القطوف الدانية المجلد 2

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 2/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

-----------------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

-----------------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الأوّل): 6-204539-964-978

-----------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

الأخلاق المثالية

الإنسان الحقيقي

أفضل نموذج للإنسان الحقيقي الجامع لجميع صفات الخير هو الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد وصفه الباري عزّ وجلّ في كتابه بأخلاقه المثالية حيث قال تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

فقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ} أي يا محمد {لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} الخُلُق بضمتين: السجية والطبع والدين والأخلاق الحسنة والمروءة.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما يوضع في ميزان امرئ يومَ القيامة أفضل من حسن الخلق»(3).

وفي الحديث الشريف: «أكثر ما يُدخل الناسَ الجنةَ تقوى اللّه وحسن الخلق، وخير ما أعطي الإنسان الخلق الحسن، وخير الزاد ما صحبه التقوى، وخير القول ما صدقه الفعل»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»(5).

ص: 5


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- بحار الأنوار 67: 372.
3- الكافي 2: 99.
4- إرشاد القلوب 1: 194.
5- الكافي 2: 99.

وقيل: {خُلُقٍ عَظِيمٖ} أي على دين عظيم وهو الإسلام.

وقيل: هو أدب القرآن.

وقالوا: كان خُلُق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما تضمنه العشر الأُول من سورة (المؤمنون)(1).

وقالوا: الخُلُق المرور في الفعل على عادة، والخُلُق الكريم الصبر على الحق وسعة البذل، وتدبير الأمور على مقتضى العقل، وفي ذلك الرفق والأناة والحلم والمداراة، ومن وصفه اللّه بأنه على خُلُق عظيم، فليس وراء مدحه مدح.

وقيل: وإنك لعلى خُلُق عظيم بحكم القرآن، وكل ذلك عطف على جواب القسم(2).

وذكر أيضاً في معناها: إنك متخلق بأخلاق الإسلام، وعلى طبع كريم، وحقيقة الخُلُق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب. وإنما سمي خُلُقاً، لأنه يصير كالخلقة فيه. فأما ما طبع عليه من الآداب، فإنه الخيم(3). فالخُلُق هو الطبع المكتسب. والخيم: هو الطبع الغريزي.

وقيل: الخُلُق العظيم: الصبر على الحق، وسعة البذل، وتدبير الأمور على مقتضى العقل بالصلاح، والرفق، والمداراة، وتحمل المكاره في الدعاء إلى اللّه سبحانه، والتجاوز، والعفو، وبذل الجهد في نصرة المؤمنين، وترك الحسد، والحرص، ونحو ذلك.

ص: 6


1- {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَٰفِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.
2- راجع التبيان في تفسير القرآن 10: 75 سورة القلم.
3- الخِيم: الشيمة والطبيعة والخلق والسجية. وقيل: بالكسر الخلق، وقيل: سعة الخلق، وقيل: الأصل فارسي معرب لا واحد له من لفظه. لسان العرب 2: 194، مادة: خيم.

وقيل: سمي خُلُقه عظيماً؛ لأنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عاشر الخلق بخلقه، وزايلهم بقلبه، فكان ظاهره مع الخَلق، وباطنه مع الحق.

وقيل: لأنه امتثل تأديب اللّه سبحانه إياه بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(1).

وقيل: سمي خُلُقه عظيماً، لاجتماع مكارم الأخلاق فيه.

ويعضده ما سبق من قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(2).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أدبني ربي فأحسن تأديبي»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار»(5).

وعن الرضا علي بن موسى(عليهما السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «عليكم بحسن الخلق، فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق فإن سوء الخلق في النار لا محالة»(6).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «أحبكم إلى اللّه أحسنكم أخلاقاً، الموطأون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون. وأبغضكم إلى اللّه المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، الملتمسون للبراء العثرات»(7).

ص: 7


1- سورة الأعراف: 199.
2- بحار الأنوار 67: 372.
3- عيون أخبار الرضا 2: 37.
4- بحار الأنوار 16: 210.
5- بحار الأنوار 68: 382.
6- عيون أخبار الرضا 2: 31.
7- تفسير مجمع البيان 10: 87.

من مصاديق الخلق العظيم

اشارة

إن هناك أخلاقيات مهمة يلزم على كل مسلم أن يتحلى بها، لكي يكون قد تأسى بصاحب الخُلُق العظيم وهو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، من تلك الصفات: التقوى، وحسن الأخلاق، وخدمة الناس؛ فإن هذه الأخلاقيات هي سُلّم وصول الإنسان إلى مراتب السمو والكمال، فيكون إنساناً حقيقياً، وهذه الأمور هي التي تميز الإنسان عن الحيوان، فإن تعمد تركها واتبع الشهوات انحط إلى مرتبة الحيوان، بل كان أضل سبيلاً كما يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(1).

إن للإنسان والحيوان جهة اشتراك هي: أن كليهما جسمٌ نامٍ حساسٌ متحركٌ بالإرادة، حسب تعبير علماء المنطق، وكليهما يشغل حيزاً في الفراغ(2)، كما يعبّر بعض الطبيعيين، ولكن الفرق بينهما أن الإنسان عاقل ناطق، يمكنه أن يختار الأعمال الصالحة التي دلّه عليها العقل، أو أرشده إليها الشارع(3)، وعرّفه بحسنها، كالتقوى والأخلاق والصدق والأمانة وخدمة الناس وغيرها، ويترك الأعمال القبيحة والمضرة، والتي نهاه عنها العقل والشارع، كشرب الخمر ولعب القمار والكذب والغيبة وغيرها. فلنكن أناساً حقيقيين بمعنى الكلمة، وهذا الأمر يستلزم منّا أن نجتهد ونعمل بجميع ما أمرنا به الشارع، ونتجنب عن جميع ما نهانا عنه.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ذللوا أنفسكم بترك العادات، وقودها إلى فعل الطاعات، وحمّلوها أعباء المغارم، وحلّوها بفعل المكارم، وصونوها دنس

ص: 8


1- سورة الفرقان، الآية: 44.
2- هذه عبارة ثانية عن الجسم حيث إنه المتحيز كما ذكروا.
3- بخلاف الحيوان حيث إن أفعاله ناشئة من غرائزه التي أودعها اللّه فيه.

المآثم»(1).

وقال(عليه السلام): «بغلبة العادات الوصول إلى أشرف المقامات»(2).

التقوى قوام الأخلاق

قال سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(3).

قوله عزّ وجلّ: {أَتْقَىٰكُمْ} يعني أكثركم تقوىً، فمن أراد الرفعة عند اللّه فليجدّ في أن يكون أكثر تقوى من الآخرين، وكل ما زاد الإنسان تقوى زاد كفاءة. منتهى الأمر أن الكفاءة عند أهل الدنيا عبارة عن الكفاءات الدنيوية فقط، وعند اللّه هي الكفاءات المعنوية والروحية، مضافاً إلى الدنيوية، لأن الإسلام دنيا وآخرة.

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} أي بكل أموركم {خَبِيرٌ} والخبير فوق العليم، لأنه عبارة عن العلم والتجربة، فالذي تعلّم الطب ولم يجرّب لا يسمى خبيراً، بخلاف ما إذا جرب، والمراد به في اللّه سبحانه أنه في غاية العلم والإدراك، فمن أطاعه علم ذلك وجزاه، ومن عصاه علم ذلك وأخزاه(4).

والتقوى(5) هي وقاية النفس وصيانتها من الرذائل والمعاصي، وهي من أهم

ص: 9


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 372.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 302.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.
4- تفسير تقريب القرآن 5: 209.
5- الاتقاء: الامتناع من الردى باجتناب ما يدعو إليه الهوى، والتقوى فعلى كنجوى، والأصل فيه (وقوى) من وقيته: منعته، قلبت الواو تاء وكذلك تقاة والأصل وقاة. للتفصيل انظر: مجمع البحرين 1: 448 مادة: وقا.

مقومات الأخلاق المثالية، ومن الفضائل النفسية التي تسمو بالإنسان إلى مراتبالعلو والكمال وإلى مراتب القرب من اللّه تعالى، فالتقوى لا تزيد الإنسان طولاً أو عرضاً، أو ما إلى ذلك من الأبعاد الجسمية، وإنما هي جانب معنوي رفيع.

كما أن الإنسان لا يُدعى إنساناً بلحاظ جسمه وصفاته المادية، بل بلحاظ روحه وأبعاده المعنوية من تقوى وأخلاق وغير ذلك.

قال الشاعر:

أقبل على النفس واستكمل فضائلها *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

وهذه الآية الكريمة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1) تشير إلى أن الميزان في تفاضل الناس هو التقوى، وإلّا فهم من حيث الخلق سواء.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الناس كأسنان المشط سواء»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمنون كأسنان المشط يتساوون في الحقوق بينهم ويتفاضلون بأعمالهم»(3).

كما تشير الآية إلى أن الإنسان كريم على اللّه تعالى ما دام تقياً، حيث لا ينفعه نسبه أو حسبه.

فعن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر(عليهما السلام) قال: «جلس جماعة من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينتسبون ويفتخرون، وفيهم سلمان(رحمه اللّه)، فقال له عمر: ما نسبتك أنت يا سلمان؟ وما أصلك؟

ص: 10


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 379.
3- مستدرك الوسائل 8: 327.

فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاًفأغناني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فهذا حسبي ونسبي يا عمر!

ثم خرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فذكر له سلمان ما قال عمر، وما أجابه.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا معشر قريش، إن حسب المرء دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1) ثم أقبل على سلمان(رحمه اللّه) فقال له: يا سلمان، إنه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلّا بتقوى اللّه، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه»(2).

وقول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه الرواية لا يدع مجالاً للشك بأن الناس سواسية، وليس هناك ميزان فاضل فيما بينهم إلّا التقوى، فلا تمايز في نظر الإسلام على أساس اللون، كسواد البشرة أو بياضها، ولا الغنى أو الفقر، ولا الطول أو العرض، ولا العروبة أو العجمة، ولا غيرها من الفوارق المادية.

وقد قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ}(3) والحكمة في الاختلاف في اللون والطول والألسن، إنما هي للتعارف وللدلالة على خلق اللّه تعالى، حيث قال عزّ وجلّ: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(4).

ص: 11


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الأمالي، للشيخ الطوسي: 147.
3- سورة النساء، الآية: 1.
4- سورة الروم، الآية: 22.

الشيعة والأخلاق المثالية

اشارة

من صفات شيعة أهل البيت(عليهم السلام) حسن أخلاقهم وشدة ورعهم وتقواهم.

فإن كلمة الشيعة مأخوذة من (المشايعة) بمعنى المتابعة، وهم شيعة أمير المؤمنين علي(عليه السلام) وأولاده المعصومين(عليهم السلام) فيلزم عليهم أن يتبعوهم في أخلاقهم المثالية.

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن شيعة علي(عليه السلام) كانوا خمص البطون، ذُبُل الشفاه، أهل رأفة وعلم وحلم، يعرفون بالرهبانية، فأعينونا على ما أنتم عليه بالورع والاجتهاد»(1).

وعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «إن أصحاب علي(عليه السلام) كانوا المنظور إليهم في القبائل وكانوا أصحاب الودائع، مرضيين عند الناس، سهار الليل، مصابيح النهار»(2).

وعن ربيعة بن ناجد قال: سمعت عليا(عليه السلام) يقول: «إنما مثل شيعتنا مثل النحلة في الطير، ليس شيء من الطير إلّا وهو يستضعفها، فلو أن الطير تعلم ما في أجوافها من البركة لم تفعل بها ذلك»(3).

وعن أبي بصير، قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إياك والسفلة من الناس» قلت: جعلت فداك وما السفلة؟ قال: «من لا يخاف اللّه! إنما شيعة جعفر من عف بطنه وفرجه وعمل لخالقه، وإذا رأيت أولئك فهم أصحاب جعفر»(4).

وعن مهزم قال: دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فذكرت الشيعة! فقال: «يا

ص: 12


1- الكافي 2: 233.
2- مشكاة الأنوار: 63.
3- مشكاة الأنوار: 63.
4- مشكاة الأنوار: 63.

مهزم إنما الشيعة من لا يعدو سمعه صوته، ولا شحنه بدنه، ولا يحب لنامبغضاً، ولا يبغض لنا محباً، ولا يجالس لنا غالياً، ولا يهر هرير الكلب، ولا يطمع طمع الغراب، ولا يسأل الناس وإن مات جوعاً، المتنحي عن الناس الخفي عليهم، وإن اختلفت بهم الدار لم تختلف أقاويلهم، إن غابوا لم يفقدوا، وإن حضروا لم يؤبه بهم، وإن خطبوا لم يزوجوا، يخرجون من الدنيا وحوائجهم في صدورهم، إن لقوا مؤمناً أكرموه، وإن لقوا كافراً هجروه، وإن أتاهم ذو حاجة رحموه، وفي أموالهم يتواسون». ثم قال: «يا مهزم قال جدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي رضوان اللّه عليه: يا علي كذب من زعم أنه يحبني ولايحبك، أنا المدينة وأنت الباب ومن أين تؤتى المدينة إلّا من بابها»(1).

وعن ميسرة قال:قال أبو جعفر(عليه السلام): «يا ميسر ألا أخبرك بشيعتنا؟» قلت: بلى جعلت فداك، قال: «إنهم حصون حصينة في صدور أمينة، وأحلام رزينة، ليسوا بالمذاييع البذر، ولا بالجفاة المراءين، رهبان بالليل، أُسد بالنهار»(2).

والبذر: القوم الذين لا يكتمون الكلام.

إن كلمة الشيعة تعنى الأتباع، وقد أطلقت في القرآن الكريم على أتباع نوح(عليه السلام) حيث قال تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَٰهِيمَ}(3).

وأطلقها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أتباع الإمام علي(عليه السلام) وسماهم بهذا الاسم، كما رواه المؤرخون والمحدثون شيعة وسنة في كتبهم، أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «يا

ص: 13


1- مشكاة الأنوار: 61.
2- مشكاة الأنوار: 62.
3- سورة الصافات، الآية: 83.

علي، أنت وشيعتك الفائزون»(1).

فكان أتباع الإمام علي(عليه السلام) يعرفون بهذا الاسم منذ أيام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أول من أطلق عليهم هذا الاسم. وحيث إن كلام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحي من اللّه تعالى إذ قال سبحانه في القرآن الحكيم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(2) فتسمية الشيعة بهذا الاسم إنما هو وحي من اللّه تعالى. و(الشيعة) هم المسلمون الذين شايعوا واتبعوا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأولاده الطاهرين(عليهم السلام) بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إتباعاً للرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال قبل وفاته: «إني يوشك أن أدعى فأجيب، وإني تاركٌ فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا من بعدي أبداً، كتاب اللّه وعترتي أهل

ص: 14


1- (الشيعة) في اللغة: هم الأتباع والأنصار، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، وهو من المشايعة والمتابعة، وفي العرف العام أصبح التشيع علماً على من تولى علياً(عليه السلام) وبنيه(عليهم السلام) وأقر بإمامتهم. والتشيع في أصل اللغة هو الإتباع على وجه التدين في الولاء للمتبوع، قال تعالى: {فَاسْتَغَٰثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} سورة القصص، الآية: 15. وقال تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَٰهِيمَ} سورة الصافات، الآية: 83. فالتشيع يضمن في معناه الإتباع والنصرة من جماعة لرجل عموماً، ولكن كلمة (شيعة) مجردة لا تعني العموم، وإنما تنصرف في دلالة خاصة إلى الجماعة التي ناصرت علياً(عليه السلام) وشايعته، وألتفت حوله وأقرت بإمامته، تقتدي به وتجعل له مقاماً يسمو على مقام معاصريه من الصحابة. قال أبو الحسن الأشعري: إنما قيل لهم: الشيعة، لأنهم شايعوا علياً(عليه السلام) ويقدمونه على سائر أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وذكر ابن حزم الأندلسي: أن من وافق الشيعة في أن علياً(عليه السلام) أفضل الناس بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو شيعي. قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مشيراً إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام): «والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة» راجع تاريخ مدينة دمشق 42: 371؛ شواهد التنزيل 2: 467؛ الدر المنثور 6: 379. أما ما ورد في مصادر الشيعة فكثير، انظر: الإرشاد 1: 41 وكشف الغمة 1: 53.
2- سورة النجم، الآية: 3-4.

بيتي»(1).وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علي مع الحق والحق مع علي»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب، فإنّه أوّل من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو معي في السماء الأعلى، وهو الفاروق بين الحق والباطل»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سيكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب فإنه الفاروق بين الحق والباطل»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تكون بين الناس فرقة واختلاف فيكون هذا - يعني عليّاً(عليه السلام) - وأصحابه على الحق»(5).

وتسمى الشيعة ب(الإمامية) أيضاً، لأنهم يعتقدون بإمامة علي أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر(عليهم السلام). وتسمى ب- (الجعفرية) لاتباعهم في الحلال والحرام أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، حيث إنهم(عليهم السلام) أعلم بكتاب اللّه، وأدرى بما قاله رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وسادسهم الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) الذي تمكّن من نشر العلوم الإسلامية أصولاً وفروعاً وآداباً وأخلاقاً باستيعاب وشمول أكثر، بما لم تسمح الظروف لسائر الأئمة(عليهم السلام) بهذا القدر من النشر، والشيعة أخذوا منه(عليه السلام) أكثر معالم الدين، ولذا نُسبوا إليه، وأما سائر الأئمة(عليهم السلام) فلم تتاح لهم الفرصة بذلك المقدار، فكانوا يلاقون الاضطراب، كما في زمان أمير المؤمنين علي

ص: 15


1- صحيح مسلم 7: 123؛ تاريخ مدينة دمشق 69: 240.
2- تاريخ مدينة دمشق 42: 449؛ المعيار والموازنة: 119؛ شرح نهج البلاغة 2: 297.
3- تاريخ مدينة دمشق 42: 450.
4- أسد الغابة 5: 287؛ المناقب للخوارزمي: 105.
5- حديث الثقلين: 1؛ المعجم الكبير 19: 147.

والحسن والحسين(عليهم السلام)، أو الكبت والإرهاب على أيدي الحكام الأمويين والعباسيين، لكنالإمام الصادق(عليه السلام) عاصر فترة أفول دولة بني أمية وظهور دولة بني العباس، حيث اغتنم الفرصة لنشر حقائق الإسلام بصورة واسعة.

كما تسمى الشيعة ب(الإثني عشرية) لأنهم يعتقدون بإمامة الأئمة الإثني عشر(عليهم السلام)، وقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الخلفاء بعدي اثنا عشر»(1).

فالشيعة هم الصيغة العملية للإسلام كما طرحه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام)(2).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي بشّر شيعتك وأنصارك بخصال عشر: أولها طيب المولد، وثانيها حسن إيمانهم باللّه، وثالثها حب اللّه عزّ وجلّ لهم، ورابعها الفسحة في قبورهم، وخامسها النور على الصراط بين أعينهم، وسادسها نزع الفقر من بين أعينهم وغنى قلوبهم، وسابعها المقت من اللّه عزّ وجلّ لأعدائهم، وثامنها الأمن من الجذام والبرص والجنون، يا علي وتاسعها انحطاط الذنوب والسيئات عنهم، وعاشرها هم معي في الجنة وأنا معهم»(3).

من صفات الشيعة

أما ما يلزم أن يتصف به الشيعة ويكونوا عليه، فقد بينته الروايات الشريفة في هذا الشأن، ففي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال لأحد أصحابه واسمه جابر(4):

«يا جابر، أيكتفي من انتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت. فو اللّه، ما شيعتنا

ص: 16


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 310.
2- للتفصيل راجع كتاب الشيعة والتشيع للإمام الراحل(رحمه اللّه). وكتاب (الشيعة في القرآن) لسماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازيK.
3- الخصال 2: 430.
4- جابر بن يزيد الجعفي.

إلّا من اتقى اللّه وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والأمانة، وكثرة ذكر اللّه والصوم والصلاة، والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة، والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء».

قال جابر: فقلت: يا ابن رسول اللّه، ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة؟

فقال: «يا جابر لا تذهبن بك المذاهب، حَسْب الرجل أن يقول: أحب علياً وأتولاه، ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إني أحب رسول اللّه فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير من علي(عليه السلام)، ثم لا يتبع سيرته ولايعمل بسنته، ما نفعه حبه إياه شيئاً. فاتقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى اللّه عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، واللّه ما يتقرب إلى اللّه تبارك وتعالى إلّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على اللّه لأحد من حجة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عليك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وحسن الخلق وحسن الجوار، وكونوا دعاةً إلى أنفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، وعليكم بطول الركوع والسجود؛ فإن أحدكم إذا أطال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال: يا ويله أطاع وعصيت، وسجد وأبيت»(2).

وعن علي بن أبي زيد عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) فدخل عيسى

ص: 17


1- الكافي 2: 74.
2- الكافي 2: 77.

بن عبد اللّه القمي، فرحب به وقرب من مجلسه، ثم قال: «يا عيسى بن عبد اللّه،ليس منا ولا كرامة، من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون، وكان في ذلك المصر أحدٌ أورع منه!»(1).

وعن عمرو بن سعيد بن هلال الثقفي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال، قلت له: إني لا ألقاك إلّا في السنين فأخبرني بشيءٍ آخذ به، فقال: «أوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد، واعلم أنه لا ينفع اجتهادٌ لا ورع فيه»(2).

وقال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «أعينونا بالورع؛ فإنه من لقي اللّه عزّ وجلّ منكم بالورع كان له عند اللّه فرجاً، وإن اللّه عزّ وجلّ يقول: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّۧنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا}(3) فمنا النبي ومنا الصديق والشهداء والصالحون»(4).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «إنا لا نعد الرجل مؤمناً حتى يكون لجميع أمرنا متبعاً مريداً، ألا وإن من اتباع أمرنا وإرادته الورع، فتزينوا به يرحمكم اللّه، وكبِّدوا أعداءنا به ينعشكم اللّه»(5).

وعن أبي الحسن الأول موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال: «كثيراً ما كنت أسمع أبي(عليه السلام) يقول: ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن، وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم من خلق اللّه أورع منه»(6).

ص: 18


1- الكافي 2: 78.
2- الكافي 2: 76.
3- سورة النساء، الآية: 69.
4- الكافي 2: 78.
5- الكافي 2: 78.
6- الكافي 2: 79.

وعن جابر الجعفي قال: تقبضت(1) بين يدي أبي جعفر(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، ربما حزنت من غير مصيبة تصيبني، أو أمر ينزل بي حتى يعرف ذلك أهلي في وجهي وصديقي؟!

فقال: «نعم يا جابر، إن اللّه عزّ وجلّ خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى فيهم من ريح روحه؛ فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، فإذا أصاب روحاً من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزنٌ حزنت هذه لأنها منها»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله، لايخونه ولا يظلمه ولا يغشُّه، ولا يعده عدةً فيخلفه»(3).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية»(4).

وعن أبي الحسن الماضي(عليه السلام): «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد اللّه، وإن عمل سيئاً استغفر اللّه منه وتاب إليه»(5).

وعن أبي الربيع الشامي قال: دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) والبيت غاص بأهله فيه الخراساني، والشامي، ومن أهل الآفاق، فلم أجد موضعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد اللّه(عليه السلام) وكان متكئاً ثم قال: «يا شيعة آل محمد اعلموا، أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يحسن صحبة من صحبه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه، ومجاورة من جاوره، وممالحة من مالحه. يا شيعة

ص: 19


1- تقبضت: التقبض ظهور أثر الحزن، ضد الإنبساط.
2- الكافي: ج2 ص166 باب أخوة المسلمين بعضهم لبعض ح2.
3- الكافي 2: 166.
4- الكافي 2: 78.
5- الكافي 2: 453.

آل محمد،اتقوا اللّه ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلا باللّه»(1).

وقال أبو جعفر الباقر(عليهما السلام): «عظموا أصحابكم ووقروهم ولايتهجم بعضكم على بعض، ولا تضاروا ولا تحاسدوا، وإياكم والبخل، كونوا عباد اللّه المخلصين الصالحين»(2).

من آداب الشيعة

عن أبي الحسن(عليه السلام): «إن للحق أهلا وللباطل أهلا، فأهل الحق في شُغُل عن أهل الباطل، ينتظرون أمرنا ويرغبون إلى اللّه إن يروا دولتنا، ليسوا بالبذر المذيعين ولا بالجفاة المراءين، ولا بنا مستأكلين ولا بالطّمِعين، خيار الأمة نور في ظلمات الأرض ونور في ظلمات الفتن ونور هدى يستضاء بهم، لا يمنعون الخير أولياءهم، ولا يطمع فيهم أعداؤهم، إن ذُكرنا بالخير استبشروا وابتهجوا واطمأنت قلوبهم وأضاءت وجوههم، وإن ذُكرنا بالقبح اشمأزت قلوبهم واقشعرت جلودهم وكلحت وجوههم وأبدوا نصرتهم وبدا ضمير أفئدتهم، قد شمروا فاحتذوا بحذونا، وعملوا بأمرنا، تعرف الرهبانية في وجوههم، يصبحون في غير ما الناس فيه، ويمسون في غير ما الناس فيه، يجأرون إلى اللّه في إصلاح الأمة بنا، وأن يبعثنا اللّه رحمة للضعفاء والعامة، يا عبد اللّه أولئك شيعتنا وأولئك منا وأولئك حزبنا وأولئك أهل ولايتنا»(3).

وقال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): «إن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث وأدى الأمانة وحَسَّن خُلُقَه مع الناس قيل هذا جعفري، فيسرني ذلك،

ص: 20


1- الكافي 2: 637.
2- الكافي 2: 637.
3- مشكاة الأنوار: 63.

وقالوا هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، واللّه لقد حدثني أبي(عليه السلام) أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي رضوان اللّه عليه فكان أقضاهم للحقوق وأداهم للأمانة وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، يسأل عنه فيقال من مثل فلان، فاتقوا اللّه وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جُرّوا إلينا كل مودة وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل لنا فما نحن كذلك، لنا حق في كتاب اللّه وقرابة من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتطهير من اللّه وولادة طيبة لا يدعيها أحد غيرنا إلّا كذاب، أكثروا ذكر اللّه وذكر الموت وتلاوة القرآن والصلاة على النبي، فإن الصلاة عليه عشر حسنات، خذ بما أوصيتك به وأستودعك اللّه»(1).

وعن إسماعيل بن عمار قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أوصيك بتقوى اللّه والورع وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار وكثرة السجود، فبذلك أمرنا محمد»(2).

وعن عمرو بن سعيد بن هلال قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام) جعلت فداك إني لا أكاد أن ألقاك إلّا في السنين فأوصني بشيء آخذ به، قال: «أوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد، واعلم أنه لم ينفع ورع إلا بالاجتهاد، وإياك أن تطمع نفسك إلى من فوقك، وكثيراً ما قال اللّه جلّ ثناؤه لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ}(3)، وقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(4)، فإن داخلك شيء فاذكر عيش رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما كان قوته الشعير وحلاوته التمر ووقوده السعف، وإذا أصبت بمصيبة في نفسك فاذكر مصابك

ص: 21


1- مشكاة الأنوار: 64.
2- مشكاة الأنوار: 66.
3- سورة التوبة، الآية: 55.
4- سورة طه، الآية: 131.

برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن الخلائق لم يصابوا بمثله قط»(1).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «يا معشر شيعة آل محمد عليه وعليهم السلام كونوا النمرقة الوسطى، إليكم يرجع الغالي، وبكم يلحق التالي»، فقال رجل: جعلت فداك وما الغالي؟ قال: «قوم يقولون فينا ما لانقوله في أنفسنا، فليس أولئك منا ولسنا منهم» قال: فما التالي؟ قال: «المرتاد يريد الخير يبلغه الخير ويؤجر عليه، ثم أقبل علينا فقال: «واللّه ما معنا من اللّه براءة وما بيننا وبين اللّه قرابة ولا لنا على اللّه حجة ولا يتقرب إلى اللّه إلّا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً نفعته ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لم تنفعه ولايتنا»(2).

وعن عمر بن أبان قال سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «يا معشر الشيعة إنكم قد نُسبتم إلينا، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، ما يمنعكم أن تكونوا مثل أصحاب علي رضوان اللّه عليه في الناس؟! إن كان الرجل منهم ليكون في القبيلة فيكون إمامهم ومؤذنهم وصاحب أماناتهم وودائعهم»(3).

وعن علي بن يقطين قال: قال أبو الحسن موسى(عليه السلام):

«مر أصحابك أن يكفوا من ألسنتهم ويدعوا الخصومة في الدين ويجتهدوا في عبادة اللّه، وإذا قام أحدهم في صلاة فريضة فليحسن صلاته وليتم ركوعه وسجوده ولا يشغل قلبه بشيء من أمور الدنيا، فإني سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول:

إن ملك الموت يتصفح وجوه المؤمنين من عند حضور الصلوات المفروضات»(4).

ص: 22


1- مشكاة الأنوار: 66.
2- مشكاة الأنوار: 66.
3- مشكاة الأنوار: 67.
4- مشكاة الأنوار: 68.

وعن الكاظم عن أبيه عن جده(عليهم السلام) قال: «إن أبي علي بن الحسين(عليهما السلام) أخذ بيدي وقال: يا بني افعل الخير إلى كل من طلبه منك، فإن كان أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحول إلى يسارك فاعتذر إليك فاقبل منه»(1).

وعن جعفر بن كليب قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اتقوا اللّه وتحابوا وتزاوروا وتواصلوا وتراحموا وكونوا إخواناً بررة»(2).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنا زعيم ببيت في الجنة لمن حسن خلقه مع الناس، وترك الكذب في المزاح والجد، وترك المراء وهو محق»(3).

وعن أبي إبراهيم(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسن الخلق يثبت المودة، وحسن البشر يذهب السخيمة، واستنزلوا الرزق بالصدقة، ومن أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة، وإياك أن تمنع حقا فتنفق في باطل مثليه»(4).

وعن علي بن زيد عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ليس من شيعتنا من كان في مصر فيه مائة ألف وكان في المصر أورع منه»(5).

وعن أبي الصامت عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «مررت أنا وأبو جعفر(عليه السلام) على الشيعة وهم ما بين القبر والمنبر، فقلت لأبي جعفر(عليه السلام): شيعتك مواليك جعلني اللّه فداك، قال: أين تراهم؟ فقلت: أراهم ما بين القبر والمنبر، فقال: اذهب بي

ص: 23


1- الكافي 8: 152.
2- مشكاة الأنوار: 70.
3- مشكاة الأنوار: 70.
4- مشكاة الأنوار: 70.
5- السرائر 3: 639.

إليهم، فذهب فسلم عليهم ثم قال: إني لأحب ريحكم وأرواحكم، فأعينوا معهذا بورع واجتهاد، إنه لا ينال ما عند اللّه إلّا بورع واجتهاد، وإذا ائتممتم بعدٍ فاقتدوا به، أما واللّه إنكم لعلى ديني ودين آبائي إبراهيم وإسماعيل ...»(1).

وعن محمد بن عمر بن حنظلة قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ليس من شيعتنا من قال بلسانه وخالفنا في أعمالنا وآثارنا ولم يعمل بأعمالنا، ولكن شيعتنا من وافقنا بلسانه وقلبه واتبع آثارنا وعمل بأعمالنا، أولئك شيعتنا»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مثل المؤمن عند اللّه كمثل ملك مقرب، وإن المؤمن عند اللّه أعظم من ذلك، وليس شيء أحب إلى اللّه من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدونا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(4).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «إنما شيعة علي(عليه السلام) الشاحبون الناحلون الذابلون، ذابلة شفاههم، خميصة بطونهم، متغيرة ألوانهم، مصفرة وجوههم، إذا جنَّهم الليل اتخذوا الأرض فراشاً، واستقبلوا الأرض بجباههم، كثير سجودهم، كثيرة دموعهم، كثير دعاؤهم، كثير بكاؤهم، يفرح الناس وهم يحزنون»(5).

وقال الباقر(عليه السلام): «سُئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن خيار العباد؟ فقال: الذين إذا

ص: 24


1- الكافي 8: 240.
2- السرائر 3: 639.
3- عيون أخبار الرضا 2: 29.
4- الخصال 1: 103.
5- الخصال 2: 444.

أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا، وإذا أعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذاغضبوا غفروا»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجمّاتِها(2)

على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنه قضي فانقضى على لسان النبي الأمي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: يا علي لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق»(3).

وقال علي بن الحسين(عليهما السلام): «إذا قام قائمنا أذهب اللّه عن شيعتنا العاهة وجعل قلوبهم كزُبَر الحديد وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلاً ويكونون حكام الأرض وسنامها»(4)(5).

وقال الباقر(عليه السلام): «ما من عبد من شيعتنا يقوم إلى الصلاة إلا اكتنفته بعدد من خالفه ملائكة يصلون خلفه يدعون اللّه حتى يفرغ من صلاته»(6).

وقال الإمام الصادق عن آبائه(عليهم السلام) قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أحبنا أهل البيت فليحمد اللّه على أول النعم، قيل: وما أول النعم؟ قال: طيب الولادة، ولا يحبنا إلّا من طابت ولادته»(7).

وقال الباقر(عليه السلام): «من أصبح يجد برد حبنا على قلبه فليحمد اللّه على بادئ

ص: 25


1- الكافي 2: 240.
2- الجمّات: جمع جَمّة بفتح الجيم، وهو من السفينة مجتمع الماء المترشح من ألواحها والمراد لو كفأت عليهم الدنيا بجليلها وحقيرها.
3- نهج البلاغة: الحكم، الرقم 45.
4- سنام كل شيء: أعلاه.
5- الخصال 2: 541.
6- من لا يحضره الفقيه 1: 209.
7- الأمالي للشيخ الصدوق: 475.

النعم» قيل: وما بادئ النعم؟ قال: «طيب المولد»(1).

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتلا هذه الآية: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(2) ثم التفت إليه فقال: «يا ابن أم سليم ترى فيمن أنزلت هذه الآية؟ فينا وفي شيعتنا»، قلت: ومن يدعي الإسلام ليس من شيعتكم؟، قال: «نعم تباعدهم من الإسلام عداوتهم لأهل بيتي وتقربهم من اليهودية والنصرانية»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من رزقه اللّه حب الأئمة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة فلا يشكن أنه في الجنة، وإن في حب أهل بيتي عشرين خصلة، عشر منها في الدنيا، وعشر في الآخرة، أما في الدنيا: فالزهد والحرص على العلم والورع في الدين والرغبة في العبادة والتوبة قبل الموت والنشاط في قيام الليل واليأس مما في أيدي الناس والحفظ لأمر اللّه عزّ وجلّ ونهيه والتاسعة بغض الدنيا والعاشرة السخاء، وأما في الآخرة: فلا ينشر له ديوان ولا ينصب له ميزان، ويُعطى كتابه بيمينه ويكتب له براءة من النار ويبيض وجهه ويُكسى من حلل الجنة ويشفع في مائة من أهل بيته وينظر اللّه عزّ وجلّ إليه بالرحمة ويتوج من تيجان الجنة والعاشرة يدخل الجنة بغير حساب فطوبى لمحبي أهل بيتي»(4).

وعن أبي الصامت الخولاني قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): «يا أبا الصامت إن اللّه خلق شيعتنا من طينة مخزونة لا يزيد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد إلى يوم

ص: 26


1- معاني الأخبار: 161.
2- سورة الرعد، الآية: 28.
3- مشكاة الأنوار: 91.
4- مشكاة الأنوار: 81.

القيامة، وإن الرجل من شيعتنا ليمر بالبقعة من بقاع الأرض فيصلي عليها أويمشي عليها فتفتخر تلك البقعة على البقاع التي حولها فتقول مر عليَّ رجل من شيعة آل محمد»(1).

وعن منصور بن عمرو بن الحمق الخزاعي قال: أغمي على أمير المؤمنين(عليه السلام) حين ضربه ابن ملجم لعنه اللّه، فأفاق وهو يقول: «طوبى لهم وطوبى لكم وطوباهم أفضل من طوباكم»، قال: قلت: صدقت يا أمير المؤمنين طوباهم برؤيتك وطوبانا بالجهاد معك وطوبانا بطاعتك، ومن هؤلاء الذين طوباهم أفضل من طوبانا؟ قال(عليه السلام): «أولئك شيعتي الذين يأتون من بعدكم يطيقون ما لا تطيقون ويحملون ما لاتحملون»(2).

الشيعة في يوم القيامة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يخرج أهل ولايتنا يوم القيامة مشرقة وجوههم، قريرة أعينهم، وقد أعطوا الأمان مما يخاف الناس ولا يخافون، ويحزن الناس ولا يحزنون، واللّه ما يشعر أحد منكم يقوم إلى الصلاة إلّا وقد اكتنفته الملائكة يصلون عليه، ويدعون له حتى يفرغ من صلاته، ألا وإن لكل شيء جوهراً وإن جوهر بني آدم محمد ونحن وشيعتنا، يا حبذا شيعتنا ما أقربهم من عرش اللّه وأحسن صنع اللّه إليهم يوم القيامة، واللّه لولا زهوهم لعظم ذلك لَسَلَّمَت عليهم الملائكة قُبُلاً»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه وملائكته وأرواح النبيين يستغفرون للشيعة،

ص: 27


1- مشكاة الأنوار: 91.
2- مشكاة الأنوار: 96.
3- مشكاة الأنوار: 93.

ويصلون عليهم إلى يوم القيامة»(1).

وعن أنس قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب» قال، ثم التفت إلى علي(عليه السلام) فقال: «هم من شيعتك وأنت إمامهم»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن في يمين العرش منابر من نور، عليها رجال وجوههم من نور، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، قال: فقال له عمر بن الخطاب: فمن هؤلاء يا رسول اللّه؟ قال: هم الذين تواصوا في اللّه، وتواخوا في اللّه، وتواصلوا في اللّه، وتحابوا في اللّه، فدخل علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: هم شيعة هذا وأشار إلى علي(عليه السلام)»(3).

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «خرجت أنا وأبي حتّى إذا كنّا بين القبر والمنبر، إذا هو بأناسٍ من الشيعة فسلّم عليهم ثم قال: إني واللّه لأحب رياحكم وأرواحكم، فأعينوني على ذلك بورع واجتهاد، واعلموا أن ولايتنا لا تنال إلّا بالورع والاجتهاد، ومن ائتمّ منكم بعبد فليعمل بعمله، أنتم شيعة اللّه وأنصار اللّه وأنتم السابقون الأولون والسابقون الآخرون، والسابقون في الدنيا(4) والسابقون في الآخرة إلى الجنة، قد ضمنّا لكم الجنة بضمان اللّه عزّ وجلّ وضمان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ... أنتم الطيبون ونساؤكم الطيبات، كل مؤمنة حوراء عيناء(5) وكل مؤمن صديق»(6).

ص: 28


1- مشكاة الأنوار: 94.
2- الإرشاد 1: 42.
3- مشكاة الأنوار: 97.
4- في الأمالي للشيخ الصدوق: 626: «السابقون في الدنيا إلى ولايتنا».
5- أي: في الجنة على صفة الحورية في الحسن والجمال.
6- الكافي 8: 212.

وقال جابر: كنت ذات يوم عند النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ أقبل بوجهه على علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: «ألا أبشرك يا أبا الحسن!» قال: «بلى يا رسول اللّه»، قال: هذا جبرئيل يخبرني عن اللّه جلّ جلاله أنه قد أعطى شيعتك ومحبيك سبع خصال: الرفق عند الموت، والأنس عند الوحشة، والنور عند الظلمة، والأمن عند الفزع، والقسط عند الميزان، والجواز على الصراط، ودخول الجنة قبل الناس نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): «يا علي شيعتك هم الفائزون يوم القيامة، فمن أهان واحداً منهم فقد أهانك، ومن أهانك فقد أهانني، ومن أهانني أدخله اللّه نار جهنم خالداً فيها وبئس المصير، يا علي أنت مني وأنا منك، روحك من روحي، وطينتك من طينتي، وشيعتك خلقوا من فضل طينتنا، فمن أحبهم فقد أحبنا، ومن أبغضهم فقد أبغضنا، ومن عاداهم فقد عادانا، ومن ودّهم فقد ودّنا، يا علي شيعتك مغفور لهم على ما كان فيهم من ذنوب وعيوب، يا علي أنا الشفيع لشيعتك غداً إذا أقمت المقام المحمود، فبشرهم بذلك يا علي، شيعتك شيعة اللّه وأنصارك أنصار اللّه وأولياؤك أولياء اللّه وحزبك حزب اللّه، يا علي سعد من تولاك، وشقي من عاداك، يا علي لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه تبارك و تعالى يبعث أناسا وجوههم من نور، على كراسي من نور، عليهم ثياب من نور، في ظل العرش بمنزلة الأنبياء وليسوا بالأنبياء، وبمنزلة الشهداء وليسوا بالشهداء».

فقال رجل: أنا منهم يا رسول اللّه؟ قال: «لا».

ص: 29


1- الخصال 2: 402.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 16.

قال الآخر: أنا منهم يا رسول اللّه؟ قال: «لا».

قيل: من هم يا رسول اللّه؟ قال: فوضع يده على رأس علي(عليه السلام) وقال: «هذا وشيعته»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تستخفوا بفقراء شيعة علي وعترته من بعده، فإن الرجل منهم ليشفع في مثل ربيعة ومضر»(2).

وعن هذيل السابري قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): قال علي(عليه السلام): «أسندني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى صدره ثم قال: يا أخي سمعت قول اللّه {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(3) هم أنت وشيعتك تقدمون علي غراً محجلين ويقدم عدوكم سودا مقمحين، قالها ثلاث مرات»(4).

حب أهل البيت(عليهم السلام) والعمل

من هذه الروايات الشريفة يستفاد أن حب أهل البيت(عليهم السلام) وولايتهم هو الأساس في قبول الأعمال، ولكنه مشروط بالعمل الصالح والتقوى.

قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(5).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «..إن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقول: لا خير في الدنيا إلّا لأحد رجلين: رجل يزداد فيها كل يوم إحساناً، ورجل يتدارك منيته بالتوبة، وأنى له بالتوبة؟! فو اللّه، أن لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل اللّه عزّ وجلّ منه عملاً إلّا بولايتنا أهل البيت، ألا ومن عرف حقنا أو رجا الثواب بنا،

ص: 30


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 244.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 307.
3- سورة البينة، الآية: 7.
4- مشكاة الأنوار: 91.
5- سورة المائدة، الآية: 27.

ورضي بقوته نصف مدٍّ كل يوم، وما يستر به عورته، وما أكنَّ به رأسه، وهم مع ذلك واللّه خائفون وجلون، ودّوا أنه حظّهم من الدنيا، وكذلك وصفهم اللّه عزّ وجلّ حيث يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}(1) ما الذي أتوا به؟ أتوا واللّه بالطاعة مع المحبة والولاية، وهم في ذلك خائفون أن لا يقبل منهم، وليس واللّه خوفهم خوف شك فيما هم فيه من إصابة الدين؛ ولكنهم خافوا أن يكونوا مقصرين في محبتنا وطاعتنا»(2).

وقال أبو جعفر الباقر(عليهم السلام) في قوله تعالى: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(3) قال: «هم الأئمة(عليهم السلام)»(4).

وروي عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «ليس في الدنيا نعيم حقيقي» فقال له بعض الفقهاء ممن يحضره: فيقول اللّه عزّ وجلّ: {ثُمَّ لَتُسَْٔلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(5)، أما هذا النعيم في الدنيا، وهو الماء البارد؟ فقال له الرضا(عليه السلام) وعلا صوته: «كذا فسرتموه أنتم وجعلتموه على ضروب؟، فقالت طائفة: هو الماء البارد. وقال غيرهم: هو الطعام الطيب. وقال آخرون: هو النوم الطيب!».

قال الرضا(عليه السلام): «ولقد حدثني أبي(عليه السلام) عن أبيه أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): أن أقوالكم هذه ذكرت عنده في قول اللّه تعالى: {ثُمَّ لَتُسَْٔلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} فغضب(عليه السلام) وقال: إن اللّه عزّ وجلّ لا يسأل عباده عمّا تفضل عليهم به، ولا يمن بذلك عليهم؛ والامتنان بالإنعام مستقبح من المخلوقين، فكيف يضاف إلى

ص: 31


1- سورة المؤمنون، الآية: 60.
2- الكافي 8: 128.
3- سورة الشورى، الآية: 23.
4- الكافي 1: 413.
5- سورة التكاثر، الآية: 8.

الخالق عزّ وجلّ مالا يرضى المخلوق به، ولكن النعيم حبنا أهل البيت وموالاتنا، يسأل اللّه عباده عنه بعد التوحيد والنبوة؛ لأن العبد إذا وفى بذلك أداه إلى نعيم الجنة الذي لا يزول...»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «..ومن سرّه أن يعلم أن اللّه يحبه فليعمل بطاعة اللّه وليتبعنا ألم يسمع قول اللّه عزّ وجلّ لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(2) واللّه لا يطيع اللّه عبد أبداً إلّا أدخل اللّه عليه في طاعته اتباعنا، ولا واللّه لا يتبعنا عبد أبداً إلّا أحبه اللّه، ولا واللّه لا يدع أحد اتباعنا أبداً إلّا أبغضنا، ولا واللّه لا يبغضنا أحد أبداً إلّا عصى اللّه، ومن مات عاصياً لله أخزاه اللّه وأكبه على وجهه في النار»(3).

نعم، كما أن حب أهل البيت(عليهم السلام) واجب، ولا يدخل الجنة من يبغضهم، وبحبهم ينال الإنسان الثواب كما في الروايات الكثيرة، إلّا أن ترك العمل بتعاليمهم ووصاياهم يصل بالإنسان إلى عقاب اللّه، بل الأكثر من ذلك أن الإنسان الذي يعرف فضل أهل البيت(عليهم السلام) ويعرف منزلتهم ويحبهم لذلك، وهو لا يمتثل لما يأمرون به، بل يعمل على عكس ذلك فعتابه عند اللّه تعالى أشد، بل إن المحبة الحقيقية التي هي مورد الروايات لا تعني إلّا أن يكون المحب محباً من جميع الجهات، ومنها فعل ما أمره وترك ما نهاه، وقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): «ما أحب اللّه عزّ وجلّ من عصاه» ثم تمثل فقال:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا محال في الفعال بديعل

ص: 32


1- عيون أخبار الرضا 2: 129.
2- سورة آل عمران، الآية: 31.
3- الكافي 8: 14.

لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع(1)

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في إحدى خطبه: «إن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند اللّه ألوم»(2).

فالميزان ليس في تعلم العلم فقط، وإنما المهم في ذلك هو تطبيق العلم الذي تعلمه الإنسان حتى ينتفع بعلمه ويؤجَر ويثاب عليه، وإلّا فيكون ذلك العلم حجة عليه كما يقول الإمام(عليه السلام): «من لم يعمل بالعلم كان حجة عليه ووبالاً»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قوام الدنيا بأربع: عالم يعمل بعلمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني يجود بماله على الفقراء، وفقير لايبيع آخرته بدنياه، فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنياه»(4).

التقوى والقانون

اشارة

تُنظّم حياة البشر مجموعة من القوانين والنُظُم، وقد اختلف الناس في أصل هذه القوانين أي من وضع القانون الأول في الحياة؟ فاختلفوا إلى مذاهب وآراء كثيرة، لو أردنا ذكرها لطال بنا المقال، فنتوقف هنا على رأي الإلهيين في ذلك، وهو:

أن الواضع الأول للقانون هو اللّه تعالى، بمعنى أن اللّه تعالى عندما خلق الإنسان جعل معه نظاماً لكل شيء، وأنزل له كتباً ودساتير بواسطة أنبيائه(عليهم السلام)

ص: 33


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 489.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 110 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الإسلام وفضل القرآن.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 651.
4- عيون الحكم والمواعظ: 370.

تنظم له حياته بما يناسب المستوى الفكري لكل أمة من الأمم، إلى أن وصل الحال إلى زمن نبينا الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فأنزل عليه القرآن العظيم، وفيه الإحاطة التامة الكاملة بكل احتياجات الإنسان إلى قيام الساعة، كما قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖ}(1).

والقانون: هو الضابط المهم للحياة، حيث إنه يضمن الحريات لجميع البشر، كما يضمن تأمين النظام والسلام، وبه تتحقق العدالة بصورة عامة، فالقانون الإسلامي وضع على أساس العدالة والرحمة الربانية، ومضامين هذا القانون تعكس القواعد الأخلاقية التي رعاها الواضع عزّ وجلّ فيها.

وهذا الكلام هو في القانون الإلهي، لأن القانون الوضعي فيه كثيراً من الهفوات والأخطاء، إذ أصبح بيد جماعة من المستفيدين فربما يضعون فقرات القانون حسب أهوائهم، وتماشياً مع مصالحهم، وربما يخطئون في تشخيص المصالح والمفاسد، بخلاف القانون الإلهي فهو بعيد عن الأهواء والمصالح الخاصة والأخطاء، فإنه صادر من اللّه العالم بكل شيء، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(2).

ومن فقرات هذا القانون الإلهي: التقوى، يعني أن يكون الإنسان مرتبطاً باللّه تعالى في كل أعماله، وعن طريق الارتباط باللّه تعالى يحصل الإنسان على الترتيب والتنظيم في دنياه وفي آخرته، فالإنسان المرتبط باللّه - المتقي - تجده سعيداً في الدنيا والآخرة؛ لأن الالتزام بالقوانين الإلهية توجب السعادة في الدنيا والآخرة، حيث إنها شرعت حسب مصالح الإنسان الواقعية، فإذا تابعها كان

ص: 34


1- سورة الكهف، الآية: 54.
2- سورة النجم، الآية: 3-4.

سعيداً، وإلّا فقد خسر في الدنيا والآخرة. قال تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٖ قَدْرًا}(1).

وجاء في رواية عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «اعلموا عباد اللّه، أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم»(2).

فلنكن من المتقين لنفوز في الدنيا والآخرة، ولا ينبغي أن نترك الآخرة للدنيا فإنها فانية، والناس جميعهم سوف يوارون في التراب، وستغلق صحائف أعمالهم، فلا الذين قبلنا خلدوا في الدنيا، ولا نحن الخالدون، ولا من يأتي بعدنا، فالجميع راحلون، كما قال الشاعر:

الموت باب وكل الناس داخله *** فليت شعري بعد الباب ما الدار؟

الدار جنة خلدٍ إن عملت بما *** يرضي الإله وإن قصرت فالنار(3)

لذا علينا أن نتذكر دائماً بأننا نرحل من هذه الدنيا عاجلاً أم آجلاً، وهذا هو ما نص عليه القانون الإلهي في الكون، بأن الحياة فانية، والدار الآخرة هي الباقية، ففي خطبة لإمام المتقين(عليه السلام) قال فيها واصفاً الدنيا: «فإن الدنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازاً، لتزوَّدوا منها الأعمال إلى دار القرار»(4).

فلنتزود بالتقوى لأنها أفضل الأعمال وهي الأساس في الأخلاق المثالية. قال

ص: 35


1- سورة الطلاق، الآية: 2-3.
2- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 27 من عهد له(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر.
3- الأبيات للشاعر أبي العتاهية.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 132 من خطبة له(عليه السلام) يعظ فيها ويزهد في الدنيا.

أمير المؤمنين(عليه السلام) عندما سُئل: أي عمل أفضل؟ قال: «التقوى»(1).

ولنتزود بالتقوى، لأنها أفضل زاد في الدنيا والآخرة، كما وصفها إمام المتقين(عليه السلام) حيث قال لما دخل المقابر: «يا أهل التربة، ويا أهل الغربة، أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال فقد قسمت، فهذا خبر ما عندنا، وليت شعري ما عندكم؟» ثم التفت إلى أصحابه، وقال: «لو أذن لهم في الجواب لقالوا: إن خير الزاد التقوى»(2).

العبادة والتقوى

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن الناس يعبدون اللّه عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء، وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفاً من النار فتلك عبادة العبيد، وهي رهبة، ولكنّي أعبده حباً له عزّ وجلّ، فتلك عبادة الكرام، وهو الأمن لقوله عزّ وجلّ: {وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ}(3) ولقوله عزّ وجلّ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(4) فمن أحب اللّه أحبه اللّه، ومن أحبه اللّه عزّ وجلّ كان من الآمنين»(5).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «إني أكره أن أعبد اللّه لأغراض لي ولثوابه، فأكون كالعبد الطَّمِع المطيع، إن طمع عمل، وإلّا لم يعمل، وأكره أن أعبده لخوف عقابه؛ فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل»، قيل: فلم تعبده؟ قال: «لما

ص: 36


1- فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام): 119.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 179.
3- سورة النمل، الآية: 89.
4- سورة آل عمران، الآية: 31.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 38.

هو أهله بأياديه عليّ وإنعامه»(1).

وقال الإمام محمد بن علي الباقر(عليهما السلام): «لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كلهم إليه، فحينئذ يقول: هذا خالص لي، فيقبله بكرمه»(2).

قال تعالى: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ فَاعْبُدُوهُ}(3).

إذاً تنقسم دوافع الناس في عبادتهم لله سبحانه إلى أقسام ثلاثة هي:

أولاً: الخوف، حيث إن بعض الناس يعبدون اللّه خوفاً من عذابه، فإن طبيعة الإنسان يحرص على أن يتجنب الوقوع في المهالك والأخطار، وبما أن اللّه تعالى حذّر الإنسان ووعده بالعذاب في حالة عصيانه، حيث قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(4) وغيرها في كثير من الآيات والروايات في هذا الجانب، فنلاحظ أغلب الناس يعبدون اللّه تعالى خوفاً من عذابه.

قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}(5).

وقال تعالى: {يَٰأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَٰنِ وَلِيًّا}(6).

وقال تعالى: {وَيَٰقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ}(7).

ص: 37


1- بحار الأنوار 67: 198.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 328.
3- سورة الأنعام، الآية: 102.
4- سورة آل عمران، الآية: 28.
5- سورة الأنعام، الآية: 15.
6- سورة مريم، الآية: 45.
7- سورة غافر، الآية: 32.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الخوف من اللّه في الدنيا يؤمن الخوف في الآخرةمنه»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «هيهات أن ينجو الظالم من أليم عذاب اللّه وعظيم سطواته»(2).

ثانياً: الطمع، فإن هناك من الناس مَن يعبد اللّه طمعاً في الحصول على الثواب، فكلما فكر فيما وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات، من النعمة والكرامة وحُسن العاقبة ازداد طمعاً، وبالغ في التقوى والتزم بعمل الخير، وترك عمل الشر، وذلك طمعاً في المغفرة والجنة والنعم والأجر الأخروي، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَا}(3). كما تبين ذلك الآيات والروايات كثيرة في هذا الشأن.

قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(4).

وقال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٖ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ}(5).

وقال تعالى: {مُتَّكِِٔينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ وَشَرَابٖ}(6).

ص: 38


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 125.
2- عيون الحكم والمواعظ: 512.
3- سورة الفتح، الآية: 29.
4- سورة التوبة، الآية: 72.
5- سورة آل عمران، الآية: 15.
6- سورة ص، الآية: 51.

وقال تعالى: {وَالسَّٰبِقُونَ السَّٰبِقُونَ * أُوْلَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّٰتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْأخِرِينَ * عَلَىٰ سُرُرٖ مَّوْضُونَةٖ * مُّتَّكِِٔينَ عَلَيْهَا مُتَقَٰبِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٖ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٖ مِّن مَّعِينٖ * لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَاوَلَا يُنزِفُونَ * وَفَٰكِهَةٖ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٖ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَٰلِ اللُّؤْلُوِٕ الْمَكْنُونِ * جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «انتفعوا ببيان اللّه واتعظوا بمواعظ اللّه واقبلوا نصيحة اللّه، فإن اللّه قد أعذر إليكم بالجلية واتخذ عليكم الحجة وبين لكم محابه من الأعمال ومكارهه منها؛ لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقول: إن الجنة حفت بالمكاره، وإن النار حفت بالشهوات، واعلموا، أنه ما من طاعة اللّه شيء إلّا يأتي في كره، وما من معصية اللّه شيء إلّا يأتي في شهوة، فرحم اللّه امرأً نزع عن شهوته وقمع هوى نفسه، فإن هذه النفس أبعد شيء منزعاً، وإنها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى. واعلموا عباد اللّه، أن المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلّا ونفسه ظنون(2) عنده، فلا يزال زاريا(3) عليها ومستزيداً لها، فكونوا كالسابقين قبلكم والماضين أمامكم، قوضوا من الدنيا تقويض الراحل وطووها طي المنازل»(4).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «قال الخضر لموسى(عليه السلام): يا موسى إن أصلح يوميك الذي هو أمامك فانظر أي يوم هو وأعد له الجواب، فإنك موقوف

ص: 39


1- سورة الواقعة، الآية: 10-24.
2- الظنون: الضعيف والقليل الحيلة.
3- زارياً عليها: أي عائباً.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.

ومسئول، وخذ موعظتك من الدهر فإن الدهر طويل قصير، فاعمل كأنك ترى ثواب عملك، ليكون أطمع لك في الآخرة، فإن ما هو آت من الدنيا كما هو قدولّى منها»(1).

ثالثاً: الحب، وهناك قسم ثالث من الناس - وما أقلهم - يُعتبرون خاصة اللّه في أرضه من أنبياء وأوصياء وصالحين، فهؤلاء هم العلماء باللّه، لا يعبدون اللّه خوفاً من عذابه ولا طمعاً في ثوابه، وإنما يعبدونه حباً له حيث تكون قلوبهم مغمورة بالمحبة الإلهية، قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(2) وأصحاب هذا الطريق هم الأبرار الغالبون، ولهم ثواب عظيم في الآخرة، وفي أعلى عليين. ويأتي في قمة هؤلاء نبينا العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا شوقاً إلى جنتك، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(3).

ويرى أصحاب هذا الطريق - حب اللّه تعالى - أن عبادة اللّه تعالى خوفاً من عذابه، أو طمعاً في ثوابه، لا يشتمل على الدرجات العالية من الإخلاص؛ إذ لعل بعض هؤلاء لو وجدوا طريقاً موصلاً إلى الجنة، ويخلصهم من عذاب اللّه تعالى لم يعبدوا اللّه تعالى، واستدلالهم على ذلك هو أن الإنسان الذي يعبد اللّه تعالى خوفاً من عذابه، يبعثه هذا الخوف على ترك المحرمات، فالزهد في الدنيا هو للفوز في الآخرة والنجاة من عذابها، وكذلك عبادته تعالى طمعاً في الثواب تبعث الإنسان على العبادة في الدنيا لنيل الآخرة.

ص: 40


1- الكافي 2: 459.
2- سورة البقرة، الآية: 165.
3- نهج الحق وكشف الصدق: 248.

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

أول قدوة في الأخلاق المثالية هو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال اللّه تعالى في كتابهالكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1) إن المتتبع لسيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجد وبوضوح ما يتمتع به الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أخلاق فاضلة كريمة، فهو منبع الأخلاق، ويعد بحراً زاخراً من المثل العليا، والقيم الإنسانية، والفضائل الأخلاقية، في كل مناحي الحياة وجوانبها، فهو القائد المعلم، وهو الأب الروحي، وهو المرشد، وهو المصلح، وهو الأمين، إلى آخر قاموس الفضائل التي يعجز القلم عن الإحاطة بها. فالأخلاق المثالية في حياة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واضحة وجلية في مختلف زوايا الحياة وشاملة لجميع الناس، تجده مع الصديق والمحب أباً ومرشداً، ومع العدو معلماً منقذاً، فكان يعامل الكل(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معاملة طيبة.

عفو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

فها هو وحشي قاتل حمزة(عليه السلام) عم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسنده القوي غدراً وغيلة، وقد مثل بجسده الطاهر ذلك التمثيل الشنيع الذي يقشعر بدن الإنسان من سماع وصفه، دون رؤيته حتى وصف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يومها بأنه أشد يوم مرّ على قلبه الطاهر، ذلك القلب المليء بالحب والعطف والإنسانية، والبعيد كل البعد عن البغض والغلظة والكراهية، ذلك القلب العامل بالإيمان الذي لا يهمه شيء سوى مرضاة اللّه تعالى، ومع هذا كله عند ما جاء وحشي من وراء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأعلن إسلامه عفا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنه(2).

ص: 41


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- روي: أنه لما أسلم قال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أوحشي؟» قال: نعم، قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) «اجلس وحدثني قتلت حمزة؟» فلما أخبره قال: «قم وغيب عني وجهك». شرح نهج البلاغة 18: 16، وشرح الأخبار 3: 231.

أيُّ أخلاق هذه! هذه هي أخلاق رسول الإنسانية، خير خلق اللّه تعالى، فقد كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجمع الناس لدواعي الرفعة والسمو. فقد كان أوسطالناس نسباً، وأنقاهم حسباً، وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم، وما إلى ذلك من الصفات الحسنة(1).

تواضع النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشد الناس تواضعاً، فعن الإمام علي بن موسى الرضا عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): خمسٌ لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض(2) مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً(3)، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان؛ لتكون سنّةً من بعدي».(4)

وجاء في بحار الأنوار: أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان أوسط الناس نسباً، وأوفرهم حسباً، وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم، وهذه كلها من دواعي الترفع، ثم كان من تواضعه أنه كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويركب الحمار، ويعلف الناضح، ويجيب دعوة المملوك، ويجلس في الأرض، ويأكل في الأرض، وكان يدعو إلى اللّه من غير زبر ولا كهر ولا زجر، ولقد أحسن من مدحه في قوله:

فما حملت من ناقة فوق ظهرها *** أبرّ وأوفى ذمة من محمد(5)

قال الإمام أمير المؤمنين(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واصفاً أخلاق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كان أجود الناس

ص: 42


1- التي كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأخذ المرتبة العالية منها، فما من صفة إلّا وترى قد استعملت صيغة التفضيل فيه: أعلم، أحلم، أفقه، وما إلى ذلك من الصفات.
2- الحضيض: قرار الأرض وأسفل الجبل.
3- الأكاف والوكاف: البردعة، وهي كساء يلقى على ظهر الدابة.
4- عيون أخبار الرضا 2: 81.
5- بحار الأنوار 16: 199.

كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهمعشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أرَ مثله، قبله ولا بعده»(1).

وأجاد من قال:

بلغ العلى بكماله *** كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله *** صلوا عليه وآله

هذه بعض خصال نبي الرحمة(صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي يعجز اللسان عن ذكر بعضها فضلاً عن جميعها، والقلم عن الإحاطة بكتابتها على أن يعطي الحق الكامل لهذه الصفات.

فليتخلق المسلمون اليوم بأخلاق ذلك الرائد العظيم، ليفوزوا في الدنيا والآخرة. قال اللّه تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(2).

ذكر الشيخ الطبرسي(رحمه اللّه) في كتابه القيم مكارم الأخلاق(3): فوجدت في كلام

ص: 43


1- بحار الأنوار 16: 231.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- مكارم الأخلاق لمؤلفه رضي الدين حسن بن فضل الطبرسي من علماء القرن السادس الهجري. وهو ابن أمين الإسلام الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان. استلهاما من وحي قول النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، أي: إن الهدف من بعثته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو بيان وتتميم الأخلاق الفاضلة؛ لأن الإسلام دين يعطي للأخلاق أهمية كبيرة، سواء الأخلاق الفردية أو الأخلاق الاجتماعية. و لهذا فإنه - وعلى مدى تأريخ الإسلام - قد ألفت كتب كثيرة في مجال الأخلاق، ونظراً للرواية المذكورة آنفاً فإن كثيراً من العلماء الكبار قد جعلوا عناوين كتبهم (مكارم الأخلاق)، منهم: أبو جعفر محمد البرقي، ومير سيد علي الهمداني، وأبو جعفر محمد النيشابوري، وغياث الدين البلخي، والسيد محمد نور بخش، والسيد عبد اللّه شبر صاحب التفسير المعروف. وكتاب (مكارم الأخلاق) للشيخ الجليل القدر رضي الدين الطبرسي من أكثر الكتب في هذا الموضوع شهرة. وهذا الكتاب يحتوي على اثني عشر باباً، وترجم الكتاب إلى لغات عدة، وحاول بعض المنحرفين تحريف الكتاب من خلال الحذف والإضافة والتغيير بغية تشويه سمعة الشيعة، وقد تنبه لذلك العلماء فقاموا بفضحهم وتنبيه الناس إلى ذلك. وبعد الاطلاع على هذه المؤامرة المشئومة، جمعت بأمر الميرزا الشيرازي الكبير في سنة (1314ه) جميع النسخ الخطية والقديمة للكتاب، وقام الحاج الشيخ محمود البروجردي بتطبيق الكتاب مع هذه النسخ، ثم طبع الكتاب بدقة تامة في التصحيح وبشكل جميل.

أمير المؤمنين علي(عليه السلام) ما يحتوي على حقيقة سير الأنبياء(عليهم السلام)، وهي الانقطاع بالكل عن الناس إلى اللّه، في الرجاء والخوف، وعن الدنيا إلى الآخرة. وخص من جملتهم نبينا محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكمال هذه السيرة وحثنا ورغبنا على الاقتداء به فقال(عليه السلام) بعد كلام له طويل لمدع كاذب يدعي بزعمه أنه يرجو اللّه:

«كذب والعظيم ما باله، ولا يتبين رجاؤه في عمله، وكل من رجا عرف رجاؤه في عمله إلّا رجاء اللّه؛ فإنه مدخول، وكل خوف متحقق إلّا خوف اللّه فإنه معلول، يرجو اللّه في الكبير ويرجو العباد في الصغير، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب، فما بال اللّه جلّ ثناؤه يقصر به عمّا يصنع بعباده، أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً، أو تكون لا تراه للرجاء موضعاً، وكذلك إن هو خاف عبداً من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه، فجعل خوفه من العباد نقداً وخوفه من خالقه ضماراً(1)

ووعداً، وكذلك من عظمت الدنيا في عينه وكبر موقعها في قلبه، آثرها على اللّه فانقطع إليها، وصار عبداً لها، ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كاف لك في الأسوة، ودليل على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها ووطئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوي عن زخارفها، وإن شئت ثنيت بموسى(عليه السلام) كليم اللّه، إذ يقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٖ

ص: 44


1- الضمار: الوعد المسوَّف.

فَقِيرٌ}(1)واللّه، ما سأله إلّا خبزاً يأكله؛ لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق(2) بطنه لهزاله، وتشذّب(3) لحمه، وإن شئت ثلَّثت بداود صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل من سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه أيكم يكفيني بيعها، ويأكل قرص الشعير من ثمنها، وإن شئت قلت في عيسى ابن مريم(عليه السلام) فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه وخادمه يداه. فتأس بنبيك الأطيب الأطهر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره، قضم الدنيا قضماً(4)، ولم يعرها طرفاً، أهضم(5) أهل الدنيا كشحاً(6)، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن اللّه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقّر شيئاً فحقره، وصغّر شيئاً فصغره، ولو لم يكن فينا إلّا حبنا ما أبغض اللّه، وتعظيمنا ما صغر اللّه، لكفى به شقاقاً لله، ومحادة عن أمر اللّه، ولقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار

ص: 45


1- سورة القصص، الآية: 24.
2- الصفاق: ككتاب، هو الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر اوجلد البطن وهو المراد هنا.
3- التشذب: التفرق.
4- قضم الشيء: كسره بأطراف أسفانه وأكله، والمراد الزهد في الدنيا والرضا منها بالدون.
5- الهضم: خمص البطن وخلوها.
6- الكشح: ما بين السرة ووسط الظهر.

العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته تكون فيه التصاوير فيقول: يا فلانة، لإحدىأزواجه، غيبيه عني؛ فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً(1)، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده، ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها؛ إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله، أ أكرم اللّه بذلك محمداً، أم أهانه؟ فإن قال: أهانه، فقد كذب واللّه العظيم، وأتى بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه، فليعلم أن اللّه قد أهان غيره؛ حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه، فإن تأسى متأس بنبيه، واقتص أثره، وولج مولجه، وإلّا فلا يأمن الهلكة، فإن اللّه جعل محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) علماً للساعة، ومبشراً بالجنة، ومنذراً بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصاً، وورد الآخرة سليماً، لم يضع حجرا على حجر، حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه، فما أعظم منّة اللّه عندنا، حين أنعم علينا به، سلفاً نتبعه، وقائداً نطأ عقبه. واللّه، لقد رقّعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: أ لا تنبذها؟ فقلت: اغرب عني، فعند الصباح يحمد القوم السرى»(2).

الأخلاق الإسلامية

إن النفس البشرية صفحة بيضاء، تنقش عليها الأعمال والأفعال، فإن كانت حسنة ازدادت هذه الصفحة بياضاً ونصاعة، وسمت بصاحبها إلى مراتب العلو

ص: 46


1- الرياش: ما كان فاخراً من اللباس والأثاث.
2- مكارم الأخلاق: 8.

والقرب من اللّه سبحانه ومن الناس وإن كانت رديئة سيئة تلوثت الصفحة،وجعلتها سوداء داكنة، وتحطّ من صاحبها، وتزيد من بعد المرء عن اللّه تعالى وعن الناس.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن النفس لجوهرة ثمينة من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها»(1).

والنفس البشرية من نفس واحدة تكويناً كما صرّح بذلك القرآن الكريم: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ}(2)، ولكن لها مراتب ودرجات، فهي من الكليات المشككة - كما يقول البعض - فيمكن أن تتحول بفعل بعض الأعمال إلى نفس مطمئنة فاضلة، وذلك لأن صاحبها حصّنها وروّضها على ترك الأفعال القبيحة وغير اللائقة بالإنسان، فيستحق صاحبها على ذلك الفوز الإلهي، كما وعد اللّه تعالى المؤمنين: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(3).

ويمكن أن تتحول إلى نفس كدرة ومنحطة، كما عند بعض الناس؛ وذلك لأن صاحبها لم يتجنب فعل الرذائل، وغاص بها إلى أعماقه، فصاحبها قد اشترى لنفسه غضب اللّه تعالى - والعياذ باللّه - وانتقامه، وكُره الناس له، قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}(4).

خلاصة الكلام

فخلاصة الكلام: أن المسير بيد الإنسان، فله السير على كلا الطريقين: طريق

ص: 47


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 227.
2- سورة الأنعام، الآية: 98.
3- سورة الروم، الآية: 47.
4- سورة الأحزاب، الآية: 64.

يؤدي به إلى أن يتسامى بالنفس الفاضلة، وذلك بعمل الأخلاق المثالية والأعمالالحسنة، مثل: الصدق والأمانة والوفاء والمحبة والتقوى، وغيرها من الفضائل التي ذكرها اللّه تعالى في كتابه الكريم، ووضحها لنا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار(عليهم السلام)؛ وذلك ببيانها وتحلِّيهم وعملهم بها، فهم(عليهم السلام) منبع الأخلاق الحميدة، وأساس كل فضيلة، وسالك هذا الطريق لا يضل، بل يضمن الفوز في كلا الدارين؛ الفوز في الدنيا، كما هو معلوم؛ لأن جميع العقلاء يمدحون صاحب الأخلاق الفاضلة الحميدة، ويذمون صاحب الأخلاق الفاسدة والسيئة، أما الفوز في الآخرة فهذا أيضاً معلوم وبديهي، يؤكده العقل والنقل.

أما العقل فلأن اللّه تعالى عادل - بحكم العقل - فلا يضيع أجر من عمل صالحاً وسيجزيه على ذلك الثواب.

وأما النقل فكثرة الآيات المباركة والروايات الشريفة التي تحث على عمل الفضائل والاجتناب عن الرذائل وما يقابلها من الأجر الجزيل، حيث قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}(1) وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَُٔونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّٖ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَٰلِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ

ص: 48


1- سورة الزلزلة، الآية: 7.
2- سورة التوبة، الآية: 120-121.

بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُعِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}(1). والمتفحص للكتاب والسنة يجد مئات الآيات والروايات بل ربما آلافها في هذا الباب، فسلوك هذا الطريق يأتي بنا إلى الفوز بالدنيا والآخرة عقلاً ونقلاً(2).

أما الطريق الآخر، فهو طريق يؤدي إلى أن تصبح النفس منحطة ملوثة؛ وذلك بارتكاب الأعمال السيئة؛ مثل: الكذب والخيانة والغيبة والسرقة والعنف والظلم وغيرها من الأعمال الرذيلة.

هذان طريقان، والإنسان مخير بالمسير في كلا الطريقين؛ طريق الفضيلة، وطريق الرذيلة. قال اللّه تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(3) وقال تعالى: {وَهَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ}(4). والإسلام يختار للإنسان ويحثه على سلوك طريق الفضيلة، لما به من محاسن ومنافع خاصة وعامة، تعود إلى نفسه وأسرته والى المجتمع. ويطرح الإسلام دلائل ونماذج على ذلك، في قمتها النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وآل بيته الأطهار(عليهم السلام)، ومن سار على طريقهم ومنحاهم.

نماذج أخلاقية

اشارة

الأخلاق على قسمين: أخلاق حسنة، وأخلاق سيئة، ولكن عندما يطلق لفظ

ص: 49


1- سورة آل عمران، الآية: 194-195.
2- راجع كتاب مكارم الأخلاق للطبرسي، وجامع السعادات للنراقي، وثواب الأعمال والخصال للشيخ الصدوق، وتنبيه الخواطر ونزهة النواظر للأمير ورام بن أبي الفوارس، ومحاسبة النفس للسيد ابن طاووس، وغيرها كثير.
3- سورة الإنسان، الآية: 3.
4- سورة البلد، الآية: 10.

الأخلاق فالمراد منه الأخلاق الحسنة، فنعني بقولنا: نماذج أخلاقية، نماذج من الأخلاق الحسنة.والتاريخ يعرض لنا نماذج كثيرة من الأخلاق لتلامذة الأئمة(عليهم السلام) استمدت من أخلاق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار(عليهم السلام) وسيرتهم، قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1). نذكر بعضاً منها هنا لكي تكون عبرة وأسوة لأولي الألباب، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(2).

الإمام الحسين(عليه السلام) وتعامله مع الشامي

جاء في كتاب منازل الآخرة للمحدث القمي(رحمه اللّه):

روي عن عصام بن المصطلق أنه قال: دخلت المدينة فرأيت الحسين ابن علي(عليهما السلام) فأعجبني سمته ورواؤه، وأثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض، فقلت له: أنت ابن أبي تراب؟ فقال: «نعم». فبالغت في شتمه وشتم أبيه! فنظر إلي نظرة عاطف رؤوف، ثم قال: «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}(3) ثم قال لي: «خفض عليك، استغفر اللّه لي ولك، إنك لو استعنتنا لأعناك، ولو استرفدتنا لرفدناك، ولو استرشدتنا لرشدناك». قال عصام: فتوسم مني الندم على ما فرط مني. فقال: «{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ

ص: 50


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- سورة الذاريات، الآية: 55.
3- سورة الأعراف، الآية: 199-202.

الرَّٰحِمِينَ}(1) أمن أهل الشام أنت؟». قلت: نعم. فقال: «شنشنة اعرفها من أخزم(2)حيانا

اللّه وإياك، انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك، تجدني عند أفضل ظنك، إن شاء اللّه تعالى». قال عصام: فضاقت علي الأرض بما رحبت، وودت لو ساخت بي، ثم سللت منه لواذاً، وما على الأرض أحب إلي منه ومن أبيه(3).

ولو فرضنا أن الإمام(عليه السلام) غضب من سباب هذا الرجل وعاملة معاملة أخرى - وحاشا الإمام أن ينتهج هذا الأسلوب، ولكن نقول: لو فرضنا، وفرض المحال ليس بمحال - لو عمل الإمام(عليه السلام) ذلك، ألم يكن قد ازداد هذا الرجل غضباً وحقداً على الإمام وأبيه(عليهما السلام)، وظلّ يسير على طريق الضلالة، ولامتلأ قلبه حقداً أكثر من ذي قبل؟ لكن بما أن الإمام(عليه السلام) مسئوليته الإلهية هي هداية الناس، استطاع(عليه السلام) أن يحوّل هذا الرجل من طريق الضلالة، وهو بغض الإمام أمير المؤمنين وأهل بيته(عليهم السلام) جميعاً، إلى طريق الهداية وهو محبة الإمام أمير المؤمنين وأهل بيته(عليهم السلام) عن طريق حسن أخلاقه (عليه وأبيه الصلاة والسلام).

الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) ورجل من ولد عمر

روي: أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى(عليه السلام) ويسبه إذا رآه ويشتم علياً(عليه السلام)، فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي، وزجرهم أشد الزجر، وسأل عن

ص: 51


1- سورة يوسف، الآية: 92.
2- الشنشنة: السجية والطبيعة. وقيل القطعة المضغة من اللحم. وهو مثل، وأول من قاله أبو أخزم الطائي وذلك: أن اخزم كان عاقاً لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم، وضربوه وأدموه، فقال: إن بني زملوني بالدم *** شنشنة أعرفها من أخزم
3- منازل الآخرة : 207.

العمري، فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن(عليه السلام) بالحمار حتى وصل إليه فنزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه، وقال له: «كم غرمت في زرعك هذا؟».فقال له: مائة دينار.

قال: «وكم ترجو أن تصيب فيه؟».

قال: لست أعلم الغيب.

قال: «إنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه؟».

قال: أرجو فيه مائتي دينار.

قال: فأخرج له أبو الحسن(عليه السلام) صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: «هذا زرعك على حاله، واللّه يرزقك فيه ما ترجو»، قال: فقام العمري فقبل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه الحسن(عليه السلام) وانصرف، قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته، قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قصتك، قد كنت تقول غير هذا؟! قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن(عليه السلام) فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره، قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: «أيما كان خيراً: ما أردتم، أو ما أردت، إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم، وكفيت به شره»(1).

نعم، هذه هي أخلاق أهل بيت النبوة(عليهم السلام) المستمدة من أخلاق حامل الرسالة الإلهية، يعاملون المسيء بالإحسان.

ص: 52


1- الإرشاد 2: 233.

فالرجل أساء إلى الإمام(عليه السلام) ولكن الإمام(عليه السلام) لم يعامله بالمثل، وإنما أحسن إليه، واستطاع بهذا العمل تحقيق ثلاثة أهداف:

أولها: رضا اللّه تعالى وهو أهمها عند الإمام(عليه السلام).

وثانيها: إصلاح المسيء وجره إلى جادة الحق.وثالثها: أن يكون عمل الإمام هذا أسوة ومنهجاً لكافة المسلمين.

فلنتخلق بأخلاق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعترته الطاهرة(عليهم السلام) ففي ذلك فوز لنا بالدنيا والآخرة.

صور من الخلق المثالي

روى الشيخ عباس القمي(رحمه اللّه) قال: إن مالك الأشتر (رضي اللّه عنه) كان مجتازا بسوق الكوفة وعليه قميص خام، وعمامة منه، فرآه بعض السوقة فأزدرى بزيه، فرماه ببندقة تهاوناً به، فمضى ولم يلتفت. فقيل له: ويلك، أتدري بمن رميت؟! فقال: لا. فقيل له: هذا مالك صاحب أمير المؤمنين(عليه السلام). فارتعد الرجل، ومضى إليه ليعتذر منه، فرآه وقد دخل مسجداً وهو قائم يصلي، فلما انفتل أكب الرجل على قدميه يقبلهما. فقال: ما هذا الأمر؟!

فقال: أعتذر إليك مما صنعت. فقال: لا بأس عليك، فواللّه، ما دخلت المسجد إلّا لأستغفرن لك(1).

يقول - القمي(رحمه اللّه) - : انظر كيف كسب هذا الرجل الأخلاق من أمير المؤمنين(عليه السلام) فمع أنه من أمراء جيش أمير المؤمنين، وكان شجاعاً، وشديد الشوكة، وإن شجاعته بلغت درجة بحيث قال ابن أبي الحديد: لو أن إنساناً يقسم، أن اللّه تعالى ما خلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلّا أستاذه علي بن أبي

ص: 53


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 2.

طالب(عليه السلام) لما خشيت عليه الإثم، ولله در القائل، وقد سُئل عن الأشتر: ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام، وهزم موته أهل العراق. وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في حقه: «كان الأشتر لي كما كنت لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1). وقال لأصحابه: «وليت فيكممثله اثنان، بل ليت فيكم مثله واحد يرى في عدوي مثل رأيه»(2). وبالجملة، فمع هذه الجلالة والشجاعة والشدة والشوكة يصل به حسن خلقه إلى أن يهينه رجل سوقي ويستهزئ به، فلا يظهر في حاله أي تغيير وتبدل، بل يذهب إلى المسجد ويصلي، ويدعو ويستغفر له.

وإذا تلاحظ جيداً فإن هذه الشجاعة التي عنده وغلبه هوى نفسه، أعلى مرتبة من شجاعته البدنية. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أشجع الناس من غلب هواه»(3)(4).

روي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) سمع رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر أن يرد عليه. فناداه أمير المؤمنين(عليه السلام):«مهلاً يا قنبر! دع شاتمك مهاناً ترض الرحمن، وتسخط الشيطان، وتعاقب عدوك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه»(5).

العلماء الأبرار

وكذلك كان علماؤنا الأبرار فقد اقتدوا بنبيهم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمتهم(عليهم السلام) في السيرة والسلوك وحسن الخلق، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وهذه القصة تبين لنا بعض

ص: 54


1- شرح نهج البلاغة 2: 214.
2- بحار الأنوار 32: 547.
3- بحار الأنوار 67: 76.
4- منازل الآخرة: 210.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 118.

ذلك:

نقل عندما كان شيخ الفقهاء العظام المرحوم الحاج الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء موجوداً في أصفهان وقد قسم يوماً حقوقاً شرعية على الفقراء قبل شروعه بالصلاة الأولى، ثم قام للصلاة وعند انتهائه من تلك الصلاة، وقيامه للصلاة الأخرى جاءه أحد الفقراء وكان من السادة - الذين أُخبروا بالأمر - بينالصلاتين، وقال له: أعطني من مال جدي. فقال له: لقد جئت متأخراً، ولا يوجد عندي الآن شي لأعطيك منه.

فغضب ذلك السيد، وبصق على لحية الشيخ المباركة!

فقام الشيخ من المحراب، ورفع طرف ردائه وأخذ يدور في صفوف الجماعة وهو يقول: من كان يحترم شيبة الشيخ فليساعد هذا السيد. فملأ الناس طرف ثوبه بالأموال، ثم أعطاها الشيخ للسيد واعتذر منه، وبعد ذلك توجه لصلاة العصر!

تأمل في هذا الخلق الشريف بأي محل بلغ، لهذا العالم الكبير الذي كان رئيساً للمسلمين، وحجة الإسلام، وفقيه أهل البيت(عليهم السلام) وقد وصلت فقاهته إلى درجة بحيث إنه ألف كتاب (كشف الغطاء) في السفر، ونقل عنه أنه كان يقول: لو مسحتم كل الكتب الفقهية فإني أستطيع أن اكتب من الطهارة إلى الديات. وكان جميع أولاده فقهاءً وعلماءً أجلاء.

نعم، هذه هي الأخلاق التي يجب أن يتمتع بها المسلمون، ثم إن ما قام به الشيخ كاشف الغطاء(رحمه اللّه) هذا لم يحط من قدره، مع أنه كان مرجعاً كبيراً، بل زاده احتراماً وتقديراً، وحاز على رضا اللّه تعالى واحترام الناس، فلو غضب الشيخ وأمر بضرب ذلك السيد - مثلاً - لحصل شجار وهرج ومرج وتدخل الناس، واختل النظام في الجامع، مما يؤدي إلى تأخير الصلاة وكثرة الكلام غير

ص: 55

المرغوب فيه، إضافة إلى مشاكل أخرى، لكن الشيخ بسماحته وأخلاقه المثالية تصرّف عكس ذلك تماماً، حيث قام وجمع له مبلغاً من المال من المصلين، مما دفع ذلك السيد إلى التفكير في خطأه في حق الشيخ وتجاوزه الكبير عليه، فقام بالاعتذار من الشيخ، ولم يحصل أي شجار أو زعزعة.

وهذه الأخلاق تعلمها الشيخ من أخلاق أئمة الهدى(عليهم السلام).

يقول العلامة النوري(رحمه اللّه) صاحب المستدرك وإن تأملت في مواظبته للسنن والآداب وعباداته، ومناجاته في الأسحار، ومخاطبته نفسه بقوله: كنت جعيفراً، ثم صرت جعفراً، ثم الشيخ جعفر، ثم شيخ العراق، ثم رئيس الإسلام، وبكائه وتذلّله، لرأيته من الذين وصفهم أمير المؤمنين(عليه السلام) من أصحابه للأحنف بن قيس(1).

حيث روي أنه لما قدم أمير المؤمنين(عليه السلام) البصرة بعد قتال أهل الجمل دعاه الأحنف بن قيس واتخذ له طعاماً فبعث إليه صلوات اللّه عليه وإلى أصحابه، فأقبل ثم قال: «يا أحنف، ادع لي أصحابي» فدخل عليه قوم متخشعون كأنهم شنآن بوالي، فقال الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي نزل بهم، أ من قلة الطعام، أو من هول الحرب؟!

فقال (صلوات اللّه عليه): «لا يا أحنف، إن اللّه سبحانه أحب قوماً تنسَّكوا له في دار الدنيا تنسّك من هجم على ما علم من قربهم من يوم القيامة من قبل أن يشاهدوها، فحملوا أنفسهم على مجهودها، وكانوا إذا ذكروا صباح يوم العرض على اللّه سبحانه توهموا خروج عنق يخرج من النار يحشر الخلائق إلى ربهم تبارك وتعالى، وكتاب يبدو فيه على رؤوس الأشهاد فضائح ذنوبهم، فكادت أنفسهم تسيل سَيَلاناً، أو تطير قلوبهم بأجنحة الخوف طَيَراناً، وتفارقهم عقولهم

ص: 56


1- مستدرك الوسائل، الخاتمة 2: 117.

إذا غلتْ بهم من أجل التجرد إلى اللّه سبحانه غَلَياناً، فكانوا يَحِنّون حنين الواله في دجى الظلم، وكانوا يفجعون من خوف ما أوقفوا عليه أنفسهم، فمضوا ذبل الأجسام، حزينة قلوبهم كالحة وجوههم ذابلة شفاههم خامصة بطونهم، تراهم سكارى، سمّار وحشة الليل متخشعون، كأنهم شنآن بوالي، قد أخلصوا للهأعمالهم سراً وعلانية، فلم تأمن من فزعه قلوبهم، بل كانوا كمن حرسوا قباب خراجهم، فلو رأيتهم في ليلتهم وقد نامت العيون وهدأت الأصوات وسكنت الحركات من الطير في الرکود، وقد نبَّههم هول يوم القيامة والوعيد، كما قال سبحانه: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَٰتًا وَهُمْ نَائِمُونَ}(1) فاستيقظوا إليها فزعين، وقاموا إلى صلاتهم مُعْوِلين باكين تارة، وأخرى مسبحين، يبكون في محاريبهم ويرنّون، يصطفّون ليلة مظلمة بهماء يبكون، فلو رأيتهم يا أحنف في ليلتهم قياماً على أطرافهم منحنية ظهورهم يتلون أجزاء القرآن لصلاتهم، قد اشتدت إعوالهم ونحيبهم وزفيرهم إذا زفروا، خِلْتَ النار قد أخذت منهم إلى حلاقيمهم، وإذا أعولوا حسبت السلاسل قد صفدت في أعناقهم...»(2).

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفقنا للتحلي بالأخلاق المثالية لنفوز بسعادة الدنيا والآخرة إنه قريب مجيب.

«اللّهم وصل على محمد وآله، كأفضل ما صليت على أحدٍ من خلقك قبله، وأنت مصل على أحد بعده، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا برحمتك عذاب النار»(3).

ص: 57


1- سورة الأعراف، الآية: 97.
2- صفات الشيعة: 39.
3- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضى الأفعال.

من هدي القرآن الحكيم

التقوى قوام الأخلاق

قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَاللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}(1).

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}(3).

وقال جلّ وعلا: {يَٰبَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَٰرِي سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَٰجَوْاْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَٰجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(5).

دوافع العبادة

1- الخوف من النار

قال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}(6).

وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ

ص: 58


1- سورة النساء، الآية: 131.
2- سورة الأعراف، الآية: 96.
3- سورة الحج، الآية: 1.
4- سورة الأعراف، الآية: 26.
5- سورة المجادلة، الآية: 9.
6- سورة الإنسان، الآية: 10.

وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}(2).

2- الطمع في تحصيل الثواب

قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزْقًا قَالُواْ هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(3).

3- حب اللّه عزّ وجلّ

قال عزّ وجلّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}(4).

وقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(5).

وقال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(6).

ص: 59


1- سورة الرعد، الآية: 21.
2- سورة الإسراء، الآية: 57.
3- سورة البقرة، الآية: 25.
4- سورة البقرة، الآية: 165.
5- سورة آل عمران، الآية: 31.
6- سورة المائدة، الآية: 54.

مصاديق للأخلاق المثالية

قال جلّ وعلا: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(1).

وقال تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}(2).وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(4).

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال جلّ وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(5).

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(6).

وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(7).

ص: 60


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- سورة النساء، الآية: 148.
3- سورة هود، الآية: 115.
4- سورة الحجرات، الآية: 12.
5- سورة آل عمران، الآية: 159.
6- سورة الأنبياء، الآية: 107.
7- سورة التوبة، الآية: 128.

وقال عزّ وجلّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

التقوى قوام الأخلاق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس، ... إن العربية ليست بأب ووالدة، وإنما هو لسان ناطق، فمن تكلم به فهو عربي، ألا إنكم من آدم وآدم من تراب وأكرمكم عند اللّه أتقاكم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... وأوصاكم بالتقوى، وجعلها منتهى رضاه، وحاجته من خلقه، فاتقوا اللّه الذي أنتم بعينه، ونواصيكم بيده، وتقلبكم في قبضته»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اتقوا اللّه وصونوا دينكم بالورع»(4).

وكتب أبو جعفر الباقر(عليه السلام) إلى سعد الخير: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أما بعد، فإني أوصيك بتقوى اللّه، فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب، إن اللّه عزّ وجلّ يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله، ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله»(5).

دوافع العبادة

1- الخوف من النار

قال علي بن الحسين(عليهما السلام): «... فاشعروا قلوبكم خوف اللّه، وتذكروا ما قد

ص: 61


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- تفسير القمي 2: 322.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 183 من خطبة له(عليه السلام) في قدرة اللّه وفي فضل القرآن، وفي الوصية بتقوى اللّه تعالى.
4- الكافي 2: 76.
5- الكافي 8: 52.

