القطوف الدانية المجلد 3

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 3/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

-----------------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه الله)

الناشر: دار العلم

المطبعة: إحسان

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

كمية: 500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

-----------------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الثالث): 9-204541-964-978

-----------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

الحجاب الدرع الواقي

الحجاب في القرآن

وردت في القرآن الكريم آيات عديدة حول الحجاب، منها قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَٰعًا فَسَْٔلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٖ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}(1).

ومنها قوله سبحانه: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ}(2). والخمار: هو الغطاء الذي يوضع على الرأس فيغطي الأذن والصدر والرقبة(3).

ومنها قوله عزّ وجلّ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَٰهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ}(4).

لماذا الحجاب؟

اشارة

ولكن: لماذا الحجاب؟ هكذا يتساءل الكثير من الشبان والشابات... أليس الحجاب تقييداً لحرية المرأة؟ وأساساً ما هي العوامل التي جعلت الإسلام يشرّع الحجاب؟

ص: 5


1- سورة الأحزاب، الآية: 53.
2- سورة النور، الآية: 31.
3- الخمر بضمتين: جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وينسدل على صدرها، والمراد بالجيوب: الصدور، والمعنى: وليلقين بأطراف مقانعهن على صدورهن ليسترنها بها. وفي (مجمع البحرين) مادة (خمر): أي مقانعهن، جمع خمار وهي المقنعة.
4- سورة الأحزاب، الآية: 33.

والجواب يتلخص في حفظ الإنسان والمجتمع عن الرذيلة والفساد، والحفاظعلى كرامة المرأة وعفتها وشرفها، مضافاً إلى أمور أخرى، نشير إلى بعضها:

أولاً: بقاء المحبة الزوجية

ينوّه (علم النفس) أن المتزوجة المحجبة تستقطب حب الزوج واهتمامه اكثر من غيرها، لماذا؟

ذلك لأن (الإنسان حريص على ما منع) فالمرأة المحجبة - عادة - أقرب إلى قلب الزوج من المرأة المتبرجة... إذ المرأة بلا عباءة التي يراها الرجل من الرأس إلى القدم يومياً عشرات المرات... تفقد إغراءها الخاص، ولا يراها زوجها أنها مختصة به. عكس المرأة المحجبة التي تظل مجهولة، ومثيرة... بالنسبة إلى الزوج، ومصونة في قبال الآخرين.

وهكذا المرأة الريفية المحجبة ببساطتها تكون أقرب إلى قلب زوجها من المرأة العادية غير المحجبة، إن المرأة في الريف تتعاون مع زوجها... تذهب في الصباح إلى الحقل لتزرع... وتطحن وتخبز... وتغسل... وتقوم بسائر المهام الملقاة على عاتقها بالمحبة والعطوفة وهي بحجابها ومن دون أن تختلط بالأجانب... وعندما تعود في الليل إلى الكوخ... إذا بالزوج ينظر إليها كملاك أو حورية، ويبدي حبه تجاهها... لماذا؟ لأنه بقي في هذه المرأة الإغراء والاختصاص.

وقد ورد أنه من المكروهات في الإسلام: ذهاب الزوجين إلى الفراش عاريين(1)... إذ في هذه الحالة قد لا تبقى في جسد الزوجة مناطق إغراء مجهولة

ص: 6


1- راجع موسوعة الفقه 62: 121- 122، كتاب النكاح في مكروهات المقاربة وفيه: ويكره الجماع وهو عريان... وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)قال: «إذا تجامع الرجل والمرأة فلا يتعريان» الحديث. وسائل الشيعة 20: 120.

نهائيا.نعم إن الرجل يشعر بأن الزوجة المحجبة تخصه دون سائر الرجال، عكس المرأة غير المحجبة فإنها لاتختص بزوجها بل يراها الجميع... .

وهذا مما يؤثر في تماسك الأسرة وعدم تلاشيها، ولهذا السبب كان الطلاق قليلاً في المجتمعات الإسلامية، على عكس ما نراه اليوم من كثرته، فكان آباؤنا يتزوجون ويعيشون سنين طويلة دون أن تجري على شفاههم كلمة (الطلاق)... فإنهم كانوا يجدون في زوجاتهم - اللاتي كن يرتدين الحجاب - الإغراء والجاذبية والحنان.

ثانياً: الحفاظ على الحياة الزوجية

عندما تكون المرأة محجبة، تستمر الحياة الزوجية... إذ في هذه الحالة لا يرى الزوج غير زوجته عادة، ولذلك فهو قانع بها، ولا ترى الزوجة غير زوجها ولذلك فهي قانعة به.

لكن: عندما تكون النساء سافرات، وعندما يكون هناك اختلاط، فمن الطبيعي أن يرى الزوج نساءً أجمل من زوجته... وأن ترى الزوجة رجالا أجمل من زوجها... وهذا ما يؤدي كثيراً إلى تردّي العلاقات الزوجية... وفي النهاية: إلى الطلاق!

مثلاً: في أميركا وحدها يوجد 7 ملايين طلب طلاق، كما جاء في بعض الصحف.

وفي الاتحاد السوفيتي يقول تقرير نشرته إحدى الصحف الرسمية(1):

إن حالة واحدة من كل تسع حالات زواج تنتهي بالطلاق في الاتحاد السوفيتي!

لماذا تصل نسبة الطلاق في هذه البلدان هذا الحد؟

ص: 7


1- صحيفة البراقدا. هذه الإحصائية قديمة نوعاً ما، أما الجديدة منها فانه في سنة (2011م) نسبة الطلاق إلى الزواج هي 51% وهكذا الحال في باقي البلدان والدول العربية والإسلامية أيضاً بشكل ملحوظ.

ببساطة: لأن الرجل رأى امرأة أجمل من زوجته في السينما، أو الجامعة، أو الشارع، أو في أي مكان آخر، فعاد إلى البيت ولم يكتف بزوجته... فأثر على سلوكه وسلوكها... فطلق زوجته لكي يتزوج غيرها.

ثالثاً: توقي الانحرافات الجنسية

كم من الانحرافات والاتصالات الجنسية غير المشروعة تحدث في المجتمع في الوقت الحاضر!

ألا يلعب السفور والتبرج دورا أساسياً في ذلك؟

ألا تسيل المرأة المتبرجة لعاب الرجال لكي يركضوا خلفها ويحاولوا الحصول منها على المتع المحرمة؟

وأليس الحجاب هو الأفضل لتوقي هذه الانحرافات؟

وهل من الصحيح أن يرمي الصائغ ذهبه ومجوهراته في الطريق؟ ألا يعني ذلك تعرضها للسرقة من اللصوص؟

وكذلك المرأة المتبرجة كثيراً ما تكون عرضة ل(سراق الأعراض).

ولنلقي هنا نظرة سريعة على واقع المجتمعات الغربية:

يقول أحد القضاة في أميركا(1): إن 45% من فتيات المدارس المختلطة يدنسن أعراضهن قبل خروجهن منها، وترتفع هذه النسبة كثيراً في مراحل التعليم التالية.

كما دلت الإحصاءات التي أجريت على حقائب طالبات المدارس في بريطانيا: أن 80% منهن يحملن معهن الأقراص المانعة من الحمل، وهذا يكشف عن إنهن مهيئات نفسياً لممارسة الدعارة والفجور في أول لحظة، مهيئات للاستجابة لأول طلب، وإنهن يقدمن على حمل هذه الأقراص هروباً من

ص: 8


1- هو القاضي (لندسي).

التبعات الثقيلة(1).

وأخيراً فإن للتبرج والسفور دوراً كبيرا في حوادث الاغتصاب والقتل، وما أشبه ذلك(2).

فقد نشرت بعض الصحف الغربية(3): أن تقارير البوليس الأميركي تشير إلى ارتفاع نسبة جرائم الاغتصاب عاماً بعد عام، ففي واشنطن فقط تقع جريمة اغتصاب كل (15) دقيقة.

والواقع: أن مظاهر الميوعة التي تنتشر في أميركا وغيرها من بلاد الغرب ذات أثر بالغ في ازدياد حالات الاغتصاب... وفي كثير من الأحيان تحدث حالات قتل بسبب امتناع الفتاة من تسليم نفسها أو ما أشبه(4).

ص: 9


1- هذا بالإضافة إلى ما يجري من الفضائح في النوادي الليلية ونوادي العراة، راجع للتفصيل كتاب (تجارة النساء في أوروبا) تأليف كريس دي ستووب.
2- كانتشار بعض الأمراض الخطيرة القاتلة من أمثال الإيدز... فقد نقلت (المجلة) في ملحق عددها 905 أن: 8500 شخص جديد يصابون كل يوم بالإيدز، بينهم ألف طفل تحت سن 15 عاماً، وأكثر من 8 ملايين طفل فقدوا أمهاتهم بسبب الإصابة بالإيدز، وحوالي 8 ملايين شخص أصيبوا منذ بداية انتشار المرض وتوفي 6 ملايين آخرين.
3- صحيفة الغارديان البريطانية.
4- نقلت مجلة (النبأ) الصادرة عن المستقبل للثقافة والإعلام، بيروت في عددها 17-18 رجب وشعبان 1418ه ص37 تحت عنوان (المرأة البريطانية إذا حكت): في استفتاء شمل 500 امرأة بريطانية تبيّن أن نصف البريطانيات اعترفن بعلاقات مع الرجال خارج حياتهن الزوجية، وغالبيتهن كشفن أنهن غير نادمات على ذلك!، الاستفتاء الذي أعلن عنه في حفلة توزيع جوائز (امرأة العالم) في لندن شمل نساء يمارسن السياسة والصحافة والرياضة والتجارة والإدارة والطب والمحاماة والمقاولة والجمعيات الخيرية، وكشف الاستفتاء أن 42% اعترفن بالزنا وأعمارهن بين 51 و64 سنة، و39% مطلقات، و60% لديهن أولاد، الثلثان منهن اعترفن بأنهن لسن أمهات جيدات لأسباب عدة منها: غياب الوقت الكافي للجلوس مع العائلة، والأنانية، والتعب في العمل الذي ينعكس سلباً على البيت، وفقدان الوقت لبحث قضايا مهمة مع الأزواج.

أمثلة من الواقع

اشارة

وهنا لا بد أن نذكر بعض الأمثلة من الواقع عن الحجاب والتبرج... إكمالاً للفائدة وإتماماً للغرض.

نظرة السوء

1- جاء في التفاسير: إن شاباً من الأنصار استقبل في طريقه امرأة حسناء متسامحة في حجابها، مظهرة محاسنها، فاستهوت فؤاده... فاتبعها النظر ومشى خلفها بصورة لاشعورية... فكلما سلكت طريقاً سلكه، حتى دخلت في زقاق وهو خلفها، فاعترضت وجهه زجاجة أو ما شابه، مثبتة في الحائط، فشقت وجهه وهو لا يشعر، فسالت الدماء على صدره، ولم يشعر بما أصابه إلّا بعد أن توارت المرأة في بيتها... فجاء إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وشكا له أمر الفتاة، وحكى القصة، فنزلت قوله تعالى:

{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَائِهِنَّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَٰتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُنَّ أَوِ التَّٰبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَٰتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1)(2).

أحبلني ميكائيل!!

2- حدث مرة أن فتاة حملت، فظن أهلها أن سبب ذلك هو تكوّن غازات أو ما

ص: 10


1- سورة النور: 30-31.
2- الكافي 5: 521، تفسير الصافي 3: 429.

أشبه في بطنها، فذهبوا بها إلى الطبيب ليكشف عليها، وبعد الفحص قال الطبيب: إن الفتاة حامل!!

ففوجئ الأهل بذلك، كيف حملت وهي لم تتزوج بعد؟!! وعندما طرحوا عليها هذا السؤال...

أجابت الفتاة: أحبلني ملك اللّه ميكائيل!!

وعندما واجهت استنكار العائلة، قالت في إصرار: هل ذلك أمر عجيب، ألم يحبل جبرائيل مريم ابنة عمران؟؟

وبعد الفحص والبحث تبين أن صاحب دكان في الحي نفسه هو الذي مارس معها الجنس، بعد أن أعجب بجمالها السافر، وبعد أن أغراها، وذلك لعدم حجابها بشكل جيد.

قال الشاعر:

نظرة فابتسامة فسلام *** فكلام فموعد فلقاء

من آثار عدم الحجاب

3- في إحدى البلاد كانت تعيش امرأة وكان لها زوج، ولها منه أربعة أولاد وكانا يعيشان بانسجام كامل، رغم أن الزوج كان يكبر زوجته بسنوات عديدة. وكان على قرب بيتهما كاسب خبيث... وكان يرى جمال هذه المرأة التي كانت شبه سافرة ولم تحفظ حجابها بشكل جيد، فطمع فيها... فأخذ يغريها ويقول لها: أنت فتاة جميلة وصغيرة فكيف ترضين بالعيش مع هذا الرجل الكبير السن؟

وما زال بها كذلك... حتى غّيرت الزوجة سلوكها مع زوجها واضطر الزوج تحت ضغط زوجته المخدوعة أن يطلقها حتى تتزوج من ذلك الشاب الخبيث!... وهكذا هدم السفور بيت الزوجية وفرّق بين الزوجين وضيّع الأطفال.

ص: 11

برصيصا العابد

4- كان عابد في بني إسرائيل اسمه برصيصا، ومن شدة عبادته للّه أصبح مستجاب الدعوة.

وذات يوم جاءه إخوان أربعة كانت لديهم أخت خرساء جميلة، حتى يدعو اللّه لكي يحل عقدة لسانها. بيد أن العابد كان مشغولا بالتعبد داخل الصومعة، فقد ترك الإخوان الأربعة أختهم الخرساء عند الباب لكي يدعو لها العابد.

وفي الصباح فتح العابد الباب ليفاجأ بهذه الفتاة الجميلة الرائعة غير المحجبة، فسحره جمالها، وبيت في نفسه أمراً، بعد طرح عنيف بين شهواته وعقله.

فأخذ الفتاة إلى الداخل وزنى بها، إلّا أنه خاف من الفضيحة، فوسوت له نفسه لكي يقتلها، وفعلاً قتلها ودفنها!

وعندما جاء الإخوان الأربعة لأخذ أختهم لم يجدوها فسألوا عنها فأنكر العابد علمه بها.

فأخذ الإخوان الأربعة بالبحث عن أختهم حتى عثروا في نهاية المطاف على بقعة من الأرض مبعثرة فحفروها وإذا بهم يجدون في داخلها جثة أختهم، وأخذوا العابد إلى البلد فاعترف بجريمته البشعة، وعندما التف حبل المشنقة حول عنقه، تمثل له الشيطان قائلا: إنني أنا الذي أوصلتك إلى هذه الحالة وإنني أستطيع أن أنجيك ولكن بشرط!

فقال العابد في لهفة: ما هو الشرط؟

أجاب الشيطان: أن تسجد لي.

فقال العابد: لا أستطيع السجود وأنا بهذه الحالة.

فقال الشيطان: اسجد لي بعينك.

ص: 12

وفعلاً: أومأ العابد بعينيه كرمز للسجود للشيطان

وإذا بالحبل يلتف حول عنقه وينتقل إلى نار جهنم: زانياً قاتلاً كافراً!(1).

إن في هذه القصص التي ذكرناها - وهي قليل من كثير - دلائل واضحة على العواقب الوخيمة التي يؤدي إليها السفور والتبرج. فهل هناك من يعتبر؟!!

خاتمة

اشارة

وهناك أمور يلزم التذكير بها:

المرأة وطلب العلم

1- إن الإسلام لا يمنع من العلم ولا من تعلم المرأة(2)، ولا يمنع من عمل المرأة أعمالاً تناسب شرفها وعفافها، وإنما الذي يمنع عنه الإسلام هو الاختلاط والسفور وحضور الفتيان والفتيات المحلات المريبة.

الزواج المبكر

2- إن الإسلام يحرض على الزواج المبكر، فالفتاة ذات العشر سنوات الرشيدة يستحب تزويجها، قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من سعادة الرجل أن لا تحيض ابنته في بيته»(3).

كما أن الولد إذا بلغ (وبلوغه غالباً بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة) يستحب زواجه.

ومن المستحب الأكيد: تقليل المهر وتسهيل رسوم الزواج، فقد قال رسول

ص: 13


1- تفسير مجمع البيان 9: 438.
2- بل يؤكد على ذلك ويعتبره فريضة، كما قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» كنز الفوائد 2: 107.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 472.

اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أفضل نساء أمتي... أقلهن مهراً»(1).

وفي الحديث عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «نزل جبرئيل على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن الأبكار من النساء بمنزلة الثمر على الشجر، فإذا أينع الثمر فلا دواء له إلّا اجتناؤه، وإلّا أفسدته الشمس وغيرته الريح، وإن الأبكار إذا أدركن ما تدرك النساء فلا دواء لهن إلّا البعول، وإلّا لم يؤمن عليهن الفتنة. فصعد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) المنبر فخطب الناس ثم أعلمهم ما أمرهم اللّه به.

فقالوا ممن يا رسول اللّه؟ فقال: من الأكفاء.

فقالوا: ومن الأكفاء؟ فقال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض، ثم لم ينزل حتى زوَّج ضباعة بنت زبير بن عبد المطلب لمقداد بن الأسود، ثم قال: أيها الناس إنما زوجت ابنة عمي المقداد ليتضع النكاح»(2).

المرأة كاملة لا نقص فيها

3- ما يظهر من بعض الفوارق الجزئية بين الرجل والمرأة في الخلقة والإحساسات لا يكون نقصاً في أحدهما.

بل إن مثل المرأة والرجل مثل السيارة الصغيرة المعدة لحمل المسافرين، والسيارة الكبيرة المعدة لحمل الحديد والأحجار - إن صح التعبير - فقد جُعلت كل واحدة منهما لشأن، فلا نقص في أحدهما، وإنما اختلافهما هو لمصلحة.

فإن المرأة خُلقت عاطفية أكثر من الرجل لدورها في تربية الأطفال، والرجل خُلق عقلانياً أكثر، وذلك لاحتياج الاجتماع إلى كلا الأمرين، فجعل التساوي

ص: 14


1- الكافي 5: 324.
2- عيون أخبار الرضا 1: 289.

المطلق بينهما خلاف تركيب خلقهما. فلو ألقي عمل الرجل على المرأة، أو عمل المرأة على الرجل، كان ذلك كما إذا حملت السيارة الصغيرة الحديد والحجارة، أو حملت السيارة الكبيرة الركاب، ففي الأول عطب السيارة، وفي الثاني عطب المسافرين.

مشروع الزواج

4- ينبغي أن يكون في كل بلد (صندوق الزواج) ليعين على تزويج العزاب والعازبات، ومساعدتهم في تكوين عش الزوجية، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(1).

ونرى أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يهتم لتزويج من لم يكن متزوجاً، وكذلك الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وسائر الأئمة الطاهرين(عليهم السلام). فقد روي عن الصادق(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) زوّج المقداد بن الأسود الكندي ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب، وإنما زوجه لتتضع المناكح، وليتأسوا برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وليعلموا أن أكرمهم عند اللّه أتقاهم»(2).

كما أمر(صلی الله عليه وآله وسلم) بتزويج جويبر في قصة مفصلة، حيث ورد عن أبي حمزة الثمالي قال: كنت عند أبي جعفر(عليه السلام) إذ استأذن عليه رجل فأذن له فدخل عليه فسلّم، فرحب به أبو جعفر(عليه السلام) وأدناه وساءله.

فقال الرجل: جعلت فداك إني خطبت إلى مولاك فلان بن أبي رافع ابنته فلانة فردني ورغب عني وازدرأني لدمامتي وحاجتي وغربتي، وقد دخلني من ذلكغضاضة هجمة غض لها قلبي تمنيت عندها الموت.

ص: 15


1- سورة المائدة، الآية: 2.
2- تهذيب الأحكام 7: 395.

فقال أبو جعفر(عليه السلام): «اذهب فأنت رسولي إليه، وقل له: يقول لك محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام): زوّج منجح ابن رباح مولاي ابنتك فلانة ولا ترده».

قال أبو حمزة: فوثب الرجل فرحاً مسرعاً برسالة أبي جعفر(عليه السلام)، فلما أن توارى الرجل قال أبو جعفر(عليه السلام): «إن رجلاً كان من أهل اليمامة يقال له: جويبر أتى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قباح السودان، فضمه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لحال غربته وعراه، وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر بالصاع الأول، وكساه شملتين، وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل، فمكث بذلك ما شاء اللّه حتى كثر الغرباء ممن يدخل في الإسلام من أهل الحاجة بالمدينة وضاق بهم المسجد، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم): أن طهر مسجدك، وأخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل، ومر بسد أبواب من كان له في مسجدك باب إلّا باب علي(عليه السلام) ومسكن فاطمة(عليها السلام)، ولايمرن فيه جنب، ولا يرقد فيه غريب.

قال: فأمر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بسد أبوابهم إلّا باب علي(عليه السلام) وأقر مسكن فاطمة(عليها السلام) على حاله. قال: ثم إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أمر أن يتخذ للمسلمين سقيفة، فعملت لهم وهي الصُفة، ثم أمر الغرباء والمساكين أن يظلوا فيها نهارهم وليلهم، فنزلوها واجتمعوا فيها، فكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يتعاهدهم بالبر والتمر والشعير والزبيب إذا كان عنده، وكان المسلمون يتعاهدونهم ويرقون عليهم لرقة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ويصرفون صدقاتهم إليهم.

فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقّة عليه، فقال: يا جويبر لو تزوجت امرأة فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك.

فقال له جويبر: يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي من يرغب في؟ فو اللّه ما من

ص: 16

حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأية امرأة ترغب في؟

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا جويبر إن اللّه قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرّف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم، وإن آدم(عليه السلام) خلقه اللّه من طين، وإن أحب الناس إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلّا لمن كان أتقى للّه منك وأطوع، ثم قال له: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد، فإنه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم، فقل له: إني رسولُ رسولِ اللّه إليك وهو يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الذلفاء.

قال: فانطلق جويبر برسالة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده، فاستأذن، فأعلم، فأذن له فدخل وسلّم عليه، ثم قال: يا زياد بن لبيد: إني رسولُ رسولِ اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إليك في حاجة لي فأبوح بها أم أسرها إليك؟

فقال له زياد: بل بح بها فإن ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقال له زياد: أرسول اللّه أرسلك إليّ بهذا؟

فقال له: نعم ما كنت لأكذب على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)؟

فقال له زياد: إنا لا نزوج فتياتنا إلّا أكفاءنا من الأنصار، فانصرف يا جويبر حتى ألقى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فاخبره بعذري.

فانصرف جويبر وهو يقول: واللّه ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم).

ص: 17

فسمعت مقالته الذلفاء بنت زياد وهي في خدرها، فأرسلت إلى أبيها: أدخل إلي، فدخل إليها، فقالت له: ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبراً؟

فقال لها: ذكر لي أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أرسله، وقال: يقول لك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): زوج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقالت له: واللّه ما كان جويبر ليكذب على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بحضرته فابعث الآن رسولاً يرد عليك جويبراً.

فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً، فقال له زياد: يا جويبر مرحباً بك، اطمئن حتى أعود إليك، ثم انطلق زياد إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: بأبي أنت وأمي إن جويبراً أتاني برسالتك وقال: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الذلفاء، فلم ألن له في القول، ورأيت لقاءك، ونحن لا نزوج إلّا أكفاءنا من الأنصار.

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا زياد جويبر مؤمن، والمؤمن كفو للمؤمنة، والمسلم كفو للمسلمة، فزوجه يا زياد ولا ترغب عنه. قال: فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته، فقال لها ما سمعه من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

فقالت له: إنك إن عصيت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كفرت، فزوج جويبراً.

فخرج زياد فأخذ بيد جويبر، ثم أخرجه إلى قومه، فزوجه على سنة اللّه وسنة رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وضمن صداقه. قال: فجهزها زياد وهيئوها ثم أرسلوا إلى جويبر فقالوا له: ألك منزل فنسوقها إليك؟

فقال: واللّه مالي من منزل. قال: فهيؤوها وهيؤوا لها منزلاً وهيؤوا فيه فراشاً ومتاعاً وكَسَوْا جويبراً ثوبين، وأدخلت الذلفاء في بيتها وأدخل جويبر عليهامعتماً، فلما رآها نظر إلى بيت ومتاع وريح طيبة قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى طلع الفجر، فلما سمع النداء خرج وخرجت زوجته

ص: 18

إلى الصلاة فتوضأت وصلت الصبح، فسُئلت: هل مسّكِ؟

فقالت: مازال تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتى سمع النداء فخرج.

فلما كانت الليلة الثانية فعل مثل ذلك، وأخفوا ذلك من زياد، فلما كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فاُخبر بذلك أبوها، فانطلق إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أمرتني بتزويج جويبر، ولا واللّه ما كان من مناكحنا، ولكن طاعتك أوجبت عليّ تزويجه.

فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): فما الذي أنكرتم منه؟

قال: إنا هيأنا له بيتاً ومتاعاً، وأدخلت ابنتي البيت وأدخل معها معتماً، فما كلمها ولا نظر إليها ولا دنا منها، بل قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى سمع النداء فخرج، ثم فعل مثل ذلك في الليلة الثانية ومثل ذلك في الثالثة ولم يدن منها ولم يكلمها إلى أن جئتك، وما نراه يريد النساء، فانظر في أمرنا؟ فانصرف زياد وبعث رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى جويبر فقال له: أما تقرب النساء؟

فقال له جويبر: أو ما أنا بفحل؟ بلى يا رسول اللّه إني لشبق نهم إلى النساء.

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): قد خُبرت بخلاف ما وصفت به نفسك، قد ذكر لي أنهم هيؤوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً وأدخلت عليك فتاة حسناء عطرة، وأتيت معتماً فلم تنظر إليها ولم تكلمها ولم تدن منها، فما دهاك إذن؟

فقال له جويبر: يا رسول اللّه دخلت بيتاً واسعاً، ورأيت فراشاً ومتاعاً وفتاة حسناء عطرة، وذكرت حالي التي كنت عليها، وغربتي وحاجتي وضيعتيوكسوتى مع الغرباء والمساكين، فأحببت إذ أولاني اللّه ذلك أن أشكره على ما أعطاني، وأتقرب إليه بحقيقة الشكر، فنهضت إلى جانب البيت فلم أزل في صلاتي تالياً للقرآن راكعاً وساجداً أشكر اللّه حتى سمعت النداء فخرجت، فلما

ص: 19

أصبحت رأيت أن أصوم ذلك اليوم، ففعلت ذلك ثلاثة أيام ولياليها، ورأيت ذلك في جنب ما أعطاني اللّه يسيراً، ولكني سأرضيها وأرضيهم الليلة إن شاء اللّه.

فأرسل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى زياد فأتاه وأعلمه ما قال جويبر فطابت أنفسهم. قال: وفى لهم جويبر بما قال، ثم إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) خرج في غزوة له ومعه جويبر فاستشهد رحمه اللّه تعالى، فما كان في الأنصار أيِّم أنفق(1) منها بعد جويبر(2)».

وهكذا كان أمير المؤمنين علي(عليه السلام) فقد زوّج من بيت المال الشاب الأعزب الذي استمنى(3).

وفي الحديث عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى أبي(عليه السلام)، فقال له: هل لك من زوجة؟ فقال: لا.

فقال إني ما أحب أن لي الدنيا وما فيها، وإني بت ليلة وليست لي زوجة.

ثم قال(عليه السلام): الركعتان يصليهما رجل متزوج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله ويصوم نهاره، ثم أعطاه أبي سبعة دنانير، قال له: تزوج بهذه. ثم قال أبي(عليه السلام): قالرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): اتخذوا الأهل فإنه أرزق لكم»(4).

الزواج ومواصلة الدراسة

5- يلزم إلغاء العادة الغربية القاضية بعدم زواج الطلاب والطالبات إلى حين

ص: 20


1- الأيِّم: الحرة، والذي لا زوج له، وأَنفق: من النَّفَاقْ وهو ضد الكساد، أي كان الناس يرغبون في تزويجها ويبدون الأموال العظيمة لمهرها، وليس من الإنفاق كما توهم.
2- الكافي 5: 339.
3- فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن أمير المؤمنين أتي برجل عبث بذكره فضرب يده حتى احمرت ثم زوجه من بيت المال» الكافي 7: 265.
4- تهذيب الأحكام 7: 239.

التخرج، وكذلك القاضية بعدم زواج الجندي إلى حين إتمامه دورة التدرب... فإن معنى ذلك فتح دور الدعارة وفساد الشباب والفتيات وتعميم العادة السرية الضارة بالصحة وإعطاء الفرصة للبغاء والانحراف الجنسي.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا جاءكم من ترضون خُلُقه ودينه فزوجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، فإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(2).

ثم إن المتزوج أقدر على الدراسة والخدمة من الأعزب، إذ اشتغال الفكر بقضايا الجنس يمنع الإنسان عن التركيز في الدراسة أو الخدمة... .

قال تعالى: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(3).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ركعتان يصليهما متزوج أفضل من سبعين ركعةيصليهما أعزب»(5).

وعن الصادق(عليه السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «تزوجوا، فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: من أحب أن يتبع سنتي فإن من سنتي التزويج»(6).

ص: 21


1- الكافي 5: 347.
2- النوادر للراوندي: 12.
3- سورة النور، الآية: 32.
4- جامع الأخبار: 101.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 384.
6- الكافي 5: 329.

وعنه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما بني بناء في الإسلام أحب إلى اللّه تعالى من التزويج»(1).

وعنه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من تزوج أحرز نصف دينه فليتق اللّه في النصف الآخر»(2).

وعنه(صلی الله عليه وآله وسلم): «المتزوج النائم أفضل عند اللّه من الصائم القائم العزب»(3).

وفي قبال ذلك قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «رذال موتاكم العزاب»(4).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «أكثر أهل النار العزاب»(5).

المرأة في المجتمع الغربي

المرأة في المجتمع الغربي(6)

المرأة موضوع كثر الكلام حوله وغالب الكتّاب الإسلاميين - الداعين إلى الفضيلة والعفاف - يقارنون بين حال المرأة قبل الإسلام وحال المرأة في ظل الإسلام، وهي مقارنة صحيحة، لكن الكلام لا ينتهي عند هذا الحد، وإننا بحاجة إلى الفرق بين المرأة في المجتمع الإسلامي وبين المرأة في المجتمع الغربي.ولا نريد الإسهاب في هذا الموضوع، وإنما نريد عرض طرف من أحوال المرأة في المجتمعين، لنرى هل تتوفر راحة المرأة جسديا وفكريا، وصحتها وثقافتها، ونظافة سمعتها، وإشباع غرائزها، وطهارة المجتمع الذي تعيش فيه... في ظل الإسلام أم في ظل الكفر؟

تعيش المرأة في ظل الإسلام ولها من الحقوق والواجبات مثل ما للرجل من

ص: 22


1- من لا يحضرة الفقيه 3: 383.
2- الكافي 5: 328- 329.
3- جامع الأخبار: 101.
4- الكافي 5: 329.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 384.
6- نقلنا هذا المبحث عن كتاب (المرأة في ظل الإسلام) للإمام الشيرازي(رحمه الله).

الحقوق والواجبات، فهي شق له في كل شيء... إلّا بعض الأمور التي استثنيت من جهة عدم المقتضي أو وجود المانع، فهي تشارك الرجل في:

الصلاة، والصيام، والخمس، والزكاة، والحج... ولكن حيث إن لها وظائف بيتية، بالإضافة إلى خشونة الجهاد التي لايناسب ضعفها ودقة جهازها ووفرة مشاعرها الرقيقة، لايحملها الإسلام الجهاد على الإطلاق، بل في ضرورة الضرورة فقط، كما هو مشروح في كتب الفقه(1).

كما تشاركه في: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وولاية الصالحين، والبراءة من المجرمين، هذا بالنسبة إلى العبادة.

أما المعاملة بمعناها الوسيع، فلها: التجارة، والرهن، والضمان، والوديعة، والمزارعة، والمساقاة، والمضاربة، والشركة، والصلح، والعارية، والإجارة، والوكالة، والوقف، والهبة، والوصية، كما يجري عليها الحجر والفلس.

ولها النكاح، والطلاق - إذا اشترطت - ، والنذر، والحلف، والعهد، والعتق، والتدبير، والمكاتبة، والإقرار، والجعالة، والصيد، والذباحة، والشفعة، وإحياء الموات، واللقطة، والشهادة، والديات، والقصاص، والإرث... كما أن الطعاموالشراب بالنسبة إليها، كسائر الرجال. وغير ذلك. نعم لها بعض الأحكام الخاصة، في بعض هذه الأبواب لأمور خارجة.

مثلاً: في الإرث لها أقل من حق الرجل، لأن الرجل هو القائم بالنفقة وعليه تبعة المسكن والملبس، وليس الطلاق بيدها لأن حق القيمومة للرجل، وذلك لأن إدارة البيت لا بد وأن توكل إلى واحد، وحزم الرجل أكثر من المرأة، ولذا جعلت إليه، وفي قبال هذا الواجب جعل حق الطلاق لتكافئ الحقوق

ص: 23


1- راجع موسوعة الفقه المجلد 47- 48 كتاب الجهاد للإمام الشيرازي(رحمه الله).

والواجبات. وهكذا... وهكذا...

قد كانت المرأة في ظل الإسلام تعيش آمنة سعيدة مرفهة، لها حقوقها، وعليها واجباتها، حتى جاء الغرب فرآها محرومة من حقوقها!! فدافع بكل ما أوتي من حول وطول لإرجاع الحقوق إليها!! وجنّد لذلك كل عميل وذنب بإمكانياته المنتفخة، فشوقها للذهاب والإياب إلى المراقص والملاهي ودور السينما والمسابح والمدارس المختلطة، كما جعل من حقها التبرج والسفور واتخاذ الأخدان، والحضور في الحفلات الساهرة، وتعاطي اللذة البريئة: النظر والكلام المتكسر والملامسة والأمر الأخير!! واعتبر كل دعوة إلى الحشمة والوقار، والحياء والعفاف والفضيلة والأخلاق... دعوة رجعية تنافي الحرية!

فالمرأة إلى أين وصلت حالتها في ظل النُظُم الغربية، بعدما كان لها كل تجلة واحترام في ظل النظم الإسلامية، لنرى كيف انهارت المرأة وانهارت معها الحياة العائلية، من جراء الدساتير الكافرة التي لا تدين باللّه واليوم الآخر.

وبعد هذا نسأل حماة الغرب: هل المرأة في ظل أنظمتكم أرفه حالاً وأهنأ عيشاً وأكثر سعادة، أم في ظل الإسلام؟

ولقد شهد المنصفون من الأجانب بما للإسلام من فضل على المرأة:

يقول (سيديو): والقرآن - وهو دستور المسلمين - رفع شأن المرأة بدلاً من خفضها، فقد جعل محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) حصة البنت في الميراث تعدل نصف حصة أخيها، مع أن البنات كن لا يرثن في زمن الجاهلية، ومحمد - وإن جعل الرجال قوامين على النساء - بين أن للمرأة حق الرعاية والحماية على زوجها(1).

ويقول (غوستاف لوبون): والإسلام قد رفع حال المرأة الاجتماعي وشأنها

ص: 24


1- انظر: الإسلام بين الإنصاف والجحود.

رفعاً عظيماً، بدلاً من خفضها، خلافاً للمزاعم المكررة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقاً إرثية أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوروبية.

ويقول: هنا نستطيع أن نكرر إذن قولنا: إن الإسلام الذي رفع المرأة كثيراً، بعيد من خفضها، ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نضيف إلى هذا: أنه أول دين فعل مثل ذلك، ويسهل إثبات هذا ببياننا: أن جميع أديان الأمم التي جاءت قبل العرب أساءت إلى المرأة(1).

وهنا مقتطفات من كتاب (الحجاب) للمودودي، للبرهنة على مدى انحطاط المرأة في ظل الكفر وما يسمى بالديمقراطية، ونكتفي هنا بالنقل من دون ذكر المصادر التي نقلها الكتاب عنها... وإليك النصوص:

(وجاء قوم، فمهدوا الأسباب لإكراه النساء، وتقدموا بحرفة البغاء، إلى أن أصبحت تجارة دولية منظمة). (أمر الإجهاض... ليس هناك قطر من الأقطار إلّا وتقترف فيه هذه الشنيعة علناً وعلى نطاق واسع، فهذه إنكلترا يسقط فيها تسعون ألف حمل في كل سنة على أقل تقدير، وتكون في كل مائة من المتزوجات فيها خمس وعشرون - على الأقل - إما يباشرن الإسقاط بأيديهن أو يستعنّ عليهبالمتخصصين، وترتفع هذه النسبة فوق هذا في غير المتزوجات، فقد أنشئت في بعض المدن هناك نواد منظمة للإسقاط... ويكثر في لندن عدد دور التمريض التي تكون معظم المريضات فيها من المسقطات). (وفي فرنسا: نشر قائد لبعض الفرق العسكرية إعلاناً للجنود التابعة له، جاء فيه: قد بلغنا أن عامة الرجالة والخيالة يشتكون من تزاحم رجال البنادق على دور بغاء الجندية... وأن مكتب القيادة لا يزال يسعى لزيادة عدد النساء، حتى يكفين لجميع الجنود، ولكن قبل

ص: 25


1- الإسلام بين الإنصاف والجحود.

أن يتم ذلك نوصي رجال البنادق أن لا يطيلوا مكثهم داخل تلك الدور ويتعجلوا بقضاء شهواتهم ما استطاعوا). (وفي فرنسا: ليس على من كان يريد الاتصال بآنسة من الآنسات إلّا أن يعلم الوكالة - الوكالة البغائية - بعنوان تلك الآنسة، وعلى الوكالة بعد ذلك أن تراود الآنسة على الأمر، ودلت سجلات هذه الوكالة على أنه لم تكن طبقة من طبقات المجتمع الفرنسي إلّا وعامل كثير من أناسها هذه الوكالة وتمتعوا بخدماتها). (لم يعد الآن من الغريب الشاذ وجود العلاقات الجنسية بين الأقارب في النسب: كالأب والبنت، والأخ والأخت، في بعض الأقاليم الفرنسية).

(ولقد كان عدد النساء اللواتي كنّ يحترفن البغاء قبل الحرب العالمية الأولى: نصف مليون). وصرح (مسيو فردينان دريفوس) أحد أعضاء المجلس الفرنسي منذ بضع سنوات: أن حرفة البغاء لم تعد الآن عملاً شخصياً بل قد أصبحت تجارة رئيسية، وحرفة منظمة، بفضل ما تجلب وكالاتها من الأرباح الغزيرة، فلها في هذه الأيام وكلاء يهيئون (المواد الخام) وآخرون يتجولون في البلاد، ولها الآن أسواق منظمة تستورد فيها وتصدر منها الفتيات والصبايا كالأموال التجارية، وأكثر ما يطلب في هذه الأسواق من الأموال هو بنات دون العاشرة.

وربما تبلغ البهيمية في القائمين بها أقصى حدود الظلم والقساوة، فيقال: إن محافظ بلدية في شرقي فرنسا اضطر إلى التدخل في هذا الأمر، لنجدة فتاة كانت قد فرغت في يومها من سبعة وأربعين وارداً، وكان عدد منهم بعدُ بالباب يترقبون!

وجاءت الحرب العالمية الأولى، فابتدعت بدعة (البغاء المتطوع) علاوة على (البغاء التجاري)... فجعلت هؤلاء النساء يتعاطين بصورة منظمة، وأصبح تشجيعهن وإعانتهن فضيلة خلقية، عند أولي الدعارة والفجور، وعنيت الجرائد اليومية الكبرى عناية بالغة باستمالة رجال العمل إليهن... وقد نشرت جريدة

ص: 26

واحدة في عدد واحد (199) إعلاناً عن أمرهن.

يقول بول بيورو: إن جميع الأزواج المتزوجون في مجتمعاتنا قوم خونة متجردون من الوفاء اللازم للعشرة الزوجية. وقد نجم عن هذه الموبقات الأمراض السرية الفتاكة، فقد أعفت الحكومة الفرنسية في السنتين الأوليين من سني الحرب العالمية الأولى خمسة وسبعين ألفا، لكونهم مصابين بمرض الزهري، وابتلي بهذا المرض وحده 242 جنديا في آن واحد في ثكنة متوسطة.

ويقول الدكتور الفرنسي (ليريد): إنه يموت في فرنسا ثلاثون ألف نسمة بالزهري وما يتبعها من الأمراض الكثيرة في كل سنة. ولهذه الأمور رغبت الرجال عن النكاح، فبقت النساء والرجال - على حد سواء - يتعاطون البغاء، وفسد النظام العائلي. فسبعة أو ثمانية في الألف هو معدل الرجال والنساء الذين يتزوجون في فرنسا اليوم. وكثر الطلاق كثرة مدهشة حتى أن محكمة الحقوق بمدينة (سين) فسخت 294 نكاحاً في يوم واحد(1).

إلى كثير وكثير... من أمثال هذه المآسي التي حلت على البشرية من جراء إعطاء المرأة هذه الحرية!!

فهل في ذلك خدمة للمرأة؟ أو للرجل؟ أو للمجتمع؟

كلا! فالمرأة سائبة، لاتجد لقمة الخبز إلّا بالبغاء - كثيراً ما - وهي مع ذلك تتعب وتنصب، وتهان وتزدري، وتهدر لها كل كرامة وحق. والرجل لا يجد القلب الحنون، والشق الرؤوف، كما لايجد الأم رؤم لأولادها. والمجتمع لايجد الفتيان والفتيات الصالحين والصالحات، بل يخيم في طول البلاد وعرضها

ص: 27


1- الحجاب: 70- 95.

الأمراض الفتاكة والأجسام العليلة والأخلاق السيئة.

وهكذا الحال في كل مجتمع أعطى للمرأة (الحرية المزعومة) من غير فرق بين فرنسا وأميركا وروسيا وإنكلترا والسويد وألمانيا... كما تشهد بذلك الوثائق الكثيرة... ولم تنج من هذه المفاسد إلّا البلاد الإسلامية، ولكن على قدر ما رفضت الأنظمة الكافرة، ولم تخنع بالحريات المزعومة... أما البعض الآخر فحاله حال البلاد الكافرة في الفساد الخلقي والأمراض والانهيار.

فهل المرأة في ظل الإسلام أكثر كرامة وأحسن حالاً وأحفظ حقاً وحرية أم في ظل الكفر الذي أخذ اليوم بزمام العالم؟

ولا نجاة للمرأة ولا للمجتمع من هذه الويلات، إلّا بالتمسك بتعاليم الإسلام، واللّه الموفق المستعان.

ملحق: روايات في النظر والاختلاط

من سهام إبليس

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:«النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرةأورثت حسرة طويلة»(1).

من ترك النظر

قال الصادق(عليه السلام):«النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها للّه عزّ وجلّ لا لغيره،أعقبه اللّه إيماناً يجد طعمه»(2).

النظرة بعد النظرة

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها

ص: 28


1- وسائل الشيعة 20: 190.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 18.

لصاحبها فتنة»(1).

النظرة المهلكة

وقال(عليه السلام): «أول نظرة لك، والثانية عليك ولا لك، والثالثة فيها الهلاك»(2).

ثواب غض البصر

قال الصادق(عليه السلام): «من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غمض بصره، لم يرتد إليه بصره حتى يزوَجه اللّه من الحور العين»(3).

وفي خبر آخر: «لم يرتد إليه طرفه حتى يعقبه اللّه إيماناً يجد طعمه»(4).

لماذا الحجاب؟

عن الإمام الرضا(عليه السلام) فيما كتبه إلى محمد بن سنان من جواب مسائله: «وحرم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج وإلى غيرهن من النساء،لما فيه من تهييج الرجال وما يدعو التهييج إليه من الفساد والدخول فيما لا يحل ولا يجمل، وكذلك ما أشبه الشعور إلّا الذي قال اللّه تعالى: {وَالْقَوَٰعِدُ مِنَ النِّسَاءِ الَّٰتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَٰتِ بِزِينَةٖ}(5) أي غير الجلباب، فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهن»(6).

لا تتبع النظرة بالنظرة

عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال له: «يا علي، لك كنز في

ص: 29


1- من لا يحضره الفقيه 4: 18.
2- وسائل الشيعة 20: 193.
3- مكارم الأخلاق: 236.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 474.
5- سورة النور، الآية:60.
6- عيون أخبار الرضا 2: 97.

الجنة وأنت ذو قرنيها، فلا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الأخيرة»(1).

النظرة توجب الفتنة

عن علي(عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: «لكم أول نظرة إلى المرأة، فلا تتبعوها نظرة أخرى، واحذروا الفتنة...»(2).

من ملأ عينيه حراماً

عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال:«من اطلع في بيت جاره، فنظر إلى عورة رجل، أو شعر امرأة أو شي ء من جسدها، كان حقاً على اللّه أن يدخله النار مع المنافقين الذين كانوا يتبعون عورات النساء في الدنيا، ولا يخرج من الدنيا حتى يفضحه اللّه ويبدي للناس عورته في الآخرة، ومن ملأ عينيه من امرأة حراماً، حشاهما اللّه يوم القيامة بمسامير من نار، وحشاهما ناراً حتى يقضي بين الناس، ثم يؤمر بهإلى النار»(3).

وفي حديث المناهي عن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) قال:«ومن ملأ عينيه من حرام ملأ اللّه عينيه يوم القيامة من النار إلّا أن يتوب ويرجع»(4).

من صافح امرأة أجنبية

قال(عليه السلام): «ومن صافح امرأة تحرم عليه فقد باء بسخط من اللّه عزّ وجلّ، ومن التزم امرأة حراماً قرن في سلسلة من نار مع شيطان فيقذفان في النار»(5).

ص: 30


1- وسائل الشيعة 20: 194.
2- الخصال 2: 632.
3- وسائل الشيعة 20: 194.
4- من لا يحضره الفقيه 4: 14.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 14.

لا تكلم الأجنبية

عن الإمام الصادق عن آبائه(عليهم السلام) عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في حديث المناهي قال: «ونهى أن تتكلم المرأة عند غير زوجها وغير ذي محرم منها أكثر من خمس كلمات مما لا بد لها منه»(1).

من فاكه امرأة

عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «ومن صافح امرأة حراماً جاء يوم القيامة مغلولاً ثم يؤمر به إلى النار، ومن فاكه امرأة لا يملكها حبس بكل كلمة كلمها في الدنيا ألف عام»(2).

ما يميت القلب

عن جعفر بن محمد عن أبيه(عليهما السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، وكثرة مناقشة النساء يعني محادثتهن، ومماراةالأحمق تقول ويقول ولا يرجع إلى خير أبداً، ومجالسة الموتى، فقيل له يا رسول اللّه، وما الموتى؟ قال: كل غني مترف»(3).

لا تعودن إليها

عن أبي بصير قال: كنت اُقرئ امرأة، كنت أعلمها القرآن فمازحتها بشيء، فقدمت على أبي جعفر(عليه السلام) فقال لي: «أي شي ء قلت للمرأة؟»، فغطيت وجهي، فقال: «لا تعودن إليها»(4).

ص: 31


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 423.
2- أعلام الدين: 414.
3- الخصال 1: 228.
4- وسائل الشيعة 20: 198.

أخت الزوجة والغريبة

عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل، يحل له أن ينظر إلى شعر أخت امرأته؟ فقال: «لا، إلّا أن تكون من القواعد» قلت له: أخت امرأته والغريبة سواء؟ قال: «نعم»(1).

لا تنظر في أدبار النساء

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:«ما يأمن الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم»(2).

ارض للناس ما ترضاه لنفسك

عن أبي بصير أنه قال للصادق(عليه السلام): الرجل تمر به المرأة فينظر إلى خلفها؟ قال: «أ يسر أحدكم أن ينظر إلى أهله وذات قرابته؟» قلت: لا، قال: «فارضللناس ما ترضاه لنفسك»(3).

مسامير من نار

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من ملأ عينه حراماً يحشوها اللّه يوم القيامة مسامير من نار، ثم حشاهما ناراً إلى أن تقوم الناس، ثم يؤمر به إلى النار»(4).

لا تطلق ناظرك

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «من أطلق ناظره أتعب خاطره»(5).

ص: 32


1- وسائل الشيعة 20: 199.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 19.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 19.
4- مستدرك الوسائل 14: 268.
5- جامع الأخبار: 93.

دوام الحسرة

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «من تتابعت لحظاته دامت حسراته»(1).

زنا العين

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «لكل عضو من ابن آدم حظ من الزنا: فالعين زناه النظر، واللسان زناه الكلام، والأذنان زناهما السمع، واليدان زناهما البطش، والرجلان زناهما المشي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه»(2).

ثواب الحج والعمرة

عن الإمام الباقر(عليه السلام): «أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أردف أسامة بن زيد في مصعده إلى عرفات، فلما أفاض أردف الفضل بن العباس وكان فتى حسن اللمة، فاستقبل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أعرابي وعنده أخت له أجمل ما يكون من النساء، فجعل الأعرابي يسأل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وجعل الفضل ينظر إلى أخت الأعرابي، وجعل رسولاللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يضع يده على وجه الفضل يستره من النظر، فإذا هو ستره من الجانب نظر من الجانب الآخر، حتى إذا فرغ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) من حاجة الأعرابي التفت إليه وأخذ بمنكبه ثم قال: أما علمت أنها الأيام المعدودات والمعلومات: لا يكف رجل فيهن بصره، ولا يكف لسانه ويده، إلّا كتب اللّه له مثل حج قابل»(3).

أفضل الغنائم

قال الصادق(عليه السلام): «ما اغتنم أحد بمثل ما اغتنم بغض البصر، لأن البصر لا يغض عن محارم اللّه تعالى إلّا وقد سبق إلى قلبه مشاهدة العظمة والجلال»(4).

ص: 33


1- بحار الأنوار 101: 38.
2- بحار الأنوار 101: 38.
3- بحار الأنوار 96: 351.
4- مصباح الشريعة: 9.

غضوا أبصاركم

قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم):«غضوا أبصاركم ترون العجائب»(1).

إياكم والنظر

وقال عيسى بن مريم(عليه السلام) للحواريين: «إياكم والنظر إلى المحذورات فإنها بذر الشهوات ونبات الفسق»(2).

الموت ولا النظر

وقال يحيى بن زكريا(عليه السلام): «الموت أحب إليّ من نظرة بغير واجب»(3).

لو ذهبت عيناك

قال عبد اللّه بن مسعود لرجل نظر إلى امرأة قد عادها في مرضها: لو ذهبت عيناك لكان خيراً لك من عيادة مريضك ولا تتوفر عين نصيبها من نظر إلىمحذور إلّا وقد انعقد عقدة على قلبه من المنية، ولا تنحل إلّا بإحدى الحالتين إما ببكاء الحسرة والندامة بتوبة صادقة، وإما بأخذ نصيبه مما تمنى ونظر إليه، فأخذ الحظ من غير توبة مصيره إلى النار وأما التائب الباكي بالحسرة والندامة عن ذلك فمأواه الجنة ومنقلبه الرضوان»(4).

إنها الفتنة

عن ابن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «كان المسيح(عليه السلام) يقول لأصحابه» إلى أن قال: «وإياكم والنظرة! فإنها تزرع في قلب صاحبها الشهوة،

ص: 34


1- بحار الأنوار 101: 41.
2- بحار الأنوار 101: 42.
3- مصباح الشريعة: 10.
4- مصباح الشريعة: 10.

وكفى بها لصاحبها فتنة»(1).

مصائد الشيطان

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العيون مصائد الشيطان»(2).

من أصاب امرأة نظرة

عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «من أصاب من امرأة نظرة حراماً ملأ اللّه عينه ناراً»(3).

من ترك النظر

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «النظر إلى محاسن النساء سهم من سهام إبليس، فمن تركه أذاقه اللّه طعم عبادة تسره»(4).

لعنهما اللّه

وعن علي(عليه السلام) أنه قال: «لعن اللّه الناظر والمنظور إليه»(5)(6).

رائد الفتن

وقال(عليه السلام): «اللحظ رائد الفتن»(7).

ص: 35


1- الأمالي للشيخ المفيد: 208.
2- غرر الحكم درر الكلم: 52.
3- مستدرك الوسائل 14: 270.
4- مستدرك الوسائل 14: 270.
5- مستدرك الوسائل 14: 271.
6- المعنى واضح أما الناظر فإنه ينظر إلى ما لا يحل له النظر إليه، وأما المنظور إليه فإنه الذي لا يتستر عن أعين الناس كمن لا يستر عورته عمن يحرم عليه النظر إليها و... .
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 56.

ذهاب النظر خير

وقال(عليه السلام): «ذهاب النظر خير من النظر إلى ما يوجب الفتنة»(1).

النظرة والحسرة

وقال(عليه السلام): «كم من نظرة جلبت حسرة»(2).

راحة القلب

وقال(عليه السلام): «من غض طرفه أراح قلبه»(3).

من أطلق طرفه

وقال(عليه السلام): «من أطلق طرفه اجتلب حتفه»(4).

من شروط البيعة

عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه: «كان مما يأخذ على النساء في البيعة أن لا يُحَدِّثنمن الرجال إلّا ذا محرم»(5).

من غض طرفه

وقال(عليه السلام): «من غض طرفه قل أسفه وأمن تلفه»(6).

محادثة النساء

وعن علي(عليه السلام) أنه: «كان نهى عن محادثة النساء»(7).

ص: 36


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 370.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 513.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 663.
4- عيون الحكم والمواعظ: 453.
5- دعائم الإسلام 2: 214.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 663.
7- مستدرك الوسائل 14: 273.

لا تحادث النساء

وعن جعفر بن محمد(عليهما السلام) أنه قال: «محادثة النساء من مصائد الشيطان»(1).

لا تمازح الفتيات

عن علي(عليه السلام) أنه قال: «إن خمسة أشياء تقع بخمسة أشياء، ولا بد لتلك الخمسة من النار» إلى أن قال: «ومن مازح الجواري والغلمان فلا بد له من الزنى، ولا بد للزاني من النار»(2).

أقلل من محادثة النساء

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «وأقلل محادثة النساء يكمل لك الثناء»(3).

لا تمش خلف المرأة

قال داود(عليه السلام) لابنه: «امش خلف الأسد والأسود ولا تمش خلف المرأة»(4).

النظر إلى العورة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «نهى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ... ونهى أن ينظر الرجل إلى عورة أخيه المسلم وقال: من تأمل عورة أخيه المسلم لعنه سبعون ألف ملك ونهى المرأة أن تنظر إلى عورة المرأة... ونهى أن يطلع الرجل في بيت جاره وقال: من نظر إلى عورة أخيه المسلم أو عورة غير أهله متعمداً أدخله اللّه مع المنافقين الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس ولم يخرج من الدنيا حتى يفضحه اللّه إلّا أن يتوب»(5).

ص: 37


1- مستدرك الوسائل 14: 273.
2- مستدرك الوسائل 14: 273.
3- مستدرك الوسائل 14: 273.
4- مستدرك الوسائل 14: 275.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 9.

من صافح أجنبية

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «من صافح امرأة تحرم عليه فقد باء بسخط من اللّه عزّ وجلّ ومن التزم امرأة حراماً قرن في سلسلة من نار مع شيطان فيقذفان في النار»(1).

الحجاب أمان من الإيذاء

في تفسير القمي: إن النساء كن يخرجن إلى المسجد ويصلين خلف رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وإذا كان بالليل وخرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة يقعد الشبان لهن في طريقهن فيؤذونهن ويتعرضون لهن فأنزل اللّه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(2)(3).

عين غضت عن محارم اللّه

عن الإمام الصادق عن أبيه(عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): كل عين باكية يوم القيامة إلّا ثلاث أعين: عين بكت من خشية اللّه، وعين غضت عن محارم اللّه،وعين باتت ساهرة في سبيل اللّه»(4).

خير النساء

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في الحديث الذي قالت فاطمة(عليها السلام): خير للنساء ألا يرين الرجال، ولا يراهن الرجال، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنها مني»(5).

ص: 38


1- من لا يحضره الفقيه 4: 14.
2- سورة الأحزاب، الآية: 59.
3- تفسير القمي 2: 196.
4- الخصال 1: 98.
5- بحار الأنوار 101: 36.

ألستما تبصرانه

عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال: «احتجبا» فقلنا: يا رسول اللّه، أ ليس أعمى لا يبصرنا؟ قال: «أ فعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه»(1).

لا تسلم على الشابات

عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يسلم على النساء، وكان يكره أن يسلم على الشابة منهن، ويقول: أتخوف أن يعجبني صوتها، فيدخل من الإثم عليَّ أكثر مما أطلب من الأجر»(2).

الحجاب حتى من الأعمى

قال علي(عليه السلام): «استأذن أعمى على فاطمة(عليها السلام) فحجبته، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لها: لم حجبته وهو لا يراك؟ فقالت(عليها السلام): إن لم يكن يراني فأنا أراه وهو يشمالريح، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أشهد أنك بضعة مني»(3).

تقبيل المحارم

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا قبّل أحدكم ذات محرم قد حاضت، أخته، أو عمته، أو خالته، فليقبل بين عينيها ورأسها وليكف عن خدها وعن فيها»(4).

اشتد غضب اللّه

قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «اشتد غضب اللّه على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير

ص: 39


1- مكارم الأخلاق: 233.
2- الكافي 2: 648.
3- النوادر للراوندي: 13.
4- النوادر للراوندي: 19.

زوجها»(1).

من قبل غلاماً بشهوة

عن الرضا(عليه السلام): «إذا قبل الرجل غلاماً بشهوة لعنته ملائكة السماء، وملائكة الأرض، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب، وأعد له جهنم وساءت مصيراً»(2).

لجام من النار

وفي خبر آخر: «من قبل غلاماً بشهوة: ألجمه اللّه بلجام من نار»(3).

لا تحب الزنا

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «كذب من زعم أنه ولد من حلال وهو يحب الزناء، وكذب من زعم أنه يعرف اللّه عزّ وجلّ وهو مجترئ على معاصي اللّه كل يوم وليلة»(4).

عفّوا عن نساء الناس

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «بروا آباءكم يبركم أبناؤكم، وعفّوا عن نساء الناس تعف نساؤكم»(5).

من علائم ولد الزنا

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «علامات ولد الزنا ثلاث: سوء المحضر، والحنين إلى الزنا، وبغضنا أهل البيت»(6).

ص: 40


1- أعلام الدين: 418.
2- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 278.
3- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 278.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 209.
5- الكافي 5: 554.
6- وسائل الشيعة 12: 283.

خراب البيت

عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أربع لا تدخل بيتاً واحدة منهن إلّا خرب ولم يعمر بالبركة: الخيانة، والسرقة، وشرب الخمر، والزناء»(1).

النار بلا حساب

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «ثلاثة يدخلهم اللّه النار بغير حساب: ... إمام جائر، وتاجر كذوب، وشيخ زان»(2).

أعظم المحرمات

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): لن يعمل ابن آدم عملاً أعظم عند اللّه تبارك وتعالى من: رجل قتل نبياً، أو إماماً، أو هدم الكعبة التي جعلها اللّه عزّ وجلّ قبلة لعباده، أو أفرغ ماءه في امرأة حراماً»(3).

لا تهم بزنا

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ثلاثة في حرز اللّه عزّ وجلّ إلى أن يفرغ اللّه من الحساب: رجل لم يهم بزنا قط، ورجل لم يشب ماله بربا قط، ورجل لم يسع فيهما قط»(4).

ظهور الزلازل

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إذا فشت أربعة ظهرت أربعة: إذا فشا الزنا ظهرت

ص: 41


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 398.
2- الخصال: 80.
3- الخصال 1: 120.
4- الخصال 1: 101.

الزلازل...»(1).

الفقر والمسكنة

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الزنا يورث الفقر»(2).

حبس الرزق

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «الذنوب التي تحبس الرزق: الزناء...»(3).

تبعات الزنا

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «يا معشر المسلمين، إياكم والزنا فإن فيه ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا: فإنه يذهب بالبهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر. وأما التي في الآخرة: فإنه يوجب سخط الرب، وسوء الحساب، والخلود في النار»(4).

ص: 42


1- من لا يحضره الفقيه 1: 524.
2- الخصال 2: 504.
3- الاختصاص: 238.
4- الخصال 1: 320.

الحزب في النظرية الإسلامية

الإسلام والتطور السياسي

قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَٰفِرِينَ}(1).

في التفسير: أن {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ} أي: أيام النصر والهزيمة وأيام القرح {نُدَاوِلُهَا} أي: نصرّفها {بَيْنَ النَّاسِ} فيوم لهؤلاء على أولئك، ويوم لأولئك على هؤلاء، فإذا نصرنا المؤمنين كان ذلك لإيمانهم، وإذا هُزموا كان امتحاناً لهم.

{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي: أن صرف الأيام ليتميز المؤمن الحقيقي من غيره، فإنه ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال»(2) وقال(عليه السلام): «عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان»(3).

ومعنى {لِيَعْلَمَ}: أن معلومه سبحانه يقع في الخارج، لا أنه كان جاهلاً - سبحانه - ثم علم، فإن العلم لما كان أمراً إضافياً بين العالم والمعلوم، يقال: (علم) باعتبارين: إما باعتبار العالم فيما كان جاهلاً ثم علم، وإما باعتبار المعلوم فيما كان المعلوم غير خارجي ثم صار خارجياً {وَ} ل- {يَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}

ص: 43


1- سورة آل عمران، الآية: 140-141.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 217.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 454.

أي: أن مداولة الأيام لفوائد، ومن جملة تلك الفوائد أن يتخذ اللّه سبحانه منكممقتولين يستشهدون في سبيل اللّه، ويبلغون الدرجات الراقية بالشهادة، أو ليكون جماعة شهداء على آخرين بالصبر أو الجزع، بالثبات أو الهزيمة، فإن إيصال جماعة قابلة إلى مرتبة أن يكونوا شهداء نعمة وغرض رفيع، لكن المعنى الأول أقرب {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ} الذين يظلمون أنفسهم بالكفر، أو بالهزيمة.

{وَ} من فوائد تداول الأيام بين الناس أنه {لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي: يخلّصهم من المنافقين فيتبين المؤمن من المنافق، أو يخلصهم من الذنوب، فإن بالأهوال تذاب الذنوب، وبالشدائد تكفّر الخطايا {و} ل- {وَيَمْحَقَ الْكَٰفِرِينَ} يهلكهم، فإن الكفار ينقصون شيئاً فشيئاً حتى يهلكوا جميعاً(1).

وذكروا في تفسير الآية المباركة أيضاً: أن {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أي: نصرفها مرة لفرقة، ومرة عليها، وإنما يصرف اللّه الأيام بين المسلمين وبين الكفار، بتخفيف المحنة عن المسلمين أحياناً، وتشديدها عليهم أحياناً، لا بنصرة الكفار عليهم؛ لأن اللّه لا ينصر الكفار على المسلمين، لأن النصرة تدل على المحبة، واللّه تعالى لا يحب الكافرين، وإنما جعل اللّه الدنيا متقلبة، لكيلا يطمئن المسلم إليها، ولتقل رغبته فيها، أو حرصه عليها، إذ تفنى لذاتها، ويظعن مقيمها، ويسعى للآخرة التي يدوم نعيمها. وإنما جعل الدولة مرة للمؤمنين، ومرة عليهم، ليدخل الناس في الإيمان على الوجه الذي يجب الدخول فيه كذلك، وهو قيام الحجة، فإنه لو كانت الدولة أبداً للمؤمنين، لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفال(2).

ص: 44


1- تفسير تقريب القرآن 1: 397.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 2: 399.

إن من المعلوم أن أنماط الحياة تختلف من زمن إلى زمن، وبذلك تختلفمتطلباتها واحتياجاتها، فكل مرحلة من المراحل تمتاز بنمط معين من الحياة، وأسلوب خاص من العيش. وباختلاف مراحل المجتمعات وتطورها، يوماً بعد يوم، يختلف أيضاً هيكل الحكومة وشكلها العام.

فنحن يمكننا أن نتعرف على هذا الاختلاف الحكومي في الهيكل والشكل العام من خلال استقرائنا - في الجملة - للحكومات السابقة، منذ القرن الأخير المنصرم، وإلى حكومات اليوم. فنلاحظ بروز ظاهرة الأحزاب بشكل واضح جداً، على شكل كيانات مستقلة، يهتم بها المجتمع، باعتبار أن الأحزاب عبارة عن مؤسسات تربوية وسياسية في آن واحد، وبما أن الإسلام بدوره هو الدين الذي يمتد مع البشرية إلى آخر يوم على هذا الكوكب، فهو يواكب ويستوعب هذه التطورات، بل يضع لها مناهج شرعية خاصة، لكي تصب في مصلحة المسلمين.

ظاهرة الأحزاب

ومن جملة تلك التطورات السياسية: الأحزاب، فقد أصبح اليوم وجود الأحزاب ظاهرة واقعية في كل المجتمعات، إذ لايكاد يخلو حكم أو مجتمع في العالم من الأحزاب السياسية. وقد تكون ظاهرة ضرورية في بعض المجتمعات، والإسلام - بما أنه هو البديل الأفضل عن كافة الأنظمة العالمية اليوم - لا بد أن تكون لديه وجهة نظر، أو طريقة خاصة، في استيعاب الأحزاب، وصهرها ضمن نظامه العالمي.

فالإسلام لا يرفض - بشكل مبدئي - ظاهرة الأحزاب بل هو يهذب مناهجها، ويؤطرها بأطر صحيحة، كي تعمل لصالح النظام العالمي الإسلامي ولصالح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة.

ص: 45

ولعل ظاهرة الأحزاب ليست ظاهرة جديدة في الإسلام؛ بل نحن نرى مثلهذه الظاهرة في زمن الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) وما بعده أيضاً، نعم إنها كانت تختلف في البناء والشكل والهدف؛ ففي التاريخ: إنه كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يعتمد على جهتين وكتلتين، هما: الأنصار والمهاجرون، نعم إن الأنصار والمهاجرين كانا يعملان من أجل هدف واحد، حيث لا يوجد لدينا في الإسلام تصادم في الأهداف والإرادات، بل كل الأحزاب تعمل على توعية المجتمع، ونشر مفاهيم الدين المبين، وقيادة الأمة نحو مستقبل أفضل.

وبكلمة واحدة نقول: إن الأحزاب تعبير عن التعددية التي دعا إليها الإسلام للتنافس في البناء والتقدم، وعدم حكر الساحة لجهة واحدة أو شخص واحد، المولِّد للاستبداد والدكتاتورية، فالإسلام يؤكد على ثقافة التعددية والحرية قبل كل شيء، ثم يجيز لهم التحزب والتنافس، وقاية من سقوط الأحزاب في بؤرة التنافس الأعمى، مثل تكفير كل منهم الآخر، والعمل على هدم بعضهم البعض، والصراع السلبي على كرسي الحكم، كما نجده اليوم في الظاهرة الحزبية المنتشرة في البلاد الإسلامية.

وإن مما يؤخذ على هذه الأحزاب وخاصة غير الإسلامية منها كالبعثية... والشيوعية(1)، هو خروجها عن الحدود الشرعية فهي تصنع جملة من القوانين الوضعية، كدستور للحكم، يفرض تحكيمها على الشعوب، فكل حزب لديه جملة من التشريعات التي تخالف الإسلام وقوانينه السمحة،و يحكم بها عند تسلطه على رقاب الشعب، بينما لدينا في الإسلام عامل الثبات الدائم، وهو أن اللّه عزّ وجلّ خالق الإنسان وهو العالم بمصالحه فهو المشرّع الوحيد، ولا تشريع

ص: 46


1- مذهب سياسي يهدف إلى القضاء على الرأسمالية والملكية الخاصة.

مقابل تشريع اللّه سبحانه، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُالْكَٰفِرُونَ}(1)، بل إن كل التشريعات الإنسانية تكون ناقصة دوماً، وهذا ما تشهد به التجربة، وأوضح من ذلك هو تصريح القرآن: {أَفَحُكْمَ الْجَٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(2).

فالحقيقة التي صرح بها القرآن الحكيم وبكل تأكيد: أن كل حكم غير حكم اللّه هو حكم جاهلي ناقص لا يوصل الشعوب إلى عزّ وسعادة، ولا إلى استقرار واطمئنان، بل بالعكس يذيقهم الويل والدمار، والشقاء والحرمان، كما جربناه على مدى قرابة قرن من الزمان المعاصر.

الحزب مجال للتنافس الشرعي

اشارة

الحزب هو المؤسسة التربوية السياسية التي تقوم بخدمة الناس، فوظيفته الأولية ومهمته الرئيسية: تقديم الخدمات الإنسانية، والثقافية، والاقتصادية، والعمرانية، لكافة أبناء الشعب، وليس الحزب لمجرد الوصول إلى الحكم والارتقاء إلى المناصب الحكومية، وإن كان لا يتنافى معه لو انتخبهم الشعب للتصدي للحكم وتشكيل الحكومة.

فالحزب إذن مؤسسة سياسية تخدم الناس في طول الحكم وليس في عرضه، والمراد هنا بالتعريف: الأحزاب الإسلامية والوطنية، دون الإلحادية والإرهابية.

ثم إن من مهمات هذه الأحزاب هو: أن تتنافس فيما بينها انطلاقاً من الإيمان باللّه واليوم الآخر، وتنافسها يكون في طاعة اللّه عزّ وجلّ، كما عمل الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) عام الأحزاب عند حفر الخندق، حيث قسّم أصحابه إلى فرقتين

ص: 47


1- سورة المائدة، الآية: 44.
2- سورة المائدة، الآية: 50.

تتنافس فيما بينها لحفر الخندق من أجل نصرة الإسلام. وعندما اختلف المسلمون على سلمان الفارسي(رحمه الله) حيث كان رجلاً قوياً ذا بصيرة ورأي فقال الأنصار: سلمان منا، وقال المهاجرون: سلمان منا، قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «سلمان منا أهل البيت».

فقد روي: إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: سلمان منا. فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «سلمان منا أهل البيت».

قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا كنا بجب ذي ناب، أخرج اللّه من باطن الخندق صخرة مروة(1) كسرت حديدنا، وشقت علينا. فقلنا: يا سلمان، إرق إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيه بأمره؛ فإنا لا نحب أن نتجاوز خطه.

قال: فرقي سلمان إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول اللّه، خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق، فكسرت حديدنا، وشقت علينا حتى ما يحيك(2) فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نتجاوز خطك.

قال: فهبط رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مع سلمان الخندق والتسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) المعول من يد سلمان، فضربها به ضربة صدعها، وبرق

ص: 48


1- المروة: حجارة صلبة تعرف بالصوان.
2- يقال: ضربه فما أحاك فيه السيف: إذا لم يعمل.

منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبررسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح، وكبّر المسلمون، ثم ضربها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح، وكبّر المسلمون. ثم ضربها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثالثة فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه تكبيرة فتح وكبر المسلمون. وأخذ بيد سلمان، ورقي. فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، لقد رأيت منك شيئاً ما رأيته منك قط؟!

فالتفت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى القوم وقال: «رأيتم ما يقول سلمان؟».

فقالوا: نعم.

قال: «ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثالثة، فبرق لي ما رأيتم، أضاءت لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا».

فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد للّه موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر.

فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل؛ ويعلمكم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفَرَق(1)، ولا تستطيعون أن تبرزوا؟!

ص: 49


1- الفَرَق: الخوف.

فنزل القرآن: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(1)(2).

وفي يوم عاشوراء

وكما عمل الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عاشوراء عندما ابتدأ جيش ابن زياد بشن الحرب عليه،حيث قام الإمام(عليه السلام) بتوزيع أفراده إلى مجموعتين متنافستين على الابتداء بالتضحية في سبيل اللّه، هم (بنو هاشم) و(الأصحاب) بحيث أعطى راية لكل منهما ثم أعطى راية بني هاشم بيد العباس(عليه السلام)(3).

فالأحزاب الإسلامية لا بد أن يكون هدفها العمل في طاعة اللّه، أما آلية العمل وشكله، فهذا ما يختلف من زمان إلى آخر، ومن عصر إلى عصر.

ثم لا بد أن تمتاز الأحزاب الإسلامية بضمان حرية الرأي، والتعددية السياسية.

بينما نلاحظ كيف عمل الأمويون والعباسيون على اختلاق أحزاب وتيارات غير شرعية داخل الأمة الإسلامية هدفها تهميش الإسلام ومبادئه، كالمرجئة(4)،

ص: 50


1- سورة الأحزاب، الآية: 12.
2- بحار الأنوار 20: 188.
3- انظر: مقتل الحسين(عليه السلام) للخوارزمي 2: 9، ومقتل الحسين(عليه السلام) للسيد المقرم: 234.
4- المرجئة: هم الذين يبالغون في إثبات الوعد، وهم عكس المعتزلة المبالغين في إثبات الوعيد، فهم يرجون المغفرة والثواب لأهل المعاصي، ويرجئون حكم أصحاب الكبائر إلى الآخرة، فلا يحكمون عليهم بكفر ولا فسق ويقولون: إن الإيمان إنما هو التصديق بالقلب واللسان فحسب، وإنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فالإيمان عندهم منفصل عن العمل، ومنهم من زعم أن الإيمان اعتقاد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية والنصرانية، فهو مؤمن كامل الإيمان عند اللّه، وهو ولي اللّه، ومن أهل الجنة. وقيل إنهم سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان.

ثم كان الهدف من إنشاء وتأسيس هكذا أحزاب هو المادة والدنيا والرئاسة والتسلط على رقاب الناس، ومحاولة إبعاد الناس عن الاتصال بأهل البيت(عليهم السلام)، فقد ابتدعت الدولة الأموية وكذلك العباسية أحزاباً دخيلة، وقررت أن تكون بمثابة كيانات، تقابل كيان أهل البيت(عليهم السلام)، وتعارض وجودهم وتواجدهم.

ثم عملت السلطات الأموية والعباسية على الاستبداد بالحكم وانتهاج سياسة الحزب الواحد الحاكم، وهو الحزب الأموي أو العباسي، وضرب كافة المعارضين الذين ينادون بالإصلاح، ويدعون إلى تقوى اللّه عزّ وجلّ، وإن كان رجل الإصلاح هو ابن بنت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، كما حصل لهم ذلك مع كل واحد واحد من الأئمة الأطهار(عليهم السلام) وبالأخص مع سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام).

فإن الأئمة(عليهم السلام) كانوا يريدون للناس حياة طيبة هادئة، خالية من مظاهر الظلم والاستبداد والجور والعنف والإرهاب.

وهذه الحياة لا تتحقق في ظل حكم بني أمية، أو حكم بني العباس المستبدين بالحكم، والمتسلطين بالظلم؛ ولذلك كانوا(عليهم السلام) يحاربون ظلمهم بصورة مباشرة، كما هو الحال في الإمام الحسين(عليه السلام)، أو بصورة غير مباشرة كما هو حال بقية الأئمة(عليهم السلام)، لأنهم كانوا يعلمون أن التسلط الفردي على جهاز الحكم، يلغي كل الفرص التي تدعو أفراد الأمة إلى أن تتنافس فيها نحو الخير والفضيلة.

نعم أن ثمار التعددية والأحزاب السياسية المتثقفة بالثقافة التنظيمية الصحيحة تعود للأمة ذاتها. ومن هنا نرى ضرورة التعددية الحزبية مع رعاية الموازين الشرعية.

من فوائد التعددية الحزبية

اشارة

من الواضح أن للتعددية فوائد عديدة، منها ما يلي:

ص: 51

أولاً: الحيلولة دون إقامة أحزاب سرية، فإن الأحزاب السرية كثيراً ما تشكل خطراً على الأمة؛ ذلك لأن إقامة الأحزاب تحت الأرض وبشكل سري تكون عادة في الدول التي تتسم بالدكتاتورية أو في دول الحزب الواحد، والتي تُكره الناس على الانتماء إلى الحزب الحاكم فقط والقبول به، ولا تسمح لأحد بالانتماء إلى حزب آخر، أو تأسيس حزب غيره.

ففي الدولة التي لا تسمح فيها الحكومة بتعدد الأحزاب، بل تجبر الناس على القبول بالحزب الواحد وهو الحزب الحاكم، فإنه مضافاً إلى أن إجبار الناس على هذا الأمر بحد ذاته لاشرعية له ويمثل صفة طاغوتية لهذه الحكومة، تبدأ بعض المجاميع الشعبية بالتحرك لإنشاء حزب أو تكتل سري لمواجهة الحزب القائم الحاكم المتسلط على رقاب الناس. وبالمقابل تبدأ الحكومات بمنع هذه المجاميع وزجّها في السجون. بالإضافة إلى مصادرة الحريات، وكبت الأنفاس، وسحق كرامة الإنسان، وهذا يوجب الكثير من المآسي والويلات.

أما البلاد التي تتوفر فيها نسبة لا بأس بها من الحرية والتعددية، فكل حزب يطرح برامجه وخططه في العلن، والناس مخيرون في الانضمام إلى أي حزب شاؤوا، وبما يرونه من المصلحة، ولم يحصل - عادة - ما في بلادنا من سحق حقوق الإنسان وكرامته.

إذن، فالتعددية الحزبية توفر جواً مستقراً مريحاً للمجتمع، بخلاف حكومة الحزب الواحد، فإنها تخلق جواً قلقاً مضطرباً يسوده الإرهاب والعنف.

ثانياً: يجب أن نعرف أن السياسة مثل العلوم الأخرى، تحتاج إلى ثقافة وتربية، فكما أن الجامعة والمدرسة يهتم كل منهما بالجانب العملي والعلمي للطالب، فالسياسة كذلك. فمن أراد أن يصل إلى رئاسة الدولة، لا بد له من ممارسة بعض الأدوار السياسية، التي تخدمه غداً، وخير تطبيق لهذا المعنى هو عندما ينضم

ص: 52

الفرد إلى الحزب، فإنه سينمو فكرياً وسياسياً، ويكون قادراً على تسلّم المراكز القيادية، لما مرّ به من تجربة داخل الحزب، حيث سيتعلم ما معنى الشخصية السياسية، وما هي مواصفاتها ومؤهلاتها، كما ويرى نواقصه، وما يحتاج إليه، ويدرك سياسة الدول، واختلاف الآراء، وتعدد الحكومات، وأساليب سياستها، وغيرها من الأمور.

أما إذا كانت سياسة الدولة سياسة الحزب الواحد، فإنها سوف تسير على سياسة واحدة، جامدة غير مرنة، لأنها تمثّل فكرة الحزب الواحد نفسه الذي لا يلبي تطلعات وآمال كل طبقات الشعب - كما هو الحال بالنسبة للعراق - وسوف ينشغل أفراد الأمة بمعارضة هذا الحزب ومقارعته، مما يفوت عليهم الفرصة في اكتساب الثقافة السياسية المطلوبة ونموها التي تؤهلهم لقيادة المجتمع وبناء البلد بالشكل المطلوب.

حرية الرأي والتعددية في ظل الإسلام

قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «من استبد برأيه هلك»(1).

لقد جاء في الأخبار والأحاديث الشريفة: أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان أحياناً يخبر عن شخص بأنه سيخلق فتنة بين المسلمين، أو سيحدث ديناً باطلاً، ثم لا يعمد إلى قتله، ولا يجيز للمسلمين أن يمسوه بأذى.

وهذا يدخل في سياسية العفو العظيمة، وحرية إبداء الرأي، وتحمل المعارضة السياسية. وهو مما أتاح للرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) تأسيس الدولة الإسلامية في وسط عظيم من عواطف الناس واختلاف آرائهم، فلو كان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يقتل هذا ويقتل ذاك، لسبب أو لآخر، لما تأسست دولة الإسلام، ولا استحكمت أصولها.

ص: 53


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 161.

روى الشيخ المفيد(رحمه الله) في الإرشاد قال: لما قسّم رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) غنائم حنين، أقبل رجل طويل آدم أجنأ(1) بين عينيه أثر السجود، فسلّم ولم يخصّ النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، ثم قال: قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «وكيف رأيت»؟

قال: لم أرك عدلت!

فغضب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وقال:«ويلك، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون»؟!

فقال المسلمون: ألا نقتله؟

قال:«دعوه، فإنه سيكون له أتباع يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلهم اللّه على يد أحب الخلق إليه من بعدي».

فقتله أمير المؤمنين(عليه السلام)، فيمن قتل يوم النهروان من الخوارج(2).

أما سياسة حكومات اليوم فإنها ما إن تسمع بأن فلاناً ينوي أو يفكر بأمور لعلها تعارض سياسة الدولة، حتى تباكره السلطات بالقبض عليه والزج به في مطامير السجون.

الإسلام وسياسة الانفتاح

لقد كانت دولة أمير المؤمنين(عليه السلام) كدولة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، سياسة وانفتاحاً، فقد فسح الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) باب الحرية الإنسانية لأهل المدينة على مصراعيها، فكما كان يعيش في المدينة في زمن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) المسلمون وغيرهم من اليهود والنصارى والمنافقين، مختلطين في دورهم وأسواقهم، يتعاملون

ص: 54


1- الأجنأ: أي: الأحدب، أحدب الظهر.
2- الإرشاد 1: 148.

ويمارسون حرياتهم المتبادلة في ظل الإسلام، كذلك كان المسلمون واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من سائر الملل والنحل يعيشون في ظل الإسلام عيشة سعيدة هانئة في عزّة ورفاه في عصر أمير المؤمنين(عليه السلام)، ولقد كانت سياسته تستوعب الخصوم والأعداء، وتستقطب المناوئين والمعارضين، وتحاول التوصّل معهم سلمياً إلى حلول مرضية.

ومما يُذكر أن (ابن الكوّاء) كان رجلاً منافقاً، خارجياً، مشاكساً لأمير المؤمنين(عليه السلام)، وذلك في قمّة قدرة الإمام(عليه السلام) الشاملة، وفي أوج دولته الواسعة، التي كانت ذلك اليوم أوسع دولة على وجه الأرض، فكان ابن الكوّاء يلقي اعتراضاته على أمير المؤمنين(عليه السلام) في الأوساط العامة، وبصورة شديدة وحاقدة وبكل حرية.

فقد روي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان في صلاة الصبح فاعترضه ابن الكوّاء رافعاً صوته من خلفه بالقرآن: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(1).

فأنصت أمير المؤمنين(عليه السلام) تعظيماً للقرآن، حتى إذا فرغ ابن الكوّاء من الآية عاد الإمام(عليه السلام) إلى قراءته.

فاعترضه ابن الكواء ثانية وأعاد نفس الآية.

فأنصت الإمام(عليه السلام) للقرآن مرة ثانية حتى إذا أتم ابن الكوّاء الآية عاد الإمام لمواصلة صلاتة.

فأعاد ابن الكواء الآية ثالثة.

فأنصت الإمام تعظيماً للقرآن.

ص: 55


1- سورة الزمر، الآية: 65.

فلما أتم ابن الكواء قراءة الآية للمرة الثالثة، قرأ الإمام(عليه السلام) وكأنه يجيب على اعتراضه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}(1).

ثم أتم السورة وركع(2).

فهل هناك انفتاح كهذا الانفتاح؟

وهل هناك حرية كهذه الحرية؟

بحيث تسمح لرجل منافق أن يرد على الرئيس الأعلى للدولة، ويتعرض له بنسبة الشرك وحبط الأعمال! ولمن لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي هو عين الإيمان ولولاه لم يُعرف المؤمنون، ثم ينصت له الإمام(عليه السلام) ويتم صلاته، وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً؟!

عفو عن ذنب

ويروى: أن امرأة ذات مسحة من الجمال مرت على جماعة فرمقها القوم بأبصارهم، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن أبصار هذه الفحول طوامح(3) وإن ذلك سبب هبابها(4)، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنما هي امرأة كامرأته».

فقال رجل من الخوارج: قاتله اللّه كافراً ما أفقهه!

فوثب القوم ليقتلوه، فقال(عليه السلام): «رويداً، إنما هو سب بسب، أو عفو عنذنب»(5).

ص: 56


1- سورة الروم، الآية: 60.
2- انظر: تفسير نور الثقلين 4: 192.
3- طَوَامِح: جمع طامح أو طامحة، وتقول: طمح البصر: إذا ارتفع، وطمح: أبعد في الطلب.
4- هَبَابها: أي هيجان هذه الفحول لملامسة الأنثى.
5- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 420.

مع عائشة

وقالت عائشة يوم الجمل: ملكت فأسجح، فجهزها أحسن الجهاز وبعث معها تسعين امرأة أو سبعين، واستأمنت لعبد اللّه بن الزبير على لسان محمد بن أبي بكر، فآمنه وآمن معه سائر الناس.

وجيء بموسى بن طلحة بن عبيد اللّه فقال له: «قل أستغفر اللّه وأتوب إليه ثلاث مرات» فقال وخلى سبيله، وقال(عليه السلام): «اذهب حيث شئت، وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كُراع(1) فخذه، واتق اللّه فيما تستقبله من أمرك، واجلس في بيتك»(2).

وله(عليه السلام) مواقف مشابهة كثيرة، حتى كان منه أن قال(عليه السلام): «إلى كم أغضي الجفون على القذى، وأسحب ذيل على الأذى، وأقول لعل وعسى»(3).

وهناك مواقف كثيرة من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) تبين الحرية في الإسلام، وعدم إكراه فرد أو جماعة على أمر هم لا يرضون به، فلم يُكره النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) النصارى أو اليهود على الدخول في الإسلام، وكذا الإمام علي(عليه السلام)، فهذه المواقف الكريمة تكشف عن الحرية الإسلامية الواسعة بجلاء، وتبيّن كفاءة الإسلام وقدرته على الحكم فإن: «آلة الرياسة سعة الصدر»(4).

الدولة الإسلامية دولة المؤسسات والتكتلات

لكي تكون الدولة الإسلامية دولة عصرية، آمنة من التزعزع والانهيار، ومن التقهقر والانهزام، ومسرعة في التطور والتقدم، فعلى المجتمع الإسلامي أن

ص: 57


1- الكُراع: اسم لجماعة الخيل خاصة.
2- شرح الأخبار 1: 389.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 114.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 176.

ينقلب إلى مئات الآلاف من المؤسسات بل الملايين منها، والتي من جملتها الأحزاب الإسلامية، وهذه الكتل تعمل لأجل البناء والمنافسة في الخير، وتحقيق أهداف الإسلام.

وقد كان التكتل منذ زمان الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بين القبائل من ناحية، وبين الأوس والخزرج من ناحية ثانية، وبين المهاجرين والأنصار من جهة ثالثة. وكانت كلها تعمل لصالح الإسلام والمسلمين. وقد كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) قد أقرّها على ذلك حينها. فكان يجعل لكل قبيلة رئيساً ولواءً.

نعم، يجب أن تكون التكتلات والأحزاب للتعارف لا للتناكر.

وحيث إن الزمان الحاضر لا يمكن فيه الاكتفاء بالتكتل القبلي وما أشبه؛ لأن الثقافة والآلة الحديثة ونوعية الحياة لا تنحصر في قبيلة دون قبيلة، بل حسب المهن والثقافات وما أشبه، فكل تكتل أصبح له نقابة خاصة به، كنقابة الأطباء، ونقابة الصحفيين، ونقابة المعلمين، وهكذا وهلمَّ جرّاً.

والحزب المحظور في الإسلام هو الحزب الذي يعمل الحرام أو ينتهي إلى برلمان يكون بيده التشريع في قبال تشريع اللّه عزّ وجلّ.

وفي الحقيقة إن التكتلات والأحزاب والمؤسسات ليست إلّا مدارس للتجربة الحيوية في سبيل صقل المواهب، وظهور الكفاءات، والكشف عن مؤهلات الإنسان.

ثم إن الحريات الإسلامية توفر لكل فرد ولكل كتلة وحزب، كل أسباب حاجتها، وجميع وسائل تقدمها.

ومما يمكن القول به: إن الحزب مؤسسة يستطيع الفرد من خلالها أن يكشفنفسه، ويطوّر إمكانياته؛ وذلك لأن من مهمات الحزب - بالمعنى الصحيح - هو القيام بتربية رجال سياسيين - على سبيل المثال - حيث إنه يتوفر في الأحزاب

ص: 58

عادة أفضل فرصة للإعداد والنمو الذاتي ناهيك عن المجالات الأخرى التي تقوم بها الأحزاب كالتسهيلات الاقتصادية للمواطنين، أو المحافظة على المفاهيم الإسلامية، والدفاع عنها، ورد الشبهات، وإعمار البلدان، وما إلى ذلك.

فالحزب يقوم مقام المبلّغ الإسلامي، فبدل أن يكون المبلّغ شخصاً واحداً، فليكن على شكل مؤسسة، مع عدم الاستغناء على التأكيد من مختلف أنواع المبلّغ وأساليب التبليغ المشروعة.

ولقد كان الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) يرسل ولاته إلى مختلف المناطق، ومعلوم أن ولاة أمير المؤمنين(عليه السلام) كانوا من العلماء والفقهاء والمبلغين، فكان يرسلهم إلى المناطق الإسلامية والأمصار، ويأمرهم بالرفق في الرعية، والنصح لهم ومداراتهم، مع اتباع الحق فيهم. فإذا رغب الناس فيه أبقاه، وإذا زهدوا فيه بعث آخر بدلاً عنه.

وهذا من النماذج الحية في الحرية الإسلامية السياسية والتي يمكن للأحزاب الحرة أن تكون ضماناً لتطبيقها.

نماذج من توصيات أمير المؤمنين(عليه السلام)

فمن كتاب له(عليه السلام) إلى بعض عماله قال فيه:

«أما بعد، فإن دهاقين(1) أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقاراً وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم ولا أن يُقْصوا ويُجْفوا لعهدهم، فالبسلهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء والإبعاد والإقصاء، إن شاء اللّه»(2). وهذا ما

ص: 59


1- الدَهَاقين: الأكابر، الزعماء أرباب الأملاك بالسواد، واحدهم دِهْقان بكسر الدال.
2- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 19 من كتاب له(عليه السلام) إلى بعض عماله.

يسمى بالحزم.

وفي كتاب آخر له(عليه السلام) بعثه إلى زياد ابن أبيه، وهو خليفة عامله عبد اللّه بن عباس على البصرة، وعبد اللّه عامل أمير المؤمنين(عليه السلام) يومئذ عليها وعلى كور الأهواز وفارس وكرمان وغيرها: «وإني أقسم باللّه قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت من في ء المسلمين شيئا صغيراً أو كبيراً، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر(1)، والسلام»(2).

ومن كتاب له(عليه السلام) إلى زياد أيضا:

«فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يعطيك اللّه أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين، وتطمع وأنت متمرِّغ(3) في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة أن يوجب لك ثواب المتصدقين، وإنما المرء مجزي بما أسلف وقادم على ما قدم، والسلام»(4).

وكان (صلوات اللّه عليه) يوصي لمن يستعمله على الصدقات بهذه الوصايا:«انطلق على تقوى اللّه وحده لا شريك له، ولا تروِّعن مسلماً ولا تجتازن(5) عليه كارهاً ولا تأخذن منه أكثر من حق اللّه في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم

ص: 60


1- الوَفْر: المال، ثقيل الظهر: أي مسكين لا تقدر على مؤونة عيالك.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 20 من كتاب له(عليه السلام) إلى زياد بن أبيه.
3- المُتَمَرِّغ في النعم: المتقلب في الترف.
4- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 21 من كتاب له(عليه السلام) إلى زياد بن أبيه.
5- الاجتياز: المرور.

بينهم فتسلم عليهم، ولاتُخدج بالتحية لهم(1)، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني إليكم ولي اللّه وخليفته، لآخذ منكم حق اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك(2) منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه، أو توعده، أو تعسفه(3)، أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلّا بإذنه؛ فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلاتدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها ولا تسوأنّ صاحبها فيها، واصدع المال صدعين(4)، ثم خيِّره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيِّره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق اللّه في ماله، فاقبض حق اللّه منه، فإن استقالك فأقله(5)، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً، حتى تأخذ حق اللّه في ماله، ولا تأخذن عَوْداً ولا هرمة ولامكسورة ولا مهلوسة ولا ذات عَوَار(6)، ولا تأمنن عليها إلّا من تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهمفيقسمه بينهم، ولاتوكل بها إلّا ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً، غير معنف ولا مجحف(7) ولا ملغب(8) ولا متعب، ثم احدر(9) إلينا ما اجتمع عندك نصيره

ص: 61


1- أخدجت السحابة: قل مطرها، والمراد بقوله(عليه السلام): «لا تخدج بالتحية لهم»: لا تبخل بها عليهم.
2- أنعم لك: أي قال لك نعم.
3- تعسفه: أي تأخذه بشدة.
4- صدع المال: قسمه قسمين.
5- إن استقالك فأقله: أي إن ظن في نفسه سوء الاختيار وطلب الاعفاء من هذه القسمة فأعفه منها.
6- العَوْد: المسنة من الإبل، الهَرِمَة: من الإبل أسن من العَوْد، المهلوسة: الضعيفة، العَوَار: العيب.
7- المُجحِف: من يشتد في سَوْقِ الإبل حتى تهزل.
8- الذي يعيي غيره ويتعبه، وهو من اللغوب: الاعياء.
9- حَدَر يَحْدُر: أسرع والمراد سُق إلينا سريعاً.

حيث أمر اللّه به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه: ألّا يحول بين ناقة وبين فصيلها ولا يمصر(1) لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوباً، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفه على اللاغب وليستأن بالنقب والظالع(2)، وليوردها ما تمر به من الغُدُر(3) ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطُرُق(4)، وليروحها في الساعات وليمهلها عند النِّطاف(5) والأعشاب، حتى تأتينا بإذن اللّه، بُدَّناً منقيات(6) غير متعبات ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب اللّه وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك، إن شاء اللّه»(7).

التعددية الغربية من بركات الإسلام

إن أوروبا والدول الغربية بصورة عامة بالرغم من عدم امتلاكها لمنهجالإسلام والعقيدة الصالحة، إلّا أن بعض بركات الإسلام شملها، فأصبح إدارة أمورها السياسية بشكل أو بآخر أفضل من بلادنا الاستبدادية، ولعلها من أفضل السياسات في العالم المعاصر وإن كانت السياسة الإسلامية هي السياسية الصحيحة التي تضمن للإنسان جميع حقوقه.

ففي كل دولة من دول الغرب توجد هناك عدة أحزاب حرة نسبياً، وفي كل

ص: 62


1- مَصَر اللبن: حلب ما في الضرع جميعه.
2- ليرفّه على اللاغب: أي ليرح ما ألغب أي أعياه التعب، ليستأن: أي يرفق من الأناة بمعنى الرفق، النَّقب: ما نقب خفّه: أي تخرّق، ظلع البعير: غمز في مشيته.
3- الغُدُر: جمع غدير: ماغادره السيل من المياه.
4- جَواد الطرق: يريد بها هنا الطرق التي لا مرعى فيها.
5- النِّطاف: جمع نطفة، المياه القليلة، أي يجعل لها مهلة لتشرب وتأكل.
6- البُدَّن: السمينة، المُنْقيات: اسم فاعل من أنقت الإبل إذا سمنت ، وأصله صارت ذات نِقْي أي مخّ.
7- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 25 من وصية له(عليه السلام) كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات.

أربع سنوات تجرى انتخابات حرة بين المرشحين، من الأحزاب ورئيس الدولة الحاكم.

ففي كل أربع سنوات تتبدل نوعاً ما سياسة الدولة، بفعل سياسة الحزب الذي يفوز بالانتخابات، وهذا يشبه ما دعا إليه القرآن الحكيم بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1).

ولعل سر تقدمهم هو التطبيق النسبي لمعنى هذه الآية عملياً في مجال النظام السياسي الذي أمر به الإسلام.

أما الحزب الواحد، فهو يسير على وتيرة واحدة في الحكم، ويجر الويلات والمصائب على البلاد، لأن الجماعة التي تفكر في أن تغير صورة هذا الحكم لا سبيل لها سوى الانقلاب العسكري، أو القيام بانتفاضة شعبية عارمة، وذلك لأن سياسة الحزب الواحد لاتسمح للآخرين بأن ينتقدوا أسلوب هذا الحزب، أو يستقبلوا دعوات التغيير من الآخرين.

بل إن حكومة الحزب الواحد لا تتحمل أي تجمع شعبي ولو كان محايداً، فهي تصطدم مع أي مجموعة حتى ولو كانت هيئة خيرية، وتقمع كل تجمع سياسيوإن كان مسالماً؛ لأنها تعتقد أن هذا التجمع يسعى لإسقاطها، بينما الأمر عكس ذلك لو سمحت الحكومة للشعب في تكوين أحزاب حرة، وكيانات حرة، ظاهرة لا خفية، والكل يعمل في حل الأزمات، ورفع المستوى الثقافي والتربوي لأفراد الشعب، لكان في صالح الحكومة، وفي طريق تثبيت الحكام وتقوية سلطانهم.

فالعراق مثلاً: بلد امتازت حكوماته بسياسة الحزب الواحد وسياسة القمع والاستبداد، وعليه نرى خلال نصف قرن الأخيرة عدداً من الانقلابات الدموية

ص: 63


1- سورة الشورى، الآية: 38.

وظهور الحكومات المتعددة، إلّا أنها لاتختلف عن سابقتها... .

إلى أن حَكَم حزب البعث الظالم في العراق، وقد ظهرت فيه صفة الحزب الواحد الدكتاتوري بوضوح وجلاء، فاصطدم بكل الأحزاب والتجمعات التي كانت في العراق، بل إنه حارب حتى الهيئات الحسينية والتجمعات الصغيرة، فأبعد الأمة عن نهوضها الحضاري، كما عمل على هدم الوعي السياسي، ومنع انتشار مثل هذه الثقافة العصرية المهمة... فعاشت الأمة تحت سياط هذا الحكم العميل وراح ضحيتها الملايين والملايين من الأبرياء.

وكما أسلفنا في البدء، حيث قلنا: إن مثل هذا الحكم سوف يزج الشباب والمنادين بالحرية إلى السجون والمعتقلات وثم إلى خشبة الإعدام،وهذا ما رأيناه في سجون البعث الرهيبة وأساليب تعذيبهم الوحشية والقاسية لمن يدخل سجونهم، وهي معروفة لدى الجميع، حيث أصبحت واضحة لكل فرد.

وبعد كل هذا، لا بد للمسلمين إذا أرادوا التقدم والتحرر والخروج من مأزق الدكتاتورية الحاكمة على البلدان الإسلامية أن يسعوا في إيجاد أحزاب حرة متنافسة تعمل تحت راية الإسلام العزيز.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامةالدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الحكم ذو الطابع الشرعي

قال اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ

ص: 64


1- الكافي 3: 424.

بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَٰصِلِينَ}(1).

وقال تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَىٰهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَٰسِبِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْأخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ}(5).

الحرية الإسلامية

قال اللّه عزّ وجلّ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(6).

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِيالتَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(7).

ص: 65


1- سورة الأنعام، الآية: 57.
2- سورة الأنعام، الآية: 62.
3- سورة القصص، الآية: 70.
4- سورة القصص، الآية: 88.
5- سورة المائدة، الآية: 44.
6- سورة البقرة، الآية: 256.
7- سورة الأعراف، الآية: 157.

وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(1).

الحسنات لا السيئات

قال اللّه عزّ وجلّ: {وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ}(2).

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}(3).

وقال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}(4).

أهل البيت(عليهم السلام) هم القادة الشرعيون

قال اللّه عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(5).

وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(6).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ

ص: 66


1- سورة الغاشية، الآية: 21-22.
2- سورة هود، الآية: 114.
3- سورة الرعد، الآية: 22.
4- سورة الإنسان، الآية: 8-9.
5- سورة النساء، الآية: 59.
6- سورة المائدة، الآية: 3.

رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الحرية في الإسلام

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثيرُ مستَمتَع، أولها: الوفاء، والثانية: التدبير، والثالثة: الحياء، والرابعة: حُسن الخُلُق، والخامسة وهي تجمع هذه الخصال: الحرية»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الناس مسلطون على أموالهم»(5).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(6).

الحكم للّه وحده

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «نعم، إنه لا حكم إلّا للّه»(7).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن الأئمة في كتاب اللّه عزّ وجلّ إمامان قال اللّه تبارك

ص: 67


1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- سورة الفتح، الآية: 10.
3- الخصال 1: 284.
4- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
5- نهج الحق وكشف الصدق: 494.
6- من لايحضره الفقيه 1: 317.
7- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 40 من كلام له(عليه السلام) في الخوارج لما سمع قولهم: لا حكم إلّا للّه.

وتعالى: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(1) لابأمر الناس، يقدِّمون أمر اللّه قبل أمرهم، وحكم اللّه قبل حكمهم»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد»(3).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في وصيته لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: «يا معاذ علّمهم كتاب اللّه وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة، وأنزل الناس منازلهم خيرهم وشرهم، وأنفذ فيهم أمر اللّه، ولاتحاش في أمره ولا ماله أحداً، فإنها ليست بولايتك ولا مالك، وأد إليهم الأمانة في كل قليل وكثير، وعليك بالرفق والعفو في غير ترك للحق؛ يقول الجاهل قد تركت من حق اللّه، واعتذر إلى أهل عملك من كل أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتى يعذروك، وأمت أمر الجاهلية إلّا ما سنه الإسلام...»(4).

الإسلام والعمل الصالح

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في موعظته لابن مسعود: «إذا عملت عملاً فأعمل للّه خالصاً، لأنه لا يقبل من عباده الأعمال إلّا ما كان خالصاً»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال عزّ وجلّ: أنا خير شريك، من أشرك معيغيري في عمل عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته، ومن

ص: 68


1- سورة الأنبياء، الآية: 73.
2- الكافي 1: 216.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر.
4- تحف العقول: 25.
5- مكارم الأخلاق: 453.
6- الكافي 2: 295.

عمل لدينه كفاه اللّه أمر دنياه، ومن أحسن فيما بينه وبين اللّه أحسن اللّه ما بينه وبين الناس»(1).

أهل البيت(عليهم السلام) هم الخلفاء الشرعيون

عن عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): ما منزلة الأئمة؟ قال: «كمنزلة ذي القرنين وكمنزلة يوشع وكمنزلة آصف صاحب سليمان». قال: فبما تحكون؟ قال: «بحكم اللّه وحكم آل دواد وحكم محمد(عليهم السلام) ويتلقانا به روح القدس»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنشدكم اللّه! أتعلمون أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قام خطيباً لم يخطب بعد ذلك، فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي فتمسكوا بهما لئلا تضلوا؛ فإن اللطيف الخبير أخبرني وعهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ولايتنا ولاية اللّه، التي لم يبعث نبياً قط إلّا بها»(4).

ص: 69


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 423.
2- الكافي 1: 398.
3- كمال الدين 1: 279.
4- الكافي 1: 437.

الخبرة ودورها في الحياة

الخبرة علم

اشارة

(الخبرة) في اللغة: بكسر الخاء وضمها، بمعنى العلم بالشيء، تقول: لي به خِبْرٌ أي علم، وقد خَبَرَهُ يَخْبُره خُبْراً وخُبْرَةً وخِبْراً واخْتَبَره وتَخَبَّرهُ؛ ويقال: من أَين خَبَرْتَ هذا الأَمر أي من أين علمته؟ وقولهم: لأَخْبُرَنَّ خُبْرَكَ أي لأَعْلَمَنَّ علمك؛ يقال: صَدَّقَ الخَبَرَ الخُبْر.

والخِبْرَةُ: الاختبارُ؛ وخَبَرْتُ الرجل أَخْبُرُه خُبْرِاً وخُبْرَةً.

والخبير: العالم بالأمر، الذي يخبر عن الشيء بعلمه.

قال تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(1). في مجمع البحرين: العالم بما كان وما يكون لا يعزب عنه شيء ولا يفوته، فهو لم يزل خبيراً بما يخلق، عالماً بكنه الأشياء، مطلعاً على حقائقها(2).

و(الخبرة) في المصطلح العرفي: العلم الخاص الذي يحصل بالكسب والتجربة.

لا علم لنا

يقول القرآن الكريم: {قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ

ص: 70


1- سورة الأنعام، الآية: 103.
2- مجمع البحرين 3: 281.

الْحَكِيمُ}(1).

وفي تفسير الآية الكريمة: إن اللّه سبحانه أخبر عن الملائكة بالرجوع إليه والتسليم لأمره - في قصة خلق آدم(عليه السلام) - وقال: {قَالُواْ} أي: قالت الملائكة {سُبْحَٰنَكَ} أي: تنزيهاً لك وتعظيماً عن أن يعلم الغيب أحد سواك، وقيل: تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك في حكمك. وقيل: إنهم أرادوا أن يخرجوا الجواب مخرج التعظيم، فقالوا: تنزيهاً لك عن فعل كل قبيح، وإن كنا لا نعلم وجه الحكمة في أفعالك. وقيل: إنه على وجه التعجب لسؤالهم عما لا يعلمونه. وقوله: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} معناه: إنا لانعلم إلّا بتعليمك، وليس هذا فيما علمتنا. ولو أنهم اقتصروا على قولهم: {لَا عِلْمَ لَنَا} لكان كافياً في الجواب، لكن أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم له والاعتراف بإنعامه عليهم بالتعليم، وأن جميع ما يعلمونه إنما يعلمونه من جهته، وأن هذا ليس من جملة ذلك، وإنما سألهم سبحانه عما علم أنهم لا يعلمونه، ليقررهم على أنهم لا يملكون إلّا ما علمهم اللّه، وليرفع به درجة آدم(عليه السلام) عندهم، بأنه تعالى علّمه ما لم يعلموه. {إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ} أي: العالم بجميع المعلومات، لأنه من صفات ذاته، وهو مبالغة (العالم). وقيل: إنهم أثبتوا له ما نفوه عن أنفسهم أي: أنت العالم من غير تعليم، ونحن المعلَّمون(2).

وقد فسر المناطقة (العلم): بأنه حالة انكشاف المعلوم على حقيقته، أو انطباع صورة الشيء في الذهن، أو هو نور يُري الإنسان حقائق الأشياء.

كما قسموا العلم على قسمين:

ص: 71


1- سورة البقرة، الآية: 32.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 1: 155.

الأول: العلم الضروري، الذي يكون من البديهيات التي لاتحتاج إلى الكسب والنظر والبرهان والتعليم، بل يكفي التوجه فيها إلى الأمر، مثل (الكُلّ أكبر من الجزء)، و(الواحد نصف الاثنين).

والثاني: العلم النظري أو المكتسب، الذي يحتاج إلى التعلم والسؤال والمذاكرة، كمعرفة أن الأرض ساكنة أو متحركة.

و(الخبرة) - بمعناها العرفي - من هذا القسم الأخير، ولكنها تارة تحصل بالعلم والمدارسة، وتارة بالعمل المباشر الخارجي - أي التجربة - وإن كانت حقيقة الخبرة أنها العلم بالشيء، أو المعرفة ببواطن الأمور، كما فسرها البعض(1).

قال تعالى: {ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ}(2) أي: انحصار فكرهم في الدنيا من دون نفوذ علمهم إلى المعاد والآخرة، فهو إذن علم محدود ضيّق ينتهي ويتوقف عند الدنيا؛ لأن متعلق إرادتهم هي الدنيا نفسها، و(الخبرة) عندما تنطلق من هذا النوع من العلم تكون خبرة محدودة ضيقة جداً مما يجعلها تصاب بالعطب والخلل أثناء السير في الحياة.

وقال سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(3)، أي: إنهم لا يقدّرون الأشياء حق قدرها، فيزعمون أن لا قوة خارقة غيبية تسير الكون، بل يظنون أن كل الأمر كائن فيما يُشاهد من القوى الظاهرة، فظاهراً أي من قواها وأسبابها ومسبباتها وسائر الخصوصيات الظاهرة، وهو نكرة للتحقير، أي: أن ظاهر الدنيا

ص: 72


1- مفردات الراغب: 273.
2- سورة النجم، الآية: 30.
3- سورة الروم، الآية: 7.

حقير بالنسبة إلى ما وراءها من حياة أُخروية، ثم إنهم لا يعلمون من ظواهر الحياة إلّا ظاهراً واحداً، فانحصر علمهم في الدنيا فقط، ومن جهة أخرى انحصر علمهم في اتجاه واحد وصورة واحدة من الحياة الدنيا.

وهنا إبدال فيه نكتة لطيفة جداً، فإن: {يَعْلَمُونَ} بدل من قوله: {لَا يَعْلَمُونَ} حيث قال تعالى قبله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وجعله بحيث يقوم مقامه، ليعلم أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز ظاهراً واحداً من الحياة الدنيا.

وكذلك الحال بالنسبة للتجربة والخبرة، إذا كان انطلاقتها من هذا العلم الذي لا يتعدى الدنيا أبداً، فسوف تكون تجربة فقيرة ومضطربة تحتاج إلى قوة تمسكها وتنير لها الطريق، وعلى هذا الأساس عندما نتصل بأهل الخبرة لكي نحصل منهم على علم الأبدان وغيرها، يلزم أن نتصل بأصحاب الخبرة الواسعة الحقيقية، لا الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، ولا الذين تكون الدنيا منتهى أفكارهم، بل علينا أن نتصل بالرجال المفكرين الذين تتصل أفكارهم بالماضي والحاضر والمستقبل، بشقيه الدنيوي والأخروي.

وحيث كان إبراهيم الخليل(عليه السلام) ذا خبرة عالية، فهو يعلم بعلمه الذي يتجاوز الدنيا ويصل إلى الآخرة، ويطلع على صور العذاب الأخروي، ويعلم أحوال الأمم السابقة التي كفرت، كان ينصح عمه (آزر) بترك عبادة الأوثان ويدعوه إلى عبادة اللّه عزّ وجلّ؛ ولذا كان يقول: {يَٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}(1)، و(ياأبت) هنا بمعنى (يا عم) فإن العم يسمى أباً أيضاً في اللغة العربية(2).

ص: 73


1- سورة مريم، الآية: 43.
2- مجمع البحرين 1: 15.

ومن هنا يلزم أن تؤخذ الخبرة من الذين لديهم معرفة ببواطن الأمور، ويرونها على واقعيتها وحقيقتها، وعلى العكس عندما لا يأخذ الإنسان بقول هؤلاء، فإن عواقبه تكون سيئة، كما هو الحال في عم إبراهيم(عليه السلام)، عندما أعرض عن نصيحة إبراهيم له، فقد شمله العذاب الأليم. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من غَنِيَ عن التجارب عَمِيَ عن العواقب»(1).

الخبرة العملية

مر الكلام عن الخبرة الناتجة من العلم وهي الخبرة العلمية، وهناك خبرة أخرى يحصل عليها الإنسان من جراء الممارسة الميدانية وتسمى بالخبرة العملية،مثلاً في العراق كان المحامون الجدد يحضرون في المحكمة لعدة ساعات لمشاهدة الصورة العملية في محاكمة المتهمين ليكسبوا بذلك خبرة وتجربة عملية، ولكي لا يواجهوا مشكلة في المستقبل عند تصديهم للمحاماة.

من مقومات الخبرة

اشارة

ثم إن للخبرة - العلمية والعملية - مقومات، من أهمها مجالسة أصحاب الخبرة للاكتساب من علمهم وتجاربهم.

وهذا لقمان الحكيم(عليه السلام) يوصي ابنه فيقول: «يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتك؛ فإن اللّه عزّ وجلّ يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء»(2).

فعلى الإنسان أن يلازم ويرافق العالم الخبير المطلع، صاحب التجارب والعلم الوافر؛ لكي يتعلّم منه مباشرة السلوك العملي، لأن المطالعة والمعرفة

ص: 74


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 630.
2- روضة الواعظين 1: 11.

لوحدها لا تكفي ما لم تقترن بالعمل والسلوك، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(1).

