللاعنف منهج وسلوك

العنف لغة... 188

العنف والنفس الإنسانية... 189

العدوانية وعلاجها... 191

العلاج الإسلامي... 192

العمل والتقدم... 193

تقدم الغرب... 194

العمل شعار المؤمن... 196

العمل المصحوب باللاعنف... 198

الغضب من مصاديق العنف... 200

نصائح الأطباء... 202

منهج اللاعنف... 203

في سيرة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)... 203

منهج أهل البيت(عليهم السلام)... 207

هل تعرف الصلاة؟... 218

أي شيء تعبد؟... 219

الموعظة المهذبة... 219

إنني أصلحت أمره... 220

أنت احب خلق اللّه إلي... 221

ص: 546

طِب نفساً... 221

أشهد أنك من أولاد الرسل... 222

وعنك أغضي... 223

ولا يستخفنك الذين لا يوقنون... 223

اللاعنف عند العلماء... 223

الاختلاف السلبي والإيجابي... 225

أسباب الاختلاف... 226

اللاعنف والمناظرة... 228

ثمار اللاعنف... 230

الأول: رضا اللّه تعالى... 230

الثاني: الطمأنينة بين الناس... 231

الثالث: محبوبية الإنسان... 232

من هدي القرآن الحكيم... 234

اللاعنف سلوك حسن... 234

بالعمل تنال الدرجات العلى... 234

ثمار العمل... 235

الاختلاف... 235

من هدي السنّة المطهّرة... 235

اللّه رفيق يحب الرفق... 235

الغضب أول العنف... 236

أخذت باليسير... 237

ثمار اللاعنف... 238

نوعية العمل المقبول عند اللّه... 239

اللاعنف في المعيشة... 240

ص: 547

اللاعنف في التبليغ... 240

اللاعنف السياسي... 243

لا للعنف... 243

اللاعنف دائماً... 244

اللاعنف من صفات المؤمن... 245

اللاعنف مع الحيوان... 246

أهمية العمل... 247

المرأة المسلمة والوصايا الأخيرة

1- التقوى والخوف من اللّه... 248

معنى التقوى... 249

الشاب الذي أسلم تواً... 250

ماذا تعني الذرة؟... 251

من كرامات الحمّال التبريزي... 252

الأعمى الذي ارتد بصيراً... 254

تهيأ البيت المناسب... 255

امرأة من زنجان... 257

2- حسن الأخلاق... 258

3- القدرة على الكتابة والتأليف... 260

4- المنبر والخطابة... 262

5- المحراب... 263

6- الزواج... 264

سلمان الفارسي في المدائن... 266

7- العمل... 267

8- مجالس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام)... 268

ص: 548

كن وصيّ نفسك... 269

من هدي القرآن الكريم... 271

التقوى والأخلاق الحسنة... 271

الأخلاق السيئة وعدم التقوى... 272

من هدي السنّة المطهّرة... 273

التقوى... 273

الخوف من اللّه... 274

حسن الخلق... 275

التأليف والكتابة... 276

المنبر... 277

صلاة الجماعة... 277

العمل... 278

الزواج... 279

المجالس الحسينية... 279

المرأة في المجتمع المعاصر

مريم البتول(عليها السلام)... 281

معجزة مريم وابنها(عليهما السلام)... 282

لمحة عن حياة المرأة عبر التاريخ... 285

المرأة في الجاهلية... 292

العزة في الإسلام... 296

المرأة بين الإفراط والتفريط... 297

المرأة والمجتمع المعاصر... 298

الإسلام والعظيمات من النساء... 299

المساواة في الإنسانية... 302

ص: 549

مساواة أم ظلم؟... 302

الغرب وموقفه من قضية الزواج... 304

لماذا الزواج؟... 305

الطلاق يهتز منه عرش الرحمن... 307

مكانة المرأة في الإسلام... 310

الشيماء بنت حليمة السعدية... 310

الزوجات... 311

الإسلام وحجاب المرأة... 312

تقارير وإحصاءات عن المرأة في المجتمع المعاصر... 314

أوروبا تدعو إلى تشريع وإباحة الدعارة... 319

تفاقم ظاهرة الطلاق في إيران... 323

الإجهاض في العالم... 323

الاغتصاب... 324

الاكتئاب يصيب المرأة أكثر من الرجل... 324

المرأة الأفريقية والإيدز... 325

العنف ضد النساء... 326

نسبة التحرش الجنسي بالنساء العاملات... 327

النساء الداعرات... 327

من هدي القرآن الحكيم... 328

المرأة في الإسلام... 328

المرأة الصالحة... 328

الزواج في الإسلام... 328

من هدي السنّة المطهّرة... 329

سيدة نساء العالمين... 329

ص: 550

حق المرأة الأم... 329

حب النساء... 331

الزوجة الصالحة... 332

المرأة وخدمة الزوج... 332

أبغض الحلال عند اللّه الطلاق... 332

المرأة في المنظار الإسلامي

كمال الخلقة... 333

لا تفاوت في خلق اللّه... 334

الثواب والعقاب للمرأة والرجل... 336

رجال عظماء ونساء معظمات... 337

السيدة خديجة الكبرى(عليها السلام)... 337

الزهراء(عليها السلام) أعظم أسوة للنساء... 340

بطلة كربلاء... 343

السيدة زينب(عليها السلام) والطف... 346

زوجات وأمهات الأئمة(عليهم السلام)... 352

السيدة حميدة المصفاة... 353

أم الإمام المنتظر(عليه السلام)... 357

ببركتها زال البلاء... 359

اختلاف الوظائف... 360

المساواة بين الرجل والمرأة... 362

تعدد الزوجات... 363

حسن معاشرة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) مع زوجاته... 364