وعدكم اللّه في مرجعكم إليه من حسن ثوابه، كما قد خوفكم من شديد العقاب»(1).

2- الطمع في تحصيل الثواب

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «.. وقوم عبدوا اللّه تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأُجَراء»(2).

3- حب اللّه عزّ وجلّ

في ما جاء في صحيفة إدريس(عليه السلام): «طوبى لقوم عبدوني حباً، واتخذوني إلهاًورباً، سهروا الليل ودأبوا النهار، طلباً لوجهي من غير رهبة ولا رغبة، ولا لنار ولا جنة، بل للمحبة الصحيحة والإرادة الصريحة»(3).

مصاديق للأخلاق السامية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا بني عبد المطلب، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فالقَوْهُم بطلاقة الوجه وحسن البشر»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «عليكم بالورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى من أئتمنكم عليها، براً كان أو فاجراً»(5).

وروي عن الإمام الرضا(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): عليكم بمكارم الأخلاق؛ فإن اللّه عزّ وجلّ بعثني بها، وإن من مكارم الأخلاق أن يعفو الرجل عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه،

ص: 62


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 505.
2- الكافي 2: 84.
3- بحار الأنوار 92: 467.
4- الكافي 2: 103.
5- تحف العقول: 299.

وأن يعود من لا يعوده»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ}(2) قال: «اصبروا على المصائب»(3).

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما صافح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجلاً قط فنزع يده حتى يكونهو الذي ينزع يده منه»(4).

وقال(عليه السلام): «كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكثر ما يجلس تجاه القبلة»(5).

وعن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده(6).

وعن أبي الحميساء قال: تابعت(7)

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل أن يبعث، فواعدته مكاناً فنسيته يومي والغد، فأتيته يوم الثالث فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا فتى، لقد شققت عليّ؛ أنا ها هنا منذ ثلاثة أيام»(8).

وعن أنس بن مالك قال: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أدركه أعرابي فأخذ بردائه، فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد أثرت به حاشية الرداء

ص: 63


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 477.
2- سورة آل عمران، الآية: 200.
3- الكافي 2: 92.
4- الكافي 2: 182.
5- الكافي 2: 661.
6- مكارم الأخلاق: 19.
7- في مستدرك الوسائل 8: 460: بايعت
8- مكارم الأخلاق: 21.

من شدة جبذته، ثم قال له: يا محمد، مر لي من مال اللّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فضحك، وأمر له بعطاء(1).

وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيياً لا يُسأل شيئاً إلّا أعطاه. وعنه أيضاً قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه(2).

ص: 64


1- مكارم الأخلاق: 17.
2- مكارم الأخلاق: 17.

الارتباط باللّه وجهاد النفس

بين متاع الدنيا والآخرة

اشارة

قال اللّه تعالى في القرآن الحكيم: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَٰطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَٰمِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمََٔابِ}(1).

(زُيّن) فعل ماضٍ مبني للمجهول، وقد ذكر المفسرون في فاعله وهو المزين(2) عدة وجوه:

فمنهم من قال: إنه اللّه، وقال آخرون: بل هو الشيطان، وذلك بالاعتبارين كما لا يخفى.

وبناءً على التفسير الأول - وهو الأظهر - فإن اللّه خلق الإنسان وجعله مجبولاً من الناحية الغريزية على حب اللذائذ والشهوات(3)، فإنه كما أودع فيه العقل أودع فيه الشهوة أيضاً، وألهم النفس فجورها وتقواها. والشيطان يحسّن للإنسان - عبر الوسوسة - الأعمال القبيحة ويقبّح له الأعمال الحسنة.

والأمور التي ذكرت في هذه الآية ليست قبيحة بذاتها، بل هي طيبة في أصل

ص: 65


1- سورة آل عمران، الآية: 14.
2- وهذا لا ينافي قول النحويين بأن المجهول هو الذي لا يكون له فاعل؛ لأن مرادهم في عالم الإثبات - أي: عالم الألفاظ - ومراد المصنف في عالم الثبوت أي: عالم الواقع والفاعل الواقعي.
3- لأن الدنيا دار امتحان واختبار.

وجودها. نعم، قد تعنون بالخبيث لكن هذا عارض خارجي وليس ذاتياً له(1) وذلك نتيجة لانحراف الإنسان واستخدامه النعم الإلهية استخداماً باطلاً خدمة لأغراض شيطانية، وما ذكرناه كان مستفاداً من الآية المباركة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَٰتِ مِنَ الرِّزْقِ}(2).

وفي آية أخرى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ}(3).

ولكن قد تصبح هذه الأشياء الطيبة - ذاتاً - أداة هدم للإنسان، وسبباً لتحطيم كرامته، وهدم رفعته المعنوية، إذا اتخذها الإنسان هدفاً بذاتها لا طريقاً إلى الآخرة، وذلك حين يتعلق قلبه بهذه الشهوات والملذات ويجعلها هدفاً وغاية لسعيه في هذه الدنيا، فلايبالي حينئذ بتكاليفه الشرعية ولا يلتزم بالواجبات وترك المحرمات.

ص: 66


1- ذكروا في الحسن والقبح أن موضوعهما على ثلاثة أقسام: 1- على نحو العلة التامة أي متى كان هذا الموضوع فالحكم - الحسن والقبح - موجود، كالظلم فإنه عنوان يحمل (القبيح) عليه، وكالعدل فإنه عنوان يحمل (الحسن) عليه. 2- على نحو المقتضي، والفارق بين هذا والأول: أن موضوع الأول إن تحقق لا يتخلّف عنه حكمه - القبيح - فإنه متى وجد الظلم فإنه قبيح، بخلاف القسم الثاني فإنه قد يتخلف عنه الحكم مع كون الموضوع باقياً على حاله، خذ في ذلك مثال الصدق، فإنه حسن لكن قد تعرضه جهة من الجهات فتجعله قبيحاً مع كونه صدقاً - كما إذا كان سبباً للضرر على الغير - وهكذا الكذب فإنه قبيح لكن قد يكون حسناً - كما إذا كان سبباً للإصلاح - مثلاً. 3- ما لا يقتضي أياً منهما بما هو هو، وإنما هو باعتبار حسن وباعتبار آخر قبيح، وهذه الأمور المذكورة في المتن من هذا القسم حيث أنها بما هي هي لا قبيحة ولا حسنة. نعم، قد تعرضه جهة القبح فقبيح أم الحسن فحسن.
2- سورة الأعراف، الآية: 32.
3- سورة المائدة، الآية: 4.

تفسير آخر

ثم إن هناك تفسيراً آخر في (المُزيِّن) لحب الشهوات فالمجموع ثلاثة أقوال:

الأول: زينه الشيطان؛ لأنه لا أحد أشد ذماً لها من خالقها.

الثاني: أنه زينه اللّه تعالى بما جعل في الطباع من المنازعة، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(1).

الثالث: أنه زين اللّه عزّ وجلّ ما يحسن منه، وزين الشيطان ما يقبح منه.

و{الشَّهَوَٰتِ}: جمع شهوة، وهي توقان النفس إلى الشيء، يقال: اشتهى يشتهي شهوة واشتهاء، وشهاه تشهية، وتشهى تشهّياً.

وخلق الشهوة من فعل اللّه تعالى لا لا يقدر عليها أحد من البشر، وهي ضرورية فينا؛ لأنه لا يمكننا دفعها عن أنفسنا.

و{الْقَنَٰطِيرِ}: جمع قنطار.

واختلفوا في القنطار، فقال معاذ بن جبل: هو ألف ومائتا أوقية. وقال ابن عباس: هو ألف ومائتا مثقال. وروي: أنه ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم. وقال قتادة: ثمانون ألفاً من الدراهم أو مائة رطل. وقال مجاهد: سبعون ألف، وقال أبو نضر: هو ملئ مسك ثور ذهباً. وقال الربيع وابن أنس: هو المال.

ومعنى المقنطرة: المضاعفة، وقيل: هي كقولك: دراهم مدرهمة، أي: مجعولة كذلك. وقال السدي: مضروبة دراهم، أو دنانير. والقنطرة: البناء المعقود للعبور، والقنطر الداهية. وأصل الباب القنطرة المعروفة. والقنطار لأنه مال عظيم كالقنطرة. والذهب والفضة معروفان.

و{الْخَيْلِ}: الأفراس سميت خيلاً؛ لاختيالها في مشيها. والاختيال: من

ص: 67


1- سورة الكهف، الآية: 7.

التخيل؛ لأنه يتخيل به صاحبه في صورة من هو أعظم منه كبراً. والخيال كالظل؛ لأنه يتخيل به صورة الشيء، وأصل الباب التخيل: التشبه بالشيء.

وقوله: {الْمُسَوَّمَةِ} ذكر في معناها أربعة أقوال: الراعية، وقيل: الحسنة، وقيل: المعلمة. وقيل: المعدة للجهاد.

و{الْحَرْثِ}: الزرع.

{ذَٰلِكَ مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ} المتاع: ما يستنفع به مدة ثم يفنى.

{وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمََٔابِ} المآب: المرجع من آب يؤوب أوباً وإياباً وأوبة ومآباً إذا رجع، وتأوب تأوباً: إذا ترجع، وأوبه تأويباً: إذا رجعه. وأصل الباب الأوب: الرجوع(1).

أو معنى قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ}: أن حب الإنسان للمشتهيات والملذات سبب لهم أن تتزين الدنيا في نفوسهم، فيطلبون اللذائذ ولو في المحرمات، ولم يذكر الفاعل؛ لأنه ليس بمقصود، وقد تقرر في علم البلاغة أن مقتضاه: أن لايذكر الفاعل أو المفعول حيث لم يكن مقصوداً.

{مِنَ النِّسَاءِ} بيان (الشهوات). {وَالْبَنِينَ} فإن حب الأولاد يسبب إطاعتهم والتحفظ عليهم ولو بذهاب الدين.

{وَالْقَنَٰطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ} القناطير جمع (قنطار) وهو ملئ مسك ثور ذهباً؛ وإنما سمي قنطاراً لأنه يكفي للحياة، فكأنه قنطرة يعبر بها مدة الحياة، والمقنطرة بمعنى المجتمعة المكدسة، كقولهم: دراهم مدرهمة ودنانير مدنرة.

{مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} فإن الإنسان بحبه للأموال يعصي اللّه في جمعه وفي عدم إعطاء حقوقه.

ص: 68


1- التبيان في تفسير القرآن 2: 411.

{وَالْخَيْلِ} عطف على النساء، والخيل: الأفراس.

{الْمُسَوَّمَةِ} المعلّمة، من سوم الخيل التي علّمها، ولا تعلم إلّا الجيد الحسن منها.

{وَالْأَنْعَٰمِ} جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم.

{وَالْحَرْثِ} أي: الزرع، فهذه كلها محببة للناس، لكن {ذَٰلِكَ} كله {مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} أي: ما يستمتع به في الدنيا ولا تنفع الآخرة إلّا إذا بذلت في سبيل اللّه - كل حسب بذله - {وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمََٔابِ} المرجع، أي: أن المرجع الحسن في الآخرة منوط باللّه سبحانه، فاللازم أن يتزهد الإنسان في الملذات ولايتناول المجرد منها رجاء ثواب اللّه ونعيمه المقيم، الذي لا زوال له ولا اضمحلال، فلا تسبب هذه المشتهيات عدول الإنسان عن الحق إلى الباطل وعن الرشاد إلى الضلال(1). ثم إن بعض الناس يتصور أن سعادة الإنسان تكمن في الماديات إذا حصلت له على وجهها التام، مثل: الصحة، والزوجة الملائمة، والمال الوفير، والجاه العريض الذي يحفظ الكرامة، وغير ذلك من الماديات كالمسكن والمركب والمأكل والمشرب. ومنشأ هذا الرأي في أذهان البعض هو رؤيته الضيقة للحياة وللمجتمع، حيث ينظر إلى السعادة من خلال نفسه وحاجته، لا من خلال الواقع الذي ينبغي أن يعيشه، وإذا كان الأمر كذلك فأين الشعور بمشاكل البشرية؟ وأين الشعور بآلام الناس؟ وقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(2)، وأين الخوف من الوقوع في الأخطاء ومن سوء العاقبة والمصير السيئ؟، وأين دور الآخرة والمعنويات في

ص: 69


1- تفسير تقريب القرآن 1: 319.
2- الكافي 2: 163.

حياته؟ نعم، إن الدنيا ليست داراً للراحة والدعة، والثبات والاستقرار حتى يمتلك الإنسان فيها السعادة الكاملة، وإنما هي دار الابتلاءات والاختبارات الإلهية(1). ولو أبصرنا في هذه الدنيا لوجدناها مليئة بالمنغصات والهموم، والمعاناة والمشاكل. فإذا أراد الإنسان أن يكون نافعاً مفيداً في هذه الدنيا، فعليه أن يتحمل - من أجل ذلك - كل الضغوط والمضايقات، وجميع المصاعب والمشكلات، فحينما يستخدم الإنسان عقله ويهتدي بنور الإيمان ويضع كل شيء في موضعه، وينّظم حياته بصورة هادفة وواعية وفق موازين الحكمة العملية، يكون العقل حينئذ هو الدليل المرشد في كل التصرفات والأعمال، ويحصل على ثمرة الاطمئنان النفسي، والسلامة الروحية من الآثام والذنوب.

اللّه بشّر أهل العقل

قال هشام بن الحكم: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام):

«يا هشام، إن اللّه تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

يا هشام، إن اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: {وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٖ وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

ص: 70


1- كما قال جلّ وعلا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} سورة هود، الآية: 7.
2- سورة الزمر، الآية: 17- 18.

لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(1).يا هشام، قد جعل اللّه ذلك دليلاً على معرفته بأن لهم مدبراً، فقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(2).

وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(3).

وقال: {وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ}(4){وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(5).

وقال: {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(6).

وقال: {وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٖ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٖ يُسْقَىٰ بِمَاءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٖ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(7).

وقال: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(8).

ص: 71


1- سورة البقرة، الآية: 163- 164.
2- سورة النحل، الآية: 12.
3- سورة غافر، الآية: 67.
4- سورة الجاثية، الآية: 5.
5- سورة البقرة، الآية: 164.
6- سورة الحديد، الآية: 17.
7- سورة الرعد، الآية: 4.
8- سورة الروم، الآية: 24.

وقال: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَابَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1).

وقال: {هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَٰكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(2).

يا هشام، ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة، فقال: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3).

يا هشام، ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْأخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(4).

وقال: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءَايَةَ بَيِّنَةً لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(5).

يا هشام، إن العقل مع العلم فقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَٰلِمُونَ}(6).

يا هشام، ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ

ص: 72


1- سورة الأنعام، الآية: 151.
2- سورة الروم، الآية: 28.
3- سورة الأنعام، الآية: 32.
4- سورة الصافات، الآية: 136- 138.
5- سورة العنكبوت، الآية: 34-35.
6- سورة العنكبوت، الآية: 43.

نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَئًْا وَلَايَهْتَدُونَ}(1).

وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمُّ بُكْمٌعُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(2).

وقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لَا يَعْقِلُونَ}(3).

وقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(4).

وقال: {لَا يُقَٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرِ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}(5).

وقال: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَٰبَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(6).

يا هشام، ثم ذم اللّه الكثرة، فقال: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(7).

وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(8).

وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا

ص: 73


1- سورة البقرة، الآية: 170.
2- سورة البقرة، الآية: 171.
3- سورة يونس، الآية: 42.
4- سورة الفرقان، الآية: 44.
5- سورة الحشر، الآية: 14.
6- سورة البقرة، الآية: 44.
7- سورة الأنعام، الآية: 116.
8- سورة لقمان، الآية: 25.

لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(1).يا هشام، ثم مدح القلة فقال: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(2).

وقال: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}(3).

وقال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَٰنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}(4).

وقال: {وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}(5).

وقال: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(6).

وقال: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(7).

وقال: وأكثرهم لا يشعرون(8).

يا هشام، ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر، وحلّاهم بأحسن الحلية، فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(9).

وقال: {وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ

ص: 74


1- سورة العنكبوت، الآية: 63.
2- سورة سبأ، الآية: 13.
3- سورة ص، الآية: 24.
4- سورة غافر، الآية: 28.
5- سورة هود، الآية: 40.
6- سورة الأنعام، الآية: 37.
7- سورة المائدة، الآية: 103.
8- مستفاد من مضمون آيات عديدة.
9- سورة البقرة، الآية: 269.

الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).

وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(4).

وقال: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

وقال: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَٰءِيلَ الْكِتَٰبَ 53 هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(7).

يا هشام، إن اللّه تعالى يقول في كتابه: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}(8) يعني عقل.

وقال: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَٰنَ الْحِكْمَةَ}(9) قال: الفهم والعقل.

ص: 75


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة آل عمران، الآية: 190.
3- سورة الرعد، الآية: 19.
4- سورة الزمر، الآية: 9.
5- سورة ص، الآية: 29.
6- سورة غافر، الآية: 53-54.
7- سورة الذاريات، الآية: 55.
8- سورة ق، الآية: 37.
9- سورة لقمان، الآية: 12.

يا هشام، إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس، وإن الكيس لدى الحق يسير، يا بني، إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكنسفينتك فيها تقوى اللّه، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل، وقيِّمها(1)

العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصبر.

يا هشام، إن لكل شيء دليلاً ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شيء مطية(2) ومطية العقل التواضع، وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه. يا هشام، ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن اللّه، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، وأما الباطنة: فالعقول.

يا هشام، إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام، من سلَّط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

يا هشام، كيف يزكو عند اللّه عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك، وأطعت هواك على غلبة عقلك.

يا هشام، الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن اللّه اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند اللّه، وكان اللّه أنسه في الوحشة، وصاحبه

ص: 76


1- القيّم: مدبر أمر السفينة.
2- المطبة: الناقة التي يركب مطاها أي ظهرها.

في الوحدة، وغناه في العيلة(1)، ومعزه من غير عشيرة.

يا هشام، نصب الحق لطاعة اللّه، ولا نجاة إلّا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد(2)، ولا علم إلّا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل.

يا هشام، قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.

يا هشام، إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا؛ فلذلك ربحت تجارتهم.

يا هشام، إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض.

يا هشام، إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها، فعلم أنها لاتنال إلّا بالمشقة، ونظر إلى الآخرة، فعلم أنها لا تنال إلّا بالمشقة فطلب بالمشقة أبقاهما.

يا هشام، إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة؛ لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام، من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرع إلى اللّه عزّ وجلّ في مسألته بأن يكمل عقله؛ فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً.

ص: 77


1- العيلة: الفقر.
2- يعتقد: أي يشد ويستحكم.

يا هشام، إن اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْهَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(1) حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها، إنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، ومن لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة، يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه، ولا يكون أحد كذلك إلّا من كان قوله لفعله مصدّقاً، وسره لعلانيته موافقاً؛ لأن اللّه تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلّا بظاهر منه وناطق عنه.

يا هشام، كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: ما عبد اللّه بشيء أفضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع اللّه من العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيراً منه وأنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر.

يا هشام، إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.

يا هشام، لا دين لمن لا مروة له، ولا مروة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً، أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلّا الجنة فلا تبيعوها بغيرها. يا هشام، إن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق. إن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: لايجلس في صدر المجلس

ص: 78


1- سورة آل عمران، الآية: 8.

إلّا رجل فيه هذه الخصال الثلاث، أو واحدة منهن، فمن لم يكن فيه شيء منهن فجلس فهو أحمق.

وقال الحسن بن علي(عليهما السلام): إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، قيل: يا ابن رسول اللّه، ومن أهلها؟ قال: الذين قص اللّه في كتابه وذكرهم، فقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1) قال: هم أولو العقول.

وقال علي بن الحسين(عليهما السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستثمار المال تمام المروءة، وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة، وكف الأذى من كمال العقل وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً.

يا هشام، إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد ما لا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه»(2).

تحرير النفس من أسر الهوى

قال الإمام الباقر(عليه السلام) لجابر بن يزيد الجعفي يوصيه: «... إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها، فمرة يقيم أودها(3)

ويخالف هواها في محبة اللّه، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه(4)

اللّه فينتعش، ويقيل اللّه عثرته فيتذكر ويفزع إلى التوبة والمخافة، فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف، وذلك بأن اللّه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم

ص: 79


1- سورة الرعد، الآية: 19.
2- الكافي 1: 13- 20.
3- الأود: العوج.
4- نعشه اللّه: رفعه وأقامه وتداركه من هلكة وسقطة.

مُّبْصِرُونَ}(1)».

إلى أن قال(عليه السلام): «واعلم، أنه لا علم كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا خوف كخوف حاجز، ولا رجاء كرجاء معين، ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كغلبة الهوى، ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستصغارك الدنيا، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك، ولا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا شرف كبعد الهمة، ولا زهد كقصر الأمل، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات، ولا عدل كالإنصاف، ولا تعدي كالجور، ولا جور كموافقة الهوى»(2).

إن تحرير النفس من قيود الشهوة وأسر الهوى يتطلب جهداً مستمراً، ومثابرة دائمة، كي يحكم الإنسان عقله فيها، ومن الواضح أن أول مرحلة في مسيرة التكامل العقلي، وبلوغ الرشد الإنساني، هي السيطرة التامة على جميع الشهوات والرغبات، وإخضاعها لمبدأ العقل وموازين الشرع، ليحرر ذاته من وثاق الشهوة، ويفكّ نفسه من عبوديتها، تلك العبودية البغيضة الحاجبة عن العبودية الحقة لله عزّ وجلّ. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «عبد الشهوة أذل من عبد الرق»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «طاعة الشهوة تفسد الدين»(4).

ولكن لا يمكن الغلبة على تلك الشهوات إلّا عبر المكافحة المستمرة، فإن العقل لا يستسيغ التطرف في الشهوة والركض وراءها؛ ولذا يحاول مكافحتها عبر الطرق المتّزنة، والأساليب المتاحة لدى الإنسان من قريب أو بعيد: عبر

ص: 80


1- سورة الأعراف، الآية: 201.
2- تحف العقول: 284.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 464.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 434.

لسانه وكلامه، وعبر جوارحه وعمله، كالصمت والسكوت، مثلاً.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كف لسانه ستر اللّه عورته، ومن ملك غضبه وقاه اللّه عذابه، ومن اعتذر إلى اللّه قَبل عذره»(1).

وقال أعرابي لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللّه، دلني على عمل أنجو به؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أطعم الجائع، واروِ العطشان، وأمُر بالمعروف، وأنهِ عن المنكر، فإن لم تطق فكف لسانك، فإنه بذلك تغلب الشيطان»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه عند لسان كل قائل فليتق اللّه أمرؤ، وليعلم ما يقول»(3). وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فأدنوا منه فإنه يلقي الحكمة»(4).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «من علامات الفقه: الحلم والعلم والصمت، وإن الصمت باب من أبواب الحكمة، إن الصمت يكسب المحبة، إنه لدليل على كل خير»(5).

وقال عيسى(عليه السلام): «العبادة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت، وجزء في الفرار من الناس»(6).

بين الصمت المطلوب والصمت المبغوض

من الواضح أن المراد من الصمت في الأحاديث الشريفة الآنفة هو: السكوت عن التحدث بالباطل، كالغيبة، والتهمة، والنميمة، أو الإنشاءات الباطلة، وهكذا

ص: 81


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 105.
2- إرشاد القلوب 1: 103.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 61.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 98.
5- الكافي 2: 113.
6- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 106.

الإخبارات الغيبية والماورائيات بدون استناد إلى جهة مقبولة، لا الصمت عن التحدث بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمورد الروايات المباركة التي تقول بالصمت هو في مورد لم يكن للتكلم وجه شرعي، أما إذا كان هناك للتكلم وجه، فالصمت غير مطلوب، بل هو بين حرام إذا كان التكلم من الواجبات كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين مكروه إذا كان التكلم مستحباً.

إذن، فالصمت المطلوب، المذكور في الروايات الشريفة الآنفة الذكر، هو واحد من هذه الأمور لمساعدة الإنسان على مكافحة الشهوات، والتفصيل في علم الأخلاق وقد ذكرناه هنا استطرداً.

وأما أن تحطيم الرغبات الشهوانية، يحصل عبر مخالفة الهوى وزمّ النفس، فهو من الحقائق الواضحة، حيث إن الإنسان إذا خالف نفسه وهواه وجعل رغباته النفسية تحت قدميه، فإنه يربح شيئاً أنفع وهو: العلاقة باللّه تعالى والقرب منه سبحانه(1)، وفي هذه الحالة يتجه نحو المعنويات العالية، ولم يعد يجعل كل همّه على الأمور المادية الدانية، ولا يجعل المعايش الدنيوية هي المقياس الوحيد له؛ وذلك لأن فكره وعقله قد اتسع، فانفتحت له الآفاق المعنوية والأجواء الروحية.

قال أمير المؤمنين (صلوات اللّه وسلامه عليه): «طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينس ذكر اللّه بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطي غيره»(2).

ص: 82


1- لأن اللّه سبحانه وتعالى يحب العبد الزاهد في الدنيا والذي يخالف هواه.
2- الكافي 2: 16.

القنوت بدعاء أبي حمزة

نُقل عن أحد طلبة العلوم الدينية الذين درسوا في حوزة إصفهان - بعد أن قصدها من إحدى القرى المحيطة بأطراف المدينة - أنه قال: كنت أصلي في شهر رمضان في أحد مساجد البلد، وكان إمام المسجد من رجال الدين الطاعنين في السن، وحين ما كان يصل إلى قنوت الصلاة كان يقرأ دعاء أبي حمزة الثمالي بأكمله، وكان يستغرق قنوته أكثر من ساعة، وكان المصلون يتابعونه دون ملل.

إن هذه الحالة المعنوية التي أوجدها هذا العالم الفقيه في هذا الجمع الغفير رغم تقدم سنه وشيخوخته، تعكس لنا حالة الإخلاص لله التي كان يعيشها هذا المؤمن، ومدى تسلّطه على نفسه وهواه، والخلاص من سيطرة أية شهوة أو رغبة دنيوية، فهو لم يتماهل عن عبادته ولم يُضيعها رغم شيخوخته، بل عمل على نقل حالته هذه إلى المأمومين أيضاً.

القرآن الكريم والقنوت به

يُنقل عن أحد الولاة واسمه: عبد اللطيف باشا، أنه حين ما كان يأتي لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) وبعد أن ينتهي من قراءة الزيارة يقف باتجاه القبلة ويرفع يديه بهيئة القنوت ويقرأ القرآن وهو بتلك الحال لمدة ثماني ساعات متواصلة حتى يختمه كاملاً وبالجملة.

ومن المعلوم: أن هذا العمل ليس بالأمر الهين، بل يحتاج إلى قوة في العزيمة، ودافع نفسي كبير، كما ويحتاج أيضاً إلى الرشد والتعقل، لئلا يخضع إلى حب الدعة والراحة، ولئلا يستسلم إلى إلحاح الشهوة، أو الخلود إلى اللّهو واللعب، أو الركون إلى النعاس والنوم، لتحول هذه الأمور بينه وبين الوصول إلى عبادة اللّه سبحانه وتعالى، التي تشكل أسمى مراتب السمو الإنساني.

ص: 83

موسوعتان عظيمتان

إن من له نوع إلمام بالفقه، إذا راجع كتاب: (مفتاح الكرامة)(1)، وكتاب: (جواهر الكلام)(2) أيقن ببذل الجهد الجهيد من جانب مؤلفي الكتابين، أقر لهما بشدة تعبهما ونصبهما في ذلك ومخالفتهما لهوى النفس.

نعم، إن صاحب كتاب (مفتاح الكرامة) لم يوفق لكتابة هذا الكتاب القيّم إلّا بعد شدة الارتباط باللّه عزّ وجلّ ومخالفة النفس، وقد تم تأليف الكتاب قبل ما يزيد على (180عاماً تقريباً)، وهو كتاب فقهي دقيق وعميق - وقد بذل مؤلفه كل ما لديه من طاقة من أجل إخراجه إلى حيّز الوجود، وذلك رغم قلة وسائل الكتابة والتأليف في ذلك الزمان، ورغم مصاعب الحياة ومتاعبها حين ذاك.

وكذلك تلميذه صاحب كتاب (جواهر الكلام) الذي يقع كتابه في (43 مجلداً) فإنه قضى ثلاثين عاماً في تأليفه، متخطياً كل الصعوبات التي اعترضته في هذا المسار.

وهذا النضج في التفكير، والعمل الدائب، والجهاد المستمر في العمل، ومخالفة الهوى وشدة الارتباط باللّه، كان السبب لأن يخلد هؤلاء أعلاماً في دنيا المعرفة والعلم طوال هذين القرنين من الزمن.

بين اللذتين: المادية والمعنوية

وهنا لا بأس بأن نوضح الفرق بين اللذتين: اللذة المادية واللذة المعنوية، ليظهر الفرق بينهما جلياً وواضحاً.

ص: 84


1- كتاب (مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة) للسيد محمد جواد بن محمد الحسيني العاملي، ولد عام (1164ه) في قرية شقراء من قرى جبل عامل في لبنان، وتوفي بالنجف، أواخر سنة (1226ه).
2- كتاب (جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام)، للشيخ محمد حسن بن الشيخ باقر بن الشيخ عبد الرحيم بن محمد الصغير بن عبد الرحيم، المشهور بصاحب الجواهر، ولد عام (1202ه).

أما المادية: فتظهر على الإنسان عند ما كان صبياً في أول حركته وتمييزه، فإنه تظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب، حتى يكون عنده كثيراً ما ألذ من سائر الأشياء، ثم يظهر فيه بعد ذلك استلذاذ اللّهو ولبس الثياب الملونة وركوب الدواب، ثم تظهر فيه بعد ذلك لذة التجمل وحب النساء، وحب المنزل والخدم، فيحقّر ما سواها، ثم تظهر بعد ذلك فيه لذة الجاه والرياسة، والتكاثر بالمال والثروة، والتفاخر بالأعوان والأتباع، والأولاد والأحفاد، وهذه آخر لذات الدنيا، وإلى هذه المراتب أشار سبحانه وتعالى بقوله عزّ من قائل: {أَنَّمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ}(1). هذه هي اللذة المادية التي تنتهي بانتهاء الإنسان، بل تنتهي بانتهائها هي.

وأما اللذة المعنوية: وهي التي تظهر في البعض من الناس دون جميعهم، هي لذة المعرفة باللّه تعالى، والقرب منه، والمحبة له، والقيام بوظائف عبادته وترويح الروح بمناجاته، ولذة العمل بكتابه، والعمل بأحكامه، واتباع سيرة نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وانتهاج منهج أوليائه، ومودّة أهل بيت نبيه (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) وهذه هي اللذة الباقية، التي لا تنتهي بانتهاء الإنسان، ولا تزول بزواله، بل تبقى لبقاء مبدئها ومنشئها. فيستحقر معها الإنسان جميع اللذات السابقة.

ولذا سيبقى هؤلاء الذين وجدوا اللذة والسعادة الحقيقية في المعرفة والطاعة وبذل الوسع في سبيل الدين والإنسانية متمسكين بما هم عليه؛ إذ هم قد عرفوا زوال اللذائذ الدنيوية وزيفها، وعلموا فناءها وتبعاتها، فزهدوا في جميع تلك الملذات الفانية والزائلة من أجل الآخرة ولذائذها الباقية والدائمة، حتى أصبحوا مشاعل هدى، وذخائر علوم ربانية، وسفن نجاة في هذه الحياة الدنيا، فضلاً عن الأجر الأخروي الذي لا يُعَد ولا يُحصَى والذي سينالوه في الآخرة، إن شاء اللّه تعالى.

ص: 85


1- سورة الحديد، الآية: 20.

وهذه اللذة هي لذة عقلية أيضاً، وهي أسمى وألذ بكثير من اللذة الجسمية أو الوهمية، التي سبقت الإشارة إليها في الكلام حول اللذات المادية.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا بلغت باب المسجد فاعلم أنك قد قصدت باب بيت ملك عظيم لا يطأ بساطه إلّا المطهرون، ولا يؤذن بمجالسته مجلسه إلّا الصديقون، وهب القدوم إلى بساطه خدمة الملك فإنك على خطر عظيم، إن غفلت هيبة الملك واعلم أنه قادرٌ على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك، فإن عطف عليك برحمته وفضله قَبِلَ منك يسير الطاعة وآجرك عليها ثواباً كثيراً، وإن طالبك باستحقاقه الصدق والإخلاص عدلاً بك حجبك وردّ طاعتك وإن كثرت، وهو فعال لما يريد. واعترف بعجزك وتقصيرك وفقرك بين يديه، فإنك قد توجهت للعبادة والمؤانسة، واعرض أسرارك عليه، ولتعلم أنه لا تخفى عليه أسرار الخلائق أجمعين وعلانيتهم، وكن كأفقر عباده بين يديه، وأخل قلبك عن كل شاغل يحجبك عن ربك؛ فإنه لا يقبل إلّا الأطهر والأخلص، وانظر من أي ديوان يخرج اسمك، فإن ذقت من حلاوة مناجاته ولذيذ مخاطباته وشربت بكأس رحمته وكراماته من حسن إقباله عليك وإجابته فقد صلحت لخدمته، فادخل، فلك الأمن والأمان، وإلّا فقف وقوف مضطر من انقطع عنه الحيل وقصر عنه الأمل وقضى عليه الأجل، فإذا علم اللّه عزّ وجلّ من قلبك صدق الالتجاء إليه نظر إليك بعين الرحمة الرأفة والعطف، ووفقك لما يحب ويرضى، فإنه كريمٌ يحب الكرامة لعباده المضطرين إليه، المحترقين على بابه لطلب مرضاته، قال اللّه عزّ وجلّ:

{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}»(1)(2).

ص: 86


1- سورة النمل، الآية: 62.
2- بحار الأنوار 80: 373.

مع المؤلف الكبير: الشيخ البلاغي

كان المرحوم: الشيخ البلاغي(رحمه اللّه)(1) من كبار العلماء في العراق، ومن الذين قاموا بجهاد أنفسهم في سبيل اللّه عزّ وجلّ، وقد ألّف كتباً مهمة في شؤون العقيدة وأصول الدين، وقدّم خدمات جليلة للإسلام والمسلمين، وعانى من أجل ذلك الكثير الكثير.

فلقد كان أثناء إقامته في مدينة سامراء، التي كان يواصل درسه فيها، يحاول تعلّم لغة التوراة - العبرية - ليكشف تحريف اليهود لها، فكان يدفع نصف راتبه الشهري - وكان بمجموعه راتباً ضئيلاً لايكاد يكفي لمأكله وملبسه - إلى يهودي كان يسكن هناك لكي يتعلم منه اللغة العبرية، حتى استطاع بعد ذلك أن يستخرج التوراة - حسب طبعتها العبرية - ويطابقها مع التوراة العربية، فاكتشف كثيراً من التحريف.

يقول المرحوم السيد حسن القزويني(رحمه اللّه): ذهبت إلى منزل الشيخ البلاغي(رحمه اللّه) في النجف الأشرف، فوجدته جالساً في حجرته منشغلاً بالكتابة، وكان ذلك في أشد أيام الصيف حرارة، وكانت حجرته حارة جداً بحيث لا يطاق الجلوس فيها، ثم إني التفت إليه وإذا بمنديل له وعليه بقع من الدم؟! وبعد الاستفسار عن ذلك عرفت أن الشيخ البلاغي(رحمه اللّه) يعاني من التهاب شديد في صدره، وإنه جاءته نوبة من السعال نفث الدم من صدره، لكن الشيخ رغم هذا المرض ومعاناته الكبيرة وآلامه الشديدة كان يواصل تحقيقاته وتأليفاته القيمة.

وذكر أيضاً: إن الشيخ البلاغي(رحمه اللّه) كان يعيش حالة من الفقر وضيق العيش، ومع هذا لم تثنه كل هذه المشاكل عن إنجاز كتبه القيمة. وذكر أنه لما توّفي

ص: 87


1- هو الشيخ محمد جواد بن الشيخ حسن طالب البلاغي النجفي الربعي (نسبة إلى ربيعة القبيلة المشهورة) (1282-1352ه).

الشيخ البلاغي(رحمه اللّه) وانتشر خبر وفاته قامت الكنائس في بغداد وأوروبا بقرع نواقيسها فرحاً بموته؛ لأن ذلك اليوم كان يُعدّ عندهم يوم ارتياحهم من شخص استطاع في أثناء حياته أن يكشف التزوير والتدليس الذي ادخلوه على تعاليم الدين المسيحي، وأن يرد وبموضوعية علمية كبيرة على كتبهم المضللة المزورة التي ينسبونها إلى الدين المسيحي واليهودي.

ولم يكن الشيخ(رحمه اللّه) وباقي العلماء من الشخصيات الكبيرة التي سجلها التاريخ يستطيعون من إنجازات هذه المشاريع لولا أن بذلوا أغلى ما عندهم، ولولا أن طلقوا الدنيا وما فيها من نعيم زائل لا يدوم، ولولا أن جاهدوا أنفسهم وخالفوا هواها ومشتهياتها، وذلك من أجل مهمة هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الحق رضاً لله عزّ وجلّ.

ومن الواضح: أن هذه الأمور إنما تتحقق لكل من ارتضاه اللّه عزّ وجلّ، ولا يرتضي اللّه إلّا من أوقف نفسه للدين، وهداية الناس أجمعين، وفي هذا جاء عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الناس في الدنيا ضيف وما في أيديهم عارية، وإن الضيف راحل وإن العارية مردودة، ألا وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل قاهر، فرحم اللّه من نظر لنفسه ومهّد لرمسه وحبله على عاتقه ملقى، قبل أن ينفذ أجله، وينقطع أمله، ولا ينفع الندم»(1).

من أسباب قوة غاندي

ثم إن مخالفة النفس وهواها توجب قوة الإنسان، مهما كان اتجاهه ومعتقداته. لقد بنى غاندي حياته - حسب ما قيل عنه - على نمط خاص، فلم يكن يأكل اللحم إطلاقاً، بل كان يكتفي دائماً بالفاكهة بل ببعض أنواعها فقط، ولا يرغب

ص: 88


1- إرشاد القلوب 1: 23.

في تناول الأغذية الحلوة والمالحة، وكان يعتقد أن هذه الأكلات هي حاجات نفسية يلزم الابتعاد عنها؛ فهو كان يرى أن الأكل ضرورة لحياة الجسم لا لإشباع رغبة في الأكل.

وفي الحقيقة أن هذه الفكرة، وهذا النحو من العمل الصعب لايحصل لأحد إلّا إذا جاهد نفسه، وتأمل بدقة، وتفكر بعمق، وكان هذا من أسباب قوة غاندي حيث كان يخالف هوى نفسه.

الإنسان والمعرفة

اشارة

قال عزّ من قائل: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَٰزِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعْلُومٖ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٖ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَٰحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ}(2).

لم تقم السماوات سُدى وعبثاً، ولا على إفراط وتفريط، كما لم يتحقق أيّ فعل من أفعال اللّه دون قانون إلهي دقيق حكيم.

والإنسان لا يستطيع أن يصل إلى هدفه وإلى حل مشكلاته دون تحرك عملي منتظم، وجهود منتظمة مبذولة في ذلك الطريق.

وأهم ما يجب على الإنسان السعي من أجل تحققه والتعمق فيه للتغلب على هوى نفسه: هو معرفة اللّه عزّ وجلّ، حيث إنه إذا لم يتعمق الإنسان في معرفة اللّه فلا يمكنه أن يزداد خوفاً منه ولايمكنه التغلب على نفسه، وعندئذ لا يكون

ص: 89


1- سورة الحجر، الآية: 19- 21.
2- سورة القمر، الآية: 49- 50.

بمقدوره إنجاز أفضل الأعمال كما ورد ذلك في الروايات.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عرف نفسه فقد عرف ربه، ثم عليك من العلم بما لا يصح العمل إلّا به وهو الإخلاص»(1).

ومن طرق معرفة اللّه: التأمل في مخلوقاته حيث تتجلى عظمته سبحانه حتى في أصغر وأدق شيء منها، فمثلاً:

إن في ذرة اليورانيوم الواحدة هناك جزيئة يدور حولها (86 قمراً) وبسرعة (3 ملايين) دورة في الثانية، على ما نقل عن علماء الذرة في ذلك. أليس هذا الأمر عجيباً بل أعجب من العجيب؟!

لذا فإن المعرفة باللّه عزّ وجلّ تقربنا من اللّه سبحانه وتعالى خالق الكون، ومدبر الأمور كلها. فالتأمل في مخلوقات اللّه هي إحدى طرق العمل لتحصيل القدرة على إنجاز أفضل الأعمال ومخالفة الهوى. وعليه: فلا بدّ أن نعمل لنشر هذه الثقافة في الأوساط وبين الناس جميعاً: معرفة اللّه عزّ وجلّ، ويتبعها معرفة دينه ومعرفة رسله ومعرفة أوصيائهم(عليهم السلام).

الفكر والتفكر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا عبادة كالتفكر في صنعة اللّه عزّ وجلّ»(2).

وقال(عليه السلام): «لا علم كالتفكر»(3).

وقال(عليه السلام) لابنه الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): «أي بني، إني وإن لم أكن عُمِّرتُ عُمُرَ من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في

ص: 90


1- بحار الأنوار: ج2 ص32 ب9 ح22.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 146.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 113.

آثارهم،حتى عُدْتُ كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عُمِّرتُ مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله(1)، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله...»(2).

هذا وقد ثبت لدى العلماء، المسلمين وغير المسلمين، أن للفكر دوراً كبيراً في بناء شخصية الإنسان، وتهذيبها بالمواعظ، وإلزامها بالفضائل، فإن التفكر الصحيح يؤدي إلى جهاد النفس ومخالفة الهوى وهو من أسرار تكون شخصية العظماء في التاريخ.

فمن الشخصيات القوية التي بناها الفكر والتفكير في تاريخ الإسلام هي شخصية أبي ذر (رضوان اللّه عليه)، وقد قال عنه الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أكثر عبادة أبي ذر رحمة اللّه عليه خصلتين: التفكر والاعتبار»(3).

ومن هنا نرى شدة التزام أبي ذر(رحمه اللّه) بقيمه ومبادئه ومخالفته لهوى نفسه، حتى أنه لم يخضع للسلاطين وردّ منحهم فعاش وحيداً غريباً، ومات وحيداً غريباً، ولكنه فاز برضا اللّه عزّ وجلّ.

من عجائب صنع اللّه

قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ}(4).

يقول المختصون: إن في الأُذن أعصاباً بعدد كل الحروف المنطوقة، وإن الإنسان إنما يدرك الكلمة بواسطة تلك الأعصاب، وإذا حدث أن اختل واحد من

ص: 91


1- النخيل: المختار المصفى.
2- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
3- الخصال 1: 42.
4- سورة التين، الآية: 4.

تلك الأعصاب فإن الإنسان لا يسمع ذلك الحرف، كما ذكروا أيضاً أن هناك (24) مليون لون في الطبيعة وقد عرضوا (300) ألف لون من هذه الألوان في معرض أقاموه في إحدى الدول الغربية.

وقالوا أيضاً: إن في العين أعصاباً هي بعدد الألوان في المحيط الخارجي، وأن كل عصب من تلك الأعصاب يختص بلون معين، ولو حدث أن عصباً من تلك الأعصاب أصابه خلل فإن العين لاترى ذلك اللون الذي هو من اختصاص ذلك العصب، وهذا جزء من عظمة اللّه عزّ وجلّ في مخلوقاته، وفي القرآن الحكيم: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا}(1).

فعلى الإنسان أن يضع شهواته وميوله النفسية جانباً، ويعمل بكل جُهد وجد لنيل الكمال الإنساني، وبلوغ السعادة الأبدية، حتى يعمر بذلك دنياه وآخرته.

العقل والتعقل

نعم، على الإنسان أن يرقى بروحه، ويعرج بعقله، ويجعل شهواته وميوله النفسية تحت قدميه، وهذا أمر صعب جداً، ولا يتم إلّا بالتعقل والتفكر في كل صغيرة وكبيرة، لأن النجاة من تعلقات هذه الدنيا الدنيئة لا يتم إلّا به.

فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن اللّه تبارك وتعالى خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علمه، الذي لم يطلع عليه نبي مرسل ولا ملك مقرب، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزهد رأسه، والحياء عينيه، والحكمة لسانه، والرأفة فمه، والرحمة قلبه، ثم حشّاه وقوّاه بعشرة أشياء: باليقين والإيمان والصدق والسكينة والإخلاص والرفق والعطية والقنوع والتسليم والشكر، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: تكلم،

ص: 92


1- سورة آل عمران، الآية: 191.

فقال:الحمد لله الذي ليس له ند ولا شبه، ولا شبيه ولا كفو، ولا عديل ولا مثل ولا مثال، الذي كل شيء لعظمته خاضع ذليل، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك، ولا أطوع لي منك، ولا أرفع منك، ولا أشرف منك، ولا أعز منك، بك أوحَّدُ، وبك أُعبدُ، وبك أُدعى، وبك أُرتجى، وبك أُبتغى، وبك أُخاف، وبك أُحذر، وبك الثواب، وبك العقاب، فخرّ العقل عند ذلك ساجداً وكان في سجوده ألف عام، فقال الرب تبارك وتعالى بعد ذلك: ارفع رأسك، وسَل تُعط، واشفع تشفَّع، فرفع العقل رأسه فقال: إلهي أسألك أن تشفعني فيمن خلقتني فيه، فقال اللّه جلّ جلاله لملائكته: اُشهدكم أني قد شفّعته فيمن خلقته فيه»(1).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «إذا رأيتم الرجل كثير الصلاة كثير الصيام فلا تباهوا به حتى تنظروا كيف عقله»(2).

وجاء في قوله تعالى: {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(3) يعني من كان عاقلاً(4).

ومن وصايا لقمان(عليه السلام) لابنه، أنه قال: «تواضع للحق تكن أعقل الناس، وإن الكيّس لدى الحق يسير. يا بني، إن الدنيا بحر عميق، قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصبر»(5).

ص: 93


1- معاني الأخبار: 313.
2- الكافي 1: 26.
3- سورة يس، الآية: 70.
4- انظر: مجمع البيان 8: 288. سورة يس، والتبيان في تفسير القرآن: ج8 ص474 سورة يس.
5- الكافي 1: 16.

ولقد أحسن من قال:

إذا لم يكن للمرء عقل يزينه *** ولم يك ذا رأي سديد ولا أدب

فما هو إلّا ذو قوائم أربع *** وإن كان ذا مال كثير وذا حسب(1)

«ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد اللّه فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا»(2).

من هدى القرآن الحكيم

الطريق إلى معرفة اللّه

قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِي الْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَفِي الْأَرْضِ ءَايَٰتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(5).

الإخلاص للّه تعالى

قال عزّ وجلّ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(6).

وقال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(7).

ص: 94


1- إرشاد القلوب 1: 198.
2- مصباح المتهجد 2: 662.
3- سورة فصلت، الآية: 53.
4- سورة الذاريات، الآية: 20- 21.
5- سورة الشمس، الآية: 7- 10.
6- سورة مريم، الآية: 51.
7- سورة ص، الآية: 82-83.

وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}(1).وقال جلّ وعلا: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(2).

هكذا عباد اللّه

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(3).

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(4).

وقال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(6).

العدل والاعتدال

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}(7).

ص: 95


1- سورة الزمر، الآية: 11.
2- سورة البقرة، الآية: 112.
3- سورة المائدة، الآية: 54.
4- سورة الأنفال، الآية: 2- 4.
5- سورة الفرقان، الآية: 63.
6- سورة الشعراء، الآية: 215.
7- سورة النحل، الآية: 90.

وقال تعالى: {فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَاأَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَٰبٖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ}(2).

الذكرى تفيد المتعقلين

قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}(3).

وقال سبحانه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(5).

من هدى السنة المطهرة

النفس من طرق معرفة اللّه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عرف نفسه فقد عرف ربه»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس»(7).

ودخل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل اسمه مجاشع فقال: يا رسول اللّه، كيف

ص: 96


1- سورة الشورى، الآية: 15.
2- سورة المائدة، الآية: 8.
3- سورة ق، الآية: 37.
4- سورة الرعد، الآية: 19.
5- سورة الزمر، الآية: 21.
6- متشابه القرآن ومختلفه 1: 44.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 720.

الطريق إلى معرفة الحق؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «معرفة النفس».فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى موافقة الحق؟

قال:«مخالفة النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى رضا الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سخط النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى وصل الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هجر النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى طاعة الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عصيان النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى ذكر الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نسيان النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى قرب الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «التباعد من النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى أنس الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الوحشة من النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى ذلك؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الاستعانة بالحق على النفس»(1).

الإخلاص للّه سبحانه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قال اللّه تعالى: لا أطلع على قلب عبد فأعلم فيه حب

ص: 97


1- بحار الأنوار 67: 72.

الإخلاص لطاعتي لوجهي، وابتغاء مرضاتي، إلّا توليت تقويمه وسياسته، ومناشتغل بغيري فهو من المستهزئين بنفسه، ومكتوب اسمه في ديوان الخاسرين»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأخلص لله عملك وعلمك وحبك وبغضك وأخذك وتركك وكلامك وصمتك»(2).

وقال(عليه السلام): «صفتان لا يقبل اللّه سبحانه الأعمال إلّا بها: التقى والإخلاص»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن لله عباداً عاملوه بخالص من سرّه، فعاملهم بخالص من بره، فهم الذين تمر صحفهم يوم القيامة فرغاً،وإذا وقفوا بين يديه تعالى ملأها من سرّ ما أسرّوا إليه...»(4).

التواضع يسّبب الرفعة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تواضع لله رفعه اللّه»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنك إن تواضعت رفعك اللّه»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبر وضعاه»(7).

وقال(عليه السلام): «التواضع أصل كل خير نفيس ومرتبة رفيعة، ولو كان للتواضع لغة

ص: 98


1- رسائل الشهيد الثاني: 133.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 141.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 423.
4- عدة الداعي: 207.
5- الكافي 2: 122.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 266.
7- الزهد: 62.

يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب، والتواضع ما يكون في اللّه ولله، وما سواه مكر، ومن تواضع لله شرفه اللّه على كثير من عباده، ولأهل التواضعسيماء يعرفها أهل السماء من الملائكة وأهل الأرض من العارفين، قال اللّه عزّ وجلّ: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَىٰهُمْ}(1) وأصل التواضع من جلال اللّه وهيبته وعظمته، وليس لله عزّ وجلّ عبادة يقبلها ويرضاها إلّا وبابها التواضع، ولا يعرف ما في معنى حقيقة التواضع إلّا المقربون المستقلين بوحدانيته، قال اللّه عزّ وجلّ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(2) وقد أمر اللّه عزّ وجلّ أعز خلقه وسيد بريته محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالتواضع؛ فقال عزّ وجلّ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(3) والتواضع مزرعة الخشوع والخضوع والخشية والحياء، وإنهن لا يأتين إلّا منها وفيها، ولا يسلم الشرف التام الحقيقي إلا للمتواضع في ذات اللّه تعالى»(4).

العدل: ميزان اللّه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحب الناس يوم القيامة وأقربهم من اللّه مجلساً إمام عادل، إن أبغض الناس إلى اللّه وأشدهم عذاباً إمام جائر»(5).

وقال أمير المؤمنين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن العدل ميزان اللّه سبحانه الذي وضعه في الخلق ونصبه لإقامة الحق، فلا تخالفه في ميزانه ولاتعارضه في سلطانه»(6).

ص: 99


1- سورة الأعراف، الآية: 46.
2- سورة الفرقان، الآية: 63.
3- سورة الشعراء، الآية: 215.
4- بحار الأنوار 72: 121.
5- روضة الواعظين 2: 466.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 224.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ثلاثة هم أقرب الخلق إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه إلى أن يحيف علىمن تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة، ورجل قال بالحق فيما له وعليه»(1).

التعقّل والتواصي به

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل، تعرفوا به ما أُمرتم به ونهيتم عنه، وأعلموا أنه مجدكم عند ربكم، وأعلموا أن العاقل من أطاع اللّه...»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جواب شمعون بن لاوي بن يهودا من حواري عيسى(عليه السلام) حيث قال: أخبرني عن العقل ما هو، وكيف هو، وما يتشعب منه وما لا يتشعب، وصف لي طوائفه كلها؟ فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن العقل عقال من الجهل، والنفس مثل أخبث الدواب، فإن لم تُعقل حارت فالعقل عقال من الجهل، وإن اللّه خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل، وقال له: أدبر فأدبر، فقال اللّه تبارك وتعالى: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أعظم منك، ولا أطوع منك، بك أبدأ وبك أعيد، لك الثواب وعليك العقاب»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل يهدي وينجي والجهل يغوي ويردي»(4).

ص: 100


1- الكافي 2: 145.
2- المحجة البيضاء 1: 170.
3- تحف العقول: 15.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 124.

الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش

قانون الاكتفاء والبساطة

اشارة

من أهم أسباب التقدم في الأمم وكذلك الأفراد: الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش، وهذا يوجب سعادة الدارين، ولاتختص السعادة المترتبة عليه بالأمور الدنيوية فحسب.

قال الباري تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

وهذه الآية المباركة تدل على أنه لا فرق في عطاء قانون الاكتفاء وقانون البساطة، بين المسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، فمن أخذ بهذين القانونين تقدم في الحياة، ومن تركهما تأخر.

العمل طريق الاكتفاء

إن الاكتفاء الذاتي بحاجة إلى العمل المستمر، والقضاء على البطالة، وترك الكسل والضجر واليأس.

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «أن رجلاً أتى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليسأله، فسمعه وهو(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه. فانصرف ولم يسأله، ثم عاد إليه

ص: 101


1- سورة الإسراء، الآية: 19-20.

فسمع مثل مقالته فلم يسأله، حتى فعل ذلك ثلاثاً. فلما كان في اليوم الثالث مضى واستعارفأساً وصعد الجبل، فاحتطب وحمله إلى السوق فباعه بنصف صاع من شعير فأكله هو وعياله، ثم أدام على ذلك حتى جمع ما اشترى به فأساً، ثم اشترى بكرين وغلاماً وأيسر. فصار إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أليس قد قلنا: من سأل أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه»(1).

وجاء في فقه الرضا(عليه السلام): «وأروي عن العالم(عليه السلام)(2) أنه قال: وقوا دينكم بالاستغناء باللّه عن طلب الحوائج، واعلموا أنه من خضع لصاحب سلطان جائر أو لمخالف، طلباً لما في يديه من دنياه، أهمله اللّه ومقت عليه ووكله إليه، فإن هو غلب على شي ء من دنياه نزع اللّه منه البركة، ولم ينفعه بشي ء في حجته، ولغيره من أفعال البر»(3).

البساطة في العيش

البساطة في العيش توجب أن يركز الإنسان في حياته على الضروريات بعيداً عن الكماليات، وهي من أهم أسباب التقدم. أما إذا اشتغل الإنسان بالكماليات والمسائل الرفاهية وما أشبه، فإنه سيبتعد شيئاً فشيئاً عن الضروريات والأمور المهمة، وكثيراً ما يقع في الحرام ويرتكب الموبقات.

روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «إن وَلِيَّ علي(عليه السلام) لايأكل إلّا الحلال؛ لأن صاحبه(عليه السلام) كان كذلك، وإن وليَّ عثمان لا يبالي أحلالاً أكل أو حراماً؛ لأن صاحبه كذلك». قال: ثم عاد إلى ذكر علي(عليه السلام) فقال: «أما والذي ذهب بنفسه، ما أكل(عليه السلام)

ص: 102


1- بحار الأنوار 72: 108.
2- أي: عن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام).
3- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 367.

من الدنيا حراماً قليلاً ولا كثيراً حتى فارقها، ولا عرض له أمران كلاهما لله طاعة إلّا أخذبأشدّهما على بدنه، ولا نزلت برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شديدة قط إلّا وجّهه(عليه السلام) فيها ثقةً به، ولا أطاق أحد من هذه الأمة عمل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعده غيره(عليه السلام)، ولقد كان(عليه السلام) يعمل عمل رجل كأنه ينظر إلى الجنة والنار، ولقد أعتق ألف مملوك من صلب ماله، كل ذلك تحفّى(1) فيه يداه وتعرق جبينه التماس وجه اللّه عزّ وجلّ والخلاص من النار، وما كان قوته(عليه السلام) إلّا الخل والزيت، وحلواه التمر إذا وجده، وملبوسه الكرابيس(2)، فإذا فضل عن ثيابه شيء دعا بالجَلَم(3) فجزه»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان علي(عليه السلام) أشبه الناس طعمة وسيرة برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكان يأكل الخبز والزيت ويطعم الناس الخبز واللحم - قال: - وكان علي(عليه السلام) يستقي ويحتطب، وكانت فاطمة(عليها السلام) تطحن وتعجن وتخبز وترقع، وكانت من أحسن الناس وجهاً كأن وجنتيها وردتان، صلى اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها ووُلدها الطاهرين»(5).

وهذه الروايات كلها تدل على البساطة في العيش وهي من مقومات الاكتفاء الذاتي.

من سمات النجاح

إذن هناك سمات للإنسان الناجح، والمجتمع المتقدم في الحياة، وهي أمور

ص: 103


1- حفى من كثرة المشي حتى رقّت قدمه من باب تعب، وتحفّى في الشيء: اجتهد.
2- الكرابيس: جمع كرباس، الثوب الخشن.
3- جَلَمَ الشيءَ يَجْلِمُه جَلْماً: قطعه. والجَلَمانِ: المِقْراضانِ، واحدهما جَلَمٌ للذي يُجَزُّ به. لسان العرب 12: 102. مادة (جلم).
4- الكافي 8: 163.
5- الكافي 8: 165.

عدة، من أهمها أمران:الأول: الاكتفاء الذاتي، وذلك بأن يسد احتياجاته الصغيرة والكبيرة - مهما أمكن - بنفسه، ولا يتوقع أو ينتظر من الغير إسداء العون إليه.

الثاني: أن تكون حياته قائمة على البساطة والزهد، بلا تكلف ولااهتمام بالكماليات والمسائل الرفاهية المختلفة والشكليات المعقدة، التي تهدر أوقاته وأمواله وعمره بالأمور التافهة مما يؤثر سلباً على الأصول المهمة في العيش، وذلك إقتداءً وأسوة بالأنبياء والأئمة والصالحين(عليهم السلام) حيث اتخذوا الزهد في الدنيا وما فيها.

مقومات الاكتفاء

ويرد هنا سؤال هو: كيف يمكن أن نقوي فينا واقع الاكتفاء الذاتي؟

وماذا يجب أن نعمل كي نكتفي ذاتياً؟

وفي الجواب نقول:

هناك مقدمتان أساسيتان تشكلان مبدأ الاكتفاء الذاتي في كل إنسان وكل مجتمع وكل أمة:

الأولى: ثقافة الاكتفاء، أي الفكر والتوعية التي تبين لنا أهمية الاكتفاء وضرورته في سبيل تقدم الفرد والأمة.

والثانية: التخطيط العملي للاكتفاء وم ثم تطبيق تلك البرامج والأفكار في الحياة اليومية والواقع المعاش، وهذه المقدمة الثانية أصعب من الأولى.

خير أسوة

إن أفضل أسوة وأحسن مصداق عملي للبساطة والزهد في العيش نجده في حياة الإمام أمير المؤمنين علي وفاطمة الزهراء(عليهما السلام)؛ حيث جعلا فراشهما جلد شاة بدلاً من الفراش والرياش، واستعملا الأواني الخزفية التي كان يستخدمها

ص: 104

أبسط الناس حينذاك، بدلاً من القوارير الفضية، وكانا يستعملان التراب في الغسل والتنظيف، حتى في غسل الأطفال وتنظيفهم.

قال الإمام الصادق(عليه السلام):«إن علياً(عليه السلام) تزوج فاطمة(عليها السلام) على جرد بردٍ(1)، ودرع، وفراش كان من إهاب(2) كبش»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «لما تزوج علي فاطمة(عليهما السلام) بسط البيت كثيباً(4)، وكان فراشهما إهاب كبش، ومرفقهما محشوة ليفاً، ونصبوا عوداً يوضع عليه السقاء فستره بكساء»(5).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «أدخل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة على علي(عليه السلام) وسترها عباءٌ، وفرشها إهاب كبش، ووسادتها أدم محشوة بمسد»(6)(7).

وعنه(عليه السلام) قال: «إن فراش علي وفاطمة(عليهما السلام) كان سلخ كبش يقلبه فينام على صوفه»(8).

وعن جهاز أمير المؤمنين والصديقة الزهراء(عليهما السلام) يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «وسكب الدراهم في حجره، فأعطى منها قبضة كانت ثلاثة وستين أو ستة وستين إلى أم أيمن لمتاع البيت، وقبضة إلى أسماء بنت عميس للطيب، وقبضة إلى أم

ص: 105


1- البَرد: الخَلَق من الثياب، والبُرد: نوعٌ من الثياب معروف، ثوبُ فيه خطوط، والجمع أبراد وأبرد برود.
2- الإهاب: الجلد ما لم يدبَّغ.
3- الكافي 5: 377.
4- الكثيب: الرمل.
5- مكارم الأخلاق: 131.
6- الأدم: الجلد المدبوغ، المسد: الليف.
7- مكارم الأخلاق: 131.
8- مكارم الأخلاق: 131.

سلمة للطعام، وأنفذ عماراً وأبا بكر وبلالاً لابتياع ما يصلحها، وكان مما اشتروهقميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبرية، وسرير مزمل بشريط(1)، وفراشان من خيش(2) مصر حشو أحدهما ليف، وحشو الآخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها إذخر(3)، وستراً من صوف، وحصير هجري، ورحاء اليد، وسقاء من أدم، ومِخْضَبٌ(4) من نحاس، وقعب للَّبن، وشن للماء، ومطهرة مزفتة، وجرة خضراء، وكيزان(5) خزف - وفي رواية - ونطع من أدم، وعباء قطواني، وقربة ماء»(6).

من كتاب زهد أمير المؤمنين(عليه السلام) عن عقيل بن عبد الرحمن الخولاني قال: كانت عمتي تحت عقيل بن أبي طالب(عليه السلام) فدخلت على علي(عليه السلام) بالكوفة وهو جالس على بَرذَعة(7) حمار مبتلة! قالت: فدخلت على علي(عليه السلام) امرأة له من بني تميم فقلت لها: ويحك إن بيتك ممتلئ متاعاً وأمير المؤمنين(عليه السلام) جالس على برذعة حمار مبتلة؟ فقالت: لا تلوميني فو اللّه ما يرى شيئاً ينكره إلّا أخذه فطرحه في بيت المال(8).

ص: 106


1- الشريط: خيط أو حبل يفتل من خوص.
2- الخيش: نسيج خشن من الكتان.
3- الإذخر: حشيش طيب الريح.
4- المِخْضَب: وعاء لغسل الثياب أو خضبها، والقعب: القدح الضخم الغليظ، والشن: القربة الصغيرة والمزفتة: المطليه بالزفت، وهو نوع من القير.
5- اكيزان: جمع اكوز وهو معروف.
6- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 352.
7- البَرْذَعة: الحِلس الذي يلقى تحت الرحل، والجمع البراذع، وخص بعضهم به الحمار، وقيل هي برذعة وبردعة بالذال والدال. انظر: لسان العرب مادة (برذع).
8- مكارم الأخلاق: 132.

وقد كان كثير من الأصحاب المؤمنين يتبعون نفس هذا الأسلوب في الحياةالزوجية والاجتماعية، إقتداءً بهما(عليهما السلام)، وعملاً بما جاء به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ولذا نرى الأمة الأسلامية في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعهد أمير المؤمنين(عليه السلام) كانت من الأمم المتطورة والتي لا تحتاج إلى أي أمة أخرى في زراعتها وصناعتها وسلاحها وسائر ما يرتبط بحياتها.

وفي البيت العائلي

روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال لرجل من بني سعد:

«ألا أحدثك عني وعن فاطمة الزهراء(عليها السلام)، أنها كانت عندي فاستقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت(1) يدها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضر شديد.

فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألته خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل؟

فأتت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوجدت عنده حُدّاثاً(2)، فاستحيت فانصرفت.

فعلم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنها قد جاءت لحاجة، فغدا علينا ونحن في لحافنا، فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا.

ثم قال: السلام عليكم، فسكتنا.

ثم قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك فيسلّم ثلاثاً فإن أذن له وإلّا انصرف، فقلنا: وعليك السلام يا رسول اللّه، أدخل.

فدخل وجلس عند رؤوسنا، ثم فقال: يا فاطمة، ما كانت حاجتكِ أمس عند

ص: 107


1- مجلت يداها: أي ظهر فيها المجل، وهو ماء يكون بين الجلد واللحم من كثرة العمل الشاق، وكسح كمنع: أي كنس، والدكنة: لون يضرب إلى السواد.
2- أي جماعة يتحدثون.

محمد.

قال: فخشيت إن لم نجبه أن يقوم، فأخرجتُ رأسي فقلت: أنا واللّه أخبرك يا رسول اللّه، إنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألته خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل.

قال: أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم، إذا أخذتما منامكما فكبّرا أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدة.

فأخرجت فاطمة(عليها السلام) رأسها، فقالت: رضيتُ عن اللّه وعن رسوله، رضيتُ عن اللّه وعن رسوله»(1).

وفي الخبر أنه رأى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة(عليها السلام) وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «يا بنتاه، تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة». فقالت: «يا رسول اللّه، الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه. فأنزل اللّه سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ}»(2)(3).

سيرة الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)

وهكذا كان أنبياء اللّه(عليهم السلام) كما أخبر الصادق الأمين، حيث ورد عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«وإن شئت نبأتك بأمر داود خليفة اللّه في

ص: 108


1- من لا يحضره الفقيه 1: 320.
2- سورة الضحى، الآية: 5.
3- التمحيص: 6.

الأرض كان لباسه الشعر وطعامه الشعير» - إلى أن قال: - «وإن شئت نبأتك بأمر إبراهيمخليل الرحمن، كان لباسه الصوف وطعامه الشعير، ... وإن شئت نبأتك بأمر عيسى ابن مريم فهو العجب كان يقول: إدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف»(1).

وفي الحديث: دخل الإمام الصادق(عليه السلام) الحمام، فقال له صاحب الحمام: نخليه لك؟

فقال: «لا، إن المؤمن خفيف المئونة»(2).

وهذه الخفة والبساطة كانت السمة الغالبة لحياة المسلمين في الصدر الأول للإسلام، وهي التي جعلتهم يتقدمون ذلك التقدم الباهر والسريع على سائر الأمم التي كانت معاصرة لبدء الإسلام، فاستطاعوا بذلك أن يفتحوا قسماً كبيراً من إمبراطورية الروم شمالاً، وبلاد فارس شرقاً، فضلاً عن بلاد النجاشي، والهند، وجزءً من الصين؛ لأن التقدم لا يحصل إلّا بالهمة والنشاط والعمل، وهذه كلها لا تنسجم مع الحياة الناعمة والعيش المرفه الوثير، ولا تنسجم أيضا مع الكسل والضجر واليأس وما أشبه.

العمل الدءوب

أتذكر ذات مرة، ذهبنا مع جماعة من الأصدقاء لزيارة مرقد أولاد مسلم(عليهما السلام)(3) في المسيب، وبعد أن وصلنا إلى هناك وأتممنا زيارتنا ذهبنا إلى جسر المسيب

ص: 109


1- مكارم الأخلاق: 447.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 117.
3- هما الشهيدان محمد وإبراهيم ابنا الشهيد مسلم بن عقيل(عليه السلام) اللذان قتلا على يد أحد جلاوزة عبيد اللّه بن زياد، ومرقدهما يقع بالضواحي الغربية لمدينة المسيب التي تقع شمال مدينة كربلاء المقدسة حوالي (30 كم) على ضفاف نهر الفرات.

وكان الجو حاراً جداً. فرأينا العمال منهمكين في تصليح وترميم الجسر علىالرغم من حرارة الجو اللاهبة، وعند الظهر حانت ساعة الاستراحة فتوقف جميع العمال عن العمل والتجئوا إلى الظل ليتناولوا غذاءهم ويحصلوا على قسط من الراحة. ولكن الأمر الذي لفت انتباهنا هو حالة المهندس الذي كان مسئولاً عن ترميم الجسر فإنه الوحيد الذي لم يرفع يده عن العمل، بل استمر تحت وهج الشمس المحرقة، يباشر فحص مواد التعمير ودراستها والتأكد من إتمام العمل فيها وعدم نقصه، ومع أن العرق كان يتصبب منه بغزارة لكنه لم يلتفت لذلك أبداً، ولم يسترح طوال الوقت حتى أنهى مهمته.

نعم، الذين يتقدمون في الحياة هم الذين لا يعرفون التعب، ويعملون ليل نهار بدون توقف، بالرغم من كل المشاكل والصعاب التي تعترض سبيلهم. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من بذل جهد طاقته بلغ كنه إرادته»(1).

وقال(عليه السلام): «ما أدرك المجد من فاته الجد»(2).

وقال(عليه السلام): «ما أقرب النجاح ممن عجل السراح»(3).

العمل في فترة الاستجمام

نقل أحد الأدباء(4) قصة ذكر فيها ما لمسه من اهتمام الغربيين بالوقت حتى في أوقات استجمامهم، فقال:

سافرت مرة إلى تونس للاستجمام والترفيه عن النفس، وفي نفس الفندق الذي حجزت فيه غرفة، كان يقيم أيضاً شخص غربي، وبعد أن تعرفت عليه

ص: 110


1- عيون الحكم والمواعظ: 462.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 688.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 687.
4- هو الكاتب المصري مصطفى محمود.

وحادثته، قال لي: بأنه جاء إلى تونس بحثاً عن معالم التراث والآثار القديمة،وكان هذا الشخص جاداً في عمله، فيومياً كان يخرج ويحمل معه مقداراً من الماء والخبز ومسحاة وفأساً، ويصطحب معه عاملاً، ويذهب إلى الصحارى المحيطة بتلك المنطقة، ويقوم بالحفر هنا وهناك، ويستخرج بعض الأحجار والآثار القديمة، ويأتي بها إلى الفندق ويجمعها.

وفي أحد الأيام، عندما كان خادم الفندق ينظف الغرف، ألقى بهذه الأحجار في سلة المهملات لجهله بها، فأخذتها سيارة القمامة والنفايات التابعة للبلدية، وألقتها خارج المدينة مع سائر النفايات التي جمعتها. وعندما أتى هذا الرجل السائح واطلع على حقيقة الأمر تأثر تأثراً كبيراً، وقال بحزن وأسف شديدين: قد ضاعت جهود شهرين كاملين، فإن هذه الأحجار كانت من أهم ما عثرت عليه من الآثار المهمة في هذه المنطقة وبسبب جهل الخادم ضاعت مني.

نعم، هؤلاء حتى في السياحة والاصطياف لا يضيعون الوقت بل يستغلونه بالبحث والتنقيب والتدقيق.

وكم رأينا من السياح والأجانب يأتون إلى كربلاء المقدسة من الأماكن البعيدة، فيقطعون المسافات الطويلة بواسطة الدراجات النارية مع بساطة الإمكانات، نراهم يقضون الأيام والليالي في الصحارى والمناطق القاحلة، بلا ماء أو غذاء، ويصل الأمر بهم في بعض الأحيان إلى أكل الحشائش والأعشاب الصحراوية، ويستريحون في المزارع والحدائق العامة، أو على قارعة الطريق، ثم يستأنفون رحلتهم وجولتهم من أجل رؤية بلاد العالم عن كثب، ودراسة أوضاعها من قرب، ومعرفة أساليب معيشة الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم، وربما لأهداف أخرى كالتجسس وما أشبه، حيث إن بعض هؤلاء كان هدفهم التجسس وتمهيد السبيل للاستعمار، ولكن البعض الآخر منهم كان من السياح الحقيقيين الذين

ص: 111

تهمهم قضايا المعرفة والاستطلاع.

ومهما كانت الأهداف فالكلام في الجد والعمل وعدم الضجر والكسل والملل.

المسلمون بين الأمس واليوم

قال تبارك وتعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

إن حياة الدنيا ونعيمها ينالها - عادة - الذين يعملون ويجتهدون بلا ملل أو كلل، فيتعبون أنفسهم بكل عزيمة، جاعلين البساطة وعدم التعقيد شعارهم، كما أنهم يهتمون بالأمور الحقيقية المهمة ويتركون الجزئيات غير المهمة.

بينما في الوقت الحاضر، نجد أن كثيراً من المسلمين يقضون أوقاتهم في طلب الراحة والدعة، والجاه والمنصب الفارغ من محتواه الحقيقي، فلا يفكرون في استقلالهم وحريتهم، بل وحتى لايهتمون بحياتهم الخاصة وتقدمهم الاجتماعي والعلمي.

ولو ألقينا نظرة فاحصة على تاريخ صدر الإسلام وذلك التقدم الكبير الذي حصل للمسلمين، لرأينا أن من أسبابه بساطة الحياة وعدم التعقيد.

ومن الشواهد التي يمكن أن نستشهد بها على ذلك، ما ذكر من أحداث ووقائع إبان فتح المسلمين لإيران التي كانت تسمى بالإمبراطورية الساسانية، فكتب اللّه للمسلمين النصر لما اتصفوا به من همة عالية وإخلاص في النية وزهد في الدنيا، وتصميمهم القوي على إنقاذ الناس من نير حكام الجور والأنظمة الفاسدة. حيث ذكر أنه في ذلك اليوم عندما تحرك المسلمون من أجل

ص: 112


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

تخليص بلاد فارس من القهر والظلم الكسروي، وبعد مناوشات عديدة مع جيش الفرس عسكروا في مقابل عسكرهم، فأرسل (رستم) قائد جيش الفرس رسولاً يسألهم: لماذا أتيتم إلى قتالنا؟

فأرسل المسلمون رجلاً منهم إلى رستم، يرتدي ملابس خلقة، ويحمل معه سيفاً بلا غمد، قد علقه بكتفه بحبل من خوص النخيل، فعندما شاهد رستم هيئة ولباس ذلك الرجل المسلم، قال له: أنتم الأعراب لم تكونوا تحاربون من أجل هدف، وإنما من أجل تحصيل حمل بعير من التمر أو الحنطة، وأنا الآن أعطيكم هذه الأشياء، فارفعوا أيديكم عن الحرب وعودوا إلى أوطانكم!

فقال له المسلم: كلامك صحيح سابقاً؛ إذ كنا أذلاء وضعفاء، وكنا نحارب لغرض السلب والنهب، ونبذل في ذلك دماءنا وأعراضنا، أما الآن فقد أعزنا اللّه وشرفنا بالإسلام، وجعلنا نفكر في إنقاذ المستضعفين من نير المستكبرين والطغاة، ولأجل ذلك جئنا إلى هذه الديار، فنحن نحارب لا لأجل الدنيا بل لأجل إنقاذ الناس ونشر الإسلام.

فأخرج رستم سيفاً مرصعاً بالجواهر والأحجار النفيسة وقال له: هذا هدية لك بشرط أن تعود!

فقال المسلم: كلا، فإن هذا السيف لا ينفعنا، نحن نريد هداية الناس، ثم أخرج سيفه وضرب به سيف رستم فتطايرت بعض المجوهرات منه، فتحير رستم من هذه الجرأة والشجاعة وتعجب كثيراً لموقفه الحازم(1).

نعم، هكذا كان يطمح المسلمون في نصرة الإسلام، وإعلاء كلمة اللّه، وهداية الناس إلى الحق بهمم عالية، وبأرواح متفانية في سبيل اللّه عزّ وجلّ،

ص: 113


1- انظر: تاريخ ابن خلدون القسم الثاني من 2: 91، وتاريخ الطبري: 3: 15، وفتوح البلدان 2: 315.

ولذلك وصلوا إلى أهدافهم وأوصلوا الإسلام إلى مختلف آفاق المعمورة.

وفي بعض التواريخ:

أنه ركب رستم غداة تلك الليلة وصعد مع النهر وصوب حتى وقف على القنطرة، وأرسل إلى زهرة فواقفه وعرض له بالصلح، وقال: كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونحفظكم، ويقرر صنيعهم مع العرب، ويقول زهرة: ليس أمرنا بذلك وإنما طلبنا الآخرة، وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث اللّه فينا رسولاً دعانا إلى دين الحق فأجبناه وقال: قد سلطتكم على من لم يدن به وأنا منتقم بكم منهم وأجعل لكم الغلبة.

فقال رستم: وما هو دين الحق؟

فقال: الشهادتان، وإخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة اللّه، وأنتم أخوان في ذلك.

فقال رستم: فإن أجبنا إلى هذا ترجعون؟

فقال: إي واللّه.

فانصرف عنه رستم ودعا رجال فارس وذكر ذلك لهم، فأنفوا وأرسل إلى سعد قائد الجيش: أن ابعث لنا رجلاً نكلمه ويكلمنا.

فبعث إليهم ربعي بن عامر، وحبسوه على القنطرة حتى أعلموا رستم، فجلس على سرير من ذهب، وبسط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب. وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدودة بعصب، وقدم حتى انتهى إلى البساط ووطئه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما وجعل الحبل فيهما، فلم يقبلوا ذلك وأظهروا التهاون، ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها، وأشاروا إليه بوضع سلاحه، فقال: لو أتيتكم فعلت كذا بأمركم وإنما دعوتموني.

ص: 114

ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه حتى أفسد ما مر عليه من البسط، ثم دنا من رستم وجلس على الأرض، وركز رمحه على البساط، وقال: إنا لا نقعد على زينتكم.

فقال له الترجمان: ما جاء بكم؟

فقال: اللّه بعثنا لنخرج عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأرسلنا بدينه إلى خلقه فمن قبله قبلنا منه وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نفيء إلى الجنة أو الظفر.

فقال رستم: هل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟

قال: نعم، كم أحب إليك يوماً أو يومين؟

قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا؟

فقال: إن مما سن لنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر: إما الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فنقبل ونكف عنك وان احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة في الرابع إن تنبذ، وأنا كفيل بهذا عن أصحابي.

قال: أسيدهم أنت؟

قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجيز بعضهم عن بعض، يجيز أدناهم على أعلاهم.

فخلا رستم برؤساء قومه، وقال: رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل؟

فأروه الاستخفاف بشأنه وثيابه، فقال: ويحكم، إنما أنظر إلى الرأي والكلام والسيرة، والعرب تستخف اللباس وتصون الاحساب.

ثم أرسل إلى سعد: أن ابعث إلينا ذلك الرجل. فبعث إليهم حذيفة بن

ص: 115

محصن، ففعل كما فعل الأول ولم ينزل عن فرسه، وتكلم وأجاب مثل الأول.

فقال له: ما قعد بالأول عنا؟

فقال: أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي.

فقال رستم: والمواعدة إلى متى؟

فقال: إلى ثلاث من أمس.

وانصرف وحاص رستم بأصحابه يعجبهم من شأن القوم، وبعث في الغد عن آخر فجاءه المغيرة، فلما وصل إليهم وهم على زيهم وبسطهم على غلوة من مجلس رستم، فجاء المغيرة حتى جلس معه على سريره فأنزلوه.

فقال: لا أرى قوماً أسفه منا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضاً فظننتكم كذلك، وكان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، مع أني لم آتكم وإنما دعوتموني، فقد علمت أنكم مغلوبون ولم يقم ملك على هذه السيرة.

فقالت السفلة: صدق واللّه العربي.

وقالت الأساطين: لقد رمانا بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل اللّه من يصغر أمر هذه الأمة.

ثم تكلم رستم فعظم من أمر فارس، بل من شأن فارس وسلطانهم، وصغر أمر العرب، وقال: كانت عيشتكم سيئة وكنتم تقصدونا في الجدب فنردكم بشيء من التمر والشعير، ولم يحملكم على ما صنعتم إلّا ما بكم من الجهد، ونحن نعطي أميركم كسوة وبغلاً وألف درهم، وكل رجل منكم حمل تمر وتنصرفون، فلست اشتهي قتلكم.

فتكلم المغيرة وخطب فقال: أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف فنعرفه ولا ننكره، والدنيا دول والشدة بعدها الرخاء، ولو شكرتم ما

ص: 116

آتاكم اللّه لكان شكركم قليلاً عمّا أوتيتم، وقد أسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال، وإن اللّه بعث فينا رسولاً.

ثم ذكر مثل ما تقدم إلى التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال وقال: يدخل من قُتل منا الجنة، ويظفر من بقى منا بكم.

فاستشاط رستم غضباً وحلف أن لا يقع الصلح أبداً حتى أقتلكم أجمعين، وانصرف المغيرة.

وخلا رستم بأهل فارس وعرض عليهم مصالحة القوم، وحذرهم عاقبة حربهم فلجوا، وبعث إليه سعد يعرض عليه الإسلام ويرغب، فأجابه بمثل ما كان يقول لأولئك من الامتنان على العرب والتعريض بالمطامع، فلم يتفق شيء من رأيهم(1).

ابن سينا

يمر حوالي ألف سنة على وفاة ابن سينا وهو من كبار علماء المسلمين وكان فريداً في زمانه، وقد كتب كتباً قيمة وكثيرة في الطب وباقي العلوم، فإن كتبه الغنية - حتى في هذا الزمان - موضع إقبال أهل العلم والمعرفة في شتى الفنون، مع أنه لم يكن من ورائه مال أو دولة تدعمه، وما ذلك إلّا لأنه كان راسخ العزم في العمل المتواصل، وكان صاحب همة عالية من أجل التحقيق والتدقيق، وبذلك استطاع أن يحتل موقعاً رائعاً في التأريخ الإسلامي والإنساني.

يذكر ابن سينا في قصة حياته: إنه كان يقرأ ويراجع بعض المطالب أربعين مرة حتى يفهمها ويدرك مغزاها، وهذا الاستمرار عمل صعب جداً ولا يستطيع كل أحد أن يفعله، ولذلك نراه قد تقدم وترقى وقدّم للناس، بينما كثير من العلماء

ص: 117


1- تاريخ ابن خلدون القسم 2 من 2: 94.

والمحققين في العصر الحاضر لايتوصلون إلى ما توصل إليه ابن سينا.

ينقل القفطي في كتاب تاريخ الحكماء عن ابن سينا قوله:

ثم عدت إلى العلم الإلهي وقرأت كتاب: ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. فإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه عليَّ فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا، فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض ما بعد الطبيعة. فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه قد صار لي على ظهر القلب، وفرحت بذلك وتصدقت ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء شكراً لله تعالى(1).

وينقل عن ابن سينا أنه قال: إن مما كلفني أُستادي في الأدب حفظ ديوان ابن الرومي، فحفظته في ستة أيام ونصف يوم(2).

وقيل: إن أحداً من فحول علماء أصفهان المسمى بأبي منصور كان حاضراً في مجلس السلطان علاء الدولة، فبلغ الكلام إلى علم اللغة، فتصرف الشيخ - أي ابن سينا - فيه، فقال له أبو منصور: أنت حكيم وليس لك خبر وإطلاع باللغة، وهي محتاجة إلى السماع ولم تتبع في متن اللغة.

فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، فواظب اللغة والمطالعة فيها ودرسها

ص: 118


1- منية المريد، للشهيد الثاني: 342 الهامش رقم 4.
2- الغدير 3: 30.

فضبطها في قليل من الزمان، فأنشد قصائد ثلاثة ورسائل كذلك، وأدرج فيها الألفاظ الغريبة واللغات العجيبة وسودها في قراطيس عتيقة وطلب من علاء الدولة مجمعاً بين أبي منصور وبينه، وقال له: إني أريد الإطلاع على مضامين هذه الأوراق وترجمتها.

فعمل بمقتضى سؤاله، فسئل من أبي منصور معاني تلك الألفاظ في الأوراق، فمهما اختفى عليه معنى لغة منها بينها الشيخ، وكان يقول: إنها في الكتاب مسطور ومعناها كذا وكذا.

فالتفت أبو منصور من مزيد الكياسة والفطانة أن هذه القصائد والرسائل من مؤلفات الشيخ، فلا جرم قد قدم بالاعتذار وأقر بفضيلة الشيخ وتقدمه في كل العلوم.

وقد نقل أنه قد كتب رسالة في المنطق، فاتفق وقوعها في شيراز بيد علمائها، وقد اشتبه عليهم كثير من مواضعها لم ينكشف، فثبتوا موارد الاشتباه في جزء وأعطوه بيد من يحمله إلى الشيخ، وينحل عقدها ويرتفع الحجاب والستور عن وجوهها، فوصل إلى أصفهان عند غروب الشمس في فصل الحرارة، فلاقاه وأخذ الجزء.

فلما فرغ من صلاة العشاء الآخرة اشتغل بمطالعته وتدوين جوابه، وقد كتب في خمسة أجزاء كل جزء عشرة أوراق، ثم نام وصلى صلاة الصبح أداءً على قانونه وطريقته، وأعطى الأجزاء بيد أبي القاسم وقال: استعجلت في الجواب، فتعجب أبو القاسم(1).

قال ابن سينا: ورغبت في الطب وبرزت فيه وقرؤوا عليَّ، وأنا مع ذلك أختلف

ص: 119


1- طرائف المقال 2: 493.

إلى الفقه، وأناظر ولي ست عشرة سنة. ثم قرأت جميع الفلسفة، وكنت كلّما أتحير في مسألة، أو لم أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح لي المنغلق منه. وكنت أسهر... - إلى أن قال - حتى استحكم معي جميع العلوم، وقرأت الكتاب (ما بعد الطبيعة)، فأشكل عليَّ حتى أعدت قراءته أربعين مرة، فحفظته ولا أفهمه، فأيست. ثم وقع لي مجلد لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب (ما بعد الحكمة الطبيعية)، ففتح عليَّ أغراض الكتب ففرحت وتصدقت بشيء كثير.

واتفق لسلطان بخارى نوح مرض صعب، فأُحضرت مع الأطباء وشاركتهم في مداواته، فسألت إذناً في نظر خزانة كتبه، فدخلت فإذا كتب لا تحصى في كل فن فظفرت بفوائد - إلى أن قال - فلما بلغت ثمانية عشر عاماً فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه معي اليوم أنضج، وإلّا فالعلم واحد لم يتجدد لي شيء، وصنفت (المجموع) فأتيت فيه على علوم، وسألني جارنا وكان مائلاً إلى الفقه والتفسير والزهد، فصنفت له (الحاصل والمحصول) في عشرين مجلدة، ثم تقلدت شيئاً من أعمال السلطان، وكنت بزي الفقهاء إذ ذاك بطيلسان محنك، ثم انتقلت إلى نسا ثم أبا ورد وطوس وجاجرم ثم إلى جرجان(1).

قال ابن سينا: لما بلغت التميز سلمني أبي إلى معلم القرآن ثم إلى معلم الأدب، فكان كل شيء قرأ الصبيان على الأديب احفظها، والذي كلفني أُستاذي كتاب (الصفات) و(غريب المصنف) ثم (أدب الكاتب) ثم (إصلاح المنطق) ثم (كتاب العين) ثم (شعر الحماسة) ثم (ديوان ابن الرومي) ثم (تصريف المازني) ثم (نحو سيبويه) فحفظت تلك الكتب في سنة ونصف سنة، ولولا تعويق الأستاذ

ص: 120


1- سير أعلام النبلاء 17: 531.

لحفظتها بدون ذلك، وهذا مع حفظي وظائف الصبيان في المكتب، فلما بلغت عشر سنين كان في بخارى يتعجبون مني، ثم شرعت في الفقه فلما بلغت اثنتي عشرة سنة كنت أفتي في بخارى على مذهب أبي حنيفة، ثم شرعت في علم الطب، وصنفت (القانون) وأنا ابن ست عشرة سنة، فمرض نوح بن منصور الساماني، فجمعوا الأطباء لمعالجته فجمعوني معهم، فرأوا معالجتي خيراً من معالجات كلهم فصلح على يدي. فسألته أن يوصي خازن كتبه أن يعيرني كل كتاب طلبت ففعل، فرأيت في خزانته كتب الحكمة من تصانيف أبي نصر طرخان الفارابي، فاشتغلت بتحصيل الحكمة ليلاً ونهاراً حتى حصلتها، فلما انتهى عمري إلى أربع وعشرين كنت أفكر في نفسي ما كان شيء من العلوم أني لا اعرفه(1).

وهذه نماذج من حياة الذين عملوا وأتعبوا أنفسهم وسهروا الليالي طلباً لما أرادوه فوصلوا إليه.

طعم الحياة

إن البساطة في العيش هي مسؤولية الحكام أولاً، فإن من تولى أمور الناس عليه أن يعيش بحال أضعفهم، وهكذا كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) في حكومتيهما العادلة.

جاء في نهج البلاغة: من كتاب لأمير المؤمنين(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة، وقد بلغه: أنه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها، فقال له:

«أمّا بعد يا ابن حنيفٍ، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى

ص: 121


1- الكنى والألقاب 1: 320.

مأدبةٍ، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان(1)، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قومٍ عائلهم مجفوٌّ، وغنيّهم مدعوٌّ.