الخبرة الزراعية

نقل لي أحد الأصدقاء الذي كان يملك بستاناً في مدينة كربلاء المقدسة، قائلاً: كانت في بستانه مجموعة كبيرة من أشجار الرمان، ولكنها كانت تعاني من مرض غامض، حيث إن الرمان وبمجرد أن ينضج قليلاً كان قشر الرمانة يتشقق - يتفطر - مما يسبب تلف الثمار غالباً، وبما أن صديقنا كان قليل الخبرة في مجال الزراعة، فقد استشار أحد أصحاب البساتين بذلك، وكان رجلاً مُسناً، فقال: يبدو أنك تسقي الأشجار في وقت الظهر؟

فقلت: نعم.

فقال: من الآن اسق البستان أول الصباح!

قال: وفعلاً أخذت أسقي الأشجار في الصباح الباكر، فأعطت الأشجار ثمارها بالشكل الطبيعي، وتخلصنا من تلك المشكلة بسبب الاستعانة بصاحب الخبرة التي كان يمتلكها ذلك المزارع خلال عمله طوال سنين طويلة.

هيمنة اليهود الاقتصادية

ولعل من أهم أسباب سيطرة اليهود - سابقاً - على التجارة في سوق الشورجة ببغداد(2) هو خبرتهم الاقتصادية، مضافاً إلى تعاونهم الاقتصادي فيما بينهم،فكان يُقرض بعضهم البعض الآخر، ويعطيه البضاعة نسيئة، أي: يسلّمه البضاعة

ص: 75


1- سورة الصف، الآية: 2-3.
2- سوق الشورجة في بغداد هو السوق المركزي للتجار وهو الذي يغذي جميع العراق بمختلف البضائع التجارية.

ويؤجّل ثمنها إلى أجَلٍ يتفقون عليه، وكان يساعد البعض بعضاً بطرق أخرى، ولو حدث أن واحداً من التجار اليهود أصابه الإفلاس، فإنهم كانوا يقومون مجتمعين بإعانته وإرجاعه إلى وضعه السابق بل أحسن منه، وكان اليهود في بغداد إذا اجتمعوا يتواصون فيما بينهم بهذه العبارة عادة: (لا تعمل يوم السبت، ولا تنصح مسلماً)، فاليهود يعطلون أعمالهم يوم السبت بشكل تام تقريباً، وهم لا ينصحون المسلمين أبداً.

وكان هناك تاجر مسلم في مدينة بغداد، فقد كلّ ما عنده من أموال وخسر تجارته وأعلن إفلاسه، وكان له علاقة صداقة مع أحد اليهود من الذين يتعامل معهم، فقال مع نفسه: سوف أذهب إلى ذلك اليهودي، لعله ينصحني، ويخرجني من محنتي وإفلاسي، فلما اجتمع إليه ليسأله، قال له اليهودي:

إن الحاخام(1)

قد أوصانا أن لا ننصح مسلماً أبداً، ولا نعمل يوم السبت، لكن للصداقة التي بيني وبينك، أقول لك:

إذا أردت أن تقضي على إفلاسك فعليك أن تذهب غداً وتوصي عشرين من الدلالين ومكاتب العقارات بأن يبحثوا لك عن قصر من أحسن قصور بغداد، وحينما يشيع هذا الخبر بين الناس فإنك ستتمكن من استعادة ثقة الناس بك، ويطمئنون من أنك لا زلت غنياً فلا يضايقك الدائنون بالتعجيل لسداد دينهم،وسيعطيك أصحاب البضاعات ما تحتاج من بضاعة بالنسيئة، وبالفعل أخذ التاجر المسلم بنصيحة اليهودي له، وكانت خطة ناجحة حيث استعاد التاجر ثقة الناس، ورجع وضعه التجاري إلى ما كان عليه.

ص: 76


1- الحاخام: هو رئيس الكهنة عند اليهود، وهو مقدس في كتاب التلمود ويعتبرونه واجب التصديق والطاعة حتى ورد: إذا جاءك الحاخام وقال لك: إن هذه اليد اليمنى هي يدك اليسرى فصدقه!

وهذه كانت من الخبرة الاقتصادية، نعم قد تكون بعض الخبرات شيطانية ومذمومة لا ينبغي للإنسان أن يستخدمها.

الخبرة في الروايات

اشارة

ورد التأكيد في الروايات الشريفة على ضرورة التحلي بالخبرة الصحيحة الشرعية، الخالية عن الغدر والخيانة والكذب والافتراء.

ففي بحار الأنوار باب مواعظ أبي جعفر محمد بن علي الجواد(عليهما السلام) قال: «من هجر المداراة قارنه المكروه، ومن لم يعرف الموارد أعيته المصادر، ومن انقاد إلى الطمأنينة قبل الخبرة فقد عرض نفسه للهلكة وللعاقبة المتعبة»(1).

وجاء في وصية لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «والطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم»(2).

وفي مواعظ الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام) قال لبعض ولده: «يا بني لا تواخ أحداً حتى تعرف موارده ومصادره، فإذا استنبطت الخبرة ورضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة والمواساة في العسرة»(3).

وفي احتجاج فاطمة الزهراء(عليها السلام) على القوم في قصة فدك والخلافة، قالت(عليها السلام):«إيهاً بني قَيْلة(4)، أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدى ومجمع، تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجُنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا

ص: 77


1- بحار الأنوار 75: 364.
2- تحف العقول: 90.
3- تحف العقول: 233.
4- بنو قَيْلة: الأوس والخزرج، وقَيْلة اسم أم لهم قديمة وهي قَيْلة بنت كاهل.

تغيثون...»(1).

وفي غرر الحكم: قال(عليه السلام): «عند الخبرة تنكشف عقول الرجال»(2).

وقال(عليه السلام): «لا تثق بالصديق قبل الخبرة»(3).

من أين نبدأ؟

إن عالم الخبرة والتجربة عالم فسيح وواسع، ولكن كيف يلزم أن نستفيد منه، ومن أين نبدأ في الحياة؟

فهل نبدأ من الصفر؟

أم نبدأ من حيث انتهى الآخرون؟

بطبيعة الحال عندما نبدأ من الصفر سوف نستغرق الكثير من العمر والوقت، ولعل الفرصة لا تسمح لنا بإكمال مشاريعنا، والوصول إلى أهدافنا. إذن، كان حرياً بنا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، أي نستفيد من خبرات الآخرين وتجاربهم، وليس من الضروري أن يحصل كل واحد منا على الخبرة بنفسه، بل يمكنه الاستفادة من عقول الآخرين، فتكون نهاية الآخرين بداية لعملنا وخوضنا في هذه الحياة، ولكن بشرط أن يكون ما انتهى إليه الآخرون قائماً على أُسسمنتظمة وصحيحة تعطي نتائج مثمرة، فيلزم مراعاة هذا الشرط أولاً.

قال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام): «أعقل الناس من أطاع العقلاء»(4).

وقال(عليه السلام): «إنما البصير من سمع فَفَكَر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر»(5).

ص: 78


1- الاحتجاج 1: 103.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 100.
3- عيون الحكم والمواعظ: 522.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 186.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 274.

ثم أبرز مصداق في هذا المجال - أي مجال الخبرة الصحيحة للتأسي بهم - هو رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت الطاهرون(عليهم السلام) حيث جعلهم اللّه تعالى أسوة لنا، فيلزم علينا أن نتعلم من علومهم وخبراتهم، فإن تعدد أدوارهم واختلاف أزمانهم، لم يؤثر على وحدة الهدف، بل كان كل إمام يكمّل خطوات الإمام الذي سبقه، ويشيد أركاناً وأسساً إسلامية ناصعة، ثم يأتي الإمام الذي يليه ليكمل الدور، وهكذا كان عمل أئمتنا الأطهار(عليهم السلام)، بل هكذا كانت مسيرة الرسل والأنبياء(عليهم السلام) والأديان السماوية مع البشرية، فكل نبي كان يكمل ما قام به النبي الذي قبله، إلى أن تكامل الدين في آخر صورة وطُرح للعالمين على يد خاتم النبيين محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، ونحن من الضروري أن نعمل طبق هذا الأسلوب وهذا المنهاج الصحيح.

فلو أنشأنا مثلاً مؤسسة أو هيئة أو جمعية... فلا بد أن ندرس وندقّق في عمل المؤسسات والهيئات والجمعيات التي سبقتنا، ونكمل ما توقف عنده الماضون، ونضع خطوات جديدة على الطريق، ليأتي الجيل اللاحق ويكمل ما توقفنا عنده، لا أن نهدم البناء لنقيم مكانه بناءً آخر، فإن ذلك سوف لا يخدمنا، بل يؤخرنا، إلّا إذا كان البناء السابق قائماً على أسس غير صحيحة.

وهذا الكلام يجري في جميع مجالات الحياة، في الأمور الاقتصادية والاجتماعية وفي مختلف خطط التنمية. فنحن نجد أن تجارب السابقينوخبراتهم أوصلتهم إلى اختراع الآلة الميكانيكية مثلاً، وكانت هي المعتمدة شطراً من الزمان، ثم جاء الذين من بعدهم واستفادوا من هذا الاختراع وطوّروه فقادهم ذلك إلى اختراع الآلة البخارية، وهكذا إلى أن وصلنا إلى عصر النفط ومشتقاته، ثم إلى عصر الكهرباء والمغناطيس، وهكذا الأمر بالنسبة لجوانب الحياة الأخرى.

وكذلك في عالم الاقتصاد، حيث تُعدّ بعض الدول برنامجاً اقتصادياً لمدة

ص: 79

خمس سنوات أو عشر أو أكثر، وعندما تنتهي تقوم بوضع خطة أخرى تكميلية... وهكذا.

لذا يلزم علينا أن لا نلغي أعمال الذين سبقونا إن كانت صحيحة، بل علينا أن نفكر كيف نستفيد منها؟ وكيف نطورها ونجددها؟ وهذا من مصاديق الاستفادة من خبرة الآخرين وتجاربهم.

الانتكاسات عبرة

ثم إن الانتكاسات والسلبيات في الحياة يمكن أن تكون درساً للاستفادة منها في عدم تكرارها وتكون تجربة لسد الثغرات السابقة.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «العاقل من وعظته التجارب»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «في التجارب علم مستأنف»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يلسع العاقل من جحر مرتين»(3).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) - في حديث - قال: «واليقين علىأربع شعب: تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، ومعرفة العبرة، وسنة الأولين، فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة، ومن عرف السنة، فكأنما كان مع الأولين واهتدى إلى التي هي أقوم، ونظر إلى من نجا بما نجا، ومن هلك بما هلك، وإنما أهلك اللّه من أهلك بمعصيته، وأنجى من أنجى بطاعته»(4).

لا بد أن يعرف الجميع أن الانتكاسة في أي طريق ليست نهاية له، وليست

ص: 80


1- من لا يحضره الفقيه 4: 388.
2- الكافي 8: 22.
3- الإختصاص: 245.
4- الكافي 2: 50.

مدعاة للتنازل، ولا الابتعاد الكلي أو الانسحاب التام عن العمل وإلغاء الأهداف، ونثر الأتعاب والجهود مع الريح؛ بل إن الانتكاسة هي عبارة عن عثرة وسط الطريق، يمكن عبورها وتجاوزها بصمود الإرادة وقوتها؛ مضافاً إلى التوكل على اللّه وطلب العون منه، لذا لا بد لنا أن نأخذ من مجموع الانتكاسات التي نمر بها، أو التي مر ويمر بها الآخرون، دروساً في عملنا وسيرنا نحو تحقيق الأهداف... .

والذين يتصورون أن الانتكاسة بمثابة الأغلال والقيود المعيقة عن العمل والتواصل، أولئك أخطاوا في فهمها، ولم يعوا معناها، بل إن هناك بعض الانتكاسات تعكس من ورائها فوائد للعامل، لكي يكشف أخطاءه ونقاط ضعفه، ويميزها ويشخّصها، ثم يسعى نحو وضع العلاج المناسب لها وتصحيحها.

تأتي الانتكاسة عادة من قلة الخبرة، وبسبب أخطاء في العمل، أو أخطاء في التطبيق أو النظرية، وما لم يتشخص الخطأ، فإن الأمور سوف تجري حتى تصل إلى الانتكاسة، فإذن علينا أن ندخل الميدان العملي، ونأخذ بالأسباب الصحيحةالتي تعطينا النتائج الصحيحة، ونحاول أن نتعامل مع الخطأ والسلبيات بروح عالية، وأمل كبير، وجدية متواصلة، وعزم ثابت، حتى نصل إلى المراد.

دروس من ثورة العشرين

انتصرت ثورة العشرين(1) في العراق، ولكن عقيب الانتصار لقلة الخبرة عند

ص: 81


1- هي ثورة عارمة ضد الاستعمار الإنكليزي في العراق عام (1338ه-1920م)، حيث أصدر قائد الثورة الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) فتواه الشهيرة ضد التواجد الإنكليزي في العراق، مما أدى إلى اشتعال الثورة على الإنجليز من شمال العراق إلى جنوبه، وكان نص الفتوى: (مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الإنكليز عن قبول مطالبهم).

البعض ولعدم طاعة القائد العام فلتت أزمّة الأمور من بين أيدي الإسلاميين، وتدخلت القوى الكبرى الاستعمارية، وجاءت بحكومة شكلها عراقي، ولكن حقيقتها ليست كذلك، فجرّت الويلات والمآسي على الشعب العراقي إلى يومها هذا، إن تلك الانتكاسة يلزم أن تكون عبرة لنا، لنصحح الأخطاء التي وقعنا فيها في ذلك الوقت، حتى لا تتكرر ثانية.

إذ بعد انتصار ثورة العشرين التي هزّت عرش الإنجليز في العراق، توفي قائد الثورة المرجع الديني الأعلى الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) واستطاع الإنجليز أن يلتفوا على العراق مرة أخرى وبصيغة جديدة؛ إذ نصبوا فيصل ملكاً على العراق، وقد انطلت المؤامرة على بعض الثائرين نتيجة قلة الوعي وعدم الخبرة، نعم وقف البعض الآخر وهم الواعون ضد هذه المؤامرة من أمثال:

السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله) والشيخ محمد حسين النائيني(رحمه الله) وغيرهم من العلماء فلم يقبلوا بهذه المؤامرة الاستعمارية، حيث عارضوا ترشيح (فيصل) وأي مرشح آخر في ظل الانتداب، وشددوا على تشكيل الحكومة الإسلاميةالمستقلة عن الأجنبي استقلالاً تاماً وأكدوا على ضرورة أن يكون الحكم بيد الأكثرية الشيعية... .

وظهر واضحاً هذا المواقف المخالف للدولة عندما كان (فيصل) يزور المناطق الشيعية، فلم يكن علماء الدين في استقباله، وكان الاستقبال الشعبي ضعيفاً جداً خصوصاً في كربلاء والنجف المقدستين، وبعد فترة أخذ الحكم الطائفي بمحاربة الشيعة وحوزاتها وعلمائها، فأمر فيصل (صالح حمام)(1) بنفي مراجع التقليد ورجال الدين من النجف الأشرف وكربلاء المقدسة إلى إيران،

ص: 82


1- كان مدير شرطة كربلاء المقدسة.

وفي اليوم المحدد لرحيلهم ذهب الناس لوداعهم من منطقة المخيم في كربلاء المقدسة إلى باب بغداد (وهي نهاية كربلاء على طريق بغداد) وكانت حالة الحزن والبكاء والتضرع بادية عليهم وهم يودعون العلماء، ويقولون: لهم لا تنسونا من الدعاء عند مرقد الإمام الرضا(عليه السلام)!!

هذا كل ما قام به الناس تجاه هذا العدوان السافر، ولم يقوموا بأي تحرك سياسي أو ضغط اجتماعي أو ما أشبه.

نعم، هكذا كانت ردة فعل الناس بسيطة تجاه هذا الحدث المؤلم، فالناس أخذوا ينصرون العلماء بالدموع والحزن فقط من دون أن يتخذوا موقفاً عملياً في هذا السبيل، وكان بإمكانهم تغيير مسار الحدث في حينه لو أنهم تصرفوا بوعي وأدركوا خطورة تصرف الحكومة تجاه مراجعهم وعلمائهم، وما لذلك من أثر في المستقبل وكونه خطوة أولى ستتبعها خطوات أخر أشد خطورة وأكثر تأثيراً، وللأسف الشديد لم يبد أحد من الناس اعتراضه المؤثر واستنكاره الشديد على الحكومة لاتخاذها هذا الإجراء الظالم ضد العلماء والمراجع؛ لذا فإن الحكومةواصلت تنفيذ القرار وأبعدتهم إلى إيران.

بعد مدة نقل عن (صالح حمام) قوله - وهو المسؤول عن تنفيذ عملية إبعاد العلماء إلى إيران - : كان لدينا أمر من الجهات العليا في الدولة بأنه إذا اعترض الناس ولو جزئياً، وصدرت ردود فعل منهم بهذا الاتجاه واحتجاجاً على تسفير العلماء، أو تكلموا ضد قرار الدولة وطالبوا برفع هذا الحكم عنهم، فإنه سيتعين علينا إلغاء القرار وترك العلماء يعودون إلى ما كانوا عليه، ولكن الناس لم يبدوا أي اعتراض على ذلك؛ لذا طبقنا ما أمرنا به!! وكان كل ذلك لقلة وعي الناس وعدم خبرتهم بالقضايا السياسية.

وهكذا تتبين أيضا خطورة الدور المهم للسان والقلم في تعميق الوعي وتعبئة

ص: 83

الرأي العام لتحقيق الأهداف اللازمة. فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه ليس وراء ذلك شيء من الإيمان»(1).

عالم اليوم والخبراء

كثيراً ما تحتاج الدول إلى خبراء في مجال معين، لاسيما دول العالم الثالث، أو ما يطلق عليها (الدول النامية)، حيث تستعين في تطوير نفسها، أو تنظيم إداراتها، أو بعض وزاراتها، ببعض الخبراء الدوليين، فتقدم طلبها إلى مجلس المعونة الفنية، ويتضمن الطلب نوع المهمة، وطبيعة العمل في الإقليم، والفترة اللازمة للقيام بها، ويتم إيفاد الخبير بعد موافقة لجنة المعونة الفنية.

والخبير هو الشخص الذي يتميز بمستوى عالٍ من الخبرة في مجال محدد من مجالات المعرفة حيث يكلّف عادة بإعداد دراسة، أو تقديم مشورة لبعضالحكومات.

وواحدة من أبرز مشاكل بلادنا الإسلامية هي هذه، أي عدم وجود خبراء محليين في مستوى عال من الخبرة، فهي فقيرة في هذا الجانب؛ ولذلك فهي تستعين بالخبراء الأجانب، وجرت عادة الاستعمار أن يجنّد هؤلاء الخبراء للعمل معه ولغير الغاية المنشودة منهم، فيجعل من بعض هؤلاء الخبراء جواسيس، يتجسسون على البلاد التي يعملون فيها، ويرفعون المعلومات الخطيرة عن ذلك البلد.

وهناك طريقة أخرى من تبادل الخبرات في عالمنا الحاضر، وهو المسمى (بالخدمات الودية)، حيث تبعث دولة إلى أخرى بخبير، أو مجموعة من الخبراء

ص: 84


1- عوالي اللئالي 1: 431.

تساعدها بلا مقابل، أي أن الدولة التي تبعث الخبراء لا تأخذ من الدولة الأخرى أجرة على ما يقومون به من خدمات، بل تكتفي بأخذ قروض طويلة الأجل بلا فائدة، أو لقاء خبراء آخرين من ذلك البلد.

وهناك لون آخر، وهو البعثات التي تقوم بها الدول النامية مثلاً، إلى الدول الأوروبية، من أجل تحصيل الخبرة والمعرفة.

وبما أن بلادنا الإسلامية قليلة الخبراء، فتراها متأخرة دائماً في تلك المجالات الحيوية. وهذا من أهم أسباب تأخر المسلمين.

الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والخبرات

لقد عمل الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) على الاستفادة من خبرات الآخرين، حينما أمر أسرى قريش في معركة بدر أن يعلّم كل واحد منهم عشرة أشخاص منالمسلمين القراءة والكتابة(1)

وجعله فدية لهم.

أو عندما طرح سلمان الفارسي (رضوان اللّه عليه) على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فكرة حفر الخندق في واقعة الأحزاب، فهذه الفكرة والخبرة الحربية كانت عبارة عن تجربة عاشها سلمان(رحمه الله) في الزمن الماضي في بلاد الفرس، فأقرها الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وطبّقها حيث أمر بحفر الخندق.

ومن هنا تأتي أهمية الاستفادة من خبرات الآخرين، وتحث النصوص الواردة عن الأئمة(عليهم السلام) على الاستفادة من تجارب الغير، من أجل تطوير النفس، أو الجماعة، أو البلاد، لعلمهم بفائدة الخبرات والتجارب، ودورها العام في الحياة،

ص: 85


1- بعثت قريش في فداء الأسارى وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف، ... ومن لم يكن معه فداء، وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة ليعلمهم الكتابة. السيرة الحلبية 2: 451.

فقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «العقل حفظ التجارب»(1).

وقال(عليه السلام): «ثمرة التجربة حُسن الاختيار»(2).

وقال(عليه السلام): «من حفظ التجارب أصابت أفعاله»(3).

وقال(عليه السلام): «حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ويضم إلى علمه علوم الحكماء»(4).

موسى والخضر(عليهما السلام)

قال اللّه تبارك وتعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْنَٰهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَٰهُمِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}(5).

في البحار: إن موسى(عليه السلام) سأل ربه: «أيّ عبادك أحبّ إليك؟».

فقال: «الذي يذكرني ولا ينساني».

قال: «فأي عبادك أقضى؟».

قال: «الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى».

قال: «فأي عبادك أعلم؟».

قال: «الذي يبتغي علم الناس إلى علمه؛ عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى، أو ترده عن ردى».

قال: «إن كان في عبادك أعلم مني فادللني عليه؟».

ص: 86


1- عيون الحكم والمواعظ: 50.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 444.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 444.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 55.
5- سورة الكهف، الآية: 65- 68.

قال: «أعلم منك الخضر».

قال: «أين أطلبه؟».

قال: «على الساحل عند الصخرة»(1).

وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) أنه قال: «إن الخضر(عليه السلام) كان نبياً مرسلاً بعثه اللّه تبارك وتعالى إلى قومه، فدعاهم إلى توحيده والإقرار بأنبيائه ورسله وكتبه، وكانت آيته أنه كان لا يجلس على خشبة يابسة ولا أرض بيضاء إلّا أزهرت خضراً، وإنما سمي خضراً لذلك، وكان اسمه باليا بن ملكان بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح(عليه السلام)، وإن موسى(عليه السلام) لما كلمه اللّه تكليماً، وأنزل عليه التوراة وكتب له في الألواح من كل شيء موعظة، وتفصيلاً لكل شيء، وجعل آيتهفي يده وعصاه، وفي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وغرق اللّه عزّ وجلّ فرعون وجنوده، وعملت البشرية فيه، حتى قال في نفسه: ما أرى أن اللّه عزّ وجلّ خلق خلقاً أعلم مني؟

فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى جبرئيل: يا جبرئيل، أدرك عبدي موسى قبل أن يهلك، وقل له: إن عند ملتقى البحرين رجلاً عابداً فاتبعه وتعلم منه.

فهبط جبرئيل على موسى(عليه السلام) بما أمره به ربه عزّ وجلّ؛ فعلم موسى أن ذلك لما حدثت به نفسه، فمضى هو وفتاه يوشع بن نون(عليه السلام) حتى انتهيا إلى ملتقى البحرين، فوجدا هناك الخضر(عليه السلام) يعبد اللّه عزّ وجلّ كما قال عزّ وجلّ في كتابه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْنَٰهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؟}(2).

ص: 87


1- بحار الأنوار 13: 281.
2- سورة الكهف، الآية: 65- 66.

قال له الخضر: إنك لن تستطيع معي صبراً؛ لأني وكلت بعلم لا تطيقه، ووكلت أنت بعلم لا أطيقه.

قال موسى له: بل أستطيع معك صبراً.

فقال له الخضر: إن القياس لا مجال له في علم اللّه وأمره، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً؟

قال موسى: ستجدني إن شاء اللّه صابراً ولا أعصي لك أمراً.

فلما استثنى المشي قبله، قال: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً؟

فقال موسى(عليه السلام): لك ذلك علي فانطلقا...»(1).

ومن هنا بدأت قصة اتباع موسى(عليه السلام) للخضر(عليه السلام)، من أجل تحصيل العلم والخبرة، وزيادة الإطلاع على حقائق الأمور وبواطنها.

قال الشيخ الصدوق(رحمه الله): إن موسى(عليه السلام) مع كمال عقله وفضله ومحله من اللّه تعالى ذكره، لم يستدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر(عليه السلام)، حتى اشتبه عليه وجه الأمر فيه، وسخط من جميع ما كان يشاهده، حتى أُخبر بتأويله فرضي(2).

أقول: ولعل ذلك كان من موسى(عليه السلام) تعليماً لنا، فهي بمثابة قصة مجسدة لتكون عبرة للآخرين، كما وقع أمثالها لعديد من الأنبياء(عليهم السلام) حيث كانوا يظهرون شيئا لكي يكون أسوة للناس، فكان اتباع موسى للخضر(عليهما السلام) من أجل بيان أهمية الازدياد في العلم، والتعمق في المعرفة، ورؤية الأشياء والأمور على واقعها الذي

ص: 88


1- علل الشرائع 1: 59.
2- بحار الأنوار 13: 289.

كان الخضر(عليه السلام) يراه.

قال تعالى مخاطباً نبيه الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(1).

فإذا كان تحصيل الخبرة والعلم من أدب الأنبياء والرسل(عليهم السلام) لاسيما أولو العزم منهم، فنحن الناس العاديين أولى بذلك، لأننا عبارة عن هيكل من النواقص والثغرات؛ ولذلك يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «جالس العلماء تزدد علماً»(2).

وفي قصة نبي اللّه موسى مع الخضر(عليهما السلام) هناك عدة نقاط للتعلم، منها:

1- إن الإنسان، مهما وصل إليه من علم ومعرفة وخبرة واطلاع، لا يزال فقيراًإلى العلم وتحصيل الخبرة، لكي تزداد عنده المعرفة.

2- ضرورة تواضع الإنسان لمن هو أعلم منه - ولو في مجال دون مجال - وأوسع معرفة وخبرة، وأن لا يستنكف من تحصيل العلم والمعرفة والخبرة، قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المجرب أحكم من الطبيب»(3).

3- أدب السؤال في التعلم وأخذ المعرفة: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ}(4).

4- الصبر والتأني وعدم العجلة في طريق العلم وكسب الخبرات ورؤية النتائج: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}(5).

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفقنا والأمة الإسلامية جمعاء للمزيد من

ص: 89


1- سورة طه، الآية: 114.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 336.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 64.
4- سورة الكهف، الآية: 66.
5- سورة الكهف، الآية: 69.

اكتساب الخبرة في الحياة، فإنها من أسس التقدم، إنه قريب مجيب.

اللّهم صل على محمد وآل محمد، «اللّهم نوّر بكتابك بصري، واشرح به صدري، وأطلق به لساني، واستعمل به بدني، وقوّني به على ذلك، وأعنّي عليه، إنه لا يعين عليه إلّا أنت، لا إله إلّا أنت»(1) بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

مقومات الخبرة

1- العلم

قال تعالى: {وَنُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {بَلْ هُوَ ءَايَٰتُ بَيِّنَٰتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(5).

2- الوعي والبصيرة

قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}(6).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}(7).

ص: 90


1- عدة الداعي: 298.
2- سورة التوبة، الآية: 11.
3- سورة طه، الآية: 114.
4- سورة العنكبوت، الآية: 49.
5- سورة المجادلة، الآية: 11.
6- سورة الأنعام، الآية: 104.
7- سورة يوسف، الآية: 108.

وقال سبحانه: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(1).

3- الاعتبار من عواقب الماضين

قال عزّ وجلّ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(2).

وقال تعالى: {وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(3).

وقال سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِنقَبْلِهِمْ}(4).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}(5).

4- التفكر

قال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}(7).

وقال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِم}(8).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ}(9).

ص: 91


1- سورة الحاقة، الآية: 12.
2- سورة آل عمران، الآية: 137.
3- سورة الأعراف، الآية: 86.
4- سورة يوسف، الآية: 109.
5- سورة النمل، الآية: 69.
6- سورة البقرة، الآية: 219.
7- سورة الأنعام، الآية: 50.
8- سورة الروم، الآية: 8.
9- سورة سبأ، الآية: 46.

من هدي السنّة المطهّرة

مقومات الخبرة

1- العلم

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في وصية له لأبي ذر(رحمه الله): «وطالب العلم أحبه اللّه وأحبه الملائكة وأحبه النبيون، ولا يحب العلم إلّا السعيد، وطوبى لطالب العلم يوم القيامة...»(1).

وقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليُحيي به الإسلام كانبينه وبين الأنبياء(عليهم السلام) درجة واحدة في الجنة»(2).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج...»(3).

وقال الإمام الهادي(عليه السلام): «فلم يرض (اللّه تعالى) للعالم المؤمن إلّا أن يرفع على المؤمن غير العالم»(4).

2- الوعي

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه امرأً تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر...»(6).

ص: 92


1- جامع الأخبار: 38.
2- منية المريد: 100.
3- الكافي 1: 35.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري(عليه السلام): 352.
5- الكافي 1: 33.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 103 من خطبة له(عليه السلام) في التزهيد في الدنيا وصفة العلماء... .

وقال(عليه السلام): «اليقظة نور، الغفلة غرور»(1).

وقال(عليه السلام): «اليقظة استبصار»(2).

3- الاعتبار من عواقب الماضين

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «اعتبروا فقد خلت المَثُلات(3) فيمن كان قبلكم»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته ووقائعه ومثلاته واتعظوا بمثاوي خدودهم ومصارع جنوبهم...»(5)

)(6).

وقال(عليه السلام): «إن للباقين بالماضين معتبراً»(7).

وقال(عليه السلام): «خُلّف لكم عِبَرٌ من آثار الماضين قبلكم لتعتبروا بها»(8).

4- التفكر

قال الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم): «ولا عبادة مثلُ التفكر»(9).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «نبّه بالتفكر قلبك»(10).

ص: 93


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 21.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 60.
3- المثلات: الدواهي والعقوبات.
4- كنز الفوائد 2: 31.
5- مثاوي: جمع مثوى، بمعنى المنزل، ومنازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت، مصارع الجُنُوب: مطارحها على التراب.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى بالقاصعة.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 222.
8- عيون الحكم والمواعظ: 241.
9- من لا يحضره الفقيه 4: 372.
10- الكافي 2: 54.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أفضل العبادة إدمان التفكر في اللّه وفي قدرته»(1).

وسُئل عيسى(عليه السلام) من أفضل الناس؟ قال: «من كان منطقه ذكراً، وصمته فكراً، ونظره عبرة»(2).

ص: 94


1- الكافي 2: 55.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 250.

الرأي العام ودوره في المجتمع

الرأي والعزيمة

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «على قدر الرأي تكون العزيمة»(1).

وقال(عليه السلام): «الرأي كثير والحزم قليل»(2).

إن من المواضيع المهمة والتي ورد مضمونها في روايات أهل البيت(عليهم السلام) هو موضوع الرأي ودوره في الحياة، ومن مصاديق الرأي بل من أهمها الرأي العام.

ونحن - في هذا البحث - سنتطرق إليه بايجاز، لما رأينا من تجاهل له، بل وتناسيه ونكران دوره عند البعض في مختلف المجالات التي تعيشها الأمة الإسلامية... .

ثم إن عدم الاهتمام بالرأي العام وسائر مقومات التقدم والرقي كان مما أدى إلى وقوع الأمة بين مخالب الاستعمار إعلامياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وغيرها، وقد لعب الإعلام المضاد دوراً هاماً في سبيل إخفاء حقيقة الرأي العام الإسلامي وصوته، وذلك لسلب الحرية الإنسانية وإخفاء الحقائق والمبادئ البنّاءة.

لذا ولكي نمارس حريتنا الإنسانية المشروعة لا بد أن نكرس جهودنا، وبهمة

ص: 95


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 451.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 29.

عالية من أجل تحصيل مقومات التقدم والرقي، ومنها الاستفادة من الرأي العام في صالح نشر الفضيلة والتقوى.

وعلينا الالتفات إلى أهمية الرأي العام وكيفية تحشيده لصالح الإسلام والمسلمين، فنستعيد حقوقنا المسلوبة، ونعيد إلى أمة المسلمين المكانة الطبيعية العالية والراقية التي كانت تمتاز بها في عصر تطبيق المبادئ الإسلامية.

حقيقة الرأي العام

لقد اختلف العلماء في تعريف (الرأي العام)، فهناك في تحديد مفهومه أقوال(1).

ومهما كان الاختلاف في تبيين حقيقته فإن مفهومه واضح لدى الجميع ولا يحتاج مثل ذلك إلى التعريف بالحد التام، بل يكفي فيه الحد الناقص، وربما يكتفى في تحديده بالرسم التام أو الناقص أيضاً، فإن التوضيح قد يكون بشرح الاسم، وهذا مما يكتفى به عادةً في المحاورات العرفية.

وعلى هذا يمكن أن نعرّف الرأي العام: بأنه موقف جماعة من الناس تجاه مشكلة معينة كالفقر أو الظلم أو الاستبداد، أو حادث معين كالكوارث الطبيعية أو البشرية من حروب وغيرها، إمّا سلباً أو إيجاباً. أو ما أشبه ذلك... .

مقومات الرأي العام

ثم إن للرأي العام مقومات، منها:

1- الجماعة: وهم الأفراد بميولهم، وتقاليدهم، وعاداتهم، ونُظُمهم السياسية والاجتماعية.

ص: 96


1- قالوا: إنه اصطلاح للتعبير عن رأي الجماعة بالنسبة لموضوع من الموضوعات الهامة التي تتصل بحياتهم، وقال آخرون: إنه ليس اصطلاحاً، بل هو ثمرة للتفاعل بين العوامل المختلفة التي كان من نتيجتها ظهور قوة في الرأي سميت بالرأي العام، وقال آخرون: هو النتيجة التي وصل إليها الناس بعد مناقشاتهم وقراءاتهم عن موضوع أو حدث مؤثر في مصالحهم الخاصة أو العامة.

2- المشكلة: وهي الموضوع الذي يؤثر في الرأي العام قبولاً ورفضاً. وبعبارة أخرى ما يترتب عليه الرأي العام.

3- المناقشة: بمعنى وجود النقاش والحوار والتفاعل بين الجماعة حول الموضوع المؤثر.

ومن العلماء من أضاف عاملَي: الزمن والخبرة. وبذا يتضح لنا أن حقيقة الرأي العام متقومة بالجماعة التي تتحاور وتتفاعل مع موضوع يؤثر فيها قبولاً أو رفضاً. ومن الطبيعي أن تعطي - عادة - مثل هذه المحاورات نتائج إيجابية للمجتمع.

أهمية الرأي العام

إن صوت الحق وانتشار العدل والفضيلة لا يمكن إيصاله إلى الناس بواسطة المدافع أو الأسلحة الذرية الفتاكة أو أساليب العنف، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1)، وقال عزّ وجلّ: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2).

بل يمكن إيصال الحق عبر الطرق السلمية المشروعة، من الأقلام والمنابر، ومختلف طرق الحوار الهادف، وعبر الاستفادة من أساليب الإعلام الموجه الحديثة، كالصحف والإذاعات والقنوات الفضائية والإنترنت، وغيرها... .

- أما الاستفادة من القوة فتكون في محلها وبشروطها المذكورة في باب الجهاد وما أشبه - .

ومن هنا جاءت أهمية بلورة الرأي العام عن طريق هذه الأساليب المذكورة؛

ص: 97


1- سورة البقرة، الآية: 256.
2- سورة النحل، الآية: 125.

وقد اهتمت الدوائر العالمية - غير المسلمين طبعاً - بوسائل الإعلام المختلفة لتوجيه الأفكار والعقول نحو خططها ومصالحها الخاصة، لكي تحقق مطامعها في الدول التي لم تصل إلى مستوى عالٍ من الكفاءة في إدارة الإعلام والاستفادة من الرأي العام لصالحها.

وهكذا قامت الدول الاستعمارية بإيجاد وكالات أنباء عالمية توجهها إلى كافة دول العالم، فتقوم هذه بتوجيه الرأي العام العالمي بما يخدم ويضمن المصالح الاستعمارية في العالم من خلال ما تذيعه على العالم من أخبار وتعليقات وتحليلات في كافة الشؤون الحياتية، فضلاً عن الصحف والمجلات وغيرها، فإنها عوامل مؤثرة جداً في إيجاد الرأي العام وتوجيهه.

هذا بالإضافة إلى الاستفادة من مختلف عوامل التأثير في سلوك الفرد والجماعة من الدين والثقافة والتعليم والأسرة والأحداث الهامة وغيرها.

كيف نهيئ الرأي العام الإسلامي؟

لا بد لأمتنا من الحصانة الفكرية والإعلامية في هذا الخضم المتلاطم من التحوير والغزو الفكري والإعلام المزيف والصحافة المنحرفة... ولا بد للرأي العام الإسلامي من توجيه وإرشاد عبر العلماء والمثقفين، وتعريفها المطالبة بحقوقها المشروعة، وقضاياها العادلة في الحرية والاستقلال وعدم التبعية، وهذا يتم بوسائل أهمها:

1- إيجاد الجماعات السلمية المضادة للتحريف والتحوير الفكري، لكي تصنع الرأي العام الإيجابي، وترد الدعوات الزائفة، وتفضح الدعايات الاستعمارية الكاذبة، ضمن قاعدة (النهي عن المنكر) وما أشبه.

2- تثقيف المجتمع بالثقافة الصحيحة حتى يعرفوا الحق من الباطل

ص: 98

والحقيقة من الزيف، وتنوير الأجيال الصاعدة بحقائق الإسلام ومصالح الأمة الحقيقية، وإعطائهم التحليل الصحيح للأمور ضمن قاعدة (الأمر بالمعروف)، وقاعدة «المؤمن كيّس فطن حذر»(1) كما ورد في الحديث الشريف، وقاعدة «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(2).

3- تقوية وسائل الإعلام وإعطائها الحرية الكافية لممارسة مهامها ضمن أطر مشروعة تصب في خدمة المصلحة العامة.

4- تقوية وسائل التربية والتعليم، ابتداءً بالطفل حين دخوله المدرسة، وتوجيهه وفق الآداب الإسلامية النبيلة، وتعليمه مبادئ الإسلام الحنيف وسيرة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام).

5- الاستفادة من الأحداث الهامة والمؤثرة في توجيه الرأي العام العالمي والمحلي نحو مصالح الأمة الإسلامية، وتوضيح مواقفهم السلبية.

شواهد من الرأي العام وتأثيره

اشارة

بعد هذه المقدمة الوجيزة عن الرأي العام وبيان تعريفه وسبل إيجاده بشكل رصين بين أبناء الأمة، نشير إلى بعض الشواهد التي تمثل دور الرأي العام، وكيفية إيجاده بين المسلمين من قبل النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المطهرين(عليهم السلام).

الرأي العام وفرض البدع

ورد أن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ترك القوم على ما ارتأوه من صلاة التراويح، وذلك لوجود الرأي العام فيها، على الرغم من أنه(عليه السلام) قد نهاهم عنها وذكّرهم بعذاب جهنم وبين لهم الرشد من الغي، ولكن لما رأى إصرارهم عليها تركهم

ص: 99


1- جامع الأخبار: 85.
2- الكافي 1: 27.

وشأنهم رعاية للأهم والمهم، مضافاً إلى ما أداه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن هنا يعرف مدى أهمية الرأي العام في اصلاح المجتمع أو إفساده، فإن من البدع التي وضعها الثاني في الإسلام هي: (صلاة التراويح)، فقد كان النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يصلي في ليالي شهر رمضان الصلوات المستحبة المختلفة إلى الفجر فرادى، حيث لا تصحّ الجماعة في النوافل.

روي عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد(عليهما السلام) أنه قال: «صوم شهر رمضان فريضة، والقيام في جماعة في ليلته بدعة، وما صلاها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في لياليه بجماعة، ولو كان خيراً ما تركه وقد صلى في بعض ليالي شهر رمضان وحده، فقام قوم خلفه، فلما أحس بهم دخل بيته، فعل ذلك ثلاث ليال، فلما أصبح بعد ثلاث صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، لا تصلوا النافلة ليلاً في شهر رمضان ولا غيره في جماعة، فإنها بدعة، ولا تصلوا ضحًى فإنها بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار، ثم نزل وهو يقول: «قليل في سُنة خير من كثير في بدعة»(1).

وكان المسلمون كذلك يفعلون في حياته(صلی الله عليه وآله وسلم) وحتى بعد وفاته(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى فترة من حكومة عمر.

حتى روي أن في ليلة من ليالي شهر رمضان دخل عمر المسجد فرأى الناس يصلون فرادى كل في جانب، أحدهم راكع والآخر ساجد، وثالث قائم وهكذا... فقال: لنصل هذه الصلوات المستحبة جماعة! فأطاعوه، فصارت الصلاة المستحبة - التي لا تصح إلّا فرادى - تصلى جماعة بأمر من عمر بن

ص: 100


1- بحار الأنوار 94: 381.

الخطاب(1).

بعد ذلك أراد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في فترة حكومته التي استمرت (خمس سنوات) أن يقضي على هذه البدعة، فنهى عن الإتيان بصلاة التراويح، إلّا أن بعض الناس تظاهروا ضد هذا القرار من الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وأخذوا ينادون بشعار: وا سنّة عُمَراه، وفي رواية: وا رمضاناه... .

فلما رأى الإمام(عليه السلام) ذلك منهم تركهم وشأنهم وقال لابنه الحسن: «اذهب واقرأ لهم هذه الآية الشريفة: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(2)(3).

وعن أبي جعفر وأبي عبد اللّه(عليهما السلام) قالا: «لما كان أمير المؤمنين(عليه السلام) بالكوفة أتاه الناس فقالوا له: اجعل لنا إماماً يؤمنا في رمضان؟ فقال لهم: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا رمضان، وا رمضاناه، فأتى الحارثالأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين، ضج الناس وكرهوا قولك؟ قال: فقال عند

ص: 101


1- روى البخاري بإسناده عن عبد الرحمن بن عبدالقاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعم البدعة هذه... صحيح البخاري 2: 252. وذكر اليعقوبي في حوادث سنة أربع عشرة: وفي هذه السنة سنّ عمر بن الخطاب قيام شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان، وأمر أبيّ بن كعب وتميماً الداري أن يصليا بالناس. فقيل له في ذلك: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لم يفعله، وإن أبا بكر لم يفعله؟ فقال: إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة. تاريخ اليعقوبي 2: 140.
2- سورة النساء، الآية: 115.
3- انظر: وسائل الشيعة 8: 46.

ذلك: دعوهم وما يريدون، ليصل بهم من شاءوا، ثم قال: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}»(1)(2).

وعن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين(عليه السلام) فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم صلى على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال: «ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان: اتباع الهوى، وطول الأمل» إلى أن قال: «قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) متعمدين لخلافه، فاتقين لعهده، مغيرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي» إلى أن قال: «واللّه لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غيّرت سنة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً، ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري»(3).

وعن عمار عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سألته عن الصلاة في رمضان في المساجد؟ قال: «لما قدم أمير المؤمنين(عليه السلام) الكوفة أمر الحسن بن علي(عليهما السلام) أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعةً(4)، فنادى في الناس الحسن بن علي(عليهما السلام) بما أمره به أمير المؤمنين(عليه السلام) فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي(عليهما السلام) صاحوا: وا عمراه، وا عمراه، فلما رجع الحسن(عليه السلام) إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) قال له: ما هذا الصوت؟ فقال: يا أمير المؤمنين(عليه السلام) الناس

ص: 102


1- سورة النساء، الآية: 115.
2- وسائل الشيعة 8: 47.
3- وسائل الشيعة 8: 46.
4- أي في النوافل والصلوات المندوبة.

يصيحون:

وا عمراه وا عمراه!!

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): قل لهم صلوا»(1).

إذاً، فإن احتجاج بعض الناس ومخالفتهم للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كان في زمن تصدي الإمام(عليه السلام) للحكم حيث كان خليفة المسلمين والحاكم الأعلى لهم في حكومته الظاهرية ولكن الإمام(عليه السلام) مع ذلك ترك الناس وما يصرون عليه، وذلك لأهمية الرأي العام، فلم يتخذ موقفاً في القضاء على صلاة التراويح ورفعها من بين المسلمين، رغم عدم شرعيتها، إلّا بالموقف اللفظي حيث اكتفى فقط بتذكيرهم بعذاب اللّه يوم القيامة الذي ينتظر كل من يخالف الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) ويعاديهم ويتخذ سبيلاً غير سبيل المؤمنين كما في الآية المتقدمة.

هذا هو تأثير الرأي العام

يقولون: إن قدرة الرأي العام وتأثيره في المعنويات أكبر بكثير من قدرة تأثير أكبر السيول في الماديات، وهي تفعل ما لا تفعله أشد الأعاصير والزلازل؛ وذلك لأن باستطاعة الرأي العام أن يجعل أكبر الحكومات سعةً وأشدها قوةً تركع أمامه مستسلمة راضخة!

انكسار قدرة يزيد

في عالم اليوم - حيث التقدم الصناعي والتكنولوجي - يعتبر الجيش الروسيمن أكبر الجيوش العالمية، حيث يتألف من أربعة ملايين جندي(2)، بينما قبل

ص: 103


1- تهذيب الأحكام 3: 70.
2- هذه الإحصائية تختص بأيام الإتحاد السوفيتي.

ألف وأربعمائة عام في زمن حكومة يزيد بن معاوية كان جيش يزيد - على بعض التواريخ - يتألف من مليون جندي، ونقل أنه كان ليزيد في البلاد سبعة آلاف وعشر منابر باسمه لصلاة الجمعة.

فيزيد - ومع هذه القدرة الهائلة - لم يستطع أن يصمد في مسجد الشام أمام الرأي العام عندما أصرّوا عليه أن يسمح للإمام السجاد(عليه السلام) في صعود المنبر، بالرغم من أنه كان يعلم بأن الإمام إذا صعد المنبر لا ينزل إلّا بفضيحته وفضيحة آل أبي سفيان، لكنه رضخ، فصعد الإمام زين العابدين(عليه السلام) المنبر وفضح بني أمية وجورهم وفسادهم في البلاد، وخاصة ما ارتكبوه في جريمة قتل الإمام الحسين(عليه السلام) وأولاده وأنصاره(عليهم السلام) في صحراء كربلاء التي سعى يزيد كثيراً للتغطية عليها.

روي أن يزيد أمر بمنبر وخطيب ليذم علياً أمير المؤمنين(عليه السلام) وولده الإمام الحسين(عليه السلام)، فصعد الخطيب المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه! ثم أكثر الوقيعة في علي والحسين(عليهما السلام) وأطنب في مدح معاوية ويزيد، فذكرهما بكل جميل، قال: فصاح به علي بن الحسين(عليهما السلام): «ويلك أيها الخاطب، اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النار» ثم قال علي بن الحسين(عليهما السلام): «يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلم بكلمات للّه فيهن رضاً ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب» قال: فأبى يزيد عليه ذلك، فقال الناس: يا أمير...، ائذن له فليصعد المنبر فلعلنا نسمع منه شيئاً؟ ... فقال: إنه إن صعد لم ينزل إلّابفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان، فقيل له: يا أمير وما قدر ما يحسن هذا؟ فقال: إنه من أهل بيت قد زُقّوا العلم زَقّاً. قال: فلم يزالوا به حتى أذن له، فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها

ص: 104

القلوب، ثم قال: «أيها الناس، اُعطينا ستاً وفُضّلنا بسبع، اُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفُضّلنا بأن منّا النبي المختار محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) ومنّا الصديق ومنّا الطيار ومنّا أسد اللّه وأسد رسوله ومنّا سبطا هذه الأمة. من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي، أيها الناس، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبّى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من {دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ}(1) أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلّا اللّه، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) سيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين وبايع البيعتين وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر باللّه طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّاءين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين رسول رب العالمين،أنا ابن المؤيد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حُرَم المسلمين، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب للّه ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم من مرامي

ص: 105


1- سورة النجم، الآية: 8-9.

اللّه على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين اللّه، وولي أمر اللّه، وبستان حكمة اللّه، وعيبة علمه، سمح سخيّ بهيّ، بهلول زكيّ، أبطحي رضيّ، مقدام همام، صابر صوّام، مهذب قوام، قاطع الأصلاب، ومفرق الأحزاب، أربطهم عناناً وأثبتهم جناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، أسد باسل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة وقربت الأعنة طحن الرحى، ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز، وكبش العراق، مكي مدني، خيفي عَقَبي، بدري أحُدي، شجري مهاجري، من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين الحسن والحسين، ذاك جدي علي بن أبي طالب»، ثم قال: «أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء»، فلم يزل يقول: أنا أنا، حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن يكون فتنة، فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام، فلما قال المؤذن: اللّه أكبر، اللّه أكبر، قال علي(عليه السلام): «لا شي ء أكبر من اللّه» فلما قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، قال علي بن الحسين(عليهما السلام): «شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي» فلما قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول اللّه، التفت(عليه السلام) من فوق المنبر إلى يزيد فقال: «محمد هذا، جدي أم جدك يا يزيد، فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلتَ عترته؟!» قال: وفرغ المؤذن من الأذان والإقامة وتقدم يزيد فصلى صلاة الظهر.

قال: وروي: أنه كان في مجلس يزيد هذا حبر من أحبار اليهود، فقال: من هذاالغلام يا أمير؟ قال: هو علي بن الحسين، قال: فمن الحسين؟ قال: ابن علي بن أبي طالب، قال: فمن أمه؟ قال: أمه فاطمة بنت محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال الحبر: يا سبحان اللّه، فهذا ابن بنت نبيكم قتلتموه في هذه السرعة!! بئسما خلفتموه في ذريته، واللّه لو ترك فينا موسى بن عمران(عليه السلام) سبطاً من صلبه، لظننا أنا كنا نعبده

ص: 106

من دون ربنا، وأنتم إنما فارقكم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابنه فقتلتموه، سوءة لكم من أمة؟! قال: فأمر به يزيد فوجئ في حلقه ثلاثاً، فقام الحبر وهو يقول: إن شئتم فاضربوني، وإن شئتم فاقتلوني، أو فذروني، فإني أجد في التوراة أن من قتل ذرية نبي لا يزال ملعوناً أبداً ما بقي، فإذا مات يصليه اللّه نار جهنم.(1)

احترام الرأي العام

كان أسلوب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) احترام الرأي العام، حتى ورد أنه(عليه السلام) كان إذا بعث والياً قال له: «وإنما عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فليكن صغوك(2)

لهم وميلك معهم»(3).

وقال(عليه السلام): «فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها»(5).

وقال(عليه السلام): «صواب الرأي بالدول، يقبل بإقبالها ويذهب بذهابها»(6).وقال(عليه السلام): «على قدر الرأي تكون العزيمة»(7).

كل ذلك لما في الرأي والرأي العام من أثر في تقوية الوالي أو إضعافه.

لا بد أن نتسلح بالمعنويات أولاً

إن من الأمور المهمة التي يلزم أن نتبعها في سبيل إحقاق الحق وإبطال

ص: 107


1- بحار الأنوار 45: 137.
2- الصِغْو - بالكسر والفتح - : الميل.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر... .
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 216 من خطبة له(عليه السلام) خطبها بصفين.
5- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 161.
6- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 339.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 451.

الباطل، الاستفادة من الرأي العام، وتأليب الرأي العام في سبيل القضاء على كل طاغوت وحاكم ظالم - بالأخص مثل صدام - فإذا أردنا إسقاط صدام، وتحرير العتبات المقدسة والحوزات العلمية في مدينتي النجف وكربلاء المقدستين وباقي المدن المقدسة في العراق المسلم - التي يزيد عمرها على الألف عام - من قبضته لا بد لنا من إيجاد سيل من الإعلام الموجه وإيجاد الرأي العام العالمي لهذه الغاية الشريفة؛ لتؤثر في آراء عموم الشعوب الإسلامية وغيرها، مما يسبب تفاعل الشارع الإسلامي في العراق خاصة وبلدان العالم عامة، فنسوق الرأي العام بالاتجاه المضاد لصدام من أجل إسقاطه، وإنقاذ العراق وحوزاتنا العلمية ومدننا المقدسة من ظلمه وجوره.

إن تلك الحوزات العظيمة صمدت في القرون العشرة الأخيرة أمام هجمات عديدة ومتنوعة تعرضت لها، حيث كانت تمر عليها أسوء الظروف والأوضاع ولكنها - بحمد اللّه - صمدت واستقامت بكل عزم وصمود وخرجت من هذه الأزمات منتصرة.

وكانت من أخطر هذه الهجمات هجوم المغول على العراق، فإنهم لم يمرّوا على مدينة أو قرية إلّا وتركوها أطلالاً وقاعاً صفصفاً. وفي ذلك الزمان كانت الحوزات العلمية في النجف وكربلاء والحلة معرضة لهجوم الجيش المغولي المتوحش، ولكن بفضل ذكاء ثلاثة من العلماء الأعاظم(1) وإيمانهم الراسخ،

ص: 108


1- والعلماء الثلاثة هم: الشيخ سديد الدين يوسف بن المطهر الحلي (والد العلامة الحلي)، والسيد مجد الدين بن طاووس، والفقيه شمس الدين محمد بن أبي العز. أما سديد الدين يوسف بن المطهر الحلي، فقد وصفه ابن داود: (بأنه كان فقيها محققا مدرّساً عظيم الشأن). ووصفه الشهيد في إجازته لابن الخازن: (بالإمام السيد الحجة). ووصفه الشهيد: (بالإمام الأعظم الحجة أفضل المجتهدين السعيد الفقيه)، ووصفه المحقق الكركي: (بالشيخ الأجل الفقيه السعيد شيخ الإسلام). ويكفيه فخرا وعزّاً وشرفاً كونه أعلم أهل زمانه بعلم الكلام وعلم أصول الفقه كما اعترف به المحقق الحلي(رحمه الله)، قال ولده أبو منصور: (إن الشيخ الأعظم خواجة نصير الدين الطوسي لما جاء إلى العراق حضر الحلة فاجتمع عنده فقهاء الحلة فأشار إلى الفقيه نجم الدين جعفر بن سعيد وقال: من أعلم هؤلاء الجماعة؟ فقال له: كلهم فاضلون علماء إن كان واحد منهم مبرزاً في فن كان الآخر مبرزاً في فن آخر. فقال: من أعلمهم بالأصوليين؟ فأشار إلى والدي سديد الدين يوسف بن المطهر، وإلى الفقيه مفيد الدين محمد بن جهيم فقال: هذان أعلم الجماعة بعلم الكلام وأصول الفقه. وبفضل هذا الشيخ المعظم وتدبيره نجا أهل الكوفة والحلة والمشهدين الشريفين من القتل والنهب والسبي، وذلك حين غزا التتار العراق وعملوا ما عملوا. والعالم الآخر هو مجد الدين محمد بن الحسن بن موسى بن جعفر ابن طاووس، قال عنه ابن عنبة: السيد الجليل خرج إلى السلطان هولاكو خان وصنف له كتاب البشارة وسلم الحلة والنيل والمشهدين الشريفين من القتل والنهب، ورد إليه حكم النقابة بالبلاد الفراتية فحكم في ذلك قليلاً ثم مات دارجاً. وذكره السيد عبد الرزاق كمونة ووصفه بالسيد الجليل العالم الفاضل الزاهد ولي نقابة الطالبية بالبلاد الفراتية توفي سنة (656ه). أما ابن أبي العز: فهو الشيخ الفقيه الفاضل العالم المعروف بابن أبي العز، الذي ذهب مع والد العلامة الحي الشيخ سديد الدين بن المطهر لطلب الأمان لأهلها، وذهب خواجة نصير الدين إلى هولاكو بقرب بغداد حين غلب هولاكو واستولى عليها وقتل المستعصم العباسي. انظر: رياض العلماء: ج6 ص9.

تمكنت الحوزة من الحفاظ على كيانها كما حافظت على تلك المدن وأهاليها وحيل دون وقوعها تحت نير الجيش المغولي، وقد طلب هؤلاء العلماءالثلاثة(رحمه الله) مقابلة زعيم المغول، وكان لقاء هؤلاء العلماء الأبطال بالرئيس المغولي يعتبر في ذلك الزمان مخاطرة كبيرة قد يدفع الإنسان حياته ثمناً لها، ولكن مع ذلك تم اللقاء، فطلبوا منه أماناً للحوزات العلمية والمدن المقدسة وأهاليها، وبعد كلام طويل، وافق القائد المغولي على إعطاء الأمان للحوزات العلمية والعلماء، وعلى أثر ذلك لم يتعرض الجيش المغولي لأية مدينة من هذه

ص: 109

المدن الثلاث التي كانت تحتضن الحوزات العلمية آنذاك وبقيت سالمة من الفتك المغولي وهجماته الشرسة.

قصة والد العلامة مع هولاكو

قال العلامة الحلي: لما وصل السلطان هولاكو إلى بغداد وقبل أن يفتحها هرب أكثر أهل الحلة إلى البطائح إلّا القليل فكان من جملة القليل والدي(رحمه الله) والسيد مجد الدين بن طاووس، والفقيه ابن أبي العز، فأجمع رأيهم على مكاتبة السلطان بأنهم مطيعون داخلون تحت الإيلية، وأنفذوا به شخصاً أعجمياً، فأنفذ السلطان إليهم فرماناً مع شخصين أحدهما يقال له تكلم والآخر يقال له علاء الدين، وقال لهما: إن كانت قلوبهم كما وردت به كتبهم فيحضرون إلينا فجاء الأميران فخافوا لعدم معرفتهم بما ينتهي الحال إليه. فقال والدي(رحمه الله): إن جئت وحدي كفى. فقالا: نعم فأصعد معهما، فلما حضر بين يديه وكان ذلك قبل فتح بغداد وقبل قتل الخليفة قال له: كيف أقدمتم على مكاتبتي والحضور عندي قبل أن تعلموا ما ينتهي إليه أمري وأمر صاحبكم وكيف تأمنون إن صالحني ورحلت عنه؟ فقال له والدي: إنما أقدمنا على ذلك، لأنا روينا عن إمامنا علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال في بعض خطبه:

«الزوراء وما أدراك ما الزوراء، أرض ذات أثل، يشتد فيها البنيان ويكثر فيها السكان، ويكون فيها قهازم وخزان، يتخذها ولد العباس موطناً ولزخرفهم مسكناً،تكون لهم دار لهو ولعب، يكون بها الجور الجائر والخوف المخيف، والأئمة الفجرة والقراء الفسقة والوزراء الخونة، يخدمهم أبناء فارس والروم لا يأتمرون بمعروف إذا عرفوه، ولا يتناهون عن منكر إذا أنكروه، يكتفي الرجال منهم بالرجال والنساء بالنساء، فعند ذلك الغم الغميم والبكاء الطويل والويل والعويل لأهل الزوراء من سطوات الترك وما هم الترك؟ قوم صغار الحدق وجوههم

ص: 110

كالمجان المطرقة، لباسهم الحديد، جرد مرد، يقدمهم ملك يأتي من حيث بدا ملكهم، جهوري الصوت، قوي الصولة عالي الهمة، لا يمر بمدينة إلّا فتحها، ولا ترفع له راية إلّا نكسها، الويل الويل لمن ناواه، فلا يزال كذلك حتى يظفر».

فلما وصف لنا ذلك ووجدنا الصفات فيكم رجوناك فقصدناك، فطيب قلوبهم، وكتب لهم فرماناً باسم والدي(رحمه الله) يطيب فيه قلوب أهل الحلة وأعمالها(1)، وكان هذا سبب سلامة أهل الحلة والكوفة والمشهدين الشريفين من القتل.

استمرار المؤامرة

كان بعض البلاد شيعية المذهب حكومة وشعباً، ولكن سيطر عليها بعض المتعصبين من المخالفين لمذهب أهل البيت(عليهم السلام) حيث أخذوا يقتلون الناس الأبرياء حتى فر الشيعة منها، واختفى الباقي، واتقى في مذهبه ومعتقداته، كما حدث ذلك في مصر وسورية وبعض البلاد المحيطة بهما، حيث حكمها الشيعة حدود قرنين من الزمان، ولكن بعد مواقف صلاح الدين الأيوبي في قتل الشيعة الأبرياء، وذلك في سلسلة من الحوادث التأريخية والإرهابية أصبحت هذه البلاد سنية، ولكن بقيت آثار التشيع فيها، بل أخذ اليوم تزداد الشيعة يوماً بعد يوم بعدأن تعرف الناس على أحقية مذهب أهل البيت(عليهم السلام).

وللأسف الشديد تحاول بعض البلاد الاستعمارية اليوم تطبيق نفس هذه السياسة الغاشمة، وهي الكبت على الشيعة في العراق أيضاً وهدر حقوقهم المشروعة في الحكم، حيث تبذل محاولات جدية لجعل الحكومة بعد حكومة البعث في العراق حكومة سنية بكل معنى الكلمة، ليسهل عليهم تنفيذ

ص: 111


1- كشف اليقين: 80.

مخططاتهم الاستعمارية ضد الاسلام والمسلمين، والتي قد يعترض سبيلها وجود حكومة تسير على نهج أهل البيت(عليهم السلام). وأحد الأدلة القوية على هذه القضية هو طلب مصر من العراق أن يجعل من الحوزة العلمية في النجف الأشرف فرعاً لجامعة الأزهر، فيسمح لخمسة آلاف رجل دين من أبناء العامة بالهجرة إلى النجف الأشرف ليستلموا أعمال ومهام الحوزة فرع الأزهر - كما يزعمون - ليتسنى لهم عن هذا الطريق النفوذ إلى عمق العراق والتبليغ ضد الشيعة فيه.

لذا من اللازم على كل شيعي مسلم موال لأهل البيت(عليهم السلام) غيور أن ينظر إلى هذه المخططات الخطيرة بجد وحزم وعمق ويبذل ما في وسعه للوقوف أمامها، بالعمل والجد والمثابرة وتحريك الرأي العام ضدّها؛ إذ أن الاستعمار وحتى بعض المتعصبين من المخالفين يقفون أمام التطور الشيعي، ويسعون لضربهم عن طريق إحاكة المؤامرات ضدهم وضد المسلمين عموماً، كل ذلك في سبيل نشر سيادة المستعمرين ومبادئهم وعقائدهم الباطلة.

ولعل الأحداث التي مرت بالعراق تفسر لنا أسباب المحنة والمأساة التي حلت به وبشعبه المسلم، اذ نستطيع أن نقول: أن المستقرئ لهذه الأحداث يجد أن وراء أكثر الأزمات والمشاكل التي عصفت بالعراق كان التعصب المذهبيوالطائفية المتشددة من قبل بعض المخالفين ضد الشيعة، وهل أصاب أبناء العامة في العراق من الأضرار والآلام التي صبها البعثيون على الناس معشار ما أصاب أتباع أهل البيت(عليهم السلام)؟ قال تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(1).

ص: 112


1- سورة البروج، الآية: 8.

إذاً، لا بد من العمل والمطالبة بحقوق الشيعة المهدورة منذ فترة طويلة وبأيد استعمارية أو طائفية متعصبة... كما لا بد من التحرك على صعيد تنبيه الرأي العام وإثارته حول هذه القضية حتى نتمكن من الدفاع عن أنفسنا واسترجاع حقوقنا.

نهج الأعداء

إن أعداء الإسلام يتحركون بنشاط ويقظة، ولهم أساليب عديدة في التفرقة، فمن أساليبهم أنهم نشروا فكرة (القومية) بين الأمة الاسلامية الواحدة التي أسسها الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) لتبديد أوصالها وتمزيقها، وجعلها دولاً متناحرة وشعوباً متنافرة، فجاءوا إلى البلاد العربية بالقومية العربية(1)، والى إيران بالقومية الفارسية(2)، وفي تركيا بالقومية التركية(3) وهكذا في الهند وأفغانستان وإندونيسيا وغيرها.

كما عملوا على تقديس الأديان القديمة، أمثال دين المجوسية والفرعونيةوالآثورية والبابلية وما أشبه... وهكذا جاءوا بالشيوعية(4)

والوجودية(5)

والبعثية

ص: 113


1- كان رائدها ميشيل عفلق وجمال عبد الناصر وغيرهما.
2- وكان رائدها شاه ايران المقبور رضا بهلوي.
3- وكان رائدها مصطفى كمال أتاتورك.
4- الشيوعية: مذهب سياسي يهدف إلى القضاء على الرأسمالية والملكية الخاصة.
5- الوجودية: فلسفة تقول بأن الوجود الإنساني يجب أن يكون محور التفكير الفلسفي كله، وتذهب إلى أن الوجود يسبق الماهية أو الجوهر، والوجود هنا هو ما نحققه بإرادتنا، أما الجوهر فهو الطبيعة الإنسانية، بمعنى أن الإنسان ليس شيئاً قبل أن ينجز بنفسه شيئاً ما، وبمعنى أنه ليس ثمة جوهر يفرض على المرء قدراً معيناً، ومن هنا شددت الوجودية على المرء ومسؤوليته عن أعماله في عالم خلو من الهدف، بل في عالم معاد للإنسان، يعتبر (كيركيفارد) مؤسس الوجودية، ويعتبر (هايديجر) و(باسيرز) و(سارتر) أبرز ممثليها.

ونحوها، كاتجاهات سياسية، لقلع جذور الإسلام وتفتيت الأمة الواحدة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى افتعلوا الانقلابات العسكرية ليركزوا عملاءهم ويحكموهم على رؤوس المسلمين، وليفعلوا ما يشاؤون بالإسلام والمسلمين. وأدخلوا المنظمات السرية الخاصة لإفساد الشباب المسلم عن طريق زرع العادات الغربية ونشر الثقافات المنحطة والأفكار الهدّامة ضد الإسلام، وخاصة ضد أتباع المذهب الشيعي.

كيف نوظّف الرأي العام لإنقاذ العراق؟

يلزم توظيف الرأي العام لإنقاذ العراق والأخذ بحقوق الأكثرية الشيعية فيه. إننا إذا استطعنا أن نكسب الرأي العام بواسطة طبع الكتب ونشرها وإصدار المجلات والصحف(1) وتوجيهها في سبيل نشر الدين وكشف مؤامرات الأعداء فسوف نحصل على فائدتين:

الأولى: الدفاع عن أنفسنا مقابل ما يحاك ضدنا من المؤامرات والتعتيم والتشويه والتزوير الذي يتعرض له شيعة أهل البيت(عليهم السلام) وخاصة في العراق.الثانية: كسب الأنصار والمدافعين مما يؤدي إلى التغلب على الأعداء والأخذ بالحقوق المهدورة.

وبمجموع ما ذكر من طبع ونشر وإصدار وغيرها سيتكرس الوعي والثقافة في أبنائنا أولاً، ثم يمكن كسب الآخرين للتضامن معنا ثانياً؛ قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عمل بالحق غنم»(2).

ولا يخفى أثر الوعي والتثقيف في حياة الشعوب، فهو شيء واضح وملموس،

ص: 114


1- وكذلك بواسطة الفضائيات والإنترنت وغير ذلك من وسائل الإعلام المعروفة.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 574.

فإذا رأينا الشيعة قد اكتسبوا الرأي العام نعرف أن هذا حصيلة توجههم نحو الوعي والثقافة والتثقيف، وهذا ينعكس على أوضاعهم وحياتهم الشخصية أيضاً، حيث يتحول الجميع إلى كتلة من النشاط والتسلح بالثقافة الإسلامية، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأمة الإسلامية بكاملها فبالوعي والتثقيف يمكن التحول من الانحطاط والاستغلال والعبودية إلى العزة والتقدم والاستقلال، كما أرادها اللّه للأمة حيث قال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(1).

لمحة تاريخية

عندما نتطلع إلى التاريخ نرى أن: قبل بزوغ فجر الإسلام كانت عقليات الغاب وثقافة (الأنا) هي الحاكمة، وأعمالهم تتلخص في النهب والحرب والسرقة وشرب الخمر وتعاطي البغاء والتخلف الديني والفكري والاقتصادي و... .

فحال الناس قبل الإسلام كان كما يصفه أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه بعث محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) نذيراً للعالمين وأميناً على التنزيل وأنتم معشر العرب على شر دينوفي شر دار، منيخون بين حجارة خُشْن وحَيَّات صُم(2)، تشربون الكدر وتأكلون الجشب وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة»(3).

وقالت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(عليها السلام) وهي تخاطب المسلمين وتذكرهم الجاهلية: «وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ونهزة الطامع

ص: 115


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- وَصَف(عليه السلام) الحيّات بالصُّم لأنها أخبثها إذ لا تنزجر بالأصوات كأنها لا تسمع.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 26 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يصف العرب قبل البعثة ثم يصف حاله قبل البيعة له.

وقبسة العجلان وموطئ الأقدام تشربون الطرق وتقتاتون القدّ أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم اللّه تبارك وتعالى بمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) بعد اللتيا والتي»(1).

وقالت(عليها السلام) أيضاً: «ابتعثه اللّه إتماماً لأمره وعزيمةً على إمضاء حكمه وإنفاذاً لمقادير رحمته، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً للّه مع عرفانها، فأنار اللّه بأبي محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ظُلَمَها، وكشف عن القلوب بُهَمَها»(2).

أما بعد ظهور الإسلام وعلى أثر تحول الحياة الجاهلية إلى ثقافة ربانية رحمانية تسودها المحبة ونكران الذات وبثقافة: «فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك»(3). كما قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام): «يا علي، ما كرهتهلنفسك فاكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلاً في حكمك، مقسطاً في عدلك، محباً في أهل السماء، مودوداً في صدور أهل الأرض»(4). وكما جاء في وصية أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه الحسن(عليه السلام) حيث قال له: «فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك وأكره له ما تكره لها»(5).

نعم، حدث انقلاب واسع وعميق في ضمير الشعب وحياته، فلا خمر ولا

ص: 116


1- الاحتجاج 1: 100.
2- الاحتجاج 1: 99.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
4- تحف العقول: 14.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

فجور ولا مشاحنات ولا حروب تطحن الأخوة بعجلاتها، بل حروب دفاعية عن القيم والمبادئي أو لإنقاذ من بقي تحت الظلم من المستضعفين، وبذلك تمكن هؤلاء أن يشكلوا أكمل حضارة في التأريخ، لأنهم خرجوا من طوق الشهوات والعبودية والجهل، فصاروا أحراراً يعملون للعقيدة والمبدأ والإنسانية، وكل هذا بفضل الثقافة؛ لذا أصبح المسلمون أساس الحضارة في جميع أنحاء العالم، وهذا ما يلزم أن يعرفه الجميع ليستطيع أن يوجه الرأي العام إليه، ولكي لا يحاربوا الإسلام، بل حتى يدافعوا عنه أحياناً.

الإيثار

لقد رسّخ الإسلام صفة الإيثار في صفوف المسلمين، وظهر ذلك جلياً في أحداث وقصص كثيرة. روي أنه: جاء رجل إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلّا الماء، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من لهذا الرجل الليلة؟» فقال علي بن أبي طالب(عليه السلام): «أنا له يا رسول اللّه»، وأتى فاطمة(عليها السلام)، فقال: ما عندك يا ابنة رسول اللّه؟ فقالت: «ما عندناإلّا قوت الصبية، لكنا نؤثر ضيفنا»، فقال علي(عليه السلام): «يا ابنة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) نوّمي الصبية وأطفئي المصباح» فلما أصبح علي(عليه السلام) غدا على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فلم يبرح حتى أنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1)(2).

في إحدى الغزوات

وفي إحدى الغزوات صُرع نفر من أصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وكانت الحياة

ص: 117


1- سورة الحشر، الآية: 9.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 185.

باقية في أبدان بعض منهم، فأتي إلى واحد من المصروعين بما يشربه، كي لا يفارق هذه الدنيا عطشاناً، فأبى أن يشرب وقال: ناولوا الماء لهذا المصروع بجنبي، فلعله أشد عطشاً مني!

فأتوا بالماء إلى الثاني فأبى أن يشرب وقال: اسقوه لهذا المصروع بجنبي، فقال: لا أشرب وبقية المصروعين عطاشى، وأشار إليهم أن يعطوا الماء لمصروع آخر يعاني سكرات الموت، قائلاً: لعل عطشي يكون أقل من عطشه!

جاؤا بالماء إلى الثالث، فقال: إن فيّ رمق من الحياة؛ فقدموا لذلك الصريع بجنبي، فلعله أكثر عطشاً مني.

فذهب بالماء إلى الرابع... وإلى الخامس... وإلى السادس... وإلى السابع... وكلهم يمتنعون عن شرب الماء قبل أخيهم المصروع بجنبهم خوفاً من أن يكون أظمأ منهم ويحولون بالماء للآخر.

فلما وصل الماء إلى الصريع السابع حوّله إلى ذلك الصريع الأول، فجاؤوا بالماء إلى الأول فلقوه ميتاً، ثم أتوا به إلى الثاني فإذا هو ميت، وهكذا إلى الثالثوالرابع إلى السابع، فما وجدوا واحداً منهم حياً! وفارقت روحهم الدنيا عطشاً من دون أن يذوقوا الماء إيثاراً وإشفاقاً على إخوانهم المسلمين!!

هكذا كان المسلمون الأوائل حتى استطاعوا أن يتربعوا على الحكم العالمي في مدة قليلة وقليلة جداً، وهم قلة أيضاً، وذلك ببركة التوجيهات الإسلامية والتعاليم الربانية التي طبقوها على حياتهم العملية، فلماذا أصبحنا مستعمَرين ضعفاء أذلاء، رغم كثرة عددنا؟ إنه ليس إلّا من ترك التعاليم الإسلامية كلها من الإيثار وغيره، مضافاً إلى تفشي العداء والبغضاء بين المسلمين بعضهم مع البعض الآخر.

ولِمَ هذا الشحناء والتقاذف؟ لأن فلاناً أصبح أكثر شهرة مني، وفلاناً لم يمض

ص: 118

على رأيي، وفلاناً لم يتجه نحوي، وهكذا.

في غزوة تبوك

روى حذيفة بن عدي: أنه في غزوة تبوك هلك بعض العسكر من غلبة العطش، وإني أخذت ماءً فطلبت ابن عمي فوجدته لم يبق له من العطش إلّا نفس، فعرضت عليه الماء. فقال: أبلغه إلى هشام واسقه. فدنوت منه وعرضت عليه الماء فأحاله إلى آخر وقال: أسقه. فلما دنوت من الثالث وجدته قد فارق روحه عطشاً، فرجعت إلى هشام لأسقيه فرأيته قد مات عطشاً، فرجعت على ابن عمي فوجدته مضى من الدنيا عطشاً.

نموذج من الإيثار

ويحكى أنّ رجلاً يضرب به المثل في الجود والكرم والإيثار وهو كعب الأيادي خرج مع قافلة تريد إحدى المدن البعيدة عن بلدهم، وكان ذلك في حر الصيف فضلوا الطريق، فلقيهم في أثناء الطريق رجل من بني النمر بن قاسط فصحبهم، فشحّ ماؤهم فكانوا يقتسمون الماء بينهم بحصص معينة، وذلك أنيطرح حصاة، ثم يصب فيه من الماء بقدر ما يغمر الحصاة، فيشرب كل واحد منهم قدر ما يشرب الآخر.

ولما نزلوا للشرب ودار القدح بينهم حتى انتهى إلى كعب، رأى أن الذي صحبهم أثناء الطريق قد أخذ يُحد النظر إليه، فآثره على نفسه وقال للساقي: إسقِ أخاك النمري، فشرب نصيب كعب من الماء ذلك اليوم! ثم نزلوا من الغد منزلهم الآخر، فاقتسموا ماءهم كما فعلوا بالمرات الأولى، فنظر إليه النمري كنظرة أمس، وقال كعب كقوله بالأمس: إسقِ أخاك النمري، ثم ارتحل القوم، وأما كعب فقد وقع إلى الأرض من شدة العطش والضعف، فالتفت إليه أقرانه وقالوا: يا كعب ارتحل، فلم يكن له قوة للنهوض، وكانوا قد قربوا من الماء فقالوا له: رد يا كعب،

ص: 119

إنك وارد، فعجز عن الجواب.

ولما أيسوا منه خيَّموا عليه بثوب يمنعه من السبع أن يأكله وتركوه مكانه وذهبوا إلى الماء وشربوا وارتووا ثم أخذوا الماء إلى كعب فلما وصلوا إليه وجدوه ميتاً(1).

أثر الإسلام

روي أنه كان هناك شاب من إحدى القبائل القاطنة في أطراف المدينة المنورة، مات أبوه وكان رئيس القبيلة، وتولى الرئاسة من بعد أبيه عمه، الذي كانت له بنت جميلة وثروة عريضة وزعامة على القبيلة.

وهذا الشاب كان مرشحاً لأن يكون زوجاً للفتاة وفي حالة وفاة عمه يرث الزعامة والمال والمكانة الاجتماعية المميزة.

كان يذهب هذا الفتى إلى المدينة المنورة كل شهر لأجل شراء ما تحتاجه القبيلة، وذات مرة وأثناء جولته في المدينة رأى رجلاً يخطب على مجموعة منالناس في ساحة تحيط بها أربعة جدران واطئة. وقف يستمع فجذبته الخطبة، فسأل رجلاً: من الخطيب ومن المستمعون؟ أجابه الرجل: الخطيب هو محمد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والجالسون هم المسلمون، وهذه المحوطة مسجد بناه المسلمون.

رجع الشاب إلى قبيلته وفي الشهر القادم، عاد إلى المدينة للاكتيال، وذهب إلى المسجد للاستماع وتكرر حضوره لعدة مرات، وكان يحس بأنه ينجذب أكثر فأكثر نحو هذا الرسول الجديد.

وفي أحد الأيام خاطب عمّه قائلاً: يا عم، لماذا نشتري كل شهر مرة فلنشتر كل أسبوع مرة حتى تكون البضائع والمواد التي نشتريها جديدة!! فقبل العم.

ص: 120


1- انظر: خزانة الأدب 8: 402.

وهكذا أصبح باستطاعة الشاب أن يستمع إلى الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) كل أسبوع مرة واحدة، وبعد مدة أسلم الشاب وجاء إلى عمه قائلاً: يا عم! قد أسلمت.

قال العم: أصبوت إلى دين محمد؟!

قال: إن دين محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) هو الإسلام لا انحراف فيه.

قال العم: يا بني لو أصررت على إسلامك فلن أزوجك ابنتي.

فأجابه الشاب: هذا هيّن، لا رغبة لي في النساء.

قال له العم: وسوف أمنعك من دخول بيتي.

أجابه الشاب: إن ذلك سهل فأرض اللّه واسعة.

قال له العم: سأحرمك من الثروة.

أجابه: إن الثروة مال فانٍ وزائل.

فقال: ستحرم عن رئاسة القبيلة.

أجابه: إنني لا أريد الزعامة.

فقال العم: يجب عليك أن تنفصل عن قبيلتنا. أجابه: سوف أخرج.

قال العم: وعليك أن تنزع كل ملابسك وتعطيها لي.

أجابه: لا بأس.

فنزع عمه القاسي كل ملابسه وتركه عارياً، لما رأته أمه عارياً حنّت عليه وأعطته فراشاً، شقّه نصفين وجعله إزاراً ومئزراً لبسهما ثم اتجه نحو المدينة ووصلها ليلاً - وليس معه أي شيء - واتجه نحو المسجد ونام الليل فيه، وعندما جاء رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ليصلي صلاة الصبح رأى شاباً نائماً، فسأله: من أنت؟

فذكر له الشاب اسمه الجاهلي(1)، فقال له الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): إن اسمك عبد

ص: 121


1- وكان اسمه الجاهلي عبد العزى.

اللّه ذو البجادين(1)، وبدأ الشاب يأتمر بأوامر الإسلام فكان من الصالحين وكان يشارك في الغزوات دفاعاً عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حتى استشهد في إحدى المعارك(2).

الثقافة سبب التغيير

ما الذي غيّر شخصية عبد اللّه (ذي البجادين) وأحدث انقلاباً في ضميره؟

إن الذي تغير في هذا الشاب هو ثقافته، وكان سبب تغيير ثقافته هو حديث الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) للمسلمين في المسجد، ففي ذلك الوقت كانت المساجد والخطباء أكبر وسيلة لكسب الرأي العام والتأثير عليه، أما في وقتنا الحاضر فتوجد وسائل حديثة أخرى بالإضافة إلى المسجد والمنبر، وهي طباعة الكتب والصحف والمجلات ونشرها، والقنوات الفضائية والإنترنت وأمثالها.

فالتغيير الثقافي يسبب تغيير المناهج العملية والمناهج السياسية والاجتماعيةلدى الناس، وهذه هي آثار الثقافة.

وإحدى الخطوات المهمة في طريق التغيير وكسب الرأي العام هي طبع ألف مليون كتاب توعوي في مختلف النواحي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وزراعياً ومعاملياً وتربوياً، وفي مجال الحريات والشورى إلى غير ذلك من الأمور التي تهم المسلمين وترتبط بمصيرهم ومستقبلهم، وتوزيعها في سائر بلاد المسلمين لتثقف أبناءنا أولاً(3).

ص: 122


1- البِجاد: كساء مخطط من أكسية الأعراب، وقيل: إذا غزل الصوف بسرة ونسج بالصيصة، فهو بجاد والجمع بُجُد، لسان العرب 3: 77، مادة (بجد).
2- نقل المرحوم المجلسي في بحار الأنوار 21: 250، أنه توفي على أثر الحمّى في تبوك.
3- للتفصيل انظر: (الكتاب من لوازم الحياة)، و(الكتاب دعامة الحياة)، و(دور الكتابة في الحياة)، و(ثلاثة مليارات من الكتب)، وغيرها من مؤلفات الإمام الشيرازي(رحمه الله) التي يحث ويؤكد فيها على كتابة وطبع ونشر المعارف والعلوم الاسلامية، ونشر الثقافة الإسلامية الحقيقية.

وإن الخطوة المهمة الأخرى في مجالات التغيير أن يعرف المسلم العربي أنه أخ للمسلم الهندي والفارسي والتركي وينصره ويدعمه و...، كما جعل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وأبا ذر العربي، أخوة لا يمتاز أحدهم على الآخر إلّا بالتقوى، فاللغة واللون والقوميات والجغرافيات ليست هي المقاييس السليمة، وليست سبباً لأفضلية هذا على ذاك. فإذا استطعنا صنع ذلك كله نستطيع أن نصنع من المسلمين صفاً واحداً متراصاً يسعى نحو خلاص جميع المسلمين. وحينئذ نقول: إننا خطونا خطوة مؤثرة في كسب الرأي العام الداخلي، والوقوف أمام المؤامرات الاستعمارية والدفاع عن النفس، ثم نعمل للتأثير على الرأي العام العالمي حتى نتمكن من الوصول إلى الأهداف السامية في العراق، وغير العراق من سائر البلاد الإسلامية.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تُعزّ بها الإسلامَ وأهلَه، وتُذلّ بها النفاقَ وأهلَه، وتجعلنا فيها من الدُعاة إلى طاعتك، والقادةِ إلى سبيلك، وترزقنا بهاكرامةَ الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

مجانبة الاستبداد بالرأي

قال تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُواْ وَتَرَىٰهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ

ص: 123


1- الكافي 3: 424.
2- سورة الأعراف، الآية: 198- 199.

وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٖ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَٰمِلُونَ}(3).

ترك المداهنة في الدين

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَلَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(4).

وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٖ مَّهِينٍ * هَمَّازٖ مَّشَّاءِ بِنَمِيمٖ * مَّنَّاعٖ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلِّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٖ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ}(5).

وقال تبارك وتعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُ

ص: 124


1- سورة البقرة، الآية: 204-207.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة فصلت، الآية: 5.
4- سورة المائدة، الآية: 54.
5- سورة القلم، الآية: 7- 15.

فُرُطًا}(1).

التوعية الدينية

قال عزّ وجلّ: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).

وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

عدم الاستبداد والتفرد بالرأي

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا رأي لمن انفرد برأيه»(5).وقال(عليه السلام): «من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها»(6).

وقال(عليه السلام): «خاطر بنفسه من استغنى برأيه»(7).

وقال(عليه السلام): «ومن استغنى بعقله زل»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل»(9).

ص: 125


1- سورة الكهف، الآية: 28.
2- سورة النحل، الآية: 125.
3- سورة الزمر، الآية: 9.
4- سورة المجادلة، الآية: 11.
5- كنز الفوائد 1: 367.
6- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 161.
7- الأمالي للشيخ الصدوق: 447.
8- الكافي 8: 19.
9- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 112.

البيان والقدرة على الدفاع عن الحق

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألّا يكون في حديثك فضل عن عملك(1) وأن تتقي اللّه في حديث غيرك»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «الروح عماد الدين، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم»(3).

وعن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إن الناس يعيبون عليّ بالكلام، وأنا أكلم الناس.

فقال(عليه السلام): «أما مثلك من يقع ثم يطير فنعم، وأما من يقع ثم لا يطير فلا»(4).وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن اللّه عزّ وجلّ فقد عبد اللّه، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»(5).

ترك المداهنة في الدين

من وصية رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى أبي ذر(رحمه الله) قال: «... وأوصاني أن لا أخاف في اللّه لومة لائم»(6).

وفيما كتب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لمحمد بن أبي بكر: «أوصيك بسبع هن

ص: 126


1- أي لا تقول أزيد مما تفعل.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 458.
3- الاختصاص: 245.
4- رجال الكشي: 319.
5- الكافي 6: 434.
6- الخصال 2: 345.

من جوامع الإسلام: تخشى اللّه عزّ وجلّ ولا تخش الناس في اللّه - إلى أن قال: - ولا تخف في اللّه لومة لائم»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أحدَّ سنان الغضب للّه، قوي على قتل أشداء الباطل»(2).

وعنه(عليه السلام): «لا يأخذنكم في اللّه لومة لائم يكفكم اللّه من أرادكم وبغى عليكم...»(3).

العلم أصل كل خير

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «العلم رأس الخير كله، والجهل رأس الشر كله»(4).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم أصل كل خير»(5).

وقال(عليه السلام): «الجهل أصل كل شر»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العلم أصل كل حال سني، ومنتهى كل منزلة رفيعة»(7).

الرأي والعزيمة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «على قدر الرأي تكون العزيمة»(8).

ص: 127


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 30.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 174.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 523.
4- بحار الأنوار 74: 175.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 48.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 48.
7- مصباح الشريعة: 13.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 451.

وقال(عليه السلام): «شاور قبل أن تعزم، وفكّر قبل أن تقدم»(1).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام): «لا يعرف الرأي إلّا عند الغضب»(2).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «من أحجم عن الرأي وعييت به الحيل كان الرفق مفتاحه»(3).

فضيلة الجماعة وكسب الآراء

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «سُئل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عن جماعة أمته؟ فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): جماعة أمتي أهل الحق وإن قلّوا»(4).

وقال(عليه السلام): «صدقة يحبها اللّه، إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهمإذا تباعدوا»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشركة في الرأي تؤدي إلى الصواب»(6).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إنما جعلت الجماعة لئلا يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة للّه إلّا ظاهراً مكشوفاً مشهوراً، لأن في إظهاره حجة على أهل الشرق والغرب للّه وحده»(7).

الجماعة خير ورحمة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير

ص: 128


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 413.
2- العدد القوية: 37.
3- أعلام الدين: 298.
4- معاني الأخبار: 154.
5- الكافي 2: 209.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 107.
7- وسائل الشيعة 2: 287.

من ثلاثة، فعليكم بالجماعة»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الاجتماع رحمة والفرقة عذاب»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع اللّه ربقة الإسلام عن عنقه»(3).

وقال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «... والزموا السواد الأعظم، فإن يد اللّه مع الجماعة، وإياكم والفرقة...»(4).

ص: 129


1- نهج الفصاحة: 165.
2- إرشاد القلوب 2: 335.
3- عوالي اللئالي 1: 281.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127 من كلام له(عليه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين.

الرأي العام وسبل توجيهه

الرأي العام في التاريخ

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «إضْربوا بَعْض الرأي ببعضٍ يتولَّد منه الصّواب»(1).

المتفحِّص لتاريخ الشعوب، يجد بأنّ للرأي العام تأثيراً كبيراً في مدى استقلالها وحريتها، حيث إنّ أغلب شعوب العالم مرّت بظروف قاسية، وامتحانات واختبارات كثيرة، فبعضها اجتاز هذه الاختبارات، وتخطى الصعوبات بنجاح باهر، والبعض الآخر كانت نسبة نجاحه أقلّ، وبعضها فشل فشلاً ذريعاً. وإذا راجعنا الأُمور وتحرينا الأسباب، فسوف نجد للرأي العام تأثيراً بالغاً في مثل هذه النتائج، بل هو الذي يحدد هذا التأثير أحياناً كثيرة.

فالشعب الذي يريد أن يعيش بحريّة وأمان واستقرار، يلزمه أن يوحّد آراءه، ويحدد برنامج عمله بصورة جيدة، فإذا استطاع توحيد الرأي العام، ونشر الوعي بين الأفراد، فعند ذلك يصبح الرأي العام كالسيل الجارف، الذي لا يقف أمامه شيء من أشكال القوة والظلم، بل يكتسح كثيراً من الصعوبات التي تقف أمامه بفعل التجارب.

والتاريخ يذكر لنا من هذه النماذج الشيء الكثير، فالشعب الجزائري عندما

ص: 130


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 158.

أراد الحرية حشّد الرأي العام، وقام قادة الحركات بتوعية واسعة داخل المجتمع، ووضعوا خطة منظمة للعمل، وعند ذلك قاموا بالثورة، فلم تستطع فرنسا بقوتها في ذلك الوقت أن تقف أمام الشعب، واختارت الانسحاب بعد تكبُّدها خسائر فادحة.

وغاندي أيضاً استطاع أن يوحد الرأي العام في الهند، ووقف بوجه أكبر امبراطورية في عهده، إلى أن نال الشعب الهندي استقلاله وحريته من بريطانيا العظمى، التي كانت تحكم الهند ثلاثمائة سنة.

ومن التجارب الأُخرى ثورة العشرين التي قام بها الشعب العراقي بقيادة الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه الله)، بوجه الإنكليز، والتي كانت سبباً في اخراجهم من العراق، وهنالك شواهد كثيرة على تأثير الرأي العام في تحرير وحرية الشعوب، فلولا تكاتف الشعب الجزائري، وتحشيد الرأي العام في البلاد، لما تمكّن الشعب الجزائري من التغلب على الفرنسيين، وكذلك الهند والعراق وغيرها من البلدان، التي طردت الاستعمار، فالتكاتف وتوجيه الرأي العام بالشكل المطلوب سبب لها بلوغ مسعاها.وفي هذا قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «الشركة في الرأي تؤدي إلى الصواب»(1)، وفي الطرف المقابل تجد أنّ الشعوب التي ظلَّت ترزح تحت الاستعمار، أو تسلّط حكام ظالمين عليها، أغلب هذه الحالات حصلت غالباً نتيجة لعدم تكاتف الرأي العام وتفرقته، بحيث أتاح الفرصة للاستعمار وعملائه للسيطرة على مصير هذه الشعوب. فلو تكاتفت هذه الشعوب واتحدت لما سيطر عليهم الاستعمار، وما تسلط نظام البعث الصدامي في العراق، ولما وُجدت اسرائيل في قلب الأُمة الإسلامية، ولما تسلط الحكام

ص: 131


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 107.

المستبدين على مقدرات المسلمين هنا وهناك.

فعلينا والحال هذه أن نستفيد من عبر وتجارب الشعوب على مرّ التاريخ، وفيما نعيشها في الوقت الحاضر، ونعمل على توجيه الرأي العام في منطقتنا الإسلامية وتوحيده، بنشر الوعي بين الجماهير، ونستعد لمقاومة الاستبداد والظلم ورموزهما وطردها من بلادنا، فعند ذلك لا تستطيع أيّةُ قوة الوقوف بوجهنا، وسوف نحطم جميع القيود التي فرضها علينا الاستعمار نتيجة تفرقتنا وتشتتنا لنكون مصداق الحديث الوارد عن الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن المؤمنين في إيثارهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى تداعى سائره بالسهر»(1). وهذا هو مفتاح الفلاح والنصر.

قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...}(2).

فهذه الآية الكريمة تحثّ الناس على الاتحاد وعدم التفرقة، لأنّ في ذلك سرّ قوتهم ومنعتهم، وتنهاهم عن التنازع والاختلاف فيما بينهم، لأنّ في التنازع والاختلاف يحصل الضعف، وعند ذلك يطمع الأعداء في غزوهم والانقضاض عليهم، {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} في بعض التفاسير: تذهب قوتكم وصولتكم، وفي تفسير البعض الآخر تذهب دولتكم. والريح هنا كناية عن نفاذ الأمر(3).

وخلاصة تفسير هذه الآية الشريفة هو الحثّ على التعاون وعدم التنازع.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في احدى خطبه: «إنّ الشيطان يُسَنِّي(4) لكم طُرقه، ويريد أن يَحُلَّ دينكم عقدة عقدة، ويُعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة

ص: 132


1- أعلام الدين: 440.
2- سورة الأنفال، الآية: 46.
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 476.
4- يُسَنّي: يسهل.

الفتنة. فاصدفوا عن نزعاته(1) ونفثاته»(2).

وقال (صلوات اللّه وسلامه عليه): «أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرءوا القرآن فأحكموه وهيجوا إلى الجهاد، فَولهوا وَلَهَ اللقاح(3) إلى أولادها...»(4).

وقال(عليه السلام): «فلقد كنا مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وإن القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات، فما نزداد على كل مصيبة وشدةٍ إلّا إيماناً ومضياً على الحق، وتسليماً للأمر، وصبراً على مضض الجراح، ولكنا أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام، على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج، والشبهة والتأويل»(5).

الرأي العام وأقسامه

اشارة

للرأي العام معاني عديدة أقربها:

هو موقف جماعة من الناس تجاه قضية معينة، سلباً أو إيجاباً، كانتخاب رئيس دولة، أو مجلس استشاري، أو تجاه مشكلة ما؛ كالفقر أو الاستبداد، أو حادثة ما كالكوارث الطبيعية، أو البشرية كالحروب وغيرها.

والرأي العام على قسمين:

1- رأيٌ عام هادف وسليم إيجابي.

2- رأي عام فوضوي سلبيوكلا القسمين نتاج جملة من الأسباب والمسببات، نشير إلى بعضها هنا

ص: 133


1- فاصدفوا: فأعرضوا، نزعاته: وساوسه.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 121، ومن خطبة له(عليه السلام) بعد ليلة الهرير... .
3- اللِّقاح: جمع لقوح وهي الناقة، وولهها إلى أولادها: فزعها إليها إذا فارقتها.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 121، ومن خطبة له(عليه السلام) بعد ليلة الهرير... .
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 122، ومن كلام له(عليه السلام) قاله للخوارج... .

باختصار.

الرأي العام الهادف

هذا الرأي هو نتاج عاملين مهمين: الوعي والتنظيم، متى ما وجدا في المجتمع كان الرأي العام في هذا المجتمع هادفاً وسليماً، فالمجتمعات الواعية المنظمة إذا أُريد رأيها في مسألة ما كانتخاب مجلس شورى، أو حتى انتخاب مدير مؤسسة مثلاً، فإن هذا الرأي يكون غالباً موفّقاً ومطابقاً لما ينبغي.

ولكن السؤال الذي يطرح هنا هو:

كيف يمكن أن نحصل على رأي هادف وسليم؟

لايجاد رأي عام هادف وسليم، لا بد من توفر جملة من العوامل منها: إرشاد وتوجيه الناس إلى كافة الأمور التي يعيشونها، أو التي تُحيط بهم، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وذلك عبر العلماء والمثقفين، الذين لهم اطّلاع في هذه الأمور، فكلُّ مجتمع عبارةٌ عن خليط من الطبقات والأفكار والمعتقدات، ومهمة العالم والمثقف صياغة المجتمع صياغة جيدة، بحيث يحاول أن يرفع من مستوى الطبقات المتردية فكرياً واقتصادياً وما إلى ذلك، وفي نفس الوقت يحافظ أو يرفع من مستوى الطبقات العالية والمتوسطة، ولا يتم ذلك إلّا بعمل جملة من الأُمور من باب المقدمة لهذا العمل، منها:

أولاً: دراسة المجتمع دراسة موضوعية، ودراسة الأفكار التي يعتنقها المجتمع، ودراسة الحالة العامة للمجتمع - اقتصادية، سياسية، اجتماعية - ودراسة التيارات الفكرية المعاصرة وما إلى ذلك.

ثانياً: تشجيع وتحفيز كلّ العوامل الإيجابية في المجتمع، وتقويم وتصحيح السلبيات فيه.

ثالثاً: إعداد خطة متكاملة لهذه المهمة، متكونة من الكوادر الكفوءة،

ص: 134

والوسائل المتطورة، وتكون الكلمة الحجر الأساسي في نجاح هذه المهمة، فالكلمة الهادفة سواءُ كانت نابعة من قلم كاتب، أو فم خطيب، أو من جهاز مرئي أو مسموع، أو عن أي طريق كان، تُعدّ مصدراً هاماً لإزالة العديد من عوامل التخلف في المجتمع، وغرس عوامل التطور والازدهار محلها ومتى ما توصلنا إلى ذلك، فيمكن حينئذ أن نحصل على رأي عام هادف وسليم.

الإعلام والرأي العام

الإعلام في اللغة: هو الإخبار، أمّا اصطلاحاً فله عدة تعاريف منها:

أنّه أسلوب منظم، يستخدم للتأثير على جهة ما، في سبيل زرع أو دعم أو إزالة فكرة أو عمل ما.

أو أنّه الأُسلوب الذي يُحرّك مشاعر التفكير، ومكامن الإحساس للإنسان، ويهزّ الشعور العاطفي والنفسي، بقوة تتناسب مع قوة التأثير، وعظمة الدعوة. ومما لا شكّ فيه أنّ للإعلام دوراً فعّالاً في صناعة الرأي العام، خصوصاً في عالمنا اليوم، حيث يحتل أهمية بالغة، ويعدّ أحد المرتكزات الأساسية في صناعة القرار والتحكم في آراء الناس وكسب عواطفهم؛ لذا نجد أغلب الدول المتطورة، وكذلك المؤسسات والمكاتب الكبيرة قد أولته أهمية كبيرة وخصصت له ميزانية ضخمة، فأهمية الإعلام في التأثير على الرأي العام هي التي جعلت هذه الدول والمؤسسات تهتم به.

وغرض الإعلام بصورة رئيسية إمّا زرع فكرة ما في عقول الناس، أو إزالة فكرة ما من عقولهم، أو دعم وتعزيز فكرة ما موجودة أصلاً في المجتمع.

والإعلام تارة يكون هادفاً، وتارة يكون مغرضاً. فالهادف منه غالباً ما يصنع رأياً عاماً واعياً، لا يقبل الخضوع للظلم، ولا تنطلي عليه المكائد والمؤامرات،ويجعل الطريق أمام الفرد والمجتمع واضحاً وجلياً، مما يسهل عليه اختيار ما

ص: 135

ينبغي اختياره واجتناب ما ينبغي اجتنابه.

أمّا الإعلام المغرض فغالباً ما يصنع رأياً عاماً متفككاً ومهزوزاً، نتيجة للأفكار المشوشة وغير الصحيحة التي ينقلها، فإذا تأثر المجتمع بها، وتطبع عليها، فإنه بلا شك سوف يعمّه الجهل والتخلف، وهذا هو هدف الإعلام المغرض بصورة رئيسية - صناعة مجتمع متخلف جاهل - حتى يسهل له الاختراق وتسميم الأفكار.

ونتيجةً للتخلف والجهل الفكري الذي يَعُمُّ طبقة كبيرة من المجتمعات في عالم اليوم، وكذلك لاتساع نطاق الإعلام المغرض من قبل بعض المؤسسات العالمية، أصبح بمجرد سماع كلمة (إعلام) يتبادر إلى ذهن الكثيرين الجانب السلبي للإعلام ولكن في الحقيقة، كما أنّ الإعلام يعد أداة بيد الدول الاستكبارية والظلمة والمتسلطين في سبيل مصالحهم لتضليل الناس وخداعهم، فإنه كذلك يمكن أن يوظف في سبيل خدمة الناس وتوجيههم.

الإعلام الهادف

تتدخل في صناعة الإعلام الهادف والسليم عدة عوامل، منها على سبيل الأهمية لا الحصر:

1- الفكرة السليمة.

2- الأسلوب الأمثل.

3- الوسيلة الجيدة.

ومتى ما تحققت هذه العوامل الثلاث، وكانت في المستوى المطلوب، استطاع الإعلام أن يكوّن رأياً عامّاً واعياً، ونشير هنا إلى هذه العوامل بإيجاز:

أولاً: الفكرة السليمة: كلّ عمل سليم يقوم به الإنسان يجب أن يكون وراءهفكرةٌ سليمة، حتى يكون ناجحاً ومثمراً، فالإعلام إذا أُريد أن يكون في المستوى

ص: 136

المطلوب، فيجب أن يعبّر عن فكرة سليمة ويكون هدفه نبيلاً.

ثانياً: الأُسلوب الأمثل: قال تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...}(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنّا معاشر الأنبياء أمُرنا أن نكلِّم الناس على قدر عقولهم»(2).

فهذه الآية الشريفة، وقول الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، حدّدت لنا الأُسس الصحيحة في كيفية التعامل مع الناس، فكما أنّ للفكرة أهمية في نجاح مهمة الإعلام، فكذلك الأُسلوب الجيد، فيجب على مَن يتولى مهمة الإعلام أن تكون له دراية كافية في كيفية مخاطبة الناس وإقناعهم.

وإنّ هناك الكثير ممّن يحمل أفكاراً جيدة وسليمة، ولكن أُسلوبهم في التعامل مع الآخرين لا ينسجم مع الناس، فغالباً يكون مصيرهم الفشل، وهذا من أهم الأخطار التي غزت عالمنا الإسلامي اليوم، فبعض القائمين على مؤسسات الإعلام في عالمنا الإسلامي يحملون أفكاراً جيدة، ولكن لا يملكون الأُسلوب المناسب في التعامل، مما يقودهم إلى الفشل في مهمتهم.

ثالثاً: الوسيلة الجيدة: مرت الوسائل التي تستخدم كآلة لنشر الاعلام بمراحل مختلفة من عصر إلى آخر، ففي العصور الماضية، وإلى وقت قريب، كان يقع على الإنسان منفرداً مهمة الإعلام، أمّا في عصرنا هذا، عصر التطور الصناعيونتيجة للطفرة العلمية التي حققها العالم، فإنّ الأجهزة الإلكترونية الحديثة والأقمار الصناعية، وكذلك النشرات الإعلامية والصحف، ساهم كلّ ذلك في

ص: 137


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- الكافي 1: 23.

رفع مستوى الإعلام وتطوره، وقد جاء في بعض الإحصائيات(1) یعن الصحف والصحافة بالأرقام: أنّ عدد الصحف في العالم سنة (1966م) بلغ (30) ألف صحيفة، وفي سنة (1968م) بلغت (50) ألف صحيفة، منها 8 آلاف يومية، تطبع (250) مليون نسخة.

هذا في الستينات أمّا اليوم فالتطور الإعلامي تضاعف أضعافاً كثيرة، وخصوصاً في العالم المتطور، والذي يهمّنا هنا من هذا الكلام وهذه الإحصائيات، هو جواب هذا التساؤل:

أين يقع إعلامنا الإسلامي من هذا التطور الإعلامي الكبير؟

ولا شك أنّ إعلامنا الإسلامي تطور عما كان عليه سابقاً، وهذا شيء طبيعي نتيجة للتطور العلمي، ولكن لم يصل بعد إلى المستوى المطلوب، رغم أننا نحمل فكراً وعقيدة سليمة، وعلّمنا القرآن والسنّة باتباع الأسلوب الأمثل، ولكن رغم هذا وذاك لم نصل إلى المستوى المطلوب، نتيجة لتعثر بعض القائمين على الإعلام، وتخبطهم وتأثرهم بالأفكار الغربية، وتخليهم عن التعاليم الإسلامية، مما قاد إلى تأخر إعلامنا عن الإعلام العالمي، وبالتالي تأثر الرأي العام في بلادنا بالأفكار التضليلية، التي تبثّها وسائل الإعلام المعادية.

الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) والرأي العام

عن بكر بن كرب قال: كنا عند أبي عبد اللّه(عليه السلام)، فسمعناه يقول: «أما واللّه،عندنا ما لا نحتاج إلى الناس، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا...»(2).

ومن الواضح أنّ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وآل بيته الأطهار عليهم أفضل الصلاة

ص: 138


1- إحصائية اليونسكو لعام 1966 عن مجلة النبراس: ص45 العدد الأول.
2- بصائر الدرجات 1: 142.

والسلام، لا يحتاجون إلى أقوال الناس وآرائهم، لأنهم معصومون مسددون بالغيب، ولكن جميع الأعمال والأقوال التي اعتمدوا بها على الرأي العام هي من باب التعليم والتسديد للناس. وما دام النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) والمعصومون(عليهم السلام) أنفسهم يولون أهمية للرأي العام، ولا يتجاوزونه في كثير من الأعمال، فمن الأولى أن يأخذ الإنسان العادي بالرأي العام ويعتمد عليه، ففي غزوة تبوك مثلاً، وعند رجوع الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) من الغزوة، كَمَن له نفر من المنافقين في العقبة ليفتكوا به(صلی الله عليه وآله وسلم)، فأخبره اللّه تعالى، عن طريق جبرئيل، بما يكنّه المنافقون له، فقبض عليهم ولم يقتلهم(1). وجاء في بعض كتب الأخبار في سبب نزول قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}(2)، قيل: نزلت في اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا للرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) في العقبة لما رجع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبرئيل(عليه السلام) رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بما قدروا، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحاهم، فلما نزل قال: «يا حذيفة من عرفت من القوم؟» قال: لم أعرف منهم أحداً، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فإنه فلان وفلان، حتى عدهم كلهم».فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «أكره أن تقول العرب لما ظفر محمد بأصحابه أقبل يقتلهم...»(3).

انظر إلى قول رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أكره أن تقول العرب...» فهنا رغم استحقاق

ص: 139


1- انظر: الصراط المستقيم 3: 44.
2- سورة التوبة، الآية: 64.
3- عمدة عيون صحاح الأخبار: 340.

هؤلاء المنافقين للقتل، فإنه(صلی الله عليه وآله وسلم) لم يقتلهم، وذلك لعدة أسباب من ضمنها عدم إثارة الرأي العام ضد المسلمين، فعندما يقدم الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) على قتل هؤلاء، فربما يتبادر إلى أذهان بعض الناس بأنّ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما ظفر واستقرّ له الأمر أعمل السيف بأصحابه، وهذا ما لا يرتضيه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

فالرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) بعظمته وقدرته لا يعاقب هؤلاء، لأنّه قدّم الأهم وهو وحدة الصف الإسلامي على المهم، وهو معاقبة هؤلاء المنافقين المعاندين.

أخذ البيعة لأمير المؤمنين(عليه السلام)

كانت الأوامر التي تنزل على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) على قسمين بعضٌ منها فوري، والبعض الآخر غير فوري فمثلاً: كان أخذ البيعة لأمير المؤمنين(عليه السلام) بالشكل الذي تم في غدير خم أمراً يحتاج إلى تهيئة مقدمات؛ إذ كان على الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يُمهِّد له على مدى (23) سنة؛ لأن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان قد خاف على الدين من ظهور الفتنة، وانشقاق الناس؛ لذا نرى أنّ رسول اللّه لم يتعجل بذلك وإن كان قد أعلن ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) منذ بدايات الدعوة الإسلامية، حتى ذلك اليوم الحساس والمصيري، حيث نزل جبرئيل على رسول اللّه، وقال له: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1).

وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) - قبل ذلك - كلما ذهب إلى مكان اصطحب معه عدداً من أصحابه ليرافقوه، ولكنه بعد هذه الآية الشريفة {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، قال لأصحابه: لا حاجة لي بعد الآن إلى حماية، وما تأخر الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) عن أخذ البيعة العامة للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، إلّا لكي يحشد آراء الناس ويهيأ نفوسهم

ص: 140


1- سورة المائدة، الآية: 67.

لهذا الأمر العظيم ويضمن للإمام(عليه السلام) الرأي العام.

فمهّد لذلك طيلة (23) سنة.

الرأسمالية والرأي العام

أمّا المذاهب والاتجاهات التي تجعل المادة هي الشعار الرئيسي لها، فإنها تحقق الربح والمكاسب للأقلية؛ لأنّ المستفيدين فيها هم أصحاب رؤوس الأموال ومن الأقلية، أما الغالبية من الشعب فهم رعايا وأتباع، ولا تراعى حقوقهم، والتي من ضمنها الحرية في الرأي والاتجاه.

ومنها الرأسمالية التي تعتمد اعتماد كلياً على المادة، وتجعلها هي المحرك الرئيسي لجميع قضاياها، فمن الواضح أنّ حقوق الأكثرية فيها مغتصبة ومهدورة، وربّ سائل يسأل ويقول:

إذن لماذا نلاحظ في البلدان الرأسمالية مثل أمريكا ومعظم الدول الغربية توجد فيها حرية الانتخاب وإبداء الرأي، وحرية المأكل والملبس وما إلى ذلك؟

فالجواب عليه: إنّ أصحاب القرار في هذه البلدان هم أصحاب رؤوس المال، وهم المسيطرون على إدارة الانتخابات في بلدانهم، وغالباً ما تكون هذه الانتخابات مزيفة، حيث أنّ للمال تأثيراً بالغاً في الحصول على المناصب والحقائب الإدارية، وأنّ أصحاب المال يجمعون حول أنفسهم جماعات كثيرة، ويسّخرون وسائل الإعلام، ويشترون أصحاب الضمائر الرخيصة؛ وبذلك يكونالحكم بيد من يريده رأسُ المال، لا بيد من يريده الشعب.

فالمجتمع الرأسمالي مقسّم إلى طبقتين طبقة غنية، وهي التي تملك كلّ شيء من سلطة واقتصاد وإدارة وما إلى ذلك، وهي أقليّة، وطبقة أُخرى مسحوقة وفقيرة، لا تملك كثيراً من مستلزمات الحياة، وليس لها رأي، وهي الأغلبية.

وقد ركزت الطبقة الغنية على موضوع الانتخابات وصبغتها بصبغة ديمقراطية

ص: 141

ظاهرياً، وصادرت على أثرها حقوق الأغلبية، وانتشر الفقر والمرض في هذه البلدان، مقابل الغنى والسعادة والسيادة التي انحصرت في نفر قليل من الشعب، فأوجدت هذه السياسة المغلوطة في كثير من البلدان الرأسمالية، تطرّفاً مزرياً من الجهتين: رجل يستحوذ على الملايين، وقد يصل مجمل أرباحه إلى المليون دولار في اليوم، وفي المقابل يوجد من يتقاضى راتباً شهرياً قدره (150) سنتاً، وكذلك يوجد في بلد الانتخابات المزيفة، بلد ناطحات السحاب والحاسوب ومركبات الفضاء، من يموت جوعاً، ومنهم من ينتحر من الفقر.

إذن الرأي العام في الدول الرأسمالية هو مجرد غطاء يستغله أصحاب الأموال لمصلحتهم عن طريق الخداع أو شراء الذمم، ولا تمثيل حقيقياً لهم في إدارة الشعب، والمراقب لمهزلة الانتخابات في معظم البلدان الرأسمالية، يجد بوضوح أنّ جميع الذين يفوزون في هذه الانتخابات هم من أصحاب المال، أو من المرتبطين بهم، وهذا أوضح دليل على زيف هذه الانتخابات.

ومن الواضح جداً أنّ أغلب أصحاب المال في هذه البلدان، همُّهم الرئيسي هو كيفية جمع المال، وذلك بأي طريق كان، ولا يهتمون بما يريده الشعب، فمبدئهم المال أولاً وآخراً.