المرأة ظُلمت مرتين... 366

ص: 551

بطولة المرأة... 368

الإمامة في الصلاة... 375

الحضور في ميادين العلم... 375

اتقوا اللّه في النساء... 376

العلوية المزمنة... 377

في مواجهة الطغاة... 379

معاوية وسجن النساء... 381

ماذا تقول لربك يا معاوية؟... 383

الإسلام رفع شأن المرأة... 384

من هدي القرآن الحكيم... 385

نساء صالحات... 385

نساء غير صالحات... 385

المرأة والزواج... 386

تعدد الزوجات والعدالة... 386

الحجاب واجب للمرأة المسلمة... 386

من هدي السنّة المطهّرة... 387

في فضل المرأة... 387

نساء صالحات... 387

المرأة والزواج... 388

المرأة في الإسلام... 388

المرأة في ظل الإسلام

حقوق المرأة... 390

دعاة المساواة... 390

شعار تحرر المرأة ماركة تجارية... 392

ص: 552

أي المجتمعين أفضل للمرأة؟... 393

أين هي المساواة؟... 394

التشبه بالرجال يعني الاسترجال... 395

مكانة المرأة... 397

التساوي في الشرع الإسلامي... 398

ولها دور العالِم... 399

المعززة المكرمة... 401

الأخت... 403

الزوجة... 403

أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك!... 406

إلى جانب العظام... 407

نموذج آخر... 408

مهمات ووظائف... 410

التأكيد على الزواج... 413

من هدي القرآن الحكيم... 414

المثل الأعلى لنساء العالم... 414

المرأة والعمل الصالح... 414

لا تفاوت بين الرجل والمرأة... 414

من هدي السنّة المطهّرة... 415

المرأة في ظل الإسلام... 415

أقسام النساء... 416

1- الأمهات... 416

2- الزوجة... 416

3- البنات... 417

ص: 553

4- الأخوات... 417

يوصيكم اللّه تعالى بالنساء خيراً... 418

خير النساء... 418

الحث على الزواج... 419

من أخلاق الأنبياء... 419

فما للنساء؟... 419

المنهل العذب

اللين وحسن المعاملة... 420

الولي الحميم... 420

القول اللين مع الأعداء... 422

عطاء سيد الشهداء(عليه السلام)... 423

الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وحسن المعاملة... 424

من عظيم أخلاقه(صلی الله عليه وآله وسلم)... 425

عصر المرحمة... 427

اليوم يوم المرحمة... 428

الأخلاقية الفاضلة... 429

أمير المؤمنين(عليه السلام) وحسن المعاملة... 431

الأئمة(عليهم السلام) ولين الكلام... 432

كلهم(عليهم السلام) نور واحد... 432

أتباع آل البيت(عليهم السلام)... 434

علماؤنا الأعلام وحسن المعاملة... 435

الخاجة نصير الدين الطوسي(رحمه الله) والرفق في المعاملة... 435

شاهد آخر... 436

ص: 554

من هدي القرآن الحكيم... 437

الرفق ولين الكلام... 437

قول الخير والقول الحسن... 438

الصفح الجميل... 438

من هدي السنّة المطهّرة... 439

حفظ اللسان... 439

التأدب بآداب اللّه... 440

قول الخير... 440

الرفق واللاعنف... 441

النضج وأثره في حياة الإنسان

آثار النضج... 442

مراقبة النفس... 443

وكيل السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله)... 444

النضج الاجتماعي... 446

النضج حاجة عامة... 447

الاستشارة من مقومات النضج... 447

ضياع الجهود... 448

النضج الطبي... 450

النضج العلمي لدى الشيخ الأنصاري(رحمه الله)... 451

نظرة إلى التاريخ العباسي... 452

نضج الميرزا الشيرازي(رحمه الله)... 453

الهجمات الاستعمارية... 455

نور المؤمنين في القيامة... 456

من هدي القرآن الحكيم... 458

ص: 555

النضج الفكري والحرية... 458

النضج وعواقب الأمور... 458

نور المؤمن في القيامة... 458