فانظر إلى ما تقضمه(2) من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه، ألا وإنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضي ء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(3)،

ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهادٍ، وعفّة وسدادٍ، فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبراً(4)، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلّا كقوت أتانٍ دبرةٍ، ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصةٍ مقرةٍ(5). بلى كانت في أيدينا فدكٌ(6)

من كلّ ما

ص: 122


1- الجِفان: جمع جفنة وهي القصعة، وعائلهم: محتاجهم، ومجفوّ: أي مطرود من الجفاء.
2- قَضِمَ - كسمع - : أكل بطرف أسنانه، والمراد الأكل مطلقاً.
3- الطِمْر - بالكسر - : الثوب الخلق البالي.
4- التِبْر: فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ، والوَفْر: المال.
5- مَقِرَة: أي مرة، مقر الشيء، أي صار مراً.
6- فدك: منطقة زراعية خصبة ذات حوائط عامرة سبعة، تبعد من خيبر بنحو خمسين كيلومتراً, وعن المدينة المنورة بما يقرب من (140) كيلومتراً وكان يسكنها اليهود. فعندما فرغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من خيبر عقد لواءً ثم التفت(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى علي(عليه السلام) وقال: «يا علي، قم إليه فخذه». فقام علي(عليه السلام) إلى اللواء فأخذه، فبعثه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) به إلى فدك. وكان أهل فدك قد سمعوا بما دمر اللّه على أهل خيبر وبمسير علي(عليه السلام) فاتح خيبر إليهم، فامتلأت قلوبهم من ذلك خوفاً ورعباً، فأرسلوا إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل وصول علي(عليه السلام) إليهم يصالحونه على فدك، ويسألونه أن يسترهم بأثواب، ويحقن دماءهم، ويتركوا له أرضهم وأموالهم، وكان الذي مشى بينهم وبين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك محيصة بن مسعود أحد بني حارثة، فصالحهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أن يحقن دماءهم. فكانت حوائط فدك ملكاً لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاصة خالصة، لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فنزل جبرئيل عليه وقال: «يا رسول اللّه، إن اللّه عزّ وجلّ يأمرك أن تؤتي ذا القربى حقه». قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا جبرئيل، ومن قرباي وما حقه؟». قال جبرئيل: «فاطمة(عليها السلام) فاعطها حوائط فدك وما لله ولرسول اللّه فيها». فدعا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة(عليها السلام) وأعطى بأمر من اللّه تعالى فدكاً إليها(عليها السلام) نحلة لها وبلغة لابنيها، وملكاً خاصاً لها، وبقيت في ملكها وبيدها(عليها السلام) في حياة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى انتزعها منها أبو بكر. انظر: بحار الأنوار21: 22. ولما ورد أبو الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) على المهدي - العباسي - رآه يرد المظالم فقال: «ما بال مظلمتنا لا ترد؟». فقال له: و ما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: «إن اللّه تبارك و تعالى لما فتح على نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدكاً وما والاها لم يوجف عليه بخيلٍ ولا ركابٍ، فأنزل اللّه على نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ} - سورة الإسراء، الآية: 26- فلم يدر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هم، فراجع في ذلك جبرئيل، وراجع جبرئيل(عليه السلام) ربه فأوحى اللّه إليه: أن ادفع فدكاً إلى فاطمة(عليها السلام)، فدعاها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لها: يا فاطمة، إن اللّه أمرني أن أدفع إليكِ فدكاً. فقالت: قد قبلت يا رسول اللّه من اللّه ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلما ولي أبو بكرٍ أخرج عنها وكلاءها، فأتته فسألته أن يردها عليها فقال لها: ائتيني بأسود أو أحمر يشهد لكِ بذلك. فجاءت بأمير المؤمنين(عليه السلام) وأم أيمن فشهدا لها فكتب لها بترك التعرض فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: ما هذا معكِ يا بنت محمدٍ؟ قالت: كتابٌ كتبه لي ابن أبي قحافة. قال: أرينيه؟ فأبت فانتزعه من يدها، ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوكِ بخيلٍ ولا ركابٍ، فضعي الحبال في رقابنا». فقال له المهدي: يا أبا الحسن حدها لي؟ فقال: «حد منها جبل أحدٍ، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل». فقال له: كل هذا؟! قال: «نعم يا أمير هذا كله، إن هذا كله مما لم يوجف على أهله رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخيلٍ ولا ركابٍ». فقال: كثيرٌ وأنظر فيه. الكافي 1: 543.

أظلّته السّماء، فشحّت عليها نفوس قومٍ، وسخت عنها نفوس قومٍ آخرين، ونعم الحكم اللّه، وما أصنع بفدكٍ وغير فدكٍ، والنّفس مظانّها في غدٍ جدثٌ، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرةٌ لو زيد في فسحتها، وأوسعت يدا حافرها، لاضغطها الحجر والمدر، وسدّ فرجها التّراب المتراكم، وإنّما هي نفسي أروضها(1) بالتّقوى، لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق.

ولو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح،

ص: 123


1- أروضها: أي أذللها، والمزلق: موضع الزلل والمراد هنا الصراط.

ونسائج هذا القزّ(1)، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشّبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى(2)،

وأكبادٌ حرّى، أو أكون كما قال القائل:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ *** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات، كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها(3)، تكترش من أعلافها، وتلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدًى، أو أهمل عابثاً، أو أجرّ حبل الضّلالة، أو أعتسف(4) طريق المتاهة.

وكأنّي بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالبٍ فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشّجعان، ألا وإنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عوداً، والرّواتع الخضرة أرقّ جلوداً، والنّابتات العذية(5) أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً، وأنا من رسول اللّه كالضّوء من الضّوء، والذّراع من العضد، واللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن أطهّر الأرض من هذا الشّخص المعكوس، والجسم المركوس(6)، حتّى تخرج

ص: 124


1- القزّ: الحرير.
2- بطون غرثى: جائعة.
3- تقمّمها: أي التقاطها للقمامة، وتكترش: أي تملأ كرشها.
4- أعتسف: ركب الطريق على غير قصدٍ.
5- النابتات العذية: التي تنبت عِذياً، والعِذي: الزرع لا يسقيه إلّا ماء المطر، والوَقود: اشتعال النار.
6- المركوس: من الركس، وهو رد الشيء مقلوباً وقلب آخره على أوله، والمَدَرَة: قطعة الطين اليابس، وحب الحصيد: حب النبات المحصود كالقمح ونحوه، والمراد بخروج المدرة من حب الحصيد أنه يطهر المؤمنين من المخالفين.

المدرة من بين حبّ الحصيد.

إلى أن قال(عليه السلام): إليك عنّي يا دنيا، فحبلك على غاربك(1)، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذّهاب في مداحضك(2).

أين القرون الّذين غررتهم بمداعبك؟

أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك؟

فها هم رهائن القبور ومضامين اللّحود.

واللّه لو كنت شخصاً مرئيّاً، وقالباً حسّيّاً، لاقمت عليك حدود اللّه في عبادٍ غررتهم بالأمانيّ، وأممٍ ألقيتهم في المهاوي، وملوكٍ أسلمتهم إلى التّلف، وأوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد ولا صدر(3).

هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ(4) عن حبائلك وفّق، والسّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه(5)، والدّنيا عنده كيومٍ حان انسلاخه. اعزبي عنّي فو اللّه لا أذلّ لك فتستذلّيني، ولا أسلس(6) لك فتقوديني.

وايم اللّه، يميناً أستثني فيها بمشيئة اللّه، لاروضنّ نفسي رياضةً تهشّ(7) معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولادعنّ مقلتي كعين

ص: 125


1- الغارب: ما بين السنام والعنق، وقوله(عليه السلام) للدنيا: «حبلك على غاربك» والجملة تمثيل لتسريحها تذهب حيث شاءت، وانسل من مخالبها: أي لم يعلق به شيء من شهواتها.
2- المداحض: المساقط والمزالق.
3- الصَدَر: الصدور عن الماء بعد الشرب.
4- ازورَّ: مال وتنكب.
5- مُناخه: أصله مبرت الإبل، من أناخ ينيخ والمراد به هنا: مقامه.
6- أسلس: أي لا أنقاد.
7- تهِشّ إلى القرص: تنبسط إلى الرغيف وتنرح به من شدة ما حرمته.

ماءٍ نضب(1) معينها، مستفرغةً دموعها، أ تمتلئ السّائمة(2) من رعيها فتبرك! وتشبع الرّبيضة(3) من عشبها فتربض! ويأكل عليٌّ من زاده فيهجع، قرّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسّائمة المرعيّة.

طوبى لنفسٍ أدّت إلى ربّها فرضها، وعركت(4) بجنبها بؤسها، وهجرت في اللّيل غمضها، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسّدت كفّها، في معشرٍ أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، {أُوْلَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(5).

فاتّق اللّه يا ابن حنيفٍ، ولتكفف أقراصك ليكون من النّار خلاصك»(6).

نعم، إن طعم الحياة ولذتها والمعاني الحقيقية فيها تكمن في خوض الصعوبات في سبيل اللّه، وفي تحمل المشاكل لوجه اللّه.

وجني الثمار المفيدة تتم عبر الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش، وليس عبر الرفل بالنعيم والراحة.

نعم، على الإنسان أن يجعل اللذة في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى، لا لأجل صرف الوقت في الملذات والهوى وملء البطن والتمتع والأمور التافهة.

ص: 126


1- نَضَبَ: غار.
2- السائمة: الأنعام التي تسرح.
3- الربيضة: الغنم مع رعاتها إذا كانت في مرابضها، والربوض للغنم: كالبروك للإبل، ويَهْجَع: أي يسكن كما سكنت الحيوانات بعد طعامها.
4- عرك البؤس: الصبر عليه، والغُمْض: أي النوم، والكرى: أي النُعاس.
5- سورة المجادلة، الآية: 22.
6- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 45 من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.

وهناك بعض القصص من حياتنا المعاصرة تدل على الفرق بين من يعمل ومن لا يعمل.

الفرق بين الشخصيتين

سافر اثنان من طلبة العلوم الدينية لأجل التبليغ خارج بلدتهم، وكان أحدهما يمتاز بروحية عالية، وقد ربى نفسه على البساطة في العيش والاكتفاء الذاتي في أموره مهما أمكن؛ لذلك فقد أحرز نجاحاً واسعاً في مهمة التبليغ، وكان يشعر براحة نفسية كبيرة؛ لأنه قد قام بواجبه وأوصل رسالته ونال هدفه، فكان يتحدث عن تجربته الناجحة وما أنجزه بروحية عالية وسعادة بالغة، وكان على أمل حصول الثواب الإلهي الذي وفق لأسبابه في مجال التبليغ وهداية الناس ونشر المذهب الحق، رغم الصعاب التي كان لاقاها والمشاق التي تحملها.

أما الثاني، حيث لم يكن قد ربى نفسه على روح البساطة والاكتفاء، وكان يتصور بأنه متى ما يباشر في التبليغ فإن الناس سوف يهرعون إليه، ويستقبلونه بحرارة فائقة ويلبون جميع حوائجه ويقضونها له؛ لذلك عندما صدمه الواقع وخالف توقعاته عاد من التبليغ وهو ساخط على الناس غير راض عنهم. فكان أينما يجلس يبدأ ببث آلامه وهمومه، ويقول: نحن في آخر الزمان، فالناس لاينفعهم التبليغ والإرشاد، إلى غير ذلك من الأعذار والعلل الضعيفة.

إن الفرق بين هذين الشخصين، إنما هو في الشخصية: فإن أحدهما كان قد ربى نفسه وبناها على الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش، ووطنها على العمل الجاد والمثابرة والمبادرة في كل شيء مما يرضي الرب عزّ وجلّ، بينما الثاني ترك نفسه ولم يربها على الاكتفاء الذاتي والبساطة، بل رباها على الاتكال على الغير، والانتظار من الجميع ليهبوا في خدمته وإنجاز أعماله ووظائفه.

ص: 127

الحسينية العامرة

وفي قصة أخرى، سُلمت إدارة حسينية من الحسينيات إلى أحد الأشخاص، وذلك للإشراف عليها وإقامة البرامج والأنشطة الدينية فيها.

فعندما حل شهر محرم الحرام وباشر بإقامة المجالس فيها، لوحظ الجمود والرتابة فيها وعدم الإقبال والتفاعل من قبل الناس على هذه الحسينية على عكس سائر الحسينيات، وفي النهاية آلت إدارة هذا الفرد إلى الفشل، ولم يستطع أن يقدم شيئاً في هذا المجال، ولا أن يجمع الناس حوله لإنجاح الحسينية.

عند ذلك أوكلت مهام هذه الحسينية إلى فرد آخر لإدارتها، فأجاد في إدارتها وأقام فيها مأتماً ضخماً، بالرغم من أنه لم يكن من أهل العلم، فسألته عن سبب هذا التجمع الغفير والبرنامج الضخم في جميع المجالات من إقامة العزاء والطبخ وما أشبه، فقال: إنني استقبل كل من يدخل الحسينية بحرارة وأودعه بحفاوة وتقدير، وأقول له: أنت جئت إلى هذا المكان من أجل الإمام الحسين(عليه السلام) فماذا تهدي وتقدم للإمام(عليه السلام)؟ فأحدهم يهدي شاة والآخر أرزاً، والثالث سمناً، وهكذا، وكان هذا الأسلوب باعثاً شديداً على قوة المجالس واستمرارها في هذه الحسينية.

ونفس هذا الفرد عند ما كان في كربلاء المقدسة أوكلت إليه إدارة مسجد خلف صحن مولانا أبي الفضل العباس(عليه السلام)، وكان خرباً ومفروشاً بالحصير. فعندما تسلمه هذا الفرد، عمد أولاً إلى تعميره تعميراً حسناً، ثم فرشه بفراش جيد، وأقام فيه صلاة الجماعة، وأعاد للمسجد رونقه المادي والمعنوي.

وكان السبب في هذا النشاط هو الروح الكبيرة والهمة العالية التي امتاز بها، مضافاً إلى الاعتماد على المواهب الذاتية الكامنة في نفسه وفي نفوس إخوانه المؤمنين من جهة أخرى.

ص: 128

الشكوى دائماً

وهناك أفراد خاملون وقاعدون، تراهم يشكون دائماً وفي كل الأحوال، ويبثون شكواهم لهذا وذاك باستمرار، ومن دون سبب أو داعٍ مقبول، حتى أن أحدهم عندما كنت أسأله عن أحواله وصحته كان يشتكي ويتألم دائماً، حتى صار بث الهم والشكوى من سماته. فكان كثير الشكوى، وعندما لم تكن لديه أية مشكلة كان يشتكي حتى من الخدشة!، ففي مرة سألته عن حاله؟ فقال: في الليلة الماضية آذتني ذبابة!!

ولذلك كان أصدقاؤه يتحاشون السؤال عن أحواله... لأن جوابه كان الشكوى والتذمر من كل شيء للحالة النفسية التي يحملها.

استثمار الوقت

ذكروا في أحوال المحدث القمي(رحمه اللّه) صاحب كتاب (مفاتيح الجنان) والكتب الأخرى المفيدة:

إن أحد المؤمنين كان قادماً ذات يوم من مدينة أراك إلى مدينة قم المقدسة، وفي الطريق بين المدينتين يرى الشيخ عباس القمي(رحمه اللّه) وحيداً في الصحراء، جالساً على جانب الطريق، وهو منهمك في الكتابة والتأليف، فتعجب من ذلك، وأوقف سيارته عنده وسأله عن سبب وجوده في الصحراء؟!

فقال: إن السيارة التي كانت تقلني قد تعطلت في منتصف الطريق، وقال سائق السيارة: بأن حصول هذه النكبة وعطب السيارة إنما لحقنا بسببك!، ثم أنزلني من السيارة وتركني كما ترى، وذهبوا بعدما أصلحوا السيارة، والآن مضى على تواجدي هنا ساعتان تقريباً، ومن أجل الاستفادة من الوقت وعدم هدره أخذت بالكتابة والتأليف!

يقول هذا الشخص: فطلبت من الشيخ أن أوصله إلى قم المقدسة بسيارتي،

ص: 129

فلم يمانع(رحمه اللّه).

نعم، هكذا يجب أن يُستثمر الوقت ويُستفاد من فرص العمر في العمل حتى يتحقق الاكتفاء الذاتي والبناء والتقدم، كما يلزم التحلي بالبساطة في العيش والزهد في الدنيا، وبذلك يمكن التقدم في الحياة الشخصية والاجتماعية.

«اللّهمّ صلّ على محمّدٍ وآله، وصن وجهي باليسار(1)، ولا تبتذل جاهي بالإقتار، فأسترزق أهل رزقك، وأستعطي شرار خلقك، فأفتتن بحمد من أعطاني، وأبتلى بذمّ من منعني، وأنت من دونهم وليّ الإعطاء والمنع»(2).

من هدي القرآن الحكيم

حقيقة الزهد

قال تعالى: {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ}(3).

وقال سبحانه: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(4).

الحث على العمل

قال عزّ وجلّ: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَٰتِ وَإِقَامَ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوٰةِ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ}(5).

وقال سبحانه: {قُلْ يَٰقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ}(6).

ص: 130


1- اليسار: الغنى، وبذل الجاه: إسقاط المنزلة من القلوب، والإقتار: الفقر.
2- الصحيفة السجادية: وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلا ق ومرضي الأفعال.
3- سورة آل عمران، الآية: 153.
4- سورة الحديد، الآية: 23.
5- سورة الأنبياء، الآية: 73.
6- سورة الأنعام، الآية: 135.

وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَٰتِ وَاعْمَلُواْ صَٰلِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}(2).

وقال تعالى: {اعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(3).

وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}(4).

وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}(5).

وقال سبحانه: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَٰتِبُونَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

البساطة في العيش

روي: أنه لما نزلت هذه الآية على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَٰبٖ لِّكُلِّ بَابٖ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ}(7)، بكى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكاءً شديداً وبكت صحابته لبكائه، ولم يدروا ما نزل به جبرائيل(عليه السلام) على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من

ص: 131


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- سورة المؤمنون، الآية: 51.
3- سورة سبأ، الآية: 13.
4- سورة النساء، الآية: 124.
5- سورة طه، الآية: 112.
6- سورة الأنبياء، الآية: 94.
7- سورة الحجر، الآية: 43-44.

الوحي، ولم يستطع أحدٌ من صحابته أن يكلمه، وكان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا رأى فاطمة(عليها السلام) فرح بها.فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها فوجد بين يديها شعيراً وهي تطحن فيه، وتقول: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(1)، فسلم عليها وأخبرها بخبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبكائه.

فنهضت والتفَّت بشملة لها خلقة، قد خيطت في اثني عشر مكاناً بسعف النخل، فلما خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة وبكى، وقال: واحزناه، إن بنات قيصر وكسرى لفي السندس والحرير، وابنة محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً!! فلما دخلت فاطمة(عليها السلام) على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قالت: «يا رسول اللّه، إن سلمان تعجب من لباسي، فو الذي بعثك بالحق، مالي ولعلي منذ خمس سنين إلّا مسك(2) كبشٍ تعلف عليها بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإن مرفقتنا لمن أدمٍ(3) حشوها ليفٌ». فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا سلمان، إن ابنتي لفي الخيل السوابق، ...»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال عيسى بن مريم(عليه السلام) في خطبة قام بها في بني إسرائيل: أصبحت فيكم وإدامي الجوع، وطعامي ما تنبت الأرض للوحوش والأنعام، وسراجي القمر، وفراشي التراب، ووسادتي الحجر، ليس لي بيت

ص: 132


1- سورة القصص، الآية: 60.
2- المَسك - بفتح الميم - : الجلد.
3- الأدم: جمع الأديم: الجلد المدبوغ، والليف: قشر النخل وما شاكله.
4- بحار الأنوار 8: 303.
5- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 45 من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.

يخرب، ولا مالٌ يتلف، ولا ولد يموت، ولا امرأة تحزن. أصبحت وليس ليشيء، وأمسيت وليس لي شيء، وأنا أغنى ولد آدم»(1).

وقال إسماعيل بن جابر: أتيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) وإذا هو في حائط له، بيده مسحاة وهو يفتح بها الماء، وعليه قميص شبه الكرابيس، كأنه مخيط عليه من ضيقه»(2).

الزهد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما اتخذ اللّه نبياً إلّا زاهداً»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما يعبد اللّه بشيء مثل الزهد في الدنيا»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العجز آفة، والصبر شجاعة، والزهد ثروة،والورع جُنة(5)، ونعم القرين الرضا»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا»(7).

ذم الطمع

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم واستشعار الطمع! فإنه يشوب القلب شدة الحرص، ويختم القلب بطابع حب الدنيا، وهو مفتاح كل سيئة، ورأس كل

ص: 133


1- معاني الأخبار: 252.
2- الكافي 5: 76.
3- مستدرك الوسائل 12: 51.
4- عدة الداعي: 121.
5- الجُنة: الوقاية.
6- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 4.
7- الكافي 2: 128.

خطيئة، وسبب إحباط كل حسنة»(1).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما هدم الدين مثل البدع، ولا أفسد الرجال مثل الطمع. إياك والأماني! فإنها بضائع النوكى»(2)(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «الطمع سجية سيئة»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «بئس العبد عبد له طمع يقوده، وبئس العبد عبد له رغبة تذله»(5).

العمل

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الإخلاص خير العمل»(6).

وقال(عليه السلام): «قدموا خيراً تغنموا، وأخلصوا أعمالكم تسعدوا»(7).

وقال(عليه السلام): «أفضل العمل ما أريد به وجه اللّه»(8).

وقال(عليه السلام): «من نصح(9) في العمل نصحته المجازاة»(10).

وقال(عليه السلام): «لا يدرك أحد رفعة الآخرة إلّا بإخلاص العمل، وتقصير الأمل،

ص: 134


1- عدة الداعي: 313.
2- كنز الفوائد 1: 350.
3- النوكى: جمع أنوك وهو الأحمق.
4- نزهة الناظر وتنبية الخاطر: 140.
5- الكافي 2: 320.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 22.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 501.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 191.
9- النصح والنصيحة: الخلوص.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 610.

ولزوم التقوى»(1).

وقال(عليه السلام): «تصفية العمل أشد من العمل»(2).

ص: 135


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 790.
2- الكافي 8: 24.

الأكثرية الشيعية في العراق

الشعور بالمسؤولية

اشارة

قال اللّه تعالى: {لَقَدْ جِئْنَٰكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ}(1). تعدّ المسؤوليات الاجتماعية من أصعب الأمور وأهمها، لأنّها تتطلّب التضحية والبذل والعطاء، وليس كل الناس قادرين على تفهّمها، بل إنّ بعضهم ليسوا على استعداد حتى لبحثها والخوض فيها، ولو كانوا مستعدّين يوماً لتعلّم هذه المسائل، فهم غير مستعدين لإبداء نشاط إيجابي واضح وصحيح للعمل في هذا المجال، لذا نرى أن تأخّر المسلمين في بعض المجالات وبالخصوص في مجالات الحقوق والسياسة والاقتصاد والتجارة وما أشبه، ناشئ من عدم أداء بعضهم للواجب الملقى على عاتقهم بشكل صحيح ومتقن. والغريب أن البعض يعتقدون بأنّهم متقدمون في هذا المجال، ثم يلجئون لتبرير جهلهم وتقصيرهم تجاه المجتمع، ويلقون بالّلوم على عاتق الآخرين، في حين أنّهم جزء لايتجزأ من أولئك الأفراد المتأخرين. فقد رُوي: «فلا تزلّوا عن الحق فمن استبدل بالحق هلك، وفاتته الدنيا وخرج منها ساخطاً»(2).

فهناك أفراد في المجتمع - مثلاً - يدرسون إلّا أنهم لا يأتون بجديد سوى أنّهم

ص: 136


1- سورة الزخرف، الآية: 78.
2- بحار الأنوار 67: 179.

يعتبرون هذا العمل وظيفة شرعية أو للكسب، لا وظيفة اجتماعية وحيوية أيضاً،فلا يتعرّضون لقضايا الأمة ومشاكلها، لأنّهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم، وحين ذاك تكون النتيجة أن يظلّ المسلمون في تأخرهم الذي هم عليه الآن، وتظهر المشاكل في ضياع حقوق الناس، وسيطرة الأقليّة على الأكثرية أو ما أشبه.

من مشاكل العراق

لقد طالعت الكثير عن ماضي العراق وحاضره، فوجدت أنّ فيه مشاكل قد تكون مشتركة في كل البلاد الإسلامية وقد تكون خاصة به تبعاً لتركيبة الشعب أو لجغرافية منطقته، أو لتاريخه المليء بالأحداث الساخنة والمتميزة، إلّا أن حقيقة الأمر هي أنّ هناك مشكلتين رئيسيتين موجودتان في العراق، أولاهما: انعدام الوعي في ميادين السياسة والحقوق وفهم الحياة، وهذا الانعدام جعل الكثير من أبناء الشعب لايعرف ما يدور حوله من مكائد ومؤامرات استعمارية... ، وثانيهما: سيطرة الأقلية على الأكثرية. فالمشكلة لا تقتصر على سلب الحقوق ومصادرة تضحيات الأكثرية بل تتعداه إلى أنّ المستفيد من هذه التضحيات هم أناس بعيدون عن الجهاد والتضحية سوى أنّهم يرتبطون ببريطانيا، وقبلها كانوا يقتاتون على الحكم العثماني، فهم يتحينون الفرص الملائمة ليضربوا أصحاب الحق. في حين أن الشيعة يشكلون نسبة 85% من مجموع الشعب، وهم الذين وقفوا بوجه الاستعمار البريطاني في ثورة العشرين ومن قبله العثمانيين وقدّموا الشهداء والتضحيات الجليلة، ولكننا نراهم معزولين ومبعدين عن الحكم، ويعانون من الظلم والاضطهاد، فضلاً عن أنّ القانون الديمقراطي الذي يحكم أوسع رقعة جغرافية من العالم اليوم، يقضي بأن الاتجاه السياسي والمذهبي للدولة، يجب أن يختاره الشعب طبق ميزان التوزيع، وحق الأكثرية، مع احترام حقوق الأقليات، فنسبة 85 % هي التي يجب أن تحكم في العراق مع احترام الأقليات

ص: 137

الأخرى بقدر حقّها الذي أشرنا إليه.

هدف حكام العراق

والسؤال هنا: لو كان هدف صدام هو العمل الحزبي السياسي فقط، وليس التعصب المذهبي، فلماذا كل هذه المحاربة للشيعة؟ لماذا هذا التبعيض؟ ولماذا كل هذه الضغوط على الحوزات العلمية الشيعية؟ وليس هذا منحصراً في صدام وحده، بل كل الذين جاءوا إلى السلطة من ملكيين وجمهوريين، وبعثيين وقوميين وشيوعيين ومن على شاكلتهم، مما يكشف عن كون حقيقة الحكم في العراق بشتى صوره وأصنافه قائمة على الاضطهاد المذهبي والتعصب الطائفي.

النصب التاريخي

من الشخصيات التي يرد اسمها في التاريخ (عبد المحسن السعدون)(1) وقد تسلّم منصب رئاسة الوزراء في العراق، وكان يتمتع آنذاك بقدرة تامة في تنفيذ أوامره، وكان عميلاً معروفاً لبريطانيا، وقد استفادت منه كثيراً في تمرير مؤامراتها على العراق. وأول ما قام به هو إبعاد عدد من علماء الشيعة وبعض مراجعهم، ومنهم المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) إلى إيران، لكن نصبه التذكاري لا يزال موجوداً في بغداد، وإن بعض الشيعة هم كذلك لايسألون، من هو هذا

ص: 138


1- تسلم رئاسة الوزراء في العراق في عهد الملك فيصل الأول، في سنة 1922م بعد استقالة حكومة عبد الرحمن النقيب. وكان السعدون متحمساً لإجراء انتخابات المجلس التأسيسي، والمعاهدة العراقية البريطانية التي كانت من صنيعة بريطانيا، فوقفت بريطانيا إلى جانبه ومعها الملك في سبيل ضرب المعارضة الدينية المتمثلة بالمراجع العظام، أمثال السيد أبو الحسن الأصفهاني، والميرزا النائيني، والشيخ مهدي الخالصي والعشائر العراقية. ولأجل قمع المعارضة قام السعدون بتسفير الشيخ الخالصي وأولاده إلى جدة، والسيد أبو الحسن الأصفهاني والميرزا النائيني وجماعة من العلماء آنذاك إلى إيران، ويبلغ عددهم (26) عالماً. راجع كتاب تاريخ العراق السياسي ل- (لطفي جعفر فرج): 87.

الشخص؟ وماذا كان؟ وكيف بقي تمثاله قائماً في شوارع بغداد إلى الآن؟ولا يدرون أنّ هذا التمثال هو لذلك الشخص الذي أبعد المراجع العظام، وزعماء الطائفة الشيعية الموقرة، من العراق إلى إيران، والشيء العجيب أن الحكومات الملكية تأتي ثم الشيوعيون والديمقراطيون والبعثيون، وهذا التمثال موجود من دون أن تتعرض له الحكومات المتعددة بسوء، وذلك لأن كلّ هذه الحكومات التي جاءت إلى السلطة كانت - وما زالت - تعمل ضد الشيعة، وهدفها قمع الأكثرية الشيعية - قيادات وجماهير - وسحق حقوقها.

التعصب الشديد ضد الشيعة في العراق

في أيام الحكم الملكي في العراق قرّرنا أن نؤسس مدرسة باسم مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)، ونظراً لأن السلطة كانت بيد السنّة الذين يشكلون 12% من الشعب، فإن الحكومة رفضت أن تمنحنا الإجازة، لأنها تعدّ ذلك تقوية للشيعة، وقال أحد المسؤولين: يجب أن تغيروا اسم هذه المدرسة إلى اسم آخر، إلّا أننا بذلنا السعي الحثيث ولمدة ستة أشهر فاستطعنا أن نبقي اسم المدرسة (مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)). أما لو كانت المدرسة تحمل اسماً لغير أئمة الشيعة(عليهم السلام) أو لا يرمز إلى التشيع ولا يرتبط به لكانت الإجازة تمنح بفترة قليلة وبلا أتعاب!!

وحدة الأمة

قام الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) أثناء قيادته لثورة العشرين ضد قوات الاحتلال البريطانية، بمحاولة تحقيق وحدة الأمة، وجعلها قوة متماسكة ضد الاحتلال، وإزالة الخلافات من خلال الوحدة بين السنة والشيعة في الحركة السياسية، فوجّه عدة رسائل إلى شخصيات سنية وشيعية، يطلب منها الاتحاد والتعاون.

ص: 139

ففي رسالة بعثها إلى الشيخ جعفر أبو التمن، بتاريخ 3 رجب 1338ه جاءفيها: «... سرّنا اتحاد كلمة الأمة بغدادية، واندفاع علمائها ووجوهها وأعيانها، إلى المطالبة بحقوق الأمة المشروعة، ومقاصدها المقدسة، فشكر اللّه سعيك ومساعي إخوانك وأقرانك من الأشراف، وحقق المولى آمالنا وآمال علماء وفضلاء حاضرتكم، الذين قاموا بواجباتهم الإسلامية. هذا وإننا نوصيكم أن تراعوا في مجتمعاتكم قواعد الدين الحنيف والشرع الشريف، فتظهروا أنفسكم بمظهر الأمة المتينة الجديرة بالاستقلال التام، المنزّه عن الوصاية الذميمة، وأن تحفظوا حقوق مواطنيكم الكتابيين الداخلين في ذمة الإسلام، وأن تستمرّوا في رعاية الأجانب الغرباء، وتصونوا نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، محترمين كرامة شعائرهم الدينية، كما أوصانا بذلك نبينا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والسلام عليكم وعلى العلماء والأشراف والأعيان».

وجاء في رسالة ثانية أرسلها بتاريخ 4 رجب 1338ه إلى الشيخ أحمد الداود أحد علماء السنّة في بغداد: «... تلقيت بالابتهاج برقيتكم، فما وجدتها أعربت مقدراً، ولا أبرزت مستتراً، هذا ما أعتقده في عامة المسلمين أن يكونوا على مبدأ القرآن، ومنهج الحق، وقول الصدق، فكيف بمن ربّي في حجر العلم... ولا أرى أنه يسرك أن تراني مقتنعاً بما عاهدت عليه اللّه وقد أخذ في ذلك عليك عهدك من قبل أن يبرأك... وليكن التوفيق رائدك في عمل الخير، وكن لساناً ناطقاً بالصواب، داعياً إلى الشرع الشريف أهله، سالكاً بهم محجته البيضاء...».

ومن رسالة أخرى أرسلها الشيرازي في 3 رجب إلى الشيخ موحان خير اللّه، أحد رؤساء عشائر المنتفك جاء فيها: «... إن جميع المسلمين إخوان، تجمعهم كلمة الإسلام، وراية القرآن الكريم والنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فالواجب علينا جميعاً الاتفاق والاتحاد والتواصل والوداد، وترك الاختلاف، والسعي في كل ما يوجب

ص: 140

الائتلاف، وتوحيد الكلمة، وجمع شتات الأمة، والتعاون على البر والتقوى،والتوافق في كل ما يرضي اللّه تعالى، فإنكم إن كنتم كذلك جمعتم بين خير الدنيا والآخرة، ونلتم الدرجة العلياء، والشرف الدائم والذكر الخالد...».

ولكن حينما نستقرئ أحداث ثورة العشرين نرى أن استجابة السنّة لم تكن بنفس المستوى الذي تحرك فيه علماء الشيعة، وشيوخ العشائر بشكل خاص، والشيعة كأفراد بشكل عام، في مقاومة الإنجليز وعملائهم الداخليين، فقد ظلّ بعض شيوخ العشائر السنية وبعض علمائها يوالون الإنجليز. والسبب في ذلك يعود إلى عدم انسجامهم مع فكرة تأسيس حكومة مستقلة في العراق، إذ أنهم كانوا يعلمون بأن من الطبيعي أن تكون الحكومة القادمة شيعية، باعتبار أن القائد العام للثورة كان شيعياً، بل ومرجعاً دينياً، وهو الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) ومعه علماء الشيعة، ومركز قوة المقاومة العشائرية بيد العشائر الشيعية، فمن الطبيعي أن تكون الحكومة شيعية أيضاً. لذلك اتجه بعض السنّة وقتها إلى موالاة الحكم البريطاني، ضدّ أبناء شعبهم ودينهم، ليحقّق لهم مطامحهم في الحكم والخلاص من الشيعة، بالرغم من أن هناك تقارباً شيعياً سنياً تحت مظلة الميرزا الشيرازي قد حدث خلال الإعداد للثورة ولكنّه كان تقارباً من بعض السنّة فاستطاع الإنجليز أن يقيّدوه، ويعملوا على تضييق دائرته ومحاصرته.

ضرورة وعي الأكثرية

من الأشياء العجيبة، والتي تشير إلى عدم وعي بعض الشيعة في العراق، هو أنّ الحكام الذين توالوا على السلطة من: (فيصل الأول) و(غازي) و(فيصل الثاني) و(عبد الكريم قاسم) و(الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف) و(البكر) و(صدام)، كانوا كلهم من السنّة، وإن تلبّسوا بلباس العروبة والإسلام وغيره. فأين ذهبت نسبة 85% الذين هم الشيعة في العراق، فالالتزام الديني

ص: 141

لايعني ترك الحقوق وعدم الاشتغال بالسياسة وما أشبه، وإن بعض الشيعةملتزمون بطقوسهم وعباداتهم التزاماً تاماً، وإن العتبات المقدسة ومراقد الأئمة الأطهار(عليهم السلام) ملأا بالزائرين الشيعة، وكذلك الجيش غالبيته من الشيعة - عدا كبار الضباط، فإنهم من السنّة - وكل المحافظات العراقية شيعية عدا أربع محافظات وهذه هي أيضاً يوجد فيها عدد كبير من الشيعة، ولكننا نرى بعض الشيعة خلال السبعين سنة الماضية هم أشبه شيء بكرة من طين تعبث بها الأيدي السنية المتعصبة دون رحمة.

وإن الشيعة في العراق لو استمروا على هذا الحال، فإنهم سوف يبقون - لا سمح اللّه - على هذه الحالة من التأخر وضياع حقوقهم...!!

وعلى هذا لو أن صدام - الحاكم الحالي - أزيل من السلطة، وجاء شخص آخر هو أيضاً ليس من الشيعة، فربّما سيقول بعض الشيعة: الحمد لله لقد ولى عهد صدام، وجاء شخص جديد إلى الحكم هو أفضل منه، لكن هذا وبعد أن يحكم قبضته على السلطة فإنه يفعل ما فعله الذين سبقوه أيضاً. لأن الجوهر واحد في الحكومات الطائفية وإن تبدّلت الوجوه والصور. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من لايعقل يهن، ومن يهن لا يوقّر»(1).

مرض الطائفية

في أحد الأيام قمنا ببناء مسجد في العراق بين منطقة الحر الرياحي وكربلاء باسم (مسجد المتقين)، وبينما كنت ذاهباً يوماً لزيارة المرقد المطهّر للإمام الحسين(عليه السلام) جاءني شخص وأنا في طريقي إلى حرم الإمام(عليه السلام) وقال لي: إن البلدية قطعت التيار الكهربائي عن مسجد المتقين، بسبب عدم تسديد فاتورة

ص: 142


1- تحف العقول: 94.

الكهرباء والبالغة ثمانية دنانير، وطلب مني تسديد هذا المبلغ.فقلت له: اذهب وقل لذلك الشخص الذي قطع الكهرباء عن المسجد: كيف يصحّ أن تبنوا مسجداً للسنّة في كربلاء بمبلغ 250 ألف دينار! في حين أن كربلاء ليس فيها سنّة ليصلوا بهذا المسجد، لكن من أجل ثمانية دنانير تقطعون التيار الكهربائي عن مسجد شيعي، يستفيد منه كثير من المصلين!!، ألا يعبّر هذا عن مدى الطائفية الحكومية!!

مداهمات وأشغال شاقة

نقل لي السيد سلطان الواعظين صاحب كتاب (ليالي بيشاور) أثناء زيارته لكربلاء، فقال:في زمن عبد الكريم قاسم، كنت قد ذهبت إلى حمام في الكاظمية، حيث كنت وقتها مريضاً جدّاً، وأثناء ما كنت في الحمام كان عدة من الرجال يستحمون أيضاً، وفجأة قام جنودٌ من قبل السلطة بمداهمة الحمام وألقوا القبض علينا ونقلونا في سيارة مغلقة إلى وزارة الدفاع، وكان الهواء حينها بارداً جداً، وهناك وضعونا في مرآب(1) قذر متعفّن، فوجدنا هناك الآلاف من الذين اعتبروهم إيرانيين، قد وضعوا في حالة يرثى لها، وحينما حل وقت الظهر حيث كنا جياعاً جداً، جاءوا لنا بالرز والمرق، إلّا أنهم وضعوه في عربات تدفع بالأيدي، تستخدم لنقل الطابوق والتراب عادة، وقالوا لنا: تحركوا مجموعات مجموعات، كل مجموعة تقف على عربة وتتناول الطعام، استهانةً بنا. كان الوضع يجري هكذا في العراق، وكان رئيس الدولة هو عبد الكريم قاسم، ثم شاهدنا بأعيننا ذلك الشيعي الجاهل، الذي رسم صورة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي وسطها صورة عبد الكريم قاسم وإلى يساره صورة الإمام علي بن أبي

ص: 143


1- مرآب: مكان لإصلاح السيارات والدراجات وإيوائها.

طالب(عليه السلام)، وهو يربط سيفاً على محزم عبد الكريم قاسم، وكانت الصورتان معلقتين علىباب الدخول لحرم الإمام أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) بأمر من الحكومة!!

الأطماع الخارجية

كانت المشكلة القائمة بين الدول الكبرى هو تنافسها للاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من العالم. ففي العراق كان الصراع قائماً بين أمريكا وبريطانيا، ففي حقبة من الزمن كانت أمريكا تدّعي بأنها تملك الحق في السيطرة على العراق، ومرة أخرى تتصدى بريطانيا لهذا الإدعاء، وبقيت هاتان الدولتان تتعاقبان على امتصاص ثروات العراق، وتدمير ما بقي من هذه الثروة. وقد قرأت في إحدى المجلات أنّ كيلو اللحم في العراق أصبح يباع بسعر خيالي وهو أضعاف مما كان عليه سابقاً، في حين أتذكر أن كيلو اللحم كان يباع سابقاً ب(24 فلساً)، أي ما يعادل (24) رغيف من الخبز، أما الآن فإن كيلو اللحم يعادل ألف رغيف من الخبز، مع العلم أن المعروف عن العراق أنه كان من الدول المصدرة للّحوم سابقاً، أما اليوم فقد أصبح مستورداً لها.

كيفية الخلاص من هذه المشاكل

إنّ القرائن الموجودة - بحمد اللّه - تدلّ على زوال حكومة البعث في العراق. وبناءً على ذلك فيجب الاهتمام بعدة أمور، لحل مشاكل العراق مستقبلاً:

1- إن الحكومة القادمة يجب أن تكون بيد الشيعة، لأنهم الأكثرية، وحتى لو قيل: إن هذا الحاكم الفلاني هو إنسان طيّب ومسلم وملتزم حتى بالمستحبات، فلا ينبغي أن ننخدع بذلك، فيجب أن يكون حاكم البلاد شيعياً، لأن الأكثرية في البلاد هم الشيعة، وأنّ القانون الإلهي والقانون المتعارف عليه دوليّاً يقرّ بذلك، نعم

ص: 144

من الضروري أن نعطي للآخرين (الأقليات) حقوقهم بقدر تمثيلهم في الشعب.

2- تصعيد الإعلام، وبيان ذلك لكل العالم، بأن العراق يجب أن يكونحاكمه شيعياً، وحينما يطرح ذلك، يجب أن لا يكون هناك خوف من أحد، فيطرح هذا الرأي على جميع الفئات على البقال والخباز والمهندس والموظف والعسكري وعلى غيرهم من شرائح المجتمع، وهؤلاء هم الذين يمثلون (الوحدة القاعدية) عند السياسي وهم جماهير الناس، ولهم مطالب منبعثة من الدين أو القومية أو الاقتصاد، فإنها توجب الضغط على القوى الكبرى أو الدولة في سياستها خاصة، إيجاباً أو سلباً أو تعديلاً، وأسلوب ضغط الجماهير وإن لم يكن بشكل خاص، إلّا أنّه بالنتيجة يؤثّر على الرأي العام ككل، وبالتالي الضغط على أصحاب النفوذ والقوى، فإذا كانت الدولة استشارية تتفادى سخط الرأي العام وترضخ لمطالبه. وإذا كانت ديكتاتورية فهي تتجاهل الرأي العام وبالتالي ستكون نتيجتها السقوط. إنّ الإعلام والتأثير على الرأي العام سوف يوجد تكاتفاً واسعاً في الرأي وسيكون بالنتيجة سدّاً بوجه القوى الكبرى، التي تمنع من تحقيق ذلك. وقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من جهل وجوه الآراء أعيته الحيل»(1).

دور الرأي العام في الضغط على الظالم

حين ما أخذ المأمون العباسي السلطة من أخيه الأمين، في خديعة يذكر التاريخ مفرداتها بالتفصيل، ثم روّج حيلةً معينة انطلت على بعض الشيعة آنذاك بحيث صدّقوها، لكنّه حينما جاء إلى السلطة قام بقتل ذرية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن والاهم، وإنّ أكثر القبور المتناثرة لذرية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إيران والعراق هي من فعل المأمون وجلاوزته، أخيراً عاد المأمون إلى بغداد وكأنه لم يفعل شيئاً. وفي

ص: 145


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 584.

يوم من الأيام شاهد يحيى بن أكثم - الذي كان وزيراً للمأمون - أن المأمون يذرع القصر جيئة وذهاباً، وهو يقول: مالك يا فلان أتحلل وتحرم؟ وكان المأمون يريد بخطابهالخليفة الثاني، ويقول له: هل لك حق التحليل والتحريم؟ يقول يحيى بن أكثم: فقلت للمأمون: ما هي المناسبة لكلامك هذا؟ فقال المأمون: يا ابن أكثم لماذا حرّم الخليفة الثاني المتعة، في حين أنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد حلّلها، أما الآن يا ابن أكثم، فصدّر أمراً إلى المنادين لينادوا بين الناس أنه من الآن فصاعداً قد أجزت حليّة الزواج المؤقت. يقول ابن أكثم: فقلت للمأمون: لا تفعل هذا أيها الخليفة، لأنك حين ما قتلت الأمين صار لك معارضون - وهم أهل السنّة - ، ولو أنك فعلت اليوم هذا فإنهم سوف يؤلبون عليك الرأي العام وتثور الناس ضدك، وبهذا استطاع أن يخوّف المأمون حتى صرفه عن الرأي(1).

فعلينا أيضاً كسب الرأي العام، وقضيتنا قضية الحق والمطالبة به، ونحتاج في هذه المرحلة إلى الإعلام المركّز والصحيح.

يجب أن تكون الحكومة بيد الشيعة

يذكر الشيخ جعفر الرشتي(رحمه اللّه) أنه قبل ثمانين سنة - في زمان لم تكن آن ذاك (الجنسية) متعارفة بين الناس التي جاء بها الاستعمار لبلادنا - كان هناك جسر على طريق بغداد قبل الوصول إلى مدينة كربلاء المقدسة بفرسخ واحد، وكذلك كان على طريق (كربلاء - النجف) مكان يدعى ب(خان الهندي)، وهو يبعد عن كربلاء فرسخاً واحداً، يقول الشيخ الرشتي: وكان الزوّار في ذلك الزمان لكثرتهم ينامون على امتداد جانبي هذا الطريق، أي من الجسر الأبيض حتى كربلاء، ومن كربلاء حتى خان الهندي في الطرف الآخر من المدينة. فانظر كم كان عدد

ص: 146


1- انظر: وفيات الأعيان 6: 149؛ الكنى والألقاب 3: 44.

الزائرين آن ذاك؟ وهنا نتساءل: أين ذهبت تلك الأعداد الكبيرة من الزوار؟ والجواب: لما أحكمت الحكومات السنية المتعصبة قبضتها على الشيعة، قامتبمنع وقمع كل هذه الجموع من الشيعة، فمنعتهم من زيارة إمامهم أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) وسائر الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، وذلك إما باستخدامهم القوة والبطش، أو بإدخال الأفكار المنحرفة إلى عقول بعض السذّج لكي يصرفوهم عن أئمتهم، إذ أخذوا يروّجون بأن هذه الأعمال والشعائر هي من الخرافات، وتقف حائلاً أمام التقدم والحضارة (المستوردة) وغيرها من الدعاوى الباطلة.

إيجاد الديمقراطية في العراق

كما يجب أن يكون الحكم في العراق قائماً على أساس إعطاء الناس حقوقهم، وأن يعمل بالشورى والمشورة، وأن تعطى للأحزاب الإسلامية حرية العمل والتنافس، وأن يكون لها الحق في نقد الحكومة، وحين ذاك سوف لا تكون الحكومة قادرة حتى على قتل خمسة أشخاص بالباطل، كما رأينا ذلك بأعيننا حين ما كانت التعددية الحزبية هي الحاكمة. أما إذا جاءت إلى السلطة حكومة ديكتاتورية فسيؤول وضع العراق من سيئ إلى أسوأ.

«اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا فيها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

نتائج الإعراض عن الحق

قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَٰؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِ

ص: 147


1- الكافي 3: 424.

يَسْتَهْزِءُونَ}(1).وقال سبحانه: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وِزْرًا}(2).

وقال عزّ اسمه: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَٰمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(3).

إيثار الحق والعمل به

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَٰتِحِينَ}(5).

وقال جلّ جلاله: {وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(6).

التعصب الأعمى

قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَٰهِلِيَّةِ}(7).

وقال عزّ شأنه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(8).

وقال جلّ وعلا: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَٰرَهُمْ * أَفَلَا

ص: 148


1- سورة الأنعام، الآية: 5.
2- سورة طه، الآية: 100.
3- سورة البقرة، الآية: 75.
4- سورة النساء، الآية: 135.
5- سورة الأعراف، الآية: 89.
6- سورة الأعراف، الآية: 159.
7- سورة الفتح، الآية: 26.
8- سورة البقرة، الآية: 206.

يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(1).

الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامي

قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(3).

وقال تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

إيثار الحق والعمل به

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم، قيل: يا رسول اللّه ومن هم؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الذين يقبلون الحق إذا سمعوه ويبذلونه إذا سألوه، ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم، هم السابقون إلى ظل العرش»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي ثلاثة تحت ظل العرش: رجل أحبّ لأخيه ما أحبّ لنفسه، ورجل بلغه أمر فلم يقدم فيه ولم يتأخر حتى يعلم أنّ ذلك الأمر لله رضاً أو سخط، ورجل لم يعب أخاه حتى يصلح ذلك العيب من نفسه»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحق وإن ضرّك،

ص: 149


1- سورة محمد، الآية: 23-24.
2- سورة الأنبياء، الآية: 92.
3- سورة آل عمران، الآية: 103.
4- سورة النساء، الآية: 175.
5- النوادر للراوندي: 15.
6- تحف العقول: 7.

على الباطل وإن نفعك، وأن لا يجوز منطقك علمك»(1).

من صفات الشيعة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا، الذين إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركةٌ على من جاوروا، سلمٌ لمن خالطوا»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إنما شيعة علي الحلماء، العلماء، الذبل الشفاه، تعرف الرهبانية على وجوههم»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «شيعتنا أهل الهدى، وأهل التقى، وأهل الخير، وأهل الإيمان، وأهل الفتح والظفر»(4).

المؤمنون أخوة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام):«الإخوان في اللّه تعالى تدوم مودتهم لدوام سببها»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام):«المؤمن أخ المؤمن، وهو عينه ومرآته ودليله»(7).

ص: 150


1- المحاسن 1: 205.
2- الكافي 2: 236.
3- الكافي 2: 235.
4- الكافي 2: 233.
5- الكافي 1: 404.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 96.
7- عدة الداعي: 187.

الاهتمام بأمور المسلمين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(1).وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عليك بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يعظم حرمة المسلمين إلّا من عظّم اللّه حرمته على المسلمين. ومن كان أبلغ حرمة لله ورسوله كان أشدّ حرمة للمسلمين، ومن استهان بحرمة المسلمين فقد هتك ستر إيمانه»(3).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «إنّه من عظّم دينه عظّم إخوانه، ومن استخفّ بدينه استخفّ بإخوانه»(4).

الموعظة والإرشاد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمعاذ بن جبل لماّ بعثه إلى اليمن: «واتبع الموعظة، فإنها أقوى لهم على العمل بما يحبّ اللّه، ثم بثّ فيهم المعلمين، واعبد اللّه الذي إليه ترجع، ولا تخف في اللّه لومة لائم»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فيالها مواعظ شافيه لو صادفت قلوباً زاكية وأسماعاً واعية وآراءً عازمة»(6).

ص: 151


1- الكافي 2: 163.
2- الكافي 2: 164.
3- بحار الأنوار 71: 227.
4- الأمالي للشيخ الطوسی: 98.
5- تحف العقول: 25.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 485.

الأمة الواحدة

الأمة الواحدة

اشارة

قال تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(2).

وقد اختلف في معنى الأمة الواحدة؛ ففي بعض التفاسير جاء: أي هذا دينكم دين واحد، عن ابن عباس ومجاهد والحسن، وأصل الأمة الجماعة التي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة واحدة، لاجتماعهم بها على مقصد واحد، وقيل: معناه جماعة واحدة في أنها مخلوقة مملوكة لله تعالى، أي فلا تكونوا إلّا على دين واحد. وقيل: معناه: هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء فريقكم الذي يلزمكم الاقتداء بهم في حال اجتماعهم على الحق، كما يقال: هؤلاء أمتنا أي فريقنا وموافقونا على مذهبنا»(3).

ولكن الظاهر أنّ سياق الآية يدل على وحدة العقيدة، ووحدة الأمة، ووحدة

ص: 152


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة المؤمنون، الآية: 52.
3- تفسير مجمع البيان 7: 111.

رسالة الأنبياء. وتجد أيضاً في آية الأمة الواحدة، أنّ الباري عزّ وجلّ يخاطب عباده بأن يكونوا أمة واحدة مجتمعة على مقصد واحد يجمعهم دين وكلمةواحدة. وهنا لسائل أن يسأل: ولكن أين الآن هذا الاجتماع، وأين هذه الوحدة التي تحدث عنها القرآن الكريم؟

الوحدة بين الادعاء والتطبيق

إنّ الواقع الحالي يكشف لنا وبكل وضوح أنّ الوحدة التي أشار لها القرآن الكريم غير موجودة بين أبناء الأمة الإسلامية، أو بين البشر أجمع، نعم كانت في عهد الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واليوم قد حلّ العكس منها، وظهرت حالة أخرى بدلاً عن تلك الوحدة التي دعا لها الباري عزّ وجلّ، وهي حالة التفرقة والتشتت التي ابتدعها الاستعمار والحكام المنحرفون، الذين يتمسكون بالقوميات والعنصريات، في الوقت الذي يلصقون أنفسهم بالإسلام، ولكن أفكارهم وأعمالهم تؤكد عدم إسلامهم، فقد قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}(1).

هذه الحالة التي تعيشها البلدان الإسلامية في الوقت الحاضر، والتي أدت إلى ذلة المسلمين واستعبادهم على أيدي الغزاة المستعمرين، وتجزئة الأراضي الإسلامية التي كانت موحّدة في عصر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إلى دويلات متناثرة ومتباعدة بعضها عن البعض الآخر، ووضع الحواجز والحدود الجغرافية المصطنعة، التي تفصل الدولة عن جارتها الأخرى، كي تسهل لهم عمليات النهب والاستغلال، بل والاستعباد أيضاً.

ص: 153


1- سورة الصف، الآية 3- 4.

نحن لا نضع اللّوم كلّه على أعداء الإسلام من الغرب والشرق، بل يجب أن نضع بعضه على أنفسنا نحن فنوبّخها؛ لأننا بأنفسنا وبأيدينا عبّدنا الطريقللمستعمرين لغزو بلادنا الإسلامية بتركنا العمل بأوامر اللّه تعالى، فسلبوا واغتصبوا ما تزخر به بلادنا من ثروات، بل إنّهم تمكنوا أن يجرّدوا الإنسان المسلم من شخصيته الإسلامية، وقد تم لهم ذلك عن طريق محو الشخصية الإسلامية، وطمس وتشويه الثقافة والأفكار الإسلامية الصحيحة، ودسوا بدلاً عنها أحكاماً وقوانين وضعية مزيّفة، خدمة لمصالحهم ومطامعهم التي كانوا يصبون إلى تحقيقها.

فقدان الوعي

كل هذه الترويجات الغربية، وهذه الأحكام المزيفة التي غزت البلاد الإسلامية، وفعلت ما فعلت بالمسلمين قد تدفقت بسبب فسح المجال لها بالدخول، وعدم التصدي لها إلّا من قبل بعض العلماء الذين يعدّون على عدد الأصابع، ومن الواضح أنّ اليد الواحدة لا تصفّق، ولذا لم يتمكنوا من منعها كلها، بل منعوا جزءاً يسيراً منها، أمّا الباقي فقد تسرّب إلى شعوب البلاد الإسلامية، واختلط بنفوس المسلمين، بحيث أخذ الناس في بلادنا يستمرئون أفكارهم ويتلبسون بها بدون شعور. والسبب في ذلك يعود إلى مسألة الإعراض عن ذكر اللّه، والقوانين الإلهية في الكتاب الحميد، وهجر سيرة نبيّنا الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمتنا الهداة الصالحين(عليهم السلام)، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ}(1)، قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس اتبعوا هدى اللّه تهتدوا وترشدوا، وهو هداي وهداي وهدى علي بن أبي طالب فمن اتبع هداه في حياتي

ص: 154


1- سورة طه، الآية: 123.

وبعد موتي فقد اتبع هداي ومن اتبع هداي فقد اتبع هدى اللّه ومن اتبع هدى اللّه فلايضل ولا يشقى»(1).

هذا الإعراض عن الأفكار الصحيحة والسيرة النبيلة لأئمة الإسلام، أدّى بنا إلى بقاء حالتنا على ما هي عليه من المآسي والويلات، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ}(2).

الضنك في المعيشة

{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي عيشاً ضيّقاً... وهو أن يقتر اللّه عليه الرزق، عقوبة له على إعراضه، فإن وسّع عليه، فإنّه يضيّق عليه المعيشة، بأن يمسكه ولا ينفقه على نفسه، وإن أنفقه فإنّ الحرص على الجمع، وزيادة الطلب يضيّق المعيشة عليه... وقيل: معناه: أن يكون عيشه منغّصاً، بأن ينفق إنفاق من لا يوقن بالخلف... وقيل: عيشاً ضيّقاً في الدنيا لقصرها وسائر ما يشوبها ويكدرها، وإنما العيش الرغد في الجنة(3). لذا فان {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي بأن لم يتبع أوامري التي ذكرته بها. وسميت الأوامر ذكراً؛ لما أودع في فطرة الإنسان من أصولها وجذورها {فَإِنَّ لَهُ} في الدنيا {مَعِيشَةً ضَنكًا} أي ضيقة؛ وذلك لأن أوامر اللّه سبحانه أكثر ملائمة للحياة، فالإعراض عنها يوجب ضيق العيش مادياً أو روحياً، ولذا نرى أن الكفار حتى في أوج ماديتهم الظاهرية هم في أضنك الحالات الروحية، وأضيق المجالات النفسية {وَنَحْشُرُهُ} أي نحشر المعرض، ومعنى الحشر جمعه مع سائر بني نوعه في {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ} العين لا يرى

ص: 155


1- تأويل الآيات: الظاهرة: 314.
2- سورة طه، الآية: 124.
3- تفسير مجمع البيان 7: 63.

شيئاً(1).

فهذه الأقوال الكثيرة، أغلبها يؤكد على المعيشة الضيقة، التي يعيشها الإنسان البعيد عن ذكر اللّه والمعرض عن أحكامه السماوية.

الواقع الإسلامي

نعم، فهذا الضيق الذي يصفه الباري جلّت قدرته، هو عين الضيق الذي يعيشه المسلمون حالياً، حقاً ما وصف به الباري عزّ وجلّ معيشتهم الضنك التي ابتلاهم بها من جراء إعراضهم عن ذكر اللّه، فالمسلمون اليوم يعيشون نفس هذه المعيشة الضنك، والسبب هو الإعراض عن ذكر الباري وأحكامه الجليلة، ولن يرفع عنهم إلّا بعد الرجوع إلى اللّه، والعمل بما يكون فيه مرضاته، وتطبيق أحكامه. وبالإضافة إلى ذلك جعل سيرة المعصومين(عليهم السلام) المبدأ الأساس في العمل، والاقتداء بهم في كل حركة وسكون.

وبالرغم من هذه المضايقات التي يعيشها المسلمون اليوم، وما تعانيه البلاد الإسلامية من مؤامرات ومخططات، تسعى دوائر الاستعمار دائماً إلى أن تنفذ إلى داخل صفوف المسلمين لتهيئة الأجواء التي من شأنها أن تثير الخلافات والصراعات بين المسلمين، بالإضافة إلى إلقاء الفتن العنصرية بينهم، وذلك للقضاء على الخطر الإسلامي الذي يعتبره الاستعمار المشكلة الأولى والأخيرة التي تقف بوجه أطماعه، فلنبحث عن السبب الذي ساعد المستعمرين في أن يتمكنوا من النفوذ والتغلغل بين المسلمين.

نقاط الضعف

اشارة

لنرجع إلى المجتمع ونضرب مثالاً بسيطاً ومن ثم نقارنه بالوضع العام، مثلاً: إذا كان شخصان متخاصمين لأيّ سبب كان، فكلاهما يحاول أن يجد نقطة

ص: 156


1- تفسير تقريب القرآن 3: 515.

ضعف في خصمه ليستطيع بها أن ينكل به، ثم ينتصر عليه، فإذا ما وجد نقطة ضعف أو طرقاً مؤدية وممهدة في خصمه توصله إلى نقاط ضعفه، اغتنم تلك الطرق وتمكن بواسطتها أن يصل إلى نقطة ضعف الخصم ومن ثم ينتصر عليه.

ونحن اليوم توجد الكثير والكثير من نقاط الضعف فينا، والكثير الكثير من الطرق الممهدة التي توصل العدو إلى نقاط ضعفنا، ونحن بأنفسنا أوجدنا بعض هذه النقاط، وبأنفسنا سهّلنا للعدو الوصول والتغلغل إلى صفوفنا عن طريق تمهيدنا له، وإعلامه بشكل مباشر وغير مباشر بنقاط ضعفنا.

ومن أهم وأبرز نقاط ضعفنا التي مهّدت الطريق لاستعمارنا:

1- التخلف العلمي والجهل المتفشي في كافة مجالات الحياة وبشكل واسع، فبالرغم من أنّ الإسلام يشجّع على طلب العلم والمعرفة، لا بل أنه يفرضه على المسلمين كواجب شرعي ففي الحديث الشريف عن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اطلبوا العلم ولو بالصين»(2).

بالإضافة إلى أنّ الإسلام يعتبره أساساً وقاعدة لبناء شخصية الإنسان كما جاء في الحديث:

قال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لا يصلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم، ويظفر من يحلم، والعلم جنة، والصدق عز، والجهل ذل، والفهم مجد، والجود نجح، وحسن الخلق مجلبة للمودة، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(3).

ص: 157


1- بصائر الدرجات 1: 2.
2- روضة الواعظين 1: 11.
3- تحف العقول: 356.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان في ما وعظ لقمان ابنه أن قال له: يا بني اجعل في أيامك ولياليك وساعاتك نصيباً لك في طلب العلم، فانك لن تجد له تضييعاً مثل تركه»(1).

وعن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد(عليهما السلام) وقد سئل عن قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ}(2) فقال: «إذا كان يوم القيامة قال اللّه تعالى للعبد: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت. وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلمت فيخصمه، فتلك الحجة البالغة لله عزّ وجلّ على خلقه»(3).

2- عدم وجود التنظيم الذي هو العمود الفقري لتوحيد الطاقات والصفوف، فلأن المسلمين يفتقرون اليوم إلى التنظيم، نرى أن طاقاتهم وجهودهم مبعثرة غير منظمة في الوقت الذي يسعى أعداؤهم إلى التنظيم في محاربة الإسلام والمسلمين، فهم ينظمون أنفسهم ليجمعوا قواهم ومخططاتهم ضد الإسلام والمسلمين، وينضوي أبناء المسلمين تحت تنظيمات منحرفة لكي لا يستفيد منها المسلمون.

3- انعدام الوحدة والأخوة الإسلامية التي تحدّث عنها القرآن الكريم، ومن ثم دعا لها المعصومون(عليهم السلام)، وحثوا المسلمين على العمل بها، كما فعلوا هم(عليه السلام).

ومن الواضح أنّ انعدام مثل هذه الأمور المهمة بين المسلمين، سهّلت للعدو الوصول وبدون أي مشقة إلى أهدافه وأطماعه، فسيطر على بلاد الإسلام، وبسط

ص: 158


1- الأمالي للشيخ المفيد: 292.
2- سورة الأنعام، الآية: 149.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 292.

نفوذه فيها، فقام باستغلال الموارد والثروات الطبيعية التي تزخر بها أراضيالبلدان الإسلامية، وتسخيرها لنفسه، واستثمار رؤوس أموالها لصالح منافعه الشخصية، بين ما القرآن الكريم يقول لنا: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

ما هي البداية؟

إذاً فلا بدّ من تبديل هذه الحالات المريضة إلى الحالات الإيمانية الصالحة، إذ لا بد وأن تتبدل حالة التفرقة هذه التي يعيشها المسلمون اليوم إلى حالة الوحدة والأخوة، ولا بدّ من تشكيل الأمة الإسلامية الواحدة.

ولأجل تحقيق هذا الأمر المهم، لا بدّ لنا من تأسيس منظمة، أو مؤسسة، أو هيئة قوية، تأخذ على عاتقها تحقيق الوحدة والأخوة الإسلامية التي أشار إليها القرآن الكريم. كما يجب أن تكون هذه المؤسسة في بلدٍ تسوده الحرية، ليتمكن أعضاء هذه المؤسسة من القيام بدورهم من دون أن يُفرض عليهم، أي نوع من الضغوطات التي من شأنها أن تحدد أو تقلّص من نشاطاتهم في هذا المجال.

ولأجل أن تصل هذه المؤسسة إلى هذا الهدف الكبير، يجب أن تعمل وبجهد وإخلاص على إيجاد الأمور التالية بين المسلمين:

1- تنظيم المسلمين وتوحيد طاقاتهم وكفاءاتهم، ومن ثم صبّها في وعاء أو مجهود واحد، يعود إلى خدمة الإسلام والمسلمين.

2- نشر الوعي وثقافة الحياة المنبثقة من القرآن وسيرة أهل البيت(عليهم السلام)، كبديل عن التخلف المتفشي، والسائد بين المسلمين، وكبديل أيضاً عن الثقافة المزيفة

ص: 159


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.

والمنحرفة التي غزت بلاد الإسلام، حتى نعدّ من الأجيال اللاحقة أجيالاً واعيةمثقفة عارفة بمكائد الغزاة المستعمرين، ومتبصرة بأمور دينها ودنياها.

ومن الخطوات التي يمكن أن تعمل عليها في هذا المجال هي: إصدار الكتب في هذا المجال تتحدث عن كيفية تكوين الأمة الإسلامية الموحدة، والسبل التي تحقق ذلك، والموانع التي يمكن أن تحول دونها وهكذا.

كما أنّ من المهم جداً أن يتحلّى أعضاء المؤسسة بالأخلاق الكريمة والصفات الحميدة والوعي والإخلاص والتفاني، كي يتمكنوا من تبديل عدة أمور منتشرة في المجتمع إلى مضاداتها على الصورة الآتية:

أ: تبديل حالة حبّ الذات والامتيازات الشخصية إلى «فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك»(1) ونبذ روح (الأنا) التي أصبحت الكلمة الجارية على ألسن المسلمين، وزرع مبدأ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، ورعاية حقوقهم كبديل عنها. فلو تتبعنا التاريخ الإسلامي لوجدنا أن أحد الأمور التي دعت كفّار قريش إلى أن يقفوا ضد الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن يحاربوا رسالته، بالرغم من أنهم يعرفونه بالصادق الأمين، هو أنهم لاحظوا أنّ بإيمانهم برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وتصديقهم رسالته، يتحتم عليهم أن يرفعوا أيديهم عن الامتيازات التي كانت تحت تصرفهم، لكنهم لا يدركون أن الإسلام لا يلغي الامتيازات الصحيحة والمشروعة لذوي الكفاءات، كما يرتقي أصحاب الوجاهة، والمقامات الرسمية والاجتماعية إلى مراتب أعلى وأعلى؛ لأن الأمة إذا ارتقت وارتفعت ارتفع كل شيء فيها، فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَٰتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ

ص: 160


1- تحف العقول: 74 والرواية وصية من أمير المؤمنين لابنه الإمام المجتبى(عليهما السلام).

لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}(1).

ب: تبديل حالة التفرقة الموجودة بين المسلمين إلى حالة الاجتماع والوحدة، كما كان عليه المسلمون الأوائل في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2)، وإذا ما قمنا بهذا الأمر فسوف يكون تأثيره جيداً مع مرور الزمن، وخصوصاً على أفكار الشباب، فمن شبّ على شيء شاب عليه، ومن مال إلى فكرة أو عقيدة فإنها ستكون جزءاً منه بمرور الزمن، فإذا تمكّنا أن نوجد هذه الفكرة على الساحة العملية، عندها ستتبدل الثقافات والأهداف الإقليمية المحددة الضيقة بين المسلمين، إلى تفكير أسمى، وهدف واحد أكبر وأوسع، وهو ضرورة الانضمام إلى الأمة الإسلامية الواحدة، التي تضم تحت أكنافها جميع شرائح وطبقات المسلمين، على اختلاف هوياتهم وجنسياتهم، وعلى اختلاف ألوانهم وألسنتهم، إذ لا اعتبار باللون أو الجنسية، كما في الحديث الشريف عن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إذ «لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود، إلّا بالتقوى»(3).

فإذن يجب على المسلمين أن يجدّوا بإخلاص في تحقيق هذا الأمر الإلهي، ذلك أن الاستعمار على أتم الاستعداد والتأهب للانقضاض على الإسلام والمسلمين، فإنه إذا ما شاهد مثل هذه الفرصة وهي عدم الوحدة فإنه سرعان ما ينتهزها، ولا يجعلها تفلت من يده، فيحقق بها مصالحه وأغراضه الاستعمارية

ص: 161


1- سورة الأعراف، الآية: 32.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
3- الإختصاص: 341.

التي هي هدف ومبدأ أساسي من أهدافه ومبادئه العنصرية.

مسؤولية المسلمين

اشارة

هناك مسألة لا بأس بذكرها ومن ثم نقارنها مع ما عليه حال المسلمين في الوقت الحاضر؛ فلقد كانت مسألة العبيد منتشرة في أمريكا كما كان قبل ظهور الإسلام، كانت حياة العبيد في أمريكا سيئة جداً، وهناك كتاب يشرح هذه القضية لا بأس بمراجعته(1)، وستتعرف عند مطالعته على الحالة المروّعة التي كان يعيشها العبيد في أمريكا، وظلت أحوالهم ومعاناتهم على هذه الحالة المأساوية، بانتظار المنقذ الذي ينجيهم من هذه المآسي والأحوال، حتى جاء من كان يريد إنقاذهم(2) وتحريرهم، فأخذ يدعو إلى تحرير العبيد، وإعطائهم حرياتهم، كإخوانهم البيض، والمطالبة بحقوقهم كافة بلا استثناء، فقدم في سبيل ذلك الغالي والنفيس، حتى قيل: إنه ضحّى بنفسه في سبيل ذلك المبدأ الذي أعلن فيه المطالبة بحقوق وحريات العبيد.

وكتب المؤرخون أنه بعد أن طرح نظريته على الساحة العملية قام بعض العبيد بالمظاهرات الاحتجاجية ضد نظرية التحرير، ومعنى ذلك أنهم كانوا يطلبون البقاء على عبوديتهم وحياتهم الأولى، حياة العبودية والحرمان، بحيث أنهم كانوا يعتقدون أن حياة العبودية هي أفضل لهم من حياة الحرية؛ والسبب يعود إلى أنهم لم يذوقوا ولو لمرة واحدة طعم الحرية في حياتهم، فقد قضوا سنيناً طويلة على هذه الحالة، فتشبعت نفوسهم وأفكارهم بالعبودية، فكانت النتيجة أنهم فضّلوها على الحرية، واعتبروا أن الحياة لا يوجد فيها شيء مضاد

ص: 162


1- كتاب تشريح جثة الاستعمار لمحمد مورو.
2- هو إبراهام لينكون.

للعبودية، بل أنّ الاستعباد هو كل شيء في هذه الحياة وإنّ الأمثال تضرب ولا تقاس.

المسلمون اليوم

فلو قارنّا بين حال عبيد أمريكا وبين ما هو عليه حال بعض المسلمين اليوم، لوجدنا أن الأمر جارٍ هكذا أيضاً في بعض البلاد الإسلامية، فاليوم ترى ما يحدث في بلاد الإسلام من مخططات استعمارية خبيثة، هدفها القضاء على شخصية المسلم بصورة خاصة، وعلى الإسلام بصورة عامة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ما نراه يحدث اليوم من نشوب الحروب الكثيرة بين المسلمين أنفسهم وليس مع غيرهم، بل إنّ المسلم في الدولة الكذائية مثلاً بدأ يقتل أخاه المسلم الذي يعيش معه على أرض واحدة، وتجمعهم عقيدة واحدة، وتربطهم روابط اجتماعية معينة، ولكن من داوعي الأسف أن يفقد بعض المسلمين هذه الروابط ويستبدلها بالتناحر والتنازع.

بالإضافة إلى ذلك ما تعانيه البلدان الإسلامية ككل من عمليات نهب واستغلال لثرواتها الطبيعية الوفيرة، حيث أخذ المستعمرون يستغلونها لصالح منافعهم الشخصية، ومن ثم يضربون بها المسلمين.

ومع كل هذه المعاناة، وهذه الأوضاع، فإنّا لو طرحنا مبدأ الوحدة الإسلامية ترى البعض لا يقبلون بتكوين الأمة الإسلامية الواحدة، أو يتصورون أنّ إرجاع المسلمين إلى الأمة الإسلامية الواحدة من المسائل المثالية التي لا تقبل التحقق؛ وذلك بسب رسوخ حالة التفرقة والتشتت بين المسلمين. فالبعض من الناس يهلكون أنفسهم لأجل شهوة مؤقتة، فمثلاً هناك من يدخن الكثير من السجائر بالرغم من منع الطبيب له، فما هو السبب الذي يدعوه لهذا؟

الجواب: إنّ الإنسان الذي يدخّن كثيراً، بالرغم من منع الطبيب له هو: أنه قد

ص: 163

أبطل قدرته الفكرية، وهكذا بالنسبة إلى إرادته، فقد عطلهما عن العمل، بحيث أنه جعل الرغبة هي البديل، فأصبح هذا الإنسان مسيّراً من قبلها، ويعمل بحسبالإيحاءات التي توجهها له شهوته من دون أن يراجع نفسه وعقله، ومثل هذا الأمر تراه يجري الآن عند بعض المسلمين، إذ أنهم يرغبون بالتفرقة والتشتت بدلاً من الوحدة والأخوة، وذلك تلبية لنداء الشهوة والشيطان والعصيان، ومثل هذه الأمور تصبّ في صالح الاستعمار الذي يدعو إليها، ويعمل ليله ونهاره على خلق مثل هذه الأجواء المضطربة التي من خلالها يسعى إلى تحقيق غاياته وأهدافه العنصرية.

الاستعمار وراء التجزئة

اشارة

قبل مائتي سنة كانت أفغانستان جزءاً من إيران، ولكن اليوم نجدهما على هيئة أخرى، فقد أصبحت أفغانستان دولة ذات سيادة مستقلة استقلالاً تاماً عن إيران.

ومن الأمثلة الأخرى، أننا لو تتبعنا التاريخ المعاصر، ووقفنا وقفة قصيرة عند العهد العثماني، حيث كانت الإمبراطورية العثمانية قد سيطرت سيطرة تامة على مناطق شاسعة وكبيرة من الدول الإسلامية، فلم تكن هناك أي موانع أو حواجز تعرقل وتقيد تحرك الأفراد من منطقة إلى أخرى، على العكس مما هو عليه الآن، لأن عمر الحدود الجغرافية بين بلاد المسلمين لم يتجاوز الستين سنة، حيث كانت البلاد الإسلامية بلداً واحداً والشعب المسلم شعباً واحداً، فلا تفرّق ولا عنصريات ولا قوميات، وبقي الأمر على هذا الحال يجري وفق مجراه، حتى بات الضعف والعجز يدبّان في إدارة ومؤسسات الحكومة العثمانية؛ نتيجة سياساتهم الهوجاء.

وقد فسح هذا الضعف المجال لبوادر الاستعمار أن تنشأ وتتهيأ للظهور على

ص: 164

الساحة العالمية، وبالفعل ظهرت هذه القوى الجديدة، وأخذت تباشر عملها العدواني ضد الإسلام، فأول عمل قامت به هو أنها عملت على تشتيت هذاالشمل وتمزيقه، فتجزأت دولة العثمانيين - بعد أن كانت موحّدة - إلى دويلات ذات حواجز وحدود جغرافية تفصلها عن جاراتها، فأصبحت الدولة الإسلامية منقسمة تحت سيطرة واستعمار قوى استعمارية عديدة. فما هو السبب الذي يقف وراء مثل هذه العمليات الاستعمارية في تجزئة بلادنا الإسلامية؟

الجواب: الكل يعرف أنّ هدف الاستعمار الأول والأخير هو النهب والاستغلال، فكيف يتم له ذلك؟ لا بدّ من وجود طرق توصله إلى ما يريد، ومن هذه الطرق: تجزئة الدول الإسلامية، وهذا ما يسعى الاستعمار إلى تحقيقه بالذات، فإنهم يعملون ليل نهار على إيجاد مخططات عدوانية بموجبها يتم ترسيخ تجزئة البلاد الإسلامية، ومن بعدها تتم لهم السيطرة عليها، هذا من جانب، ومن جانب آخر تراهم ينشرون الفساد، وبشتى أنواعه في بلادنا؛ ولهذا نرى أن الفساد يزداد يوماً بعد آخر، بدون أن نشعر به، وما علينا إلّا أن نقف بكل حزم وقوة أمام هذه الهجمات الاستعمارية، لرد هذا المكر الشيطاني الذي يستخدمه العدوّ وسياساته العدوانية ضد أبناء أمتنا الإسلامية.

التخلف خطة استعمارية

أحد الأمور التي جعلت الاستعمار يتكالب على البلاد الإسلامية هو ما تزخر به أراضي هذه البلاد من ثروات معدنية هائلة، وهناك أمور أخرى كثيرة مذكورة في محلها، ولكن الأمر الذي لا بدّ من الإشارة إليه هو أنّ ما تعانيه البلدان الإسلامية من التخلف الطاغي عليها هو الذي مكّن الاستعمار أن يسيطر على هذا البلاد، ويسخّر ما يشاء من ثرواتها لصالحه، وقد عمل المستعمرون على تكريس هذا التخلف حتى لا يفيق المسلمون من سباتهم، ومن ثم يطالبون

ص: 165

بالتحرر والاستقلال.

وقد رأى أن الحل الوحيد للحد من هذه الأخطار هو تجزئة هذه البلاد إلىدويلات، فبعد أن تمّ له ما أراد وجد أنه وبتجزئة هذه البلاد يستطيع أن ينشّط نفوذه ويقويه بين حين وآخر، وأنه يتمكن من بسط هيمنته متى ما يشاء، فأخذ يسرح ويمرح كيف ما يريد. فالواجب علينا إيجاد الحل للتخلص والقضاء على هذه المخططات الاستعمارية.

التصدي للمخططات الاستعمارية

اشارة

ولأجل القضاء عليها نستطيع أن نوجز بعض النقاط علّها تكون جزءاً من الحل لهذه المخططات الغربية:

1- إننا إذا أردنا أن نقف بوجه هذه المخططات، فالأمر الأول الذي يجب علينا أن نعمل به، هو أن نغيّر ما بأنفسنا كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1).

فالواجب علينا أن نغير من أنفسنا تغييراً جذرياً، وهذا يتم بالرجوع إلى القرآن الكريم وسيرة رسولنا الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأئمتنا الطاهرين(عليهم السلام)، وأن نعمل بمثل ما عملوا، فإذا تمكنا من السير على نهجهم بالشكل الصحيح، فسوف نتمكن من طرد الاستعمار من بلادنا بالتأكيد، وإننا على أقلّ تقدير سوف لا نكون سوقاً لتصريف منتجاتهم وبضائعهم، بل سوف نسعى إلى الاعتماد على أنفسنا في ما يسمى بعالم اليوم بالاكتفاء الذاتي والاستعمار يعلم أنه إذا حصل المسلمون على سيادتهم وكرامتهم الكاملة سوف لا يطول عمره كثيراً.

فسيرة الأئمة الهداة المعصومين عليهم الصلاة والسلام شعلة وضاءة تكشف

ص: 166


1- سورة الرعد، الآية: 11.

لنا سواد الظلمات، وترشدنا إلى سبل الضياء والنور، الذي يرضي اللّه سبحانه وتعالى ورسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

روي عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في وصيته لعبد اللّه بن جندب أنه قال: «يا ابن جندب! حقّ على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها، وإن رأى سيئة استغفر منها...» ثم قال(عليه السلام): «رحم اللّه قوماً كانوا سراجاً ومناراً، كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم، ليس كمن يذيع أسرارنا...»، ثم قال(عليه السلام): «يا ابن جندب! إنّ للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه ومصائده».

قلت: يا ابن رسول اللّه وما هي؟

قال: «أمّا مصائده فصد عن برّ الإخوان، وأمّا شباكه فنوم عن قضاء الصلوات التي فرضها اللّه...» ثم قال(عليه السلام): «يا ابن جندب، الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحط بدمه في سبيل اللّه يوم بدر وأحد، وما عذّب اللّه أمة إلّا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم. يا ابن جندب، بلِّغ معاشر شيعتنا، وقل لهم، لا تذهبنّ بكم المذاهب، فواللّه لا تنال ولايتنا إلّا بالورع والاجتهاد في الدنيا، ومواساة الإخوان في اللّه، وليس من شيعتنا من يظلم الناس!» ثم قال(عليه السلام): «يا ابن جندب إنّ عيسى بن مريم(عليه السلام) قال لأصحابه: أرأيتم لو أن أحدكم مرّ بأخيه، فرأى ثوبه قد انكشف عن بعض عورته، أكان كاشفاً عنها كلّها أم يرد عليها ما انكشف منها؟

قالوا: بل نرد عليها.

قال: كلا بل تكشفون عنها كلها - فعرفوا أنه مثل ضربه لهم - .

فقيل: يا روح اللّه وكيف ذلك؟

قال: الرجل منكم يطّلع على العورة من أخيه فلا يسترها، بحق.

ص: 167

أقول لكم: إنكم لا تصيبون ما تريدون إلّا بترك ما تشتهون. ولا تنالون ما تأملون إلّا بالصبر على ما تكرهون، إيّاكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة،وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه. لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب، وانظروا في عيوبكم كهيئة العبيد، إنما الناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا المبتلى واحمدوا اللّه على العافية»(1).

ومن وصيته(عليه السلام) لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول مؤمن الطاق جاء فيها وهو يخاطب ابن النعمان: «يا ابن النعمان إيّاك والمراء فإنه يحبط عملك...» إلى أن قال(عليه السلام) «إن أبغضكم إليّ المترئسون، المشاؤون بالنمائم، الحسدة لإخوانهم، ليسوا مني ولا أنا منهم، إنما أوليائي الذين سلّموا لأمرنا واتبعوا آثارنا واقتدوا بنا في كل أمورنا»(2).

2- العمل على تنمية ثلاثة أمور: العقل، العلم، التربية.

أ: العقل

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «لما خلق اللّه العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب»(3).

فيجب على المسلمين أن يعملوا على تنمية عقول أبنائهم؛ لأن العقل نعمة أنعم بها اللّه عزّ وجلّ على عباده؛ حتى يتمكن العبد من مواجهة الأهواء

ص: 168


1- تحف العقول: 301.
2- تحف العقول: 307.
3- الكافي 1: 10.

والشهوات والانحرافات التي يواجهها من كل حدب وصوب، فالعقل يجب أن يكون هو الحاكم لدى الفرد المسلم لا الشهوة والرغبة، فإذا ما أصبح العقل هوالحاكم، وهو المقرر، فستتغير بالتأكيد جميع أعمال الإنسان، وتتجه نحو الصواب والصلاح.

لقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) تبيّن دور العقل، وتفضيل اللّه سبحانه وتعالى له على باقي المخلوقات في البدن الإنساني.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لكل شيء آلة وعدة، وآلة المؤمن وعدته: العقل، ولكل شيء مطية، ومطية المرء العقل، ولكل شيء دعامة ودعامة الدين العقل، ولكل شيء غاية، وغاية العبادة العقل، ولكل قوم راع وراعي العابدين العقل، ولكل تاجر بضاعة، وبضاعة المجتهدين العقل، ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل، ولكل سفر فسطاط يلجأون إليه وفسطاط المسلمين العقل»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليس الرؤية مع الأبصار، وقد تكذب العيون أهلها، ولا يغش العقل من انتصحه»(2).

وقال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «من لم يكن عقله من أكمل ما فيه، كان هلاكه من أيسر ما فيه»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «يغوص العقل على الكلام، فيستخرجه من مكنون الصدر كما يغوص الغائص على اللؤلؤ المستكنّة في البحر»(4).

ص: 169


1- أعلام الدين: 170.
2- بحار الأنوار 1: 95.
3- الإحتجاج 2: 320.
4- الإختصاص: 244.
ب: العلم

وهو كالمصباح المضيء في الظلمات، إذ يحفظ الإنسان من الوقوع فيالمهلكات، وبالعلم يتمكن الإنسان أن يحفظ نفسه، ويقيها من الانحراف إلى تيارات الكفر والعصيان؛ فلذا يجب أن يتعلم كل فرد صغيراً كان أو كبيراً من المسلمين، لينتبهوا إلى ما يحاك لهم من مؤامرات تريد الهلاك لهم؛ لذا يجب أن تطبع الكتب فضلاً عن الصحف والمجلات والإذاعات وباقي وسائل التوعية؛ لأنّ عدد المسلمين في العالم أكثر من مليار ونصف المليار(1).

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اطلبوا العلم ولو بالصين فان طلب العلم فريضة على كل مسلم»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «كلّما زاد علم الرجل زادت عنايته بنفسه، وبذل في رياضتها وصلاحها جهده»(3).

وقال(عليه السلام): «يا مؤمن، إن هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلمها فما يزيد من علمك وأدبك يزيد في ثمنك وقدرك فإن بالعلم تهتدي إلى ربك وبالأدب تحسن خدمة ربك وبأدب الخدمة يستوجب العبد ولايته وقربه فاقبل النصيحة كي تنجو من العذاب»(4).

وقد جعل الباري عزّ وجلّ العلم ذا شأن وشرف عظيم، وهذه الشرفية والشأنية العظيمة لا تليق بأن تستودع في غير محلها، فلا بد وأن توضع في المحل المناسب لها، وقد وضعها سبحانه في مكانها الذي يتلاءم مع منزلتها الرفيعة

ص: 170


1- آخر الإحصاءات ذكرت أن عدد المسلمين بلغت الملياران.
2- روضة الواعظين 1: 11.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 535.
4- روضة الواعظين 1: 11.

فأودعها في أفضل مخلوقاته، وهو الإنسان.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أنّ الباري عزّ وجلّ في أول سورة أنزلها على نبيه الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تحدث عن العلم والمعرفة، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدلّ على أن القرآن قد أعطى للعلم مكانة خاصة من بين آياته الشريفة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم... به يطاع الرب وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام والعلم إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء»(1).

ج: التربية

وهي عامل مهم في تعديل وتهذيب أفكار المسلمين، ونرى الذين اهتموا بهذا الجانب رأوا ثماراً طيبة ونتاجاً رائعاً، وأصل التربية هي هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من كلّف بالأدب قلت مساويه»(2).

وقال(عليه السلام): «إن الناس إلى صالح الأدب أحوج منهم إلى الفضة والذهب»(3).

وفي وصية لقمان لابنه قال: «يا بني إن تأدبت صغيراً انتفعت به كبيراً، ومن غني بالأدب اهتمُ به ومن أهتم به تكلف علمه، ومن تكلف علمه اشتد طلبه ومن اشتد طلبه أدرك منفعته فاتخذه عادة فانك تخلف في سلفك وتنفع به من خلفك ويرتجيك فيه راغب ويخشى صولتك راهب وإياك والكسل عنه والطلب لغيره..»(4). ولكن الشيء الذي يثير الحزن هو أن بلادنا الإسلامية أصبحت

ص: 171


1- بحار الأنوار 1: 171.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 606.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 237.
4- تفسير القمي 2: 164.

مملوءة بالمناهج والأفكار الغربية.

قال أحد الشخصيات الغربية: بأنّ مناهجنا في البلد الكذائي موجودة كاملاً، ولكن دون أن يشعروا بذلك كالماء الموجود في إناء زجاجي شفاف فالذي ينظر إلى الإناء يتصور أنّه فارغ، ولكنّه مملوء بالماء.

هكذا تسللت المناهج الغربية إلينا، وأخذنا نعمل بها دون أن نشعر، بين ما جعلنا الأحكام الإسلامية الصحيحة التي دعانا اللّه عزّ وجلّ وأئمتنا الهداة(عليهم السلام) إلى تطبيقها على الرفوف للتراث، أو للزينة فقط.

إذاً، فلا بدّ أن نسعى إلى تحقيق تلك الأمور التي ذكرناها آنفاً، وأن نعمل على تنميتها لأنها من الأمور العليا التي دعا إليها الإسلام العظيم، وإن شقّ علينا ذلك وطال بنا العناء والجهد، إذ أنّ اللّه عزّ وجلّ وراء عباده المؤمنين، وقد وعدهم بنصره حيث قال سبحانه وتعالى:

{إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1).

«اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

الإسلام يرفض التفرقة

قال تعالى: {وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ}(3).

ص: 172


1- سورة محمد، الآية: 7.
2- الكافي 3: 424.
3- سورة البقرة، الآية: 163.

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ}(1).وقال عزّ وجلّ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ}(2).

وقال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَٰحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}(3).

وقال عزّ من قائل: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(4).

مسؤولية المسلمين

قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسَْٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}(7).

وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(8).

ص: 173


1- سورة النساء، الآية: 1.
2- سورة المائدة، الآية: 48.
3- سورة يونس، الآية: 19.
4- سورة الحجرات، الآية: 13.
5- سورة الحجر، الآية: 92-93.
6- سورة النحل، الآية: 93.
7- سورة الصافات، الآية: 24.
8- سورة الأنفال، الآية: 46.

الإسلام يدعو للعلم والتعلم

قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1).وقال سبحانه: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(2).

وقال جلّ وعلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(4).

العمل بسيرة المعصومين(عليهم السلام)

قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ}(5).

وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

الإسلام يرفض التفرقة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزال أمتي بخير ما تحابوا وتهادوا، وأدّوا الأمانة»(7).

ص: 174


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة طه، الآية: 114.
3- سورة العلق، الآية: 1- 5.
4- سورة النحل، الآية: 43.
5- سورة الأحزاب، الآية: 21.
6- سورة الممتحنة، الآية: 6.
7- عيون أخبار الرضا 2: 29.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «لا تزال أمتي بخير ما لم يتخاونوا وأدوا الأمانه وآتوا الزكاة وإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين»(1).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إلزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(2).وقال(عليه السلام): «إياكم والفرقة فإنّ الشاذ عن أهل الحق للشيطان كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب»(3).

وقال(عليه السلام): «إياكم والتدابر والتقاطع لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(4).

مسؤولية المسلمين

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا معاشر قرّاء القرآن اتقوا اللّه عزّ وجلّ فيما حمَّلكم من كتابه فإني مسؤول وإنّكم مسؤولون، إني مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأما أنتم فتسألون عمّا حملتم من كتاب اللّه وسنتي»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم بتقوى اللّه فيما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون فإن اللّه تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(7)، ويقول:

ص: 175


1- ثواب الأعمال: 251.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 175.
4- روضة الواعظين 1: 137.
5- الكافي 2: 606.
6- الكافي 2: 164.
7- سورة المدثر، الآية: 38.

{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(1)، ويقول: {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(2) يا عباد اللّه أن اللّه جلّ وعزّ سائلكم عن الصغير من عملكموالكبير»(3).

عن سفيان قال سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «عليك بالنصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(4).

السنة تدعو للعلم والتعلم

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «تعلموا العلم فإنّ تعلمه حسنة»(5).

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لست أحب أن أرى الشاب منكم إلّا غادياً في حالين: إما عالماً أو متعلماً»(6).

وعن قال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار وتواضعوا لمن تُعلِّمونَه العلم وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فذهب باطلكم بحقكم»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام):«عليكم بالتفقه في دين اللّه ولا تكونوا أعراباً»(8).

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط

ص: 176


1- سورة آل عمران، الآية: 28.
2- سورة الحجر، الآية: 92-93.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 260.
4- الكافي 2: 164.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 615.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 303.
7- الكافي 1: 36.
8- الكافي 1: 31.

حتى يتفقهوا»(1).

العمل بسيرة المعصومين(عليهم السلام)

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خطبة له في حجة الوداع:«يا أيها الناس، واللّه ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلّا وقد نهيتكم عنه»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اسمعوا وأطيعوا لمن ولّاه اللّه الأمر فإنه نظام الإسلام»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أسّ الإسلام النامي، وفرعه السامي»(4).

ص: 177


1- الكافي 1: 31.
2- الكافي 2: 74.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 14.
4- الكافي 1: 200.

الإنسان والمحبة الاجتماعية

بين المحبة والمودّة

اشارة

قال تعالى في محكم كتابه الكريم:

{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا}(1).