والرأسماليون، يؤمنون بالملكية الفردية، أي أنّ الفرد له الحرية في أي عمل يعمله لكسب المال، ما عدا بعض المحذورات القليلة جداً، فله الحقّ أن يعملفي صناعة الخمور والملاهي وغيرها، ويعدونها من الأعمال الجيدة، فبائع الخمور وبائع الفواكه عندهم سواء.

وخلاصة ما نريد ذكره هنا: أنّ الرأسمالية رغم وجود نظام الانتخاب فيها، وما شابه ذلك، ولكن أغلب هذه الأشياء هي مظاهر خارجية فقط، خالية من الواقعية.

ص: 142

الاشتراكية والرأي العام

أمّا بعض الاشتراكيين فيزعم أنّ الاقتصاد أساس كلّ شيء في الحياة، فإنّ الدين والسياسة، والعلاقات الاجتماعية والصناعية، وجميع جوانب الحياة الأُخرى، تخضع للاقتصاد وتنقاد له، فهو البنية التحتية لكلّ شيء في الحياة، وعلى حدّ زعمهم فإنّ الإنسان مرّ بمراحل أربع:

المرحلة الأُولى: وهي مرحلة التكوين، يسمونها مرحلة الشيوعية الأُولى، أي أنّ الإنسان في نشأته الأُولى - حيث لا إنتاج، ولا أدوات إنتاج، ولا أبسط أنواع التقدم - كان يعيش في العراء، ويقتات على ثمار الغابات الطبيعية وأوراقها، فلا توجد في ذلك الوقت حكومة أو نظام أو سياسة أو رأي عام، أو غيرها من المصطلحات الموجودة عندنا اليوم، فهذه المرحلة يسمونها مرحلة الشيوعية الأُولى، فالشيوعية - حسب ادّعائهم - عدم تقييد الفرد بنظام أو حكومة أو قانون مهما كان شكله.

المرحلة الثانية: مرّ الإنسان (في نظرهم) بمرحلة ثانية يسمونها مرحلة السيد والعبد، أي إنّ الإنسان عندما اخترع بعض آلات الصيد، وطبعاً هذا الاختراع خاص بمجموعة من الناس لاجميعهم، فسيطرت هذه المجموعة على بقية الناس بحيث أصبحوا عبيداً لها مقابل إشباع بطونهم بواسطة آلات الصيد.

المرحلة الثالثة: ثم انتقل الإنسان إلى مرحلة أخرى، مرحلة الإقطاعيين، فعندما اكتشف الإنسان بعض وسائل الزراعة، وتعلَّم كيف يزرع، وسكن قربالمياه، واستحوذ هؤلاء المكتشفون لهذه الوسائل على أُمور الناس الباقية، وقُسّم الناس على أثر ذلك إلى طبقتين، الأُولى: طبقة الاقطاعيين، وهم المالكون لهذه الوسائل، والثانية: طبقة المزارعين وهم الطبقة المستغلَّة، وحصّن المالكون أنفسهم بكل الوسائل، لكي تبقى السلطة بأيديهم.

وفي هذه الفترة ظهرت الملكية الفردية، وعلى حدّ زعم بعض الاشتراكيين في

ص: 143

هذه المرحلة، وبحيلة من المالكين ادعوا بأنهم أبناء اللّه، وخلقوا هم الآلهة، وهم يسيرون على خطى الآلهة، وأوجدوا الدين حتى يحافظوا على نمط الحياة في تلك الفترة.

المرحلة الرابعة: ثم مرّ الإنسان في الطور أو المرحلة الرابعة، وهي مرحلة الصناعة، حيث اكتشف الإنسان في هذه المرحلة المكائن الصناعية والآلات، وسخرّها لخدمته، وفي هذه المرحلة تنازل بعض الملّاكين عن بعض مقاطعاتهم، مقابل كسب المال الوفير، حيث رأوا أن رأس المال لا ينمو إلّا بإشراك أكبر عدد ممكن من الشعب، وهكذا وجدت على حدّ زعمهم مرحلة الاشتراكية في هذه الفترة.

وكل هذا التفصيل والتحليل هو غير صحيح، وقد انتهجه بعض المغرضين، والذين حاولوا من هذا كله خداع الرأي العام في بلدانهم، وفي البلدان المحيطة بهم، لكي يجذبوها إلى مبنى الشيوعية، ويصوروها بأنها هي المنقذة للشعوب، وفيها يأخذ الإنسان كامل حريته، وأخذ ماركس ولينيين وكاسترو وماو وغيرهم يُطَبِّلون لذلك.

ولكن جميع هذه التحليلات التي ذكروها غير صحيحة، وغير واردة، وذلك لأكثر من دليل:

أولاً: عدم استنادهم في ذكر هذه التحليلات إلى أدلة واقعية سوى التخيلات والأوهام.

ثانياً: فشلها في تحقيق متطلبات الشعوب، وانتشار الفقر والمجاعة في أغلب الدول الإشتراكية.

وغيرها من الأدلة، والذي يريد أن يتوسع أكثر من ذلك يراجع كتابنا تحت عنوان (ماركس ينهزم)، وكتاب (الفقه: الاقتصاد). وفيهما نثبت بأنّ الاقتصاد ليس

ص: 144

هو المحرك الأساس لكل شيء في الحياة... .

وبهذه العقلية سيطرت الشيوعية على أغلب دولها، وعلى الدول التي تعتمد عليها، مستغلة أفراد الشعب، ومصادرة حقوقهم، تحت غطاء حمايتهم، وسوف تواجه الشيوعية عما قريب إن شاء اللّه تعالى فترة عصيبة، تؤدي بها إلى الاضمحلال والزوال، لأنّ الباطل مهما طال أمده، مصيره الزوال(1).

وإنّ الذين يضلون عن سبيل اللّه ويتبعون أهواءهم فإن اللّه تعالى يعذبهم عذاباً شديداً.

قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ...}(2).

العراق وتأثير الرأي العام

بعد أن بيّنا بعض الشواهد عن أهمية الرأي العام في إدارة الشعوب، فمستقبل العراق مرهون أيضاً بيد أبناءه ووحدة صفوفه وقوة رأيه، فإذا استطاع القائمون بحركات المعارضة للنظام العراقي، توحيد صفوف الشعب في الخارج والداخل، ونشر الوعي بين صفوف المجتمع عند ذلك يملكون قوة ضاربة لا تغلبها قوة أخرى، سوى قوة اللّه تعالى، ويستطيعون أن يكتسحوا نظام البعث ومن يسانده اكتساحاً بإذن اللّه تعالى.

فلو حشّد كلُّ واحد منهم مائة أو خمسين شخصاً، وهذا بدوره يحشد مائة، وهكذا لتمكنوا من إتمام المهمة بصورة جيدة.

وما تسلَّطت حكومة البعث على رقاب الشعب العراقي، وأمثالها من الحكومات المستبدة في منطقتنا الإسلامية، إلّا نتيجة عدم تكاتف وتوجيه الرأي العام، وتوحيده بوجه هذه الحكومات الظالمة، فلو كان الرأي العام موحَّداً

ص: 145


1- أُلقيت المحاضرة قبل سقوط الشيوعيّة.
2- سورة ص، الآية: 26.

وموجهاً في مصلحة الأمة، لم تأت هذه الحكومات وتتسلط على مصير شعوبنا.

فعلينا والحال هذه أن نعبئ شعوبنا الإسلامية تعبئة صحيحة، مبنية على أساس الدين الإسلامي، وعلينا أن نقرن القول مع الفعل، ويكون عملنا خالصاً لوجه اللّه تعالى، فقد قال أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام): «أفضل العمل ما أريد به وجه اللّه»(1).

صحيح أنّ عدوّنا يمتلك من الوسائل المدمرة الشيء الكثير، ولكن لو سكتنا عنه وانطوينا على أنفسنا، ولم نعمل على إزاحة الظلم، فسوف نُهزم وينتصر عدونا ويترسخ الظلم أكثر فأكثر، وأنّ الثواب يأتي على قدر العمل ومشقته، كما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثواب العمل على قدر المشقة فيه»(2).

وقال(عليه السلام):«خير الأمور ما أدى إلى الخلاص»(3).

وقال(عليه السلام): «خير عملك ما أصلحت به يومك وشره ما استفسدت به قومك»(4).

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوجهنا لما فيه الخير والصلاح.

«يا مَن تحلّ به عُقد المكاره، ويا مَن يُفثأ به حدُّ الشدائد، ويا مَن يلتمس منهالمخرج إلى روح الفرج، ذلّت لقدرتك الصعاب، وتسببت بلطفك الأسباب، وجرى بقدرتك القضاء، ومضت على إرادتك الأشياء وهي بمشيَّتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة، أنت المدعوّ للمهمات، وأنت المفزع في الملمّات، لايندفع منها إلّا ما دفعت، ولا ينكشف منها إلّا ما كشفت...»(5).

ص: 146


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 191.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 333.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 355.
4- عيون الحكم والمواعظ: 238.
5- المصباح للكفعمي: 233.

من هدي القرآن الحكيم

في وحدة الصف الإسلامي وتعاضده

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ وَفَضْلٖ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا}(2).

وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(3).

وقال عزّ من قائل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(4).

الدعوة الأمثل والأنجح أسلوباً ومنهجاً

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(5).

وقال سبحانه: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}(6).وقال تبارك تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(7).

ص: 147


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة النساء، الآية: 175.
3- سورة التوبة، الآية: 71.
4- سورة الحجرات، الآية: 10.
5- سورة الأنفال، الآية: 24.
6- سورة يوسف، الآية: 108.
7- سورة النحل، الآية: 125.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(1).

العمل بالمشورة وتجنب الاستبداد بالرأي

قال سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(3).

زيف وبطلان المذاهب المادية

وقال سبحانه: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَٰسَٰمِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(4).

وقال عزّ وجلّ: {مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}(5).

الوعي والاعتبار من صفات المؤمنين

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

في التآخي الإسلامي

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): ستّ خصال من كنّ فيه كان بين

ص: 148


1- سورة فصلت، الآية: 33.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة الشورى، الآية: 38.
4- سورة طه، الآية: 95-96.
5- سورة الزخرف، الآية: 20.
6- سورة يوسف، الآية: 111.
7- سورة الحاقة، الآية: 12.

يدي اللّه عزّ وجلّ وعن يمين اللّه عزّ وجلّ»، قال ابن أبي يعفور: وما هي جعلت فداك؟ قال: «يحب المرء المسلم لأخيه ما يحب لأعز أهله، ويكره المرء المسلم لأخيه ما يكره لأعزّ أهله، ويناصحه الولاية» فبكى ابن أبي يعفور وقال: كيف يناصحه الولاية؟ قال(عليه السلام):«يا ابن أبي يعفور، إذا كان بتلك المنزلة بثه همه، يهم لهمه، فرح لفرحه إن هو فرح، وحزن لحزنه إن هو حزن فان كان عنده ما يفرج عنه فرج عنه وإلّا دعا اللّه له»(1).

وقال الإمام محمد بن علي الباقر(عليهما السلام): «... إن اللّه خلق المؤمن من طينة الجنان وأجرى فيهم من ريح روحه؛ فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، فإذا أصاب تلك الأرواح في بلد من البلدان شيء حزنت عليه الأرواح لأنها منه»(2).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «المسلم أخو المسلم هو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذّبه ولا يغتابه»(3).

أبرز صفات الداعية

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في وصيته لأبي ذر الغفاري(رحمه الله): «يا أبا ذر: مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر»(4).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية»(5).

ص: 149


1- المؤمن: 41.
2- المحاسن: 133.
3- الكافي 2: 166.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 534.
5- الكافي 2: 78.

الإصابة في الاستشارة

قال الرسول المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم):«ما من رجل يشاور أحداً إلّا هُدي إلى الرشد»(1).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الاستشارة عين الهداية»(2).

وعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): «في التوراة أربعة أسطر: من لا يستشر يندم، والفقر الموت الأكبر، وكما تدين تدان، ومن ملك استأثر»(3).

وعن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): «لن يهلك امرء عن مشورة»(4).

في الوعي والاعتبار واليقظة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم):«لا خير في العيش إلّا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع»(5).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه امرءاً تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر...»(6).

وقال علي بن أبي طالب(عليه السلام): «اليقظة نور، الغفلة غرور»(7).

وقال(عليه السلام) أيضاً:«من تبصر في الفطنة ثبتت له الحكمة، من ثبتت له الحكمة عرف العبرة»(8).

ص: 150


1- تفسير مجمع البيان 9: 57.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 55.
3- المحاسن 2: 601.
4- المحاسن 2: 601.
5- الكافي 1: 33.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 103، ومن خطبة له(عليه السلام) في التزهيد في الدنيا.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 21.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 642.

الزواج وتشكيل الأسرة في الإسلام

قانون الزوجيّة في كلِّ مظاهر الحياة

قال اللّه تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}(1).

ذكر في تفسير هذه الآية: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ} يعني من جنس أنفسكم {أَزْوَٰجًا} فليست النساء من جنس آخر، وهذان فضلان، الأول: جعل الأزواج، والثاني: كونهن من نفس الجنس؛ لأن الإنسان لجنسه آلف ولنوعه أميل، قال الشاعر: كل جنس لجنسه يألف.

{وَجَعَلَ لَكُم} أيها البشر {مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ} تأنسون بهم، ويكونون عوناً لكم، وسبباً لامتدادكم في الحياة {وَحَفَدَةً} جمع حفيد، وهم أبناء البنات وأبناء البنين، أو الخدم ومن يشبهه، أو الأعم منهما؛ لأن معنى الحافد: المسرع إلى الخدمة، فإن كان المراد الأول كان عطفاً على البنين، وإن كان غيره كان عطفاً في المعنى، أي جعل لكم حفدة(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لو رأيت فرداً من مصراعين فيه كلّوب(3) أكنت

ص: 151


1- سورة النحل، الآية: 72.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 240.
3- الكلوب: خشية في رأسها عقافة منها أو من حديد.

تتوهم أنه جعل كذلك بلا معنى؟ بل كنت تعلم ضرورة أنه مصنوع يلقي فرداآخر، فيبرزه ليكون في اجتماعهما ضرب من المصلحة، وهكذا تجد الذَّكَر من الحيوان كأنه فرد من زوج مهيأ من فرد انثى، فيلتقيان لما فيه من دوام النسل وبقائه، فتباً وخيبة وتعساً لمنتحلي الفلسفة، كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة، حتى أنكروا التدبير والعمد فيها»(1).

وقد اهتم في عالمنا اليوم المختصون - في كل العلوم - أهمية فائقة لظاهرة الزوجية في المخلوقات، ففي علم الطب - مثلاً - يبحث الأطباء عن الزوجية في نواح متعددة، كالاختلافات، والاتفاقات، وتجانس الدم، أو عدم تجانسه، وغيرها.

وفي علم الفلك كذلك، يتحدث الفلكيون ويطرحون هذا السؤال: هل أن النجوم مرتبطة بنظام الزوجية؟ أي: هل هناك تناسب بين كل اثنين منهما؟ فيصح أن نقول: إن فيهما حالة الزوجية أم لا؟

وفي علم الاجتماع كذلك، فإن المختصين أيضاً حينما يبحثون عن الأسرة، فإنهم يتحدثون عن الزوجين باعتبار أن الأسرة النواة الأولى لتكوين المجتمع، فيبحثون عن مشاكل الأسرة، وأسباب تقدّمها، أو انهيارها، وتأثير كل من الرجل والمرأة على الأسرة والمجتمع، وغير ذلك من الأمور.

وعلماء الحيوان أيضاً، يبحثون بصورة مفصّلة عن ذَكَر الحيوان وأنثاه، وأدوار كل منهما، وكيفية التزاوج بينهما، وأسلوب المعيشة، وطريقة الإنجاب، ونوع المأكولات، وغيرها مما يختص بعالم الحيوان. وكذلك عندما نلقي نظرة إلى عالم النبات: نرى ظاهرة الزوجية واضحة جداً بكل ألوانها، ففي النخيل نرى هذه

ص: 152


1- توحيد المفضل: 68.

الظاهرة بوضوح، قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ}(1) فإن عملية التلقيح تدلّ على وجود أنثى النبات التي تنتظر اللقاح ليخرج الثمر.

بل حتى في علم الفيزياء، نرى مسألة الموجب والسالب.

كما أن ظاهرة الزوجية قد توجد في عوالم أخرى؟ لعل العلم لم يتوصل إليها بعد.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فهذا الذي نشاهده من الأشياء بعضها إلى بعض مفتقر؛ لأنه لا قوام للبعض إلّا بما يتصل به، كما ترى أنّ البناء محتاجٌ بعض أجزائه إلى بعض، وإلّا لم يتسق ولم يستحكم، وكذلك سائر ما ترون»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها، وذلك قوله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}»(3)(4).

وقال(عليه السلام): «أحال الأشياء لأوقاتها، ولاءم بين مختلفاتها، وغرّز غرائزها، وألزمها أشباحها»(5).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ولم يخلق شيئاً فرداً قائماً بنفسه دون غيره؛ للذي أراد من الدلالة على نفسه وإثبات وجوده، واللّه تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه ولا يعضده ولا يمسكه، والخلق يمسك بعضه بعضا بإذن اللّه ومشيته...»(6).

ص: 153


1- سورة الحجر، الآية: 22.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 537.
3- سورة الذاريات، الآية: 49.
4- الكافي 1: 139.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق العالم والملائكة... .
6- التوحيد للشيخ الصدوق: 439.

الزوجية أمر ضروري

إذن يستظهر من هذا وغيره: أن ظاهرة الزوجية أمر ضروري في الحياة، بل إن استمرار الحياة قائم بقانون الزوجية. فمثلاً: نحن نرى عدم اتفاق قطب السالب مع السالب، أو السلك الحار مع الحار، بل لا بد من وجود حار وبارد، لكي تصل الكهرباء مثلاً. وكذلك لا يمكن للأشجار أن يخرج ثمرها بدون لقاح الذكر، وكذلك لا تحصل عملية التوالد في الإنسان والحيوان وبعض المخلوقات الأخرى بدون عملية التزاوج.

فنكتشف من هذا وغيره إن ظاهرة الزوجية سنّة كونية لا بد منها، ولا يستطيع أحد أن يقف بوجه السنن الكونية، لأنها في النتيجة سوف تقهره وتهزمه، هذا قانون ثابت وراسخ لا يتغير.

وعند ما سار قوم لوط(عليه السلام) عكس هذا القانون وخالفوا السنن الكونية خسروا الدينا والآخرة، قال تبارك وتعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٖ مِّنَ الْعَٰلَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّٰدِقِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَٰهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُواْ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَٰلِمِينَ}(1).

حين اكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فإن سلوكهم المنحرف هذا، والسائر بخلاف القانون الطبيعي، اصطدم في النهاية بقانون السنن الكونية، والذي لا يتغير.

فعن الامام الرضا(عليه السلام) قال: «أروي عن العالم(عليه السلام) أنه قال: لو كان ينبغي لأحد

ص: 154


1- سورة العنكبوت، الآية: 28- 31.

أن يرجم مرتين لرجم اللوطي، وعليه مثل حد الزاني من الرجم والحد، محصناً أو غير محصن. وإذا وجد رجلان عراة في ثوب واحد وهما متهمان، فعلى كل واحد منهما مائة جلدة، وكذلك امرأتان في ثوب واحد، ورجل وامرأة في ثوب واحد. وفي اللواطة الكبرى ضربة بالسيف أو هدمة أو طرح الجدار وهي الإيقاب، وفي الصغرى مائة جلدة. وروي: أن اللواطة هي التفخذ، وأن على فاعله القتل، والإيقاب الكفر باللّه، وليس العمل على هذا وإنما العمل على الأولى في اللواط، واتق الزنا واللواط،؛ وهو أشد من الزنا،؛ والزنا أشد منه، وهما يورثان صاحبهما اثنين وسبعين داء في الدنيا وفي الآخرة...»(1).

فكانت النتيجة التي حكاها القرآن الكريم هي المصير الطبيعي لهؤلاء: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ}(2).

النفس الواحدة

قال اللّه تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}(3). وقد اعتقد البعض أن حواء(عليها السلام) خلقت من ضلع آدم(عليه السلام)، كما ترويه بعض الأخبار الضعيفة فاعتمدوها.

قال القمي في تفسيره: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} يعني آدم(عليه السلام) {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواء برأها اللّه من أسفل أضلاعه(4).

وروي في حديث أنه: «فلما نام آدم(عليه السلام) خلق اللّه من ضلع جنبه الأيسر مما

ص: 155


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 277.
2- سورة هود، الآية: 82.
3- سورة النساء، الآية: 1.
4- تفسير القمي 1: 130.

يلي الشراسيف، وهو ضلعٌ أعوج، فخلق منه حواء، وإنما سميت بذلك لأنها خلقت من حي، وذلك قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}(1) وكانت حواء على خلق آدم وعلى حسنه وجماله...»(2).

ولكن هذا الرأي خلاف ما ورد في سائر الروايات المعتبرة وخلاف ما ذهب إليه معظم العلماء، فالصحيح هو أن اللّه عزّ وجلّ خلق حواء(عليها السلام) من فاضل الطين الذي خلق منه آدم(عليه السلام).

إذن فقوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} أي بإطاعة أوامره ونواهيه {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} هي نفس آدم أبي البشر(عليه السلام) {وَخَلَقَ مِنْهَا} أي من تلك النفس، إما بالخلق من فضلة طينته، أو المراد من جنس تلك النفس {زَوْجَهَا} وهي حواء(عليها السلام)، فإن هذا الإله الخالق القادر حقيق بالتقوى، ولا يخفى أن ذلك لا ينافي خلق زوجتين جديدتين لهابيل وقابيل حتى نشأ منهما أبناء عمّ - كما عن الأئمة(عليهم السلام) - إذ الكلام في ابتداء الخلقة -(3).

وقال الشيخ الطوسي(رحمه الله) في تفسيره:

قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواء، روي أنها خلقت من أضلاع آدم(عليه السلام)، ذهب إليه أكثر المفسرون، وقال أبو جعفر(عليه السلام): «خلقها اللّه من فضل الطينة التي خلق منها آدم» ولفظ النفس مؤنث بالصيغة، ومعناه التذكير ههنا، ولوقيل نفس واحد لجاز(4).

ص: 156


1- سورة النساء، الآية: 1.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 347.
3- تفسير تقريب القرآن 1: 440.
4- التبيان في تفسير القرآن 3: 99.

ولو ثبت أنه تعالى خلقها من ضلع آدم(عليه السلام) فعلاً، فلا يرد أي إشكال عقلي على ذلك، لكن الصحيح ما ورد في حديث الإمام الباقر(عليه السلام).

ثم خلق اللّه عزّ وجلّ منهما سائر الناس بقانون الزوجية: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}(1). ولم يقل تعالى: خلقناكم من ذكر فقط، بل من ذكر وأنثى.

وقد أبدع اللّه عزّ وجلّ في خلق الإنسان الذي كانت بدايته بخلق آدم وحواء، حتى انتهت الصورة بهذا التجمع البشري الكبير، الذي سيبقى إلى ما شاء اللّه تعالى، وهذا من أبرز مصاديق قانون الزوجية.

نظرية أصل الإنسان

اشارة

لقد حاول البعض أن يثير الشبهات على أصل الإنسانية ومبدئها الأول، فقال: إن أصل الإنسان حيوان من فصيلة القرود، ثم بمرور الزمن تطور ومرّ بمراحل متعددة، إلى أن صار بهذه الهيئة التي هو عليها الآن!(2).

وفي الواقع، إن هذا الكلام مجرد ترهات وافتراضات وتكهّنات لم يثبت بدليل.

بل الأدلة على عكس ذلك، ومنها ما أثبتته الحفريات والآثار في أصالة النوع الإنساني، وعدم مروره بهذه المراحل التي يدعيها دارون وأتباعه أمثال فرويد؛ وذلك لأنهم عثروا على هياكل عظمية للإنسان القديم تشبه في تركيبها وهيئتهاتركيب وهيئة الإنسان الحالي.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القرآن الكريم يصرّح في أكثر من مورد أن

ص: 157


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- إشارة إلى النظرية الداروينية.

اللّه عزّ وجلّ قد خلق الإنسان من تراب بدون مرور بأي مرحلة من مراحل الحيوانية، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٖ}(1). وبما أن عيسى(عليه السلام) خلق على صورة الإنسان الكامل، فإن آدم(عليه السلام) أيضاً كان على نفس هذه الصورة الإنسانية. وإلّا لما صحّ التمثيل.

وهناك آيات كثيرة تشير إلى مسألة خلق الإنسان. منها قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ}(2).

وقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٖ كَالْفَخَّارِ}(3). فإنه لم يقل: خلق الإنسان من سلالة القردة.

إذن الإنسان في بداية خلقه كان إنساناً متكاملاً، ولم يكن قرداً ثم مرّ بمراحل حتى وصل إلى مرحلته النهائية - الإنسانية - والإسلام صريح في ذلك.

أمّا من يدعي أن أصل الإنسان قرد، فإنه يسند قوله الى بعض الاحتمالات فقط كأوجه الشبه بين الإنسان والقرد، وكذلك بما أن القرود من الحيوانات القديمة التي يتجاوز عمرها آلاف السنين فإنه يربط ذلك بمسألة خلق الإنسان. وكل ذلك خال من الدليل الصحيح، بل يرد عليه بأدلة ثابتة، كما أشرنا في الآيات القرآنية.

فالصحيح في خلق الإنسان: أن اللّه تعالى خلق الإنسان إنساناً على هيئته الحالية، ولم يكن قبل ذلك على شكل القرود أو سائر الحيوانات.

القرآن والمسوخ

نعم، إن اللّه تعالى مسخ بعض الناس الكفرة قردةً وخنازير وغيرها، فجعلهم

ص: 158


1- سورة آل عمران، الآية: 59.
2- سورة التين، الآية: 4.
3- سورة الرحمن، الآية: 14.

على هذه الهيئات بعد أن كانوا بصورة الإنسان، وذلك لعصيانهم وطغيانهم على اللّه، فقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْاْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ} لما اصطادوا السموك فيه {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ}(1).

وفي قصتهم ورد عن الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «كان هؤلاء قوماً يسكنون على شاطئ بحر، نهاهم اللّه وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت. فتوصلوا إلى حيلة ليحلوا بها لأنفسهم ما حرم اللّه، فخدوا أخاديد وعملوا طرقاً تؤدي إلى حياض، يتهيأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق، ولا يتهيأ لها الخروج إذا همت بالرجوع منها إلى اللجج. فجاءت الحيتان يوم السبت جارية على أمان اللّه لها فدخلت الأخاديد وحصلت في الحياض والغدران. فلما كانت عشية اليوم همت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن صائدها، فرامت الرجوع فلم تقدر، وأبقيت ليلتها في مكان يتهيأ أخذها يوم الأحد بلا اصطياد لاسترسالها فيه، وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها. فكانوا يأخذونها يوم الأحد، ويقولون ما اصطدنا يوم السبت، إنما اصطدنا في الأحد، وكذب أعداء اللّه بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت حتى كثر من ذلك مالهم وثراؤهم، وتنعموا بالنساء وغيرهن لاتساع أيديهم به. وكانوا في المدينة نيفاً وثمانين ألفاً، فعل هذا منهم سبعون ألفاً، وأنكر عليهم الباقون، كما قص اللّه تعالى: {وَسَْٔلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}(2) الآية. وذلك أن طائفةمنهم وعظوهم وزجروهم، ومن عذاب اللّه خوفوهم، ومن انتقامه وشديد بأسه حذروهم، فأجابوهم عن وعظهم {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} بذنوبهم هلاك

ص: 159


1- سورة البقرة، الآية: 65.
2- سورة الأعراف، الآية: 163.

الاصطلام {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}. فأجابوا القائلين لهم هذا: {هَٰذَا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ}(1) هذا القول منا لهم معذرة إلى ربكم؛ إذ كلفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربنا مخالفتنا لهم، وكراهتنا لفعلهم. قالوا: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ونعظهم أيضاً لعلهم تنجع فيهم المواعظ، فيتقوا هذه الموبقة، ويحذروا عقوبتها. قال اللّه عزّ وجلّ: {فَلَمَّا عَتَوْاْ} حادوا وأعرضوا وتكبروا عن قبولهم الزجر {عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ}(2) مبعدين عن الخير، مقصين.

قال: فلما نظر العشرة الآلاف والنيف، أن السبعين ألفاً لا يقبلون مواعظهم، ولا يحفلون بتخويفهم إياهم وتحذيرهم لهم، اعتزلوهم إلى قرية أخرى قريبة من قريتهم، وقالوا: نكره أن ينزل بهم عذاب اللّه ونحن في خلالهم. فأمسوا ليلة، فمسخهم اللّه تعالى كلهم قردة خاسئين، وبقي باب المدينة مغلقاً لا يخرج منه أحد ولا يدخله أحد. وتسامع بذلك أهل القرى فقصدوهم، وتسنموا حيطان البلد، فاطلعوا عليهم فإذا هم كلهم رجالهم ونساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم وقراباتهم وخلطاءهم، يقول المطلع لبعضهم: أنت فلان؟ أنت فلانة؟ فتدمع عينه، ويومئ برأسه بلا، أو نعم.

فما زالوا كذلك ثلاثة أيام، ثم بعث اللّه عزّ وجلّ عليهم مطراً وريحاً فجرفهمإلى البحر، وما بقي مسخ بعد ثلاثة أيام، وإنما الذين ترون من هذه المصورات بصورها فإنما هي أشباهها، لا هي بأعيانها ولا من نسلها»(3).

ص: 160


1- سورة الأعراف، الآية: 164.
2- سورة الأعراف، الآية: 166.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 267.

وهذا واضح في أنهم في الأصل كانوا إنساناً، ثم مسخ اللّه منهم على شكل القردة أو غيرها من الحيوانات، لا أن أصل الإنسان كان قرداً(1).

نظريات وانحرافات

وكذلك طرح فرويد في نظرياته آراءً شاذة وأفكاراً منحرفة، حيث ادعى أن أهم شيء في الحياة وفيه قوام الإنسانية هو الغريزة الجنسية، فيعزو كل حركة وفعل من الإنسان إلى غريزة الجنس، فيقول: إن الطفل عندما يلتقم الثدي يدفعه إلى ذلك غريزة الجنس، ويقول: إن الحب الناشئ بين جميع الأفراد أساسه الغريزة الجنسية، وغير ذلك من الادعاءات الفارغة.

بينما جاء ماركس بنظرية أخرى، مفادها: أن أساس كل شيء هو الاقتصاد ووسائل الإنتاج. فكلما تطورت وسائل الإنتاج وتقدم الاقتصاد تقدمت البشرية، فيُلغي أو يَنسى كل القيم الروحية والمعنوية، ويربط تقدم البشرية بالمادة فقط.

ولكن الإسلام يطرح النظرية الكونية الشاملة لكل مناحي الحياة، والتي تصون كرامة الإنسان، وتحفظ عزّته وشرفه، مضافاً إلى تقدمه العلمي، فلا ينسى تأثير غريزة الجنس وأهميتها، بل يحدّد لها أطرها المشروعة، وكذلك لا ينسى أو يهمل تأثير وأهمية المال على حياة الإنسان، بل يوازن بين هذا وذاك وغيرهما. فالجنس المطلق الذي تدعيه أوروبا، وبعض الدول الأخرى، اليوم قد أهلك سابقاً قوم لوط، وغيرهم من الأقوام، الذين اعتمدوا الجنس في كل مظاهرالحياة، وسوف تجري السنن الإلهية لتهلك أتباعهم يوماً ما بالإصابة بمختلف الأمراض الفتاكة وغيرها.

وأما المادة والاتجاه المادي البعيد عن المناحي المعنوية والروحية للحياة

ص: 161


1- للتفصيل راجع كتاب (الإنسان والقرد)، وكتاب (بين الإسلام ودارون) للإمام الشيرازي(رحمه الله).

الذي يدعيه ويتبناه ماركس وأتباعه فمرفوض في الإسلام؛ لأن ذلك يقلّل من قيمة الإنسان وكرامته، وهو: أكرم المخلوقات، وكرامته مبنية على حسن عقله وتقواه، لا على ماله وما شابه ذلك. فالمال وسيلة تخدم الإنسان، وليس غاية أو هدفاً من أجله خلق الإنسان.

لذا حيث قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ}(1).

وفي حديث آخر قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ليس شيء خيراً من ألف مثله إلّا الإنسان»(2).

ومن كرامة اللّه تبارك وتعالى أن رزقه عظيم النعم وسخر له ما شاء، فقال عزّ من قائل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَٰتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَٰرَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(3).

الأسرة في الإسلام

قال تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُممَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «تناكحوا تناسلوا تكثروا؛ فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط»(5).

ص: 162


1- سورة الإسراء، الآية: 70.
2- نهج الفصاحة: 661.
3- سورة إبراهيم، الآية: 32-34.
4- سورة الروم، الآية: 21.
5- جامع الأخبار: 101.

إن من المعلوم أن الإسلام أعطى لكل من الرجل والمرأة وزنه الاجتماعي الخاص به، والذي بموجبه يؤثر في المجتمع الإنساني ويتقدم نحو الكمال. ووضع ضوابط وحدوداً لكل منهما تحفظ لهما تلك المكانة الاجتماعية، فأمر المرأة بالحجاب والستر، والحفاظ على نفسها، وعدم ابراز محاسنها إلّا لزوجها لما فيه كرامتها وزيادة محبتها وعدم ابتذالها، والابتعاد عن مخالطة الرجال وغيرها من الأمور.

وأمر الرجال بغضّ البصر وعدم الاعتداء على حقوق المرأة، وحرمة اغتصابها وخداعها وإهانتها وتحقيرها، فبموجب الضوابط الإسلامية تحتفظ المرأة بكيانها وكرامتها، وتفترق عن إناث الدواب. وكذلك الرجل، فبموجب الضوابط الإسلامية هو يفترق عن الكواسر والوحوش.

ثم دعا الإسلام بشكل مكثف إلى الاقتران بين الرجل والمرأة عبر الزواج الشرعي السهل والبسيط في المتطلبات والتقاليد المتعارفة للزواج، وثم إنشاء الأسرة المتجانسة المتحابة المتراحمة، تسودها علاقات المودة والرحمة، تجسد علاقاتها بكل معنى الإنسانية الجميلة، لتسير قافلة البشر نحو إنشاء مجتمع إنساني صالح.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «دخل علينا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وفاطمة جالسة عندالقدر وأنا أنقي العدس، قال: يا أبا الحسن.

قلت: لبيك يا رسول اللّه.

قال: اسمع مني، وما أقول إلّا من أمر ربي، ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلّا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، وأعطاه اللّه تعالى من الثواب مثل ما أعطاه اللّه الصابرين، وداود النبي ويعقوب وعيسى(عليهم السلام)، يا علي، من كان في خدمة العيال في البيت ولم يأنف كتب اللّه

ص: 163

تعالى اسمه في ديوان الشهداء، وكتب اللّه له بكل يوم وليلة ثواب ألف شهيد، وكتب له بكل قدم ثواب حجة وعمرة، وأعطاه اللّه تعالى بكل عرق في جسده مدينة في الجنة. يا علي، ساعة في خدمة العيال خير من عبادة ألف سنة وألف حج وألف عمرة، وخير من عتق ألف رقبة وألف غزوة وألف عيادة مريض وألف جمعة وألف جنازة وألف جائع يشبعهم وألف عار يكسوهم وألف فرس يوجهها في سبيل اللّه، وخير له من ألف دينار يتصدق على المساكين، وخير له من أن يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومن ألف أسير أسر فأعتقها، وخير له من ألف بدنة يعطي للمساكين، ولا يخرج من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة. يا علي، من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنة بغير حساب. يا علي، خدمة العيال كفارة للكبائر ويطفئ غضب الرب ومهور حور العين ويزيد في الحسنات والدرجات. يا علي، لا يخدم العيال إلّا صديق أو شهيد أو رجل يريد اللّه به خير الدنيا والآخرة»(1).

حرية المرأة في الزواجفأكّد الإسلام على حرية اختيار المرأة للزوج، وكما أعطاها الحق في أن تعطي رأيها به، وموافقتها عليه، فلا يحق لأحد أن يجبرها في الزواج وفي اختيار الزوج، بعد أن وضع علامات المرأة الصالحة، وعلامات الرجل الصالح، فأوجد نوعاً من المساواة بين الطرفين، وألزم حقوقا على الجانبين، لكيلا يشعر أحدهما بالغبن أو الضعف أو الاستعباد.

اشارة

وقال الضحاك بن مزاحم: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول، وذكر حديث تزويج فاطمة(عليها السلام) وأنه طلبها من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم). فقال: «يا

ص: 164


1- جامع الأخبار: 102.

علي، إنه قد ذكرها قبلك رجال، فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك، فدخل عليها فأخبرها، وقال: إن علياً قد ذكر من أمرك شيئاً، فما ترين؟ فسكتت ولم تول وجهها، ولم ير فيه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كراهة، فقام وهو يقول: اللّه أكبر، سكوتها إقرارها»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في رجل يريد أن يزوج أخته؟

قال: «يؤامرها، فإن سكتت فهو إقرارها، وإن أبت لم يزوجها، فإن قالت: زوجني فلاناً، فليزوجها ممن ترضى، واليتيمة في حجر الرجل لا يزوجها إلّا برضاها»(2).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «تزوج المرأة من شاءت إذا كانت مالكةً لأمرها، فإن شاءت جعلت ولياً»(3).وفي حديث آخر قال(عليه السلام): «تستأمر البكر وغيرها، ولا تنكح إلّا بأمرها»(4).

وقال أبو الحسن(عليه السلام) في المرأة البكر: «إذنها صماتها، والثيب أمرها إليها»(5).

المرأة في الإسلام والأمم السابقة

لقد أكرم الإسلام المرأة أيما اكرام، وتمثل ذلك عبر أوامر وتعليمات وتوجيهات تحدد وتبين مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي، وتبين أن كرامتها مضمونة في كل مراحل حياتها، وذلك عبر آيات شريفة وأحاديث كريمة مستفيضة، وسيرة عطرة من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام).

ص: 165


1- وسائل الشيعة 20: 275.
2- الكافي 5: 393.
3- الكافي 5: 292.
4- تهذيب الأحكام 7: 380.
5- الكافي 5: 394.

فقد أمر بإكرامها وهي وليدة، حيث حرم أشد التحريم (وأدها)(1) كما كان متعارفاً في الجاهلية، وذم عدم الفرح بولادتها، بل أوصى بأكرامها وهي طفلة، وأكرامها واحترام رأيها عند الزواج، وإكرامها واحترامها ومودتها وهي زوجة، وإكرامها أشد الإكرام وهي أم، بل إكرامها أشد الإكرام في جميع مراحل حياتها، رافضاً لكل الضيم والحيف وعدم الإحترام الذي كان في حقها في الجاهلية وفي الأمم السابقة واللاحقة. وهذه باقة عطرة من الآيات الشريفة والأحاديث الكريمة التي توصي بالمرأة:

قال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(2).

قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَٰرَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَايَحْكُمُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(4).

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): نعم الولد البنات؛ ملطفات مجهّزات مونسات مباركات مفلّيات»(5).

وعن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن اللّه تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه

ص: 166


1- وأَدَها: دفنها في التراب وهي حية.
2- سورة الروم، الآية: 21.
3- سورة النحل، الآية: 58- 59.
4- سورة التكوير، الآية: 8 -9.
5- الكافي 6: 5.

وبينها حرمة إلّا فرحه اللّه تعالى يوم القيامة»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «البنات حسنات والبنون نعمة، فإنما يثاب على الحسنات ويسأل عن النعمة»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة».

فقيل: يا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، واثنتين؟

فقال: «واثنتين».

فقيل: يا رسول اللّه، وواحدة؟

فقال: «وواحدة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنه محمد بن الحنفية: «يا بني، إذا قويتفاقو على طاعة اللّه، وإذا ضعفت فاضعف عن معصية اللّه عزّ وجلّ، وإن استطعت أن لا تُمَلِّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فافعل؛ فإنه أدوم لجمالها وأرخى لبالها وأحسن لحالها؛ فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فدارها على كل حال، وأحسن الصحبة لها، ليصفو عيشك»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور؛ فإن من فرح ابنة فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل مؤمنة في سبيل اللّه، ومن أقر بعين ابن فكأنما بكى من خشية اللّه عزّ وجلّ، ومن بكى من خشية اللّه عزّ وجلّ أدخله اللّه في

ص: 167


1- الكافي 6: 6.
2- الكافي 6: 6.
3- الكافي 6: 6.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 556.

جنات النعيم»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من عال ابنتين أو أختين أو عمتين أو خالتين حجبتاه من النار»(2).

وعن أبي الحسن موسى(عليه السلام) قال: «إذا وعدتم الصبيان ففوا لهم، فإنهم يرون أنكم أنتم الذين ترزقونهم، إن اللّه عزّ وجلّ ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان»(3).

وعن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «إن أحبكم إلى اللّه عزّ وجلّ أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند اللّه عملاً أعظمكم فيما عند اللّه رغبة، وإن أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم خشية للّه، وإن أقربكم من اللّه أوسعكم خُلقاً وإن أرضاكم عند اللّهأسبغكم على عياله، وإن أكرمكم على اللّه أتقاكم للّه»(4).

نعم، هكذا هي الأسرة والمرأة في الإسلام، وهكذا أوصانا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام).

المرأة في المجتمعات غير الإسلامية

أما حال المرأة في المجتمعات غير الإسلامية فقد كان بأسوأ حال، قبل الإسلام وبعده.

فقد كانت المرأة في الأزمنة السابقة، حالها كحالة الحيوان في التعامل معها، حيث كانت تباع بأي ثمن لمن يريد، وكانت تؤجر للخدمة والفراش والاستيلاد، وللأعمال الأخرى.

ص: 168


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 577.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 482.
3- الكافي 6: 50.
4- الكافي 8: 64.

وبعبارة أخرى: فكانت المرأة عند بعض الأمم السابقة ليس لها أي استقلال حقيقي في الوجود، لا رأي لها، ولا كرامة ولا حرمة، فكانت تابعة رغماً عنها للرجل، يفعل بها ما يشاء، وبل كانوا يقتلونها، ويأكلون من لحمها في أيام المجاعة.

وفي أيام الجاهلية قبل الإسلام: كانت العرب لا ترى وزناً للمرأة، ولا سيّما إذا رزق أحدهم بنتاً، فإنه يسرع إلى وأدها تحت التراب، هروباً من العار الذي كانوا يرونه فيها.

وقد وصف أمير المؤمنين(عليه السلام) في إحدى خطبه حال العرب قبل الإسلام فقال: «... فالأحوال مضطربةٌ، والأيدي مختلفةٌ، والكثرة متفرّقةٌ، في بلاء أزلٍ، وأطباق جهلٍ، من بناتٍ موءودةٍ، وأصنامٍ معبودةٍ، وأرحامٍ مقطوعةٍ، وغاراتٍمشنونةٍ»(1).

كان قوم من العرب يئدون البنات، قيل: إنهم بنو تميم خاصة، وإنه استفاض منهم في جيرانهم، وقيل: بل كان ذلك في تميم وقيس وأسد وهذيل وبكر بن وائل، ... وقال قوم: بل وأدوا البنات أنفة، وزعموا أن تميماً منعت النعمان الإتاوة سنة من السنين، فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر، وجلّ من معه من بكر بن وائل، فاستاق النعم وسبى الذراري، ... فوفدت بنو تميم إلى النعمان واستعطفوه، فرق عليهم وأعاد عليهم السبي، وقال: كل امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلهن اخترن آباءهن إلّا ابنة قيس بن عاصم فإنها اختارت من سباها وهو عمرو بن المشمرخ اليشكري، فنذر قيس بن عاصم المنقري التميمي ألا يولد له بنت إلّا وأدها، والوأد أن يخنقها في التراب ويثقل

ص: 169


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

وجهها به حتى تموت، ثم اقتدى به كثير من بني تميم، قال سبحانه: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(1) أي: على طريق التبكيت والتوبيخ لمن فعل ذلك أو أجازه، ... روى الزبير في (الموفقيات) أن أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري: ما حملك على أن وأدت؟

قال: مخافة أن يخلف عليهن مثلك(2).

وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة، وقعدت على رأسها، فإن ولد بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاماًحبسته(3).

وكان الرجل من ربيعة أو مضر يشترط على امرأته، أن تستحيي جارية وتئد أخرى، فإذا كانت الجارية التي توأد، غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: أنت علي كظهر أمي إن رجعت إليك ولم تئديها، فتتخذ لها في الأرض خَدّاً، وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها ثم يتداولنها حتى إذا أبصرته راجعاً دسَّتْها في حفرتها ثم سَوَّت عليها التراب. وقيل: كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه فعاتبهم اللّه على ذلك، وتوعدهم بقوله: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(4).

أما في الصين فقد كانت المرأة ممنوعة من الإرث. والمرأة في الهند إذا توفي زوجها فلا يحق لها الزواج مرة أخرى، فإما أن تحرق مع جسد زوجها، أو تعيش في ذلّة طيلة حياتها، وكانت هذه العادة جارية حتى جاء غاندي وحاربها بقوة.

ص: 170


1- سورة التكوير، الآية: 8-9.
2- شرح نهج البلاغة 13: 174.
3- بحار الأنوار 7: 93.
4- سورة التكوير، الآية: 8-9.

وفي اليونان لم يختلف الأمر كثيراً، وكان لا يحق للرجل أن يتزوج أكثر من واحدة، فإن تزوج امرأة أخرى كانت الثانية غير رسمية، فله أن يفعل بها ما يشاء، إما يبيعها، أو يجعلها خادمة، أو ما شاكل ذلك.

ولكن لما جاء الإسلام، فأعطى للمرأة كرامتها وحقّها الإنساني في الحياة، وألغى كل مظاهر الظلم التي من شأنها أن تلغي دور المرأة، وتسحق عفتها وشرفها، بل جعل كرامتها متساوية مع كرامة الرجل، ولا فرق إلّا بالتقوى، كما قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّأَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1). فالميزان هو التقوى لا غير، بل إن الإسلام أعطى وزناً خاصاً للمرأة، باعتبارها تتحمل مسؤولية كبيرة في الحياة وهي مسؤولية الأمومة، فتكون الوعاء الحافظ للإنسان، وعليها يعتمد النوع البشري في بقائه، ولذلك كانت هناك مساواة في النظرة الإلهية لكل من الرجل والمرأة، وكان مقياس النظرة الإلهية هو العمل الصالح، قال تعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ}(2).

وقال تعالى أيضاً: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}(3).

ومن جانب آخر، أكد الإسلام على ضرورة الحياة الزوجية ومسألة الزواج، فكان الزواج هو الرابطة الشرعية المقدسة بين الرجل والمرأة، وهو سبب تكوّن الأسرة الصالحة، وهو من أهم أسباب حفظ احترام المرأة وكرامتها وعفتها،

ص: 171


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- سورة آل عمران، الآية: 195.
3- سورة النساء، الآية: 32.

ولذلك نرى الدعوات والتشجيع الملح في الإسلام على الزواج، وهو العلة الأولى لاستمرار النوع البشري بشكل مشروع سليم.

ولعظمة الزواج وأثره الاجتماعي والروحي نرى أن الإسلام قد شجع الناس على ذلك؛ قال اللّه تبارك وتعالى: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَبَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما بني في الإسلام بناء أحب إلى اللّه عزّ وجلّ وأعز من التزويج»(3).

وقال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني»(4).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «من أحب أن يلقى اللّه طاهراً مطهراً فليلقه بزوجة»(5).

وللزواج فوائد عظيمة منها: ما مر ذكره، وهو استمرار النوع البشري، واكتساب ذرية صالحة، ومنها: الحفاظ على عفة المرأة والرجل فإنه قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق اللّه في النصف الباقي»(6).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «لو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آية محكمة ولا

ص: 172


1- سورة النور، الآية: 32.
2- سورة الروم، الآية: 21
3- بحار الأنوار 100: 222.
4- جامع الأخبار: 101.
5- روضة الواعظين 2: 373.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 518.

سنة متبعة ولا أثر مستفيض، لكان فيما جعل اللّه من بر القريب وتقريب البعيد... ما يرغب في دونه العاقل اللبيب ويسارع إليه الموفق المصيب»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من شاب تزوج في حداثة سنه إلّا عج شيطانه: يا ويله، يا ويله! عصم مني ثلثي دينه، فليتق اللّه العبد في الثلث الباقي»(2).

وكذلك من فوائد الزواج: أنه أحد أبواب الرزق والعيش الرغيد، وثقل الميزان في الآخرة.

فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «زوجوا أياماكم؛ فإن اللّه يحسن لهم في أخلاقهم، ويوسع لهم في أرزاقهم، ويزيدهم في مروّاتهم»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء باللّه الظن»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من ترك التزويج مخافة الفقر فقد أساء الظن باللّه عزّ وجلّ؛ إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}»(5)(6).

وسأل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) رجلا من أصحابه فقال: «يا فلان، هل تزوجت؟».

قال: لا؛ وليس عندي ما أتزوج به.

قال: «أليس معك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(7)؟».

ص: 173


1- الكافي 5: 373.
2- النوادر للراوندي: 12.
3- النوادر للراوندي: 36.
4- الكافي 5: 330.
5- سورة النور، الآية: 32.
6- من لا يحضره الفقيه 3: 385.
7- سورة التوحيد، الآية: 1.

قال: بلى.

قال: «ربع القرآن»، قال: «أليس معك: {قُلْ يَٰأَيُّهَا الْكَٰفِرُونَ}(1)؟».

قال: بلى.

قال: «ربع القرآن»، قال: أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ}(2)؟».قال: بلى.

قال: «ربع القرآن».

ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «تزوج، تزوج، تزوج!»(3).

كيف نحافظ على الأسرة؟

إن لكل عمل مقدمات يعتمد عليها، فإذا كانت المقدمات صحيحة وسليمة، كانت النتائج سليمة أيضاً ومثمرة، كالأساس الذي نضعه لقاعدة البناء، فكلما كان متيناً كان البناء الفوقي ثابتاً ورصيناً. وكذلك الأسرة، فهي بمثابة البناء الفوقي، وإن لها مقدمات إذا صلحت صلحت بها الأسرة. ونحن كلما كان اختيارنا للمقدمات السليمة والمتينة والعقلائيةً كانت الأسرة صالحة ونظيفة ومؤمنة، وبعيدة عن أجواء الفساد والتخلف.

وأول هذه المقدمات التي تقع قبل الزواج هي: مسألة اختيار المرأة، بصفات ومميزات وضعها الإسلام لهذه الغاية. وكذلك المرأة لا بد وأن تختار شريكها عبر مواصفات إسلامية ضمن الأطر الشرعية الصحيحة.

وهذه الأمور هي من أهم المقدمات التي تكون قبل الزواج.

ص: 174


1- سورة الكافرون، الآية: 1.
2- سورة الزلزلة، الآية: 1.
3- تفسير نور الثقلين 5: 647.

فأهم مواصفات المرأة هي: أن تكون عفيفة، مؤمنة، طيبة الأصل، ولوداً.

أما مواصفات الرجل، فأهمها: الإيمان والسيرة الحسنة، وأن يكون كفؤاً للمرأة، وقادراً على إعالتها وحمايتها.

فإذا استطاع كل منهما أن يحرز الصفات الجيدة في الطرف الآخر، فهذا أول علامات النجاح في الحياة الزوجية، وبناء الأسرة الصالحة.وهذه باقة عطرة من الأحاديث الشريفة التي تبين مواصفات المرأة والرجل الذي يلزم اختيارهما للزواج، فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة؛ تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله»(1).

وجاء رجل إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: إن لي زوجة إذا دخلت تلقتني، وإذا خرجت شيعتني، وإذا رأتني مهموماً، قالت: ما يهمك إن كنت تهتم لرزقك، فقد تكفل لك به غيرك، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك اللّه هماً.

فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن للّه عمالاً، وهذه من عماله، لها نصف أجر الشهيد»(2).

قال جابر الأنصاري: كنّا جلوساً مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فذكرنا النساء وفضل بعضهن على بعضٍ، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ألا أخبركم؟».

فقلنا: بلى، يا رسول اللّه فأخبرنا؟

فقال: «إن من خير نسائكم: الولود الودود الستيرة، العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها، المتبرجة مع زوجها الحَصان عن غيره، التي تسمع قوله وتطيع أمره،

ص: 175


1- الكافي 5: 327.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 389.

وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها، ولم تبذل له تبذل الرجل».

ثم قال: «ألا أخبركم بشر نسائكم؟».

قالوا: بلى.

قال: «إن من شر نسائكم: الذليلة في أهلها العزيزة مع بعلها، العقيم الحقودالتي لا تتورع من قبيحٍ، المتبرجة إذا غاب عنها بعلها، الحَصان معه إذا حضر، التي لا تسمع قوله ولا تطيع أمره، وإذا خلا بها بعلها تمنعت منه تمنع الصعبة عند ركوبها، ولا تقبل له عذراً ولا تغفر له ذنباً».

ثم قال: «أفلا أخبركم بخير رجالكم؟».

فقلنا: بلى.

قال: «إن من خير رجالكم: التقي النقي، السمح الكفين، السليم الطرفين، البر بوالديه، ولا يلجئ عياله إلى غيره».

ثم قال: «أفلا أخبركم بشر رجالكم؟».

فقلنا: بلى.

قال: «إن من شر رجالكم: البهات الفاحش، الآكل وحده، المانع رفده، الضارب أهله وعبده، البخيل الملجئ عياله إلى غيره، العاق بوالديه»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): تزوجوا الأبكار؛ فإنهن أطيب شي ء أفواهاً، ... وأدر شي ءٍ أخلافاً، وأفتح شي ء أرحاماً، أما علمتم أني أباهي بكم الأمم يوم القيامة، حتى بالسقط، يظل محبنطئاً(2) على باب الجنة، فيقول اللّه عزّ وجلّ: ادخل الجنة، فيقول: لا أدخل لا حتى يدخل أبواي قبلي،

ص: 176


1- تهذيب الأحكام 7: 400.
2- المحبنطئ: هو المتغضب الممتلئ غيظاً، المستبطئ للشيء.

فيقول اللّه تعالى لملك من الملائكة: ائتني بأبويه، فيأمر بهما إلى الجنة، فيقول: هذا بفضل رحمتي لك»(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «أتى رجل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يستأمره في النكاح، فقالرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): نعم، انكح، وعليك بذوات الدين تربت يداك، وقال: إنما مثل المرأة الصالحة مثل الغراب الأعصم، الذي لا يكاد يقدر عليه، قال: وما الغراب الأعصم؟ قال: الأبيض إحدى رجليه»(2).

وعن إبراهيم الكرخي قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إن صاحبتي هلكت، وكانت لي موافقة، وقد هممت أن أتزوج؟

قال: فقال لي: انظر أين تضع نفسك، ومن تشركه في مالك، وتطلعه على دينك وسرك، فإن كنت فاعلاً فبكراً تنسب إلى الخير، وإلى حسن الخلق.

واعلم أنهن كما قال:

ألا أن النساء خلقن شتى *** فمنهن الغنيمة والغرام

ومنهن الهلال إذا تجلى *** لصاحبه ومنهن الظلام

فمن يظفر بصالحهن يسعد *** ومن يعثر فليس له انتقام

وهن ثلاث: فامرأة ولود ودود، تعين زوجها على دهره لدنياه وآخرته، ولا تعين الدهر عليه، وامرأة عقيمة لا ذات جمال ولا خُلق ولا تعين زوجها على خير، وامرأة صخابة ولّاجة همازة تستقل الكثير ولا تقبل اليسير»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): إياكم وتزويج الحمقاء؛

ص: 177


1- الكافي 5: 334.
2- تهذيب الأحكام 7: 401.
3- الكافي 5: 323.

فإن صحبتها بلاء وولدها ضياع»(1).

ومما أوصى لقمان ابنه فقال: «يا بني، النساء أربع: ثنتان صالحتان، وثنتانملعونتان، فأما إحدى الصالحتين، فهي: الشريفة في قومها الذليلة في نفسها، التي إن أعطيت شكرت وإن ابتليت صبرت، القليل في يديها كثير، الصالحة في بيتها، والثانية: الولود الودود تعود بخير على زوجها، هي كالأم الرحيم تعطف على كبيرهم وترحم صغيرهم، وتحب ولد زوجها وإن كانوا من غيرها، جامعة الشمل، مرضية البعل، مصلحة في النفس والأهل والمال والولد، فهي كالذهب الأحمر، طوبى لمن رزقها. إن شهد زوجها أعانته، وإن غاب عنها حفظته. وأما إحدى الملعونتين فهي: العظيمة في نفسها الذليلة في قومها، التي إن أعطيت سخطت، وإن منعت عتبت وغضبت، فزوجها منها في بلاء، وجيرانها منها في عناء، فهي كالأسد، إن جاورته أكلك، وإن هربت منه قتلك، والملعونة الثانية فهي: عند زوجها، وميلها في جيرانها، فهي سريعة السخطة، سريعة الدمعة، إن شهد زوجها لم تنفعه وإن غاب عنها فضحته، فهي بمنزلة الأرض النشاشة، إن أسقيت إفاضت الماء وغرقت، وإن تركتها عطشت، وإن رزقت منها ولداً لم تنتفع به. يا بني، لاتتزوج بأمة فيباع ولدك بين يديك وهو فعلك بنفسك، يا بني، لو كانت النساء تذاق كما تذاق الخمر ما تزوج رجل امرأة سوء أبداً...»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «دخل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) منزله، فإذا عائشة مقبلة على فاطمة(عليها السلام) تصايحها وهي تقول: واللّه، يا بنت خديجة ما ترين إلّا أن لأمك علينا فضلاً، وأي فضل كان لها علينا؟ ما هي إلّا كبعضنا. فسمع مقالتها لفاطمة،

ص: 178


1- الكافي 5: 353.
2- الاختصاص: 339.

فلما رأت فاطمة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بكت فقال لها: ما يبكيك يا بنت محمد؟ قالت: ذكرت أمي فتنقصتها فبكيت، فغضب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال: مه يا حميراء فإناللّه تبارك وتعالى، بارك في الولود الودود ، وإن خديجة رحمها اللّه ولدت مني طاهراً وهو عبد اللّه وهو المطهر، وولدت مني القاسم وفاطمة ورقية وأم كلثوم وزينب، وأنت ممن أعقم اللّه رحمه فلم تلدي شيئا»(1).

أما مواصفات الرجل فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته يخطب إليكم فزوجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(2).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام): «إن خطب إليك رجل رضيت دينه وخلقه فزوجه، ولا يمنعك فقره وفاقته، قال اللّه تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ}(3) وقوله: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}»(4)(5).

وجاء رجل إلى الإمام الحسن(عليه السلام) يستشيره في تزويج ابنته؟

فقال: «زوجها من رجل تقي، فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها»(6).

مرحلة ما بعد الزواج

أما بعد الزواج ومرحلة الإنجاب والحصول على الأولاد، فالمسؤولية على الزوجين أكبر، حيث يلزم على الأبوين أن يقوما بوخطوات لتربية الأطفال تربية

ص: 179


1- الخصال 2: 405.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 519.
3- سورة النساء، الآية: 130.
4- سورة النور، الآية: 32.
5- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 237.
6- مكارم الأخلاق: 204.

سليمة من جهة، وخطوات فيما بينهما من جهة أخرى.

أما فيما بينهما من أمور، فمثل طاعة المرأة للزوج، وأخذ إذنه في الخروج منالبيت، وأمور أخرى، كاحترامه وخدمته ما أمكن، والعناية به، والمحافظة على أمواله وأطفاله وممتلكاته، وتمكينه منها.

أما الأمور التي يلزم أن يقوم بها الزوج تجاه زوجته، فهي: المحافظة عليها، وحمايتها، وتلبية احتياجاتها واحترامها، والتفاهم معها وتهيئة الملبس والمسكن لها.

وتبقى الخطوات التي يلزم أن يقومان بها معاً، وهي تربية الأولاد على النهج الإسلامي القويم، وتدبير المنزل، وخلق الأجواء الإيمانية فيه، وإبراز الحب والود والحنان للأطفال، وأن تسود المنزل ظاهرة الأبوة السمحة والأمومة العاطفية، وتغذية الأولاد بالأفكار والمفاهيم الإسلامية الرفيعة، لكي تكون بمثابة الأساس والمنطلق القويم لهم في الغد، والابتعاد عن الأجواء الفاسدة والعلاقات المضطربة بين الأبوين وإبعاد الأطفال عنها. وإبداء الاحترام للجيران وتعليم الأطفال ذلك، وغير ذلك من البرامج الإسلامية التي وضعها الإسلام للمحافظة على الأسرة بصورة عامة، والحياة الزوجية بصورة خاصة، وقد ورد بيانه مفصلاً في الأحاديث الشريفة.

الإيمان وتأثيره على الأسرة

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى تكون فيه خصال ثلاث: التفقه في الدين، وحسن التقدير في المعيشة، والصبر على الرزايا»(1).

عندما يملأ الإيمان باللّه تعالى كل جوارح الإنسان وجوانحه، وعندما

ص: 180


1- المحاسن 1: 5.

يستضيء بنور المعرفة والتوكل على اللّه؛ عندها يرى الإنسان الأشياء على حقائقها، ولكن عندما يبتعد الإنسان عن اللّه تعالى، ويخبو الإيمان في قلبه؛عندها يرى الأوهام حقائق، وتبرز عنده الأزمات النفسية، وتضعف همته، ويخشى من أي شيء، ويتصور أن للأشياء استقلالاً ذاتياً في الوجود، حيث تنعدم عنده فكرة أن لا مؤثر في الوجود إلّا اللّه تعالى، ويتصور أن المخلوقات المختلفة تؤثر بدون إذن اللّه وإرادته وعلمه بها.

ومن هنا تبرز في حياة الإنسان أزمات نفسية وأفكار منحرفة، ناتجة من ضعف الإيمان، فتؤثر على العلاقات الاجتماعية وتهدم حياة الأسرة، أو على الأقل تعدم الثقة بين الزوجين؛ لأن الإنسان في هذه الحالة لا يؤمن بوجود رقيب يراقب كل حركاته وسكناته، فيتصرف طبق رغباته وأهوائه فتنعدم القيم الإنسانية، ويصبح تفكيره وتصرفه مادياً بحتاً. أما إذا بنيت العلاقة الزوجية على أساس الإيمان والتقوى، فإن ذلك يكون دافعاً قوياً للاستقرار، وتكوين عائلة متكاملة له.

الزواج المبارك

عندما نقرأ حياة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ومولاتنا فاطمة الزهراء(عليها السلام)؛ وعلى الأخص بعد الزواج المبارك نجدهما في قمة الفضيلة والنجاح، فكان زواجهما زواجاً ناجحاً، ومثالاً حياً يقتدى به على مرّ السنين.

ولو تساءلنا لماذا كيف كان زواجهما(عليهما السلام) هكذا وسيرتهما مثالية بهذا الشكل، رغم الصعوبات المادية والظروف الصعبة المحيطة بهما؟ ولو دققنا في الجواب، لوجدنا أن السبب الحقيقي لذلك هو: أنهما(عليهما السلام) وضعا رضا اللّه عزّ وجلّ في كل تحرك لهما، حيث إن الإيمان والعلاقة الخاصة لهما باللّه تعالى، فرضت عليهما القناعة، والزهد، والبساطة، والابتعاد عن كل مظهر زائف وغير لائق، في مسألة الزواج، فلم يكن همّهما المال أو الملبس، أو إقامة وليمة الزواج بشكل مترف

ص: 181

ومبهرج وبتكلف. فلم تفكر الصديقة الزهراء(عليها السلام) فيما يمتلك الإمام علي(عليه السلام) من أموال ونقود؟وقد روي: أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لرجل من بني سعد: «ألا أحدثك عني وعن فاطمة الزهراء، إنها كانت عندي فاستقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها فأصابها من ذلك ضر شديدٌ، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتِه خادماً يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل.

فأتت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فوجدت عنده حداثاً فاستحيت فانصرفت.

فعلم(صلی الله عليه وآله وسلم) أنها قد جاءت لحاجة، فغدا علينا ونحن في لحافنا، فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا.

ثم قال: السلام عليكم، فسكتنا.

ثم قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك فيسلم ثلاثاً فإن أذن له وإلّا انصرف.

فقلنا: وعليك السلام يا رسول اللّه، ادخل.

فدخل(صلی الله عليه وآله وسلم) وجلس عند رؤوسنا، ثم قال: يا فاطمة، ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟

فخشيت إن لم نجبه أن يقوم، فأخرجت رأسي، فقلت: أنا واللّه أخبرك يا رسول اللّه، إنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل.

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): أفلا أعلمكما ما هو خيرٌ لكما من الخادم، إذا أخذتما منامكما

ص: 182

فكبرا أربعاً وثلاثين تكبيرةً، وسبحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحةً، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدةً.فأخرجت فاطمة(عليها السلام) رأسها وقالت: رضيت عن اللّه وعن رسوله، رضيت عن اللّه وعن رسوله»(1).

ولكن - وللأسف - دأبت بعض العوائل في يومنا هذا على خلاف ما ذكرناه من القناعة والمحبة، فظهرت في الأسرة مشاكل وأزمات وبرزت هذه المشاكل على سطح الحياة، لتعبر بصورة أو بأخرى عن رداءة العلاقات الروحية فيما بين الزوجين، وضعف الإيمان، أو انعدام الإيمان، ثم عدم التوكل على اللّه تعالى، وعدم جعل رضا اللّه تعالى هو المنطلق والأساس في حياتهما، بل أقحموا بعض الأمور التافهة في حياتهما، وجعلوها هي الأساس والمنطلق، ولو على حساب الدين والعقيدة. ومن جملة هذه المقاييس. أو بالأحرى الموانع والعراقيل للسعادة الزوجية، عدة أمور:

أولاً: الطبقية، أي المستوى والمكانة الاجتماعية، فإن بعض العوائل جعلت الطبقية المادية مقياساً للزواج، وأخذوا يسألون مثلاً: هل الزواج من فلان أو فلانة يتلائم مع طبقتنا أم لا؟ وفي نظرهم: أن الملاءمة تعتمد على أساس المادة، أو صلة القرابة، بينما جاء في الحديث الشريف: «كلكم لآدم، وآدم من تراب»(2).

فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن اللّه عزّ وجلّ لم يترك شيئاً مما يحتاج إليه إلّا علمه نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم) فكان من تعليمه إياه أنه صعد المنبر ذات يومٍ فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن جبرئيل أتاني عن اللطيف الخبير فقال: إن الأبكار

ص: 183


1- من لايحضره الفقيه 1: 320.
2- جامع الأخبار: 183.

بمنزلة الثمر على الشجر، إذا أدرك ثمره فلم يجتنى أفسدته الشمس ونثرتهالرياح، وكذلك الأبكار إذا أدركن ما يدرك النساء فليس لهن دواءٌ إلّا البعولة، وإلّا لم يؤمن عليهن الفساد لأنهن بشرٌ.

قال: فقام إليه رجلٌ، فقال: يا رسول اللّه فمن نزوج؟

فقال: الأكفاء.

فقال: يا رسول اللّه، ومن الْأكفاء؟

فقال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعضٍ، المؤمنون بعضهم أكفاء بعضٍ»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الكفؤ أن يكون عفيفاً وعنده يسار»(2).

وعن الحسين بن بشارٍ قال: كتبت إلى أبي جعفرٍ(عليه السلام) في رجلٍ خطب إلي؟

فكتب: «من خطب إليكم فرضيتم دينه وأمانته كائناً من كان فزوجوه، وإلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(3).

وذكر في قصة: أن رجلاً وامرأة أرادا الزواج، وهما من عشيرتين مختلفتين، وكان التصور عند أهل كل منهما أن عشيرته أرفع من مستوى العشيرة الأخرى، وقد كان المانع الأول والمعارض أشد الممانعين والمعارضين الذي وقف أمام هذا الزواج: امرأة كبيرة في السن من إحدى العشيرتين، وبعد فترة توفيت هذه المرأة، فرآها أحد الأشخاص في عالم الرؤيا بعد سنوات، فقالت له: لقد كنت في كل هذه السنين تحت العذاب الأليم، فسألها: وما هو ذنبك الذي اقترفتيه؟

فأجابت: لأنني منعت تزويج فلان من فلانة، وما رفع عني العذاب حتى تزوجت.

ص: 184


1- الكافي 5: 337.
2- الكافي 5: 347.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 393.

نعم، إنها حقائق تنعكس في العالم الآخر، فيجب أن لا تغيب عنا مثل هذهالعبر.

ثانياً: الدخل الشهري، أوالرصيد المالي، وإنه كم يملك في المصارف أوالبنوك، فقد أصبحت معرفة هذا الأمر من أهم المقدمات في الزواج، وعليه تكون الموافقة أو عدمها؛ بحيث نسوا أو تناسوا المقاييس الحقيقية: من إيمان وكفاءة، وأقحموا المال فجعلوه المقياس الأهم، الذي تبنى على أساسه الرابطة الزوجية، وكذلك يقيّم على أساسه كل من الرجل والمرأة. ولكن علينا أن ننظر في تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) في الزواج ونرى ماذا يقولون.

فورد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إذا تزوج الرجل المرأة لمالها أو جمالها لم يرزق ذلك، فإن تزوجها لدينها رزقه اللّه عزّ وجلّ جمالها ومالها»(1).

ثالثاً: الجاه أو المنصب، ولقد أصبح كل من الزوج والزوجة عندما يقدمان على الزواج، يسألان عن المنصب الذي يشغله الآخر، بحيث شاعت بعض العبارات الشعبية حول ذلك. مثلاً: في العراق شاعت عند بعض العوائل كانت عبارة: (لو ملازم لو مو لازم)(2)، أي: إن الذي يقدم على الزواج يجب أن يكون برتبة ضابط في الجيش أو الشرطة فما فوق، أو لاحاجة لنا بهذا الزواج وهذا الخاطب.

فغيروا بذلك المقاييس الحقيقية للزواج، وهي التقوى والإيمان والأخلاق الطيبة... فاستبدلوها بالمال والمنصب والدخل الشهري، وما إلى ذلك، مما يلائم أهواءهم ومصالحهم المادية، حتى وإن كان ذلك الرجل عاملاً للظالمين!

ص: 185


1- من لا يحضره الفقيه 3: 392.
2- أي أن يكون الزوج ضابطاً في الجيش، و(الملازم) رتبة عسكرية في الجيش العراقي، وقد اشتهر هذا المثل إبان الحرب العراقية الإيرانية.

قال أبو حمزة الثمالي: كنت عند أبي جعفر(عليه السلام) إذ استأذن عليه رجل فأذن له، فدخل عليه فسلم فرحب به أبو جعفر(عليه السلام) وأدناه وساءله، فقال الرجل: جعلت فداك، إني خطبت إلى مولاك فلان بن أبي رافع ابنته فلانة، فردني ورغب عني وازدرأني؛ لدمامتي وحاجتي وغربتي، وقد دخلني من ذلك غضاضة هجمة غض لها قلبي، تمنيت عندها الموت؟

فقال أبو جعفر(عليه السلام): «اذهب فأنت رسولي إليه، وقل له: يقول لك محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام): زوج منجح بن رباح مولاي ابنتك فلانة، ولا ترده».

قال أبو حمزة: فوثب الرجل فرحاً مسرعاً برسالة أبي جعفر(عليه السلام)، فلما أن توارى الرجل قال أبو جعفر(عليه السلام): «إن رجلاً كان من أهل اليمامة يقال له: جويبر، أتى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) منتجعاً للإسلام، فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قباح السودان، فضمه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لحال غربته وعراه، وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر بالصاع الأول، وكساه شملتين، وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل، فمكث بذلك ما شاء اللّه حتى كثر الغرباء ممن يدخل في الإسلام من أهل الحاجة بالمدينة، وضاق بهم المسجد، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم): أن طهر مسجدك، وأخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل، ومر بسد أبواب من كان له في مسجدك باب إلّا باب علي(عليه السلام) ومسكن فاطمة(عليها السلام)، ولا يمرن فيه جنب، ولا يرقد فيه غريب.

قال: فأمر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بسد أبوابهم إلّا باب علي(عليه السلام) وأقر مسكن فاطمة(عليها السلام) على حاله.

قال: ثم إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أمر أن يتخذ للمسلمين سقيفة فعملت لهم وهي الصفة، ثم أمر الغرباء والمساكين أن يظلوا فيها نهارهم وليلهم، فنزلوها واجتمعوا

ص: 186

فيها، فكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يتعاهدهم بالبر والتمر والشعير والزبيب إذا كان عنده، وكان المسلمون يتعاهدونهم ويرقون عليهم لرقة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، ويصرفون صدقاتهم إليهم. فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقة عليه، فقال له: يا جويبر، لو تزوجت امرأةً فعففت بها فرجك، وأعانتك على دنياك وآخرتك؟

فقال له جويبر: يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمي، من يرغب في! فو اللّه ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال؛ فأية امرأة ترغب في؟

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا جويبر، إن اللّه قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم، وإن آدم خلقه اللّه من طين، وإن أحب الناس إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلّا لمن كان أتقى للّه منك وأطوع، ثم قال له: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد، فإنه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم، فقل له: إني رسول رسول اللّه إليك، وهو يقول: لك زوج جويبراً ابنتك الذلفاء.

قال: فانطلق جويبر برسالة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله، وجماعة من قومه عنده، فاستأذن فأعلم فأذن له، فدخل وسلم عليه ثم قال: يا زياد بن لبيد، إني رسول رسول اللّه إليك في حاجة لي، فأبوح بها أم أسرها إليك؟

فقال له زياد: بل بح بها؛ فإن ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقال له زياد: أرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أرسلك إلي بهذا؟!

ص: 187

فقال له: نعم؛ ما كنت لأكذب على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

فقال له زياد: إنا لا نزوج فتياتنا إلّا أكفاءنا من الأنصار، فانصرف يا جويبر حتى ألقى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فأخبره بعذري.

فانصرف جويبر وهو يقول: واللّه، ما بهذا نزل القرآن، ولا بهذا ظهرت نبوة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم).

فسمعت مقالته الذلفاء بنت زياد، وهي في خدرها، فأرسلت إلى أبيها: أدخل إلي، فدخل إليها فقالت له: ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبراً؟

فقال لها: ذكر لي أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أرسله وقال: يقول لك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): زوج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقالت له: واللّه، ما كان جويبر ليكذب على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بحضرته، فابعث الآن رسولاً يرد عليك جويبراً، فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً، فقال له زياد: يا جويبر، مرحباً بك، اطمئن حتى أعود إليك، ثم انطلق زياد إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال له: بأبي أنت وأمي، إن جويبراً أتاني برسالتك. وقال: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الذلفاء، فلم ألن له بالقول، ورأيت لقاءك ونحن لا نتزوج إلّا أكفاءنا من الأنصار؟

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا زياد، جويبر مؤمن، والمؤمن كفو للمؤمنة، والمسلم كفو للمسلمة، فزوجه يا زياد ولا ترغب عنه.

قال: فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته، فقال لها ما سمعه من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

فقالت له: إنك إن عصيت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كفرت، فزوج جويبراً.

فخرج زياد فأخذ بيد جويبر، ثم أخرجه إلى قومه، فزوجه على سنة اللّه وسنةرسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وضمن صداقه.

ص: 188

قال: فجهزها زياد وهيئوها، ثم أرسلوا إلى جويبر، فقالوا له: ألك منزل فنسوقها إليك؟

فقال: واللّه، ما لي من منزل!

قال: فهيئوها وهيئوا لها منزلاً، وهيئوا فيه فراشاً ومتاعاً، وكَسَوا جويبراً ثوبين، وأدخلت الذلفاء في بيتها، وأدخل جويبر عليها معتماً، فلما رآها نظر إلى بيت ومتاع وريح طيبة، قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى طلع الفجر، فلما سمع النداء خرج وخرجت زوجته إلى الصلاة، فتوضأت وصلت الصبح، فسئلت: هل مسك؟

فقالت: ما زال تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتى سمع النداء فخرج.

فلما كانت الليلة الثانية فعل مثل ذلك، وأخفوا ذلك من زياد.

فلما كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأخبر بذلك أبوها، فانطلق إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، أمرتني بتزويج جويبر، ولا واللّه ما كان من مناكحنا، ولكن طاعتك أوجبت علي تزويجه؟

فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): فما الذي أنكرتم منه؟

قال: إنا هيأنا له بيتاً ومتاعاً، وأدخلت ابنتي البيت، وأدخل معها معتماً فما كلمها ولا نظر إليها ولا دنا منها، بل قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى سمع النداء فخرج، ثم فعل مثل ذلك في الليلة الثانية، ومثل ذلك في الثالثة، ولم يدن منها ولم يكلمها إلى أن جئتك، وما نراه يريد النساء، فانظر في أمرنا؟

فانصرف زياد وبعث رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى جويبر، فقال له: أما تقرب النساء؟

فقال له جويبر: أوما أنا بفحل! بلى يا رسول اللّه، إني لشبق نهم إلى النساء.

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): قد خبرت بخلاف ما وصفت به نفسك، قد ذكر لي

ص: 189

أنهم هيئوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً، وأدخلت عليك فتاة حسناء عطرة وأتيت معتماً، فلم تنظر إليها، ولم تكلمها، ولم تدن منها، فما دهاك إذن؟

فقال له جويبر: يا رسول اللّه، دخلت بيتاً واسعاً ورأيت فراشاً ومتاعاً وفتاةً حسناء عطرةً، وذكرت حالي التي كنت عليها، وغربتي وحاجتي ووضيعتي وكسوتي مع الغرباء والمساكين، فأحببت إذ أولاني اللّه ذلك، أن أشكره على ما أعطاني وأتقرب إليه بحقيقة الشكر، فنهضت إلى جانب البيت فلم أزل في صلاتي تالياً للقرآن راكعاً وساجداً أشكر اللّه، حتى سمعت النداء فخرجت، فلما أصبحت رأيت أن أصوم ذلك اليوم، ففعلت ذلك ثلاثة أيام ولياليها، ورأيت ذلك في جنب ما أعطاني اللّه يسيراً، ولكني سأرضيها وأرضيهم الليلة، إن شاء اللّه.

فأرسل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى زياد، فأتاه فأعلمه ما قال جويبر، فطابت أنفسهم.

قال: ووفى لها جويبر بما قال.

ثم إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) خرج في غزوة له ومعه جويبر فاستشهد(رحمه الله) فما كان في الأنصار أيم أنفق منها بعد جويبر»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) زوج المقداد بن أسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، ثم قال: إنما زوجها المقداد لتتضع المناكح، وليتأسوا برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ولتعلموا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2) وكان الزبير أخا عبد اللّه وأبي طالب لأبيهما وأمهما»(3).

وذكر أنه كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه بأخبار ما يحدث فيها، وإن علي بن الحسين(عليهما السلام) أعتق جاريةً ثم تزوجها، فكتب العين إلى عبد

ص: 190


1- الكافي 5: 339.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- الكافي 5: 344.

الملك، فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين(عليهما السلام): أما بعد، فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنه كان في أكفائك من قريش من تمجد به في الصهر وتستنجبه في الولد، فلا لنفسك نظرت ولا على ولدك أبقيت، والسلام!

فكتب إليه علي بن الحسين(عليهما السلام): «أما بعد، فقد بلغني كتابك تعنّفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنه كان في نساء قريش من أتمجد به في الصهر وأستنجبه في الولد، وأنه ليس فوق رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مرتقاً في مجد ولا مستزاد في كرم، وإنما كانت ملك يميني خرجت متى أراد اللّه عزّ وجلّ مني، بأمر ألتمس به ثوابه، ثم ارتجعتها على سنة، ومن كان زكياً في دين اللّه فليس يخل به شي ء من أمره، وقد رفع اللّه بالإسلام الخسيسة وتمم به النقيصة وأذهب اللؤم، فلا لؤم على امرئ مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية، والسلام».

فلما قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين، لشد ما فخر عليك علي بن الحسين(عليهما السلام)! فقال: يا بني لا تقل ذلك؛ فإنه ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر وتغرف من بحر، إن علي بن الحسين(عليهما السلام) يا بني يرتفع من حيث يتضع الناس»(1).

وفي رواية أخرى عن الامام الصادق(عليه السلام) لما ردّ الإمام السجاد(عليه السلام) على كتاب عبد الملك بن مروان قال لمن عنده: خبِّروني عن رجل إذا أتى ما يضع الناس لم يزده إلّا شرفاً؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين، قال: لا واللّه ما هوذاك؛ قالوا: ما نعرف إلّا أمير المؤمنين! قال: فلا واللّه، ما هو بأمير المؤمنين، ولكنه علي بن الحسين(عليهما السلام)(2).

ص: 191


1- الكافي 5: 344.
2- الكافي 5: 346.

العودة إلى مقاييس القرآن

قال تبارك تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

تقدم الكلام عن بعض الموانع التي وضعها بعض الناس والتي أثرت هي وغيرها بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الزواج في المجتمع، فصار الرجل متأخراً في الزواج، أو عازباً عنه، ويوماً بعد يوم يتقدم به العمر دون أن يخرج من هذا المأزق الوضعي، وكذلك الحال بالنسبة للنساء، فكثرت النساء غير المتزوجات، بسبب هذه المقاييس الظالمة، التي ما أنزل اللّه بها من سلطان.

فأدت هذه الكثرة من الرجال والنساء غير المتزوجين، إلى ظهور ألوان مختلفة من الفساد والانحراف الأخلاقي، والتمرد على الدين وأحكامه، فظهرت مظاهر الزنا واللواط والمساحقة والعلاقات المشبوهة، التي تضر بسمعة الطرفين. وأخذت بعض الدول تعاني من كثرة هذه الأخطار والمآسي، من جراء الانحلال الأخلاقي، وانعدام القيم، فكثرت وارتفعت نسبة الإجهاض والاغتصاب والاعتداء على الأعراض. لا سيما وأن الكنيسة تقوم ببث فكرة العزوبة بين الناس، كما هي في الرهبان والراهبات، والتي يختفي خلفها أشد أنواع الفساد، ولعل ذلك أعظم وأفظع من الفساد الظاهري، بينما القرآن الكريم يعري اتجاههم هذا بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَٰهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَٰنِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّرِعَايَتِهَا}(2).

قيل: الرهبانية التي أبتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع.

وقال قوم: الرهبانية التي ابتدعوها لحاقهم بالبراري والجبال.

ص: 192


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- سورة الحديد، الآية: 27.

وقيل: الرهبانية الانقطاع عن الناس للانفراد بالعبادة(1).

أما رهبانية الإسلام فهي كما الوارد عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الاطهار(عليهم السلام) من أحاديث وتوجيهات، حيث روي: إنه توفي ابن لعثمان بن مظعون فاشتد حزنه عليه حتى اتخذ من داره مسجداً يتعبد فيه، فبلغ ذلك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: «يا عثمان، إن اللّه تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل اللّه، يا عثمان بن مظعون للجنة ثمانية أبواب وللنار سبعة أبواب، أفما يسرك أن لا تأتي باباً منها إلّا وجدت ابنك إلى جنبك، آخذاً بحجزتك يشفعك إلى ربك؟».

قال: بلى.

فقال المسلمون: ولنا يا رسول اللّه في فَرَطِنا ما لعثمان؟

قال: «نعم، لمن صبر منكم واحتسب»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ليس في أمتي رهبانية ولا سياحة، ولا زمٌّ، يعني: سكوت»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) شرائعنوح - إلى أن قال - والفطرة الحنيفية السمحة، لا رهبانية ولا سياحة»(4).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه نهى عن الترهُّب، وقال: «لا رهبانية في الإسلام، تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم»(5).

ص: 193


1- انظر: التبيان في تفسير القرآن 9: 537.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 66.
3- الخصال 1: 137.
4- الكافي 2: 17.
5- دعائم الإسلام 2: 193.

وعن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنه قال: «المتزوج النائم أفضل عند اللّه من الصائم القائم العزب»(1).

وعن عكّاف بن وداعة الهلالي قال: أتيت إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال لي: «يا عكّاف، أ لك زوجة؟».

قلت: لا.

قال: «ألك جارية؟».

قلت: لا.

قال: «وأنت صحيح موسر؟!».

قلت: نعم، والحمد للّه.

قال: «فإنك إذاً من إخوان الشياطين، إما أن تكون من رهبان النصارى، وإما أن تصنع كما يصنع المسلمون، وإن من سنتنا النكاح، شراركم عزابكم، وأراذل موتاكم عزابكم - إلى أن قال - ويحك يا عكّاف، تزوج تزوج؛ فإنك من الخاطئين». قلت: يا رسول اللّه، زوجني قبل أن أقوم. فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «زوجتك كريمة بنت كلثوم الحميري»(2).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «أربعة يلعنهم اللّه من فوق عرشه ويُؤَمِّنُونالملائكة: رجل يتحفظ نفسه ولا يتزوج ولا جارية له كيلا يكون له ولد...»(3).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «شراركم عزابكم، والعزاب إخوان الشياطين»(4).

ص: 194


1- جامع الأخبار: 101.
2- مستدرك الوسائل 2: 155.
3- مستدرك الوسائل 14: 156.
4- جامع الأخبار: 102.

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «خيار أمتي المتأهلون وشرار أمتي العزاب»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «خير أمتي أولها المتزوجون وآخرها العزاب»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لعن اللّه وأَمَّنت الملائكة على رجل تأنث وامرأة تذكرت، ورجل مُتَحَصِّر ولا حَصور بعد يحيى»(3).

إذن، الواجب على المسلمين الرجوع إلى تعاليم القرآن وجعلها مقياساً حقيقياً ومنطلقاً أساسياً في الحياة، وكذلك الرجوع إلى السنة المطهرة، والأدب الإسلامي الرفيع، والأخلاق والتقاليد الإسلامية، فيلزم علينا أن نجعل كل ذلك هو الأساس في تعاملنا مع أنفسنا ومع الآخرين، وعندها سوف نحصل على مجتمع متكامل وأسرة فاضلة تسودها المحبة والإخلاص بإذن اللّه تعالى، أما اذا تشبثنا بالعادات الوضعية الدخيلة، وتمسكنا بظاهرة التقليد التي راجت كثيراً في بلداننا الإسلامية، تحاول أن تقلد نظام الأسرة في المجتمعات الغربية، فإن نتيجة ذلك هو: التفكك الأسري، والانحلال الأخلاقي.

فالحصانة والاستقرار الأسري الحقيقي يبتني على العودة إلى مقاييس القرآن والتمسك بها.

اللّهم صل على محمد وآل محمد «اللّهم تفضل على مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة»(4)

بحق محمد وآله الطاهرين.

ص: 195


1- جامع الأخبار: 102.
2- مستدرك الوسائل 14: 156.
3- مستدرك الوسائل 14: 156.
4- المصباح للكفعمي: 281.

من هدي القرآن الحكيم

الحث على الزواج

قال اللّه تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(1).

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَٰجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بَِٔايَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٌ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً}(3).

اختيار الزوجة الصالحة

قال جلّ وعلا: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(4).

وقال تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَٰجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَٰتٖ مُّؤْمِنَٰتٖقَٰنِتَٰتٖ تَٰئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٖ سَٰئِحَٰتٖ ثَيِّبَٰتٖ وَأَبْكَارًا}(5).

وقال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَٰتِ الْمُؤْمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ الْمُؤْمِنَٰتِ}(6).

ص: 196


1- سورة الروم، الآية: 21.
2- سورة الرعد، الآية: 38.
3- سورة النساء، الآية: 3.
4- سورة النور، الآية: 32.
5- سورة التحريم، الآية: 5.
6- سورة النساء، الآية: 25.

التعامل الأخلاقي عامل انسجام

قال عزّ وجلّ: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(2).

آثار الإيمان

قال سبحانه: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مََٔابٖ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَٰتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ وَالْقَٰنِتِينَ وَالْقَٰنِتَٰتِ وَالصَّٰدِقِينَ وَالصَّٰدِقَٰتِ وَالصَّٰبِرِينَ وَالصَّٰبِرَٰتِ وَالْخَٰشِعِينَ وَالْخَٰشِعَٰتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَٰتِ وَالصَّٰئِمِينَ وَالصَّٰئِمَٰتِ وَالْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَٰفِظَٰتِ وَالذَّٰكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(4).

وقال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَٰهُم مِّنْعَمَلِهِم مِّن شَيْءٖ كُلُّ امْرِيِٕ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَٰهُم بِفَٰكِهَةٖ وَلَحْمٖ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}(5).

وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ أُوْلَٰئِكَ

ص: 197


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- سورة البقرة، الآية: 83.
3- سورة الرعد، الآية: 28-29.
4- سورة الأحزاب، الآية: 35.
5- سورة الطور، الآية: 21-22.
6- سورة التوبة، الآية: 71.

سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الحث على الزواج

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أشيدوا بالنكاح وأعلنوه بينكم»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تزوجوا فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كثيراً ما كان يقول: من كان يحب أن يتبع سنتي فليتزوج، فإن من سنتي التزويج، واطلبوا الولد فإني أكاثر بكم الأمم غداً، وتوقوا على أولادكم لبن البغي من النساء والمجنونة؛ فإن اللبن يعدي»(4).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن امرأة سألت أبا جعفر(عليه السلام) فقالت: أصلحك اللّه، إني متبتلة، قال لها: وما التبتل عندك؟! قالت: لا أريد التزويج أبداً. قال: ولم؟! قالت: ألتمس في ذلك الفضل، فقال: انصرفي، فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة(عليها السلام) أحق به منك، إنه ليس أحد يسبقها إلى الفضل»(5).

الزوجة الصالحة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً»(6).

ص: 198


1- سورة النساء، الآية: 152.
2- سورة المائدة، الآية: 9.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 519.
4- الخصال 2: 615.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 370.
6- الكافي 5: 324.

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن من القسم المصلح للمرء المسلم أن تكون له امرأة إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإن أمرها أطاعته»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «... انكح، وعليك بذات الدين تربت يداك»(2)(3).

حسن الخلق عامل انسجام الأسرة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «حسن الخلق يثبت المودة»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن الخلق يورث المحبة ويؤكد المودة»(5).

وقال أبي عبد اللّه(عليه السلام): «أيما أهل بيت أعطوا حظهم من الرفق فقد وسع اللّه عليهم في الرزق، والرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال...»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثلاث يوجبن المحبة: حسن الخلق، وحسن الرفق،والتواضع»(7).

آثار الإيمان

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «تخللوا فإنه من النظافة والنظافة من الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنة»(8).

ص: 199


1- الكافي 5: 327.
2- ترب الرجل: إذا افتقر أي لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى، وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر به، كما يقولون قاتله اللّه، وقيل: معناها للّه درّك.
3- الكافي 5: 332.
4- تحف العقول: 45.
5- غرر الحكم ودرر الحكم: 347.
6- الكافي 2: 119.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 332.
8- طب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): 21.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالإيمان يرتقى إلى ذروة السعادة ونهاية الحُبُور»(1)(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «للمؤمن على اللّه عزّ وجلّ عشرون خصلة، يفي له بها على اللّه تبارك وتعالى: أن لا يفتّنه ولا يضله، وله على اللّه أن لا يعريه ولا يجوعه، وله على اللّه أن لا يشمت به عدوه، وله على اللّه أن لا يخذله ويعزله، وله على اللّه أن لا يهتك ستره... وله على اللّه أن يحشره يوم القيامة ونوره يسعى يبن يديه...»(3).

ص: 200


1- الحُبُور: السرور.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 304.
3- الخصال 2: 516.

السبيل إلى الوحدة الإسلامية

أمة واحدة ورب غفور

قال اللّه تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

الوحدة الإسلامية والأمة الواحدة من أهم الأسس التي أكد عليها القرآن الكريم والنبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكان المسلمون بفضل هذا القانون - مضافاً إلى تطبيق سائر القوانين الإلهية - قد وصلوا إلى ما وصلوا من قمم المجد والعزة والتطور والتقدم في مختلف مجالات الحياة.

وفي يومنا هذا تفرق المسلمون بعضهم عن بعض، فأصبحوا عدة أمم، فضعفوا وتأخروا، وسيطرت عليهم الدول الاستعمارية ونهبت ثرواتهم بل وحتى عقولهم(2).

مقومات الأمة الواحدة

اشارة

وإذا أراد المسلمون يوماً أن يرجعوا إلى الأمة الواحدة، ويستيقظوا من نومهم وسباتهم وينقذوا أنفسهم من سيطرة القوى العظمى، وتعود إليهم سيادتهم وكرامتهم وحريتهم، يتوجب عليهم الأخذ بهذه الأمور الأربعة:

1- المال.

ص: 201


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- إشارة إلى هجرة العقول إلى الغرب.

2- الإعلام.

3- التنظيم.

4- نبذ الخلاف واحترام الرأي الآخر.

أولاً: الأموال والثروة

اشارة

لأجل الوصول إلى الهدف لا بد من تسخير الأموال وبذلها، لأن أكثر النشاطات التي يقوم بها الإنسان، أو تؤديها الحركات والتنظيمات وكذلك الدول، في كافة أنحاء العالم، بحاجة إلى وجود المال وبذلها لكي تصل إلى أهدافها بالسرعة المطلوبة.

قال اللّه تعالى: {وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَىٰكُمْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبْتُمْ}(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل المال ما قبضت به الحقوق»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لو أن الناس أخذوا ما أمرهم اللّه عزّ وجلّ به فأنفقوه فيما نهاهم اللّه عنه ما قبله منهم، ولو أخذوا ما نهاهم اللّه عنه فأنفقوه فيما أمرهم اللّه به ما قبله منهم، حتى يأخذوه من حق وينفقوه في حق»(4).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام): «أنه سُئل عن الدنانير والدراهم وما على الناس فيها؟ فقال(عليه السلام): هي خواتيم اللّه في أرضه، جعلها اللّه مصحّة لخلقه، وبها تستقيم شؤونهم ومطالبهم»(5).

ص: 202


1- سورة النور، الآية: 33.
2- سورة البقرة، الآية: 267.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 208.
4- الكافي 4: 32.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 520.

فالمال له دور كبير في حياة الإنسان وكذلك حياة الأمم، فهو من جهة يؤمّنكافة الاحتياجات كاللباس والغذاء والمسكن والزوجة والعلم والفضيلة والقوة والصحة وما شابه ذلك، ومن جهة أخرى وسيلة لعمارة الأرض التي هي أيضاً مقدمة لانماء الإنسان.

وفي كل هذه الاتجاهات المختلفة التي ذكرناها من حياة الإنسان والتي لها علاقة كبير في إيصال الأمة المتمثلة بأفرادها إلى الهدف، لا بد من استخدام صحيح ومتوازن لحركة المال وانتقاله وتنميته، لأنه ركن مهم في بناء المجتمع وتقدمه، وهذا التوازن لا يحصل إلّا بالنظرة الصحيحة إلى المال لكونه أداة ووسيلة لتحقيق الرفاه المادي وتلبية شؤون الإنسان وحاجاته الملحة الماسة حتى يكون على استعداد لتطوير وتكميل نفسه روحياً ومعنوياً.

ومن هنا أكد الإسلام على المال وما يرتبط باقتصاد الفرد والمجتمع بشكل كبير، وسنّ أفضل القوانين الاقتصادية على ما فصلناه في بعض كتبنا(1).

المال ليس هدفاً

إن المال ليس هدفاً لذاته وبذاته، وانما هو وسيلة لتحقيق التكامل الدنيوي والأخروي، وضمان للتكافل الاجتماعي ومقوّم للتطور في مختلف ميادين الحياة، وهذا الأمر يتحقق عن طريق تحصيل المال أولاً من الطرق المشروعة، ثم الإنفاق والبذل في طرق الخير ومعونة الفقراء والمعوزين ودعم المشاريع الإسلامية والإنسانية، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم في آيات عديدة:

قال تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(2).

ص: 203


1- راجع كتاب (أنفقوا لكي تتقدموا) و(الاقتصاد الإسلامي المقارن) و(الفقه: الاقتصاد) و(الاقتصاد عصب الحياة) و(لمحة عن النبك الإسلامي) وغيرها للإمام الشيرازي(رحمه الله).
2- سورة البقرة، الآية: 195.

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَٰعَةٌ وَالْكَٰفِرُونَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(1).

إنفاق الأعداء

وفي هذا العصر الذي أخذ أعداء الإسلام بالإنفاق السخي في نشر أباطيلهم وإفساد العالم عبر مختلف الوسائل المتطورة... تظهر أهمية الإنفاق وبذل الأموال اللازمة من أجل توطيد ودعم المؤسسات الإعلامية والثقافية التي أخذت على عاتقها ترويج ونشر التعاليم الربانية والمفاهيم الإسلامية الأصيلة.

الإنفاق والتوعية

ومما ذكرنا تظهر العلاقة بين الإنفاق وبين التوعية الإسلامية، والبذل المالي والتثقيف ونشر الثقافة الإسلامية التي لها الأثر الكبير في تهيئة الأجواء بين الأمم لبلوغ الوحدة الأسلامية والرجوع إلى الأمة الواحدة التي شرعها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ونص عليها القرآن الكريم.

دور المال

وقد كان للمال الدور المهم في سبيل ترسيخ أسس الإسلام منذ عهد الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) ولقد أورده في الحديث الشريف حيث قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة(عليها السلام)»(2).

وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يفك من مال خديجة(عليها السلام) الغارم والعاني ويحمل الكل، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين يعني رحلة الشتاء والصيف

ص: 204


1- سورة البقرة، الآية: 254.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 468.

كانت طائفة من العير لخديجة، وكانت أكثر قريش مالاً، وكان(صلی الله عليه وآله وسلم) ينفق منه ما شاء في حياتها ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها.

وكانت خديجة(عليها السلام) يُضرب بكثرة مالها الأمثال، وقد جعلت جميع أموالها لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ينفقها كيفما شاء.

وفي التفسير في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ}(1) أي بمال خديجة(عليها السلام)(2).

ثم إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) لما هاجر إلى المدينة فتحت عليه الفتوح والغنائم. وكان(صلی الله عليه وآله وسلم) يكرم الوفود ويعطيهم من الأموال، مما كان مؤثراً في نشر الإسلام آنذاك.

ثانياً: الإعلام

اشارة

حركة الإنسان في عالم اليوم متوقفة على الإعلام والدعاية سواء كان الإعلام عن طريق الكتب أو المجلات أو الجرائد أو غير ذلك من طرق الإعلام الأخرى.

ولأهمية هذا الأمر نرى الاستعمار يبذل المليارات من الدولارات لأجل تفوقه الإعلامي والثقافي والعمل على ترسيخ وبث أفكاره الضالة بين مجتمعاتنا المسلمة، يبتغي بذلك إرساء أعمدة بلاده وهمينته كدولة عظمى على العالم لنهب ثرواتنا بعد تمزيقنا إلى أمم متناحرة ومتخاصمة.

فاذا نشر المسلمون الصوت والنداء الإلهي الذي يبعث الروح والخير والفضيلة في نفوس العالم، فإن أكثر الناس في كل بقعة من الأرض سوف يلتفتون نحو هذا المذهب الإلهي.

ص: 205


1- سورة الضحى، الآية: 8.
2- علل الشرائع 1: 130.

ولا بد أن نعلم أن أكثر الناس خصوصاً الذي يعيشون في أقاصي الأرض هم محرومون من نور الإسلام والقرآن، فإنه لم يصلهم من ذلك النور شيء، وإذا سمعوا عن الإسلام سمعوا العنف والإرهاب وما أشبه مما يكون الإسلام بريئاً عنه تماماً.

فعلينا بالاستفادة من الإعلام العالمي لنشر الإسلام والقرآن وسنة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) مما ينسجم تماماً مع الفطرة الإنسانية ويدعو إلى الخير والفضيلة، ويضمن السعادة في الدارين.

فمن الطبيعي عندما يقف الإعلام الإسلامي أمام الإعلام المسيحي المزيف نرى أن الناس يتوجهون ويأخذون بالدين الإسلامي الصحيح.

ولكن مع الأسف نرى اليوم وسائل الاعلام والتبليغ بيد أناس يحاربون الإسلام والمسلمين فنراهم يدخلون في أذهان الناس الكذب والافتراء على الإسلام فيعرفونه لهم بأنه دين رجعي ومتأخر، وأنه إرهاب وعنف... .

ويفترون الكذب على الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) لتشويه صورته الطاهرة في أنظار الناس، أو يسعون لتشويه صورة كتاب اللّه تعالى والسنة المطهرة... .

وهناك من يقوم باختراع كلام من نفسه يشبه القرآن الحكيم في بعض الجهات أو يضع ما يشبه الأحاديث الشريفة ليظن الجاهل أنه قرآن أو سنة، وهناك من يفتي بغير علم وينسبه إلى اللّه عزّ وجلّ.

قال تعالى في ذم المشركين: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(1).

ص: 206


1- سورة البقرة، الآية: 79.

وهناك من يفر عن المسؤولية ويقول: (حشر مع الناس عيد)!

أو يقول: (لا يوضع أحد في قبر آخر).

وهناك من يكذب ويكذب ويكذب في مختلف وسائل الإعلام ليصدقه الناس. من هنا يقول أحد زعماء الإلحاد: (اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس).

ومن هنا يتحتم على المسلمين وخاصة أتباع أهل البيت(عليهم السلام) الاستفادة من وسائل الأعلام المواكبة لكل عصر ومصر في نشر الثقافة الإسلامية الصحيحة، ورفع ما يبثه الأعداء من الإشكالات والتهم.

تهمة الإرهاب

من أكبر التهم التي لفقت على الإسلام، تهمة العنف والإرهاب.

علماً بأن الإسلام أرأف دين عرفه البشر، فإنه لما سيطر على أعدائه وتمكن منهم عفا عنهم، وضمن لهم مختلف الحريات، وخير دليل على ذلك تعايش الأقليات الدينية في مختلف البلاد الإسلامية منذ الصدر الأول من الإسلام وإلى يومنا هذا.

ولكن الأعداء وعبر مختلف وسائل الإعلام يقولون: إن الإسلام لايسعى إلى البناء الحضاري بقدر ما يسعى إلى العنف والإرهاب

واستشهدوا على هذا الرأي بمساوئ الحكام الأمويين والعباسيين والعثمانيين ومن أشبه، مع أن هؤلاء بعيدون كل البعد عن القرآن والرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) والعترة الطاهرة(عليهم السلام)، ولا يصح أن يحمّل الدين الإسلامي بما ارتكبه هؤلاء الظلمة، كما لا يُحمل الدين المسيحي بما ارتكبه هتلر وغيره من طغاة النصارى.

إن القرآن الكريم وسيرة النبي العظيم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) هو المعيار لمعرفة الإسلام، ولذلك ترى أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يقتصر في الحروب

ص: 207

على أقل ما يمكن من القتلى، ولا يبدأ أحداً بالحرب، بل كانت كل حروبه دفاعية، كما فصلناه في بعض كتبنا(1).

أما بعض الفتوحات التي قام بها من سمّوا أنفسهم بالخلفاء، فهي أيضا لا تمت للإسلام بصلة.

فالإسلام لم يعتمد يوماً على العنف والارهاب في نشر رسالته، بل كان يلتزم دائماً وحتى في ميادين الحرب بالمناقبية الإسلامية مستظلة بأخلاق الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) الذي يحميها ويؤيدها... .

وهكذا كان المسلمون يتعاملون بالأخلاق الطيبة مع المشركين والكفار، حتى في البلاد المفتوحة، على رغم انحراف حكام المسلمين.

ومن ثم كانت تبدأ المسيرة الحضارية في هذا البلد المفتوح أو ذاك.

ولكن المستعمرين وأعداء الإسلام استمروا في نشر هذه التهمة، تهمة العنف والإرهاب ضد الدين الإسلامي وقادته، ودأبت الأجهزة الإعلامية التابعة لهم منذ سنوات على شن حملات دعائية ضد المسلمين بأنهم إرهابيون ولا سبيل لهم في العمل إلّا العنف!

مع أن الإسلام دين السلم والسلام، ولا يؤمن بالعنف ولايستخدمه لعلاج الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، إلّا في أقصى حالات الضرورة من صور الدفاع حيث لم يوجد طريق آخر وذلك بشرط إجازة شورى الفقهاء بأكثرية الآراء، وليس ذلك إلّا للحكم الاضطراري وفي حالات استثنائية نادرة.

أما الحالة العامة والأصل الأولي فهو السلم ونبذ العنف دائماً وأبداً، ومع كل

ص: 208


1- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) للإمام الشيرازي(رحمه الله).

أحد، وفي جميع الموارد.

ثالثاً: التنظيم

اشارة

ضرورة التنظيم من الواضحات، فإنه لا يمكن التقدم والرقي إلّا بعمل منظّم.

كما أن التبليغ المركز لنشر الإسلام يحتاج إلى التنظيم والتخطيط، قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكما... بتقوى اللّه ونظم أمركم»(1).

إن من أهم الأعمال التي علينا أن نهتم بها في الوقت الحاضر هو تشكيل المؤسسات والجمعيات والتكتلات الإسلامية المنظّمة، وذلك لأن التنظيم يفيد التركيز والدقة في العمل، ويمنع من تبعثر القدرات والطاقات.

فإذا كان تعداد الجيش مليون مقاتل وكانوا يمتلكون حالة التنظيم في شؤونهم العسكرية، فإنهم يصبحون قادرين على مواجهة أكبر قوة عاتية لم تتمتع بالتنظيم.

أما لو كانت الأمور منفرطة وبعيدة عن التنظيم، لوجدنا أنفسنا تائهين، لا نستطيع أن نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة ناجحة حتى لو امتلكنا العُدة والعدد، فإن المبعثرين يفتقدون شرطاً أساسياً من شروط التقدم ألا وهو التنظيم، فلا يعقل أن يتحقق تطور وتقدم في مسيرة جماعة أو أمة وهي فاقدة للتنظيم بأن كانت تعيش في حالة التبعثر والتفكك.

من هنا نعلم ضرورة ما أكد عليه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته حيث قال: «ونظم أمركم» وهذا الكلام بعمومه حيث أضيف الأمر إلى (كم) يفيد دعوة الناس إلى التنظيم الشامل للأمور الفردية والاجتماعية.

ص: 209


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47، ومن وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).

علماً بأن التنظيم في المجتمع لا يكون إلّا بتنظيم الفرد أولاً، لأن المجتمع المنظم يتكون طبيعياً من تجمع الأفراد المنظّمين، فلا بدّ للإنسان - أولاً قبل كل شيء - أن يضع برنامجاً منظماً لبرامجه اليومية وفي مختلف المجالات، ومنها المجال الاقتصادي، فالإنسان الذي ينفق أمواله في أول الشهر أكثر مما ينبغي له صرفه، من دون أن يلاحظ دخله، يجد هذا الشخص بعد عدة أيام كيسه الخالي من الأموال. وحينذاك يبقى جائعاً لا يمتلك قوتاً لبطنه ولعياله.

هكذا الأمر في مسألة الدرس والتدريس وسائر الأمور الأخرى، فانها لا تصل إلى مرحلة الكمال إلّا عن طريق التنظيم والتنسيق والبرمجة فكيف بالأعمال الاجتماعية والسياسية ونحوها؟

من هنا يلزم الاهتمام بالتنظيم الصحيح.

دور التنظيم في تحقق الانتصار

التنظيم سنة كونية، وضرورية حيوية ملحة بالنسبة إلى الأمة الإسلامية، فقد خلق اللّه سبحانه وتعالى الكون كله منظماً، وقال عزّ وجلّ في ذلك: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ}(1).

فجعل الباري تعالى للإنسان نظاماً يسير عليه في منامه وأكله وشرابه وتكاثره وغيره، كما نظم تعامله مع نفسه ومع غيره ومع ربه، ولم يخلقه عبثاً دون أن يجعل له قانوناً ونظاماً.

وهكذا الإنسان خاضع لتنظيم في خلقته وتكوينه وسيرته وسلوكه... وكذلك الأشجار والحيوانات والرمال والنجوم وسائر الأشياء الأخرى.

وأيضاً التنظيم ضرورة حيوية وقوة، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم

ص: 210


1- سورة الحجر، الآية: 19.

مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ}(1).

أما إذا لم ننظم أنفسنا في تنظيم صحيح واسع كبير، فسيعترينا الضعف ويتغلب علينا الأعداء.

وواقعنا المعاصر خير دليل على ذلك، فإن المسلمين يبلغ عددهم - حالياً - ألفاً وستمائة مليون مسلم(2)،

ولكن بلادهم واقعة تحت السيطرة الاستعمارية، فقطعة من بلادهم بيد الشيوعية العالمية، وقطعة أخرى بيد الرأسمالية العالمية، وقطعة ثالثة بيد الصهيونية، والعديد من بلادنا الإسلامية خاضعة لألوان مختلفة من الاستعمار المعلن أو المبطن، وابتليت بحكام عملاء... .

وإننا بدون التنظيم لن نستطيع من مواجهة التحديات المعاصرة ولن نتمكن من الوقوف أمام الشرق والغرب وعملائهما.

علماً بأن أهم مواجهة للاستعمار وعملائه هو المواجهة الثقافية.

هذا وقد قلت من قبل لبعض مسلمي لبنان: إنكم ستواجهون مصيراً سيئاً إن لم تنظموا أنفسكم، قالوا: ومن أين علمت هذا؟

قلت: من منطق التأريخ أو منطق الأحداث.

قالوا: وكيف؟

قلت: إنكم محاطون بتنظيم صليبي في داخل لبنان، وبتنظيم صهيوني في إسرائيل، فأنتم بين تنظيمين معاديين ومع ذلك فإنكم مبعثرون، ومن الطبيعي أن ينتصر من له تنظيم على من لا تنظيم له، ولا يكفي أن يقول أحد: إنني مع الحقولا يعمل شيئاً، لأن الحق يأمرك بالتنظيم.

ص: 211


1- سورة الأنفال، الآية: 60.
2- لقد بلغ نفوس المسلمين اليوم: مليارين. احصاءات عام 2008م
التنظيم في معركة بدر

وإن لنا لعبرة في حياة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حيث إنه كان يخضع كل شؤونه للتنظيم الدقيق، فمثلاً في غزوة (بدر) كان المسلمون زهاء ثلاثمائة والكفار زهاء ألف، وكان الكفار مدججين بالسلاح أما المسلمون فكانوا شبه عزل، في قبال ذلك لم يكتف الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بامتلاك المسلمين للإيمان القلبي بل أضاف إلى ذلك التنظيم الخارجي، فقد ذكر المؤرخون: أن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) جعل كل مائة من أصحابه في دائرة واحدة بعضهم إلى بعض ووجوهم إلى الخارج، وعندما بدأ المشركون بهجوم على المسلمين لم يستطيعوا من الإحاطة بهم، وتبعثروا حول هذا الحلقات الكبيرة، وبهذا التنظيم مضافاً إلى الإيمان والنصرة الإلهية، استطاع المسلمون أن ينتصروا على الكفار الذين لم يكن لهم مثل هذا التنظيم.

ثم إن التنظيم أمر لا بد منه أولاً وآخراً، فنحن بحاجة إلى تنظيم عملنا وأنفسنا والتنسيق فيما بيننا في مرحلة الإعداد، كما نحتاج إلى التنظيم بعد الوصول إلى الهدف أيضا.

وإننا في هذه المرحلة الحساسة إذا لم نعمل باتقان وتنظيم فسوف نؤخر مرحلة الانتصار والنهضة الثقافية الإسلامية لربما إلى سنين طويلة، فعلى المسلم أن يتسلح بالفكر والثقافة والتنظيم وخصوصاً الوعي السياسي للأمور المرتبطة بحياة المسلمين.

رابعاً: نبذ الخلاف واحترام الرأي الآخر

اشارة

يقول القرآن الكريم في هذا المجال: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْوَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(1).

ص: 212


1- سورة الأنفال، الآية: 46.