المؤمن وقور... 459

من هدي السنّة المطهّرة... 459

النضج الفكري والحرية... 459

النضج وعواقب الأمور... 460

المؤمن وقور... 460

نور المؤمن في القيامة... 461

النضج والتعلم في الشباب... 461

النضج وسمو النفس

ضبط النفس... 462

تنازع من أجل مائة دينار... 464

النضج والحكمة... 465

أولاً: النفس منطقة الخطر... 465

كيف نتصرف بحكمة، ونكتسب التعقل ونلتزم جانب الإنصاف؟... 465

ثانياً: عامل الصبر... 466

ثالثاً: عامل العلم والتجربة... 467

نضج ووعي السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله)... 467

النضج اللازم في العمل... 468

شيخ الطائفة(رحمه الله)... 469

رابعاً: العبادة والتوسّل... 470

خدمة الناس... 471

زيارة مسجد السهلة... 473

ص: 556

من سمات الناضجين... 473

أبغض الناس... 475

من هدي القرآن الحكيم... 477

التفكر والوعي والاعتبار... 477

ثمار العلم... 477

المعرفة والعمل... 478

المداراة والرفق بالناس... 478

من هدي السنّة المطهّرة... 479

التفكر والوعي والاعتبار... 479

أهمية العلم... 480

المعرفة والعمل... 480

ثمرة المعرفة ونتائجها... 481

المداراة والرفق بالناس... 481

الهداية والرشد الفكري

أصحاب الكهف... 483

الرشد عند أصحاب الكهف... 485

الرشد الفكري... 486

تنمية القدرات العقلية... 487

تنوع القراءات... 488

مصباح الفكر... 489

كيف أصبح لقمان حكيماً... 490

التبليغ المسيحي في العراق... 492

تأثير الرشد الفكري... 493

من هدي القرآن الكريم... 495

ص: 557

التفكير وتأثيره... 495

العلم والدين... 496

الطريق إلى اللّه تعالى... 497

العلماء ومواجهة الحكومات الظالمة... 497

من هدي السنّة المطهّرة... 498

أصحاب الكهف... 498

العقل والدين... 498

الرشد الفكري وأثره... 499

الخوف والرجاء من اللّه تعالى... 500

أهمية العلم... 501

دور العلماء في مواجهة الحكومات الظالمة... 501

دور الكتابة في الحياة

الإنسان والعلم والقلم... 503

من وسائط الهداية... 505

كيفَ نَبْدأ؟ وماذا نكتب؟... 507

أثَرُ الإعْلام... 509

وقفةٌ مَعَ كاتب... 510

دعوة إلى من يهمّه الأمر... 511

الشعور بالمسؤوليَّة... 512

التخوّف الغَربي مِن الإسلام... 514

أولاً... 514

ثانياً... 514

ثالثاً... 514

رابعاً... 515

ص: 558

من هدي القرآن الحكيم... 516

ينبغي لمن يمتهن الكتابة أنْ يلتزم بأمور... 516

1- تقوى اللّه... 516

2- الإنصاف والعدل... 516

3- الصدق... 517

4- الوعي... 517

من هدي السنّة المطهّرة... 518

ينبغي لمن يمتهن الكتابة أن يلتزم بأمور... 518

1- تقوى اللّه... 518

2- الإنصاف والعدل... 518

3- الصدق... 519

4- الوعي واليقظة و... 519

مفهوم الشجاعة

الشجاعة بين الاعتدال والتهوّر... 522

بَين الظُلم والشجاعة... 523

تصوّر الظلم شجاعة!... 524

مواقِف بطوليّة... 526

الجُبْن منقَصَة... 528

مِن ملّف الشجاعة... 530

بُطولات مِن نوعٍ خاص... 532

من هدي القرآن الحكيم... 533

الشجاعة والشدّة في الحق فقط... 533

لا للجبن ولا للتهاون... 534

نعم للاعتدال والاتزان في كل شيء... 534

ص: 559

المؤمن يخاف اللّه فقط ويخشاه... 534

من هدي السنّة المطهّرة... 535

فضل الشجاعة:... 535

من هو الشجاع؟... 535

في الجبن وذمه والنهي عنه... 536

فضيلة الخوف من اللّه تعالى... 536

فهرس المحتويات... 539

ص: 560

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.