الوُدّ معناه المحبة والألفة وأحياناً يفرق بين المودة والمحبة، فالمودة تطلق على الحب الذي يتجاوز القلب ويظهر من خلال الأفعال ولكن المحبة حب يكمن في القلب ولا يتجاوزه إلى السلوك. فأحياناً يحب الإنسان صديقاً له في قلبه فقط فهذا يسمى (الحب) وأحياناً يهدي إليه كتاباً تعبيراً له عن حبّه وإظهاراً لمودته فيسمى مودة، فاللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} يجعل لهم اللّه مودة وهذا أمر طبيعي؛ لأن القلوب كلها بيد اللّه سبحانه، واللّه عزّ وجلّ هو الذي يجعل الإنسان الصالح موضع اعتزاز الناس ومحبوباً عند الجميع.

ولذلك ورد في الخبر: ما أقبل عبد بقلبه إلى اللّه إلّا أقبل اللّه بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقهم مودتهم ورحمتهم ومحبتهم.(2) وورد أيضاً: إن اللّه إذا أحب مؤمناً قال لجبرائيل: إني أحببت فلاناً فأحبه فيحبّه جبرائيل، ثم ينادي في السماء ألا إن

ص: 178


1- سورة مريم، الآية: 96.
2- تفسير مجمع البيان 6: 455.

اللّه أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له قبول في أهل الأرض(1).

ومن هنا جاء ما صح عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «لو ضربت خيشوم(2) المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ولو صببت الدنيا بجماتها(3) على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك انه قضي فانقضى على لسان النبي الأمي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: يا علي، لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق»(4).

فان قلوب الناس بيد اللّه تعالى وهو يهديها إلى الحب والولاء لبعض الأشياء وينفرها عن الأشياء الأخرى.

ولذلك ورد في الآية الكريمة: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}(5).

الناس يحبون الصالحين

إن الإنسان الصالح له مكانة خاصة في قلوب الناس ويحظى بمحبتهم وودهم، فمثلاً إذا كان الطبيب لا يأخذ أجرته إلّا بمقدار حقّه وجهده وعمله عد من الصالحين وعرف بالصلاح بين الناس، وبهذا يكون موضع اعتزازهم واحترامهم. وهكذا كل إنسان مهما كان عمله فما دام يعمل لله ويخدم الناس فان اللّه معه، وسيلقي محبته في قلوبهم، وبذلك يكون محبوباً عند الجميع، هذه سنة من سنن الحياة التي أودعها اللّه في هذا الكون أن الصالح محبوب والطالح مبغوض.

ص: 179


1- تفسير مجمع البيان 6: 455.
2- الخيشوم: أصل الأنف.
3- الجمّات: جمع جمّة بفتح الجيم، وهو من السفينة مجتمع الماء المترشح من ألواحها، والمراد لو كفأت عليهم الدنيا بجليلها وحقيرها.
4- نهج البلاغة، قصار حكم: الرقم 45.
5- سورة الحجرات، الآية: 7.

قصة الطبيب مع الفقراء

كان في مدينة بغداد طبيب عرف بمعاملته الجيدة تجاه مراجعيه، وإذا كان المراجع فقيراً ضعيف الحال، كان يعفيه عن دفع أجور المعاينة، بل كان أحياناً يعطي تكاليف الدواء والغذاء لمريضه أيضاً كي يحصل على الشفاء التام، وذات يوم راجعه أحد أهل العلم لبعض الالتهابات التي كانت قد أصابت حنجرته، وبعد أن قام بالفحص التام عن المرض وصف الدواء المناسب، ورفض أن يأخذ أجور العلاج بل وأصر على ذلك، رغم المحاولات الكثيرة التي بذلت من أجل الدفع، إذ كان يقول: إني لا آخذ المال من طلاب العلوم الدينية وعلماء الدين.

فمن الطبيعي أن إنساناً كهذا يحبه الناس ويحترمونه، وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): «... ثلاثة تورث المحبة: الدين والتواضع والبذل»(1).

ولذلك لما توفي هذا الطبيب الطيب جرى له تشييع مهيب وكأنه عظيم من عظماء البلد، وهذا نتيجة أعماله الصالحة وخدمته للناس، وقد روي عن الإمام الباقر(عليه السلام): «إن فيما ناجى اللّه عزّ وجلّ به عبده موسى(عليه السلام) قال:

إن لي عباداً أبيحهم جنّتي وأحكّمهم فيها، قال: يا رب ومن هؤلاء الذين تبيحهم جنتك وتحكّمهم فيها؟ قال: من أدخل على مؤمن سروراً، ثم قال: إن مؤمناً كان في مملكة جبار فولع(2) به فهرب منه إلى دار الشرك، فنزل برجل من أهل الشرك فأظله وأرفقه وأضافه، فلما حضره الموت أوحى اللّه عزّ وجلّ إليه وعزّتي وجلالي لو كان لك في جنتي مسكن لأسكنتك فيها ولكنها محرمة على من مات بي مشركاً ولكن يا نار هيديه(3) ولا تؤذيه ويؤتى برزقه طرفي النهار»،

ص: 180


1- تحف العقول: 316.
2- ولع: استخف.
3- الهَيْدُ: الحركة، هدته، أهيده هيداً: كأنك تحركه ثم تصلمه، وفي مجمع البحرين 3: 170. أي: حركيه من غير أن تؤذيه.

قلت: من الجنة؟ قال: «من حيث شاء اللّه»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنوا إليكم»(2).

حسن الخلق ضرورة

ونحن طلبة العلوم الدينية ينبغي علينا أن نعاشر الناس على نحو يتمنون أن نكون بينهم لنهديهم إلى الرشاد، كما كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) يعاشرون الناس، ولو لم نكن كذلك لخابت آمال الناس بنا بل الأسوأ من ذلك أنهم سيسيئون الظن بالإسلام أيضاً؛ لأن الناس يرون الإسلام من خلال أخلاقنا وأعمالنا، فعلينا أن نتعامل بشكل لا يجلب احترام ومحبة الأصدقاء فحسب بل حتى الأعداء أيضاً وهذه هي سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

قال اللّه العظيم في القرآن الكريم: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}(3).

حتى أن فرعون كان يكن محبة خاصة لموسى(عليه السلام) وذلك لسلوك وأخلاق موسى(عليه السلام) الحسنة، فان الناس يميلون إلى الإحسان والأخلاق الحسنة.

وقد ورد عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسن الخلق يثبت المودة»(4).

وعن الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «من حسن خلقه كثر محبوه وأنست النفوس به»(5).

ص: 181


1- الكافي 2: 188.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 10.
3- سورة طه، الآية: 39.
4- تحف العقول: 45.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 663.

وبعكس ذلك سوء الخلق فانه ينفر عن الإنسان حتى أقرب الناس إليه كما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «سوء الخلق يوحش القريب وينفّر البعيد»(1)، وأيضاً: «من ساء خلقه ملّه أهله»(2).

الفضل ما شهدت به الأعداء

ومن هذا القبيل ذكر أنه: لما دخل سنان على عبيد اللّه بن زياد برأس الحسين(عليه السلام) أنشأ يقول:

أوقر ركابي فضة وذهبا *** أنا قتلت الملك المحجبا

ومن يصلي القبلتين في الصبا *** قتلت خير الناس أمّاً وأباً

وخيرهم إذ ينسبون نسباً

فقال عبيد اللّه: ما تلقى مني خيراً إلّا الحقتك به وأمر بقتله(3).

وهذا يعني أن أخلاق الإمام الحسين(عليه السلام) وسلوكه الصالح مع أصدقائه وأعدائه أثارت مكنون ضمير قاتله وسابي نسائه حتى مدحه بهذه الأبيات الشعرية وذلك بوجه ألد أعدائه.

الثبات على الخلق الحسن

كان في كربلاء شخص يحبه الناس حباً جماً حتى أنه أصبح أمين الناس وموضع ثقتهم، فكانوا يودعون عنده أسرارهم وأماناتهم، وقد ساهمت سمعته الجيدة هذه بين الناس في تنصيبه قاضي القضاة في المدينة، ولكنه مع الأسف ما إن وصل إلى هذا المقام شوّه ماضيه الحسن وذكره الجميل، فقد قابل الناس

ص: 182


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 400.
2- تحف العقول: 214.
3- مناقب آل ابي طالب(عليهم السلام) 4: 113.

بالقسوة والغلظة الشديدة، الأمر الذي كشف للناس أن حب الدنيا كان مغروساً في قلبه طوال الأربعين عاماً الماضية، حتى أنه بمجرد أن وصل إلى السلطة مال نحو الدنيا وحبَّذ مغرياتها على حياة الآخرة.

بين ما في المقابل نرى أن أحد علماء الدين البارزين في العراق أصبح رئيساً للوزراء في فترة سياسية معينة(1) حيث أنه قبل أن يرتقي إلى هذا المنصب كان رجلاً بسيطاً في تعامله وخلوقاً مشهوداً له، وبعد وصوله إلى هذا المقام لم يتغير وضعه وسلوكه أبداً، وإنما استمر على الوضع السابق فقد كان يدرِّس في المدرسة الهندية(2)، وكانت له خالة عجوزاً تسكن بجوار المدرسة يزورها باستمرار ويسأل عنها قبل حصوله على منصب رئاسة الوزراء وعن صحتها وقد استمر على زيارتها حتى بعد توليه هذا المنصب.

وذات يوم شوهدت سيارة فخمة واقفة أمام باب المدرسة الأمر الذي لم يعهده الطلاب من قبل، فكان الأمر بالنسبة إليهم غريباً تماماً وباعثاً على الدهشة والاستفسار! وبعد لحظات خرج رئيس الوزراء من دار خالته العجوز، فعلم الناس أن هذا الرجل لم يغيره المنصب، ويخدعه ويضعه في زاوية حادة مع الناس لا يرى أحداً ولا يراه أحد(3)، فهو مع مقامه المرموق هذا لم ينس خالته العجوز ولم ينس تدريسه في المدرسة الهندية، وأعماله الكثيرة لم تحل دون

ص: 183


1- وهو السيد محمد حسن الصدر من مواليد سامراء عام (1887م) أسس حزب حرس الاستقلال عام (1338ه/ 1919م)، لعب دوراً بارزاً في ثورة العشرين التي قادها الإمام الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه) وحرّض العشائر على محاصرة القوّات الإنجليزية.
2- إحدى المدارس العلمية في كربلاء المقدسة.
3- حقاً أن الرجل قدم خدمات كثيرة إبان توليه منصب رئاسة الوزراء منها أن أخرج العراق من الفوضى والحالة الاقتصادية والاجتماعية العشوائية التي كانت تعم الناس. للمزيد راجع كتاب (تلك الأيام) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

زيارتها وصلتها، وممارسة تدريسه في المدرسة.

القول والعمل

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «ذللوا أخلاقكم بالمحاسن وقودوها إلى المكارم وعودوها الحلم واصبروا على الإيثار على أنفسكم فيما تحمدون عنه قليلاً من كثير..»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «رحم اللّه عبداً حببنا إلى الناس ولم يبغضنا إليهم، أما واللّه لو يروون محاسن كلامنا، لكانوا به أعزّ وما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشيء»(2).

نقل أحد الأصدقاء بأنه قبل خمسة عشر عاماً أقيم مؤتمر لمعارضة الخمور والحد من انتشار ظاهرة الإدمان على الخمور وتعاطيها، وألقى بعض العلماء محاضرات جيدة في ذم الخمور والمشروبات الكحولية وبيّنوا الفساد الذي تسببه للإنسان من الناحية النفسية والصحية، وكان أحد الأطباء من جملة المحاضرين في المؤتمر حيث ألقى كلمة غراء مهمة ومثيرة جداً، بحيث لو سمعها أحد مدمني الخمر لتأثر من كلامه ولعله ترك الشرب، ولكن في اليوم الآتي - والكلام للصديق قال - كنت أسير في الطريق، وإذا بي أرى سكراناً يترنح يميناً وشمالاً، ولما دققت النظر في وجهه اندهشت كثيراً لأني رأيت أنه ذلك الطبيب الذي ألقى تلك المحاضرة القيمة في ذم الخمور والكحول!! فسلمت عليه وقلت له: إنك كنت في الأمس تذم الشراب ولكني أراك اليوم سكراناً تترنح؟! فأجاب: في الأمس كان الكلام واليوم هو العمل!!

ص: 184


1- مشكاة الأنوار: 180.
2- الكافي 8: 229.

نعم، وكما قيل كلام الليل يمحوه النهار، وهذه القصة عبرة لنا حتى لا نكون من الذين يقولون ما لا يفعلون وقد قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(1).

فمن الضروري جداً أن نلتزم بالعمل بما نقول ونروي عن سيرة المعصومين(عليهم السلام) حتى تتطابق أقوالنا مع أعمالنا ويرى الناس أننا نعمل على ضوء أقوال الإمام الصادق(عليه السلام) والأئمة(عليهم السلام).

وفي التاريخ الكثير الكثير من أمثال هذه العبر، فحين ما حمل جيش الإسلام على الروم، اجتمع كبار العسكريين الروم وأخذوا يتباحثون في أسباب تقدم المسلمين في الحرب مع أنهم يفقدون التكتيك العسكري والأسلحة الثقيلة في الحرب؟ فأبدى واحد من المجتمعين رأيه ولكن لم يحظ بالقبول، إلى أن قال أحدهم: لنسأل هذا العبد الذي يخدم الحضور في المجلس فسألوه، فقال: الخادم هل أنا في أمان لو قلت لكم الحقيقة؟ قالوا: نعم، فقال: إن السبب يكمن فيكم لأنكم استعبدتم الشعب الرومي حتى نبذوكم وانفضوا من حولكم، وحين ما رأوا المسلمين وسلوكهم وأخلاقهم الحسنة صاروا تائقين مشتاقين، إليهم وأنا أحد الذين يتمنون انتصار المسلمين.

فسألوه عن سبب ذلك.

فأجابهم: كان لي بالقرب من هذا المكان (أي مكان الاجتماع) بستان أعيش فيه مع زوجتي وأولادي الأربعة في رغد وصفاء، حتى جاء نبأ هجوم المسلمين على بلاد الروم فأخذتم كل أولادي للحرب، ولم ينفعكم إصراري الكثير لبقاء أحد أولادي معي على الأقل ليكون عوناً لي في خدمة العائلة، ولما مر جيش

ص: 185


1- سورة الصف، الآية: 3.

الروم من أمام بستاني لمقاتلة المسلمين خطف قادة عسكركم زوجتي من بيتي، وهدموا بستاني، بحجة أنه كان واقعاً في طريق الجيش، واليوم أصبحت عاجزاً لا أملك من المال شيئاً حتى اضطررت لأن أخدمكم ههنا!! فهذه السياسة المملوءة بالعنف والغلظة هي التي سببت انهزامكم أمام المسلمين الذين يتمتعون بالتعامل الإنساني والرحمة والإحسان حتى مع خصومهم وهم يسيرون على نهج دين يدعو للرحمة والمحبة وينهى عن الظلم والاعتداء والغلظة.

حقوق الناس

الإسلام هو الدين الوحيد الذي أعطى لكل ذي حق حقه بمنتهى العدالة والدقة، فإن الناس في المنظار الإسلامي سواسية لا يُفرق بينهم، رجالاً ونساءً شيوخاً وشباباً وأطفالاً وحتى الجنين في بطن أمه، فان لكل واحد منهم الحقوق والأحكام الإلهية التي لا يجوز التعدي عليها تحت أي عنوان كان، فقد جاء أن أحد الزهّاد وتاركي الدنيا عبد اللّه كثيراً وحارب نفسه بشدة، حيث كان لا يأكل إلّا القليل من الطعام، ولا ينام على مكان ناعم ومريح وترك جميع الملذات، وقد استمر على هذا الحال حتى بلغ الستين من العمر وفارقت روحه الدنيا، وبعد فترة شاهده أحد الصالحين في عالم الرؤيا وسأله: يا فلان كيف أنت؟ قال: حتى الآن لم يدخولني الجنة لأني أخذت إبرة من شخص على شكل عارية ولم أرجعها إليه واليوم منعوني من دخول الجنة لتعلق حق الناس في رقبتي(1).

يقول اللّه سبحانه وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ

ص: 186


1- ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من حبس حق المؤمن أقامه اللّه يوم القيامة خمسمائة عام على رجليه حتى يسيل من عرقه أودية وينادي مناد من عند اللّه: هذا الظالم الذي حبس عن المؤمن حقّه، فيوبَّخ أربعين يوماً ثم يؤمر به إلى النار». ثواب الأعمال: 240.

ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).

والإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) لما وصلته الخلافة الظاهرية(2) نادى في الناس: «واللّه لو وجدته قد تُزوج به النساء ومُلك به الإماء لرددته؛ فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»(3).

وقال(عليه السلام): «... وايم اللّه لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته(4) حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً»(5).

فإن حقوق الناس من الأمور الخطيرة في الإسلام التي يحاسب الإنسان عليها لا في الدنيا فقط بل في الآخرة، ولا ينال الإنسان رحمة اللّه ولا يذوق طعم العفو والمغفرة الإلهية إلّا إذا رضي أصحاب الحقوق عنه.

المكر والخديعة

كان عبد الكريم قاسم يحافظ على نفسه بشدة وقاية من الاغتيال، حتى أن زائريه كان يجب عليهم العبور من تسعة مواضع بعناوين مختلفة مثل السكرتير أو المسؤول أو غير ذلك حتى يتمكنوا من الوصول إليه. ذات يوم ذهب بعض الناس في عمل خيري للقاءه، ولما وصل إلى السكرتير الأول رآه يؤذي الناس ويهينهم ولا يقيم لأحد وزناً فتركه حتى خلى به المجلس فعاتبه قائلاً: لماذا تعامل الناس

ص: 187


1- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
2- لأن الإمام(عليه السلام) هو الخليفة الحق لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سواء كان على الحكم أو لم يكن.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 15 فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان، وهي عبارة عن ما منحه عثمان من الأراضي والأموال، وكان الأصل فيها أن تنفق غلتها على أبناء السبيل وأشباههم، كقطائعه لمعاوية ومروان وغيرهم من أقاربه.
4- الخِزامة - بالكسر - : حَلْقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشد فيها الزمام ويسهل قياده.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 136 في أمر البيعة.

هكذا؟ قال: واللّه العظيم أنا أيضاً مثل الطير المحبوس في القفص، فمن ناحية عبد الكريم قاسم يعد الناس باللقاء، ومن ناحية أخرى يقول لي: لا تسمح لهم بالدخول عليّ، ولا أدري ماذا أصنع في هذه الحيرة!؟

هناك مثل شائع يقول: الإنسان يستطيع أن يتكئ على رؤوس الحراب ولكن لا يستطيع الجلوس عليها، والحاكم الذي يستغل الناس ويستعبدهم لا يتمكن أن يستقر حبّه في قلوبهم ولا يحظى برضاهم وتأييدهم، إن الحاكم القوي هو الذي يتمكن أن ينفذ إلى قلوب الناس ويعيش في وجدانهم بالإحسان إليهم واحترامهم ومنحهم حقوقهم، إنّ عبد الكريم بسياسته الكاذبة الغليظة هذه لا يتمكن من البقاء على كرسي الحكم إلّا فترة وجيزة، وفعلاً لم تمر أيام قلائل حتى أطيح به عن كرسي الرئاسة.

فان الناس يحبّون الصالحين ويودون الرحماء ويدعمونهم بكل شيء، بين ما تجدهم ينفضون عن الأشداء الذين يعاملون الآخرين كعبيد لهم ولا يقيمون وزناً لأي شيء.

نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا من الصالحين الذين يخدمون الناس ويحظون بحبهم ومودتهم.

من هدي القرآن الحكيم

الذين يحبهم اللّه عزّ وجلّ

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(2).

ص: 188


1- سورة البقرة، الآية: 195.
2- سورة آل عمران، الآية: 76.

وقال عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(3).

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}(4).

هؤلاء لا يحبهم اللّه عزّ وجلّ

قال جلّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(5).

وقال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}(7).

وقال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(8).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}(9).

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}(10).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(11).

ص: 189


1- سورة آل عمران، الآية: 146.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة المائدة، الآية: 42.
4- سورة البقرة، الآية: 222.
5- سورة البقرة، الآية: 190.
6- سورة آل عمران، الآية: 57.
7- سورة البقرة، الآية: 276.
8- سورة المائدة، الآية: 64.
9- سورة النساء، الآية: 36.
10- سورة النساء، الآية: 107.
11- سورة الأنعام، الآية: 141.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَٰفِرِينَ}(3).

وقال سبحانه: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

موجبات المحبة

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «ثلاثة تورث المحبة: الدين والتواضع والبذل»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أيضاً: «ثلاث يوجبن المحبة: حسن الخلق وحسن الرفق والتواضع»(6).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «البشر الحسن وطلاقة الوجه مكسبة للمحبة وقربة من اللّه، وعبوس الوجه وسوء البشر مكسبة للمقت وبعد من اللّه»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثلاث خصال تجتلب بهنّ المحبة: الإنصاف في المعاشرة والمواساة في الشدة والانطواع(8)

والرجوع إلى قلب سليم»(9).

ص: 190


1- سورة الأنفال، الآية: 58.
2- سورة النحل، الآية: 23.
3- سورة الروم، الآية: 45.
4- سورة النساء، الآية: 148.
5- تحف العقول: 316.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 332.
7- تحف العقول: 296.
8- الانطواع: أي الانقياد.
9- كشف الغمة: 2: 349.

وقال رجل للنبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللّه، علمني شيئاً إذا أنا فعلته أحبني اللّه من السماء وأحبني أهل الأرض؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ارغب فيما عند اللّه يحبك اللّه، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «رحم اللّه عبداً اجتّر مودة الناس إلى نفسه فحدّثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن الخلق يورث المحبة ويؤكد المودة»(3).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «من لان عوده كثفت أغصانه»(4)(5).

أعمال يحبها اللّه عزّ وجلّ

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاثة يحبها اللّه سبحانه: القيام بحقه والتواضع لخلقه والإحسان على عباده»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاثة يحبها اللّه: قلة الكلام وقلة المنام وقلة الطعام، ثلاثة يبغضها اللّه: كثرة الكلام وكثرة المنام وكثرة الطعام...»(7).

وسئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أي الأعمال أحب إلى اللّه عزّ وجلّ؟ قال: «اتباع سرور المسلم» قيل: يا رسول اللّه، وما اتباع سرور المسلم؟ قال: «شبع جوعته

ص: 191


1- تهذيب الأحكام 6: 377.
2- الخصال 1: 25.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 347.
4- لين العود كناية عن قبول الانعطاف في إجراء الأمور وحسن العشرة والتواضع مع الأحباء والأصدقاء والوفود، فمن كان كذلك يرغب الناس في صحبته ويميلون إلى معاشرته ويوادّونه، فيكثر رفاقه وأنصاره.
5- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 214.
6- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: 2: 121.
7- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 121.

وتنفيس كربته وقضاء دينه»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أحب الأعمال إلى اللّه عزّ وجلّ، إدخال السرور على المؤمن، إشباع جوعته أو تنفيس كربته أو قضاء دينه»(2).

كيف نكسب حبّ اللّه سبحانه؟

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في حديث المعراج: «أن النبي سأل ربه ليلة المعراج فقال: يا رب أي الأعمال أفضل؟ فقال اللّه تعالى: ... يا محمد، وجبت محبتي للمتحابين فيّ ووجبت محبتي للمتعاطفين فيّ ووجبت محبتي للمتواصلين فيّ ووجبت محبتي للمتوكلين عليّ، وليس لمحبتي علم ولا غاية ولا نهاية، وكلّما رفعت لهم علماً وضعت لهم علماً...»(3).

وقيل لعيسى(عليه السلام): علّمنا عملاً واحداً يحبنا اللّه عليه؟ قال: «ابغضوا الدنيا يحببكم اللّه»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا تخلّى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب اللّه، وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط، وإنما خالط القوم حلاوة حب اللّه فلم يشتغلوا بغيره»(5).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «..وطلبت حب اللّه عزّ وجلّ فوجدته في بغض أهل المعاصي»(6).

ص: 192


1- قرب الإسناد: 145.
2- الكافي 2: 192.
3- إرشاد القلوب 1: 199.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 134.
5- الكافي 2: 130.
6- مستدرك الوسائل 12: 173.

أي الناس أحب إلى اللّه سبحانه؟

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحب عباد اللّه إلى اللّه أنفعهم لعباده وأقومهم بحقه، الذين يحبب إليهم المعروف وفعاله»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «وسئل(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من أحب الناس إلى اللّه؟ قال: أنفع الناس للناس»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الخلق عيال اللّه، فأحب الخلق إلى اللّه من نفع عيال اللّه وأدخل على أهل بيت سروراً»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال اللّه عزّ وجلّ: الخلق عيالي فأحبهم إليّ الطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم»(4).

وعنه(عليه السلام) أيضاً:

«إن لله عباداً من خلقه في أرضه يفزع إليهم في حوائج الدنيا والآخرة، أولئك هم المؤمنون حقاً آمنون يوم القيامة ألا وإن أحب المؤمنين إلى اللّه من أعان الفقير من الفقر في دنياه ومعاشه ومن أعان ونفع ودفع المكروه عن المؤمنين»(5).

ص: 193


1- تحف العقول: 49.
2- الكافي 2: 164.
3- الكافي 2: 164.
4- الكافي 2: 199.
5- تحف العقول: 376.

البعثة النبوية الشريفة والدين الإسلامي

البعثة المباركة

مِن أكبر نعم اللّه تعالى علينا بل على البشرية جمعاء، أن بعث اللّه فينا رسوله محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولولا هذه البعثة المباركة، لما بقي من الإنسانية شيء، ولا بقي من القيم والآداب والمُثُل شيء، وقد جاءت البعثة الشريفة في الوقت المناسب والمكان المناسب والشخص المناسب. حيث بعث اللّه عزّ وجلّ أفضل خلقه محمدا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمةً للناس أجمعين، وذلك في ليلة 27 من شهر رجب في مكة المكرمة بغار حراء.

قال عزّ وجلّ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ}(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: إن بعض قريش قال لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): بأي شي ء سبقت الأنبياء وفُضّلت عليهم وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟

قال: إني كنت أولّ من أقرّ بربي جلّ جلاله، وأول من أجاب حيث أخذ اللّه ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بلى، فكنتُ أول نبي قال بلى، فسبقتهم إلى الإقرار باللّه عزّ وجلّ»(2).

ص: 194


1- سورة آل عمران، الآية: 164.
2- علل الشرائع 1: 124.

أفضلية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

في الإختصاص: عن صفوان الجمال عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال لي: «يا صفوان هل تدري كم بعث اللّه من نبي؟»

قال: قلت: ما أدري.

قال: «بعث اللّه مائة ألف نبي وأربعة وأربعين ألف نبي(1) ومثلهم أوصياء، بصدق الحديث وأداء الأمانة والزهد في الدنيا، وما بعث اللّه نبياً خيراً من محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا وصياً خيراً من وصيه»(2).

وفي وصية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): «يا علي إن اللّه عزّ وجلّ أشرف على أهل الدنيا فاختارني منها على رجال العالمين، ثم اطلع الثانية فاختارك على رجال العالمين، ثم اطلع الثالثة فاختار الأئمة من ولدك على رجال العالمين، ثم اطلع الرابعة فاختار فاطمة على نساء العالمين»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنا سيد من خَلَقَ اللّه عزّ وجلّ، وأنا خير من جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش وجميع ملائكة اللّه المقربين وأنبياء اللّه المرسلين، وأنا صاحب الشفاعة والحوض الشريف، وأنا وعليٌ أبوا هذه الأمة، من عرفنا فقد عرف اللّه عزّ وجلّ، ومن أنكرنا فقد أنكر اللّه عزّ وجلّ، ومن عليٍ سبطا أمتي وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين، ومن وُلد الحسين تسعة أئمة طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي تاسعهم قائمهم ومهديهم»(4).

وعن الحسين بن عبد اللّه قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 195


1- عدد الأنبياء(عليهم السلام) حسب المشهور بين العلماء: 124000 نبي.
2- الإختصاص: 263.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 374.
4- كمال الدين 1: 261.

سيد ولد آدم؟ فقال: «كان واللّه سيد من خلق اللّه، وما برأ اللّه بريةً خيراً من محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أتى يهودي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقام بين يديه يحد النظر إليه، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا يهودي ما حاجتك؟

قال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه اللّه وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظله بالغمام؟

فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه ولكني أقول: إن آدم(عليه السلام) لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي، فغفرها اللّه له.

وإن نوحاً(عليه السلام) لما ركب في السفينة وخاف الغرق قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني من الغرق، فنجاه اللّه عنه.

وإن إبراهيم(عليه السلام) لما ألقي في النار قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني منها، فجعلها اللّه عليه برداً وسلاماً.

وإن موسى(عليه السلام) لما ألقى عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أمنتني، فقال اللّه جلّ جلاله: لا تَخَفْ إنك أنت الأعلى، يا يهودي إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته النبوة.

يا يهودي ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته فقدمه وصلى خلفه»(2).

ص: 196


1- الكافي 1: 440.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 218.

المؤمنون ونصرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

تبين هذه الآية الشريفة وظيفة المؤمنين تجاه بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشخصه الكريم الذي أحل لهم الطيبات وكان سبباً لهدايتهم إلى نور الإسلام، فمن اللازم عليهم أن ينصروه ويؤازروه.

قال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}(2).

إن الناس إذا تولوا عن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأعرضوا عنه، فإنهم قد أضروا بأنفسهم، وخسروا الدنيا والآخرة، ولم يضروا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً.

{لَقَدْ جَاءَكُمْ} أيها البشر، أو أيها المؤمنون {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من جنس نفوسكم، وهو محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وهذا تحريض لإتباعه والأخذ بأمره، حيث أنه من أنفسهم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: صعب عليه عنَتَكم(3)، وما يلحق بكم من الضرر والأذى..

{حَرِيصٌ عَلَيْكُم} أي على حفظكم وتقدمكم وسعادتكم، فلستم بهيّنين

ص: 197


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة التوبة، الآية: 128-129.
3- العَنَتُ: دُخُولُ المَشَقَّة على الإنسان، ولقاءُ الشدَّة؛ يقال: أَعْنَتَ فلانٌ فلاناً إِعناتاً، إِذا أَدْخَل عليه عَنَتاً أَي مَشَقَّةً.

عليه حتى لا يهمّه أمركم، ويُلقي بكم في المهالك اعتباطاً، فإذا أمركم بأمر فإن فيهسعادتكم وخيركم؛ لأنه جاء من المُشفق الحريص على شؤونكم، فهو {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ} والرأفة شدة الرحمة، وهو{رَّحِيمٌ} للتأكيد وتفهيم من لا يفهم معنى الرؤوف، فهو وصف توضيحي من قبيل (سعدانة نبت)(1).

قال الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الأنصاري: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«أنا أشبه الناس بآدم(عليه السلام)، وإبراهيم(عليه السلام) أشبه الناس بي خَلْقُه وخُلُقُه، وسمّاني اللّه عزّ وجلّ من فوق عرشه عشرة أسماء، وبين اللّه وصفي، وبشر بي على لسان كل رسول بعثه إلى قومه، وسماني ونشر في التوراة اسمي، وبثَّ ذكري في أهل التوراة والإنجيل وعلمني كتابه، ورفعني في سمائه، وشق لي اسماً من أسمائه: فسمّاني محمداً وهو محمود، وأخرجني في خير قرن من أمتي، وجعل اسمي في التوراة أحيد، وهو من التوحيد، فبالتوحيد حرَّم أجساد أمتي على النار، وسمّاني في الإنجيل أحمد، فأنا محمود في أهل السماء، وجعل أمتي الحامدين، وجعل اسمي في الزبور ماح، محا اللّه عزّ وجلّ بي من الأرض عبادة الأوثان، وجعل اسمي في القرآن محمداً، فأنا محمود في جميع القيامة في فصل القضاء لا يشفع أحد غيري(2)، وسمّاني في القيامة حاشراً، يحشر الناس على قدميّ، وسمّاني المُوقِف، أوقف الناس بين يدي اللّه جلّ جلاله، وسماني العاقب أنا عَقِبُ النبيين، ليس بعدي رسول، وجعلني رسول الرحمة، ورسول التوبة، ورسول الملاحم، والمقفّى قفيت النبيين جماعةً، وأنا القيم الكامل الجامع، ومنَّ عليَّ ربي وقال: يا محمد صلى اللّه عليك قد أرسلت كل رسول إلى أمته بلسانها، وأرسلتك إلى كل أحمر

ص: 198


1- تفسير تقريب القرآن 2: 487.
2- أي بالشفاعة الكبرى.

وأسود من خلقي، ونصرتك بالرعب الذي لم أنصر به أحداً، وأحللت لك الغنيمةولم تحل لأحد قبلك، وأعطيت لك ولأمتك كنزاً من كنوز عرشي، (فاتحة الكتاب) وخاتمة سورة البقرة، وجعلت لك ولأمتك الأرض كلها مسجداً، وترابها طهوراً، وأعطيت لك ولأمتك التكبير، وقرنت ذكرك بذكري حتى لا يذكرني أحد من أمتك إلّا ذكرك مع ذكري، طوبى لك يا محمد ولأمتك»(1).

وهكذا بعث رسول اللّه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاتم النبيين، فلا نبي بعده، قال تبارك وتعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّۧنَ}(2). أي: آخرهم، فقد ختمت به النبوة، ولذا يلزم عليه أن يُبطل كل ما يخالف الصلاح العام، ويقدم برنامجاً متكاملاً لسعادة الإنسان إلى يوم القيامة، فإنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس كسائر الأنبياء الذين تقدموا، فإن رسالتهم كانت مؤقتة ولكن رسالة نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خالدة إلى يوم يبعثون.

وفعلاً قد بلّغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كل ما كان عليه أن يبلّغه، وختم الدين والإسلام وأكمله بولاية أمير المؤمنين علي(عليه السلام) حتى نزلت الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(3).

عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال:

«لما حضر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الوفاة نزل جبرئيل(عليه السلام)، فقال له جبرئيل: يا رسول اللّه، هل لك في الرجوع؟

قال: لا، قد بلغت رسالات ربي.

ص: 199


1- الخصال 2: 425.
2- سورة الأحزاب، الآية: 40.
3- سورة المائدة، الآية: 3.

ثم قال له: يا رسول اللّه، أتريد الرجوع إلى الدنيا؟قال: لا بل الرفيق الأعلى.

ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للمسلمين وهم مجتمعون حوله: أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا سنة بعد سنتي، فمن ادعى ذلك فدعواه وبدعته في النار، ومن ادعى ذلك فاقتلوه ومن اتبعه، فإنهم في النار. أيها الناس، أحيوا القصاص، وأحيوا الحق، ولا تفرقوا، وأسلموا وسلموا تسلموا، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}»(1)(2).

وبالاضافة إلى كل تلك المقامات والصفات التي اتسم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بها في الحسابات الإلهية، فإنه يُعدّ في الحسابات الإنسانية أيضاً الشخص الأول في هذا الوجود، ويحتل موقع الصدارة، وقد شهد بذلك لسان الماضي والحاضر، وكذلك سيشهد له لسان المستقبل، ولا فرق في ذلك بين الأعداء والأصدقاء، وهذه هي نظرة غير المسلمين إليه أيضاً (صلوات اللّه وسلامه عليه)، إذ كتب رجل مسيحي عن ذلك فقال: إن الدنيا ولدت مائة وجه مضيء على رأس تلكم المائة نبي الإسلام محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

سبب شهرة نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

لقد قام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأهم أربعة أعمال، كانت بأعلى مستويات الإنجاز، ولعلها كانت هي السبب وراء شهرته بين الأمم واحترامهم له، فإنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وبغض النظر عن كونه خاتم الأنبياء(عليهم السلام) وهادي السبيل، والنبي المعصوم، وأفضل أهل الأرض، فإنه يعد أقدس شخصية يكنّ لها العالم المسلم وغير المسلم - من

ص: 200


1- سورة المجادلة، الآية: 21.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 53.

المنصفين - كامل الاحترام والتبجيل، وذلك بسبب ما قدمه للعالم من عطاءباعث على الإجلال والتعظيم. أما تلك الأعمال الأربعة فهي:

أولاً: الإسلام والقرآن الكريم والعترة

اشارة

قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(1)

إن الإسلام والقرآن والعترة الطاهرة أفضل هدية قدمها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للبشرية جمعاء.

إن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو النبي الوحيد الذي استطاع أن يوصل رسالته السمحاء لكل العالم.

وفضل هذه الرسالة وأهميتها قد لا يدركه الكثير من المسلمين إذ حالهم في ذلك كمثل سمكة صغيرة جاءت إلى سمكة كبيرة تسألها، أين الماء؟ في حين أنها تعيش في الماء، لكنها لم تعرف قدر الماء إلّا بعدما وقعت في شبك الصياد وألقاها خارج الماء.

ونحن المسلمين كذلك؛ لأننا منذ الولادة عشنا في أحضان الإسلام الحبيب، وأحضان القرآن الكريم الذي أنزل على النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وسنبقى على الإسلام والإيمان إن شاء اللّه، حتى الرمق الأخير. لذا فإن العديد منا لايعرف قيمة هذا الدين العظيم، ولاقيمة هذا القرآن المجيد، ولاقدر هذا المذهب الحق الذي هدانا اللّه إليه، حق قدره وحق معرفته؛ ولذا تجد بعض المسلمين يشرق ويغرب في أفكاره ومبادئه، وربما يترك تعاليم هذا الدين القويم، ويترك معارف القرآن العظيم، مع أنه الأساس في بناء الحضارة الإسلامية

ص: 201


1- سورة سبأ، الآية: 28.

والعالمية، والتي أنقذت العالم والإنسانية من الويلات، ودفعته إلى التقدم الهائل في جميع أبعادالحياة المختلفة، وهذا باعتراف الكثير من غير المسلمين أيضاً.

روايات حول القرآن

وقد ورد في فضل القرآن الكريم عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوله: «إن هذا القرآن مأدبة اللّه، فتعلموا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل اللّه وهو النور البين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه»(1).

وقال أمير المومنين(عليه السلام): «وتعلموا القرآن، فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص، وإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند اللّه ألوم»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام):«هو حبل اللّه المتين، وعروته الوثقى وطريقته المثلى، المؤدي إلى الجنة، والمنجي من النار، لا يخلق على الأزمنة، ولا يغث على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، والحجة على كل إنسان، {لَّا يَأْتِيهِ الْبَٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٖ}»(3)(4).

روايات حول العترة(عليهم السلام)

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»(5).

ص: 202


1- وسائل الشيعة 6: 168.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم110 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.
3- سورة فصلت، الآية: 42.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 130.
5- المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب(عليه السلام): 260.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إني تارك فيكم خليفتين: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فإنهما لنيفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(1).

سر النجاح

نعم، إن القرآن والإسلام والعترة، هي التي أوجدت في المسلمين الروح المعنوية العالية، والإيمان باللّه واليوم الآخر، والخوف من النار والرغبة بالجنة، والترغيب والحث على التحلي بالأخلاق الحميدة.

وهي أول مبعث لانطلاق المسلمين، تلك الانطلاقة المذهلة التي اعترف الغرب والشرق بأنها كانت وراء النهضة العلمية في الغرب، وبأن المسلمين هم أساس العلم الحديث.

ولكن - ومع الأسف - نحن المسلمين تركنا الإسلام، وتركنا القرآن وتركنا العترة الطاهرة، وسيأتي يوم نندم على ذلك ولكن الوقت قد فات - لا سامح اللّه - وأن كل شيء قد انتهى.

وهذه الحقيقة قد يلمسها الإنسان عندما يصل به العمر إلى آخر مرحلة من مراحل حياته في هذه الدنيا، وحينها لا يفيد الندم، على ما ضيع أيام قوته وشبابه، فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال لابن مسعود: «يا ابن مسعود: أكثر من الصالحات والبر، فإن المحسن والمسيء يندمان، يقول المحسن: يا ليتني ازددت من الحسنات، ويقول المسيء قصّرت، وتصديق ذلك قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}»(2)(3). وعلى الإنسان أن يسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يجعله ممن لاتبطره نعمة، ولا تقصّر به عن طاعة ربّه غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامة وكآبة.

ص: 203


1- كمال الدين 1: 240.
2- سورة القيامة، الآية: 2.
3- مكارم الأخلاق: 454.
حقيقة الإسلام

يقول اللّه تبارك وتعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي إلّا بمثل ذلك: إن الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل، والعمل هو الأداء»(2).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه تعالى خصّكم بالإسلام واستخلصكم له؛ وذلك لأنه اسم سلامة وجماع(3) كرامة، اصطفى اللّه تعالى منهجه وبيّن حججه، من ظاهر علم وباطن حكم، لا تفنى غرائبه ولاتنقضي عجائبه، فيه مرابيع(4) النعم ومصابيح الظلم، لا تفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه، ولاتكشف الظلمات إلّا بمصابيحه، قد أحمى حماه وأرعى مرعاه، فيه شفاء المستشفي وكفاية المكتفي»(5).

لقد دلت الآيات الكريمة والروايات الشريفة على تأكيد حقيقة الإسلام وبيان كماله، فمن كلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لا شرف أعلى من الإسلام»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ابتعثه بالنور المضي ء والبرهان الجلي والمنهاج البادي والكتاب الهادي، أسرته خير أسرة، وشجرته خير شجرة، أغصانها معتدلةٌ، وثمارها متهدِّلةٌ(7)، مولده بمكة، وهجرته بطيبة،

ص: 204


1- سورة آل عمران، الآية: 85.
2- الكافي 2: 45.
3- جماع الشيء: مجتمعه.
4- مرابيع: جمع مِرباع، المكان ينبت نبته في أول الربيع.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 152 من خطبة له(عليه السلام).
6- الكافي 8: 19.
7- متهدِّلة: متدلّية، دانية للإقتطاف.

علا بها ذكره،وامتد منها صوته، أرسله بحجة كافية، وموعظة شافية، ودعوة متلافية(1)، أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة، وبيّن به الأحكام المفصولة(2)، فمن يبتغ غير الإسلام ديناً تتحقق شقوته، وتنفصم عروته، وتعظم كبوته(3)، ويكن مآبه(4) إلى الحزن الطويل والعذاب الوبيل...»(5).

وقالت الصديقة فاطمة(عليها السلام) في خطبتها: «أنتم عباد اللّه نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء اللّه على أنفسكم، وبلغاءه إلى الأمم، زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب اللّه الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائداً إلى الرضوان اتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج اللّه المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، فجعل اللّه الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً للفرقة، والجهاد عزاً للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة،

ص: 205


1- متلافية: من تلافاه: تداركه بالإصلاح قبل أن يهلكه الفساد، فدعوة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تلافت أمور الناس قبل هلاكهم.
2- المفصولة: التي فصلها اللّه، أي قضى بها على عباده.
3- الكبوة: السقطة.
4- المآب: المرجع.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 161 من خطبة له(عليه السلام) في صفة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) وأتباع دينه، وفيها يعظ بالتقوى.

وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأةً(1) في العمر ومنماةً للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفة، وحرم اللّه الشرك إخلاصاً له بالربوبية، فاتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلّا وأنتم مسلمون، وأطيعوا اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه إنما يخشى اللّهَ من عباده العلماءُ...»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في القرآن:

«كتاب ربكم فيكم، مبيناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصه وعامه، وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسراً مجمله، ومبيناً غوامضه، بين مأخوذ ميثاق علمه، وموسع على العباد في جهله، وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنة نسخه، وواجب في السنة أخذه، ومرخص في الكتاب تركه، وبين واجب بوقته، وزائل في مستقبله، ومباين بين محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه، وبين مقبول في أدناه، موسع في أقصاه»(3).

ومن الواضح، أن الإسلام بهذه القيم والمعارف والعظمة، والتعاليم المنطقية والتي تتطابق مع فطرة البشر، يبعث على احترامه واحترام رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتبجيله، حتى عند غير المسلمين الذين يؤمنون بالمقاييس الإنسانية المجردة عن الاعتبارات السماوية. وهل يعرف العالم أسمى من الإسلام في الإنسانية!!

ص: 206


1- منسأة للعمر: مؤخرة.
2- الإحتجاج 1: 97.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها مبعث النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن والأحكام الشرعية.

ثانياً: الأحكام العادلة

الثاني مما أنجزه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): بيان الأحكام والشريعة العادلة، والملبية لجميع حاجات البشر، والتي لا تخالف فطرة الإنسان، مضافاً إلى كونها مستوعة لمختلف مجالات الحياة.

قال تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إني لأعلم ما في السماوات، وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون»، قال: ثم مكث هنيئة، فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه، فقال: «علمت ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: فيه تبيان كل شي ء»(2).

إن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جاء بدين يحتوي على كل الأحكام التي تتطلبها الحياة، من الطهارة البدنية والروحية، وإلى آخر ما يحتاجه الإنسان في مسائله الشخصية والعائلية والاجتماعية من حدود وتعزيرات، وديات، واقتصاد، وسياسة، واجتماع... فأحكام الإسلام هي الوحيدة التي تعد كاملة ومستوعبة لكل جوانب الإنسان، وكل الأحكام الأخرى التي جاءت بها الديانة المسيحية والديانة اليهودية التي سبقته بزمن، كانت ناقصة لم تستوعب كل الحياة، فضلاً عن تحريفها وخلطها بالأباطيل، ومعلوم أن الأحكام الكاملة تشير إلى كمال صاحبها أيضاً، مما يدعو إلى تقديسه واحترامه. وهذا هو السبب الثاني للمكانة العالية لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين جميع البشر.

ص: 207


1- سورة النحل، الآية: 89.
2- الكافي 1: 261.

ثالثاً: الأمة الواحدة

اشارة

العمل الثالث الذي تفرد به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أنه استطاع خلال (23سنة) فقط أن يخلق من المسلمين أمة واحدة موحدة، في الوقت الذي كانت الفرقة والتقاليد البالية والعصبيات الجاهلية هي الغالبة السائدة، مضافاً إلى أن المسلمين كانوا من مختلف القبائل والقوميات فوحدهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تحت راية الإسلام.

الوصي(عليه السلام) يصف البعثة

وقد وصف أمير المؤمنين(عليه السلام) الحال قبل البعثة النبوية الشريفة، فقال(عليه السلام): «... إلى أن بعث اللّه سبحانه محمداً رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لإنجاز عدته، وإتمام نبوته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورةً سماته، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة، بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد(1) في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة، ثم اختار سبحانه لمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لقاءه، ورضي له ما عنده، وأكرمه عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه إليه كريماً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها؛ إذ لم يتركوهم هملاً بغير طريق واضح، ولا عَلَم قائم...»(2).

وقال(عليه السلام): «.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع؛ إزاحةً للشبهات، واحتجاجاً بالبينات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمَثُلاتُ(3)، والناس في

ص: 208


1- الملحد في اسم اللّه: الذي يميل به عن حقيقة مسماه.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها مبعث النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن والأحكام الشرعية.
3- المَثُلات - جمع مثله - : العقوبات.

فتن انجذم(1) فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النجر، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، عصي الرحمن، ونصر الشيطان، وخذل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكرت معالمه، ودرست سبله، وعفت شركه، أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه، ووردوا مناهله، بهم سارت أعلامه، وقام لواؤه في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون، في خير دار وشر جيران، نومهم سهود وكحلهم دموع، بأرض عالمها ملجم وجاهلها مكرم»(2).

وقال(عليه السلام) في خطبة أخرى: «إن اللّه بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نذيراً للعالمين وأميناً على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شرّ دين، وفي شرّ دار، مُنيخون(3) بين حجارة خشن، وحيات صمٍّ(4)، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة»(5).

الصديقة(عليها السلام) تصف البعثة

وقالت السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام): «أيّها الناس، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ}(6)، مذقة الشارب(7)، ونهزة

ص: 209


1- انجذم: انقطع، والسواري: جمع سارية وهو العمود والدعامة، النَّجرْ: الأصل.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 2 من خطبة له(عليه السلام) بعد انصرافه من صفين.
3- منيخون: مقيمون.
4- وصف(عليه السلام) الحيات بالصم لأنها أخبثها، إذ لا تنزجر بالأصوات كأنها لا تسمع، الجَشِبْ: الطعام الغليظ.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 26 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يصف العرب قبل البعثة.
6- سورة آل عمران، الآية: 103.
7- المُذْقَة: الجرعة، والنهزة: الفرصة، وقبسة العجلان: القبسة ما تقبضه بيدكْ وهو مَثَل في الإستعجال.

الطامع،وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق(1)، وتقتاتون القِدّ، أذلّة خاسئين، {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ}(2) من حولكم، فأنقذكم اللّه تبارك وتعالى بمحمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد اللتيا والّتي..»(3).

وقالت(عليها السلام) في بداية خطبتها: «الحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم.. ثم جعل الثواب على طاعته ووضع العقاب على معصيته، ذيادةً(4) لعباده من نقمته، وحياشة لهم إلى جنته، وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله، اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من اللّه تعالى بمآيل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور، ابتعثه اللّه إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير رحمته، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار اللّه بأبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ظلمها، وكشف عن القلوب بُهَمَهَا(5)، وجلى عن الأبصار غُمَمَهَا، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العَمَاية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضه اللّه إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وإيثار...»(6).

ص: 210


1- الطَرق: ماء السماء الذي تبول به الإبل وتبعر، والقِدّ: سير يقد من جلد غير مدبوغ.
2- سورة الأنفال، الآية: 26.
3- الإحتجاج 1: 100.
4- الذِيادة: أي طرداً عنهم ومنعاً لهم عن المعاصي الجالبة للنقم، والحياشة: - مِن حاشَ الإبل - أي: جمعها وساقها.
5- بُهَمَهَا: أي: مبهماتها وهي المشكلات من الأمور، وغُمَمَها: - جمع غُمة - أي: المبهم والملتبس.
6- الإحتجاج 1: 98.

من بركات البعثة

اشارة

البشرية كانت محرومة من العدالة والمساواة في الإنسانية والمساواة أمام القانون، وفي ذلك العالم المليئ بالظلم والطبقية، وفي ذلك المحيط الجاهلي أسس الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مبدأ العدالة والمساواة، فلا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى، وبهذه الوسيلة استطاع أن يجمع حوله مختلف أفراد المجتمع، ويوحدهم تحت لواء واحد، وعقيدة واحدة. ومن المعلوم أن توحيد الكلمة بين أناس متفرقين متشتتين من أعظم الأعمال التي يستحق صاحبها التعظيم.

التعامل الإنساني مع الكل

ومن بركات البعثة النبوية الشريفة: الحث على التعامل الإنساني مع الكل حتى مع غير المسلمين.

ولقد كانت معاملة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع سائر الفئات غير المسلمة، من أفضل المعاملات الإنسانية، فقد كان يحترم الجميع ويعايشهم بحسن الجوار والتزاور وعيادة المرضى والمناظرة والمحاورة والعطف والمحبة والوفاء بالعهود وقضاء حوائجهم والدعاء لهم والذب عنهم...

ولم يكن ذلك مع المسلمين فقط، بل حتى مع غير المسلمين، حتى ورد عنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أخذ شيئاً من أموال أهل الذمة ظلماً فقد خان اللّه ورسوله وجميع المؤمنين»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تدخلوا على نساء أهل الذمة إلّا بإذن»(2).

فمن الواضح، أن هذه الأعمال جعلت تلك الفئات تتشوق إلى الدخول في

ص: 211


1- الجعفريات: 81.
2- الجعفريات: 82.

الدين الحنيف الذي جاء به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبذلك استطاع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من توسيع القاعدة الإسلامية وجمع عدد كبير من الناس حوله، ونشر الإسلام بين البشرية على أوسع نطاق وفي أقصر مدة.

وهذه بعض الشواهد، التي تعكس عظمة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفضله العظيم على الإنسانية:

يهودي يحبس رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)!

روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن يهودياً كان له على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دنانير، فتقاضاه، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك!

فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إذاً أجلسُ معك، فجلس معه، حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتهددونه ويتواعدونه، فنظر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟

فقالوا: يا رسول اللّه يهودي يحبسك؟!

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لم يبعثني ربي عزّ وجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره. فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل اللّه. أما واللّه ما فعلت بك الذي فعلت، إلّا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت في التوراة: محمد بن عبد اللّه مولده بمكة ومهاجره بطيبة وليس بفظٍّ ولا غليظ ولا سخابٍ ولا متزيّنٍ بالفحش، ولا قول الخفى، وأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنك رسول اللّه، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللّه، وكان اليهودي كثير المال»(1).

ص: 212


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 465.
أخلاقيات البعثة

فبهذا السلوك العظيم والأخلاق الرفيعة استطاع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يخلق أمة واحدة عظيمة، بهرت التاريخ وحيّرت العقول، حتى أن اللّه سبحانه وتعالى وصفهم قبل الإسلام بالجاهلية، ثم عاد فوصفهم بعد الإسلام ب(خير الأمم) حيث يقول القرآن الكريم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ}(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما صافح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجلاً قط فنزع يده حتى يكون هو الذي ينزع يده منه»(2).

وعن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده(3).

وعن أنس بن مالك قال: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أدركه أعرابي فأخذ بردائه، فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال له: يا محمد، مر لي من مال اللّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فضحك، وأمر له بعطاء(4).

وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيياً لا يُسأل شيئاً إلّا أعطاه.

وعنه أيضاً قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان

ص: 213


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- الكافي 2: 182.
3- مكارم الأخلاق: 19.
4- مكارم الأخلاق: 17.

إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه(1).

وعن أبي ذر قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجي ء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكاناً(2)

من طين وكان يجلس عليه ونجلس بجانبيه(3).

وعن أنس بن مالك قال: صحبت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشر سنين، وشممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيب من نكهته(4).

وعن ابن عباس عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «أنا أديب اللّه وعلي(عليه السلام) أديبي، أمرني ربي بالسخاء والبر، ونهاني عن البخل والجفاء، وما شي ء أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ من البخل وسوء الخلق، وإنه ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل»(5).

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) إذا وصف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً، من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده مثله»(6).

وروي عن الصادق(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أقبل إلى الجعرانة(7) فقسم فيها

ص: 214


1- مكارم الأخلاق: 17.
2- الدكان: مكان ممهد قليل الارتفاع عن الأرض يجلس عليه.
3- مكارم الأخلاق: 16.
4- بحار الأنوار 16: 230.
5- مكارم الأخلاق: 17.
6- مكارم الأخلاق: 18.
7- الجِعْرانة: وهي ماء بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب.

الأموال وجعل الناس يسألونه ويعطيهم، حتى ألجئوه إلى شجرة، فاُخذت برده وخُدشت ظهره حتى رحلوه عنها، وهم يسألونه، فقال: أيها الناس، ردوا علي بردي، واللّه لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم ما ألفيتموني جباناً ولا بخيلاً، ثم خرج من الجعرانة في ذي القعدة، قال: فما رأيت تلك الشجرة إلّا خضراء كأنما يُرشّ عليها الماء».(1)

وعن بحر السقاء قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا بحر، حسن الخلق يُسر» ثم قال: «ألا أخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة؟».

قلت: بلى.

قال: «بينا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه، فقام لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم تقل شيئاً ولم يقل لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الرابعة، وهي خلفه فأخذت هدبةً(2) من ثوبه، ثم رجعت فقال لها الناس: فعل اللّه بك وفعل(3)، حبست رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً، ولا هو يقول لك شيئاً، ما كانت حاجتك إليه؟

قالت: إن لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ هدبةً من ثوبه ليستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني، فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني، وأكره أن أستأمره في أخذها فأخذتها».(4)

وهكذا كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قمة في الأخلاق الطيبة حتى قبل بعثته الشريفة.

ص: 215


1- الخرائج والجرائح 1: 98.
2- هُدْب الثوب: طرف الثوب مما يلى طرته، خمل الثوب.
3- فعل اللّه بك وفعل: دعاء عليها.
4- الكافي 2: 102.

عن أبي الحميساء قال: تابعت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل أن يبعث، فواعدته مكاناً فنسيتهيومي والغد، فأتيته يوم الثالث فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا فتى، لقد شققت عليّ؛ أنا ها هنا منذ ثلاثة أيام»(1).

التأسي برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

وهكذا يلزم على المسلمين، أن يتأسوا برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حسن تعامله مع جميع الناس حتى مع الكفار، فتكون معاملتهم ومعاشرتهم في هذا العصر أيضا معاشرة مبتنية على أسس الحكمة والموعظة الحسنة، وإن كان الكفر قد فتح أفواهه من كل جانب لابتلاع الإسلام والمسلمين، وسحقهم وإبادتهم.

كما ينبغي أن تكون سياسة المسلمين اليوم، سياسة الاحتواء والجمع والاغضاء والتشجيع، حتى يعود المسلمون قوة قاهرة، تهدي الأمم للتي هي أقوم كما صنع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

أما إذا كانت السياسة سياسة إلغاء الآخرين، والتفرقة وعدم الإغضاء، فهي توجب ضعف المسلمين.

العفو عن القاتل

روى الشيخ الكليني(رحمه اللّه) في الكافي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أُتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟

فقالت: قلت: إن كان نبياً لم يضره، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه! قال(عليه السلام): فعفا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنها»(2).

ص: 216


1- مكارم الأخلاق: 21.
2- الكافي 2: 108.

كما أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عفا عن وحشي(1) قاتل عمه حمزة(عليه السلام)، وعن هبّار بنالأسود(2) قاتل ابنته زينب، إلى غير ذلك من أخبار عفوه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ص: 217


1- وحشي بن حرب الحبشي مولى بني نوفل، قاتل حمزة عم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معركة أحد، قدم بعد ذلك على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع وفد أهل الطائف وأسلم، عفى عنه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن أمره أن يغيّب وجهه عنه، شارك مع عبد اللّه بن زيد الانصاري في قتل مسيلمة الكذاب، سكن الشام ومات فيها على الخمر. وفي إعلام الورى بأعلام الهدى: 83. في ذكر مغازي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه وسراياه..: وكان وحشي يقول: قال لي جبير بن مطعم - وكنت عبداً له - : إن علياً قتل عمي يوم بدر، يعني طعيمة، فإن قتلت محمداً فأنت حر، وإن قتلت عم محمد فأنت حر، وإن قتلت ابن عم محمد فأنت حر، فخرجت بحربة لي مع قريش إلى أُحد أريد العتق لا أريد غيره، ولا أطمع في محمد - (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وقلت: لعلي أصيب من علي أو حمزة غرة فأزرقه، وكنت لا أخطئ في رمى الحراب تعلمته من الحبشة في أرضها، وكان حمزة يحمل حملاته ثم يرجع إلى موقفه. قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «وزرقه وحشي فوق الثدي، فسقط وشدوا عليه فقتلوه، فأخذ وحشي الكبد، فشد بها إلى هند بنت عتبة فأخذتها وطرحتها في فيها، فصارت مثل الداغصة، فلفظتها». قال: وكان الحليس بن علقمة نظر إلى أبي سفيان، وهو على فرس وبيده رمح يجاء به في شدق حمزة، فقال: يا معشر بني كنانة، انظروا إلى من يزعم أنه سيد قريش، ما يصنع بابن عمه الذي صار لحماً، وأبو سفيان يقول: ذق عقق، فقال أبو سفيان: صدقت إنما كانت مني زلة اكتمها علي...
2- روي عن عروة بن الزبير أن رجلا أقبل بزينب بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلحقه رجلان من قريش فقاتلاه حتى غلباه عليها، فدفعاها فوقعت على صخرة فأسقطت وهريقت دما، فذهبوا بها إلى أبي سفيان، فجاءته نساء بنى هاشم فدفعها إليهن، ثم جاءت بعد ذلك مهاجرة فلم تزل وجعة حتى ماتت من ذلك الوجع، فكانوا يرون أنها شهيدة. وقيل: لما أرادت زينب بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اللحاق بأبيها، قدم لها كنانة بن الربيع - شقيق زوجها العاص - بعيراً فركبته وأخذ قوسه وكنانته، وخرج بها نهاراً يقود بعيرها وهي في هودج لها، وتحدث بذلك الرجال من قريش والنساء وتلاومت في ذلك، وأشفقت أن تخرج ابنة محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من بينهم على تلك الحال، فخرجوا في طلبها سراعا حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد ونافع بن عبد القيس الفهري، فروَّعها هبار بالرمح وهي في الهودج، وكانت حاملاً، فلما رجعت طرحت ذا بطنها، وكانت من خوفها رأت دماً وهي في الهودج؛ فلذلك أباح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة دم هبار بن الأسود. وروي أن هبار بن الأسود كان ممن عرض لزينب بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين حملت من مكة إلى المدينة، فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأمر سراياه إن ظفروا به أن يقتلوه، فلم يظفروا به، حتى إذا كان يوم الفتح هرب هبار، ثم قدم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمدينة، ويقال: أتاه بالجعرانة حين فرغ من أمر حنين، فمثل بين يديه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقبل إسلامه وعفى عنه. راجع بحار الأنوار 19: 350.

ترى أي ملك، أو رئيس يعفو عن جرائم كهذه، وهل تجد لهذه القصص في غير الأنبياء والأولياء(عليهم السلام) مثيلاً؟

نعم، إنه الدين الحنيف، وإنه الارتباط الوثيق بالخالق، وإنه العفو الذي بلغ منتهاه، وبالتالي إنه الإسلام، وإنها أخلاق نبي الإسلام (صلوات اللّه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين)، فهو الجامع لكل الفضائل والمكرمات. وهو الذي نزل فيه قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

فأي عاقل يرى هذه المعاني السامية، متجسدة في شخصية كبيرة وعظيمة، كرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا يقدسه ويجلّه ويطيعه؟!

رابعاً: دولة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

الإنجاز الرابع الذي جعل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خالداً في التاريخ، ومعظماً عند جميع البشر، دولته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المباركة.

إن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استطاع أن يؤسس دولة عالمية كبرى، خضعت لها أكثر بقاع الأرض، وقامت على أركان العدالة والفضيلة والتقوى، وهذا الأمر الذي لم يصنعه حتى أولي العزم من الأنبياء(عليهم السلام) الذين سبقوه كموسى وعيسى(عليهما السلام).

ص: 218


1- سورة القلم، الآية: 4.

ثم إن الإسلام لا يفرق في الانتماء إليه بين أسود وأبيض، بل قال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّأَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1).

إن رسالة الإسلام تشمل جميع الناس من كل أشكالهم وألوانهم وألسنتهم وأعراقهم، أما اليهودية مثلاً فإنهم لا يقبلون بانتماء أحد إلى دينهم. فإذا أراد إنسان أن يذهب إلى عالم اليهود (الحاخام)(2) ويتهوّد لا يقبل منه، وسيقال له: إن اليهودي هو الشخص الذي ينحدر عن اليهود، من أصلابهم أو من أم يهودية، لأنهم وبحسب اعتقادهم وادعائهم {أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ}(3)، كما قالوا بأن عزيراً ابن اللّه(4)...

وفي سورة التوبة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}(5).

ص: 219


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الحاخام: هو رئيس الكهنة عند اليهود، وهو مقدس في كتاب التلمود ويعتبرونه معصوماً، حتى ورد: إذا جاءك الحاخام وقال لك: إن هذه اليد اليمنى هي يدك اليسرى فصدقه، وأن أقوالهم صادرة عن اللّه، وأن مخالفتهم هي مخالفة اللّه، ومن قولهم في ذلك: يلزم المؤمن أن يعتبر أقوال الحاخامات كالشريعة، لأن أقوالهم هي قول اللّه الحي. وقال بعض الحاخامات لما سأل عن أقوالهم المتناقضة: إنها كلام اللّه مهما وجد فيها من تناقض، فمن لم يؤمن بها لا إيمان له، ومن قال: إنها ليست أقوال اللّه، فقد أخطأ في حق اللّه. انظر: ابتلاء الأمم: 102.
3- سورة المائدة، الآية: 18.
4- جاء في كتاب الاحتجاج للطبرسي(رحمه اللّه): عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه طالبهم بالحجة فقالوا: أحيا - أي عُزير - لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ولم يفعل بها هذا إلّا لأنه ابنه. فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فكيف صار عُزير ابن اللّه دون موسى؟ وهو الذي جاء لهم بالتوراة ورئي منه من المعجزات ما قد علمتم، ولئن كان عزير ابن اللّه لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة، فلقد كان موسى بالنبوة أولى وأحق». الإحتجاج 1: 23.
5- سورة التوبة، الآية: 30.

وفي سورة المائدة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ}(1).أما غير أولئك فلا يحق لهم الدخول في اليهودية، فاليهود يعتقدون أن هذا الفضل مختص بهم، ولا يحظى به أي أحد غيرهم، ولا يحق لأحد أن يشاركهم فيه!!

بعكس دين الإسلام الذي يرى الناس سواسية، ويشجع على دخول كل الناس إليه، ويفسح المجال لكل البشر أن يرتبطوا بربهم في الدعاء والعبادة متى شاؤوا، وبهذا الانفتاح وهذه النظرة الشمولية ولسائر التعاليم العادلة دخل الناس في الإسلام أفواجاً، حتى قامت دولة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أسس العدالة والخير والفضيلة.

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٖ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(2).

فقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ} فإن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما حذّرهم نقمة اللّه وعذابه، فقالوا: نحن أبناؤه، والابن الحبيب لا يخاف من نقمة الأب الودود {قُلْ} يا رسول اللّه لهؤلاء المفترين: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم} اللّه {بِذُنُوبِكُم}؟ حيث تعترفون بما حكى القرآن عنهم في آية أخرى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}(3)، فإن كنتم أبناءً أحباءً لم يكن

ص: 220


1- سورة المائدة، الآية: 18.
2- سورة المائدة، الآية: 18- 19.
3- سورة البقرة، الآية: 80.

معنىً للعذاب، ولعل المراد من (المستقبل): الماضي؛ أي لِمَ عذبكم سابقاً بذنوبكم، حيث جعل منكم القردة والخنازير وأشباه ذلك؟ {بَلْ أَنتُم} أيها اليهود والنصارى {بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} تعالى إن أحسنتم جُوزيتم، وأن أسأتم جُوزيتم، كما يُجازى غيركم من الناس {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} من العاصين {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} منهم؛ لأنه لا بنوّة ولاعواطف خاصة بين اللّه وبينكم {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} فليس شيء من نفس اللّه حتى لا يملكه سبحانه - كما تدعون أنتم من كونكم أبناءه - {وَمَا بَيْنَهُمَا} من سائر المخلوقات، والمراد بالسماء هنا: الكواكب وما يُرى في ناحيتها - كما هو المنصرف - حتى يتصور ما بينهما، لا جهة العلو {وَإِلَيْهِ} سبحانه {الْمَصِيرُ} المرجع والمآل، فليس هناك غيره يملك شيء أو يرجع إليه في أمر(1).

إن الدولة التي أقامها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد تشيّدت في وسط مجتمع كان غارقاً في عبادة الأصنام والأوثان، والظلم والاستبداد، وبين دولتين عظيمتين هما الامبراطورية الساسانية والامبراطورية الرومانية، بحيث حوّل ذلك المجتمع الغارق في وحل الجهل والتخلف واللاقانون، إلى مجتمع نموذجي في العلم والرشد والانضباط، فتبوء المركز الأول في قيادة العالم، دون أن يعوقه اختلاف الناس وتباعدهم في القومية والعادات والثقافات، أو أن يفل من عزمه الامكانيات المتواضعة التي كانت متوفرة بين يديه.

أو ليس من يجمع الناس المتفرقين، المحاطين بالأعداء من كل جانب تحت راية واحدة، ويكوّن منهم دولة قوية تتغلب على أعدائها يستحق التعظيم والإجلال؟!

ص: 221


1- راجع تفسير تقريب القرآن 1: 623.
مفتاح القوة والضعف

وهنا ربما يخطر هذا السؤال في الأذهان: لماذا آل وضع المسلمين إلى ما هم عليه الآن، من التأخر والتباعد والفرقة والبغضاء فيما بينهم؟!

الجواب: إن السبب يكمن في ضعف المسلمين وابتعادهم عن تعاليمالإسلام ودين النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ وإننا نستطيع بواسطة أفعالنا وأساليبنا ورجوعنا إلى الكتاب والعترة أن نبدّل ضعفنا إلى قوة تمكننا من النهوض في هذا العصر، لأن مفتاح القوة والضعف بأيدينا.

يقول أحد المسيحيين: لقد أصبحت المسيحية كالفاكهة البائرة في محلات البيع، ولكي يروجها البائع فقد وضعها في مكان بارز، وسلّط عليها الكثير من الأنوار، حتى صارت براقة تجذب نظر المشتري، بعكس الإسلام الذي هو أشبه بالفاكهة الطازجة الطرية إلّا أن صاحبه وضعه في محل مظلم، والناس لا يجتمعون دائماً إلّا حول الفاكهة البراقة المغرية، حتى وإن كان داخلها هو خلاف ظاهرها.

وهذا ما أكدته إحدى الصحف العربية حيث ذكر فيها ووفق بعض الإحصائيات أن عدد الذين يعتنقون المسيحية ستون ألف شخص يومياً في كل أنحاء العالم(1).

ص: 222


1- بمراجعة سريعة لبعض مواقع الإنترنت المهتمة بنشاط التنصير نجد نشاطات كبيرة جداً وأرقام مهولة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: تحت ستار تقديم العون الغذائي والدوائي، يتم العمل الدؤوب لتنصير المسلمين في مناطق عدة من العالم، تطبيقاً لمخططات تم وضعها بعناية عبر توفير الامكانيات البشرية والمالية اللازمة، ومن خلال مؤتمرات عقدت لهذا الغرض، ويأتي في مقدمتها المؤتمر الذي عقد فى ولاية كلورادو الامريكية عام (1978م) والذي وضع خطة شاملة لتنصير المسلمين خلال خمسين عاماً، نظمته لجنة (تنصير لوزان) وكان نقطة الانطلاق المحورية والتاريخية قي العصر الحديث في ميدان التنصير، اجتمع هذا المؤتمر للمرة الأولى مائة وخمسون متخصصاً وفدوا من شتى أرجاء العالم، يمثلون مختلف الكنائس والهيئات والدوائر التنصيرية، ألقوا بتجاربهم وخبراتهم في مجال تنصير المسلمين على طاولات النقاش، وخرجوا بخطط هجومية لمحاولة هدم عقيدة ملايين المسلمين، وقرروا إنشاء معهد أبحاث ينسق الجهود نحو الخطط المرسومة، وحمل هذا المعهد اسم (صمويل زويمر) أشهر العاملين في مجال التنصير. وعقد مؤتمر آخر في مدينة امستردام الهولندية نظمته الطائفة البروتستانتية في شهر آب عام (2000م) واستمر تسعة أيام، حضره عشرة آلاف مندوب من أنحاء العالم، وتكلف المؤتمر (45 مليون دولار) تبرع بها المنصر الشهير بيلي جراهام، كما شهدت مدينة (انديانا بولس) الأمريكية مؤتمراً آخر شارك فيه (35 ألف) مندوب من أنحاء العالم، وأعلن فى هذا المؤتمر أن متوسط دخول الناس فى النصرانية من خلال الطائفة المنظمة للمؤتمر هو عشرة آلاف شخص يومياً. ورصد مؤتمر (يونايتد ميثوديستس) الذي عقد فى مدينة كليفلاند الأمريكية (545 مليون دولار) لأنشطة طائفتهم فى السنوات الأربع القادمة، وقد أسفرت تلك الجهود عن نتائج مؤسفة، ففي دولة إندونيسيا المسلمة، تم تنصير البعض، فحتى عام (1989م) تم تنصير ثلاثة ملايين، ولم يكتف الغرب بذلك بل نجح فى فصل (تيمور الشرقية) عن إندونيسيا بعد سنوات من الجهود المنظمة من جانب المنظمات التبشيرية بالتعاون مع أعوانهم فى البلدان الغربية. وفي اكتوبرعام (2000م) نقلت وسائل الإعلام نبأ إقامة الكنيسة الباكستانية حفلاً تنصيرياً كبيراً فى مدينة (لاهور) عاصمة اقليم بنجاب شارك فيه أكثر من عشرة آلاف نسمة (60%) منهم كانوا فى الأصل مسلمين وتحولوا عن دينهم! وهناك مشروع يطلق عليه اسم (اليسوع) تقوم بتمويله (71 منظمة) تنصيرية غربية تتولى جمع الأموال لدعم مشاريع التنصير وبناء الكنائس، التي بلغ عددها في دولة مثل بنجلاديش (170 كنيسة) خلال ثلاث سنوات، وقامت بالتعاون مع المنظمات الأخرى بمضاعفة عدد الكنائس في افريقيا خلال العقد الأخير لتصل إلى أكثر من (24 ألف) كنيسة. وكشفت التقارير التى تصدرها المنظمات التنصيرية أن حوالى (150 ألف) مغربي يتلقون عبر البريد من مركز التنصير الخاص بالعالم العربي دروساً في المسيحية، ولدى هذا المركز منصرين يعملون وسط المليوني مسلم القادمين من دول المغرب العربي والمقيمين في فرنسا، وتملك هذه المنظمات إلى جانب ذلك برامج إذاعية وتليفزيونية دولية لنشر الإنجيل، إضافة إلى (635 موقع) تنصيري على الإنترنت. وذكر في تقرير إحصائي لعمليات التنصير العالمية يعرض مخطط التنصير حتى عام (2025م) تم رصد (87 مليار) دولار، و(10 آلاف) محطة إذاعة وتلفزيون، و(7 ملايين) منصراً، و(250 دورية وكتاباً)، وتجاوز مجموع نسخ الإنجيل التي وزعت في أنحاء العالم (مليار) نسخة، وبلغ عدد الكتب التي تتحدث عن المسيح(عليه السلام) كمحور رئيسي في مكتبات العالم عشرات الآلاف. وذكر أنه في عام (1989م) بلغ مجموع التبرعات للأغراض الكنسية (151) مليار دولار، أي: ما يعادل ميزانية خمس عشرة دولة نامية، أما المجلات والنشرات الدورية الكنيسة التي توزع في كل أنحاء العالم فيبلغ عددها (22.700) مجلة ونشرة. وتستخدم المنظمات المسيحية حالياً في تخطيط برامجها أحدث التقنيات ابتداءً من الحاسوب وانتهاء بمحطات الإرسال الحديثة والأقمار الصناعية، حيث إنها تستغل حوالي (45 مليون) جهاز حاسوب في تخطيط برامجها. ودخل أفريقيا وحدها (112 ألف) منصّر حتى عام (1990م) ويشرف هؤلاء المنصّرون على (5 ملايين) طالب وطالبة، بالاضافة إلى إشرافهم على (500) مدرسة لاهوتية. كما أن في أفريقيا ما يزيد على (20) ألف معهد كنيسي. وفيها أيضاً (50) إذاعة تنصيرية تبث برامجها بمختلف اللغات واللّهجات. كما أن هناك (8 آلاف) نسمة في إقليم السند بالهند تنصّروا في يوم واحد. وفي بنغلادش توجد (1500) منظمة تنصيرية، أما في ليبيريا فهناك (500) منظمة تنصيرية. وهناك (30) جمعية صليبية تتظاهر بمساعدة الأفغان!! أما الشرق الأوسط، فيوجد (1300) منصّر متفرغ بالشرق الأوسط يديرون مراكز طبية وثقافية وخدمية وما أشبه. وذكر أنه يبلغ مجموع المنصّرين العاملين في أنحاء العالم حوالي (17) مليون منصّر.

ص: 223

وهذا يعكس لنا حجم التحرك المسيحي...

وقد شاهدت بعض نشاطاتهم في بلادنا الإسلامية، فعندما كنا في الكويت كان عدد المسيحيين فيها مائة نسمة فقط، إلّا أنهم كانوا يملكون (26) كنيسة، في حين أن الشيعة الذين كانوا يشكلون ثلث نفوس الكويت لم يكونوا يمتلكون أكثر من (15) مسجداً!، ومن الواضح أن أولئك النفر القلائل كانوا يستخدمون

ص: 224

هذا العدد الضخم من الكنائس قياساً إلى عددهم لأغراض التبشير والدعوة إلى المسيحية، أما مساجد المسلمين فكان بعضها مهجوراً، لا يقام فيها أي نشاط.

فالحقيقة أن نور الإسلام لم يضعف إلّا أن الذين يوصلون هذا النور هم الذين ضعفوا.

سبب رقي الإسلام أيام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

بعد فتح مكة، وخضوع أبي سفيان للأمر الواقع، وحصوله على الأمان وإعلان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه من دخل بيت اللّه فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، فإن أبا سفيان والذي كان في حرب طويلة الأمد مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دامت حوالي عشرين عاماً، جاء وأعلن إسلامه في الظاهر وأدى الشهادتين.

يقول الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قال علي بن الحسين(عليهما السلام): لما بعث اللّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة وأظهر بها دعوته، ونشر بها كلمته، وعاب أديانهم في عبادتهم الأصنام، وأخذوه وأساءوا معاشرته، وسعوا في خراب المساجد المبنية، كانت لقوم من خيار أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشيعته وشيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، كان بفناء الكعبة مساجد يحيون فيها ما أماته المبطلون، فسعى هؤلاء المشركون في خرابها، وأذى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسائر أصحابه، وألجئوه إلى الخروج من مكة إلى المدينة، التفت(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خلفه إليها فقال: اللّه يعلم أني أحبك، ولولا أن أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً، ولا ابتغيت عنك بدلاً، وإني لمغتم على مفارقتك. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا محمد، إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، ويقول: سأردك إلى هذا البلد ظافراً غانماً سالماً، قادراً قاهراً، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖ}(1) يعني إلى مكة ظافراً غانماً.

ص: 225


1- سورة القصص، الآية: 85.

وأخبر بذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه، فاتصل بأهل مكة فسخروا منه. فقال اللّه تعالى لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): سوف أظهرك بمكة، وأجري عليهم حكمي، وسوف أمنع عن دخولها المشركين حتى لا يدخلها منهم أحد إلّا خائفاً، أو دخلها مستخفياً من أنهإن عثر عليه قتل. فلما حتم قضاء اللّه بفتح مكة استوسقت(1) له أمَّر عليهم عتاب بن أسيد..»(2).

فهؤلاء جاءهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاتحاً منتصراً عليهم، تُرى ما الذي كان سيفعله إنسان آخر غير النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في موقف كهذا؟ إنه بلا شك سينتقم منهم لما ارتكبوه في حقه وحق أصحابه من جرائم وانتهاكات، فالكفار الذين أصبحوا في قبضته الشريفة كانوا هم الظالمين الذين حاربوا المسلمين، وعلى رأسهم أبو سفيان وهند، وأضرابهما من الرجال والنساء القتلة.

ولكن عندما حمل الراية سعد بن عبادة زعيم الأنصار، وجعل يسير في طرقات مكة ويهزها منادياً: اليوم يوم الملحمة،اليوم تسبى الحرمة. أرجعه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صاحب الأخلاق الرحمانية، وسجل نقطة مشرفة في تاريخ الإسلام والإنسانية، فأمر علياً(عليه السلام) أن يحمل الراية بدلاً عن سعد بن عبادة، وأن يغير نداء الوعيد والتهديد والتشديد إلى نداء العفو والوعد بالرحمة والأمن والسلام، حيث أمره أن ينادي في أهل مكة بلين بعكس ذلك النداء، فنادى علي(عليه السلام) في طرقات مكة: «اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة»، وفي نص آخر «اليوم تصان الحرمة».

ثم جمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أهل مكة فنادى فيهم: «ما تقولون إني فاعل بكم؟».

قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.

ص: 226


1- استوسق: أي اجتمع وانقاد.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 554.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أقول لكم كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}»(1).

ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(2).ثم قال: «من قال: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وشهد أن محمداً رسول اللّه، وكف يده، فهو آمن، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن،... من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..»(3).

وبعد ذلك حدثت واقعة حنين(4)، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي سفيان: إنك كنت

ص: 227


1- سورة يوسف، الآية: 92.
2- انظر: الكافي 3: 513، 4: 225؛ والإرشاد 1: 60.
3- انظر: إعلام الورى 1: 221؛ بحار الأنوار 21: 129.
4- حُنين اسم موضع في طريق الطائف، وقيل: حنين اسم ماء بين مكة والطائف، حصلت فيه واقعة بين جيش رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبني هوازن وهي قبيلة كبيرة من قبائل العرب، وذلك بعد فتح مكة سنة ثمان للهجرة. وكان سببها أن هوازن لما رأت فتح مكة، قالت:قد فرغ لنا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه، فلنقاتله قبل أن يقاتلنا، وظلوا يحشدون الجموع له من جهات عديدة، وجعلوا قائدهم مالك بن عوف النضري، وكان عدد جيشه ثلاثين ألفاً، وساقوا معهم أموالهم ونساءهم كي يثبتوا على القتال، فأمر مالك بالخيل فجعلت صفوفاً، ثم جعل الأبل والبقر والغنم وراء ذلك، فلما بلغ ذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلم اجتماعهم اجمع على الخروج إليهم، فخرج بمن كان معه في فتح مكة وعددهم اثني عشر ألف مقاتل. قال علي بن إبراهيم القمي: فمضوا حتى كان من القوم على مسيرة بعض ليلة قال: وقال مالك بن عوف لقومه: ليصير كل رجل منكم أهله وماله خلف ظهره، واكسروا جفون سيوفكم، وأكمنوا في شعاب هذا الوادي، وفي الشجر، فإذا كان في غلس الصبح فاحملوا حملة رجل واحد، وهدوا القوم، فإن محمداً لم يلق أحداً يحسن الحرب. قال: فلما صلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الغداة انحدر في وادي حنين، وهو واد له انحدار بعيد، وكانت بنو سليم على مقدمه، فخرجت عليها كتائب هوازن من كل ناحية، فانهزمت بنو سليم، وانهزم القوم من ورائهم، ولم يبق أحد إلا انهزم، وبقي أمير المؤمنين(عليه السلام) يقاتلهم في نفر قليل، ومر المنهزمون برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لايلوون على شي ء، وكان العباس أخذ بلجام بغلة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن يمينه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره، فأقبل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينادي: «يا معشر الأنصار، إلى أين المفر، ألا أنا رسول اللّه» فلم يلو أحد عليه، وكانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول: أين تفرون عن اللّه وعن رسوله. ومر بها عمر فقالت له: ويلك ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها: هذا أمر اللّه. فلما رأى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه، فقال: «يا عباس، اصعد هذا الطرب وناد: يا أصحاب البقرة، ويا أصحاب الشجرة، إلى أين تفرون هذا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)». ثم رفع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يده فقال: «اللّهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان». فنزل جبرئيل(عليه السلام) عليه فقال له: «يا رسول اللّه، دعوت بما دعا به موسى حين فلق اللّه له البحر ونجاه من فرعون» ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي سفيان بن الحارث: «ناولني كفا من حصى» فناوله فرماه في وجوه المشركين ثم قال: «شاهت الوجوه» ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللّهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد» فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون: لبيك، ومروا برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واستحيوا أن يرجعوا إليه ولحقوا بالراية. فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للعباس «من هؤلاء يا أبا الفضل؟» فقال: يا رسول اللّه، هؤلاء الأنصار، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الآن حمي الوطيس، ونزل النصر من السماء، وانهزمت هوازن» فكانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجو، وانهزموا في كل وجه، وغنم اللّه رسوله أموالهم ونساءهم وذراريهم، وهو قول اللّه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}. سورة التوبة، الآية: 25. تفسير القمي 1: 286.

قبل هذا قائداً لجيش الكفر، فهل أنت على استعداد لأن أعطيك منصب القيادة لبعض كتائب جيش المسلمين؟ فقبل أبو سفيان ذلك، وسار فعلاً، بكتيبة تعدادها ألف مقاتل من أهل مكة، ضمن جيش الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى حنين(1).

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أراد أن يبين هذه الحقيقة، وهي أن الهدف حين ما يكون

ص: 228


1- ورد عن زرارة قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) في قوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}؟ سورة التوبة، الآية: 60. قال: «هم قوم وحدوا اللّه وخلعوا عبادة من يعبد من دون اللّه تبارك وتعالى، وشهدوا أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، وهم في ذلك شكاك من بعد ما جاء به محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأمر اللّه نبيهم أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم، ويثبتوا على دينهم الذين قد دخلوا فيه، وأقروا به، وإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم حنين تألف رءوسهم من رءوس العرب من قريش وسائر مضر، منهم: أبو سفيان بن حرب وعيينة بن حصين الفزاري وأشباههم من الناس... تفسير العياشي 2: 91.

هو إعلاء كلمة لا إله إلّا اللّه، فهو بحاجة إلى جمع الطاقات، وتوحيد الكلمة، وتوظيف قدرات كل الأفراد، على اختلاف خصوصياتهم، في سبيل ذلك الهدف،حتى ولو كان كأبي سفيان الذي حارب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشرين عاماً. وإن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما يفعل ذلك فإنه يؤدي وظيفة إلهية، بغض النظر عن الجوانب الأخرى، من العقل والحكمة وحسن التدبير في إدارة البلاد والعباد ومعاملة الناس وحسن الأخلاق.

أما مصائر الناس، وعواقب أمورهم، ورشدهم وغيّهم، وحسابهم وكتابهم فهو على اللّه، وكل سيحاسب على نيته ودرجة إيمانه، ولم يكن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مسؤولاً عن محاسبته في الدنيا، فإنما هو مذكر، وليس عليهم بمصيطر، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(1).

التعامل بحسب الظاهر

إن مما يلزم على الحاكم أن لا يحاسب على النوايا والخفايا، فلا يصح للقائد أن يتهم القائد شعبه وأصحابه بسوء النوايا والقصد، فإنه لا يمكنه أن يدخل إلى قلوب الناس.

القائد الناجح هو الذي يوحّد شعبه، ويدفع جميع أبنائه لنصرة الحق، أما حقيقة أعمالهم ونواياهم فهي عند اللّه سبحانه وتعالى؟

فإن السرائر لا يعرفها سوى اللّه سبحانه، أو من يخبره اللّه بذلك.

قال تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٖ}(2).

وعلى الرغم من أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعلم حقيقة أبي سفيان ونواياه وحقيقة

ص: 229


1- سورة الغاشية، الآية: 21-22.
2- سورة ق، الآية: 45.

غيره من المنافقين، إلّا أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يتعامل مع الناس بحسب ظواهرهم لا بواطنهم، وذلك لمقتضى الحكمة الربانية، وأنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يؤمر بمحاسبة بواطنهم.لذا فإن المسلمين لو استطاعوا أن ينشروا أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأقبل الناس إلى دين اللّه أفواجاً، ولهرعوا إلى اعتناق الإسلام في مختلف بقاع الأرض ومن شتى المذاهب الأخرى.

وقد جاء في بعض الروايات: إن كثيراً من اليهود الذين كانوا في أطراف المدينة دخلوا الإسلام، بسبب ما شاهدوه من علو أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعظيم تعاليمه.

وإن الحقيقة التي لا ريب فيها، هي أن الإسلام سوف يأخذ طريقه ليستقر في قلوب الناس وليشمل أكبر بقعة من العالم، إذا سار المسلمون على خط رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة(عليهم السلام)، وما ذلك على اللّه بعزيز.

أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

لقد جاءت روايات عديدة تصف أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأسلوبه في التعامل مع الناس، منها: ما ورد عن ربيب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن فتح عينيه عند الولادة في وجهه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يفتحها في وجه أحد قبله، وهو الذي غمض النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عينيه في آخر لحظات حياته الكريمة في حجره، ولم يغمضها في حجر أحد غيره، ألا وهو أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فهو الأعرف برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو أخوه وربيبه ووصيه، فقد روي عنه(عليه السلام) أنه قال: «ما صافح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أحداً قط فنزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده. وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف. وما نازعه الحديث فيسكت حتى يكون هو الذي يسكت، وما رُئي مقدماً رجله بين يدي جليس له قط»(1).

ص: 230


1- مكارم الأخلاق: 23.

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه كان إذا وصف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً،وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهمعريكة، وأكرمهم عشرة، ومن رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر قبله ولا بعده مثله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1).

وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين. فعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «سمعت أبي يحدث عن أبيه عن جده(عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض(2) مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً(3)، وحلب العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان؛ لتكون سنة من بعدي»(4).

فمن الضروري لأي داعية ومبلغ إلى الإسلام أن يتحلى بأقصى ما يمكن من مكارم الأخلاق، وسعة الصدر، والمعاملة العطوفة مع الناس، لكي يجلبهم إلى الإسلام، ويثبتهم على الإسلام راسخي القدم والعقيدة، فإن أفضل العوامل وأعمقها لزرع المحبة في القلوب، هي الأخلاق الفاضلة، والمعاملة الإنسانية العطوفة، فإن ذلك من أعظم مقومات مداراة الناس.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «جاء جبرئيل(عليه السلام) إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، ربك يقرئك السلام، ويقول لك: دارِ خلقي»(5).

ص: 231


1- مكارم الأخلاق: 18.
2- الحضيض: الأرض.
3- الأكاف: برذعة الحمار، والبرذعة: كساء يلقى على ظهر الدابة.
4- الخصال 1: 271.
5- الكافي 2: 116.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أمرني ربي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ألا أخبركم بأشبهكم بي؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال: أحسنكم خلقاً، وألينكم كنفاً، وأبركم بقرابته، وأشدكم حباً لإخوانه في دينه، وأصبركم على الحق، وأكظمكم للغيظ، وأحسنكم عفواً، وأشدكم من نفسه إنصافاً في الرضا والغضب»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، واستشعروا الحمد يؤنس بكم العقلاء، ودعوا الفضول يجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس تعمر ناديكم، وحاموا عن الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا الناس من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنية فإنها تضع الشريف وتهدم المجد»(3).

اللّهم إنّا نسألك المزيد من صلواتك وسلامك على مصدر الفضائل وينبوع الأخلاق، الذي ظل ماضياً على إنفاذ أمرك حتى أضاء الطريق للعالمين وهدى اللّه به القلوب، محمد وآله الطاهرين. اللّهم اجعلنا ممن يتخلق بأخلاقه في الدنيا، واجعله اللّهم شفيع ذنوبنا في الآخرة.