ذكر العلامة الطبرسي في تفسير الآية:

أي لا تنازعوا في لقاء العدو ولا تختلفوا فيما بينكم فتجبنوا عن عدوكم وتضعفوا عن قتالهم {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} معناه تذهب صولتكم وقوتكم.(1) أي إنكم لا تجدون ولا تحصدون نتيجة نزاعكم سوى التشتت والخسران، وبعدها تذهب كرامتكم وسيادتكم ودولتكم.

أما إذا لم تتنازع الأمة الإسلامية بل توحدت كلمة أبنائها، بما فيها من الحركات والتجمعات وغيرها، فإن النتيجة ستكون أفضل وأحسن بكثير قطعاً، وبذلك تتقرب الأمة إلى طريق النصر والسعادة، وسيكون المصير أحمد عاقبة.

فإذا ما كان الهدف هو الوصول إلى (حكومة إسلامية واحدة) فاتحدت كلمتهم وعملوا بما أمره اللّه عزّ وجلّ، وتخلوا عن التنازع، فإنهم سيصلون إلى النتيجة المطلوبة بإذن اللّه تعالى وستظهر وتتحقق أمنيتهم على أرض الوجود.

يقول القرآن الكريم: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(2) قالوا: إن معنى ذلك هو وجوب الاعتصام والتمسك بعهد اللّه لأنه سبب النجاة كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر ونحوها، وقيل: {حَبْلِ اللَّهِ} هو دين الإسلام، و{لَا تَفَرَّقُواْ} أي لاتفرقوا عن دين اللّه وعن القرآن الذي أمر فيه بلزوم اتباع الحق والائتلاف علىطاعة اللّه ورسوله وأهل بيته(عليهم السلام).

وفي الروايات أن حبل اللّه عزّ وجلّ هم أهل البيت(عليهم السلام)، فيأمرنا اللّه بالتمسك

ص: 213


1- تفسير مجمع البيان 4: 476.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.

بالعترة الطاهرة(عليهم السلام).

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن هذا القرآن هو حبل اللّه، وهو النور المبين، والشفاء النافع»(1).

وقال النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «وصيي علي بن أبي طالب(عليه السلام) ألا هو حبل اللّه فاعتصموا به ولا تفرقوا عنه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنا حبل اللّه المتين»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «نحن حبل اللّه الذي قال {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(4)(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «آل محمد... هم حبل اللّه الذي أمر بالاعتصام به قال اللّه: واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا»(6).

كلام حول الانتفاضة الشعبانية

إن الانتفاضة الشعبانية المباركة ضد الظلم والطغيان، كان دليلاً على إيمان الشعب العراقي وتضحيتهم في سبيل اللّه عزّ وجلّ وعدم رضوخهم للظلم والاستبداد.

وكان من الأسباب الرئيسية لعدم وصول المؤمنين المجاهدين إلى هدفهم في إسقاط صدام وإيجاد الحكومة الإسلامية الصالحة هناك، هو عدم تواجد قيادة

ص: 214


1- جامع الأخبار: 40.
2- بحار الأنوار 22: 486.
3- معاني الأخبار: 17.
4- سورة آل عمران، الآية: 103.
5- تفسير فرات الكوفي: 91.
6- تفسير العياشي 1: 102.

موحدة مديرة ومدبّرة لهذه النهضة والانتفاضة الجماهيرية، تكون على تماس واتصال مباشر مع المجاهدين، وإن كان المجاهدون قد وصلوا إلى ثوابهم الأخروي فجزاهم اللّه خيراً، بل وحققوا أيضاً بعض الأهداف الكبيرة التي كانوا يتطلعون إليها والتي منها:

1- إسقاط شخصية صدام وهيبته في كل العالم.

2- كما بينوا للعالم بأن الطاغية (صدام) ليس إلّا ديكتاتوراً متجبراً لا يعرف للإنسان والقيم الإنسانية أي معنى.

3- اطلاق سراح الآلاف من السجناء الأبرياء.

ومع هذه الإنجازات الكبيرة، لكن ظلت مسألة انتصار الانتفاضة وتحقيق الهدف الأكبر من الاطاحة بحكومة البعث تحتاج إلى القيادة الكفوءة، مضافاً إلى ضرورة توفر سائر شروط الانتصار... .

ولو توفر هذا العامل الأساسي والمهم لتمكن المجاهدون الناهضون من الانتصار الأكبر والوصول إلى الهدف بجهود أقل وبعدد أقل من الشهداء أيضاً... .

وتبقى المسألة المهمة في تعجيل النصر هي وحدة الكلمة، فحينما تصل الفصائل الإسلامية والحركات والأحزاب والتكتلات وما أشبه إلى مرحلة الوحدة الحقيقية بين أبناء الأمة الواحدة تكون قاب قوسين أو أدنى من مرحلة الحسم والنصر المؤكد على أعداء الإسلام الذين أذاقوا شعبنا الأمرين.

دور المرجعية في قيادة الأمة

كانت تضحيات الجماهير في هذه الانتفاضة كبيرة جداً، وقد واجهوا الصعاب الكبرى بعدها بحيث نرى الطاغوت أخذ ينتقم منهم أشد الانتقام بقام بقتل مئاتالآلاف من الأبرياء... .

ثم أخذ يضيق على من بقي من الشعب المسكين، فصار الشعب يدفع الكثير

ص: 215

للحصول على لقمة عيش ورغيف خبز... .

إن قيادة العلماء والمراجع تجعل الأمة أقرب للكلمة الواحدة، وتوجب النصر على الأعداء.

فلو تمتعت الجماهير بقيادة جامعة للشرائط تقودها في ثورتها العظيمة لما أعطت مثل هذه التضحيات الكثيرة في الأموال والأرواح.

بينما نجد في الزمن الذي كانت القيادة والزعامة بيد العلماء كان النصر يرفرف على رؤوسهم، فهذا الشعب العراقي عند ما اتبع المراجع والفقهاء وعلى رأسهم المرجع الأعلى الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) في ثورة العشرين استطاع الانتصار وطرد المحتلين.

نعم قدم الشعب العراقي (200) ألف شهيد وقتل (80) ألف جندي إنكليزي... ولكن وصل إلى الاستقلال وانتصر.

وهكذا نرى حالة الهند، قبل قيادة وزعامة غاندي، وبعد قيادته حيث تم الانتصار.

أما قبل ذلك فقد استطاعت إنكلترا أن تستعمرهم مدة ثلاثة قرون وأن تلعب بمقدراتهم وبثرواتهم كيفما ارتأت وأرادت، وباستعمارهم هذا أذاقت الشعب الهندي ألوان الفقر والحرمان والجوع، بحيث إن عدداً كبيراً من الناس كانوا يولدون في الشوارع والأزقة ويقضون فيها كل أعمارهم من دون أن يكون لهم حتى غرفة واحدة يسكنون فيها، ثم بعد ذلك كانوا يودعون الحياة على أرصفة الشوارع أيضاً.

فاذا ما أخذنا بنظر الاعتبار هذه العوامل الأربعة فسنكون قريبين من الوصولإلى الهدف وهو (الأمة الواحدة الإسلامية) ولو أن ذلك يتطلب منا العمل والتضحية ما يقارب من عشرين إلى ثلاثين سنة من الجهاد والحركة العلمية

ص: 216

والثقافية والإعلامية المركزة... .

يقول الشاعر ما معناه(1):

لايمكن الوصول إلى الكنز من دون السعي وبذل الجهد والتعب

فإن الذي يستحق الأجرة هو العامل الذي تحمل أعباء العمل

وهذا ما يقوله لنا الباري عزّ وجلّ في كتابه الكريم {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(2).

و{وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا} يعني جاهدوا الكفار بأنفسهم وجاهدوا نفوسهم بمنعها عن المحارم وإلزامها الطاعة لوجه اللّه {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} أي نرشدهم السبيل الموصل إلى الثواب.

إعادة السيادة والكرامة

مما تقدم تبين أن إعادة السيادة والكرامة للأمة الإسلامية، والوصول إلى الأمة الإسلامية الواحدة، مرهون بتطبيق سبل عديدة لا يمكن تجاوزها، وقد ذكرنا من تلك السبل والعوامل أربعة وهي:

(المال والثروة) فيلزم تكوين جملة من الصناديق والبنوك والمؤسسات المالية لجمع واستثمار الأموال للاستفادة منها في مشروع الوصول إلى الأمة الإسلامية الواحدة.ومنها: (الدعاية والاعلام) وهذا العامل يتوقف على نشاط الأفراد والهيئات والمنظمات والمؤسسات الإعلامية والحقوقية وغيرها لتثقيف الأمة والعمل

ص: 217


1- أصل الشعر بالفارسية هكذا: نابرده رنج گنج ميسر نمى شود *** مزد آن گرفت جان برادر كه كار كرد
2- سورة العنكبوت، الآية: 69.

للوصول إلى حكومة إسلامية واحدة.

ومنها: (التنظيمات) وجمع الشباب المخلص والملتزم بالإسلام عقيدة وسلوكاً، وتركيز النشاط لمواجهة مخططات الأعداء.

وأخيراً: (وحدة الكلمة وعدم التنازع).

«اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

توازن الأموال وأثرها في المجتمع

قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(4).

البلاغ المبين

قال جلّ وعلا: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(5).

ص: 218


1- الكافي 3: 424.
2- سورة البقرة، الآية: 261.
3- سورة النساء، الآية: 5.
4- سورة الاسراء، الآية: 29.
5- سورة النور، الآية: 54.

وقال تعالى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(1).

وقال سبحانه: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلَا بَلِيغًا}(2).

زرع روح الأخوة

قال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ}(4).

وقال تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(5).

قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

أثر الأموال في المجتمعدخل سدير الصيرفي على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فسلم وجلس فقال(عليه السلام) له: «يا

ص: 219


1- سورة المائدة، الآية: 92.
2- سورة النساء، الآية: 63.
3- سورة الحجرات، الآية: 10.
4- سورة آل عمران، الآية: 105.
5- سورة الأنعام، الآية: 153.
6- سورة الشورى، الآية: 13.

سدير ما كثر مال رجل قط إلّا عظمت الحجة للّه عليه، فإن قدرتم أن تدفعوها عن أنفسكم فافعلوا» فقال له: يا ابن رسول اللّه بماذا؟ قال(عليه السلام): «بقضاء حوائج إخوانكم من أموالكم»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن من بقاء المسلمين وبقاء الإسلام أن تصير الأموال عند من يعرف فيها الحق ويصنع فيها المعروف، فإن من فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في أيدي من لا يعرف فيها الحق ولا يصنع فيها المعروف»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل المال ما قضيت به الحقوق»(3).

الفقهاء خلفاء الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «رحم اللّه خلفائي»، فقيل: يا رسول اللّه ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد اللّه»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وما أخذ اللّه على العلماء ألّا يقارّوا(5) على كِظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم»(6).

وقال(عليه السلام): «العلماء حكّام على الناس»(7).

ص: 220


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 302.
2- الكافي 4: 25.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 208.
4- منية المريد: 101.
5- ألّا يقاروا: ألّا يوافقوا، الكِظّة: ما يعتري الآكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد: استئثار الظالم بالحقوق، السّغَب: شدة الجوع، والمراد: هضم حقوقه.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3، ومن خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 36.

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء باللّه»(1).

النظم في العمل

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: أقيموا صفوفكم فاني أنظر إليكم من خلفي لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن اللّه بين قلوبكم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في صفة القرآن: «ألا إن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم»(3).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة اللّه، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الاخوان والثقات الذين يعرفونكم عيوبكم ويخصلون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الأمور المنتظمة يفسدها الخلاف»(5).

الأخوة الإسلامية

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه، كان اللّه في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج اللّه بها عنه كربةمن كروب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً يستره اللّه يوم القيامة»(6).

ص: 221


1- تحف العقول: 238.
2- بصائر الدرجات 1: 420.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 158، ومن خطبة له(عليه السلام) ينبّه فيها... على فضل القرآن.
4- تحف العقول: 409.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 63.
6- تفسير مجمع البيان 9: 222.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما حفظت الأخوة بمثل المواساة»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «يحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل، والتعاون على التعاطف، والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم اللّه عزّ وجلّ: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(2) مراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر الأنصار، على عهد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)»(3).

ص: 222


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 690.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- الكافي 2: 175.

السعي نحو مجتمع إسلامي

الأمم وما تكتسبه

اشارة

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}(1).

كل أمة رهينة بأعمالها، ولا تُؤخذ أمة بأمة أخرى، نعم على كل أمة أن تعتبر من سائر الأمم وتستفيد من تجاربها.

وهذه الآية الكريمة تبين لأمة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قاعدة مهمة في الحياة، وهي أن الأمم مرهونة بأعمالها في تقدمها أو تأخرها، فالمهم عمل كل أمة بنفسها، ولا يمكن - عادة - لأمة أن تتطور بأعمال الأمم الأخرى أو تتأخر بها، لأن الأمم السابقة قد ذهبت وفنت... .

{تِلْكَ} أي: إبراهيم(عليه السلام) وأولاده {أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي: ذهبت ومضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} فإن أعمالها ترتبط بها لا بكم {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} فإن أعمالكم ترتبط بكم لا بهم(2).

وهكذا تكون كل أمة مسؤولة عن نفسها، إليها يرجع ما عملته وما كسبته من برّ وخير، وعليها يعود ما اقترفته وما جنته من ظلم وشر.

ص: 223


1- سورة البقرة، الآية: 134.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 1: 182.

ومن المعلوم: أن الأمة تتشكل من الأفراد، وإذا أردنا الحصول على مجتمعإسلامي صالح وأمة مؤمنة متقدمة، فعلينا بإصلاح الفرد أولاً، فإن الأمم تُقاس بشخصياتها العلمية وكذلك السياسية، وهكذا الاقتصادية والاجتماعية منهم، مضافاً إلى سائر الأفراد، كل بحسبه، فإنهم الذين يعكسون قيمة الأمة بما يعلمونه ويعملونه ويكسبونه، أو ما يجنونه ويقترفونه، ويصبغون بتلك الصبغة ظاهرة الأمة، فتتميز الأمة بذلك العنوان.

وعليه: فإذا كان أفراد أمة يعيشون عيشة هادفة، ويسعون في بناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، تقدم أولئك الأفراد وتقدمت الأمة بهم، وهذا هو ما يدعو إليه الإسلام ويحثّ عليه، فالإسلام يريد للفرد وللأمة وللمجتمع أن يكون مسلماً صالحاً بتمام معنى الكلمة:

مسلماً للّه تعالى، مسلماً لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، مسلماً لأهل بيت الرسول(عليهم السلام)، مسلماً مع نفسه وأسرته، ومجتمعه وأمته، مسلماً في عمله ونشاطه، وأمله وطموحه، ومسلماً في جميع أموره وأحواله، ومسلماً في سيرته وحياته بجميع تفاصيلها. وقد نبغ في هذا المجال أفراد كثيرون فتقدموا وتقدم مجتمعهم وتقدمت أمتهم.

من هو المسلم؟

إذا عرفنا أن قوام المجتمع الإسلامي هو الفرد المسلم، علينا أن نعرف خصوصيات المسلم، وكيف يكون الإنسان مسلماً حقيقياً صالحاً، فيصلح المجتمع بصلاحه؟

إن المسلم معروف وموصوف في الآيات الكريمة وكلمات النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام)... .

فهو: كما قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «المسلم من سلم المسلمون من لسانه

ص: 224

ويده»(1).

وهو: «أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه».(2)

و: «المسلم مرآة لأخيه»(3).

وهو: «... لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه»(4).

والإسلام الذي يتصف به المسلم هو كما قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «... الإسلام عريان، ولباسه التقوى، وشعاره الهدى، ودثاره الحياء، وملاكه الورع، وكماله الدين، وثمرته العمل الصالح، ولكل شيء أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(5).

أما المسلمون كجماعة ومجتمع، فصفاتهم وسماتهم كما قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم):

«... إخوة تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»(6).

وهم: «مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى...»(7).

وكما قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ينبغي للمسلمين أن ينصح بعضهم بعضاً، ويرحم بعضهم

ص: 225


1- المحاسن 1: 285.
2- كشف الريبة: 79.
3- من لايحضره الفقيه 4: 378.
4- الكافي 2: 166.
5- تحف العقول: 52.
6- الخصال 1: 150.
7- الاختصاص: 341.

بعضاً، فإنما هم كمثل العضو من الجسد إذا اشتكى تداعى الجسد بالسهر»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2).

وكما وصف الإسلام والمسلمين أمير المؤمنين(عليه السلام) وبين شروطهما حيث قال: «أفضل المسلمين إسلاماً من كان همّه لأخراه، واعتدل خوفه ورجاه»(3).

وقال(عليه السلام): «أحسن الناس ذماماً أحسنهم إسلاماً»(4).

وقال(عليه السلام): «قواعد الإسلام سبعة: فأولها العقل وعليه بُني الصبر، والثاني: صون العرض وصدق اللّهجة، والثالثة: تلاوة القرآن على جهته، والرابعة: الحب في اللّه والبغض في اللّه، والخامسة: حق آل محمد(عليهم السلام) ومعرفة ولايتهم، والسادسة: حق الإخوان والمحاماة عليهم، والسابعة: مجاورة الناس بالحسنى...»(5).

وقال(عليه السلام): «جانبوا الخيانة، فإنها مجانبة الإسلام»(6).

وقال(عليه السلام): «من أعان على مسلم فقد برئ من الإسلام»(7).

إلى غيرها مما ورد في صفة المسلم والمسلمين، سلباً وإيجاباً، وجوداً وعدماً.

وهكذا يمكن للفرد المسلم أن يكون صالحاً، ويتم بذلك السعي نحو مجتمع

ص: 226


1- أعلام الدين: 275.
2- الكافي 2: 164.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 210.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 195.
5- تحف العقول: 196.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 337.
7- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 456.

إسلامي راق.

نماذج من القادة الصالحين

اشارة

نبغت في الأمة الإسلامية شخصيات كبيرة وبرزت قادة صالحون تركوا من الآثار الطيبة التي ظلت تفتخر بها الأجيال بعد مئات السنين، وقد سعوا نحو مجتمع صالح إسلامي، بعد ما تربوا في كنف الإسلام وفي ظل تعاليمه الراقية، في مدرسة النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الكرام(عليهم السلام).

وهؤلاء رجال أبطال وشخصيات فذة، بذلوا أعمارهم، وصرفوا طاقاتهم، من أجل بناء مجتمع إسلامي متقدم، وأمة أسلامية صالحة مزدهرة، وسيبقى ذكرهم على مرّ الدهور والأعصار، ومن جملة أولئك الرجال:

الشيخ الكليني(رحمه الله)

الشيخ محمد بن يعقوب المعروف بالشيخ الكليني(رحمه الله) صاحب كتاب (أصول الكافي وفروعه)، وقد صرف على هذا الكتاب القيم الذي هو حصيلة عمره وأصبح يُعرف به، عشرين سنة. ويحتوي الكتاب على مجموعة كبيرة من الروايات الشريفة في أصول الدين وفروعه، مروية عن الأئمة المعصومين(عليهم السلام). وقد كتبه الكليني(رحمه الله) بعد أن جاب المدن والقرى وتقلب في أرجاء العالم الإسلامي، والتقى برواة الحديث وأخذ منهم، كما التقى أيضاً بالنواب الخاصين للإمام الحجة المنتظر عجل اللّه تعالی فرجه الشريف. فكان الكتاب الذي ضم بين دفتيه الكثير من العلوم والمعارف الإسلامية المروية عن أهل البيت(عليهم السلام).

الشيخ الصدوق(رحمه الله)

ومن جملة أولئك الرجال الصالحين، الذين صلحوا وأصلحوا المجتمع: الشيخ محمد بن علي بن بايويه القمي(رحمه الله)، المعروف بالشيخ الصدوق، صاحبالكتب الكثيرة، وفي طليعتها: كتاب (من لايحضره الفقيه) فكان حصيلة عمره

ص: 227

أكثر من ثلاثمائة كتاب قدمها خدمة للمجتمع الإسلامي وإصلاحه، وساهمت تلك الكتب القيمة في تقدم الأمة الأسلامية وازدهارها مادياً ومعنوياً، وقد ورد في المأثور ما يشير إلى ذلك حيث روي عن الأئمة(عليهم السلام): «لولا القميون لضاع الدين»(1).

وقد ذكر العلماء لهذا الشيخ الجليل كرامات عديدة، من جملة كراماته: أنه ظهر في مرقده الشريف الواقع في رباع مدينة الري ثلمة وانشقاق من طغيان المطر، فلما فتشوها وتتبعوها بقصد إصلاح ذلك الموضع بلغوا إلى سردابة فيها مدفنه الشريف، فلما دخلوها وجدوا جثته الشريفة هناك مسجاة عارية غير بادية العورة، جسيمة وسيمة، على أظفارها أثر الخضاب، وفي أطرافها أشباه الفتائل من أخياط كفنه البالية على وجه التراب، فشاع هذا الخبر في مدينة طهران إلى أن وصل إلى سمع السلطان فتح علي القاجاري(2)، فحضر السلطان هناك بنفسه، وأرسل جماعة من أعيان البلدة وعلمائهم إلى داخل تلك السردابة فأخبروه بأجمعهم بهذه الكرامة، إلى أن انتهى الأمر عنده من كثرة من دخل وأخبر إلى مرحلة عين اليقين، فأمر بسد تلك الثلمة وتجديد عمارة تلك البقعة وتزيين الروضة بأحسن التزيين.

ونقل عن أحد المؤمنين أنه قال: خرجت في بعض الأيام السابقة قاصداً زيارة مرقد الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي(رحمه الله). فلما حضرت عند مرقده الشريف رأيت عملة مشتغلين بحفر الأرض لتأسيس أساس البناء الجديدعليه لاندراس البناء القديم، فبينما كنت أترحم له وأنظر إليهم؛ إذ ظهر جسده

ص: 228


1- بحار الأنوار 57: 217.
2- هو فتح علي شاه بن حسين قلي خان القاجار، تولى الملك رسمياً سنة (1212ه) بعد مقتل محمد خان.

الطيب الطاهر في فجوة من قبره مكشوفاً وجهه إلى صدره، فنظرنا إليه فوجدناه متلئلئاً رطباً طرياً، في لحيته الشريفة أثر الخضاب كأنما دُفن من حين، فعجبنا كل العجب، وأقبل الحاضرون بالسلام والصلاة عليه، وأمر المتصدي لإقامة البناء وهو أحد العلماء والسادات بسد القبر وتأسيس أساس البناء، فتفرقنا معتقدين بعظم شأن الصدوق وجلالة مقامه ومنزلته عند اللّه تعالى.

الشيخ الطوسي(رحمه الله)

ومن جملة أولئك الرجال العظماء: الشيخ محمد بن الحسن الطوسي(رحمه الله) المعروف بشيخ الطائفة، صاحب كتابي: (تهذيب الأحكام) الشهير باسم (التهذيب) و(الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) الشهير ب(الاستبصار) وغيرهما من الكتب الكثيرة والمفيدة، حيث كانت تلك الكتب وفي مقدمتها: (التهذيب) و(الاستبصار)، حصيلة عمره الذي صرفه من أجل تقدم المجتمع الأسلامي وإصلاحه، وازدهار الأمة الأسلامية، وكانت بالفعل كذلك.

الشيخ الأنصاري (رحمه الله)

ومن جملة أولئك الرجال: الشيخ مرتضى(رحمه الله) المعروف بالشيخ الأنصاري، صاحب كتابي: (المكاسب) في الفقه، و(فرائد الأصول) المشهور ب(الرسائل)، وهذان الكتابان من أهم آثاره الشريفة التي خدم بهما الجامعات العلمية والكليات الفقهية والأصولية في العالم الإسلامي، وهما حصيلة عمره الذي استنفده في سبيل اللّه تعالى لإنارة المجتمع الأسلامي، وتقدّم الأمة الأسلامية، ولذلك صار يعرف بهما. وعلى الرغم من المكانة السامية التي وصل إليها في المرجعية العامة، إلّا أنه عاش مواسياً الفقراء، حريصاً على مساعدة المعوزين والمساكين من كل ما يصلهمن الحقوق الشرعية، وكان(رحمه الله) قمة في التقوى والأخلاق والفضائل والكمالات، لا يحب الظهور والمباهاة، باذلاً وسعه في تحصيل الكمالات الروحية. فكان من أبرز

ص: 229

صفاته الزهد والورع والتواضع إلى أقصى حد.

وقد نُقل عن الشيخ الأنصاري(رحمه الله) أنه كان يقول: ثلاثة أشياء ينبغي للإنسان وخاصّة رجال الدين الاهتمام بها؛ وذلك بأن يأخذ أولها ولو كان في ابتداء الأمر غير جامع للشرائط، وأن يترك ثانيها ولو كان جامعاً للشرائط، وأن يأخذ بثالثها إذا كان جامعاً للشرائط ويتركه إذا كان فاقداً للشرائط.

أمّا الأوّل: فهو العلم، فإنّه ينبغي للإنسان أن يطلب العلم ويتعلّمه ولو لم يكن في أول الأمر قصده اللّه تعالى والتقرّب إليه؛ وذلك لأنّ العلم بالأخرة يجرّه إلى اللّه تعالى.

وأمّا الثاني: فهو القضاء بين الناس، فإنّ القاضي مشكل أمره وإن كان عدلاً فقيهاً، لأنّه كثيراً ما يُجر الإنسان إلى الحكم بخلاف الحقّ من دون علمه واختياره.

وأمّا الثالث: فهو إمامة صلاة الجماعة، فإن كان عادلاً أقدم عليها، وإلّا تركها.

وبهذا الكلام المتين قد أشار الشيخ الأنصاري(رحمه الله) إلى خطورة منصب القضاء، ولزوم أن يحتاط القاضي في الحكم أشدّ الإحتياط.

حصيلة عمر العظماء

لقد كان - كما ذكرنا - حصيلة عمر الشيخ الكليني(رحمه الله): كتاب (الكافي) بأصوله وفروعه، وكان حصيلة عمر الشيخ الصدوق(رحمه الله): كتاب (من لا يحضره الفقيه) وسائر مؤلفاته القيمة، وكان حصيلة عمر الشيخ الطوسي(رحمه الله): كتابي (التهذيب) و(الاستبصار) وغيرهما من المؤلفات، وكان حصيلة عمر الشيخ الأنصاري(رحمه الله): كتابي (المكاسب) و(فرائد الأصول) المعروف بالرسائل وغيرهما من المصنفاتالمفيدة، هذا مضافاً إلى دورهم في إصلاح المجتمع الإسلامي وتطويره.

وهكذا كان حصيلة عمر أصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) المؤمنين وأصحاب أمير

ص: 230

المؤمنين(عليه السلام)، من أمثال: سلمان، وأبي ذر، وعمار، والمقداد (رضوان اللّه عليهم) فقاموا بترسيخ سيرة الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وسيرة أمير المؤمنين علي(عليه السلام) التي كانت امتداداً لسيرة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) في المجتمع الإسلامي والأمة الأسلامية، مقابل حصيلة عمر الآخرين في الجانب المقابل من المنافقين وغاصبي حق الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وخلافته وحق السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) وحق ابنيها: الحسن والحسين(عليهما السلام) من: تهميش سيرة الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وسيرة أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) وإعادة سيرة الجاهليين من: ظلم وجور وخوف وقتل، وعنف وإرهاب، في المجتمع الإسلامي، والأمة الأسلامية، كما نرى آثار تلك الجاهلية قد امتدت إلى بعض المجتمعات الإسلامية حتى يومنا هذا.

فالقادة الصالحون يسعون دائماً لإصلاح المجتمع.

وعلى العكس أعداؤهم، فإنهم يسعون لإفساد المجتمع كما أفسد بنو أمية وبنو العباس... .

ما هو المطلوب منا؟

إن المطلوب منا - فرداً فرداً - أن نسعى في سبيل إصلاح المجتمع، بجميع ما بوسعنا، وبكل ما في جهدنا، على أن نجعل من مجموع عمرنا حصيلة نافعة وثمرة يانعة نخدم عبرها مجتمعنا الإسلامي وأمتنا الإسلامية، وستبقى هذه الثمرة إن قصدنا القربة للّه عزّ وجلّ، وسيكون الإنسان بذلك مصداقاً للقول المعروف: «عاش سعيداً ومات حميداً»(1).

ص: 231


1- جاء في باب أحوال سفراء الإمام الحجة(عليه السلام)، عن عبد اللّه بن جعفر قال: خرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري في التعزية بأبيه رضي اللّه عنهما في فصل من الكتاب: «{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ} تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه، عاش أبوك سعيداً ومات حميداً، فرحمه اللّه وألحقه بأوليائه ومواليه(عليهم السلام)». كمال الدين وتمام النعمة 2: 510.

ويلزم على الإنسان الذي يريد السعي نحو مجتمع صالح، أن لايقتصر همّه على تأمين احتياجاته الفردية والمادية: من تحسين حياته الشخصية وتوفير الراحة لها فقط، بل يجعل جهده وهمّه ينصب في رفع مستواه العلمي والمعنوي والثقافي والأخلاقي، الداعي إلى خدمة المجتمع الإسلامي، والهادف نفع الأمة الإسلامية، وطبعاً كل بحسب مجاله العملي، وظروفه الخاصة به، فالحوزوي والجامعي يقدّم خدمات علمية وثقافية، والتاجر والكاسب ومن أشبه يقدّم خدمات اقتصادية واجتماعية، مثل: تأسيس مؤسسات وهيئات ولجان خيرية تقوم بخدمة المجتمع الإسلامي، ونفع الأمة الإسلامية، من توفير الخير والرفاه لهم، والتقدم والإزدهار. فإن هذا العصر الذي نعيش فيه الآن هو عصر السرعة والتقدم، وعصر النموّ والازدهار المادي، وهو يمضي نحو الأمام بسرعة الضوء وكالبرق الخاطف، وفرصة العمر في هذا العصر فرصة قيّمة وثمينة، لا بدّ من اغتنامها واستغلالها، واستثمارها بالكيفية المطلوبة، والاستفادة منها بالشكل الصحيح، وذلك قبل فوات الأوان.

فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «إن الفرص تمر مرّ السحاب فانتهزوها إذا أمكنت في أبواب الخير وإلّا عادت ندماً»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «ماضي يومك فائت، وآتيه متَّهم، ووقتك مغتنم، فبادر فيهفرصة الإمكان، وإياك أن تثق بالزمان»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «الفرصة سريعة الفوت وبطيئة العود»(3).

ص: 232


1- غرر الحكم ودررالكلم: 238.
2- غرر الحكم ودررالكلم: 710.
3- غرر الحكم ودررالكلم: 113.

وقال(عليه السلام) أيضاً وهو يوصي ابنه الإمام الحسن(عليه السلام): «اعلم يا بني، أن من كانت مطيته الليل والنهار فإنه يُسار به وإن كان واقفاً»(1).

وفي هذا إشارة إلى أن الدنيا هي دائماً في حالة السير والحركة، سيراً حثيثاً، وبسرعة فائقة كسرعة الضوء والبرق.

وعليه: فإذا تماهل الإنسان في اغتنام فرصة العمر وتكاسل عن العمل وخدمة المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية في مدة الحياة، فسوف لن يشعر إلّا وقد انقضى عمره، وانتهى أمده، وأتاه الناعي ينعى إليه نفسه، ويأذنه بالارتحال إلى دار الآخرة، التي هي دار الجزاء والحساب، وليست دار الأمل والعمل، وهناك سوف يأسف الإنسان على فواتِ فرصة العمر الثمينة، وانتهاء أمدها الثمين، كما نبهنا على ذلك القرآن الكريم بقوله سبحانه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}(2)، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَٰكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَٰبَا}(3).

فإن اللّه سبحانه وتعالى، حذّر الإنسان وأنذره يوماً يرى فيه جزاء ما قدّمه من عمل، فإن كان قد قدم الطاعة للّه تعالى، والخدمة للمجتمع الإسلامي والإمةالإسلامية، فالجنة والغفران، وإن كان قد قصّر ولم يؤدّ طاعة ولا خدمة، بل قدّم عصياناً وضرراً للآخرين فالعذاب والنار - والعياذ باللّه - ، وحينئذ يأسف الإنسان في ذلك اليوم، على ما فوّت على نفسه من فرصة العمر في الدنيا، ويندم ندماً شديداً على ذلك، ويتمنى أن لو كان تراباً حتى لا يُعاد ولا يحاسب ليتخلص من

ص: 233


1- نهج البلاغة، الرسائل الرقم: 31 من وصية له للإمام الحسن(عليهما السلام).
2- سورة ق، الآية: 19.
3- سورة النبأ، الآية: 40.

عذاب ذلك اليوم ومن النار، ولكن لا يفيده الأسف والندم، كما لا يثمر في حقه التمنّي والترجّي، ويكون مصداقاً من مصاديق الآية الكريمة: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(1).

العوالم التي نمر بها

اشارة

كل واحد من بني الإنسان منذ بدء وجوده، وإلى أن يضع قدميه في المحشر يوم البعث والنشور، يمرّ بعوالم عديدة طولية، منها ما يلي:

1- عالم الذر.

2- عالم الأرحام.

3- عالم الدنيا.

4- عالم البرزخ.

5- عالم الآخرة.

وربما تكون هناك عوالم أخرى.

1- عالم الذر

أولاً: عالم الذر، ولعله يسمى: عالم الأصلاب أيضاً، وقد يكون هو أول العوالم الذي يمرّ الإنسان به، وهو فيه على صورة الذر، ويكون مستقراً في صلبأبي البشر آدم(عليه السلام) وذلك كما قال اللّه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ}(2)، وجاء في تفسير هذه الآية الكريمة قولان:

ص: 234


1- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
2- سورة الأعراف، الآية: 172.

الأول: ما روي أنه أخرج اللّه من ظهر آدم(عليه السلام) ذريته كالذّرّ يوم القيامة فخرجوا مثل الذر، فعرّفهم نفسه وأراهم صنعه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه فثبتت المعرفة ونسوا الموقف.

الثاني: إن الآية جارية مجرى الكلام العرفي البلاغي على طريقة التمثيل.

ومن المعلوم أن القول الأول لا مانع فيه إطلاقاً، فإن اللّه قادر على كل شيء {وَ} اذكر يا رسول اللّه {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ} أي أخرج من بني آدم {مِن ظُهُورِهِمْ} بدل من (من بني آدم) أي: أخرج من أصلاب الرجال {ذُرِّيَّتَهُمْ} أولادهم وذراريهم {وَ} بعدما أخرجهم وأكملهم {أَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} أي: جعلهم شهداء على أنفسهم، فإن من اعترف بشيء كان شهيداً على نفسه، قائلاً لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} على نحو الاستفهام التقريري، وقد كان ذلك بلسان الأنبياء(عليهم السلام)، كما في كثير من الآيات، مثل: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ} (1)، والمراد: القول لهم على لسان موسى(عليه السلام) {قَالُواْ بَلَىٰ} أنت ربنا. وهذا اعتراف بالفطرة، فإن الفطرة أذعنت بذلك، كما قال الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم): «كل مولود يولد على الفطرة إلّا أن أبويه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». ومن قبيل ذلك {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}(2)، و: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(3)، و: {إِنَّمَاقَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(4)، وأشباه ذلك مما هو كثير في القرآن، وهو نوع من البلاغة، كقول الشاعر:

ص: 235


1- سورة الإسراء، الآية: 104.
2- سورة الأحزاب، الآية: 72.
3- سورة فصلت، الآية: 11.
4- سورة النحل، الآية: 40.

أيا جبلي نعمان باللّه خليا...

وقوله: أيا شجر الخابور ما لك مورقاً

وقوله(عليه السلام):

«قال الحبيب وكيف لي بجوابكم *** وأنا رهين جنادل وتراب»

فإن الغالب أن يصوغ البليغ الكلام في قالب جذاب لبيان المراد.

{شَهِدْنَا} فالغرض من الآية: أن الفطرة تشهد على توحيد اللّه سبحانه بما أودع فيها من درك الحقيقة وفهم الواقع. وإنما أودعنا في الفطرة هذه الشهادة ل{أَن} لا {تَقُولُواْ} أيها البشر {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} حين يُعاتب المشرك على شركه، والجاحد على جحوده: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا} الأمر وهو التوحيد {غَٰفِلِينَ} فقد أودعنا فيكم ما يزيل غفلتكم.

لا يقال: فعل هذا يلزم صحة العقاب حتى بالنسبة إلى من لم تبلغه الدعوة؟

لأنه يقال: هو كذلك، إلّا أن اللّه سبحانه بلطفه لا يعذب حتى يُتمّ الحجة الظاهرة، كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(1)، وهذا التفسير للآية الكريمة، إنما هو القول الثاني الذي يأخذ بالظاهر مع غض النظر عن أخبار (عالم الذر) والذي يتصور أنه لا مانع من الجمع بين الأمرين، ودلالة الآيةعليهما، فإنه لم يدل دليل على امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل الذي يظهر في بعض الروايات أن بعض الآيات القرآنية تدل على أكثر من معنيين سواء كان المعنيان من باب المصداق أو لا، كما أن في الآيات السابقة {إِنَّا عَرَضْنَا...} يمكن الأمران، وكان الظاهر اللفظي البلاغي يؤكد كون الألفاظ

ص: 236


1- سورة الإسراء، الآية: 15.

مسوقة للمعنى العرفي، لا الخارجي، واللّه أعلم...(1).

هذا وقد جاء في روايات كثيرة ما معناه: إن اللّه تعالى خلق الإنسان قبل أن يأتي إلى هذه الدنيا في صورة الذر، وفي عالَم يسمى ب(عالم الذر)، وفي ذلك العالم قد بيّن اللّه تعالى للإنسان طريق الحق وطريق الضلال، وأودع في فطرته التوحيد والمعرفة، وأخذ منه الميثاق على أن يعبد اللّه ولا يشرك به شيئاً، وضمن اللّه تعالى له رزقه.

روي عن الامام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه عزّ وجلّ لما أخرج ذرية آدم(عليه السلام) من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له، وبالنبوة لكل نبي، فكان أول من أخذ له عليهم الميثاق بنبوته محمد بن عبد اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال اللّه عزّ وجلّ لآدم: انظر ماذا ترى؟ قال: فنظر آدم(عليه السلام) إلى ذريته وهم ذر، قد ملئوا السماء. قال آدم(عليه السلام): يا رب، ما أكثر ذريتي، ولأمر ما خلقتهم، فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم؟ قال اللّه عزّ وجلّ: يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ويؤمنون برسلي ويتبعونهم.

قال آدم(عليه السلام): يا رب، فما لي أرى بعض الذر أعظم من بعض، وبعضهم له نور كثير، وبعضهم له نور قليل، وبعضهم ليس له نور؟!

فقال اللّه عزّ وجلّ: كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم. قال آدم(عليه السلام): يارب، فتأذن لي في الكلام، فأتكلم؟ قال اللّه عزّ وجلّ: تكلّم، فإن روحك من روحي(2)، وطبيعتك من خلاف كينونتي. قال آدم: يا رب، فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد وطبيعة واحدة وجبلّة واحدة وألوان واحدة وأعمار واحدة وأرزاق سواء، لم يبغ بعضهم على بعض، ولم يكن بينهم تحاسد، ولا تباغض،

ص: 237


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 2: 267.
2- أي من روح خلقتُه.

ولا اختلاف في شي ء من الأشياء؟!

قال اللّه عزّ وجلّ: يا آدم، بروحي نطقت، وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به، وأنا الخالق العالم بعلمي، خالفت بين خلقهم وبمشيئتي يمضي فيهم أمري، وإلى تدبيري وتقديري صائرون، لا تبديل لخلقي، إنما خلقت الجن والإنس ليعبدون، وخلقت الجنة لمن أطاعني وعبدني منهم واتبع رسلي ولا أبالي، وخلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي، وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم، وإنما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيكم أحسن عملاً في دار الدنيا في حياتكم وقبل مماتكم؛ فلذلك خلقت الدنيا والآخرة، والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنة والنار، وكذلك أردت في تقديري وتدبيري وبعلمي النافذ فيهم، خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم الشقي والسعيد والبصير والأعمى والقصير والطويل والجميل والدميم والعالم والجاهل والغني والفقير والمطيع والعاصي والصحيح والسقيم ومن به الزَّمانة(1) ومن لا عاهة به؛ فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه ويصبر على بلائي فأثيبه جزيلعطائي، وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني، وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته، فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء والضراء، وفيما أعافيهم وفيما أبتليهم وفيما أعطيهم وفيما أمنعهم، وأنا اللّه الملك القادر، ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت، ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت، وأقدم من ذلك ما أخرت

ص: 238


1- الزَّمانة: العاهة.

وأؤخر من ذلك ما قدمت، وأنا اللّه الفعال لما أريد لا اُسأل عما أفعل، وأنا أسأل خلقي عما هم فاعلون».(1)

ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

«كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه».(2)

2- عالم الأرحام

اشارة

ثانياً: عالم الأرحام، وهو العالم الثاني الذي ينتقل الإنسان إليه ويبدأ بالنطفة، ثم العلق

ة، ثم المضغة، وهكذا حتى يكمل الجنين وتنتهي فترة الحمل، فينتهي عالم الرحم، ويتهيأ للخروج والانتقال إلى العالم الثالث وهو عالم الدنيا، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى}(4).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ * ثُمَّ جَعَلْنَٰهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٖمَّكِينٖ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا الْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(5).

تأثير العوالم وتأثرها

وفي هذا العالم الثاني، وكذلك العالم الأول يتأثر الإنسان كثيراً بصفات الوالدين وأخلاقهما من باب المقتضي لا العلة التامة، ومن هنا لا يرفع ذلك

ص: 239


1- الكافي 2: 8.
2- بحار الأنوار 58: 187.
3- سورة آل عمران، الآية: 6.
4- سورة الحج، الآية: 5.
5- سورة المؤمنون، الآية: 12- 14.

اختيار الإنسان وحريته.

لذلك يوصي الإسلام الوالدين وخاصة الأم وخلال فترة الحمل برعاية الأحكام الشرعية، والمسائل الأخلاقية، والابتعاد عن كل ما هو خلاف الشرع وخلاف الأخلاق، بل وعن جميع ما يؤدي إلى الاضطراب والقلق، حتى ينشأ الجنين في فترة الحمل سالماً من حيث الروح والجسد، وينتقل إلى عالم الدنيا بجسم سالم وروح سالمة.

وفي الحديث الشريف ما يشير إلى ذلك، قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «السعيد من سعد في بطن أمه»(1)، لذا فبقدر ما يكون الوالدان متقيدين بالأخلاق والآداب الأسلامية، ومراعيين للأحكام والمسائل الشرعية، يكون الجنين في نسبة كبرى من العافية والهداية، وقدر أكبر من السلامة والسعادة، وكذلك يكون بعد انتهاء فترة الحمل وانتقاله إنساناً سوياً إلى الدنيا.

وقد ورد في زيارة الامام الحسين(عليه السلام) في الزيارة المعروفة بزيارة وارث: «... أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهّرة، لم تُنجسكالجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبسك من مدلهمات ثيابها...»(2).

يعني: إن الامام الحسين(عليه السلام) كبقية أهل البيت(عليهم السلام) وهم المعصومون الأربعة عشر، لم يزل نورهم ينتقل من صلب أبيهم آدم(عليه السلام) عبر الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، أي: المطهرة من دنس الشرك، ومن رذائل الصفات وسوء الأخلاق، فلم تجد في آبائهم وآمهاتهم إلّا المؤمنين الموحدين، والطاهرين المطهّرين.

ص: 240


1- الزهد: 14.
2- مصباح المتهجد 2: 721.

ولا يخفى ما لهذه العوالم من التأثير على الإنسان في صلاحه وإصلاحه للمجتمع.

وصايا وآداب عن الأئمة(عليهم السلام)

روي في كتاب: مكارم الأخلاق عن أبي سعيد الخدري قال: أوصى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: «يا علي إذا أدخلت العروس بيتك فاخلع خفها حين تجلس واغسل رجليها وصب الماء من باب دارك إلى أقصى دارك، فإنك إذا فعلت ذلك أخرج اللّه من دارك سبعين ألف لون من الفقر، وأدخل فيها سبعين ألف لون من الغنى، وسبعين لوناً من البركة، وأنزل عليك سبعين رحمة ترفرف على رأس عروسك حتى تنال بركتها كل زاوية في بيتك، وتأمن العروس من الجنون والجذام والبرص أن يصيبها ما دامت في تلك الدار، وامنع العروس في أسبوعها من الألبان والخل والكزبرة والتفاح الحامض من هذه الأربعة الأشياء» فقال علي(عليه السلام): «يا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ولأي شي ء أمنعها هذه الأشياء الأربعة؟».

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «لأن الرحم تعقم وتبرد من هذه الأربعة الأشياء عن الولد، والحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد». فقال علي(عليه السلام): «يا رسول اللّه، ما بال الخل تمنع منه؟». قال: «إذا حاضت على الخل لم تطهرطهراً أبداً بتمام، والكزبرة تثير الحيض في بطنها وتشد عليها الولادة، والتفاح الحامض يقطع حيضها، فيصير داء عليها» ثم قال: «يا علي لا تجامع امرأتك في أول الشهر ووسطه وآخره؛ فإن الجنون والجذام والخبل يسرع إليها وإلى ولدها. يا علي لا تجامع امرأتك بعد الظهر؛ فإنه إن قضي بينكما ولد في ذلك الوقت يكون أحول، والشيطان يفرح بالحول في الإنسان. يا علي لا تتكلم عند الجماع فإنه إن قضي

ص: 241

بينكما ولد لا يؤمن أن يكون أخرس، ولا ينظرن أحد في فرج امرأته، وليغض بصره عند الجماع؛ فإن النظر إلى الفرج يورث العمى - يعني في الولد - يا علي لا تجامع امرأتك بشهوة امرأة غيرك؛ فإني أخشى إن قضي بينكما ولد أن يكون مخنثاً مؤنثاً مخبلاً. يا علي من كان جُنُبا في الفراش مع امرأته فلا يقرأ القرآن، فإني أخشى عليهما أن تنزل نار من السماء فتحرقهما. يا علي لا تجامع امرأتك إلّا ومعك خرقة ومع أهلك خرقة، ولا تمسحا بخرقة واحدة فتقع الشهوة على الشهوة، فإن ذلك يعقب العداوة بينكما، ثم يؤديكما إلى الفرقة والطلاق.

يا علي لا تجامع امرأتك من قيام فإن ذلك من فعل الحمير، وإن قضي بينكما ولد كان بوّالا في الفراش، كالحمير البوالة تبول في كل مكان. يا علي لا تجامع امرأتك في ليلة الفطر فإنه إن قضي بينكما ولد لم يكن ذلك الولد إلّا كثير الشر.

يا علي لا تجامع امرأتك في ليلة الأضحى؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون ذا ستة أصابع أو أربعة. يا علي لا تجامع امرأتك تحت شجرة مثمرة؛ فإنه إن قضيبينكما ولد يكون جلاداً أو قتالاً أو عريفاً(1). يا علي لا تجامع امرأتك في وجه الشمس وشعاعها إلّا أن يرخى ستر فيستركما؛ فإنه إن قضي بينكما ولد لا يزال في بؤس وفقر حتى يموت. يا علي لا تجامع امرأتك بين الأذان والإقامة؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون حريصاً على إهراق الدماء. يا علي إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلّا وأنت على وضوء؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون أعمى القلب بخيل اليد. يا علي لا تجامع أهلك في ليلة النصف من شعبان، فإنه إن قضي بينكما ولد يكون مشوهاً ذا شامة في شعره ووجهه.

يا علي لا تجامع أهلك في آخر الشهر إذا بقي منه يومان؛ فإنه إن قضي بينكما

ص: 242


1- العَريف: الكاهن.

ولد يكون عشاراً أو عوناً للظالم، ويكون هلاك فئام من الناس على يديه. يا علي لا تجامع أهلك على سقوف البنيان؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون منافقاً مرائياً مبتدعاً. يا علي إذا خرجت في سفر فلا تجامع أهلك تلك الليلة، فإنه إن قضي بينكما ولد ينفق ماله في غير حق، وقرأ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَٰنَ الشَّيَٰطِينِ}(1). يا علي لا تجامع أهلك إذا خرجت إلى سفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن، فإنه إن قضي بينكما ولد يكون عوناً لكل ظالم. يا علي وعليك بالجماع ليلة الإثنين؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون حافظاً لكتاب اللّه راضياً بما قسم اللّه عزّ وجلّ له. يا علي إن جامعت أهلك في ليلة الثلاثاء فقضي بينكما ولد فإنه يرزق الشهادة بعد شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، ولا يعذبه اللّه مع المشركين، ويكون طيب النكهة من الفم، رحيم القلب، سخي اليد، طاهر اللسان من الغيبة والكذب والبهتان. يا علي وإن جامعت أهلك ليلة الخميس فقضي بينكما ولد يكون حاكماً من الحكام، أو عالماً من العلماء. يا علي وإن جامعتها يوم الخميس عند زوال الشمس عن كبد السماء فقضي بينكما ولد فإن الشيطان لا يقربه حتى يشيب، ويكون فهماً، ويرزقه اللّه عزّ وجلّ السلامة في الدين والدنيا. يا علي وإن جامعتها ليلة الجمعة وكان بينكما ولد فإنه يكون خطيباً قوالاً مفوهاً، وإن جامعتها يوم الجمعة بعد العصر فقضي بينكما ولد، فإنه يكون معروفاً مشهوراً عالماً. وإن جامعتها في ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة، فإنه يرتجى أن يكون لك ولد من الأبدال، إن شاء اللّه تعالى. يا علي لا تجامع أهلك في أول ساعة من الليل؛ فإنه إن قضي بينكما ولد لا يؤمن أن يكون ساحراً مؤثراً للدنيا على الآخرة. يا علي، احفظ وصيتي هذه كما حفظتها عن أخي

ص: 243


1- سورة الإسراء، الآية: 27.

جبريل(عليه السلام)»(1).

ولا يخفى أن هذه الروايات تكون سبباً لصلاح الفرد حتى في خلقته، لكي يمكنه أن يكون صالحاً مصلحاً للمجتمع في كبره.

وروي عن الأئمة(عليهم السلام): «إذا قرب الزفاف يستحب أن تأمرها أن تصلي ركعتين استحباباً، وتكون على وضوء إذا ادخلت عليك، وتصلي أنت أيضاً مثل ذلك، وتحمد اللّه، وتصلّي على النبي وآله. وتقول: الّلهمّ ارزقني إلفها وودّها ورضاها، وأرضني بها، واجمع بيننا بأحسن اجتماع وأيسر ائتلاف، فإنّك تحب الحلال وتكره الحرام، وتقول إذا أردت المباشرة: اللّهمّ ارزقني ولداً واجعله تقيّاً ذكيّاً، ليس في خلقه زيادةٌ ولا نقصانٌ، واجعل عاقبته إلى خيرٍ، وتسمي اللّه عزّ وجلّ عند الجماع».(2)

وروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إذا أردت الولد فقل عند الجماع: اللّهمّ ارزقني ولداً، واجعله تقيّاً، ليس في خلقه زيادةٌ ولا نقصانٌ، واجعل عاقبته إلى خيرٍ»(3).

وقال الامام الصادق(عليه السلام): «إذا كان بامرأة أحدكم حبل فأتى عليها أربعة أشهر، فليستقبل بها القبلة وليقرأ آية الكرسي، وليضرب على جنبها، وليقل: اللّهم إني قد سمّيتُهُ محمداً. فإنه يجعله غلاماً، فإن وفى بالاسم بارك اللّه له فيه، وإن رجع عن الاسم كان للّه فيه الخيار، إن شاء أخذه، وإن شاء تركه».(4)

وعن الحسن بن الجهم قال: سمعت الامام الرضا(عليه السلام): «قال أبو

ص: 244


1- مكارم الأخلاق: 209.
2- مكارم الأخلاق: 208.
3- الكافي 6: 10.
4- الكافي 6: 11.

جعفر - الامام الباقر(عليه السلام) - : إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً، ثم تصير علقةً أربعين يوماً، ثم تصير مضغةً أربعين يوماً، فإذا كمل أربعة أشهر بعث اللّه ملكين خلّاقين فيقولان: يا رب، ما تخلق ذكراً أو أنثى؟ فيؤمران، فيقولان: يا رب، شقياً أو سعيداً؟ فيؤمران، فيقولان: يا رب، ما أجله؟ وما رزقه؟ وكل شي ء من حاله، وعدّد من ذلك أشياء، ويكتبان الميثاق بين عينيه، فإذا أكمل اللّه له الأجل بعث اللّه ملكاً فزجر زجرةً فيخرج، وقد نسي الميثاق».

فقال الحسن بن الجهم: فقلت له: أ فيجوز أن يدعو اللّه فيحوِّل الأنثى ذكراً والذكر أنثى؟!

فقال: «إن اللّه يفعل ما يشاء»(1).

وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَاوَذُرِّيَّٰتِنَا}(2)، قال: نزلت هذه الآية واللّه خاصة في أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: كان أكثر دعائه يقول: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا}، يعني: فاطمة(عليها السلام) {وَذُرِّيَّٰتِنَا} الحسن والحسين(عليهما السلام) {قُرَّةَ أَعْيُنٖ} قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه، ما سألت ربي ولداً نضير الوجه، ولا ولداً حسن القامة؛ ولكن سألت ربي وُلداً مطيعين للّه، خائفين وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه، وهو مطيع للّه، قرت به عيني» قال: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قال: «نقتدي بمن قبلنا من المتقين، فيقتدي المتقون بنا من بعدنا». وقال اللّه: {أُوْلَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ}(3) يعني: علي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة(عليهم السلام). {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَٰمًا * خَٰلِدِينَ فِيهَا

ص: 245


1- الكافي 6: 13.
2- سورة الفرقان، الآية: 74.
3- سورة الفرقان، الآية: 75.

حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}(1)(2).

وعن الحسين بن سعيد قال: كنت أنا وابن غيلان المدائني، دخلنا على أبي الحسن الرضا(عليه السلام) فقال له ابن غيلان: أصلحك اللّه، بلغني أنه من كان له حمل فنوى أن يسميه: محمداً وُلد له غلام؟ فقال(عليه السلام): «من كان له حمل فنوى أن يسميه علياً وُلد له غلام»، ثم قال: «علي محمد، ومحمد علي، شيئاً واحداً». قال: أصلحك اللّه، إني خلفت امرأتي وبها حبل، فادع اللّه أن يجعله غلاماً؟ فأطرق إلى الأرض طويلاً. ثم رفع رأسه فقال له: «سمّه علياً؛ فإنه أطول لعمره»، فدخلنا مكة فوافانا كتاب من المدائن أنه: قد وُلد له غلام(3).

3- عالم الدنيا

اشارة

ثالثاً: عالم الدنيا، وهي من العوالم الطولية التي ينتقل الإنسان إليها، فيبدأ فيها بمرحلة الطفولة، ثم الصباوة، ثم التمييز والبلوغ، ثم الشباب والكهولة، ثم الشيب والشيخوخة، ثم الإشراف على الموت والارتحال من الدنيا إلى العالم الرابع، حيث الانتقال إلى عالم البرزخ، وذلك كما قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٖ شَئًْا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٖ}(4).

ص: 246


1- سورة الفرقان، الآية: 75-76.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 380.
3- الكافي 6: 11.
4- سورة الحج،الآية: 5.

وكما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَئًْا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَٰرَ وَالْأَفِْٔدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(1).

الدنيا مزرعة الآخرة

إن عالم الدنيا بالنسبة إلى العالمَين قبله عالم وسيع جداً، وله تأثير كبير على مستقبل الإنسان وتقرير مصيره في العالمَين بعده، حيث إن هذا العالم (عالم الدنيا) هو عالم السعي والعمل، بخلاف العالمين بعده، إذ أنهما عالما الحساب والجزاء، وهذا العالم هو عالم المرور والعبور، وعالم الزوال والفناء، بخلاف العالمين بعده، حيث إنهما عالما الاستقرار والنزول، وعالما البقاء والخلود... .

وقد وصفت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة عالم الدنيا بأنه بمثابة جسر وقنطرة يعبر الإنسان عليها للوصول إلى عالمي البرزخ والآخرة، ووصفته أيضاً بأنه مزرعة، وأنّ أعمال الإنسان في عالم الدنيا من خير وشر بمثابة بذر يبثه في أرضالمزرعة ويحصد ثمره وحاصله في البرزخ والآخرة، فإن كان زرع خيراً حصد خيراً وسعادة، وإن كان زرع شراً حصد شراً وندامة.

الترابط بين العوالم

هذا ولا يخفى أن هناك نوعَ ترابط بين عالم الدنيا وعالمي البرزخ والآخرة بعده، كما كان بين عالم الدنيا وعالمي الذر والأرحام قبله، فكما أن لعالم الذر وعالم الأرحام - من حيث السعادة والشقاء - تأثيراً(2) على الإنسان في عالم الدنيا

ص: 247


1- سورة النحل، الآية: 78.
2- هذا التأثير من حيث المقتضي لا العلة التامة، بحيث لا ينافي اختيار الإنسان في اتخاذ الخير أو الشر، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} سورة الإنسان، الآية: 3. وقال عزّ وجلّ: {وَهَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ} سورة البلد، الآية: 10.

من حيث سعادته وشقائه، فكذلك لعالم الدنيا من حيث السعادة والشقاء تأثير على الإنسان في عالم البرزخ وعالم الآخرة من حيث سعادته وشقائه أيضاً، وإلى هذا المعنى يشير قول اللّه سبحانه: {وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْأخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا}(1).

وقوله تعالى: {رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْأخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(2).

وقوله عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ}(3).

وقوله جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَاحَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْأخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(4).

العاقل وتعامله مع الدنيا

لذلك ينبغي للإنسان العاقل أن يغتنم عالم الدنيا بالسعي والعمل؛ من أجل سعادته في الدنيا سعادة مستلزمة لسعادة الآخرة أيضاً، علماً بإن سعادة الدنيا المستلزمة لسعادة الآخرة لا تتحقق إلّا بالسعي والعمل في إطار الشرع الإسلامي؛ وتعاليم الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام)، الداعية إلى جعل الهدف من الدنيا الوصول إلى الآخرة، وأن يكون كل شيء وعمل وقول من أجل الآخرة، وأن لاينسى الإنسان الآخرة ويغتر بالدنيا، وأن لا يكون ممن يبيع

ص: 248


1- سورة الإسراء، الآية: 72.
2- سورة البقرة، الآية: 201.
3- سورة طه، الآية: 124- 126.
4- سورة النحل، الآية: 41.

الآخرة من أجل الدنيا، وأن لا يكون من مصاديق قول اللّه تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا بِالْأخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}(1). ولا يكون من: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَٰلَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}(2).

وأن يهتدي بما قاله الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لأختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني»(3).

وذلك لأن الدنيا وإن كانت من ذهب، فإنها حيث تزول وتفنى لا خير فيها، والآخرة وإن كانت من خزف - فرضاً - فإنها حيث تبقى وتخلد فالخير فيها، فكيف وحال الدنيا والآخرة بالعكس، أي: إن واقع الدنيا أقل من الخزف، وواقع الآخرة أكبر من الذهب.

الجمع بين الدنيا والآخرة

ثم إنه باستطاعة الإنسان أن يجمع بين الدنيا والآخرة فيفوز بسعادة الدارين؛ وذلك باتباع القرآن الحكيم والعمل بسيرة الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام)، فإن اتباع القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) ينتج خير الدنيا وسعادة الآخرة ويثمر الصلاح والفلاح في الدنيا، والنجاة والفوز في الآخرة؛ وذلك واضح، لأن القرآن الحكيم هو نور للدنيا والآخرة، وأن أهل البيت(عليهم السلام) هم مصابيح الهدى في الدنيا والآخرة، أليس القرآن الحكيم يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَىٰكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(4).

ص: 249


1- سورة البقرة، الآية: 86.
2- سورة البقرة، الآيه: 16.
3- الوافي 1: 100.
4- سورة القصص، الآية: 77.

ويقول الحق تبارك اسمه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوٰةُ فَانتَشِرُواْ فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَٰتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(2).

أليس أهل البيت(عليهم السلام) يقولون: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «نعم العون الدنيا على الآخرة»(4).

وقال(عليه السلام): «ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(5).

وعن محمد بن عذافر عن أبيه قال: دفع إليّ أبو عبد اللّه(عليه السلام) سبعمائة دينار وقال: «يا عذافر اصرفها في شي ء مّا» وقال: «ما أفعل هذا على شَرَهٍ(6) مني؛ ولكني أحببت أن يراني اللّه تبارك وتعالى متعرضاً لفوائده». قال عذافر: فربحت

ص: 250


1- سورة الجمعة، الآية: 9-10.
2- سورة الأعراف، الآية: 31-33.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 156.
4- الكافي 5: 72.
5- من لا يحضره الفقية 3: 156.
6- الشَّرَه: غلبة الحرص.

فيها مائة دينار، فقلت له في الطواف: جعلت فداك، قد رزق اللّه عزّ وجلّ فيها مائة دينار، قال: «أثبتها في رأس مالي».(1)

وقال رجل لأبي عبد اللّه(عليه السلام): واللّه إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها. فقال(عليه السلام): «تحب أن تصنع بها ما ذا؟». قال: أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر!! فقال(عليه السلام): «ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة».(2)

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أيضاً قال: «إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن علي بن الحسين(عليهما السلام) يدع خلفاً أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي(عليهما السلام) فأردت أن أعظه فوعظني!! فقال له أصحابه: بأي شي ء وعظك؟! قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيني أبو جعفر محمد بن علي(عليهما السلام) وكان رجلاً بادناً ثقيلاً، وهو متكئ على غلامين أسودين، أو موليين،فقلت في نفسي: سبحان اللّه! شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟! أما لأعظنَّه، فدنوت منه فسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام بنَهْرٍ(3)، وهو يتصاب عرقاً، فقلت: أصلحك اللّه، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا!! أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟! فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعة اللّه عزّ وجلّ، أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي اللّه!! فقلت:

ص: 251


1- من لا يحضره الفقيه 3: 158.
2- الكافي 5: 72.
3- في نسخة ببهر، والبَهْر: تتابع النفس من التعب.

صدقت يرحمك اللّه، أردت أن أعظك فوعظتني».(1)

وعليه: فإنه يمكن الجمع بين الدنيا والآخرة، وهو ما يختاره الإنسان العاقل في مدة حياته وجميع أيام عمره في عالم الدنيا، وطريق الجمع بينهما هو التثقف بثقافة القرآن الحكيم التي يجسدها في الخارج عملاً ويحققها على أرض الواقع فعلاً، ثقافة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام) العالية، فالإنسان في عالم الدنيا وضمن رحلته الطويلة بين العوالم يستطيع أن يثبت كيفية رشده، ومقدار تعاليه ورقيه في كل مجال من مجالات هذه الحياة القصيرة والزائلة الدنيوية؛ لذا قيل في علم النفس والإجتماع: إنه بالامكان معرفة ثقافة أي مجتمع من خلال أفعاله وسلوكياته، لأن الثقافة ينشأ عنها العمل والسلوك المجسّد لتلك الثقافة خارجاً، والمحقق لها على أرض الواقع.

والاستفادة الصحيحة من الدنيا تكون من مقومات المجتمع الصالح، وينبغي لمن أراد السعي نحو مجتمع صالح أن يعمل لدنياه وآخرته حسب الموازينالشرعية.

نماذج ثقافية

نقل بعض الأصدقاء عن أحد الأشخاص المتجوّلين في بلدان العالم أنه زار إحدى المدن في بلد من البلدان وقال: إن أغلب شوارع تلك المدينة هي من الشوارع الكبيرة والعريضة، وهي شوارع ذات اتجاهين: أحدهما للذهاب والآخر للإياب، ويفصل بينهما فاصل، يتراوح عرضه بين المتر، والمتر ونصف المتر، وقد زُرع على هذا الفاصل عدة أنواع من الزهور الجميلة ذات الألوان الزاهية والأشكال المختلفة والجذابة، وقد رأيت في أحد هذه الشوارع أن الفاصل يحتوي على

ص: 252


1- الكافي 5: 73.

ثلاثمائة نوع من الزهور المختلفة الألوان، المتعددة الأشكال، ذات العطور الفواحة، ثم أضاف قائلاً: ولشدة حبي للاستطلاع والمعرفة، قررت أن أتعرف على المسؤولين عن تصميم هكذا شوارع وفكرة زرع هذه الأزهار والورود الجميلة، فسألت عنهم فقيل لي: إن المشرفين على شتل هذه الزهور وزرعها هم مهندسون أخصائيون في علم الأزهار، ومن خريجي جامعات هذه المدينة نفسها!

فعرفت من ذلك: أن ثقافة هذه المدينة عالية جداً، بحيث إنهم يعتنون بتزيين شوارع مدينتهم إلى هذه الدرجة من الإعتناء، ويوظفون لذلك أفراد متخصصين ومهندسين فنيّين من الدرجة العالية, وذوي الشهادات الراقية، وهذا من الجمال الذي دعى إليه الإسلام وحث عليه. فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبصر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) رجلاً شعثاً شعر رأسه،وسخة ثيابه، سيئة حاله!! فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): من الدين المتعة وإظهار النعمة»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ليتزين أحدكم لأخيه المسلم كما يتزين للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة»(3).

ونقل لي صديق آخر زار بعض البلدان الغربية، وقال: لقد كان البلد الذي زرته على سعته الكبيرة وكثرة نفوسه، وازدحام وسائل النقل فيه، نظيفاً إلى أبعد الحدود، وجميلاً بمنتهى الجمال، حيث لم يكن في شوارعها ولا على أرصفتها،

ص: 253


1- الكافي 6: 438.
2- الكافي 6: 439.
3- الكافي 6: 439.

ولا في أزقتها شيء من القمامة، حتى القليل من الأوساخ أو النفايات، مما جعل البلد نظيفاً وجميلاً، - الى أن قال: - وإن أحد المدخنين الغرباء على البلد أخرج آخر سيجارة موجودة في العلبة، ثم قذف بالعلبة الفارغة في جانب من الشارع، وعندما وصل إلى مفترق طرق من نفس الشارع، وإذا بشرطي المرور يطلب من الرجل المدخن والغريب التوقف ودفع غرامة ثقيلة عن تلويثه الطريق العام؛ وذلك بقذفه علبة السيجاير الفارغة فيه، وكلما اعتذر المدخّن بأنه غريب ولا يعرف نظام هذا البلد، لم يقبل الشرطي عذره قائلاً: أدفع الغرامة كي يبقى في ذهنك أنه لا يجوز لأحد تلويث الشارع العام بشيء من القمامة ونحوها!!

هذه بعض النماذج من ثقافات العصر الحاضر، والذي يأمر به الاسلام ويؤكدّ عليه، ولكن - ومع الأسف الشديد - نرى كثيراً من مسلمي هذه الأمة ذات المليار ونصف المليار مسلم(1) تلخصت حياتهم بالكسل والتقاعس عن السعي والعمل،والميل إلى الدعة والراحة، إلى درجة لم تقتصر على الابتعاد عن الثقافة الإسلامية التقدمية الراقية، وترك السعي وراء الوصول إلى الإكتفاء الذاتي في الصناعات المهمة، بل وأصبحنا نستورد فيها حتى بيض الدجاج ولحمه من الدول الغربية.

نعم، طموحاتنا كبيرة وآمالنا كثيرة، ولكننا لا نسعى إليها، وإنما شغلنا أنفسنا بالنزاعات القومية والعرقية ومجالس الغيبة، وإنتقاد الآخرين، وقذف التهم إليهم والافتراء عليهم، فبدل أن نصبح أمة السعي والعمل، والجد والمثابرة، أصبحنا أمة الكسل والملل والقول فقط، وبذلك ضيعنا دنيانا وآخرتنا.

ومن المعلوم أن من مقومات المجتمع الصالح هو السعي والعمل لا القول والأمل.

ص: 254


1- وحسب الإحصاءات الأخيرة أصبح نفوس المسلمين أكثر من ملياري نسمة.
عبر وعظات

يقال: إن نادر شاه(1) عند ما كان حاكماً على إيران، أراد أن يحتل الهند ويضمها إلى حكومته، وبعد المشورة في طريقة فتح الهند وكيفيتها قيل له: إنه يمكن شن الهجوم على الهند من طريقين: أحدهما عبر الطريق البري، وهذا يستغرق مدة طويلة للوصول إلى الهند، وثانيهما: الطريق البحري، وهذا يستغرق مدة أقصر بكثير من الطريق البري، ولكن بشرط أن تهب الرياح المؤثرة على حركة السفن الشراعية على وفق ما نشتهيه من الاتجاه نحو الهند. فقال نادر شاه: إنني غير مستعد أن أجعل مصير أمة وعاقبة دولة موكولاً بيد الرياح!! فاختار الطريق البري تاركاً الطريق البحري وراءه.

وهذه القصة تدل فيما تدل عليه: على واقع حال المسلمين اليوم! وذلك لأننا وأثر تكاسلنا وتقاعسنا وتركنا ثفافة القرآن الحكيم وثقافة الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام)، صرنا السبب لأن تقع إدارة بلادنا وأمتنا إلى مختلف الرياح من الشرق والغرب، وإلى الأعداء والمناوئين، يقتلوننا ويأسروننا، ويسلبوننا أرضنا وخيراتنا، وأموالنا وثرواتنا، وديننا ودنيانا، فلقد أصبحنا بسبب هجرنا تعاليم الإسلام وثقافة القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) مصداقاً واضحاً للحديث القدسي الشريف القائل: «إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني».(2)

مثال جميل

نقل العلامة الشيخ جعفر الرشتي(رحمه الله)(3) هذه القصة فقال: تناول اثنان شيئاً من المخدرات حتى فقدا وعيهما وصارا يهذيان، ثم خرجا يتمشيان في الأزقة على

ص: 255


1- نادر قلي بك الأفشاري.
2- الكافي 2: 276.
3- الشيخ جعفر الرشتي، عميد المدرسة الهندية العلمية المعروفة في كربلاء المقدسة.

غير هدى من طريقهما، فرأى أحدهما حفرة صغيرة ممتلئة بالماء الراكد، فتصورها - بسبب تناوله لهذا السم المسمى المخدرات - بحراً كبيراً، فقال لصاحبه متعجباً: ما أكبر هذا البحر وأوسعه؟! ثم خلعا ملابسهما ليعبرا هذا البحر الموهوم، فقفزا وبجهد كبير قفزة واسعة، فسقطا بشدة على الأرض وتشدّخ رأسهما وتهشّمت عظامهما!!

وفي زماننا الحاضر أصبح حال بعض المسلمين كذلك، حيث إنهم تركوا أسباب الرقي والتقدم، فتأخروا وتقهقروا، وإذا فكروا في التقدم تصوروه بحراً كبيراً متلاطم الأمواج لا يمكن الخوض فيه؛ ولذلك بقوا دائماً متأخرين، وأبداً منحطين، يعيشون فقراء معدمين، مع أنهم يملكون أثرى بقاع الأرض، وهم أذلاء صاغرين مع أن لديهم ما يجعلهم أعزة سادة، وكبراء وقادة.

ونرى - في عصرنا الحاضر - بعض أهل الكتاب من المسيحيين وغيرهم يقروّن للمسلمين فضلهم ويعترفون بأنهم آباء الحضارة وروّاد العلم، وأن لهم حق الحياة الراقية على جميع الأمم المتقدمة والمترقية، بينما المسلمون أنفسهم تراهم قد لجئوا إلى النوم والكسل وتجاهلوا ماضيهم المشرق، واشتغلوا بتضعيف أنفسهم وتشتيت أمرهم من خلال المهاترات والمخاصمات الجانبية، كما في أغلب البلاد الإسلامية، وراح يتهم بعضهم بعضاً بأبشع التهم التي يعجز اللسان من ذكرها، والبيان عن وصفها، وذلك بدلاً من استغلالهم الفرص المتاحة لهم واغتنامهم العمر والفرص التي وهبها اللّه إياهم.

هذا هو حال أغلب المسلمين اليوم، وهو على عكس حال الشرق والغرب، حيث إن غير المسلمين أخذوا تعاليم الاسلام وثقافة القرآن، وقاموا بتنظيم أوقاتهم وتنسيق أعمالهم من أجل التقدم والإزدهار، وتجنيد طاقاتهم وتحشيد قدراتهم في سبيل الاختراع والاكتشاف، والتقدم الزراعي والصناعي، وتحقيق

ص: 256

الاكتفاء الذاتي في كل جانب من جوانب الحياة.

نعم، إن المسلمين اليوم أضاعوا أوقاتهم في الفراغ والكسل في مجالس الافتراء والغيبة، وفي النزاعات الجانبية، والمخاصمات الهامشية، وفي السب والشتم بعضهم لبعض. هذا وقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يعظ أصحابه ومحبيه: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين»(1). وقال الامام الصادق(عليه السلام) وهو يوصي محبّيه ومواليه: «كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً»(2).

4- عالم البرزخ

اشارة

رابعاً: عالم البرزخ، وهو رابع العوالم الطولية، الذي ينتقل الإنسان إليه، ويبدأبالموت ومفارقة الروح للجسد، ويستمر إلى ما لا يعلمه إلّا اللّه تعالى حتى ينفخ في الصور وتقوم الساعة والقيامة، فينتقل الإنسان من عالم البرزخ إلى عالم الآخرة، وذلك كما قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتُ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ

ص: 257


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 206 من كلام له(عليه السلام) وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون... .
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 400.
3- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
4- سورة البقرة، الآية: 154.

خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(1).

وقال تبارك اسمه: {قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ}(2).

وكما قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «عذاب القبر من النميمة والغيبة والكذب».(3)

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام):

«أشد ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: الساعة التي يعاين فيها ملك الموت، والساعة التي يقوم فيها من قبره، والساعة التي يقف فيها بين يدي اللّه تباركوتعالى، فإما إلى الجنة، وإما إلى النار - ثم قال - إن نجوت يا ابن آدم عند الموت فأنت أنت، وإلّا هلكت، وإن نجوت يا ابن آدم حين توضع في قبرك فأنت أنت، وإلّا هلكت، وإن نجوت حين يحمل الناس على الصراط، فأنت أنت، وإلّا هلكت، وإن نجوت حين: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(4) فأنت أنت وإلّا هلكت، - ثم تلا: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(5) قال - هو القبر، وإن لهم فيه لمَعِيشَةً ضَنكاً واللّه، إن القبر لروضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار»، ثم أقبل على رجل من جلسائه فقال له: «لقد علم ساكن السماء ساكن الجنة من ساكن النار، فأي الرجلين أنت، وأي الدارين دارك؟»(6).

ص: 258


1- سورة آل عمران، الآية: 169-170.
2- سورة غافر: 11.
3- بحار الأنوار 72: 259.
4- سورة المطففين، الآية: 6.
5- سورة المؤمنون، الآية: 100.
6- الخصال 1: 119.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا وضع الميت في قبره مُثّل له شخص. فقال له: يا هذا كنا ثلاثةً: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلفوك وانصرفوا عنك، وكنتُ عملَك فبقيتُ معك، أما إني كنت أهون الثلاثة عليك»(1).

وفي حديث آخر عنه(عليه السلام) قال: «يسأل الميت في قبره عن خمس: عن صلاته، وزكاته، وحجه، وصيامه، وولايته إيانا أهل البيت، فتقول الولاية من جانب القبر للأربع: ما دخل فيكن من نقص فعلي تمامه»(2).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) أيضاً: «واللّه ما نخاف عليكم إلّا البرزخ»(3).

وعن الإمام الكاظم(عليه السلام) قال: «يقال للمؤمن في قبره: من ربك؟ - قال - فيقول:اللّه. فيقال له: ما دينك؟ فيقول: الإسلام. فيقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد(صلی الله عليه وآله وسلم). فيقال: من إمامك؟ فيقول: فلان. فيقال: كيف علمت بذلك؟ فيقول: أمر هداني اللّه له وثبتني عليه. فيقال له: نم نومةً لا حلم فيها، نومة العروس، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيدخل عليه من روحها وريحانها، فيقول: يا رب، عجل قيام الساعة، لعلي أرجع إلى أهلي ومالي. ويقال للكافر: من ربك؟ فيقول: اللّه. فيقال: من نبيك؟ فيقول: محمد(صلی الله عليه وآله وسلم). فيقال: ما دينك؟ فيقول: الإسلام. فيقال: من أين علمت ذلك؟ فيقول: سمعت الناس يقولون فقلته!! فيضربانه بمرزبة لو اجتمع عليها الثقلان الإنس والجن لم يطيقوها. - قال - فيذوب كما يذوب الرصاص، ثم يعيدان فيه الروح، فيوضع قلبه بين لوحين من نار، فيقول: يا رب، أخِّر قيام الساعة»(4).

ص: 259


1- الكافي 3: 240.
2- الكافي 3: 241.
3- تفسير القمي 1: 20.
4- الكافي 3: 238.
البرزخ وأول مراحله

يبدأ عالم البرزخ بالموت، حيث ينتقل الإنسان على إثره إلى القبر، وفي القبر تكون المُسائلة، ويكون الحساب والجزاء البرزخي، ففي الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من مات فقد قامت قيامته»(1)، أي البرزخية، وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران»(2).

نعم، ما هي إلّا أيام نقضيها في هذه الدنيا الدنيئة والزائلة، حتى نعيش الحياة البرزخية الواسعة والطويلة بالنسبة إلى عالم الدنيا، وذلك إمّا في روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران - والعياذ باللّه - لذا يجب علينا الاهتمامبإصلاح أنفسنا وإصلاح المجتمع والسعي نحو تحقق المجتمع الإسلامي السعيد، وذلك بالوعي واليقظة، وترك حالة الركود والكسل، والتحلي بالنشاط والسعي والعمل وبكل جدّ واخلاص، من أجل أن نطوي عالم الدنيا بسلامة وسعادة، مشحوناً بالخير والبركة في ظل مجتمع اسلامي إنساني، وأمة اسلامية متقدمة ومزدهرة، مستتبعاً سلامة عالم البرزخ والآخرة وسعادتهما، ولا يكون ذلك إلّا بالسعي لتحقيق ثقافة القرآن الحكيم وثقافة أهل البيت(عليهم السلام) التي هي عصارة الأهداف السماوية التي جاء من أجلها الأنبياء والرسل (عليهم الصلاة والسلام) وبلّغ لها جميع الأوصياء والأولياء.

مخاوف عالم البرزخ

إن عالم البرزخ، كما سبق: هو عالم الحساب والجزاء البرزخي، وليس عالم السعي والعمل كما كان في عالم الدنيا؛ لذلك ينقطع الإنسان بالموت والانتقال إلى عالم البرزخ من السعي والعمل، إلّا القليل مما يصله من الخيرات

ص: 260


1- بحارالأنوار 58: 7.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 265.

والمبرات، والتي إن كان قد فعلها في حياته لكانت أكثر ثواباً وبركة عليه.

فلا تبقى للإنسان في برزخه إلّا ما اكتسبه في دنياه ونتائج عمله، فإن كان قد عمل خيراً رأى خيراً، وإن كان قد عمل شراً رأى شراً، كما في الحديث الشريف: «إن خيراً فخير وإن شراً فشر»([1]).

ومن هنا ينبغي أن يخاف من القبر ومن البرزخ، ومن مصير الإنسان المجهول آنذاك... .

يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «واللّه، ما أخاف عليكم إلّا البرزخ، فأما إذا صار الأمر الينا فنحن أولى بكم»(1)(2).

هل في عالم البرزخ تكامل؟

ثم إن عالم البرزخ مضافاً إلى كونه عالم حساب وجزاء برزخي، وعالم انقطاع عن السعي والعمل الدنيوي، لكنه بحسب بعض الروايات الشريفة، فيه بعض التكامل البرزخي والصعود إلى الدرجات الإنسانية العالية المجردة عن مهاوي السقوط الدنيوي ودركات الهبوط الحيواني، ففي الحديث الشريف ما يدل على أن الأطفال والقصّر الذين يرحلون عن عالم الدنيا وينتقلون إلى عالم البرزخ وهم بعدُ لم يكملوا إنسانياً، ولم يبلغوا سنّ التكليف شرعياً، يتكاملون هناك، فإن أطفال الشيعة وقصّرهم يتربّون على يد بعض الأولياء كالخليل إبراهيم(عليه السلام) حتى يكبروا ويبلغوا سن الرشد ويكملوا، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى كفل إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين، يغذوانهم بشجرة في الجنة، لها أخلاف كأخلاف(3) البقر، في قصر من درة، فإذا كان يوم القيامة ألبسوا وطيبوا

ص: 261


1- الكافي 2: 294.
2- تفسير القمي 2: 94.
3- الخِلْف: حلمة ضرع الناقة، جمعه أخلاف.

وأهدوا إلى آبائهم، فهم ملوك في الجنة مع آبائهم، وهو قول اللّه عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}»(1)(2).

وقال الامام الصادق(عليه السلام) أيضاً: «إذا مات طفل من أطفال المؤمنين، نادى مناد في ملكوت السماوات والأرض: ألا إن فلان بن فلان قد مات، فإن كان مات والداه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين، دفع إليه يغذوه، وإلّا دفع إلى فاطمة(عليها السلام) تغذوه، حتى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته، فتدفعه إليه»(3).أما حال من يموت من أطفال المشركين والكفار، فقد روي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إذا كان يوم القيامة احتج على اللّه سبعة: على الطفل، والذي مات بين النبيين، والشيخ الكبير الذي أدرك النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو لا يعقل، والأبله، والمجنون الذي لا يعقل، والأصم، والأبكم، كل واحد منهم يحتج على اللّه عزّ وجلّ، قال: فيبعث اللّه عزّ وجلّ إليهم رسولاً فيؤجج لهم ناراً فيقول: إن ربكم يأمركم أن تثبوا فيها، فمن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن عصى سيق إلى النار»(4).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «تؤجج لهم نار، فيقال لهم: ادخلوها، فإن دخلوها كانت عليهم برداً وسلاماً، وإن أبوا قال اللّه عزّ وجلّ لهم: هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتوني، فيأمر اللّه عزّ وجلّ بهم إلى النار»(5).

وورد في الأحاديث الشريفة - أيضاً - ما يدل على أن بعض الأعمال في عالم

ص: 262


1- سورة الطور، الآية: 21.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 490.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 490.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 492.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 492.

الدنيا تبقى آثارها وبركاتها مستمرة في عالم البرزخ ويكمل الإنسان بها في البرزخ، كالمشاريع الخيرية، والأولاد الصالحين، والعلوم التي تنفع الناس، فإنها تكون ذخيرة له في عالم البرزخ ويجدها أمامه ويتكامل بها، فإنه رغم انقطاعه عن عالم الدنيا وعن السعي والعمل، يصله أثر ذلك الأمر، وينتفع به، ويكون سبباً لتكامله ورقي درجاته في عالم البرزخ. وذلك كما روي: «أن من مات بلا خلف فكأن لم يكن في الناس، ومن مات وله خلف فكأن لم يمت»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «اذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقةجارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(2).

وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): مرّ عيسى ابن مريم(عليه السلام) بقبر يُعذّب صاحبه، ثم مرّ به من قابل فإذا هو لا يُعذّب!! فقال: يا رب، مررت بهذا القبر عام أول فكان يُعذّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذّب؟! فأوحى اللّه إليه: أنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه. ثم قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): ميراث اللّه(3) عزّ وجلّ من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده...»(4).

وعن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال: «سُنّة سنّها يعمل بها بعد موته، فيكون له مثل أجر من يعمل بها، من غير أن ينتقص من أجورهم شي ء، والصدقة الجارية تجري من بعده، والولد الصالح يدعو لوالديه بعد موتهما، ويحجّ ويتصدق عنهما، ويعتق ويصوم ويصلي

ص: 263


1- من لايحضره الفقيه 3: 481.
2- منية المريد: 103.
3- ميراث اللّه: أي ما يبقى بعد موت المؤمن فإنه لعبادته له تعالى كأنه ورثه من المؤمن.
4- الكافي 6: 3.

عنهما» فقلت: أشركهما في حجي؟ قال: «نعم»(1).

وعنه(عليه السلام) قال: «ستة تلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له، ومصحف يخلفه، وغرس يغرسه، وقليب يحفره، وصدقة يجريها، وسُنّة يؤخذ بها من بعده»(2).

ولا يخفى أن هذه الأمور من مقومات المجتمع الإسلامي الصالح.

5- عالم الآخرة

اشارة

خامساً: عالم الآخرة، وهو خامس العوالم الطولية ونهاية مطاف الإنسانومنتهى رحلته الطويلة، وآخر ما ينتقل الإنسان إليه ليبدأ بالحياة الأبدية بإذن اللّه تعالى، إما منعمّاً أو معذّباً، حيث يبدأ بنفخ الصور الثاني والبعث من القبور، والحشر ليوم النشور، والعرض على اللّه، للحساب الأكبر، والجزاء الأوفى: من الخلود في النعيم والجنة، أو العذاب والنار والعياذ باللّه، قال اللّه تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(3).

وقال تبارك اسمه: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَمَن وَعَدْنَٰهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}(5).

ص: 264


1- الكافي 7: 57.
2- الكافي 7: 57.
3- سورة آل عمران، الآية: 185.
4- سورة النساء، الآية: 87.
5- سورة القصص، الآية: 61- 62.

وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَالسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتُ بِيَمِينِهِ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}(1).

وروي عن الامام السجاد(عليه السلام) في وصف يوم القيامة وكيفيته في معنى قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّنُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}(2) عندما سُئل(عليه السلام) عن النفختين كم بينهما؟

قال(عليه السلام): «ما شاء اللّه»، فقيل له: فأخبرني يا ابن رسول اللّه، كيف ينفخ فيه؟

فقال: «أما النفخة الأولى، فإن اللّه يأمر إسرافيل فيهبط إلى الأرض ومعه الصور، وللصور رأس واحد وطرفان، وبين طرف كل رأس منهما ما بين السماء والأرض.

قال: فإذا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبط إلى الدنيا ومعه الصور، قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض، وفي موت أهل السماء، قال: فيهبط إسرافيل بحظيرة بيت المقدس ويستقبل الكعبة، فإذا رأوه أهل الأرض، قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض، قال: فينفخ فيه نفخة، فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي أهل الأرض، فلا يبقى في الأرض ذو روح إلّا صعق ومات، ويخرج الصوت من الطرف الذي يلي أهل السماوات، فلا يبقى في السماوات ذو روح إلّا صعق ومات، إلّا إسرافيل فيمكثون في ذلك ما شاء اللّه، قال: فيقول اللّه لإسرافيل: يا إسرافيل مُت، فيموت إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء اللّه، ثم يأمر اللّه

ص: 265


1- سورة الزمر، الآية: 67- 68.
2- سورة الزمر، الآية: 68.

السماوات فتمور ويأمر الجبال فتسير، وهو قوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}(1) يعني تبسط وتبدل الأرض غير الأرض، يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال ولا نبات، كما دحاها أول مرة، ويعيد عرشه على الماء كما كان أول مرة، مستقلاً بعظمته وقدرته، قال: فعند ذلك ينادي الجبار جلّ جلاله بصوت من قبله جهوري يسمع أقطار السماوات والأرضين:{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}(2) فلا يجيبه مجيب، فعند ذلك يقول الجبار مجيباً لنفسه: {لِلَّهِ الْوَٰحِدِ الْقَهَّارِ}(3) وأنا قهرت الخلائق كلهم وأمتهم، إني أنا اللّه لا إله إلّا أنا، وحدي لا شريك لي ولا وزير لي، وأنا خلقت خلقي بيدي، وأنا أمتهم بمشيتي، وأنا أحييهم بقدرتي، قال: فينفخ الجبار نفخة في الصور، فيخرج الصوت من أحد الطرفين الذي يلي السماوات، فلا يبقى في السماوات أحد إلّا حيي، وقام كما كان، ويعود حملة العرش، وتحضر الجنة والنار، وتحشر الخلائق للحساب»، قال - الراوي - : فرأيت علي بن الحسين(عليهما السلام) يبكي عند ذلك بكاءً شديداً(4).

من خصائص يوم القيامة

هناك خصوصيات عجيبة وكثيرة ليوم القيامة، وهو اليوم الذي يحشر اللّه تعالى فيه الأولين والآخرين للحساب الأكبر، والجزاء الأوفى، وهذه الخصوصيات تميّزه ميزة غريبة عن سائر الأيام، وتجعله يوماً وحيداً في عجائبه، وفريداً في غرائبه:

ص: 266


1- سورة الطور، الآية: 9- 10.
2- سورة غافر، الآية: 16.
3- سورة غافر، الآية: 16.
4- تفسير القمي 2: 252.

إنه يوم خاصّ متميّز، خاص في طوله زمناً؛ إذ يمتد طول يوم القيامة بمقدار خمسين ألف عام، فيه خمسون موقفاً وعقبةً للتحقيق والاستجواب، مدة كل موقف ألف عام... .

إنه يوم متميز في أهواله؛ إذ فيه تتكوّر الشمس، وتلتقي الشمس القمر، وتنكدر النجوم، وتندك الأرض والجبال دكة واحدة، وتُزلزل الأرض زلزالاً شديداً، وكماقال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}(1).

وقوله تبارك اسمه: {سَأَلَ سَائِلُ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ * لِّلْكَٰفِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَٰئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٖ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٖ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسَْٔلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذِ بِبَنِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُْٔوِيهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ * تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ * وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ}(2).

إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي تبين أهوال يوم القيامة.

يوم القيامة ومنجياتها

إن يوم القيامة يوم رهيب، ويوم صعب عسير، لأنه يوم الحساب الأكبر، والجزاء الأوفى، يوم لا يقبل فيه فداء ولا عذر، وهو الذي عبرّ عنه القرآن الكريم

ص: 267


1- سورة الحج، الآية: 1-2.
2- سورة المعارج، الآية: 1- 18.

بقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِيٕٖ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٖ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(1).

وهو يوم تُعرض فيه الأعمال، وتكشف فيه الأسرار والأستار.

وهو: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(2) أي نقيّ منالشرك، خالص من الرياء، مؤمن باللّه وبرسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وبأهل بيته(عليهم السلام)، آخذ بما أتى به النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وبلّغ له أهل بيته المعصومون(عليهم السلام)... .

فإن الفائز يوم القيامة هو من قال عزّ وجلّ: {لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ}(3) أي إلى ولاية أهل البيت(عليهم السلام). ومن صبر وصابر ورابط في محبة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام). ومن أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات، وتخلّق بالأخلاق الحسنة والآداب الإسلامية. ومن كان براً تقياً، سمحاً سخياً، قد سلُم الناس من يده ولسانه، وأمنوه على أعراضهم وأموالهم. ومن كان قد سعى لآخرته، وعمل في الدنيا من أجل عاقبته، وجاهد نفسه، وخالف هواه، وحارب شيطانه، ولم يغتر بدنياه. فإن من كان تقياً نقياً، خالصاً مخلصاً في الدنيا، اجتاز عرصات القيامة إلى الجنة من دون حساب، وخرج من قبره ونور إيمانه يسعى بين يديه لينير له ظلام القيامة وظلماتها، فيصل إلى الجنة بسلام وأمان، كما قال اللّه تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم بُشْرَىٰكُمُ الْيَوْمَ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(4).

ص: 268


1- سورة عبس، الآية: 34-37.
2- سورة الشعراء، الآية: 88-89.
3- سورة طه، الآية: 82.
4- سورة الحديد، الآية: 12.

وكما قال سبحانه عن غير المؤمنين: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالْمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُورًا}(1) أي: ارجعوا إلى الدنيا لتأتوا بالنور منها معكم، كناية عن أنه يستحيل حصول النور في الآخرة إلّا لمن كان قد أتى به من الدنيا، وحيث لا رجعة فلا نور.

وروي عن جابر عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته عن قول اللّه: {يَوْمَ تَرَىالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم}(2) قال(عليه السلام): «رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) هو نور المؤمنين يسعى بين أيديهم يوم القيامة، إذا أذن اللّه له أن يأتي منزله في جنات عدن، والمؤمنون يتبعونه وهو(صلی الله عليه وآله وسلم) يسعى بين أيديهم حتى يدخل جنة عدن وهم يتبعون حتى يدخلون معه، وأما قوله: {وَبِأَيْمَٰنِهِم} فأنتم تأخذون بحجزة آل محمد(عليهم السلام)، ويأخذ آل محمد(عليهم السلام) بحجزة الحسن والحسين(عليهما السلام)، ويأخذ أمير المؤمنين(عليه السلام) بحجزة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، حتى يدخلون مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في جنة عدن، فذلك قوله: {بُشْرَىٰكُمُ الْيَوْمَ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}»(3)(4).

وعن علي بن عقبة عن أبيه قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا عقبة، لا يقبل اللّه من العباد يوم القيامة إلّا هذا الأمر الذي أنتم عليه، وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقرّ به عينه إلّا أن تبلغ نفسه إلى هذه» ثم أهوى بيده إلى الوريد ثم اتكأ، وكان معي المعلّى، فغمزني أن أسأله، فقلت: يا ابن رسول اللّه، فإذا بلغت نفسه هذه أي شي ء يرى؟

ص: 269


1- سورة الحديد، الآية: 13.
2- سورة الحديد، الآية: 12.
3- سورة الحديد، الآية: 12.
4- تفسير فرات الكوفي: 467.

فقلت له بضع عشرة مرة: أي شي ء؟ فقال(عليه السلام) في كلها: «يرى» ولا يزيد عليها، ثم جلس في آخرها، فقال: «يا عقبة» فقلت: لبيك وسعديك. فقال: «أبيت إلّا أن تعلم؟!». فقلت: نعم، يا ابن رسول اللّه، إنما ديني مع دينك، فإذا ذهب ديني كان ذلك، كيف لي بك يا ابن رسول اللّه، كل ساعة. وبكيت، فرقّ لي، فقال: «يراهما واللّه».

فقلت: بأبي وأمي من هما؟! قال: «ذلك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام)، يا عقبة لن تموت نفس مؤمنة أبداً حتى تراهما». قلت: فإذا نظر إليهما المؤمن، أيرجع إلى الدنيا؟ فقال: «لا، يمضي أمامه، إذا نظر إليهما مضى أمامه» فقلت له: يقولان شيئاً؟ قال: «نعم يدخلان جميعاً على المؤمن، فيجلس رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عند رأسه وعلي(عليه السلام) عند رجليه فيكبّ عليه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فيقول: يا ولي اللّه، أبشر أنا رسول اللّه، إني خير لك مما تركت من الدنيا، ثم ينهض رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فيقوم علي(عليه السلام) حتى يكبّ عليه فيقول: يا ولي اللّه، أبشر أنا علي بن أبي طالب الذي كنت تحبه أما لأنفعنك، ثم قال: إن هذا في كتاب اللّه عزّ وجلّ». قلت: أين جعلني اللّه فداك هذا من كتاب اللّه؟

قال: «في يونس قول اللّه عزّ وجلّ هاهنا: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}»(1)(2).

المصير والمأوى: الجنة أو النار

ثم إنه بعد انتهاء الحساب وانقضاء يوم القيامة، وانتهاء الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 270


1- سورة يونس، الآية: 63- 64.
2- الكافي 3: 128.

وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام) من تقسيم أهل المحشر بإذن اللّه تعالى وسَوق أهل النار إلى النار، وهداية أهل الجنة إلى الجنة، تغلق أبواب النار على أهلها، وأبواب الجنة على أهلها، ويؤتى - كما في الخبر - بالموت على صورة كبش ويُذبح، ثم يُعلن بعد ذلك: بأنه لا موت لأحد، فأهل الجنة خالدون في الجنة، وأهل النار - والعياذ باللّه - مخلدون في النار... .

وعندما يصل هذا الخبر إلى كل من أهل الجنة وأهل النار، يفرح أهل الجنة فرحاً كبيراً، بحيث لو كان هناك موت لماتوا فرحاً، ويحزن أهل النار حزناً شديداً بحيث لو كان هناك موت لماتوا جزعاً وفزعاً.

روي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إذا أدخل اللّه أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، جي ء بالموت في صورة كبش حتى يوقف بين الجنة والنار - قال - ثم ينادي مناد يسمع أهل الدارين جميعاً: يا أهل الجنة، يا أهل النار، فإذا سمعوا الصوت أقبلوا، قال: فيقال لهم: أتدرون ما هذا؟ هذا هو الموت الذي كنتم تخافون منه في الدنيا. قال: فيقولون أهل الجنة: اللّهم، لا تدخل الموت علينا، قال: ويقول أهل النار: اللّهم أدخل الموت علينا. قال: ثم يذبح كما تذبح الشاة، قال: ثم ينادي مناد: لا موت أبداً، أيقنوا بالخلود. قال: فيفرح أهل الجنة فرحاً لو كان أحد يومئذ يموت من فرح لماتوا، قال: ثم قرأ هذه الآية - {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَٰمِلُونَ}(1) قال: ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد يموت من شهيق لماتوا، وهو قول اللّه عزّ وجلّ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}»(2)(3)

ص: 271


1- سورة الصافات، الآية: 58-61.
2- سورة مريم، الآية: 39.
3- الزهد: 100.

يقول الباري عزّ وجلّ: {وَنَضَعُ الْمَوَٰزِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَئًْا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٖ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ}(1).

ويقول جلّ جلاله: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَاإِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(2).

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «ما خلق اللّه خلقاً إلّا جعل له في الجنة منزلاً وفي النار منزلاً، فإذا أسكن أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة، أشرفوا، فيشرفون على النار، ويرفع لهم منازلهم في النار، ثم يقال لهم: هذه منازلكم التي لو عصيتم ربكم دخلتموها، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة ذلك اليوم فرحاً بما صرف عنهم من العذاب، ثم ينادون: يا معاشر أهل النار، ارفعوا رءوسكم فانظروا إلى منازلكم في الجنة، فيرفعون رءوسهم فينظرون إلى منازلهم وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربكم دخلتموها. قال: فلو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار ذلك اليوم حزناً أهل النار، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء، وهؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول اللّه تعالى: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْوَٰرِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}»(3)(4).

نعم، الدنيا دار غرور، فهنيئاً لمن لم يغتر بها، ويسعى فيها للمجتمع الإسلامي الصالح، ويسعى فيها لآخرته، ويستغل فرصة العمر للعمل من أجل توفير النور لقبره وقيامته، وإعداد الدعة والراحة لبرزخه حتى يفوز يوم القيامة

ص: 272


1- سورة الأنبياء، الآية: 47.
2- سورة آل عمران، الآية: 185.
3- سورة المؤمنون، الآية: 10- 11.
4- ثواب الأعمال: 258.

بالخلد في الجنة ونعيمها.

إنه يلزم على المسلمين جميعاً تهيئة الأمور والأسباب من أجل إعادة المجتمع الإسلامي الصالح الذي يفوز الفرد فيه بسعادة الدارين، وبرضا الباريعزّ وجلّ ورضا الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الميامين(عليهم السلام)، وذلك عبر استغلال الفرص، والإخلاص في العمل، والصفاء في النية، والتركيز على القواعد والأركان الأساسية في المجتمع لهدايته، وترك الأمور الهامشية التي تحاول أن تبعّد الإنسان عن هذا الطريق.

وإن شاء اللّه تعالى، يتوجه المسلمون إلى أنفسهم ويوفرون في ذواتهم ومجتمعاتهم الاستعداد اللازم للمسير في طريق التقدم والازدهار في هذه الحياة وتطبيق الأوامر الإلهية السمحاء، للفوز بالحياة الطيبة في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة، كما يلزم السعي في إقامة حكومة واحدة عالمية لكل المسلمين في العالم.

وأخيراً نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يطهر قلوبنا وينقي أرواحنا، ويملأها حباً له، وخشية منه، وتصديقاً به، وعملاً بكتابه وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم) وسيرة أهل بيت رسوله(عليهم السلام) وأوليائه الصالحين.

«اللّهم املأ قلبي حبّاً لك، وخشية منك، وتصديقاً وايماناً بك، وفرقاً منك، وشوقاً اليك، يا ذا الجلال والإكرام. اللّهم حبّب إليّ لقائك، واجعل في لقائك خير الرحمة والبركة، وألحقني بالصالحين، ولاتؤخرني مع الأشرار، وألحقني بصالح من مضى، واجعلني مع صالح من بقي، وخُذ بي سبيل الصالحين، وأعني على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم، ولاتردني في سوء استنقذتني منه يارب العالمين»(1).

ص: 273


1- الكافي 2: 586.

من هدي القرآن الحكيم

عالم الذر والأصلاب

قال اللّه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰأَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(2).

وقال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٖ دَافِقٖ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}(3).

وقال تعالى: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَئًْا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٖ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعَا بَصِيرًا}(4).

عالم الأرحام

قال اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}(5).

وقال سبحانه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن

ص: 274


1- سورة الأعراف، الآية: 172- 173.
2- سورة البقرة، الآية: 124.
3- سورة الطارق، الآية: 5-8.
4- سورة الإنسان، الآية: 1-2.
5- سورة آل عمران، الآية: 6.
6- سورة الرعد، الآية: 8.

تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٖ شَئًْا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَاالْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٖ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ * ثُمَّ جَعَلْنَٰهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا الْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(3).

عالم الدنيا

قال اللّه تعالى: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(4).

وقال سبحانه: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَٰلِ وَالْأَوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًا وَفِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَٰمُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا

ص: 275


1- سورة الحج، الآية: 5.
2- سورة لقمان، الآية: 34.
3- المؤمنون، الآية: 12-14.
4- سورة الأنعام، الآية: 32.
5- سورة الحديد، الآية: 20.

أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَا أَتَىٰهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).

قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِالدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(2).

وقال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}(3).

وقال جلّ اسمه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(4).

خاتمة عالم الدنيا

قال تبارك وتعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(5).

وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(6).

وقال تبارك اسمه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(7).

ص: 276


1- سورة يونس، الآية: 24- 25.
2- سورة الأعراف، الآية: 152.
3- سورة إبراهيم، الآية: 27.
4- سورة البقرة، الآية: 29.
5- سورة الزمر، الآية: 30.
6- سورة آل عمران، الآية: 185.
7- سورة الجمعة، الآية: 8.

عالم البرزخ

قول اللّه تعالى: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(1).

وقوله عزّ وجلّ: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتُ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّاتَشْعُرُونَ}(2)

وقوله سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(3).

عالم الآخرة

قال اللّه سبحانه: {وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(4).

وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا * وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَلْأخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

عالم الذر والأصلاب

قال الإمام الباقر عن أبيه عن جدّه(عليهم السلام): «أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام):

ص: 277


1- سورة المؤمنون، الآية: 100.
2- سورة البقرة، الآية: 154.
3- سورة آل عمران، الآية: 169.
4- سورة العنكبوت، الآية: 64.
5- سورة الأعلى، الآية: 16-17.
6- سورة الضحى، الآية: 4.
7- سورة الإسراء، الآية: 19.

أنت الذي احتج اللّه بك في ابتدائه الخلق حيث أقامهم أشباحاً، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: ومحمد رسولي؟ قالوا: بلى. قال: وعلي بن أبي طالب وصيي؟ فأبى الخلق جميعاً إلّا استكباراً، وَعَتَوا من ولايتك إلّا نفر قليل،وهم أقل القليل، وهم أصحاب اليمين»(1).

وعن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {مُّخَلَّقَةٖ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٖ}(2)؟ فقال: «المخلَّقة، هم الذر الذين خلقهم اللّه في صلب آدم(عليه السلام) أخذ عليهم الميثاق، ثم أجراهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وهم الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق، وأما قوله: {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٖ} فهم كل نسمة لم يخلقهم اللّه في صلب آدم(عليه السلام) حين خلق الذر، وأخذ عليهم الميثاق، وهم النطف من العزل والسقط قبل أن ينفخ فيه الروح والحياة والبقاء»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان، وخلق نور الأنوار الذي نورت منه الأنوار، وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار، وهو النور الذي خلق منه محمداً وعلياً(عليهما السلام)، فلم يزالا نورين أولين إذ لا شي ء كوّن قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد اللّه وأبي طالبٍ(عليهما السلام)»(4).

وقال الإمام الصادق عن أبيه عن جده عن أبيه(عليهم السلام): «سُئل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أين كنت وآدم في الجنة؟ قال: كنت في صلبه، وهبط بي إلى الأرض في صلبه، وركبت

ص: 278


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 232.
2- سورة الحج، الآية: 5.
3- الكافي 6: 12.
4- الكافي 1: 442.

السفينة في صلب نوح، وقذف بي في النار في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق لي أبوان على سفاح قط، ولم يزل اللّه عزّ وجلّ ينقلني في الأصلاب الطيبة إلى الأرحامالطاهرة، هادياً مهدياً، حتى أخذ اللّه بالنبوة عهدي وبالإسلام ميثاقي، وبين كل شي ء من صفتي، وأثبت في التوراة والإنجيل ذكري ورقاني إلى سمائه، وشق لي إسماً من أسمائه الحسنى، أمتي الحمادون، فذو العرش محمود وأنا محمد»(1).

وعن الحسين بن نعيمٍ الصحاف قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن قول اللّه: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ}(2)؟ فقال: «عرف اللّه عزّ وجلّ إيمانهم بموالاتنا وكفرهم بها يوم أخذ عليهم الميثاق وهم ذر في صلب آدم»، وسألته عن قوله عزّ وجلّ: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(3)؟ فقال: «أما واللّه، ما هلك من كان قبلكم وما هلك من هلك حتى يقوم قائمنا(عليه السلام) إلّا في ترك ولايتنا وجحود حقنا، وما خرج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) من الدنيا حتى ألزم رقاب هذه الأمة حقنا، واللّه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ»(4).

عالم الأرحام

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ إذا أراد أن يخلق النطفة التي مما أخذ عليها الميثاق في صلب آدم، أو ما يبدو له فيه، ويجعلها في الرحم، حرّك الرجل للجماع، وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري، فتفتح الرحم بابها فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوماً، ثم تصير علقةً أربعين يوماً، ثم تصير مضغةً أربعين يوماً، ثم تصير لحماً تجري فيه

ص: 279


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 624.
2- سورة التغابن، الآية: 2.
3- سورة التغابن، الآية: 12.
4- الكافي 1: 426.

عروق مشتبكة، ثم يبعث اللّه ملكين خلّاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء اللّه، فيقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، فيصلان إلى الرحم، وفيها الروح القديمةالمنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء، ويشقان له السمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما في البطن، بإذن اللّه، ثم يوحي اللّه إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري، واشترطا لي البداء فيما تكتبان، فيقولان: يا رب، ما نكتب؟ فيوحي اللّه إليهما: أن ارفعا رءوسكما إلى رأس أمه، فيرفعان رءوسهما، فإذا اللوح يقرع جبهة أمه، فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه، شقياً أو سعيداً وجميع شأنه - قال - فيملي أحدهما على صاحبه، فيكتبان جميع ما في اللوح، ويشترطان البداء فيما يكتبان، ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه، ثم يقيمانه قائماً في بطن أمه - قال - فربما عَتا فانقلب، ولا يكون ذلك إلّا في كل عات أو مارد، وإذا بلغ أوان خروج الولد تاماً، أو غير تام، أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى الرحم: أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى أرضي، وينفذ فيه أمري، فقد بلغ أوان خروجه. - قال - فيفتح الرحم باب الولد فيبعث اللّه إليه ملكاً يقال له: زاجر فيزجره زجرةً، فيفزع منها الولد، فينقلب فيصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن؛ ليسهل اللّه على المرأة وعلى الولد الخروج - قال - فإذا احتبس زجره الملك زجرةً أخرى، فيفزع منها، فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة»(1).

وعن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن الخلق؟ قال(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى، لما خلق الخلق من طين، أفاض بها كإفاضة القِداح، فأخرج المسلم فجعله سعيداً، وجعل الكافر شقياً، فإذا وقعت النطفة تلقتها الملائكة فصوروها،

ص: 280


1- الكافي 6: 13.

ثم قالوا: يا رب، أذكراً أو أنثى؟ فيقول الرب جلّ جلاله أي ذلك شاء، فيقولان:تبارك اللّه أحسن الخالقين، ثم توضع في بطنها، فتردد تسعة أيام في كل عرق ومَفْصل، ومنها للرحم ثلاثة أقفال: قفل في أعلاها مما يلي أعلى الصرة من الجانب الأيمن، والقفل الآخر وسطها، والقفل الآخر أسفل من الرحم، فيوضع بعد تسعة أيام في القفل الأعلى، فيمكث فيه ثلاثة أشهر، فعند ذلك يصيب المرأة خبث النفس والتهوع، ثم ينزل إلى القفل الأوسط، فيمكث فيه ثلاثة أشهر وصرة الصبي فيها مجمع العروق، وعروق المرأة كلها منها يدخل طعامه وشرابه من تلك العروق، ثم ينزل إلى القفل الأسفل، فيمكث فيه ثلاثة أشهر، فذلك تسعة أشهر، ثم تطلق المرأة، فكلما طلقت انقطع عرق من صرة الصبي، فأصابها ذلك الوجع، ويده على صرته، حتى يقع إلى الأرض ويده مبسوطة، فيكون رزقه حينئذ من فيه»(1).

فرصة العمر

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «... واللّه، ما يساوي ما مضى من دنياكم هذه بأهداب(2) بردي هذا، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء، وكل إلى بقاء وشيك وزوال قريب، فبادروا العمل وانتم في مهل الأنفاس وجدة الاحلاس(3) قبل أن تأخذوا بالكظم(4) فلا ينفع الندم»(5).

وقال الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام): «الفرصة تمر مرّ السحاب فانتهزوا فرص

ص: 281


1- الكافي 6: 15.
2- الأهداب: جمع هُدْب، وهو خمل الثوب وطرته.
3- جِدّة الثوب: كونه جديداً، والأحلاس جمع حلس: ما يوضع على ظهر الدابة تحت السرج.
4- الكَظَم: مخرج النفس.
5- أعلام الدين: 341.

الخير»(1).

وقال الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): «يا ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ ممّا في يديك لما بين يديك، فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع - وكان يتلو بعد هذه الموعظة: - {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}»(2)(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «بادر بانتهاز البُغْية(4) عند إمكان الفرصة، ولا إمكان كالأيّام الخالية مع صحة الأبدان...»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... من انتظر بمعاجلة الفرصة مؤاجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصته؛ لأن من شأن الأيام السلب، وسبيل الزمن الفوت»(6).

حب الدنيا والاغترار بها

فيما أوصى اللّه تعالى إلى موسى(عليه السلام): «إعلم إن كل فتنةٍ بذرها حبّ الدنيا»(7).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «حب الدنيا أصل كل معصية وأوّل كل ذنب»(8).

وفي حديث المعراج: «... لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض، وصام

ص: 282


1- نهج البلاغة، قصار الحكم الرقم: 21.
2- سورة البقرة، الآية: 197.
3- نزهة الناظر وتنبية الخاطر: 79.
4- البُغية: مصدر بغى الشيء أي طلبه، وانتهاز البُغية: اغتنامها والنهوض إليها مبادراً.
5- تحف العقول: 286.
6- بحار الأنوار 75: 268.
7- قصص الأنبياء(عليهم السلام): 163.
8- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 122.

صيام أهل السماء والأرض، وطوى من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري، ثمّ أرى في قلبه من حب الدنيا ذرّة أو سمعتها، أو رئاستها، أو حُليتها، أو زينتها، لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي...»(1).

وقال الإمام زين العابدين(عليهما السلام): «... ما من عمل بعد معرفة اللّه عزّ وجلّ، ومعرفة رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) أفضل من بغض الدنيا... فتشعَّب من ذلك حب النساء، وحب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلوّ والثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهنّ في حب الدنيا، فقال الأنبياء(عليهم السلام) والعلماء بعد معرفة ذلك: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا دنياءان دنيا بلاغ ودنيا ملعونة»(2).

عالم البرزخ

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً، سلطت الأرض عليهم فيه فأكلت من لحومهم وشربت من دمائهم فأصبحوا في فجوات قبورهم جماداً لا ينمون وضماراً(3) لايوجدون»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما من موضع قبرٍ إلّا وهو ينطق كل يومٍ ثلاث مراتٍ: أنا بيت التراب، أنا بيت البلاء، أنا بيت الدود. - قال - فإذا دخله عبد مؤمن قال: مرحباً وأهلاً، أما واللّه لقد كنت أحبك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني، فسترى ذلك. - قال - فيفسح له مد البصر، ويفتح له باب يرى مقعده من الجنة، - قال - ويخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئاً قط

ص: 283


1- إرشاد القلوب 1: 206.
2- الكافي 2: 317.
3- الضِمار: المال لا يُرجى رجوعه.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 221 من كلام له(عليه السلام) قاله بعد تلاوته: {أَلْهَىٰكُمُ التَّكَاثُرُ}. سورة التكاثر، الآية: 1.

أحسن منه، فيقول: يا عبد اللّه ما رأيت شيئاً قط أحسن منك!! فيقول: أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه، وعملك الصالح الذي كنت تعمله. - قال - ثم تؤخذ روحه، فتوضع في الجنة حيث رأى منزله، ثم يقال له: نَم قرير العين، فلا يزال نفحة من الجنة تصيب جسده، يجد لذتها وطيبها حتى يبعث. قال: وإذا دخل الكافر قال: لا مرحباً بك ولا أهلاً. أما واللّه لقد كنت أبغضك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني، سترى ذلك. قال: فتضم عليه فتجعله رميماً، ويعاد كما كان، ويفتح له باب إلى النار، فيرى مقعده من النار. ثم قال: ثم إنه يخرج منه رجل أقبح من رأى قط، قال: فيقول: يا عبد اللّه، من أنت!! ما رأيت شيئاً أقبح منك؟ قال: فيقول: أنا عملك السيء الذي كنت تعمله ورأيك الخبيث. قال: ثم تؤخذ روحه فتوضع حيث رأى مقعده من النار، ثم لم تزل نفخة من النار تصيب جسده، فيجد ألمها وحرّها في جسده إلى يوم يبعث، ويسلّط اللّه على روحه تسعةً وتسعين تِنّيناً تنهشه، ليس فيها تِنّين ينفخ على ظهر الأرض فتنبت شيئاً»(1).

وعن عمرو بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إني سمعتك وأنت تقول: «كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم».

قال: «صدقتك كلهم واللّه في الجنة».

قال: قلت: جعلت فداك، إن الذنوب كثيرة كبار؟!

فقال: «أما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع(صلی الله عليه وآله وسلم) أو وصي النبي(عليه السلام) ولكني واللّه أتخوف عليكم في البرزخ».

قلت: وما البرزخ؟

ص: 284


1- الكافي 3: 241.

قال: «القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة»(1).

ما ينفع للدنيا والبرزخ والآخرة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في أبلغ الوصايا لجميع الدنيا والآخرة: «من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدنيا، الساكن مساكن الموتى، والظاعن عنها غداً، إلى المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام، ورهينة الأيام، ورمية المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، وأسير الموت وحليف الهموم، وقرين الأحزان، ونُصب الآفات، وصريع الشهوات، وخليفة الأموات.

أما بعد، فإن فيما تبينتُ من إدبار الدنيا عني، وجموح الدهر عليَّ، وإقبال الآخرة إليّ، ما يزعني(2) عن ذكر من سواي، والاهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدفني رأيي وصرفني عن هواي وصرَّح لي محض أمري، فأفضى بي إلى جدٍّ لايكون فيه لعب، وصدق لا يشوبه كذب، ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي. فكتبت إليك كتابي مستظهراً به إن أنا بقيت لك أو فنيت، فإني أوصيك بتقوى اللّه، أي بني، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه إن أنت أخذت به. أحْيِ قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين، ونوره بالحكمة، وذللِّه بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصِّره فجائع الدنيا،وحذره صولة الدهر، وفُحْش تقلب الليالي والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين،

ص: 285


1- الكافي 2: 242.
2- يزعني: يكفّني ويصدّني.

وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسِر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا، وعما انتقلوا، وأين حلوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة، وحلوا ديار الغربة، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم، فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تكلَّف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته؛ فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال، وأمُر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وبايِن من فعله بجهدك، وجاهد في اللّه حق جهاده ولا تأخذك في اللّه لومة لائم، وخض الغمرات للحق حيث كان، وتفقه في الدين، وعوّد نفسك التصبر على المكروه، ونعم الخلق التصبر في الحق، وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز، وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان، وأكثر الاستخارة، وتفهَّم وصيتي، ولا تذهبن عنك صفحاً؛ فإن خير القول ما نفع. واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع، ولاينتفع بعلم لا يحق تعلمه.

أي بني، إني لما رأيتني قد بلغت سناً ورأيتني أزداد وهناً، بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً منها قبل أن يَعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا، فتكون كالصَّعب النفور، وإنما قلب الحَدَث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بُغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مئونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه.

أي بني، إني وإن لم أكن عُمّرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما

ص: 286

انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله(1)، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة، ونفس صافية. وأن أبتدئك بتعليم كتاب اللّه عزّ وجلّ وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره، ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم، مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة، ورجوت أن يوفقك اللّه فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك وصيتي هذه.

واعلم يا بني، أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى اللّه، والاقتصار على ما فرضه اللّه عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات وعلق الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع، وتم رأيكفاجتمع، وكان همك في ذلك هماً واحداً، فانظر فيما فسرت لك، وإن لم يجتمع لك ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك، فاعلم أنك إنما تخبط

ص: 287


1- نخيله: المختار المصفّى.

العشواء، وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل.

فتفهَّم يا بني وصيتي، واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، وأن الخالق هو المميت، وأن المفني هو المعيد، وأن المبتلي هو المعافي، وأن الدنيا لم تكن لتستقر إلّا على ما جعلها اللّه عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد، أو ما شاء مما لا تعلم. فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك، فإنك أول ما خلقت به جاهلاً، ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك، فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك، وليكن له تعبدك، وإليه رغبتك، ومنه شفقتك.

واعلم يا بني، أن أحداً لم ينبئ عن اللّه سبحانه كما أنبأ عنه الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) فارضَ به رائداً، وإلى النجاة قائداً، فإني لم آلك نصيحة، وإنك لن تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت مبلغ نظري لك.

واعلم يا بني، أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضادّه في ملكه أحد، ولا يزول أبداً ولم يزل، أولٌ قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية، عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله، في صغر خطره وقلة مقدرته وكثرة عجزه وعظيم حاجته إلى ربه، في طلب طاعته والخشية من عقوبته والشفقة من سخطه؛ فإنه لم يأمرك إلّا بحسن، ولم ينهك إلّا عن قبيح.

يا بني، إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها، وأنبأتك عن الآخرة وما أعدّ لأهلها فيها، وضربت لك فيهما الأمثال؛ لتعتبر بها وتحذو عليها، إنما مثل من خبر الدنيا كمثل قوم سفر، نبا بهم منزل جديب، فأموا منزلاً خصيباً

ص: 288

وجَناباً مريعاً(1)، فاحتملوا وعثاء الطريق، وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم؛ ليأتوا سعة دارهم، ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشيء من ذلك ألماً، ولا يرون نفقةً فيه مغرماً، ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم وأدناهم من محلتهم، ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خَصيب، فنبا بهم إلى منزل جَديب، فليس شيء أكره إليهم، ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه.

يا بني، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلم كما لا تحب أن تُظلم، وأحسن كما تحب أن يحُسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك. ولا تقل ما لا تعلم، وإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يُقال لك. واعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب، فاسع في كدحك، ولا تكن خازناً لغيرك، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك. واعلم أن أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة، ومشقة شديدة، وأنه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد، وقدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك؛ فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة، فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه،وحمّله إياه، وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه، فلعلّك تطلبه فلا تجده، واغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك.

واعلم أن أمامك عقبةً كئوداً(2)، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل،

ص: 289


1- الجَديب: المقحط لا خير فيه، الجَناب: الناحية، المَريع: كثير العُشب.
2- كؤوداً: صعبة المرتقى.

والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، وأن مهبطك بها لا محالة، إما على جنة أو على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتب، ولا إلى الدنيا منصرف.

واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيرك بالإنابة، ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدد عليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسْك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنةً، وحسب سيئتك واحدةً وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب، وباب الاستعتاب، فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، وربما أخرت عنك الإجابة؛ ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربما سألت الشيء فلاتؤتاه، وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرُبّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له.

واعلم يا بني، أنك إنما خُلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنك في قلعة ودار بلغة وطريق إلى الآخرة، وأنك طريد الموت الذي لا

ص: 290

ينجو منه هاربه، ولا يفوته طالبه، ولا بد أنه مدركه، فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة، فيحول بينك وبين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك.

يا بني، أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتةً فيبهرك.

وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها، وتكالبهم عليها، فقد نبأك اللّه عنها، ونعت هي لك عن نفسها، وتكشفت لك عن مساويها، فإنما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية، يهرّ بعضها على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها، نِعَم معقلة، وأخرى مهملة، قد أضلت عقولها، وركبت مجهولها، سروح عاهة(1) بواد وعث، ليس لها راع يقيمها، ولا مسيم(2) يسيمها، سلكت بهم الدنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها، وغرقوا في نعمتها، واتخذوها رباً، فلعبت بهم ولعبوا بها، ونسوا ما وراءها. رويداً يسفر الظلام كأن قد وردت الأظعان، يوشك من أسرع أن يلحق.واعلم يا بني، أن من كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يُسار به وإن كان واقفاً، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً(3).

واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وأنك في سبيل من كان قبلك، فخفّض في الطلب، وأجمل في المكتسب، فإنه رُبّ طلب قد جر إلى حرب، وليس كل طالب بمرزوق، ولا كل مجمل بمحروم، وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب؛ فإنك لن

ص: 291


1- السُروح: جمع سَرْح، وهو المال السارح السائم من إبل ونحوها. العاهة: الآفة، فالمراد بقوله: «سروح عاهة»: أنهم يسرحون لرعي الآفات.
2- مُسيم: مِن أسام الدابة يسيمها، سرحها إلى المرعى.
3- الوادع: الساكن المستريح.

تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً، وما خير ُخيرٍ لا ينال إلّا بشر، ويسرٍ لا ينال إلّا بعسر.

وإياك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة، وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين اللّه ذو نعمة فافعل؛ فإنك مدرك قسمك وآخذ سهمك، وإن اليسير من اللّه سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه، وإن كان كل منه. وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك، وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء(1).

وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يدي غيرك، ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس، والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور، والمرء أحفظ لسرّه، وربّ ساع فيما يضره، من أكثر أهجر، ومن تفكر أبصر، قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم، بئس الطعام الحرام، وظلم الضعيف أفحش الظلم، إذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً، ربما كان الدواء داءً والداء دواءً، وربما نصح غير الناصح وغش المستنصح.

وإياك والاتكال على المُنى؛ فإنها بضائع النوكى(2)، والعقل حفظ التجارب،وخير ما جربت ما وعظك، بادر الفرصة قبل أن تكون غصةً، ليس كل طالب يصيب، ولا كل غائب يئوب، ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد، ولكل أمر عاقبة، سوف يأتيك ما قدّر لك، التاجر مخاطر، ورب يسير أنمى من كثير، لا خير في معين مَهين ولا في صديق ظنين، ساهل الدهر ما ذلّ لك قعوده، ولا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه، وإياك أن تجمح بك مطية اللجاج. احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند

ص: 292


1- بشد وكائها: أي رباطها.
2- النَّوْكى: جمع أنوك وهو كالأحمق وزناً ومعنى.

جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر، حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو نعمة عليك، وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله. لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحةً، وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعةً أحلى منها عاقبةً، ولا ألذ مغبةً. ولِن لمن غالظك؛ فإنه يوشك أن يلين لك، وخذ على عدوك بالفضل؛ فإنه أحلى الظفرين، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيةً يرجع إليها، إن بدا له ذلك يوماً ما. ومن ظن بك خيراً فصدّق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه؛ فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك، ولا ترغبن فيمن زهد عنك، ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك؛ فإنه يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرّك أن تسوءه.

واعلم يا بني، أن الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن أنت لم تأته أتاك، ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى، إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، وإن كنت جازعاً على ما تفلّت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك، استدل على ما لم يكن بما قد كان؛ فإن الأمور أشباه. ولا تكوننممن لاتنفعه العظة إلّا إذا بالغت في إيلامه؛ فإن العاقل يتعظ بالآداب، والبهائم لا تتعظ إلّا بالضرب. اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين، من ترك القصد جار، والصاحب مناسب، والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى. وربّ بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من بعيد، والغريب من لم يكن له حبيب، من تعدى الحق ضاق مذهبه، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له، وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين اللّه سبحانه، ومن لم يبالك فهو

ص: 293

عدوك، قد يكون اليأس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً، ليس كل عورة تظهر، ولا كل فرصة تصاب، وربما أخطأ البصير قصده، وأصاب الأعمى رشده، أخّر الشر، فإنك إذا شئت تعجلته، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل، من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه، ليس كل من رمى أصاب، إذا تغير السلطان تغير الزمان، سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار، إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكاً، وإن حكيت ذلك عن غيرك... استودع اللّه دينك ودنياك، واسأله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة، والدنيا والآخرة، والسلام»(1).

زراعة الدنيا للآخرة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «التعاون على إقامة الحق أمانة وديانة»(2).

وقال(عليه السلام): «ثابروا على صلاح المؤمنين والمتقين»(3).

وقال(عليه السلام): «خير الناس من نفع الناس»(4).

وقال(عليه السلام): «إذا رأيت مظلوماً فأعنه على الظالم»(5).

وقال(عليه السلام): «فعل المعروف وإغاثة الملهوف وإقراء الضيوف آلةُ السيادة»(6).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «كما تعين تُعان»(7).

ص: 294


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
2- غررالحكم ودررالكلم: 71.
3- غررالحكم ودررالكلم: 334.
4- غررالحكم ودررالكلم: 357.
5- غررالحكم ودررالكلم: 286
6- غررالحكم ودررالكلم: 484
7- غررالحكم ودررالكلم: 535.

الشعور بالمسؤولية

تحمل المسؤولية

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(1).

جاء في معنى الآية الشريفة: إن الإيمان أمانة في عنق الإنسان، يجب عليه أن يرد هذه الأمانة سالمة، من دون أن يشوبها خيانة الكفر والعصيان، ولقد كانت هذه الأمانة ثقيلة، بحيث إن أضخم المخلوقات لا تتحمل أن تقبلها، أما الإنسان الضعيف فقد قبلها، لكنه يخون بها لظلمه وجهله، فقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} أي: أمانة الإيمان {عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} ليقبلنها بأن توضع عندهن أمانة الإيمان فيتحفظن عليها {فَأَبَيْنَ} هذه الأشياء وامتنعن {أَن يَحْمِلْنَهَا} أي: يحملن الأمانة ويقبلنها {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} أي: خفن إن قبلن الأمانة أن يخن فيها {وَحَمَلَهَا الْإِنسَٰنُ} قبلها لما عُرضت عليه، لكنه هل يؤدي الأمانة كما قبل؟ كلا {إِنَّهُ} أي: أن الإنسان {كَانَ ظَلُومًا} كثير الظلم{جَهُولًا} كثير الجهل، فتارة يخون فيها لجهله، وأخرى يخون فيها لعصيانه.

وهذه الآية كناية عن صعوبة التحفظ على الإيمان، فقد اعتاد البلغاء أن يشبِّهوا الأشياء المعنوية بالأمور الحسية، للتقريب إلى الذهن.

ص: 295


1- سورة الأحزاب، الآية: 72.

قالت الصديقة فاطمة الزهراء(عليها السلام):قل للمغيب تحت أطباق الثرى

إن كنت تسمع صرختي وندائيا *** صبت عليَّ مصائب لو أنها

صبت على الأيام صرن لياليا(1)

وقال الشاعر:

ولو أن بي من شديد رزية *** على جبل قد ساخ في الأرض ذاهباً

ومن المحتمل أن يكون الكلام على الحقيقة - لا المجاز - بأن عُرضت الأمانة على هذه الأشياء، هل يقبلنها؟ فأبين.

قال الفيض الكاشاني(رحمه الله) في (الصافي): المراد بالأمانة التكليف، وبعرضها عليهن النظر إلى استعدادهن، وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها، وكونه ظلوماً جهولاً لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية، وهو وصف للجنس باعتبار الأغلب(2).

وعلى هذا المعنى، فما ورد في الأحاديث من كونها ولاية أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أو نحوها، فالمراد بيان بعض المصاديق بل أهمها(3).

وعلى رأي بعض المفسرين أن هذه الآية تعني: تحمل المسؤولية إلى جانب مواجهة المشقة وتحمل الصعاب...(4).

ولو كان مسلمو زماننا ملتزمين بتحمل المسؤولية بصدق، لما عاشت الأمة الذلة والتأخر، لكن الكثير من مسلمي اليوم اكتفوا بترديد الشعارات فقط

ص: 296


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 242.
2- تفسير الصافي 4: 206.
3- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 364.
4- انظر: التبيان في تفسير القرآن 8: 367. وتفسير مجمع البيان 8: 186.

والوقوف على المنصات، وتركوا الموقف العملي والتحمل للمسؤولية.

من مشاكل الأمة

اشارة

من أهم المشاكل التي ابتلي بها المسلمون في العصر الحاضر، هو عدم الشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم.

إن كلمة التوحيد المباركة: «لا إله إلا اللّه» ليست أمراً صعباً من حيث اللفظ، إلّا أن الشيء الصعب فيها هو تحمل المسؤولية في إعطاء هذه الكلمة حقها.

ولم يكن امتناع بعض المشركين عن أداء الشهادتين في زمن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلّا للفرار من تحمل المسؤولية التي سوف يحملونها لو نطقوا بالشهادتين.

فإذا وجد الإحساس بالمسؤولية في الفرد أو الجماعة، مع العمل والصبر والاستقامة في أي مجال يهدف إليه، فهذه كفيلة بإيصال الإنسان إلى هدفه الذي يسعى من أجله.

معاناة سيد الرسل(صلی الله عليه وآله وسلم)

كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) النموذج الأول في تحمل المسؤولية وأدائها بأفضل ما يمكن.

وقد لقي(صلی الله عليه وآله وسلم) في ذلك أعظم المصاعب والمصائب من قومه وأعدائه حتى قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(1)، هذا على الرغم من تحليه(صلی الله عليه وآله وسلم) بأحسن الأخلاق وأعظم مراتب الصبر والمداراة، واتصافه بالعلم واتصاله بالوحي، فتحمل(صلی الله عليه وآله وسلم) مختلف المصاعب والمصائب التي مر بها في حياته الشريفة شعوراً بالمسؤولية، كما تحملت عترته الطاهرة(عليهم السلام) من بعده أشد الظلم والجور من قبل الطغاة والظلمة وذلك من أجل أداء المسؤولية.

ص: 297


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 247.

فهو(صلی الله عليه وآله وسلم) كما كان أسوة لنا في الصلاة والصيام والحج وسائر العبادات،كذلك هو أسوة لنا في تحمل المسؤولية وإنقاذ الأمة وهداية الناس إلى طريق الخير والفضيلة؛ لذا يجب على كل واحد منا أن يقتدي به(صلی الله عليه وآله وسلم) حتى يتمكن من التقدم ومن نيل سعادة الدنيا والآخرة.

لقد قالوا عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون و... لكنه لم يتخل عن مسؤوليته.

قال تبارك وتعالى: {وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٌ كَذَّابٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}(2).

وقال تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُواْ أَضْغَٰثُ أَحْلَٰمِ بَلِ افْتَرَىٰهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بَِٔايَةٖ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}(3).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يمشي بمكة وأخوه علي(عليه السلام) يمشي معه، وعمه أبو لهب خلفه يرمي عقبه بالأحجار وقد أدماه، ينادي: معاشر قريش، هذا ساحر كذاب فاقذفوه واهجروه واجتنبوه. وحرش عليه أوباش قريش، فتبعوهما يرمونهما بالأحجار فما منها حجر أصابه إلّا أصاب عليا(عليه السلام)...»(4).

هكذا كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) يشعران بالمسؤولية

ص: 298


1- سورة ص، الآية: 4.
2- سورة الذاريات، الآية: 52.
3- سورة الأنبياء، الآية: 4-5.
4- بحار الأنوار 17: 260.

ويتحملانها ويؤديانها بأحسن ما يمكن.ثم إن قريشاً أرسلت عمه أبا طالب(عليه السلام) إليه ليقول لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عنهم:

اترك هذا الأمر!

فاغرورقت عينا الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بالدموع، وقال بكل صبر وصمود وإحساس كبير بالمسؤولية في هداية الناس ونشر الإيمان:

«يا عم، واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه أو أهلك فيه ما تركته»(1).

ثم استعبر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فبكى ثم قام.

عند ذلك ناداه أبو طالب(عليه السلام) فقال: أقبل يا بن أخي.

فأقبل عليه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال: إذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت فواللّه لا أسلمك لشيء أبداً.

ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب(عليه السلام) قد أبى خذلان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وتسليمه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالفك دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل.

قال: واللّه لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا واللّه ما لا يكون أبداً.

فقال المطعم بن عدي بن نوفل: واللّه يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك

ص: 299


1- انظر: الغدير 7: 359- 362.

وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً.

فقال أبو طالب للمطعم: واللّه ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ، فاصنع ما بدا لك... .

وقال أبو طالب عند ذلك - يعرض بالمطعم بن عدي ويعم من خذله من عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم - :

ألا قل لعمرو والوليد ومطعم *** ألا ليت حظي من حياطتكم بكر

من الخور حبحاب كثيرة رغاؤه *** يرش على الساقين من بوله قطر

تخلف خلف الورد ليس بلاحق *** إذا ما علا الفيفاء قيل له: وبر

أرى أخوينا من أبينا وأمنا *** إذا سئلا قالا: إلى غيرنا الأمر

بلى لهما أمر ولكن تجرجما *** كما جرجمت من رأس ذي علق صخر

أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلاً *** هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمر

هما أغمرا للقوم في أخويهما *** فقد أصبحا منهم أكفهما صفر

هما أشركا في المجد من لا أباً له *** من الناس إلّا أن يرس له ذكر

ص: 300

وتيم مخزوم وزهرة منهم *** وكانوا لنا مولى إذا بني النصر

فو اللّه لا تنفك منا عداوة *** ولا منهم ما كان من نسلنا شفر

فقد سفهت أحلامهم وعقولهم *** وكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر

قال ابن هشام: تركنا منها بيتين أقذع فيهما.

قال الأميني(رحمه الله): حذف ابن هشام منها ثلاثة أبيات لا تخفى على أي أحد غايته الوحيدة فيه، وإن الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. ألا وهي:

وما ذاك إلّا سؤدد خصنا به *** إله العباد واصطفانا له الفخر

رجال تمالوا حاسدين وبغضة *** لأهل العلى فبينهم أبداً وتر

وليد أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جال بها السحر

يريد به الوليد بن المغيرة وكان من المستهزئين بالنبي الأعظم ومن الذين مشوا إلى أبي طالب(عليه السلام) في أمر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وقد نزل فيه قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}(1)، وكان يسمى: الوحيد في قومه.

ثم قام أبو طالب حين رأى قريش يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، وأجابوه ما دعاهم إليه إلّا ما كان من أبي لهب عدو اللّه الملعون. فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره في جهدهم معه وحدبهم عليه،

ص: 301


1- سورة المدثر، الآية: 11.

جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فيهم ومكانه منهم، ليشد لهم رأيهم وليحدبوا معه على أمره، فقال:

إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر *** فعبد مناف سرها وصميمها

فإن حصلت أشراف عبد منافها *** ففي هاشم أشرافها وقديمها

إن فخرت يوماً فإن محمداً *** هو المصطفى من سرها وكريمها

تدعت قريش غثها وسمينها *** علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

وكنا قديماً لا تقر ظلامة *** إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها

ونحمي حماها كل يوم كريهة *** ونضرب عن أحجارها من يرومها

بنا انتعش العود الذواء وإنما *** بأكنافنا تندى وتنمى أرومها(1)

غفلة المسلمين اليوم

من أكبر المشاكل هي مشكلة الغفلة، والأمة الإسلامية اليوم قد غفلت عن مسؤوليتها ولم تشعر بذلك.

قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٖ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}(2).

فقد أخبر سبحانه أن في خلق السماوات والأرض آيات ودلالات كثيرة، تدل على أن لها صانعاً واحداً، ومدبراً قادراً، وعالماً حكيماً، وما أكثر الآيات والدلائل التي هي خير عبرة للإنسان في هذه الدنيا، إلّا أن هناك من يمر عليها دون اكتراث واهتمام، ويمر عليها سريعاً بلا تأمل واعتبار، فلا يتفكر فيها، ولايتدبرها، ولايعيرها الأهمية، حتى تدله على خالقها ومبدعها، وتجعله إنسانا صالحاً.

ص: 302


1- انظر: الغدير 7: 359- 362.
2- سورة يوسف، الآية: 105.

وفي هذا هروب من واجب التأمل، وركون إلى اللامبالاة، التي تسبب الغفلة، وهو ما لا يصح للمسلم ولا الأمة الإسلامية، وخاصة أن الأعداء يتربصون بالأمة الدوائر.

ولو قارنا حالنا هذا بحال اليهود - بغض النظر عن ركوبهم مسير الباطل وانحرافهم عن جادة الحق والصواب - لوجدنا أنهم تحملوا المسؤولية في باطلهم، كما تحملوا في ذلك المشاق والصعاب، حتى أنهم الآن يديرون جانباً كبيراً من سياسة بعض الدول وسيطروا على بعض مراكز القرار في الدول الغربية وبالأخص أمريكا، على عكس المسلمين الذين يكثرون من إطلاق صيحات الأخوة الإسلامية ولا يعملون بها، فترى الأمة الإسلامية أصبحت عدة أمم مختلفة، كل ينازع الآخر ولا يعترف به، ولكن اليهود جعلوا من أنفسهم أمة واحدة، ففي الكيان الصهيوني جمعوا اليهود من كل الجنسيات من دون تفريق بينها، وهكذا في تعاملهم بالنسبة إلى أنفسهم حيث لا ترى فيما بينهم الغش في أسواقهم، بينما نرى أسواق المسلمين يكثر فيها الغش والخداع، والتطفيف قائماً على قدم وساق.

ولهذا أصبح هؤلاء المنحرفون متقدمين على خير الأمم وهي الأمة الإسلامية، فسبقونا في كثير من مجالات الحياة لأخذهم بأسباب ذلك. ومن الثابت أن الدنيا خاضعة لقوانين ومعادلات وأسباب ومسببات، فكل من يعمل أكثر يجني أكثر، كافراً كان أم مسلماً، فاللّه سبحانه يعطي القدرة لكل من أخذ بالأسباب وسار على الطريق التكويني والسنة الكونية، سواء كان من الكفار أم المسلمين، والقرآن يصرح بهذا حيث يقول تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْعَطَاءِ رَبِّكَ}(1)، فكل من يسعى في الدنيا عبر الأسباب فإنه يصل إلى مقصده

ص: 303


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

وهدفه عادة. وكل من يجد ويجتهد ويعمل في دار الدنيا فإنه يحصل على الربح والمكافأة، مؤمناً كان أم كافراً، كما جاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «اطلبوا الرزق فإنه مضمون لطالبه»(1)، فإن «لطالبه» مطلق يشمل الكافر والمؤمن.

العلماء وتحمل المسؤولية

يذكر أنه كان أحد الأشخاص في زمن المرجع آية اللّه العظمى السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) قد بعث برسالة إلى السيد يستفتي بها عن مسألة ما، وفي اليوم التالي وبعد صلاة الصبح جاء إلى دار السيد الأصفهاني(رحمه الله) لأخذ جواب رسالته، وبعد أن دخل إلى غرفة السيد شاهده جالساً وسط عدد هائل من الرسائل، وقد انشغل السيد الأصفهاني(رحمه الله) بكتابة الأجوبة والردود والإيضاحات عليها. فتقدم ذلك الرجل من السيد قائلاً: مولانا، أنا لا أستطيع الانتظار كثيراً وقد جئتك لأخذ جواب مسألتي؟

فقال له السيد: انظر إلى هذا الطبق ففيه عشائي؛ فإنني لحد الآن لم أجد وقتاً لتناوله، وقد سهرت الليل كله للإجابة على هذه المجموعة الكبيرة من الرسائل، أما رسالتك فلم يأت دورها بعد!!

نعم، إن الشخص الذي يدرك معنى المسؤولية، هكذا يستثمر أوقاته، وهكذا يواظب على إنجاز أعماله؛ لذا فإن تحرك الشيعة في زمن السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) وصل إلى القمة، وكان علماء الدين يؤدون رسالاتهم التبليغيةعلى أفضل وجه؛ لأن مرجعهم كان يحس بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه في توجيه الناس وهدايتهم ويقوم بالمسؤولية كما ينبغي، وكان يشجع الآخرين

ص: 304


1- الإرشاد 1: 303.

ويحثهم على تحمل المسؤولية، فأصبحت الحوزات المرتبطة به والجماهير التي تقلده يحسون بنفس الشعور ويؤدون واجبهم ومسؤوليتهم.

صاحب التفاسير الثلاثة

ومن الشواهد في هذا المضمار أيضاً: المرحوم الملا صالح(رحمه الله)(1) والذي كتب ثلاثة تفاسير (التفسير الكبير(2)، والتفسير الوسيط(3)، والتفسير الصغير(4)) وتفسيره الكبير يبلغ مائة مجلد لو طبع كطبعة (بحار الأنوار) الحديثة، وقد حاول بعض الأصدقاء وبذل الجهود من أجل طبعه فلم يوفق لذلك.

يذكر في أحوال الملا صالح(رحمه الله): أنه كان في درجة شديدة من الفقر بحيث لا يتمكن من شراء دفاتر للكتابة؛ لذلك فهو كان يحرر بعض كتاباته على أوراق الأشجار، ولكن إحساسه العالي بالمسؤولية وهمته الرفيعة دفعاه لمواصلة الكتابة متحدياً الفقر والظروف الصعبة وضعف الإمكانات التي كان يعاني منها، وبقي على تلك العزيمة الراسخة حتى تمكن من كتابة تلك التفاسير الثلاثة، وغيرها من الكتب.

الجنة للصابرين

وهكذا كان علماؤنا الأعلام في طول التاريخ، وكذلك كان المسلمون في صدر الإسلام، حيث حملوا المسؤولية على عاتقهم في سبيل نشر الدين،

ص: 305


1- الشيخ صالح بن محمد البرغاني القزويني الحائري، عالم فاضل مفسر، له عدة تفاسير، منها: (بحر العرفان ومعدن الإيمان في تفسير القرآن)، وله (مفتاح الجنان في تفسير القرآن) في تسع مجلدات، وله كتاب غنيمة المعاد في شرح الرشاد و... .
2- الموسوم ب(بحر العرفان في تفسير القرآن).
3- الموسوم ب(مفتاح الجنان في حل رموز القرآن).
4- الموسوم ب(مصباح الجنان في تفسير القرآن).

وصبروا وصابروا وتحملوا الصعاب في سبيل اللّه، حتى جاء في الخبر أن أصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لم يكونوا يحصلون على ما يأكلون من الطعام، فكانوا يقتاتون ورق الأشجار حتى تقرحت أفواههم.

عن عبد اللّه بن مسعود، قال: دخلت أنا وخمسة رهط من أصحابنا يوماً على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقد أصابتنا مجاعة شديدة، ولم يكن رزقنا منذ أربعة أشهر إلّا الماء واللبن وورق الشجر!، فقلنا: يا رسول اللّه، إلى متى نحن على هذه المجاعة الشديدة؟

فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تزالون فيها ما عشتم، فأحدثوا للّه شكراً؛ فإني قرأت كتاب اللّه الذي أنزل عليَّ وعلى من كان قبلي، فما وجدت من يدخلون الجنة إلّا الصابرون.

يا ابن مسعود، قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٖ}(1)،{أُوْلَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ}(2)،{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}(3).

يا ابن مسعود، قول اللّه تعالى: {وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا}(4)،{أُوْلَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ}(5) يقول اللّه تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَوَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ}(6)،{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٖ

ص: 306


1- سورة الزمر، الآية: 10.
2- سورة الفرقان، الآية: 75.
3- سورة المؤمنون، الآية: 111.
4- سورة الإنسان، الآية: 12.
5- سورة القصص، الآية: 54.
6- سورة البقرة، الآية: 214.

مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ الْأَمْوَٰلِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ الصَّٰبِرِينَ}»(1).

قلنا: يا رسول اللّه، فمن الصابرون؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الذين يصبرون على طاعة اللّه واجتنبوا معصيته، الذين كسبوا طيباً، وأنفقوا قصداً، وقدموا فضلاً، فأفلحوا وأصلحوا.

يا ابن مسعود، عليهم الخشوع والوقار والسكينة، والتفكر واللين والعدل، والتعليم والاعتبار والتدبير، والتقوى والإحسان والتحرّج، والحب في اللّه والبغض في اللّه، وأداء الأمانة والعدل في الحكمة، وإقامة الشهادة ومعاونة أهل الحق على المسيء، والعفو عمن ظلم.

يا ابن مسعود، إذا ابتلوا صبروا، وإذا أعطوا شكروا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذ عاهدوا وفوا، وإذا أساءوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(2)،{وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرَامًا}(3)،{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَٰمًا}(4)، ويقولون للناس حسناً. يا ابن مسعود، والذي بعثني بالحق، إن هؤلاء هم الفائزون...»(5).

الإخلاص والتبليغ

من العلماء المجاهدين الذين أدوا ما عليهم من المسؤولية هو السيد عبدالحسين شرف الدين(رحمه الله) صاحب كتاب (المراجعات)، فإنه وبسبب تحركه الإسلامي في لبنان تعرض إلى محاولة اغتيال، كما أحرقوا داره ومكتبه، فاضطر

ص: 307


1- سورة البقرة، الآية: 155.
2- سورة الفرقان، الآية: 63.
3- سورة الفرقان، الآية: 72.
4- سورة الفرقان، الآية: 64.
5- مكارم الأخلاق: 446.

إلى الهجرة إلى مصر، ورغم المصاعب التي واجهته في عمله لكن الشعور العالي بالمسؤولية دفعه لمواصلة عمله الرسالي التبليغي، فبعد أن تعرف على شيخ الجامع الأزهر بمصر آنذاك وهو (الشيخ سليم البشري) شرع معه بالبحث والمناظرة، حتى استطاع من هناك أن يكتب كتابه المعروف (المراجعات) وقد اهتدى بسبب هذا الكتاب المبارك الكثير الكثير من الناس إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام).

ومن هذا العمل الجليل المثمر يتبين لنا مدى تأثير الشعور بالمسؤولية المقرونة بالإخلاص والتفاني في سبيل اللّه الذي كان يتمتع به المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي(رحمه الله) لنصرة المذهب الحق مذهب أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة(عليهم السلام).

نعم، هكذا يلزم أن يكون القائمون على الحركة الإسلامية، أناساً صامدين مخلصين في تحملهم للمسؤولية، ولا يكونوا ضعفاء أو مهزومين؛ وذلك لأن الطريق ليس مفروشاً بالورود والأزهار وإنما بالأشواك والعقبات، والطريق الصعب لا يوفق السائرون فيه إلى النصر إلّا إذا تحلوا بالصبر، وحملوا المسؤولية بثبات واستقامة؛ وهذه هي سيرة الأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) كما ورد في جملة من الآيات الكريمة والروايات الشريفة.

حادثة في بغداد

كان لنا صديق في كربلاء المقدسة يعمل مديراً لإحدى المدارس، وقد ابتلي بألم في قدمه، وبسبب ذلك قصد بغداد لغرض المعالجة، حيث كان الأطباء الحاذقون غالباً ما يتمركزون في بغداد، وعندما عاد من سفره ذهبنا لزيارته وعيادتهللاطمئنان على صحته، فإن زيارة المريض من المستحبات التي أكد عليها الدين الإسلامي، يقول الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من عاد مريضاً شيعه

ص: 308

سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يرجع إلى منزله».(1)

وقال(عليه السلام): «من عاد مريضاً من المسلمين وكّل اللّه به أبداً سبعين ألفاً من الملائكة يغشون رحله ويسبحون فيه ويقدسون ويهللون ويكبرون إلى يوم القيامة، نصف صلاتهم لعائد المريض»(2).

وخلال زيارتنا له قص لنا كيفية معالجته، فقال: عندما وصلت إلى بغداد كان الوقت متأخراً، وكانت الدوائر قد عطلت أعمالها وهكذا المستشفى التي قصدتها، فبسبب ما كنت أعاني من شدة الألم ذهبت إلى مستشفى أخرى غير التي كنت أقصدها إلّا أنها كانت مغلقة أيضاً، فقال لي أحد الأشخاص: إن في المنطقة الفلانية مستشفى يديرها المسيحيون، وهم يستقبلون المرضى في كل الأوقات!، ولشدة معاناتي من الألم وجدت نفسي مضطراً للذهاب إلى مستشفى المسيحيين، وبعد وصولي استقبلني أحد الأطباء وقام بإجراء الفحوصات اللازمة وأعطاني علاجاً أولياً لتسكين الألم. وقال لي: عليك أن تأتي غداً في الساعة السابعة صباحاً.

عندئذٍ سألته: ما هو السبب في عدم تعطيلهم بخلاف بقية المستشفيات؟!

قال: السبب هو استعدادنا لاستقبال ومعالجة المرضى في أي وقت؛ إذ ربما يأتي مريض يحتاج إلى المعالجة الفورية، فلا يجد من يعالجه بسبب تعطيلالمستشفيات الأخرى؛ فلذا رأينا أن تبقى مستشفانا مفتوحة حتى في أوقات عطلة سائر المستشفيات.

ثم قال - أي المريض - : وفي صباح اليوم التالي ذهبت للمراجعة، فوجدت

ص: 309


1- الكافي 3: 120.
2- الكافي 3: 120.

مدير المستشفى قد جمع موظفيه والأطباء من حوله وهو يتلو عليهم مقاطع من كتابهم المقدس(1)، وهم يستمعون إليه بكل تواضع وانتباه، وبعد ذلك قال لهم: إنكم تعملون لرضا اللّه، وإن ما تأخذونه من راتب شهري فهو لا يقابل ما تقومون به من خدمات كثيرة تجاه إخوانكم المرضى، وإن أجركم على اللّه وحده، وإن عطاء اللّه كما تعرفون لا حدود له، ثم حثهم على التواضع وخدمة المرضى أكثر فأكثر، ثم تفرقوا بعد ذلك لأعمالهم.

لاحظوا كيف يعملون، وكيف نعمل نحن؟

فمع الأسف غالبية المسلمين الذين نراهم، لا يلتزمون بمبادئهم وقرآنهم وتراثهم العظيم من الأحاديث الشريفة التي تحثهم على العمل ولزوم الدقة والإخلاص فيه، وعلى الرغم من صحة كتبهم وبطلان كتب الآخرين، لكن الآخرين تقدموا علينا بسبب الشعور العالي بالمسؤولية لديهم والتواصل فيالعمل والإتقان فيه.

فالغرب ومن أشبه سبق المسلمين في ذلك، ونراهم في كل يوم يتقدمون أكثر فأكثر، بينما نرى المسلمين في كل يوم في تراجع إلى الوراء، حتى أصبحوا مسيَّرين من قبل المستعمرين، فيخضعون لهذا وذاك من عملاء الغرب والاستعمار، وأكبر

ص: 310


1- كتاب العهدين المنسوبين إلى الإلهام والوحي الإلهي عند المسيح، فالعهد القديم وهو عبارة عن تسعة وثلاثين سفراً، خمسة منها منسوبة لنبي اللّه موسى(عليه السلام) وتسمى التوراة، والأسفار الباقية منسوبة إلى الوحي من بعد موسى من الأنبياء إلى ما قبل زمان عيسى المسيح(عليه السلام) بنحو ثلاثمائة وسبع وتسعين سنة، وقد يسمى جميع العهد القديم بالتوراة، أما العهد الجديد، فهو عبارة عما كتب بعد عيسى(عليه السلام)، وهو عند البروتستانت سبعة وعشرون كتاباً. ولكل واحد من كتب العهدين فصول معدودة يسمونها الإصحاحات، وتشمل على فقرات معدودة بالرقم الهندي. للمزيد انظر: الهدى إلى دين المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم) للشيخ محمد جواد البلاغي(رحمه الله).

شاهد على ذلك هو الظروف المأساوية والأوضاع البائسة التي تعيشها الشعوب الإسلامية في عصرنا الحاضر في مختلف بلادنا وخاصة في العراق.

نموذج من الدقة في العمل

كان الحاج محققي(رحمه الله) من خطباء المنبر الحسيني البارعين، وله باع كبير في هذا المجال. وكان ينتقل من إيران إلى كربلاء المقدسة والنجف الأشرف، حيث يرتقي المنبر ويقوم بالخطابة ويتصدى للإرشاد، وكان خطيباً ماهراً، وخطاباته تمتاز بأسلوب مميز وحلاوة خاصة، كما أنه كان يعرض مواضيع محبّبة تؤثر بشكل عميق في مشاعر الناس وأحاسيسهم.

وفي إحدى السنين وفي شهر رمضان المبارك طلب منه المرجع آية اللّه العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله) البقاء في النجف الأشرف؛ لكي يرتقي المنبر في مجلس طلبة العلوم الدينية، فوافق الحاج محققي(رحمه الله) على ذلك، وبدأ محاضراته بقصة النبي يوسف(عليه السلام)، ففي اليوم الأول صعد المنبر وأورد حديثاً مفصلاً عن نبي اللّه يوسف(عليه السلام) وهكذا في اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس... والعاشر... والعشرين... حتى وصل إلى ليلة الثلاثين وهو يتكلم عن النبي يوسف(عليه السلام) وفي كل يوم يتحدث بشيء جديد لم يتحدث عنه في الأيام السابقة، وفي ليلة ختام المجلس، لم ينته حديثه عن النبي يوسف(عليه السلام)، فقال(رحمه الله): إنني في هذه السنة ذكرت لكم القصة حتى وصلنا إلى وقوع يوسف(عليه السلام) في البئر،وسوف أعود في محاضرات مقبلة إن شاء اللّه لأتناول لكم موضوع خروج نبينا يوسف(عليه السلام) من البئر، وما جرى عليه من أحداث بعد الخروج، وسنواصل القصة بإذن اللّه تعالى في المستقبل!!

إن الحديث ثلاثين يوماً وبمعدل يومي من ساعة إلى ساعة ونصف، في مجلس أكثر حضوره من الفضلاء وطلاب العلوم الدينية، كم يتطلب من الجهد

ص: 311

والتحضير والاستعداد وتحمّل التعب حتى يأتي الخطيب يومياً لهم بالجديد والمفيد، ورغم أن الموضوع الرئيسي واحد وهو قصة يوسف(عليه السلام)؟

لا بد أن وراء هذا العمل المجهد دافعاً أسمى وهو الإحساس بالمسؤولية التي ألقيت على عاتقه، وكانت تلك المحاضرات لها ثمار ونتائج سامية في نفوس الطلاب لمدة مديدة.

مع السيد القمي(رحمه الله)

قبل خمسين عاماً قام البهلوي الأول(1) بإبعاد المرجع الكبير آية اللّه العظمى السيد حسين القمي(رحمه الله) خارج إيران، فقدم السيد(رحمه الله) إلى كربلاء المقدسة، وعند وصوله(رحمه الله) إلى كربلاء استأجر بيتاً وشرع في مهامه الدينية والاجتماعية. وفي أحد الأيام جاءه أحد تجار إيران فرأى أن السيد(رحمه الله) في دار أجار، فقدم له مبلغاً كبيراً لشراء الدار، وقال: إنها ليست من الحقوق الشرعية، بل هدية له حتى يشتري بها داراً. لكن السيد(رحمه الله) رفض تلك الهدية، وقال: ما زال هناك طلبة لا يملكون بيوتاً وهم يستأجرون البيوت للسكن فلا اشتري داراً، فإني أولى بمواساتهم؛ ولكن إذا ترضى بأن أستلم المبلغ لكي أقسمه بين الطلبة فلا بأس. ولكن التاجر لم يقبل باقتراح السيد(رحمه الله) وعاد إلى إيران ومعه المبلغ.

هذا نوع من وعي المسؤولية وتحملها.

ومن الواضح أن تحمل المسؤولية من قبل علمائنا الأعلام لم يكن لأجل أن يمدحهم الناس، أو يصفقوا لهم أو يكرموهم مباشرة أو فيما بعد، وإنما تحملهم المسؤولية كان من أجل اللّه وحده، وذلك لأنهم تعلموا من مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) حيث قال الإمام الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء: «هون عليَّ ما نزل بي أنه

ص: 312


1- رضا بهلوي (1878- 1944م) شاه إيران.

بعين اللّه»(1).

فيلزم أن يكون الإنسان متحملاً للمسؤولية لأجل اللّه عزّ وجلّ وثوابه وتحصيل رضاه، لا لأجل أن ينال الدنيا الآن أو في المستقبل. ومن المعلوم أن الأشخاص المخلصين الصابرين هم الذين يتمكنون من النهوض بالحركة الإسلامية أما غيرهم فلا.

في سجن نوري السعيد

اعتقلت حكومة نوري السعيد(2)

رجلاً مسلماً مجاهداً، وأصدرت عليه الحكم بالسجن المؤبد (مدى الحياة)؛ لا لشيء إلّا لأنه كان يدعو إلى إقامة الأحكام الإسلامية في العراق، وقد نقل أحد الأشخاص - وكانت له علاقات كثيرة مع رجال الحكومة في ذلك الوقت - فقال: إن هذا الرجل السجين كان صديقاً لي، فوسّطني والده لكي أذهب إلى بغداد عند نوري السعيد، حتى أسعى في إطلاق سراح ولده.

فذهبت إلى بغداد. وبعد مشقة شديدة وعناء طويل وصلت إلى نوري السعيدرئيس الوزراء ذلك اليوم، فقلت له: إن هذا الولد شاب وقد غرر به، كما أن له أباً شيخاً عالماً تقياً، واُماً طاعنة في السن، وهذا ولدهم الوحيد، وله زوجة شابة وهو أب لطفل صغير؛ فلو أمرت بإطلاق سراحه؟

وكان الشاب مسجوناً في سجن (نقرة السلمان)(3) الذي يبعد مسافة كبيرة عن مدينة (السماوة) عبر صحراء طويلة، ويعتبر من أشد السجون قساوة وشدة.

ص: 313


1- اللّهوف: 117.
2- نوري سعيد صالح السعيد (1888م-1958م) رئيس الوزراء العراقي.
3- سجن نقرة السلمان معتقل يقع في عمق الصحراء على الحدود العراقية السعودية.

فقال لي نوري السعيد: اذهب إليه في السجن وقل له: أن يكتب كتاباً بخط يده يتبرأ مما عمل سابقاً، ويعتذر من الحكومة، فعند ذلك أنا مستعد أن آمر بإطلاق سراحه.

يقول الرجل: فرحت كثيراً واتجهت نحو السجن، وكان الحر شديداً، ولم يكن في السجن أية وسيلة تخفف من شدة الحر المعروف عن العراق وخاصة في المناطق الصحراوية؛ ولما أدخلت السجن لغرض مقابلة ذلك الشاب، وجيء به رأيته وقد تغيرت ملامحه من أثر المعاناة الشديدة والظروف السيئة في السجن، وقد لفحته الشمس بحرارتها ومال لونه إلى السواد والسمرة الشديدة، وأخذ الضعف منه مأخذه. فاستقبلني ورحّب بي، وبعد السلام والاطمئنان عليه، نقلت له إليه أشواق أبويه، وزوجته، وذكّرته بطفله الصغير، وقلت له: ارحم طفلك، وانظر إلى المستقبل الذي ينتظرك، وأخبرته بمطالب نوري السعيد، وأنه طلب منه ما يعني الندم والرجوع عما كان يريده من إقامة الأحكام الإسلامية، ثم قلت له: إنك إذا تبرأت من أعمالك خطياً واعتذرت من نوري السعيد فهو مستعد لكي يطلق سراحك.

قال هذا الرجل الوسيط: فتبسم الشاب وقال: يا فلان، اذهب إلى نوريالسعيد وقل له: لو أنك أبقيتني في هذا السجن، أو أسوأ منه إلى أن أموت، أو قطعتني قطعة قطعة، فإني لا أتنازل عن مبدئي وفكرتي وهي المطالبة بالحكم الإسلامي، فإن مستقبلي الجنة، وأما أبي وأمي وزوجتي وولدي فاللّه خليفتي عليهم، وهم ليسوا بأفضل من السيدة زينب(عليها السلام) وعائلة الإمام الحسين(عليه السلام) فإن أهل البيت(عليهم السلام) هم أسوة للناس جميعاً في تحمل الظلم والصبر في سبيل اللّه تعالى، وقل لنوري السعيد: إن عليه أن يعتذر هو عما جنى على الإسلام والمسلمين.

ص: 314

هذا مصداق لتحمل المسؤولية وثقافتها والشعور بها.

وعي المسؤولية وتحمل الصعاب

إن الإنسان الذي يريد أن يصل إلى مرضاة اللّه سبحانه وتعالى عليه أن يشعر بمسؤوليته، ويتحمل المعاناة في سبيل ذلك ليل نهار، ويقدم للمسلمين ما استطاع بإخلاص وصفاء نية حتى يرفع اللّه شأنه ويعز المسلمين به.

وهذا التحمل للمسؤولية نجده بشكل واضح في حياة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين علي(عليه السلام) والصديقة الطاهرة فاطمة(عليها السلام) والإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) وفي الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، والصحابة النجباء والمسلمين الأوائل الأتقياء، وفي العلماء المجاهدين، وفي الأخيار الطيبين، وهو الذي سبب توسع الإسلام وانتشاره إلى هذا الحد الذي نشاهده اليوم.

ولو وعيت الأمة بوعي المسؤولية، واتخذت الحركة الإسلامية العالمية العامة هذا التحمل للمسؤولية شعاراً وعملاً لها لأمكن الوصول إلى الهدف المنشود وهو إقامة حكومة ألف مليون مسلم(1)

بإذن اللّه تعالى.«اللّهمّ إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدّنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

العقيدة والعمل الصالح

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا

ص: 315


1- بلغت نفوس المسلمين حسب بعض الإحصاءات الأخيرة ملياري مسلم.
2- الكافي 3: 424.

الْأَنْهَٰرُ}(1).

وقال سبحانه: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَٰتُ الْعُلَىٰ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أَمْوَٰلُكُمْ وَلَا أَوْلَٰدُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا}(3).

الابتعاد عن الغفلة

قال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَٰفِلُونَ}(4).

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَاوَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ * أُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(5).

الشعور بالمسؤولية

قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(6).

وقال سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ

ص: 316


1- سورة البروج، الآية: 11.
2- سورة طه، الآية: 75.
3- سورة سبأ، الآية: 37.
4- سورة الأعراف، الآية: 179.
5- سورة يونس، الآية: 7-8.
6- سورة التوبة، الآية: 128.

أَسَفًا}(1).

إخلاص العمل للّه تعالى

قال عزّ وجلّ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).

وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}(3).

وقال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

الشعور بالمسؤولية

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لو وُضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه...»(5).

وعن زاذان قال: إن قنبراً قدم إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) جامات من ذهب وفضة في الرحبة، وقال: إنك لا تترك شيئاً إلّا قسمته، فخبأت لك هذا. فسلّ(عليه السلام) سيفه وقال: «ويحك، لقد أحببت أن تُدخل بيتي ناراً»، ثم استعرضها بسيفه فضربها حتى انتثرت من بين إناء مقطوع بضعة وثلاثين وقال: «عليَّ بالعرفاء»(6) فجاؤوا فقال: «هذا بالحصص»(7).

ص: 317


1- سورة الكهف، الآية: 6.
2- سورة الفاتحة، الآية: 5.
3- سورة الزمر، الآية: 11- 12.
4- سورة ص، الآية: 82-83.
5- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 58.
6- العُرَفاء: جمع عريف وهو القيم بأمور القبيلة، أو الجماعة من الناس يلي أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم. لسان العرب 9: 238 مادة: عرف.
7- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 108.

وعن سالم الجحدري قال: شهدت علي بن أبي طالب(عليه السلام) أتى بمال عند المساء، فقال: «اقتسموا هذا المال!».

فقالوا: قد أمسينا يا أمير المؤمنين، فأخره إلى غد؟

فقال لهم: «تقبلون لي أن أعيش إلى غدٍ؟».

قالوا: ماذا بأيدينا؟

فقال: «لا تؤخروه حتى تقسموه»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود النّاصر، وما أخذ اللّه على العلماء ألاّ يقارّوا(2) على كظّة ظالمٍ، ولا سغب مظلومٍ(3)؛ لألقيت حبلها على غاربها(4)، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطةِعنزٍ...»(5).

إياكم والغفلة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «احذروا الغفلة؛ فإنها من فساد الحس»(6).

وكان مما يدعو به الإمام السجاد(عليه السلام) في يوم عرفة: «ونبهني من رقدة الغافلين، وسنة المسرفين، ونعسة المخذولين»(7).

ص: 318


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 95.
2- ألّا يُقارّوا: ألّا يوافقوا مقرّين.
3- الكِظَّة: ما يعتري الآكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق، السَّغَب: شدة الجوع، والمراد منه هضم حقوقه.
4- الغارب: الكاهل.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3 ومن خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 160.
7- الصحيفة السجادية: الدعاء رقم 47 وكان من دعائه(عليه السلام) في يوم عرفة.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إياكم والغفلة! فإنه من غفل فإنما يغفل عن نفسه، وإياكم والتهاون بأمر اللّه عزّ وجلّ؛ فإنه من تهاون بأمر اللّه أهانه اللّه يوم القيامة»(1).

إخلاص العمل للّه تعالى

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو يعظ ابن مسعود: «إذا عملت عملاً فاعمله للّه خالصاً؛ لأنه لا يقبل من عباده الأعمال إلا ما كان له خالصاً...»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال اللّه عزّ وجلّ: أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عملٍ عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ»(4).ومما ناجى الإمام السجاد(عليه السلام) به ربه: «اللّهم صل على محمد وآل محمد، واجعلنا ممن جاسوا خلال ديار الظالمين، واستوحشوا من مؤانسة الجاهلين، وسموا إلى العلو بنور الإخلاص، وركبوا في سفينة النجاة، وأقلعوا بريح اليقين، وأرسوا بشط بحار الرضا، يا أرحم الراحمين»(5).

الشعور بالمسؤولية وليد الإيمان

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «المؤمن كيّس فطن حذر»(6).

ص: 319


1- ثواب الأعمال: 203.
2- مكارم الأخلاق: 453.
3- مستدرك الوسائل 2: 295.
4- الكافي 2: 16.
5- بحار الأنوار 91: 126.
6- جامع الأخبار: 85.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن له قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط في هدى، وبر في استقامة، وعلم في حلم، وكيس في رفق، وسخاء في حق، وقصد في غنى...»(1).

وقال(عليه السلام): «إن المؤمن أشد من زبر الحديد؛ إن الحديد إذا دخل النار لان، وإن المؤمن لو قتل ونُشر ثم قتل ونُشر لم يتغير قلبه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المؤمن يعاف اللّهو ويألف الجد»(3).

وقال أيضاً(عليه السلام): «إن المؤمن لا يمسي ولا يصبح إلا ونفسه ظنون عنده، فلا يزال زارياً عليها ومستزيداً لها»(4).

ص: 320


1- الكافي 2: 231.
2- المحاسن: 251.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 80.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 227.

الشيعة والحكم في العراق

الحضارة الإنسانية

قال اللّه تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰئِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(1). خلق اللّه الإنسان من التراب، وقد أودع سبحانه فيه كمالات تؤهله لكي يبني حضارة إنسانية تحتضن جميع أفراد البشر، كما أنه سبحانه وتعالى علّمه طرق الخير بما فيها بناء نفسه، وبناء مجتمع يقود أفراده نحو اللّه تعالى، لتنشر العدالة في ربوعه، ويعيش ذلك الإنسان كما أراد اللّه تعالى. إلّا أن الإنسان وبما تنطوي عليه نفسه من طموح وهوى لاحدود لهما، أخذ يسير بعكس ما اُريد له، فأخذ يتفنن في الظلم وفي سحق كرامة الآخرين، منطلقاً من مقدمات خاطئة لاتقربه إلى اللّه، بل تبعده عنه وتوسع الهوّة بينه وبين اللّه عزّ وجلّ.

من هنا أخذ التاريخ يسجل لنا ظهور طغاة وجبابرة وظالمين على مسرح الحياة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى - وطبقاً للموازين الكونية - كان في قبالهم من يؤمن باللّه عزّ وجلّ ويسعى لحفظ البشرية وحماية كيانها الهام، والدفاع عن المظلومين. فبرزت إلى الواقع الخارجي صورتان، صورة الباطل والظلم، وصورة الحق والعدل.

ص: 321


1- (1) سورة يونس، الآية: 14.

وبحثنا هنا، يدور حول بقعة من بقاع الأرض التي اختارها اللّه محطة للعديد من أنبيائه ورسله(عليهم السلام)، وهي أرض العراق المباركة. وليس بحثنا استقراءً تاريخياً، وإنما نحن بصدد تسليط الأضواء على مسألة الحكم في هذه الدولة، أي عن الراعي والرعية، عن القيادة والأمة، عن شكلها ودافعها. وبما أن أغلبية الشعب العراقي هم من الشيعة فرأينا أن نتكلم عن الشيعة والتشيع(1).

الشيعة في اللغة

اشارة

يراد بلفظ (الشيعة) حسب اللغة: الفرقة التي تتبع شخصاً، أو كل قوم يجتمعون على أمر ويكوّنون كتلة واحدة ويداً قوية، وشيعة الرجل: أصحابه وأتباعه، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، فلفظ (الشيعة) بحسب معناها اللغوي غير مخصوص بفرقة دون أخرى، بل تشمل كل فرقة أجمعت على شيء(2). غير أن هذه اللفظة خرجت عن هذا العموم، وغلبت على كل من تمسك بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأهل بيت رسول اللّه(عليهم السلام) معتقداً إمامتهم وخلافتهم الحقيقية لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)(3)؛ فصارت اسماً خاصاً يطلق عليهم دون سواهم، وقد سماهم بذلك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كما في الروايات - على ما سيأتي - .

ص: 322


1- (1) حسب إحصائية أجراها السيد محمد الصدر إبان رئاسته لمجلس الوزراء في العراق عام (1948م/1367ه) كان نسبة الشيعة في العراق 80%، ولكن الإحصاءات الأخيرة تدل على أنهم 85%، على ما سيأتي في الكتاب.
2- الشيعة: قوم يتشيعون، أي: يهوون أهواء قوم ويتابعونهم، وأصنافهم: شِيَعْ، انظر: كتاب العين: 2: 191 مادة (شيع)، ولسان العرب 8: 189.
3- وذلك بالنصوص القرآنية الشريفة والأحاديث النبوية والأدلة العقلية، انظر: الكافي 1: 168. كتاب الحجة. و(المراجعات) و(الشيعة والتشيع) و...

أصل الشيعة

يزعم البعض بأن أصل التشيع نبع من بلاد فارس(1)، وهذا القول يخالف الواقع، كما أن التاريخ يفنده(2)؛ إذ لا دليل يدل على قولهم، بل ورد عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في الحديث المروي عند الفريقين: «يا علي أنت وشيعتك الفائزون»(3).

فكان أتباع الإمام علي(عليه السلام) يعرفون بهذا الاسم منذ أيام رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، والرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) هو أول من أطلق عليهم هذا الاسم(4). ولكن البعض من المتعصبين أو ما أشبه، زعم بأن التشيع نشأ من موالاة بعض الفرس للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في حروبه(عليه السلام) زمن خلافته(5).

وكان مما يساعد هذه الأقوال تلك الأوضاع السياسية الظالمة وأولئك الملوك والحكام غير الشرعيين من أمثال بني أمية وبني العباس ومن سار على طريقهم،ممن سعوا لإبعاد الناس عن أهل البيت(عليهم السلام) أصحاب الحق الشرعي في الخلافة

ص: 323


1- (1) قال بذلك بعض المتعصبين وبعض مستشرقي المسيحيين، أمثال المستشرق بروكلمان في كتابه (تاريخ الشعوب)، والمستشرق دوزي عن تاريخ المذاهب الإسلامية.
2- (2) راجع في ذلك (الملل والنحل) للشهرستاني، و(فرق الشيعة) للنوبختي، و(حياة محمد) وفيه يقول محمد بن عبد اللّه عنان: من الخطأ أن يقال إن الشيعة إنما ظهروا لأول مرة عند انشقاق الخوراج، بل كان بدء الشيعة وظهورهم في عصر الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) حين اُمر بإنذار عشيرته بآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} سورة الشعراء، الآية: 214.
3- قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مشيراً إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام): «والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة». تاريخ مدينة دمشق 42: 371؛ شواهد التنزيل 2: 467؛ الدر المنثور 6: 379؛ فرائد السمطين 1: 156؛ فتح القدير 5: 477. أما ما ورد في مصادر الشيعة فكثير، انظر: الإرشاد 1: 41؛ وكشف الغمة 1: 53.
4- للتفصيل راجع كتاب (الشيعة والتشيع) للإمام الشيرازي(رحمه الله).
5- انظر: النوبختي في كتابه (فرق الشيعة) وابن النديم في كتابه (الفهرست).

وأمور الدين والدنيا. وهناك أدلة كثيرة وروايات عديدة وردت عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) تصرح بلفظ الشيعة، مما يدل على كون لفظ (الشيعة) من الألفاظ القديمة التي استعملها النبي الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) فيمن يتبع أمير المؤمنين(عليه السلام) وآله الطاهرين(عليهم السلام) مذعنين أنهم الخلفاء الحقيقيين له(صلی الله عليه وآله وسلم). فعن ابن عباس قال: سألت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَالسَّٰبِقُونَ السَّٰبِقُونَ * أُوْلَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّٰتِ النَّعِيمِ}(1)؟ فقال: «قال لي جبرئيل(عليه السلام): ذاك علي وشيعته هم السابقون إلى الجنة، المقربون إلى اللّه بكرامته لهم»(2).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «قال سلمان الفارسي(رحمه الله): كنت ذات يوم جالساً عند رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال(صلی الله عليه وآله وسلم) له: ألا أبشرك يا علي؟ قال: بلى يا رسول اللّه، قال(صلی الله عليه وآله وسلم): هذا حبيبي جبرئيل يخبرني عن اللّه جلّ جلاله أنه قد أعطى محبيك وشيعتك سبع خصال...»(3) الحديث.

إذن تسمية أنصار وأتباع الإمام أمير المؤمنين وأهل بيته(عليهم السلام) بالشيعة وردت عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قبل تصدي الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) للخلافة(4). والنصوص كثيرة ومتواترة في ذلك، وقد نقلها أبناء العامة أيضاً(5). وهذه الروايات تبطل

ص: 324


1- سورة الواقعة، الآية: 10-12.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 298.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 336.
4- أي الخلافة الظاهرية بعد مقتل عثمان بن عفان.
5- منها ما ذكره في المعجم الأوسط 4: 187: عن علي(عليه السلام) «أن خليلي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: يا علي، إنك ستقدم على اللّه وشيعتك راضين مرضيين، ويقدم عليه عدوك غضاب مقمحين»، ثم جمع علي يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح.

جميع الادعاءات القائلة بخلاف ذلك.

فمهما حاول بعض مزوري الحقائق إرجاع الشيعة إلى فئة أو جهة أخرى فالحقيقة تبقى كما هي، فهي الفرقة المحقة السائرة على درب الإسلام ونور القرآن والتعاليم المحمدية السمحاء، لا يستطيع إخفاء وستر هذه الحقيقة الواضحة زمرة من المغرضين وأصحاب الدنيا. كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(1).

إن المتفحص لأقوال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) الباحث عن الحقيقة يجد أن التشيع هو الإسلام الكامل الذي أمر به اللّه عزّ وجلّ، حيث أكمل سبحانه وتعالى دينه بولاية الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) حين أنزل الآية المباركة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(2) وذلك في حجة الوداع عند غدير خم بعد ما نصب الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه، علي بن أبي طالب(عليه السلام) خليفة من بعده(3).

نعم ولد التشيع في اليوم الأول لهتاف الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في شعاب مكة وجبالها بكلمة: «لا إله إلّا اللّه»، فإن هذه الكلمة تعني الإسلام الكامل وهومشروط بالولاية لأمير المؤمنين(عليه السلام) والنصوص كثيرة في هذا الباب(4).

فالشيعة

ص: 325


1- سورة التوبة، الآية: 32.
2- سورة المائدة، الآية: 3.
3- راجع حديث الولاية، حيث قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه فهذا علي مولاه...». في كتب المسلمين كافة من العامة والخاصة حيث بلغ حد التواتر، للتفصيل انظر: كتاب (المراجعات) للعاملي، و(الغدير) للأميني.
4- انظر: في ذلك المعضلات المدوَّنة في هذا المجال ك- (الغدير) و(إحقاق الحق) و... .

نشأت في زمن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأطلق الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) هذا الإسم على أتباع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في حياته(صلی الله عليه وآله وسلم) الشريفة.

انتشار التشيع في العراق

إن انتشار التشيع في العراق يعود إلى ما قبل عودة الخلافة الظاهرية(1) للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بسنوات عديدة، كان منها زمن عمر بن الخطاب، حيث انتشر التشيع بصورة واضحة في هذه الفترة، وذلك عندما رجعت جيوش المسلمين إلى بلدانها، وسكن الكثير من هذه الجيوش في الكوفة والبصرة، وقد أتاح ذلك الفرصة لهم في التعرف على أمير المؤمنين(عليه السلام) ومعرفة حقه وفضله عند اللّه عزّ وجلّ وعند نبيه الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم)، فهناك أخذوا في إرساء قواعد التشيع في العراق.

ولكن كان الأمر الأهم والأمر الأساسي في انتشار التشيع هو ما حدث في زمن خلافة الإمام(عليه السلام) عند إرجاع حقه المغصوب وتوليه(عليه السلام) أمور المسلمين حين اتخذ الكوفة عاصمة له، وهذا ساعد كثيراً على انتشار التشيع في الكوفة، وفي العراق من بعد.

مر التشيع بعد استشهاد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بفترات مختلفة من حيث الصعوبة والسهولة، فتارة كانت عصيبة جداً على جميع المنتمين إلى هذا المذهب - مذهب مشايعة أهل البيت(عليهم السلام) - ، وتارة كانت هذه الحدة خفيفة، حيث كان بعض الحكام لا يظهرون عداءً شديداً لأهل البيت(عليهم السلام) - بسبب ضعفهم أو وعيالجماهير - وكان أحسن فترات التشيع هو عند استلام بعض الشيعة مقاليد الأمور في العراق حيث الحريات الواسعة لهم ورفع الضغوط عنهم.

ص: 326


1- فإن الإمام علي(عليه السلام) هو الخليفة الحقيقي والواقعي وكذلك الأئمة من ولده(عليهم السلام) وإن استلم الحكم ظاهراً هذا وذاك من أعدائهم.

فنستطيع أن نقسّم الفترات التي مرت على الشيعة في العراق إلى ثلاث فترات:

أولاً: الفترة الصعبة، وهي التي كان الأمويون والعباسيون حكامها.

ثانياً: الفترة شبه السهلة، حيث كانت معاملة الحكّام ليناً مع الشيعة لا طيباً منهم، أو محبة للشيعة، بل للضعف الذي اعترى الحكام، وإلّا فكانوا يعاملون بنفس المعاملة القاسية التي عاملهم بها من سبقهم من الحكام. ويتمثل في هذه الفترة ثلاثة أدوار:

1- وقت انتقال الحكم من الأمويين إلى العبّاسيين حيث أتيحت الفرصة للإمام الصادق(عليه السلام) في العمل الإسلامي وتأسيس الجامعة العلمية ونشر معارف أهل البيت(عليهم السلام)(1).

2- فترة المأمون حيث نصب الإمام(عليه السلام) ولياً للعهد.

3- فترة (المنتصر لدين اللّه). ولكن بما أنها كانت فترات قصيرة لم نتعرض لها إلّا في طي البحث عن الفترتين.

ثالثاً: الفترة السهلة الكاملة، حيث لم توجد ضغوطات على أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، وفيها كانت مقاليد الحكم بيد الشيعة. وسنتطرق إن شاء اللّه بإيجاز إلى تلك الفترات.

بين الأمويين والعباسيين

لقد مرّ التشيع بعد شهادة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بفترة عسيرة جداً، وذلك أيام حكم معاوية بن أبي سفيان، حيث وصل الحال فيها إلى

ص: 327


1- (1) أي فترة اضمحلال الحكم الأموي وبدايات نشوء الحكم العباسي الذي كان يرفع لواء الرضا من آل محمد(عليهم السلام).

محاولات اجتثاث التشيع، وذلك بقتل جميع من ينتسب إلى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أو يواليه أو يتبع طريقته. وبما أن حكم معاوية كان يتركز في الشام، فقد أرسل إلى العراق - وخصوصاً الكوفة لأنها كانت مركز التشيع في ذلك الوقت - بعض الحكام الظلمة مثل زياد بين أبيه والمغيرة بن شعبة، وأمثالهما، فساسوا أهل العراق بالظلم، وقتلوا عدداً كبيراً من الشيعة في العراق(1).

وكاد معاوية أن يقضي على الشيعة في العراق، لولا منهج أهل البيت(عليهم السلام) حيث أوحوا إلى شيعتهم باستخدام أسلوب التقية في العمل. وفي هذه الفترة أصبح الشيعي محل اضطهاد من قبل أغلب حكام بني أمية، ولكن هذه الحالة لم تدم، ففي آخر عهد بني أمية ضعف سلطانهم، وأخذ الشيعة يعملون بصورة أوسع، ورفع عنهم الضغط بعض الشيء.

وعند مجيء حكام بني العباس إلى السلطة سمحوا للشيعة في البداية بالعمل بمذهبهم ونشر علومهم؛ وذلك لأن بني العباس لم يصلوا إلى الحكم إلّا بشعار أخذ الثأر من بني أمية للإمام الحسين(عليه السلام) وآل علي(عليهم السلام).

نهاية الحكم الأموي

إن فترة نهاية حكم بني أمية وبداية مجيء حكم بني العباس تمكن الشيعة فيها من العمل بنطاق واسع من أجل نشر التشيع وقاموا بإنشاء المدارس العلميةفي العراق والحجاز وغيرهما لتدريس العلوم الدينية بجميع أنواعها، من فقه، وأصول، وعلم كلام، وتفسير، وحديث وغيرها وذلك على منهج أهل البيت(عليهم السلام)، وقد ضمّت حلقاتها آلاف الطلبة. وكل هذا كان مقارناً لزمن الإمام الباقر والإمام

ص: 328


1- مثل ميثم التمار وحجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي والحضرميين مسلم بن زيمر وعبد اللّه بن نجي (رضوان اللّه عليهم)، وكثير غيرهم من أصحاب الإمام علي(عليه السلام).

الصادق(عليهما السلام). ولكن ذلك لم يدم طويلاً؛ إذ أحس بنو العباس بخطر العلويين على عروشهم الظالمة، لأنهم كانوا يريدون الحكم من أجل الدنيا بينما أراد العلويون - وعلى رأسهم الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) - إقامة حكم اللّه في الأرض، ولم يكن يتماشى هذا مع رغبتهم الدنيوية والمادية، فعندها حارب بنو العباس العلويين وأشياعهم، وجميع من ينتمي إليهم، بشتى الوسائل والطرق، حتى فاق ظلمهم ظلم بني أمية حتى قال أحد الشعراء(1):

تاللّه ما فعلت أمية فيهم *** معشار ما فعلت بنو العباس

إلى أن خفّت حدّة الظلم والمطاردة للشيعة في عهد المأمون نسبياً، حيث فرض منصب ولاية العهد على الإمام الرضا(عليه السلام)، وذلك بمؤامرة من المأمون نفسه في قصة مفصلة في محلها(2)، ولكن لم تستمر هذه الفترة طويلاً، إذ عندما استشهد الإمام الرضا(عليه السلام) عاد الظلم والمجاهرة بالعداء لكل من ينتمي إلى آل محمد(عليهم السلام) وشيعتهم، وتجسد الظلم في زمن المتوكل العباسي بأبشع وأفظع صورة(3)، واستمرت الحالة على هذا المنوال حتى أخذ الحكام يقتلون الشيعيويبيحون دمه وماله وجميع ممتلكاته. وأهون فترة مرّ بها الشيعة في حكم بني العباس هي فترة تولي (المنتصر لدين اللّه) الحكم، واستفاد الشيعة من هذه الحرية التي كانت في زمنه فأخذوا في نشر التشيع، ولكن هذا الوضع لم يدم طويلاً، فعند وفاته عاد الظلم والقتل بحق أتباع مذهب آل البيت(عليهم السلام). وهكذا

ص: 329


1- انظر: ميمية أبي فراس الهمداني.
2- انظر: الأمالي للشيخ الصدوق: 69، وفيه: يقول الإمام الرضا(عليه السلام) - حين امتنع عن قبول الولاية من المأمون - : «... تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة...».
3- انظر: الشيعة والحاكمون، لمحمد جواد مغنية.

كانت الأحوال تتقلب من حال إلى حال.

انتقال مركز التشيع من الكوفة إلى بغداد

قلنا بأن التشيع انتشر في العراق منذ صدر الإسلام، وكان مركزه الكوفة، ولكن عندما تسلم الحكم، المنصور الدوانيقي وهو الحاكم العباسي الثاني، نقل مركز الخلافة من الكوفة إلى الهاشمية(1)،

ومن ثم إلى بغداد. وقد صاحب هذا الانتقال انتقال الكثير من الشيعة إلى بغداد. وكان بعضهم يعمل في حكومة المنصور متخفياً بحيث لايعلمون أنه شيعي، ويبدأ بالعمل الخفي الجاد لنشر التشيع(2)، وقد شجعهم على ذلك وجود الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في بغداد في ذلك الحين؛ ولذا أخذ التشيع ينتشر في بغداد انتشاراً واسعاً، وخصوصاً في منطقة الكرخ، رغم الشدة والمضايقات التي استخدمها المنصور مع الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، وجميع أتباع أهل البيت(عليهم السلام).

فترة ولاية الحكام الشيعة

ولاية البويهيين

بزغ نجم آل بويه في فارس(3) في القرن الرابع الهجري، حيث استولت الدولة

ص: 330


1- وهي مدينة اختطها أبو العباس السفاح قرب الكوفة وشرع في عمارتها. انظر: معجم البلدان 1: 457، مادة (بغداد).
2- أمثال: أبو سلمة الخلال الكوفي وزيراً عند السفاح أول ملوك بني العباس، ومحمد بن الأشعث الخزاعي الذي وزير المنصور، وأبو عبد اللّه يعقوب بن داود وعلي بن يقطين الذي استوزره الرشيد، وجعفر بن الأشعث الذي استوزره المأمون وغيرهم... .
3- تأسست الدولة البويهية على يد علي بن بويه الملقب بعماد الدولة في شيراز في بلاد إيران عام (321ه) ثم امتد حكمها إلى كل إيران والعراق وجزء من تركيا وغيرها من بلاد بني العباس، وكان آخر ملوك البويهيين أبا نصر الملقب بالملك الرحيم وبه انتهى حكم الدولة البويهية الشيعية سنة (474ه)، والذي امتد 153 سنة.

البويهية بعد ذلك على مقاليد الحكم في بغداد. وبما أن الدولة كانت دولة شيعية فقد أسست المدارس الدينية ونشرت علوم أهل البيت(عليهم السلام)، وتم فيها تدريس أغلب العلوم الدينية، فدأب علماء الشيعة في ذلك الوقت على نشر العلوم في جميع بقاع العالم، وخصوصاً المناطق المجاورة لبغداد، مثل الحلة والنجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وغيرها من المناطق العراقية. وقد برز الكثير من علماء الشيعة إبان ذلك العصر، مثل: الشيخ المفيد، والشريفين: الرضي والمرتضى والشيخ الطوسي(رحمهم اللّه).

وكانت حلقات الدرس تنتقل فيما بينهم. وبعد أيام البويهيين حدثت فتنة كبيرة بين السنة والشيعة في بغداد وانتقل على أثرها شيخ الطائفة الطوسي(رحمه الله) بحوزته العلمية من بغداد إلى النجف الأشرف عام 448ه، إذ لم تعد بغداد ترضى بمقام المرجعية الدينية فيها، وكما لم تعد صالحة أيضاً لاحتضان الحوزة العلمية بين ظهرانيها، فأضحت النجف الأشرف بعدها عاصمة ومركزاً لعلوم أهل البيت(عليهم السلام)، ومقاماً ومستقراً لكبار علماء الشيعة ومراجعهم العظام (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين).

المغول والتشيع

وهكذا انقلبت الأحوال من حال إلى حال، حتى مجيء هولاكو وغزوه بغداد، وإحداثه الدمار الشديد فيها، إلّا أن مذهب أهل البيت(عليهم السلام) بقي ثابتاً صامداً رغمتلك الهزاهز والابتلاءات العظيمة، بل كان سبباً لإسلام المغول ومنعهم من الاستمرار في التدمير، فحينما استتب الأمر لهولاكو وفرض سيطرته على بغداد تنفس أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) الصعداء، نتيجة لدخول بعض حكام المغول الإسلام ببركة جهود العلماء الكبار أمثال:

الخواجة نصير الطوسي، والعلامة، وابنه (رحمهم اللّه) وغيرهم - وإعلان

ص: 331

إتباعهم لمذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ومن هؤلاء الحكام (نيقولاوس بن أرغون) وسمي بمحمد خدابنده، وكذلك ابنه أبو سعيد بهادرخان، وبعضهم أسلم، ولكن لم يصرح بالتشيع، مثل غازان المسمى محمود، وهو أخو محمد خدابنده، وبين من لم يطل عهده ليعلم حاله مثل تكوادر بن هولاكو المسمى بأحمد.

الدولة الجلائرية والتشيع

اشارة

جلائر هي سلالة مغولية أنشأها (حسن بزرك) على أنقاض الإيلخانية، حكمت العراق من (740 إلى 813ه) عاصمتها بغداد أشهر سلاطينها أويس وابنه أحمد، حكمت هذه الدولة العراق بعد رحيل المغول، وهي دولة شيعية بحتة، ولها بصمات واضحة في نشر التشيع، وكان زعيم هذه الدولة (حسن الجلائري) وهو من أمراء المغول وإن لم يكن مغولي الأصل، وقد استمر في حكم العراق فترة من الزمن، وجاء بعده ولده وحكم العراق، وتعاقبت على حكم العراق مجموعة من أفراد هذه العائلة، وفي عام 767ه بنى أحد أولاد حسن الجلائري الحرم الحسيني القائم اليوم.

الدولة الصفوية والتشيع

لقد سجل التاريخ لهذه الدولة خدمات جليلة في انتشار مذهب التشيع في العراق وإيران وجميع المناطق المجاورة، وهي دولة علوية شيعية حكمت العراق في عام (910ه)، وأول من استولى على حكم العراق من الصفويين هو (الشاهإسماعيل الأول)، وقد دارت بينه وبين العثمانيين معارك ضارية؛ وذلك لطمع العثمانيين في السيطرة على العراق، فانتصر العثمانيون على الدولة الصفوية عام (941ه) أيام (الشاه طهماسب الأول) ثم عاد الصفويون وحكموا العراق ثانية في عام (1032ه)، وكان ذلك على يد (الشاه عباس الأول)، ثم عاد العراق تحت السيطرة العثمانية في عام (1045ه) وحكم مرادخان الرابع العراق بعد الصلح

ص: 332

الذي تم بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية، وشرط الصفويون على الدولة العثمانية بموجب هذا الصلح أن تحكم الدولة العثمانية العراق دون التعرض للشيعة والعتبات المقدسة. ولكن بعدما استقر الحكم للدولة العثمانية نكثوا عهدهم، فحاربت التشيع في جميع أرجاء العراق، وذلك بتحريض من بعض الحاقدين على مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، خاصة وأن العثمانيين كانوا يتبعون سياسة طائفية شديدة التعصب لأهل السنة والجماعة.

الدولة العثمانية والضغط على الشيعة

بعدما سيطرت الدولة العثمانية على مقاليد الحكم، تغير حال الشيعة في العراق عما كانوا عليه في زمن الدولة الصفوية، فلقد عاد الظلم والاضطهاد، وأصبح كل من ينتمي إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ويعرف بأنه من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) معرضاً للقتل والتشريد، وبجميع أصناف التعذيب الأخرى. وكان المذهب الرسمي في الدولة العثمانية هو المذهب الحنفي، ولم يكتفوا في جعله فوق المذاهب بأسرها، بل عمدوا إلى ضرب المذاهب الأخرى، وخصوصاً المذهب الشيعي.

وسعوا إلى نشر المذهب الحنفي بأسلوب الترغيب والترهيب في جميع أرجاء العراق، حيث كانوا ينشرونه بصورة سرية في المناطق الجنوبية من العراق وفي العتبات المقدسة، والتي كان كل سكانها من الشيعة إلّا ما ندر، كما قاموا بنشرمذهبهم وبصورة علنية في شمال العراق، وبعض المناطق التي يكثر فيها السنة. ونتيجة لمقاومة الشيعة الشديدة، وقوة نفوذهم وتأثيرهم اُجبر بعض الأمراء الأتراك على مسالمة الشيعة، فقد أجروا بعض التعديلات والتعميرات في العتبات المقدسة، وزارها بعض ولاتهم. والجدير بالذكر هنا أن بعض المؤرخين قال: إن الشيعة لاقوا من العرب - من متعصبي السنة الذين كانوا تحت حكم

ص: 333

الدولة العثمانية - الحاقدين على التشيع،وعلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام)،أكثر مما لاقوه من الحكام الأتراك أنفسهم، وقد أثبت التاريخ حينما رحل الترك عن العراق فإن الأوضاع المأساوية ظلت على ما هي عليه إن لم نقل أنها تفاقمت.

الموصل والتشيع

توالت على إدارة الموصل إمارتان شيعيتان، إحداهما إمارة آل حمدان(1)، وكان أميرهم أبا الهيجاء عبد اللّه بن حمدان، والد سيف الدولة وناصر الدولة، واستمر أمراء هذه الإمارة في إدارة الموصل إلى فترة طويلة، حتى انقضت هذه الإمارة وقتل آخر أمرائها (عدة الدولة غضنفر) في عام (369ه). تلت هذه الحكومة حكومة شيعية ثانية، هي إمارة آل المسيب، التي استولت على الموصل حرباً فأقرهم بها (بهاء الدولة البويهي)، وقد كانوا من أمراء نصيبين، واستمرت إمارتهم إلى القرن الخامس الهجري، إلى أن جاء صلاح الدين الأيوبي الذي حارب التشيع أينما وجده، واستمر على نهجه هذا من بعده سلالته حيث ضربوا هذه الإمارة، وشنوا عليها الغارات الكثيرة، ومن ثم أعقبهم بالعداء الشديد للشيعةوالتشيع السلطان العثماني سليم الثاني الذي أذاق الشيعة في عهده أنواع البلايا والمصائب. وسار على نهجه السلطان مراد الرابع، فقضوا على هذه الإمارة، وظل كثير من أهل الموصل على مذهبهم، ولكن على تكتم شديد خوفاً من مطاردة وقتل السلطان لهم، واليوم يعرف كثير من الموصليين آباراً في الموصل ملئت من قتلى الشيعة. وآخرين أردم عليهم البناء. ومن الثابت في محله أن أي فكرة أو

ص: 334


1- الحمدانيون: أسرة عربية، تولت الموصل والجزيرة في زمن العباسيين ثم استقلوا فبسطوا سيادتهم على شمال سورية (317-394ه) أسسها حمدان بن حمدون شيخ قبيلة تغلب في ماردين (892م) وسع حدود الإمارة ابنه عبد اللّه وحفيده سيف الدولة أمير حلب، انقرضت هذه الإمارة بموت سعيد الدولة بن سعد الدولة بن سيف الدولة.

عقيدة عندما ترتدي حلة الوجود، وتظهر على سطح المجتمع، عادة يبرز لها تياران: تيار مساند وتيار مضاد، ومن عوامل تقدم أو تقهقر هذه الفكرة أو العقيدة وجود هذين التيارين. فتارة تلاحظ أن مبدأ ينتشر انتشار واسعاً في أوساط الناس، ومن العوامل المؤثرة في ذلك قوة التيار المساند له، مع إضافة عوامل أخرى. وتارة يفشل المبدأ، ومن العوامل المؤثرة في ذلك قوة التيار المضاد، مع إضافة عوامل أخرى(1).

ولم يخرج التشيع عن هذه القاعدة منذ نشأته الأولى في زمن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) - كما ذكرنا سابقاً - حيث كان التيار المساند والمساعد هو الحاكم وذلك في زمن حكم أمير المؤمنين(عليه السلام)، وفي عصر الحكومات الشيعية التي حكمت في بعض مراحل التاريخ الإسلامي - والتي ذكرنا بعضها - وهذا الأمر ساعد على انتشار التشيع وكثرة أنصاره وقوة سلطانهم، مما أدى إلى انتشار العمل الإسلامي الشيعي ونشر علوم أهل البيت(عليهم السلام) ومدرستهم، وذلك لما كان الشيعة يتمتعون بشيء من الحرية.

كما ظهر التيار المخالف حيثما تسلمت زمام الحكم حكومات مناهضة ومعادية لمذهب آل البيت(عليهم السلام)، ففي هذه الحالة كان التشيع ينحسر، ويُقتَّل الكثير من أنصاره وأتباعه، ويحدّ من انتشاره؛ وذلك لقوة التيار المضاد. كذلك ظهر هذان التياران على الشيعة في العراق على وجه الخصوص، فحينما كانت تتسلم الحكم حكومات شيعية، أو حكومات لا تحمل العداء لهذا المذهب الحق، كان التشيع يتقدم وينتشر في العراق، ويمتد سلطانه ويترسخ، خاصة وأن

ص: 335


1- وقد ذكر علماء الاجتماع أن المؤثرات في الإنسان عشرة منها: الأجواء الاجتماعية، والأجواء الطبيعية راجع (الفقه الاجتماع) للإمام الشيرازي(رحمه الله).

التشيع يحمل من الأحكام والآراء المنطقية القوية الموافقة للفطرة، ما يفحم الخصوم بحيث يعجزون عن مواجهته. أما إذا كان العكس، كما إذا كان الحكم قد تسلّمه المعادون لأهل البيت(عليهم السلام) ومن شايعهم فينحسر الانتشار، وفي بعض الأحيان يتوقف. فخلاصة الكلام هو أن التشيع في الأقاليم العراقية قد تراوح معدل انتشاره من حين إلى آخر وكانت الأرجحية في أكثر العصور للأكثرية المتمثلة بمذهب أهل البيت(عليهم السلام).

الشيعة في عراق اليوم

اشارة

لقد كان العراق يعرف بأنه بلد شيعي، وكذلك اليوم، فهو بلد شيعي تسكنه الأكثرية الشيعية. وإليك التقسيم الآتي على حسب كثرة الشيعة في المحافظات - كما يطلق عليها اليوم - وهو كما يلي:

أولاً: مناطق العتبات المقدسة: النجف الأشرف، كربلاء المقدسة، الكاظمية، سامراء. إن الأغلبية السكانية لهذه المناطق هم من الشيعة، وخاصة في كربلاء والنجف والكاظمية فإنه إذا وجد فيها البعض من المذاهب الأخرى فهو نادر أو قليل جداً.

ثانياً: المناطق الجنوبية: البصرة، العمارة، الناصرية. فهذه المناطق كسابقاتهامن مناطق العتبات المقدسة نسبة الشيعة فيها حوالي 99.9%.

ثالثاً: بغداد، والتي تعتبر عاصمة الدولة العراقية في الوقت الحاضر، والأغلبية فيها للمذهب الشيعي، وتشكل الشيعة فيها حوالي 75% تقريباً. وفي بعض المناطق من العاصمة تشكل الشيعة 99.9% من سكانها مثل: مدينة الكاظمية والثورة والكرخ والبياع وغيرها... .

رابعاً: بعض المحافظات الوسطى، مثل: الكوت والحلة والديوانية يمثل

ص: 336

الشيعة فيها 99% من نسبة السكان تقريباً، والبعض الآخر مثل السماوة، يشكل الشيعة 90% أما محافظة ديالى فنسبة الشيعة فيها 85%، أما الرمادي وتكريت فالأغلبية فيها سنية، ويوجد الشيعة أيضاً في هاتين المحافظتين بأعداد واضحة.

خامساً: المحافظات الشمالية، أربيل والسليمانية ودهوك، والأغلبية فيها للمذهب السني، وأيضاً يوجد الشيعة فيها بأعداد كبيرة(1). أما في كركوك والموصل فالشيعة فيها حوالي 40% تقريباً.

وهذه الأرقام والنسب التي ذكرتها هي للدلالة وكلها أرقام تقريبية.

أما النسبة الكلية لشيعة العراق فهي: 85% من سكان العراق هم من أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، أما المذاهب السنية الأربعة فحوالي 12% وبقية الطوائف والأديان الأخرى فحوالي 3%. ولكن ورغم هذه النسبة، وما يمثله الشيعة من أكثرية في سكان العراق، إلّا أنهم خارج المناصب العليا في الدولة، وأصبحت المناصب والحقائب الوزارية وزمام القوة هي بيد الأقلية، رغم أن جميع القوانين والأنظمة وحتى الوضعية منها تعطي الحق لمن يمثل الأكثرية في إدارة شؤونالبلاد، مع مراعاة حقوق الأقلية وعدم ظلمهم.

نظرة إلى واقع العراق المعاصر

إن العراق عاش تجربتين قاسيتين بعد نيله الاستقلال والتجربتان هما:

أولاً: الحكم الملكي، الذي بدأ بالملك فيصل الأول، الذي عملت بريطانيا على رسم صورة حكمه وتنصيبه، لإخماد نار الثورة العراقية الكبرى عام (1920م) التي قادها المرجع الديني الأعلى الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) وكانت تجربة فيصل فاشلة للغاية، والتاريخ يشهد بذلك.

ص: 337


1- فمثلاً الأكراد الفيلية كلهم شيعة وهم زهاء ثلاثة ملايين.

ثانياً: الحكم العسكري والجمهوري المتمثل بعبد الكريم قاسم الذي أطاح بالحكم الملكي الذي كان نوري السعيد أحد أكبر رموزه... .

وعبد السلام عارف، ثم من بعده عبد الرحمن عارف، إلى حكم أحمد حسن البكر المشؤوم، ثم حكم صدام وهو الأشأم من بينهم. والمتتبع أحوال هؤلاء الحكام والمسؤولين والأوضاع التي كانت في عهودهم، يدرك جيداً مدى فشل هذه الحكومات. ولم يكن هذا الفشل إلّا تخطيطاً من جهة الاستعمار فلم يكن باللاشعور بل كان مدروساً ومخططاً له لتأخير المسلمين والسيطرة على ثروات العراق. وكان تخلي بعض الناس عن مسؤولياتهم في الماضي، وتخلي بعض آخر عن حقوقه، وإهمال الجانب السياسي مضافاً إلى عوامل أخرى اجتمعت جميعها؛ لتأتي بصدام على رأس حكومة العراق، ولو تكررت هذه الأمور مجدداً، فلعلها ستأتي بشخص هو أسوأ من صدام، لا قدر اللّه ذلك.

لا شك أن نظام العراق سيتبدل عاجلاً أو آجلاً - كما هي سنة الحياة - كما لا شبهة أن العراق سيدخل مرحلة جديدة من الحكم، ولكن الكلام في أن الغربيين يعملون جاهدين على أن تبقى حكومة العراق بيد غير الشيعة، لتبقى مشاكل العراق وتستمر أزماته السياسية.

إن الشيعة في العراق يمثلون الأكثرية من الشعب؛ فحسب بعض الإحصاءات التي أشرنا إليها من قبل، إنهم يشكّلون 85% من نفوس الشعب العراقي، وحسب قانون الشرع والعقل، بل وحتى ما يسمى بالقوانين الديمقراطية، فإن حق الحكم يعطى للأكثرية، مع حفظ حق الأقلية أيضاً، إلّا أن هذه المعادلة لم توجد في العراق، ولا تريدها بعد الدول الغربية، لمصالح وأغراض خاصة، لذا ينبغي لنا أن نلتفت إلى هذه القضية، ونعي الخطط المرسومة من قبل الغرب لندفعها، ونعمل جاهدين لإيجاد حكومة الأكثرية.

ص: 338

من يتخذ القرار؟

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم...»(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إنما المؤمنون إخوة بنو أب وأم وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون»(2).

هناك قسم من أفراد المجتمع لا يشغل تفكيرهم: من الذي سيأتي بعد صدام؟، فهم يفضلون الوقوف على التل دوماً، وينتظرون حتى تأتيهم النتائج جاهزة، والغرب يستغل الفرصة في مثل هذا الوضع - الذي يتخلى فيه جزء من الأمة عن واجبه - ليعمل على إزالة صدام مثلاً، ويأتي بشخص آخر عن طريق الانقلاب العسكري وما أشبه - وهذا أمر سيئ للغاية - . هنا نتساءل: لماذا لا نُقدّر مستقبلنا بأنفسنا؟ وهذا السؤال موجه لكل فرد من أفراد الأمة، حيث إنهم كلهم يشتركون في صنع المستقبل.

الحكومة المستقبلية

إن الواجب على كل فرد من أبناء الشعب العراقي أن يساهم - بما أوتي من قوة - في تشكيل حكومة العراق المستقبلية، عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة، التي تجري على مستوى كل الشعب، واختيار آراء الأكثرية مع مراعاة النسب، فليس من الحق والإنصاف أن يحكم أكثرية العراق - وهم الشيعة - أشخاص من الأقلية. كما ليس صحيحاً أن تقع الحكومة بيد فريق معين من الأشخاص بلا انتخابات أو تصويت أو شورى. وهذا الكلام لا يعبر عن الطائفية، بل إن هؤلاء الأقلية هم أخوة لنا، ولكن لا ينبغي لهذه الأخوة أن تضيع حق الشيعة الأكثرية في العراق، بل الأجدر بهذه الأخوة أن تصلح ما قطعته من جسور وروابط

ص: 339


1- (1) الكافي 2: 164.
2- (2) الكافي 2: 165.

اجتماعية وإسلامية بين الأخوة المسلمين، وأن يكونوا مع إخوتهم الشيعة يداً واحدة لقطع أيادي المستعمرين الطامعين بخيرات العراق وبلاد المسلمين. ولو اعترض أحد على كون الحكومة المستقبلية في العراق شيعية، فالاعتراض الذي هو عند الشيعة أقوى، وهو: لماذا تحكم الأقلية الأكثرية وتتسلط عليهم، ولماذا يدّعون الوحدة ويحرمون الأكثرية من حقوقهم؟! إن هذا الأمر ليس مقبولاً، لا في قوانين عالم اليوم، ولا في قوانين الشرع الإسلامي، بل يرفضه حتى القانون الغربي، وذلك بأن تأتي أقلية تشكل 12% من مجموع السكان، وتتحكم بأمور ال-85% الباقية، تحت حجج وذرائع واهية، ولا يكون لهم حول ولا قوة.

واليوم نرى، أن الحكام البعثيين في العراق كيف يتعاملون مع الأكثرية الشيعية معاملة الغدر والتنكيل والمكر والخديعة. وفي المقابل هناك من الشيعة أناس صعد البعثيون على أكتافهم بحجة أنهم أخوة للشيعة في الدين، ولم يجن الشيعة من وراء ذلك غير المعاملة السيئة والسب والشتم والكتابة ضدهم، فبمجرد أن يصل أولئك إلى الحكم لا يكون حظ الشيعة إلّا السجن والظلم والاضطهاد بلاسبب يذكر.

مع الأمل وبعيدا عن اليأس

قال تعالى: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(1). نعم، يجب أن نشرع بالعمل الجاد، بروح ملؤها الأمل مبتعدين عن اليأس ومتوكلين على اللّه عزّ وجلّ. هذا أولاً.

وثانياً: أن ينتشر العلماء والمبلغون في كل مناطق العراق، ليعملوا على هداية الشعب وتعريفهم بالإسلام والتشيع، وبالأخص الشباب، لأنهم يمثلون الطاقة

ص: 340


1- (1) سورة يوسف، الآية: 87.

النشطة، وبذلك نقطع الطريق على الأفكار المنحرفة مثل الشيوعية والقومية والبعثية. إذن علنيا - إذا أردنا أن لا تتكرر المحنة التي وقع فيها عراق اليوم - أن نعرّف المجتمع والأمة المفاهيم الدينية الصحيحة، وأن ننشر أهداف الإسلام الصحيح والحقيقي بين صفوفها؛ لكي يعمل الجميع من أجل تحقيق هذه الأهداف في سبيل نشر حكومة الحق المتمثلة بالإسلام.

وثالثاً: تنظيم وتربية الشباب وبث روح الوعي الإسلامي فيهم وتعبئتهم بالأفكار الإسلامية وتسليحهم بها، عندها لا يبقى هناك مجال لدخول الأفكار الشيوعية ولا القومية ولا البعثية إلى صفوفهم(1) لأنهم إنما أخذوا هذه الأفكار للفراغ الذهني الذي كان عندهم، فإذا امتلأ هذا الفراغ بالمفاهيم الصحيحة لميكن هناك وجه للخوف آنذاك من أن يضفي الدين والثقافة الإسلامية طابعها العام على شكل الحكومة، وكذلك على الأمة الإسلامية التي تعيش تحت ظل الدولة الإسلامية.

صورة الحكومة الإسلامية

أما حول شكل الحكومات الإسلامية في العراق فنوجزها باختصار كالآتي:

أولاً: إن الدين العام للأمة هو الإسلام.

ثانياً: أكثرية أفراد الحكومة من الشيعة تباعاً للنسبة، مع رعاية قانون الكفاءة واللياقة بالمنصب.

ص: 341


1- (1) وكشاهد على ذلك: فإن إنكلترا وبغض النظر عن موقعها الجغرافي تعتبر قلب القارة الأوربية لمكانتها السياسية والتاريخية التي تقتضي الاحتكاك الكثير والمباشر مع البلدان الأخرى، ليس فيها أكثر من (16000) شيوعي، مع ما هناك من حرية نسبية، والسبب هو أنها تؤكد على إرسال شبابها فرداً فرداً إلى الكنيسة، وتربطهم بها، وتقوي أساس التدين عندهم، ليس حباً في الدين، وإنما جعل الفكرة الدينية عند الأفراد يكون حاجزاً عن دخول الأفكار الإلحادية الأخرى مثل الشيوعية.

ثالثاً: إعطاء الأقليات الأخرى كامل حقوقهم، وعدم تجاهلهم بحسب نسبتهم، مع مراعاة الكفاءة وغيرها من الشروط اللازمة لذلك. وبهذا سوف تسود في الأمة الأفكار الإسلامية التي جاء بها الإسلام، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور...، والنور الذي تعيش وسطه الأمة سوف يتمثل في اقترابها من اللّه عزّ وجلّ، وتقدمها العلمي الذي يخدمها كثيراً في مسارها التاريخي.

من هدي القرآن الحكيم

الشيعة

قال تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَٰهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٖ سَلِيمٍ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٖ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَٰثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}(2).وقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(3).

الحكومة العادلة

قال جلّ وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ}(4).

ص: 342


1- سور الصافات، الآية: 83-84.
2- سورة القصص، الآية: 15.
3- سورة المائدة، الآية: 55.
4- سورة النساء، الآية: 105.

وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَئًْا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(3).

من واجبات المسلم

1- رفض الحكومات الجائرة

قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّٰغُوتَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَٰنِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا}(5).

وقال تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِ أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(6).

ص: 343


1- سورة المائدة، الآية: 49.
2- سورة النساء، الآية: 58.
3- سورة المائدة، الآية: 42.
4- سورة النحل، الآية: 36.
5- سورة النساء، الآية: 76.
6- سورة البقرة، الآية: 256-257.
2- تحمل المسؤولية والاهتمام بها

وقال جلّ وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ}(2).

وقال سبحانه: {احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَٰجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ}(3).

وقال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسُْٔولًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {فَلَنَسَْٔلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}(5).

نشر الفكر الإسلامي

قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(6).

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(7).

وقال عزّ وجلّ: {رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(8).

ص: 344


1- سورة التوبة، الآية: 128.
2- سورة طه، الآية: 1-2.
3- سورة الصافات، الآية: 22-25.
4- سورة الإسراء، الآية: 34.
5- سورة الأعراف، الآية: 6.
6- سورة إبراهيم، الآية: 5.
7- سورة سبأ، الآية: 28.
8- سورة الطلاق، الآية: 11.

وقال جلّ وعلا: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَٰتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَٰبِ أُوْلَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّٰعِنُونَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

من هم الشيعة

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «... ما شيعتنا إلّا من اتقى اللّه وأطاعه، وما كانوا يعرفون... إلّا بالتواضع والتخشع وأداء الأمانة وكثرة ذكر اللّه...»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيعتنا هم العارفون باللّه والعاملون بأمر اللّه»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن شيعتنا من شيعنا وتبعنا في أعمالنا»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما شيعتنا أصحاب الأربعة الأعين: عينان في الرأس، وعينان في القلب، ألا والخلائق كلهم كذلك، ألا إن اللّه عزّ وجلّ فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم»(6).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «شيعتنا الرّحماء بينهم، الذين إذا خلوا ذكروا اللّه، إنّ ذكرنا من ذكر اللّه، إنّا إذا ذكرنا ذكر اللّه، وإذا ذكر عدوّنا ذكر الشّيطان»(7).

ص: 345


1- سورة المائدة، الآية: 15-16.
2- سورة البقرة، الآية: 159.
3- الكافي 2: 74.
4- بحار الأنوار 75: 29.
5- تفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 307.
6- الكافي 8: 215.
7- الكافي 2: 186.

وقال(عليه السلام): «تزاوروا فإنّ في زيارتكم إحياءً لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطّف بعضكم على بعضٍ، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيمٌ»(1).

وقال(عليه السلام): «شيعتنا أهل الهدى وأهل التّقى وأهل الخير وأهل الإيمان وأهل الفتح والظّفر»(2).

وقال(عليه السلام): «إيّاك والسّفلة، فإنّما شيعة علي(عليه السلام) من عفّ بطنه وفرجه، واشتدّ جهاده، وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر»(3).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «يا معشر شيعتنا، اسمعوا وافهموا» إلى أن قال: «واجتمعوا على أموركم ولا تدخلوا غشّاً ولا خيانةً على أحدٍ» إلى أن قال: «ولا عملكم لغير ربّكم ولا إيمانكم وقصدكم لغير نبيّكم»(4).

ضرورة العمل

قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «العمل العمل ثم النهاية النهاية، والاستقامة الاستقامة ثم الصبر الصبر، والورع الورع، إن لكم نهاية فانتهوا إلىنهايتكم»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»(6).

ص: 346


1- الكافي 2: 186.
2- الكافي 2: 233.
3- الكافي 2: 233.
4- مستدرك الوسائل 1: 114.
5- نهج البلاغة، الخطبة الرقم: 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهي عن البدعة.
6- الكافي 2: 75.

وقال أبو جعفر(عليه السلام) لخيثمة: «أبلغ شيعتنا أنه لا ينال ما عند اللّه إلّا بالعمل»(1).

وعن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن الإيمان؟ فقال: «شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه»، قال: قلت: أليس هذا عمل؟، قال: «بلى» قلت: فالعمل من الإيمان؟ قال: «لا يثبت له الإيمان إلّا بالعمل والعمل منه»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «العلم مقرونٌ إلى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلّا ارتحل»(3).

وقال(عليه السلام): «إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصّفا»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فمنهم المنكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه، فذلك الذي ضيَّع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة،ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء»(5).

المسؤولية وتعظيمها

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي، ما

ص: 347


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 370.
2- الكافي 2: 38.
3- الكافي 1: 44.
4- الكافي 1: 44.
5- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 374.

تركت هذا القول حتى أُنفذه أو أُقتل دونه»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه لو أعطيت الأقاليم السبع بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جُلب(2)

شعيرة ما فعلته»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في الدعاء بعد صلاة يوم الغدير: «يا صادق الوعد يا من لا يخلف الميعاد يا من هو كل يوم في شأن، إن أنعمت علينا بموالاة أوليائك المسؤول عنها عبادُك فإنك قلت وقولك الحق: {ثُمَّ لَتُسَْٔلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}»(4)(5).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «يا معاشر قراء القرآن اتقوا اللّه عزّ وجلّ فيما حملكم من كتابه فإني مسؤول وإنكم مسؤولون، إني مسؤول عن تبليغ الرسالة وأما أنتم فتسألون عما حُمِّلتم من كتاب اللّه وسنتي»(6).

خير الملوك

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير الملوك من أمات الجور وأحيى العدل»(7).

واجب الملوك

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ذد عن شرائع الدين وحط ثغور المسلمين وأحرز دينك وأمانتك بإنصافك من نفسك والعمل بالعدل في رعيتك»(8).

ص: 348


1- مناقب آل أبي طالب(عليه السلام) 1: 58.
2- جُلب الشعيرة: قشرتها، وأصل الجلب غطاء الرحل فتجوّز في إطلاقه على غطاء الحبة.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 224 من كلام له(عليه السلام) يتبرأ من الظلم.
4- سورة التكاثر، الآية: 8.
5- تهذيب الأحكام 3: 146.
6- الكافي 2: 606.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 357.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 371.

من هو الحاكم؟

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن السلطان لأمين اللّه في الأرض ومقيم العدل في البلاد والعباد ووزعته في الأرض»(1).

المال ليس للحكام

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن هذا المال ليس لي ولك وإنما هو للمسلمين وجَلْب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم شركتهم فيه، وإلّا فجنا أيديهم لا يكون لغير أفواههم»(2).

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(3).

ص: 349


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 242.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 253.
3- الكافي 3: 424.

الصلح مع اليهود استسلام لا سلام

من هم اليهود؟ ومن هي إسرائيل؟

اشارة

قال اللّه تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ}(1).

من الخطأ أن نتصور أن اليهود اليوم هم أنفسهم قوم موسى(عليه السلام)، ومن الخطأ أيضاً أن نتصور أن بني إسرائيل اليوم هم الذين ذكرهم اللّه تعالى في كتابه العزيز وفضلهم على العالمين - أي عالمي زمانهم - ، في قوله تعالى: {يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}(2).

أو هم أولئك الذين اختار اللّه تعالى منهم كثيراً من الأنبياء(عليهم السلام) أمثال موسى، وهارون، ويوسف، وإلياس، ويونس بن متى(عليهم السلام)، والذين جعل منهم الملوك كما قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا}(3).

أو أنهم المقصودين في الآية الكريمة حينما كانوا أبراراً وآتاهم اللّه ما لم يؤت أحداً في زمانهم، كما قال اللّه تعالى: {وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ}(4).

ولكن يهود اليوم وإسرائيل اليوم هم من سلالة أولئك العصاة الذي تكبروا في

ص: 350


1- سورة المائدة، الآية: 82.
2- سورة البقرة، الآية: 47.
3- سورة المائدة، الآية: 20.
4- سورة المائدة، الآية: 20.

الأرض فجعلهم اللّه عزّ وجلّ قردة وخنازير فقال سبحانه: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَوَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّٰغُوتَ}(1).

إذن يهود اليوم... يختلفون عن يهود الأمس الذين كانوا من أتباع موسى(عليه السلام)، وإسرائيل اليوم غير إسرائيل الأمس.

الأصل الجديد ليهود اليوم

ويعرف ذلك من هذه القطعة التاريخية التي تقول: ... ما بين القرنين السابع والعاشر الهجري، سيطر شعب مغولي هو شعب الخزر على الطرف الشرقي من أوروبا ما بين (الفولغا والقفقاس) وكان يواجه الدولة الإسلامية في الشرق والجنوب الشرقي والدولة المسيحية المحيطة به، وهو اختيار يحير بعض المؤرخين، كما انه لم يكن صدفة، (كما ذكروا)(2)، ويفسره البعض بأنه حرص شعب (الخزر) على الاحتفاظ بشخصيته الخاصة بين القوتين العالميتين حينذاك أي القوة الإسلامية والقوة المسيحية.

وفي القرن الثاني عشر - الثالث عشر انهارت دولة الخزر، وفروا في اتجاه الغرب إلى القرم وأوكرانيا وهنغاريا وبولندا وليتوانيا، يحملون معهم ديانتهم اليهودية التي عرفها العصر الحديث، وبذلك فان يهود العالم اليوم في غالبيتهم الساحقة ينحدرون من هذا الشعب المغولي خاصة، وإن اليهود الأصليين الذين ينتمون إلى القبائل الإسرائيلية (الإثنتي عشرة) في التاريخ القديم قد ضاعت آثارهم...»(3).

ص: 351


1- سور المائدة، الآية: 60.
2- انظر: المؤرخ المجري د. انطال بارثا.
3- من كتاب: القبيلة الثالثة عشر ل- أرثور كوستلر.

هذه الحقيقة التاريخية تثبت أن اليهود اليوم لا علاقة لهم تاريخياً ولا غيرهامن قريب أو بعيد بيهود الأمس، وإسرائيل اليوم لا علاقة لها ببني إسرائيل الأمس.

كما أنه لا علاقة لهم بفلسطين إطلاقاً.

مزاعم اليهود

الحقيقة التاريخية السالفة الذكر أطلق اليهود عليها اسم (الشتات) وجعلوها عنواناً لمظلوميتهم كما يدعون، حيث تزعم الصهيونية الآن أن القوى الظالمة أي الإسلامية والمسيحية فرضت عليهم الشتات، وحالت عبر التاريخ بينهم وبين عودتهم إلى (أرض الميعاد) لكن التاريخ ينسف هذه المزاعم وهذه الأسطورة... فالمعروف أنهم رحلوا طلباً للعيش قبل أن يطاردهم أحد، بل هاجروا قبل السبي البابلي، وبعد قيام مملكة إسرائيل التي ظهرت على أثر انقسام فلسطين إلى مملكتين مملكة يهوذا في القدس ومملكة إسرائيل في السامرة بعد وفاة نبي اللّه سليمان(عليه السلام) عام (935ق.م) وفي القرن السادس قبل الميلاد زال كل أثر فعلي لليهود في فلسطين إلّا من اندمج منهم بسكان البلاد الأصليين.

ثم اتسع (تشتت) اليهود في مراكز الاقتصاد والتجارة مثل: الإسكندرية وقرطاجة قبل تدمير الهيكل سنة (70م)... .

الطابع التجاري لديانة اليهود

اليهود أينما تجمّعوا فذلك يعني أنهم تجمّعوا حول نواة تجارية مالية، ولا يهمهم شيء حول ما إذا كانت تجارتهم هذه دنيئة أم لا، المهم عندهم جمع المال من التجارة والتحكم بالعصب الاقتصادي والسياسي للمنطقة، فلو جاء عشرة رجال من اليهود الفقراء إلى منطقة، لوجدناهم يتحكمون بالسوق في بضع سنوات وذلك عبر خطة عالمية تدعمهم، بغض النظر عن الوسائل التي يتبعونها

ص: 352

في ذلك.

فمثلاً في أوروبا كان الربا مقدماً على التجارة والأعمال لكسب الربح السريع. وقد استغله اليهود وكذلك الدعارة ويعود عملهم بالربا إلى أن الكنيسة الكاثوليكية حرمت الربا على النصارى. فبقي فراغ شغله اليهود، فأخذوا يتعاملون به بجشع.