«اللّهم صل على محمد وآله، واجعل صلواتك وصلوات ملائكتك وأنبيائك والمرسلين وعبادك الصالحين، وأهل السماوات والأرضين، ومن سبح لك يا رب العالمين من الأولين والآخرين، على محمد عبدك ورسولك ونبيك وأمينك ونجيبك وحبيبك وصفيك وصفوتك وخاصتك وخالصتك وخيرتك من خلقك،

ص: 232


1- الكافي 2: 117.
2- الكافي 2: 240.
3- تحف العقول: 215.

وأعطه الفضل والفضيلة والوسيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً يغبطه بهالأولون والآخرون»(1).

من هدي القرآن الحكيم

بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

وقال سبحانه: {قُلْ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا}(3).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}(4).

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(5).

البعثة النبوية ومكارم الأخلاق

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(6).

ص: 233


1- جمال الأسبوع: 29.
2- سورة الأعراف، الآية: 158.
3- سورة الفرقان، الآية: 56-57.
4- سورة المدثر، الآية: 1-3.
5- سورة الأنبياء، الآية: 107.
6- سورة آل عمران، الآية: 159.

وقال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(3).

البعثة النبوية والمسؤولية

قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(4).

وقال سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(5).

وقال عزّ وجلّ: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ}(6).

بعثة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأمة الواحدة

قال جلّ وعلا: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(7).

وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ

ص: 234


1- سورة الأعراف، الآية: 199.
2- سورة التوبة، الآية: 61.
3- سورة الشعراء، الآية: 214- 215.
4- سورة التوبة، الآية: 128.
5- سورة الكهف، الآية: 6-7.
6- سورة طه، الآية: 1-2.
7- سورة الأنبياء، الآية: 92.

كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اكتتم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة مستخفياً خائفاً خمس سنين ليس يظهر، وعلي(عليه السلام) معه وخديجة(عليها السلام)، ثم أمره اللّه تعالى أن يصدع بما يؤمر فظهر وأظهر أمره»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «رنَّ(3) إبليس أربع رنات: أولهن يوم لعن، وحين أهبط إلى الأرض، وحين بُعث محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على حين فترة من الرسل، وحين أنزلت أم الكتاب، ونخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، وحين أهبط من الجنة»(4).

وقال أبو الحسن الأول(عليه السلام): «بعث اللّه عزّ وجلّ محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب، فمن صام ذلك اليوم كتب اللّه له صبام ستين شهراً...»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدّعي نبوة، فساق الناس حتى بوأهم مَحَلّتَهم(6)، وبلغهم

ص: 235


1- سورة آل عمران، الآية: 103-104.
2- الغيبة للشيخ الطوسي: 332.
3- رن رنيناً: رفع صوته بالبكاء.
4- الخصال 1: 263.
5- الكافي 4: 149.
6- بوأهم مَحَلّتهم: أنزلهم منزلتهم.

منجاتهم، فاستقامت قناتهم(1)، واطمأنت صفاتهم»(2).

بعثة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومكارم الأخلاق

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعد رجلاً إلى صخرة فقال: أني لك هاهنا حتى تأتي، قال: فاشتدت الشمس عليه، فقال له أصحابه: يا رسول اللّه، لو أنك تحولت إلى الظل، قال: قد وعدته إلى ها هنا، وإن لم يجئ كان منه المحشر»(3).

وقال(عليه السلام): «كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل»(4).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «أتاني جاء إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ملك فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول: إن شئت جعلت لك بطحاء مكة ذهباً، قال: فرفعت رأسي إلى السماء وقلت: يا رب أشبع يوماً فأحمدك، وأجوع يوماً فأسألك»(5).

المسؤولية وإقامة الدين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لو وضعت الشمس في يميني، والقمر في شمالي، ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه...»(6).

ص: 236


1- القناة: العود والرمح، والمراد به القوة والغلبة والدولة، وفي قوله «استقامت قناتهم» تمثيل لاستقامة أحوالهم.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 33 من خطبة له(عليه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.
3- علل الشرائع 1: 78.
4- الكافي 2: 662.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 124.
6- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 58.

وعن عبد اللّه بن عباس قال: دخلت على أمير المؤمنين(عليه السلام) بذي قار - وهو يخصف نعله(1) - فقال لي: «ما قيمة هذا النعل؟» فقلت: لا قيمة لها. فقال(عليه السلام): «واللّه، لهي أحب إلي من إمرتكم، إلّا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه، لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها،على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة(3) ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها(4)، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى...»(5).

حقيقة الإسلام

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإسلام عريان، فلباسه الحياء وزينته الوقار، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، ولا ينسبه أحد بعدي إلّا بمثل ذلك، إن الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل، والعمل هو الأداء...»(7).

ص: 237


1- يخصف نعله: يخرزها.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 33 من خطبة له(عليه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.
3- جُلب الشعيرة، بضم الجيم: قشرتها.
4- قَضِمَت الدابة الشعير: كسرته بأطراف أسنانها.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 224 من كلام له(عليه السلام) يتبرأ من الظلم.
6- الكافي 2: 46.
7- الكافي 2: 45.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الإسلام يحقن به الدم، وتؤدى به الأمانة، وتستحل به الفروج، والثواب على الإيمان»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي...»(2).

التأسي بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أحب العباد إلى اللّه تعالى المتأسي بنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمقتص لأثره»(3).

وقال(عليه السلام): «ارض بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رائداً وإلى النجاة قائداً»(4).

وقال(عليه السلام): «اقتدوا بهدي نبيكم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنه أفضل الهدى، واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن»(5).

وقال(عليه السلام): «إن ولي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أطاع اللّه وأن بعدت لُحْمته(6)، وإن عدو محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من عصى اللّه وإن قربت قرابته»(7).

ص: 238


1- الكافي 2: 24.
2- الكافي 1: 200.
3- بحار الأنوار 16: 285.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 144.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 110، ومن خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.
6- لُحْمته: أي نسبه.
7- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 96.

البلاد الإسلامية بين الحاجة والاستعمار

الحاجة أساس الفقر

اشارة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره»(1).

إن مفهوم الحاجة إذا سيطر على اللاشعور عند الإنسان فإنه يفقد صاحبه إرادته؛ حيث يصبح السؤال والطلب من الآخرين سجية في الإنسان وعادة، وهذه الصفة تحجم وتضعف الإرادة الإنسانية. وأحياناً الحاجة تذل الإنسان وترهقه، وتفقده كرامته وموقعه، وبالتالي سوف يفقد الإنسان نفسه، ويضيع عليه كثير من الفرص، إما بسبب عدم قدرته على اتخاذ الموقف المطلوب في الوقت المناسب، أو بسبب سوء اختياره.

ولو أردنا أن نوسع دائرة الكلام لقلنا: إن فقدان الإنسان لإرادته سوف يزرع في داخله الخضوع والذل؛ فإنه دائماً ينتظر ماذا يحدّد له الآخرون، وماذا يقدمون له، وهكذا إلى أن يصبح شبيهاً ب(الإنسان الآلي) أو (الإنسان المسيّر).

وهذه القابلية المذمومة، هي قابلية إتباع الغير إتباعاً أعمى، ونستطيع أن نسميها: قابلية إخضاع الإنسان واستسلامه، أو قابلية العبودية للآخرين، قد ورد في ذمها العديد من الآيات القرآنية والروايات الشريفة. وكم هو رائع تعبير الإمام

ص: 239


1- الإرشاد 1: 303.

أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث قال: «احتج إلى من شئت تكن أسيره» وعادة يكون الأسير فاقداً لإرادته واختياره، بل يتصرف حسب ما يملون عليه من الأوامر.

والأمة عندما تصبح بهذه الصورة سوف تكون جسراً لمرور الاستعمار.

عليك بالسوق

في الرواية: إن رجلاً جاء إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: ما طعمت طعاماً منذ يومين؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق».

فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول اللّه، أتيت السوق أمس فلم أصب شيئاً فبت بغير عشاء؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فعليك بالسوق».

فأتى بعد ذلك أيضاً فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق».

فانطلق إليها، فإذا عير قد جاءت وعليها متاع فباعوه بفضل دينار، فأخذه الرجل وجاء إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: ما أصبت شيئاً؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هل أصبت من عير آل فلان شيئاً؟».

قال: لا.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بلى ضرب لك فيها بسهم وخرجت منها بدينار».

قال: نعم.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فما حملك على أن تكذب؟».

قال: أشهد أنك صادق، ودعاني إلى ذلك إرادة أن أعلم أتعلم ما يعمل الناس، وأن أزداد خيراً إلى خير.

فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «صدقت، من استغنى أغناه اللّه، ومن فتح على نفسه باب مسألة فتح اللّه عليه سبعين باباً من الفقر، لا يسد أدناها شي ء».

ص: 240

فما رئي سائل بعد ذلك اليوم.

ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي»(1)(2).

من استغنى أغناه اللّه

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «اشتدت حال رجل من أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسألته، فجاء إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما رآه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه.

فقال الرجل: ما يعني غيري.

فرجع إلى امرأته فأعلمها.

فقالت: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشر فأعلمه.

فأتاه، فلما رآه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه.

حتى فعل الرجل ذلك ثلاثاً.

ثم ذهب الرجل فاستعار مِعْولاً ثم أتى الجبل فصعده فقطع حطباً، ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق، فرجع به فأكله، ثم ذهب من الغد فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى معولاً، ثم جمع حتى اشترى بكرين وغلاماً، ثم أثرى حتى أيسر، فجاء إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه»(3).

كيف تغلغل الاستعمار في بلادنا؟

إن أكثر الشعوب الإسلامية كانت قد فقدت إرادتها تحت ظلم حكامها ووطأة

ص: 241


1- المرة: القوة والشدة، والسوي: الصحيح الأعضاء.
2- الخرائج والجرائح 1: 89.
3- الكافي 2: 139.

الحروب وقمع الطواغيت لها، وهذا ما حصل بالفعل في مختلف البلادالإسلامية، ونتيجة للحالة الاقتصادية الرديئة، والحالة الاجتماعية المتخلفة، ناهيك عن الجانب الثقافي والسياسي وغيرها، تعرضت الأمة الإسلامية لأبشع صور الظلم والاستعمار، وبالتالي تكوّن في داخلها بعض الأفراد الذين لديهم قابلية لأن يُستعمَروا، فوجد الاستعمار ضالته فيهم، واستطاع الدخول إلى البلاد الاسلامية عبرهم.

وهؤلاء الأفراد على اختلاف مستوياتهم، تارة يكونون أفراداً مثقفين - نسبياً - إلّا أن تقبّل فكرة الاستعمار تعيش في اللاشعور عندهم ولا يملكون أدنى مقدار من إرادتهم.

وتارة يكونون من الأفراد العاديين المضطهدين الذين أرهقتهم الأحداث والسلطات والفقر والحاجة والأجواء الاجتماعية المريضة.

وتارة ثالثة يكونون من الأشخاص الذين يعبدون الجاه والسلطة والجلوس على الكرسي، فيضحون بكل شيء من أجل الحصول على منصب، فيتعاونون مع الظالمين والطغاة والمستعمرين من أجل الوصول إلى مآربهم.

روي عن علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) فاستأذنت له عليه، فأذن له، فلما أن دخل سلم وجلس ثم قال: جعلت فداك، إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم».

قال: فقال الفتى: جعلت فداك، فهل لي مخرج منه؟

ص: 242

قال: «إن قلت لك تفعل؟».

قال: أفعل.

قال له: «فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وأنا أضمن لك على اللّه عزّ وجلّ الجنة».

قال: فأطرق الفتى رأسه طويلاً ثم قال: قد فعلت جعلت فداك.

قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه، قال: فقسمت(1) له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا إليه بنفقة.

قال: فما أتى عليه إلّا أشهر قلائل حتى مرض، فكنا نعوده، قال: فدخلت عليه يوماً وهو في السَّوق(2)

قال: ففتح عينيه، ثم قال لي: يا علي، وفى لي واللّه صاحبك.

قال: ثم مات فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فلما نظر إليَّ قال: «يا علي، وفينا واللّه لصاحبك».

قال: فقلت: صدقت جعلت فداك، هكذا واللّه قال لي عند موته(3).

أعوان الظلمة

ثم إن بعض هؤلاء وأولئك من أعوان الظلمة يكونون وليدي الأجواء العامة الرهيبة التي أفرزت لنا أمثالهم.

ومما ساعد على إفراز هذه الحالة أيضاً:

1- التخلف الثقافي.

ص: 243


1- فقسمت: أي أخذت من كل رجل من أصدقائي له شيئاً.
2- السَّوق: النزع، وساق بنفسه سياقاً: نزع بها عند الموت.
3- الكافي 5: 106.

2- غياب الوعي السياسي.

3- الابتعاد عن الدين الإسلامي.

4- التنازل عن الأخلاق الإسلامية العظيمة، التي كان الاسلام دائماً يدعو إلى التحلي بها، والتخلي عن كل مظاهر الانحلال التي تذل الإنسان وتجعله أسير غيره. حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(1).

وسُئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقيل: يا رسول اللّه، ما أفضل ما أعطي المرء المسلم؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الخلق الحسن».(2)

وبدخول الاستعمار تراكمت حالات التخلف وإبتعاد الدين عن الحياة، وساءت الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأمة الإسلامية.

ثم أصبح شيئاً فشيئاً همُّ الشعوب الأول هو التخلص من الاستعمار، واتخذت عملية التخلّص منه عدة أشكال:

تارة: بالمواجهة الدامية.

وأخرى: بإنشاء أحزاب، أو تأسيس حركات ثقافية تدعو إلى توعية الناس وتنمية إحساسهم بالمسؤولية، وإعادة الثقة إليهم.

وثالثة: بإنشاء حركات مسلحة سرية، إلى أن تم إخراجه بصورة ظاهرة.

وما تزال الكثير الشعوب تعاني من ارتباط حكوماتها بالاستعمار، أو ما يعرف بالاحتلال من الباطن، علماً أن الطريقة الصحيحة لمواجهة الاستعمار هي طريقة توعية الأمة واتخاذ سياسة السلم واللاعنف بعيداً عن كل مظاهر الخشونة واللاعنف.

ص: 244


1- بحار الأنوار 16: 210.
2- الخصال 1: 30.

مخلفات الاستعمار

كثير من الأمور السلبية تسربت إلى بلادنا الإسلامية عبر الحاجة والاستعمار، فمثلاً الروح القومية التي شتت الأمة الإسلامية، وإن قيل بأنها لعبت دوراً نسبيا في أوروبا في القرن التاسع عشر - بناء على صحة ذلك - ، فقد سرَّبها الاستعمار إلى بلادنا.

ففي قبال جمعية الاتحاد والترقي(1)

التي أرادت تتريك العناصر العربية، نهض البعض من العرب وشكلوا الجمعيات، مثل جمعية الإخاء العربي العثماني(2)، والمنتدى العربي(3) وغيرها، وساعد الاستعمار على إنشاء القومية وترسيخها في بعض بلاد المسلمين. ثم لم يكتف بذلك، بل حاول الاستعمار تحت ذريعة الثقافة والعلم تأسيس الإرساليات الدينية الأجنبية وبعث المؤسسات التبشيرية، من أمريكية وإنجليزية وفرنسية وإيطالية(4) ... فإن المبعوثين كانوا يمتزجون بأهل البلاد، ويتخلقون بأخلاقهم، فيبثون فيهم مبادئ مدنية الغرب، عبر المدارس

ص: 245


1- الاتحاد والترقي: جمعية عثمانية نشأت في أوروبا كحركة مناوئة للإستبداد ومنادية بالتجديد والتحديث في الدولة العثمانية.
2- جمعية الإخاء العربي - العثماني: أولى الجمعيات العربية التي تأسست بعد الانقلاب العثماني عام (1908م).
3- المنتدى الأدبي العربي: جمعية سياسية أدبية أسسها بعض رجال العرب من الأدباء والشباب ورجال السياسة، هدفها المعلن إنماء الحياة الثقافية بين العرب، وترقية الصلات بين الأوساط الثقافية في الولايات العربية، التي منها الدولة العثمانية.
4- الإرساليات الأجنبية: إن مصطلح (إرسالية) مأخوذ في الأصل من القاموس الديني المسيحي، ويعني قيام طائفة دينية بإرسال ممثلين أو مندوبين عنها لنشر معتقداتهم، وإنشاء المؤسسات بين أناس يجهلون حقيقة مقاصدهم، والإرساليات الأجنبية مصطلح آخر يدل على البعثات التبشيرية والتعليمية التي انطلقت من أوروبا منذ ما قبل الاكتشافات البحرية باتجاه مناطق آسيا وأفريقيا، ثم تزايدت بعد الاكتشافات وشملت القارة الأمريكية.

التبشيرية(1)،

كالجامعة الأمريكية، والكلية اليسوعية وما أشبه، فكانت هذه المدارس وسيلة لتحقيق مطامع الاستعمار، وحادت عن الغرض العلمي(2).

الاستعمار الاقتصادي

أما مخلفات الاستعمار على المستوى الاقتصادي فإنه عمل على أن تبقى الدول المستعمَرة - بالفتح - متأخرة صناعياً، كأن يجعل منها سوقاً خصبة لتصريف السلع الغربية من خلال أساليب اقتصادية معينة، حيث يقل الطلب على المنتوج المحلي داخل هذه البلاد، فتتسع دائرة البطالة، ويكون اعتماد السوق والمستهلك المحلي على البضائع الأجنبية، والتي تصل بالعملة الصعبة(3).

ومن جانب آخر عمل الاستعمار على زرع روح الخمول والكسل والاتكالية في الشعوب المسلمة، وأعظم أمر قام به المستعمرون هو ربط الحكم ونظام الحكم بشكل كلي بهذه الدول الاستعمارية، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وغير ذلك. ففي الجانب الاقتصادي يؤدي هذا الارتباط إلى فرض أسلوب اقتصادي يخدم مصالح الاستعمار ويضر بمصلحة البلد الإسلامي، كأن يفرض تسويق نوع خاص من الصادرات أو تحديد نوعية الواردات، أوتحجيم الصادرات أو التحكم في نوعية الصناعات والاستثمارات في البلاد الإسلامية، وبالتالي تظل هذه الدول

ص: 246


1- المدارس التبشيرية، هي الأيديولوجية التي أقامتها الكنيسة المسيحية في العالم، الهدف منها تعليم الدين المسيحي ونشره في جميع دول العالم.
2- انظر: تاريخ الحضارة الأوربية الحديثة، علي حيدر سليمان: 428-430.
3- العملة الصعبة: اصطلاح مالي شاع استخدامه بعد الحرب العالمية الثانية، للدلالة على العملات القوية التي يكون الطلب العالمي عليها وحاجته إليها أكبر من المعروض منها. وأشهر ما انطبق هذا المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية على الدولار الأمريكي.

في حاجة دائمة ومقيدة بمشيئة الدول الاستعمارية، حتى في حال تغيير صورة الحكم.

ولا يخفى أن الاستعمار عندما يعشعش في بلد ما، فإنه يطّلع ويتسلل إلى كل زوايا هذا البلد وكل خفاياه، وعندما يطرد منه فإنه يكون قد امتلك تقارير ومعلومات كاملة حول نقاط الضعف والقوة فيه. فيعمل بعد ذلك على إبقاء نقاط الضعف، واستغلال نقاط القوة لصالحه أو إضعافها، ليتمكن من التلاعب به، فمتى شاء الدخول إليه أو التأثير فيه أو إرباك وضعه قام بذلك، ونقاط القوة متمثلة في الثروات الطبيعية والمصادر الثانوية (التصنيع) وغيرها، ونقاط الضعف عكس تلك، مع بيان ثغرات الحاجة.

الحكومات الإسلامية أدوات الاستعمار

ومن أهم أدوات الاستعمار في بلادنا هؤلاء الحكام الذين لايريدون إلّا الشر لشعوبهم مثل أكثر حكوماتنا اليوم إن لم نقل بكلها، فإنها على اختلاف ألوانها وأسمائها هي كمثل ما كان يفعله بعض الكسبة في العراق من قبل؛ حيث كانوا يصنعون من المثلجات أشكالاً وألواناً ويضعون فيها أعواداً من الخشب بمثابة المقبض، وكانت تباع أيام الصيف للأطفال، والأمر الذي كان يجذب الأطفال إليها هو ألوانها المتعددة، ولكنها مع تعدد الألوان يبقى لها طعم واحد.

وكذلك الأمر في كثير من الحكومات التي تحكم بلادنا الإسلامية، تارة تكون الحكومة فيها ملكية أو جمهورية، وكذا الأنظمة في داخلها تارة تعمل بالنظام الشيوعي، وأخرى بالرأسمالي، وثالثة تجري على عدة أنظمة، وهي كلها عبارة عن ألوان مختلفة، ولكن يبقى الأصل واحداً وهو التبعية للاستعمار، وهو الذي يهيئ أجواء الانقلابات العسكرية والمدنية، ويحدد رؤوس الحكم وشكل النظام وأسلوب التطبيق وكلها تعمل لبقاء الحاجة والفقر في البلاد الإسلامية.

ص: 247

قانون الإصلاح الزراعي

في عام (1958م) حدث انقلاب عسكري في العراق أدى إلى تسلم عبد الكريم قاسم ومجموعة من الضباط الحكم. فصدر ما سمي في حينه بقانون (الإصلاح الزراعي)(1)، فأخذوا بعض الأراضي من شيوخ العشائر وملاكها، وقاموا بتوزيعها على الفلاحين، وشجعت الحكومة المزارعين، وهيأت أموراً أخرى لهذه المسألة، إلّا أنها كلها باءت بالفشل، إضافة إلى حدوث الفوضى في البلد.

وصادف في ذلك الحين مجيء خبير اقتصادي من أحد البلدان الغربية، فلما سمع بالأمر واطلع على إجراءات التطبيق التي قامت بها الحكومة القاسمية حينها، دار حديث بينه وبين أحد المختصين بذلك، فقال الخبير: هل تملكون أراضي واسعة صالحة للزارعة، لكي تجري فيها عمليات الإصلاح الزراعي؟ ثم هل لديكم لوازمها من مياه وأيد عاملة وأسمدة ومضادات؟

فقال له: نعم نمتلك كل ذلك.

فاستغرب هذا الخبير من الأمر؛ لأنه إذا كانت كل لوازم الإصلاح الزراعي متوفرة، فلماذا الفشل؟!

عندها سأله سؤالاً آخر، فقال له: هل تملكون ثروات طبيعية؟

فقال له: نعم، نحن نمتلك النفط.

عندها قال الخبير: نعم، هنا يكمن السر؛ حيث إنكم تملكون النفط، فإن الإستعمار يعمد إلى تجهيل وصرف الناس عن الاشتراك والعمل في مجالات

ص: 248


1- هو تقييد الملكية الزراعية، بحيث لا تتجاوز حداً معيناً، ونزع ملكية ما تجاوز عن ذلك الحد بقصد توزيعه في ملكيات صغيرة.

كثيرة، ويزرع فيهم روح الإتكال على ثروة النفط، كما هو الحال في بعض دول الخليج، فتبقى هذه الدول على حد ثابت من القدرة الاقتصادية.

والاستعمار هو الذي يرسم الخطوط العامة للسياسة الخارجية، فمثلاً يقرر بأن كوبا يجب أن تصدر السكر فقط، وأن العراق يصدر النفط فقط، وعلى هذا المنوال. والاستراتيجية التي يعمل وفقها، تارة تكون بصورة مباشرة، وأخرى بواسطة العملاء. فمثلاً عبد الكريم قاسم كان له سبعة عشر رفيقاً قبل أن يصل إلى الحكم، ولكن ما إن وصل إلى الحكم وصارت بيده السلطة، حتى اتهم رفاقه بالتخطيط لخيانته، فحكم عليهم بالاعدام، فأعدموا شنقاً حتى الموت، في ساحة أم الطبول في بغداد، كل ذلك بسبب عدم خضوعهم لما يريد أو خوفه من ذلك.

كتاب الإصلاح الزراعي

عندما كنا في العراق، صدر كتاب لأحد العلماء عن الإصلاح الزراعي(1)، يتضمن بياناً موجزاً عن رأي الإسلام في النظام الزراعي والعمراني، وبياناً لأحدث الآراء العالمية فيه. وعقد مقارنة بين الزراعة في ظل الإسلام والزراعة في ظل الحكومات التابعة للقوانين الغربية، وغيرها من القوانين الدخيلة، رغم توفر المواد الأولية وغيرها مما يحتاجه المزارع، وقد صودرت الطبعة الأولى من الكتاب من قبل الحكومة العراقية، وسجن صاحب المطبعة وغرم بغرامة ثقيلة، وكان تأليف هذا الكتاب أحد أسباب مطاردة ومضايقة مؤلفه حتى آل الأمر إلى هجرته نتيجة لنشاطه الإسلامي، وقد ذكر وزير الزراعة العراقي آن ذاك(2) بأنه

ص: 249


1- من تأليفات سماحة المرجع الديني آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازيK شقيق الإمام المجدد السيد محمد الشيرازي (أعلى اللّه درجاته).
2- وهو الدكتور عبد الصاحب علوان.

يرفض عرض الكتاب في الأسواق؟! فطلبت من أحد الأصدقاء أن يذهب إلى الوزير ويعطيه نسخة من الكتاب، ويطلب رأيه فيه بعد قراءته، وبعد أسبوع اتصل صاحبنا بالوزير وسأله عن الكتاب؟

فأجاب الوزير ضاحكاً: إن كل الذي دون في هذا الكتاب صحيح، ولا يرد عليه أي إشكال ولكن مسألة الإصلاح الزراعي في البلد ليست كل قنواتها بيدي، بل هناك أمور خارجة عن يد الحكومة نفسها، أحدها التأثيرات الدولية على الحكومة ومقرراتها وخططها؛ إذ أن من مصلحة كثير من الدول الغربية أن تبقى مشكلة التخلف الزراعي والإرباك والاضطراب الاقتصادي قائمة في بلادنا.

تبعية البلاد الإسلامية للاستعمار

عندما حدث الانقلاب العسكري ضد عبد الكريم قاسم في (الثامن من شباط سنة 1963م)، وجاء محله (عبد السلام عارف) للحكم، طلبوا من أحد وزراء الحكومة العراقية الجديدة أن يعطي توضيحات عن سوء الأعمال التي يمارسها الرئيس، ثم يقترح عليه لو أنه يعدل إلى غيرها.

فأجاب الوزير: هل تتصورون أن عبد السلام عارف يمتلك الحرية الكافية التي بها يتم إدارة البلاد بشكل أفضل؟!

إن العراق كان ملغوماً بشكل كبير بشبكات التجسس الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية وغيرها، وعبر هذه الشبكات تتدخل تلك الدول، وتستغل الجو القلق والمضطرب دائماً.

فعندما تطلب بريطانيا - مثلاً - من عبد السلام عارف أن يكون النظام العراقي قائماً على أساس معين، فلا يملك عارف أي رأي أمام رغبة بريطانيا وإرادتها.

وهكذا الأمر في مصر، وفي البلاد التابعة الأخرى.

إذاً، فكل ادعاءات التحرر والاستقلال التي تتبجح بها أغلب الحكومات

ص: 250

الإسلامية عبر أبواقها وإعلامها، ما هي إلّا أكاذيب وخدع وأباطيل لتضليل الرأي العام والشعوب المغلوبة على أمرها.

حوار حول الإصلاح الزراعي المزعوم

ذكر لي أحد الأشخاص - أيام المد الشيوعي في العراق - : أن هنالك أحد الشيوعيين من الحلة يريد مقابلتك، وبعد أن حذرني - الشخص - من أن أتكلم بشيء لأن الرجل الشيوعي سيخبر السلطة برأيي حول ما يسمى بالإصلاح الزراعي. (وكان الزمان إبان طغيان عبد الكريم قاسم).

جاء الرجل الشيوعي وكان يظهر أنه مثقف، ومعه الشخص الذي أخبرني عنه.

وبعد مقدمة، قال: المعروف عنك أنك مخالف للإصلاح الزراعي؟

قلت: هل تريد أن نتكلم حول الموضوع من الوجهة السياسية، أو من الوجهة الدينية، أو من الوجهة الاجتماعية؟

قال: وهل يختلف الأمر من الوجهات المختلفة؟

قلت: نعم.

قال: إذاً نتكلم من الوجهة الاجتماعية؟

قلت: تفضل.

قال: ألا تعترف بأن الملاكين الكبار والإقطاعيين قد ظلموا الناس الفلاحين المساكين، وامتصوا دماءهم، ولعبوا بمقدراتهم؟

قلت: لنفرض كل ذلك؟

قال: فلا بدّ من إزالتهم، وتوزيع الأرض للفلاحين!

قلت: ولماذا هذا الحل؟

قال: فماذا تصنع؟

قلت:نقول كما قال الإسلام.

ص: 251

قال: وماذا قال الإسلام؟

قلت: نوقف الملاك عند حده، والفلاح عند حده، فلا يظلم الملاك الفلاح ولا يظلم الفلاح الملاك.

قال: وكيف؟

قلت: نجعل أرض الملاك في يده، ونمنعه من ظلم الفلاح. قال: وهل الأرض للملاك؟

قلت: فلمن إذاً؟!

قال: للدولة.

قلت: ولماذا للدولة؟ إن الملاك تعب حتى حصل على الأرض، فلماذا تهدر أتعابه؟!

قال: وهل الإسلام يقر أن يلعب الملاك بملايين الدنانير والفلاح لا قوت له؟

قلت: الإسلام يقول: لكل تعبه وعمله. ويقول: إن الفلاح يجب أن يكون له قوت، إما من تعبه، وإن لم يحصل من تعبه فعلى الدولة أن تقوم بالإنفاق عليه.

قال: ولماذا الفرق بين الفلاح والملاك؟

قلت: ولماذا الفرق بين المهندس والعامل، ولماذا الفرق بين السلطة والشعب، ولماذا الفرق بين الطبيب والشخص العادي؟!

قال: لأن أولئك تعبوا ودرسوا، فما يحصلونه من العيش السعيد إنما هو إزاء تعبهم.

قلت: والملاك تعب وجهد، فما حصله إنما هو إزاء تعبه.

قال: إن الملاك حصل على الأرض من جراء النهب والظلم والسلب.

قلت: أي ملاك كان كذلك، كان اللازم على الدولة بعد التحقيق أن ترد الأرض إلى المنهوب منه، أما أن نقول: كل المالكين كذلك، فهذا إدعاء فارغ.

ص: 252

قال: من يميز بين الملاك الظالم والملاك غير الظالم؟

قلت: المحكمة والحاكم والشهود.

قال: لماذا تفاوت الطبقات؟

قلت: هذا شيء طبيعي.

قال: وكيف؟!

قلت: لماذا تقدم الذكي على الغبي، والنشيط على الكسول، والمفكر على العادي؟

قال: جزاءً لتفوقهم الطبيعي.

قلت: وفي الملاك والفلاح، ما المانع من أن يكون التفاوت جزاءً لتفوق الملاكين؟

قال: أليس الأحسن أن نسوي كل الطبقات؟

قلت: الشيوعيون لا يقبلون ذلك.

قال: بل العكس؛ فإن في الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، كل الناس متساوون.

قلت: فلماذا طبقة تحكم على طبقة؟ ولماذا طبقة لها خصائص دون طبقة؟

قلت: ثم إنكم أيها الشيوعيون عندكم الملاك والفلاح.

قال: وكيف؟

قلت: إنكم تجعلون الملاك الدولة، والفلاح هو الفلاح، وحاله عندكم أسوء من الفلاح عند الملاك.

قال: وكيف؟

قلت: لأن الفلاح عند الملاك، إذا ظلمه الملاك اشتكاه عند الدولة، أما الفلاح عند الدولة إذا ظلمته الدولة، فليس هناك من يشتكي عنده، وكذلك

ص: 253

حدث في زمن ستالين، حيث قتل وشرد ملايين الفلاحين، في تطبيق نظام المزارع الجماعية، فهل حدث مثل ذلك تحت ظل القوانين الإسلامية المعترفة بالملاك والفلاح؟

قال: إذاً أنت لا تعترف بظلم الملاك للفلاح.

قلت: نعم لا اعترف بهذا، كما لا اعترف بظلم الفلاح للملاك.

قال: لا نظلم الملاك وإنما نوزع أراضيه بين الفلاحين!

قلت: أليس هذا ظلماً، ثم ولماذا نفعل ذلك؟!

قال: ليكثر الزرع.

قلت: وهل الاتحاد السوفييتي أكثر زراعة أم أمريكا الرأسمالية، إني لا أعترف برأسمالية أمريكا، لكن أريد نقض كلامك، ثم أليس من الأفضل أن نوزع الأراضي البائرة بين الفلاحين ونسعفهم باللوازم، ليكونوا هم (ملاكين) بدون أن نظلم الملاك، وبذلك قد عمرنا كل الأرض، كما كان الإسلام يفعل كذلك؟!

قال: إذاً أنت إقطاعي؟

قلت: الإقطاع بهذا المعنى الذي ذكرت - أنا - نعم، أما بالمعنى الذي أنت تذكر، فلا.

ثم أردفت: فالأفضل أن تترك أنت الشيوعية، وتقبل الإسلام.

قال: إني من المستحيل أن أترك الشيوعية.

قلت: لكنك تهدم بلدك وتظلم الناس.

قال: وكيف؟

قلت: لأنك الآن اعترفت بأن الإسلام خير من الشيوعية، ومع ذلك تقف بعيداً عن الإسلام، وتعتنق المبدأ الذي فيه ظلم الناس، وتقليل للزرع.

قال: وعلى كل.

ص: 254

قلت: يكفيني أن أُثبت لك أنك تهدم البلد وتظلم الناس.

وهنا توسط الشخص الذي جلبه ليقنعه بقبول كلامي، لكنه لم يقبل، وقاما وذهبا، وبعد زمان جاء الصديق، وقال: إني أتعجب من هذا الإنسان! كنت أحسبه مثقفاً وتبين أنه جاهل عنود؛ ولذا الأفضل أن أتركه.

قلت: بل الأفضل أن تصادقه لتنقذه.

الاختلاس وعدم الإخلاص

قبل ما يقارب أربعين سنة زار أحد نواب المجلس الوطني الإيراني صديقاً له، وكان أيضاً وكيلاً لمجلس البرلمان، وكانت الزيارة في بيته، فلما دخل بيت صديقه - الذي هو وكيل في المجلس مثله - تعجب من حاله ووضعه المعيشي الضعيف، حيث كانت حالة بيته والأثاث الموجودة فيه بسيطة وعادية؟! فقال له: لماذا وضعك هكذا، وأنت نائب في المجلس؟

فقال صاحبه: إن وضعي المادي لا يساعدني لأن أكون أفضل من هذه الصورة.

فقال له: أعلمك طريقة تحصل من خلالها على أموال كثيرة، وبها تستطيع أن تحسن حالك المعاشي! والطريقة هي: أن تقوم غداً وعندما يعلنون عن الاجتماع المقبل لوكلاء المجلس، تقوم وتسأل رئيس الوزراء: أين صرفت أموال النفط لهذه السنة؟ وما هي الموارد التي صرفت فيها؟ وأين هي السجلات والاعتمادات في ذلك؟ ثم التزم الصمت ولا تتكلم أبداً، وسترى كيف تأتيك الأموال ليلاً؟ فإذا جاءتك الأموال لا تتسلمها وأخبرني بما يحدث.

وفعلاً قام صاحبه بهذا الأمر، فقال له رئيس الوزراء: سوف أتحدث لك بشكل مفصّل في وقت آخر إذا عقدت الجلسة فالوقت لا يسمح بذلك، وفي الليل طرق عليه الباب بعض الأفراد وقدموا له مقدار من المال فرفض استلامه.

ص: 255

ثم أخبر صاحبه بالأمر. وفي اليوم التالي قال له صاحبه: اليوم أيضاً اعترض في المجلس، وقل نفس الكلام السابق، وفعلاً تم ذلك، وأوصاه بأن لا يقبل المال هذا اليوم أيضاً.

وفي اليوم الثالث قال له صاحبه: في هذا اليوم قدم اعتراضك أيضاً، ولكن بصورة أخرى. وإذا جاءوا إليك بالأموال ليلاً فخذها، فإنها أكثر بكثير من الأموال التي جاءوا بها في اليوم الأول والثاني، وإذا لم تستلمها فسيحكم عليك إما بالسجن أو الإعدام أو التبعيد، بعد أن يلقوا عليك تهمة كبيرة، وفعلاً في الليلة الثالثة أخذ الأموال التي جاءوا بها إليه، وقالوا له: خذ هذه الأموال هدية لك من رئيس الوزراء، فأخذها وحسّن بها وضعه المادي!

هذا نموذج من الحكومات التي تدير البلاد الإسلامية، وهو مثال بسيط لما يتم من حالات الاختلاس وأخذ الرشوة، على حساب الشعب المسلوب المنهوب.

كيف نعالج الوضع؟

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «دعامة الإنسان العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالماً حافظاً ذاكراً فطناً فهماً، فعلم بذلك كيف ولم وحيث، وعرف مَن نصحه ومَن غشه، فإذا عرف ذلك عرف مجراه ومَوْصوله ومفصوله وأخلص الوحدانية لله والإقرار بالطاعة، فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات

ص: 256


1- الكافي 1: 25.

ووارداً على ما هو آت، يعرف ما هو فيه ولأي شي ء هو هاهنا ومن أين يأتيه وإلى ما هو صائر، وذلك كله من تأييد العقل»(1).

نحن أمام مشكلتين:

الأولى: أزمة التخلف التي تمر بها شعوبنا الإسلامية.

الثانية: مشكلة وجود هؤلاء الحكام العملاء والدكتاتوريين.

ويمكن أن نعالج كلتا الحالتين معاً؛ وذلك عبر تثقيف الناس وبث الوعي العام بين صفوف الأمة الإسلامية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى عبر تربية أفراد المجتمع الإسلامي وكوادرها على الإخلاص في العمل، وإشعارهم بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عواتقهم. ورويداً رويداً سوف تنتج لنا هذه الشعوب جيلاً يحمل الصفات الإنسانية الرفيعة، والمثل العليا، ويطبق القيم على أرض الواقع، فقد حثت أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) على الإخلاص واعتبرته أفضل العبادة، روي عن الإمام الجواد(عليه السلام) قال: «أفضل العبادة الإخلاص»(2).

كما جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «قال اللّه عزّ وجلّ أنا خير شريك، ومن أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً»(3).

أما التثقيف وبث روح الوعي والمعرفة؛ فذلك يتم بأمور منها السعي وراء تأسيس المدارس والمعاهد العلمية والحوزوية، وإنشاء المكتبات العامة، وطباعة المزيد من الكتب والمجلات والجرائد الهادفة، كما نحتاج إلى زيادة عدد المبلغين ونشرهم في كل القرى والأرياف، وذلك في كل منطقة يتواجد فيها مسلم، كما نحتاج إلى تأسيس إذاعات مرئية وصوتية تبين أحكام الإسلام إلى

ص: 257


1- الكافي 1: 25.
2- عدة الداعي: 233.
3- المحاسن: 252.

جانب المبادئ الإسلامية والقيم العظيمة، وإرشاد الناس إلى مسألة الاكتفاء الذاتي، وشرح أبعاده وفوائده بصورة مبسطة، ولو بتشجيعهم على ترك الأمور الكمالية التي نحتاج بها إلى الغرب. ولو عمل المسلمون بهذه الخطوات لتقدموا إلى الأمام، مهما قلّت نسبة التقدم.

من برامج التنمية والاكتفاء الذاتي

بطبيعة الحال إن ما ذكرناه آنفاً في (كيفية علاج الوضع) يقف جنباً إلى جنب مع برامج التنمية والاكتفاء الذاتي، حيث أنه هو جزء منها ولا يستهان به مطلقاً، إن الأصل هو إيجاد حالة الوعي - الاقتصادي - التي تفقدها الأمة، ومن ثم محاولة البناء على هذه الأرضية الخصبة.

ولعل برامج الاكتفاء الذاتي تبدأ أولاً من خلق فرص العمل للمواطنين، وتسهيل أمور العمل وتوفير لوازمه، وفق الحريات الإسلامية الاقتصادية، بلا ضريبة ولا رسوم ولا ما أشبه، فيتم القضاء على حالة البطالة التي تهدم الأمة، وهذه البرامج هي من واجبات الدولة قبل الآخرين، وذلك عبر السعي في تشغيل أكبر قدر ممكن من الشعب، وفتح المعاهد والجامعات التي تهتم بتدريس وتخريج الكوادر الأساسية، التي يقع على عاتقها وضع البرامج للدولة والأمة. ثم محاولة إعطاء أكبر قدر ممكن من الحرية الفكرية لأبناء الشعب، لتحريضهم على الابداع، وتوفير المواد الأولية لذلك، لتتم مراحل الاكتشاف والاختراع والتقدم.

وكذلك وضع الأكفاء المؤهلين في مناصبهم الحقيقية التي بها يتمكنون من إظهار قدراتهم وطاقاتهم في سبيل بناء وخدمة الأمة الإسلامية، وعدم إهدار قوى المجتمع، وإحراق طاقاته، وذلك بجعل المهندس الكيميائي - مثلاً - معلماً في المدارس الابتدائية، وتنصيب المعلم رئيساً لنقابة المهندسين، بل لابد من توزيع

ص: 258

الأدوار بصورة صحيحة وعادلة، ليكون الناتج مثمراً.

وأيضاً إلغاء الضرائب غير المشروعة والعالية، بل فتح متنفس للشعب من خلاله يستطيع أن يبدع.

ثم لابد من إعطاء فرص إنشاء شركات أهلية، تحاول أن تستفيد من المواد الأولية المحلية واستثمارها، وكذلك الشركات الحكومية بشرط عدم الإجحاف بالآخرين، من خلال استخراج المعادن واستكشاف موارد الثروات الطبيعة غير المكتشفة والمستغلة. وتنظيم أمور الناس وغيرها من البرامج، التي تصب في مجال التنمية والتقدم، والحث على الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي. وعندها سوف تصبح هذه البرامج تطبيقاً لقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «واستغن عمن شئت تكن نظيره»(1).

نسأل اللّه عزّ وجلّ أن ينعم علينا بالاكتفاء الذاتي والتقدم الاقتصادي للتخلص من التبعية والاستعمار.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

الخسران في العبودية لغير اللّه تعالى

قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ

ص: 259


1- الإرشاد 1: 303.
2- الكافي 3: 424.

يَنصُرُونَ}(1).

وقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ شَئًْا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَئًْا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفّٖ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَٰطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}(4).

وقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَٰفِلُونَ}(5).

الابتعاد عن الإسلام وعاقبته

قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِ}(6).

وقال سبحانه: {وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ

ص: 260


1- سورة الأعراف، الآية: 197.
2- سورة النحل، الآية: 73.
3- سورة الأنبياء، الآية: 66- 67.
4- سورة الحج، الآية: 62.
5- سورة الأحقاف، الآية: 5.
6- سورة البقرة، الآية: 257.
7- سورة هود، الآية: 113.

الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}(2).

وقال عزّ اسمه: {وَأَلَّوِ اسْتَقَٰمُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّاءً غَدَقًا}(3).

العبادة المطلوبة هي الإخلاص

قال اللّه تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(4).

وقال سبحانه: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(7).

وقال عزّ اسمه: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}(8).

فضيلة العلم والمعرفة

قال اللّه تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(9).

ص: 261


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة نوح، الآية: 21.
3- سورة الجن، الآية: 16.
4- سورة النساء، الآية: 146.
5- سورة الأعراف، الآية: 29.
6- سورة غافر، الآية: 14.
7- سورة غافر، الآية: 65.
8- سورة البينة، الآية: 5.
9- سورة البقرة، الآية: 269.

وقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَٰتُوَالنُّورُ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الإنسان وكرامته في الاستغناء

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ويكون استغناؤك عنهم - عن الناس - في نزاهة عرضك وبقاء عزك»(3).

وقال(عليه السلام): «من أتحف العفة والقناعة حالفه العز»(4).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «شرف المؤمن قيام الليل وعزّه استغناؤه عن الناس»(5).

العبودية فقط للّه عزّ وجلّ

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أمّا بعد، فإنّي أوصيكم بتقوى اللّه الّذي ابتدأ خلقكم، وإليه يكون معادكم، وبه نجاح طلبتكم، وإليه منتهى رغبتكم، ونحوه قصد سبيلكم، وإليه مرامي مفزعكم؛ فإنّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم(6)، وضياء سواد ظلمتكم،

ص: 262


1- سورة الرعد، الآية: 16.
2- سورة الرعد، الآية: 19.
3- الكافي 2: 149.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 256.
5- الكافي 2: 148.
6- الجأش: ما يضطرب في القلب عند الفزع.

فاجعلوا طاعةاللّه شعاراً(1) دون دثاركم، ودخيلاً دون شعاركم، ولطيفاً بين أضلاعكم، وأميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين ورودكم، وشفيعاً لدرك(2) طلبتكم، وجنّةً ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم، وسكناً لطول وحشتكم، ونفساً لكرب مواطنكم، فإنّ طاعة اللّه حرزٌ من متالف مكتنفةٍ، ومخاوف متوقّعةٍ، وأوار(3)

نيرانٍ موقدةٍ، فمن أخذ بالتّقوى عزبت عنه الشّدائد بعد دنوّها، واحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصّعاب بعد إنصابها(4)، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدّبت عليه الرّحمة بعد نفورها، وتفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها(5)، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها، فاتّقوا اللّه الّذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته، وامتنّ عليكم بنعمته، فعبّدوا أنفسكم لعبادته، واخرجوا إليه من حقّ طاعته»(6).

وقال(عليه السلام): «قال اللّه عزّ وجلّ من فوق عرشه: يا عبادي، اعبدوني فيما أمرتكم ولا تعلّموني ما يصلحكم؛ فإني أعلم به ولا أبخل عليكم بمصالحكم»(7).

وقالت الصديقة فاطمة(عليه السلام): «من أصعد إلى اللّه خالص عبادته أهبط اللّه إليه أفضل مصلحته»(8).

ص: 263


1- الشِعار: ما يلي البدن من الثياب، والدِثار: ما فوق الشِعار.
2- الدَرَك: اللحاق، والطَلِبَة: المطلوب.
3- الأُحرار: حرارة النار ولهيبها، وعَزَبت: غابت وبعدت.
4- الإِنصاب: مصدر بمعنى الإتعاب، وتحدَّب عليه: عطف.
5- نَضَبَ الماء نضوباً: غار وذهب في الأرض، ونضوب النعمة: قلتها أو زوالها، ووَبَلَت السماء: أمطرت مطراً شديداً، وأرذّت إرذاذاً: مطرت مطراً ضعيفاً في سكون كأنه الغبار المتطاير.
6- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبه على إحاطة علم اللّه ويحث على التقوى.
7- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 108.
8- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 327.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «خرج الحسين بن علي(صلوات اللّه عليهما) ذات يوم على أصحابه فقال بعد الحمد لله جلّ وعزّ، والصلاة على محمد رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا أيها الناس، إن اللّه ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته من سواه...»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «في التوراة مكتوب: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، ولا أكلك إلى طلبك، وعليَّ أن أسد فاقتك، وأملأ قلبك خوفاً مني، وإن لا تفرغ لعبادتي أملأ قلبك شغلاً بالدنيا، ثم لا أسد فاقتك وأكلك إلى طلبك»(2).

ما هو الإخلاص؟

سُئل سيد الأولون والآخرون نبينا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن الإخلاص؟

فقال: «سألته عن جبرئيل، فقال: سألته عن اللّه تعالى، فقال: الإخلاص سر من سري أودعه في قلب من أحببته»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن لكل حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من عمل اللّه»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ومن لم يختلف سره وعلانيته وفعله ومقالته فقد أدى الأمانة وأخلص العبادة...»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «والعمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه

ص: 264


1- كنز الفوائد 1: 328.
2- الكافي 2: 83.
3- مستدرك الوسائل 1: 101.
4- روضة الواعظين 2: 414.
5- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 26 من عهد له(عليه السلام) إلى بعض عماله وقد بعثه على الصدقة.

أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ»(1).

فضيلة العلم والمعرفة

قال الرسول الصادق الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بالعلم يطاع اللّه ويُعبد، وبالعلم يُعرف اللّه ويوحد، وبه توصل الأرحام،ويعرف الحلال والحرام، والعلم إمام العقل»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المعرفة نور القلب»(4).

وعن أبي الصلت الهروي قال: كنت مع الرضا(عليه السلام) لما دخل نيسابور وهو راكب بغلة شهباء وقد خرج علماء نيسابور في استقباله، فلما سار إلى المرتعة تعلقوا بلجام بغلته، وقالوا: يا ابن رسول اللّه، حدثنا بحق آبائك الطاهرين، حدِّثنا عن آبائك (صلواتك عليهم أجمعين).

فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف(5) خَزٍّ فقال: «حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة، عن أبيه أمير المؤمنين(عليهم السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: أخبرني جبرئيل الروح الأمين عن اللّه تقدست أسماؤه وجل وجهه، قال: إني أنا اللّه لا إله إلّا أنا وحدي، عبادي فاعبدوني، وليعلم من لقيني منكم بشهادة: أن لا إله إلّا اللّه مخلصا بها أنه قد دخل حصني، و من دخل

ص: 265


1- الكافي 2: 16.
2- تحف العقول: 28.
3- جامع الأخبار: 5.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 37.
5- المِطْرَف: رداء من خز ذو أعلام.

حصني أمن عذابي».قالوا: يا ابن رسول اللّه، وما إخلاص الشهادة لله؟

قال(عليه السلام): «طاعة اللّه و رسوله وولاية أهل بيته(عليهم السلام)»(1).

ص: 266


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 588.

التصرفات العقلائية واللاعقلائية

وظيفة العقل

قال اللّه العظيم في كتابه الحكيم: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ}(1).

لقد اهتم القرآن الكريم بالعقل كثيراً، وورد ذكر العقل والعقلاء في كتاب اللّه عزّ وجلّ والأحاديث الشريفة بشكل ملحوظ.

يقول تعالى في الآيتين الشريفتين {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} أي: هؤلاء الكفار المكذبون بنبوتك يا رسول اللّه {فِي الْأَرْضِ} اليمن والشام، وسائر البلاد التي أهلك أهلها لما كذبوا الرسل، حتى يعتبروا ويعقلوا عن غيّهم. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ما يرون من العبر، وآثار الخرائب التي بقيت بعد إهلاك الأمم السابقة، الذين كذّبوا نبياءهم {أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أخبار الأمم السابقة، فإن الإنسان إذا سافر، سمع من أهل البلاد أخبار الماضين منهم، وأنهم كيف كانوا، وكيف ماتوا، حتى يحكوا لهم أن أسلافهم هلكوا حيث كذبوا الأنبياء(عليهم السلام) وعملوا بالكفر والمعاصي {فَإِنَّهَا} الضمير للشأن والقصة، ويأتي هذا الضمير للإلفات والتنبيه إلى أن ما

ص: 267


1- سورة الحج، الآية: 46-47.

بعده أمر مهم، فإذا كان مذكراً، سمي ضمير الشأن، وإن كان مؤنثاً سميضمير القصة، والجملة ما بعد الضمير مفسرة له {لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ} الناظرة إذ البصر ينظر ويرى {وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ} وتنفلق عن الهدى {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} والإتيان بهذا الوصف للتعميم، كقوله: {وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَٰئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}(1).

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} يا رسول اللّه، أي: هؤلاء الكفار، فقد كانوا يطلبون من الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يأتي به {بِالْعَذَابِ} الذي وعدهم، استهزاءً به(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لكن اللّه سبحانه لا يأتي بالعذاب إلّا في الوقت المحدد له، حسب حكمته ومصلحته {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} فقد وعد بالعذاب فيأتيه، كما وعد لهم مدة معينة، فلا يأخذهم قبل انقضائها {وَإِنَّ يَوْمًا} وهو يوم القيامة {عِندَ رَبِّكَ} أي: في حسابه {كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وهذا تهديد، أي: أن وراءهم يوماً يعادل ألف سنة، بحساب الإنسان، وإن كان عند اللّه سبحانه يعد يوماً واحداً، وهذا كما تقول للمجرم: سيأتي وقتك، وفي حساب الحكومة لك يوم هو عشرون سنة في حسابك، تريد أن عليه الحبس تلك المدة. إنهم كيف يستعجلون بالعذاب، ألم يعلموا ماذا صنع بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة؟!(2).

ومن الواضح الإرجاع إلى العقل ودوره في حياة الإنسان في الآية الكريمة حيث قال عزّ وجلّ: {يَعْقِلُونَ بِهَا}.

وفي كتاب (التبيان في تفسير القرآن) للشيخ الطوسي(رحمه اللّه) قال:

لما أخبر اللّه تعالى عن إهلاك الامم الماضية جزاءً على كفرهم ومعاصيهم، نبّه الذين يرتابون بذلك. فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ

ص: 268


1- سورة الأنعام، الآية: 38.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 611.

بِهَا} إذا شاهدوا آثار ما أخبرنا به، وسمعوا صحة ما ذكرناه عمن أخبرهم بصحته من الذين عرفوا أخبار الماضين، وفيها دلالة على أن العقل هو العلم؛ لأن معنى {يَعْقِلُونَ بِهَا} يعلمون بها، مدلول ما يرون من العبرة.

وفيها دلالة على أن القلب محل العقل والعلوم، لأنه تعالى وصفها بأنها هي التي تذهب عن إدراك الحق، فلولا أن التبيين يصح أن يحصل فيها؛ لما وصفها بأنها تعمى، كما لايصح أن يصف اليد والرجل بذلك.

والهاء في {إِنَّهَا لَا تَعْمَى} هاء عماد، وهو الاضمار على شروط التفسير، وانما جاز أن يقول: ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، للتأكيد، لئلا يتوهم بالذهاب إلى غير معنى القلب؛ لأنه قد يذهب إلى أن فيه اشتراكاً كقلب النخلة، فإذا قيل هكذا كان أنفى للبس بتجويز الاشتراك، وأما قوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}(1) فلأن القول قد يكون بغير الفم. والمعنى في الآية: أن الأبصار وإن كانت عمياً، فلا تكون في الحقيقة كذلك، إذا كان عارفاً بالحق. وإنما يكون العمى عمى القلب الذي يجحد معه معرفة اللّه ووحدانيته. ثم قال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} يا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {بِالْعَذَابِ} أن ينزل عليهم ويستبطؤونه، وإن اللّه لا يخلف ما يوعد به. {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} قيل: يوم من أيام الآخرة يكون كألف سنة من أيام الدنيا. وقيل: إنه أراد يوماً من الايام التي خلق اللّه فيها السماوات والأرض. والمعنى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ} من أيام العذاب، في الثقل والاستطالة {كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} في الدنيا، فكيف يستعجلونك بالعذاب لولا جهلهم؟! وهو كقولهم: أيام الهموم طوال، وأيام السرور قصار... وقيل: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} في طول الإمهال للعباد

ص: 269


1- سورة آل عمران، الآية: 167.

لصلاح من يصلح منهم، أو من نسلهم، فكأنه ألف سنة لطوال الأناة. وقيل: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} في مقدار العذاب في ذلك اليوم، أي: إنه لشدته وعظمه كمقدار عذاب ألف سنة من أيام الدنيا على الحقيقة. وكذلك نعيم الجنة، لأنه يكون في مقدار يوم السرور والنعيم، مثل ما يكون في ألف سنة من أيام الدنيا لو بقي ينعم ويلتذ فيها(1).

إذاً، يبين اللّه تبارك وتعالى في هذه الآيات - وكثير غيرها - إلى أهمية هذه النعمة العظيمة التي تسمى: العقل، أو: اللب، أو: القلب، أو العلم، وضرورة إعمالها في ما يمر على الإنسان في حياته، فعليه أن يتبصر ويدقق في تجارب الآخرين ويعتبر من الأمم السابقة وما مر عليها. وكل ذلك بواسطة نعمة العقل التي وهبها اللّه تبارك وتعالى للإنسان.

فالعقل والعلم من أهم أسباب التصرفات العقلائية، والجهل وترك العقل من أهم أسباب التصرفات اللاعقلائية والتي توجب خسارة الدارين.

العقل في القرآن

هذا وهناك آيات آخر كثيرة تذكِّر وتنبِّه إلى نعمة العقل والعلم وأهميتها عند الإنسان وتركز عليها، كما في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَٰلِمُونَ}(2).

وقوله تبارك اسمه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٖ وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِوَالْأَرْضِ

ص: 270


1- التبيان في تفسير القرآن 7: 326.
2- سورة العنكبوت، الآية: 43.

لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(1).

وقوله تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَٰقُ الْكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلَٰدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٖ}(3).

وقال سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٖ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٖ مُّنِيبٍ}(4).

وقال تبارك اسمه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(5).

وقال سبحانه وتعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(7).

ص: 271


1- سورة البقرة، الآية: 164.
2- سورة الآعراف، الآية: 169.
3- سورة ق، الآية: 36- 38.
4- سورة ق، الآية: 31- 33.
5- سورة البقرة، الآية: 179.
6- سورة البقرة، الآية: 269.
7- سورة آل عمران، الآية: 190.

العقل في الأحاديث الشريفة

اشارة

أما ما ورد في العقل وأهميته وفضله في الأحاديث الشريفة، فكثير جداً...

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما قسم اللّه للعباد شيئاً أفضل من العقل؛ فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث اللّه نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته، وما يضمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض اللّه حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولو الألباب الذين قال اللّه تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}»(1)(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً - في حديث - : «... يا علي، العقل ما اكتسبت به الجنة، وطلب به رضا الرحمن. يا علي، إن أول خلق خلقه اللّه عزّ وجلّ العقل، فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. فقال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، بك آخذ وبك أعطي، وبك أثيب وبك أعاقب...»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين لمن لا عقل له»(4).

وأثنى قوم بحضرته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على رجل حتى ذكروا جميع خصال الخير، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كيف عقل الرجل؟» فقالوا: يارسول اللّه، نخبرك عنه باجتهاده في العبادة وأصناف الخير، تسألنا عن عقله؟! فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات

ص: 272


1- سورة البقرة، الآية: 269.
2- الكافي 1: 12.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 369.
4- تحف العقول: 54.

وينالون الزلفى منربهم على قدر عقولهم»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق...»(2).

وعن أبي جعفر الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «لما خلق اللّه العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. ثم قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلّا فيمن أحب. أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب»(3).

بشارة لأهل العقل

قال هشام بن الحكم: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام):

«يا هشام، إن اللّه تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(4).

يا هشام، إن اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين(عليهم السلام) بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: {وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٖ وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(5).

ص: 273


1- تحف العقول: 54.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 38.
3- المحاسن 1: 192.
4- سورة الزمر، الآية: 17- 18.
5- سورة البقرة، الآية: 163- 164.

يا هشام، قد جعل اللّه ذلك دليلاً على معرفته بأن لهم مدبراً، فقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖيَعْقِلُونَ}(1) وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(2) وقال: إن في {اخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}(3)، {وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(4)، وقال: {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(5).

وقال: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٖ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٖ يُسْقَىٰ بِمَاءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٖ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(6) وقال: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(7) وقال: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(8) وقال: {هَل

ص: 274


1- سورة النحل، الآية: 12.
2- سورة غافر، الآية: 67.
3- سورة الجاثية، الآية: 5.
4- سورة البقرة، الآية: 164.
5- سورة الحديد، الآية: 17.
6- سورة الرعد، الآية: 4.
7- سورة الروم، الآية: 24.
8- سورة الأنعام، الآية: 151.

لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَٰكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(1).

يا هشام، ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة، فقال: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّالَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(2).

يا هشام، ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْأخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3) وقال: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءَايَةَ بَيِّنَةً لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(4).

يا هشام، إن العقل مع العلم فقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَٰلِمُونَ}(5).

يا هشام، ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَئًْا وَلَايَهْتَدُونَ}(6).

وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمُّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(7) وقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لَا يَعْقِلُونَ}(8) وقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا

ص: 275


1- سورة الروم، الآية: 28.
2- سورة الأنعام، الآية: 32.
3- سورة الصافات، الآية: 136- 138.
4- سورة العنكبوت، الآية: 34-35.
5- سورة العنكبوت، الآية: 43.
6- سورة البقرة، الآية: 170.
7- سورة البقرة، الآية: 171.
8- سورة يونس، الآية: 42.

كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(1) وقال: {لَا يُقَٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرِ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}(2) وقال: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَٰبَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3).

يا هشام، ثم ذم اللّه الكثرة، فقال: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(4).

وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(5) وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(6).

يا هشام، ثم مدح القلة فقال: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(7) وقال: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}(8) وقال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَٰنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}(9) وقال: {وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}(10) وقال: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(11) وقال: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(12) وقال: وأكثرهم لا

ص: 276


1- سورة الفرقان، الآية: 44.
2- سورة الحشر، الآية: 14.
3- سورة البقرة، الآية: 44.
4- سورة الأنعام، الآية: 116.
5- سورة لقمان، الآية: 25.
6- سورة العنكبوت، الآية: 63.
7- سورة سبأ، الآية: 13.
8- سورة ص، الآية: 24.
9- سورة غافر، الآية: 28.
10- سورة هود، الآية: 40.
11- سورة الأنعام، الآية: 37.
12- سورة المائدة، الآية: 103.

يشعرون(1).

يا هشام، ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر، وحلّاهم بأحسن الحلية، فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال: {وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3) وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(4).

وقال: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5) وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6) وقال: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(7) وقال: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَٰءِيلَ الْكِتَٰبَ * هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(8) وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(9) يا هشام، إن اللّه تعالى

ص: 277


1- أي ما معناه ذلك، كقوله تعالى في سورة الأنعام، الآية: 111: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- سورة آل عمران، الآية: 7.
4- سورة آل عمران، الآية: 190.
5- سورة الرعد، الآية: 19.
6- سورة الزمر، الآية: 9.
7- سورة ص، الآية: 29.
8- سورة غافر، الآية: 53-54.
9- سورة الذاريات، الآية: 55.

يقول في كتابه: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}(1) يعني: عقل، وقال: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَٰنَ الْحِكْمَةَ}(2) قال: الفهم والعقل..

يا هشام، إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس، وإن الكيس لدى الحق يسير. يا بني، إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكنسفينتك فيها تقوى اللّه، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصبر.

يا هشام، إن لكل شيء دليلاً ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شيء مطية ومطية العقل التواضع، وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه.

يا هشام، ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلّا ليعقلوا عن اللّه، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، وأما الباطنة: فالعقول.

يا هشام، إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام، من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

يا هشام، كيف يزكو عند اللّه عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك، وأطعت هواك على غلبة عقلك؟!

ص: 278


1- سورة ق، الآية: 37.
2- سورة لقمان، الآية: 12.

يا هشام، الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن اللّه اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند اللّه، وكان اللّه أنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة وغناه في العيلة ومعزه من غير عشيرة.

يا هشام، نصب الحق لطاعة اللّه، ولا نجاة إلّا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد(1)، ولا علم إلّا من عالم رباني، ومعرفةالعلم بالعقل.

يا هشام، قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.

يا هشام، إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا؛ فلذلك ربحت تجارتهم.

يا هشام، إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض.

يا هشام، إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها، فعلم أنها لا تنال إلّا بالمشقة، ونظر إلى الآخرة، فعلم أنها لا تنال إلّا بالمشقة، فطلب بالمشقة أبقاهما.

يا هشام، إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة؛ لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام، من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرع إلى اللّه عزّ وجلّ في مسألته بأن يكمل عقله؛ فمن عقل قنع بما

ص: 279


1- يعتقد: أي يشدو يستحكم.

يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً.

يا هشام، إن اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا:

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(1) حين علموا: أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها، إنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، ومن لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة، يبصرهاويجد حقيقتها في قلبه، ولا يكون أحد كذلك إلّا من كان قوله لفعله مصدقاً، وسره لعلانيته موافقاً؛ لأن اللّه تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلّا بظاهر منه وناطق عنه.

يا هشام، كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: ما عبد اللّه بشيء أفضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع اللّه من العزّ مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيراً منه وأنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر.

يا هشام، إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.

يا هشام، لا دين لمن لا مروة له، ولا مروة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً، أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلّا الجنة فلا تبيعوها بغيرها.

يا هشام، إن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه

ص: 280


1- سورة آل عمران، الآية: 8.

ثلاث خصال: يجيب إذا سُئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق. إن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: لا يجلس في صدر المجلس إلّا رجل فيه هذه الخصال الثلاث، أو واحدة منهن، فمن لم يكن فيه شيء منهن فجلس فهو أحمق. وقال الحسن بن علي(عليهما السلام): إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، قيل: يا ابن رسول اللّه، ومن أهلها؟ قال: الذين قصّ اللّه في كتابه وذكرهم، فقال: {إِنَّمَايَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1) قال: هم أولو العقول. وقال علي بن الحسين(عليهما السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستثمار المال تمام المروءة، وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة، وكف الأذى من كمال العقل، وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً.

يا هشام، إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد ما لا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه»(2).

إلى غيرها من الروايات الكثيرة التي وردت عن أهل البيت(عليهم السلام) في وصف العقل والعقلاء.

العقل رأس الفضائل

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «هبط جبرئيل على آدم(عليه السلام) فقال: يا آدم، إني أُمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث، فاخترها ودع اثنتين. فقال له آدم: يا جبرئيل، وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين.

ص: 281


1- سورة الرعد، الآية: 19.
2- الكافي 1: 13.

فقال آدم(عليه السلام): إني قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل، إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان!! قال: فشأنكما، وعرج»(1).

هذه الرواية الشريفة تكشف لنا أهمية العقل، وكذلك تكشف أهمية التصرف العقلائي الذي اتبعه آدم(عليه السلام)، فمن جهة فإن اختيار آدم(عليه السلام) للعقل يدل دلالة واضحةعلى كونه أهم من الحياء والدين! لا من حيث إن الدين والحياء لا أهمية لهما؛ وإنما أهميتهما منوطة بالعقل، فإذا جردا من العقل كانا كمثل من يملك مالاً كثيراً ولكنه محجور عليه لسفه أو غير ذلك، فلا تنفعه كثرة ماله.

فالعقل هو رأس الفضائل كلها، فالذي يملك العقل السليم يستطيع أن يختار العقيدة الحقّة ولا تتفرق به السبل ولا يضل عن جادة الحق، وفي ذلك قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا دين لمن لا عقل له»(2).

ومن جهة أخرى، فإن هذه الرواية تشير إلى التصرف العقلائي الذي تصرفه أبونا آدم(عليه السلام) في هذه المسألة، فلو كان تصرفه غير عقلائي لخسر الجميع؛ لأنه لو اختار الدين أو الحياء لخسر العقل، وبخسارة العقل يخسر الجميع، لأن الدين والحياء يدوران مدار العقل، فأين ما ذهب يذهبان معه. فتصرفه هذا كان ناشئاً من حكمته ونضجه وعقله.

وقد شرح المازندراني(رحمه اللّه) هذا الحديث بشرح لطيف نذكره لمزيد الفائدة:

قوله(عليه السلام): «هبط جبرئيل(عليه السلام) على آدم(عليه السلام)» الظاهر أن ذلك كان بعد هبوط

ص: 282


1- الكافي 1: 10.
2- تحف العقول: 54. وذلك واضح لأن الدين هو مجموعة من الأوامر والنواهي الإلهية التابعة لمصلحة الإنسان نفسه ومن الواضح أن الداعي نحو الفعل أو الترك ليس إلّا العقل فمن لا عقل له لا دين له، أي لا يملك واقع وجوهر الدين.

آدم(عليه السلام) من الجنة، وبعد قبول توبته «فقال: يا آدم، إني أُمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث»، أي: خصلة واحدة من ثلاث خصال «فاخترها ودع اثنتين، فقال آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟» الظاهر أن الواو لمجرد حسن الارتباط وزيادة الاتصال لا للعطف «فقال: العقل والحياء والدين». العقل هنا، قوة نفسانية وحالة نورانية، بها يدرك الإنسان حقائق الأشياء، ويميّز بين الخير والشر وبين الحق والباطل، ويعرفأحوال المبدء والمعاد. وبالجملة هو نور إذا لمع في آفاق النفوس يكشف عنها غواشي الحجب، فتتجلى فيها صور المعقولات - التي يمكن تصورها - كما يتجلى في العين صور المحسوسات. والحياء، خلق يمنع من ارتكاب القبيح وتقصير في الحقوق، وقال الزمخشري: هو تغيّر وانكسار يلحق من فعل ما يمدح به، أو ترك ما يذم به، وهو غريزة، وقد يتخلق به من يجبل عليه، فيلتزم منه ما يوافق الشرع... ، والدين، هو الصراط المستقيم الذي يكون سالكه قريباً من الخيرات بعيداً عن المنهيات، وهو عبارة عن معرفة مجموع ما يوجب القرب من الرب، والعمل بما يتعلق به الأمر، ومعرفة مجموع ما يوجب البعد عنه، وترك العمل بما يتعلق به النهي «فقال آدم: إني اخترت العقل» لا يقال: اختياره للعقل لم يكن إلّا لملاحظة أن حسن عواقب أموره في الدارين يتوقف عليه، وإن نظام أحواله في النشأتين لا يتم إلّا به، ولا يكون ذلك إلّا لكونه عاقلاً متفكراً متأملاً فيما ينفعه عاجلاً وآجلاً، لأنا نقول: المراد بهذا العقل، العقل الكامل الذي يكون للأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، واختياره يتوقف على عقل سابق يكون درجته دون هذا، وللعقل درجات ومراتب. وقد يقال هذه الأمور الثلاثة كانت حاصلة له(عليه السلام) على وجه الكمال، والتخيير فيها لا ينافي حصولها، والغرض منه إظهار قدر نعمة العقل، والحث على الشكر عليها «فقال جبرئيل(عليه السلام) للحياء والدين: انصرفا

ص: 283

ودعاه» أي: انصرفا عن آدم ودعاه مع العقل معه «فقالا: يا جبرئيل» الظاهر أن هذا القول حقيقة بلسان المقال بحياة خلقها اللّه تعالى فيهما، ولا يبعد ذلك عن القدرة الكاملة، وقد ثبت نطق اليد والرجل على صاحبهما، ونطق الكعبة والحجر، وغيرهما. ويحتمل أن يكون ذلك مجازاً بلسان الحال، أو يخلق اللّه سبحانه فيهما كلاماً أسمعه جبرئيل وآدم(عليهما السلام) كما قد خلق ذلك في بعض الأجسام الجماديةوأسمعه من شاء من خلقه «إنا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان» أي: حيث وجد، أو حيث كان موجوداً، يفهم منه أن العقل مستلزم لهما وهما تابعان له، والأمر كذلك؛ لأن بالعقل يعرف اللّه سبحانه وجلاله وجماله وكماله وتنزهه عن النقايص وإحسانه وإنعامه وقهره وغلبته، بحيث يرى كل جلال وجمال وكمال وإحسان وإنعام وقهر وغلبة مقهوراً تحت قدرته، مغلوباً تحت قهره وغلبته، بل لا يرى في الوجود إلّا هو، فيحصل له بذلك خوف وخشية يرتعد به جوانحه كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1) ويحصل له بذلك قوة وملكة تمنعه عن مخالفته طرفة عين، وهذه القوة هي المسماة بالحياء، ثم بتلك القوة يسلك الصراط المستقيم وهو الدين القويم، ومن ههنا ظهر: أن الحياء مستلزم للدين والدين تابع له، ثم جبرئيل(عليه السلام) إن كان عالماً بكونهما مأمورين بذلك كان قوله: «انصرفا ودعاه» محمولاً على نوع من الامتحان، لإظهار شرف العقل ونباهة قدره، وإن لم يكن عالماً كان ذلك القول محمولاً على الطلب «قال: فشأنكما وعرج» الشأن بالهمزة الأمر والحال والقصد، أي: فشأنكما معكما، أو ألزما شأنكما...(2).

ص: 284


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- شرح أصول الكافي للشيخ المازندراني 1: 77.

العقل والعقلاء

العقل لغة بمعنى المنع، واشتق منه العقال وغيره، وهو الذي يقيد شهوات الإنسان ويمنعه منها، أما اصطلاحاً أي المعنى المتداول في لسان الشرع المقدس، فهو نور إلهي وهبة ربانية، وهبه اللّه عزّ وجلّ إلى الإنسان؛ لكي يعرف خالقه، ويدرك به الأشياء، ويميز به بين الخير والشر والحق والباطل، وهذه الهدية الإلهيةهي الفارق الأساسي في ما بين الإنسان وباقي المخلوقات، كالحيوانات والجمادات. وسميت بالعقل لأنه يمنع الإنسان من أن يرتكب ما يناسب الجهل والجهالة والجهال. فإن الإنسان والحيوان يشتركان في أمور عدة، منها:

1- الحس: إذ الإنسان حساس، وجميع الحيوانات الباقية تحس أيضاً.

2- الخيال: فالإنسان له قوة خيال، وبعض الحيوانات لها قوة خيال أيضاً، كما قيل.

3- الوهم: فالإنسان له وهم، وبعض الحيوانات لها قوة وهم أيضاً، كما قيل.

هذه بعض نقاط الاشتراك، ولكن أهم نقطة افتراق بين الإنسان والحيوانات وكثير من المخلوقات، والتي لها الأهمية العظمى في حياة الإنسان هو: العقل.

فالعقل الذي منحه اللّه للبشر، يختص بالإنسان وحده دون بقية الحيوانات، فبه عرف الإنسان خالقه، وعرف أمور دينه، وأمور حياته، فمن الأمور الدينية التي أرشده العقل إليها: معرفة اللّه والأنبياء والرسل والملائكة، واتباع الحق، ودحض الباطل، وما إلى ذلك(1).

ص: 285


1- أما معرفة الخالق بالعقل فواضح، لأن البراهين الدالة على وجود اللّه تعالى وعلى صفاته براهين عقلية يصل إليها العقل. وأما معرفة أمور دينه فلأنها تتوقف على الايمان بصدق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولزومه، وهذا مما يدركه العقل، ولا يخفى إمكان القول برجوع هذا الأمر إلى الأمر الأول، أما أمور حياته فواضح أيضاً لأن الحياة مبنية على الاجتماع السليم وهو لا يتم إلّا عبر التعاون والمحبة والود والخدمة للمجتمع، وتلك المعاني التي لا يدرك حسنها إلّا العقل.

أما الأمور الدنيوية (الحيوية) فالعقل كان من ورائها وسببا لتطور الإنسان فيها، فإنه يدل الإنسان على كيفية إيجاد الغذاء، وكيفية صنعه، وإيجاد المسكن والملبس، وهكذا في التطور فيها، وكذلك في الصناعات وسائر أمور الحياة الأخرى، أصلاً وتطوراً.

فالوجه في تفضيل اللّه الإنسان على باقي مخلوقاته هو فيما ملكه من العقل وما يترتب على العقل، قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(1).

الملائكة والإنسان

إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الملائكة ومنحها العقل ولكن جرّدها عن الشهوة، بخلاف الحيوانات فقد أعطاها الشهوة وجردها عن العقل، ولكنه سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان أعطاه العقل والشهوة معاً، فإذا غلب عقله على شهوته يفضّل على الملائكة، أما إذا كان العكس أي سيطرت شهوته على عقله فهنا يصبح الإنسان أسوء حتى من الحيوانات.

وقد أشار الإمام الصادق(عليه السلام) إلى هذا المعنى حين ما سُئل: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال(عليه السلام): «قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): إن اللّه عزّ وجلّ ركب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم»(2).

نعم يمكن للإنسان المؤمن أن يرتفع ببركة عقله، فيصير أفضل من الملائكة،

ص: 286


1- سورة الإسراء، الآية: 70.
2- علل الشرائع 1: 4.

كما ورد عن الامام الرضا(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «مثل المؤمن عند اللّه عزّ وجلّ كمثل ملك مقرب، وإن المؤمن عند اللّه أعظم من الملك، وليس شيء أحب الى اللّه من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة».(1)

من هم العقلاء؟

روى سماعة بن مهران قال: كنت عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) وعنده جماعة من مواليه، فجرى ذكر العقل والجهل، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اعرفوا العقل وجنده، والجهل وجنده، تهتدوا».

قال سماعة: فقلت: جعلت فداك، لا نعرف إلّا ما عرفتنا.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره، فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، فقال اللّه تبارك وتعالى: خلقتك خلقاً عظيماً، وكرمتك على جميع خلقي، - قال: - ثم خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانياً، فقال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: أقبل، فلم يقبل!! فقال له: استكبرت، فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً، فلما رأى الجهل ما أكرم اللّه به العقل، وما أعطاه أضمر له العداوة، فقال الجهل: يا رب، هذا خلق مثلي خلقته وكرمته وقويته، وأنا ضده، ولا قوة لي به، فأعطني من الجند مثل ما أعطيته؟ فقال: نعم، فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي؟ قال: قد رضيت، فأعطاه خمسة وسبعين جنداً.

فكان مما أعطى العقل من الخمسة والسبعين الجند، الخير، وهو وزير العقل، وجعل ضده الشر، وهو وزير الجهل، والإيمان وضده الكفر، والتصديق وضده الجحود، والرجاء وضده القنوط، والعدل وضده الجور، والرضا وضده السخط،

ص: 287


1- عيون أخبار الرضا 2: 29.

والشكر وضده الكفران، والطمع وضده اليأس، والتوكل وضده الحرص، والرأفة وضدها القسوة، والرحمة وضدها الغضب، والعلم وضده الجهل، والفهم وضده الحمق، والعفة وضدّها التهتك، والزهد وضده الرغبة، والرفق وضده الخرق،والرهبة وضده الجرأة، والتواضع وضده الكبر، والتؤدة(1) وضدها التسرع، والحلم وضدها السفه، والصمت وضده الهذر، والاستسلام وضده الاستكبار، والتسليم وضده الشك، والصبر وضده الجزع، والصفح وضده الانتقام، والغنى وضده الفقر، والتذكر وضده السهو، والحفظ وضده النسيان، والتعطف وضده القطيعة، والقنوع وضده الحرص، والمؤاساة وضدها المنع، والمودة وضدها العداوة، والوفاء وضده الغدر، والطاعة وضدها المعصية، والخضوع وضده التطاول، والسلامة وضدها البلاء، والحب وضده البغض، والصدق وضده الكذب، والحق وضده الباطل، والأمانة وضدّها الخيانة، والإخلاص وضدّه الشوب، والشهامة وضدها البلادة، والفهم وضده الغباوة، والمعرفة وضدّها الإنكار، والمداراة وضدها المكاشفة، وسلامة الغيب وضدها المماكرة، والكتمان وضده الإفشاء، والصلاة وضدها الإضاعة، والصوم وضده الإفطار، والجهاد وضده النكول، والحج وضده نبذ الميثاق، وصون الحديث وضده النميمة، وبرّ الوالدين وضده العقوق، والحقيقة وضدها الرياء، والمعروف وضده المنكر، والستر وضده التبرج، والتقية وضدها الإذاعة، والإنصاف وضده الحمية، والتهيئة وضدها البغي، والنظافة وضدها القذر، والحياء وضدها الجلع، والقصد وضده العدوان، والراحة وضدها التعب، والسهولة وضدها الصعوبة، والبركة وضدها المحق(2)، والعافية وضدها البلاء، والقوام

ص: 288


1- التُؤَدة: الرزانة والتأني - أي عدم المبادرة إلى الأمور بلا تفكر فإنها توجب الوقوع في المهالك.
2- المَحْق: هو النقص والمحو والإبطال.

وضده المكاثرة، والحكمة وضدّها الهواء، والوقار وضده الخفة، والسعادة وضدها الشقاوة، والتوبة وضدها الإصرار، والاستغفار وضده الاغترار، والمحافظة وضدها التهاون، والدعاء وضده الاستنكاف، والنشاط وضده الكسل، والفرح وضدهالحزن، والألفة وضدها الفرقة، والسخاء وضده البخل.

فلا تجتمع هذه الخصال كلها من أجناد العقل إلّا في نبي، أو وصي نبي، أو مؤمن، قد امتحن اللّه قلبه للإيمان، وأما سائر ذلك من موالينا فإن أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود، حتى يستكمل وينقى من جنود الجهل، فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، وإنما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده، وبمجانبة الجهل وجنوده، وفقنا اللّه وإياكم لطاعته ومرضاته»(1).

ومن هذا الحديث الشريف يُعرف العاقل عن غيره، فالعقلاء هم الذين أخذوا بجنود العقل، وغير العقلاء من تركها وأخذ بجنود الجهل.

العقلاء هم الناس الذين يستخدمون العقل في المسار الصحيح، ويسخرونه في طريق تكاملهم، وتكامل مجتمعهم وخدمة الناس بما أمر به الشرع، ويبتعدون عن كل ما يلوث العقل، ويبعده عن صوابه، مثل: شرب الخمر وأعمال السوء، وغير ذلك من الأمور المشينة للعقل، والمنافية للتصرف العقلائي الصحيح.

ومن هنا يمكننا معرفة العقلاء وتشخيصهم في الحياة، حيث يلزم أن يعاشر الإنسان العقلاء ويبتعد عن غيرهم، فالعقلاء من كانت تصرفاتهم عقلائية، وغيرهم من كانت تصرفاتهم غير عقلائية.

ص: 289


1- الكافي 1: 20.

قانون المعرفة وطرقها

إن اللّه سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان جعله خاضعاً لقوانين وأنظمة خاصة سن الحياة عليها، ومن تلك القوانين: قانون المعرفة، وقد ذكر الحكماءلمعرفة الأشياء عدة طرق، منها:

قاعدة: أنه تعرف الأشياء بأمثالها، أي: معرفة الشيء بمقارنته بمثله.

وقاعدة: أنه تعرف الأشياء بأضدادها، أي: معرفة الشيء بمقارنته بضده.

فيمكن معرفة بعض الأشياء إما بمقارنته بشيء مثله، أو بمقارنته بشيء ضده، مثلاً: إذا أريد معرفة البياض وشدته، يمكن تعريفه بمقارنته ببياض آخر، وكلاهما يفرّق نور البصر لكن على درجات، أو نعرفه بمقارنته بضده الذي هو السواد، فالسواد قابض للبصر، وهكذا في سائر الأشياء.

وهذه القاعدة تنطبق نوعاً ما على معرفة العقلاء وتصرفاتهم، ومعرفة غير العقلاء وتصرفاتهم.

فإذا أردنا معرفة العقلاء وتشخيصهم في المجتمع والتأريخ، يمكن لنا ذلك وبسهولة فنقارنهم بأضدادهم الذين هم - غير العقلاء - أي: السفهاء والمجانين الذين يمارسون الأعمال الاعتباطية مما يضرون به أنفسهم ويضرون الآخرين به، فإذا وجدنا إنساناً لا يمارس الأعمال الاعتباطية، ولا يضر نفسه، ولا الآخرين فهو من العقلاء. ولا يخفى أن العقل كل العقل هو طاعة اللّه عزّ وجلّ، فإنه أمان من الأضرار والأخطار. وقد روي أنه قيل للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ماالعقل؟ قال: «العمل بطاعة اللّه، وإن العمال بطاعة اللّه هم العقلاء»(1).

وهكذا تكون لدينا صورة واضحة لتشخيص الإنسان العاقل وغير العاقل، عبر

ص: 290


1- روضة الواعظين 1: 4.

التصرفات العقلائية وغير العقلائية، فإن من يقوم بمساعدة المحتاجين وينبه الغافلين، ويدل الناس على الصراط المستقيم، ويحنو على إخوانه ويرعاهمويكون أمينا على أموالهم وأنفسهم وعيالهم، فهو من العقلاء الممدوحين في الناس على طول الخط.

أما من يُعرف - والعياذ باللّه - برذيلة شرب الخمر أو الكذب أو الغيبة أو السفه في تصرفاته، وعدم التوازن في مأكله وملبسه ومعشره، فهو من غير العقلاء.

فمثلاً لو كان هناك والد يهتم بولده ويربيه تربية حسنة ويسعى لإبعاده عن الأمراض والأعراض فإذا أصابته وعكة أو أحس بمرضه أخذه إلى الطبيب واعتنى به حتى يبرء، فإن هذه التصرفات تدل على عقله وأنه من العقلاء.

وإذا رأينا شخصاً قام بالإضرار على أولاده ولم يحسن التصرف في تأديبهم، فإذا ارتكب طفل غير رشيد خطأ، رأيت هذا الوالد في حالة عصبية شديدة هستيرية لا يمكن ردعه عنها فيأخذ السكين فيقطع يد ولده وفلذة كبده!! أو يعمل عملاً يضر بنفسه أو غيره، فهل يسمى هذا عاقلاً وهل يمكن أن يعد من العقلاء؟!!

إن التصرفات العقلائية واللاعقلائية هي التي تبين ببرهان الإنّ(1) مدى عقل الإنسان.

من آثار عدم التعقل

إن الابتعاد عن التصرفات العقلائية يوجب آثاراً سلبية كثيرة، والتاريخ شاهد على ما نقول:

ص: 291


1- ذكر المناطقة أن البرهان قد يكون لمياً وقد يكون إنياً. فإذا وصلنا من العلة للمعلول فهو اللم، وإن وصلنا من المعلول للعلة فالإنّ.

كان أحد الأشخاص الأثرياء، ويعمل بوظيفة مدير لإحدى المدارس، كثير التدخين حتى أضر التدخين به واضطر أن يسافر إلى لندن للعلاج، وقد حذرهالأطباء هناك بأن استمراره في التدخين يوجب السرطان وسيقضي على حياته، والمفروض أن يكون الشخص المثقف في المجتمع يراعي صحته، والمتوقع منه أن يكون قدوة لغيره في التصرفات العقلائية، ولكن هذا الشخص بعد ما أحس بتدهور حالته الصحية، ذهب إلى لندن للمعالجة والفحص العام لحالته البدنية ورجع، فقمنا بزيارته برفقة جمع من الأصدقاء، وبعد تهنأته بسلامة العودة، سألناه عن نتائج الفحص وأسباب تدهور صحته، وعن تشخيص الأطباء لحالته؟

فقال: إن الأطباء المتخصصين قالوا: إن مرضي ناتج عن الإفراط في التدخين، وفي حالة استمراري على التدخين فإني سأصاب بمرض السرطان حتماً، وفي أثناء كلامه هذا أخرج علبة السجائر من جيبه وبدأ بالتدخين!! حينها قال له الجالسون بتعجب: كيف تدخن، ولا تترك التدخين، رغم تحذير الأطباء لك؟!

فأجابهم بلا مبالاة: ليس الأمر مهماً - أي اصابته بالسرطان - !!

وبالفعل بعد فترة قصيرة، سمعنا أنه استفحل عليه المرض بشدة هذه المرة، فذهب إلى لندن للعلاج مرة ثانية، وحين ما عاد من سفره الثاني، وذهبنا لزيارته أيضاً، أخبرنا قائلاً: إن الأطباء يقولون: إن المرض في هذه المرّة تحول وبشكل أكيد إلى سرطان في الرئة، وأني قد لا أعيش وأقاوم هذا المرض أكثر من ستة أشهر!!

وفعلاً، وبعد ستة أشهر ودّع هذا الرجل الدنيا، وذهبنا لحضور تشييع جنازته!!

فهل هذا التصرف مقبول ومعقول من إنسان كان اللازم عليه أن يكون أكثر عقلانياً، بحكم ثقافته ومركزه الوظيفي والاجتماعي، وهل هناك من يمدحه على تصرفه هذا ولا مبالاته واستهانته بصحته التي أنعم بها عليه الباري؟!

ص: 292

فلو كان تصرف هذا الشخص تصرفاً عقلائياً، لما وصل إلى هذه الحالة التي أفقدته حياته بهذه السهولة، صحيح أن الموت والآجال بيد اللّه، ولكنه سبحانهوتعالى جعل لكل شيء سبباً، وعلى الإنسان أن يتبع الأساليب الصحيحة لتدبير أموره والحفاظ على صحته من خلال الالتزام بالعادات الصحية والاجتناب عن العادات السيئة، وامتثال أوامر اللّه تعالى والانزجار والردع عن نواهيه، والباقي على اللّه.

فلو مرض الإنسان يجب عليه أن يهيئ الأسباب لعلاجه كتوفير المال والواسطة، والبحث عن الطبيب الحاذق لكي يعالجه، وما إلى ذلك...

فإذا كانت له القدرة على ذلك ولم يهتم بتوفير الأسباب فسوف يحاسبه اللّه تعالى على تقصيره، فقد روي عن الامام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سببٍ شرحاً، وجعل لكل شرح علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحن»(1).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «قال موسى(عليه السلام): يا رب، من أين الداء؟

قال: مني.

قال: فالشفاء؟ قال: مني.

قال: فما تصنع عبادك بالمعالج؟! قال: يطبب بأنفسهم، فيومئذٍ سمي المعالج: الطبيب»(2).

وسُئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنتداوى؟

ص: 293


1- الكافي 1: 183.
2- وسائل الشيعة 25: 221.

قال: «نعم، فتداووا، فإن اللّه لم ينزل داءً إلّا وقد أنزل له دواء، وعليكم بألبان البقر، فإنها ترعى من كل الشجر»(1).

إذاً، الإنسان الذي لا يسير بسيرة العقلاء ولا يتصرف بالتصرفات العقلائية نراه دائماً يبتلي مع مرور الزمن بأمور هو في غنى عنها وكان يمكن له تجنبها بالسير على سيرة العقلاء، وليس سيرة السفهاء أو المتهورين، وقد قال اللّه تعالى في قرآنه الكريم: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}(2) مشيراً سبحانه وتعالى إلى ضرورة التحلي بالاعتدال واختيار حالة الوسط العقلائية في كل فعل يقوم به، وعمل يقدم عليه، وفكرة يريد تبنيها أو مناقشتها.

الحيوانات ورسائلها

اشارة

ذكر بعض العلماء قصصاً فيها حكم وعبر على لسان الحيوانات، وهذه القصص والحكايات فيها إشارات ودلالات ترمز إلى قضايا مهمة في حياة البشر، ينقل أن دجاجة قالت يوما لأحد أفراخها: إياك أن تقترب من القطة؛ لأنها عدوتك تريد أن تأكلك، فالحذر الحذر منها.

ولكن الفرخ لم يقبل النصحية من أمه وقال: لا يا ماما، إن القطة لاتفعل ذلك، فهي حيوان لطيفة جميلة!! فاقترب يوماً الفرخ من القطة دون مبالاة ودون التفات لتحذير أمه، وإذا بالقطة تمسكته وبسرعة خاطفة بمخالبها، وراحت تأكله قطعة قطعة.

وهكذا يكون الإنسان الذي لا يعتني بعقله، ويتصرف تصرفات غير عقلائية، فإنه يكون مصيره السقوط في الهاوية والعياذ باللّه، ويخسر الدنيا والآخرة، فلا

ص: 294


1- وسائل الشيعة 25: 223.
2- سورة البقرة، الآية: 143.