اليهود في البلاد العربية

بدأ بعض اليهود بالنزوح إلى البلاد العربية من القرن السادس قبل الميلاد النفي البابلي، ثم جاء بعضهم بعد سقوط القدس القرن الأول الميلادي فنزحوا شرقاً نحو العراق وجنوباً نحو الجزيرة العربية وبالاتجاه الجنوبي الغربي نحو مصر، وتسربت أعداد منهم وامتزجت بأهل البلاد الأصليين واختلطت بهم اختلاطاً مباشراً في جوانب حياتهم وظروفها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كما شاركوهم في - اللغة والتقاليد وأسلوب التفكير - .

وقد ضاعت وحدتهم العنصرية رغم تقوقعهم ورغم تعصبهم العنصري لديانتهم، كما فقدوا لغتهم المشتركة (العبرية) فتكلموا بلغات مختلفة حسب الموقع الذي يعيشون فيه، وهذا يبين أنهم هجين من عدة قوميات ومن عدة لغات.

أما تواجدهم في فلسطين فسوف نتطرق إليه ضمن مراحل تاريخية متتالية.

فلسطين في التاريخ

ذكر بعض المؤرخين: أنه عرفت فلسطين بأرض (كنعان) قديماً (حوالي 2500ق.م)، وفي عام (2100ق.م) تعرضت لغزو القبائل الكريتية التي سكنت شواطئها بين يافا وغزة، فسميت تلك المناطق باسم (فلسطين) ثم صار هذا الاسم لكل المنطقة فيما بعد وبحكم موقعها تعرضت لحروب طاحنة وغزوات

ص: 353

وهجرات متوالية لكن كان معظم الغزاة عابرين إلّا من استقر فقد اندمج معالسكان وصار منهم.

خرجت قبائل العبرانيين من مصر متجهة إلى الشرق بقيادة النبي موسى(عليه السلام) في عام (1290ق.م) وتوقفت في صحراء (التيه) 40 عاماً.

وفي عام (1000ق.م) أخضع النبي داود(عليه السلام) (الكنعانيين اليبوسيين) في منطقة القدس وجعل أورشليم (القدس) عاصمة لهم.

وبعد وفاة ابنه النبي سليمان(عليه السلام) عام (635ق.م) انقسمت المملكة إلى مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل.

وفي القرن السادس ق.م تعرضت فلسطين لغزوات الآشوريين والكلدانيين وتبعثر اليهود على أثرها وفي عام (529ق.م) غزا الفرس فلسطين وألحقوها بدولتهم.

وفي عهدهم عادت قبيلة (يهوذا) مع بقايا الأسر البابلية إلى القدس، وأعادت الهيكل من جديد.

وفي عام (332 ق.م) غزا الإسكندر فلسطين.

وفي عام (90 ق.م) قدم العرب إلى الأنباط والحقوا فلسطين بعاصمتهم.

إلى أن احتلها الرومان في أوائل القرن الميلادي وظلت تتبع روماً أولاً وبيزنطة بعدها، إلى أن جاء الإسلام وحررها من أيديهم.

الفتح الإسلامي

نظراً لأهمية فلسطين دينياً عند جميع الأديان - ففيها أولى القبلتين عند المسلمين وكونها (أرض الميعاد) لدى اليهود وحيث سمّت أرضها التوراة (أرض السمن والعسل)، ولكونها وسط الحضارات والإمبراطوريات القديمة وكونها معبراً بين القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا وملتقى لها - كل ذلك جعل

ص: 354

أرضها مسرحاً تتجابه عليه مختلف القوى العالمية قديماً وحديثاً وتنجذب إليهاأمواج الهجرات المتتالية والمتصاعدة باستمرار من مختلف الديانات والقوميات، وبانتصار الإسلام في جزيرة العرب... انطلقت القوة الإسلامية الجديدة إلى جميع الاتجاهات لتحمل رسالة الإسلام والحضارة الإسلامية. وتوجهت قوات المسلمين شمالاً إلى فلسطين لتقضي على الجيوش الرومانية في معركتين حاسمتين معركة أجنادين بالقرب من القدس فدخلت القدس سنة (638م).

ثم معركة اليرموك التي أنهت الوجود الروماني في فلسطين وتم استيلاء المسلمين على كل فلسطين، وصارت جزءاً لا يتجزأ من البلاد الإسلامية بسقوط (قيصارية) سنة (460م) لينتهي فصل الختام للإمبراطورية الرومانية في أرض الإسلام، ليبدأ بعدها فصل جديد بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية (الصليبية).

المملكة الصليبية

في القرن الحادي عشر الميلادي تحركت الجيوش الأوروبية (الصليبية) بعوامل الطموح ودوافع الطمع والحماس الديني نحو المشرق تحت شعار (تحرير الأراضي المقدسة) وكان هدفهم القضاء على المسلمين، وبالفعل فقد اغرقوا القدس بعد احتلالها في بحر من الدماء وقتلوا من فيها من المسلمين وحتى المسيحيين واليهود الشرقيين وأقاموا مملكة باسم (مملكة القدس) وبعد ثمانين سنة من سقوط القدس بأيديهم استطاع المسلمون مرة أخرى استردادها من أيديهم (1187م) بعد أن ألحقوا بهم هزيمة نكراء.

ونتيجة لانتصارات المسلمين، انحسر نفوذ الصليبيين إلى المنطقة الساحلية من فلسطين وأصبحت (عكا) هي عاصمتهم الجديدة.

وبعد ذلك نشبت معارك طويلة ومريرة طوال السنتين استطاع بعدها (مماليك

ص: 355

مصر) من المسلمين تحرير (عكا) وطرد الصليبيين وإزالة آخر أثر لهم من الأراضي الإسلامية سنة (1291م).

الحكم الإسلامي في فلسطين

بعودة الحكم الإسلامي إلى فلسطين سمح لليهود بالهجرة إليها والإقامة فيها بعد أن منعتهم من ذلك الحكومات الصليبية وقضت على وجودهم في فلسطين قضاءً تاماً.

وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها اليهود للاضطهاد من قبل الأوربيين (الصليبيين) فقد طردوا من أوروبا الغربية وخلت من اليهود تقريباً، وقد أطلق على اضطهاد اليهود الجديد هذا، اسم جديد متأثر بنظرية الأجناس وتفوق العرق (اللاسامية) وقد عاشت الطوائف اليهودية في أوروبا في القرون الوسطى في نظام خاص(1) وهو النظام الذي يحصر تواجد اليهود فيه في أماكن معينة. وحين انتصر الإفرنج على المسلمين في الأندلس أشاعوا محاكم التفتيش، وكان على اليهود كما كان على المسلمين أن يختاروا بين البقاء والتكثلك أو الفرار والتشرد، ولو قارنا ذلك بوضعهم في ظل المسلمين لوجدنا الفرق شاسعاً جداً.

فقد تميزت معاملة المسلمين لليهود بالتسامح في حين كانت أوروبا تغلق عليهم كل شيء،وقد تمكن الأقلية اليهودية من المساهمة بحرية في الحضارة الإنسانية في ظل الحكم الإسلامي. وتُذكر الأندلس دائماً كمثل على المركز الممتاز الذي تمتع به اليهود في العالم الإسلامي.

التدفق الجديد لليهود

في زمن الدولة العثمانية ومنذ بداية القرن السابع تدفق اليهود القادمين من

ص: 356


1- يسمى (الغتيوات).

أوربا (الشرقية)(1) ويعرفون باسم خاص(2) يميزهم عن بقية اليهود في العالم على فلسطين، وزادت الهجرة مع ضعف الدولة العثمانية وازدياد نفوذ الدول الكبرى وتصاعد الاضطهاد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

ومع نمو الحركة الصهيونية توجهت هذه الهجرة إلى (فلسطين) واستمرت بالازدياد المطرد إلى يومنا هذا.

الحركة الصهيونية

بدأت هذه الحركة منذ القرن السابع عشر تقريباً إلّا أن الاجتماع الأول (للحركة الصهيونية في العالم) كان في عام (1897م) في مدينة بازل في سويسرا بزعامة (مؤسس الصهيونية)(3)، ويمكن تلخيص ما جاء في المؤتمر بما يلي:

(إن هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بضمن القانون العام) وحدد عدة خطوات لتحقيق هذا الهدف يمكن حصرها فيما يلي:

1- تشجيع استيطان العمال الزراعيين والصناعيين اليهود في فلسطين.

2- تنظم اليهود والربط بينهم من خلال مؤسسات تتفق مع القوانين الدولية والمحلية لكل بلد.

3- تقوية الشعور والوعي القومي لدى اليهود وتعزيزهما.

4- اتخاذ خطوات تمهيدية للحصول على موافقة الدول حيث يكون ضرورياً لتحقيق هدف الصهيونية.

المراوغة من أساليب اليهود

وتمكن اليهود بوسائلهم وأساليبهم اللاإنسانية والملتوية التي استخدموها

ص: 357


1- بولندا، ليتوانيا، روسيا.
2- اشكنازيم.
3- ثيودور هرتزل، كاتب مجري يهودي أسس الحركة الصهيونية.

لتحقيق مآربهم في بناء دولتهم (اللاشرعية).

ومن أساليبهم المراوغة التي اتبعها أحد زعماؤهم(1) هو انتزاع وعد (بلفور)(2) من الحكومة البريطانية عام (1917م) الذي أعطى اليهود ما لا يملكون، وتجاوزت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارات كان أهمها قرار التقسيم الذي يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية ووضع القدس تحت الإدارة الدولية.

ومما يذكر أن زعيمهم هذا قام بألفي مقابلة للوصول إلى تصريح (بلفور) وزير خارجية بريطانية، وقد كيّف نقاشه بحذف شديد مع كل سياسي يقابله وبحسب الحالة الخاصة لذلك السياسي.

اليهود بؤرة الفساد والكساد

وكما ذكرنا فلليهود طرق كثيرة وأساليب خاصة وملتوية لتحقيق غاياتهم في امتصاص دماء الآخرين من غير اليهود، أما مع بعضهم فيحرّمون هذه الأشياء. فمثلاً يجب التعامل بالربا مع غير اليهودي ويحرّم مع اليهودي، ولما لأساليبهم الخاصة من أثر في جمع المال والثراء السريع فإنهم يحاولون بشتى السبل تحطيم اقتصاد البلاد التي يعيشون فيها بيد، بعد الإمساك بزمام الاقتصاد بيد أخرى. وحينما كنا في العراق شاهدنا اليهود قبل عام (1948م) عندما كانوا في سوق الشورجة ببغداد وقد احتكروا جميع المواد الاستهلاكية والغذائية في أيديهم وخلقوا كثيراً من الأزمات الاقتصادية، وتلاعبوا بالأسعار مما سبّب شحّة

ص: 358


1- حاييم وايزمن.
2- آرثر جيمس، سياسي إنكليزي وزير الخارجية (1917م)، أصدر وعد بلفور بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين.

من جانب وكساد من جانب آخر، وبالتالي جمعوا كل تلك الأموال وحطّموا اقتصاد العراق ثم نقلوا كل أرصدتهم معهم إلى إسرائيل.

ويذكر أن في طهران أيضاً زمن الشاه كان سوق طهران الكبير بيد جماعة من اليهود، ولما كان هؤلاء يتحكّمون بالسوق على أهوائهم، والشاه قد منحهم الحرية الكاملة، لذلك فانهم أخذوا يتحكمون بكل شيء في السوق من عرض وطلب وتسعير واحتكار وتلاعب إلى غير ذلك من الأساليب الخبيثة والملتوية.

واليهود بالاضافة إلى ذلك فانهم يقتلون الأخلاق الحسنة في المجتمع، وان أول أعمالهم التي يقومون بها هي نشر الخمور والزنا والبغاء فقد أسسوا في طهران (14000) محل لبيع الخمور وذلك على علم من الشاه.

هذا هو المعروف والمتعارف عليه من اليهود، فإنهم لم ينشروا الخمور والزنا والفحشاء إلّا من أجل افساد المجتمع؛ حيث إن اليهودي لا يستطيع أن يعيش ويتسلط على غيره إلّا بعد أن يفسد ما حوله؛ لكي يخلق جواً ينسجم ويتواءم مع رغباته ويسهل له الحصول على مبتغاه.

فهم بؤرة الفساد في كل الدنيا ونجد أنهم من وراء مراكز الدعارة وربما يجعلون مقرّات للزنا والدعارة تحت اسم آخر مثل (مراكز الخدمات الإنسانية) ويتسترون تحت هذه الأسماء لتحقيق أغراضهم، وهكذا كان الحال في العراق وإيران ومصر وغيرها من البلدان الإسلامية.

اليهود وإثارة الفتن

من أعمال اليهود المعروفة - بالإضافة لما سبق - إثارة الفتن والخلافات والنزاعات وتشجيع التطاحن بين أبناء المسلمين والنتيجة طبعاً ستكون لصالح اليهود، فقد استخدموا أساليب كثيرة في الدسّ بين طيّات الكتب والطعن بالمعتقدات، وإثارة النعرات الطائفية والعرقية بين المسلمين بأساليب جديدة

ص: 359

أدت إلى تدمير البلاد وضياع الكثير من الثروات ونهباً عن طريق تأسيس عصابات ذيلية ترتبط بهم مطليّة بصبغة الأحزاب السياسية العلمانية.

ولو بحثنا وراء جذور الحزب الشيوعي والحزب البعثي في العراق لوجدنا أن المؤسسين هم من اليهود، وذلك عن طريق التنسيق مع بعض السفارات الغربية. ومن هذا ترى أن قادة حزب البعث في العراق لم يقوموا بأي عمل ضد اليهود، مع أنهم قاتلوا واعتدوا على اقرب الدول لهم وبكل شراسة.

لعبتهم مع الملوك

قبل (3500) عام كان حاكم إيران (كورش بادشاه)، وقد سمى الشاه المقبور ابنه (كورش) تيمناً بذلك الاسم كي يعيد ذكرى ذلك الحاكم الظالم على الرغم من أن إيران بلد إسلامي.

ويذكر المترجمون لحياة كورش الملك: أن زوجته ولدت عشرة أطفال وكانت جميلة وثرية ومن عائلة معروفة، كما كان له رئيس وزراء حكيم مفكر، وقد أدار شؤون البلاد بجدارة وسعى لتعمير البلاد.

إلّا أنه وبعد بضع سنوات حصل اليهود على فرصة لدخول بلاط الملك وأقاموا معه علاقة وطيدة، وبعد ذلك استدرجوه باسم النصيحة وطلب الخير له وطلبوا منه أن يتقبل شابة حسناء من اليهود (لخدمة القصر الملكي)(1).

وبعد مدة وقعت رغبة (كورش) على تلك الفتاة وتزوجها... وبعد خطة محكمة وضعوها، قامت هذه الشابة بافساد العائلة، وتشكيك الزوج بزوجته ورئيس وزرائه، وجن جنون الزوج الملك، فأمسك بسيفه، وقطع رؤوس كل أفرادعائلته، ورئيس وزرائه، ولم يعرف هذا الزوج البائس عن الخطة المحكمة التي

ص: 360


1- ومما يذكر أن منزل بهلوي أيضاً كان يحوي على رجال يهود لخدمة وإدارة شؤون المنزل.

وضعها هؤلاء اليهود ونفذتها هذه الفتاة اللعوب وهكذا نجح اليهود بتطبيق الخطة على كورش مثلما نجحوا بتطبيقها على غيره من الملوك والأمراء في أماكن كثيرة من العالم.

إسرائيل صنيعة الاستعمار

ثياب الاستعمار كثيرة فكلّما بلي ثوب لبس غيره، وبعد الحرب العالمية الثانية ظهر للدول الاستعمارية أن لعبتهم هذه سوف لن تستمر، وباتت لعبة قديمة ورأوا أن الإسلام لو تحرك بحرية بين هذه البلدان المستعمرة فانه سيشكل قوة ضاربة خطيرة تعصف بهم وبمصلحتهم في هذه المنطقة الحيوية من العالم وفي مناطق أخرى كثيرة، لذلك فان إسرائيل (وهي اللعبة الجديدة والثوب الجديد) للاستعمار ستكون كفيلة بتحديد حرية تحرك الدول الإسلامية في هذه المنطقة لذا فيجب أن (تصنع) في هذا المكان الحساس، وولدت بعد محاولات بذلتها الصهيونية العالمية واليهودية مستفيدة من كل الظروف العالمية، ولكن ذلك صادف رغبة ملحة وهوى من نفوس الدول الاستعمارية تحقيقاً لمصالحهم.

إذن إسرائيل صنيعتهم والخادم المنقذ لمصالحهم. وبالفعل فقد حققت لهم إسرائيل كل مصالحهم وخرج الاستعمار من الباب ليدخل من الشباك كما يقولون.

إسرائيل وعروض السلام!!

إسرائيل وهي عصابة العنف والإرهاب لا تترك مناسبة إلّا وتطرح فيها عروضها للسلام!! وسلامها الذي تنشده هو أن يقوم على أساس الظلم والغصب وذلك بالاحتفاظ بالأراضي المغصوبة ورفض عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم. ومن دون أن تبدي تنازلاً لأصحابها الشرعيين فهي غير مستعدة لأن تقدم أيةتنازلات.

ص: 361

وكثيراً ما تظاهروا بهذه العروض الكاذبة، فقد تظاهر زعماؤهم بالسلام قبل العدوان الثلاثي على مصر عام (1956م)، وتظاهروا بذلك أيضاً قبل حرب (1967م) فكأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين عروضهم هذه وبين توقيت اعتداءاتهم.

وإسرائيل ترفض أن تبحث موضوع احتلال القدس وتصر على احتلالها، وقد رفضت أغلب المعاهدات(1) والقرارات(2)

التي تخوض في هذا الموضوع سراً فيما تظهر الالتزام بالتنفيذ علناً.

العرض الخياني

مما تقدم نعرف أن (إسرائيل) و(اليهود) عصابات إرهابية ولا علاقة لها (بعالم الأمس) كما علم أن الصهيونية والاستعمار وجهان لعملة واحدة، وعلمنا أيضاً غاية الصهيونية ولدت في قلب الأمة الإسلامية وليس في نيتها الرحيل، وحقدها على الإسلام (حقد مقدس)! كما يسمّيه اليهود.

إذن هل هناك وجه للمصالحة معها... وكيف ستمد يد المصالحة لها؟!! فهل يجوز لك أن تصالح غاصب بيتك وتسميه صديقاً!!

وماذا نسمي زيارة السادات(3) لإسرائيل هل هي صلح أم سلام أم استسلام، أم (تطبيع علاقات)، كما يحلو للسادات أن يسمّيها بذلك... أم أنها الخيانة؟!!

زيارة وتجارة

هناك من بارك ومن صفق لهذه الزيارة المخزية وتسلّم الأجور مقدماً فيداخل مصر وخارجها. وتاجر بدينه وشرف كلمته وصوته من أجل حفنة دراهم!!

ص: 362


1- منها معاهدة سايكس بيكو.
2- قرار الأمم المتحدة عام (1967م).
3- أنور السادات الرئيس المصري.

وهناك من وقف وقفة المتفرج بانتظار ما تفرزه هذه الزيارة سلباً وإيجاباً.

أي ان هناك من يتمنى النجاح للزيارة وهو صامت، وهناك من يتمنى فشلها أيضاً، كما أن هناك من رفض الزيارة رفضاً فيه نوع من الصمود والتحدي، وآخر رفضها رفضاً مطلقاً (أي مطلق الرفض).

وبمثل هذه المواقف أيضاً خرجت قمة بغداد حيث إن الزعماء العرب جميعاً (اتفقوا على أن لا يتفقوا) على عكس قادة اليهود الذي (اتفقوا على أن يتفقوا) وسنوضح ذلك متعرضين إلى مواقف كلا الطرفين.

مواقف الأنظمة العربية

يمكن تلخيصها بالمجاميع الثلاث التالية التي برزت في قمة بغداد.

الأولى: دول القبول: الدول التي قبلت الزيارة وهناك قبول مشروط وقبول غير مشروط.

الثانية: دول الصمت: هناك من صمت متمنياً نجاح الزيارة وهناك من صمت متمنياً الفشل لها.

الثالثة: دول الرفض: الدول التي رفضت الزيارة وفضّلت الصمود والتحدي وهو رفض رباعي وهناك رفض منفرد له رأي آخر، وأخرجوا مصر من قمة بغداد وقاطعوها وأخرجوها ليلتحقوا بها فيما بعد!

مواقف العدو الصهيوني

وهنا نجد أن الرأي العام للعدو والنظام طرفان لعصا واحدة ذلك لأن (الكنيست) يضم عدة مجاميع لها برامجها وسياساتها الخاصة بها مثل.

1- مجموعة المعراج(1).

ص: 363


1- وتضم (الماباي / المابام / راني).

2- مجموعة الليكود(1).

3- الأحزاب الدينية والشيوعية والتكتلات الصغيرة الأخرى، فالرأي العام تمثله هذه المجاميع، وهذه المجاميع تمثل الكنيست والكنيست يمثل النظام، إذن الرأي العام يمثل النظام.

والمجاميع المذكورة جميعها متفقة على رأي واحد يتلخص في ثلاث نقاط:

1- رفض الانسحاب إلى خطوط (1967م).

2- رفض قيام دولة فلسطينية على أي بقعة من التراب الفلسطيني.

3- رفض التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية تحت أي ظرف.

فإذا كان هذا موقف العدو فعلى أي أساس تتم المصالحة؟!! أليس ذلك خيانة واستسلاماً واعترافاً بإسرائيل دون تنازلها عن أي شيء، والجدير بالذكر أن الزعيم الصهيوني (بيغن) صرح عند قدوم السادات وقال: إننا لم نطلب من أحد الاعتراف بوجودنا... إننا نريد اعترافاً مشتركاً للطرفين في السيادة والأمن.

فهل هناك ذل واستسلام أكثر من هذا؟!!

وتمسكنوا ليتمكنوا

وهكذا سعى مفكرو اليهود بشتى الطرق وبأخبث الوسائل لأن يستعيدوا قوتهم ومجدهم وتراثهم حسبما يدّعون وعملوا من دون كلل حتى حصلوا على كل ما يبتغون، وتمكنوا من بناء دويلتهم الصهيونية في قلب المنطقة الإسلامية، بالإرهاب والقوة وسفك الدماء، وحققوا ما كانوا يصبون إليه بالأمس بهمة شرسة،وبدعم مالي واسع وتخطيط دقيق... وإعلام مكثف حول مظلومية اليهود الكاذبة ومسكنتهم إلى أن تمكنوا جيداً وأصبح زمام المبادرة بأيديهم، وبات الكثير ممن

ص: 364


1- وتضم (الأحرار / حيروت المركز).

يدعي الثورية أو القومية من الأنظمة العربية يتقرب إليهم سراً وعلانية.

وهذا الإعلام المكثّف إزاء مسكنتهم هذه، له دور كبير في بناء دويلتهم الغاصبة.

ففي سنة واحدة تطبع إسرائيل وتوزع (15) مليون كتاب، ولديها ما يقارب الألف صحيفة خارج فلسطين. وهذا يعني أن صحفها ومجلاتها تفوق عدد صحف ومجلات الدول العربية قاطبة بما فيهما لبنان ومصر المشهورتان بالطباعة والنشر.

أنظر! من أين لهم هذا؟ ومن الذي يوحي لهم بذلك وهم الكفار بينما يتراجع بعض المسلمين؟

والجواب هو قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ}(1) لضرب الإسلام والمسلمين، بينما يتراجع بعض المسلمين لأنهم ابتعدوا عن نهج الإسلام وسنة رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام) وانشغلوا بالتنازع فيما بينهم ولذلك فشلوا وقد قال تعالى: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(2).

مهازل بسبب البعد عن الإسلام

قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(3).

فلو أن بعض المسلمين أخلصوا النية للّه تعالى وجاهدوا في سبيله لما أضلّواالسبيل وما انتصرت عليهم دويلة صغيرة لا تتجاوز نفوسها الثلاثة ملايين بل (2.229.000) نسمة فقط في حين أن المسلمين العرب وحدهم يزيدون على

ص: 365


1- سورة الأنعام، الآية: 121.
2- سورة الأنفال، الآية: 46.
3- سورة العنكبوت، الآية: 69.

المائة مليون(1)!!

أليست هذه هي المهزلة بعينها؟ وإلّا فما معنى ذلك؟

ويجب هنا أن نقول للشعب المسلم: إن النصر من عند اللّه فانه لا يكتب ذلك إلّا للذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه، ويطبقون كافة القوانين الإلهية من الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة والحريات و... فقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصَّٰدِقُونَ}(2).

إذن البعد عن الإسلام هو سبب هذه المهازل، وإلّا فما معنى حرب (1948م) ثم النكسة عام (1967م) في الخامس من حزيران؟

وما معنى مباركة قرار مجلس الأمن القديم (242) عام (1968م) من قبل (12) دولة عربية؟ ثم تأتي مجزرة أيلول الأسود عام (1970م) في الأردن، حيث سفكت دماء الفلسطينيين على يد أحد الملوك العرب(3) ... وبعدها تأتي حرب (1973م) خوفاً على التيجان وحفاظاً على ماء الوجه (لكن الولادة أجهضت) ثم استخدم النفط كسلاح للمعركة ويفشل. ثم يتحول سلاح الرفض إلى شبه تأييد ثم تأييد ثم حوار غير مباشر ثم مباشر ثم زيارات سرية للقدس ثم علنية تطوّع لها السادات بحجة تطبيع العلاقات والحوار المباشر، وقد سبقه أقرانه إلى الخنوعوالذل والاستسلام من أمثال بعض الحكام ومن سار في ركبهم في الخفاء، وهكذا يستمر الحال نحو كثير من المهازل.

ص: 366


1- الإحصاءات الأخيرة تقول ان عدد العرب بلغ ثلاثمائة مليون، أما اليهود في إسرائيل فلا يتجاوزن خمسة ملايين.
2- سورة الحجرات، الآية: 15.
3- الملك حسين بن طلال ملك الأردن.

وتكون النتيجة الذلة والخسران. يقول تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1).

الإسلام هو العلاج

المهازل السابقة سوف لن يوقفها إلّا الإسلام والعمل به، وعند ذلك ستسقط كل الشعارات المزيفة، ذكر أحد القادة الفلسطينيين: إن علاجنا ليس بالقومية ولا بالشيوعية ولا بالبعثية. وهذا هو الكلام الصحيح فان الحل هو الإسلام ولا توجد في الإسلام قومية، لا فارسية ولا عربية ولا أفغانية ولا هندية ولا تركية، وان القوميات في الإسلام محكوم عليها بالزوال؛ بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2).

ونحن المسلمون لسنا مرتبطين بالقومية ولا بالشيوعية، بل ارتباطنا هو بالإسلام وبقوانين التشريع الإلهي وكفى.

ولو تركنا الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة وتمسكنا بالقومية فهذا يعني أننا فقدنا قوانين الإسلام وما يوجب عزّتنا وقدرتنا، وأن ذلك يعني أيضاً أننا ضيعنا الأمة الإسلامية وكل ثقافتها. إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في أيام حكومته المباركة عمل على تقوية وحدة الأمة الإسلامية وإزالة القوميات كلها، وان بلال الحبشي وهو من سود أفريقيا، جعله النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) مؤذناً له مع أن بلال لم يكن يتقن تلفظ العربية، وقد ذكر التاريخ أن بلالاً لم يكن قادراً على تلفظ الشين وكان يلفظ السين محلها ويقول: أسهد أن محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) رسول اللّه. حتى أن بعض المسلمين اعترض على ذلك، إلّا أن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إن سين بلال عند اللّه شين»(3)

ص: 367


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- عدة الداعي: 27.

وذلك لكي يثبت أن لا قومية في الإسلام واحتفظ بلال بعمله هذا مؤذناً حتى آخر عمره.

إن إحدى شعارات القوميين هي:

سلامٌ على كفرٍ يوّحد بيننا *** وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ

إن المسلمين إذا ارتبطوا بالشرق أو الغرب وبالقومية والشيوعية فإنهم لا يفقدون الآخرة فقط بل يفقدون الدنيا كذلك. أما لو تمسكنا بالإسلام فلن يحدث أن يأتي العرب وهم أكثر من (100 مليون) ليصالحوا بل يستسلموا لإسرائيل التي تعدادها (2.229.000) نسمة(1).

نعم، لو تمسكنا بالإسلام لما كان يحدث أن يذهب العرب وهم الأكثر عدداً وعدة... ليتصالحوا مع إسرائيل...

ولو تمسكنا بالإسلام... لاستطعنا مواجهة كل القوى الكافرة. ليس إسرائيل فقط. وإنما الشرق والغرب معاً؛ لأن الإسلام بما يمتلكه من قوة إيمانية ومعنوية عالية... يستطيع حسم الكثير من الخلافات، ووضع حد للمشاكل والصعوبات التي تعاني منها الأمة، كما أن الإسلام هو القوة القاهرة التي تتكفل الوقوف بوجه كل المستكبرين والطغاة...

وما إسرائيل إلّا (نصل) للأنظمة الطاغوتية، وكل قوى التجبر العالمي موجّه إلى صدر الإسلام والمسلمين، وسننتصر بعون اللّه، وستنجلي هذه الغمة في الغد القريب إن شاء اللّه إذا اهتم المسلمون وتضامنوا وعملوا جادين في سبيل ذلك.

وعلينا بالدعاء أيضاً مبتهلين ومتضرعين إلى الباري عزّ وجلّ طالبين منه

ص: 368


1- سبق قبل صفحات الإحصاءات الجديدة.

المدد لنصرنا على كل هذه الدوائر التي أحاطت بالإسلام.

«اللّهم إنا نشكو إليك فقد نبينا صلواتك عليه وآله وغيبة ولينا وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصل على محمد وآله، وأعنا على ذلك بفتح منك تعجله، وبضرّ تكشفه، ونصر تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها، برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

من هدي القرآن الحكيم

النهي عن موالاة ومودة الكافرين

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}(2).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَٰفِرِينَ}(4).

وقال سبحانه: {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}(5).

وقال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(6).

ص: 369


1- إقبال الأعمال 1: 60.
2- سورة المائدة، الآية: 51.
3- سورة الممتحنة، الآية: 1.
4- سورة القصص، الآية: 86.
5- سورة آل عمران، الآية: 28.
6- سورة الفتح، الآية: 29.

اليهود والفساد

قال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ ... كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(1).

وقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ فِي الْكِتَٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}(2).

وقال سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٖ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٖ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ}(4).

ذم المكر والسعي في الفتنة

قال تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ}(5).

وقال سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَكَرُواْ مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَعَٰقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}(7).

ص: 370


1- سورة المائدة، الآية: 64.
2- سورة الإسراء، الآية: 4.
3- سورة المائدة، الآية: 82.
4- سورة البقرة، الآية: 96.
5- سورة غافر، الآية: 25.
6- سورة الأنفال، الآية: 30.
7- سورة النمل، الآية: 50-51.

من هدي السنّة المطهّرة

النهي عن موالاة أعداء اللّه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إني بريء من كل مسلم نزل مع مشرك في دار الحرب»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أتى ذمياً وتواضع له ليصيب من دنياه شيئاً ذهب ثلثا دينه»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «من والى أعداء اللّه فقد عادى أولياء اللّه، ومن عادى أولياء اللّه فقد عادى اللّه تبارك وتعالى، وحق على اللّه عزّ وجلّ أن يدخله في نار جهنم»(3).

الاستسلام والغدر والخيانة

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يجيئ كل غادر بإمام يوم القيامة مائلاً شدقه حتى يدخل النار»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «جانبوا الخيانة فإنها مجانبة الإسلام»(5).

وقال(عليه السلام): «ألا وان الغدر والفجور والخيانة في النار»(6).

وقال(عليه السلام): «رأس النفاق الخيانة»(7).

ص: 371


1- الكافي 5: 43.
2- كنز الفوائد 1: 280.
3- صفات الشيعة: 7.
4- الكافي 2: 338.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 337.
6- الكافي 2: 338.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 376.

معرفة العدو ومعاملته

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ألا وان اعقل الناس، عبدٌ عرف ربه فأطاعه، وعرف عدوّه فعصاه»(1).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لا تغترن بمجاملة العدو فإنه كالماء وإن أطيل إسخانه بالنار لم يمنع من إطفائها»(2).

العودة إلى حكم الإسلام

عن الإمام الحسين(عليه السلام) قال: «لو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات اللّه، كانت أمور اللّه عليكم ترد وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم وأسلمتم أمور اللّه في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم»(3).

ص: 372


1- أعلام الدين: 337.
2- عيون الحكم والمواعظ: 519.
3- بحار الأنوار 97: 80.

الطريق إلى الغيب

الخوف والرجاء والحب

اشارة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... فإن تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم»(1).

وفي كلام آخر له(عليه السلام) انه قال: «صفتان لا يقبل اللّه سبحانه الأعمال إلّا بهما: التقى والإخلاص»(2).

وهناك كثير من الآيات القرآنية التي تكشف لنا عن هذا المعنى وتحثّنا عليه، ومن هنا يتبين أن سبب قبول الأعمال عند اللّه هو التقوى، حيث يقول عزّ من قائل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(3) فعندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة والدرجة الرفيعة فإنه سوف ينظر بنور اللّه ، وقد جاء عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه عزّ وجلّ»(4).

فلنخض في هذا البحر العميق، وفي تلك الأمواج المتلاطمة، ولو شيئاً يسيراً

ص: 373


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبه على إحاطة علم اللّه بالجزئيات ثم يحث على التقوى ويبين فضل الإسلام.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 423
3- سورة المائدة، الآية: 27.
4- الكافي 1: 218.

من باب التذكير، وبذلك أمرنا ربنا بقوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

التقرب إلى اللّه

إن بعض الناس في هذه الدنيا يتقربون إلى اللّه سبحانه وتعالى باحدى طرقٍ ثلاث: وهي إما الخوف - خوفاً من النار - ، أو الرجاء - طمعاً في الجنة - ، أو الحب - حب اللّه - ، وهذه طرق ثلاث للتقرب إلى اللّه سبحانه، وبعضهم قال: هي قسمة عقلية لا استقرائية، كما في لغة أهل المنطق. ولعل في هذه الطرق الثلاث إشارة إلى أن ترك الدنيا وعدم الانخداع بمغرياتها من أهم الممهدات لنيل القربة عند اللّه سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {وَفِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(2) فعلى المؤمن أن يتنبه إلى حقيقة الدنيا وهي أنها متاع الغرور لمن اغتر بها ولم يعمل لآخرته.

قال سعيد بن جبير: متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، ومن اشتغل بطلبها فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منه، وقيل معناه: والعمل للحياة الدنيا متاع الغرور، وإنه كهذه الأشياء التي مثل بها في الزوال والفناء(3).

فالدنيا إذاً زائلة، ومتاع قليل، وتعقبها دار البقاء وهي الآخرة، فيها ينال الإنسان غاية أعماله وآماله. فعلى المؤمن أن يجعل الدنيا ممراً إلى الآخرة، متزوداً منها بالتقوى والإيمان. وفي وصية لقمان الحكيم لابنه قال: «... يا بني، إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه ، وحشوها الإيمان،

ص: 374


1- سورة الذاريات، الآية: 55.
2- سورة الحديد، الآية: 20.
3- تفسير مجمع البيان 9: 396.

وشراعها التوكل، وقيمها العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصَّبر...»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله»(2).

اختيار الإنسان

إن طباع الناس ومواقفهم مختلفة في قبال هذه الطرق الثلاث - الخوف والرجاء والحب - ، فبعضهم - وهو الغالب من الناس - يغلب على أنفسهم الخوف، حيث إنهم كلّما فكّروا في ما أوعد اللّه الظالمين، والذين يرتكبون المعاصي والذنوب من أنواع العذاب الذي أعدّ لهم زادهم ذلك في أنفسهم خوفاً وارتعاداً، وبذلك لجؤوا إلى عبادته تعالى خوفاً من عذابه.

أما الفئة الثانية من الناس فيغلب على أنفسهم الرجاء، حيث إنهم كلّما فكروا في ما وعد اللّه للذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة، زاد رجاؤهم وبالغوا في التقوى والتزموا بالأعمال الصالحة طمعاً في المغفرة والجنة.

والطائفة الثالثة - حيث هذا الكلام المختصر يدور حولهم - وهم الذين لا يعبدون اللّه خوفاً من عقابه، ولا طمعاً في جنته، وإنما يعبدونه عزّ وجلّ لأنه أهل للعبادة، وهم الذي محضوا الإيمان محضاً، والذين هم ينظرون بنور اللّه ، وهم القليل النادر من الخلق؛ ذلك لأنهم عرفوا اللّه حق معرفته بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فهم يعبدون اللّه ولا يريدون في شيء من أعمالهم - فعلاً أو تركاً - إلّا وجهه، ولا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوّفهم، ولا إلى ثواب يرجيهم، وإن خافوا

ص: 375


1- الكافي 1: 16.
2- الكافي 2: 136.

عذابه ورجوا رحمته، والى هذا يشير مولى المتقين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) حيث يقول: «إلهي، ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «لا يمحض رجل الإيمان باللّه حتى يكون اللّه أحب إليه من نفسه وأبيه وأمه وولده وأهله وماله من الناس كلهم»(2).

المرتبة الرفيعة

فعندما يصل الإنسان إلى هذه الدرجة الرفيعة من التقوى تنجذب نفسه إلى ساحة العزة والعظمة، ويغشى قلبه من المحبة الالهية ما ينسيه نفسه وكل شيء، وتمحى عن باطنه كل الأهواء والميول النفسانية التي تتعلق بالإنسان في هذه الدنيا، دون أن يشعر، ويبدل فؤاده قلباً سليماً ليس فيه إلّا اللّه عزّ اسمه، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(3)؛ ولذلك يرى أهل هذا الطريق أن الطريقين الآخرين - طريق العبادة خوفاً وطريق العبادة طمعاً - لا يمثلان العبادة الخالصة المتكاملة؛ فإن الذي يعبد اللّه تعالى خوفاً من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه. كما أن من يعبده طمعاً في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة، ولعل بعضهم لو تمكّن من الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده تبارك وتعالى لم يعبده. وإنما كان أهل الحب - وهو الطريق الثالث - أولياء اللّه لتنزّههم عن الأهواء النفسانية والميول المادية.

إذن فلا يتم الإخلاص في العبادة إلّا عن طريق الحب للّه وفي اللّه وباللّه،

ص: 376


1- بحار الأنوار 41: 14.
2- فلاح السائل: 101.
3- سورة البقرة، الآية: 165.

وهذا من أوثق عرى الإيمان(1).

وفي رواية عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى اللّه، فهو ممن كمل إيمانه»(2).

ويروى أن النبي عيسى(عليه السلام) مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم، فقال لهم: «ما الذي بلغ بكم ما أرى»؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال: «حق على اللّه أن يؤمن الخائف»، ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً، فقال: «ما الذي بلغ بكم ما أرى؟» قالوا: الشوق إلى الجنة، فقال: «حق على اللّه أن يعطيكم ما ترجون»، ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً، كأن على وجوههم المرايا من النور، فقال: «ما الذي بلغ بكم ما أرى؟» فقالوا: نحب اللّه عزّ وجلّ، فقال: «أنتم المقرّبون أنتم المقربون»(3). وفي بعض الروايات أنه(عليه السلام) قال للطائفتين الأوليين: مخلوقاً خفتم، ومخلوقاً رجوتم، وقال للطائفة الثالثة: أنتم أولياء اللّه حقاً، معكم أمرت أن أقيم.

كيف يورث هذا الحب الإخلاص؟

ورب سائل يسأل: كيف يورث هذا الحب الإخلاص؟

في مقام الجواب عن هذا السؤال نقول:

عبادته تعالى خوفاً من العذاب تبعث الإنسان على الابتعاد عن المعاصي وملذات الدنيا للنجاة في الآخرة، وعبادته تعالى طمعاً في الثواب تبعث الإنسانإلى العمل الصالح لنيل نعمة الآخرة والجنة، والطريقان بكل جوانبهما لا

ص: 377


1- كما قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أوثق عرى الإيمان أن تحب في اللّه، وتبغض في اللّه وتعطي في اللّه وتمنع في اللّه» الكافي 2: 125.
2- الكافي 2: 124.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 224.

يحققان الإخلاص للّه بما هو ومن حيث هو، وإن احتمل إنهما يدعوان الإخلاص للدين لا لربّ الدين.

وأما محبة اللّه سبحانه وتعالى فإنها تطهّر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا وزينتها، وهذا يكشف عنه أمير المؤمنين (صلوات اللّه وسلامه عليه) في إحدى خطبه، المعروفة بالشقشقية، حيث يقول فيها(عليه السلام):

«فما راعني إلّا والنّاس كعرف الضّبع(1)، إليّ ينثالون(2)، عليّ من كلّ جانبٍ، حتّى لقد وطئ الحسنان وشقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم(3).

فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفةٌ، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا اللّه سبحانه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(4) بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها، أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، لو لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود النّاصر، وما أخذ اللّه على العلماء ألا يقارّوا على كظّة ظالمٍ(5)، ولا سغب(6) مظلومٍ، لألقيت حبلها على غاربها(7)، ولسقيت آخرهابكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنزٍ»(8)(9).

ص: 378


1- عُرف: ما كثر على عنقها من الشعر، وهو ثخين، يضرب به المثل في اكثرة والإزدحام.
2- ينثالون: يتتابعون مزدحمين.
3- شُقّ عطفاه: خدش جانباه من الاصطكاك، رَبيضة الغنم: الطائفة الرابضة من الغنم.
4- سورة القصص، الآية: 83.
5- ألّا يُقارّوا: ألّا يوافقوا مقرّين، الكِظة: ما يعتري الآكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق.
6- السَّغَب: شدة الجوع، والمراد منه هضم حقوقه.
7- الغارب: الكاهل.
8- أي ضرطة عنز. لسان العرب ج7 ص353 مادة (عفط).
9- نهج البلاغة، خطبة: 3 من خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.

وهذا الإنسان يحب من الأعمال ما يحبه اللّه، ويبغض منها ما يبغضه اللّه، ويرضى برضا اللّه ويغضب بغضب اللّه، وهو النور الذي يضيء له طريق العمل، وهؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى، إذ لا يحول بينهم وبين ربهم شيء، مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم، أو تهواه النفس أو يهمز به الشيطان، فإن كل ما يتراءى لهم ليس إلّا آية كاشفة عن الحق المتعال لا يحول بينه وبينهم حجاب، فيفيض عليهم ربهم (علم اليقين)، ويكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذه الأعين في هذا العالم المادّي بعدما يرفع الستر في ما بينهم وبينه، كما يشير قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَٰبَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَٰبٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}(1).

وإجمالاً: إن مثل هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على اللّه، المفوضون إليه أمورهم، الراضون بقضائه، المسلِّمون لأمره، إذ لا يرون منه إلّا خيراً ولا يشاهدون إلّا جميلاً، فهم مخلصون للّه في أخلاقهم كما كانوا مخلصين في أعمالهم، هذا معنى إخلاص العبد دينه للّه تعالى.

النظر بنور اللّه

اشارة

وبعد أن يتوصل العبد إلى التقوى الحقيقية التي تقربه من اللّه تعالى، فإن هذا المؤمن ينظر بنور اللّه، وهذا ما يسمى بالتوسّم أو التفرس، وهو الانتقال من رؤية الأشياء الظاهر إلى الباطن وكشفها على حقيقة حالها، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَلَأيَٰتٖ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}(2)، وكما أشرنا سابقاً لحديث رسول اللّه الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه عزّ وجلّ»(3). وفراسة المؤمن أو التفرس: هو

ص: 379


1- سورة المطففين، الآية: 18-21.
2- سورة الحجر، الآية: 75.
3- الكافي 1: 218.

التثبت والنظر وإعمال الحدس الصائب في الأمور(1)؛

لذا فإن المؤمن يتدبر ويتفكر في الدلائل والبراهين من الكتاب والسنة والأدلة العقلية، ويختار من العقائد والأعمال ما هو أحسنها وأوفقها للأدلة، وفي بعض الكتب: «اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور اللّه» يقال بمعنيين، أحدهما: ما دلّ ظاهر هذا الحديث عليه، وهو ما يوقعه اللّه تعالى في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس. والثاني: نوع يُتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق وللرياضيات الروحية، فتعرف به أحوال الناس... ورجل فارس بالأمر: أي عالم به بصير(2).

نعم، المؤمن ينظر بنور اللّه، والتفرس من خواص المؤمن الذي قذف اللّه تعالى في قلبه أنواراً فأدرك بها المعاني، ولا يكون ذلك إلّا لمن غضّ بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمّر باطنه بصفاء السريرة ومراقبة اللّه تعالى باتباع الكتاب والسنة، ولم يدخل معدته الحرام، وخرس لسانه من الكذب والغيبة ولغو القول.

والروايات التي وردت عن أئمتنا الأطهار(عليهم السلام) كثيرة في هذا المجال، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إذا قام قائم آل محمد(عليه السلام) حكم بين الناس بحكم داود لا يحتاج إلى بينة، يلهمه اللّه تعالى فيحكم بعلمه، ويخبر كل قوم بما استنبطوه،ويعرف وليّه من عدوّه بالتوسم، قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٖ مُّقِيمٍ}»(3)(4).

ص: 380


1- انظر: لسان العرب 6: 160 مادة: فرس.
2- انظر: النهاية في غريب الحديث 3: 428 مادة: فرس.
3- سورة الحجر، الآية: 75-76.
4- الإرشاد 2: 386.

وفي رواية أخرى عن محمد بن حرب الهلالي أمير المدينة يقول: سألت جعفر بن محمد(عليهما السلام) فقلت له: يا بن رسول اللّه، في نفسي مسألة أريد أن أسألك عنها، فقال: «إن شئت أخبرتك بمسألتك قبل أن تسألني، وإن شئت فاسأل».

قال: قلت له: يا بن رسول اللّه، وبأي شيء تعرف ما في نفسي قبل سؤالي عنه؟

فقال: «بالتوسم والتفرس، أما سمعت قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} وقول رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه»(1).

وكل ذلك لامتلاكهم ذلك الصفاء الخالص الذي لا يخالطه شيء، ولأنهم محضوا الإيمان محضاً وسلكوا الطريق الثالث الذي أشرنا إليه سابقاً - حب اللّه عزّ وجلّ - .

ولننقل لكم بعض الشواهد والمصاديق على ذلك:

قصة خطيب

ذكر أحد الخطباء حادثة وقعت له، حيث ذكر أنه كان يذهب للقراءة في مكان ناء وفي مجلس خاص، وكان من المقرر أن يستمر المجلس لمدة أربعين يوماً، ولم يكن أحد يعرف بهذا الأمر إطلاقاً، حتى زوجته وأولاده، وكان موضوع المجلس مكرّساً ضد أحد الأشخاص والنيل منه، وفي اليوم السابع بينما كانالمجلس منعقداً بعد صلاة الصبح - وكانوا قد قرروا قطع تيار الهاتف يومياً من بداية المجلس حتى نهايته، كي لا يسبب ذلك انزعاجاً للخطيب أو المستمعين - ، وبينما كان الخطيب مستمراً في حديثه رن جرس الهاتف! فتأثر الخطيب كثيراً لنسيان قطع الهاتف، وبعد أن رفعوا سماعة الهاتف كان المتكلم هو أحد أبناء

ص: 381


1- معاني الأخبار: 350.

المراجع، وقد كلفه والده بأن يقول لهذا الخطيب أن يكف عن هذا الحديث، ويترك إقامة تلك المجالس!!

فمن أخبر المرجع بأن الخطيب يريد التحدث حول فلان؟ ومن أخبره بمكان المجلس أين؟ ومن أخبره بالخطيب؟ ... ألم يكن ذلك سوى صفاء باطنه وفراسته.

إن صفاء الباطن يعد أمراً واقعياً في هذه الدنيا، وقد ابتعد عنه كثير من المسلمين، واندفعوا بقوة نحو الحاجات المادية في هذا العالم المادي، في حين إن على الإنسان أن يكون على مستوى من المعنويات، وأن لا يأخذ أي شيء بنظر الاعتبار سوى رضا اللّه تعالى، وليس معنى هذا أن لا نأكل الطعام أو ننزوي عن الحياة، بل المعنى: أن تكون لنا رابطة قوية باللّه وأن تكون لنا معنويات عالية حتى نحصل على صفاء الباطن وصفوا السريرة.

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ يقول: إني لست كل كلام الحكيم أتقبل، إنما أتقبل هواه وهمه، فإن كان هواه وهمه في رضاي جعلت همه تقديساً وتسبيحاً»(1).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «ما أخلص العبد الإيمان باللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - أوقال: ما أجمل عبد ذكر اللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - إلّا زهده اللّه عزّ وجلّ في الدنيا وبصره داءها ودواءها فأثبت الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(2) فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلاً، أو مفترياً على اللّه عزّ وجلّ وعلى

ص: 382


1- الكافي 8: 166.
2- سورة الأعراف، الآية: 152.

رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وعلى أهل بيته(عليهم السلام) إلّا ذليلاً»(1).

صفاء القلب عند السيد محمد تقي الطباطبائي(رحمه الله)

السيد محمد تقي الطباطبائي هو أحد العلماء الأتقياء ممن عاصرناه، وكان(رحمه الله) يقيم الصلاة جماعة في صحن الإمام الحسين(عليه السلام) وذات مرة كان حاضراً في مدرسة (حسن خان) في كربلاء في ليلة من ليالي شهر رمضان، وكان يقرأ في كل ليلة مائة مرة (سورة الدخان)، حيث ذكر في الروايات أن من قرأها في كل ليلة من ليالي شهر رمضان مائة مرة مع سورة الإخلاص فإنه يرى الغرائب والعجائب(2).

وفي إحدى الليالي وبينما كان السيد منشغلاً بالإحياء والذكر انتبه إلى سقف الغرفة التي كان يجلس فيها، فإذا به يرتفع عن موقعه وأساسه، وإذا بالملائكة تنزل من السماء إلى الأرض.وقد روي عنهم(عليهم السلام) أن هكذا أفراد عاشوا في الدنيا بأرواح معلقة بالملأ الأعلى(3)، فإنه لو لا صفاء الباطن الذي تحلّى به السيد(رحمه الله) ومحضه للإيمان لم تنكشف له تلك المغيبات التي رآها بنور اللّه عزّ وجلّ،وهذه الكرامات قد خص اللّه بها أولياءه.

قصة الشيخ دُخني!

ذكر أحد المؤمنين الثقاة بأنه كان يوماً في مسجد الكوفة، وحينما أراد الوضوء نزل إلى سرداب المسجد - المعروف عند الناس ب(سفينة نوح(عليه السلام)) - فشاهد هناك شخصاً ذا هيبة كان يتوضأ، يقول ذلك الشخص: فقلت له: اسمح لي أن

ص: 383


1- الكافي 2: 16.
2- انظر: وسائل الشيعة: ج10 ص363 ب34، وتأويل الآيات: ص555، وثواب الأعمال: ص114 ثواب من قرأ سورة الدخان.
3- انظر: الكافي: ج1 ص335 باب نادر في حالة الغيبة ح3، والخصال: ج1 ص186 باب الثلاثة ح257.

أتوضأ لكي أتمكن من الالتحاق بصلاة الجماعة بإمامة الشيخ عبد اللّه، وكان الشيخ عبد اللّه يقيم الصلاة جماعة في مسجد الكوفة كل يوم، فقال لي: أتعني الصلاة بإمامة الشيخ دُخني؟ فقلت له: لا بإمامة الشيخ عبد اللّه، وبعدها توضأت والتحقت بالصلاة، ثم - بعد أن أتم الجميع صلاتهم - ذهبت إلى الشيخ عبد اللّه، وسألته عما إذا كان لقبه الدخني أم لا؟

فأجابني: لا، وقال: من أخبرك بذلك؟ فحدثته عمّا جرى، فقال: عجيب! إنني الآن حينما كنت في الصلاة كنت أفكر في الدُّخْن(1) وشدة نعومته، ولربما كان الذي تحدث معك هو ولي العصر (أرواحنا فداه) أو هو من أولياء اللّه الصالحين! وقد تأثر الشيخ عبد اللّه كثيراً بسبب ذلك.

لذا علينا أن نجدَّ لنتمكن من تقوية صفاء قلوبنا، وكذلك نلقّن هذا الصفاء للناس؛ وذلك لأن كثيراً من الناس هم اليوم قد ابتعدوا عن المعنويات واتجهوا صوب الماديات فنسيهم اللّه سبحانه وصاروا هدفاً لهجوم المستعمرين قال تعالى: {نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}(2).

قوة الروح عند الميرزا علي آغا الزاهد

نقل أحد طلبة العلوم الدينية فقال: كنا في مسجد الكوفة وأردنا أن نذهب من هناك إلى النجف، وفي مسجد الكوفة رأيت الميرزا (علي آغا) وهو من الزهّاد المعروفين، وما أن سلمت عليه حتى أخذ بيدي إلى زاوية من زوايا المسجد وبدأ بنصيحتي، وفي هذه الأثناء رأيت أفعى زحفت نحونا، فقلت للميرزا علي آغا بفزع وخوف: حية حية، فأشار الميرزا إليها بيده وأمرها بالوقوف فوقفت، فبقيت

ص: 384


1- الدُّخْن: حَبٌّ معروف، حبُّ الجَاوَرْس، أو حبّ أصغر منه أملس جدّاً، انظر: تاج العروس 18: 190، مادة (دخن).
2- سورة التوبة، الآية: 67.

متعجباً لما رأيت من أمر الميرزا، وبعد أن افترقنا ذهبت إلى تلك الحية وكنت خائفاً حذراً فوجدت أنها قد يبست في مكانها وأصبحت دون روح!

فهل هذا يعزى إلى شيء آخر غير قوة الروح وصفاء الباطن عند الشيخ الميرزا علي آغا(رحمه الله)؟

قصة أخرى

ذكر أحد طلاب الشيخ الميرزا علي آغا يقول: في أحد الأيام طلبت من الشيخ الميرزا أن يعلمني طريقة أحصل بها على صفاء القلب؛ وبذلك أستطيع الحصول على شرف زيارة الإمام صاحب الزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، فأجابني الميرزا قائلاً: أنت غير مؤهّل للقاء صاحب الزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف ولكن لإصرارك الشديد فإنك تستطيع أن تذهب أربعين مرة في كل ليلة أربعاء إلى مسجد السهلة وتؤدي كذا أعمال - كناية عن أوراد وأذكار معينة - فذهبت، وعملت بما علمني حتى إذا صارت ليلة الأربعاء الأخيرة، سمعت صوتاً مهيباً من خلفي: يا فلان تهيأ للقاء الإمام صاحب الزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، وتكرر النداء ثلاث مرات، ولكني من شدة الهيبة والرهبة أغمي علي من الليل ولم أفق حتى بزوغ الشمس من اليوم الثاني، ولم أحصل على أية نتيجة، وعند عودتي أخبرت الأستاذ الميرزا بما حصل، فقال لي: ألم أقل لك أنك لا تملك الأهلية للقاء الإمام عجل اللّه تعالی فرجه الشريف!

فهل هذا الإخبار قبل أربعين أسبوعاً يدل على شيء غير علوّ روح الميرزا(رحمه الله)، وما وصل إليه من المكاشفة والإخبار عن الغيب!؟

مكاشفة في عالم البرزخ

حدثني اثنان من الزهاد - وهما يعيشان الآن في مدينة قم المقدسة - أن أحدهما بقي في مسجد السهلة سنة كاملة، والآخر بقي هناك سبع سنوات، كما

ص: 385

يقول أحد هذين الزاهدين: عندما جئت إلى إيران، رأيت بعيني كلما مررت على مدينة (شاه عبد العظيم) - حيث قبر بهلوي هناك - ألسنة النار تخرج من شعلة كبيرة كأنها التنور، كما رأيت البهلوي - رضا خان(1) - وآخر معه بين لحظة وأخرى يحاولان الخروج من التنور حتى إذا أوشكا الخروج منها أرجعا ثانية قسراً إلى التنور... .

ولم تكن تلك رؤيا في عالم المنام بل هي حقيقة من عالم اليقظة، إذ أن المؤمن ينظر بنور اللّه، وقد سألته عن الشخص الثاني الذي كان مع بهلوي؟ فقال: لا أعرف اسمه إلّا أنه كان أقصر قامة من بهلوي وعلى رقبته صليب!

شهر رمضان فرصة لتقوية الروح

اشارة

والآن أيها الأخوة، هذا شهر رمضان، وهو وقت مناسب لتقوية الروح الإنسانية حتى تحصل على صفائها، وهو أفضل فرصة تستثمر لترويض الإنسان نفسه؛ لأجل أن يرى صغر وحقارة الدنيا في عينه، ويكون دائم الانتباه، ويلاحظ فقط رضا اللّه تعالى؛ لأن الدنيا أشبه بالجسر الذي يتوجب على الإنسان الاستفادة منها أثناء عبوره، فالدنيا ليست دار بقاء بل هي وسيلة لحياة الإنسان الباقية والأبدية، وكما قال النبي عيسى(عليه السلام) للحواريين: «إنما الدنيا قنطرةفاعبروها ولا تعمروها»(2).

وسئل النبي نوح(عليه السلام) - الذي عاش ما يقارب (2500) عام - عن الدنيا فقال(عليه السلام): «كأني دخلت من باب وخرجت من أخرى»(3).

ص: 386


1- رضا بهلوي شاه إيران.
2- الخصال 1: 65.
3- انظر: تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: 1: 131، وفيه: إن جبرئيل(عليه السلام) قال لنوح(عليه السلام): «يا أطول الأنبياء عمراً، كيف وجدت الدنيا؟ قال(عليه السلام): كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر».

ومن الأشياء التي يجب أن يُذكّر بها الناس: الروايات والآيات التي تخص العقاب والثواب(1)، وهي كثيرة جداً في هذا المجال، لما لها من فعل مؤثر ومشوق، ولها القدرة على أن تقوم بدور كبير في تعادل وتوازن المجتمع الإسلامي.

الميرزا صادق التبريزي تنبّأ بوفاته!

طلب تلامذة الشيخ (الميرزا صادق التبريزي) من أستاذهم يوماً أن يرافقهم في سفرة إلى همدان، لزيارة قبر الشيخ (محمد البهاري)، فقال لهم أستاذهم (التبريزي): إذهبوا أنتم للزيارة، أما أنا فسوف أزوره ليلة الجمعة، وما أن حان وقت ليلة الجمعة حتى ارتحل الميرزا صادق التبريزي من دار الدنيا إلى الآخرة، ولمّا سمع طلابه خبر وفاته عرفوا معنى كلامه وأنه كان موعد لقاء روحه بروح الشيخ البهاري رحمة اللّه عليهما.

لذا، فلو صلح الباطن - الذي هو في مقدمة كل الأمور - لجعل اللّه لجميع المشاكل الدنيوية والأخروية فرجاً ومخرجاً.

من هم المتقون؟

إن صفاء الباطن والوصول إلى التقوى الحقيقية التي أرادها اللّه سبحانه وتعالى، هي من الرياضات النفسية التي لا تحصل إلّا بالعناء والجهد الكبيرين، وأظهر مصداق لتلك الحقيقة هو ما ذكره أمير المؤمنين(عليه السلام) عندما سأله أحد أصحابه وهو همام. فقد روي أنّ صاحباً لأمير المؤمنين(عليه السلام) يقال له همّامٌ، كان رجلاً عابداً، فقال له: يا أمير المؤمنين، صف لي المُتّقين حتّى كأنّي أنظر إليهم؟ فتثاقل(عليه السلام) عن جوابه، ثُمّ قال:«يا همّام اتّق اللّه وأحسن، ف{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ

ص: 387


1- للإفادة أكثر مطالعة كتاب ثواب الأعمال وعقاب الأعمال للشيخ الصدوق(رحمه الله) وما أشبه.

وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}»(1). فلم يقنع همّامٌ بهذا القول حتى عزم عليه، فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النّبيّ(صلی الله عليه وآله وسلم) ثُمّ قال(عليه السلام):

«... فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصّواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التّواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم، نزّلت أنفسهم منهم في البلاء كالّتي نزّلت في الرّخاء، ولولا الأجل الّذي كتب اللّه عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عينٍ؛ شوقاً إلى الثّواب وخوفاً من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنّار كمن قد رآها، فهم فيها معذّبون، قلوبهم محزونةٌ، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفةٌ، وحاجاتهم خفيفةٌ، وأنفسهم عفيفةٌ، صبروا أيّاماً قصيرةً أعقبتهم راحةً طويلةً، تجارةٌ مربحةٌ، يسّرها لهم ربّهم، أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها، وأسَرَتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا اللّيل، فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً؛ يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآيةٍ فيها تشويقٌ ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم. وإذا مرّوا بآيةٍ فيهاتخويفٌ، أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم. وأمّا النّهار، فحلماء علماء أبرارٌ أتقياء، قد براهم الخوف بري القِداح(2)، ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرضٍ، ويقول لقد خولطوا، ولقد خالطهم أمرٌ عظيمٌ، لا يرضون من

ص: 388


1- سورة النحل، الآية: 128.
2- القِداح: وهو السهم قبل أن يراش، وبراه: نحقه، أي رقق الخوف أجسامهم كما ترقق السهام بالنَحْت.

أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير؛ فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكّي أحدٌ منهم خاف ممّا يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بي منّي بنفسي، اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ممّا يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون. فمن علامة أحدهم أنّك ترى له قوّةً في دينٍ، وحزماً في لينٍ، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علمٍ، وعلماً في حلمٍ، وقصداً في غنًى، وخشوعاً في عبادة، وتجمّلاً في فاقةٍ، وصبراً في شدّةٍ، وطلباً في حلالٍ، ونشاطاً في هدًى، وتحرّجاً عن طمعٍ. يعمل الأعمال الصّالحة وهو على وجلٍ، يمسي وهمّه الشّكر، ويصبح وهمّه الذّكر، يبيت حذراً ويصبح فرحاً، حذراً لما حذّر من الغفلة، وفرحاً بما أصاب من الفضل والرّحمة. إن استصعبت عليه نفسه في ما تكره، لم يعطها سؤلها في ما تحبّ، قرّة عينه في ما لايزول، وزهادته في ما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريباً أمله، قليلا زلله، خاشعاً قلبه، قانعةً نفسه، منزوراً أكله، سهلاً أمره، حريزاً دينه، ميّتةً شهوته، مكظوماً غيظه. الخير منه مأمولٌ، والشّرّ منه مأمونٌ. إن كان في الغافلين كتب في الذّاكرين، وإن كان في الذّاكرين لم يكتب من الغافلين. يعفو عمّن ظلمه،ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، بعيداً فحشه، ليّناً قوله، غائباً منكره، حاضراً معروفه، مقبلاً خيره، مدبراً شرّه، في الزّلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرّخاء شكورٌ لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم في من يحبّ. يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكّر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضارّ بالجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحقّ. إن صمت لم يغمّه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر، حتّى يكون اللّه هو الّذي ينتقم له. نفسه منه في عناءٍ، والنّاس منه في راحةٍ، أتعب

ص: 389

نفسه لآخرته، وأراح النّاس من نفسه، بعده عمّن تباعد عنه زهدٌ ونزاهةٌ، ودنوّه ممّن دنا منه لينٌ ورحمةٌ، ليس تباعده بكبرٍ وعظمة، ولا دنوّه بمكرٍ وخديعةٍ»(1).

وهذه الكمالات، بدورها هي التي توصلنا إلى ذلك الصفاء - صفاء الباطن - ، والتي من خلالها يمكن أن يهتدي الإنسان بنور اللّه سبحانه وتعالى.

«إلهي أنت الغني بذاتك أن يصل إليك النفع منك، فكيف لا تكون غنياً عني، إلهي إنّ القضاء والقدر يمنيني [يميتني]، وإن الهوى بوثائق الشهوة أسرني، فكن أنت النصير لي، حتى تنصرني وتبصِّرَني، واغنني بفضلك حتى أستغني بك عن طلبي [طلبتي]، أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحّدوك [ووجدوك]، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك، حتى لم يحبوا سواك، ولم يلجأوا إلى غيرك...»(2).

من هدي القرآن الحكيم

ما يورث التقوى

وقال سبحانه: {يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(5).

ص: 390


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 193، ومن خطبة له(عليه السلام) يصف فيها المتقين.
2- الإقبال: 349.
3- سورة الأنبياء، الآية: 20.
4- سورة الأنعام، الآية: 153.
5- سورة البقرة، الآية: 3.

وقال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}(1).

العبادة التصديقية

وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّٰغُوتَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ فَاعْبُدُوهُ}(5).

أحباب اللّه

وقال عزّ وجلّ: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(7).وقال سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(8).

نور التقوى

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}(9).

ص: 391


1- سورة الفرقان، الآية: 58.
2- سورة الفاتحة، الآية: 5.
3- سورة النحل، الآية: 36.
4- سورة يونس، الآية: 61.
5- سورة الأنعام، الآية: 102.
6- سورة آل عمران، الآية: 76.
7- سورة البقرة، الآية: 195.
8- سورة آل عمران، الآية: 146.
9- سورة الحديد، الآية: 28.

وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم}(1).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}(2).

وقال سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا}(3).

ثمار التقوى

قال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}(4).

وقال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَئَِّاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(6).

وقال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَٰذِهِالدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

سمات المتقين

من وصايا النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر(رحمه الله): «يا أبا ذر، لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه ومن

ص: 392


1- سورة الحديد، الآية: 12.
2- سورة الأنفال، الآية: 29.
3- سورة الأنعام، الآية: 122.
4- سورة الطلاق، الآية: 4.
5- سورة الطلاق، الآية: 5.
6- سورة الطلاق، الآية: 2-3.
7- سورة النحل، الآية: 30.

أين مشربه، ومن أين ملبسه أمن حل أم من حرام؟»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «التقوى ثمرة الدين وأمارة اليقين»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها: صدق الحديث وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وقلة الفخر والبخل، وصلة الأرحام، ورحمة الضعفاء، وقلة المؤاتاة للنساء(3)، وبذل المعروف، وحسن الخلق، وسعة الحلم، واتباع العلم في ما يقرب إلى اللّه عزّ وجلّ...»(4).

العبادة التصديقية

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «... يا أبا ذر، أعبد اللّه كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، وأعلم، أن أول عبادته المعرفة به، بأنه الأول قبل كل شيء فلا شيء قبله، والفرد فلا ثاني معه... ثم الإيمان بي، والإقرار بأن اللّه أرسلني إلى كافة الناسبشيراً ونذيراً {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(5)، ثم حب أهل بيتي الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(6).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها، وأحبها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرغ لها، فهولا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسرٍ»(7).

ص: 393


1- مكارم الأخلاق: 468.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 91.
3- المواتاة: حسن المطاوعة والموافقة.
4- الخصال 2: 483.
5- سورة الأحزاب، الآية: 46.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 526.
7- الكافي 2: 83.

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «من عمل بما افترض اللّه عليه فهو من أعبد الناس»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن العباد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حباً له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة»(2).

اكتساب الحب الإلهي

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أحب عباد اللّه إلى اللّه جلّ جلاله أنفعهم لعباده، وأقومهم بحقه الذين يحبب إليهم المعروف وفعاله»(3).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الخلق عيال اللّه، فأحب الخلق إلى اللّه من نفع عيال اللّه، وأدخل على أهل بيتٍ سروراً»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أحب العباد إلى اللّه عزّ وجلّ: رجل صدوق فيحديثه، محافظ على صلاته وما افترض اللّه عليه، مع أداء الأمانة»(5).

ص: 394


1- الكافي 2: 84.
2- الكافي 2: 84.
3- بحار الأنوار 74: 152.
4- الكافي 2: 164.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 295.

الطموح في حياة الإنسان

الطموح لغة

اشارة

قال في كتاب العين: الطمح لغة بمعنى الارتفاع، فطَمَّح الفرس رأسه أي رفعه، وكذلك طمح يديه.

وقال الشاعر:

طمحت رؤوسكم لتبلغ عزّنا *** إن الذليل بأن يضام جدير(1)

وفي اللغة أيضاً: رجل طماح: أي بعيد النظر.

وطمح ببصره إلى الشيء: ارتفع.

وطمح الفرس يطمح طِماحاً وطُموحاً: رفع يديه، يقال للفرس إذا رفع يديه: قد طمّح تطميحاً.

وكل مرتفع مفرط في تكبر: طامح وذلك لارتفاعه.

والطمّاح: الكبر والفخر لارتفاع صاحبه.

وبحر طموح الموج: مرتفعه.

وبئر طموح الماء: مرتفعة الجُمة(2).

وفي مجمع البحرين(3): أطمح فلان بصره: رفعه. وكل مرتفع طامح، ومنه:

ص: 395


1- كتاب العين 3: 176 مادة: طمح.
2- انظر: لسان العرب 3: 534 مادة: طمح.
3- انظر: مجمع البحرين 2: 393 مادة (طمح).

«الحمد للّه ذي الأفق الطامح»(1)، ومنه: «طمحت عيناه إلى السماء»(2):

أي ارتفعتا، وفي الحديث: «إياك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك»(3)،

أي ترفعه إلى من هو أعلى منك في الغنى، وفي الدعاء: «طموح الآمال قد خابت إلّا لديك»(4) والمعنى الآمال الطامحة، أي المرتفعة قد خابت إلّا آمالنا العظيمة عندك.

من هنا تبين أن الطموح هو الارتفاع، وهو مطلوب للإنسان المسلم، فإن «الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه»(5) كما ورد في الحديث الشريف.

آية الطموح إلى المعالي

قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}(6)، إن هذه الآية الكريمة تعلّم الإنسان كيف يكون في الحياة ذا طموح كبيرة؛ وذلك بأن يكون طموحاً إلى الآخرة الباقية، وإلى نعيمها الدائم، ودرجاتها العالية وهو في الدنيا، وأن لا يكون ممن يقتصر همّه على الدنيا الزائلة الفانية، وعلى عمرها القصير، ونعيمها المشوب بالكدر.

ومن المعلوم أن المراد ليس ترك الدنيا مطلقاً، بل قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ} يعني: في ضمن إرادته للدنيا، لكن الدنيا ليست هي الهدف، وكما قال سبحانه في آية أخرى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْأخِرَةِ حَسَنَةً

ص: 396


1- الكافي 5: 369.
2- انظر: بحار الأنوار 15: 411.
3- وسائل الشيعة 21: 530.
4- مصباح المتهجد 1: 156.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 334.
6- سورة الإسراء، الآية: 19.

وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(1) أي: يعمل للآخرة كما يعمل للدنيا، ولم يأت بما ينافي الآخرة، وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(2) بعد أن يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَىٰكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأخِرَةَ}(3).

إذن الآية الكريمة تدل على ضرورة الاهتمام بالآخرة، وأن يطمح الإنسان دائماً نحو الأفضل، قال سبحانه: {وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا}(4) أي: للآخرة، واللام هنا للاختصاص، أي: بأن يعمل العمل خاصاً بالآخرة فهدفه الأخير في أعماله كلها الآخرة، وأن يسعى السعي المناسب لها، واللائق بشأنها، ذلك بأن يعمل الأعمال الصالحة - وهي أعم من أداء الواجبات وترك المحرّمات - خالصاً للّه تعالى ومن أجل الآخرة فقط.

وقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي: مؤمن باللّه سبحانه وتعالى، والإيمان يكون ملازماً للاعتقاد بالتوحيد وصفات الباري عزّ وجلّ كالعدل وغيره، والإذعان بالنبوة والإمامة والمعاد، فإن من لا يعترف بإحدى الأصول المذكورة لا يعده اللّه سبحانه وتعالى مؤمناً، وكذلك العمل الصالح، فإنه بدون الإيمان لا يفيد، وقد تظافرت الآيات على تعيين كون المستفيد هو المؤمن، ومنها قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْأخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}(5).

وقوله تعالى: {فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} أي: عند اللّه تعالى، وشكر اللّه

ص: 397


1- سورة البقرة، الآية: 201.
2- سورة القصص، الآية: 77.
3- سورة القصص، الآية: 77.
4- سورة الإسراء، الآية: 19.
5- سورة البقرة، الآية: 3-4.

سبحانه لهم هو إعطاؤهم جزاءهم، وإكرامهم على عملهم، والتفضل عليهم بالثواب والنعم، وهو في معنى قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}(1)(2).

لذا فإن السعي إن كان للآخرة سعد الإنسان في الدنيا أيضاً، وفاز بالجنة والرضوان في الآخرة.

أما إذا سعي للدنيا فقط ونسي الآخرة، فإنه سيحرم منهما معاً، فإن الدنيا لا تكون سعيدة إلّا بالإيمان، كما ثبت في محله.

الإنسان والطاقات المودعة فيه

إن الطاقات التي أودعها اللّه تعالى في الإنسان، ليستعين بها في حياته كثيرة منها طاقات أربع:

1- الطاقة الذهنية.

2- الطاقة البدنية.

3- الطاقة الزمانية.

4- الطاقة المالية.

ويرتبط بكل طاقة من هذه الطاقات الأربع، سلسلة من الأمور الكونية!

فالطاقة الذهنية: تدير الحركات الفكرية والجوانحية للإنسان، فإنها - مثلاً - يرتبط بها محور العلم والصفات النفسية، وذلك من غير فرق بين أنواع العلوم وأقسام الصفات النفسية، فالنحو والمنطق، وعلوم القرآن الحكيم وما يرتبط بالسنة الشريفة، والحساب والهندسة، والكيمياء والفيزياء، وعلم الفلك وغيرها

ص: 398


1- سورة النجم، الآية: 39-41.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 297.

من أنواع العلوم، وكذلك العدالة والأمانة، والشجاعة والشهامة، والكرم والسخاء، والإباء والغيرة، وغيرها من أقسام الصفات النفسية، كلها تتجمع عند الطاقة الذهنية.

والطاقة البدنية: تدير الحركات الحسيّة والجوارحية للإنسان، من لامسة وذائقة، وشامة وسامعة، وباصرة وغيرها، فالحركة والسكون، والتجارة والزراعة، وتعبيد الطرق وبناء المساكن، وتأسيس الشركات وإحداث المصانع، وحفر المناجم وإخراج المعادن؛ كلّها تنبثق عن الطاقة البدنية.

والطاقة الزمانية: تمد الطاقتين الأوليتين بالوجود، فكل علم وصفة نفسية، وكل حركة وسكون مادي، فإنه يتدرّج في مراقي الكمال حتى يصل إلى ذروته المنشودة، ولولا هذه الطاقة لم يتم للكون عماد.

والطاقة المالية: تنظم مختلف نشاطات الحياة، فلولاها لم توزع العلوم توزيعاً منظماً، ولم تقسم الحاجات تقسيماً متوازناً.

وهناك طاقات أخر مودعة في الإنسان لها شأنها ومكانتها وتأثيراتها في حياته الخاصة والعامة.

الطاقات الإنسانية في ظل الإسلام

وهذه الطاقات الإنسانية الأربع وغيرها تتمتع في ظل الإسلام - على أثر الحرية الإسلامية - بازدهار ونمو لم يشهدها التاريخ من قبل، ولا يجدها الإنسان في دنيا اليوم، لا في البلاد الأجنبية التي لا تدين بالإسلام، ولا في البلاد الإسلامية التي ترزح تحت نير الاستعمار وهي بعيدة كل البعد عن التعاليم الإسلامية السمحة السهلة.

فعلى الإنسان أن يستغل هذه الطاقات الإنسانية، الاستغلال اللازم والمناسب لها؛ فلا يركن للنوم والكسل، بل يسعى بطموح وأمل نحو الأفضل، فعن الإمام

ص: 399

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال - في ذم النوم والكسل - : «من دام كسله خاب أمله»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «للكسلان ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إني لأبغض الرجل أو أبغض للرجل يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إياك والكسل والضجر، فإن أبي بذلك كان يوصيني، وبذلك كان يوصيه أبوه، وكذلك في صلاة الليل، إنك إذا كسلت لم تؤد إلى اللّه حقه، وإن ضجرت لم تؤد إلى أحدً حقاً...»(4).

فعلى الإنسان الذي يطمح إلى حياة فضلى في الدنيا، وفوز بالجنة والغفران في الآخرة، أن يجد ويسعى، ويجنّد كل طاقاته: الذهنية، والبدنية، والزمانية، والمالية، بصورة معتدلة ومتوازنة، في خدمة الهدف المنشود، ويستعين بها على تحقيق كماله، وتوفير سعادته في الدنيا والآخرة.

أهل البيت(عليهم السلام) والطاقات الإنسانية

إن أفضل مدرسة تربوية تعلمنا طريقة الاعتدال في مزاولة الطاقات الأربع وغيرها من الطاقات، وتدربنّا على كيفية التوازن في الحياة هي: مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)؛ إذ أن من خصائص المعصومين(عليهم السلام) التي خصّهم اللّه تعالى بها هي:كونهم أسوة الناس في كل خير وفضيلة، واعتدال وكمال، كما قال سبحانه: {لَّقَدْ

ص: 400


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 586.
2- تحف العقول: 10.
3- الكافي 5: 85.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 182.

كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(1) وهم(عليهم السلام) قد أخذوا على عاتقهم تقوية معنويات الناس، وتهذيب النفوس، وتعليمهم الاعتدال في الحياة اليومية؛ وقد بينوا للناس كثيراً من الأحاديث والروايات الشريفة التي تنير لهم الدرب في مختلف أنحاء الحياة المادية والمعنوية، مضافاً إلى سيرتهم الطيبة الكريمة، المفعمة بالمنطقية والتعقل، والاتزّان والاعتدال.

ولعل هذا هو المعنى الذي يفهم من زيارة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) الواردة عن الإمام السجاد(عليه السلام) والتي من جملتها: «السلام على يعسوب الإيمان، وميزان الأعمال»(2)،

إشارة إلى أن قول الإمام(عليه السلام) وعمله وتقريره هو مقياس الصواب في كل جوانب الحياة، وميزان الاعتدال في جميع الأمور، فإذا اقتدى الناس بأخلاق أهل البيت(عليهم السلام) وطّبقوا سيرتهم، وانتهجوا مواقفهم في الحياة، سعدوا في الدنيا، وفازوا في الآخرة.

وما نراه اليوم من التخلف والتأخر عند المسلمين وغيرهم كله بسبب الابتعاد عن منهج القرآن الكريم، وسيرة النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطيبين الطاهرين(عليهم السلام).

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة

عن محمد بن مسلم قال الإمام الباقر(عليه السلام): «كل من دان اللّه عزّ وجلّ بعبادة، يجهد فيها نفسه ولا إمام له من اللّه، فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير، واللّهشانئ لأعماله، ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها، فهجمت ذاهبةً

ص: 401


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- مستدرك الوسائل 10: 222.

وجائيةً يومها، فلما جنّها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها، فحنت إليها واغترت بها، فباتت معها في مربضها، فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها، فهجمت متحيرةً تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بغنم مع راعيها، فحنت إليها واغترت بها، فصاح بها الراعي: ألحقي براعيك وقطيعك؛ فأنت تائهة متحيرة عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرةً متحيرةً تائهةً، لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها، أو يردها، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها. وكذلك واللّه يا محمد، من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من اللّه عزّ وجلّ، ظاهر عادل، أصبح ضالاً تائهاً، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق. واعلم يا محمد، أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين اللّه، قد ضلوا وأضلّوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شي ء، ذلك هو الضلال البعيد»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شي ء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرحٍ علماً، وجعل لكل علمٍ باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ونحن»(2).

هذا ولكن الظالمين من الحكام وأتباعهم، كأصحاب السقيفة وبني أمية وبني العباس، سعوا في إطفاء هذا النور الرباني، فمنعوا الناس من الأخذ بعلوم أهل البيت(عليهم السلام)، ومنعوا التاريخ من تدوين كل ما صدر عنهم من كلمات وسيرة نورانية... .

وهذا ظلم كبير في حق جميع الأجيال، وظلم بشع على البشيرة بأجمعها.

ص: 402


1- الكافي 1: 183.
2- الكافي 1: 183.

وإن كان في ما وصلنا من أقوال المعصومين(عليهم السلام) وأفعالهم من علوم ومعارف وأخلاق وآداب وأحكام ما يغني البشر في مختلف أنحاء حياته الدنيوية والأخروية.

وعلى أي حال، فإن من يقرأ ما ورد في التاريخ من سيرة الأئمة(عليهم السلام) ويراجع ما ثبت في الكتب المختصة من أخلاقهم وآدابهم مع ذويهم ومحبيهم، وكذلك مع مناوئيهم وأعدائهم، فإن ذلك سيكون بالنسبة له منبعاً زلالاً، ومقياساً عادلاً يهديه إلى الخير، وإلى الطريق المستقيم في الدنيا والآخرة.

التوازن في كل شيء

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ}(1) أي: ذات توازن ومع اتزان، فالنبات - كما نراه - ليس فيه أي اعتباط في مقدار حجمه وشكله ولونه وسائر مزاياه، بل كل ذلك بالوزن والتقدير. وليس المراد بالوزن: معناه الخارجي، بل تشبيه بالموزون الذي ليس فيه زيادة ونقصان، يقال: فلان شخص موزون، أي: دقيق الصفات متساوي الجهات، لا زيادة في حركاته وسكناته ولا نقصان(2). والإنبات في هذه الآية الكريمة بالمعنى الأعم، فيشمل الإنسان أيضاً؛ لأن النبات هو الخارج بالنمو حالاً بعد حال، كما هو واضح في آية أخرى تقول: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا}(3).

فالإنسان أيضاً كسائر المخلوقات خلق بميزان وفي جميع مراحل الخلق.

وهذا التوازن الكامل الشامل مما يمتاز به الباري عزّ وجلّ، أما غيره فلا، فإننا

ص: 403


1- سورة الحجر، الآية: 19.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 162.
3- سورة نوح، الآية: 17.

إذا لاحظنا المهندس وهو يخطط لبناء بيت جميل أو مشروع كبير مثلاً، فإنه ترى مشروعه قبل وضع اللبنات الأخيرة مفتقداً لكثير من مواطن الجمال والكمال، أما في خلق اللّه فإنه كما قال تبارك وتعالى: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ}(1) لأن جميع المخلوقات قد دبرت على أكمل وجه وفي جميع مراحلها، وفي غاية الدقة والكمال(2). فإنه عزّ وجلّ يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٖ}(3) أي: إنه تعالى خلق كل شيء مقدّراً بمقدار توجبه الحكمة، ولم يخلقه جزافاً ولا ناقصاً، سواء في المخلوقات الصغيرة كالنملة - مثلاً - أو في المخلوقات الكبيرة كالفيل - مثلاً - هذا بالنسبة إلى الحيوانات، وكذلك في سائر المخلوقات من الكواكب والمجرات وما أشبه، فكل ما يحتاج إليه المخلوق فقد حباه اللّه تعالى به ووهبه له؛ لأن اللّه تعالى ليس بخيلاً، بل هو فياض مطلق، قد أعطى كل شيء قدره، وبحسب قابليته الذاتية: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(4).

وهناك أدلة علمية كثيرة تدل على أن مخلوقات اللّه تعالى قد خلقت بميزان دقيق.

الكون والحياة متوازنان

نعم، إن اللّه سبحانه وتعالى أجرى الأمور في هذه الدنيا على أساس من الدقة والحكمة، والتحديد والتنظيم، حتى نرى أن النملة الواحدة على صغر حجمهاووهن شأنها على ما يبدو للبعض، خُلقت في غاية الدقة والكمال، وهنا تتجلى عظمة الخالق في مخلوقاته، فقد جعلها سواءً في حكمته ورحمته، فالفيل الضخم

ص: 404


1- سورة الملك، الآية: 3.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 10: 69، والتبيان في تفسير القرآن 10: 59.
3- سورة القمر، الآية: 49.
4- سورة المؤمنون، الآية: 14.

الجسم يوازي النملة الدقيقة الجسم من حيث الكمال والنظام؛ ولذا تقول الآية المباركة: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ}(1).

ومعناه: {مَّا تَرَىٰ} أيها الرائي {فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ} واختلاف، من جهة أن الجميع مخلوقة بدقة وإتقان وكمال لائق به {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} أي ردّه إلى الكون، بعد أن كان سابقاً إليه، وكأنه كان ناظراً بلا التفات إلى هذه الجهة، فقيل له: ردّ بصرك بقصد التفحص والبحث {هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ}؟ أي شقوق وفتوق، كالبناء الذي ينفطر لخلل فيه، فهل في الكون خلل يدل على الوهن والضعف، أم كل شيء وضع في محله اللائق به حسب الحكمة والصلاح؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي: كرة بعد كرة، والمراد مكرراً، إذ لعل البصر اشتبه في المرة الأولى، فلم يرَ فتقاً - فإن الإنسان إذا كرر النظر إلى شيء أدرك خلله - فانظر إلى الكون مرة أخرى فاحصاً عن الخلل، لكنك لا تجده.

فإن تكرار النظر مرتين يفيد التأكد والإمعان؛ لأن من نظر إلى شيء كرة بعد أخرى بان له ما خفي عليه، وظهر له ما بطن بوضوح وجلاء.

بل {يَنقَلِبْ} يرجع {إِلَيْكَ} أيها الإنسان {الْبَصَرُ} الذي سرحته في الكون {خَاسِئًا} قد خسء وطرد وعجز عما طلبه من الفتق {وَهُوَ حَسِيرٌ} قد حسر، أي: كلّ وعيّ ولم يجد خللاً ووهناً، وما يوجد من الأمراض وما أشبه إنما هو للامتحان والعبرة ولأسباب أخر مذكورة في مظانها، لا لنقص في الخلق(2).

التوازن هي السمة العامة للأشياء

من هنا يظهر للباحثين أن التوازن سمة عامة لجميع مخلوقات اللّه تبارك

ص: 405


1- سورة الملك، الآية: 3.
2- انظر: تقريب القرآن 5: 466.

وتعالى، صغيرها وكبيرها، فإنها خلقت بالدقة والعناية الكاملتين من قبل الباري عزّ وجلّ، وأفعاله كلها وإن كانت متفاوتة في الصور والهيئات في خلق الأشياء، إلّا أنها سواء في المصلحة والحكمة.

فاذا أخذنا الزرافة مثلاً، وتأملنا القرنين القصيرين فوق رأسها، وجدنا أن فيهما - على عكس ما يتوهمه البعض - حكمة بالغة، فقد أكد الباحثون في علم الحيوان توصلهم إلى بعض الحكمة الكامنة في ذلك، قالوا: إن جسم الزرافة عظيم وكبير، تعلوه رقبة ممتدة وطويلة، ولهذا فهي تحتاج إلى مضخة قوية تستطيع ضخ كميات من الدم وإيصالها إلى قمة رأسها المرتفع، ونتيجة لذلك تتولّد في جسم الزرافة كمية كبيرة من الحرارة ناشئة من حركة الدم القوية، وهو الأمر الذي يستدعي إيجاد منافذ تهوية وتخفيف درجة الحرارة، ولهذا السبب نجد أن اللّه سبحانه وتعالى قد خلق هذين القرنين، وجعلهما أجوفين، ووضعهما على رأس الزرافة، حتى تتم عملية ضخ الدم من قبل القلب بسلامة ولا تسبب الحرارة الناشئة من تلك العملية ضرراً.

وهذه الحكمة الإلهية الدقيقة سارية في جميع المخلوقات تكويناً، بل حتى في التشريعات، كما قال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}(1).

فإن كل الأمور والأشياء التشريعية والتكوينية تكون خاضعة للمصلحة والحكمة، وتابعة لقانون الأسباب والمسببات، إذ قد جعل اللّه لكل شيء طريقاًوسبباً {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَٰبِهَا}(2)، ولكل أمر علة وسبباً، كما قال سبحانه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَءَاتَيْنَٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٖ سَبَبًا}(3).

ص: 406


1- سورة الرعد، الآية: 8.
2- سورة البقرة، الآية: 189.
3- سورة الكهف، الآية: 84.

ثم إن الآية الكريمة تشير أيضا إلى حرية الإنسان في أفعاله، وعدم الجبر فيها، فالكفر وإتيان المعاصي لا يكونان من جبر اللّه تعالى للبشر، بل من فعل الإنسان الذي جعله اللّه سبحانه مخلوقاً مختاراً حراً ذا إرادة، له أن يختار الإيمان والطاعة، وله أن يختار الكفر والعصية.

الطموح والأمل مقدمتا التوازن

إن الأمة الفاقدة للطموح والأمل - بمعناه الصحيح - المستتبع للصمود والعمل، واللذين هما مقدمتا التوازن والتعادل، سوف تواجه أياماً صعبة فاقدة للتوازن والتعادل مهما كانت طاقات تلك الأمة كبيرة، وإمكاناتها كثيرة، ففي العراق - مثلاً - رغم كون الأغلبية فيه هم من شيعة أهل البيت(عليهم السلام) وهذا ما يثبته حتى الإحصاءات الرسمية، وقد صرح مدير عام دائرة الأحوال المدنية، وإحصاء النفوس أيام رئاسة عبد السلام عارف أن (85%) من السكان هم الشيعة، ولكننا نرى شيعة أهل البيت(عليهم السلام) في العراق رغم كونهم أكثرية لكنهم مستضعفين مضطهدين مظلومين ومقهورين، مهضومة حقوقهم، ومغصوبة مناصبهم، قد صادرت الأقلية - وخلافاً لكل الأعراف والقوانين الدولية - حقوقهم المشروعة لهم، واستبدّت بمناصبهم الخاصة بهم، وأخذت بزمام الحكم الذي هو لغيرهم، وراحت تتحكم بهم وبرقابهم، وأجرت عليهم الظلم والويل مما ليس له نظير، وما ذلك إلّا بسبب افتقاد الأكثرية ثقافة الطموح والأمل، المستتبع للصمودوالعمل.

ومن المعلوم: أن الذي لا يصمد أمام المشكلات، ولا يعمل من أجل التقدم، فإنه لا يستطيع أن يحقق طموحه وآماله، ولا أن ينال ما يتمناه ويتوقعه، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

ص: 407

الشيعة إذا فقدوا الطموح والأمل

نعم، إن أكثر الإمكانات والثروات، وأغلب منابع القدرة والطاقة في العراق هي ملك الأكثرية، وهم الشيعة، وأما القوميون والاشتراكيون والشيوعيون والبعثيون(1) فهم الأقلية، وهم المنبوذون عند الجميع، وقد رفضهم الشعب، ولم يقبل بهم أحد إلّا القليل النادر جداً، فإنهم قد جاءوا عبر الانقلاب العسكري البغيض، وأخذوا بزمام الأمور قهراً وقسراً، وسيطروا على الحكم بقوة الحديد والنار، وتحكّموا برقاب الأكثرية، حكماً استبدادياً دكتاتورياً، ليس فيه من الرحمة شيء، ولا من العدل أثر ولا علامة، قد فرضوا سيطرتهم عليهم، وبسطوا هيمنتهم فيهم، فهدروا كراماتهم، وصادروا حقوقهم، وكمّموا أفواههم، وملئوا بهم السجون، وعمّروا منهم المقابر، كل ذلك نتيجة عدم ثقافة الطموح والأمل المستعقب للصمود والعمل، العمل المبتني على العلم والمعرفة، وعلى الوعيواليقظة، وذلك ما أشار إليه النبي الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) بقوله: «العلم رأس الخير كله، والجهل رأس الشر كله»(2).

وعليه: فإنه لا يوجد أمام شيعة العراق، بل أمام كل المسلمين، طريق سوى طريق الطموح والأمل، المستتبع للصمود والعمل، والمبتني على العلم واليقظة،

ص: 408


1- القومية: حركة سياسية فكرية متعصبة، تدعو إلى إقامة دولة موحدة للعرب، على أساس رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ، في مقابل رابطة الدين التي تجمع بين المسلمين كافة. * وأما الاشتراكية: فهي نظام اقتصادي، مقابل نظام الرأسمالية الاقتصادي. * وأما الشيوعية: فهي مذهب سياسي يهدف إلى القضاء على الرأسمالية والملكية الخاصة. وهي من أشد المذاهب الاشتراكية تطرفاً. * وأما البعثية: فهي مذهب سياسي يجمع بين مساوئ القومية ومساوئ الشيوعية، فهو الحزب الذي يحمل السوأتين.
2- بحار الأنوار 74: 175.

حتى ينالوا الخير كله، ويبتعدوا عن الشر كله، وذلك كما جاء في ما ذكر من قول الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، وهو بالضبط ما تمتع به المسلمون الأوائل، وعملوا به في الصدر الأول، فنالوا بذلك الرقي والتقدم، والنموّ والازدهار.

أجل، إن أغلب المسلمين اليوم فقدوا طموحهم وأملهم، وتقاعسوا على أثر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقعدوا عن نشر الإسلام العظيم، ونشر معارف القرآن الحكيم، ونشر ثقافة الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وتعاليم أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، وبدلاً عن ذلك صار أكبر طموحهم وأملهم هو نيل الراحة والرفاه، وقضاء الوطر بالمتع الدنيوية الدنية، ومباهجها الفانية، مثل: الحصول على بيت مناسب، وغذاء جيد، ومركب مريح، وزوجة جميلة، وإلى آخره.

ورغم أن هذا النوع من الطموح والأمل مباح ومشروع في الإسلام، وإن الإسلام لا يمنع أحداً من التمتع الحلال بالنعم الإلهية التي خلقت له في هذه الحياة، ولكن ليس هذا هو كل شيء حتى ينحصر الطموح والأمل فيه، بل لا بد للإنسان أن يرتفع معنوياً أولاً، ثم يرتقي مادياً ثانياً.

الطموح إلى الآخرة

قال تبارك وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَىٰكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأخِرَةَ}(1). أي: كن وأنت تعيشفي الدنيا طموحاً إلى الآخرة، وذلك بأن تطلب في ما أعطاك اللّه في الدنيا من مال وجاه وقدرة وما أشبه لكسب الدار الآخرة بأن تنفقه في سبيل اللّه، وتضعه في مرضاة اللّه، وقوله تعالى: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(2). أي لا تترك الطلب المشروع للرزق الحلال، وطلب الزوجة الصالحة، وطلب الأولاد الصالحين،

ص: 409


1- سورة القصص، الآية: 77.
2- سورة القصص، الآية: 77.

وطلب المسكن الواسع، والمركب الفاره، وما إلى ذلك، مما احلّه اللّه تعالى للإنسان، فإن اللّه سبحانه لا يحب للإنسان الرهبنة في الدنيا، وترك طلب المعاش الحلال، والركون إلى العزلة والخمول.

يقول الإمام الباقر(عليه السلام): «إني أجدني أمقت الرجل متعذر المكاسب، فيستلقي على قفاه، ويقول: اللّهم ارزقني، ويدع أن ينتشر في الأرض، ويلتمس من فضل اللّه، والذرة(1)

تخرج من جحرها تلتمس رزقها»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أيعجز أحدكم أن يكون مثل النملة؛ فإن النملة تجرّ إلى جحرها»(3).

وعليه، فكما ينبغي للإنسان أن يعمل جاهداً على أن يوفر لنفسه ولأسرته ولمجتمعه، عيشة هانئة ووديعة في الدنيا، فكذلك ينبغي له أن يعمل جاهداً على أن يحقق لنفسه ولأسرته ولمجتمعه آخرة منعمة وكريمة، ولا يتحقق ذلك إلّا في ظل تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) واتبّاع سيرتهم الطيبة، ومنهجهم السليم والمستقيم.

الحج: تدريب على الطموح

اشارة

قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًاوَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ}(4).

الحج: بمعنى القصد، سمي به العمل الخاص والمناسك المعينة، وهو: قصد مكة في أشهر الحج، وإتيان المناسك طموحاً إلى الآخرة، وهو الذي شرّعه أولاً أبونا آدم(عليه السلام) بتعليم من جبرائيل الأمين، ثم جدّده خليل اللّه النبي إبراهيم(عليه السلام) ثم

ص: 410


1- الذرة، أو الذر هو صغار النمل.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 158.
3- الكافي 5: 79.
4- سورة الحج، الآية: 27.

أكدّه حبيب اللّه النبي الخاتم وسيد المرسلين محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه تعالى، وإبلاغ من أمين الوحي جبرائيل(عليه السلام). والحكمة في ذلك الوفادة إلى اللّه عزّ وجلّ، والطموح إلى آخرة منعّمة وكريمة، والخروج من كل ما أساء الإنسان واقترف، والتوبة منه، والندم عليه، والعزم على عدم العود إليه، والتمرين على الإنفاق في سبيل اللّه، وتحمّل المشاقّ لمرضاة اللّه، وكفّ النفس عما يُسخط اللّه؛ وذلك لما في الحج من استخراج الأموال، وتعب الأبدان، والعزوف عن الشهوات واللذات، والتقرب بالعبادة إلى اللّه عزّ وجلّ، والخضوع والخشوع، والذل والاستكانة للّه تبارك وتعالى، والشخوص إلى البيت العتيق في الحر والبرد، والأمن والخوف، وترويض للنفس على التخلي من مذموم الصفات، والتحلي بطيب الخصال، وبترك الجفوة والقسوة، والغفلة والترهّل، والالتزام بالرفق واللين، والنشاط واليقظة، والرهبة من اللّه تعالى، والانقطاع إليه، وهو تمرير لمعائش الكثير من الخلائق، والكثير من جماعة الناس من أهل المشارق والمغارب، وعمّال البر والبحر، وروّاد الفضاء والجو، من يحج ومن لا يحج، من تاجر وجالب، وبائع ومشتر، وكاسب ومحترف وغير ذلك، ونفع لأهل الأكناف والأطراف، ولأهل البلاد والديار الممكن لهم الاجتماع فيها، وذلك كما قال اللّهسبحانه وتعالى: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٖ مَّعْلُومَٰتٍ}(1).

الطموح ومنافع الحج

إن من منافع الحج هو: ما يتعلّمه الإنسان كيف يكون طموحاً في دنياه، وكيف يكون طموحاً في آخرته، وذلك لآن منافع الحج ليست مقتصرة على الآخرة، بل تعم الدنيا أيضاً.

ص: 411


1- سورة الحج، الآية: 28.

وعليه: فإن منافع الحج نوعان:

النوع الأول: منافع دنيوية، وهي المنافع المادية، والتي تسبّب أن تتقدم بها حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، وأن يصفو بها العيش وينقى، وأن تقضى بها الكثير من الحوائج، وتكمل بها الكبير من النواقص، وذلك في مختلف المجالات ومتنوع الأبعاد: من اقتصاد وسياسة، وحقوق وولاية، وآداب وسنن، وأحكام وعبادات، وغير ذلك من شتى المحاورات البناءة، والتعاضدات الاجتماعية المفيدة وغيرها.

وفي الحج اجتماع الأقوام والأمم، من مختلف مناطق الأرض وأصقاعها، على ما هم عليه من اختلاف الألسن والألوان، والأنساب والأعراق، والسنن والآداب، ثم تعارفوا بينهم واجتمعوا على كلمة واحدة، هي كلمة الحق، وهو: الإيمان باللّه الواحد الأحد، الفرد الصمد، العادل الذي لا يظلم أحداً، ولا ينقص حق أحد، والإيمان برسوله الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وبأهل بيت نبيه المعصومين(عليهم السلام)، وبالأخذ منهم، والسير على هداهم، والتمسك بحبل ولائهم، والتوجّه معه جميعاً إلى الكعبة البيت الحرام، واستعان قوم بآخرين في حل مشاكلهم، وأعانوهم بما في مقدرتهم، وتم التواصل بين المجتمعات من أجل الرقي والتقدم، ثم امتزجتالمجتمعات فكونت مجتمعاً وسيعاً، له من العدد والعدة ما لا تقوم له الجبال الرواسي، ولا تقوى عليه أي قوة جبّارة وعاتية في الأرض.

ومن المعلوم أنه لا وسيلة لحل مشكلات الحياة كالتعاضد، ولا سبيل إلى التعاضد كالتفاهم، ولا تفاهم كالذي هو موجود في ظل القرآن الحكيم وتعاليم الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام).

النوع الثاني: منافع أخروية، وهي المنافع المعنوية، والتي تسبّب التقرب إلى اللّه سبحانه بما يمثل عبودية الإنسان للّه تعالى، عبودية خالصة في الظاهر

ص: 412

والباطن، وبالقول والفعل، وبما تتضمنه مناسك الحج من أنواع العبادات والطاعات، والقربات والتوجهات إلى اللّه واليوم الآخر، وبما يستلزم أداء المناسك من ترك الدنيا والغض عن مشاغل العيش، والتوجه للآخرة، وتحمل مشاق العبادة من الطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات والمزدلفة، والمبيت في صحراء منى والعبادة في مسجد الخيف، وغير ذلك.

مخاوف الاستعمار من شعيرة الحج

لقد علم الاستعمار بأسرار الحج وما يبعثه من طموح في نفوس المسلمين، فأخذ يخطط لتحطيم هذه الشعيرة المقدسة وتفريغها - على الأقل - من الطموح والأمل الذي فيها، لخوفه من تلاقي المسلمين واجتماعهم من جميع أنحاء العالم، على مختلف قومياتهم وأصنافهم وأشكالهم وأنواعهم، وتشكيلهم هناك وحدة واحدة، مؤلفة قلوبهم وكلمتهم، بعيدين عن حكّامهم ورؤسائهم، تجد نفوسهم الصفاء، وقلوبهم الحنان، خالية من الغيظ والكراهية، وقد اجتمعوا على حب اللّه وعلى الطموح إلى رضا اللّه بجنّة الآخرة.

وعلى أي حال، فإن الاستعمار علم بالفوائد الجمّة التي يقدمها الحجللمجتمع الإسلامي، لذلك خطط هو، وأوعز إلى الحكومات العميلة أو السائرة في ركابه، أن تبذل كل جهدها ومجهودها في سبيل تضعيف أهمية الحج في نفوس المسلمين، وتغيير مناهجه، وجعل معطياته معكوسة سلباً على المسلمين.

القضاء على طموح المسلمين

اشارة

أوعز الاستعمار - ولأجل تحجيم طموح المسلمين وتحديد مخاوفه من تقدمهم ورقيهم - إلى بعض الحكام المسيّرين في البلاد الإسلامية للإعلان عن تحديد عدد الحاج، وتخفيضه إلى أقل عدد ممكن، وعلى أثره تم الإعلان في

ص: 413

أحد السنين: عن أن عدد الحاج الذين سوف يسمح لهم بالحج لهذه السنة يجب أن لا يتجاوز المليون حاج؛ وذلك بعد تقديم حجج واهية، وأعذار موهونة ومشبوهة(1).

هذا وقد ورد في التاريخ، وفي يوم كانت الإمكانات المادية والخدمات الاجتماعية، على بساطتها، بل وانعدامها، حيث كانت تعدّ صفراً في قبال الإمكانات المادية والخدمات الاجتماعية الموجودة في هذا اليوم، وبالضبط في زمن الإمام السجاد علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام) أنه بلغ عدد المسلمين الذين قصدوا حج بيت اللّه الحرام ووقفوا بعرفات والمشعر الحرام: أربعة ملايين وخمسمائة ألف حاج!!

نعم، فقد روي عن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) قال: «قال علي بن الحسين(عليهما السلام) وهو واقف بعرفات، للزهري: كم تقدر ها هنا من الناس؟قال: أقدّر أربعة آلاف ألف وخمسمائة ألف(2) كلهم حجاج، قصدوا اللّه بأموالهم، ويدعونه بضجيج أصواتهم.

فقال(عليه السلام) له: ... من حج ووالى موالينا، وهجر معادينا، ووطَّن نفسه على طاعتنا، ثم حضر هذا الموقف مسلّماً إلى الحجر الأسود ما قلده اللّه من أماناتنا، ووفياً بما ألزمه من عهودنا، فذلك هو الحاج، والباقون هم من قد رأيتهم. يا زهري، حدثني أبي عن جدي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ليس الحاج المنافقين المعادين لمحمد وعلي ومحبيهما، الموالون لشانئيهما، وإنما الحاج المؤمنون،

ص: 414


1- وهو الحال في كل عام حيث تم تحديد عدد الحجاج نسبة إلى عدد سكان كل بلد ووفق ضوابط وعراقيل عديدة، مضافاً إلى سوء الخدمات والمصاريف العالية التي يواجهها المسلم في الحج بحجة التنظيم والإدارة... .
2- أي أربعة ملايين وخمسمائة ألف إنسان!!

المخلصون الموالون لمحمد وعلي ومحبيهما، المعادون لشانئهما، إن هؤلاء المؤمنين الموالين لنا المعادين لأعدائنا، لتسطع أنوارهم في عرصات القيامة على قدر موالاتهم لنا، فمنهم من يسطع نوره مسيرة ألف سنة، ومنهم من يسطع نوره مسيرة ثلاثمائة ألف سنة، وهو جميع مسافة تلك العرصات، ومنهم من يسطع نوره إلى مسافات بين ذلك، يزيد بعضها على بعض على قدر مراتبهم في موالاتنا، ومعاداة أعدائنا، يعرفهم أهل العرصات من المسلمين والكافرين بأنهم الموالون المتولون والمتبرءون، يقال لكل واحد منهم: يا ولي اللّه، انظر في هذه العرصات إلى كل من أسدى إليك في الدنيا معروفاً، أو نفّس عنك كرباً، أو أغاثك إذ كنت ملهوفاً، أو كف عنك عدواً، أو أحسن إليك في معاملته، فأنت شفيعه، فإن كان من المؤمنين المحقين زيد بشفاعته في نعم اللّه عليه، وإن كان من المقصرين كفي تقصيره بشفاعته، وإن كان من الكافرين خفف من عذابه بقدر إحسانه إليه. وكأني بشيعتنا هؤلاء يطيرون في تلك العرصات كالبزاة والصقور، فينقضّون على من أحسن في الدنيا إليهم انقضاض البزاة والصقورعلى اللحوم تتلقفها وتحفظها، فكذلك يلتقطون من شدائد العرصات من كان أحسن إليهم في الدنيا، فيرفعونهم إلى جنات النعيم»(1).

استنتاج

وعليه، فإنه إذا كان عدد الحاج قد بلغ هذا المقدار الضخم، مع أنه عدد يندر بلوغه في تلك الأزمنة، وخاصة مع ملاحظة أوضاع ذلك الزمان من البساطة في الامكانيات، والسذاجة في العيش، وصعوبة التنقل وغير ذلك، فإنه يعدّ هذا العدد هائلاً جداً؛ ولكن الذي يؤكدّ وصول هذا العدد الكبير إلى ما وصل إليه

ص: 415


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 606.

هو: عدم وجود الموانع التي تفرضها الحكومات المسيّرة هذا اليوم في تلك الأيام والأزمنة. أما اليوم وبسبب وجود الموانع الحدودية المصطنعة، والاجراءات الوضعية المعقدة، والقوانين المفتعلة المقيدة والمفروضة على الأمة، فقد تقلّص عدد الحاج وتناقص إلى الأدنى أضعافاً مضاعفة، ويظهر هذا التناقص كبيراً مع ملاحظة تصاعد عدد المسلمين اليوم(1)، وسهولة تحصيل وسائط السفر والنقل في هذا الزمان، ووفرة الامكانيات المادية والمعمارية الحديثة، فالذي حدث في زمن الإمام زين العابدين(عليهما السلام) هو سمة من سمات الحرية الإسلامية، وعلامة من علامات وحدة الأمّة، فكل شخص يرى أنه يمتلك الاستطاعة للحج يقصد بيت اللّه الحرام والكعبة المشرفة، ويؤدي مناسك الحج بحرية كاملة، ولا يجد أمامه أي عائق، أو قوة تمنعه من ذلك.

فلماذا نرى اليوم ومع كثرة الإمكانات، وزيادة النفوس، وسهولة السفر والنقل، لا يسمح إلّا لعدد قد يتجاوز المليون حاج - بقليل - لزيارة بيت اللّه الحرام وأداءفريضة الحج، ما الذي تغيّر؟!

ولماذا تضاءل العدد في حين ازدادت نفوس المسلمين، وأصبحت وسائل الحياة من مواصلات وغيرها تحت قدرة الإنسان وسيطرته الكاملة؟!

فما هذا الذي أعلنه بعض حكام البلاد الإسلامية المسيّرين: من تحجيم عدد الحجاج وتقليصه إلى ما لا يتجاوز المليون حاج، إلّا استجابة إلى ما دعى إليه (غلادستون)(2) من المنع عن تجمع المسلمين في موسم الحج، أو تعاطفاً مع بدعة وضع الحدود بين شعوب الأمة الإسلامية الواحدة، وتجاوباً مع البدع

ص: 416


1- ذكر أن الإحصاءات الأخيرة لنفوس المسلمين بلغت ملياري مسلم.
2- غلادستون، أحد رؤساء وزراء بريطانيا السابقين، له كلمة مشهورة، وهي: ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين، فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان.

الأخرى من جوازات السفر وتأشيرات الدخول وغير ذلك من القيود والموانع، التي تصد عن الحج، وتمنع الحاج من زيارة بيت اللّه الحرام.

أليست هذه البدع والالتزام بها تصب في صالح المستعمرين وأعداء المسلمين، والتي بها استطاعوا أن يبعدوا المسلمين بعضهم عن بعض، وينشروا بينهم العداوات والمباغضات، والأحقاد والضغائن ليصلوا إلى أهدافهم بكل سهولة طبقاً لقاعدتهم المعروفة: فرّق تسد؟(1)

تخطيط شيطاني لتحطيم طموح المسلمين

وإن من أبرز المخططين لتحطيم طموح المسلمين الذين استطاعوا عبر تخطيطهم الشيطاني من توجيه ضربة مهلكة تقضي على طموح الأمة الإسلامية وتبدد آمالها وتؤدي إلى أنهزامها نفسياً، وتمزيقها وتشتيتها جسدياً، وذلك قبل ما يقارب من (80 سنة) هو الجاسوس البريطاني المعروف باسم: (لورانسالعرب)(2)، الذي استطاع بتخطيطه الشيطاني الخبيث أن يمرر سائر المخططات الغربية الهادفة لهدم طموح المسلمين وتبديد آمالهم، فإنّ دسائسه ومكائده أدت إلى القضاء على طموح الأمة الإسلامية، ثم سرت إلى تمزّيق وحدة المسلمين، وإلى تشتت أراضيهم، وتفريق بلادهم، وأخيراً إلى الضعف الشديد والنقاهة المزمنة، ثم الاحتضار والموت، كما هو واضح اليوم.

إنّ الإطلاع على مؤامرات الأعداء، ومخططاتم الشيطانية الخبيثة، ومطالعة حياة أمثال هؤلاء المندسّين في المسلمين، والوقوف على نواياهم الإستعمارية

ص: 417


1- للتفصيل ينظر مؤلفات الإمام الشيرازي(رحمه الله) في موضوع الحج، مثل: (ليحج خمسون مليوناً كل عام) و(الحج بين الأمس واليوم والغد) و(لكي يستوعب الحج عشرة ملايين) وغيرها.
2- توماس ادوارد لورانس ولد عام (1888م) في مدينة ثرمادوك، اشتهر باسم (لورانس العرب) بعد نشره لمذكراته عن حرب الصحراء.

السوداء، للحذر منهم، والنجاة من مخططاتهم ضروري جداً؛ فإنهم استطاعوا عبر شيطنتهم ومكرهم أن يفسدوا في الأرض، وأن يعملوا على خلاف عمل الأنبياء(عليهم السلام) وتعاليمهم الخيرة، وأن يصلوا إلى أهدافهم الشريرة.

فكيف وصل هؤلاء المكرة إلى أهدافهم الشريرة؟

وما هي الظروف والعوامل التي ساعدتهم على ذلك؟

وهل إذا كان المسلمون كالجسد الواحد وكما أمرهم اللّه به: من كونهم أمة واحدة، وبلدة واحدة، وإخوة في اللّه، كان يصل مثل هؤلاء الطامعين إلى مبتغاهم؟

وهل كانت تلك القوى الاستعمارية ومنفذوا مخططاتها الشيطانية، قادرين على التحكمّ بمصير المسلمين، والتلاعب بمقدراتهم وزجّهم في خلافات ومشاكل في ما بينهم؟!