يكون إنساناً نافعاً لا لنفسه ولا لمجتمعه.

كيفية إنماء العقل

قال اللّه العظيم في محكم كتابه الحكيم: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

وقال تبارك اسمه: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَئًْا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٖ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعَا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ سَلَٰسِلَاْ وَأَغْلَٰلًا وَسَعِيرًا * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}(2).

وقال تبارك اسمه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَٰعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(3).

إن اللّه سبحانه وتعالى عندما منح الإنسان العقل، منحه لكافة الناس وخلقهم أحراراً يمكنهم الأخذ بما تحكم به عقولهم، كما يمكنهم ترك العقل واتباع الهوى والشيطان.

كما جعل العقل بحيث يمكن تطويره، فالإنسان هو الذي يعمل على تنمية هذه الجوهرة بالأعمال الصالحة والابتعاد عن الأعمال السيئة، أو يعمل على تعطيلها أو تحجرها بالأعمال السيئة والابتعاد عن أعمال الخير.

إن اللّه سبحانه وتعالى خلق يزيد بن معاوية - وغيره من العباد - وخلق لجميعهم العقل، فكل الناس لها من العقل المدرك للخير والشر تكويناً،

ص: 295


1- سورة الإسراء، الآية: 20.
2- سورة الانسان، الآية: 1- 6.
3- سورة فصلت، الآية: 17.

فالصالح تمسك بعقله واهتدى به إلى النور، ولكن الفاسق أخذ بالانحراف عن جادة الحق واتبع طريق الشر والرذائل ولم ينمّ عقله بعمل الخير ومرضات اللّه،فحول عقله الذي أنعم اللّه به عليه إلى نقمةٍ عليه.

العقل وشبيهه

هذا وقد سبق في الروايات: أن العقل ما يكتسب به الجنان، والمقصود أنه لو أخذ بالعقل فهو يوجب له الجنة والرضوان، فلا يقال: إنا نرى الفساق والفجار يتصرفون بعض التصرفات العقلائية، فكيف يتم ذلك بملاحظة الرواية الشريفة؟!

لأننا نقول: إن تمام العقل الذي يصح أن نقول لصاحبه: هو عاقل، هو في اتباعه والسير على جادة الحق، وما دونه ليس بتمام العقل، وإنما هو شبيه بالعقل، ففي رواية عن أبي عبد اللّه الإمام الصادق(عليه السلام) قال: قلت له: ما العقل؟

قال(عليه السلام): «ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان».

قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟

فقال(عليه السلام): «تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهةٌ بالعقل، وليست بالعقل»(1).

وروي أنه مر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمجنون فقال:«ما له؟» فقيل: إنه مجنون، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بل هو مصاب، إنما المجنون من آثر الدنيا على الآخرة»(2).

وهكذا كان يزيد حيث ارتكب أبشع جريمة في التأريخ وأعظم مصيبة في السماوات والأرض بقتله الإمام الحسين(عليه السلام) ريحانة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد عصى اللّه سبحانه وتعالى بذلك، وخسر الدنيا والآخر، وأخّر مجتمعه عن الكمال والتطور والتقدم والخير والفضيلة؛ ونال اللعنة من اللّه ورسوله ومن المؤمنين إلى يوم الدين،

ص: 296


1- الكافي 1: 11.
2- روضة الواعظين 1: 4.

مضافا إلى العذاب الأليم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّۧنَ بِغَيْرِحَقّٖ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(1).

وكذلك قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْخَٰسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(2).

كما أنه أخّر وأضر بمجتمعه؛ لأن بعضهم اتبعوه في عمله السيئ، واتخذوه قدوة لهم فخسروا خسراناً كبيراً، حيث قال سبحانه: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}(3).

الإنسان وعمل الخير

أما الإنسان المؤمن الذي يتبع العقل ويتصرف بالتصرفات العقلائية، وينمي عقله بعمل الخير والابتعاد عن المعاصي وعن التصرفات غير العقلائية، فان اللّه يبارك في عمله ويعطيه أجره، حيث قال اللّه تعالى في كتابه العزيز: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(4).

فالواجب على الإنسان العاقل أن يتعلم ويعمل قبل أن يسقط في وادي الجهالة والهلكة، وأن يكسب العلم مع العقل، والعمل مع العلم، وحينئذ يصبح نافعاً لنفسه ومجتمعه، ويفوز بسعادة الدارين.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) مخاطباً الشخص الذي كان يتحدث بما لا يليق ويتكلم بفضول الكلام: «يا هذا، إنك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربك، فتكلم

ص: 297


1- سورة آل عمران، الآية: 21.
2- سورة الزمر، الآية: 15.
3- سورة النساء، الآية: 119.
4- سورة البقرة، الآية: 112.

بما يعنيك ودع ما لا يعنيك»(1).

فيدل كلام الإمام(عليه السلام) على لزوم أن ينتبه الإنسان ويعرف أنه قبل أن يخرج الكلام من بين شفتيه... فإن هناك ملكين كريمين يكتبان ما ينطق به كل شخص، ثم يعرضانه على اللّه، وفي هذا الصدد يقول اللّه تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ * كِرَامًا كَٰتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}(2).

ولما كان قول الإنسان تحت المراقبة، فكيف بعمله الذي هو أشد فعلاً وتأثيراً من القول عادة؟! وتشير الآية المباركة إلى هذه الجهة: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} إذاً، لابد من الانتباه والحيطة على أقوالنا وأفعالنا، كما علينا أن نحكم عقولنا في كل أعمالنا لتكون التصرفات عقلائية وبعيدة عن اللا عقلائية، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال أمير المؤمنين: لا تقطعوا نهاركم بكذا وكذا، وفعلنا كذا وكذا؛ فإن معكم حفظة يحصون وعلينا عليكم»(3).

رضا خان والسلطة

إن رضا خان البهلوي أراد أن يتظاهر بحب الإسلام والتدين، ويخفي بذلك حقيقته، حيث إنها كانت على العكس تماماً، وقد حاول عندما تسلّم السلطة أن يكسب عواطف بعض الناس وذلك بزيارته العتبات المقدسة، والتظاهر بالاهتمام بشأن إعمارها - وقام بالتبرع لتعميرها(4)،

وربما أطلق لحيته، أو شارك الناس في مراسيم العزاء الحسيني.

ص: 298


1- من لا يحضره الفقيه 4: 396.
2- سورة الانفطار، الآية: 10- 12.
3- الخصال 2: 613.
4- وهذه سياسة يتخذها أكثر الحكام المستبدين لجلب المحبوبية كما يحدثنا التاريخ عن ذلك في الكثير من الحكّام.

ولكن عندما استقر له الحكم وتوطدت أركانه وبسط سيطرته ظهرت حقيقته وانكشفت نواياه السيئة للإسلام والمسلمين، فوجه ضرباته القاسية على الإسلام والمسلمين بكل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فمثلاً أمر بسنّ قانون السفور، ومنع الحجاب في إيران (هذا القانون الذي لم تعرف له البلاد الاسلامية مثيلاً في كل الأزمنة السابقة في تأريخها، والذي ذهب بسببه الآلاف من الناس المؤمنين، فبعدما اعترض الشرطة النساء المحجبات ومنعوهن من ارتداء الحجاب، حدثت مواجهات في مناطق عديدة من إيران راح ضحيتها عدد كبير من المؤمنين بل وحتى من النساء المؤمنات.

وشهد رضا خان على نفسه - مرة أخرى - أنه عدو للإسلام وللشرع الحنيف، حيث قام بمنع إقامة مجالس عزاء الامام الحسين(عليه السلام) بكل أشكالها - بل وسائر الشعائر الدينية، حتى أنه منع الإيرانيين من الذهاب إلى العتبات المقدسة في العراق وغيره.

كما أنه لم يكتف بسد الأبواب الدينية فقط ومنع مظاهر التدين، بل سعى إلى فتح أبواب الفحشاء والدعارة والبغضاء والمنكرات.

كما قام بأفعاله الإجرامية بمحاربة العلماء والحوزات العلمية، ومنعهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسجنهم أو تبعيدهم إلى مناطق بعيدة عن التجمع والناس.

نعم، كان سلوك رضا خان متناقضاً قبل الحكم وبعده بشدة، فبينما هو يتبنى الدين والتدين قبل حكمه ويتظاهر بتأييده، وإذا به يرفضه ويحاربه بعد استيلائه على مقاليد الحكم؛ فقبل تربعه على كرسي السلطة، كان يشارك في مواكب عزاء فرق الجيش يوم عاشوراء في مراسيم عزاء التطبير وغيره، ويتظاهر بالإيمان والتديّن والحزن والاهتمام بالشعائر الحسينية. كما كان يذهب إلى بيوت العلماء

ص: 299

ويتظاهر بحبهم والاحترام لهم، وهكذا كان في بداية حكمه، حيث كان يتردد أحياناً على منزل المرجع الأعلى الشيخ عبد الكريم الحائري(رحمه اللّه)، ويطلب رسالتهالعملية ويدعّي أنه أحد مقلديه، ولكنه عندما توفي الشيخ الحائري منع حتى من إقامة مجالس الفاتحة على روحه؟!

وهكذا هم الطغاة - غالباً - فحين ما تستتب لهم الأوضاع يشيحون اللثام عن وجههم الحقيقي، ويبدون الخافي من نواياهم الخبيثة، وعداوتهم للإسلام والتشيع والشعائر الحسينية!

واستمات رضا خان في خدمة أسياده الغربيين في محاربة الاسلام وقد أصدر قوانين صريحة منع بموجبها الحجاب، وشجع وأباح التبرج والسفور والفجور! الأمر الذي دفع بالعلماء إلى أن يقفوا في وجهه، ويتخذوا منه موقفاً صارماً معارضاً بكل الوسائل المشروعة الممكنة، ومن هؤلاء وعلى رأسهم كان المرجع الأعلى الشيخ عبد الكريم الحائري(رحمه اللّه)، والمرجع الكبير آية اللّه العظمى السيد حسين القمي وغيرهم.

وفي زمنه حدثت واقعة مسجد (كوهر شاد) بمدينة مشهد المقدسة حيث قتل ألوف الناس فيها(1).

إرادة اللّه فوق كل شيء

وهنا تدخلت إرادة اللّه التي تفوق كل الإرادات وكل التخطيطات، فوضعت حداً لتصرفات رضا خان، فكانت نهايته نهاية مأساوية لكي يكون عبرة لكل الظلمة والطغاة من بعده، فحين ما أخرج رضا خان من إيران، قيل إنه أخذ معه

ص: 300


1- مقتلة قام بها البهلوي الأول في مشهد الإمام الرضا(عليه السلام) في مسجد (كوهر شاد) الملاصق بالحرم الشريف ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف إنسان.

حوالي (2000) حقيبة من المجوهرات والأشياء الثمينة والأثرية والتراثية من ممتلكات الشعب الإيراني.

ولكن وقبل أن يصل رضا خان إلى جزيرة (موريس) - وبعملية مصطنعة - رست السفينة التي كانت تقله إلى منفاه على ساحل إحدى الجزر بحجة عطل محركها، ثم نقل إلى سفينة أخرى، ولما سألهم عن تلك الحقائب والأموال والمقتنيات القيمة؟ قالوا له: إنها ستنقل بعدك إلى سفينتك الجديدة.

إلّا أن الذي حدث أن السفينة الأولى التي نزل منها رضا خان واصلت مسيرها لتنقل معها أموال وثروة المسلمين في إيران إلى (لندن) عاصمة بريطانيا، التي كانت تغتصب - ولا زالت - ثروات المسلمين في كل مكان.

ولما وصل رضا خان إلى جزيرة (موريس) استأجر بيتاً من أحد اليهود هناك، وكان بيتاً عادياً على خلاف ما كان يسكنه في طهران من القصور الفخمة، فذاق البهلوي في سكناه عذاباً كثيراً، وبعد عدة أشهر جاءه اليهودي (صاحب الدار) وأخرجه من الدار، مما اضطره إلى أن يسكن داراً أسوأ من الأولى.

وحين ما عقد مؤتمر في إيران بعد الحرب العالمية الثانية وحضر (تشرشل)، و(ستالين)، قال ستالين للشاه الابن محمد رضا البهلوي: إن والدك يعيش وضعاً متردياً في جزيرة (موريس) لذا أرى أن تطلب من (تشرشل) أن ينقله إلى منطقة أحسن، تكون فيها وسائل عيش وهواء مناسب كأن تكون على سواحل البحر الأسود، فقام - البهلوي - بطلب ذلك من (تشرشل) الذي - حسب الظاهر - لم يبدي ممانعة في ذلك.

ولكن بعد انتهاء جلسات المؤتمر أعطى (تشرشل) الضوء الأخضر لسفيره في إيران بقتل رضا خان خوفاً من روسيا وحصولها على أسرار إيران وبريطانيا منه، فإن ايران كانت تحت الاستعمار البريطاني، فيصبح هذا صيداً ثميناً لروسيا. ولتنفيذ هذا

ص: 301

الأمر ذهب شخص إنجليزي إلى جزيرة (موريس) واستطاع أن يقتل رضا خان بزرقه إبرة خاصة مات على اثرها. وهكذا يكون مصير الطغاة من الذل والهوان.

طغيان المتوكل

وفي التاريخ أن المتوكل العباسي وكان من أشد الطغاة وأظلمها، أمر بالهجوم ليلاً على دار الإمام علي الهادي(عليه السلام) حيث أنه سعي إلى المتوكل وقيل له بأن في منزل الإمام كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنه عازم على الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلا، فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوا الإمام في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصى خاضعاً خاشعاً لله عزّ وجلّ، يتلو آيات من القرآن، فحملوا الإمام(عليه السلام) على حاله تلك إلى المتوكل، وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشرب، فدخل عليه - الإمام(عليه السلام) - والكأس في يد المتوكل، فلما رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه، وأراد أن يناوله الكأس التي كانت في يده!! فقال الإمام(عليه السلام): «واللّه ما يخامر لحمي ودمي قط»فقال - المتوكل - : أنشدني شعرا؟ فقال(عليه السلام): «إني قليل الرواية للشعر». فقال: لا بد. فأنشده(عليه السلام) وهو جالس عنده:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم *** وأسكنوا حفراً يا بئسما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد دفنهم *** أين الأساور والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعمة *** من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود تقتتل

قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا *** وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا

ص: 302

فبكى المتوكل حتى بلت لحيته دموع عينيه وبكى الحاضرون، وضرب المتوكل بالكأس على الأرض، وتنغص عيشه في ذلك اليوم... ثم دفع إلى الإمامالهادي(عليه السلام) أربعة آلاف دينار، ورده إلى منزله مكرماً(1).

نعم هكذا تكون تصرفات الطغاة غير عقلائية وبذلك يهلكون أنفسهم ويهلكون الآخرين.

عبرة لذوي العقول

اشارة

قال الإمام الصادق(عليه السلام) للمفضل: «يا مفضل، لا يفلح من لايعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف يَنجُبُ من يفهم(2)، ويظفر من يحلم، والعلم جُنة، والصدق عز، والجهل ذل، والفهم مجد، والجود نجح، وحسن الخلق مجلبة للمودة، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس» - إلى أن قال(عليه السلام): - «ومن خاف العاقبة تثبت عن التوغل فيما لا يعلم، ومن هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه، ومن لم يعلم لم يفهم، ومن لم يفهم لم يسلم، ومن لم يسلم لم يُكرم، ومن لم يُكرم يهضم، ومن يهضم كان ألوم، ومن كان كذلك كان أحرى أن يندم»(3).

نعم، إن تصرفات رضا خان غير العقلائية ونهايته المأساوية، وكذلك حال الطغاة في كل عصر ومصر، يجب أن تكون عبرة لكل ذي لب، وللحكام وأصحاب السلطة - خاصة - حيث عليهم أن يفكروا بما كانت نهاية رضا خان

ص: 303


1- راجع بحار الأنوار 50: 211.
2- النجيب: الفاضل النفيس في نوعه، والمراد أنه من يكون ذا فهم فهو قريب من أن يصير عالماً بما يجب عليه وما ينبغي بعقله والتدبر فيه. وقيل: لأن الفهيم بنور فهمه يميز بين الحق والباطل، وبين الصفات الحسنة والقبيحة، فهو بمرور الأيام يكتسب المحاسن ويجتنب الرذائل، ويصير عالماً فاضلاً غالباً على النفس وقواها، حتى يصير نجيباً في الدنيا والأخرة.
3- الكافي 1: 29.

وغيره من الظلمة، من ذل في الدنيا، وجحيم في الآخرة، قال اللّه سبحانه وتعالى:{فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَءَاثَرَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}(1).

وكذلك هي عبرة لعامة الناس، إذ يلزم عليهم أن ينتبهوا حتى لايمكّنوا السلاطين من رقابهم وأنفسهم وأموالهم، ولا ينخدعوا بأقوالهم؛ لأن أغلب الحكّام في بادئ الأمر يمني الناس ويشاركهم في أفراحهم وأحزانهم ويملئ عليهم الوعود، ولكن عندما يحكم سيطرته على الحكم، ينقض وعوده ويتحكم في مصيرهم بأهوائه، كما سجّل ذلك تاريخ الملوك والسلاطين.

التصرف غير العقلائي في العراق

عندما جاء النظام الحالي - نظام البعث العفلقي - في العراق(2) كانت هناك أحزاب وحركات تنافسه على السلطة، ومنها الحزب الشيوعي، ولكن بما أن مبدأ الشيوعية كان مرفوضاً في المجتمع الإسلامي، فان الشعب العراقي شعب مسلم فرفضه ورفض مبادءه(3)، فجاء حزب البعث بأسلوب جديد لكي يتقرب من أبناء

ص: 304


1- سورة النازعات، الآية: 37- 39.
2- أي حال كتابة هذا الكتاب.
3- فقد وصلت الشيوعية إلى البلاد الإسلامية ومنها العراق، وتغلغلت الأفكار الشيوعية بين أوساط البسطاء من الجماهير في العراق عبر عملاء الاستعمار, الذين طبّلوا وزمروا كثيراً لتلك الأفكار المزيفة والشعارات الفارغة، فأخذ كثير من السذج والبسطاء من الناس يطالبون بتحقيق ما يسمى بالعدالة الاجتماعية وفق مبدأ الشيوعية، وعلى إثر ذلك شعر الإمام الراحل(رحمه اللّه) - الذي كان عمره الشريف لم يتجاوز الثلاثين - والكثير من العلماء بمسئوليتهم تجاه تلك الأفكار الفاسدة والآراء المنحرفة، فتصدوا لها عبر وسائل عديدة، موضحين أن الإسلام وحده هو القادر على تحقيق العدالة الاجتماعية. وقد ذكر الإمام الراحل(رحمه اللّه) مساوئ ومخازي الشيوعية والشيوعيين وبعض الأساليب التي اتبعها في مواجهة الشيوعية، وذلك في كتابه (تلك الأيام) و(موسوعة الفقه، السياسة: المجلد 106)، وكتاب (مباحثات مع الشيوعيين)، و(القوميات في خمسين سنة)، و(ماركس ينهزم)، وغيرها.

الشعب، رافعاً شعار الدين الذي كان أمل الشعب، وشعار القومية وما إلى ذلكمن الشعارات التي أراد بها تضليل الشعب. وفعلاً، انخدع بعض أفراد الشعب فساندوا هذا الحزب حتى تمكن قادته وأزلامه من خطف السلطة والحكم، وعندما استلم السلطة تحكم في مصير أبناء هذا الشعب أسوأ تحكم، فصادر حرياته وملأ السجون بالمعارضين له من كل أبناء العراق وقتل الملايين وشرّد الملايين.

مجيء الحكومة البعثية

لم يكن مجيء حكومة البعثيين العفالقة إلى السلطة في العراق يتبع أي تصرف عقلائي، حيث لم تتبع أي موازين مشروعة ومقبولة ومتعارفة، كالانتخابات العقلائية الموجودة في العالم، لذا كانت هذه الحكومة مكروهة من الشعب، مرفوضة من قبل العقلاء، لأسباب كثيرة نوجزها بما يلي:

أولاً: أتت إلى السلطة دون رغبة الشعب، ودون علمه بواقعها الحقيقي، الكامن خلف الشعارات الزائفة، لأن البعثيين جاءوا تحت جنح الظلام، وخطفوا الحكم بالانقلاب العسكري المدعوم من قبل الغرب ومن خلال الدبابة والبندقية، ولم يكن مجيئهم عبر أساليب حرة كأن ينتخبها الشعب العراقي، فإن الأصل في انتخاب الحكومة - بالنسبة إلى عصر الغيبة - هو انتخاب الشعب(1).

ثانياً: سيطرة الأقلية على الأكثرية ظلماً واستبداداً، حيث جاءت هذه الفئة

ص: 305


1- ذلك لأن الحكومة إنما كانت وتكون لتنظيم أمور الناس اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وغير ذلك من الأمور الحياتية. وعلى الشعب أن يختاروا - طبعاً بالاختيار العقلائي الناضج - من يدير شؤونهم، هذا في غير المعصوم(عليه السلام) الذي هو منصوب من قبل اللّه تعالى، كما هو واضح.

القليلة إلى السلطة لتحكم الأكثرية دون أي حق قانوني أو شرعي أو عقلي لهم؛لأن أقلية من الشعب العراقي هي التي استأثرت بالحكم وموارده المالية الضخمة وامتيازاته العالية، وهذا ينافي التشكيلة السكانية للشعب العراقي والقوانين العادلة، لأن جميع القوانين الإسلامية والقوانين الوضعية الديمقراطية الحديثة، تتفق على أنّ الحق القانوني يلزم أن تكون الحكومة لمن يمثل أكثرية الشعب! والعراق ينقسم من حيث التركيبة السكانية إلى أغلبية من (المسلمين الشيعة) إذ يمثلون حوالي (85%) من تركيبة هذا الشعب، الذين هم محرومون من أغلب حقوقهم المشروعة في الحكم منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، كإستلام المناصب العليا في الدولة، بل هم محرومون حتى من نشر ثقافتهم وأفكارهم الدينية والعمل بشعائرهم العبادية، إذ تُملى عليهم عقائد غيرهم التي لا يؤمنون بها وبالفرض كما يلاحظ ذلك في الكتب المدرسية وفي الإعلام وغيرهما، وهم محرومون أيضاً من حرية إبداء الرأي، ومن ممارسة شعائرهم الدينية، وما إلى ذلك من الحقوق التي يجب أن تكون لهم.

ويتكون هذا الشعب - أيضاً - من أقلية من (المسلمين السنة) الذين يشكلون ما نسبته (12%) من الشعب العراقي، ولكن نرى أن بيدهم كل المناصب الحساسة في الدولة، وأقلية من (المسيحيين) و(الصابئة) و(الإيزيديين) الذين يشكلون (3%) من الشعب.

لذا فإن الوضع العقلائي المفروض تحققه بالنسبة إلى الشعب العراقي هو أن يكون مستقبل الحكومة في العراق للأغلبية، أي للمسلمين الشيعة، ويضمن لباقي الأقليات حقوقهم كاملة أيضاً، بمعنى أن يكون رئيس الدولة من الأغلبية وكذلك سائر المناصب الوزارية وغيرها، نعم هناك تمثيل للأقليات في البرلمان وما أشبه بما لا ينافي حق الأكثرية ويضمن حق الأقلية لهم، وهذا فقط هو الذي

ص: 306

يضمن الأمن والاستقرار في العراق ويتماشى مع القانون والعقل والشرع(1).

الحكومات غير الشرعية

الحكومات عادة تسير على خلاف العقلانية، والحكام عادة يسيرون على الهوى، ومن هنا ترى الظلم والجور والفساد والإفساد في كل مكان.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة له: «... فصبرت، وفي العين قذًى وفي الحلق شجاً(2)،

أرى تراثي نهباً، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلانٍ بعده، - ثم تمثل بقول الأعشى: -

شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر(3)

فيا عجباً!! بينا هو يستقيلها(4)

في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لَشَدَّ ما تشطّرا(5) ضرعيها، فصيرها في حوزةٍ خشناء، يغلظ كَلْمُها ويخشن مسها، ويكثر

ص: 307


1- للتفصيل راجع كتاب: (الشيعة والحكم في العراق) للإمام الراحل(رحمه اللّه).
2- الشّجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه، والتراث: الميراث.
3- في رسائل الشريف المرتضى 2: 109: هذا البيت لأعشى قيس من جملة قصيدة، أولها: علقم ما أنت إلى عامر *** الناقض الأوتار والواتر فأما حيان أخو جابر، فهو رجل من بني حنيفة، فأراد ما أبعد ما بين يومي على كور المطية أدأب وأنصب في الهواجر والصنابر وبين يومي وادعاً قاراً منادماً لحيان أخي في نعمة وخفض وأمن وخصب. وروي: أن حيان هذا كان شريفاً معظماً عتب على الأعشى، كيف نسبه إلى أخيه وعرفه به؟! واعتذر الأعشى أن القافية ساقته إلى ذلك. والغرض في تمثيله (صلوات اللّه عليه) بهذا البيت، تباعد ما بينه(عليه السلام) وبيت القوم، لأنهم قلدوا بآرائهم ورجعوا بطلابهم، وظفروا بما قصدوه واشتملوا على ما اعتمدوه. وهو(عليه السلام) في أثناء ذلك كله مجفو في حقه مكمد من نصيبه، فالبعد كما رآه عنهم، واختلاف شديد والاستشهاد بالبيت واقع في موقعه ووارد في موضعه.
4- يستقيلها: يطلب إعفاءه منها بمعنى الاستقالة.
5- تشطّراْ: اقتسماه فأخذ كل منهما شطراً، وكَلْمُها: جرحها.

العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة(1) إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر اللّه بخبطٍ(2)

وشماسٍ وتلونٍ واعتراضٍ، فصبرتُ على طول المدة وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعةٍ، زعم أني أحدهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر!! لكني أسففت(3) إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصغا رجلٌ منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهنٍ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً(4) حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون(5) مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته...»(6).

وقال(عليه السلام) في خطبة أخرى وفيها يصف زمانه بالجور، ويقسِّم الناس فيه خمسة أصناف، ثم يزهد في الدنيا: «أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهرٍ عنودٍ وزمنٍ كنودٍ(7) يعد فيه المحسن مسيئاً، ويزداد الظالم فيه عتواً لا ننتفع بما علمنا،

ص: 308


1- الصعبة من الإبل: ما ليست بذبول، وأشنق لها بالزمام: إذا جذبه إلى نفسه وهو راكب ليمسكها عن الحركة العنيفة، والخَرَم: قطع. وأسلس: أرخى، وتقحَّم: رمى بنفسه في القحمة أي الهلكة.
2- خَبْط: سير على غير هُدى، والشِّماس: إباء ظهر الفرس عن الركوب، الاعتراض: السير على غير خط مستقيم، كأنه يسير عرضاً في حال سيره طولاً.
3- أسفَّ الطائر: دنا من الأرض، صغا صغواً وصغى صغياً: مال، الضغن: الضغينة والحقد.
4- نافجاً حضنيه: رافعاً لهما، والحضن: ما بين الإبط والكشح، يقال للمتكبر: جاء نافجاً حضنيه، والنثيل: الروث وقذر الدواب المعتلف: موضع العلف.
5- الخَضْم: أكل الشيء الرطب، وانتكث عليه فتلُهُ: انتقض، وأجهز عليه عمله: تمّم قتله، وكَبَت به: من كبابه الجواد إذا سقط لوجهه. والبِطنة: البطر والأشر والتخمة.
6- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 3 من خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية، وتشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها، ثم مبايعة الناس له.
7- الكنود الكفور، يقال: كند النعمة إذا كفرها فهو كنود، ومنه إمرأة كنود، و: «أصبحنا في زمن كنود» أي: لا خير فيه.

ولانسأل عمّا جهلنا، ولا نتخوف قارعةً حتى تحل بنا.

والناس على أربعة أصنافٍ: منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلّا مهانة نفسه، وكلالة(1) حده ونضيض وفره(2)، ومنهم المصلت لسيفه والمعلن بشره، والمجلب بخيله ورجله، قد أشرط نفسه(3) وأوبق دينه لحطامٍ ينتهزه، أو مقنبٍ(4) يقوده أو منبرٍ يفرعه(5)، ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً، ومما لك عند اللّه عوضاً. ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامَن(6) من شخصه وقارب من خطوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، واتخذ ستر اللّه ذريعةً إلى المعصية. ومنهم من أبعده عن طلب الملك ضئولة نفسه(7)، وانقطاع سببه، فقصرته الحال على حاله، فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس أهل الزهادة، وليس من ذلك في مراحٍ(8) ولا مغدًى.

وبقي رجالٌ، غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريدٍ ناد(9)، وخائفٍ مقموعٍ(10)، وساكتٍ مكعومٍ(11)، وداعٍ مخلصٍ

ص: 309


1- كلالة حدّه: يقال كلَّ السيف كلالة إذا لم يقطع.
2- قلة ماله، فالنضيض القليل، والوفر المال.
3- أشرط نفسه: هيأها وأعدها للشر والفساد في الأرض، وأو بق دينه: أهلكه.
4- المقنب: طائفة من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين.
5- فرع المنبر: علاه.
6- طامَن: خفض.
7- ضُؤولة النفس: حقارتها.
8- مَرَاح: إذا ذهب في العشي، والمغدى: إذا ذهب في الصباح.
9- الناد: المنفرد الهارب من الجماعة.
10- المقموع: المقهور.
11- المكعوم: من كعم البعير، شد فاه لئلا يأكل أو يعض.

وثَكلان(1) موجعٍ، قد أخملتهم التقية وشملتهم الذلة، فهم في بحرٍ أجاجٍ، أفواههم ضامزة(2)، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملّوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا.

فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ(3)، وقراضة الجلم(4). واتعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمةً، فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم»(5).

نعم، هذه الدنيا في زمان أمير المؤمنين(عليه السلام).

وذكر أن معاوية بن أبي سفيان قال يوماً لعمرو بن العاص - بما معناه - : أنا كنت أستحق الوصول إلى السلطة والحكم لذا صرت خليفة.

فقال له عمرو بن العاص: ليس الأمر هكذا؛ بل إن الصحيح إنك ما كنت تحصل على ذلك لولا أن الناس كانوا جهّالاً، أي: لا يعقلون، وسأثبت لك ذلك بالدليل.

وفي يوم من الأيام قام عمرو بن العاص بعد الصلاة، والتفت إلى الناس قائلاً: لقد سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إن اليقطين يحتاج إلى التذكية الشرعية، فهي تذبح كما تذبح الشاة!! وبعد أن عادا إلى الصلاة وهما - معاوية وعمر - في الطريق شاهدا الناس واقفين صفوفاً على أبواب ودكاكين القصابين الذين كانوا قد

ص: 310


1- ثكلان: حزين، وأخمله: أسقط ذكره حتى لم يعدله بين الناس نباهة.
2- ضامزة: ساكتة.
3- القَرَظ: ورق السلم، أو ثمر السنط يدبغ به.
4- الجَلَم: مقراض يجز به الصوف، وقراضته: ما يسقط منه عند القرض والجز.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 32 من خطبة له(عليه السلام) يصف زمانه بالجور، ويقسم الناس فيه خمسة أصناف، ثم يزهد في الدنيا.

شرعوا في قطع رأس اليقطين وكأنه يذبح كما تذبح الأغنام!!

إذاً، هذا العمل - وغيره - من الناس يدلّ دلالة واضحة على أن الأكثرية في زمن معاوية كانوا جهالاً وتصرفاتهم غير عقلائية، حتى وصلت بهم الحال إلى مقارنة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بمعاوية، وأي مقارنة ظالمة هذه التي تقارن بين أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي اتخذ الحكم لإقامة الحق وإبطال الباطل وخدمة الرعية، وبين معاوية الذي كان يأخذ البريء بذنب الآثم أو الجاني، وكان مسرفاً في البذخ والمتعة له ولزبانيته وبطانته، فيجعله قدوة لمن يقتدون به في السرف والمغالاة(1).

ص: 311


1- قال العلامة الأميني(رحمه اللّه) في موسوعته الرائعة (الغدير في الكتاب والسنة) 2: 117: قال الإسحاقي في (لطايف أخبار الدول) 41: كتب معاوية إلى عمرو بن العاص: إنه قد تردد كتابي إليك بطلب خراج مصر، وأنت تمتنع وتدافع ولم تسيره، فسيره إلي قولاً واحداً وطلباً جازماً، والسلام. فكتب إليه عمرو بن العاص جواباً وهي القصيدة الجلجلية المشهورة التي أولها: معاوية الفضل لا تنس لي *** وعن نهج الحق لا تعدل نسيت احتيالي في جلق *** على أهلها يوم لبس الحلي؟ وقد أقبلوا زمرا يهرعون *** ويأتون كالبقر المهل ومنها أيضاً: ولولاي كنت كمثل النساء *** تعاف الخروج من المنزل نسيت محاورة الأشعري *** ونحن على دومة الجندل؟ وألعقته عسلاً بارداً *** وأمزجت ذلك بالحنظل ألين فيطمع في جانبي *** وسهمي قد غاب في المفصل وأخلعتها منه عن خدعة *** كخلع النعال من الأرجل وألبستها فيك لما عجزت *** كلبس الخواتيم في الأنمل ومنها أيضاً: ولم تك واللّه من أهلها *** ورب المقام ولم تكمل وسيرت ذكرك في الخافقين *** كسير الجنوب مع الشمأل نصرناك من جهلنا يا بن هند *** على البطل الأعظم الأفضل وكنت ولن ترها في المنام *** فزفت إليك ولا مهر لي وحيث تركنا أعالي النفوس *** نزلنا إلى أسفل الأرجل وكم قد سمعنا من المصطفى *** وصايا مخصصة في علي ومنها أيضاً: وإن كان بينكما نسبة *** فأين الحسام من المنجل؟ وأين الثريا وأين الثرى؟ *** وأين معاوية من علي؟ فلما سمع معاوية هذه الأبيات لم يتعرض له بعد ذلك. انتهى.

وهذا هو معاوية يقر بعدم تعقل أبناء مملكته عندما بعث برسالة إلى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قائلاً: أنا أقاتلك بمائة ألف رجل ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل.

فقد روي: أن رجلاً من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين، فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين. فارتفع أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بينة يشهدون أنها ناقته!! فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه فقال الكوفي: أصلحك اللّه إنه جمل وليس بناقة؟! فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه وبره وأحسن إليه، وقال له: أبلغ علياً ((عليه السلام)) أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل.

ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم لمعاوية، أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رؤسهم عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص: إن علياً((عليه السلام)) هو الذي قتل عمار بن ياسر حين

ص: 312

أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي(عليه السلام) سنة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير(1).

نعم، هذا هو حال أغلب الناس في زمن معاوية.

أما في زماننا هذا، فقد وصلت حالة عدم التعقل عند بعض الناس إلى شبه ما كان في الماضي وربما أسوأ، فترى بعض الناس يمجد ويرفع شخصاً جاهلاً مجرماً منحرفاً لا يدخر وسعاً في انتهاك الحرمات وارتكاب الظلامات، فينعتونه بنعوت ما أنزل اللّه بها من سلطان، ذلك هو صدام التكريتي الذي وصلت القباحة بأحد الأشخاص المدعين للأدب بأن يقول - ممتدحاً عبارة قالها هذا الطاغية - : هذه العبارة من نصوص الرئيس ذات صياغة متميزة، ستبقى أحاديثه وخطبه آيات مشرفة!!

وصدام نفسه لا يعقل ولا يصدق بأنه في يوم من الأيام يأتي مثل هؤلاء فينعتونه بهذه النعوت، لكنهم قالوا فيه ما قالوا وقدّسوا شخصه ومجدوا حزبه، ووصفوه بمحاسن ليست فيه، جهلاً منهم ورياءً!!

وهذه التصرفات غير العقلائية من الناس تكون سبباً لاستمرارية الطغيان.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة. اللّهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه، اللّهم المم به شعثنا، واشعب به صدعنا، وارتق به فتقنا، وكثر به قلتنا، وأعزز به ذلتنا، وأغن به عائلنا»(2) برحمتك يا أرحم الراحمين.

ص: 313


1- الغدير 10: 195.
2- تهذيب الأحكام 3: 111.

من هدي القرآن الحكيم

دور العقل

قال اللّه تعالى اسمه: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(3).

مدح العقلاء بتصرفاتهم العقلائية

قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(4).

وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6).

ذم التصرفات غير العقلائية

قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}(7).

ص: 314


1- سورة البقرة، الآية: 242.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- سورة آل عمران، الآية: 190.
4- سورة الفرقان، الآية: 67.
5- سورة الزمر، الآية: 17-18.
6- سورة آل عمران، الآية: 7.
7- سورة الحشر، الآية: 14.

وقال عزّ وجلّ: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(1).وقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَئًْا وَلَايَهْتَدُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(3).

مدح التفكر والاعتبار

قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(5).

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَٰبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا

ص: 315


1- سورة الملك، الآية: 10.
2- سورة البقرة، الآية: 170.
3- سورة الفرقان، الآية: 44.
4- سورة آل عمران، الآية: 190- 191.
5- سورة الجاثية، الآية: 13.
6- سورة النحل، الآية: 10- 11.

كَثِيرًا}(1).

ذم عدم التعقل

وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

دور العقل والتعقل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العقل: «أول ما خلق اللّه العقل»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل فضيلة الإنسان»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العقل دليل المؤمن»(6).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «من لم يكن عقله أكمل ما فيه، كان هلاكه من أيسر ما فيه»(7).

مدح العقلاء بتصرفاتهم العقلائية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العاقل من أطاع اللّه، وإن كان ذميم المنظر حقير

ص: 316


1- سورة البقرة، الآية: 269.
2- سورة الأنفال، الآية: 22.
3- سورة الأنعام، الآية: 32.
4- الجواهر السنية: 145.
5- عيون الحكم والمواعظ: 27.
6- الكافي 1: 25.
7- بحار الأنوار 1: 94.

الخطر»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العاقل إذا سكت فكر، وإذا نطق ذكر، وإذا نظراعتبر»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العاقل من كان ذلولاً عند إجابة الحق، منصفاً بقوله... يترك دنياه، ولا يترك دينه»(3).

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفر(عليهما السلام): «إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض»(4).

ذم التصرفات غير العقلائية

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في يصف بني أمية وهم من أظهر مصاديق غير العقلاء والمنحرفين:

«ليتأس صغيركم بكبيركم وليرأف كبيركم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية؛ لا في الدين يتفقهون ولا عن اللّه يعقلون، كقيض(5) بيضٍ في أداحٍ، يكون كسرها وزراً، ويخرج حضانها شراً، افترقوا بعد ألفتهم وتشتتوا عن أصلهم، فمنهم آخذٌ بغصنٍ، أين ما مال مال معه، على أن اللّه تعالى سيجمعهم لشر يومٍ لبني أمية، كما تجتمع قزع(6) الخريف، يؤلف اللّه بينهم، ثم يجمعهم

ص: 317


1- كنز الفوائد 1: 55.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 97.
3- بحار الأنوار 1: 130.
4- الكافي 1: 17.
5- القَيْض: القشرة العليا اليابسة على البيضة، والأداحي - جمع أدحي - وهو مبيض النعام في الرمل تدحوه برجلها لتبيض فيه.
6- القَزَع: القطع المتفرقة من السحاب واحدته قزعة بالتحريك.

ركاماً(1) كركام السحاب، ثم يفتح لهم أبواباً يسيلون من مستثارهم، كسيل الجنتين، حيث لم تسلم عليه قارةٌ، ولم تثبت عليه أكمةٌ(2)، ولم يرد سَنَنَه رص طودٍ، ولا حداب أرضٍ، يذعذعهم(3) اللّه في بطون أوديته، ثم يسلكهم ينابيع في الأرض، يأخذ بهم من قومٍ حقوق قومٍ، ويمكن لقومٍ في ديار قومٍ، وأيم اللّه، ليذوبن ما في أيديهم بعد العلو والتمكين كما تذوب الألية على النار.

أيها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقو من قوي عليكم، لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل. ولعمري، ليضعّفنّ(4) لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى، ووصلتم الأبعد. واعلموا، أنكم إن اتبعتم الداعي لكم سلك بكم منهاج الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكفيتم مئونة الاعتساف(5) ونبذتم الثقل الفادح عن الأعناق»(6).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لايعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصد عنه»(7).

ص: 318


1- الرُكام: السحاب المتراكم، والمستثار: موضع انبعاثهم ثائرين، وسَيل الجنتين: هو الذي سماه اللّه سيل العَرَم الذي عاقب به قوم سبأ، والقارة: ما اطمأن من الأرض.
2- الأَكَمَة: غليظ من الأرض يرتفع عمّا حواليه، وسَنَنَه: طريقه، وطود مرصوص: أي جبل شديد التصاق الأجزاء بعضها ببعض. والحداب - جمع حَدَب - : ما غلظ من الأرض في ارتفاع.
3- يذعذعهم: يفرقهم.
4- ليضعّفنّ لكم التيه: لتزادنّ لكم الحيرة أضعاف ما هي لكم الآن.
5- الاعتساف: سلوك غير الطريق.
6- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 166 من خطبة له(عليه السلام).
7- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 87 من خطبة له(عليه السلام) وهي في بيان صفات المتقين وصفات الفساق والتنبيه الى مكان العترة الطيبة(عليهم السلام).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من أُعجب بفعله أصيب بعقله»(1).

وقال(عليه السلام): «إن أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان: رجل وكله اللّه إلى نفسه، فهوجائر عن قصد السبيل، مشغوف(2) بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته، وبعد وفاته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته.

ورجل قَمَشَ(3) جهلاً مُوضِعٌ في جهال الأمة، عاد(4) في أغباش الفتنة عمٍّ بما في عقد الهدنة قد سماه أشباه الناس: عالماً، وليس به بكر، فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من ماء آجن(5)، واكتثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً ضامناً، لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً رثا من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خَبّاطُ(6) جهالات، عاش ركاب عَشَوَات، لم يعض على العلم بضرس قاطع، يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم، لا ملي(7) واللّه بإصدار ما ورد عليه، ولا أهل لما قُرِّظ به(8)، لا يحسب العلم في

ص: 319


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 612.
2- المشغوف بشيء: المولع به حتى بلغ حبه شغاف قلبه، وهو غلافه.
3- قَمَشَ جهلاً: جمعه، وأصل القمش جمع المتفرق.
4- عاد: جار بسرعة، من عدا يعدو إذا جرى، وأغباش - جمع غَبَش = : أغباش الليل: بقايا ظلمته، وعَمٍّ: وصف من العمى والمراد: الجاهل.
5- الماء الآجن: الفاسد المتغيّر اللون والطعم.
6- خبّاط: صيغة المبالغة من خبط الليل إذا سار فيه على غير هُدى، وعاشٍ: خابط في الظلام.
7- الملي بالشيء: القيّم به الذي يجيد القيام عليه.
8- ولا أهلٌ لما قُرِّظ به: مدح.

شي ء مما أنكره، ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهباً لغيره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعجّ(1) منه المواريث، إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهالاً و يموتون ضلالاً، ليس فيهم سلعة أبور(2) من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا سلعة أنفق(3) بيعاً ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حرف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر»(4).

مدح التعقل والتفكر

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما يدرك الخير كله بالعقل...»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «دعامة الإنسان العقل، ومن العقل: الفطنة والفهم والحفظ والعلم...»(7).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «لكل شيء دليل، ودليل العاقل التفكر، ودليل التفكر الصمت»(8).

ص: 320


1- العَجّ: رفع الصوت، وعجّ المواريث هنا: تمثيل لحدة الظلم، وشدة الجور.
2- أبْوَر: - من بارت السلعة - كسدت.
3- أنفَق: - من النَّفاق - وهو الرواج.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 17 من كلام له(عليه السلام) في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل.
5- تحف العقول: 54.
6- كنز الفوائد 1: 200.
7- علل الشرائع 1: 103.
8- تحف العقول: 386.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل ينبوع الخير»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقليكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره...»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لاينتفع بشيء إلّا به العقل الذي جعله اللّه زينة لخلقه ونوراً لهم...»(3).

ص: 321


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 41.
2- الكافي 1: 25.
3- الكافي 1: 28.

التكامل والشمولية في الشريعة الإسلامية

شمولية الشريعة الإسلامية

تمتاز الشريعة الإسلامية بتكاملها وشموليتها لجميع مناحي الحياة.

قال اللّه تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}(1).

وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}(3).

وقال تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(4).

إن الشريعة الإسلامية التي نزلت من عند اللّه تعالى على قلب نبيّنا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتضمّنتها آيات القرآن الحكيم وبينتها السيرة الشريفة هي خاتمة الشرائع السماوية وأكملها، وتكون باقية إلى يوم القيامة؛ وذلك لأنها هي المنهاج القويم للبشرية جمعاء؛ ولأنها قد امتازت من بين الشرائع السماوية بالشمول

ص: 322


1- سورة الشورى، الآية: 13.
2- سورة الجاثية، الآية: 18.
3- سورة المائدة، الآية: 48.
4- سورة المائدة، الآية: 3.

والدوام، فهي شاملة لجميع أبعاد الحياة من سياسة واقتصاد، وحقوق واجتماع، وعباداتومعاملات، وأخلاق وآداب، وعقائد وأحكام، وغير ذلك.

قال اللّه تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ}(1).

وقال سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَٰهُ فِي إِمَامٖ مُّبِينٖ}(2).

وهذه الشريعة المقدسة متضمنة على مبادئ إنسانية راقية، مثل: إطلاق الحريات بأنواعها المشروعة، كحرية الفكر والعقيدة، وحرية التجارة والزراعة، وحرية السفر والإقامة، وحرية الكسب والعمل، وحرية التجمع والرأي، وحريات كثيرة أخرى غير ذلك، ما عدا المحرمات التي نهى اللّه تعالى ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنها وهي قليلة جداً بالنسبة إلى المحللات، وقد منع اللّه عنها لمصلحة البشر نفسه، قال اللّه تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3).

وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(4).

كما تتضمن الشريعة الإسلامية على مبادئ حيوية، كمبدأ المساواة وعدم التفرقة بين الناس، مساواة عادلة مبتنية على إلغاء الفوارق الوهمية التابعة للشكل

ص: 323


1- سورة الأنعام، الآية: 59.
2- سورة يس، الآية: 12.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.
4- سورة البقرة، الآية: 185.

واللغة، والانتساب واللون، والعرق والدم. وفيها أيضا مبادئ احترام الغير والأخذبمدأ الاستشارة والشورى ووضع حدود للسلطة الحاكمة.

قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَٰبِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَٰنِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(3).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ}(5).

وقال سبحانه: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(6).

كما أن الشريعة الإسلامية تنظم كل ما يرتبط بحياة الفرد كالأحوال الشخصية وغيرها، وتلبي جميع متطلباته وكل حاجياته، الفطرية والعقلية والروحية والجسمية، وذلك في حدودها المشروعة والمعقولة، وتنظم حياة الجماعة أيضاً، كما في شؤون الحكم والإدارة والسياسة، وتهتم بشؤون المجتمع وسعادته وتهيئة

ص: 324


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- سورة الحجرات، الآية: 11.
3- سورة الشورى، الآية: 38.
4- سورة المائدة، الآية: 55.
5- سورة المائدة، الآية: 99.
6- سورة النحل، الآية: 35.

الأجواء الصالحة والمناسبة لتقدّمه ورُقيّه.

قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ الْأُمُورِ}(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيئ غيره»(2).

وقال(عليه السلام): «ما خلق اللّه حلالاً ولا حراماً إلّا وله حد كحدّ الدور، وإن حلال محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ولأن عندنا صحيفة طولها سبعون ذراعاً، وما خلق اللّه حلالاً ولا حراماً إلّا فيها، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدور فهو من الدور حتى أرش الخدش وما سواها، والجلدة ونصف الجلدة»(3).

هذا من ناحية الشمول...

أما من ناحية الدوام، فقد اشتملت الشريعة على أحكام كليّة وعامة تصلح لكل الأزمنة والأمكنة، ولجميع المتطورات والمستحدثات إلى يوم القيامة، كما أشير إلى ذلك في قوله(عليه السلام): «حلال إلى يوم القيامة... وحرام إلى يوم القيامة».

حق الحاكمية في الشريعة الإسلامية

ومن ميزات الشريعة الإسلامية المقدسة: المنهاج السياسي الصحيح، حيث ينفي حاكمية أحد على أحد، ويسلب سلطة البعض على البعض، ويجعل حق الحاكمية والولاية لله تعالى، ومن بعده لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوليائه المعصومين(عليهم السلام) فقط،

ص: 325


1- سورة الحج، الآية: 41.
2- الكافي 1: 58.
3- بصائر الدرجات 1: 148.

فالولاية تكون:

أولاً: لله تبارك وتعالى، وهو خالق الإنسان وله حق الولاية والحاكمية بالذات.

ثانياً: لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ثالثاً: لأهل بيت الرسول الكريم(عليهم السلام).

فإن الولاية قد منحها اللّه تعالى لرسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام) على الناس جميعاً، فحق الولاية والحاكمية لهم بالعَرَض أي بمنح اللّه عزّ وجلّ لهم ذلك، فإنه تعالى وجدهم أهلاً للولاية والإمامة، فأوكل إليهم حق الولاية والحاكمية على خلقه، ولايةً تكوينية وتشريعية، وأوكل إليهم إبلاغ دينه، وحفظ أحكامه، وجعلهم خلفاءه في أرضه وسفراءه بين خلقه، وأشار إلى حصر الحاكمية والولاية في هؤلاء الثلاثة بقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(1) ثم أمر بوجوب طاعتهم رعاية لحق ولايتهم بقوله سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(2).

وقد جاء في تفسير هذه الآية: وإنما أفرد الأمر بطاعة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن كانت طاعته مقترنة بطاعة اللّه، مبالغةً في البيان وقطعاً لتوهّم من توهّم أنه لا يجب لزوم ما ليس في القرآن من الأوامر، ونظيره قوله: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(3)، وقوله: {وَمَا ءَاتَىٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ}(4)، وقوله:

ص: 326


1- سورة المائدة، الآية: 55.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- سورة النساء، الآية: 80.
4- سورة الحشر، الاية: 7.

{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ}(1)... لأن طاعة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي طاعة اللّه وامتثال أوامره امتثال أوامر اللّه...

قوله: {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} ... - قال بعض المفسرين من أبناء العامة - : إنهم الأمراء... - و - قال - الآخر: إنهم العلماء... - ولكن المروي - عن الإمام الباقر والصادق(عليهما السلام): أنّ أولي الأمر هم الأئمة من آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) و(عليهم السلام) حيث أوجب اللّه طاعتهم بالإطلاق، كما أوجب طاعته وطاعة رسوله...(2).

أما ولاية الفقيه فلم تكن مطلقةً، وقد ذكرنا بعض حدودها وتفاصيلها في كتاب البيع(3).

الشريعة الإسلامية وسعادة الإنسان

من مميزات الشريعة الإسلامية أنها تسير بالإنسان - وفق أوامرها ونواهيها - إلى كماله وسعادته والفوز بالدارين - الدنيا والآخرة - وذلك بشرط اتباع الإنسان الأوامر واجتناب النواهي الشرعية.

لأن أوامر الشريعة ونواهيها جاءت من خالق الإنسان الذي يعلم ما يصلح الإنسان مما يفسده، ولذلك جاءت مطابقة لفطرة الإنسان وملبية لطلباته ورغباته، الجسدية والروحية، المعنوية والمادية؛ وذلك لأن الإنسان مركب من جسم وروح، ومادة ومعنى، ويحتاج في سعادته وهنائه إلى التوازن بين الروح والجسم، والمادة والمعنى، وإذا فقد التوازن بينهما فقد سعادته وهناءه، وليس هناك ما ينظم التوازن بينهما سوى الشريعة الإسلامية وتعاليمها الراقية وأحكامها العادلة.

ص: 327


1- سورة النجم، الآية: 3.
2- تفسير مجمع البيان 3: 113.
3- البيع 5: 11؛ كما ذكر المؤلف هذا البحث في الفقه الدولة الإسلامية 101: 48.

قال اللّه تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٖ}(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام) - في حديث - : «إن السعيد حق السعيد من أحبك وأطاعك، وإن الشقي كل الشقي من عاداك ونصب لك وأبغضك. يا علي كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك. يا علي من حاربك فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب اللّه عزّ وجلّ. يا علي من أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض اللّه، وأتعس اللّه جَدَّه، وأدخله نار جهنم».(2)

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «إنه ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلّا التاط(3)

فيها بثلاث: شغل لا ينفد عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لاينال منتهاه. ألا إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه، ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على فانية لا ينفد عذابها، وقدّم لما يقدَمُ عليه مما هو في يديه قبل أن يخلفه لمن يسعد بإنفاقه وقد شقي هو بجمعه»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالإيمان يُرتقى إلى ذروة السعادة ونهاية الحبور»(5)(6).

ص: 328


1- سورة هود، الآية: 105- 108.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 382.
3- التاط: التصق.
4- أعلام الدين: 345.
5- الحُبُور: السرور.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 304.

وقال(عليه السلام) أيضاً: «هذا ما أمر به عبد اللّه علي أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر، في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها، أمره: بتقوى اللّه وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلّا باتباعها، ولا يشقى إلّا مع جحودها وإضاعتها...»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن حقيقة السعادة أن يختم للمرء عمله بالسعادة، وإن حقيقة الشقاء أن يختم للمرء عمله بالشقاء»(2).

وسُئل الإمام الصادق(عليه السلام): ما السعادة وما الشقاوة؟

فقال(عليه السلام): «السعادة سبب خير تمسك به السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان تمسك به الشقي فجره إلى الهلكة، وكل بعلم اللّه تعالى»(3).

تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها

ومن مميزات الشريعة الإسلامية أنها جاءت متكاملة تلبي جميع المتطلبات المشروعة، ومما يدل على أنها متكاملة ولا يوجد فيها نقص أبداً أمور تالية:

أولاً: أنها آخر شرايع السماء وخاتمتها، كما أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي جاء بها هو خاتم الأنبياء(عليهم السلام) فكان الرسول الخاتم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أشرف المرسلين... فكذلك الشريعة الإسلامية الخاتمة لشرايع السماء هي أشرف الأديان والرسالات، وشرافتها بمعنى تماميتها وكمالها، ودوامها لجميع العصور والأزمان.

ثانياً: أنها جاءت ناسخة للشرايع والأديان السماوية التي نزلت من قبل

ص: 329


1- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 53 كتب(عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها، وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن.
2- معاني الأخبار: 345.
3- بحار الأنوار 10: 184.

وحاكمة ومهيمنة عليها، فإذا لم تكن أفضل من غيرها لا يمكنها أن تفوق عليها وتنسخها.

قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}(1).

وقال سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

والشريعة الناسخة تكون أتم وأكمل من الشرايع المنسوخة؛ لأن الناسخة تجمع كل محسنات المنسوخة وزيادة، وهو أمر واضح.

قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «... ثم إن هذا الإسلام دين اللّه الذي اصطفاه لنفسه، واصطنعه على عينه وأصفاه خيرة خلقه، وأقام دعائمه على محبته، أذل الأديان بعزته، ووضع الملل برفعه، وأهان أعداءه بكرامته، وخذل مُحادّيه(3) بنصره، وهدم أركان الضلالة برُكنه، وسقى من عطش من حياضه، وأتأق الحياض بمواتحه، ثم جعله لا انفصام لعروته، ولا فك لحلقته، ولا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع لشجرته، ولا انقطاع لمدته ولا عفاء(4) لشرائعه، ولا جذ لفروعه ولا ضنك لطرقه، ولا وعوثة لسهولته، ولا سواد لوضحه، ولا عوج لانتصابه، ولا عَصَل(5) في عُودِه، ولا وعث لفجه، ولا انطفاء لمصابيحه، ولا

ص: 330


1- سورة المائدة، الآية: 48.
2- سورة آل عمران، الآيه: 85.
3- مُحادّيه - جمع مُحادّ - : الشديد المخالفة، والركن: العز والمنعة، وتَئِق الحوض - كَفِرحَ - : امتلأ وأتأقه: ملأه، والمواتح - جمع ماتح - نازع الماء من الحوض.
4- العفاء: الدروس والاضمحلال، والجذ: القطع، والضَنْك: الضيق، والوُعُوْثَة: رخاوة في السهل تغوص بها الأقدام عند السير فيعسر المشي فيه، والوَضَح: بياض الصبح.
5- العَصَل: الاعوجاح يصعب تقويمه، والفجّ: الطريق الواسع بين جبلين.

مرارة لحلاوته؛ فهو دعائم أَساخ(1) في الحق أَسْناخَها، وثبت لها آساسها، وينابيع غزرت(2) عيونُها، ومصابيح شَبَّت نيرانُها، ومنارٌ اقتدى بها سُفّارها(3)، وأعلامٌ قصد بها فِجَاجُها، ومناهل روي بها وُرّادُها. جعل اللّه فيه منتهى رضوانه وذروة دعائمه وسنام طاعته، فهو عند اللّه وثيق الأركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مضي ء النيران، عزيز السلطان، مُشْرِف المنار(4)، مُعْوِذُ المثار، فشرفوه واتبعوه، وأدوا إليه حقه وضعوه مواضعه».(5)

وقال(عليه السلام) أيضاً: «ابتعثه بالنور المضي ء والبرهان الجلي والمنهاج البادي والكتاب الهادي، أسرته خير أسرةٍ وشجرته خير شجرةٍ، أغصانها معتدلةٌ وثمارها متهدّلةٌ(6)، مولده بمكة وهجرت بطيبة، علا بها ذكره وامتد منها صوته، أرسله بحجةٍ كافيةٍ، وموعظةٍ شافيةٍ ودعوةٍ مُتلافيةٍ(7)، أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة، وبيّن به الأحكام المفصولة، فمن يبتغ غير الإسلام ديناً تتحقق شقوته، وتنفصم عروته، وتعظم كبوته(8)، ويكن مآبه إلى الحزن الطويل

ص: 331


1- أساخ: أثبت، والأسناخ: الأصول.
2- غزرت: كثرت، وشبَّت النار: ارتفعت من الإيقاد.
3- السُفّار: ذووا لسفر، أي يهتدي إليه المسافرون في طريق الحق.
4- مُشْرِف المنار مرتفعه، مُعْوِذُ المثار - من أَعْوَذ - : بمعنى ألجأ، والمثار: مصدر ميمى من ثار الغبار إذا هاج، أي لو طلب أحدٌ إثارة هذا الدين لألجأه إلى مشقة لقوته ومتانته.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبه على إحاطة علم اللّه بالجزئيات ثم يحث على التقوى ويبين فضل الإسلام والقرآن.
6- مُتهدّلة: متدلية، دانية للاقتطاف.
7- مُتلافية: من تلافاه، تداركه بالاصلاح قبل أن يهلكه الفساد، فدعوة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تلافت أمور الناس قبل هلاكهم.
8- الكبوة: السقطة.

والعذاب الوبيل...»(1).

ثالثاً: إنها جاءت لتبقى ما دام الإنسان باقياً على الأرض وإلى يوم القيامة، كما قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّۧنَ}(2) فمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو نبي البشر إلى يوم القيامة، وهذا مستلزم لأن تكون شريعته هي شريعة كل البشر إلى يوم القيامة أيضاً، كما هو واضح.

وقد مرّ قوله(عليه السلام): «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(3).

ومن المعلوم أن الشريعة التي تحمل مؤهلات البقاء رغم التغير والتطور والتقدم الذي سيحصل للإنسان إلى يوم القيامة لابد وأن تكون تامة كاملة، ولا تحتاج إلى أي تعديل وإضافات، ويؤيد ذلك قول الإمام زين العابدين(عليه السلام) حيث سُئل عن التوحيد، فقال(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل اللّه تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(4) والآيات من سورة الحديد إلى قوله: {وَهُوَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(5) فمن رام وراء ذلك فقد هلك»(6).

رابعاً: إن الشريعة الإسلامية جاءت تامة ومتكاملة بنص القرآن الحكيم كما في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(7). فالآية الكريمة صريحة في تمامية الشريعة الإسلامية

ص: 332


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 161 من خطبة له(عليه السلام) في صفة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام).
2- سورة الأحزاب، الآية: 40.
3- بصائر الدرجات 1: 148.
4- سورة الإخلاص، الآية: 1.
5- سورة الحديد، الآية: 6.
6- الكافي 1: 91.
7- سورة المائدة، الآية: 3.

وكمالها، والجدير بالذكر إن هذه الآية: وهي آية تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها، نزلت بعد فريضة الولاية، أي: بعد أن نصب الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبأمر من اللّه تعالى علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأحد عشر إماماً(عليهم السلام) من ذريته خلفاء من بعده، وأئمةً للمسلمين إلى يوم القيامة، مما يدل على أن لمسألة الولاية والإمامة المنصوصة من اللّه تعالى، التي هي امتداد للنبوة والرسالة، من أهمية كبرى ودور عظيم في تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها، وإن من لم يعتقد بها ويرفضها عن علم وعمد فإسلامه ناقص وغير مرضي عند اللّه تعالى.

الغدير وتمامية الشريعة الإسلامية

ذكر المفسرون أن آية تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها نزلت على النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد أن بلّغ بأمر اللّه تعالى ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الناس، فإنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما قرّر الذهاب إلى الحج في السنة الأخيرة من حياته الشريفة، والذي عُرفت فيما بعد بحجة الوداع، وجّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نداءه إلى المسلمين كافة يدعوهم فيه إلى أداء فريضة الحج، وتعلّم مناسكه منه، فانتشر نبأ سفره، وصدى ندائه في المسلمين جميعاً، وتوافد الناس إلى المدينة المنورة، وانضمّوا إلى موكب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى بلغ عدد الذين خرجوا معه (120) ألفاً حسب الروايات، وفي بعض المصادر (180) ألفاً، والتحق بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أناس كثيرون من اليمن ومكة وغيرهما(1)، ولمّا أدى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مناسك الحج انصرف راجعاً إلى المدينة، وخرجت المسيرة التي كانت تربو على (120ألفاً) من المسلمين،

ص: 333


1- كان معه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جموع لا يعلمها إلّا اللّه تعالى قيل: خرج معه (90 ألفاً) وقيل: (114 ألف) وقيل: (120 ألف) وقيل: (124 ألف) وقيل أكثر من ذلك، وهذه عدة من خرج معه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأما الذين حجوا معه فأكثر من ذلك، كالمقيمين بمكة، والذين أتوا من اليمن مع علي(عليه السلام) وأبي موسى. انظر: الغدير: 1: 9.

حتى وصلت إلى أرض تسمى (خُم)(1) وفيها غدير يجتمع فيه ماء المطر يدعى (غدير خم) وكان وصولهم إليه في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة من عام حجة الوداع، وفي السنة العاشرة من هجرته المباركة(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وعندما وصلت المسيرة العظيمة إلى هذه المنطقة هبط الأمين جبرئيل(عليه السلام) من عند اللّه تعالى على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هاتفاً بالآية الكريمة: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(2) أي: في علي(عليه السلام) فأبلغ جبرئيل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسالة اللّه إليه: بأن يقيم علي بن أبي طالب(عليه السلام) إماماً على الناس وخليفة من بعده ووصياً له فيهم، وأن يبلغهم ما نزل في علي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أمر الولاية وفرض الطاعة على كل أحد.

فتوقف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن المسير وأمر أن يلحق به من تأخر عنه ويرجع من تقدم عليه، وكان الجو حاراً جداً حتى كان الرجل منهم يتصبب عرقاً من شدة الحر، وبعضهم كان يضع بعض ردائه على رأسه، والبعض الآخر تحت قدميه لإتقاء جمرة الحر وشدته.

وأدركتهم صلاة الظهر فصلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالناس ومدت له ظلال على شجرات ووضعت أحداج الإبل بعضها فوق بعض حتى صارت كالمنبر، فوقف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليها لكي يشاهده جميع الحاضرين ورفع صوته من الأعماق ملقياً فيهم خطبة بليغة مسهبة، ما زالت تصكُّ سمع الدهر، افتتحها بالحمد والثناء على اللّه سبحانه، وركّز حديثه وكلامه حول شخصية خليفته علي أمير المؤمنين(عليه السلام)، وذكر فضائله ومناقبه ومزاياه ومواقفه المشرّفة ومنزلته الرفيعة عند

ص: 334


1- هي المنطقة التي تتشعّب منها الطرق إلى المدينة والعراق ومصر واليمن.
2- سورة المائدة، الآية: 67.

اللّه ورسوله، وأمر الناس بطاعته(عليه السلام) وطاعة أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، وأكّد أنهم حججاللّه تعالى الكاملة، وأولياؤه المقرَّبون وأُمناؤه على دينه وشريعته، وأنّ طاعتهم طاعة اللّه تعالى ورسوله، ومعصيتهم معصية لله ورسوله، وأنّ شيعتهم في الجنة ومخالفيهم في النار.

وكان مما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس، إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلُ، إلّا وقد عُمِّر، ثم دعاه اللّه فأجابه، وأوشك أن أُدعي فأجيب، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون، فما أنتم قائلون؟».

قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحت وأديت وما عليك، فجزاك اللّه أفضل ما جزى المرسلين.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألستم تشهدون أن لا إله إلا اللّه، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حقّ وناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللّه يبعث من في القبور».

قالوا: بلى نشهد بذلك.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم اشهد».

ثم قال: «أيها الناس ألا تسمعون؟».

قالوا: نعم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فإني فرط على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبُصرى(1) فيه أقداح عدد النجوم من فضة، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».

فنادى منادٍ: وما الثقلان يا رسول اللّه؟

ص: 335


1- بُصرى: منطقة في بلاد الشام، قصبة كورة حوران من أعمال دمشق.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الثقل الأكبر: كتاب اللّه، طرف بيد اللّه عزّ وجلّ وطرف بأيديكم،فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا»! ثم أخذ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيد الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فرفعها حتى بان بياض إبطيهما وعرفه القوم أجمعون فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس مَن أولى الناس بالمؤمنين مِن أنفسهم؟». فقالوا: اللّه ورسوله أعلم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه» - يقولها ثلاث مرات - ثم قال: «اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وأحب من أحبَّه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب»(1).

ثم تابع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطبته فقال: «فاعلموا معاشر الناس ذلك، فإن اللّه قد نصبه لكم إماماً، وفرض طاعته على كل أحد، ماض حكمه جائز قوله، ملعون من خالفه، مرحوم من صدقه، اسمعوا وأطيعوا، فإن اللّه مولاكم وعلي(عليه السلام) إمامكم، ثم الإمامة في ولدي من صلبه إلى يوم القيامة، لا حلال إلّا ما حلله اللّه وهم، ولا حرام إلّا ما حرمه اللّه وهم فصلوه، فما من علم إلّا وقد أحصاه اللّه فيَّ ونقلته إليه - إلى علي أمير المؤمنين(عليه السلام) - .

لا تضلوا عنه ولا تستنكفوا منه، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به، لن يتوب اللّه على أحد أنكره، ولن يغفر له، حتم على اللّه أن يفعل ذلك، وأن يعذبه عذاباً نكراً أبد الآبدين، فهو - علي(عليه السلام) - أفضل الناس بعدي ما نزل الرزق وبقي الخلق، ملعون من خالفه.

ص: 336


1- راجع بحار الأنوار 37: 121 - 141.

قولي عن جبرائيل عن اللّه {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ}(1) افهموا محكم القرآن ولا تتبعوا متشابهه، ولن يفسر لكم ذلك إلّا من أنا آخذ بيده شائل بعضده. ألا وقد أديتُ، ألا وقد بلّغتُ، ألا وقد أسمعتُ، ألا وقد أوضحتُ. إن اللّه قال وأنا قلت عنه: لا تحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره».

ثم رفعه إلى السماء حتى صارت رجله(عليه السلام) مع ركبته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «معاشر الناس، هذا أخي ووصيي، وواعي علمي، وخليفتي على من آمن بي وعلى تفسير كتاب ربي، اللّهم إنك أنزلت عند تبيين ذلك في علي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(2) بإمامته، فمن لم يأتم به وبمن كان من ولدي من صلبه إلى القيامة ف{أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ}»(3)(4).

ثم تابع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطبته وحثَّ الناس على اتباع علي أمير المؤمنين(عليه السلام) وأهل بيته(عليهم السلام)، وانتهت الخطبة النبوية المسهبة والتي تناولت أموراً كثيرة وحيوية بتعيين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) أميراً على المؤمنين ووصياً وخليفة لرسول ربِّ العالمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وهكذا هبط جبرئيل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(5) وقد جاء في التفاسير: بأنّ هذه الآية جاءت بعد أن نصب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبأمر من اللّه تعالى علياً أمير المؤمنين(عليه السلام) إماماً على العالمين، وتسمى هذه الآية بآية الكمال أي:

ص: 337


1- سورة الحشر، الآية: 18.
2- سورة المائدة، الآية: 3.
3- سورة التوبة، الآية: 17.
4- الصراط المستقيم 1: 301.
5- سورة المائدة، الآية: 3.

كمال الدين، وهي -بحسب بعض الروايات - آخر فريضة أنزلها اللّه تعالى على رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1).

ويستفاد من بعض الروايات أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخذ يؤكد على ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) وخلافته من بعده في عدة مواقف من حجة الوداع، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لما نزل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل، فقال له: يا محمد، إنّ اللّه يقرؤك السلام ويقول لك: قل لأمتك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بولاية علي بن أبي طالب(عليه السلام) {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}، ولست أنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم الصلاة والزكاة والصوم والحج وهي الخامسة(2)، ولست أقبل هذه الأربعة إلا بها»(3).

فولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) كمال للدين فمن تمسّك بها فاز بدنيا سعيدة، وآخرة حميدة بأعلى الجنان، ومن لا يؤمن بها فقد ضل ضلالاً مُبيناً وخسر دنياه وآخرته. نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) وأولاده المعصومين(عليهم السلام)(4).

الشريعة الإسلامية مكملة وناسخة للشرايع

اشارة

وعليه: فالشريعة الإسلامية هي المكمّلة للشرائع السابقة التي نزلت على نوح(عليه السلام) وعلى إبراهيم(عليه السلام) وعلى موسى(عليه السلام) في التوراة وعلى عيسى(عليه السلام) في

ص: 338


1- انظر: تفسير العياشي 1: 293؛ تفسير القمي 1: 162؛ تفسير فرات الكوفي: 120؛ التبيان في تفسير القرآن 3: 413؛ تفسير مجمع البيان 3: 257؛ تفسير نور الثقلين 1: 587؛ شواهد التنزيل 1: 201.
2- أي: الولاية لأمير المؤمنين(عليه السلام).
3- بحار الأنوار 37: 138.
4- انظر: قصة الغدير وتصريح النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) من بعده بألفاظ مختلفة وفي أحاديث متواترة رواها العلامة الأميني(رحمه اللّه) في كتابه القيم موسوعة (الغدير).

الإنجيل. وإنها جاءت للناس كافة بما فيهم اليهود والنصارى والعرب والعجم والشرقوالغرب. حيث وجّه الباري جلّ شأنه خطابه للرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ}(1).

وسُئِل الإمام الصادق(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}(2) فقال: «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى(عليهم السلام) ومحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)».

قلت: كيف صاروا أولي العزم؟

قال(عليه السلام): «لأن نوحاً بعث بكتاب وشريعة، وكل من جاء بعد نوح(عليه السلام) أخذ بكتاب نوح(عليه السلام) وشريعته ومنهاجه حتى جاء إبراهيم(عليه السلام) بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح(عليه السلام) لا كفراً به، فكل نبي جاء بعد إبراهيم(عليه السلام) أخذ بشريعة إبراهيم(عليه السلام) ومنهاجه وبالصحف، حتى جاء موسى(عليه السلام) بالتوراة وشريعته ومنهاجه وبعزيمة ترك الصحف، وكل نبي جاء بعد موسى(عليه السلام) أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه، حتى جاء المسيح(عليه السلام) بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى(عليه السلام) ومنهاجه، فكل نبي جاء بعد المسيح(عليه السلام) أخذ بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فهؤلاء أولوا العزم من الرسل(عليهم السلام)»(3).

من آثار التكامل والشمول

وهذا التكامل والشمول للشريعة أعطى تماسكاً في تطبيق المبادئ التي جاءت الشريعة بها؛ إذ أنها ليست نظريات من جعل البشر لتحتاج دائماً إلى

ص: 339


1- سورة سبأ، الآية: 28.
2- سورة الأحقاف، الآية: 35.
3- الكافي 2: 17.

التهذيب والتقويم والتعديل والإضافة، بل هي حقائق كونية، وواقعيات فطرية، مصبوبة من قبل خالق الإنسان والعالم بما يصلح الإنسان مما يفسده، في أحكام شرعية متينة وأمينة، وثابتة وراسخة، لاتقبل الزيادة والنقيصة، ولا تتحمل تعديلاً ولا تهذيباً، لأنها تامة وكاملة، وجامعة وشاملة، ودائمة وأبدية، إنها أحكام خمسة:

1- فما كان من أمر ضروري مقوم لصلاح الإنسان وفلاحه، بحيث يفقد الإنسان بفقده صلاحه وفلاحه، ويذوق الشقاء والهوان، جعله اللّه فرضاً وواجباً، وأطلق عليه اسم: (الواجب والفريضة) كالصوم والصلاة.

2- وما كان عكس ذلك أي: كان عدمه ضرورياً وفقده مقوماً لصلاح الإنسان وفلاحه، ومع وجوده يقع الإنسان في هوان وشقاء، نهى اللّه عنه وجعله حراماً، وأطلق عليه اسم: (الحرام) كالكذب والظلم والخمر والميسر.

3- وما كان وجوده راجحاً نافعاً، مدحه وحبّذه وأطلق عليه اسم: (المستحب) كالصدقة وصلاة الليل.

4- وما كان عدمه وفقده راجحاً، ذمّه ورغّب عنه، وأطلق عليه اسم: (المكروه).

5- وما كان متساوي الطرفين ولا رجحان لوجوده وعدمه، أباحه وأجاز فعله وتركه بلا ترجيح، وأطلق عليه اسم (المباح) كشرب الماء.

فهذه خمسة أحكام تشمل كل فعل وقول، وحركة وسكون، وتتضمن جميع ما يحتاجه الإنسان.

مضافاً إلى كل ذلك قامت الشريعة الإسلامية وبحكمة بالغة بمعالجة العديد من الأمور بكليّات قابلة للانطباق على جزئيات حادثة إلى يوم القيامة، وبعمومات صالحة للتطابق مع صغريات مستجدة حتى قيام الساعة، وذلك ببيان واضح، وصياغة سهلة، وعبارة جامعة وشاملة، تتماشى مع جميع العصور

ص: 340

والأزمنة، مما جعل أغلب القوانين الوضعية تستقي أسسها - بصورة غير مستقيمة وبشكل محرف ومشوه - من الشريعة الإسلامية وقوانينها، كقانون (لاضرر)، وقانون (لاحرج)، وقانون (الإلزام)، وقانون (التجاوز)، وقانون (أصالة الصحة)، وقانون (أصالة الحل)، وغيرها من العمومات والإطلاقات.

الشريعة لا تقبل التبعيض

نعم، إن ما جاءت به الشريعة الإسلامية، مجموعة متكاملة ومترابطة، موافقة للفطرة الإنسانية، ومتطابقة مع العقل والمنطق السليم، ذات مناهج عادلة، ومبادئ سهلة وواضحة، وهي لا تقبل التجزء والتبعيض، لكن البعض صار يؤمن ببعضها ويكفر ببعض. فبعضها تمسك بها المسلمون في يومنا هذا، والبعض الآخر قد أهملوها عمداً أو جهلاً، فآل الأمر إلى تراجع الأمة الإسلامية وتأخر العالم الإسلامي نتيجة هذا التبعيض في أغلب الميادين الحيوية التي يحتاجها المسلمون للوصول إلى أهدافهم المنشودة.

ما تركه المسلمون

ومن هذه المناهج العادلة والمبادئ الواضحة التي لم تجد مجالاً للتطبيق في واقع المسلمين اليوم، ولا ترى لها أثراً إلّا على الورق، هي مبدأ الاستشارة والشورى، والمساواة والعدالة، ومنهج الأخوة الإيمانية، والأمة الإسلامية الواحدة، وقانون إطلاق الحرّيات المشروعة غير المحرمة...

وبتركها حدث صدع كبير وشرخ عظيم في صرح الإسلام والمسلمين، مما أدى إلى انعدام الترابط، وانفصام التماسك، بحيث لم يبق حجر على حجر، كالسبحة التي انقطع خيطها وتفرقت حباتها، فكذلك الشريعة الإسلامية المتكاملة والمترابطة إذا ترك جزء منها فقد انقطعت حلقة من حلقات سلسلتها وتمزقت السلسلة بأجمعها وتفرقت رغم أنها كانت وتكون متكاملة، كما في

ص: 341

الأحاديث الشريفة.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، إن اللّه تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنزل إليه الكتاب بالحق وأنتم أُميّون عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن أرسله، على حين فترة من الرسل وطول هجعة(1) من الأمم، وانبساط من الجهل واعتراض من الفتنة، وانتقاض من المبرم وعمًى عن الحق، واعتساف(2) من الجور، وامتحاق من الدين، وتلظ(3) من الحروب، على حين اصفرار من رياض جنات الدنيا، ويبس من أغصانها، وانتثار من ورقها، ويأس من ثمرها، واغورار(4) من مائها، قد درست أعلام الهدى، فظهرت أعلام الردى، فالدنيا متهجمةٌ في وجوه أهلها مكفهرةٌ(5) مدبرةٌ غير مقبلة، ثمرتها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف، مزقتم كل ممزق، وقد أعمت عيون أهلها، وأظلمت عليها أيامها، قد قطعوا أرحامهم وسفكوا دماءهم، ودفنوا في التراب الموءودة بينهم من أولادهم، يجتاز دونهم طيب العيش ورفاهية خفوض(6) الدنيا، لا يرجون من اللّه ثواباً ولا يخافون واللّه منه عقاباً، حيهم أعمى نجسٌ وميتهم في النار مبلسٌ(7)، فجاءهم بنسخة ما في الصحف الأولى وتصديق الذي بين يديه وتفصيل الحلال من ريب الحرام، ذلك القرآن

ص: 342


1- الهَجْعة: نومة خفيفة من أول الليل وهي هنا بمعنى الغفلة والجهالة.
2- الاعتساف: الأخذ على غير الطريق.
3- التلظى: اشتعال النار واللّهب الخاص، وقوله(عليه السلام): «على حين اصفرار - إلى قوله - أيامها» استعارات وتشريحات لبيان خلو الدنيا حينئذٍ عن آثار العلم والهداية وما يوجب السعادة الأخروية.
4- اغورار الماء: ذهابه في باطن الأرض.
5- المُكْفهر من الوجوه: الوجه غير المنبسط والمعتبس.
6- الخفوض: جمع الخفض وهو الدعة والراحة والسكون.
7- الإبلاس: الغم والإنكسار والحزن والأياس من رحمة اللّه تعالى.

فاستنطقوه، ولن ينطق لكم، أُخبركم عنه: إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلىيوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلَّمتكم»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وجعل لكل شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى الحد حداً»(2).

وقال(عليه السلام): «إذا حدثتكم بشي ء فاسألوني من كتاب اللّه» ثم قال في بعض حديثه: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال» فقيل له: يا ابن رسول اللّه، أين هذا من كتاب اللّه؟ قال: «إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ}(3) وقال: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا}(4) وقال: {لَا تَسَْٔلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}»(5)(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شي ء، حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد؛ حتى لايستطيع عبدٌ يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلّا وقد أنزله اللّه فيه»(7).

ص: 343


1- الكافي 1: 60.
2- الكافي 7: 176.
3- سورة النساء، الآية: 114.
4- سورة النساء، الآية: 5.
5- سورة المائدة، الآية: 101.
6- الكافي 1: 60.
7- الكافي 1: 59.

التوعد للمبعّضين

وقد توعد اللّه تعالى المبعضين، وهدد المجزئين الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، توعدهم بالخزي في الحياة الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، فقال سبحانه وتعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}(2).

وقال جلّ وعلا: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ}(3).

وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ}(4).

من هنا وحفاظاً على التكامل والشمولية يلزم الأخذ بالشريعة بأكملها والإيمان بالمجموع لا ببعض دون بعض.

ضمان لتطبيق الشريعة

اشارة

الشريعة الإسلامية تمتاز بأمور عديدة، أشرنا إلى بعضها، ومن تلك الأمور عدالة قانون الحدود والتعزيرات، وبتعبير آخر: إن قوانين الجزاء الشرعية

ص: 344


1- سورة البقرة، الآية: 85.
2- سورة النساء، الآية: 150-151.
3- سورة محمد، الآية: 26-28.
4- سورة الرعد، الآية: 36.

والعقوبات الإسلامية هي التي تنطبق تماماً مع الفطرة السليمة ولا تتضمن إجحافاً وظلماً، ولا إفراطاً ولا تفريطاً، ولأجل أن نقف على ضرورة وجود قوانينالعقوبات لابدّ أن نقول:

لقد ثبت في علم النفس والاجتماع، أن كل قانون يوضع للتطبيق والإجراء، لابد في تنفيذه وتطبيقه في المجتمع أن يكون له ضامن إجراء وتنفيذ، والضامن هو وضع مشجعات ومشوقات ومرغبات لمن يقوم بتنفيذ القانون وتطبيقه ويحترم القانون في حياته، هذا من جهة، ومن جهة ثانية: وضع محذرات وعقوبات لمن يتعدى على القانون وينتهكه ولا يحترم القانون في حياته، وكلما كانت المشجعات أعظم والمحذرات أشد، جاء التطبيق أقوى والتنفيذ أعلى نسبةً وأرقى درجة.

والشريعة الإسلامية التي جاءت بأتم وأكمل شريعة تضمن سعادة البشر، قامت - من أجل سوق المسلمين وغيرهم نحو الخير والسعادة، وتطبيق ما جاءت به من قوانين عادلة وأحكام متينة وأمينة، ولضمان عدم التعدي من أحد عليها بخرقها وهتكها - بوضع مشوقات ومشجعات عظيمة: من ثواب وأجر، وجنة ونعيم، وبوضع محذرات وعقوبات شديدة، تلائم المشوقات والمشجعات من شدة وعظمة، من تعزير وحدّ في الدنيا، ونار وعذاب في الآخرة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، إن اللّه تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلّا بأن يعرّفهم ما لهم وما عليهم، والتعريف لا يكون إلّا بالأمر والنهي، والأمر والنهي لا يجتمعان إلّا بالوعد والوعيد، والوعد لايكون إلّا بالترغيب، والوعيد لا يكون إلّا بالترهيب، والترغيب لايكون إلّا بما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم، والترهيب لا يكون إلّا بضد ذلك، ثم خلقهم في داره وأراهم طرفاً من اللذات؛ ليستدلوا به

ص: 345

على ما وراءهم من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم، ألا وهي الجنة. وأراهم طرفاً من الآلام؛ ليستدلوا به على ما وراءهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبهالذة، ألا وهي النار. فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنها، وسرورها ممزوجاً بكدرها وهمومها»(1).

الشريعة الإسلامية وقانون العقوبات

بعد أن اتضح ضرورة قانون العقوبات، وأنه لابدّ لكل قانون من ضمان يضمن تطبيقه وتنفيذه، وكلما كان ذلك الضمان - الذي هو عبارة عن مشوقات ومحذرات - أعظم وأشد، جاء التطبيق أقوى والتنفيذ أرقى، ظهر لنا بوضوح حكمة الشريعة الإسلامية في ما جاءت به من قوانين الجزاء والعقوبات، وتبين لنا مدى عدلها وتوازنها في ذلك، ومن تلك القوانين الجزائية هي قانون الحدود الإسلامية، علماً بأن الحدود والتعزيرات لا تكون إلّا في بعض المحرمات الشرعية، والمحرمات قليلة بالنسبة إلى المباحات والحريات التي منحها اللّه للبشر.

ثم إنه قد ذكرنا في بعض كتبنا أن الحدود في الإسلام تمتاز بقوة الطرح أكثر من قوة التطبيق، لأنها في مرحلة التطبيق مشروطة بشروط كثيرة جداً قلّ ما تجتمع. والكلام هنا لبيان الحدّ بشكل عام؛ إذ أنه سنّة إلهية مقدّرة عقوبةً لبعض المحرمات التي نهى عنها اللّه تعالى، أو ترك بعض الواجبات التي أمر بها اللّه سبحانه.

ومثال فعل الترك، أي المنهي عنه هو: شرب الخمر، والسرقة، والزنا.

ومثال ترك الفعل، أي المأمور به هو: ترك الصلاة.

ص: 346


1- الإحتجاج 1: 207.

والعقوبة المقدّرة لهذه الأفعال تسمى: (حدّاً) كحد الزنا، وحد شارب الخمر، وحد السرقة، وربما كانت تعزيراً، كما بالنسبة إلى تارك الصلاة.

ولا شك في أنّ اللّه تعالى وضع هذه الحدود والتعزيرات لحكمة دقيقة، كما أشرنا إلى جانب منها، وكما سبق ذلك في المروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، وفي رواية قال الإمام الباقر(عليه السلام) عندما سُئل من قبل أحد أصحابه، عن رجل أقيم عليه الحد في الدنيا: أيعاقب في الآخرة؟

قال(عليه السلام): «اللّه أكرم من ذلك»(1).

ووردت روايات عديدة تحثّ على إقامة الحدّ وإنه خير من مطر أربعين صباحاً، حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ساعةٌ من إمامٍ عدلٍ أفضل من عبادة سبعين سنةً، وحد يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً»(2).

وعن عمرو بن قيسٍ قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا عمرو بن قيسٍ، أشعرت أن اللّه عزّ وجلّ أرسل رسولاً وأنزل عليه كتاباً، وأنزل في الكتاب كل ما يحتاج إليه، وجعل له دليلاً يدل عليه، وجعل لكل شي ء حداً، ولمن جاوز الحد حداً؟».

قال: قلت: أرسل رسولاً وأنزل عليه كتاباً، وأنزل في الكتاب كل ما يحتاج إليه، وجعل عليه دليلاً، وجعل لكل شي ءٍ حداً؟

قال: «نعم». قلت: وكيف جعل لمن جاوز الحد حداً؟

قال: قال: «إن اللّه عزّ وجلّ حد في الأموال أن لا تؤخذ إلّا من حلها، فمن أخذها من غير حلها قطعت يده حداً لمجاوزة الحد، وإن اللّه عزّ وجلّ حد أن لا ينكح النكاح إلّا من حله، ومن فعل غير ذلك إن كان عزباً حد، وإن كان محصناً

ص: 347


1- الكافي 7: 265.
2- الكافي 7: 175.

رجم لمجاوزته الحد»(1).وعن أبي إبراهيم(عليه السلام)(2) في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}(3) قال: «ليس يحييها بالقطر؛ ولكن يبعث اللّه رجالاً فيحيون العدل، فتحيا الأرض لإحياء العدل، ولَإقامةُ الحد لله أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً»(4).

من شروط قانون العقوبات

ثم إن قانون العقوبات في الإسلام يمتاز بحالة الردع أكثر من التطبيق الخارجي، فإن كل حد من الحدود المقررة في الشريعة الإسلامية من قوانين الجزاء والعقوبات، له شروط كثيرة وكثيرة جداً، حتى قيل: إنها شروط تعجيزية، وأنها مشمولة لقاعدة: (كلما كثر قيوده قلّ وجوده)، فالشريعة الإسلامية رغم عدالة قوانين جزائها، وحكمة العقوبات والحدود الشرعية فيها، جعلت لإثبات الجريمة التي أوجبت الحد عليها شروطاً شبه تعجيزية، بحيث لا تتحقق تلك الشروط إلّا نادراً وقليلاً جداً، مما يجعل إجراء الحد شبه المعدوم، والتاريخ الإسلامي خير شاهد على ذلك، حيث لم يذكر في صفحاته المشرقة ولمئات السنين إجراء حد إلّا نادراً، هذا بالإضافة إلى أن الشريعة الإسلامية تعالج المفاسد من جذورها.

حدّ الارتداد

ومن تلك الحدود التي قلنا إنها في التحقق والوقوع تكون كنسبة المعدوم هو

ص: 348


1- الكافي 7: 175.
2- أبو ابراهيم وأبو الحسن الأول وأبو الحسن الماضي وأبو علي هي من كنى الإمام الكاظم(عليه السلام)، وكذلك يعرف بالعبد الصالح والنفس الزكية وزين المجتهدين والوفي والصابر والأمين والزاهر... انظر: مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 323.
3- سورة الروم، الآية: 19.
4- الكافي 7: 174.

حدّ الارتداد، فلم ير في التاريخ إجراء هذا الحد إلّا الأندر من النادر، فالحدود بلحاظ شروطها أشبه شيء بالتخويف من التطبيق.

ولبيان ذلك نشير إلى عدة أمور:

أولاً: بيان حدّ الإرتداد.

ثانياً: شروط إقامة الحد، وإمكان إجرائه تحت وطأة القوانين الوضعية.

ثالثاً: النسبة بين الحدّ الشرعي وأصالة حرية الإنسان.

الأمر الأول: حدّ الارتداد هو القتل في الجملة، وذلك بعد استتابته وعدم توبته بل عناده على الباطل، بشرط عدم وجود شُبهة وفتنة وما أشبه من الشروط الكثيرة المذكورة في الفقه، علماً بأن الحد هو عقوبة دنيوية، يلاقيها مرتكب الجريمة لو ثبتت جريمته ثبوتاً شرعياً في الدنيا، وأما في الآخرة فله حسابه وجزاؤه الخاص عند اللّه سبحانه، وجزاء المرتد في الآخرة قد أشار إليه القرآن الحكيم حيث قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(1).

وكيف كان: فالارتداد موضوع فقهي، يدخل في باب الحدود والتعزيرات، والآية الكريمة المتقدمة هي من النصوص القرآنية الواردة في بيان الموضوع والحكم الشرعي والعقاب الأخروي للارتداد، بالإضافة إلى العديد من الروايات.

ومن الملاحظ في روايات الارتداد ونصوصها أنها تطرح الحد بقوة - كما في سائر المعاصي التي توجب الحد - بحيث تمنع الإنسان وتردعه عن مخالفة القانون وعصيان اللّه عزّ وجلّ، حفظاً لنفسه وصوناً للمجتمع عن الانحراف، ومن الواضح أن الانحراف العقائدي هو أهم الانحرافات بحيث يترتب عليها سائر المفاسد، فإن

ص: 349


1- سورة البقرة، الآية: 217.

الانحراف الجوانحي يتبعه الانحراف الجوارحي. والطرح بقوة لا يعني التطبيق بقوة، وذلك من خلال الشروط التي جعلها الشارع في تطبيق الحدود.

مضافاً إلى أن العقيدة الإسلامية هي المطابقة للفطرة السليمة، وباب الحوار والاحتجاج مفتوح بمصارعيه في الإسلام، فلا يبقى هناك سبب للارتداد بعد تطبيق قوانين الإسلام العادلة وانسجامها أصولاً وفروعاً مع فطرة الإنسان ومتطلباته.

فإذا أراد معاند أن يخالف الحق مع معرفته بالحق، ويرتد عن الإسلام بعد اعتناقه، وإذعانه بصحته فإنه لا يُقبل منه، بل جاءت الروايات لتردع بشدة عن تلك الحالات المرضية والمعدية.

روي عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من بدّل دينه فاقتلوه»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل اللّه على محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد إسلامه، فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت منه امرأته، ويُقسّم ما ترك على ولده»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المرتد تعزل عنه امرأته، ولا تُؤكل ذبيحته، ويُستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلّا قُتل يوم الرابع»(3).

أقسام المرتد

المرتد على قسمين، فطري وملّي.

1: فإذا كان الإنسان قد تولد من أبوين مسلمين أو كان أحدهما مسلماً ثم ارتد فهذا مرتد فطري.

ص: 350


1- عوالي اللئالي 2: 239.
2- الكافي 7: 256.
3- الكافي 7: 258.

2: وإن كان الإنسان كافراً ثم أسلم ثم ارتدّ فهو مرتد ملي.

والظاهر أن التوبة مقبولة من المرتد مطلقاً، سواء كان فطرياً أو ملّياً.

متى تجرى الحدود؟

ثم إن الحد لا يجُرى إلّا بعد تطبيق قوانين الإسلام بأجمعها من القوانين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها.

قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا}(1).

أما أخذ بعض القوانين وترك الآخر فإنه لا يجوز، ولا تجرى الحدود عندئذ. وقد فصلنا الكلام في موضوع الارتداد وحكمه في (الفقه: كتاب الحدود والتعزيرات)(2).

وعليه: فإن ما ذكر من حكم المرتد وأنه القتل، سواء كان مرتداً فطرياً أو مرتداً ملّياً، هو أشبه بالتهديد من التطبيق، لعدم وجود مصداق له عادة بعد تطبيق القوانين الإسلامية والتي تضمن للإنسان سعادته في الدنيا قبل الآخرة، وتلبي جميع حاجاته الجسدية والروحية، وبعد وضوح العقائد الإسلامية الحقة التي تنسجم مع الفطرة السليمة، وفي ما إذا لم يكن ارتداده عن شبهة، وإنما كان عن علم وعمد، وتعصب وعناد، وإرادة واختيار.

فالحد يكون قوياً بعد عدم توبته، بقتله وتبيّن زوجته المسلمة(3)، وأنها تعتد عدة الوفاة، وتقسّم أمواله بين ورثته، ولا يرثهم هو إذا كانوا مسلمين.

أما في مثل زماننا هذا، حيث لا تطبيق لسائر قوانين الإسلام في مختلف

ص: 351


1- سورة الأعراف، الآية: 56.
2- راجع الفقه للامام الشيرازي(رحمه اللّه) 88: 265.
3- بانت: أي انفصلت وفارقت بطلاق أو ردّة.

مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وحيث كثرت الشبهات والفتن، فلا تُجرى الحدود، وذلك على التفصيل المذكور في الفقه.

الحد رحمة شرعية

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم وهو يخاطب رسوله الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(1) يعني: ليس الهدف من إرسالك يا رسول اللّه، بالرسالة الإسلامية بجميع قوانينها إلّا لتعم رحمتك الناس وتشمل العالمين جميعاً، فالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - بحسب هذه الآية الكريمة وآيات أخرى والروايات الشريفة - بُعث بالشريعة السهلة السمحاء رحمةً للعالمين، وهكذا يكون كل ما جاء به من قوانين، فهي رحمة للبشر، ومن ضمن تلك الرحمة: مسألة العقوبات؛ إذ إن العقوبة هي الجزاء المقرّر عند عصيان أمر الشارع، وعند مخالفة القانون، ومن المعلوم أن عصيان أمر الشارع ومخالفة القانون الصحيح، هو نقمة على الناس وشقاء للعالمين، ومن أجل الحفاظ على مصلحة المجتمع وعدم وقوعهم في نقمة العصيان وشقائه، جعل اللّه الحد صارماً وشديداً حتى يستأصل مادة النقمة والشقاء من بين الناس، ويجتثها من جذورها، كما يستأصل الطبيب الجراح الغدة السرطانية، أو يقطع العضو الفاسد من جسد المريض ليستعيد سلامته وعافيته وترجع إليه الرحمة والسعادة، فكما يعد عمل الطبيب وإجراء عمليته الجراحية رحمة للمريض، فكذلك حكم الشارع على المرتد وغيره ممن جعل عليه الحد، رحمة للناس أيضاً، فاستئصال مادة النقمة والشقاء من بين الناس: ضمان صلاح حالهم، وصون حياتهم من المفاسد، وكفّهم عن المعاصي، وبعثهم على الطاعة.

ص: 352


1- سورة الأنبياء، الآية: 107.

إذن، جاء الحد الشرعي لضمان صلاح حال المجتمع، وصيانة مصالحه، وحفظ سلامته وسعادته، مما يجعل فائدة الحد يرجع على المجتمع بل على الإنسان نفسه حيث يردعه عن العصيان، لأن اللّه تعالى لا تضرّه المعصية ولو عصاه أهل الأرض جميعاً، ولا تنفعه الطاعة ولو أطاعه أهل الأرض جميعاً. وإنما جاء النهي عن المعاصي، والأمر بالطاعات، والحد على المتمرد والعاصي لأجل تنظيم حياة الناس والمجتمع، ورفع الفوضى والشقاء من بينهم، وبذلك تكون العقوبات - بما فيها الحد - قد شُرّعت لأجل مصلحة الناس عامة، ولضمان نظام الجماعة كافة، وهذا هو عين الرحمة التي بعث اللّه من أجل تحققها رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... ومن الواضح أن الحدود مفردات من مفردات الرحمة ولا يصح أن ينظر إليها الإنسان ويأخذ بتطبيقها مع ترك سائر المفردات من القوانين الإسلامية.

شروط إقامة الحد وإجرائه

الأمر الثاني: شروط إقامة الحد وهي كثيرة جداً، بحيث لا تجتمع عادةً في الظروف الحالية والأزمنة الفعلية وتحت وطأة القوانين الوضعية، فلا تجرى هذه الحدود في زماننا هذا.

أما ما نرى في بعض الدول التي تدعي الإسلام وهي تجري الحدود من دون إقامة بقية قوانين الشريعة الإسلامية وأحكامها الراقية وحرياتها المشروعة في سائر مجالات الحياة: من صناعة وزراعة، وسفر وحضر، وحقوق واجتماع، وسياسة واقتصاد، وما إلى ذلك، فهي تعد جريمة لاتُغفر، لأنها مضافاً إلى ما فيها من تشويه الصورة السمحة للإسلام هو تبعيض في الدين ومشمول لقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا

ص: 353

خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ}(1).

وعليه: فالشرط الأساسي والرئيسي لإقامة الحد الشرعي المقرر في الشريعة الإسلامية هو: أن يكون تطبيقه ضمن تطبيق المجموعة المتكاملة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية من أحكام في كل مجالات الحياة، وأن لا تنفرد من بينها في التطبيق.

ومضافاً إلى هذا الشرط الرئيسي، هناك شروط عديدة أخرى يجب تحققها عند إقامة الحدّ الشرعي بصورة عامة، ولدى إجرائه على المرتدّ بصورة خاصة، فإذا لم تتحقق كل تلك الشروط لا يمكن عندها إجراء الحد على المرتد، ومن تلك الشروط ما يلي:

البلوغ، والعقل، والاختيار، وتعني أن لا يكون المرتد صبيّاً أو مجنوناً أو مضطراً، وذلك لوجود أحاديث شريفة ترفع الحد عنهم، كما في قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث الرفع(2)، وهذا ما يقرّه جميع العقلاء وتلتزم به القوانين الوضعية في جملة من قوانينها.

روي: أن مجنونةً فجر بها رجل، وقامت البيّنة عليها، فأمر عمر بجلدها الحد، فمر بها علي أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: «ما بال مجنونة آل فلان تُقتل؟!». فقيل له: إن رجلاً فجر بها فهرب وقامت البينة عليها، وأمر عمر بجلدها!

فقال(عليه السلام) لهم: «ردوها إليه، وقولوا له: أما علمت أن هذه مجنونة آل فلان، وأن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: رُفع القلم عن المجنون حتى يفيق، وأنها مغلوبة على عقلها

ص: 354


1- سورة البقرة، الآية: 85.
2- إشارة إلى قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رفع عن أمتي تسع: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة ولا لسان» تحف العقول: 50.

ونفسها»، فردوها إليه فدرأ عنها الحد(1).

ومن تلك الشروط أيضاً: أن لا يكون الإنسان مُكرَهاً على الارتداد، كما قال اللّه تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالْإِيمَٰنِ}(2) وكما جاء في حديث الرفع عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رُفع عن أمتي... ما استكرهوا عليه»(3).

ومن مصاديق الإكراه، الإكراه الأجوائي على تفصيل ذكرناه في الفقه.

ومن تلك الشروط أيضاً: أن يكون المرتد رجلاً لا امرأة، فإن المرأة إذا ارتدّت من دون شبهة ولم تتب، لا يكون حدها إلّا أن تحبس ويضيّق عليها في المعاش إلى أن تتوب، سواء كانت ردتها عن فطرة أم عن غيرها، وفي ذلك روايات عديدة.

عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «في المرتد يستتاب، فإن تاب وإلّا قُتل، والمرأة إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت فإن تابت ورجعت، وإلّا خلدت في السجن وضيق عليها في حبسها»(4).

ومن تلك الشروط أيضاً: أن لا يكون للإنسان المرتد شبهة بالنسبة إلى الاعتقاد بوحدانية اللّه تعالى، أوالنبوة، أو المعاد... خاصة إذا لم يكن هناك من يستطيع إفهامه وإزاحة الشبهة عن ذهنه، ففي مثل هذا الفرض تُدرأ الحد، للشبهة، كما في قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إدرءوا الحدود بالشبهات»(5).

ومن تلك الشروط أيضاً:

ص: 355


1- وسائل الشيعة 28: 23.
2- سورة النحل، الآية: 106.
3- متشابه القرآن ومختلفه 2: 181 وقريب منه بصيغ أخرى كما مرّ في تحف العقول: 50 والكافي 2: 463.
4- الكافي 7: 256.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 74.

أن لا يكون ذلك الباطل من مذهبه، كما نرى من القول بالتجسيم والتشبيهعند بعض العامة(1)، فإنه لا يجرى عليه الحد الشرعي للحديث الشريف: «ألزموهم بما ألزموا أنفسهم»(2).

ص: 356


1- المجسمة: هم القائلون بأن اللّه جسم - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - وهم طائفتان: القائلون بالتجسيم على وجه الحقيقة، وأنه (تعالى) جسم حقيقة كسائر الأجسام. والقائلون بالتجسيم على وجه التسمية، وأنه جسم لا كالأجسام. واختلف في ارتدادهم ونجاستهم أو طهارتهم. أما المشبهة، فهم الذين يشبهون اللّه تعالى بمخلوقاته، وقرنهم بعض العلماء بالمجسمة.
2- تهذيب الأحكام 9: 322. وذكر الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في كتاب القواعد الفقهية - نورده باختصار- : قاعدة الإلزام: وهي قاعدة مشهورة، دلّ عليها النصّ والإجماع، بل ربما العقل أيضاً: حيث إن مقتضى عدم إلزام الناس بالإسلام يلازم تقريرهم على أحكامهم. وقد ذكرنا في (الفقه) أن الإسلام يخيّر الكافر - ولو غير الكتابي - بين الجزية والإسلام والقتال، وإنه ليس خاصاً بالكتابي، كما دلّت عليه سيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والوصي(عليه السلام)، بل وسيرة المسلمين إلى اليوم. وهذه القاعدة شاملة للمخالفين سواء منهم المنافق وغيره، وللكفّار كتابيّاً أو غير كتابيّ، لما ذُكِر فيها من التعاليل، مثل قوله الإمام الباقر(عليه السلام): «تجوز على أهل كل ذوي دين ما يستحلّون» وسائل الشيعة 26: 158، وقوله الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان يدين بدين قوم لزمته أحكامهم». من لا يحضره الفقيه 3: 407. ولا فرق في الكافر بين من له قانون ومن له دين سماويّ بزعمه، إذ القانون أيضاً دين، أترى قوله سبحانه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} سورة الكافرون، الآية: 6. كما أنه لو كان لجماعة دين وقانون فإنه يؤخذ بالأغلب عندهم، مثلاً: في الغرب حاليّاً القانون هو الأغلب، بل هو أيضاً دينهم السماوي لما رووه من قول المسيح(عليه السلام): (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ولذا نلزمهم بقانونهم. ولا فرق في الإلزام بين نفعهم وضررهم، للإطلاق، ولذا حكم الفقهاء للمجوسي بإرثين، مع أنه في نفعه لا في ضرره. وممّا تقدّم يعلم عدم الفرق بين أقسام الكفّار والمخالفين معنا، أو مع بعضهم المتّفق، أو مع بعضهم المختلف، مثلاً: الحنفي والحنبلي أو اليهودي والنصراني، فإذا تحاكموا إلينا اخترنا ما نرى من هذا المذهب أو ذلك المذهب، أو هذا الدين وذلك الدين. نعم، بين المسلم مطلقاً والكافر مطلقاً يُقدّم المسلم، كما أن بين المؤالف والمخالف يقدّم المؤالف، الأول لعلوّ الإسلام، والثاني لأن الحق معنا. وعلى هذا يصح الإلزام في البيع والشراء والشركة والشفعة - إذا كان يرى الشفعة ولا نراها فنأخذه بالشفعة - والمضاربة والمزارعة والمساقاة والوصيّة والرهن والوقف والهبة وإحياء الموات والحيازة وغيرها. وليس الإلزام عزيمة علينا - مطلقاً - بل رخصة فإذا رأى أنّ الحيازة لا تكون إلّا برخصة الدولة لا يلزمنا ذلك، بل لنا الحيازة. ثمّ إنّ هناك بعض ما يقطع بأنه من قانون الإلزام، وبعض ما يقطع بأنه ليس منه، وبعض ما يشك فيه، فاللازم الرجوع إلى القواعد المرتبطة بموضع الشكّ. مثلاً: لاشك في جريان القاعدة في النكاح والطلاق والإرث وما أشبه ممّا تقدّم ذكره، لكن من المقطوع به - ولو لضرورة أو إجماع أو ارتكاز أو سيرة - أنه لا يجوز لنا شرب الحرام وأكله، وكذا النجس ممّا يعتقدون طهارته وحلّيته، ولا يجوز لنا الزنا بنسائهم واللّواط بغلمانهم، وإن أباحوا ذلك، حسب ما في كتبهم المقدّسة، من زنا لوط(عليه السلام) ببنتيه، وسليمان(عليه السلام) بزوجة أوريا، والعياذ باللّه. والأخير جائز في قانونهم، وحيث لم يصرّح بالحرمة في دينهم يرونه حلالاً يتعاطونه. ومن المقطوع به في قانون الإلزام لو لم يأت بطواف النساء، - رجلاً كان أو امرأة - فإنه لا يحرم على الزوج الآخر. انظر القواعد الفقهية: 45.

ومن تلك الشروط أيضاً: أن لا يكون المرتد في مكان لا يمكن إقامة الحدّ عليه فيه، كأن يكون في أرض العدو مثلاً، أو في بلاد بعيدة عن بلاد الإسلام، أو في مكان يوجب الحد تشويهاً لسمعة الإسلام.

ومن تلك الشروط أيضاً: أن لا يكون الارتداد لتقية من الكفار، وقد ورد جواز التقية في القرآن الحكيم حيث قال تعالى: {إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَىٰةً}(1).

وكما وردت أيضاً أحاديث على جواز التقية، منها: ما جاء عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إنما جُعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية»(2)، وقال(عليه السلام): «التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «اتقوا على دينكم فاحجبوه بالتقية، فإنه لا

ص: 357


1- سورة آل عمران، الآية: 28.
2- الكافي 2: 220.
3- الكافي 2: 220.

إيمان لمن لا تقية له، إنما أنتم في الناس كالنحل في الطير، لو أن الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلّا أكلته، ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم أنكم تحبّونّا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم(1) في السر والعلانية، رحم اللّه عبداً منكم كان على ولايتنا»(2).

وقال(عليه السلام): «اتقوا اللّه وصونوا دينكم بالورع وقوّوه بالتقية...»(3).

ومن تلك الشروط أيضاً: أن تكون الحكومة الإسلامية قائمة، والأحكام الشرعية والحريات الدينية والاجتماعية كلها - وفي كل مجالات الحياة - مطبقة وجارية، وأن يكون هناك حاكم للشرع ليجري الحدود الشرعية عامة، وحد المرتد خاصة، وأن لا يحدث خلاف بين الفقهاء بالنسبة إلى إجراء الحد الشرعي، على المرتد ولو حدث اختلاف في ذلك، وجب تحكيم رأي الأكثرية فيه أي شورى الفقهاء المراجع.

ومن تلك الشروط - أيضاً - : عدم وجود شبهة مضلة، وذلك بأن يؤخذ بنظر الاعتبار قبل الحكم بارتداد المسلم، أن لا يكون ارتداده من جرّاء التأثّر بشبهة مضلة، أو بغزو فكري منحرف ومعادٍ يدخل البلاد الإسلامية على نطاق واسع، وإعلام مغرض مكثف وكبير، من قبيل الأفكار الإلحادية التي تروّج لنشرها الماركسية، وتلقى رواجاً في بعض البلاد الإسلامية بسبب الانخداع بشعاراتها البرّاقة التي يطلقها إعلامهم الموجّه بشكل مكثّف، فلو ارتد هؤلاء المنخدعون عن الإسلام، فإنه لا يحكم بارتدادهم، ولا يقام عليهم الحد الشرعي للارتداد، وإنما يجب إرشادهم إلى الصواب، وإزالة الشبهة عن أذهانهم حتى يرجعوا

ص: 358


1- نَحَلَه القول: أضاف اليه قولاً قاله غيره وادعاه عليه، نحل زيداً: سابّه.
2- الكافي 2: 218.
3- الكافي 5: 105.

ويتوبوا وتقبل توبتهم.

كما حصل في الوقائع والأحداث التي حدثت في زمن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث لم يقم الحد على المنخدعين الخارجين عليه بعد أن ظفر بهم، كما في معركة الجمل، وبعد أن تابوا ورجعوا، كما في حرب النهروان.

محارب المعصوم(عليه السلام)

قال الشيخ الطوسي(رحمه اللّه) في (تلخيص الشافي): عندنا - الإمامية - أن من حارب أمير المؤمنين(عليه السلام) وضرب وجهه ووجه أصحابه بالسيف كافر، والدليل المعتمد في ذلك إجماع الفرقة المحقّة الإمامية على ذلك... وأيضاً فنحن نعلم: أنّ من حاربه كان منكراً لإمامته ودافعاً لها، ودفع الإمامة كفر كما أن دفع النبوة كفر؛ لأن الجهل بهما على حد واحد، وقد روي عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» وميتة الجاهلية لا تكون إلّا على كفر. وأيضاً روي عنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «حربك يا علي حربي، وسلمك يا علي سلمي» ومعلوم: أنه إنما أراد أحكام حربك تماثل أحكام حربي، ولم يرد أن أحد الحربين هي الأخرى، لأن المعلوم ضرورة خلاف ذلك، فإن كان حرب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كفراً وجب مثل ذلك في حرب أمير المؤمنين(عليه السلام) لأنه جعله مثل حربه. ويدل على ذلك أيضاً قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه» ونحن نعلم: أنه لا يجب عداوة أحد بالإطلاق إلّا عداوة الكفار...(1).

مع المرتدين من أصحاب الجمل

إذاً من حارب علياً(عليه السلام) فقد كفر وارتد؛ لأنه كمن حارب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولكن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حين ما استقرّ له الأمر في معركة الجمل، ووضعت

ص: 359


1- بحار الأنوار 32: 330.

الحرب أوزارها، لم يتبع مدبراً، ولم يجهز على جريح، ولم يسب أحداً، وترك أموالهم، وعفى عن المرتدين.

وهذا يبين لنا الحكم في إجراء حد الارتداد والكفر وشروطه.

فمن كلام له(عليه السلام) بالبصرة بعد حمد اللّه تعالى والثناء عليه قال:

«أما بعد: فإن اللّه ذو رحمة واسعة، ومغفرة دائمة، وعفوٍ جم، وعقاب أليم، قضى أن رحمته ومغفرته وعفوه لأهل طاعته من خلقه، وبرحمته اهتدى المهتدون، وقضى أن نقمته وسطواته وعقابه على أهل معصيته من خلقه، وبعد الهدى والبيّنات ما ضلّ الضالّون، فما ظنّكم يا أهل البصرة وقد نكثتم بيعتي وظاهرتم علي عدوي؟».

فقام إليه رجل فقال: نظن خيراً ونراك قد ظفرت وقدرت، فإن عاقبت فقد إجترمنا ذلك، وإن عفوت فالعفو أحب إلى اللّه.

فقال(عليه السلام): «قد عفوت عنكم فإيّاكم والفتنة، فإنكم أول الرعية نكث البيعة وشق عصا هذه الأمة»(1).

مع الخوارج المرتدين

أما الخوارج، فكانوا قد مرقوا عن الدين وخرجوا عنه وعاثوا في الأرض فساداً، وخرجوا على إمام زمانهم الحق وصي الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأعلنوا الحرب عليه في معركة النهروان، فواجههم الإمام(عليه السلام) وكانوا اثني عشر ألفاً فأرشدهم إلى الصواب وأوضح لهم الحق، فرجع منهم ثمانية آلاف وتابوا إلى اللّه تعالى، فقبل(عليه السلام) توبتهم، وأصر الباقون على عنادهم وهم أربعة آلاف على الحرب والمقاتلة، وبدؤوا بقتال علي(عليه السلام) ولم يبدأهم

ص: 360


1- الإرشاد 1: 257.

بالقتال، فلما قتلوا بعضاً منأصحابه قاتلهم(عليه السلام) دفاعاً، ولم تضع الحرب أوزارها إلّا على قتلهم وفرار عدد منهم، فلم يعقبهم(عليه السلام) ولم يأمر بتعقبهم، وإنما قال الإمام(عليه السلام): «لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه»(1).

وربما يستفاد من قصة الخوارج أنه لو كان الارتداد والكفر لشبهة لاتجرى الحدود، فإن عدداً من الخوارج كان إنكارهم للحق عن شبهة فلذلك رجعوا عندما وعظهم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).

وهكذا في حرب صفين حيث ارتد الكثيرون، وكان من أسباب ارتدادهم الشبهة التي حصلت في مسألة التحكيم ورفع المصاحف، وهذه الشبهة كان وراءها تيار معادٍ للإسلام العظيم، وللرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام)، وكان سلاحه المكر والخديعة.

ومع كل ذلك الإمام(عليه السلام) لم يقتل أحداً ممن ارتد عليه.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) للخوارج حين رجع إلى الكوفة، بعد حمد اللّه والثناء عليه: «اللّهم إن هذا مقام من فلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة، ومن نَطِفَ(2) فيه أو غلَّ {فَهُوَ فِي الْأخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا}(3) نشدتكم باللّه، أ تعلمون أنهم حين رفعوا المصاحف فقلتم: نجيبهم إلى كتاب اللّه، قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني صحبتهم وعرفتهم أطفالاً ورجالاً فكانوا شرَّ أطفال وشرَّ رجال، امضوا على حقكم وصدقكم، إنما رفع القوم لكم

ص: 361


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 61. وقال الشريف الرضي(رحمه اللّه): المراد من طلب الباطل فأدركه يعني معاوية وأصحابه.
2- نَطِفَ: تلطخ بالعيب واتهم بالريبة.
3- سورة الاسراء، الآية: 72.

هذه المصاحف خديعةً ووهناً ومكيدةً، فرددتم عليَّ رأيي وقلتم: لا بل نقبلمنهم، فقلت لكم: اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إياي، فلما أبيتم إلّا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا على ما أحياه القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في الكتاب، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء».

فقال له بعض الخوارج: فخبِّرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟

فقال(عليه السلام): «إنا لم نحكِّم الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال».

قالوا له: فخبِّرنا عن الأجل لِمَ جعلته فيما بينك وبينهم؟

قال: ليتعلم الجاهل ويتثبت العالم، ولعل اللّه أن يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، ادخلوا مصركم رحمكم اللّه»(1).

وروي: لما عاد أمير المؤمنين(عليه السلام) من صفين إلى الكوفة بعد إقامة الحكمين أقام ينتظر انقضاء المدة التي بينه وبين معاوية ليرجع إلى مقاتلته والمحاربة، إذ انخزلت طائفة من خاصة أصحابه في أربعة آلاف فارس، وهم العباد والنساك، فخرجوا من الكوفة وخالفوا علياً(عليه السلام) وقالوا: لا حكم إلّا لله ولا طاعة لمن عصى اللّه، وانحاز إليهم نيف عن ثمانية آلاف ممن يرى رأيهم، فصاروا اثني عشر ألفاً، وساروا إلى أن نزلوا بحروراء وأمروا عليهم عبد اللّه بن الكواء، فدعا علي(عليه السلام) عبد اللّه بن عباس فأرسله إليهم فحادثهم فلم يرتدعوا...

إلى أن قال:

قالوا: فإنا نقمنا عليك أنك حكَّمت حَكَماً في حق هو لك؟

ص: 362


1- الإرشاد 1: 270.

فقال(عليه السلام): «إن رسول اللّه حَكَّم سعد بن معاذ في بني قريظة، ولو شاء لم يفعل،وأنا اقتديت به، فهل بقي عندكم شي ء؟».

فسكتوا وصاح جماعة منهم من كل ناحية: التوبة التوبة يا أمير المؤمنين، واستأمن إليه ثمانية آلاف، وبقي على حربه أربعة آلاف، فأمر(عليه السلام) المستأمنين بالاعتزال عنهم في ذلك الوقت، وتقدم بأصحابه حتى دنا منهم، وتقدم عبد اللّه بن وهب وذو الثدية حرقوص، وقالا: ما نريد بقتالنا إياك إلّا وجه اللّه والدار الآخرة!!

فقال علي(عليه السلام): {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(1) ثم التحم القتال بين الفريقين واستعر الحرب بلظاها وأسفرت عن زرقة صبحها وحمرة ضحاها فتجادلوا وتجالدوا بألسنة رماحها وحداد ظباها... واختلطوا فلم يكن إلّا ساعة حتى قتلوا بأجمعهم وكانوا أربعة آلاف، فما أفلت منهم إلّا تسعة أنفس... وغنم أصحاب علي(عليه السلام) غنائم كثيرة وقُتل من أصحاب علي(عليه السلام) تسعة بعدد من سلم من الخوارج، وهي من جملة كرامات علي(عليه السلام) فإنه قال: «نقتلهم ولا يُقتل منا عشرة ولا يسلم منهم عشرة».

فلما قُتلوا قال علي(عليه السلام): «التمسوا المخدج، فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي(عليه السلام) بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض. فقال: «أخروهم فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر علي(عليه السلام) وقال: «صدق اللّه وبلَّغ رسوله»(2).

ومن هنا يُعرف الفرق بين هؤلاء الخوارج حيث وصفهم الإمام(عليه السلام) بأنهم ممن طلب الحق فأخطأه، وبين أصحاب معاوية وأتباعه الذين أثاروا هذه الشبهة،

ص: 363


1- سورة الكهف، الآية: 103- 104.
2- بحار الأنوار 33: 394.

حيث اعتبرهم ممن طلب الباطل فأدركه، وهو يعلم بأنه باطل وليس لشبهة.

إلى ما شابه ذلك من الأمور التي ترفع الحكم بالقتل بعد التوبة والرجوع إلى الإسلام.

وروي أن الإمام الرضا(عليه السلام) سمع بعض أصحابه يقول: لعن اللّه من حارب علياً(عليه السلام). فقال(عليه السلام): «قل: إلّا من تاب وأصلح». ثم قال: «ذنب من تخلّف عنه ولم يتب أعظم من ذنب من قاتله ثم تاب!!»(1).

استنتاج

نستنتج من خلال ما تقدم من القضايا والأحداث التي جرت في زمن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أن المسلمين الذين انخدعوا بفعل التيارات التي ابتدعها وافتعلها معاوية ومن يدور في فلكه بعد مقتل عثمان، وكذلك في مسألة التحكيم، وكذلك ما ابتدعه وافتعله طلحة والزبير في معركة الجمل، ومن تعامل الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) معهم بعد عودتهم إلى طريق الحق بقبول التوبة والعفو عنهم، نستنتج من ذلك كله: قبول توبة المرتد الذي انحرف عن جادّة الصواب على أثر الشبهات المثارة، والتيارات المبتدعة الباطلة.

وتحصل مما سبق أنه ليس الحكم دائماً القتل بالنسبة إلى المرتد بل هناك شروط وشروط لابد من توفرها، وما أصعب توفرها.

الحد الشرعي وحرية الإنسان

الأمر الثالث والأخير: مدى تقييد الحد الشرعي لحرية الإنسان المطلقة، فما هي النسبة بين الحدود وأصالة الحرية؟

إن الحريات التي منحتها الشريعة الإسلامية للإنسان، وإن كانت مطلقة

ص: 364


1- وسائل الشيعة 15: 335.

وعامة تشمل كل مجالات الإنسان وجميع مرافق الحياة، إلّا أنها مقيدة بكونها مشروعة ومعقولة، وبأنها لا تضر الناس والمجتمع، فإذا كان هناك مصداق منمصاديق الحرية غير مشروع، أو غير معقول، أو يضر بالناس، أو ما أشبه، فهو غير داخل في الحريات التي منحتها الشريعة الإسلامية للإنسان.

نعم، لقد اهتمت الشريعة الإسلامية اهتماماً بالغاً بمسألة الحريات العامة للإنسان وضمنت له الحريات بما لا مثيل له في أي تشريع وقانون، منها: حرية الرأي والفكر، وحرية العلم والعمل، وحرية السفر والحضر، حرية الاقتصاد والسياسية والاجتماع، وغير ذلك، ومن أجلها بعث اللّه سبحانه الأنبياء والرسل، وقد وصف الرسول الخاتم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك كما في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(1). وقوله عزّ وجلّ في مسألة حرية الفكر والعقيدة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(2).

ثم منحت الشريعة الإسلامية الإنسان الاختيار بعد أن بيّنت له الحق من الباطل، والخير من الشر، والضار من النافع، وأطّرت له الحرية بإطار عدم الإضرار بالآخرين كما أطرته بإطار الشرع والعقل، فلا حرية في المحرمات الشرعية والمنهيات العقلية، ومن بين هذه المحرمات الشرعية والعقلية الارتداد عن الدين الإسلامي: عن دين الفطرة، ودين العقل والمنطق.

وعليه: فالذي يختار الإسلام سواء عن فطرة أو عن غير فطرة من الذين اهتدوا إلى طريق الحق والصواب، لا تسمح له الشريعة ولا العقل بالخروج عن هذا الطريق المستقيم النافع، وهذا ليس كالكافر الأصلي فإن الكافر المتولد بين

ص: 365


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة البقرة، الآية: 256.

أبوين كافرين يشمله قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فيمكنه البقاء على اليهودية أو النصرانية أو غيرها، دون أن يجرى عليه الحد الشرعي في الدنيا، نعم يبقى لهعقاب الآخرة والنار إذا لم يكن قاصراً.

أما الذي دخل الإسلام واختاره ديناً له، لا يجوز له الرجوع عنه من دون شبهة، وإذا رجع عنه معانداً للحق فهو قد خالف العقل، وتجاوز الشرع، وتعدى على الأصول العرفية والعقلائية، وخرج عن إطار الحريّات التي أطلقها الإسلام. ودخل الحدود الممنوعة التي لا يجوز الاقتراب منها، وبذلك يكون قد استحق العقاب والصد عن غيه وتجاوزه، ومعه لا يكون ذلك تقييداً لشيء من الحرية المطلقة التي منحتها الشريعة الإسلامية للإنسان، كما هو واضح.

بين الإسلام وسائر الأنظمة

ثم إن الشريعة الإسلامية تراعي في إجراء الحد الشرعي - على فرض ثبوت الجريمة وتوفر كل شروطها - أنظف السبل وأجمل الطرق الممكنة، كما وتراعى في تطبيقها الأخلاق الإنسانية، والآداب الإسلامية العادلة، فلا تهين أحداً ولا تحقره، ولا تستخدم في حقه ما لايليق به ولا يوافق شأنه كإنسان؛ ولذا فإنها تحرم ممارسة التعذيب في حقه بكافة أشكاله وجميع أقسامه، روحياً وجسدياً، لفظياً وعملياً، وتكتفي بإجراء الحد الشرعي فقط وتنفيذه فحسب، والتاريخ الإسلامي الناصع خير شاهد على ذلك(1).

أما في قوانين الشرق والغرب، فإنها مضافاً إلى قسوة عقوباتها وشدتها، وعدم عقلانيتها وعدم عرفيتها، فهي مصحوبة بجفوة التطبيق وبذاءة التنفيذ، واستخدام مختلف أساليب التعذيب وأنواع التحقير في حق الإنسان الذي يخالف شيئاً من

ص: 366


1- انظر: الكافي 7: 174 كتاب الحدود، ومن لا يحضره الفقيه 4: 23 كتاب الحدود.

قوانينهم الوضعية غير العادلة، فإن الغرب لا يسمح لأفراده مخالفة القوانين الرأسمالية ويعتبرها هدماً لنظامهم، وهكذا الشرق، فإنه لا يسمح لأي واحد منالناس بمخالفة أسس الشيوعية والقوانين الاشتراكية، ويعتبرها هدماً لنظامهم وكيانهم، علماً بأن هذين النظامين يتمسكان بعقيدتين مادّيتين ويبنيان نظامهما على أساس مادي بحت، بينما الإسلام ليس كذلك، فإنه يبني نظامه على أساس متين أمين، يلبى نداء الفطرة والعقل، ويعطي طلبات الروح والجسم، ويشبع البعد المادي والمعنوي للإنسان، فيكون الارتداد عن الإسلام خروجاً على العقل والمنطق، وليس كذلك الخروج على قانون من قوانين الشرق والغرب.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

شمولية الشريعة الإسلامية ودوامها

قال اللّه تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}(2).

وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(3).

ص: 367


1- الكافي 3: 424.
2- سورة الشورى، الآية: 13.
3- سورة الجاثية، الآية: 18.

وقال عزّ وجلّ: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّۧنَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}(1).وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(2).

تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها

قال اللّه تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).

وقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}(5).

حق الحاكمية في الشريعة الإسلامية

قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا ءَاتَىٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ

ص: 368


1- سورة الأحزاب، الآية: 40.
2- سورة آل عمران، الآية: 19.
3- سورة آل عمران، الآية: 85.
4- سورة المائدة، الآية: 3.
5- سورة الأنعام، الآية: 125.
6- سورة المائدة، الآية: 55.
7- سورة المائدة، الآية: 92.

إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1).

الحريات المطلقة في الشريعة الإسلامية

قال اللّه تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِوَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(2).

وقال سبحانه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(5).

الثواب والعقاب ضمان لتطبيق الشريعة

قال اللّه تعالى: {بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَٰطَتْ بِهِ خَطِئَتُهُ فَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}(8).

وقال جلّ وعلا: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ

ص: 369


1- سورة الحشر، الآية: 7.
2- سورة البقرة، الآية: 256.
3- سورة الكهف، الآية: 29.
4- سورة الأعراف، الآية: 157.
5- سورة الإنسان، الآية: 3.
6- سورة البقرة، الآية: 81.
7- سورة البقرة، الآية: 82.
8- سورة آل عمران، الآية: 195.

يَعْمَلُونَ}(1).

وقال تبارك اسمه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(2)

الشريعة الإسلامية وحدة لا تقبل التجزئة والتبعيض

قال اللّه تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(3).

وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

شمولية الشريعة الإسلامية ودوامها

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى اللّه الذي ابتدأ خلقكم وإليه يكون معادكم، وبه نجاح طلبتكم، وإليه منتهى رغبتكم، ونحوه قصد سبيلكم، وإليه مرامي مفزعكم(6)، فإن تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، وبصر عمى

ص: 370


1- سورة النحل، الآية: 97.
2- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
3- سورة البقرة، الآية: 85.
4- سورة النساء، الآية: 150.
5- سورة محمد، الآية: 26.
6- مرمى المَفْزَع: ما يدفع إليه الخوف وهو الملجأ: أي وإليه ملاجئ خوفكم.

أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عَشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم(1)، وضياء سواد ظلمتكم، فاجعلوا طاعة اللّه شِعاراً(2) دون دثاركم، ودخيلاً دون شِعاركم، ولطيفاً بين أضلاعكم، وأميراًفوق أموركم، ومنهلاً لحين ورودكم، وشفيعاً لدَرَك(3) طَلِبَتكم، وجنة ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم، وسكناً لطول وحشتكم، ونفساً لكرب مواطنكم، فإن طاعة اللّه حرز من متالف مكتنفة، ومخاوف متوقعة، وأوار(4) نيران موقدة، فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوّها، واحَلَوْلَت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصعاب بعد إنصابها(5)، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتَحَدَّبت عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها(6)، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها، فاتقوا اللّه الذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته، وامتن عليكم بنعمته، فعبِّدوا أنفسكم لعبادته واخرجوا إليه من حق طاعته.

ثم إن هذا الإسلام دين اللّه الذي اصطفاه لنفسه، واصطنعه على عينه، وأصفاه خيرة خلقه، وأقام دعائمه على محبته، أذل الأديان بعزته، ووضع الملل برفعه، وأهان أعداءه بكرامته، وخذل محاديه بنصره، وهدم أركان الضلالة بركنه، وسقى

ص: 371


1- الجأش: ما يضطرب في القلب عند الفزع أو التهيب أو توقع المكروه.
2- الشِعار: ما يلي البدن من الثياب، والدِثار: ما فوق الشِعار.
3- الدَرَك: اللحاق، والطَلِبَة: المطلوب.
4- الأُوار: حرارة النار ولهيبها.
5- الإنصاب: مصدرٌ بمعنى الإتعاب، وتَحَدَّب عليه: عطف.
6- نضب الماء نضوباً: غار وذهب الماء في الأرض ونضوب النعمة: قلتها أو زوالها، ووبلت السماء: أمطرت مطراً شديداً. وأرَذّت إرذاذاً: مطرت مطراً ضعيفاً في سكون كأنه الغبار المتطاير.

من عطش من حياضه، وأتأق الحياض بمواتحه(1)، ثم جعله لا انفصام لعروته، ولا فك لحلقته، ولا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع لشجرته، ولا انقطاع لمدته، ولا عفاء(2) لشرائعه، ولا جذّ لفروعه، ولا ضنك لطرقه، ولا وعوثةلسهولته، ولا سواد لوضحه(3)، ولا عوج لانتصابه، ولا عصل في عوده، ولا وعث لفجه، ولا انطفاء لمصابيحه، ولا مرارة لحلاوته، فهو دعائم أساخ(4) في الحق أسناخها، وثبت لها آساسها، وينابيع غزرت عيونها، ومصابيح شَبَّت نيرانها، ومنار اقتدى بها سُفّارها، وأعلام قصد بها فجاجها، ومناهل روي بها ورادها، جعل اللّه فيه منتهى رضوانه، وذروة دعائمه وسنام طاعته، فهو عند اللّه وثيق الأركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مضي ء النيران، عزيز السلطان، مشرف المنار، معوذ المثار(5)، فشرفوه واتبعوه وأدوا إليه حقه وضعوه مواضعه.

ثم إن اللّه سبحانه بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق حين دنا من الدنيا الانقطاع وأقبل من الآخرة الاطلاع(6)، وأظلمت بهجتها بعد إشراق، وقامت بأهلها على ساق، وخشن منها مهاد، وأزف(7) منها قياد، في انقطاع من مدتها، واقتراب من

ص: 372


1- تَئِقَ الحوض: امتلأ وأتأقه: ملأه. المواتح - جمع ماتح - : نازع الماء من الحوض.
2- العَفاء: الدروس والاضمحلال، والجَذّ: القطع، والضَنْك: الضيق، والوعوثة: رخاوة في السهل تغوص بها الأقدام عند السير فيعسر المشي فيه.
3- الوَضَح: بياض الصبح، والعَصَل: الاعوجاح يصعب تقويمه، وَعث الطريق: تعسر المشي فيه، والفج: الطريق الواسع بين الجبلين.
4- أساخ: أثبت، والأسْناخ: الأصول.
5- مُعْوِذُ المَثار: من أعوذ بمعنى ألجأ، والمَثار: مصدر ميمي من ثار الغبار إذا هاج أي لو طلب أحد إثارة هذا الدين لألجأه إلى مشقة لقوته ومتانته.
6- الاطّلاع: الإتيان، اطّلع فلان علينا: أي أتانا.
7- أزِف: أي قرب، والمراد من القياد انقيادها للزوال، والأشراط - جمع شَرَط - : أي علامات انقضائها.

أشراطها، وتصرم من أهلها، وانفصام من حلقتها، وانتشار من سببها(1)، وعفاء من أعلامها، وتكشف من عوراتها، وقصر من طولها، جعله اللّه بلاغاً لرسالته، وكرامة لأمته، وربيعاً لأهل زمانه، ورفعة لأعوانه، وشرفاً لأنصاره.

ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقُّده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبياناً لا تهدم أركانه، وشفاءً لا تخشى أسقامه، وعزاً لا تهزم أنصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته(2)، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافيّ الإسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه(3)، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها(4) الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام(5) لا يجوز عنها القاصدون، جعله اللّه رياً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجّ(6) لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن ائتم به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن

ص: 373


1- انتشار الأسباب: تبددها حتى لا تضبط، وعفاء الأعلام: اندراسها.
2- بحبوحة المكان: وسطه، والرياض - جمع روضة - وهي مستنقع الماء في رمل أو عشب، والغُدْران - جمع غدير - : وهو القطعة من الماء يغادرها السيل، والأثافيّ - جمع أثفيّة - : الحجر يوضع عليه القدر، أي عليه قام الإسلام.
3- غِيطان الحق - جمع غاط أو غوط - : وهو المطمئن من الأرض.
4- لا يَغيضها - من غاض الماء - : نقصه.
5- آكام - جمع أكمة - : وهو الموضع يكون أشد ارتفاعاً مما حوله، وهو دون الجبل في غلظ لا يبلغ أن يكون حجراً.
6- المَحَاجّ - جمع محجّة - : وهي الجادة من الطريق.

خاصم به، وفلجاً(1) لمن حاج به، وحاملاً لمن حمله، ومطية لمن أعمله، وآية لمن توسم، وجنة لمن استلأم(2)، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماًلمن قضى»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) أيضاً: «أيها الناس إن اللّه تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنزل إليه الكتاب بالحق وأنتم أميون عن الكتاب ومن أنزله وعن الرسول ومن أرسله» إلى أن قال(عليه السلام):

«فجاءهم بنسخة ما في الصحف الأولى، وتصديق الذي بين يديه، وتفصيل الحلال من ريب الحرام، ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه: إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلَّمتكم»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شي ء، حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد؛ حتى لا يستطيع عبدٌ يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلّا وقد أنزله اللّه فيه»(5).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصلٌ في كتاب اللّه عزّ وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(6).

ص: 374


1- الفَلْج: الظفر والفوز.
2- استلأم: أي لبس اللامة وهي الدرع أو جميع أدوات الحرب، أي إن من جعل القرآن لامة حربه لمدافعة الشُبه كان القرآن وقاية له.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبه على إحاطة علم اللّه بالجزئيات، ثم يحث على التقوى، ويبين فضل الإسلام والقرآن.
4- الكافي 1: 60.
5- الكافي 1: 59.
6- الكافي 1: 60.

الحريات التي منحتها الشريعة الإسلامية

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً...»(1).وقال(عليه السلام): «لا يسترقنّك الطمع وقد جعلك اللّه حراً»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع: أولها الوفاء، والثانية التدبير، والثالثة الحياء، والرابعة حسن الخلق، والخامسة - وهي تجمع هذه الخصال - الحرية»(3).

الشريعة الإسلامية لا تقبل التجزئة والتبعيض

سُئل أمير المؤمنين(عليه السلام): ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً، وما أدنى ما يكون به كافراً، وما أدنى ما يكون به ضالاً؟

قال(عليه السلام): «أدنى ما يكون به مؤمنا أن يعرفه اللّه نفسه فيقر له بالطاعة وأن يعرفه اللّه نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيقر له بالطاعة، وأن يعرفه اللّه حجته في أرضه وشاهده على خلقه، فيعتقد إمامته فيقر له بالطاعة». قيل: وإن جهل غير ذلك؟ قال(عليه السلام): «نعم، ولكن إذا اُمر أطاع، وإذا نُهي انتهى، وأدنى ما يصير به مشركاً أن يتدين بشي ء مما نهى اللّه عنه، فيزعم أن اللّه أمر به ثم ينصبه دينا، ويزعم أنه يعبد الذي أمر به، وهو غير اللّه عزّ وجلّ، وأدنى مايكون به ضالاً أن لا يعرف حجة اللّه في أرضه وشاهده على خلقه فيأتم به»(4).

وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قلت له: أرأيت من جحد إماماً منكم ما حاله؟ فقال(عليه السلام): «من جحد إماماً من الأئمة وبرئ منه ومن دينه، فهو

ص: 375


1- تحف العقول: 77.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 753.
3- الخصال 1: 284.
4- دعائم الإسلام 1: 13.

كافر ومرتد عن الإسلام؛ لأن الإمام من اللّه ودينه دين اللّه...»(1).

وعن سعيد الأعرج قال: دخلت أنا وسليمان بن خالد، على أبي عبد اللّهجعفر بن محمد(عليهما السلام) فابتدأني فقال: «يا سليمان ما جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) يؤخذ به» إلى أن قال: «والراد عليه في صغير أو كبير على حد الشرك باللّه...»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أما واللّه إن أحب أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم بحديثنا، وإن أسوأهم عندي حالاً وأمقتهم إليّ الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا، فلم يعقله ولم يقبله قلبه اشمأز منه وجحده وكفر بمن دان به، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا ينظر اللّه إلى عبده ولا يزكيه، إذا ترك فريضة من فرائض اللّه أو ارتكب كبيرة من الكبائر»، قال: قلت: لا ينظر اللّه إليه! قال: «نعم، قد أشرك باللّه». قلت: أشرك باللّه! قال: «نعم، إن اللّه أمره بأمر وأمره إبليس بأمر، فترك ما أمر اللّه عزّ وجلّ به وصار إلى ما أمر به إبليس، فهذا مع إبليس في الدرك السابع من النار»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «.. وأما الكفر المذكور في كتاب اللّه فخمسة وجوه: منها كفر الجحود، ومنها كفر فقط، والجحود ينقسم على وجهين، ومنها كفر الترك لما أمر اللّه تعالى به، ومنها كفر البراءة، ومنها كفر النعم، فأما كفر الجحود

ص: 376


1- وسائل الشيعة 28: 351.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 205.
3- بصائر الدرجات 1: 537.
4- وسائل الشيعة 1: 36.

فأحد الوجهين منه جحود الوحدانية، وهو قول من يقول: لا رب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور، وهؤلاء صنف من الزنادقة، وصنف من الدهرية الذينيقولون: {مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}(1) وذلك رأي وضعوه لأنفسهم، استحسنوه بغير حجة، فقال اللّه تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(2) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(3) أي: لا يؤمنون بتوحيد اللّه. والوجه الآخر من الجحود هو الجحود مع المعرفة بحقيقته، قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(4) وقال سبحانه: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(5) أي: جحدوه بعد أن عرفوه، وأما الوجه الثالث من الكفر، فهو كفر الترك لما أمر اللّه به، وهو من المعاصي، قال اللّه سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ}(6) فكانوا كفاراً لتركهم ما أمر اللّه تعالى به، فنسبهم إلى الإيمان بإقرارهم بألسنتهم على الظاهر دون الباطن، فلم ينفعهم ذلك لقوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا...}»(7).

ص: 377


1- سورة الجاثية، الآية: 24.
2- سورة الجاثية، الآية: 24.
3- سورة البقرة، الآية: 6.
4- سورة النمل، الآية: 14.
5- سورة البقرة، الآية: 89.
6- سورة البقرة، الآية: 84- 85.
7- بحار الأنوار 69: 100.

أهمية الحد والقصاص في الشريعة

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس: أحيوا القصاص وأحيوا الحق ولا تفرقواوأسلموا وسلّموا تسلموا، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}»(1)(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فرض اللّه الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر، والزكاة تسبيباً للرزق، والصيام ابتلاءً لإخلاص الخلق، والحج تقربةً للدين، والجهاد عزاً للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحةً للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء، وصلة الرحم منماةً للعدد، والقصاص حقناً للدماء، وإقامة الحدود إعظاماً للمحارم، وترك شرب الخمر تحصيناً للعقل، ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة، وترك الزنى تحصيناً للنسب، وترك اللواط تكثيراً للنسل، والشهادات استظهاراً على المجاحدات، وترك الكذب تشريفاً للصدق، والسلام أماناً من المخاوف، والأمانة نظاماً للأمة، والطاعة تعظيماً للإمامة»(3).

وعن الامام الحسن بن علي العسكري(عليهما السلام) - في تفسيره - عن آبائه(عليهم السلام) عن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}(4) يعني المساواة وأن يسلك بالقاتل في طريق المقتول المسلك الذي سلكه به من قتله {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ}(5) تقتل المرأة بالمرأة إذا قتلتها {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فمن عفي له القاتل ورضي هو وولي

ص: 378


1- سورة المجادلة، الآية: 21.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 53.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 252.
4- سورة البقرة، الآية: 178.
5- سورة البقرة، الآية: 178.

المقتول أن يدفع الدية وعفا عنه بها {فَاتِّبَاعُ} من الولي مطالبة {بِالْمَعْرُوفِ} وتقاص {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ} من المعفو له القاتل {بِإِحْسَٰنٖ} لا يضاره ولا يماطله لقضائها {ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} إذ أجاز أن يعفو ولي المقتول عن القاتل على ديةٍ يأخذها فإنهلو لم يكن إلّا العفو أو القتل لقلّما طابت نفس ولي المقتول بالعفو بلا عوضٍ يأخذه فكان قلّما يسلم القاتل من القتل {فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ} من اعتدى بعد العفو عن القتل بما يأخذه من الدية فقتل القاتل بعد عفوه عنه بالدية التي بذلها ورضي هو بها {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1) في الآخرة عند اللّه وفي الدنيا القتل بالقصاص لقتله لمن لا يحل قتله له، قال اللّه عزّ وجلّ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ}(2) لأن من همّ بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكف لذلك عن القتل كان حياةً للذي همّ بقتله، وحياة الجاني قصاص الذي أراد أن يقتل، وحياةً لغيرهما من الناس إذا أعلموا أن القصاص واجب لا يجترون على القتل مخافة القصاص»(3).

ص: 379


1- سورة البقرة، الآية: 178.
2- سورة البقرة، الآية: 179.
3- وسائل الشيعة 29: 54.

التواصي والمواساة طريقا الإصلاح

التواصي وأهميته

قال تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(1).

وقال سبحانه: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ}(2).

وفي اللغة: تواصى القوم: أي أوصى بعضهم بعضاً(3).

وفي البحار(4):

في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} أي: وصي بعضهم بعضاً بالصبر على فرائض اللّه، والصبر عن معصية اللّه.

من أهم طرق الإصلاح هي رعاية قانون التواصي والمواساة، وقد استثنى القرآن الحكيم في سورة العصر من الإنسان الخاسر: المؤمنين الذين يتواصون ويواسون.

والتواصي من باب التفاعل، أي: يوصي كل واحد منهم الآخر في طريق الإصلاح. وإذا كان أفراد المجتمع يراعون قانون التواصي فيما بينهم وفي جميع مجالات الحياة، لأصبح ذلك المجتمع مجتمعاً فاضلاً متقدماً، وهكذا كانتالأمة الإسلامية في عصر تقدمها.

ص: 380


1- سورة العصر، الآية: 3.
2- سورة البلد، الآية: 17
3- لسان العرب 15: 394.
4- بحار الأنوار 7: 171.

وقد ورد في تفسير وتأويل سورة العصر المباركة التي تؤكد على قانون التواصي عدة روايات:

عن المفضل قال: سألت الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ}؟ قال(عليه السلام): «العصر: عصر خروج القائم(عليه السلام)، {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ} يعني: أعداءنا، {إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} يعني: بآياتنا، {وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} يعني: بمواساة الإخوان، {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} يعني: بالإمامة، {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(1) يعني: في الفترة»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}. فقال: «استثنى أهل صفوته من خلقه حيث قال: {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} بولاية علي أمير المؤمنين(عليه السلام) {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} ذرياتهم ومن خلفوا بالولاية, وتواصوا بها وصبروا عليها»(3).

وفي البحار(4) قال(عليه السلام): «{إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)، {وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} أي: أدوا الفرائض، {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} أي: بالولاية، {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} أي: وصوا ذراريهم ومن خلفوا من بعدهم بها وبالصبر عليها».

وعن ابن عباس:

{إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} قيل: إنها

ص: 381


1- سورة العصر، الآية: 1-3.
2- كمال الدين 2: 656.
3- تفسير القمي 2: 441.
4- بحار الأنوار 24: 215.

نزلت في علي(عليه السلام)(1).

وعن علي بن عبد اللّه بن عباس، قال: {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(2) علي بن أبي طالب(عليه السلام)(3).

وورد أنه قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «{وَالْعَصْرِ} ورب عصر القيامة {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ} أعداء آل محمد {إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} بولايتهم {وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} بمواساة إخوانهم {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} في غيبة غائبهم»(4).

وفي سورة البلد قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْمَيْمَنَةِ}(5).

وورد في تفسيره: {وَتَوَاصَوْاْ} أي أوصى بعضهم بعضاً {بِالصَّبْرِ} على طاعة اللّه {بِالْمَرْحَمَةِ} أي بالرحمة على عبادة أو بموجبات رحمة اللّه {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْمَيْمَنَةِ} أي اليمين أو اليمن(6).

وفي تفسير القمي: عن ابن عباس في قوله: {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} على فرائض اللّه عزّ وجلّ {وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ} فيما بينهم ولا يقبل هذا إلّا من مؤمن(7).

وعن ابن عباس قال: جمع اللّه هذه الخصال كلها في علي(عليه السلام) {إِلَّا الَّذِينَءَامَنُواْ} كان واللّه أول المؤمنين إيماناً {وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} وكان أول من صلى

ص: 382


1- كشف الغمة 1: 314.
2- سورة البلد، الآية: 17، سورة العصر، الآية: 3.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 120.
4- إقبال الأعمال 1: 457.
5- سورة البلد، الآية: 17- 18.
6- بحار الأنوار 66: 364.
7- تفسير القمي 2: 423.

وعبد اللّه من أهل الأرض مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} يعني بالقرآن، وتعلم القرآن من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان من أبناء سبع وعشرين سنة {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} يعني وأوصى محمد علياً بالصبر عن الدنيا وأوصاه بحفظ فاطمة وبجمع القرآن بعد موته(1) وبقضاء دَينه وبغسله بعد موته وأن يبني حول قبره حائطاً... وأوصاه بحفظ الحسن والحسين فذلك قوله {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(2).

التواصي عبر الأحزاب الحرة

اشارة

ثم إن التواصي قد يكون فردياً، وقد يكون عبر المؤسسات الاجتماعية والسياسية، ومن أهم مصاديق ومقومات التواصي بالحق والصبر والفضيلة والخير في يومنا هذا، وجود الأحزاب الحرة، وأسلوب التعددية السياسية، ففي ظل ذلك يمكن التواصي بالحق، فالأحزاب المتنافسة تقوم بعملية التواصي في ما بينها وكذلك تقوم بتوصية المسئولين في الحكومة وتمنعهم من الظلم والاستبداد وسرقة ثروات الشعب.

أما في ظل النظام الاستبدادي فلا يمكن التواصي بالخير والفضيلة كما هو واضح.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة: «أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، فإنها خير ما تواصى العباد به وخير عواقب الأمور عند اللّه»(3).

ص: 383


1- أي بجمع تفسير القرآن وتأويله وأسباب نزوله وعلومه، وإلّا فالقرآن جُمع في حياة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبأمر وإشراف مباشر منه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبهذا الشكل الموجود بأيدينا اليوم. للتفصيل راجع كتاب متى جمع القرآن؟ للإمام الشيرازي الراحل(رحمه اللّه).
2- شواهد التنزيل 2: 483.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 173 ومن خطبة له(عليه السلام) في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن هو جدير بأن يكون للخلافة.

تصوير الوقائع التاريخية

اشارة

تشير بعض الآيات الشريفة في القرآن الحكيم إلى الوقائع التاريخية المصيرية في صدر الإسلام، مصورة بالكلمات البليغة عن تلك الأحداث التي جرت أثناء بداية الانتشار الإسلامي برسالته السماوية عبر الجهود المتواصلة التي قام بها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ومن تلك الآيات الشريفة قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ}(1).

والآية في سورة آل عمران، حيث إنها تحمل في طياتها الكثير من الأحداث والوقائع التي جرت بين المسلمين والكافرين، وبين المسلمين أنفسهم. ومن الطبيعي أن هذه الآية وما بعدها تحمل مواضيع شتى ترتبط بالمجتمع الإسلامي المعاصر، ولا يمكن استغراقها خلال هذا البحث المختصر، إلّا أن من أهم النقاط الأساسية التي يمكن الاستفادة منها من خلال هذه الآيات، هو موضوع التواصي والمواساة، وبمعنى أدق: أسلوب الطاعة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وضرورة الالتزام بما أمر به، وميزان الأخوة الإسلامية والتعاون، والذي يؤدي بالنتيجة إلى النصر والقوة في المجتمع الإسلامي داخلياً وخارجياً، والتحرر من كل القيود الخارجية التي تحيكها القوى المضادة.

معنى الآية الشريفة

يشير القرآن الحكيم ضمن الآيات التي سبقت هذه الآية المباركة إلى تأنيبالمؤمنين على موقفهم يوم أحد، حيث إن جماعة منهم قبل الغزوة كانوا يتطلعون

ص: 384


1- سورة آل عمران، الآية: 144.

إلى الجهاد ويتمنون الاستشهاد، ولما حضر وقت الجهاد والحرب فروا منهزمين، وفوق ذلك أن إيمان بعضهم كان بدرجة من الوهن حتى أنهم لما سمعوا بموت الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كادوا أن يرتدوا {وَلَقَدْ كُنتُمْ} أيها المؤمنون {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} ولقاء الموت كناية عن لقاء مقدماته والوقوع في الأهوال المنتهية إليه {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} في الغزوة؛ إذ رأيتم غلبة الكفار وقتل جماعة من المؤمنين {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}(1) أي: تشاهدون المعركة، وهذا تأكيد لمعنى {رَأَيْتُمُوهُ} حتى لا يتوهم أحد أن الرؤية كانت بالقلب، فإن (رأى) قد يستعمل بمعنى (علم). {وَمَا مُحَمَّدٌ}(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {إِلَّا رَسُولٌ} أي: ليس هو إلهاً لا يموت؛ إنما هو بشر اختاره اللّه للرسالة، فيجري عليه ما يجري على البشر من الموت والقتل، وليس بدعاً من الرسل، بل {قَدْ خَلَتْ} أي: مضت وتقدمت {مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الذين جرت عليهم سنة اللّه من الموت ومفارقة الحياة {أَفَإِيْن مَّاتَ} موتاً اعتيادياً {أَوْ قُتِلَ} واستشهد {انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ} استفهام إنكاري توبيخي، أي: لم يكن حالكم هكذا، حتى ترتدوا بموت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنّى عن الارتداد بالمشي القهقرى (الانقلاب على الأعقاب) الذي هو رجوع نحو الوراء {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} أي: من يرتد عن دينه {فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا} إذ اللّه سبحانه غني مطلق لا يحتاج إلى إيمان أحد حتى يضره ارتداده {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ}(2) الذين يشكرون نعمة الإيمان ويثبتون عليه، فإن الارتداد من أعظم أقسام الكفر، كما قال: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَىٰكُمْ لِلْإِيمَٰنِ}(3)(4).

ص: 385


1- سورة آل عمران، الآية: 143.
2- سورة آل عمران، الآية: 144.
3- سورة الحجرات، الآية: 17.
4- تفسير تقريب القرآن 1: 399.

إذاً، تعني الآية وباختصار: أن أمر اللّه تعالى لابد أن يتم، وأن الرسالة السماوية التي حملها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) باقية، حتى لو مات الرسول أو قتل، فليس الموت بمستحيل عليه ولا القتل؛ لأنه من البشر، أما الإيمان أو الإسلام فهو مرتبط بالرسالة الإلهية، وليس فقط بوجود الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلا يجوز لكم الارتداد إلى الكفر بعد موته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأما لو انقلبتم من الإسلام إلى الكفر فعلاً، فلن تضروا اللّه شيئاً، بل إنكم ترتكبون المعصية والمضرة التي تعود عليكم بالتأخر في الدنيا واستحقاقكم العقاب الدائم، أما مَن التزم بإيمانه وبقي على دينه ولم يرتد، فسيجزيه اللّه على شكره للنعمة؛ لأن شكر النعمة هو طاعة اللّه تعالى، فيكون المراد بالشاكرين هم المطيعين لأمر اللّه تعالى.

هذا هو المعنى العام للآية، ولابد أن نتعرف على المناسبة التي نزلت فيها الآية الكريمة.

سبب النزول

ذكر المفسرون في مناسبة نزول هذه الآية الشريفة أنها كانت في معركة أُحد والتي قاد فيها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الجيش الإسلامي بنفسه، وبعد أن كان الجيش الإسلامي منتصراً في أحد، أخل الرماة بأوامر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقد وضعهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على سفح الجبل لحماية ظهر جيش المسلمين خشية من أن يلتف جيش المشركين من وراء جبل أحد، وكان الرماة خمسين رجلاً وقائدهم عبد اللّه بن جبير من بني عمرو بن عوف. وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قال لهم: «أقيموا بأصل الجبل، وانضحوا عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا لا تبرحوامكانكم؛ فإنا لن نزال غالبين ما ثبتّم مكانكم»(1)، وحين ما هزمت قريش وفر

ص: 386


1- عين العبرة: 57.

جيش المشركين أمام جيش المسلمين في بداية المعركة، تبعهم القسم الأكبر من الرماة طمعاً في الغنائم، وبقي قسم آخر متحيراً. أما عبد اللّه بن جبير ومعه القليل من الرماة فقد ظلوا ملازمين لمكانهم، فألتف خالد بن الوليد الذي كان على ميمنة قريش على الجبل، بعد أن شاهد نزول أغلب الرماة، فمال أولاً على هؤلاء الرماة وقتلهم فاستشهد عبد اللّه بن جبير ومن معه أثناء عبور جيش خالد، وهجم خالد بجيشه على المسلمين من الخلف، فتفاجأ المسلمون بجيش خالد الذين كان أغلبهم من الفرسان مما سبب الاضطراب الشديد في صفوف المسلمين، وشاع بين المسلمين أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قتل، وكان هذا الخبر كذباً محضاً أشاعه الكفار والمنافقون لإلقاء الهزيمة في نفوس المسلمين، وبعد انتشار الخبر انقسم المسلمون إلى قسمين:

القسم الأول: وهم الذين بقوا صامدين ولم يتزحزح إيمانهم، واستمروا في قتال المشركين ودافعوا عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببسالة فائقة وقد جرح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه المعركة بجراحات كبيرة.

القسم الثاني: وهم على العكس من القسم الأول، حيث كانوا ضعيفي الإيمان، بل إن بعضهم أراد أن يتصالح مع كفار قريش للحصول على الأمان؛ إذ لما فشا في الناس أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قُتل، قال البعض: ليت لنا رسولاً إلى عبد اللّه بن أُبي(1) فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: فالحقوا بدينكم الأول.

وقال أنس بن النضر: يا قوم، إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول

ص: 387


1- رأس المنافقين في المدينة وكان صديقاً لرأس المشركين أبي سفيان.

اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللّهم إني أعتذر إليك مما يقوله هؤلاء - يعني: المنافقين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني: المنافقين - ثم شد بسيفه فقاتل حتى قُتل(1).

فنزلت هذه الآية تحكي لنا حال ضعفاء الإيمان والمتزلزلين من ناحية، وتثبت حال من قوي إيمانه وبقي صابراً ومجاهداً من ناحية أخرى، من أجل حماية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحماية الدين الإسلامي(2).

ومما يستفاد من قصة أحد وهذه الآيات: ضرورة التواصي بالحق والتواصي بالصبر.

الانقلاب بعد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

وقد حدث انقلاب بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وارتد الكثير من الناس، وضعف حالةالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إني على الحوض أنظر من يرد عليَّ منكم، وليقطعن

ص: 388


1- بحار الأنوار 20: 27.
2- قال زيد بن وهب: قلت لابن مسعود: انهزم الناس عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى لم يبق معه إلّا علي بن أبي طالب وأبو دجانة وسهل بن حنيف؟! فقال: انهزم الناس إلّا علي بن أبي طالب وحده، وثاب إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نفر، وكان أولهم عاصم بن ثابت وأبا دجانة وسهل بن حنيف ولحقهم طلحة بن عبيد اللّه، فقلت له: وأين كان أبو بكر وعمر؟ قال: كانا ممن تنحى. قال قلت: وأين كان عثمان؟ قال: جاء بعد ثالثة من الواقعة، فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لقد ذهبت فيها عريضة؟». قال: فقلت له: فأين كنت أنت؟ قال: كنت ممن تنحى. قال فقلت: له: فمن حدثك بهذا؟ قال: عاصم وسهل بن حنيف. قال: قلت له: إن ثبوت علي(عليه السلام) في ذلك المقام لعجب؟! فقال: إن تعجبت من ذلك، فقد تعجبت منه الملائكة، أما علمت أن جبرئيل(عليه السلام) قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء: «لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا علي». فقلت له: فمن أين علم ذلك من جبرئيل؟ فقال: سمع الناس صائحاً يصيح في السماء بذلك، فسألوا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنه؟ فقال: «ذاك جبرئيل». الإرشاد 1: 83.

برجال دوني، فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، إنهم ما زالوا يرجعون على أعقابهم القهقرى»(1).

وقال عبد اللّه بن عباس: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنكم محشورون حفاة عراة غُرْلاً(2) - ثم قرأ - {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٖ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ}(3) ألا وإن أول من يُكسى إبراهيم(عليه السلام)، ألا وإن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي؟! - قال - فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح عيسى(عليه السلام): {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} - إلى قوله - {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}»(4)(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حتى إذا قبض اللّه رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج(6)، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير موضعه، معادن كل خطيئةٍ، وأبواب كل ضارب في غمرة(7)، قد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة، على سنة منآل فرعون، من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين»(8).

ص: 389


1- الأمالي للشيخ المفيد: 37.
2- الغركة: القلفة، والأغرل: الأقلف وهو الذي لم يختن.
3- سورة الأنبياء، الآية: 104.
4- سورة المائدة، الآية: 117- 118.
5- كشف الغمة 1: 110.
6- الولائج - جمع وليجة - : وهي البطانة وخاصة الرجل من أهله وعشيرته، ويراد بها دخائل المكر والخديعة.
7- الغَمْرة: الشدة، وماروا: تحركوا واضطربوا.
8- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 150 ومن خطبة له(عليه السلام) يومي فيها إلى الملاحم ويصف فئة من أهل الضلال.

وكتب أمير المؤمنين(عليه السلام) لمعاوية: «وأرديت جيلاً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات، وتتلاطم بهم الشبهات، فجازوا عن وجهتهم(1)، ونكصوا على أعقابهم، وتولوا على أدبارهم، وعَوَّلُوا على أحسابهم، إلّا من فاء من أهل البصائر؛ فإنهم فارقوك بعد معرفتك، وهربوا إلى اللّه من موازرتك؛ إذ حملتهم على الصعب، وعدلت بهم عن القصد، فاتق اللّه يا معاوية في نفسك، وجاذب الشيطان قيادك؛ فإن الدنيا منقطعة عنك، والآخرة قريبة منك، والسلام»(2).

أقسام الانقلاب

إن الانقلاب على قسمين:

الأول: التغير من الحالة السيئة إلى الحالة الجيدة، وهذا يعني: الانتقال إلى الهداية والتحسن، كما لو أسلم شخص كان كافراً، فإنه انقلب وانتقل من الضلال إلى الهداية وتحسن حاله.

الثاني: التغير من الحالة الجيدة إلى الحالة السيئة - نعوذ باللّه - وهذا يعني: الارتداد والارتجاع والنكوص، مثل ما حصل في معركة أُحد عندما سمع بعض المسلمين الخبر الكاذب بأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قُتل.

قال الطبرسي(رحمه اللّه) في مجمع البيان: (فسمي الارتداد: انقلاباً على العقب، وهوالرجوع القهقري؛ لأن الردة خروج إلى أقبح الأديان، كما أن الانقلاب خروج إلى أقبح ما يكون من المشي)(3).

ص: 390


1- وِجهتهم: أي جهة قصدهم، ونكصوا: رجعوا، وعوّلوا: اعتمدوا، فاء: رجع والمراد هنا الرجوع إلى الحق.
2- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 32 ومن كتاب له(عليه السلام) إلى معاوية.
3- تفسير مجمع البيان 2: 406.

وعلى هذا يكون الانقلاب في الحالة الأولى التحول من الجاهلية إلى الإسلام، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الضلالة إلى الهدى، أما الانقلاب في الحالة الثانية فهو الغواية والضلال والرجوع إلى الكفر والجاهلية، نتيجة الضعف في الإيمان، وحب الدنيا، وحب الشهوات.

ومن الأمور المهمة في ثبات الإنسان على طريق الصلاح والإصلاح وعدم انقلابه القهقرى: هو التواصي بالحق والتواصي بالصبر، فإنه ضمان لعدم خسران الإنسان كما ورد ذلك في سورة العصر، حيث قال تعالى:

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(1).

هذا بالنسبة إلى الأمر الأول وهو التواصي وتأثيره في الإصلاح.

المواساة

اشارة

الأمر الثاني مما يحتاجه المجتمع الإسلامي في تقدمه وتطوره وصلاحه وإصلاحه، في كل الميادين والأزمان - مضافاً إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر - : هو موضوع المواساة ونكران الذات، في سبيل إقامة دين اللّه على الأرض وخدمة الناس، وخير شاهد على ذلك موضوع الآية الشريفة المتقدمة؛ إذ نستفيد منها - من خلال هذه الرواية - التي نقلتها كتب الشيعة والعامة، أهمية المواساة.

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لما كان يوم أحد انهزم أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حتىلم يبق معه إلّا علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وأبو دجانة سَمّاك بن خَرَشَة(2)،

ص: 391


1- سورة العصر، الآية: 1-3.
2- سَمّاك بن خَرَشَة الخزرجي البياضي الأنصاري، المعروف بأبي دجانة: صحابي، كان شجاعاً بطلاً، له آثار جميلة في الإسلام. شهد بدراً وثبت يوم أحد وأصيب بجراحات كثيرة، واستشهد باليمامة، كانت له مشية عجيبة في الخيلاء يضرب بها المثل. نظر إليه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معركة وهو يتبختر بين الصفين، فقال: «هذه مشية يبغضها اللّه إلا في هذا المكان». وكان يقال له: ذو المشهرة، وهي درع يلبسها في الحرب. وذو السيفين لقتاله يوم أحد بسيفه وسيف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقيل في نسبه: سماك بن أوس بن خرشة، توفي في 11 للهجرة.

فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا أبا دجانة، أما ترى قومك؟

قال: بلى.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الحَقْ بقومك.

قال: ما على هذا بايعت اللّه ورسوله.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنت في حل.

قال: واللّه لا تتحدث قريش بأني خذلتك وفررت، حتى أذوق ما تذوق، فجزاه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خيراً.

وكان علي(عليه السلام) كلما حملت طائفة على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استقبلهم وردهم، حتى أكثر فيهم القتل والجراحات، حتى انكسر سيفه، فجاء إلى النبي فقال: يا رسول اللّه، إن الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي. فأعطاه ذا الفقار. فما زال يدفع به عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى أثر وانكسر فنزل عليه جبرئيل وقال: يا محمد، إن هذه لهي المواساة من علي لك. فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إنه مني وأنا منه.

فقال جبرئيل(عليه السلام): وأنا منكما(1)، وسمعوا دوياً من السماء: لا سيف إلّا ذو

ص: 392


1- قال الشيخ الصدوق(رحمه اللّه): قول جبرئيل(عليه السلام): «وأنا منكما» تمنٍ منه لأن يكون منهما، فلو كان أفضل منهما لم يقل ذلك، ولم يتمن أن ينحط عن درجته إلى أن يكون ممن دونه. وإنما قال: وأنا منكما ليصير ممن هو أفضل منه، فيزداد محلاً إلى محله، وفضلاً إلى فضله، علل الشرائع 1: 7. وقد ذكر هذا الحديث أو مثله في كثير من مصادر العامة، منها: مجمع الزوائد 6: 122، والمعجم الكبير 1: 318.

الفقارولا فتى إلّا علي»(1).

ولهذا يلزم التركيز على المواساة بين أفراد المجتمع الإسلامي الواحد، للوصول إلى المرتبة السامية، والتي يطمح إليها الإنسان دائماً، لبلوغ الكمال وطاعة اللّه تعالى، بمثل ما صنعه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأبو دجانة (رضوان اللّه عليه) في يوم أُحد، ببذل أنفسهما للدفاع عن الرسالة السماوية والرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ومواساتهما مع الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أني لم أرُدَّ على اللّه ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تَنْكُصُ فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نَجْدَة(2) أكرمني اللّه بها...»(3).

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه، ويحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم اللّه عزّ وجلّ رحماء بينكم، متراحمين، مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(4).

المواساة سبيل الإصلاح

اشارة

إن طريق الإصلاح ليس مفروشاً بالورود، بل هو طريق شائك، بحاجة إلى التضحية والفداء، ومن هنا تتبين أهمية المواساة بين المؤمنين في سبيل الإصلاح، فإذا أرادت الأمة الإسلامية أن تتخلص من واقعها الحالي حيث

ص: 393


1- علل الشرائع 1: 7.
2- النَجْدة: الشجاعة.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 197 ومن كلام له(عليه السلام) ينبه فيه على فضيلته لقبول قوله وأمره ونهيه.
4- الكافي 2: 174.

المآسي والحرمان والتأخر والضياع، فعليها أن تتحلى بخصلة المواساة، كما تحلى بها المسلمون الأوائل في صدر الإسلام.

أما إذا أخذ كل يفكر في نفسه ومصلحته فقط، أو يجر النار إلى قرصه فحسب، فإننا لا نزداد إلّا سوءاً والعياذ باللّه.

ورد في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٖ}(1):

أي اختبرنا الأغنياء بالغنى لننظر كيف مواساتهم للفقراء، وكيف يخرجون ما فرض اللّه عليهم في أموالهم، واختبرنا الفقراء لننظر كيف صبرهم على الفقر وعمّا في أيدي الأغنياء(2).

وقد جعل أمير المؤمنين(عليه السلام) المواساة من علائم شيعته، حيث قال(عليه السلام): «اختبروا شيعتي بخصلتين، فإن كانتا فيهم فهم شيعتي: محافظتهم على أوقات الصلوات، ومواساتهم مع إخوانهم المؤمنين بالمال، وإن لم تكونا فيهم فأعزب ثم أعزب ثم أعزب»(3).

وكذلك قال الإمام الصادق(عليه السلام): «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدونا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(4).وعن أحمد بن النضر، عن أبي إسماعيل، قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): جعلت فداك، إن الشيعة عندنا كثير. فقال(عليه السلام): «فهل يعطف الغني على الفقير، وهل يتجاوز المحسن عن المسيء ويتواسون؟». فقلت: لا. فقال: «ليس هؤلاء شيعة،

ص: 394


1- سورة الأنعام، الآية: 53.
2- تفسير القمي 1: 202.
3- جامع الأخبار: 35.
4- الخصال 1: 103.

الشيعة من يفعل هذا»(1).

وعن جراح المدائني، قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ألا أحدثك بمكارم الأخلاق؟». قلت: بلى. قال: «الصفح عن الناس، ومؤاساة الرجل أخاه في ماله، وذكر اللّه كثيراً»(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «ثلاث دعوات لا يحجبن عن اللّه تعالى - منها - ... رجل مؤمن دعا لأخ له مؤمن واساه فينا، ودعاؤه عليه إذا لم يواسه مع القدرة عليه واضطرار أخيه إليه»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لم يَدَعْ رجل معونة أخيه المسلم حتى يسعى فيها ويواسيه، إلّا ابتلي بمعونة من يأثم ولا يؤجر»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن من حق المؤمن على المؤمن: المودة له في صدره، والمواساة له في ماله...»(5).

وقال(عليه السلام): «... ويحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل، والتعاون على التعاطف، والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض...»(6).وفي الحديث في بيان علة وجوب الزكاة، يقول الإمام الرضا(عليه السلام):

«... والحث لهم على المواساة وتقوية الفقراء، والمعونة لهم على أمر الدين...»(7).

ص: 395


1- الكافي 2: 173.
2- معاني الأخبار: 191.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 280.
4- الكافي 2: 366.
5- الكافي 2: 171.
6- الكافي 2: 174.
7- من لا يحضره الفقيه 2: 8.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من واسى الفقير من ماله، وأنصف الناس من نفسه، فذلك المؤمن حقاً»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... رحم اللّه امرأً واسى أخاه بنفسه...»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لكميل: «يا كميل، البركة في مال من آتى الزكاة، وواسى المؤمنين، ووصل الأقربين»(3).

وقال علي(عليه السلام): «قليل من الأغنياء من يواسي ويسعف»(4).

وقال(عليه السلام): «لا تعدن صديقاً من لا يواس بماله»(5).

وعن محمد بن سنان، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: سألته عن عمل السلطان والدخول معهم، وما عليهم فيما هم فيه؟ قال: «لا بأس به إذا واسى إخوانه، وأنصف المظلوم، وأغاث الملهوف من أهل ولايته»(6).

وعن الحسن البزاز، قال: قال لي: أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ألا أخبرك بأشد ما فرض اللّه على خلقه ثلاث؟». قلت: بلى. قال: «إنصاف الناس من نفسك، ومواساتكأخاك، وذكر اللّه في كل موطن»(7).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن، يحق عليه نصيحته، ومواساته، ومنع عدوه منه»(8).

ص: 396


1- الكافي 2: 147.
2- الكافي 5: 40.
3- تحف العقول: 172.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 498.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 750.
6- مستدرك الوسائل 13: 131.
7- الكافي 2: 145.
8- المؤمن: 42.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «والذي بعثني بالحق نبياً، إن عبداً من عباد اللّه ليقف يوم القيامة موقفاً يخرج عليه من لهب النار أعظم من جميع جبال الدنيا، حتى ما يكون بينه وبينها حائل، بينا هو كذلك قد تحير إذ تطاير من الهواء رغيف أو حبة قد واسى بها أخاً مؤمناً على إضافته، فتنزل حواليه فتصير كأعظم الجبال مستديراً حواليه، تصد عنه ذلك اللّهب، فلا يصيبه من حرها ولا دخانها شي ء، إلى أن يدخل الجنة». قيل: يا رسول اللّه، وعلى هذا تنفع مواساته لأخيه المؤمن؟ فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إي والذي بعثني بالحق نبياً، إنه لينفع بعض المواسين بأعظم من هذا»(1).

هذا ومن أسماء شهر رمضان المبارك: «وشهر المواساة»(2).

وفي الدعاء: «اللّهم صل على محمد وآل محمد، واعمر قلبي بطاعتك، ولا تخزني بمعصيتك، وارزقني مواسات من قترت من رزقك بما وسعت عليَّ من فضلك، ونشرت عليَّ من عدلك، وأحييتني تحت ظلك»(3).

إلى غيرها من الروايات الشريفة التي تؤكد على مبدأ المواساة بين المؤمنين.

المواسي ابن المواسي

كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أشرف مصداق في المواساة وقد باهى به اللّه عزّ وجلّ في ليلة المبيت، قال ابن عباس: لما انطلق النبي إلى الغار أقام علياً(عليه السلام) في مكانه وألبسه برده، فجاءت قريش تريد أن تقتل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فجعلوا يرمون علياً وهم يرون أنه النبي، فجعل يتضور(4) فلما نظروا

ص: 397


1- تفسير الإمام العسكري(عليه السلام): 525.
2- الكافي 4: 66.
3- المزار الكبير: 401.
4- التضوّر: التلوي من وجع الضرب.

إذا هو علي(عليه السلام)(1).

وكذلك مواساة علي(عليه السلام) يوم أحد حيث نداء جبرئيل(عليه السلام) من السماء.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «انهزم الناس يوم أحد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فغضب غضباً شديداً - قال - وكان إذا غضب انحدر عن جبينه مثل اللؤلؤ من العرق - قال - فنظر فإذا علي(عليه السلام) إلى جنبه، فقال له: الحق ببني أبيك مع من انهزم عن رسول اللّه. فقال: يا رسول اللّه، لي بك أسوة. قال: فاكفني هؤلاء. فحمل فضرب أول من لقي منهم، فقال جبرئيل(عليه السلام): إن هذه لهي المواساة يا محمد. فقال: إنه مني وأنا منه. فقال جبرئيل(عليه السلام): وأنا منكما يا محمد». فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «فنظر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جبرئيل(عليه السلام) على كرسي من ذهب بين السماء والأرض وهو يقول: لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا علي»(2).

نعم، كذلك كان شبل علي(عليه السلام) أبو الفضل العباس قمر بني هاشم (صلوات اللّه عليهما)، حيث جاء في زيارته(عليه السلام): «أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك، فنعم الأخ المواسي...»(3).

وفي زيارة أخرى له(عليه السلام) جاء فيها: «السلام على العباس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له الواقي، الساعي إليه بمائه،المقطوعة يداه...»(4).

وقد وصل مولانا العباس(عليه السلام) إلى هذه المرتبة السامية من العظمة والمقام الرفيع، بفضل مواساته لأخيه الإمام الحسين(عليه السلام)، وأهل بيته من النساء والأطفال.

ص: 398


1- إعلام الورى: 190.
2- الكافي 8: 110.
3- كتاب المزار 124.
4- المزار الكبير: 489.

حقيقاً بالبكاء عليه حزناً *** أبو الفضل الذي واسى أخاه

وجاهد كل كفار ظلوم *** وقابل من ضلالهم هداه

فداه بنفسه لله حتى *** تفرق من شجاعته عداه

وجاد له على ظمأ بماء *** وكان رضا أخيه مبتغاه(1)

كيف كانت مواساة العباس(عليه السلام)

لو تطرقنا إلى شجاعة أبي الفضل العباس(عليه السلام) فإنه يطول الحديث وهي مما لا يختلف عليها اثنان، كيف لا وهو حامي الخيام، وحامل لواء جيش الإمام الحسين(عليه السلام) وهو ساقي العطاشى، وهو قمر بني هاشم لشدة حسنه وجماله.

ففي (أسرار الشهادة) للعلامة الدربندي(رحمه اللّه) عند ذكر شهادة العباس(عليه السلام) قال:

أتى زهير إلى عبد اللّه بن جعفر بن عقيل قبل أن يُقتل، فقال: يا أخي ناولني الراية. فقال له عبد اللّه: أَ وَ فيَّ قصور عن حملها؟! قال: لا، ولكن لي بها حاجة. قال: فدفعها إليه وأخذها زهير، وأتى فجاء إلى العباس بن علي، وقال: يا بن أمير المؤمنين، أريد أن أحدثك بحديث وعيته. فقال: حدث فقد حلا وقت الحديث. فقال: اعلم يا أبا الفضل، أن أباك أمير المؤمنين لما أراد أن يتزوج أم البنين بعث إلى أخيه عقيل، وكان عارفاً بأنساب العرب فقال(عليه السلام): «يا أخي، أريد منك أن تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والحسب والنسب والشجاعة؛ لكي أصيب منهاولداً شجاعاً وعضداً ينصر ولدي هذا - وأشار إلى الحسين(عليه السلام) - ليواسيه في طف كربلاء»، وقد أدخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصر عن حلائل أخيك وعن أخواتك. قال: فارتعد العباس وتمطى في ركابه حتى قطعه، وقال: يا زهير، تشجعني في مثل هذا اليوم؟! واللّه لأرينك شيئاً ما رأيته قط، قال: فهمز جواده

ص: 399


1- مثير الأحزان: 71.

نحو القوم حتى توسط الميدان(1).

وفي بحار الأنوار: أن عشية التاسع من المحرم جاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين(عليه السلام)، وقال: أين بنو أختنا - وقصد العباس وإخوته - فخرج إليه العباس وإخوته، فقالوا: ما تريد؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون. فقال له العباس وإخوته: لعنك اللّه ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول اللّه لا أمان له(2).

وهنا ننقل صوراً جليلة من المواساة العظيمة لقمر بني هاشم(عليه السلام)، فعند ما خاض بفرسه نهر الفرات، بعد ما أزاح جيش ابن سعد عن المشرعة الذي كان قد وضع أربعة آلاف مقاتل ليمنع سيد الشهداء(عليه السلام) من الماء، فملأ القربة بالماء ثم مد كفيه ملأهما بالماء، وقربهما من فمه وذلك لشدة عطشه، ولكنه تذكر عطش أخيه الحسين(عليه السلام)، وعطش النساء والأطفال، فرمى الماء من يده، وهو يقول:

يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت أن تكوني

هذا حسين وارد المنون *** وتشربين بارد المعين

تاللّه ما هذا فعال ديني *** ولا فعال صادق اليقين

فلم يشرب من ذلك الماء قطرة واحدة مواساة لأخيه، ومواساة للنساء والأطفال، واستمر في جهاده ومقارعة الأعداء، ليوصل الماء إلى العيال، ولكنه(عليه السلام)أحيط به من كل جانب، حتى قطعوا يمينه ويساره، وضربه لعين بعمود على رأسه، وانهالت عليه السهام من كل جانب فمزقت جسده الشريف وأصاب سهم عينه، فسقط صريعاً على الأرض، منادياً: أخي أبا عبد اللّه أدركني. فأسرع الإمام الحسين(عليه السلام) إليه، ورمى بنفسه الشريفة عليه، وحاول أن يحمله إلى الخيام

ص: 400


1- الأنوار العلوية: 443 نقلاً عن إكسير العبادات في أسرار الشهادات.
2- انظر: بحار الأنوار 44: 391.

ليقضي إلى جنب إخوته وبني عمومته، ولكنه التمس من الإمام أن يتركه حيث هو! ولما سأله الإمام عن السبب؟ قال: إني مستح من ابنتك سكينة فقد وعدتها بالماء ولم آتها به(1).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام) لما رآه صريعاً على شط الفرات: «الآن انكسر ظهري وشمت بي عدوي».

وفيه(عليه السلام) يقول الشاعر:

أحق الناس أن يبكى عليه *** فتى أبكى الحسين بكربلاء

أخوه وابن والده علي *** أبو الفضل المضرج بالدماء

ومن واساه لا يثنيه شيء *** وجاء له على عطش بماء

وفيه(عليه السلام) يقول شاعر آخر:

بذلت يا عباس نفساً نفيسة *** بنصر حسين عزّ بالنصر من قبل

أبيت التذاذ الماء قبل التذاذه *** فحسن فعال المرء فرع من الأصل

فأنت أخو السبطين في يوم مفخر *** وفي يوم بذل الماء أنت أبو فضل(2)

وانتقل العباس(عليه السلام) إلى جوار ربه شهيداً خالداً، ينير الدرب للأجيال من الأمة الإسلامية، في الدفاع عن الحق والمبادئ السامية، ويدعم بدمه الطاهر دربالمواساة، ليرقى بالمجتمع الإسلامي إلى الخلود والعظمة.

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال لسدير: «والذي بعث محمداً بالنبوة، وعجل روحه إلى الجنة، ما بين أحدكم وبين أن يغتبط ويرى السرور، أو تبين له الندامة والحسرة، إلا أن يعاين ما قال اللّه عزّ وجلّ في كتابه: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ

ص: 401


1- انظر: معالي السبطين 1: 449 نقلاً عن إكسير العبادات في أسرار الشهادات.
2- شرح الأخبار 3: 193.

قَعِيدٌ}(1) وأتاه ملك الموت يقبض روحه، فينادي روحه فتخرج من جسده، فأما المؤمن فما يحس بخروجها، وذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}(2) - ثم قال - ذلك لمن كان ورعاً مواسياً لإخوانه وصولاً لهم، وإن كان غير ورع ولا وصولاً لإخوانه، قيل له: ما منعك من الورع والمواساة لإخوانك؟ أنت ممن انتحل المحبة بلسانه، ولم يصدق ذلك بفعل، وإذا لقي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) لقيهما مُعرضين مُقطبين في وجهه، غير شافعين له»(3).

أنصار الحسين(عليه السلام)

من شواهد المواساة العظيمة في التأريخ: موقف الأصحاب الأماجد المستشهدين بين يدي سيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) في واقعة الطف في كربلاء، فقد تسابق هؤلاء الأبطال ببذل أنفسهم في سبيل الحفاظ على الدين الإسلامي، والدفاع عن أهل البيت(عليه السلام) بكل ما يملكون، فكانوا خير مواسين لإمامهم، ليكونوا درساً آخرَ في طريق بناء المجتمع الإسلامي الكبير.

ليلة العاشر

فعند ما جمع الإمام الحسين(عليه السلام) أصحابه في ليلة العاشر من المحرم، قالالإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليها السلام): «فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: أثني على اللّه أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء، اللّهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين. أما

ص: 402


1- سورة ق، الآية: 17.
2- سورة الفجر، الآية: 27-30.
3- المحاسن: 177.

بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي، فجزاكم اللّه عني خيراً، ألا وإني لأظن يوماً لنا من هؤلاء، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم حرج مني ولا ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً.

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد اللّه بن جعفر: لِمَ نفعل ذلك، لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللّه ذلك أبداً، بدأهم بهذا القول العباس بن علي(عليه السلام) وأتبعته الجماعة عليه، فتكلموا بمثله ونحوه.