نعم، إن الأسباب الرئيسية لكل ذلك يعود إلى فقد المسلمين طموحهموقعودهم عن تحقيق الأهداف التي نادى بها القرآن الحكيم، وجاء بها النبي الكريم وأهل بيته الطهار(عليهم السلام)، والذي في تطبيقها عزّة المسلمين وسعاداتهم، وسؤددهم وسيادتهم.

طموح المسلمين قبل ثلاثة عقود

قبل ثمانٍ وعشرين سنة(1) تشرّفت مع سماحة الوالد المرحوم(2) إلى حج بيت اللّه الحرام، فكان الوالد(رحمه الله) يصلي الجماعة في مكة المكرمة في جانب من المسجد الحرام، وفي منى وعرفات، وكان الكثيرون من مختلف البلدان يشتركون

ص: 418


1- من تاريخ القاء المحاضرة.
2- هو المرجع الديني آية اللّه العظمى الميرزا مهدي بن الميرزا حبيب اللّه بن السيد آقا بزرك بن السيد ميرزا محمود بن السيد إسماعيل الحسيني الشيرازي.

في صلاة الجماعة بإمامته(رحمه الله)، وبعد الصلاة كنت أدخل مع بعض المصلين في مناقشات جادّة حول إعادة الطموح وبناء الثقة في نفوس المسلمين، وفي حوارات متعددة حول مختلف الأمور التي تهم المسلمين؛ من قبيل تفرقهم وتشتّت بلدانهم، وضرورة اتحاد بلدانهم، ومواجهة الإعلام المضاد لهم، ومن قبيل ضرورة إعادة الطموح وبناء الثقة بأنفسهم، وإحياء الشعائر الإسلامية بمختلف أنواعها وبجميع أشكالها، وغير ذلك.

نعم، إن مما يجدر البحث فيه اليوم في موسم الحج، في مكة المكرمة والمدينة المنورة - من خلال عقد المؤتمرات العالمية يشترك فيها أصحاب الحل والعقد من جميع الأقطار الذين جاءوا إلى الحج - هو البحث عن ضرورة إلغاء القوانين التي تفصل وتفرق بين بلاد المسلمين بدواعي واهية، وتعريفهم أن الهدف من تلك القوانين الهدامة والتي تتلخص في حجب المسلمين بعضهم عن بعض، ومنعهم من تداول مشاكلهم السياسية والاقتصادية والاجتماعيةوغيرها، في ما بينهم، علماً بأن هذه القوانين لم تكن موجودة سابقاً، وإنما ابتدعت جديداً ولاحقاً، وكان المسلمون يختلطون بكل حرية، ويطلع بعضهم على شؤون إخوانهم من البلاد الأخرى، ولم يكن هناك حواجز وموانع بينهم، مثل أن يكون مكان خاص لفئة خاصة، أو فندق معين لجهة معينة من المسلمين التابعين لهذا البلد دون سواهم.

ومما يلزم البحث فيه أيام الحج هو: كيفية إلغاء الحدود المصطنعة بين البلاد الإسلامية، تطبيقاً لقول اللّه تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(1) وعن طريق إرجاع الأخوة الإسلامية إلى المسلمين، تحقيقاً لقول اللّه سبحانه: {إِنَّمَا

ص: 419


1- سورة المؤمنون، الآية: 52.

الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1). والبحث عن كيفية إعادة الحريات الإسلامية إلى المجتمع الإسلامي، تطبيقاً لقول اللّه عزّ وجلّ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(2) وعن طريقة إعادة الطموح والأمل في المجتمع الإسلامي الإنساني، وغيرها من التعاليم الحيوية في الإسلام، والتي سلبت من المسلمين بسبب مخططات الاستعمار الخبيثة، فعرقلت حركة المسلمين وسببت تخلفهم.

الطموح من أهداف الحج

ولا يخفى أن هناك الكثير من الروايات الشريفة، مضافاً إلى الكثير من الآيات الكريمة، تؤكد أن أحد أهداف الحج هو الطموح إلى الآخرة، مضافاً إلى إصلاح الدنيا، وذلك بذكر اللّه أولاً، ثم التأسي برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثانياً، فإن من الطبيعي أنه حينما يشاهد الناس آثار الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) ويرون مشاهده الشريفة، فإنهميتذكرون جهاد الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وبلاغه، ويعيشون أيام اللّه وأنعامه، ويشاهدون بزوغ أنوار الرسالة الخاتمة وضياءها، ويتذكرون أتعاب الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وتضحياته؛ من أجل تثبيت أسسها وأركانها.

أما التبادل الثقافي والفكري، والتعرف على مشاكل المسلمين ومتاعبهم، وإيجاد الحلول المناسبة لها والخروج منها، فهي من ضروريات الاهتمام بأمور المسلمين وأوليات أهداف الحج.

الحديث الشريف وزماننا العصيب

اشارة

وعليه، فزماننا اليوم هو ذلك الزمان العصيب الذي يفقد أهله فيه الطموح والأمل، كما أخبر عنه أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ووصفوه، فهذا الإمام أمير

ص: 420


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سورة الأعراف، الآية: 157.

المؤمنين(عليه السلام) قال: «فيا عجباً وما لي لا أعجب، من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفِّون عن عيب، يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المهمات على آرائهم، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ في ما يرى بعرىً ثقات، وأسباب محكمات»(1).

أي: إنهم على أثر فقدهم الطموح والأمل بالإصلاح، أصبحوا لا يسمحون للعالِم بالتكلم بالهداية ونشر علمه بهدف الإصلاح، وفي المقابل يأتي الجاهل ويرى نفسه صاحب الحق في التكلم وإبداء الرأي، ويرى أن له الحق بالتغيير في الساحة الإسلامية كيفما يشاء، وهذا ما نراه اليوم في أكثر البلدان الإسلامية.

وبهذا المعنى وردت الأحاديث الشريفة عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وعنالأئمة المعصومين(عليهم السلام) تصف حال ما نحن فيه من الزمان، وقد نسب البعض هذا الزمان إلى زمان العباسيين والأمويين، بينما نرى أنه أكثر انطباقاً على زماننا هذا من ذلك الزمان؛ فمثلاً، نجد أغلب المسلمين في البلدان الإسلامية مبتلين بهذا الأمر، إذ أن الفقيه والعالم وصاحب الرأي والفتوى، قد كمموا فاه، وتركوه لا يتمكن من إبداء رأيه، وإظهار الأمور الفقهية والأحكام الإلهية، بينما نرى الجهّال مكرمين ومحترمين يقولون ما يريدون، ويفعلون ما يشاؤون.

أهداف الحج في الحديث الشريف

نعم، إن من أهداف الحج هو إيجاد الطموح وبناء الأمل والثقة في نفوس المؤمنين، والعمل وفقها لإصلاح الدنيا وعمران الآخرة، وما يستتبعها من سيادة

ص: 421


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 88، من خطبة له(عليه السلام) وفيها بيان للأسباب التي تهلك الناس.

وسعادة، ففي الحديث الشريف عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) فقلت له: ما العلة التي من أجلها كلف اللّه العباد الحج، والطواف بالبيت؟

فقال(عليه السلام): «إن اللّه تعالى خلق الخلق لا لعلة إلّا أنه شاء ففعل(1)، فخلقهم إلى وقت مؤجل وأمرهم ونهاهم ما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب ليتعارفوا، وليتربح كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كل قوم إنما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقط الجلب والأرباح، وعميت الأخبار، ولم يقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج»(2).

ولعل من أهم ما ورد في الحديث الشريف هو قوله(عليه السلام): «وعميت الأخبار» فإنّ الحج نافذة واسعة، تعطي فرصة عظيمة للمسلمين في تبادل الأخبار؛ لأن السلطات الجائرة قد اعتادت على منع الأخبار المهمة التي تخصّ المسلمين عن شعبها المسلم، فتحاول التكتم عليها، فالحج يفتح هذه الفرصة أمام المسلمين؛ ولذلك يقول الإمام(عليه السلام) لو لا الحج ل«عميت الأخبار»، أي: لأصبح هناك مانع من انتشار الأخبار بين المسلمين.

فهذه هي بعض الأمور المستفادة من الحج إضافة إلى الأبعاد المعنوية والروحية من مثل العبادة والغفران.

عن الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا(عليه السلام) - في حديث طويل - قال:

«إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى اللّه عزّ وجلّ، وطلب الزيادة، والخروج

ص: 422


1- أي: لا لنفع يرجع إليه تعالى؛ فإنه هو الغني في ذاته على الإطلاق، وإنما خلق الخلق ليرحمهم، كما قال سبحانه: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ} سورة هود، الآية: 119.
2- علل الشرائع 2: 405.

من كل ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحر والبرد، ثابتاً على ذلك دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البر والبحر، ممن يحج وممن لم يحج، من بين تاجر وجالب، وبائع ومشتر، وكاسب ومسكين، ومُكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه، ونقل أخبار الأئمة(عليهم السلام) إلى كل صقع وناحية، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1) و{لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَلَهُمْ}»(2)(3).

كل شيء من أجل الطموح والأمل

أجل، حيث إن الطموح والأمل هو مقدمة الصلاح والإصلاح في المجتمع الإسلامي، لذلك أمر الإسلام بكل ما يقوي في النفوس الطموح ويزيد في القلوب الأمل، ومن ذلك إجابة دعوة المؤمن، فإنه ينبغي لكل مؤمن أن يجيب دعوة أخيه إلى الضيافة، من غير أن يفرّق بين الغني والفقير، ولا بين بعد المسافة وقربها - في ما إذا أمكن احتمالها عادة - وذلك تقوية لأواصر المحبة بين المؤمنين، وزيادة في طموحهم وأملهم بالصلاح والإصلاح.

فعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): أوصي الشاهد من أمتي

ص: 423


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة الحج، الآية: 28.
3- وسائل الشيعة 11: 12.

والغائب، أن يجيب دعوة المسلم ولو على خمسة أميال، فإن ذلك من الدين»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «من دخل على أخيه وهو صائم، فأفطر عنده ولم يعلمه بصومه في منّ عليه، كتب اللّه له صوم سنة»(2).

نعم، هذه هي بعض آداب الضيافة في الإسلام، تقوية لطموح المسلمين وبعثاً لروح الأمل فيهم.

وعليه، فليس من الصحيح أن يقول أحد - وكأنه يؤكد على أنانيته بعدم إجابة دعوة اللّه من المؤمنين - : الحمد للّه الذي لم أذهب إلى الآن في ضيافة أحد! فإن هذا العمل مخالف لسنة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ولسيرة الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)؟كيف لا والرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «لو دعيت إلى ذراع شاة لأجبت»(3).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن من أعجز العجز رجلاً دعاه أخوه إلى طعامه فتركه من غير علة»(4).

إذن، فلو تسامحنا في مثل هذه الآداب الرفيعة لكانت النتيجة ذهاب الأخلاق الإسلامية الكريمة بسبب هذه الأفكار التي يمتلكها البعض ويفتخر بأنه لا يحترم الناس ولا يستجيب لدعواتهم.

معلم الطموح الكبير والأمل الصادق

لقد جاء في التاريخ أن النبي الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) لما قام في معركة الأحزاب بحفر الخندق، في أثناء حفر الخندق اصطدم المسلمون بصخرة كبيرة ولم يتمكنوا من تفتيتها رغم كل ما بذلوه من جهد.

ص: 424


1- الكافي 6: 274.
2- الكافي 4: 150.
3- المحاسن 2: 411.
4- وسائل الشيعة 24: 271.

فإن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) لما خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا. فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «سلمان منا أهل البيت». قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة ونعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا كنا بجب ذي ناب، أخرج اللّه من بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا، وشقت علينا. فقلنا: يا سلمان، إرق إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيه بأمره؛ فإنا لا نحب أن نجاوز خطه.

قال: فرقي سلمان إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يارسول اللّه، خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق، فكسرت حديدنا، وشقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك؟ قال: فهبط رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مع سلمان الخندق والتسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) المعول من يد سلمان، فضربها به ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم! فكبر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح، وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) الثانية، فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح، وكبر المسلمون. ثم ضربها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) الثالثة فكسرها، فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه تكبيرة فتح وكبر المسلمون. وأخذ بيد سلمان، ورقي. فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، لقد رأيت شيئا ما رأيت منك قط؟!

فالتفت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى القوم وقال: «رأيتم ما يقول سلمان؟».

ص: 425

فقالوا: نعم، يا رسول اللّه.

قال: «ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثالثة، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرئيل أن أمتي طاهرة عليها، فأبشروا». فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد للّه موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر.

فقال المنافقون: ألّا تعجبون، يمنيكم ويعدكم الباطل؛ ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق، ولا تستطيعون أن تبرزوا؟!

فنزل القرآن:

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(1)(2).

لذا استبشر المسلمون المؤمنون برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وتقوى الطموح في نفوسهم بالفتح، وإزداد الأمل بالنصر في قوبهم، بسبب فعل الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) هذا وكلامه المليء بالطموح والمشحون بالأمل، وعلى أثره استطاعوا أن ينتصروا على المشركين في كل الحروب، وأن يسجلوا الفتح المبين لصالح الإسلام والمسلمين، كل ذلك كان بفضل الطموح الكبير، والأمل الصادق الذي كان

ص: 426


1- سورة الأحزاب، الآية: 12.
2- تفسير مجمع البيان 2: 269.

يتحلى به الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) ويبعث به في نفوس المسلمين.

ولكن الأمر اليوم أصبح على عكس ما كان حال المسلمين الأوائل، فلا نجد في المسلمين الطموح إلى الإصلاح، ولا الأمل بالكرامة والسعادة، وعلى أثره تركوا العمل في سبيل تحقيق العزة للإسلام والكرامة للمسلمين، ومن ثم استعادة سيادتهم ومجدهم؛ لهذا السبب وصلت أحوالنا إلى ما وصلت إليه، وتبدلت أوضاعنا إلى هذه الحالة المتأخرة والمفجعة.

الطموح والتضخيم الإعلامي

هناك بعض الجهات التي تستخدم التضخيم الإعلامي مع قلة عددهموبطلان مبدئهم كالشيوعيين في العراق، فإنهم على رغم قلتهم كانوا يدعون الكثير، وكانوا ينشطون في تبليغهم وإعلامهم، وخاصة في مجال توزيع البيانات ونشر الكتب التي تحمل أفكارهم الإلحادية وعقائدهم الهدامة وذلك في كافة أنحاء العراق.

أما الشيعة في العراق وهم يشكلون (85%) من نسبة سكان العراق، فلم يكن لهم نشاط سياسي يذكر، مع ما بث فيهم الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) من طموح كبير وأمل صادق بالصلاح والإصلاح، لهذا نجد انتشار المبادئ الباطلة في بعض المناطق ملوحظاً، بينما المؤمنون على عكس ذلك.

فهذا الأمر يفرض علينا التساؤل عن السبب، وأنه لماذا أصبح المسلمون على هذه الحالة المزرية؟!

قد يجيب البعض قائلاً: إن سبب انتشار الأفكار الإلحادية في بعض مناطق العراق هو دعم الجهات الملحدة وبذلهم المبالغ الطائلة والتي كانت تأتي من الخارج.

ص: 427

ولكننا نقول: إن وراء المؤمنين الرساليين ملياراً وخمسمائة مليون مسلم، وهم أصحاب منابع طبيعية عظيمة، مادية ومعنوية، فالمسألة ليست مسألة مدد من الخارج، بل إنها قضية طموح وأمل، وسعي وعمل، لقد انتهز الشيوعيون فرصة تخلّف المؤمنين وقعودهم، وفترة غفلتهم وخمولهم، فهبّوا مستغلين طاقاتهم والامكانات التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى بين يدي جميع خلقه، فانتفضوا بها، وسعوا لها، بينما لم يستثمرها المؤمنون في صالح نشر المبادئ الحقة، ولم يبذلوا جهداً في سبيل إعادة مجد الإسلام الذي فيه مجدهم ومجد الجميع.

الطموح ومقومات النهضة الإصلاحية

اشارة

ثم إنه ينبغي للمؤمنين الطموحين من أجل القيام والنهوض للصلاح والإصلاح، أن يوفروا في أنفسهم مجموعة أمور مهمة، هي كما يلي:

1- الوعي

الأول من مقومات الإصلاح: إيجاد الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، واليقظة الفردية والجماعية، بين الأمة بكاملها، وذلك بقدر الكفاية، فإن الإنسان الواعي اليقظ لا يقبل الخضوع ولا تنطلي عليه المكائد. قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين: عالم مُطاع، أو مستمع واعٍ»(1).

وقال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «ألا وإن أسمع الأسماع من وعى التذكير وقَبِلَه»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من تبصر في الفطنة ثبتت له الحكمة وعرف العبرة».(3)

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): أربع يلزمن

ص: 428


1- الكافي 1: 33.
2- عيون الحكم والمواعظ: 107.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 448.

كل ذي حجى وعقل من أمتي، قيل: يا رسول اللّه، ما هن؟ قال: استماع العلم، وحفظه، ونشره عند أهله، والعمل به»(1).

2- التنظيم

الثاني من مقومات الإصلاح: التنظيم الدقيق، فهو من أهم وسائل القوة، فقد روي أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «سوّوا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولا تخالفوا بينها فتختلفوا، ويتخللكم الشيطان تخلل أولاد الحَذَف»(2).وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكما... بتقوى اللّه ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام...»(3).

وقال(عليه السلام): «الأمور المنتظمة يفسدها الخلاف»(4).

وقال(عليه السلام): «... وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك...»(5).

وقال(عليه السلام) لولده الإمام الحسين(عليه السلام): «ومن تورط في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب، التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم»(6).

3- الاكتفاء الذاتي

الثالث من مقومات الإصلاح: العمل من أجل الاكتفاء الذاتي في كل

ص: 429


1- بحار الأنوار 1: 168.
2- بحار الأنوار 85: 111. والحذف ضربٌ من الغنم الصغار السود، واحدها حذفة، فشبه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تخلل الشيطان الصفوف إذا وجد فيها خللاً بتخلل أولاد تلك الغنم ما بين كبارها.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 63.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) للأشتر.
6- بحار الأنوار 74: 238.

المجالات، اقتصاداً، وسياسةً، وزراعةً، وصناعةً، وغير ذلك. فقد روي أن رجلاً جاء إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: ما طعمت طعاماً منذ يومين؟

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق». فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول اللّه، أتيت السوق أمس، فلم أصب شيئاً، فبت بغير عشاء؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «فعليك بالسوق». فأتى بعد ذلك أيضاً فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق» فانطلق إليها، فإذا عير قد جاءت وعليها متاع، فباعوه بفضل دينار، فأخذه الرجل وجاء إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقال: ما أصبت شيئاً؟ قال: «هل أصبت من عير آل فلان شيئا؟». قال: لا. قال: «بلى، ضرب لك فيها بسهم وخرجتمنها بدينار». قال: نعم.

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «فما حملك على أن تكذب؟». قال: أشهد أنك صادق، ودعاني إلى ذلك إرادة أن أعلم، أتعلم ما يعمل الناس، وأن أزداد خيراً إلى خير.

فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «صدقت، من استغنى أغناه اللّه، ومن فتح على نفسه باب مسألة فتح اللّه عليه سبعين باباً من الفقر، لا يسد أدناها شي ء». فما رئي سائل بعد ذلك اليوم، ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي»(1)(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن بشرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من طلب الرزق في الدنيا استعفافاً عن الناس،

ص: 430


1- المرّة: القوة والشدة، السوي: الصحيح الأعضاء.
2- الخرائج والجرائح 1: 89.
3- الكافي 2: 149.

وتوسيعاً على أهله، وتعطفاً على جاره، لقي اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة، ووجهه مثل القمر ليلة البدر»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اشتدت حال رجل من أصحاب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فسألته، فجاء إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فلما رآه النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه!! فقال الرجل: ما يعني غيري، فرجع إلى امرأته فأعلمها، فقالت: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بشرٌ فأعلمه فأتاه، فلما رآه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه!! حتىفعل الرجل ذلك ثلاثاً، ثم ذهب الرجل فاستعار معولاً، ثم أتى الجبل فصعده، فقطع حطباً، ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق، فرجع به فأكله، ثم ذهب من الغد، فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى معولاً، ثم جمع حتى اشترى بكرين وغلاماً، ثم أثرى حتى أيسر، فجاء إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فأعلمه كيف جاء يسأله، وكيف سمع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قلت لك: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه»(2).

4- الطموح والأمل الصادق

الرابع من مقومات الإصلاح: الطموح الكبير، والأمل الصادق بالصلاح والإصلاح، فإن الطموح والأمل يحلان المحل الأول من مقومات الإصلاح؛ ولذلك ينبغي لنا قبل هذه الأمور الثلاثة، أن نطمح إلى تغيير هذا الواقع المأساوي الذي نعيشه، فلولا الطموح والأمل في التغيير لن يمكننا أن نفعل شيئاً، كما ينبغي لنا أن نستعيد طموحنا وأملنا، ونواصل نشاطناً وعملنا مرة أخرى،

ص: 431


1- الكافي 5: 78.
2- الكافي 2: 139.

ونتوكل على اللّه عزّ وجلّ، ونجعل الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين من أهل بيته(عليهم السلام) قدوة وأسوة لنا، حتى نستطيع إنقاذ المسلمين، بل جميع الناس في كل العالم. فقد كان الطموح والأمل، المستتبع للسعي والعمل، هو أحد أهم الأسباب الرئيسية التي سببت علو شأن المسلمين الأوائل.

«اللّهم اجمع بيننا وبين محمد صلواتك عليه وآله في برد العيش، وتروِّح الروح، وقرار النعمة، وشهوة الأنفس، ومنى الشهوات، ونعم اللذات، ورجاء الفضيلة، وشهود الطمأنينة، وسؤدد الكرامة، وقرة العين، ونضرة النعيم، وبهجةلاتشبه بهجات الدنيا...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الطموح والأمل

جاء في القرآن الحكيم في مجال الطموح والأمل ما يبعث عليهما تمهيداً للارتقاء والازدهار:

قال اللّه تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَلَلْأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}(2).

وقال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٖ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(4).

ص: 432


1- تهذيب الأحكام 3: 83.
2- سورة الإسراء، الآية: 21.
3- سورة البقرة، الآية: 253.
4- سورة العنكبوت، الآية: 69.

التوازن في كل شيء

وفي مجال التوازن في الأشياء، والاتزان في الكون والحياة، ما يفيد التعلم والتوازن في الأمور:

قال اللّه جلّ وعلا: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَٰعِبِينَ * مَا خَلَقْنَٰهُمَاإِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

وقال سبحانه تبارك اسمه: {خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٖ مُّسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّٰرُ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعْلُومٖ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَٰكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَٰزِنِينَ}(4).

وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ}(5).

وقال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٖ}(6).

الحج: تدريبٌ على الطموح

وفي مجال الحج وتدريبه على الطموح والأمل:

ص: 433


1- سورة الحجر، الآية: 19.
2- سورة الدخان، الآية: 38-39.
3- سورة الزمر، الآية: 5.
4- سورة الحجر، الآية: 21- 22.
5- سورة الملك، الآية: 3.
6- سورة القمر، الآية: 49.

قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَٰئِدَ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(1).

وقال سبحانه: {فِيهِ ءَايَٰتُ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِنكُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ}(3).

الطموح ومقومات الإصلاح

وفي مجال مقومات الإصلاح من نشر العلم ومحاربة الجهل ما فيه دروس وعظات:

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(6).

ص: 434


1- سورة المائدة، الآية: 97.
2- سورة آل عمران، الآية: 97.
3- سورة الحج، الآية: 27.
4- سورة الجمعة، الآية: 2.
5- سورة الأنفال، الآية: 24.
6- سورة التوبة، الآية: 128.

وقال جلّ وعلا: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

الطموح والأمل

جاء في الروايات الشريفة ما يبعث على الطموح والأمل، وأنهما مقدمتا الارتقاء والازدهار:

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أحب نيل درجات العلى فليغلب الهوى»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «العاقل يطلب الكمال، الجاهل يطلب المال»(3).

وقال(عليه السلام): «أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألّا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال؛ إن المال مقسوم مضمون لكم، قد قسمه عادل بينكم، وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد أمرتم بطلبه من أهله، فاطلبوه»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «الكمال كل الكمال: التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة»(5).

ص: 435


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- مستدرك الوسائل 12: 115.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 54.
4- الكافي 1: 30.
5- الكافي 1: 32.

تنافي الطموح مع الكسل

وفي مجال تنافي الكسل والضجر مع الطموح والأمل ما فيه عبرة لمن اعتبر:

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «وإياك وخصلتين: الضجر والكسل، فإنك إن ضجرت لم تصبر على حق، وإن كسلت لم تؤد حقاً»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المؤمن يرغب في ما يبقى، ويزهد في ما يفنى، يمزج الحلم بالعلم، والعلم بالعمل، بعيدٌ كسله، دائم نشاطه، قريب أمله، حيٌّ قلبه»(2).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام) في دعاء (مكارم الأخلاق): «ولا تبتليني بالكسل عن عبادتك، ولا العمى عن سبيلك، ولا بالتعرض لخلاف محبتك»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ثلاث يحجزن المرء عن طلب المعالي: قصر الهمّة، وقلة الحيلة، وضعف الرأي»(4).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ولا تبتلنا في أمره بالسأمة والكسل والفترة والفشل، واجعلنا ممن تنتصر به لدينك وتعز به نصر وليك، ولا تستبدل بنا غيرنا...»(5).

الحج: تدريب على الطموح

وفي مجال الحج ما يدرب على الطموح والأمل:

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه(6) ولوه الحمام، وجعله

ص: 436


1- مكارم الأخلاق: 433.
2- بحار الأنوار 75: 26.
3- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
4- تحف العقول: 318.
5- جمال الأسبوع: 517.
6- يألهون إليه: يلوذون به ويعكفون عليه.

سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته»(1).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «حجّوا واعتمروا، تصح أجسامكم، وتتسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتكفوا مئونة الناس ومئونة عيالاتكم»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «... والحج تسكين القلوب»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما من بقعة أحب إلى اللّه من المسعى؛ لأنه يذلفيها كل جبار»

وسُئل(عليه السلام): لم جعل السعي؟ فقال(عليه السلام): «مذلة للجبارين»(4).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن علّة الحج الوفادة إلى اللّه تعالى، وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف، وليكون تائباً مما مضى مستأنفاً لما يستقبل، وما فيه من استخراج الأموال، وتعب الأبدان، وحظرها عن الشهوات واللّذات، والتقرب في العبادة إلى اللّه عزّ وجلّ والخضوع...»(5).

التوازن في كل شيء

وفي مجال التوازن في الكون والحياة، وفي الأشياء كلها ما يعلم التوازن في الأمور:

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... فإن اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سُدى، ولم يدعكم في جهالة ولا عمى، قد سمّى آثاركم(6)، وعلم أعمالكم

ص: 437


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم وفيها ذكر الحج.
2- وسائل الشيعة 11: 15.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 296.
4- الكافي 4: 434.
5- علل الشرائع 2: 404.
6- سمّى آثاركم: بين لكم أعمالكم وحدّدها.

وكتب آجالكم...»(1).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «... والحمد للّه الذي اختار لنا محاسن الخلق، وأجرى علينا طيبات الرزق، وجعل لنا الفضيلة بالملكة على جميع الخلق، فكل خليقته منقادة لنا بقدرته، وصائرة إلى طاعتنا بعزته. والحمد للّه الذي أغلق عنا باب الحاجة إلّا إليه، فكيف نطيق حمده، أم متى نؤدي شكره، لا، متى. والحمد للّه الذي ركّب فينا آلات البسط، وجعل لنا أدوات القبض، ومتّعنا بأرواح الحياة،وأثبت فينا جوارح الأعمال، وغذانا بطيبات الرزق، وأغنانا بفضله، وأقنانا بمنّه»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... يا مفضل! أول العِبَر والأدلة على البارئ جلّ قدسه، تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه، ونظمها على ما هي عليه، فإنك إذا تأملت العالم بفكرك وميزته بعقلك، وجدته كالبيت المبنيّ المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده؛ فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكل شيء فيها لشأنه معد، والإنسان كالمملك ذلك البيت، والمخوّل جميع ما فيه، وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه، ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة، ونظام وملائمة، وأن الخالق له واحد، وهو الذي ألفه ونظمه بعضاً إلى بعضٍ، جلّ قدسه وتعالى جده وكرم وجهه...»(3).

ص: 438


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 86 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يبين صفات الحق جلّ جلاله، ثم عظة الناس بالتقوى والمشورة.
2- الصحيفة السجادية(عليه السلام) إذا ابتدأ بالدعاء بدأ بالتحميد للّه عزّ وجلّ والثناء عليه.
3- بحار الأنوار 3: 61.

العِبرة سبيل النجاة

كيف نعتبر؟

اشارة

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فتفكروا أيها الناس وتبصّروا واعتبروا واتعظوا وتزوّدوا للآخرة تسعدوا»(2).

لا بد للمرء إذا أراد التقدم والخير لنفسه وللآخرين، أن يتأمل ويحقق في أربعة أمور مهمة، وعندها يعرف ماذا ينبغي له أن يصنع؟ وماذا يترك؟ وكيف يستفيد من التجارب الماضية؟

وهذه الأمور الأربعة هي:

متابعة التاريخ

أولاً: التاريخ، فاللازم متابعة التاريخ بالتحليل والتدقيق الصحيحين، حتى يعرف الأسباب والمسببات، والخلفيات والدوافع وما أشبه؛ وعندها سوف تنكشف علل سقوط الأشخاص والدول في التاريخ، وعلل سمو ونجاح البعض الآخر، وتنكشف عوامل الضعف والقوة عند الأمم والأفراد.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من فهم مواعظ الزمان لم يسكن إلى حسن الظن

ص: 439


1- سورة يوسف، الآية: 111.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 485.

بالأيام»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من اعتبر بتصاريف الزمان حذر غيره»(2).

التجارب الشخصية

ثانياً: التجارب الذاتية؛ إذ الإنسان في حياته العملية يمر بمجموعة من التجارب والأعمال، وهذه التجارب سوف تعطي لصاحبها الوعي والبصيرة في المستقبل. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حفظ التجارب أصابت أفعاله»(3).

فمثلاً الشخص الذي يحترم الناس ويبادلهم الحب والود، سوف يرى نتائج مرضية من قبل الناس، فإنهم سوف يبادلونه الاحترام والتبجيل، وهذه حالة بسيطة يلزم أن يتصف بها المؤمن وهي ذات مدلول كبير تعطي للإنسان انفتاحاً على المستقبل، وعلماً بحوادث الأمور، فلا يقع في المطبات التي وقع بها هو أو الآخرون سابقاً، وهذا ما أشار إليه الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في قوله: «لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين»(4).

فالإنسان العاقل هو الذي يستفيد من أخطائه ونقاط الضعف التي مرت بحياته، لكي لا يقع بها ثانية ولا يصاب بمثلها في المستقبل.

وكذلك قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أحب إخواني إليّ مَن أهدى إليّ عيوبي»(5).

حيث يبين الإمام(عليه السلام) في هذا الحديث قانوناً كلياً للتطور، فإن من يبين

ص: 440


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 649.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 597.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 666.
4- مشكاة الأنوار: 319.
5- الكافي 2: 639.

للإنسان معايبه يشخص له الأسباب الخفية والدواعي الباطنية التي كانت تسبب له التأخر والاضطراب في الحركة، ليصحح الإنسان حركته في حياته اليومية ذات المَساس بالمجتمع والدين.

فمن هنا كان للتجارب الذاتية أثر فعال في تصحيح أفكار وسلوك الإنسان. فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كفى عظة لذوي الألباب ما جربوا»(1).

الأحداث المعاصرة

ثالثاً: دراسة الأحداث المعاصرة والتأمل في كيفية جريانها، بأن ينظر الإنسان إليها، ويرى ما هي مقدمات نشوء الحدث؟ وكيفية السيطرة عليه واحتوائه واستثماره؟ ومقارنته مع العبر والحوادث السابقة، والاستفادة من الماضي في معرفة الحدث المعاصر، ووضع الاحتمالات المتوقعة، ووضع الحلول والبرامج لهذه الاحتمالات والنتائج.

فعلى الإنسان أن لا يقف مكتوف اليدين أمام الحوادث المحيطة به، بل عليه أن يلاحظ الحوادث السابقة المشابهة لهذا الحدث ويستفيد منها، ويقوم بدفع الشر الذي فيه؛ إذ أن الجهل بالحوادث، والجهل بمقدماتها، سوف يعرض الإنسان إلى أضرار خطيرة، ربما أدت إلى هلاكه؛ ولذلك صار دفع الضرر واجباً عقلياً في الجملة. فعلى كل إنسان أن يدفع الضرر الكثير أو الخطر الجسيم عن نفسه، فإذا لم يدفعه يعد ذلك قبيحاً في عرف العقلاء.

أما كيف يمكن دفع الأضرار والحوادث التي ترهبه وتضره؟ فذلك لا يمكن - عادة - إلّا إذا عرفها، أما إذا كان جاهلاً بالأمر، فإنه لا يعرف الضرر من غيره، فكيف يمكن له أن يدفعه؟!

ص: 441


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 521.

ولذلك صارت المعرفة واجبة، إذ بها يتم معرفة الأضرار والمخاوف ودفعهما... ومن هنا كانت دراسة مجريات الأحداث أمراً مهماً لنجاة الإنسان.

دراسة المستقبل

رابعاً: دراسة المستقبل طبق المحتمل العقلائي؛ وذلك بأن يلاحظ الأثر المترتب على النتائج. فمثلاً: إذا كان أحد الأشخاص يسرق أموال الآخرين فالمحتمل العقلائي له الوقوع بيد السلطة القضائية، ومن ثم السجن.

أما إذا كان إنسان ينفع الآخرين، يجيد الخطابة والتعليم للناس، فإن المحتمل العقلائي له أنه يكون في موقع احترام وتقدير الآخرين.

فكل شيء إذا فكر الإنسان فيه واعتبر منه، فإنه يستطيع أن يختار أفضل الطرق المؤدية إلى الحياة السعيدة، ويشخص الطرق الملتوية والسيئة، ويسلك أفضل الطرق.

فغالباً هناك أربع أو خمس حالات أو طرق يتمكن بها الإنسان أن يتوصل من خلالها إلى غايته:

أحدها: طريق سيئ جداً، والآخر بين السيئ والحسن، وأحياناً سيئ، وأحياناً فاضل، وبعض الأوقات هناك طرق أفضل، وهذا المطلب العقلي موجود في الأحكام الشرعية، إذ أن الحكم الشرعي التكليفي ينقسم إلى: واجب، وحرام، ومستحب، ومكروه، ومباح، فالعمل بالواجبات هو من أفضل الطرق للتقرب إلى اللّه. والطريق الفاضل، وهو العمل بالمستحبات، كما أن المباح أمر متوسط بين الفعل وعدم الفعل، كشرب الماء والقيام والجلوس، وما أشبه، أما الطرق السيئة، والتي لا توصل الإنسان إلى شيء، فهو العمل بالحرام، وهذا العمل سيئ جداً، وأقل سوءً منه العمل بالمكروه.

والتاريخ هو أحد الأمور المهمة التي يستطيع الإنسان أن يأخذ العبرة منه،

ص: 442

ويبني حياته على أساس ذلك، فعادة الأشخاص الناجحون في الحياة، والذين يؤدون الأعمال الصالحة للمجتمع هم الذين قد اعتبروا بِعبَر التاريخ، واستفادوا من تجارب السابقين، وكذلك استفادوا من الأحداث الجارية، التي تمر عليهم، وهكذا ينظرون إلى المستقبل حسب المحتمل العقلائي الصحيح، ويضعون النتائج ويرسمون الخطوط العريضة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(1)

بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة والتحاض عليها والتواصي بها. واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم، وأوهن منتهم(2)، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي. وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، أ لم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا حالاً، اتخذتهم الفراعنة عبيداً، فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلة في امتناع، ولا سبيلاً إلى دفاع، حتى إذا رأى اللّه سبحانه جد الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكانالخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً وأئمةً أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم

ص: 443


1- المُثُلات: العقوبات.
2- المُنّة: القوة.

تذهب الآمال إليه بهم. فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة. ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين. فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، وقد خلع اللّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم، فيكم عبراً للمعتبرين»(1).

شاهد من التاريخ

يحكى أن تاجراً في زمن أحد الخلفاء كان مشهوراً بين الناس بالسمعة الطيبة والأمانة، فكان موضع اعتماد الناس حيث كانوا يضعون أموالهم بيده ليتاجر لهم بها، أو ليضارب بها(2)، وهذا يعني أنهم أعطوه كامل الثقة، ولكنه وسوسه الشيطان، فانحرف عن الحق، وتجاوز على أموال الناس، ويوماً بعد يوم عرف الناس ذلك الأمر منه وبرزت شخصيته على حقيقتها فتركه الناس جميعاً، ولم يستأمنه أحد، فكسدت تجارته، وضاق عليه الرزق، فبقي جليس الدار بسبب ابتعاده عن الصدق والأمانة، وكان لهذا التاجر ولدٌ شاب، كان قد اطلع على أحوال أبيه، وحاول أن يعتبر ويتعّظ منه، فصمم الشاب على الابتعاد عن الخيانة كلياً، لكي لا يصاب بما أصيب به أبوه، فأخذ أولاً يعمل بكل ما بوسعه ليدخل وينفذ إلى قلوب الناس، فعمل بالطاعات، وأبتعد عن المعاصي، والتزم السلوك

ص: 444


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.
2- المضاربة شكل من أشكال التجارة. روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال فِي الْمُتَضَارِبَيْنِ: «وهما الرجلان يدفع أحدهما مالاً من ماله إلى الآخر يتجر به، على أنه ما كان فيه من فضل كان بينهما على ما تراضيا عليه واتفقا...» دعائم الإسلام 2: 86.

الحسن، وكان لهذا الشاب جار، وكان هذا الجار قائداً في الجيش الإسلامي، فصادف أن استدعاه الحاكم في إحدى تحركاته العسكرية، فقام هذا القائد وذهب إلى جاره الشاب وأودع عنده عشرة آلاف دينار، وأوصاه بأن يحافظ على هذا المبلغ كأمانة، وقال له: إذا قتلت في الحرب، فأعطه لأولادي وزوجتي، ولك عُشر المبلغ. وشاء القدر أن يموت هذا القائد العسكري، فقام الشاب بتسليم المبلغ إلى عائلته، ففرحوا كثيراً بعد أن أصابهم الفقر، ولما سمع الحاكم بهذا الأمر استدعاه عنده، حيث أعجب بأخلاقه وأمانته وسلوكه الإسلامي، وجعله أميناً على بيت مال المسلمين.

نلاحظ من خلال هذه القصة البسيطة، كيف أن الإنسان يستفيد وينتفع بالاعتبار من الأعمال والأحداث السابقة، وكيف ينجح إذا تجنب نقاط الضعف التي مر بها السابقون، فيتجاوزها ولا يقع فيها مرة أخرى، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن ذهاب الذاهبين، لَعبرة للقوم المتخلفين»(1).

الاعتبار سبب التقدم

لاشك في أن الاعتبار مما مضى وممن مضى سبب هام لتقدم الإنسان في مختلف الميادين، ومنها الجانب المادي، من حيث العمل والسلوك، فإن الإنسان إذا درس تجارب السابقين، ولاحظ خطواتهم وسلوكهم وحركتهم، يمكنه أن يأخذ الجوانب الإيجابية في حياتهم ويطبّقها في حياته، ويتجنب الأخطاء التي وقعوا بها، كما هو الحال في قيام دولة مكان أخرى، فيأتي القائد الجديد ويدرس الممارسات غير الإيجابية التي أدت بذلك الرئيس إلى السقوط وانتهاءحكمه فيتجنبها، بل يعمل على العكس منها، فهنا سوف يدوم هذا الرئيس

ص: 445


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 222.

الجديد بحكم القوانين الطبيعية أكثر من الأول؛ لأنه اتخذ الطريق الأفضل، وأخذ المقدمات الصحيحة، فالنتيجة تكون أسلم، وعمرها أطول.

التقدم الروحي المعنوي

وهناك تقدم آخر مهم جداً ينبغي الالتفات إليه، ألّا وهو التقدم الروحي والمعنوي، الذي يشمل تنمية الكمالات النفسية والأخلاق الفاضلة، فالإنسان أيضاً يستطيع أن يعتبر بالماضين في هذا الجانب، سواء كانوا أولياء اللّه، أم أعداءً له عزّ وجلّ، فإنه يأخذ الجوانب المشرقة والأسباب التي جعلت من أولئك أولياء مقربين، وكذلك يتجنب الأسباب التي جعلت من الآخرين أعداءً للّه عزّ وجلّ، يعتبر بخاتمتهم السيئة، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «اتعظوا بالعبر، واعتبروا بالغير، وانتفعوا بالنذر»(1).

فإن من لم يعتبر ولم ينتفع بالغير ليس بعاقل؛ لأن العقل هو الذي يدعو الإنسان للاعتبار والاتعاظ والتأسي؛ فإن في ذلك مصالح كبيرة تزيد الإنسان كمالاً وتقدماً في طريقه إلى اللّه عزّ وجلّ، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من قوي عقله أكثر الاعتبار»(2).

قصة المشي إلى بيت اللّه

ومما يحكى في مجال الاستفادة من تجارب وعمل السابقين، لاسيما الأوصياء والأنبياء(عليهم السلام)، أن أحد الأشخاص وأسمه: عزيز اللّه، قد تشرّف بزيارة ومجاورة أمير المؤمنين(عليه السلام) في النجف الأشرف.

يقول الشخص المذكور: عندما ذهبت إلى النجف الأشرف شرعت في طلبالعلم وتهذيب النفس، فكنت أراقب نفسي وتصرفاتها بشكل دقيق جداً، كما

ص: 446


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 153.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 608.

كنت أهتم كثيراً بمسألة أداء الواجبات ومجانبة المعاصي، وعلاوة على ذلك كنت أرى من اللازم عليّ أن أترك بعض المباحات أيضاً، حسب المقدور والاستطاعة، ولقد قررت مع نفسي أن أواظب على أداء المستحبات وترك المكروهات، وفي عيد الفطر ذهبت إلى كربلاء المقدسة لأداء الزيارة المخصوصة، وعندها حللت ضيفاً عند أحد أصدقائي في مدرسة الصدر الأعظم(1)، فكنت أقضي جميع وقتي في حرم الإمام الحسين(عليه السلام) إلّا في وقت تناول الطعام أو أخذ قسط من الراحة، فكنت أرجع إلى المدرسة، وفي تلك الأيام خطرت على بالي فكرة الحج إلى بيت اللّه الحرام ماشياً، كما كان يفعل أئمتنا(عليهم السلام)، وذات مرة لدى عودتي إلى المدرسة وجدت مجموعة من أصدقائي جالسين يتحدثون في مسألة الرجوع إلى النجف الأشرف، فسألوني: متى ترجع؟

فقلت لهم: إني نويت زيارة بيت اللّه الحرام، وسوف أذهب في هذا العام ماشياً، بإذن اللّه تعالى، وطلبت التوفيق من اللّه عزّ وجلّ تحت قبة الإمام الحسين(عليه السلام) وعندي أمل كبير بأن اللّه سوف يستجيب لي.

فلما سمع أصدقائي ما قلت لهم استهزءوا بي، وقالوا: الظاهر أن كثرة العبادة والرياضة الروحية قد أثّرت فيك، فكيف تستطيع المشي في هذه الصحراء الحارة والمخيفة، دون أن تمتلك القابلية لذلك، ودون أن تمتلك المال والبضاعة الكافية، ولا سيما أن الطريق محفوف بالمخاطر؟!

فلما تجاوز كلامهم واستهزاؤهم حدّه، ضاق صدري منهم كثيراً، وخرجت من الغرفة مكسور القلب، وقد أصابني اليأس، فتوجهت إلى حرم الإمام الحسين(عليه السلام)

ص: 447


1- مدرسة الصدر الأعظم النوري، قام بإنشائها المرجع الديني المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني، وتم بناؤها من ثلث الإرث المتبقي للميرزا تقي خان (الصدر الأعظم)، وكانت من المعاهد العلمية الدينية الرئيسية في كربلاء المقدسة... .

باكياً فزرته زيارة مختصرة، ثم ذهبت إلى محل الرأس الشريف الذي كنت كثيراً ما أصلي وأدعو فيه، فجلست هناك وأخذت أبكي وأدعو اللّه عزّ وجلّ، وفجأة جاءني رجل عربي المظهر وناداني باسمي، وأخذ يسألني بالفارسية: هل تحب أن تتشرف بزيارة بيت اللّه الحرام ماشياً؟ فقلت له: بلى، فقال لي: إذن هيّئ مقداراً من الخبز اليابس بحيث يكفيك لمدة أسبوع كامل، واستصحب معك ملابس الإحرام، وإبريق ماء، وسوف آتيك في اليوم كذا، وفي ساعة كذا؛ لكي نتوجه إلى زيارة بيت اللّه الحرام من هذا المكان المقدس.

فرأيت نفسي مذعنة له ومنجذبة نحوه، فقلت له: سمعاً وطاعة، فخرجت من الحرم الشريف وهيأت كل اللوازم التي ذكرها، فلما حان موعد السفر، حملت أمتعتي وذهبت إلى المكان المعين من الحرم الشريف، فوجدته على الموعد، فخرجنا من الصحن الشريف، ومشينا ساعة إلى أن وصلنا إلى واحة فيها ماء كثير، فقال لي: انتظر في هذا المكان لكي تستريح فيه ريثما آتيك، وبعدها غاب عن نظري، فبقيت في ذلك المكان أنتظره مدة من الوقت إلى أن عاد، فقال: قُم لِنَمشِ، فمشينا عدة ساعات، إلى أن وصلنا واحة أخرى، فخط خطاً على الأرض، وقال: هذا اتجاه القبلة، نم هذه الليلة في هذا المكان، وسوف آتيك صباحاً، وعلّمني عدة أذكار وأدعية، واستمر الأمر هكذا إلى سبعة أيام، دون أن أحس بتعب وأذى، ودون أن أصادف أي خطر في الطريق، فلما صار صباح اليوم السابع وصلنا إلى واحة، فقال لي: اغتسل من هذا الماء وألبس ثياب الإحرام، وكما تراني أُكبر كبّر أنت أيضاً، وهكذا تابعته في جميع الأمور الأخرى، إلى أن وصلنا إلى جبل، فقال لي: أصعد هذا الجبل فسوف ترى مدينة فادخل فيها، وبعدها ذهبوغاب عني، فصعدت الجبل وحدي، ونزلت من الطرف الثاني وإذا أنا ببيت اللّه الحرام أمامي! في تلك الأثناء التفتّ إلى نفسي فعرفت أني كنت محظوظاً كثيراً

ص: 448

لكني كأنما كنت في غفلة أو نوم، إذ لماذا لم أتعرف على ذلك الشخص الكبير، ولكن عرفت بأن ذلك الشخص كان قد تصرف في نفسي شيئاً ما بحيث لم ألتفت حينها إليه، ولم ألتفت إلى سفرتنا كيف لم تستغرق أكثر من أسبوع، بحيث لم نمش يومياً إلّا ساعات قلائل، وعندها تيقّنت بأنه بقية اللّه الأعظم الحجة بن الحسن العسكري عجل اللّه تعالی فرجه الشريف.

نعم، فإن ما يجدر ذكره هنا هو حاجة الإنسان البالغة إلى التوفيق والعناية الإلهية وإن ألطاف المعصومين(عليهم السلام) إنما تشمل من يسير على خطاهم ويعتبر من أفعالهم نظرياً وعملياً... وحتى مسألة الاعتبار تحتاج إلى توفيق إلهي عظيم، ف- (عزيز اللّه) وبسبب تمسكه وانقطاعه للأئمة(عليهم السلام) وفّق لكي تنقدح في ذهنه مسألة التأسي والاعتبار بفعل الأئمة(عليهم السلام)، مع تباعد الأزمنة بينه وبينهم(عليهم السلام)، فمن خلال هذه القصة نلاحظ كم تقدم (عزيز اللّه) معنوياً، وكم اقترب من مولانا صاحب الأمر عجل اللّه تعالی فرجه الشريف وكل هذا كان بفضل أخذ العبرة من الماضين، والسير على خطاهم الإيجابية، ومن هنا يتضح أن العبرة سبب هام جداً في سبيل تقدم الإنسان وتكامله.

العِبرَةُ سبيلُ النجاة

عندما يتابع الإنسان سلسلة الأحداث، ويتدبر الحوادث التاريخية، ويدقّق في تفاصيلها، عندها سوف يميز نقاط الضعف من نقاط القوة، فيحاول الاستفادة من دراسته هذه، لأنه في كلا الأمرين سوف يكون غنياً من الناحية التاريخية التجريبية. فالذي يطّلع على تجارب السابقين، ويسعى من خلالها لئلا يقع بما وقعوا فيه من أخطاء، ويستفيد من نقاط القوة فيأتي بها، فإن ذلك سيكون مدعاةلنجاته، وعدم سقوطه في المهالك، وهذا هو بالضبط ما فعله العظماء والناجحون في مختلف ميادين الحياة؛ فإنهم استشرفوا الأحداث والمواقف،

ص: 449

فعرفوا الحق فاتبعوه، وشخصوا الباطل فاجتبوه، ولم توقفهم بعد ذلك لومة لائم، ولا إرجاف ظالم.

فمثلاً، حبيب بن مظاهر رأى الأحداث والمواقف التي تعكس سيرة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وتذكر أيام خلافته العطرة، وسلوكه العادل في الناس... .

ثم رأى ما قام به معاوية بن أبي سفيان من الغدر والخيانة مما تصب عليه اللعنات هو وقبيله من الذين لعبوا بأموال ودماء الأمة، فاختار حبيب بن مظاهر طريق علي(عليه السلام)؛ لأنه التجربة الناصعة التي تدلّل على النجاة والنجاح دائماً، فكان مع الحسين(عليه السلام) في كربلاء، وظل ملازماً له حتى آخر لحظة من حياته، وبذل نفسه في سبيل نصرته.

بينما حرملة بن كاهل الأسدي الذي كان من نفس عشيرة حبيب بن مظاهر، اختار السلوك الملتوي والطرق المهلكة، فإنه لم يستفد من تجارب الآخرين، بل تأسى بمعاوية وأمثاله، واختار طريق ابنه يزيد (عليه لعن اللاعنين إلى يوم الدين) المجسّد الحقيقي لخطى أبيه وأجداده، المعادي للإسلام.

فحرملة لم يستفد شيئاً من تجارب السابقين، بل مرت عليه بدون أن يتنبه لها، على العكس مما دعت إليه الآية الكريمة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(1)، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى فإن حرملة باختياره طريق الضلال دل على انحطاط مستواه الفكري والعقلي؛ لأن الآية تقول: إن أصحاب العقول هم الذين يعتبرون منقصص الأولين، ومفهومها العرفي: إن الذي لا يعتبر لا عقل له.

حقاً وبالتأكيد فإن من اختار طريق يزيد بن معاوية لم يكن له عقل؛ إذ إنه لو

ص: 450


1- سورة يوسف، الآية: 111.

تأمل وفكّر قليلاً بالعواقب والنتائج لما وصل الأمر به إلى شقاء الدنيا والآخرة بالمشاركة في قتل ريحانة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، بل لارتفع كما ارتفع حبيب بن مظاهر، لذلك كان العبرة نجاة للإنسان: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(1).

وفي آية أخرى يقول تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(2).

وهنا نكتة لطيفة تتعلق بالمقام، فإن الذي يخشى اللّه فهو دائم الاعتبار بتجارب السلف، أما الذي لا خشية لديه ولا خوف من اللّه تعالى، فهو بعيد عن الاعتبار والاتعاظ.

فالخشية من اللّه تفتح آفاقاً رحبة لفؤاد الإنسان وعقله، فتجعله منفتحاً على التاريخ الماضي ومن سلف، ليتدبر بأعمالهم ويتأمل في قصصهم، ويسعى للاستفادة من ذلك كله، فلا غرابة في حرملة بن كاهل، الذي لم يعتبر من التاريخ شيئاً، لأنه كان بعيداً عن اللّه، وعن خوفه وخشيته.

كلمة أخيرة

لقد مرت الشعوب المسلمة بعد الاضطهاد الاستعماري بحقبة طويلة جداً من الديكتاتورية، وبرموز عديدة من الظلمة المستبدين العملاء، الذين أخذوا يسوسون الناس بسياسات لا تنسجم مع طبيعة الإنسان المسلم.

وهذه السياسات القمعية والتي تركن إلى الظلم والاستبداد آخرها الفشل، ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟

كم هناك من تجارب فاشلة قام بها الطغاة، والتي ما زال بعضها مستمراً إلى يومنا هذا، ولكن الشعوب المسلمة شيئاً فشيئاً أخذت تفيق من سباتها العميق،

ص: 451


1- سورة آل عمران، الآية: 13.
2- سورة النازعات، الآية: 26.

وتنادي باسم الإسلام والعودة إليه، وإلى أحكام القرآن، بعد أن فشلت:البعثية، والشيوعية، والرأسمالية، وأحزابها.

إذاً، إرادة المسلمين الجديدة هي نتيجة الاعتبار من الأنظمة السابقة، وملاحظة الفشل الذريع الذي مرت به هذه الأحزاب أو الحركات المشبوهة النشأة والنوايا والسيرة؛ لذلك نادت بالبديل الأصلح، وهو الإسلام.

ونداؤها هذا جاء بعد الاعتبار وإلقاء نظرة إلى الخلف، وهي ملاحظة الإسلام في زمن الرسول الأكرم وأمير المؤمنين (عليهما أفضل الصلاة والسلام)، ولقد شاهدت البشرية صوراً رائعة يعجز عنها البيان، بل تعجز البشرية أن تلد مثل تلك اللحظات الروحية، التي صنعها الإسلام بفضل قيادة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) ووصيه(عليه السلام).

إذاً، فمناداة المسلمين بالعودة إلى الدين إنما هي تعبير آخر عن وعيهم للتجارب، واعتبارهم بالمواقف والأحداث.

«اللّهم صل على محمد وآله، ونبّهني لذكرك في أوقات الغفلة، واستعملني بطاعتك في أيام المهلة، وأنهج لي إلى محبتك سبيلاً سهلة، أكمل لي بها خير الدنيا والآخرة»(1)، بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

اشارة

من عناصر التقدم:

1- العودة إلى القرآن

قال تعالى: {ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(2).

ص: 452


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة البقرة، الآية: 2.

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).

وقال سبحانه: {ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(3).

2- العبرة

قال عزّ وجلّ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(4).

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(5).

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ أَفَلَمْيَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ

ص: 453


1- سورة المائدة، الآية: 15-16.
2- سورة الأنعام، الآية: 154- 155.
3- سورة النحل، الآية: 89.
4- سورة آل عمران، الآية: 13.
5- سورة يوسف، الآية: 111.

اتَّقَوْاْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَٰفِرِينَ أَمْثَٰلُهَا}(2).

وقال تبارك وتعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(4)

3- الوعي

قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ}(5).

وقال سبحانه: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَٰنَ اللَّهِ وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(7).

4- التعقل

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي

ص: 454


1- سورة يوسف، الآية: 109.
2- سورة محمد، الآية: 10.
3- سورة الروم، الآية: 9.
4- سورة آل عمران، الآية: 137.
5- سورة الأنعام، الآية: 104.
6- سورة يوسف، الآية: 108.
7- سورة الحاقة، الآية: 12.

تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَمَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٖ وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(1).

وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(2).

وقال سبحانه: {لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٖ لَّرَأَيْتَهُ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَٰمُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَا أَتَىٰهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

اشارة

من عناصر التقدم:

1- العودة إلى القرآن

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أتتكم الفتن كقطع الليل المظلم». قالوا: يا رسول اللّه، فبم النجاة؟ قال: «عليكم بالقرآن، فإنه من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه قاده إلى النار، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل، من قال به صدق، ومن

ص: 455


1- سورة البقرة، الآية: 164.
2- سورة النحل، الآية: 12.
3- سورة الحشر، الآية: 21.
4- سورة يونس، الآية: 24.

حكم به عدل، ومن أخذ به أجر، ومن عمل به وفق»(1).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان؛ زيادة في هدى، أو نقصان من عمى. واعلموا، أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم(2)، فإن فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر، والنفاق، والغي، والضلال...»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لا يرفع الأمر والخلافة إلى آل أبي بكر أبداً، ولا إلى آل عمر، ولا إلى آل بني أمية، ولا في ولد طلحة والزبير أبداً؛ وذلك أنهم بتروا القرآن، وأبطلوا السنن، وعطلوا الأحكام، وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحزان، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم، فهذه صفة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) للقرآن، وما عدل أحد عن القرآن إلّا إلى النار»(4).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام): «قيل لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن أمتك ستفتتن، فسئل ما المخرج من ذلك؟ فقال: كتاب اللّه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، من ابتغى العلم في غيره أضله اللّه، ومن ولي هذا الأمر من جبار فعمل بغيره قصمه اللّه، وهو الذكر الحكيم والنور المبين

ص: 456


1- إرشاد القلوب 1: 8.
2- اللأواء: الشدة.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن ونهى عن البدعة.
4- بحار الأنوار 89: 26.

والصراط المستقيم، فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهوالفصل ليس بالهزل، وهو الذي سمعته الجن فلم تناهى أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فََٔامَنَّا بِهِ}(1) ولا يخلق على طول الرد، ولا ينقضي عبره ولا تفنى عجائبه»(2).

2- العبرة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن ربي أمرني أن يكون نطقي ذكراً وصمتي فكراً، ونظري عبرة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فاز من كانت شيمته الاعتبار، وسجيته الاستظهار»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): المعتبر في الدنيا، عيشه فيها كعيش النائم، يراها ولا يمسها، وهو يزيل عن قلبه ونفسه باستقباحه معاملات المغرورين بها ما يورثه الحساب والعقاب، ويتبدل بها ما يقربه من رضا اللّه وعفوه، ويغسل بماء زوالها مواضع دعوتها إليه، وتزيين نفسها إليه، فالعبرة يورث صاحبها ثلاثة أشياء: العلم بما يعمل، والعمل بما يعلم، وعلم ما لم يعلم، والعبرة أصلها أول يخشى آخره، وآخر يحقق الزهد في أوله، ولا يصح الاعتبار إلّا لأهل الصفا والبصيرة، قال اللّه عزّ وجلّ: {فَاعْتَبِرُواْ يَٰأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(5) وقال جلّ اسمه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(6) فمن فتح

ص: 457


1- سورة الجن، الآية: 1-2.
2- تفسير العياشي 1: 6.
3- مشكاة الأنوار: 57.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 484.
5- سورة الحشر، الآية: 2.
6- سورة الحج، الآية: 46.

اللّه عين قلبه، وبصيرة عينه بالاعتبار فقد أعطاه منزلة رفيعة وزلفة عظيمة»(1).

3- الوعي والتفكر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا قدمت الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): إن التفكر يدعو إلى البر والعمل به»(3).

وقال(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: نبه بالتفكر قلبك، وجاف عن الليل جنبك، واتق اللّه ربك»(4).

وقال(عليه السلام): «اعتبروا بما مضى من الدنيا، هل بقي على أحد، أو هل فيها باق من الشريف والوضيع والغني والفقير والولي والعدو، فكذلك ما لم يأت منها بما مضى أشبه من الماء بالماء - إلى قال(عليه السلام) - وقال نوح(عليه السلام): وجدت الدنيا كبيت له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر، هذا حال صفي اللّه، كيف حال من اطمأن فيها، وركن إليها، وأضاع عمره في عمارتها، ومزق دينه في طلبها؟! والفكرة مرآة الحسنات، وكفارة السيئات، وضياء القلوب، وفسحة الخلق، وإصابة في صلاح المعاد، واطلاع على العواقب واستزادة في العلم، وهي خصلة لا يعبد اللّه بمثلها قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ولا ينال منزلة التفكر إلّا من خصه اللّه بنور المعرفة والتوحيد»(5).

ص: 458


1- بحار الأنوار 68: 326.
2- عيون الحكم والمواعظ: 136.
3- الكافي 2: 55.
4- الكافي 2: 54.
5- بحار الأنوار 68: 325.

4- التعقل

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «قلبُ ليس فيه شيء من الحكمة كبيت خراب، فتعلّموا وعلّموا وتفقهوا، ولا تموتوا جهالاً؛ فإن اللّه لا يعذر على الجهل»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «للإنسان فضيلتان: عقل ومنطق، فبالعقل يستفيد وبالمنطق يفيد»(2).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) لهشام بن الحكم: «... يا هشام، إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبه ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة، فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق»(4).

ص: 459


1- نهج السعادة 7: 343.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 546.
3- الكافي 1: 18.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 38.

العراق... ماضيه ومستقبله

لا تكن عبد غيرك

اشارة

في ذكرى ولادة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) (1) والتي تصادف الثالث عشر من شهر رجب المرجب نتبرك بذكر كلمة للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) من وصيته لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) يقول فيها:

«... ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حرّاً...»(2).

سياسة الغرب

إن من أهم العوامل التي ساعدت الغربيين في السيطرة على العراق المسلم هي إزالة الركائز الأساسية للحرية، وذلك عن طريق استخدام كل وسيلة ممكنة للسيطرة على بلادنا؛ كي نتحول إلى أمة لا وزن لها، تدور في فلكهم بلا إرادة واختيار. ومما ساعده على ذلك غفلة بعض المسلمين وجهلهم.

وحيث لم يكن الغرب قادراً على أن يفعل بنا ما يريده فجأة استخدم الطريقة التدريجية في ما يريد فاستطاع بذكاء أن يجردنا من أسلحتنا واحدة بعد أخرى.

ففي البداية سلب من بعض المسلمين سلاح الفكر والعقيدة، ثم سلبهم سلاح الاقتصاد حيث جعلهم محتاجين إليه، وجعل أزمَّة الأمور الاقتصادية

ص: 460


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 9/رجب/ 1411ه في قم المقدسة.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 31 من وصيته(عليه السلام) لابنه الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام).

بيده، ثم سيطر سياسياً، واغتصب منا حتى قطعة الأرض التي نسكن عليها،واحتل المواقع الاستراتيجية كي يسهل عليه ضربنا متى أراد ومتى ما طالبنا بالحرية والاستقلال.

واجبنا تجاه المشاكل

والسؤال الذي يطرح الآن: ما هو واجبنا اتجاه هذه المشاكل التي ابتلي بها المسلمون في العراق؟

من أجل أن نتوصل إلى معرفة الواجبات الملقاة على عاتقنا، لا بد لنا من معرفة مصادر القوة في العراق والتي تعتبر الركائز الأساسية للحرية والاستقلال في كل البلاد الإسلامية.

القوى التي أزالها الغربيون

القوة الأولى: المرجعية الدينية

لقد كانت المرجعية الدينية الجهة صاحبة النفوذ في العراق، وكانت تعتبر الركيزة الرئيسية التي يستند عليها المجتمع العراقي - آنذاك - ، وإني أتذكر جيداً حينما توفي السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله) كان هناك خمسة وعشرون مرجعاً للمسلمين في النجف الأشرف وكلهم كانت لديهم رسائل عملية، وكذلك كان الأمر في كربلاء المقدسة وقد كان منهم المرحوم الوالد(رحمه الله)(1) وغيره.

وكان أغلب أبناء الشيعة في العالم الإسلامي من باكستان والهند وأفغانستان حتى لبنان ودول الخليج وأفريقيا وغيرها من البلدان الإسلامية يرتبطون بأولئك المراجع العظام، ولقد كانت المشاكل المستعصية - مهما كانت حجمها - تحل بيد العلماء وذلك لما يتمتعون من العلم والذكاء والقدرة والنفوذ بين الناس ولذا

ص: 461


1- هو السيد الميرزا مهدي الحسيني الشيرازي(رحمه الله).

كانت للعالم مكانة خاصة في القلوب ويتمتع باحترام كبير من قبل الناس؛ بسببخدمته للناس(1)، وتحركه بينهم فهو كان يشاركهم في كل عمل من الصلاة وإجراء صيغة النكاح ويحضر مناسباتهم في الأفراح والأحزان، فضلاً عن انهم كانوا ينظمون أسس الحياة المجتمعية والعملية في العبادات والمعاملات فقد كان - العلماء الفقهاء - الذخيرة الحية للمؤمنين وكان الناس على علم بأن في طاعة العلماء نيل الحسنات وإزالة السيئات.

فقد جاء عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إلّا ناداه ربه عزّ وجلّ جلست إلى حبيبي، وعزّتي وجلالي لأسكننك الجنة معه ولا أبالي»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة»(3) فلذا كان العالم يستمد قوته من الشعب وبالتالي كانت الأمة تحصل على الحرية والأمان.

أثر المرجعية في الحرية
اشارة

ومن الشواهد على قوة المرجعية وتأثيرها في الحرية والاستقلال ثورة (التنباك) التي حدثت في إيران.

المجدد الكبير(رحمه الله)

وكان المرجع الأعلى للشيعة المجدد الكبير السيد محمد حسن الشيرازي(رحمه الله) والذي حارب الإمبراطورية العظمى آنذاك بريطانيا عندما أرادوا

ص: 462


1- وفي الرواية الشريفة عن سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام) قال: «اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم اللّه عليكم فلا تملوا النعم فتتحول إلى غيركم» أعلام الدين: 298 وهذا هو الميرزا الكبير الميرزا القمي(رحمه الله) الذي يعتبر من الطبقة المجددة لعلم الأصول يقول: لو علمت أني بعد قليل سأموت لجلست على باب بيتي أقضي حوائج الناس.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 37.
3- الكافي 1: 39.

الدخول إلى إيران باسم تجارة التبغ فأصدر فتواه المعروفة (بتحريم استعمالالدخانيات)(1)

فسبب ذلك اخراجهم من البلاد في قصة مشهورة.

الآخوند الخراساني

وأيضاً هناك شاهد آخر هو الشيخ محمد كاظم الخراساني الآخوند - صاحب الكفاية، والكتب الأخرى التي هي مدار البحث والدرس في الحوزات العلمية من زمانه إلى هذا اليوم - حيث استطاع الآخوند أن يحارب الاستبداد في إيران وأراد إرساء حكم (المشروطة المشروعة) حتى تمكن من طرد الملوكية الجائرة(2).

الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله)

وأيضاً هناك الشيخ محمد تقي الشيرازي الذي أعلن وجوب مطاردة الاستعمار في العراق وشكل أول حكومة إسلامية في العصر الحديث، حارب الإنكليز بالرغم من قوتهم العظيمة آنذاك حتى تمكن من طردهم من العراق وانتزع استقلال العراق منهم بالقسر.

القوة الثانية: الأحزاب الوطنية
اشارة

كان في العراق في ذلك الزمان قوة الأحزاب الوطنية الحرة، حيث كان في العراق أربعة وأربعون حزباً تتمتع بالحرية الشبه تامة، تعمل لإنقاذ البلد من ويلاته ومشكلاته والنهوض به إلى البناء والتقدم، وكانت هذه الأحزاب قد فرضت نفسها على الساحة وأصبحت تتحكم حتى بقرارات الدولة؛ لأن الساحة تمنح الجميع لإبراز قواه وقدراته والاستفادة منها بالشكل الأفضل.

ص: 463


1- والعبارة هذه هي: بسم اللّه الرحمن الرحيم استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان، ومن استعمله كان كمن حارب الإمام عجل اللّه تعالی فرجه الشريف.
2- ولا يخفى أن الاستعمار دس السم إلى الآخوند(رحمه الله) ولم يمهله الأجل فلبى دعوة ربه الكريم فرحمه اللّه تعالى.

كما أن الدولة - في المقابل - كانت تحسب لهذه الأحزاب حساباً خاصاً،وهكذا كان الأمر في تلك الفئة أو الحزب الذي كان يمسك بزمام الأمور لأنه كان يحذر كل الحذر من باقي الأحزاب التي تعمل على الساحة، فلم يكن يقدم أبداً على أي إجراء يمس كرامة ووجود الشعب بشكل مباشر.

إقالة متصرف

عندما كنت في كربلاء المقدسة وقبل أربعين سنة، دفع أحد الأشخاص إلى متصرف(1) كربلاء في ذلك الوقت كيساً من السكر من أجل إكمال معاملته بشكل سريع - رشوة - ، فعلم بذلك الحزب المنافس لحزب السلطة، وكان وقتها لكل حزب جريدة يومية تصدر آنذاك، فكتبت الجريدة مقالاً فضحت فيه هذا المتصرف على عمله، ووصل الخبر إلى الحكومة، فأرسل وزير الداخلية وراء المتصرف وأحاله إلى التحقيق، وأقيل هذا المتصرف من منصبه بمدة لم تتجاوز الأسبوع من نشر الخبر. مثل هذه الواقعة وأمثالها كانت تنمي قوة الشعب وتبعث الأمان في النفوس وتقوي ركائز الحرية وتعطي للإنسان وجوده وكرامته، لأن المنافسة الحزبية الإيجابية في سبيل البناء تضمن للجميع حرياتهم وحقوقهم.

ومن فوائد وجود الأحزاب الحرة هو حصول حالة من النضج الاجتماعي لدى الناس، وتمييز الغث عن الصحيح، لما كانت الأحزاب صريحة في قضاياها وقضايا الأحزاب الأخرى.

القوة الثالثة: العشائر

العشائر، كان في العراق ما يقارب الألف عشيرة بفروعها، ومن الواضح أن الغالبية العظمى كانت من أبناء العشائر وهم ينتمون إلى هذه العشيرة أو تلك

ص: 464


1- أي: محافظ كربلاء.

سواء أكانت عشيرة صغيرة أم كبيرة.

وكانت هذه هي القوة الثالثة التي أدت إلى الاستقرار في العراق وأرست دعائم الحرية والتي كانت تتنافس في ما بينها في الزراعة والعمارة والتجارة وتقليد المراجع واتباع علماء الدين.

وقد أخذ السيد أبو الحسن(رحمه الله) لما انحصر التقليد به تقريباً في أواخر عصره زمام العشائر كلها بسبب وكلائه ومساعديه من رجال الدين، أمثال: آل الجواهري، وآل بحر العلوم، وآل الشيخ الراضي، وآل الجزائري وغيرهم، وبذلك كانت الحكومة تهابه وتخشاه لما يستند إليه من القدرة العشائرية المتزايدة، وكانوا سند العلماء وسند الحوزات وسند العتبات المقدسة وسند المؤمنين وسند الزوار وسند الاقتصاد، فقد حصل بذلك تكافؤ بين قوة الدولة وقوة الأمة.

وبذلك نستطيع أن نقول إن مراكز القوة في العراق كانت متعددة ولم تكن تجتمع بيد واحدة، الأمر الذي يسبب الاستبداد والفوضى وانعدام الأمن وتزايد الإرهاب والفقر وغير ذلك من مساوئ الاستبداد، حيث كانت عبارة عن:

1- قوة المراجع والحوزات العلمية وهي تمثل سلطة روحية ودينية على الشعب والدولة.

2- قوة الأحزاب السياسية وكانت تمثل قوة الإعلام والجماهير.

3- قوة العشائر وكانت تمثل قوة الشعب العسكرية لأنها كانت مسلحة.

4- قوة الدولة وهي تمثل قوة القانون.

ومن الواضح إن الدولة التي تشهد تعدد القوى والقدرات بشكل واقعي وصحيح ترفل في أفضل أوضاع سياسية واجتماعية حرة.

دسائس الغرب

اشارة

لقد فكر الغربيون كثيراً في إزالة نفوذ هذه القوى الثلاث أو الأربع المهمة.

ص: 465

وذلك لأنهم أدركوا إن حفظ التوازن والتماسك لدى الشعب العراقي مرهونبوجود هذه القوى، كما أدركوا جيداً إنهم لو أرادوا إبعاد الإسلام والتشيع من الساحة السياسية عليهم أن يبدءوا بتضعيف هذه القوى وبالتالي سيصلون إلى نهب ثروات العراق الهائلة.

بداية المؤامرة

بعد أن خطط الاستعمار بدراسة لأوضاع العراق، أوكل التنفيذ لرموزه وأحدث ما يسمى بانقلاب عبد الكريم قاسم(1)،

وكانت بداية هذه المؤامرة على النحو التالي:

لقد أشار الاستعمار إلى حاكم العراق بإصدار قرار يلغي فيه قانون (وقف الذرية)(2)،الذي كان معمولاً به سابقاً في العراق ضمن قوانين البلاد، وبعد إلغاء هذا القانون قام علماء الشيعة في العراق بمعارضته وطالبوا الحكومة بسحب قرار الإلغاء هذا، كما إن العلماء أعلنوا أنهم لا يقفون إلى جانب الدولة في كل قراراتها، لا يستقبلون أي ممثل عن الدولة لو أراد مقابلتهم يوماً ووفقاً لأوامر الاستعمار كانت الدولة وبدلاً من أن تستمع وتطيع أمر المرجعية عمدت إلى توجيه التهم لعلماء الإسلام من أجل تشويه سمعتهم بين الناس، فمثلاً قامت الحكومة بإشاعة خبر كاذب مفاده أن أحد المعممين وجد في أحد البساتين وهو يرتكب جريمة الاعتداء على فتاة.

وإني أتذكر جيداً إن هذا الخبر كيف أذيع من الراديو وبمختلف الفنون الإعلامية المستعملة لتشويه سمعة العلماء وإهانة الحوزات العلمية، في حين لم

ص: 466


1- وقع الانقلاب العسكري لعبد الكريم قاسم عام (1958م) والذي أطاح بالملكية.
2- من القوانين والأحكام الموجودة في الإسلام (كما ذكر الفقهاء): أ: وقف خيري: كبناء المدارس والمستوصفات والبساتين وغيرها. ب: وقف الذرية: وهو أن يوقف الوالد مثلاً ملكاً عيناً أو منفعة وما أشبه لكل الذرية التي بعده جيلاً بعد جيل.

يحظ هذا الخبر بأدنى مرتبة من الصحة.

وعلى أثر ذلك قامت الحوزات العلمية المباركة من أساتذة وطلاب وخطباء إلى جانب الشعب بتظاهرات واعتصامات اعتراضاً على إجراءات الدولة المعادية.

التخطيط لهدم الأحزاب

أما قرار الدولة تجاه القوة الثانية (الأحزاب) فقد خططت لإنهاء عمل الأحزاب والتخلص من خطرها؛ لأن الدولة كانت تتصور إن المحرك لتلك الاعتصامات هي الأحزاب، وبعد أن بلغت التظاهرات أوجهاً قام الغربيون بإعطاء الضوء الأخضر إلى عبد الكريم قاسم الذي قام بدوره بانقلاب 14 تموز وعندئذٍ وصلت قوة الإسلاميين وكذلك الأحزاب الوطنية إلى أدنى مستوى لها.

العشائر وسقوطها

ظلت القوة الوحيدة من تلك القوى التي لم تتعرض بعد إلى ضربة مباشرة هي قوة العشائر، ومعلوم ان العشائر العراقية الشريفة كانت على قدر كبير من الأهمية وذلك لسببين:

الأول: لأن قطاع الزراعة الذي يشكل قسماً كبيراً من اقتصاد العراق كان بيد هذه الشريحة من الشعب.

الثاني: إن أفراد العشائر كانوا يمتلكون السلاح مما جعل الحكومة تبتعد عن الاصطدام بهم إلى حين.

وبعد مدة قصيرة استطاعت الحكومة أن تحكم قبضتها على الزراعة من خلال قانون الإصلاح الزراعي(1) المزعوم، وكذلك أجبرت العشائر على خلع السلاح

ص: 467


1- للتفصيل راجع الكتب الاقتصادية لسماحة الإمام الشيرازي(رحمه الله)، والإصلاح الزراعي لآية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله).

بخدع وأباطيل ملتوية، وبهذا العمل تمكنت الدولة أن تضعف دور هذه القوىالمهمة في سياسة العراق، العلماء والعشائر والأحزاب السياسية وتستبد بالأمور.

كيف سقطت العشائر؟

عندما جاء عبد الكريم قاسم وبأمرٍ من أسياده المستعمرين البريطانيين فرّق العشائر وجعل التضارب بين الرؤساء والمرؤوسين وقام بسحب السلاح منهم، فقد جمع من سلاح العشائر في مدة قليلة مليون قطعة في قصةٍ معروفةٍ مما سبب سقوط السلاح من يد الأمة وسقوط قوة العشائر من يد المراجع والعلماء، وبذلك اختلف ميزان القوى وصارت القوة كلها بيد الدولة تفعل ما تشاء بأمر الأسياد البريطانيين، وهكذا استمرت المؤامرة بمجيء حزب البعث إلى الحكم وبمساعدة بريطانيا وإسرائيل وأمريكا مجتمعين.

مستقبل العراق

اشارة

تشير الظواهر(1) إلى أن أوضاع العراق السياسية مقبلة على تغيرات سياسية جديدة وإن حزب البعث لا يبقى طويلاً على السلطة.

وإذا أراد شيعة العالم وعلمائهم الأعلام وبالخصوص شيعة وعلماء العراق (أيدهم اللّه تعالى) أن يساهموا في إعادة التوازن الذي اختل منذ الخمس والثلاثين سنة الماضية إلى العراق، فعليهم أن يقدموا على عملين أساسيين:

أ: إعادة القوى السياسية التي كانت تعمل على الساحة العراقية قبل (35سنة)، وهي المرجعية والتعددية الحزبية والعشائر.

ب: أن تكون الحكومة المستقبلية لحكومة العراق حكومة شيعية (100%) وذلك نظراً للأكثرية أما الآخرون فلهم حقوقهم المشروعة فان (85%) من

ص: 468


1- بل هذه هي سنة الحياة التي جرى الكون عليها وبهذه الحقيقة تشير الآيات المباركة والروايات.

مجموع الشعب العراقي هم من الشيعة الإثنى عشرية، أما البقية الباقية منالشعب فهم من أهل السنة وغيرهم، أي أن هناك (12%) من السنة، و(3%) من الأديان الأخرى، وإن هذه الإحصاءات هي رسمية وقد صرح بها مدير عام دائرة الأحوال المدنية والنفوس أيام رئاسة عبد السلام عارف(1).

فالحق القانوني والعقلي والشرعي يفرض أن تكون الحكومة القادمة في العراق شيعية مع منح باقي الطوائف والأقليات حقوقهم في الحكم والنظام السياسي بحسب نسبتهم من الشعب.

ولا يخفى أن هناك ثلاثة ملايين من الشيعة أخرجوا من العراق ظلماً وزوراً فالواجب إعادتهم إلى ديارهم.

طلاب العلوم الدينية

إن من المهمات الأولية للمشتغلين بعلوم الدين (حفظهم اللّه تعالى) هو الاهتمام بتقوية ارتباطهم باللّه سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن الناس يقتدون بالعلماء ويعتقدون بنزاهتهم وإخلاصهم وتقواهم ولذلك يتخذونهم قدوة لهم.

وثم من بعدها الدخول بين الناس والسعي لتربيتهم ولتهذيبهم وتوعيتهم وإرشادهم نحو مبادئ الإسلام.

إن من عوامل استقرار العراق وانتصاره ضد الاستعمار البريطاني في ثورة العشرين هو اتباع الناس للمرجعية والعلماء آنذاك وبقيادة الإمام الشيرازي(رحمه الله)(2) إذ كان(رحمه الله) معروفاً بين الناس والعلماء بصفات عديدة منها: العلم، والحلم والزهد والتقوى والورع وأخلاقه الاجتماعية من المداراة وحسن

ص: 469


1- رئيس الجمهورية عام (1963- 1966م).
2- الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين.

الخلق وما أشبه وتدبيره للأمور.

فان هذه العوامل هي التي سببت حبّ الناس له حباً منقطع النظير واتخاذه قدوة لهم، فاستطاع الإمام(رحمه الله) بذلك أن يطرد الاستعمار البريطاني من العراق، نعم، من الواجب على طلاب العلوم الدينية أن يكونوا بين الناس بهذه الأخلاق لبناء المستقبل القائم على أساس الحرية والسلام.

الناس وعلماء الدين

حدث مرة في إحدى المدن العراقية أن أودعت السلطة واحداً من رجال الدين السجن وطلبوا من الناس أن يتبرءوا منه إلّا أن الناس رفضوا ذلك، وكلما أصرت الحكومة على الشعب لكي يعلن البراءة منه لم تتمكن، وأخيراً سألت الحكومة بعض الناس عن سبب هذه العلاقة بين الناس وبين العلماء، فقال لهم الناس: نحن في كل لحظة من حياتنا اليومية نتذكر هذا العالم ونتذكر فضله علينا، ولذلك فإننا لا نتخلى عنه ما دمنا أحياءً.

وهنا ما هو واجب علماء الدين مقابل هذا الشعور النبيل؟

إن واجبهم هو أن يطّلعوا على مشاكل الناس ويتحسسوا همومهم ويفكّروا في إيجاد الحلول لها وقضاء حوائجهم، لأن العلماء كما عبّر عنهم رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا طمست أوشك أن تضل الهداة»(1).

والاقتداء بالعلماء نابع من إقتدائهم بمسيرة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)(2) في مشاركة الناس همومهم وقضاء حوائجهم. فعن أبي الطفيل قال: رأيت

ص: 470


1- بحار الأنوار 2: 25.
2- وفي الرواية عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «ان العلماء ورثة الأنبياء...»، الكافي 1: 32.

علياً(عليه السلام) يدعو اليتامى فيطعمهم العسل، حتى قال بعض أصحابه: لوددت إنيكنت يتيماً(1).

وعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) عندكم بالكوفة يغتدي في كل يوم من القصر فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرة على عاتقه وكان لها طرفان وكان تسمى السببية.

قال: فيقف على أهل كل سوق فينادي فيهم: يا معشر التجار، قدموا الاستخارة وتبركوا بالسهولة واقتربوا من المبتاعين وتزينوا بالحلم وتناهوا عن اليمين وجانبوا الكذب وتجافوا عن الظلم وانصفوا المظلومين ولا تقربوا الربا وأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، قال: فيطوف في جميع الأسواق، أسواق الكوفة ثم يرجع فقعد للناس.

قال: وكان إذا نظروا إليه قد أقبل إليهم وقال: يا معشر الناس، أمسكوا أيديهم وأصغوا إليه بآذانهم ورمقوه بأعينهم حتى يفرغ(عليه السلام) من كلامه، فإذا فرغ، قالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلّا ناداه اللّه تبارك وتعالى: عليّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة»(3).

قيمة التفكر

اشارة

جاء في الروايات الشريفة عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ولا ينال منزلة التفكر إلّا من قد خصه اللّه بنور المعرفة والتوحيد»(4)

ص: 471


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 75.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 197.
3- الكافي 2: 194.
4- بحار الأنوار 68: 326.

أو: «سبعين سنة»(1).

وربما يقال: إن سبعين سنة هي الأقرب للصحة، لما ورد في القرآن الحكيم حينما خاطب الباري عزّ وجلّ رسوله الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) قائلاً: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}(2)، والمقارنة هنا بين الحديث والآية ليس من حيث الوضع والمعنى، وإنما هي مقارنة عددية لا غير. ولكن يمكن الجمع بين الروايتين بأن للتفكير درجات على حسب نوعيته وعمقه... ومن هنا كان التفاوت في قيمته أيضاً.

كان حرملة بن كاهل الأسدي (عليه اللعنة)، وحبيب بن مظاهر الأسدي (رضوان اللّه تعالى عليه) من قبيلة واحدة هي قبيلة بني أسد، والإثنان قد شاركا في معركة الطف يوم عاشوراء، إلّا أن أحدهم وهو حبيب بن مظاهر (رضوان اللّه تعالى عليه) كان مع جيش الإمام الحسين(عليه السلام)، في حين كان حرملة إلى جانب معسكر عمر بن سعد (عليهم اللعنة)، والسؤال هنا هو كيف اتخذ كل من هذين الشخصين موقفه الخاص من قضية واحدة؟ - علماً بأنهم من قبيلة واحدة ومن مدينة واحدة هي الكوفة - .

الجواب: إن نظرتهم قبال تلك القضية كانت مختلفة، بسبب وعيهم وتفكرهم، حيث إن أحدهم فكّر في أمر الدنيا والآخرة وعواقب الأمور فعرف الحق واتبعه فساقه إلى الجنة، وإن الآخر تفكر بأمر الدنيا وملذاتها ونسي اللّه تعالى والآخرة، فعرف الباطل وساقه فكره إلى النار، فيتبين لنا من هذا الأمر قيمة التفكر الصحيح وإتباع الحق أينما كان، قال اللّه تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ

ص: 472


1- عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «ساعة من العالم متكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العباد سبعين عاماً...»، انظر: الصراط المستقيم 3: 53.
2- سورة التوبة، الآية: 80.

الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَٰطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(1).

وعن أحد الصحابة قال: سألت أبو عبد اللّه(عليه السلام) عما يروي الناس: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكر؟

قال(عليه السلام): «يمر بالخربة أو بالدار فيقول أين ساكنوك أين بانوك مالك لا تتكلمين»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ان التفكر يدعو إلى البرّ والعمل به»(3).

الميرزا صادق التبريزي

الميرزا صادق التبريزي(رحمه الله)(4)

كان الميرزا صادق التبريزي(رحمه الله) أحد علماء تبريز، وكان دائماً يواجه رضا خان ويدافع عن المظلومين وحلّ مشاكل الناس بسبب نضجه الفكري وبالتالي أبعده رضا خان إلى مدينة قم.

وبعد أن وصل إلى قم سكن في بيت متواضع جداً، وبقي فيه حتى رحل من دار الدنيا، ومما يذكر عن حياته(رحمه الله)، إن رضا خان أراد يوماً أن يأتي إلى قم لزيارته فأمر وزيره (تيمور تاش) - وكان جلاداً معروفاً آنذاك - أن يخبر الميرزا صادق التبريزي(رحمه الله) برغبة رضا خان هذه، وعندما جاء (تيمور تاش) وأخبر الميرزا التبريزي بذلك رفض ولم يقبل، وكيف يقبل وقد كان يقاوم رضا خان ويقارعه زمن طويل، وكلّما حاول (تيمور تاش) أن يقنع الميرزا صادق التبريزيبقبول الزيارة لم يجد منه أية استجابة، أخيراً قال له: إنك تتخذ لنفسك خصماً

ص: 473


1- سورة سبأ، الآية: 6.
2- الكافي 2: 54.
3- الكافي 2: 55.
4- هو السيد صادق بن السيد محمد بن السيد عبد اللّه الطباطبائي التبريزي، عالم فاضل له آثار منها (مجالس الموحدين).

يخافه كل الناس وقد يقتلك لو أصررت على رأيك!!

لكن صلابة الميرزا التبريزي(رحمه الله) لم تتبدل ولم يخضع للإرهاب، فقال: إني لن أقبل حضور رضا خان عندي مهما كلف الأمر وإني لا أكترث لما سيفعله رضا خان مطلقاً.

نعم، إن موقف الميرزا لم يتبدل حتى بالتهديد. لأنه كان يعلم بأن ولاية الحاكم الظالم حرام فهو توصل إلى ذلك الموقف الثابت من خلال فكره وإخلاصه لأمته وارتباطه بالملك الأعلى تبارك وتعالى، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «وأما وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته... والعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام ومحرّم معذب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير؛ لأن كل شيء من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دوس الحق كله، وإحياء الباطل كله، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب وقتل الأنبياء والمؤمنين وهدم المساجد وتبديل سنة اللّه وشرائعه...»(1).

القاضي الذي يخاف اللّه

لقد كان (وصيف) و(بغا الصغير)(2) شخصين من تركمنستان، وقد قاما بإدارة الدولة إلى جانب الخليفة العباسي (المتوكل)، الذي كان منشغلاً دائماً بوسائل اللّهو المختلفة وقد قال الشاعر:

خليفة في قفص بين وصيف وبغا *** يقول ما قالا له كما يقول الببغا

كان لبغا بستان كبير والى جانبه بيت لطفل يتيم، وكان هذا البيت يمنع من

ص: 474


1- تحف العقول: 332.
2- قائد تركي قاد حملة حربية على ثوار آذربيجان في عهد المتوكل، تآمر على المتوكل واغتاله، أصبح الآمر الناهي مع زميله (وصيف) في عهد المنتصر والمستعين، وقتله الخليفة المعتز.

إخراج أحد أضلاع البستان بشكل هندسي، فقال (بغا) لخادمه يوماً أن يذهب ويقول للقاضي أن يشتري له هذا البيت من ذلك الطفل اليتيم مهما كان الثمن، فراح الخادم إلى القاضي وأبلغه أمر بغا، ولما كان القاضي من الذين يخافون اللّه كان جوابه: إني لا أرى صلاحاً في بيع بيت هذا الطفل اليتيم، فقال الخادم للقاضي: ويلك يا قاضي إنه (بغا). فقال القاضي: هذا صحيح إلّا إنني أخاف من اللّه لا من (بغا).

فرجع الخادم ونقل ما دار بالتفصيل لبغا، فارتعش بغا من هذا الكلام وردد هذه الكلمات على لسانه: إنه اللّه، إنه اللّه، عدة مرات ورجع برأيه عن شراء البيت.

نعم، إن هذا القاضي كان عالماً باللّه تعالى ويخافه دون غيره فكان موقفه على قدر علمه، وقد قال تعالى في كتابه الحكيم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من عرف اللّه خاف اللّه ومن خاف اللّه سخت نفسه عن الدنيا»(2).

ومخافة اللّه لم تكن عند (بغا) لأنه ربط مصيره بالعباسيين الذي غرقوا في ملذاتهم وقتلوا الأئمة الأطهار(عليهم السلام) فظلموا الناس وجاروا عليهم ولم يخافوا اللّه تعالى في ذلك.

عاقبة الذين لا يخافون اللّه

خرج الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) إلى مكة حاجاً حتى انتهى إلى واد بين مكة والمدينة فإذا هو برجل يقطع الطريق، قال: فقال لعلي(عليه السلام): انزل. قال(عليه السلام): «تريدماذا؟» قال: أريد أن أقتلك وآخذ ما معك. قال: «فأنا أقاسمك ما معي وأحلك»

ص: 475


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- الكافي 2: 68.

قال: فقال اللص: لا. فقال(عليه السلام): «دع معي ما أتبلغ به» فأبى عليه، قال(عليه السلام): «فأين ربك؟» قال: نائم، قال: فإذا أسدان مقبلان بين يديه فأخذ هذا برأسه وهذا برجليه، قال: فقال: «زعمت أن ربك عنك نائم»(1).

في أيام عبد الكريم قاسم ذهب صديق لي إلى أحد الوزراء يراجعه في قضية، وفي الأثناء نهاه عن عمل حرام قد ارتكبه - أي الوزير - حيث قال له صديقنا: اتق اللّه، فكان جواب الوزير: إن اللّه ذهب ب(إجازة)، وعندما عاد هذا الصديق ونقل لي ما دار بينه وبين الوزير وذكر لي جواب الوزير، أنشدت قصيدة عنوانها (في بلادي) وقد ضمنتها ذلك الموقف في بيت أو بيتين:

في بلادي في بلادي حيث أحزاب مجازة *** يصرخ القائل اللّه تعالى في إجازة

ثم كانت نهاية هذا الوزير بعد مدة الإعدام على يد السلطة وبنهاية فجيعة، وهذه عاقبة من لا يخاف اللّه، نعم فإن اللّه بالمرصاد فانه تعالى ليس بنائم وليس في إجازة كما توهمه.

وقد أشار إلى ذلك الإمام الصادق(عليه السلام) بقوله لإسحاق بن عمار: «يا إسحاق، خف اللّه كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى إنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم إنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك»(2).

تهيئة الأسباب

اشارة

وبعد كل ما قدمناه من لمحات لتاريخ العراق المسلم ومصادرة حريته من

ص: 476


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 673.
2- الكافي 2: 68.

قبل الغرب وأعوانه، وبيّنا شيئاً من مسؤولية العلماء والناس أمام هذه المحنة مستقبلاً، فلا بد لنا من تعيين وظيفتنا في الوقت الحاضر ونحن خارج العراق حيث اللازم بذل الجهد في مسألتين مهمتين وهما:

1- التوعية

المسألة الأولى: التركيز على التبليغ والتوعية لإيصال كلمة الحق لكافة شرائح المجتمع وعلى نطاق واسع، والتفكير في كل شيء وهذا من واجبات كل العاملين في حقل علوم الدين؛ من أجل تهيئة الأسباب بشكل متكامل ورصين وإرساء دعائم الحرية التي سلبت وإظهارها للناس، وتوضيح الأهداف لئلا نقع ثانية في حبائل المكيدة التي نسجت من قبل.

2- الدعاء

المسألة الثانية: إن اللّه وراء كل أمور الدنيا لأنه بيده كل شيء، لذا فإنه تعالى يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}(1).

وأحد الأمور التي كلفنا بها اللّه تبارك وتعالى هو الدعاء حيث قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(2).

وقال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}(3).

ولكن يجب أن يكون دعاؤنا حقيقياً يحضره القلب وتتوحّد فيه النفوس، لأناللّه تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(4).

ص: 477


1- سورة ق، الآية: 16.
2- سورة البقرة، الآية: 186.
3- سورة البقرة، الآية: 152.
4- سورة الرعد، الآية: 11.

فقد جاء عن سليمان بن عبد اللّه قال: كنت عند أبي الحسن موسى(عليه السلام) قاعداً فأتي بامرأة قد صار وجهها قفاها فوضع يده اليمنى في جبينها ويده اليسرى من خلف ذلك ثم عصر وجهها عن اليمين ثم قال: «{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}» فرجع وجهها فقال(عليه السلام): «احذري أن تفعلين كما فعلت».

قالوا: يا بن رسول اللّه وما فعلت؟ فقال: «ذلك مستور إلّا أن تتكلم به».

فسألوها فقالت: كانت لي ضرة فقمت أصلي فظننت أن زوجي معها فالتفت إليها فرأيتها قاعدة وليس هو معها، فرجع وجهها على ما كان(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه لم يعط ليأخذ، ولو أنعم على قوم ما أنعم وبقوا ما بقي الليل والنهار ما سلبهم تلك النعم وهم له شاكرون، إلّا أن يتحولوا من شكر إلى كفر ومن طاعة إلى معصية وذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}»(2)(3).

والإنسان لو أراد أن يطلب حاجته فعليه أن يقف بين يدي اللّه بسلامة قلب وبقلب حاضر، ويقف بساحة رحمة اللّه راجياً طالباً حاجته، لا أن يكتفي بلقلقة اللسان وإظهار بعض الكلمات من دون أن يدرك عمقها ومغزاها، كما أن على الإنسان إذا اراد قضاء حاجته لا ينسى التوسل بالأئمة الأطهار لأنهم(عليهم السلام) الوسيلة إلى اللّه تعالى، واللّه تعالى يقول: {وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}(4).

فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الأئمة من ولد الحسين(عليه السلام) من أطاعهم فقد أطاع اللّه ومن عصاهم فقد عصى اللّه عزّ وجلّ هم العروة الوثقى وهم الوسيلة إلى

ص: 478


1- تفسير العياشي 2: 205.
2- سورة الرعد، الآية: 11.
3- إرشاد القلوب 1: 31.
4- سورة المائدة، الآية: 35.

اللّه عزّ وجلّ»(1).

وبالعمل وفق هاتين المسألتين بشرطها وشروطها وبنية خالصة للّه تعالى لا شائبة فيها يأتي الفرج وهو قريب إن شاء اللّه، وسيكون انتصارنا بتحرير العراق من طغاته بداية الانتشار الإسلامي، وإرساء حكومة المليار ونصف المليار مسلم(2) إن شاء اللّه تعالى، وسيكون إحياءنا لهذه الذكرى العظيمة وهي ولادة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) إن شاء اللّه في السنوات القادمة تحت قبة سيدنا ومولانا الإمام الحسين(عليه السلام) كما كان متبعاً في مثل هذه الذكرى قبل عدة سنوات(3).

«اللّهم إني أسألك بحق محمد نبيك ونجيبك وصفوتك وأمينك ورسولك إلى خلقك وبحق أمير المؤمنين ويعسوب الدين وقائد الغر المحجلين الوصي الوفي والصدّيق الأكبر والفاروق الأعظم بين الحق والباطل والشاهد لك والدال عليك والصادع بأمرك والمجاهد في سبيلك، لم تأخذه فيك لومة لائم أن تصلي على محمد وآل محمد»(4).

من هدي القرآن الحكيم

اشارة

من يقودنا إلى النجاة؟

1- التوكل على اللّه

قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ}(5).

ص: 479


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 58.
2- الإحصاءات الأخيرة تذكر أن عدد المسلمين بلغ المليارين مسلم.
3- حيث كان يحتفل بهذه المناسبة المباركة في كربلاء المقدسة وتتزين المدينة بأبهى حلة ويقام فيها مهرجان كبير تحضره شخصيات دينية وعلمية ورجال الدولة.
4- إقبال الأعمال 1: 493.
5- سورة الطلاق، الآية: 3.

وقال عزّ وجلّ: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا}(1).

وقال سبحانه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ وَفَضْلٖ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا}(3).

3- العلماء

قال تعالى: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {أُوْلَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(5).

وقال سبحانه: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَا بِالْقِسْطِ}(7).

4- لزوم التقوى

قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِوَالْأَرْضِ}(8).

ص: 480


1- سورة النساء، الآية: 45.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة النساء، الآية: 175.
4- سورة الأنبياء، الآية: 73.
5- سورة البقرة، الآية: 5.
6- سورة التوبة، الآية: 122.
7- سورة آل عمران، الآية: 18.
8- سورة الأعراف، الآية: 96.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَئَِّاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}(1).

وقال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}(4).

5- التفكير في كل شيء

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا}(5).

قال عزّ وجلّ: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(6).

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَٰبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}(8).

ص: 481


1- سورة الطلاق، الآية: 5.
2- سورة الطلاق، الآية: 2- 3.
3- سورة الأعراف، الآية: 128.
4- سورة الطلاق، الآية: 4.
5- سورة آل عمران، الآية: 190-191.
6- سورة الجاثية، الآية: 13.
7- سورة النحل، الآية: 10-11.
8- سورة الأنعام، الآية: 50.

6- الدعاء

قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(2).

وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}(4).

7- التحرر من العبودية لغير اللّه

قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(6).

وقال سبحانه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

اشارة

من يقودنا إلى النجاة؟

1- التوكل على اللّه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في وصية لأبي ذر(رحمه الله): «يا أبا ذر، إن سرك أن تكون أقوى

ص: 482


1- سورة الفرقان، الآية: 77.
2- سورة غافر، الآية: 60.
3- سورة البقرة، الآية: 186.
4- سورة الأعراف، الآية: 56.
5- سورة يونس، الآية: 99.
6- سورة الإنسان، الآية: 3.
7- سورة الكهف، الآية: 29.

الناس فتوكل على اللّه...»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من توكل على اللّه ذلت له الصعاب وتسهّلت عليه الأسباب وتبوأ الخفض والكرامة»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من توكل على اللّه لا يغلب ومن اعتصم باللّه لا يهزم»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من توكل على اللّه أضاءت له الشبهات وكفي المؤونات وأمن التبعات»(4).

2- طاعة العلماء

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، فاذا طمست أوشك أن تضل الهداة»(5).

وقال أبي عبد اللّه(عليه السلام): «إن العلماء ورثة الأنبياء»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اعملوا ان صحبة العالم واتباعه دين يدان اللّه به وطاعته مكسبة للحسنات، ممحات للسيئات، وذخيرة للمؤمنين، ورفعة فيهم في حياتهم وجميل بعد مماتهم»(7).

3- لزوم التقوى

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أوصيك بتقوى اللّه فانه رأس أمرك كله»(8).

ص: 483


1- مكارم الأخلاق: 468.
2- عيون الحكم والمواعظ: 426.
3- جامع الأخبار: 118.
4- عيون الحكم والمواعظ: 463.
5- منية المريد: 104.
6- الكافي 1: 32.
7- الكافي 1: 188.
8- الأمالي للشيخ الطوسي: 541.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اتقى اللّه سبحانه جعل له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، فان التقوى أفضل كنز وأحرز حرز وأعز عزّ، فيه نجاة كل هارب، ودرك كل طالب، وظفر كل غالب»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم، عباد اللّه، بتقوى اللّه وطاعته، فإنها النجاة غداً، والمنجاة أبداً»(3).

4- التفكر في كل شيء

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فكر ساعة خير من عبادة سنة»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن التفكر يدعو إلى البر والعمل به»(5).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا لَوَّحْتَ الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر»(7).

5- الدعاء

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات

ص: 484


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 642.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 88.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 161، من خطبة له(عليه السلام) في صفة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) وأتباع دينه.
4- عوالي اللئالي 2: 57.
5- الكافي 2: 55.
6- تحف العقول: 386.
7- مستدرك الوسائل 11: 308.

والأرض»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الدعاء مفتاح الرحمة ومصباح الظلمة»(2).

وقال(عليه السلام): «الدعاء مفاتيح النجاح، ومقاليد الفلاح وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «عليكم بسلاح الأنبياء»، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: «الدعاء»(4).

6- التحرير من العبودية لغير اللّه

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس ان آدم لم يلد عبداً ولا أمة وإن الناس كلهم أحرار»(5).

وقال(عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ان صاحب الدِين فكر فَعَلَتْه السكينة، ... ورفض الشهوات، فصار حراً...»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحر حر وإن مسه الضر، العبد عبد وإن ساعدهالقَدَر»(8).

ص: 485


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 37.
2- الدعوات للراوندي: 284.
3- الكافي 2: 468.
4- الكافي 2: 468.
5- الكافي 8: 69.
6- نهج البلاغة، الرسائل الرقم: 31، وصيته(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام).
7- الأمالي للشيخ المفيد: 52.
8- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 71.

العقل رقي الإنسان

العقل ورعاية الحقوق

اشارة

قال الإمام السجاد(عليه السلام) في رسالته المعروفة برسالة الحقوق: «اعلم رحمك اللّه، أن للّه عليك حقوقاً محيطةً بك، في كل حركة تحركتها، أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلّبتها، وآلة تصرفت بها، بعضها أكبر من بعض، وأكبر حقوق اللّه عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق، ومنه تفرع، ثم أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك...»(1).

إن اللّه عزّ وجلّ ميّز الإنسان عن سائر الخلق بعقله، وجعل العقل سبباً لرقيه.

ومما يدل العقل عليه، ضرورة رعاية الحقوق.

فإن لكل إنسان يعيش في أي مجتمع حقوقاً على الآخرين، كما أن لهم حقوقاً عليه أيضاً، فمن حيث كونه أباً - مثلاً - فله حق على أبنائه، ومن حيث كونه إبناً - مثلاً - فعليه رعاية حق والديه، وهكذا بقية الأنساب والأسباب وما أشبه، مما يدل على أن الحقوق في الإسلام متقابلة، ولأجل أن يكون الإنسان باراً وفياً أميناً لا عاقاً ولا خائناً ولا جاحداً، عليه أن يعرف ما له وما عليه من الحقوق، يلزم عليه أن يقوم بمراعاتها وأدائها.

ص: 486


1- تحف العقول: 255.

وقد ذكر الامام السجاد(عليه السلام) هذه الحقوق واحداً واحداً، بحيث يتضح منها ما للإنسان وما عليه من الحقوق المتقابلة، حتى يعمّ تقابل الحقوق بين العبد وربه أيضاً، كما جاء في تعبيره(عليه السلام):

«... فجعل لبصرك عليك حقاً، ولسمعك عليك حقاً، وللسانك عليك حقاً، ولِيَدك عليك حقاً، ولرِجلك عليك حقاً، ولبطنك عليك حقاً، ولفرجك عليك حقاً، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال، ثم جعل عزّ وجلّ لأفعالك عليك حقوقاً، فجعل لصلاتك عليك حقاً، ولصومك عليك حقاً، ولصدقتك عليك حقاً، ولهديك عليك حقاً، ولأفعالك عليك حقاً، ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، وأوجبها عليك حقوق أئمتك، ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رحمك، فهذه حقوق يتشعب منها حقوق، فحقوق أئمتك ثلاثة: أوجبها عليك حق سائسك(1) بالسلطان، ثم سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك، وكل سائس إمام، وحقوق رعيتك ثلاثة: أوجبها عليك حق رعيتك بالسلطان، ثم حق رعيتك بالعلم، فإن الجاهل رعية العالم، وحق رعيتك بالملك من الأزواج وما ملكت من الأيمان، وحقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة، فأوجبها عليك حق أمك، ثم حق أبيك، ثم حق ولدك، ثم حق أخيك، ثم الأقرب فالأقرب، والأول فالأول، ثم حق مولاك المنعم عليك، ثم حق مولاك الجارية نعمتُك عليه، ثم حق ذي المعروف لديك، ثم حق مؤذنك بالصلاة، ثم حق إمامك في صلاتك، ثم حق جليسك، ثم حق جارك، ثم حق صاحبك، ثم حق شريكك، ثم حق مالك، ثم حق غريمك الذي تطالبه، ثم حق غريمك الذي يطالبك، ثم حق خليطك، ثم حق خصمك المدعي عليك، ثم

ص: 487


1- السائس: القائم بأمرٍ والمدبر له.

حق خصمك الذي تدعي عليه، ثم حق مستشيرك، ثم حق المشير عليك، ثم حق مستنصحك، ثم حق الناصح لك، ثم حق من هو أكبر منك، ثم حق من هو أصغر منك، ثم حق سائلك، ثم حق من سألته، ثم حق من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل، أو مسرة بذلك بقول أو فعل عن تعمد منه أو غير تعمد منه، ثم حق أهل ملتك عامةً، ثم حق أهل الذمة، ثم الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال وتصرف الأسباب، فطوبى لمن أعانه اللّه على قضاء ما أوجب عليه من حقوقه، ووفقه وسدده.

فأما حق اللّه الأكبر: فإنك تعبده لا تشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحب منها.

وأما حق نفسك عليك: فأن تستوفيها في طاعة اللّه، فتؤدي إلى لسانك حقه، وإلى سمعك حقه، وإلى بصرك حقه، وإلى يدك حقها، وإلى رجلك حقها، وإلى بطنك حقه، وإلى فرجك حقه، وتستعين باللّه على ذلك.

وأما حق اللسان: فإكرامه عن الخنا، وتعويده على الخير، وحمله على الأدب، وإجمامه إلّا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا، وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة، التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها، ويعد شاهد العقل والدليل عليه وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه، ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم»(1).

نعم، هذه هي الشريعة الإسلامية التي تريد كمال الإنسان وسعادته، وأن يستفيد من عقله لكي يرقى ويتقدم، فهي تحثه على رعاية الآداب الاجتماعيةواكتساب الفضائل الأخلاقية من جانب، وتنبهه إلى رعاية حقوقه الشخصية،

ص: 488


1- تحف العقول: 255.

وتذكره بأن لبدنه عليه حقاً من جانب آخر.

وهذا يعني أن الإنسان موجود ذو بعدين: روح وجسم، عقل وشهوة، فهو مزيج من الروحانيات والجسمانيات، ومن المعنويات والماديات، فالمعنويات تسمو بالروح وتعرج بالإنسان نحو نيل المحاسن والمكارم، وأداء الحقوق والواجبات، وكسب الاخلاق والآداب، من الحلم والعفو، ولين الجانب وحسن العشرة، وغيرها. بينما الماديات لا تسمو بالجسم لو أفرط فيها، وتهبط بالإنسان إلى مستوى إشباع الغرائز من الأكل والشرب والنوم والجماع وغيرها. فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، وإن القلوب تموت كالزرع إذا كثر عليه الماء»(1).

في الإفراط والتفريط تضييع الحقوق

إن الماديات والشهوات من طبيعتها أن تجر الإنسان عادة إلى التسافل، وتدعوه إلى التخلي عن الفضائل، وتهبط به إلى ترك الحقوق والواجبات، إلّا إذا تعامل معها بنحو من الاعتدال والتوازن.

فإذا لم يراع في تناول الماديات العقل، ولم يلاحظ الاقتصاد والتوسط، والاتزان والتعادل، فإنها تكون مهلكة للإنسان؛ فربما تجره إلى اقتراف المعاصي والذنوب، وهتك الحقوق والفرائض، نتيجة سعيه غير المشروع في تناول بعض الأمور المادية، واتباع بعض الأهواء النفسانية، وما أكثر هذا الصنف من الناس؛ فإن من أبرز مواطن الضعف عند الإنسان عدم اعتداله في الأمور المادية، والأهواء النفسانية، الأمر الذي يوقعه إما في الإفراط أو التفريط.

فالإنسان غير المتوازن في طريقة تمتعه بالطيبات والاستفادة من الماديات لا

ص: 489


1- روضة الواعظين 2: 457.

شك أنه سيقع فريسة الشهوة إذا ما تغلبت عليه، فيكون مضيعاً للحقوق تاركاً للواجبات، شرهاً في الأكل والشرب والنوم والسكن والجماع والملبس، ونحو ذلك. والإنسان غير المتوازن في غضبه وطريقة استخدامه للقوة الغضبية، لا شك في أنه يضيّع الحقوق والواجبات التي عليه للآخرين، لأنه قد يغلب عليه غضبه فيظلم نفسه وأهله ومجتمعه.

هذا وقد تواترت الروايات الشريفة التي توجه المسلم الواعي إلى الاتزان في كل تفاصيل حياته، فإن الاتزان ثمرة العقل وهو سبب الرقي في حياة الإنسان.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) سأل سبحانه ربه ليلة المعراج؟ فقال: يا رب أي الأعمال أفضل»؟

- إلى أن قال - : قال: «يا أحمد، وعزّتي وجلالي، ما من عبد ضمن لي بأربع خصال إلّا أدخلته الجنة: يطوي لسانه فلا يفتحه إلّا بما يعنيه، ويحفظ قلبه من الوسواس، ويحفظ علمي ونظري إليه، ويكون قرة عينيه الجوع. يا أحمد، لو ذقت حلاوة الجوع والصمت والخلوة وما ورثوا منها.

قال: يا رب، ما ميراث الجوع؟

قال: الحكمة، وحفظ القلب، والتقرب إليّ، والحزن الدائم، وخفة المئونة بين الناس، وقول الحق، ولا يبالي عاش بيسر أو بعسر. يا أحمد، هل تدري بأي وقت يتقرب العبد إلى اللّه؟

قال: لا يا رب.

قال: إذا كان جائعاً أو ساجداً... يا أحمد، إن العبد إذا جاع بطنه وحفظ لسانهعلّمته الحكمة، وإن كان كافراً تكون حكمته حجةً عليه ووبالاً...»(1).

ص: 490


1- ارشاد القلوب 1: 199.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قلة الأكل محمود في كل حال وعند كل قوم، لأن فيه المصلحة للباطن والظاهر والمحمود من الأكل أربعة: ضرورة، وعُدة، وفتوح، وقوت، فالأكل بالضرورة للأصفياء، والعُدّة لقوام الأتقياء، والفتوح للمتوكلين، والقوت للمؤمنين، وليس شيء أضر لقلب المؤمن من كثرة الأكل؛ وهي مورثَةٌ شيئين: قسوة القلب، وهيجان الشهوة، والجوع إدام للمؤمن وغذاء الروح، وطعام للقلب وصحة للبدن»(1).

وقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما ملأ ابن آدم وعاء أشر من بطنه»، وقال داود(عليه السلام): «ترك اللقمة مع الضرورة إليها أحبّ إليّ من قيام عشرين ليلة»(2).

وقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «المؤمن يأكل في معاء واحد، والمنافق في سبعة أمعاء»(3).

«وقال الإمام الصادق(عليه السلام) قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): ويل للناس من القبقبين. فقيل: وما هما يا رسول اللّه؟ قال: الحلق والفرج»(4).

وقال عيسى ابن مريم(عليه السلام): «ما مرض قلب بأشد من القسوة، وما اعتلَّت نفس بأصعب من نقص الجوع، وهما زمامان للطرد والخذلان»(5).

هذا من جانب الإفراط، أما من جانب التفريط، فإن الإنسان قد يهمل نفسه وأسرته، ويقصر في مأكله وملبسه، ويعتكف في المغارات والكهوف، ويتركمسكنه ومجتمعه، وما شابه، فإنه مضافاً إلى انتهاكه للحقوق وتركه للواجبات التي عليه، يحرِّم على نفسه الكثير من الطيبات التي خلقها اللّه سبحانه وتعالى

ص: 491


1- بحار الأنوار 63: 337.
2- بحار الأنوار 63: 337.
3- مستدرك الوسائل 16: 211.
4- بحار الأنوار 63: 337.
5- بحار الأنوار 63: 337.

من أجله، وأحلّها له، وبذلك فإنه يقع في التفريط وهو خلاف العقل الذي من شروط رقي الإنسان.

فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول اللّه، إن عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مغضباً يحمل نعليه، حتى جاء إلى عثمان فوجده يصلي، فانصرف عثمان حين رأى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا عثمان، لم يرسلني اللّه تعالى بالرهبانية(1)، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم وأصلي وألمس أهلي، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح»(2).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) دخل بيت أم سلمة فشمّ ريحاً طيبةً، فقال: أتتكم الحولاء؟ فقالت: هو ذا هي تشكو زوجها، فخرجت عليه الحولاء، فقالت: بأبي أنت وأمي، إن زوجي عني معرض؟! فقال: زيديه يا حولاء، قالت: ماأترك شيئاً طيباً مما أتطيب له به، وهو عني معرض!! فقال: أما لو يدري ما له بإقباله عليك، قالت: وما له بإقباله علي؟ فقال: أما إنه إذا أقبل اكتنفه ملكان فكان كالشاهر سيفه في سبيل اللّه، فإذا هو جامع تحات عنه الذنوب كما يتحات ورق

ص: 492


1- روي عن ابن مسعود قال: كنت رديف رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) على حمار فقال: يا ابن أم عبد، هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟» فقلت: اللّه ورسوله أعلم. فقال: «ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى(عليه السلام) يعملون بمعاصي اللّه، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم، فهُزم أهل الإيمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلّا القليل، فقالوا: إن ظهرنا هؤلاء أفنونا، ولم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث اللّه النبي الذي وعدنا به عيسى(عليه السلام) يعنون محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر»، ثم تلا هذه الآية: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} سورة الحديد، الآية: 27، ثم قال: «يا ابن أم عبد، أ تدري ما رهبانية أمتي؟» قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: «الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة». بحار الأنوار 14: 277.
2- الكافي 5: 494.

الشجر، فإذا هو اغتسل انسلخ من الذنوب»(1).

وعنه(عليه السلام) أيضاً أنه قال: «إن ثلاث نسوة أتين رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت إحداهن: إن زوجي لا يأكل اللحم؟! وقالت الأخرى: إن زوجي لا يشم الطيب؟! وقالت الأخرى: إن زوجي لا يقرب النساء؟! فخرج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم، ولا يشمّون الطيب، ولا يأتون النساء؟! أما إني آكل اللحم، وأشم الطيب، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى(عليهم السلام): التوحيد، والإخلاص، وخلع الأنداد، والفطرة، والحنيفية السمحة، لا رهبانية ولا سياحة، أحل فيها الطيبات وحرم فيها الخبيثات، ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فعرف فضله بذلك...»(3).

تضييع الحقوق من جهات عديدة

اشارة

لا شك في أن كلاً من الإفراط والتفريط، خلاف العقل وخلاف رقي الإنسان ويؤدي إلى تضيع الحقوق وترك الواجبات، ويسبب الاختلال في نظام الحياة والغاية التي من أجلها خلق الإنسان؛ ويضرّ بالإنسان والمجتمع الإنساني منجوانب عديدة، وهي كالتالي:

1- لكل من الإفراط والتفريط التأثير السيء على صحة الإنسان وسلامته، روحاً وجسماً، وأخلاقاً وآداباً، وفكراً وعقلاً، وسيرةً وسلوكاً، وكل ذلك تضييع

ص: 493


1- الكافي 5: 496.
2- الكافي 5: 496.
3- المحاسن 1: 287.

للحقوق البدنية الواجبة على الإنسان(1).

2- في كل من الإفراط والتفريط ظلم النفس والبغي عليها، بوضعها في غير ما خلقت من أجله، وإحلالها في المحل غير المناسب لها، وفي ذلك تضييع للحقوق الفردية.

3- يؤدي كل من الإفراط والتفريط إلى التفكيك الاجتماعي، واختلال نظام المجتمع، فإن الإنسان فطر على الاجتماع، وهو كائن اجتماعي بالطبع، فإذا انسحب عن المجتمع، وانزوى عنه، وانطوى على نفسه، فإنه يخلّ بالمجتمع وبالنظام الاجتماعي بقدره ونسبته، فتفسد بقدر ذلك علاقات المجتمع وتتفكك عراه، وفي هذا تضييع لحقوق المجتمع وهتك للشؤون الاجتماعية.

وإلى غير ذلك من الأضرار التي يسببها الإفراط والتفريط، وهو كله خلاف العقل ورقي الإنسان.

اللّه تعالى وحق خالقيته

اشارة

إن نعمة الوجود وخلق الإنسان، هي أول نعمة ينعم بها اللّه تعالى على الإنسان، وبذلك يصبح للّه الخالق سبحانه حقوقاً على الإنسان، ويجب علىالإنسان أداء تلك الحقوق العظيمة الواجبة عليه، كما ويلزم عليه تذكرها وتذكرّ المراحل التي مرّ بها؛ ليعرف قدرها فيؤدّي بعض حقها، لأن الإنسان لا يستطيع مهما جدّ واجتهد في أداء حقوق اللّه تعالى العظيمة عليه.

ص: 494


1- لأن اللّه جلّ وعلا جعل في كل أمر مصلحة، وفي كل نهي مفسدة تعود إلى الإنسان نفسه، فقد تكون المصلحة ملزمة فيكون واجباً، وكذلك بالنسبة إلى المفسدة، لكن قد تكون المصلحة غير ملزمة، فيكون الأمر مستحباً، هذا في التشريعات، وكذلك جعل اللّه في التكوينات مصالح لنفس الإنسان، فالنوم والأكل والشرب والجماع، كلها أمور جعل لها الشارع المقدس طريقاً صحيحاً في الدنيا، فمن سلك غير هذا الطريق خسر الدنيا؛ لأنه لم يسر على النهج الصحيح الذي به بني الكون.

نعم، إن الإنسان عندما يخلقه اللّه تعالى من نطفة أمشاج، ويستقر في رحم أمه، يمر بمراحل عديدة تستحق الذكر والشكر، واحدة منها: مرحلة الخلق والتكوين، كما في الآية الكريمة: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}(1).

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ} من الولد والبنت، الجميل والقبيح، السعيد والشقي، إلى غيرها من الأوصاف {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} تنقص {وَمَا تَزْدَادُ} من صغر جثة الجنين وكبرها، كأن الرحم غاضت ولذا صغر الولد، أو ازدادت ولذا كبر {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} لا يتجاوزه صغراً ولا كبراً.

قوله: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} أي: ما تنقصه الأرحام، فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض.

أمور تستدعي الذكر والشكر

وفي هذه الآية الكريمة أمور ثلاثة قد تكون إشارة إلى ثلاثة من أعمال الرحم في أيام الحمل:

1- {مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ}: ربما إشارة إلى الجنين الذي تقيه الأم وتحفظه في رحمها.

2- {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ}: ربما إشارة إلى دم الحيض الذي ينصب في الرحم فيصرفه الرحم في غذاء الجنين.3- {وَمَا تَزْدَادُ}: ربما إشارة إلى الدم الذي يدفعه الرحم إلى الخارج بعد الولادة، كدم النفاس، أو الدم والحمرة التي تراها الأم في أيام الحمل أحياناً.

وفي تفسير العياشي عن أحدهما(عليهما السلام) في قول اللّه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ

ص: 495


1- سورة الرعد، الآية، الآية: 8.

وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قال: «الغيض: كل حمل دون تسعة أشهر، {وَمَا تَزْدَادُ} كل شي ء يزداد على تسعة أشهر، وكلما رأت الدم في حملها من الحيض يزداد بعدد الأيام التي رأت في حملها من الدم»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) في قول اللّه: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ} قال: «الذكر والأنثى»، {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} قال: «ما كان دون التسعة فهو غيض»، {وَمَا تَزْدَادُ} قال: «ما رأت الدم في حال حملها ازداد به على التسعة الأشهر، إن كانت رأت الدم خمسة أيام، أو أقل أو أكثر، زاد ذلك على التسعة الأشهر»(2).

وقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} فإن كل ما يرتبط بالإنسان: من الحمل والوضع والرزق والأجل وغير ذلك، فهو عنده سبحانه وتعالى بمقدار، أي بقدر مقدور، وحدّ محدود، لا يجاوزه ولا يقصر عنه، وذلك على ما توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة.

هذا بالنسبة إلى المراحل الثلاث قبل الولادة، وأما بعد الولادة فإن الأمر أيضاً كذلك، حيث يمر الإنسان بمراحل عديدة قد تتشابه مراحل قبل الولادة من حيث التغذية والتربية والنمو، وهكذا حتى يصل إلى مرحلة الوعي والإدراك والرشد.

الناس وأداء الحقوق

اشارة

إن الناس يختلفون في أدائهم الحقوق الواجبة عليهم بحسب مستواهم العقليوالفكري والديني وغير ذلك، وينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: وهو البعض الذي يتجاهل النعم التي أنعمها اللّه عليه، ولا يلتفت إليها أبداً، وإنما همّه في الحياة بطنه وفرجه، وقضاء وطره منهما فقط،

ص: 496


1- تفسير العياشي 2: 204.
2- تفسير العياشي 2: 205.

وتلبية حاجاتهما فحسب.

القسم الثاني: وهو البعض الآخر الذي يتناسى نعم اللّه عليه ويتغافل عنها، وإنما همه في الحياة تحقيق أوهامه وهواجسه: من حبّ الجاه والمقام، والوصول إلى المناصب والكرسي والتسلط على الناس، وغير ذلك.

القسم الثالث والأخير: وهو البعض الآخر الذي يتذكر - دائماً - نعم اللّه عليه ويحاول أداء شكرها وحقها، فيسلك السلوك العقلائي متبعاً في ذلك نداء العقل السليم، والفطرة السالمة، والفكر الناضج الذي منحه اللّه سبحانه وتعالى إياه(1)، وهذا القسم هو الذي يستفيد من عقله في سبيل رقيه.

وسيأتي بإذن اللّه تعالى البحث عن هذه الأقسام الثلاثة:

1- المتجاهل للحقوق
اشارة

أما القسم الأول وهو الذي يتجاهل نِعَم اللّه عليه ولا يتذكرها، ولا يلتفت إليها أبداً، وإنما همّه في الدنيا بطنه وفرجه، وقضاء وطرهما فحسب، وتلبية حاجاتهما فقط، وهم كثيرون، حيث يعيشون في ارتباط وثيق بالبدن ولوازمه والجسم وحاجاته، في التفكير الدائم بالطعام والشراب واللباس والرياش ووسائل الراحة من مسكن واسع، ومركب فاره، وزوجات متعددة وما أشبهها، فهؤلاء لا يقيمون وزناً لأية قيمة أخرى من قيم الحياة، سوى الطعام والشراب والمنكح والملبس.

وهؤلاء يمثلون الطائفة المتأخرة، والجماعة المنحطة من كل أمة، فالأمة إذاوجدت فيها مثل هذه الجماعة والطائفة، وصارت هي الظاهرة العامة فيها، كانت أمة فاشلة ومتأخرة، ولم يكن لها نصيب من الرقي والتقدم؛ وذلك بسبب بعد أفرادها عن التعقل والإنسانية وما تستلزمها من ذكر النعم وأداء حق المنعم.

ص: 497


1- ذكر علماء الأخلاق أن صفات الإنسان على ثلاثة أقسام: شهوانية، ووهمية، وعقلائية.

انظر إلى قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَٰنِ أَعْرَضَ وَنََٔا بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ ئَُوسًا}(1).

فعلى الرغم من أن اللّه تعالى هو الذي أنعم على الإنسان بالوجود، ومنحه هذا الكيان بأسره، بما في ذلك البدن نفسه، لكنه تجاهل كل ذلك وظل عاكفاً على الشهوات بحيث لا يفارقها، ومشتغلاً بالأهواء بحيث لايتخلى عنها، متناسياً ربه، متغافلاً عن نعمه وآلائه عليه، متشاغلاً عن شكره وأداء حقه إليه، وتراه أحياناً شديد اليأس من الخير حيث إنه قد تعلق بأسبابه التي يتوهم أنها أسباب دون أن يرى لربه في ذلك صنعاً وأثراً، ولم يصل إلى غايته ولم يُدرك أمله. وقد وصف الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) - كما في الشعر المنسوب إليه - هذه الفئة لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) بقوله:

أ بُنَيَّ إن من الرجال بهيمة *** في صورة الرجل السميع المبصر(2)

عاقبة الإنسان المنكر للحقوق

يستفاد من الروايات الشريفة أن بعض الناس العاصين يوم القيامة يحشرون بصورهم الواقعية، فمن كان في الدنيا منكراً لنعم اللّه، وجاحداً لحقوقه تعالى عليه، مشتغلاً بالمعاصي والسيئات، فإنه يُحشر في يوم القيامة على هيئةالحيوانات، من القردة والخنازير وما أشبه ذلك!!

من هنا يلزم على الإنسان أن يسأل من اللّه عزّ وجلّ الستر خاصة في يوم القيامة. كما ورد في الأدعية الشريفة: «ولا تكشف عنا ستراً سترته على رؤوس

ص: 498


1- سورة الإسراء، الآية: 83.
2- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 182.

الأشهاد يوم تبلو أخبار عبادك»(1).

وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَٰنُ مِنَ الْمَسِّ}(2) بأن آكلي الربا - الذين تجاهلوا أمر اللّه بحرمة الربا وعصوا اللّه في ذلك ولم يؤدوا إليه حقه - يحشرون يوم القيامة وهم يركضون كالمجانين، فيعرفهم بذلك أهل المحشر، بل أكثر من ذلك(3)، فإن كل عمل مخالف للشرع فإنه لا يقبل به العقل، فمرتكب الحرام يأتي يوم القيامة وقد تجسد ذلك العمل مع صاحبه بصورة من أبشع الصور، يوحشه ويُفزعه، فيفزع المذنبون ذلك اليوم بسبب انحرافهم في الدنيا، وابتعادهم عن مقتضى الأصول العقلائية، والفطرة الإنسانية الصحيحة، كالرحمة والعدل، ومساعدة الفقراء والإحسان، والحب والمسامحة، وغيرها من الصفات الحميدة.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة مثّل له أهله ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: واللّه إني كنت عليك لحريصاً شحيحاً فما عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك، ثم يلتفت إلى ولده فيقول: واللّه إني كنت لكم لمحباً وإني كنت عليكم لمحامياً، فماذا عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك ونواريك فيها، ثم يلتفت إلى عمله فيقول: واللّه إني كنت فيك لزاهداً وإنك كنت علي لثقيلاً، فماذا عندك؟ فيقول:أنا قرينك في قبرك ويوم حشرك حتى أعرض أنا وأنت على ربك، فإن كان للّه ولياً أتاه أطيب الناس ريحاً وأحسنهم منظراً وأزينهم رياشاً، فيقول: أبشر بروح من اللّه وريحان وجنة نعيم، وقد قدمت خير مقدم، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا

ص: 499


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) بخواتم الخير.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- انظر: التبيان في تفسير القرآن 2: 360.

عملك الصالح ارتحل من الدنيا إلى الجنة، وإنه ليعرف غاسله ويناشد حامله أن يعجله، فإذا أدخل قبره أتاه ملكان، وهما فتانا القبر، يجران أشعارهما ويبحثان الأرض بأنيابهما وأصواتهما كالرعد العاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فيقول: اللّه ربي، ومحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) نبيي، والإسلام ديني، فيقولان: ثبتك اللّه في ما تحب وترضى، وهو قول اللّه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(1) فيفسحان له في قبره مد بصره ويفتحان له باباً إلى الجنة ويقولان له: نم قرير العين، نوم الشاب الناعم وهو قوله: {أَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}(2)، وإذا كان لربه عدواً، فإنه يأتيه أقبح خلق اللّه رياشاً وأنتنه ريحاً، فيقول له: من أنت فيقول له: أنا عملك أبشر بنزل من حميم وتصلية جحيم، وإنه ليعرف غاسله ويناشد حامله، أن يحبسه، فإذا أدخل قبره أتياه ممتحنا القبر، فألقيا عنه أكفانه، ثم قالا له: من ربك، ومن نبيك، وما دينك؟ فيقول: لا أدري. فيقولان له: ما دريت ولا هديت، فيضربانه بمرزبة ضربة ما خلق اللّه دابة إلّا وتذعر لها ما خلا الثقلين، ثم يفتحان له باباً إلى النار ثم يقولان له: نم بشرّ حال، فهو من الضيق مثل ما فيه القنا من الزُّج(3)، حتى أن دماغه يخرج مما بين ظفره ولحمه، ويسلط اللّه عليه حيات الأرض وعقاربهاوهوامها، فتنهشه حتى يبعثه اللّه من قبره، وإنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر»(4).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): لما أسري بي إلى السماء

ص: 500


1- سورة إبراهيم، الآية: 27.
2- سورة الفرقان، الآية: 24.
3- الزُّج: حديدة في أسفل الرمح.
4- تفسير القمي 1: 369.

رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس»(1).

هذا حال من انحرف في الدنيا وجحد نعم اللّه ولم يؤد حقه تعالى وخالف عقله ولم يرتق إلى المقامات العالية المعنوية. وهو عكس حال من يقوم بالأعمال الحسنة ويؤدي حق اللّه تعالى ويطيعه في الدنيا، ويطيع عقله ويرقى، حيث يحشر ومعه ذلك العمل الحسن في صورة جميلة جداً، يقوم بايناس وحشته وإذهاب روعه وإزالة خوفه يوم القيامة، فعن أحدهما(عليهما السلام) - أي الإمام الباقر أو الصادق(عليهما السلام) - قال:

«إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستة صور، فيهن صورة هي أحسنهن وجهاً وأبهاهن هيئة وأطيبهن ريحاً وأنظفهن صورة - قال - فيقف صورة عن يمينه وأخرى عن يساره وأخرى بين يديه وأخرى خلفه وأخرى عند رجليه، ويقف التي هي أحسنهن فوق رأسه، فإن أُتي عن يمينه منعته التي عن يمينه، ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست - قال - فتقول أحسنهن صورة: من أنتم جزاكم اللّه عني خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام، وتقول التي خلفه: أنا الحج والعمرة، وتقول التيعند رجليه: أنا بر من وصلت من إخوانك، ثم يقلن: من أنت، فأنت أحسننا وجهاً وأطيبنا ريحاً وأبهانا هيئةً؟ فتقول: أنا الولاية لآل محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)»(2).

ولقد جاء في الحديث الشريف بأن القرآن الحكيم يأتي يوم القيامة في أجمل

ص: 501


1- تفسير القمي 1: 93.
2- المحاسن 1: 288.

صورة، لم ير أهل المحشر أجمل منه، فيشفع للعاملين به في ذلك اليوم الرهيب.

فعن الامام الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تعلّموا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شابّ جميلٍ شاحب اللّون، فيقول له القرآن: أنا الّذي كنت أسهرت ليلك وأظمأت هواجرك وأجففت ريقك وأسلت دمعتك، أؤول معك حيثما ألت، وكلّ تاجرٍ من وراء تجارته، وأنا اليوم لك من وراء تجارة كلّ تاجرٍ، وسيأتيك كرامةٌ من اللّه عزّ وجلّ فأبشر، فيؤتى بتاجٍ فيوضع على رأسه ويعطى الأمان بيمينه والخلد في الجنان بيساره ويكسى حلّتين، ثمّ يقال له: اقرأ وارقه، فكلّما قرأ آيةً صعد درجة، ويكسى أبواه حلّتين، إن كانا مؤمنين، ثمّ يقال لهما: هذا لما علّمتماه القرآن»(1).

وقال(عليه السلام): «إنّ الدواوين يوم القيامة ثلاثة: ديوان فيه النّعم، وديوان فيه الحسنات، وديوانٌ فيه السيّئات، فيقابل بين ديوان النّعم وديوان الحسنات، فتستغرق النّعم عامّة الحسنات، ويبقى ديوان السيّئات، فيدعى بابن آدم المؤمن للحساب، فيتقدّم القرآن أمامه في أحسن صورةٍ فيقول: يا ربّ، أنا القرآن، وهذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي ويطيل ليله بترتيلي وتفيض عيناه إذا تهجّد، فأرضه كما أرضاني. - قال: - فيقول العزيز الجبّار: عبدي، أبسط يمينكفيملؤها من رضوان اللّه العزيز الجبّار، ويملأ شماله من رحمة اللّه، ثمّ يقال: هذه الجنّة مباحةٌ لك، فاقرأ واصعد، فإذا قرأ آيةً صعد درجةً»(2).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «إذا جمع اللّه عزّ وجلّ الأوّلين والآخرين، إذا هم بشخصٍ قد أقبل لم ير قطّ أحسن صورةً منه، فإذا نظر إليه المؤمنون وهو القرآن،

ص: 502


1- الكافي 2: 603.
2- الكافي 2: 602.

قالوا: هذا منّا هذا أحسن شيءٍ رأينا، فإذا انتهى إليهم جازهم، ثمّ ينظر إليه الشّهداء حتّى إذ انتهى إلى آخرهم جازهم، فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم كلّهم حتّى إذا انتهى إلى المرسلين فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم حتّى ينتهي إلى الملائكة فيقولون: هذا القرآن فيجوزهم، ثمّ ينتهي حتّى يقف عن يمين العرش، فيقول الجبّار: وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني، لأكرمنّ اليوم من أكرمك، ولأهيننّ من أهانك».(1)

جحدة الحقوق في القرآن الحكيم

ينقل لنا القرآن الحكيم صوراً متعدّدة عن بعض الذين أهملوا عقولهم ولم يقوموا بأداء الحقوق التي عليهم تجاه اللّه تعالى أو تجاه عباد اللّه، وعلى سبيل المثال نذكر ما نقله لنا عن آكلي أموال اليتامى ظلماً، وعن حالهم يوم القيامة من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(2).

والظاهر أن المراد من الأكل هنا في الآية الكريمة هو: عموم التصرف العدواني وغير المشروع في أموال اليتامى، لا خصوص الأكل المتعارف(3)، وإنما ذكرت الآية الكريمة الأكل، لأنه يشكل أبرز منافع المال وأظهره، فالأكلكناية عن عموم التصرف، ومختلف وجوه الانتفاع.

وعليه: فلا يحسب من يأكل مال اليتيم أنه ربح مادياً؛ إذ هذه جهة ظاهرية، لكن الجهة الواقعية والتي هي الأهم: هو ما يقترفه من الأضرار المعنوية، فإنها أكبر وأكثر، والقرآن يشير إلى أن من أكل أموال اليتامى ظلماً، فكأنه قد ملأ جوفه من النار، وإن كان لا يحسها بظاهرها المادي وصورتها الدنيوية، ولكنها في

ص: 503


1- الكافي 2: 602.
2- سورة النساء، الآية: 10.
3- للتفصيل انظر: موسوعة الفقه، كتاب البيع، للإمام الشيرازي(رحمه الله).

حقيقتها المعنوية وصورتها الأخروية نار تظهر يوم القيامة وتتجسم، وذلك حسب قاعدة تجسم الأعمال يوم القيامة.

ومما يستفاد من هذه الآية الكريمة هو:

إن كلام الإنسان وعمله وفكره ومعتقده في هذه الدنيا، له ظاهر نراه ونحس به، وله واقع وباطن لا نراه ولا نحس به إلّا بالانتقال إلى الآخرة.

ومن المعلوم: أن الإنسان المذنب وإن كان يؤاخذ على ارتكاب ذلك الظاهر المنهي عنه، الذي كشف الشارع الحكيم بعض واقعه، إلّا أنه يصيبه عذاب حقيقة ذلك الشيء وواقعه، وذلك كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(1) وكما جاء في المثل المعروف: «وكل إناء بالذي فيه ينضح»(2)، أو «إنك لا تجنيمن الشوك العنب»(3).

ص: 504


1- سورة المدثر، الآية: 38.
2- جاء في الوافي بالوفيات للصفدي: قال ابن خلكان: قال الشيخ نصر اللّه بن مجلي رأيت في المنام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقلت له: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ثم يتم على ولدك الحسين(عليه السلام) يوم الطف ما تم؟! فقال لي: أما سمعت أبيات ابن صيفي في هذا؟ فقلت: لا. فقال: اسمعها منه، ثم استيقظت فبادرت إلى دار حيص بيص فخرج إلي فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء وحلف باللّه إن كانت خرجت من فمي أو خطي إلى أحد، وإن كنت نظمتها إلّا في ليلتي هذه ثم إنه أنشدني من الطويل: ملكنا فكان العفو منا سجية *** ولما ملكتم سال بالدم أبطح وحللتم قتل الأسارى وطالما *** غدونا على الأسرى نمن ونصفح وحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح والحيص بيص هو أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي الملقب شهاب الدين المعروف بحيص بيص، الشاعر المشهور، توفي سنة (594ه) وكان يزعم أنه من ولد أكثم بن صيفي حكيم العرب، انظر: الوافي بالوفيات 15: 104.
3- ورد في كتب العامة حديث نسب إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «كما لا يجتني من الشوك العنب كذلك لا ينزل الفجار منازل الأبرار»، تاريخ مدينة دمشق 67: 260.

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في حديث المعراج:

«... فإذا أنا بأقوام يقذف بالنار في أفواههم، فتخرج من أدبارهم فقلت: من هؤلاء؟

قال - جبرائيل - : هؤلاء {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(1) ثم مضيت فإذا أنا بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنه! فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: فهم {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَٰنُ مِنَ الْمَسِّ}(2) وإنهم لبسبيل آل عمران يعرضون على النار...»(3).

إذن: فإن فكر الإنسان وعقيدته وقوله وعمله، مثله كمثل البذرة في النمو والعطاء، فمن أي جنس كانت البذرة فإنها تعطي بعد غرسها في الأرض ثماراً من نفس جنسها وفصيلتها، فبذرة البرتقال تعطي البرتقال، وبذرة الحنظل تعطي الحنظل، وهذا الكلام يجري في المعنويات، إن حسناً فحسن، وإن سيئاً فسيء.

كما تُدين تُدان

لقد خلق اللّه سبحانه وتعالى الكون والحياة طبق موازين حكيمة وثابتة لا تتغير، وإليه أشار بقوله جلّ وعلا: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(4) وقوله عزّ وجلّ: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(5)، وقوله

ص: 505


1- سورة النساء، الآية: 10.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- بحار الأنوار 6: 240.
4- سورة الأحزاب، الآية: 62.
5- سورة فاطر، الآية: 43.

تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(1) فحاصل ضرب الإثنين في الإثنين دائماً أربعة، ولكل فعل ردّ فعل مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه، ويقع معه على خط واحد.

وكذلك الإنسان، فاذا كان ينوي بعمله أن يهين شخصاً ما، أو يستهزئ به ويسخر منه، أو يعيّره بعيب أو نقص بدني أو أخلاقي، فليعلم بأنه يأتي عليه يوم يبتلي فيه بنفس ما عيّر به غيره، ويقع مورداً للسخرية والاستهزاء والإهانة. كل ذلك على أثر النظام التكويني الذي جعله اللّه سبحانه وتعالى حاكماً في هذا الكون وفي هذه الحياة، والتأريخ مشحون بهذه القضايا ونظائرها.

يقول أحد الأشخاص: عند ما كنت في - المنطقة الفلانية - لم أكن أعامل إمام المسجد في تلك المنطقة، معاملة حسنة تليق بإمام مسجد، حيث لم أكن أقدم له الاحترام اللائق به، والعجيب أأني وبعد فترة من الزمان انتقلت إلى منطقة أخرى، وكان إمام مسجدها يعاملني بنفس المعاملة التي كنت أعامل بها ذلك الإمام من عدم الاحترام، فعرفت من ذلك أن الدنيا تدور من حيث العمل والجزاء، على قانون المكافاة، ذلك على وفق القاعدة المعروفة التي قالها أميرالمؤمنين(عليه السلام): «كما تُدين تُدان» فكان ما أصابني هنا جزاءً لتصرفي هناك.

فعن الأصبغ بن نباتة قال: إن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لأصحابه: «اعلموا يقيناً، أن اللّه تعالى لم يجعل للعبد وإن عظمت حيلته، واشتد طلبه، وقويت مكايده أكثر مما سمى له في الذكر الحكيم، فالعارف بهذا العاقل له أعظم الناس راحة في منفعته، والتارك له أعظم الناس شغلاً في مضرته، والحمد للّه رب العالمين. ورب منعم عليه مستدرج، ورب مبتلى عند الناس مصنوع له، فأبق أيها المستمع

ص: 506


1- سورة الفتح، الآية: 23.

من سعيك، وقصر من عجلتك، واذكر قبرك ومعادك، فإن إلى اللّه مصيرك، وكما تدين تدان»(1).

وقال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(2).

وقال تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَٰرُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٖ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَٰلُهُمْ كَسَرَابِ بِقِيعَةٖ يَحْسَبُهُ الظَّمَْٔانُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَئًْا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحْرٖ لُّجِّيّٖ يَغْشَىٰهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَٰتُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَىٰهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}(3).

وقال تبارك وتعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰئِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَتَعْمَلُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}(5).

وعن الامام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «القرين الناصح هو العمل

ص: 507


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 163.
2- سورة الزلزلة، الآية: 7- 8. ورؤية الثواب والعقاب لا تختص بالآخرة فقط بل قد يرى الإنسان جزاء عمله في الحياة الدنيا أيضاً.
3- سورة النور، الآية: 37-40.
4- سورة يونس، الآية: 14.
5- سورة النساء، الآية: 124.

الصالح»(1).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «الشرف عند اللّه بحسن الأعمال لا بحسن الأقوال»(2).

2- المتغافل عن الحقوق
اشارة

أما القسم الثاني: فهو الشخص الذي يتناسى ما أنعم اللّه عليه، ويتغافل عن أداء شكره والقيام بحقه، وإنما همّه في الحياة تحقيق أوهامه وهواجسه من حب الجاه والمقام، والوصول إلى المناصب والكراسي، والتسلط على الناس ونحو ذلك، وهذا القسم من الناس هم كالقسم الأول من حيث النتيجة، فهم قد تركوا عقولهم ولم يستفيدوا منها، فهم متأخرون ومتخلفون؛ لأن أنفسهم قد فرغت من العلم والحقيقة، وأذعنت للدنيا وما فيها، واتبعت الوهم والخيال وتغافلت عن أداء ما عليها من الحقوق تجاه اللّه وتجاه عباد اللّه، فهو في عداد الحمقى. وقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أعجب بنفسه هلك، ومن أعجب برأيه هلك، وإن عيسى ابن مريم(عليه السلام) قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن اللّه، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن اللّه، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن اللّه، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه، فقيل: يا روح اللّه وما الأحمق؟ قال: المعجب برأيه ونفسه الذي يرى الفضل كله له لا عليه، ويوجب الحق كله لنفسه، ولا يوجب عليها حقاً، فذاك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته»(3).

وكم لمثل هؤلاء من شواهد ونماذج في التاريخ، فبنو أمية - كما يؤكده التأريخ - كانوا من عشاق الوهم والخيال، ومن هواة الجاه والمقام، وكانوا يحملون الحقد ضد الدين وضد النبي والآل الأطهار(عليهم السلام)، فقاتلوا النبي الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) ومن بعده

ص: 508


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 125.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 105.
3- الاختصاص: 221.

الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ثم الإمام الحسن(عليه السلام) ثم الإمام الحسين(عليه السلام) كي يسلبوهم ما خصّهم اللّه تعالى به من منصب ومقام، ويستبدوا دونهم بالكرسي والحكم، وكان هذا هو الداعي من تجييش أبي سفيان الجيوش ضد الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم)، وتأجيج معاوية نار الحرب ضد أمير المؤمنين(عليه السلام) والإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) ودس السم إليه، وتهييج يزيد بن معاوية الفتنة العمياء، والإبادة الجماعية ضد الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام).

نعم، إن اتّباع الوهم والخيال وحبّ الجاه والمقام، لا يؤثر على الدين فقط، بل على الدنيا أيضاً؛ إذ هو كما يؤثر على العقل وعلى طريقة التفكير يؤثر على الالتزام والسلوك؛ لذلك يلزم على الإنسان أن يجتنب عنه، لأنه مخالف لإنسانية الإنسان، وما رزقه اللّه من لبّ وعقل، وقدرة على التفكير السليم والاستنتاج الصحيح.

روايات في العقل

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن أفضل الناس عند اللّه من أحيا عقله، وأمات شهوته، وأتعب نفسه لصلاح آخرته»(1).وعنه(عليه السلام) أيضاً: «أصل العقل الفكر وثمرته السلامة»(2).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «العقل والشهوة ضدان، ومؤيد العقل العلم، ومزين الشهوة الهوى، والنفس متنازعة بينهما، فأيهما قهر كانت في جانبه»(3).

ومن كتاب له(عليه السلام) إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، يحذره أن يكون من الغافلين فكتب إليه: «أما بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من

ص: 509


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 236.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 198.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 119.

فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان(1)، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه. ألّا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضي ء بنور علمه، ألّا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألّا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد، فواللّه ما كنزتُ من دنياكم تبراً، ولا ادخرتُ من غنائمها وفراً، ولا أعددتُ لبالي ثوبي طمراً، ولا حزتُ من أرضها شبراً، ولا أخذتُ منه إلّا كقوت أتان دبرة(2)، ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة(3)، بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونِعمَ الحَكَم اللّه، وما أصنع بفدك وغير فدك، والنفس مظانها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر وسد فُرَجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسي أروّضها بالتقوى؛ لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً

ص: 510


1- الجِفان: القصعة.
2- أتان دَبرة: هي التي عقر ظهرها فقل أكلها.
3- العفصة: كعطسة: نتوء، أي دبس يكون على شجرة البلوط، ويطلق أيضا على نفس شجرة البلوط، والتاء فيه للوحدة، والجنس: العفص كفلس. ويقال: مقر - من باب عَلِمَ - مقرا الشيء: صار مراً أو حامضاً، فهو مقر كفرح، والمصدر كالفرح.

وحولي بطون غرثى(1) وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحن إلى القد

أ أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات - إلى أن يقول(عليه السلام): - فواللّه، لا أذل لك - للدنيا - فتستذليني، ولا أسلس لك فتقوديني، وأيم اللّه يميناً أستثني فيها بمشيئة اللّه، لأروضن نفسي رياضةً تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغةً دموعها، أ تمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة(2) من عشبها فتربض، ويأكل عليٌ من زاده فيهجع، قرت إذاً عينه، إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسائمة المرعية. طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتىإذا غلب الكرى(3) عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم {أُوْلَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(4) فاتق اللّه يا ابن حنيف، ولتكفف أقراصك ليكون من النار خلاصك...»(5).

ص: 511


1- غرثى: جائعة.
2- الربيضة: الغنم مع رعاتها إذا كانت في مرابضها.
3- الكرى: النعاس.
4- سورة المجادلة، الآية: 22.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 45 من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.
3- المؤدّي للحقوق
اشارة

وأما القسم الثالث: فهو الشخص الذي يتذكر نعم اللّه تعالى عليه ويحاول شكرها وأداء حقها، فيسلك السلوك العقلائي متبعاً في ذلك نداء العقل السليم، والفطرة السالمة، والفكر الناضج الذي منحه اللّه سبحانه إياه، وهذا القسم من الناس يتمثلون بالأفراد الذين هم دائماً في عمل دائب، وتقدم مستمر، لأنهم يستفيدون من نور العقل والفطنة، ويستخدمون مواهبهم وطاقاتهم من أجل ذلك.

نعم، إن الإنسان العاقل تراه دائماً يحكّم عقله، ويمارس النشاط، ويزاول العمل الجاد، ليؤدي ما عليه من حق تجاه اللّه وتجاه عباد اللّه، وليحصل على مراتب أعلى من العلم والعمل، ويحرز مقامات أكبر من الرقي والتقدم، لنفسه ومجتمعه.

وقد جاء في وصايا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لابن مسعود: «... إذا عملت عملاً فاعمل بعلم وعقل، وإياك وأن تعمل عملاً بغير تدبير وعلم؛ فانه جلّ جلاله يقول: {وَلَاتَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا}»(1)(2).

وهذا القسم من الناس لا يعرفون الكسل والملل، ولا النصب والتعب؛ لذلك تراهم يتربعون على القمة دائماً، لأنهم وجدوا مفتاح النجاح والفلاح والرقي والتقدم، ألّا وهو العمل الجاد المسبوق بالتعقل والتدبّر، والعلم والمعرفة.

ولهذا القسم من الناس الذين جعلوا العقل هادياً ومرشداً لهم، واتبعوا ما يدعوهم إليه من أداء حقوق اللّه وحقوق عباد اللّه نماذج كثيرة، وفي مقدمتهم وعلى رأسهم النبي الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين من أهل بيته(عليهم السلام) ثم الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) ثم تلامذتهم من العلماء العاملين الصالحين.

ص: 512


1- سورة النحل، الآية: 92.
2- مكارم الأخلاق: 458.
صفات القسم الثالث

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «قام رجل يقال له: هَمّام، وكان عابداً ناسكاً مجتهداً إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يخطب، فقال: يا أمير المؤمنين، صِف لنا صفة المؤمن، كأننا ننظر إليه؟ فقال: يا همام، المؤمن هو: الكيّس الفَطِن، بُشره في وجهه، وحُزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً، زاجر عن كل فانٍ، حاضٌّ على كل حسن، لا حقود ولا حسود، ولا وثّاب(1) ولا سبّاب ولا عيّاب ولا مُغتاب، يكره الرفعة، ويشنأ السُمعة، طويل الغمّ، بعيد الهَمّ، كثير الصمت، وقور ذكور، صبور شكور، مغموم بفكره، مسرور بفقره، سهل الخليقة، ليّن العريكة، رصين الوفاء، قليل الأذى، لا متأفّك ولا متهتك، إن ضحك لم يَخرَق، وإن غضب لم يَنزَق، ضحكه تبسّم، واستفهامه تعلّم، ومراجعته تفهّم، كثير علمه،عظيم حلمه، كثير الرحمة، لا يبخل ولا يعجل، ولا يَضجَر ولا يَبطَر، ولا يحيف في حكمه، ولا يجورُ في علمه، نفسه أصلب من الصَّلْد، ومكادحته أحلى من الشَّهْد، لا جَشِع ولا هَلِع، ولا عَنِف ولا صَلِف، ولا متكلّف ولا متعمق، جميل المنازعة، كريم المراجعة، عدل إن غضب، رفيق إن طلب، لا يتهور ولا يتهتك ولا يتجبّر، خالص الود، وثيق العهد، وفيّ العقد، شفيق وصول، حليم خَمول، قليل الفُضول، راض عن اللّه عزّ وجلّ، مخالف لهواه، لا يغلظ على من دونه، ولا يخوض في ما لا يعنيه، ناصر للدين، مُحامٍ عن المؤمنين، كهف للمسلمين، لا يخرق الثناء سَمعَه، ولا يَنكِي الطمَع قلبه، ولا يصرف اللعب حُكمَه، ولا يطلع الجاهل علمه، قوّال عمّال، عالم حازم، لا بفحاش ولا بطيّاش، وصول في غير عُنف، بذول في غير سرف، لا بِخَتّال ولا بِغَدّار، ولا يقتفي أثراً ولا يحيف بشراً،

ص: 513


1- أي: لا يثب في وجوه الناس بالمنازعة والمعارضة.

رفيق بالخَلْق، ساعٍ في الأرض، عون للضعيف غوث للملهوف، لا يهتك ستراً ولا يكشف سراً، كثير البلوى قليل الشكوى، إن رأى خيراً ذكره، وإن عاين شراً ستره، يستر العيب ويحفظ الغيب ويقيل العثرة ويغفر الزلة، لا يطلع على نصح فيذره، ولا يدع جِنحَ حيف فيصلحه، أمين رصين تقي نقي زكي رضي، يقبل العذر ويجمل الذكر ويحسن بالناس الظن، ويتهم على العيب نفسه، يحب في اللّه بفقه وعلم، ويقطع في اللّه بحزم وعزم، لا يخرق به فَرَح ولا يطيش به مَرَح، مذكّر للعالم معلّم للجاهل، لا يتوقع له بائقة ولا يخاف له غائلة، كل سعي أخلص عنده من سعيه، وكل نفس أصلح عنده من نفسه، عالم بعيبه شاغل بغمّه، لا يثق بغير ربه، غريب وحيد جريد حزين، يحب في اللّه ويجاهد في اللّه ليتبع رضاه، ولا ينتقم لنفسه بنفسه ولا يوالي في سخط ربه، مُجالس لأهل الفقر، مُصادق لأهل الصدق، مؤازر لأهل الحق، عون للقريب، أب لليتيم، بعلللأرملة، حفي بأهل المسكنة، مرجو لكل كريهة، مأمول لكل شدة، هشّاش بشّاش لا بعبّاس ولا بجسّاس، صليب كظّام بسام، دقيق النظر، عظيم الحذر، لا يجهل وإن جُهل عليه يحلم، لا يبخل وإن بخل عليه صبر، عَقَلَ فاستحيا، وقَنَع فاستغنى، حياؤه يعلو شهوته، ووُدّه يعلو حسده، وعفوه يعلو حقده، لا ينطق بغير صواب ولا يلبس إلّا الاقتصاد، مشيه التواضع، خاضع لربه بطاعته، راض عنه في كل حالاته، نيته خالصة، أعماله ليس فيها غش ولا خديعة، نظره عبرة سكوته فكرة وكلامه حكمة، مناصحاً متباذلاً متواخياً، ناصح في السر والعلانية، لا يهجر أخاه ولا يغتابه ولا يمكر به، ولا يأسف على ما فاته ولا يحزن على ما أصابه، ولا يرجو ما لا يجوز له الرجاء ولا يفشل في الشدة ولا يبطر في الرخاء، يمزج الحلم بالعلم والعقل بالصبر، تراه بعيداً كسله، دائماً نشاطه، قريباً أمله، قليلاً زلَلُه،

ص: 514

متوقعاً لأجله، خاشعاً قلبه، ذاكراً ربَّه، قانعةً نفسه، منفياً جهله، سهلاً أمره، حزيناً لذنبه، ميتةً شهوته، كظوماً غيظه، صافياً خُلُقُه، آمناً منه جاره، ضعيفاً كبره، قانعاً بالذي قدر له متيناً صبره محكماً أمره كثيراً ذكره، يخالط الناس ليعلم، ويصمت ليسلم، ويسأل ليفهم، ويتجر ليغنم، لا ينصت للخبر ليفجر به، ولا يتكلم ليتجبر به على من سواه، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته فأراح الناس من نفسه، إن بغي عليه صَبَر حتى يكون اللّه الذي ينتصر له، بُعده ممن تباعد منه بغض ونزاهة، ودنوّه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده تكبراً ولا عظمةً، ولا دنوه خديعةً ولا خلابةً، بل يقتدي بمن كان قبله من أهل الخير، فهو إمام لمن بعده من أهل البر.

قال: فصاح هَمّام صيحةً، ثم وقع مغشياً عليه.

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): أما واللّه لقد كنت أخافها عليه. وقال: هكذا تصنعالموعظة البالغة بأهلها. فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن لكل أجلاً لا يعدوه، وسبباً لا يجاوزه، فمهلاً لا تُعِد، فإنما نَفَث على لسانك شيطان»(1).

وخطب الناس الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) فقال: «أيها الناس، أنا أخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد، كان خارجاً من سلطان فرجه فلا يستخف له عقله ولا رأيه، كان خارجاً من سلطان الجهالة فلا يمد يده إلّا على ثقة لمنفعة، كان لا يتشهى ولا يتسخط ولا يتبرم، كان أكثر دهره صماتاً، فإذا قال بذ القائلين(2)، كان لا يدخل في مراء ولا

ص: 515


1- الكافي 2: 226.
2- بذّ القائلين: أي سبقهم وغلبهم.

يشارك في دعوًى ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضياً، وكان لا يغفل عن إخوانه ولا يخص نفسه بشيء دونهم، كان ضعيفاً مستضعفاً فإذا جاء الجد كان ليثاً عادياً، كان لا يلوم أحداً في ما يقع العذر في مثله حتى يرى اعتذاراً، كان يفعل ما يقول ويفعل ما لا يقول، كان إذا ابتزه أمران لا يدري أيهما أفضل نظر إلى أقربهما إلى الهوى فخالفه، كان لا يشكو وجعاً إلّا عند من يرجو عنده البرء، ولا يستشير إلّا من يرجو عنده النصيحة، كان لا يتبرم ولا يتسخط ولا يتشكى ولا يتشهى ولا ينتقم، ولا يغفل عن العدو، فعليكم بمثل هذه الأخلاق الكريمة إن أطقتموها، فإن لم تطيقوها كلها فأَخذ القليل خير من ترك الكثير، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه»(1).

نماذج من القسم الثالث

إن العلماء الربانيين هم تلامذة الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) حيث يسعون إلى أن يتبعوهم في كل شيء، وخاصة في مجال أداء حقوق اللّه وحقوق الناس، وفي مجال العلم والعمل، والاستفادة الأكمل من العقل، وقد ذكروا في أحوال المرحوم شريف العلماء(رحمه الله)(2)، أن سراج غرفته في المدرسة لم يطفأ في الليل أبداً، ولمدة سبع سنوات متوالية؛ لأنه كان مشغولاً من الليل حتى الصباح بالمطالعة والمراجعة والتدقيق والتحقيق، ولم يكن ليذوق طعم الراحة والنوم، وبعد تلك السنوات السبع، مرت عليه سبع سنوات أخرى لم يشعل في غرفته سراجاً أبداً، حيث إنه كان مشغولاً بالتفكر والتأمل، في ما استوعبه من الدروس والعلوم.

ص: 516


1- الكافي 2: 237.
2- المولى محمد شريف بن حسن علي المازندراني الحائري، شيخ الفقهاء العظام، ومن تلامذته الشيخ مرتضى الأنصاري(رحمه الله).

وذكروا أيضاً في أحوال الحاج السيد أسد اللّه(رحمه الله) وهو أخ الميرزا الشيرازي الكبير(رحمه الله)، بأنه مضافاً إلى كونه من العلماء العاملين كان من الحكماء الماهرين، والأطباء الحاذقين في العراق، وكان قد حفظ كتاب القانون لابن سينا على دقته الكبيرة وصعوبته البالغة، وقد صار على إثر ذلك متقناً لدقائق الطب، وجزئيات الحكمة، وكانت وصفاته الطبية دقيقة وناجحة كثيراً.

وذكروا أيضاً بأنه كان هناك في العراق أحد العلماء الأعلام وكان قد حفظ عن ظهر القلب كتاب وسائل الشيعة مع أسناده، وهذا الأمر وإن كان سهلاً في اللفظ والمقال، إلّا أنه صعب جداً في مقام الواقع والعمل؛ وذلك لأن حفظه يحتاج إلى وقت طويل، وفترة كبيرة من العمر يصرفها في الجدّ والمثابرة.

كما ذكروا في أحوال محمد بن زكريا الرازي الطبيب الشهير: بأنه كان حاذقاًفي الحكمة إلى درجة عجيبة وماهراً في الطب مهارة غريبة، بحيث إنه كان يجلس في مكان ويجلس الحكماء الماهرون والأطباء الحاذقون حوله على هيئة دوائر ثلاث، ويكون هو في مركزها، فكان المريض إذا راجع للعلاج يأتي إلى الحلقة الأولى، فإذا لم يستطع أطباء الحلقة الأولى تشخيص مرضه ودوائه، ومن ثم معالجته ومداواته، انتقل إلى الحلقة الثانية، وهكذا إلى الحلقة الثالثة، ثم إلى كبير الأطباء: محمد بن زكريا الرازي، فكان يقوم هو بنفسه معاينته والفحص عليه، وتشخيص مرضه ودائه، ثم يصف الوصفة لمداواته ومعالجته، وكان من يصل إليه لتشخيص المرض والداء قليلون جداً؛ لأن تلامذته الأطباء المستقرين في الحلقات الثلاث قبله، كانوا يمتازون بحذاقة عالية ومهارة كبيرة جداً في الطب، ولا عجب في ذلك بعد أن تعب كل منهم تعباً كثيراً على نفسه، حتى نال هذه المرتبة العالية، والدرجة الرفيعة من المهارة والحذاقة.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لقد أخطأ العاقل اللاهي الرشد، وأصابه ذو

ص: 517

الاجتهاد والجد»(1).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «أفضل الأعمال ما أكرهت النفوس عليها»(2).

القسم الثالث ونماذج أخرى

ذهبت ذات مرة لزيارة العلامة صاحب كتاب: (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) المعروف بالشيخ آقا بزرك الطهراني(رحمه الله)، وبعدما استقر بنا المجلس وتبادلنا أطراف الحديث من تفقّد حاله والسؤال عن صحته، سألته: هل حدث لك وأن تشرفت برؤية وزيارة الإمام صاحب العصر والزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف أم لا؟ حيث كان الشيخكثير الذهاب إلى مسجد السهلة.

فأجاب(رحمه الله) قائلاً: مرضت مرضاً شديداً عندما كنت شاباً، فراجعت الأطباء في العراق ولكن لم أستعد عافيتي ولم تتحسن صحتي، فبقيت متحيّراً وعزمت على السفر إلى إيران ومراجعة الأطباء هناك.

فلما وصلت إلى طهران نزلت في إحدى المدارس العلمية هناك، وكان الوقت صيفاً والهواء حاراً، مصادفاً لفترة تعطيل الدراسة، لذلك كانت المدرسة خالية من الطلاب؛ إذ أنهم كانوا قد ذهبوا - كعادتهم في موسم الصيف - إلى أطراف البلاد وأكنافها للتبليغ وهداية الناس، وكانت غرف المدرسة كلها مقفلة، فجلست بجانب إحدى الغرف المقابلة لباب المدرسة طلباً للراحة، وفي هذه الأثناء رأيت سيداً جليلاً، عليه هيبة ووقار، دخل المدرسة وأخذ يسير إلى جانب الغرف من اليمين، حتى إذا وصل إليّ سلم عليّ، فأجبت سلامه، فقال لي: كيف حالك يا شيخ محسن؟ قلت: الحمد للّه رب العالمين، فقال لي: هل تحسنت

ص: 518


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 550.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 197.

صحتك؟ قلت: كلا، فإني أشعر بعدُ بوعكة صحية، وقد جئت إلى إيران لأجل المعالجة، فقال: أتريد أن تتحسن صحتك؟

قلت: نعم، فأدخل يده في جيبه وأعطاني مقداراً من (سكر النبات)، فأخذت منه قطعة صغيرة ووضعتها في فمي، فقال: إن شاء اللّه، ستتحسن صحتك، وبعد قليل ودّعني ومشى إلى جانب الغرف حتى بلغ باب المدرسة من جهة اليسار وخرج.

ثم إنه وبمجرد أن ذابت قطعة سكر النبات في فمي وسرت حلاوتها في بدني، بدأت أشعر بالصحة وأحس بالعافية وكأن الدم يجري في عروقي والقوة تتسرب إلى جسمي وبدني وجوارحي وأعضائي، بعدما كاد الضعف والإنهاك يشلانهاعن الحركة، فقمت متجهاً نحو المرآة التي كانت معلقة في مدخل المدرسة، ونظرت إلى صورتي فيها، فرأيت حمرة الدم تعود إلى وجهي، ولم أر شيئاً من تلك الصفرة وذلك الشحوب الذي كان يشتد عليّ يوماً بعد يوم ويغطي ملامح وجهي، والذي كان دليلاً عن انحلال القوى البدنية واضمحلالها عندي، وفي تلك اللحظة انقدح في ذهني لعل هذا السيد صاحب الجمال والجلال والهيبة والوقار كان هو صاحب الأمر والزمان(عليه السلام) فعدوت مسرعاً إلى خارج المدرسة، وأخذت أبحث عنه وأنظر إليه يميناً وشمالاً، علّني أجده أو أعرف جهة ذهابه، فلم أوفق لذلك، ثم سألت عنه بعض من صادفتهم هناك، فلم يكن جوابهم إلّا أن قالوا بأنهم لم يروا شخصاً بهذه المواصفات التي ذكرتها لهم!! ثم إني احتفظت بالباقي من ذلك (سكر النبات) الذي أعطانيه الإمام(عليه السلام)، ولم أعط أحداً منه شيئاً قليلاً إلّا وإنه كان يشفى في الحال.

نعم، إن هذه الخصوصية وأمثالها إنما يحصل عليها البعض الذي يتبع عقله ويقوم بأداء ما يفرض عليه عقله من حق اللّه وحق الناس إليهم، وذلك بوفاء

ص: 519

وإخلاص، مسبوق بالعلم والمعرفة خال من المنّ والأذى، وبعيد عن الوهم والخيال، لذلك نال هذه الدرجة العالية من التوفيق.

قدوة القسم الثالث وأسوتهم

إن الإنسان وبجبلّته التي خلقه اللّه تعالى عليها يبحث دائماً عن أسوة يتأسى به، وقدوة يقتدي بسيرته، كي يستطيع المشي بأمان في درب الحياة المظلم والطويل، والبحث عن الأسوة له دوافع نفسية فطر اللّه الإنسان عليها، وذلك لتستمر رحلة الإنسان في الحياة نحو التقدم والازدهار، ولتتوارث الأجيال بعضها من بعض عوامل التقدم، ووسائل الازدهار: من اتّباع العقل والرقي، واحترامالحقوق وأدائها، واجتناب العقوق ووبالها، ومن التسلح بالعلم والمعرفة، والتحلّي بالأخلاق والآداب، والتجمل بالعمل والمثابرة.

ولم يهمل اللّه تعالى الإنسان في جانب القدوة والأسوة، وإنما جعل له من إذا اقتدى به سعد في دنياه وفاز في آخرته، وإذا تأسى به نال التقدم والرقي في الدنيا، وفاز بالجنة والرضوان في الآخرة، ثم عرّف ذلك القدوة لجميع الناس بقوله سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(1).

ثم كان الأسوة والقدوة امتداداً للرسول الكريم أهل بيته(عليهم السلام) وفي مقدمة أهل البيت هو الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ما زال وسيبقى القدوة الحسنة والأسوة الصالحة، لأداء حق اللّه وحق الناس، وحق الحكم، وحق الرعية، والعدل والإحسان، والرفق والرحمة، والأخلاق والآداب، كيف لا يكون كذلك، وهو القائل في مجال المنصب والمقام كما في نهج البلاغة:

ص: 520


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.

«... فما راعني إلّا والناس كعُرْف الضَّبُع إلي(1)، ينثالون(2) عليَّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشُق عطفاي(3)، مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفةٌ، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا اللّه سبحانه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(4) بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنهمحليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء ألّا يُقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها(5)، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز...»(6).

وعن عبد اللّه بن عباس قال: دخلت على أمير المؤمنين(عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: «ما قيمة هذا النعل؟» فقلت: لا قيمة لها! فقال(عليه السلام): «واللّه لهي أحب إليّ من إمرتكم، إلّا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً»(7).

آية الاحسان وأداء الحقوق

وقد جاء في تفسير الآية الكريمة: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}(8) أن معناه: إن أحسنتم في أقوالكم وأفعالكم، فنفع إحسانكم عائد عليكم،

ص: 521


1- عُرْف الضّبُع: ما كثر على عنقها من الشعر وهو ثخين يضرب به المثل في اكثرة والازدحام.
2- ينثالون: يتتابعون مزدحمين.
3- شُق عطفاه: خدش جانباه من الاصطكاك.
4- سورة القصص، الآية: 83.
5- ألّا يُقارّوا: ألّا يوافقوا مقرّين، الكِظّة: ما يعتري الأكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام والمراد استئثار الظالم بالحقوق، السَّغَب: شدة الجوع والمراد منه هضم حقوقه، الغارب: الكاهل.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3 من خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
7- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 33 من خطبة له(عليه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.
8- سورة الإسراء، الآية: 7.

وثوابه واصل إليكم، وتنصرون على أعدائكم في الدنيا، وتثابون في العقبى {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} معناه: وإن أسأتم فقد أسأتم إلى أنفسكم أيضاً، لأن مضرة الإساءة عائدة إليها، وإنما قال: {فَلَهَا} على وجه التقابل؛ لأنه في مقابلة قوله: {لِأَنفُسِكُمْ} كما يقال: (أحسن إلى نفسه)، ليقابل (أساء إلى نفسه)، فلذلك وضع اللام موضع إلى. وقيل: إن قوله {فَلَهَا} بمعنى: فعليها، كقوله تعالى: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ}(1) أي: عليهم اللعنة. وقيل: معناه فلها الجزاء والعقاب، وهذا الخطاب لبني إسرائيل، ليكون الكلام جارياً على النسق والنظام. ويجوز أن يكون خطاباً لأمةنبينا(صلی الله عليه وآله وسلم)، فيكون اعتراضاً بين القصة وهو مطابق للبلاغة أيضاً، كما يفعل الخطيب والواعظ، يحكي شيئاً ثم يعظ، ثم يعود إلى الحكاية. فكأنه لما بينّ - اللّه سبحانه - أن بني إسرائيل لما علوا وبغوا في الأرض، سلط عليهم قوماً، ثم لما تابوا قبل توبتهم، وأظفرهم على عدوهم، خاطب أمتنا بأن من أحسن عاد نفع إحسانه إليه، ومن أساء عاد ضرره إليه ترغيباً وترهيباً(2).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنك إن أحسنت فنفسك تكرم وإليها تحسن»(3).

وقال(عليه السلام): «إنك إن أسأت فنفسك تمتهن وإياها تغبن»(4).

استنتاج

إذن، فمن اللازم على الإنسان هو أن يتبع عقله ويعمل بما يقتضيه ليرقى في دنياه وآخراه، كما يلزم عليه أنه يؤدي حق اللّه وحق الناس، ويفعل الخير للآخرين، فإنما يجنّب نفسه من عقوق اللّه والناس ويفعل الخير لنفسه، وذلك

ص: 522


1- سورة الرعد، الآية: 25.
2- تفسير مجمع البيان 6: 222.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 267.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 267.

لرجوع النفع إليه، وعَود الأجر عليه. بينما الإنسان الجاحد لحق اللّه وحق الناس، التابع للشهوات والأوهام فإنه إنما يسيء بذلك لنفسه، ويعرّضها للعقوق، حيث يوقعها في المهالك ويبعدها عن الكمالات. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «صنائع المعروف تدر النعماء وتدفع البلاء»(1).

وهكذا يظهر لنا مصير الإنسان في أقسامه الثلاثة، فمن عمل بعقله سعد في الدنيا ونجا في الآخرة، وكان من الفائزين الآمنين، ومن عمل على خلاف العقل ومن أجل تحقيق وهمه وخياله واتباع شهواته، وصرف عمره مهتماً ببطنه وفرجه،شقي في الدنيا وهلك في الآخرة، وكان من الخائفين الخاسرين.

«اللّهم صل على محمد وآله، واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه، واستفرغ أيامي في ما خلقتني له، وأغنني وأوسع عليّ في رزقك، ولا تفتني بالنظر، وأعزني ولا تبتليني بالكبر، وعبّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب، وأجر للناس على يديّ الخير، ولا تمحقه بالمنّ، وهب لي معالي الأخلاق وأعصمني من الفخر»(2).

من هدي القرآن الحكيم

نعمة خلق الإنسان وحق الخالق

قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٖ مِّنْ حَمَإٖ مَّسْنُونٖ}(3).

وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}(4).

ص: 523


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 420.
2- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
3- سورة الحجر، الآية: 26.
4- سورة الفرقان، الآية: 54.

وقال جلّ وعلا: {خَلَقَ الْإِنسَٰنَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٖ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعَا بَصِيرًا}(2).

وقال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ}(4).

معرفة اللّه وشكره عبر معرفة النفس والآفاق

قال جلّ وعلا: {سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِي الْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(5).

وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ ءَايَٰتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا}(7).

العقول تهدي إلى شكر النعم وأداء الحقوق

قال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(8).

وقال جلّ وعلا: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(9).

ص: 524


1- سورة الرحمن، الآية: 3- 4.
2- سورة الإنسان، الآية: 2.
3- سورة التين، الآية: 4.
4- سورة العلق، الآية: 2.
5- سورة فصلت، الآية: 53.
6- سورة الذاريات، الآية: 20-21.
7- سورة الشمس، الآية: 7- 8.
8- سورة يوسف، الآية: 2.
9- سورة المائدة، الآية: 100.

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال سبحانه عزّ وجلّ: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

إتقان العمل وصلاحه

قال جلّ وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَعَمَلًا}(4).

وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(5).

قال اللّه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ}(6).

وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(7)

قال جلّ وعلا: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}(8).

وقال تبارك وتعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٖ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٖ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَٰنًا نَّصِيرًا}(9).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا

ص: 525


1- سورة الرعد، الآية: 19.
2- سورة إبراهيم، الآية: 52.
3- سورة الكهف، الآية: 7.
4- سورة الكهف، الآية: 30.
5- سورة الملك، الآية: 2.
6- سورة المؤمنون، الآية: 1-2.
7- سورة الشمس، الآية: 9-10.
8- سورة الصافات، الآية: 126- 128.
9- سورة الإسراء، الآية: 80.

لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}(1).

وقال سبحانه: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

معرفة اللّه عبر معرفة النفس

روي: أنه دخل على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) رجل اسمه مجاشع فقال: يا رسول اللّه، كيف الطريق إلى معرفة الحق؟ فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «معرفة النفس».فقال: يا رسول اللّه، كيف الطريق إلى موافقة الحق؟ قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «مخالفة النفس».

قال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى رضاء الحق؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «سخط النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى وصل الحق؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «هجر النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى طاعة الحق؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «عصيان النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى ذكر الحق؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «نسيان النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى قرب الحق؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «التباعد عن النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى أنس الحق؟

ص: 526


1- سورة الزمر، الآية: 2-3.
2- سورة الصافات، الآية: 73-74.

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الوحشة من النفس».

فقال: يا رسول اللّه، كيف الطريق إلى ذلك؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الاستعانة بالحق على النفس»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل المعرفة معرفة الإنسان نفسه»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «من عرف قدر نفسه لم يُهِنْها بالفانيات»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «لا غنى كغنى النفس، ولا قوة كغلبة الهوى، ولا نوركنور اليقين، ولا يقين كاستصغارك الدنيا، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك»(4).

العقل وشكر النعم وأداء الحقوق

قال الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم): «سيد الأعمال في الدارين: العقل، ولكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته لربه»(5).

وقال أبوعبد اللّه(عليه السلام): «دعامة الإنسان: العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالماً حافظاً ذاكراً فطناً فهماً، فعلم بذلك كيف، ولِمَ، وحيث، وعرف من نصحه ومن غشّه، فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله، وأخلص الوحدانية للّه والإقرار بالطاعة، فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات، ووارداً على ما هو آت، يعرف ما هو فيه، ولأي شيء هو هاهنا، ومن أين يأتيه، والى ما هو صائرٌ، وذلك كله من تأييد العقل»(6).

ص: 527


1- عوالي اللئالي 1: 246.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 189.
3- عيون الحكم والمواعظ: 460.
4- تحف العقول: 286.
5- بحار الأنوار 1: 96.
6- الكافي 1: 25.

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة»(1).

وقال(عليه السلام): «حجة اللّه على العباد: النبي، والحجة في ما بين العباد وبين اللّه العقل»(2).

العقل وأداء الحقوق واجتناب العقوق

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الخلق كلهم عيال اللّه، فأحبهم إلى اللّه عزّ وجلّأنفعهم لعياله»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ينبئ عن قيمة كل امرئ علمه وعقله»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لما أسري برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حضرت الصلاة فأذن جبرئيل وأقام جبرائيل له، فقال: يا محمد تقدم، فقال للصلاة رسول اللّه: تقدم يا جبرائيل، فقال له: إنا لا نتقدم الآدميين منذ أمرنا بالسجود لآدم(عليه السلام)»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال اللّه عزّ وجلّ: الخلق عيالي، فأحبهم إلي ألطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لأحد أصحابه: «اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى اللّه عزّ وجلّ والورع في دينكم والاجتهاد لله، وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 528


1- الكافي 1: 11.
2- الكافي 1: 25.
3- وسائل الشيعة 16: 345.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 810.
5- تفسير العياشي 2: 277.
6- الكافي 2: 199.

كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك ويدخل علي منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفرٍ، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل: هذا أدب جعفرٍ، فو اللّه لحدثني أبي(عليه السلام): إن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي(عليه السلام) فيكون زينها، آداهم للأمانة وأقضاهم للحقوق وأصدقهمللحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلانٍ، إنه لآدانا للأمانة وأصدقنا للحديث»(1).

اتقان العمل وأداء الحقوق

قال الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم): «... إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «... اللّه يحب عبداً إذا عمل عملاً أحكمه»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قدموا خيراً تغنموا وأخلصوا أعمالكم تسعدوا»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «تصفية العمل أشد من العمل»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) أيضاً: «صفتان لا يقبل اللّه سبحانه الأعمال إلّا بهما، التقى والإخلاص»(6).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «وأعنّي على صالح النية، ومرضيّ القول،

ص: 529


1- الكافي 2: 636.
2- الكافي 3: 263.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 385.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 501.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 316.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 423.

ومستحسن العمل»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(2) قال(عليه السلام): «ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية اللّه، والنية الصادقة والحسنة» ثم قال: «الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد منالعمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحدٌ إلّا اللّه عزّ وجلّ، والنية أفضل من العمل، ألّا وإن النية هي العمل...»(3).

ص: 530


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في يوم عرفة.
2- سورة الملك، الآية: 2.
3- الكافي 2: 16.

ضرورة التعاون

مدنيّة الإنسان

قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ}(1).

الإنسان بطبيعته يميل نحو الارتباط بالآخرين والاحتكاك بهم، لأنه لا يستغني في كل مراحله عن المجتمع في الأخذ والعطاء منهم وإليهم. فالإنسان موجود لا تستمر حياته منتظمة ومتقدمة بدون الآخرين، وذلك على العكس من بعض الحيوانات التي تستطيع العيش بدون الاعتماد والاحتكاك مع الغير.

وهذا الإحساس الاجتماعي نابع من الفطرة المودعة في الإنسان، وليس هذا فحسب، بل إنه كلما ابتعد عن الآخرين فإنه يتحول إلى مخلوق وحشي بعيد عن طبع الإنسانية. وإن التعاون الإجتماعي من أبرز علامات المدنيّة والتفاعل الاجتماعي والاختلاط بين بني البشر... بل إن التعاون من المقوّمات الحقيقية للمجتمعات والتجمعات السكانية، لا سيّما التعاون على البر، كما أشارت الآية الكريمة إلى ذلك، لأنه خير، وإشاعة الخير سبب واقعي لحياة الإنسان وتقدمه ورقيّه.

وعكس ذلك ما لو انعدم التعاون في المجتمع، فإنه حينئذ سوف يكون بؤرة النزاعات والصدامات التي تؤخرّه، وتشل أهدافه أو تموّهها لتصبح بعيدة المنال.

ص: 531


1- سورة المائدة، الآية: 2.

ومن أجل ذلك نرى تحريض القرآن والسنة على التعاون، فعن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «خير الناس من نفع الناس»(1).

فالتعاون الاجتماعي أمر ملائم لطبع الإنسان، ويمكن وصفه بأنه جيش صامد أمام الأعداء، وعكسه الجيش المفكك الذي لا يصمد أمام أي هجمة، لعدم التعاون... فالتعاون بناء وبقاء، وعكسه هدم وفناء.

مصاديق التعاون

اشارة

جميع مصاديق التعاون تجتمع في صورتين هما:

التعاون الإيجابي

الأولى: التعاون على الخير، وهو يشمل جميع الصور الإنسانية الرفيعة المستوى، التي تصب في خدمة الإنسان وأهدافه النبيلة، من الإعانة، وقضاء الحوائج، والإقالة، والتسليف، والإنفاق، والتبرع بالمال والجهد والخدمة، وإصلاح ذات البين، والعناية بأمور الناس... .

وهناك معنىً آخر للتعاون، وهو من هذا القسم أيضاً، وهو نبذ الخلافات والتنسيق مع كل الأطراف، فهو أيضاً نوع من التعاون على إشاعة الخير والوحدة. وله ثمار عظيمة جداً، لا سيما أن أغلب هذه الثمار والفوائد تعود على الجماعة ومما يذكر في هذا المجال أن أحد علماء أصفهان، ويلقب (بآية اللّه الفشاركي)، كان ضد السلطة، وكان يجاهر بمعارضته وانتقاداته للنظام، فانزعج منه حاكم أصفهان، وكتب إلى ناصر الدين شاه قائلاً: في أصفهان رجل يأمر الناس بالابتعاد عن السلطة، وبعدم إعطاء الضرائب ونحو ذلك... .

فكلّف الشاه جماعة بأن يبعدوا آية اللّه الفشاركي إلى طهران. وفي ذلك اليوم

ص: 532


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 357.

كانت وسائل النقل منحصرة في الدواب. فركب هذا العالم دابته بصحبة جلاوزة الشاه، وتوجه إلى طهران. وطال سفرهم أيّاماً، وصل الخبر إلى علماء طهران، وكان فيها مرجعان يقتسمان تقليد طهران، وكان بينهما بعض الاختلاف في النظر. وذات ليلة كان أحد العالمين نائماً في فراشه، وإذا بالباب يطرق، فأسرع الخادم وفتح الباب، فرأى العالم الآخر على الباب، فتعجب الخادم، وأسرع إلى سيده (العالم الثاني)، صاحب الدار، وأخبره بالأمر، فأسرع العالم بدوره إلى باب الدار، واستقبل زميله فدخلا البيت، وجلسا، ولما استقر بهما المجلس، قال العالم الأول: إن طهران بيني وبينك، وهذا الرجل (يقصد الشاه) إذا تمكن أن يهين آية اللّه الفشاركي فإن الدور يأتي غداً لنا. والإسلام يدعونا إلى وحدة الصف. فالشرع والعقل متطابقان على أن نتحد ونتعاون، حتى نرفع الغائلة. قال العالم صاحب الدار: نعم هذا صحيح ولكن كيف؟ قال العالم الزائر: إن نصف طهران يقلدونك، والنصف الآخر يقلدونني، فلنرسل غداً من يصيح في الناس في الشوارع والأسواق والأزقة: أنه بأمر العالِمَين فلان وفلان (أنا وأنت): يجب على الناس إغلاق المحلات، والنفير إلى خارج طهران، لاستقبال (آية اللّه الفشاركي)، فإذا اتخذنا هذا الإجراء لم يستطع الشاه إهانة الفشاركي. فاتفق العالمان على الخطة، وتعاونا، وفعلاً فقد خرج الناس إلى خارج طهران لاستقبال الفشاركي. أما الشاه فحينما سمع بهذه القصة صعد إلى سطح القصر ومعه وزيره، وكان يسمى بالصدر الأعظم، فنظروا وإذا بالناس يخرجون في مجموعات كبيرة، والأسواق معطلة. فتوجه الشاه إلى الصدر الأعظم، وقال له: ما هو الخلاص؟ إن هؤلاء يتمكنون أن يرجعوا إلى قصري، وينزلونني عن عرشي، ويسقطوا حكمي. أرأيت كيف تعاون العالمان في طهران ضدي؟ قال الصدر الأعظم: العلاج أن تخرج أنت وجميعالوزراء لاستقبال العالم وتسأله عن سبب مجيئه إلى طهران، وتجاهل القضية،

ص: 533

وادعه إلى أحد قصورك وبذلك تخفف الوطأة، وتكون قد ربحت المعركة. فاقتنع الشاه بهذا الكلام، وفعلاً ذهب لاستقبال الفشاركي، وعند ما التقاه سأله عن سبب مجيئه إلى طهران؟ قال الفشاركي: أنت طلبتني.

قال الشاه: كلا، أنا ما طلبتك، فمن بلّغك هذا الخبر المكذوب؟!

قال: حاكمك في أصفهان.

قال: إنه أخطأ، والآن تفضل عندي في داري.

قال: لا إن لي مكاناً أذهب إليه، ثم أرجع إلى بلدي أصفهان.

وهكذا يكون التعاون سبباً للقوة، لأن القوى الفردية سوف تتحد وتُنبذكل الخلافات ووجهات النظر، التي تحول دون الوحدة والتعاون، من أجل الخير. ولقد أكدت السنة الشريفة على المعاونة لفعل الخير؛ فعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «رحم اللّه والداً أعان ولده على بره. رحم اللّه جاراً أعان جاره على بره. رحم اللّه رفيقاً أعان رفيقه على بره. رحم اللّه خليطاً أعان خليطه على بره. رحم اللّه رجلاً أعان سلطانه على بره»(1).

التَّعاون السلبي

هو المصداق الثاني من مصاديق التعاون، ولكن الأول كان في سبيل إشاعة الخير، وهو إيجابي، بينما هذا القسم من النوع السلبي، وهو التعاون من أجل الشر وفعله، والقبيح وفعله، والتاريخ مليء بهذا الأمر... ولكن أقبحها صورة هو عندما يتعاون الأفراد أو الأمة جمعاء على قتل نبيّها أو وصيّه، كما كان الأمر في مجتمع الكوفة عند ما اجتمعوا وتعاونوا على محاربة الإمام الحسين(عليه السلام)، فكانت شرّ عصابةفي تاريخ البشرية ارتكبت أعظم معصية، وهي قتل ابن بنت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم). ولا

ص: 534


1- ثواب الأعمال: 186.

يخفى أن قتله كان شر قتل، فقد رموه بالحجارة والنبال والسهام، وضربوه بالسيوف والرماح، وأحرقوا خيام عياله، ثم حزّوا رأسه المقدس، ورفعوه على الرماح. وكذلك الحال عند ما تعاون اليهود مع قريش في محاربة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في معركة الأحزاب. فإن هذا النوع من التعاون على نقيض من النوع الأول، وهو التعاون على فعل الخير والبر. فهذا النوع الثاني هو الذي يصطلح عليه ب- (الظلم). ولذلك قال الإمام الحسين(عليه السلام): «اني لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً»(1).

لقد سمّاهم بالظالمين. وكذلك الأمر عند ما تعاون الأول مع الثاني على غضب الخلافة من أمير المؤمنين(عليه السلام)، فهذا أيضاً تعاون سلبي لا إيجابي، لأنه لم يخدم الإسلام والمسلمين، بل كان فاتحة الفرقة والانشقاق.

ومن غرائب الأمور التي يستقبحها العقل هو أن الخليفة الأول لما رأى الناس معرضة عنه، ساخطة على فعله هذا، قال: (أقيلوني فلست بخيركم)(2).

أي: أنا لست أفضلكم. ومن جهة أخرى تراه يعمل على تنصيب الخليفة من بعده، فإذا كان لا يصلح للخلافة بنفسه فكيف يعهد بها إلى غيره؟!

معنيان للتعاون

إن للتعاون في الكتاب الكريم، والسنة المطهرة معنيين: فتارة يذكر ويشمل التعاون المعنوي، وأخرى يشمل التعاون المادي.

أما بالنسبة للأول، التعاون المعنوي: فهو كثير، وله صور متنوعة، كإقامة الشعائر الدينية، التي هي عبارة عن حالة روحية معنوية، وقد جاءت النصوصالمقدسة في التشجيع على هذا النوع من التعاون؛ قال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ

ص: 535


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 68.
2- شرح المقاصد في علم الكلام 2: 287.

اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(1). مثل إقامة المآتم على إمامنا الحسين(عليه السلام)، وقد وردت أخبار تؤكد على ذلك، أمثال زيارة الحسين، والتباكي عليه، وقول الشعر فيه، والحضور في مجالس عزائه، وغيرها من أنواع إقامة الشعائر وإحيائها. فعن مولانا الصادق(عليه السلام) قال: «ما من أحد قال في الحسين(عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى إلّا أوجب اللّه له الجنة وغفر له»(2). وفي دعاء الإمام الصادق(عليه السلام): «... اغفر لي، ولإخواني، وزوار قبر أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، الذين أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم، رغبة في برّنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك صلواتك على وآله... ، فكافهم عنّا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنهار، واخلف على أهاليهم...»(3). فإذا سمع المحب دعاء الإمام هذا، فكيف لا يرغب في زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)؟

ولا يخفى أن قوافل زوار الحسين(عليه السلام) لم تكن وليدة اليوم، بل كانت منذ مئات السنين، حيث كانوا يتعاونون للوصول إلى قبره، ويعين أحدهم الآخر على ذلك. ومن صور التعاون المعنوي أيضاً عيادة المريض، وكذلك الدعاء للإخوان في ظهر الغيب، وتبادل الكلمات الطيبه مع الناس، ورُبّ كلمة تجلو الهمّ والكرب عن إنسان أفضل من المال والأمور الأخرى، وصلاة الجماعة هي كذلك تعبير آخر عن التعاون المعنوي الذي يزيد أواصر الأفراد، ويقوي العلاقات الاجتماعية. وكذلك هناك صور أخرى معبرة عن التعاون المعنوي، وهي إلقاء النصيحة والموعظة للناس. فإن الموعظة إعانة مؤثرة، لاتقلّ عن النفقةوالمساعدات المادية، إن لم نقل أنها أهم منها؛ يقول أمير المؤمنين(عليه السلام)، في هذه

ص: 536


1- سورة الحج، الآية: 32.
2- وسائل الشيعة 14: 594.
3- الكافي 4: 582.

الصدد: «المواعظ حياة القلوب»(1).

ولا يخفى أن هذا أهم شيء بالنسبة للإنسان، وهو أن يظل قلبه حيّاً، ينبض بالإيمان وحب اللّه فمن آثار الموعظة: «بالمواعظ تنجلي الغفلة»(2).

وهناك قول آخر يدل بوضوح على أن المواعظ إحسان وبر، ولا شك أن البر من باب التعاون كما مر ذكره؛ فيقول(عليه السلام): «من وعظك أحسن إليك»(3).

التعاون في صدر الإسلام

ومن العوامل التي ساعدت على ازدهار الإسلام في صدره الأول هو: أن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، قد أرسى قواعد مجتمعه على أساس التعاون، وكان أول ذلك هو المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، وحصلت تلك الألفة، وذلك التقارب والانسجام، فحينما جاء المهاجرون إلى المدينة، ولم يكن عندهم بيت ولا ملابس ولا طعام، قاسمهم الأنصار بما عندهم، وشاركوهم في عملهم، كشركاء شرعيين، إلى درجة أن المؤرخين ذكروا أن سعد بن ربيع وعبد الرحمن بن عوف - وكان سعد من الأنصار بينما كان عبد الرحمن من المهاجرين - قد تشاركا في كل شيء، إلى درجة أن سعداً قال لعبد الرحمن: إن عندي زوجتين، فاختر لك واحدة منهما، حتى اطلّقها وتتزوجها أنت بعد انقضاء عدّتها(4).

مشكلات الزواج... لماذا؟

واضح أن الناس في زمان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لم يكونوا يعا نون من أي مشكلةفي مسألة الزواج. فإن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) سهل ذلك بتوصياته وسلوكه مع الناس. وذلك

ص: 537


1- عيون الحكم والمواعظ: 17.
2- عيون الحكم والمواعظ: 187.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 586.
4- انظر المعجم الأوسط 1: 59.

بتبسيط شرائط المهر وجهاز الزواج. ثم إن هناك قاعدتين كان الناس يراعونهما عند الزواج؛ الأولى: شرعية، والثانية: اجتماعية. ويلاحظ بينهما وجه الافتراق، ذلك أن الإسلام بل كل دين الهي، وكل قانون عقلائي يأخذ بنظر الاعتبار مدى قبول الناس لذلك القانون، إلّا أنه لا يغفل عن الأسس الأخلاقية؛ مثل الإحسان والفضيلة. بل يأخذ الأمرين بعين الاعتبار، دون إهمال طرف على حساب الطرف الآخر، ولا يمكن أن يقر الدين القانون الذي يتفق عليه الناس فقط، فيبدلونه كلما أرادوا، تبعاً لعسرهم ويسرهم. ولذا حدد الإسلام تصرفات الناس الضرورية بين حلال وحرام بينما جعل التصرفات غير الضرورية بين مستحب ومكروه. وعلى أية حال فإن الذي كان معروفاً في المجتمع الإسلامي آنذاك هو: أن الزواج كان أمراً سهلاً ميسوراً. لأن المرأة والرجل يحتاج كل منهما للآخر، فلماذا يجعل كل منهما شروطاً تقف حائلاً دون الزواج.

وأن الإسلام استطاع أن يبني مجتمعاً رفيعاً قائماً على أساس التعاون، سواء في الحرب أو في السلم، فحينما كان الأعداء يبدأون بالهجوم على المسلمين، كان المسلمون كافة يبادرون ويتأهبون للدفاع عن بيضة الإسلام، وإذا وجدوا فقيراً من المسلمين، فإنهم كانوا يتعاونون من أجل انتشاله من أزمته.

إذن، لم تكن هناك مشكلة بطالة، ولا مشكلة زواج، ولقد رأيت الإسلام في أدواره الأخيرة، وإن كان قد نُحي عن مسرح الحياة بنسبة (50%) ففي العراق، وقبل (50) عام، كان هناك بقايا من آثار الإسلام. وبعد الحرب العالمية الثانية انهدم المجتمع الإسلامي، وإني أتذكر جيداً أن في كربلاء لم يكن هناك من يعاني من مشكلة الزواج، سوى شخصين حيث كانا يعانيان من مرض يمنعهما من الزواج. ولقد كنت آنذاك قريباً من الناس، بسبب وجود مرجعية الوالد(رحمه الله).

وفي كربلاء التي كان تعداد سكانها 100 ألف نسمة، كان عدد غير

ص: 538

المتزوجين لا يتجاوز العشرة، لأن المجتمع آنذاك كان متعاوناً، وبسيطاً في معيشته، ويحمل القدر الكافي من الإيمان.

إن معاناة المجتمع، سواء كانت متمثلة في مشكلة الزواج، أو مشكلة البطالة، أو مشكلة الفقر، كلها عقبات في طريق تقدم المجتمع. وواضح ان أحد الأسباب المهمة في نشوء هذه العقبات هو انعدام روح التعاون الخلّاق في ما بين الناس. لأن التعاون الذي كان جارياً بين الناس، هو الذي أدى إلى قضاء حوائج أفراد المجتمع، وبالتالي فإن التعاون كان يشكل إحدى الدعائم التي يرسو عليها رقيّ البلاد. كما أن نفوذ الإسلام إلى قلوب الشعوب ما كان بقوة السيف، بل إن الناس عرفوا الدين شيئاً جميلاً، فأجروه في حياتهم.

إن أحد الكتاب المسيحيين ألّف كتاباً، أسماه: (الدعوة إلى الإسلام)(1).

ومما ذكر فيه هو قوله: أن أحد أسباب انتشار الإسلام بين البلدان، هو أن هذا الدين كان ديناً جميلاً يجذب العقول والقلوب، وأن المسلمين كانوا يعتقدون أنهم مدعوّون لنشر الإسلام في مختلف البقاع بدافع من هذا الدين. كما أنهم ما كانوا يعانون من صعوبة في الحياة تلهيهم عن ذلك.

صورٌ قبيحة

هناك صورة من صور التعاون، ولكنها قبيحة للغاية، وقد جرّت علينا الويلات والمآسي، وهي تعاون الطواغيت والمتآمرين من الحكام وغيرهم مع الاستعمار ضد شعوبنا المسلمة. ولا يخفى أن عملهم هذا يسمى تآمراً على سرقة أموال المسلمين، ونهب ثروات البلاد. وليس هذا فحسب، بل إن بعض العملاء عملواوتعاونوا مع الاستعمار على الاستيطان في بلاد المسلمين، كما هو الحال في

ص: 539


1- كتاب: (الدعوة إلى الإسلام) للمستشرق البريطاني: سير توماس أرنولد (1864م-1930م).

فلسطين، وصاروا هم أصحاب البلاد، والمسلمون غرباء في أوطانهم.

أما معاملة المستعمرين مع أبناء شعوبنا المظلومة فحدّث عنه ولا حرج، فقد عملوا على استضعافهم، ومصادرة حرياتهم، وإعلان الأحكام العرفية بحقهم... وطالت مشانقهم كل الأصوات الحرة التي تنادي بالاستقلال، ومحاربة المحتل الغاصب. ومن يلاحظ سلوك الاستعمار هذا، وسلوك الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، ومن بعده أمير المؤمنين(عليه السلام)، يلاحظ البون الشاسع بين السلوكين، فالرسول الأعظم كان يعامل النصارى واليهود كمعاملة المسلمين، ولا يفرق بينهم؛ والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كان قد أوصى الأشتر عند ما بعثه والياً على الناس في مصر جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) بقوله: «... فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق»(1).

وقد قال القرآن الكريم {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا}(2)، {وَإِخْوَٰنُ لُوطٖ}(3)، أي: إن الكفار هم إخوان الأنبياء من حيث الإنسانية.

كما نسب إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله:

الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء

فإن يكن لهم في أصلهم نسب *** يفاخرون به؛ فالطين والماء(4)

إذن، كان الكفار الذين يعيشون بين المسلمين يتمتعون بالراحة والحرية، وإن ذلك هو مظهر من مظاهر التعاون والرأفة الإسلامية، فلم يكن هناك تمايز علىأساس اللون واللغة والموقع الجغرافي، بل كان الجميع متحابين منسجمين.

ص: 540


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولّاه على مصر.
2- سورة الأعراف، الآية: 73.
3- سورة ق، الآية: 13.
4- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 24.

وكذلك بين الفقراء والأغنياء كانت هناك محبة وشفقة، على عكس ما عليه الناس اليوم.

والواقع، حينما لا يكون هناك حق فمن المعلوم أن الباطل سيحل محله.

ولو عادت اليوم موازين الإسلام إلى الحياة، وعادت الأخوة والتعاون والحرية والأمة الواحدة؛ فإن جميع المشاكل تكون قابلة للحل، وسيحصل الناس على رفاه منقطع النظير.

إذن، علينا أن نكثّف نشاطاتنا من أجل إعادة التعاون إلى ساحة الحياة، وهذا ما يجب أن يتكفل به أولئك الذين يريدون حلّ مشاكل الحياة، والقضاء على أزماتها، وإن ذلك يتطلب برنامجاً خاصاً، بالإضافة إلى إعادة الأخوة والمحبة وبناء الأمة الإسلامية الواحدة، لكي تعم السعادة كل الحياة.

وقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «المؤمن منفعة إن ماشيته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن شاركته نفعك، وكل شيء من أمره منفعة»(1).

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

إصلاح ذات البين

قال تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(3).

ص: 541


1- نهج الفصاحة: 781.
2- الكافي 3: 424.
3- سورة الأنفال، الآية: 1.

الإيثار

قال سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(1).

الإقراض

قال عزّ وجلّ: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}(2).

الإطعام

قال جلّ وعلا: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}(3).

لا للفرقة ولا للاختلاف

قال عزّ اسمه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ...}(4).

وقال جلّ شأنه: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(5).

وقال عزّ من قائل: {وَلَا تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا}(6).

وقال سبحانه: {... أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ...}(7).

ص: 542


1- سورة الحشر، الآية: 9.
2- سورة الحديد، الآية: 11.
3- سورة الإنسان، الآية: 8.
4- سورة آل عمران، الآية: 103.
5- سورة آل عمران، الآية: 105.
6- سورة الروم، الآية: 31 - 32.
7- سورة الشورى، الآية: 13.

من هدي السنّة المطهّرة

صور من التعاون

إصلاح ذات البين

قال الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) لأبي أيوب الأنصاري: «يا أبا أيوب ألّا اُخبرك وأدلَك على صدقة يحبها اللّه ورسوله: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتباعدوا»(1).

الإيثار

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الإيثار أحسن الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان»(2).

الإقراض

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من أقرض مؤمناً قرضاً ينتظر به ميسوره كان ماله في زكاة، وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه إليه»(3).

الإطعام

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): من أطعم ثلاثة نفر من المسلمين أطعمه اللّه من ثلاث جنان في ملكوت السماوات الفردوس وجنة عدن وطوبى»(4).

لا للفرقة ولا للاختلاف

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الجماعة رحمة، والفرقة عذاب»(5).

ص: 543


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 6.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 90.
3- ثواب الأعمال: 138.
4- الكافي 2: 200.
5- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 27.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزموا الجماعة، واجتنبوا الفُرقة»(1).

وقال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «من سرّه أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة»(2).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة»(3).

ص: 544


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
2- نهج الفصاحة: 736.
3- المحاسن 1: 94.

فهرس المحتويات

الحجاب الدرع الواقي

الحجاب في القرآن... 5

لماذا الحجاب؟... 5

أولاً: بقاء المحبة الزوجية... 6

ثانياً: الحفاظ على الحياة الزوجية... 7

ثالثاً: توقي الانحرافات الجنسية... 8

أمثلة من الواقع... 10

نظرة السوء... 10

أحبلني ميكائيل!!... 10

من آثار عدم الحجاب... 11

برصيصا العابد... 12

خاتمة... 13

المرأة وطلب العلم... 13

الزواج المبكر... 13

المرأة كاملة لا نقص فيها... 14

مشروع الزواج... 15

الزواج ومواصلة الدراسة... 20

المرأة في المجتمع الغربي... 22

ملحق: روايات في النظر والاختلاط... 28

من سهام إبليس... 28

ص: 545

من ترك النظر... 28

النظرة بعد النظرة... 28

النظرة المهلكة... 29

ثواب غض البصر... 29

لماذا الحجاب؟... 29

لا تتبع النظرة بالنظرة... 29

النظرة توجب الفتنة... 30

من ملأ عينيه حراماً... 30

من صافح امرأة أجنبية... 30

لا تكلم الأجنبية... 31

من فاكه امرأة... 31

ما يميت القلب... 31

لا تعودن إليها... 31

أخت الزوجة والغريبة... 32

لا تنظر في أدبار النساء... 32

ارض للناس ما ترضاه لنفسك... 32

مسامير من نار... 32

لا تطلق ناظرك... 32

دوام الحسرة... 33

زنا العين... 33

ثواب الحج والعمرة... 33

أفضل الغنائم... 33

غضوا أبصاركم... 34

إياكم والنظر... 34

الموت ولا النظر... 34

ص: 546

لو ذهبت عيناك... 34

إنها الفتنة... 34

مصائد الشيطان... 35

من أصاب امرأة نظرة... 35

من ترك النظر... 35

لعنهما اللّه... 35

رائد الفتن... 35

ذهاب النظر خير... 36

النظرة والحسرة... 36

راحة القلب... 36

من أطلق طرفه... 36

من شروط البيعة... 36

من غض طرفه... 36

محادثة النساء... 36

لا تحادث النساء... 37

لا تمازح الفتيات... 37

أقلل من محادثة النساء... 37

لا تمش خلف المرأة... 37

النظر إلى العورة... 37

من صافح أجنبية... 38

الحجاب أمان من الإيذاء... 38

عين غضت عن محارم اللّه... 38

خير النساء... 38

ألستما تبصرانه... 39

لا تسلم على الشابات... 39

ص: 547

الحجاب حتى من الأعمى... 39

تقبيل المحارم... 39

اشتد غضب اللّه... 39

من قبل غلاماً بشهوة... 40

لجام من النار... 40

لا تحب الزنا... 40

عفّوا عن نساء الناس... 40

من علائم ولد الزنا... 40

خراب البيت... 41

النار بلا حساب... 41

أعظم المحرمات... 41

لا تهم بزنا... 41

ظهور الزلازل... 41

الفقر والمسكنة... 42

حبس الرزق... 42

تبعات الزنا... 42

الحزب في النظرية الإسلامية

الإسلام والتطور السياسي... 43

ظاهرة الأحزاب... 45

الحزب مجال للتنافس الشرعي... 47

وفي يوم عاشوراء... 50

من فوائد التعددية الحزبية... 51

حرية الرأي والتعددية في ظل الإسلام... 53

الإسلام وسياسة الانفتاح... 54

عفو عن ذنب... 56

ص: 548

مع عائشة... 57

الدولة الإسلامية دولة المؤسسات والتكتلات... 57

نماذج من توصيات أمير المؤمنين(عليه السلام)... 59

التعددية الغربية من بركات الإسلام... 62

من هدي القرآن الحكيم... 64

الحكم ذو الطابع الشرعي... 64

الحرية الإسلامية... 65

الحسنات لا السيئات... 66

أهل البيت(عليهم السلام) هم القادة الشرعيون... 66

من هدي السنّة المطهّرة... 67

الحرية في الإسلام... 67

الحكم للّه وحده... 67

الإسلام والعمل الصالح... 68

أهل البيت(عليهم السلام) هم الخلفاء الشرعيون... 69

الخبرة ودورها في الحياة

الخبرة علم... 70

لا علم لنا... 70

الخبرة العملية... 74

من مقومات الخبرة... 74

الخبرة الزراعية... 75

هيمنة اليهود الاقتصادية... 75

الخبرة في الروايات... 77

من أين نبدأ؟... 78

الانتكاسات عبرة... 80

ص: 549

دروس من ثورة العشرين... 81

عالم اليوم والخبراء... 84

الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والخبرات... 85

موسى والخضر(عليهما السلام)... 86

من هدي القرآن الحكيم... 90

مقومات الخبرة... 90

1- العلم... 90

2- الوعي والبصيرة... 90

3- الاعتبار من عواقب الماضين... 91

4- التفكر... 91

من هدي السنّة المطهّرة... 92

مقومات الخبرة... 92

1- العلم... 92

2- الوعي... 92

3- الاعتبار من عواقب الماضين... 93

4- التفكر... 93

الرأي العام ودوره في المجتمع

الرأي والعزيمة... 95

حقيقة الرأي العام... 96

مقومات الرأي العام... 96

أهمية الرأي العام... 97

كيف نهيئ الرأي العام الإسلامي؟... 98

شواهد من الرأي العام وتأثيره... 99

الرأي العام وفرض البدع... 99

ص: 550

هذا هو تأثير الرأي العام... 103

انكسار قدرة يزيد... 103

احترام الرأي العام... 107

لا بد أن نتسلح بالمعنويات أولاً... 107

قصة والد العلامة مع هولاكو... 110

استمرار المؤامرة... 111

نهج الأعداء... 113

كيف نوظّف الرأي العام لإنقاذ العراق؟... 114

لمحة تاريخية... 115

الإيثار... 117

في إحدى الغزوات... 117

في غزوة تبوك... 119

نموذج من الإيثار... 119

أثر الإسلام... 120

الثقافة سبب التغيير... 122

من هدي القرآن الحكيم... 123

مجانبة الاستبداد بالرأي... 123

ترك المداهنة في الدين... 124

التوعية الدينية... 125

من هدي السنّة المطهّرة... 125

عدم الاستبداد والتفرد بالرأي... 125

البيان والقدرة على الدفاع عن الحق... 126

ترك المداهنة في الدين... 126

العلم أصل كل خير... 127

الرأي والعزيمة... 127

ص: 551

فضيلة الجماعة وكسب الآراء... 128

الجماعة خير ورحمة... 128

الرأي العام وسبل توجيهه

الرأي العام في التاريخ... 130

الرأي العام وأقسامه... 133

الرأي العام الهادف... 134

الإعلام والرأي العام... 135

الإعلام الهادف... 136

الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) والرأي العام... 138

أخذ البيعة لأمير المؤمنين(عليه السلام)... 140

الرأسمالية والرأي العام... 141

الاشتراكية والرأي العام... 143

العراق وتأثير الرأي العام... 145

من هدي القرآن الحكيم... 147

في وحدة الصف الإسلامي وتعاضده... 147

الدعوة الأمثل والأنجح أسلوباً ومنهجاً... 147

العمل بالمشورة وتجنب الاستبداد بالرأي... 148

زيف وبطلان المذاهب المادية... 148

الوعي والاعتبار من صفات المؤمنين... 148

من هدي السنّة المطهّرة... 148

في التآخي الإسلامي... 148

أبرز صفات الداعية... 149

الإصابة في الاستشارة... 150

في الوعي والاعتبار واليقظة... 150

ص: 552

الزواج وتشكيل الأسرة في الإسلام

قانون الزوجيّة في كلِّ مظاهر الحياة... 151

الزوجية أمر ضروري... 154

النفس الواحدة... 155

نظرية أصل الإنسان... 157

القرآن والمسوخ... 158

نظريات وانحرافات... 161

الأسرة في الإسلام... 162

حرية المرأة في الزواج... 164

المرأة في الإسلام والأمم السابقة... 165

المرأة في المجتمعات غير الإسلامية... 168

كيف نحافظ على الأسرة؟... 174

مرحلة ما بعد الزواج... 179

الإيمان وتأثيره على الأسرة... 180

الزواج المبارك... 181

العودة إلى مقاييس القرآن... 192

من هدي القرآن الحكيم... 196

الحث على الزواج... 196

اختيار الزوجة الصالحة... 196

التعامل الأخلاقي عامل انسجام... 197

آثار الإيمان... 197

من هدي السنّة المطهّرة... 198

الحث على الزواج... 198

الزوجة الصالحة... 198

حسن الخلق عامل انسجام الأسرة... 199

ص: 553

آثار الإيمان... 199

السبيل إلى الوحدة الإسلامية

أمة واحدة ورب غفور... 201

مقومات الأمة الواحدة... 201

أولاً: الأموال والثروة... 202

المال ليس هدفاً... 203

إنفاق الأعداء... 204

الإنفاق والتوعية... 204

دور المال... 204

ثانياً: الإعلام... 205

تهمة الإرهاب... 207

ثالثاً: التنظيم... 209

دور التنظيم في تحقق الانتصار... 210

التنظيم في معركة بدر... 212

رابعاً: نبذ الخلاف واحترام الرأي الآخر... 212

كلام حول الانتفاضة الشعبانية... 214

دور المرجعية في قيادة الأمة... 215

إعادة السيادة والكرامة... 217

من هدي القرآن الحكيم... 218

توازن الأموال وأثرها في المجتمع... 218

البلاغ المبين... 218

زرع روح الأخوة... 219

من هدي السنّة المطهّرة... 219

أثر الأموال في المجتمع... 219

الفقهاء خلفاء الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)... 220

ص: 554

النظم في العمل... 221

الأخوة الإسلامية... 221

السعي نحو مجتمع إسلامي

الأمم وما تكتسبه... 223

من هو المسلم؟... 224

نماذج من القادة الصالحين... 227

الشيخ الكليني(رحمه الله)... 227

الشيخ الصدوق(رحمه الله)... 227

الشيخ الطوسي(رحمه الله)... 229

الشيخ الأنصاري (رحمه الله)... 229

حصيلة عمر العظماء... 230

ما هو المطلوب منا؟... 231

العوالم التي نمر بها... 234

1- عالم الذر... 234

2- عالم الأرحام... 239

تأثير العوالم وتأثرها... 239

وصايا وآداب عن الأئمة(عليهم السلام)... 241

3- عالم الدنيا... 246

الدنيا مزرعة الآخرة... 247

الترابط بين العوالم... 247

العاقل وتعامله مع الدنيا... 248

الجمع بين الدنيا والآخرة... 249

نماذج ثقافية... 252

عبر وعظات... 255

ص: 555

مثال جميل... 255

4- عالم البرزخ... 257

البرزخ وأول مراحله... 260

مخاوف عالم البرزخ... 260

هل في عالم البرزخ تكامل؟... 261

5- عالم الآخرة... 264

من خصائص يوم القيامة... 266

يوم القيامة ومنجياتها... 267

المصير والمأوى: الجنة أو النار... 270

من هدي القرآن الحكيم... 274

عالم الذر والأصلاب... 274

عالم الأرحام... 274

عالم الدنيا... 275

خاتمة عالم الدنيا... 276

عالم البرزخ... 277

عالم الآخرة... 277

من هدي السنّة المطهّرة... 277

عالم الذر والأصلاب... 277

عالم الأرحام... 279

فرصة العمر... 281

حب الدنيا والاغترار بها... 282

عالم البرزخ... 283

ما ينفع للدنيا والبرزخ والآخرة... 285

زراعة الدنيا للآخرة... 294

ص: 556

الشعور بالمسؤولية

تحمل المسؤولية... 295

من مشاكل الأمة... 297

معاناة سيد الرسل(صلی الله عليه وآله وسلم)... 297

غفلة المسلمين اليوم... 302

العلماء وتحمل المسؤولية... 304

صاحب التفاسير الثلاثة... 305

الجنة للصابرين... 305

الإخلاص والتبليغ... 307

حادثة في بغداد... 308

نموذج من الدقة في العمل... 311

مع السيد القمي(رحمه الله)... 312

في سجن نوري السعيد... 313

وعي المسؤولية وتحمل الصعاب... 315

من هدي القرآن الحكيم... 315

العقيدة والعمل الصالح... 315

الابتعاد عن الغفلة... 316

الشعور بالمسؤولية... 316

إخلاص العمل للّه تعالى... 317

من هدي السنّة المطهّرة... 317

الشعور بالمسؤولية... 317

إياكم والغفلة... 318

إخلاص العمل للّه تعالى... 319

الشعور بالمسؤولية وليد الإيمان... 319

ص: 557

الشيعة والحكم في العراق

الحضارة الإنسانية... 321

الشيعة في اللغة... 322

أصل الشيعة... 323

انتشار التشيع في العراق... 326

بين الأمويين والعباسيين... 327

نهاية الحكم الأموي... 328

انتقال مركز التشيع من الكوفة إلى بغداد... 330

فترة ولاية الحكام الشيعة... 330

ولاية البويهيين... 330

المغول والتشيع... 331

الدولة الجلائرية والتشيع... 332

الدولة الصفوية والتشيع... 332

الدولة العثمانية والضغط على الشيعة... 333

الموصل والتشيع... 334

الشيعة في عراق اليوم... 336

نظرة إلى واقع العراق المعاصر... 337

من يتخذ القرار؟... 339

الحكومة المستقبلية... 339

مع الأمل وبعيدا عن اليأس... 340

صورة الحكومة الإسلامية... 341

من هدي القرآن الحكيم... 342

الشيعة... 342

الحكومة العادلة... 342

من واجبات المسلم... 343

ص: 558

1- رفض الحكومات الجائرة... 343

2- تحمل المسؤولية والاهتمام بها... 344

نشر الفكر الإسلامي... 344

من هدي السنّة المطهّرة... 345

من هم الشيعة... 345

ضرورة العمل... 346

المسؤولية وتعظيمها... 347

خير الملوك... 348

واجب الملوك... 348

من هو الحاكم؟... 349

المال ليس للحكام... 349

الصلح مع اليهود استسلام لا سلام

من هم اليهود؟ ومن هي إسرائيل؟... 350

الأصل الجديد ليهود اليوم... 351

مزاعم اليهود... 352

الطابع التجاري لديانة اليهود... 352

اليهود في البلاد العربية... 353

فلسطين في التاريخ... 353

الفتح الإسلامي... 354

المملكة الصليبية... 355

الحكم الإسلامي في فلسطين... 356

التدفق الجديد لليهود... 356

الحركة الصهيونية... 357

المراوغة من أساليب اليهود... 357

اليهود بؤرة الفساد والكساد... 358

ص: 559

اليهود وإثارة الفتن... 359

لعبتهم مع الملوك... 360

إسرائيل صنيعة الاستعمار... 361

إسرائيل وعروض السلام!!... 361

العرض الخياني... 362

زيارة وتجارة... 362

مواقف الأنظمة العربية... 363

مواقف العدو الصهيوني... 363

وتمسكنوا ليتمكنوا... 364

مهازل بسبب البعد عن الإسلام... 365

الإسلام هو العلاج... 367

من هدي القرآن الحكيم... 369

النهي عن موالاة ومودة الكافرين... 369

اليهود والفساد... 370

ذم المكر والسعي في الفتنة... 370

من هدي السنّة المطهّرة... 371

النهي عن موالاة أعداء اللّه... 371

الاستسلام والغدر والخيانة... 371

معرفة العدو ومعاملته... 372

العودة إلى حكم الإسلام... 372

الطريق إلى الغيب

الخوف والرجاء والحب... 373

التقرب إلى اللّه... 374

اختيار الإنسان... 375

المرتبة الرفيعة... 376

ص: 560

كيف يورث هذا الحب الإخلاص؟... 377

النظر بنور اللّه... 379

قصة خطيب... 381

صفاء القلب عند السيد محمد تقي الطباطبائي(رحمه الله)... 383

قصة الشيخ دُخني!... 383

قوة الروح عند الميرزا علي آغا الزاهد... 384

قصة أخرى... 385

مكاشفة في عالم البرزخ... 385

شهر رمضان فرصة لتقوية الروح... 386

الميرزا صادق التبريزي تنبّأ بوفاته!... 387

من هم المتقون؟... 387

من هدي القرآن الحكيم... 390

ما يورث التقوى... 390

العبادة التصديقية... 391

أحباب اللّه... 391

نور التقوى... 391

ثمار التقوى... 392

من هدي السنّة المطهّرة... 392

سمات المتقين... 392

العبادة التصديقية... 393

اكتساب الحب الإلهي... 394

الطموح في حياة الإنسان

الطموح لغة... 395

آية الطموح إلى المعالي... 396

الإنسان والطاقات المودعة فيه... 398

ص: 561

الطاقات الإنسانية في ظل الإسلام... 399

أهل البيت(عليهم السلام) والطاقات الإنسانية... 400

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة... 401

التوازن في كل شيء... 403

الكون والحياة متوازنان... 404

التوازن هي السمة العامة للأشياء... 405

الطموح والأمل مقدمتا التوازن... 407

الشيعة إذا فقدوا الطموح والأمل... 408

الطموح إلى الآخرة... 409

الحج: تدريب على الطموح... 410

الطموح ومنافع الحج... 411

مخاوف الاستعمار من شعيرة الحج... 413

القضاء على طموح المسلمين... 413

استنتاج... 415

تخطيط شيطاني لتحطيم طموح المسلمين... 417

طموح المسلمين قبل ثلاثة عقود... 418

الطموح من أهداف الحج... 420

الحديث الشريف وزماننا العصيب... 420

أهداف الحج في الحديث الشريف... 421

كل شيء من أجل الطموح والأمل... 423

معلم الطموح الكبير والأمل الصادق... 424

الطموح والتضخيم الإعلامي... 427

الطموح ومقومات النهضة الإصلاحية... 428

1- الوعي... 428

2- التنظيم... 429

ص: 562

3- الاكتفاء الذاتي... 429

4- الطموح والأمل الصادق... 431

من هدي القرآن الحكيم... 432

الطموح والأمل... 432

التوازن في كل شيء... 433

الحج: تدريبٌ على الطموح... 433

الطموح ومقومات الإصلاح... 434

من هدي السنّة المطهّرة... 435

الطموح والأمل... 435

تنافي الطموح مع الكسل... 436

الحج: تدريب على الطموح... 436

التوازن في كل شيء... 437

العِبرة سبيل النجاة

كيف نعتبر؟... 439

متابعة التاريخ... 439

التجارب الشخصية... 440

الأحداث المعاصرة... 441

دراسة المستقبل... 442

شاهد من التاريخ... 444

الاعتبار سبب التقدم... 445

التقدم الروحي المعنوي... 446

قصة المشي إلى بيت اللّه... 446

العِبرَةُ سبيلُ النجاة... 449

كلمة أخيرة... 451

من هدي القرآن الحكيم... 452

ص: 563

1- العودة إلى القرآن... 452

2- العبرة... 453

3- الوعي... 454

4- التعقل... 454

من هدي السنّة المطهّرة... 455

1- العودة إلى القرآن... 455

2- العبرة... 457

3- الوعي والتفكر... 458

4- التعقل... 459

العراق... ماضيه ومستقبله

لا تكن عبد غيرك... 460

سياسة الغرب... 460

واجبنا تجاه المشاكل... 461

القوى التي أزالها الغربيون... 461

القوة الأولى: المرجعية الدينية... 461

أثر المرجعية في الحرية... 462

المجدد الكبير(رحمه الله)... 462

الآخوند الخراساني... 463

الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله)... 463

القوة الثانية: الأحزاب الوطنية... 463

إقالة متصرف... 464

القوة الثالثة: العشائر... 464

دسائس الغرب... 465

بداية المؤامرة... 466

ص: 564

التخطيط لهدم الأحزاب... 467

العشائر وسقوطها... 467

كيف سقطت العشائر؟... 468

مستقبل العراق... 468

طلاب العلوم الدينية... 469

الناس وعلماء الدين... 470

وهنا ما هو واجب علماء الدين مقابل هذا الشعور النبيل؟... 470

قيمة التفكر... 471

الميرزا صادق التبريزي(رحمه الله)... 473

القاضي الذي يخاف اللّه... 474

عاقبة الذين لا يخافون اللّه... 475

تهيئة الأسباب... 476

1- التوعية... 477

2- الدعاء... 477

من هدي القرآن الحكيم... 479

1- التوكل على اللّه... 479

3- العلماء... 480

4- لزوم التقوى... 480

5- التفكير في كل شيء... 481

6- الدعاء... 482

7- التحرر من العبودية لغير اللّه... 482

من هدي السنّة المطهّرة... 482

1- التوكل على اللّه... 482

2- طاعة العلماء... 483

3- لزوم التقوى... 483

ص: 565

4- التفكر في كل شيء... 484

5- الدعاء... 484

6- التحرير من العبودية لغير اللّه... 485

العقل رقي الإنسان

العقل ورعاية الحقوق... 486

في الإفراط والتفريط تضييع الحقوق... 489

تضييع الحقوق من جهات عديدة... 493

اللّه تعالى وحق خالقيته... 494

أمور تستدعي الذكر والشكر... 495

الناس وأداء الحقوق... 496

1- المتجاهل للحقوق... 497

عاقبة الإنسان المنكر للحقوق... 498

جحدة الحقوق في القرآن الحكيم... 503

كما تُدين تُدان... 505

2- المتغافل عن الحقوق... 508

روايات في العقل... 509

3- المؤدّي للحقوق... 512

صفات القسم الثالث... 513

نماذج من القسم الثالث... 516

القسم الثالث ونماذج أخرى... 518

قدوة القسم الثالث وأسوتهم... 520

آية الاحسان وأداء الحقوق... 521

استنتاج... 522

من هدي القرآن الحكيم... 523

نعمة خلق الإنسان وحق الخالق... 523

ص: 566

معرفة اللّه وشكره عبر معرفة النفس والآفاق... 524

العقول تهدي إلى شكر النعم وأداء الحقوق... 524

إتقان العمل وصلاحه... 525

من هدي السنّة المطهّرة... 526

معرفة اللّه عبر معرفة النفس... 526

العقل وشكر النعم وأداء الحقوق... 527

العقل وأداء الحقوق واجتناب العقوق... 528

اتقان العمل وأداء الحقوق... 529

ضرورة التعاون

مدنيّة الإنسان... 531

مصاديق التعاون... 532

التعاون الإيجابي... 532

التَّعاون السلبي... 534

معنيان للتعاون... 535

التعاون في صدر الإسلام... 537

مشكلات الزواج... لماذا؟... 537

صورٌ قبيحة... 539

من هدي القرآن الحكيم... 541

إصلاح ذات البين... 541

الإيثار... 542

الإقراض... 542

الإطعام... 542

لا للفرقة ولا للاختلاف... 542

من هدي السنّة المطهّرة... 543

صور من التعاون... 543

ص: 567

إصلاح ذات البين... 543

الإيثار... 543

الإقراض... 543

الإطعام... 543

لا للفرقة ولا للاختلاف... 543

فهرس المحتويات... 545

ص: 568

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.