فقال الحسين(عليه السلام): يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم بن عقيل، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم.

فقالوا: سبحان اللّه، ما يقول الناس؟ نقول: إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟! لا واللّه، ما نفعل ذلك، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلنا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح اللّه العيش بعدك.

وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلي عنك، وبما نعتذر إلى اللّه في أداء حقك؟! لا واللّه، حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، واللّه لا نخليك، حتى يعلم اللّه أنا قد حفظنا غيبة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيك، أما واللّه، لو علمت أني أُقتل ثم أُحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتكحتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً.

وقام زهير بن القين فقال: واللّه، لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة، وإن اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء

ص: 403

الفتيان من أهل بيتك.

وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد، فجزاهم الحسين(عليه السلام) خيراً وانصرف إلى مضربه».

وقيل لمحمد بن بشر الحضرمي في تلك الحال: قد أسّر ابنك بثغر الري؟

فقال: عند اللّه أحتسبه ونفسي، ما أحب أن يؤسر وأنا أبقى بعده.

فسمع الحسين(عليه السلام) قوله فقال: «رحمك اللّه، أنت في حلّ من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك».

فقال: أكلتني السباع حياً إن فارقتك.

قال: «فأعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه».

فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار.

وبات الحسين وأصحابه تلك الليلة ولهم دوي كدوي النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً(1).

يوم عاشوراء

ولقد وقف أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) مع إمامهم حتى آخر لحظة، وهم يعلمون بأنهم لا محالة صرعى في صحراء كربلاء، فجعلوا يسارعون إلى القتل بين يدي الإمام الحسين(عليه السلام) وكانوا كما قيل فيهم:

قوم إذا نودوا لدفع ملمة *** والخيل بين مدعس ومكردس

لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا *** يتهافتون على ذهاب الأنفس

نصروا الحسين فيا لها من فتية *** عافوا الحياة وألبسوا من سندس(2)

ص: 404


1- بحار الأنوار 44: 392.
2- معالي السبطين 2: 483.

وكان بعضهم من صحابة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كحبيب بن مظاهر الأسدي والبعض الآخر من فقهاء الأمة، ويعدون من سادة قرّاء القرآن في الأمصار كبرير بن خضير الهمداني، وكان فيهم حتى المسيحي الذي أسلم على يد الإمام(عليه السلام) عندما قابل الإمام(عليه السلام) في الطريق إلى كربلاء(1)، وكذلك فيهم عدة رجال من الموالي(2)، وأطفال ونساء.

مع الغلام التركي

ومن بين الأبطال المواسين لإمامهم ذلك الغلام التركي، الذي كان مملوكاً للإمام(عليه السلام)، وتعلم عنده اللغة العربية وقراءة القرآن، وقف هذا البطل في ساحة المعركة في يوم عاشوراء يواسي إمامه ويدافع عنه، بعد أن استشهد أكثر الأصحاب، وبقي الإمام(عليه السلام) مع ثلة قليلة من أهل بيته(عليهم السلام)، فلم يترك هذا العبد مولاه في هذه الساعة متحيراً بل ألقى بنفسه إلى المعركة، وكان يرتجز ويقول:

البحر من طعني وضربي يصطلي *** والجو من سهمي ونبلي يمتلي

إذا حسامي في يميني ينجلي *** ينشق قلب الحاسد المبجل ***

وكان يحمل يميناً وشمالاً، حتى وقع على الأرض قتيلاً، ورزق بمواساته

ص: 405


1- جاء في أمالي الشيخ الصدوق: وهب بن وهب وكان نصرانياً أسلم على يد الحسين(عليه السلام) هو وأمه فاتبعوه إلى كربلاء فركب فرساً وتناول بيده عمود الفسطاط، فقاتل وقتل من القوم سبعة أو ثمانية، ثم استؤسر فأتي به عمر بن سعد (عليه اللعنة) فأمر بضرب عنقه ورمى به إلى عسكر الحسين(عليه السلام). وأخذت أمه سيفه وبرزت فقال لها الحسين(عليه السلام): «يا أم وهب، اجلسي؛ فقد وضع اللّه الجهاد عن النساء، إنك وابنك مع جدي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الجنة». الأمالي للشيخ الصدوق: 161.
2- أمثال سليمان بن رزين، أو بن أبي رزين، مولى الحسين(عليه السلام)، وقارب بن عبد اللّه مولى الحسين(عليه السلام) وسعد بن الحرث الخزاعي مولى علي بن أبي طالب(عليه السلام) وشوذب مولى شاكر بن عبد اللّه الهمداني الشاكري، وغيرهم. انظر: مقتل الحسين(عليه السلام) لأبي مخنف: ص243.

لإمامه الشهادة(1)، كما نالها الإمام وأهل البيت(عليهم السلام)، والصحابة من أنصار الحسين رضوان اللّه عليهم أجمعين.

عمرو بن قرطة الأنصاري

خرج عمرو بن قرطة الأنصاري فاستأذن الحسين(عليه السلام) فأذن له، فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء، وبالغ في خدمة سلطان السماء، حتى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد، وجمع بين سداد وجهاد، وكان لا يأتي إلى الحسين(عليه السلام) سهم إلّا اتقاه بيده، ولا سيف إلّا تلقاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين(عليه السلام) سوء حتى أثخن بالجراح، فالتفت إلى الحسين(عليه السلام) وقال: يا ابن رسول اللّه أوفيت؟ فقال: «نعم، أنت أمامي في الجنة، فاقرأ رسول اللّه عني السلام، وأعلمه أني في الأثر»، فقاتل حتى قتل رضوان اللّه عليه.

جون مولى أبي ذر(رحمه اللّه)

ثم برز جون مولى أبي ذر وكان عبداً أسودَ، فقال له الحسين(عليه السلام): «أنت في إذن مني، فإنما تبعتنا طلباً للعافية فلا تبتل بطريقنا».

فقال: يا ابن رسول اللّه أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم!، واللّه إن ريحي لمنتن، وإن حسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفس عليَّ بالجنة فتطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيض وجهي، لا واللّه لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم، ثم قاتل رضوان اللّه عليه حتى قُتل.

الصيداوي

قال الراوي: ثم برز عمرو بن خالد الصيداوي، فقال للحسين(عليه السلام): يا أبا عبد اللّه، جعلت فداك قد هممت أن ألحق بأصحابك، وكرهت أن أتخلف فأراك

ص: 406


1- انظر: بحار الأنوار 45: 30.

وحيداً بين أهلك قتيلاً.

فقال له الحسين(عليه السلام): «تقدم فإنا لاحقون بك عن ساعة».

فتقدم فقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه.

حنظلة الشامي

قال الراوي: وجاء حنظلة بن أسعد الشامي، فوقف بين يدي الحسين(عليه السلام) يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره، وأخذ ينادي: يا قوم، إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، وما اللّه يريد ظلماً للعباد، ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد، يوم تولون مدبرين ما لكم من اللّه من عاصم. يا قوم، لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم اللّه بعذاب وقد خاب من افترى.

ثم التفت إلى الحسين(عليه السلام)، فقال له: أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بإخواننا؟

فقال: «بلى، رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى».

فتقدم فقاتل قتال الأبطال وصبر على احتمال الأهوال حتى قُتل رضوان اللّه عليه.

سعيد بن عبد اللّه الحنفي

قال: وحضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين(عليه السلام) زهير بن القين وسعيد بن عبد اللّه الحنفي أن يتقدما أمامه بنصف من تخلف معه، ثم صلى بهم صلاة الخوف، فوصل إلى الحسين(عليه السلام) سهم، فتقدم سعيد بن عبد اللّه الحنفي ووقف يقيه بنفسه ما زال ولا تخطى حتى سقط إلى الأرض، وهو يقول: اللّهم العنهم لعن عاد وثمود، اللّهم أبلغ نبيك عني السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت ثوابك في نصر ذرية نبيك، ثم قضى نحبه رضوان اللّه عليه. فوجد به ثلاثة عشرسهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح(1).

ص: 407


1- اللّهوف على قتلى الطفوف: 107- 111.
مواساة النساء

وكذلك كان موقف نساء أصحاب الحسين(عليه السلام) مواسياً لنساء الحسين وأهل بيته(عليه السلام) فقد روي أن الإمام الحسين(عليه السلام) خطب ليلة عاشوراء وقال: «ألا ومن كان في رحله امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد». فقام علي بن مظاهر وقال: ولماذا يا سيدي؟ فقال(عليه السلام): «إن نسائي تُسبى بعد قتلي، وأخاف على نسائكم من السبي». فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته، فقامت زوجته إجلالاً له فاستقبلته وتبسمت في وجهه، فقال لها: دعيني والتبسم. فقالت: يا ابن مظاهر، إني سمعت غريب فاطمة(عليها السلام) خطب فيكم، وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة، فما علمت ما يقول؟

قال: يا هذه، إن الحسين(عليه السلام) قال لنا: «ألا ومن كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني عمها؛ لأني غداً أُقتل ونسائي تُسبى». فقالت: وما أنت صانع؟ قال: قومي حتى ألحقكِ ببني عمكِ بني أسد. فقامت ونطحت رأسها في عمود الخيمة، وقالت: واللّه ما أنصفتني يا ابن مظاهر، أيسرك أن تُسبى بنات رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنا آمنة من السبي؟! أيسرك أن تُسلب زينب إزارها من رأسها وأنا استتر بإزاري؟! أيسرك أن تذهب من بنات الزهراء أقراطها وأنا أتزين بقرطي؟! أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول اللّه ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء؟! واللّه، أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء!

فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين(عليه السلام) وهو يبكي، فقال له الحسين(عليه السلام): «ما يبكيك؟». فقال: سيدي أبت الأسدية إلّا مواساتكم، فبكى الحسين(عليه السلام)، وقال:«جزيتم منا خيراً»(1).

ص: 408


1- معالي السبطين 1: 342.
فما بالموت عار

في الشعر المنسوب إلى الإمام الحسين(عليه السلام) قال:

سأمضي فما بالموت عار على الفتى *** إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً

وواسى

الرجال الصالحين بنفسه *** وفارق مثبوراً وخالف مجرماً

فإن مت لم أندم وإن عشت لم ألم *** كفى بك ذلاً أن تموت وترغماً(1)

المواساة في المال

ومن أقسام المواساة، المواساة في المال:

قال عبد الأعلى بن أعين: كتب بعض أصحابنا يسألون أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن أشياء، وأمروني أن أسأله عن حق المسلم على أخيه، فسألته فلم يجبني، فلما جئت لأودعه فقلت: سألتك فلم تجبني؟!

فقال(عليه السلام): «إني أخاف أن تكفروا؛ إن من أشد ما افترض اللّه على خلقه ثلاثاً: إنصاف المرء من نفسه حتى لا يرضى لأخيه من نفسه إلّا بما يرضى لنفسه منه، ومواساة الأخ في المال، وذكر اللّه على كل حال، ليس سبحان اللّه والحمد لله، ولكن عندما حرم اللّه عليه فيدعه»(2).

وعن أبان بن تغلب عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) - في حديث - أنه قال له: أخبرني عن حق المؤمن على المؤمن؟

فقال: «يا أبان، دعه لا ترده».

قلت: بلى جعلت فداك.

فلم أزل أردد عليه، فقال: «يا أبان، تقاسمه شطر مالك». ثم نظر إليَّ فرأى ما

ص: 409


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 154.
2- الكافي 2: 170.

دخلني، فقال: «يا أبان، أما تعلم أن اللّه عزّ وجلّ قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟»(1).

قلت: بلى جعلت فداك. فقال: «أما إذا أنت قاسمته فلم تؤثره بعد! إنما أنت وهو سواء، إنما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر»(2).

الاكتفاء الذاتي والمواساة

من الأمور المهمة في إصلاح المجتمع الإسلامي: مسألة السعي إلى ترسيخ حالة الاكتفاء الذاتي بين الأمة، عبر الاعتماد على الموارد الطبيعية المتوفرة في بلاد الإسلام، للتحرر من القيود الغربية الاستعمارية، وذلك يتأتى من خلال مقدمات عديدة منها المواساة المالية بين أفراد المجتمع، فإن المواساة تكون في كل النواحي الاقتصادية، من تبادل السلع، وبذل الأموال لاستغلالها من قبل المصنعين المسلمين في توفير المواد الأولية للإنتاج، وما شاكل ذلك من الأمور التي تمنع النفوذ الأجنبي في بلادنا.

وقد سُئل الإمام الرضا(عليه السلام): ما حق المؤمن على المؤمن؟ فقال: «إن من حق المؤمن على المؤمن: المودة له في صدره، والمواساة له في ماله، والنصرة له على من ظلمه، وإن كان فيء للمسلمين وكان غائباً أخذ له بنصيبه، وإذا مات فالزيارة إلى قبره، ولا يظلمه، ولا يغشه، ولا يخونه، ولا يخذله، ولا يغتابه، ولا يكذبه، ولايقول له: أفٍ، فإذا قال له: أفٍ فليس بينهما ولاية، وإذا قال له: أنت عدوي، فقد كفرَّ أحدهما صاحبه، وإذا اتهمه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في

ص: 410


1- إشارة إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} سورة الحشر، الآية: 9.
2- الكافي 2: 172.

الماء - إلى قال(عليه السلام) - وإن أبا جعفر الباقر(عليه السلام) أقبل إلى الكعبة وقال: الحمد لله الذي كرّمكِ وشرّفكِ وعظمكِ وجعلكِ مثابة للناس وأمناً، واللّه لحرمة المؤمن أعظم حرمة منكِ. ولقد دخل عليه رجل من أهل الجبل، فسلّم عليه، فقال له عند الوداع: أوصني؟

فقال له: أوصيك بتقوى اللّه، وبر أخيك المؤمن، فأحبّ له ما تحب لنفسك، وإن سألك فأعطه، وإن كف عنك فأعرض عليه، لا تمله فإنه لا يملك، وكن له عضداً، فإن وجد عليك فلا تفارقه حتى تسل سخيمته، فإن غاب فاحفظه في غيبته، وإن شهد فاكنفه وأعضده وزره وأكرمه وألطُف به، فإنه منك وأنت منه، وفطرك لأخيك المؤمن وإدخال السرور عليه أفضل من الصيام وأعظم أجراً»(1).

فإن المال يكون أداة في أيدي الناس، لتأمين الأرزاق وسد مختلف حاجات الإنسان، ورشده واستقلاله وبروز مواهبه، ويكون ذلك حقاً لجميع الناس مع مراعاة قانون الملكية الفردية التي أقرها الإسلام، وبدون أن يكون حكراً على طبقة معينة. فالغني عليه أن يواسي الفقير، ليكون مؤمناً حقاً، ومؤدياً للواجبات التي ألقيت على عاتقه من قبل اللّه تعالى وذلك بأداء الحقوق الواجبة والمستحبة في أمواله.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من واسى الفقير، وأنصف الناس من نفسه، فذلك المؤمن حقاً»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال للوصافي: «يا أبا إسماعيل أرأيت في ما قبلكم، إذا كان الرجل ليس له رداء، وعند بعض إخوانه فضل رداء، يطرحه عليه حتى

ص: 411


1- بحار الأنوار 71: 232.
2- الخصال 1: 47.

يصيب رداءً؟».

قال: قلت: لا.

قال: «فإذا كان ليس عنده إزار، يوصل إليه بعض إخوانه بفضل إزارٍ؛ حتى يصيب إزاراً؟».

قال: قلت: لا.

قال: فضرب بيده على فخذه، ثم قال: «ما هؤلاء بأخوة»(1).

ابدأ بنفسك

ومن كل ما تقدم يمكن القول: إنه يلزم على كل المسلمين أن يطبقوا (قانون التواصي بالحق وبالصبر)، و(مبدأ المواساة) فيما بينهم، إضافة إلى وحدتهم، فإنها من عوامل الاكتفاء الذاتي للمسلمين من الناحية الاقتصادية، فضلاً عن النواحي الأخرى التي أرسى مبادءها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والأئمة الأطهار(عليهم السلام)، بتحملهم الآلام والأحزان، وتقديمهم قوافل الشهداء، من أجل تثبيت وتدعيم الدين الإسلامي، ورعاية حقوق المؤمنين، فيجب على كل فرد في المجتمع الإسلامي، أن يبدأ العمل بنفسه، لكي يضمن حدوث التغيير نحو الأفضل في هذا المجتمع، بشكل كامل وشامل لكل البرامج والمواضيع.

فمن كلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «فلو مثلتهم لعقلك.. وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم، على كل صغيرة وكبيرة اُمِروا بها فقصروا عنها، أو نُهُوا عنها ففرطوا فيها، وحملوا ثقل أوزارهم ظهورهم، فضعفوا عنالاستقلال بها، فنشجوا نشيجاً، وتجاوبوا نحيباً، يعجون إلى ربهم من مقام ندمٍ واعترافٍ - إلى أن قال(عليه السلام) في آخر كلامه - فحاسب نفسك لنفسك، فإن

ص: 412


1- مصادقة الإخوان: 36.

غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك»(1).

وقال الإمام(عليه السلام) أيضاً في كلام له جاء في نهج البلاغة:

«وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى؛ لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز(2).

ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً، وحولي بطون غرثى(3)

وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحن إلى القد(4)

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش»(5).

ومن الأمور المهمة في هذه المواساة الاقتصادية: الابتعاد عن اللّهاث وراء اقتناء الألبسة والأغذية والمواد التجملية الغربية والشرقية، والعمل بجد والسعي للاكتفاء الذاتي، لنصبح أحراراً في دنيانا.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في الشعر المنسوب إليه:

كُدّ كَدّ العبدِ إن أحببت أن تُصبح حراً *** واقطع الآمال مِن مال بني آدم طراً

ص: 413


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 222 ومن كلام له(عليه السلام) قاله عند تلاوته قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْأصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} سورة النور: 36- 37.
2- القز: الحرير.
3- بطون غرثى: جائعة.
4- القِدّ: سير من جلد غير مدبوغ.
5- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 45 ومن كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف وكان عامله على البصرة.

لا تقل ذا مكسبٌ يُزري فقصد الناس أزرى *** أنت ما استغنيت عن غيرك أعلى الناس قدراً(1)

نموذج للاكتفاء الذاتي

اشارة

لقد ورد أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما هاجر إلى المدينة المنورة ورأى أن اليهود قد نشبت مخالبهم في أهل المدينة وذلك بسيطرتهم على اقتصاد الناس؛ لأن اليهود كانوا محيطين بالمدينة، وكانت البضائع بأيدي تجارهم وكذلك السلاح، وإن كان السلاح ذلك اليوم لا يتعدى السيف والسهم والرمح وما أشبه.

ورأى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن اليهود أفسدوا أهل المدينة أيضاً، بالخمر والبغاء والشذوذ الجنسي ونحو ذلك.

لذا عمل على أن ينقذ أهل المدينة من التبعية الاقتصادية والثقافية لليهود، إذ عندما أسر جماعة من المشركين في معركة بدر جعل فداءهم أن يعلّم كل أسير يعرف القراءة والكتابة عشرة من المسلمين بدلاً عن المال.

فقد جاء في التأريخ: أنه كان فداء أسرى بدر أربعة آلاف إلى مادون ذلك، أو أن يعلّم غلمان الأنصار الكتابة.

وروي أيضاً: أسر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم بدر سبعين أسيراً، وكان يفادي بهم على قدر أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلّمهم، فإذا حذقوا فهو فداؤه.

وروي: كان فداء أهل بدر أربعين أوقية، أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علمعشرة من المسلمين الكتابة، فكان زيد بن ثابت ممن علم(2).

ص: 414


1- الديوان المنسوب لأمير المؤمنين(عليه السلام): 210.
2- الطبقات الكبرى 2: 22.

وهكذا إلى أن استقل المسلمون بعد تعلّمهم القراءة والكتابة بتعليم أنفسهم(1).

نعم كان المعلم الأول للأمة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه حيث قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).

وبعد ذلك أمرهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يذهبوا ويتعلموا صنع السلاح، وذهب بعضهم إلى اليمن وتعلم صنع السلاح، فانقطعت سيطرة اليهود من ناحية السلاح أيضاً.

وكذلك حرّم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه سبحانه وتعالى، الزنا واللواط، والخمر، والقمار، والتي كانت من الأسباب المفسدة التي كان يروجها اليهود بين أهل المدينة قبل الإسلام؛ لأن الفساد يحطم الأمم.

فبهذا العمل حقق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للمسلمين الاستقلال الاقتصادي والثقافي والعسكري، وأبعدهم عن الشهوات المحرمة وإتباع النفس الأمارة بالسوء، فحصل للمسلمين الاكتفاء الذاتي، وبعدها أصبحت المدينة المنورة كقاعدة أساسية لانطلاق الدولة الإسلامية الكبرى.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أمنن على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره»(3).

ثورة الهند

ويمكن لنا أن نذكر مثالاً للتواصي والمواساة والاكتفاء الذاتي من خلال قصةتحرير الهند بقيادة غاندي وذلك في التأريخ الحديث، فخلال ثورة المائة مليون

ص: 415


1- للتفصيل انظر: تفسير القمي 1: 255.
2- سورة الجمعة، الآية: 2.
3- الخصال 2: 420.

هندي، بقيادة حزب المؤتمر(1) طلب غاندي من الشعب مقاطعة البضائع الأجنبية كافة وعلى الأخص الإنجليزية منها، وذلك لأجل الوصول إلى تحرير الهند من الاحتلال الإنجليزي، وأمرهم بالامتناع من استيراد الأقمشة وكافة المواد الأخرى من خارج الهند، وحتى المواد الأولية التي تدخل في الصناعات الهندية؛ وذلك لغرض تحرير الهند الكامل من التبعية لاقتصاد المستعمر الإنجليزي.

فبذلك ألزم على كل فرد من أفراد الشعب الهندي أن لا يرتدي الملابس المستوردة، وشجع على العمل في المعامل الهندية، ومنع العمل في المعامل غير الهندية. ولم يكتف بذلك؛ فبعد أمره هذا قام بتطبيق هذه الأوامر والنصائح أولاً على نفسه وعلى أهل بيته، لكي يرى شعبه مصداقيته أولاً فيقتدوا به، فقام بخلع ملابسه وأحرقها بالنار، أمام جموع الناس المحتشدة، للدلالة على رفض الأحرار لقيود وأغلال الاستعمار الإنجليزي، وبهذه الطريقة - المصداقية والتطبيقية - تمكن غاندي أن يحرر الهند بعد جهد وعناء طويل.

الطالب للرزق

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «من طلب الرزق في الدنيا استعفافاً عن الناس، وتوسيعاً على أهله، وتعطفاً على جاره، لقي اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المواساة أفضل الأعمال»(3).

فإن المسلم لا تنحصر مسؤولياته في أدائه الصلاة والصوم والزكاة والحجفقط... بل من واجباته أيضاً: نصرة المظلوم ومساعدة المحتاج واجتناب الكبائر

ص: 416


1- أقدم وأكبر الأحزاب الهندية، تأسس عام 1885م.
2- الكافي 5: 78.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 70.

والصغائر، وجميعها من الواجبات الملقاة على عاتق كل مسلم ومسلمة من الأمة، فبتوجهنا إلى أداء الأعمال الصالحة وخدمة المجتمع، نصل إلى أعلى مراتب الإيمان والتي بها يفتح اللّه على الناس من الخيرات كما جاء في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(1).

فالأساس في نزول النعم ورفع النقم عن الأمة هو الإيمان والتقوى، ومن شُعب الإيمان - كما جاء في بحثنا المتقدم - : المواساة ونكران الذات، والعمل على الاكتفاء الذاتي لبلاد المسلمين، فبإحياء روح الأخوة الإسلامية، ووقوف الأغنياء بجانب الفقراء، واستغلال الموارد في داخل الأمة الإسلامية، ورعاية قانون المواساة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، يمكن إحداث نهضة في البلاد والتحرر من قيود الاستعمار، تلك القيود التي جاءت بسبب الحاجة إلى بعض البضائع والمواد الأولية، في حين أننا نملك أكبر ثروة في العالم منحها اللّه تعالى لأمتنا، ألا وهي الثروة النفطية، والتي مهدنا الطريق للأجنبي ليستولي عليها، ولكي تكون عاملاً مساعداً له في نهضته هو وتأخرنا نحن(2).

ص: 417


1- سورة الأعراف، الآية: 96.
2- إذ تشير الدراسات والإحصاءات إلى أن الأمة الإسلامية تمتلك ثروات استراتيجية كبيرة وأهم هذه الثروات: النفط والغاز والأرض والزراعة وثروات معدنية مثل الحديد والنحاس والفوسفات وغيرها، حيث يختزن ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط في الأراضي الإسلامية، و5ر22% من الاحتياط العالمي للغاز، ويشكل النفط 65% من احتياجات أوروبا و80% من احتياجات اليابان و15% من احتياجات الولايات المتحدة. بالإضافة إلى تمتع العالم الإسلامي بموقع استراتيجي هام بالنسبة للتجارة العالمية وبمزايا مهمة يصعب على القوى المعادية فرض سيطرتها عليه بالكامل مما يجعل لديه عمقاً استراتيجياً مهماً في أية استراتيجية إسلامية ودولية.

وليكن العمل بهذه الأمور كما أشرنا، هو أن نبدأ بأنفسنا على التطبيق العملي الصحيح، فنتعامل حسب موازين الإسلام في الأخوة والتعاون والمواساة، مضافاً إلى رعاية التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ثم بمجموع ذلك يكون إصلاح المجتمع الكبير إن شاء اللّه تعالى.

«الحمد للّه الّذي خلق اللّيل والنّهار بقوّته، وميّز بينهما بقدرته، وجعل لكلّ واحدٍ منهما حدّاً محدوداً،وأمداً ممدوداً، يولج كلّ واحدٍ منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه، بتقديرٍ منه للعباد فيما يغذوهم به، وينشئهم عليه، فخلق لهم اللّيل ليسكنوا فيه من حركات التّعب ونهضات النّصب، وجعله لباساً ليلبسوا من راحته ومنامه، فيكون ذلك لهم جماماً(1) وقوّةً، ولينالوا به لذّةً وشهوةً، وخلق لهم النّهار مبصراً ليبتغوا فيه من فضله، وليتسبّبوا إلى رزقه، ويسرحوا في أرضه، طلباً لما فيه نيل العاجل من دنياهم، ودرك الآجل في أخراهم، بكلّ ذلك يصلح شأنهم، ويبلو أخبارهم، وينظر كيف هم في أوقات طاعته، ومنازل فروضه، ومواقع أحكامه، ليجزي الّذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الّذين أحسنوا بالحسنى»(2).

من هدى القرآن الكريم

الإسلام يحث على المواساة

قال تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}(3).

وقال سبحانه: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(4).

ص: 418


1- الجَمام: الاستراحة لرفع التعب والكسل.
2- الصحيفة السجادية: وكان من دعائه(عليه السلام) عند الصباح والمساء.
3- سورة آل عمران، الآية: 92.
4- سورة الحشر، الآية: 9.

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(1).

الإنفاق المالي

قال عزّ وجلّ: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}(2).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَٰعَةٌ}(3).

وقال سبحانه: {وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَىٰكُمْ}(4).

وقال جلّ وعلا: {ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}(5).

ابدأ بتغيير نفسك

قال تبارك تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(6).

وقال سبحانه: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}(8).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ وَاتَّقُواْ

ص: 419


1- سورة البقرة، الآية: 237.
2- سورة المنافقون، الآية: 10.
3- سورة البقرة، الآية: 254.
4- سورة النور، الآية: 33.
5- سورة الحديد، الآية: 7.
6- سورة الرعد، الآية: 11.
7- سورة الأنفال، الآية: 53.
8- سورة المائدة، الآية: 105.

اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ}(1).

الاكتفاء الذاتي

قال تعالى: {وَعَلَّمْنَٰهُ صَنْعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَٰكِرُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَٰنَ الشَّيَٰطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَٰنُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

المواساة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام): «يا علي، سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه عزّ وجلّ، وذكر اللّه تبارك وتعالى على كل حال»(6).

وعن خلاد السندي - رفعه - قال: أبطأ على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل، فقال: «ما أبطأ بك؟».

فقال: العري يا رسول اللّه.

ص: 420


1- سورة الحشر، الآية: 18.
2- سورة الأنبياء، الآية: 80.
3- سورة الأعراف، الآية: 31.
4- سورة المائدة، الآية: 66.
5- سورة الإسراء، الآية: 27.
6- الخصال 1: 125.

فقال: «أما كان لك جار له ثوبان يعيرك أحدهما؟».فقال: بلى يا رسول اللّه، فقال: «ما هذا لك بأخ»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كان له قميصان فليلبس أحدهما، وليُلْبس الآخر أخاه»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «خصلتان من كانتا فيه وإلّا فاعزب ثم اعزب ثم اعزب». قيل: وما هما؟ قال: «الصلاة في مواقيتها والمحافظة عليها والمواساة»(3).

المواساة المالية

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «مواساة الأخ في اللّه عزّ وجلّ تزيد في الرزق»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدونا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(5).

وسُئل أبو عبد اللّه(عليه السلام): ما أدنى حق المؤمن على أخيه؟ قال: «أن لا يستأثر عليه بما هو أحوج إليه منه»(6).

وسأله رجل: في كم تجب الزكاة من المال؟ فقال(عليه السلام) له: «الزكاة الظاهرة أم

ص: 421


1- مصادقة الإخوان: 36.
2- مكارم الأخلاق: 471.
3- الخصال 1: 47.
4- بحار الأنوار 71: 395.
5- الخصال 1: 103.
6- روضة الواعظين 2: 386.

الباطنة تريد؟». قال: أريدهما جميعاً؟فقال: «أما الظاهرة ففي كل ألف خمسة وعشرون، وأما الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليك منك»(1).

ابدأ بتغيير نفسك

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن سمت همتك لإصلاح الناس فابدأ بنفسك»(2).

وقال(عليه السلام): «تولوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها»(3).

وقال(عليه السلام): «كلما ازداد علم الرجل زادت عنايته بنفسه، وبذل في رياضتها وصلاحها جهده»(4).

وقال(عليه السلام): «من لم يصلح نفسه لم يصلح غيره»(5).

الاكتفاء الذاتي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم والسرف في المال والنفقة، وعليكم بالاقتصاد فما افتقر قوم قط اقتصدوا»(6).

وسُئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن قوله اللّه تعالى: {وَيَسَْٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}(7)؟ قال(عليه السلام): «الكفاف»(8).

ص: 422


1- الكافي 3: 500.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 259.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 319.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 535.
5- عيون الحكم والمواعظ: 427.
6- تفسير مجمع البيان 8: 222.
7- سورة البقرة، الآية: 219.
8- تفسير العياشي 1: 106.

وعن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أ ترى اللّه أعطى من أعطى منكرامته عليه، ومنع من منع من هوانٍ به عليه، لا ولكن المال مال اللّه يضعه عند الرجل ودائع، وجوز لهم أن يأكلوا قصداً، ويشربوا قصداً، ويلبسوا قصداً، وينكحوا قصداً، ويركبوا قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ويلموا به شعثهم، فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالاً، ويشرب حلالاً، ويركب حلالاً، وينكح حلالاً، ومن عدا ذلك كان عليه حراماً - ثم قال: - {وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(1) أترى اللّه ائتمن رجلاً على مالٍ خول له أن يشتري فرساً بعشرة آلاف درهمٍ ويجزيه فرسٌ بعشرين درهماً، ويشتري جاريةً بألف دينارٍ ويجزيه جاريةٌ بعشرين ديناراً وقال: {وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}»(2).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «وعليك بالاقتصار وإياك والإسراف فإنه من فعل الشيطنة»(3).

نشر العلوم الإسلامية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رحمة اللّه على خلفائي».

قالوا: وما خلفاؤك؟ قال: «الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد اللّه، ومن يحضره الموت وهو يطلب العلم ليحي به الإسلام فبينه وبين الأنبياء درجة»(4).

وقال الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام): «علّم الناس وتعلم علم غيرك؛ فتكون قد

ص: 423


1- سورة الأعراف، الآية: 31.
2- تفسير العياشي 2: 13.
3- بحار الأنوار 50: 292.
4- مستدرك الوسائل 17: 300.

أتقنت علمك وعلمت ما لم تعلم»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قام عيسى بن مريم(عليه السلام) خطيباً في بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل، لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن اللّه سائلكم يوم القيامة»(3).

ص: 424


1- كشف الغمة 1: 571.
2- الكافي 1: 42.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 126.

الثبات على المبدأ

الصبر

قال تعالى: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(1).

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «من ركب مركب الصبر اهتدى إلى مضمار النصر»(2).

إن للصبر تعاريف وتفاسير متعددة، لعل من أفضلها هو ما جاء في رواية مرفوعة إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «جاء جبرئيل(عليه السلام) إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، إن اللّه أرسلني إليك بهدية لم يعطها أحداً قبلك، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما هي؟ قال: الصبر - إلى قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - قلت: يا جبرئيل، فما تفسير الصبر؟ قال: تصبر في الضرّاء كما تصبر في السرّاء، وفي الفاقة كما تصبر في الغناء، وفي البلاء كما تصبر في العافية، فلا يشكو حاله عند المخلوق بما يصيبه من البلاء...»(3).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) لحفص بن غياث:

«يا حفص، إنّ من صبر صبر قليلاً، وإنّ من جزع جزع قليلاً، - ثمّ قال - عليك بالصّبر في جميع أمورك؛ فإنّ اللّه عزّ وجلّ بعث محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأمره بالصّبر

ص: 425


1- سورة الأنفال، الآية: 46.
2- كشف الغمة 2: 346.
3- معاني الأخبار: 260.

والرّفق فقال: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِيالنَّعْمَةِ}(1) وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(2) فصبر حتّى نالوه بالعظائم، ورموه بها، فضاق صدره فأنزل اللّه عليه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّٰجِدِينَ}(3) ثمّ كذّبوه ورموه، فحزن لذلك فأنزل اللّه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا}(4) فألزم النّبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نفسه الصّبر، فتعدّوا فذكروا اللّه تبارك وتعالى وكذّبوه فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ}(5) فصبر في جميع أحواله، ثمّ بشّر في عترته بالأئمّة(عليهم السلام) ووصفوا بالصّبر فقال جلّ ثناؤه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(6) فعند ذلك قال النّبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الصّبر من الإيمان كالرّأس من الجسد. فشكر اللّه ذلك له فأنزل اللّه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}(7) فقال: إنّه بشرى وانتقام، فأباح اللّه له قتال المشركين،

ص: 426


1- سورة المزمل، الآية: 10-11.
2- سورة فصلت، الآية: 34-35.
3- سورة الحجر، الآية: 97-98.
4- سورة الأنعام، الآية: 33- 34.
5- سورة طه، الآية: 130.
6- سورة السجدة، الآية: 24.
7- سورة الاعراف، الآية: 137.

فأنزل اللّه: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ}(1)،{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}(2) فقتلهم اللّه على يدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأحبّائه، وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخر له في الآخرة، فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدّنيا حتّى يقرّ اللّه له عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في الآخرة»(3).

كمال الشخصية

اشارة

يدور البحث حول: الصبر والاستقامة والثبات على المبدأ.

وهذه الثلاثة من الأعمال المهمة التي تساعد على كمال شخصية الإنسان، ولتوضيح ذلك نحتاج إلى ذكر بعض القصص والروايات، التي ذكرت في التأريخ، عن صبر وجهاد الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، في سبيل تبليغ رسالاتهم السماوية، وما تكبّدوه من معاناة وآلام في سبيل ذلك، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(4)، وكذلك نستشهد ببعض الوقائع والأحداث في عصرنا الحالي، لكي تكون حافزاً لنا على العمل في سبيل تحقيق أهدافنا، حتى لا نستسلم للأحداث مهما كانت شاقة، وأن نسير في طريق الاستقامة بثبات وعزيمة، وأن لا يثنينا عن ذلك كثرة العراقيل والمعوقات، واللّه المستعان.

نوح(عليه السلام) وقومه

قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاءِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَٰبِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ

ص: 427


1- سورة التوية، الآية: 5.
2- سورة البقرة، الآية: 191.
3- وسائل الشيعة 15: 261.
4- سورة يوسف، الآية: 111.

وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَارًا}(1).

أوحى اللّه تعالى إلى النبي نوح(عليه السلام) بأن يدعو قومه إلى عبادة اللّه تعالى، وأنيتركوا ما كانوا عليه عاكفين، من أصنام وغيرها. فنفّذ نوح(عليه السلام) أمر اللّه تعالى، وأخذ يبلّغ رسالة ربه، ولكن قومه كذبوه، بل وأكثر من ذلك، أنهم عمدوا على إيذائه ومقاطعته(عليه السلام)، إلى حد أنهم إذا سمعوا صوته وهو يبلّغهم بما أُنزل إليه من ربّه ليرجعوا إلى رشدهم، وينبذوا عاداتهم وتقاليدهم المغلوطة، ويتوجهوا إلى عبادة اللّه تعالى، وضعوا أصابعهم في آذانهم، كي لا يسمعوا صوته(عليه السلام). وكلّما رأوه وضعوا ثيابهم على وجوههم كي لا يشاهدوه(عليه السلام)، إضافة إلى هذا كله كانوا يُسمعونه أقوالاً قبيحة لا تليق بمقامه الشريف. وكانوا يمارسون ضده بعض الأعمال الخشنة. ولكن مع هذا كلّه لم يدخل الجزع إلى نفسه، ولم يرضخ لهم، وأخذ يبلّغ رسالة ربه ليل نهار، ويقول المفسرون في كلمة {لَيْلًا وَنَهَارًا} المقصود منها: هو كناية عن دوامه في تبليغ الرسالة الإلهية من غير فتور ولا توان(2).

وخلاصة الكلام: إن في القصة عبرةً ودرساً بليغاً ضربه لنا نوح(عليه السلام) فيجب علينا أن نستفيد منه في مسيرتنا الجهادية لنشر الإسلام، حتى يكون الرسالي على أهبة الاستعداد للتضحية وتحمل العنت والمشقّات، ولو طال ذلك كثيراً كما حصل لنبي اللّه نوح(عليه السلام)، كما يتطلب منه أن لا يتوقف عن أداء مهمته، وأن لا يدع لليأس طريقاً إلى نفسه أبداً، وأن يحافظ على نشاطه ومساعيه بنفس الحرارة التي بدأ فيها، وإن الآية الكريمة أشارت إلى أن نوحاً(عليه السلام) ظل طوال (950) عاماً

ص: 428


1- سورة نوح، الآية: 5-7.
2- انظر: تفسير جامع الجوامع 4: 364.

من العمل الدؤوب {مَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}(1)، حتى قال بعضهم: إن هذا العدد القليل هوسبعة أشخاص(2) فقط، وعن حمران عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه: {وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} قال: «كانوا ثمانية»(3).

الاستقامة

قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال له أصحابه: أسرع إليك الشيب يا رسول اللّه؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شيبتني هود والواقعة»(5).

قال ابن عباس: ما نزل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) آية كانت أشد عليه ولا أشق من هذه الآية؛ ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟! قال: «شيبتني هود والواقعة»(6)،

ويقصد عن سورة هود على المشهور الآية: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}.

فالآية الكريمة من سورة هود احتوت على خطابين، الأول: موجّه إلى الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والثاني: موجّه إلى من تاب معه، وهذا معناه: أن الأمر موجّه إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والى من معه من المسلمين، فلا تكفي استقامة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى ينزل نصر اللّه تعالى؛ لأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو قمّة الصبر والاستقامة مؤيداً من قبل اللّه، وإنما الأمر يتعلق باستقامة المسلمين أيضاً.. والاستقامة هي: أداء

ص: 429


1- سورة هود، الآية:40.
2- انظر: التبيان في تفسير القرآن 5: 486.
3- تفسير العياشي 2: 148.
4- سورة هود، الآية: 112.
5- الخصال 1: 199.
6- بحار الأنوار 17: 52.

المأمور به والانتهاء عن المنهي عنه.هذا ما نقل عن مجمع البيان في تعريف الاستقامة(1).

وقيل: معنى الآية الكريمة هو استقم أنت على الأداء وليستقيموا هم على القبول وغيرها من المعاني(2).

إذن، فالاستقامة ضرورية في كل عمل يعمله الإنسان فبالإضافة إلى الصبر والثبات نحتاج أيضاً إلى الاستقامة لكي نحظى برضا اللّه تعالى ورحمته، أولاً وننجح في الأعمال المطلوبة منا ثانياً.

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحمل الأذى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما أؤذي نبي مثل ما أوذيت»(3).

إن أغلب الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، تحملوا المتاعب والمصاعب الكبيرة، في سبيل نشر الرسالة التي أمرهم اللّه تعالى بتبليغها إلى البشرية، ومنهم خاتم الأنبياء الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

والشخص المتفحص للتاريخ وخصوصاً لتاريخ قريش قبيلة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وسير الحياة فيها، سوف يلاحظ صعوبة الدخول في قريش، وتغيير أفكارهم. فقريش قبيلة كبيرة لها نظامها الخاص وأسلوبها في الحياة. فالعادات الجاهلية كانت منتشرة في هذه القبيلة وغيرها من القبائل القاطنة في الجزيرة العربية. والتفاخر بالأنساب والألقاب، والسبي والقتل، وعبادة الأوثان هي السائدة، ومع كل هذا يخرج الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وينفي كل هذه العادات

ص: 430


1- انظر: مجمع البيان للطبرسي 5: 341.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 2: 652.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 247.

والتقاليد، التي كانوا يتوارثونها أباً عن جد. بل وأكثر من ذلك، تراه يدعوهم لنبذ هذهالأعمال ويدعوهم لعبادة اللّه الواحد وحفظ الجوار والتآخي ونفي التعالي والتفاخر إلّا بما يقرب إلى اللّه الواحد. فماذا تتوقع من أناس أعماهم الجهل عن رؤية الحقيقة، وجعلهم يرون بأنّ هذه الأعمال والأفعال التي يعملونها هي الصحيحة؟

فكان الرد على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنيفاً، ولقد ألحقوا به أذىً عظيماً ابتداءً بتكذيبه ومحاصرته إعلامياً، إلى أن تيقنوا من عدم الجدوى من وراء ذلك، فأمروا أولادهم ونساءهم بالتعرض للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقذفه بالحجارة ووضع الأشواك في طريقه ومصادرة أمواله والاستهزاء به، وقالوا: إنه ساحر ومجنون(1). وقالوا: إنه شاعر أو كاهن مسّه بعض آلهتنا بسوء(2)، وغيرها من الأساليب التي ابتدعوها لكي يشوّهوا صورة النبي العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نظر الناس.

ولكن جهاد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصبره وثباته على مبدئه أفشل جميع مخططاتهم وكيدهم، متخطياً بذلك هذه الصعوبات. واستطاع نتيجة ذلك تغيير الكثير من قومه، حتى دخلوا في الإسلام عندما رأوا صدقه وصلابته على مبدئه، وحرصه على مصلحتهم، وتفانيه في احترامهم، حيث أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما واجهه قومه بالتكذيب والأذى، وعملوا ما عملوا لإيذائه وإيذاء أصحابه لم يجزع، بل دعا لهم ربه واستغفر لهم. ففي رواية أن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يمسح الدم عن وجهه

ص: 431


1- فقال تعالى - محاكاة لقولهم - : {وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٌ كَذَّابٌ} سورة ص، الآية: 4 وقال تعالى: {كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} سورة الذاريات، الآية: 52.
2- قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ * فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٖ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} سورة الطور، الآية: 28- 30.

عندما ضربه المشركون من قومه في يوم أحد على جبهته الشريفة ويقول: «اللّهم اهدِقومي فانهم لا يعلمون»(1).

وكلامنا هو: أن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما قابله قومه بالتكذيب والاستهزاء والاعتداء عليه بالضرب والمقاطعة، وغيرها من صنوف الأذى لم ينهزم أو يستسلم أمامهم، بل صبر وصابر ورابط على مبدئه، بدون ضعف أو هوان، والنتيجة كانت ان انتشر الإسلام في بقاع واسعة من المعمورة، وأصبحت رسالته خالدة إلى يوم يبعثون، ومن تمسّك بتلك الرسالة فاز في الدنيا والآخرة.

فعلينا اليوم أن نتأسى بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في صبره وجهاده كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(2). لكي نتغلب على الصعوبات والعراقيل التي تقف حائلاً أمام مسيرتنا الإسلامية ودعوتنا إلى اللّه تبارك وتعالى.

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والثبات على المبدأ

بعد أن رأى المشركون تأثير دعوة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين الناس أقدموا على مؤامرة آلت بالنتيجة إلى الخيبة والخسران وهي:

عقد رؤساء قبائل قريش اجتماعاً لهم في دار الندوة، وكتبوا صحيفة قرروا فيها أمراً يقضي بإلزام كل قريش بقطع علاقاتها ببني هاشم، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وإن أي شخص من قريش يريد أن يقيم علاقة مع بني هاشم، فعلى قريش أن لا تسلم عليه ولا ترد عليه السلام، وأن تصادر أمواله إذا أقام تجارة مع بني هاشم، حتى يدخل في عزلة تجبره أخيراً على الاستسلام إلى إرادة قريش.

ص: 432


1- إعلام الورى: 83.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.

وفي المقابل قرّر رسول اللّه وأبو طالب البحث عن وسيلة لخلاص بني هاشممن هذا الخطر، فقرروا أن ينزلوا في شعب أبي طالب مع مائة وعشرين فرداً من بني هاشم على أن يخرجوا إلى هناك ليلاً، ليتخلصوا من الأذى الجسمي، والعذاب النفسي الذي تسببه مقاطعة قريش لهم، إن الأذى الذي تحمّله بنو هاشم كان بقدر لا يطاق، فمن تعب ومعاناة إلى جوع وعطش، حتى أنهم صاروا صُفر الوجوه، وقد بان الضعف على أبدانهم، وما موت خديجة(عليها السلام) إلّا نتيجة لما لاقته من أذى في شعب أبي طالب، عندما كانت تذهب إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه وتحمل لهم قليلاً من الأكل والماء، ووصلت الحالة بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه أنهم كانوا يتوسدون حجر الجبال وينامون بعض الليل، حتى أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لهم عند قليب بدر: «بئس عشيرة الرجل كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وأواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس»(1).

الصبر والثبات أقوى

وفي نهاية الأمر وقع اختلاف بين رؤساء قريش، فبعضهم قد عارض قطع العلاقات مع بني هاشم وطالبوا بإعادتها، مثل مطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزهير بن أمية المخزومي. في حين كان البعض الآخر يرى ضرورة إدامة قطع تلك الروابط مثل أبي سفيان، وأبي جهل، وأتباعهما. ولما أتى على رسول اللّه وأصحابه في الشعب أربع سنين، بعث اللّه على صحيفتهم النكراء دابة الأرض فلمست جميع ما فيها من قطيعة وظلم وتركت ما كان فيه ذكر لله سبحانه، وهو قولهم (باسمك اللّهم)(2)، ونزل جبرائيل(عليه السلام) على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 433


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 60.
2- انظر: مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 65.

فأخبره بذلك، فأخبر رسول اللّه أبا طالب، وذهب بدوره إلى قريش وأخبرهم بذلك،فبعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة وعليها أربعون خاتماً، فلما أتوا بها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه، ثم فكّوها فإذا ليس فيها حرف واحد إلّا (باسمك اللّهم). فقال أبو طالب: يا قوم اتقوا اللّه وكفوا عمّا أنتم عليه، فتفرق القوم ولم يتكلم أحد(1).

وما خروج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه من الشعب منتصرين بنصر اللّه دون أن يعطوا أي تنازل للمشركين عن مبدئهم إلّا نتيجة لتحملهم وصبرهم على أذى قريش.

وخلاصة القول هو: إن الإنسان المؤمن الذي يريد الوصول إلى أهدافه لابد له من الثبات والصبر والتحمل، وعدم التنازل للأعداء قيد أنملة.

تشكيل الحكومة الإسلامية

تشكيل الحكومة الإسلامية(2)

إن نتائج الصبر والثبات على المبدأ تحقق أغلب الطموحات والأماني، فإنّ الأمل الذي يراود أغلب المسلمين هو: تشكيل حكومة إسلامية موحدة للمسلمين تحافظ على مصالحهم، وتصون حقوقهم وممتلكاتهم، وذلك لا يتم ولا يتحقق بدون الصبر والاستمرار على النهج القويم الذي خطّه لنا أئمتنا(عليهم السلام).

وكذلك نحتاج إلى بعض الأمور المهمة التي تعد كمقدمات لهذا الهدف، منها: توفير كادر إسلامي متخصص من العلماء من ذوي الاختصاص، تشمل

ص: 434


1- إعلام الورى: 52.
2- للتفصيل راجع: الدولة الإسلامية (جزأين)، والسبيل إلى الوحدة الإسلامية، والسبيل إلى إنهاض المسلمين، والصياغة الجديدة، والحكومة العالمية الواحدة (مخطوط) والكثير غيرها، من مؤلفات الإمام الراحل(رحمه اللّه) في هذا المجال.

حقول الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، وغيرها من مجالات الحياة؛ ليقوموابمتابعة الحالة العامة للمسلمين، ودراستها دراسة مستفيضة ومحيطة بكل الجوانب، وتعيين نقاط الضعف، ونقاط القوة، ووضع الحلول المناسبة لذلك، بمعونة وإشراف المراجع العظام. وكذلك تهيئة كادر إسلامي أوسع نطاقاً، يتكون من المبلغين والكتّاب والأساتذة كلٌّ في اختصاصه، للقيام بنقل التوصيات والتعليمات التي أقرّها الإسلام، وتطبيقها على أرض الواقع. ومن المقدمات المهمة لذلك هي:

أولاً: الأخوّة الإسلامية، اللازم تحقيق الأخوّة الإسلامية في نفوس المسلمين ليصبح المسلمون إخوة، تجمعهم وشائج الإسلام أين ما كانوا، بحيث يصبح المسلم العربي أخاً للمسلم الفارسي، وهذا أخاً للمسلم التركي، والأخير أخاً للهندي... وهكذا سائر المسلمين مصداقاً للآية الكريمة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1) والحديث النبوي الشريف: «..المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحرمه، فيحق على المسلمين الاجتهاد فيه - الزمان الشديد - والتواصل والتعاون عليه والمواساة لأهل الحاجة والعطف منكم، يكونون على ما أمر اللّه فيهم {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(2) متراحمين»(3). فحينئذ يصبح من السهل تشكيل الحكومة الإسلامية الموحدة الجامعة لكل المسلمين.

إن النصوص الواردة في القرآن والسنة، وهي كثيرة، تبين ما بين المسلمين من

ص: 435


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- الكافي 4: 50.

أخوة عميقة، هي أخوّة الدين والإيمان، وبتطبيقها يتحقق المطلوب ونخطوخطوات كبيرة إلى الأمام(1).

ثانياً: نشر الحرية الإسلامية في البلاد، ورفع القيود التي تقيد الإنسان وتحد من عمله، فإن الإسلام لا يقر القيود والأغلال التي تفرض على الإنسان فقد قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(2)، وإنما جاء الإسلام لكي يرفع هذه القيود والأغلال التي كانت تكبله في العصور المظلمة، والتي سبقت بزوغ نجم الإسلام، وقد ذكر في بعض التفاسير(3) أن هذه الآية نزلت على اليهود والنصارى تصف لنا حياتهم قبل مجيء الإسلام. فقد كانوا في كبت وضيق وعندما أتى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفع عنهم هذا الكبت، وهذه الأغلال، كما يفهم من الآية التي تليها: {قُلْ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(4) إن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مبعوث إلى كافة الناس فإذا كان يرفع الأغلال والقيود عن اليهود والنصارى فمن باب أولى يرفعها عن المسلمين. ومن هنا عرف الإسلام بأنه دين المحبة والسلام والحرية.

إذ أن من خواص الإسلام أنه يطلق الحريات المعقولة، فالسفر والإقامة والتجارة والزراعة والصناعة والبيع والاشتراء والكلام والكتابة والتجمع وغيرها، كلها مباحة لا قيود لها، إلّا بعض الشرائط الطفيفة التي هي في صالح المجتمع والفرد، ولا يعلم مدى ذلك إلّا بالمقايسة إلى الأنظمة والمناهج الدنيوية التي كلها كبت واستعباد واستغلال.

ص: 436


1- انظر: الكافي 2: 165 ووسائل الشيعة 16: 285- 385.
2- سورة الأعراف، الآية: 157.
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 374.
4- سورة الأعراف، الآية: 158.

ثالثاً: الأمة الواحدة، قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْفَاعْبُدُونِ}(1) إن القرآن والإسلام يحث المسلمين على الوحدة ورفع الحواجز والحدود في ما بينهم؛ لأن في تفرقتهم ضعفهم وهوانهم، ويطمع الأعداء فيهم. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(2).

ففي تحقق هذه النقاط الثلاث: الأخوة الإسلامية والحرية الإسلامية والأمة الواحدة في المجتمع الإسلامي، وإزالة المخاوف التي تراود المسلمين من قيام حكومة إسلامية - والتي زرعها الاستعمار في قلوب بعض المسلمين - يصبح من السهل تشكيل حكومة إسلامية عالمية، تدافع عن المسلمين وتحافظ على مصالحهم.

مفتاح النجاح

إن الشيء المهم الذي يعدّ مفتاح النجاح والفلاح في جميع الأهداف، هو الثبات والدوام على النهج الإسلامي القويم، وعدم الملل والكلل، لأن أي هدف مهما كان بسيطاً يحتاج إلى الصبر والاستمرار في العمل.

أضرب هنا مثلاً: الطالب سواء كان حوزوياً أم طالباً في المدارس الأكاديمية، عندما يدخل في المدرسة يتحمل البرد والجوع أحياناً، وضنك العيش، وربما يصرف أموالاً طائلة لكي يحصل على ثمرة عمله، فالطالب الصبور المستمر في دراسته تلاحظه يتوفق غالباً، ويصل إلى هدفه، بعكس الطالب القليل الصبر، فإنه ينهزم من أول مشكلة تصادفه، ويقطع دراسته، ويصبح فاشلاً في حياته غالباً.

وهذا المثل الذي ضربناه لكم، يعدّ مثلاً صغيراً جداً، مقارنة مع هدفنا في

ص: 437


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.

تشكيل الحكومة الإسلامية. أما هدفنا العظيم هذا فهو يحتم علينا الصبر الكثيروإدامة العمل مهما كانت المعوقات والمشاكل، وفي التاريخ الكثير من القضايا التي تعد درساً بليغاً في ذلك. مثلاً، أحد أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين ما أشرف على الموت أخذ يبكي بكاءً شديداً، فسأله أصحابه الذين اجتمعوا حوله، عن سبب بكائه؟ فقال: لأن الإنسان لابد ميت، وإني لأخشى أن يفاجئني أجلي على فراشي، دون أن أرزق الشهادة تحت راية رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذا المعنى ورد عن إمامنا الحسين(عليه السلام) في أبيات منسوبة له(عليه السلام):

فإن تكن الدنيا تعد نفيسة *** فإن ثواب اللّه أعلى وأنبل

وإن تكن الأبدان للموت أنشئت *** فقتل امرء بالسيف في اللّه أفضل(1)

قال بعض الرواة: فواللّه ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه، وإن كانت الرجال لتشد عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب، ولقد كان يحمل فيهم وقد تكمَّلُوا أَلفاً فينهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول: «لا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم»(2).

فموقف إمامنا الحسين(عليه السلام) هذا هو درس وافٍ لتلخيص المبادئ التي تحدثنا عنها (الصبر والاستقامة والثبات على المبدأ) وغيرها من المبادئ والعبر. فالإمام(عليه السلام) كان ينبوع الصبر، أيُّ إنسان قتل أهل بيته، وأصحابه وبات وحيداً فريداً، لا ناصر له ولا معين، أمام جيش جرار، مدجج بالسلاح مصمم على قتله، فيما بقي عيالاته وحرمه بغير راع أو كفيل، يواجه كل ذلك أمام عينيه، فلا يتسرب

ص: 438


1- اللّهوف: 74.
2- بحار الأنوار 45: 50.

إلى نفسه جزع أو اضطراب، بل يبكي لا لأجل نفسه، بل لأن كل تلك الألوفالمؤلفة ستدخل النار بسبب العدوان على حقه... فيتقدم إليهم رابط الجأش، مشرق الوجه يعظهم، وينذرهم بغضب اللّه وسخطه.

ولما لم يجد تأثيراً لنصحه وتذكيره، بل وجدَ القوم يطفحون بالشر والكفر، بحيث لا يقبلون بغير رأسه بدلاً، تقدم إليهم بلامة حربه شاهراً سيفه وهو لا يفتأ يردّد: «لا حول ولا قوة إلّا باللّه... نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين»(1) صابراً محتسباً، لأمر اللّه وقضائه ثابتاً على المبدأ الذي آمن به، مستقيماً على دين جده المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حتى ضحّى بحياته وأهل بيته وأصحابه؛ في سبيل ذلك الهدف، وفي سبيل كسب رضا اللّه تعالى، وفي سبيل أن يبقى الإسلام حياً في قلوب البشر، وفي زيارة الناحية نقرأ هذه المقاطع:

«... أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر والعدوان، وأطعت اللّه وما عصيته، وتمسكت به وبحبله، فأرضيته وخشيته، وراقبته واستجبته، وسننت السنن، ... وكنت لله طائعاً ولجدك محمداً صلى اللّه عليه وآله تابعاً، ولقول أبيك سامعاً والى وصية أخيك مسارعاً ولعماد الدين رافعاً وللطغيان قامعاً وللطغاة مقارعاً وللأمة ناصحاً، وفي غمرات الموت سابحاً... وللحق ناصراً وعند البلاء صابراً وللدين كالئاً وعن حوزته مرامياً...»(2).

فنسأل اله تعالى أن يجعلنا من الصابرين المحتسبين والثابتين على الصراط المستقيم.

«اللّهم بك أساور، وبك أجادل، وبك أصول، وبك انتصر، وبك أموت، وبك

ص: 439


1- كشف الغمة 2: 29.
2- المزار الكبير: 501.

أحيا، أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك، لا حول ولا قوة إلّا باللّه العليالعظيم»(1).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

من هدي القرآن الحكيم

جزاء الصابرين

قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٖ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ الْأَمْوَٰلِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ الصَّٰبِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ * أُوْلَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَالصَّٰبِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٖ}(5).

وقال تعالى: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(6).

ص: 440


1- المجتنى: 22.
2- سورة البقرة، الآية: 249.
3- سورة البقرة، الآية: 155 و157.
4- سورة البقرة، الآية: 177.
5- سورة الزمر، الآية: 10.
6- سورة آل عمران، الآية: 146.

الاستقامة طريق النجاح

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْوَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}(2).

وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَٰمُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّاءً غَدَقًا}(3).

الصبر في العمل وتحمل الأذى

قال سبحانه: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا ءَاذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ}(6).

وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(7).

ص: 441


1- سورة فصلت، الآية: 30.
2- سورة الأحقاف، الآية: 13.
3- سورة الجن، الآية: 16.
4- سورة إبراهيم، الآية: 12.
5- سورة آل عمران، الآية: 195.
6- سورة الأنعام، الآية: 34.
7- سورة آل عمران، الآية: 186.

الثبات على المبدأ

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ}(1).وقال عزّ وجلّ: {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأخِرَةِ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

جزاء الصابرين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: بدناً صابراً ولساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وزوجة صالحة»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) (حاكياً) عن اللّه تعالى: «إذا وجِّهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً»(6).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له»(7).

ص: 442


1- سورة آل عمران، الآية: 200
2- سورة الأنفال، الآية: 66.
3- سورة محمد، الآية: 7.
4- سورة إبراهيم، الآية: 27.
5- مستدرك الوسائل 2: 414.
6- جامع الأخبار: 116.
7- الكافي 2: 89.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عجبت من المؤمن وجزعه من السقم، ولو يعلم ماله في السقم الثواب لأحب أن لا يزال سقيماً حتى يلقى ربه عزّ وجلّ»(1).وقال أبي عبد اللّه(عليه السلام): «من إبتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد»(2).

الاستقامة طريق النجاح

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «استقم وليحسن خلقك للناس» وقال أيضاً(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «استقيموا ونعمّا إن استقمتم»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العمل العمل، ثم النهاية النهاية، والاستقامة الاستقامة، ثم الصبر الصبر، والورع الورع... ألا وإن القدر السابق قد وقع والقضاء الماضي قد تورد(4) وإني متكلم بعِدَةِ(5) اللّه وحجته قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(6) وقد قلتم: ربنا اللّه فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثم لا تمرقوا منها، ولا تبتدعوا فيها، ولا تخالفوا عنها»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من استقام فإلى الجنة، ومن زلّ فإلى

ص: 443


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 501.
2- الكافي 2: 92.
3- نهج الفصاحة: 210.
4- تَورَّدَ: هو تفعّل كتنزّل، أي ورد شيئاً بعد شيء.
5- عِدَة اللّه - بكسر ففتح - : وعده.
6- سورة فصلت، الآية: 30.
7- نهج البلاغة، الخطبة: الرقم 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.

النار»(1).

وقال(عليه السلام): «لا مسلك أسلم من الاستقامة»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «لا سبيل أشرف من الاستقامة»(3).

الصبر في العلم وتحمل الأذى

قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «إنه سيكون زمان لا يستقيم لهم الملك إلّا بالقتل والجور، ولا يستقيم لهم الغنى إلّا بالبخل، ولا يستقيم لهم الصحبة إلّا باتباع أهوائهم والاستخراج من الدين، فمن أدرك ذاك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على الذل وهو يقدر على العز، وصبر على بغضه الناس وهو يقدر على المحبة، أعطاه اللّه تعالى ثواب خمسين صديقاً»(4).

ومن وصايا الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه الحسين(عليه السلام) أنه قال له: «يا بني أوصيك... بالعمل في النشاط والكسل»(5).

وقال الإمام أبو جعفر(عليه السلام): «أحب الأعمال إلى اللّه عزّ وجلّ ما داوم عليه العبد، وإن قل»(6).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اتقوا اللّه واصبروا فإنه من لم يصبر أهلكه الجزع، وإنما هلاكه في الجزع أنه إذا جزع لم يؤجر»(7).

ص: 444


1- نهج البلاغة، الخطبة: الرقم 119 من كلام له(عليه السلام) وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا ملياً.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 775.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 771.
4- جامع الأخبار: 116.
5- تحف العقول: 88.
6- الكافي 2: 82.
7- التمحيص: 64.

بالصبر ينال المطلوب

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً إن مع العِسر يسرا»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من ركب مركب الصبر اهتدى إلى مضمارالنصر»(2).

وقال(عليه السلام): «الصبر يرغم الأعداء»(3).

وقال الإمام أبي عبد اللّه(عليه السلام): «إن العبد يكون له عند ربه درجة لا يبلغها بعمله فيبتلى في جسده، أو يصاب في ماله، أو يصاب في ولده، فان هو صبر بلغه اللّه إياها»(4).

ص: 445


1- من لا يحضره الفقيه 4: 412.
2- كشف الغمة 2: 346.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 46.
4- المؤمن: 26.

الجدال بالتي هي أحسن

الموعظة الحسنة

قال اللّه تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(1).

إن اللّه سبحانه أمر نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدعوة الناس إلى الحق والصراط المستقيم فقال: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ} أي: ادع إلى دينه لأنه الطريق إلى مرضاته {بِالْحِكْمَةِ} أي: بالقرآن، أو مطلق ما يكون مطابقاً للحكمة، وسُمّي القرآن حكمةً، لأنه يتضمن الأمر بالحَسَن والنهي عن القبيح. وأصل الحكمة المنع، ومنه حكمة اللجام. وإنما قيل لها حكمة، لأنها بمنزلة المانع من الفساد، وما لا ينبغي أن يختار. وقيل: إن الحكمة هي المعرفة بمراتب الأفعال في الحُسن والقبح، والصلاح والفساد، لأن بمعرفة ذلك يقع المنع من الفساد، والاستعمال للصدق والصواب في الأفعال والأقوال. {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} معناه: الوعظ الحسن، وهو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه، والتزهيد في فعله، وفي ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع. وقيل: إن الحكمة هي النبوة، والموعظة الحسنة مواعظ القرآن، روي ذلك عن ابن عباس. {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: ناظرهم بالقرآن، وبأحسن ما عندك من الحجج، وتقديره بالكلمة التي هي أحسن.

ص: 446


1- سورة النحل، الآية: 125.

والمعنى: اصرف المشركين عما هم عليه من الشرك، بالرفق والسكينة، ولين الجانب في النصيحة، ليكونوا أقرب إلى الإجابة، فإن الجدل(1) هو فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج، وقيل: هو أن يجادلهم على قدر ما يحتملونه، كما جاء في الحديث: «أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس على قدر عقولهم»(2)(3).

وقد ذكرنا في (التقريب): {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ} أي: أدع الناس إلى طريقه سبحانه {بِالْحِكْمَةِ} وهي وضع الشيء موضعه، بأن تكون الدعوة حكيمة في الأسلوب والزمان والمكان {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} بأن تكون الدعوة وعظاً حسناً، لا يسبب تشريد الناس، بل إقبالهم، فقد يقول الإنسان للفاسق: يا فاسق، ويبصق في وجهه - فإنه يزيده عناداً - وقد يقول له: أيها الأخ، إنك شاب جميل، فلماذا لاتسلك سبيل ربك الذي نهاك عن العمل الكذائي؟ وهكذا،{وَجَٰدِلْهُم} أي حاجج وناظر من كفر وعصى {بِالَّتِي} أي بالطريقة التي {هِيَ أَحْسَنُ} الطرق، حيث لا تثير عنادهم ولا تجرح كبرياءهم {إِنَّ رَبَّكَ} يا رسول اللّه {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} واعرف بطباعهم ونفسياتهم، فأمره إياك بالدعوة هكذا، ليس إلّا لأنه أعلم بما يُصلحهم {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} الذين اهتدوا فجزاؤهم عليه، وليس عليك إلّا الدعوة بهذه الكيفية(4).

بناءً على ما ذكر من أن الحكمة هي القرآن أو رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو ما يناسب الزمان والمكان وسائر الشرائط، ينبغي لحملة الرسالة والمبلغين أن يتحلوا

ص: 447


1- الجَدَل: اللَّدَدُ في الخُصومة والقدرةُ عليها.
2- عوالي اللئالي 2: 103.
3- تفسير مجمع البيان 6: 210.
4- تفسير تقريب القرآن 3: 278.

بالحكمة، ليؤثر كلامهم في الناس، وكذلك الموعظة الحسنة.

ولا فرق في ذلك بين الكلام اللفظي والكتبي والعملي.

فينبغي أن يكون الخطيب حكيماً ويتصف بحسن الموعظة، وكذلك الكاتب، وهكذا المبلّغ الديني في سيرته العملية، فإن الناس كثيراً ما ينظرون إلى فعل الإنسان قبل قوله.

ومن جانب آخر، قد يكون من مصاديق الحكمة والموعظة الحسنة: أنه لا بد للخطيب أو الكاتب أو الباحث قبل أن يخوض في بحثٍ، أو يناقش مسألة، أو يكتب كتاباً، أو يبيّن فكرة مّا، أن يدعم موضوعه وفكرته بالنور الساطع، المتمثل بالقرآن الكريم، وسنة النبي العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) ليكتمل موضوعه ويتصف بالحكمة؛ لأنهم(عليهم السلام) لم يتركوا شيئاً من أمور الدنيا والآخرة إلّا وقد وضّحوه لنا، إمّا بالمباشرة أو بنحو العمومات وما أشبه، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحن»(1).

وهناك العديد من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، التي تدل على هذا الموضوع، كما أن قصصاً كثيرة من التاريخ الإسلامي، ومن واقعنا الحالي، تشهد على ذلك.

التقسيمات الأولية للمناقشة

اشارة

المناقشة: فن جميل، ينبغي لكل مسلم أن يحاول تعلّمها وتعليمها، فإنّ لها

ص: 448


1- الكافي 1: 183.

منافع جمة يستطيع بها الإنسان من الوصول إلى مراده بأقل عناء وتعب.فالشخص الذي يجيد أسلوب المناقشة يصبح من السهولة عليه أن يقنع الآخرين ويجرهم إلى فكرته وهدفه، على العكس من الشخص الذي لا يجيده، فإنّه حتى لو كان على حق، وكانت فكرته التي يريد إيصالها نافعة وصحيحة، فإنّه يلاقي صعوبة كبيرة في إيصال مراده إلى الطرف المقابل، إن لم نقل بأنّه سيفشل في ذلك.

وقد قسّم المختصون في فن المناقشة - الناس من حيث النقاش - إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الخواص المميزون، وهم أصحاب النفوس المشرقة، القوية الاستعداد لإدراك الحقائق العقلية، فهؤلاء عادة يدعون بالحكمة، وتكون المناقشة معهم بالبراهين والأدلة العقلية.

الثاني: عموم الناس ممن لهم فهم عادي واستعداد ليس بالفائق، وتكون شدة ألفتهم بالمحسوسات، وقوة تعلقهم بالرسوم والعادات كبيرة، وربما كانوا قاصرين عن تلقي البراهين العلمية، من غير أن يكونوا معاندين للحق، وهؤلاء تكون نوع المناقشة معهم عن طريق الموعظة الحسنة.

الثالث: قلة من الناس وهم أصحاب العناد واللجاج، اللذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ويكابرون ليطفئوا نور اللّه بأفواههم، وهؤلاء لا ينفع معهم النقاش عن طريق البراهين والأدلة، أو عن طريق الموعظة الحسنة، وإنما يلزم مجادلتهم بأحسن الجدال حيث قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1).

ص: 449


1- سورة النحل، الآية: 125.

تبديل حالة الدفاع إلى الهجوم

ذكر المختصون في أساليب المناقشة ضرورة اتخاذ سياسة الهجوم بدل الدفاع، خاصة في حال كون الطرف المقابل معانداً.

ولا نقصد بالهجوم ما ينافي الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، بل هجوماً منطقياً خاضعاً لإحدى المراتب الثلاثة المذكورة في الآية الكريمة، أي هجوماً بحكمة، أو هجوماً بموعظة حسنة، أو هجوماً جدلياً بالتي هي أحسن.

فإن الغالب - عادة - هو المهاجم وليس المدافع، وهذه القضية مطابقة للجانب التكويني أيضاً، حيث يقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «ما غُزي قوم قطّ في عقر دارهم إلّا ذلوا»(1).

فإذا اتخذ العدو حالة الهجوم، وأصبحت أنت في حالة الدفاع فقط، فإنك ستُغلب - غالباً - ؛ لذا عليك أن تتخذ الهجوم مقابل الهجوم، حتى يضطر العدو إلى الركون واللجوء إلى حالة الدفاع، وهذا ما يذكر في العلوم العسكرية والحربية أيضاً.

والبحث هنا حول المناقشة والمجادلة والمحادثة، فأحياناً لايكون الطرف المقابل إنساناً معانداً، بل هو يقتنع بالدليل مقابل الدليل، ويحترم البرهان والموعظة الحسنة، فنناقشه بحسب الأدلة والبراهين أو بالموعظة الحسنة كما ذكرنا. وقد يكون الطرف المقابل معانداً ويتبع الهجوم، فهنا لا يصح أن نتبع معه البحث العادي، بل لا بدّ أن نسلك معه الطريق الأخير وهو: الجدال بالتي هي أحسن.

وفي كل ذلك اتخاذ سبيل الهجوم الحواري أفضل من الاقتصار على سبيل

ص: 450


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 27 من خطبة له(عليه السلام) وقد قالها يستنهض بها الناس... .

الدفاع في ذلك، كما هو واضح.

الجدال الحسن والمذموم

الجدال كما ذُكر في الكتاب والسنة على قسمين:

1- جدال حسن.

2- جدال مذموم.

وقبل الدخول في تفصيل هذين القسمين لا بد من توضيح نقطة مهمة، هي أنّ الجدال بما هو جدال مذموم، فالجدال لغرض الجدال أمرٌ غير محبّب، أي إذا كان الجدال لأمور نفسانية كقصد الغلبة، ومجرد إفحام الطرف المقابل، والمباهاة على الآخرين، والتشوّق لإظهار الفضل، لا لقصد إظهار الحق، فهنا يصبح الجدال مذموماً، بل إنه يكشف عن الصفات السلبية التي ذمها اللّه تعالى.

فالجدال على ما ذكر، وأولاً وبالذات مذموم؛ لأنّه يستلزم العناد والمكابرة والابتعاد عن الحق.

لكن الجدال لهدف معنوي سام، وباعتباره ثانياً وبالعرض هو حسن، بل ربما يكون واجباً، فلو صادفك شخص وهذا الشخص من النوع المعاند الذي لا يذعن للبراهين والأدلة والحجج الدامغة، بل يكابر ويصرّ على رأيه، فهنا تزول مذمومية الجدال ويصبح الجدال بالتي هي أحسن مع هذا الشخص حسناً، بل قد يتوجب عليك مجادلته؛ فيما إذا كان ترك جداله سبباً لتصور الناس أنه على الحق، فإذا جئته بالمنطق والبراهين والأدلة لكنه لا يقتنع بل يصر على رأيه الباطل، ويخدع الآخرين بآرائه الباطلة. ففي هذه الحالة يلزم أن تجادله بالتي هي أحسن، أي بالطريقة الحسنى كما جاء في الآية الكريمة: {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1).

ص: 451


1- سورة النحل، الآية: 125.

وبعد أن ذكرنا أن الجدال على قسمين: قبيح وحسن، يأتي الدور إلى مراتب القُبح والحُسن، فالجدال الحسن ينقسم أيضاً إلى قسمين:

1- جدال حسن.

2- جدال أحسن.

والقسم الثاني منه هو المأمور به من قبل اللّه تعالى. فعلى المؤمنين أن يتصفوا بالجدال الأحسن.

الجدال في الكتاب والسنة

في القرآن الكريم مصاديق عديدة لأنواع الجدال، الحسن والأحسن، والقبيح والأقبح.

قال تعالى: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1).

وقال سبحانه: {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2).

ومن النوع الثاني بقسميه: قول اللّه تعالى في الكتاب الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٖ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَٰنٖ مَّرِيدٖ}(3).

وقوله سبحانه: {وَجَٰدَلُواْ بِالْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ}(4).

وقوله تعالى: {يُجَٰدِلُونَ فِي ءَايَٰتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَٰنٍ أَتَىٰهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِ}(5).

كما ورد في الروايات الشريفة المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) ذلك بشقّيه الحسن

ص: 452


1- سورة العنكبوت، الآية: 46.
2- سورة النحل، الآية: 125.
3- سورة الحج، الآية: 3.
4- سورة غافر، الآية: 5.
5- سورة غافر، الآية: 56.

والمذموم، والأحسن والأكثر ذماً.

ففي الجدال الحسن، قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري(عليهم السلام):

«ذكر عند الصادق(عليه السلام) الجدال في الدين، وأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) قد نهوا عنه؟ فقال الصادق(عليه السلام): لم يُنه عنه مطلقاً، ولكنه نُهي عن الجدال بغير التي هي أحسن؛ أما تسمعون اللّه يقول: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1) وقوله: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2) فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين، والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه اللّه على شيعتنا، وكيف يحرم اللّه الجدال جملةً وهو يقول: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَٰرَىٰ}(3) وقال اللّه تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(4) فجعل اللّه علم الصدق والإيمان بالبرهان، وهل يؤتى ببرهان إلّا بالجدال بالتي هي أحسن».

قيل: يا ابن رسول اللّه فما الجدال بالتي هي أحسن؟ وبالتي ليست بأحسن؟

قال(عليه السلام): «أما الجدال بغير التي هي أحسن، فأن تجادل به مبطلاً فيورد عليك باطلاً، فلا ترده بحجة قد نصبها اللّه، ولكن تجحد قوله، أو تجحد حقاً يريد بذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة؛ لأنك لا تدري كيف المَخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنةً على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته، وضعف في يده حجةً له على باطله، وأما

ص: 453


1- سورة العنكبوت، الآية: 46.
2- سورة النحل، الآية: 125.
3- سورة البقرة، الآية: 111.
4- سورة البقرة، الآية: 111.

الضعفاء منكم فتُغم قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل، وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر اللّه تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له، فقال اللّه له حاكياً عنه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ الْعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٌ}(1) فقال اللّه تعالى في الرد عليه: {قُلْ} يا محمد {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ}(2)، إلى آخر السورة، فأراد اللّه من نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم؟ فقال اللّه تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٖ} أفيعجز من ابتدأ به لا من شيء أن يعيده بعد أن يُبلى؟! بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته، ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} أي: إذا أكمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب، ثم يستخرجها، فعرفكم أنه على إعادة ما بلي أقدر ثم قال: {أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّٰقُ الْعَلِيمُ}(3) أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوزتم من اللّه خلق هذا الأعجب عندكم، والأصعب لديكم، ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي؟!

قال الصادق(عليه السلام): فهو الجدال بالتي هي أحسن؛ لأن فيها قطع عذر الكافرين، وإزالة شبههم. وأما الجدال بغير التي هي أحسن، فأن تجحد حقاً لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق، فهذا

ص: 454


1- سورة يس، الآية: 78.
2- سورة يس، الآية: 79-80.
3- سورة يس، الآية: 81.

هو المحرم؛ لأنك مثله، جحد هو حقاً وجحدت أنت حقا آخر»(1).

وعن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه(عليهما السلام) قال: «من أعاننا بلسانه على عدونا، أنطقه اللّه بحجته يوم موقفه بين يديه عزّ وجلّ»(2).

أما ما ورد من الأحاديث في التحذير من الخوض في الجدال فإن المراد به الجدال المذموم والقبيح بمراتبه المختلفة. فقد روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إيّاكم والجدال فإنه يورث الشكّ في دين اللّه»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إياك والخصومة فإنها تورث الشك وتحبط العمل وتردي بصاحبها، وعسى أن يتكلم بشيء فلا يغفر له»(4).

وروي أن رجلاً قال للإمام الحسين(عليه السلام): أجلس حتى نتناظر في الدين.

فقال: «يا هذا، أنا بصير بديني مكشوف عليّ هداي، فإن كنت جاهلاً بدينك فاذهب فاطلبه، ما لي وللمماراة، وإن الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه، ويقول: ناظر الناس لئلا يظنوا بك العجز والجهل، ثم المراء لا يخلو من أربعة أوجه: إما أن تتمارى أنت وصاحبك فيما تعلمان، فقد تركتما بذلك النصيحة وطلبتما الفضيحة وأضعتما ذلك العلم، أو تجهلانه فأظهرتما جهلاً وخاصمتما جهلاً، وإما تعلمه أنت فظلمت صاحبك بطلب عثرته، أو يعلمه صاحبك فتركت حرمته ولم تنزله منزلته، وهذا كله محال، فمن أنصف وقبل الحق وترك المماراة فقد أوثق إيمانه، وأحسن صحبة دينه وصان عقله»(5).

ص: 455


1- الاحتجاج 1: 21.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 33.
3- بحار الأنوار 2: 138.
4- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 384.
5- منية المريد: 171.

من معاني الجدال

وعرّف بعض الجدال بأنّه الحجة التي تستعمل لصرف الخصم عما يصرّ عليه وينازع فيه، من غير أن يريد به ظهور الحق.

من مصاديق الجدال

هناك مصاديق عديدة للجدال الحسن والأحسن ينبغي مراعاتها، وفي المقابل مصاديق للجدال القبيح والأقبح ينبغي تركها.

فإنه يلزم على الشخص المجادل حتى إذا كان على الحق، أن يحترز عن سوء التعبير والإزراء بالخصم وبما يقدّسه من المعتقدات، وأن لايجرح مشاعره، ويبتعد عن السبّ والشتم، وأي جهالة أخرى، فإنه من الجدال القبيح، وإن كان لإثبات الحق، لأن ذلك من إحياء للحق بإحياء الباطل وهذا مرفوض، لأنه بالتالي إماتة للحق؛ لأنّ الحق لايحييه الباطل، بل الحق يحيى بإحيائه وباتباع الأساليب الحقة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وليس الحسن فحسب.

ثم إن الجدال يحتاج إلى حُسن أكثر مما هو شرط في الموعظة، لأن الآية الكريمة دعت إلى الموعظة الحسنة، وفي الجدال دعت إلى الأحسن.

جدال المعاند

سبق أن أشرنا إلى ضرورة اتخاذ سبيل الهجوم في الجدال، لا الدفاع، فإنه كثيراً ما لا يمكن إثبات الحق لبعض الناس إلّا بالهجوم على الباطل، ومن الواضح أن الملحد إذا أورد إشكالاً مّا على التوحيد وإثبات الباري عزّ وجلّ، فإذا أردت أن تجيب ربما جاء بإشكال جديد، وحينما تبدأ بإجابة ذلك الإشكال الجديد فسيأتيك بإشكال ثالث وهكذا، وفي كثير من الأحيان لا يمكن إقناعه أو حصره، فعليك هنا إذا صادفك مثل هذا النموذج من الناس أن تبدأ أنت بالجدال

ص: 456

الهجومي وتبادره بالسؤال، وتقول له: ما هو دليلك على عدم وجود اللّه؟ وبمجرد أن يأتي لك بدليل، تبدأ أنت بصياغة إشكال له، وهكذا، كل ذلك لكي توصله إلى طريق مسدود فيذعن لك؛ لأنّه على باطل، والباطل مهما كان قوياً فنتيجته الخذلان، والمعاند الذي لا يعترف بوجود اللّه مهما امتلك من القدرة والكفاءة، فإنه يعجز في النتيجة عن إثبات ذلك؛ لأن الباطل هو الزائل الزاهق، بعكس الحق فإنه الثابت، ووجود اللّه تعالى حقيقة ثابتة، بل أظهر الحقائق وأقواها، وإذا كان جدالك مع المعاند لإظهار الحق فإنك الفائز كما ذكر اللّه تعالى في كتابه المجيد: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَٰطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(1) وقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}(2).

روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «ليس من باطل يقوم بإزاء الحق إلّا غلب الحق الباطل...»(3).

وقال الحاجي السبزواري في منظومته:

الغرض التحرز والابتلا *** لرغم لدٍّ حبذا سلاسلا(4)

حوار مع ملحد

عند ما كنا في العراق جاءني أحد المؤمنين بملحد لمناقشته وحواره وجداله بالتي هي أحسن، فقال الملحد: هل أنت تقول بوجود اللّه؟

فقلت له على الفور: وهل أنت تقول: بأن اللّه ليس موجوداً؟

قال: نعم.

ص: 457


1- سورة الشورى، الآية: 24.
2- سورة الأنبياء، الآية: 18.
3- الكافي 8: 242.
4- شرح المنظومة، للسبزواري 1: 319.

فقلت له: فما هو دليلك عليه... فهل ذهبتَ إلى كل السماوات والبحار والكواكب والغابات، وفتّشتَ عنه فيها ولم تجده حتى تقول بأن اللّه ليس موجوداً؟!

فلم يتمكن من الجواب وتحيّر في الرد على هذا السؤال، وعندها صار كلامه فاقداً لأية قيمة.

لذا فإنّ المختصين بعلم المناظرات، وهو العلم الذي وضع لأجل أمثال هذه المواطن، ذكروا أنّ على الإنسان أن يخرج نفسه من موقع الدفاع إلى حالة الهجوم، مما يجعل الخصم المعاند يصاب بالحصر في النقاش، هذا إذا لم يصل إلى درجة الاقتناع بالفكرة.

المسلمون الأوائل والأسوة الحسنة

إن المسلمين في القرن الأخير اتخذوا موضع الدفاع بعدما كانوا هم الذين يمتلكون زمام المبادرة والهجوم في المحاججات والمحاورات والمناظرات العلمية والعقائدية، وكذلك في سائر ميادين الحياة، فراحوا يخرجون من هزيمة وانكسار ليدخلوا في خسارة وانكسار جديدين، وظلوا في عداد المتأخرين عن ركب الأمم.

لذا يجب على المسلمين أن يتخلّصوا من هذه الحالة التأخرية، ويتخذوا موضع الهجوم الحواري - بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن - في مختلف مجالات الحياة حتى يلجأ أعداء الإسلام والمسلمين - من غربيين وشرقيين - إلى موضع الدفاع، ولا نعني بالهجوم، الهجوم المسلح، بل نحن نرى ضرورة اتخاذ سياسة السلم واللاعنف دائماً، نعم قد يكون التحرك المسلح عند أقصى حالات الضرورة آخر وسيلة تستخدم ضد العدو حين تقصر الوسائل الأخرى، من قبيل التحرك السياسي والدبلوماسي والإعلامي والثقافي

ص: 458

والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والفكري والكلامي في المناقشة وغيرها، ففي بادئ الأمر يلزم على المسلمين أن يستخدموا أسلوب المحاورة والمجادلة العلمية والفكرية في القول والعمل؛ لأن الإسلام دين المنطق والبرهان لا السيف والحرب، فقد قال تبارك وتعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(1). فإذا عجزوا عن ذلك وداهمهم العدو للقضاء على الإسلام والمسلمين، ولم تنفع سائر السبل المذكورة، فحينذاك يمكن استخدام الأساليب الأخرى ضمن المقررات الشرعية وبقرار من شورى الفقهاء المراجع ودراسة من الأخصائيين، تأسياً برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث كان يستخدم أولاً أسلوب المحاورة والمناقشة العلمية القائمة على البراهين والأدلة أمام خصومه، فإذا لم تنفع هذه الوسائل، أي: تعنّتَ الطرف المقابل، وأخذ بمحاربة الإسلام والمسلمين فاجأه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخطة دفاعية محكمة يلاحظ فيها التفوق والمبادرة.

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدوة

إن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو مدرسة متكاملة في جميع الاتجاهات، ففي أسلوب المناقشة والمحاورة والمجادلة نجده في القمة، وكذلك في الأسلوب الإداري والمدني، وهكذا في الميدان الحربي والعسكري.

وقد اعترف للرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذه القدرات كبار العلماء في الفكر والأدب والحرب، وكثير منهم غير مسلمين:

فقد قال الفيلسوف الروسي (تولستوي)(2)

في فضل الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): (لا ريب في أنّ محمداً خدم الاجتماع خدمات جليلة، ويكفيه فخراً أنه هدى مئات

ص: 459


1- سورة النمل، الآية: 64.
2- ليون تولستوي (1828م-1910م) كاتب قصصي روسي.

الملايين إلى نور الحق والسكينة والسلام، ومنح الإنسانية طريقاً للحياة، وهو عمل عظيم لا يقوم به إلّا إنسان أوتي قوة وإلهاماً وعوناً من السماء).

وكذلك قال الشاعر الألماني الكبير (جوته)(1) في النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي الإسلام: (إذا كان الإسلام هو التسليم للّه لا للأهواء والأغراض، ففي الإسلام نحيا وعليه نموت).

وكما قال أيضاً: (عندما قرأت تاريخ رسول الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ألّفت النشيد المحمدي وكتب مسرحية محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)).

نعم، هذا هو نبينا الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلو تمسّك المسلمون اليوم بسيرته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة أهل بيته(عليهم السلام) قولاً وفعلاً لأصبحوا أسياد العالم كما كانوا من قبل بدون منازع.

عبرة لمن يعتبر

ذكرنا أن من أسباب تأخر المسلمين موقف الدفاع المتأخر دائماً، فعلينا أن نبدّل مواضعنا الدفاعية في مختلف مجالات الحياة الإعلامية والحوارية وغيرها إلى خطوات هجومية سلمية، إنّ اليهود سابقاً سواء كانوا في الغرب أو الشرق، لم يكونوا بقادرين حتى على الدفاع عن أنفسهم، وكانوا دائماً يُطردون من قبل الآخرين وذلك لفسادهم وإفسادهم، لكن بعدما حصلوا على مواضع الهجوم، وسعوا إلى تقوية بنيتهم المالية والإعلامية والتنظيمية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها من وسائل القدرة، تمكنوا من أن يجعلوا الغرب بحاجة إليهم، وهم الآن في مجتمعاتهم يعدون من سادات الدنيا، في الوقت الذي لا يصل عددهم في العالم إلى أكثر من (13 مليون نسمة)، إلّا أنّ الكثير من

ص: 460


1- يوهان فون غوته (1749م-1832م) أديب وسياسي وعالم من كبار أدباء ألمانيا.

الجامعات والبنوك ومراكز القرار السياسي والاقتصادي، وكبار رؤساء الجيوشفي الغرب هي بيد اليهود؛ وانقلبت المعادلة فصار الغرب والشرق مقابل هؤلاء في موضع دفاع لا أكثر. إنّ اليهود ثبتوا في مواقفهم، وأخذوا بزمام المبادرة، وأسس التقدم، رغم انحرافهم وفسادهم وضلالهم العقائدي والأخلاقي، وصار هذا سبباً لأن تبقى إسرائيل دولة قوية في قلب العالم الإسلامي، وهي باستمرار تزيد من مساحتها الجغرافية ومن نفوسها وقدراتها؛ لذا على المسلمين الذين يشكلون قاعدة جماهيرية كبيرة تزيد المليار، ويملكون من الإمكانات المعنوية والمادية الشيء الكثير، أن يخرجوا من حالة الدفاع ويتأهبوا لحالة المبادرة في مختلف مجالات الحياة، كما كان المسلمون في صدر الإسلام متطورين متقدمين وهذا ما يعترف به الغرب والشرق.

مناقشة مع شيوعي

حينما كنّا في الكويت قال لي أحد الشباب: إن لي أخاً يعيش في خارج البلاد، وهو يعد أحد الأشخاص الذين هم من النواة المركزية للحزب الشيوعي هناك، وهو يمتاز بقوة الحجّة والدليل وبمهارة في المجادلة والنقاش، وإني أريد أن آتي به إليكم لتناقشوه عسى أن يهتدي؟

فقلت له: لا مانع من ذلك.

فذهب هذا الشخص وأخبر أخاه فامتنع عن الحضور في بادئ الأمر، وقال له: إن علماء الدين ليس لديهم استدلال منطقي أبداً، وهم دائماً يستدلون بالقرآن والروايات فحسب، ولا إيمان لي بهما!

وعندما أخبرني أخوه بذلك قلت له: سوف أناقشه - بعون اللّه - على أساس الموازين العقلية وما أشبه. وعلى أي حال جاء ذلك الشخص، وكان عمره زهاء أربعين سنة، وكان ذكياً فطناً، وقد أحرز على عدد من الشهادات العالية - الدكتوراه

ص: 461

وما أشبه - في عدة علوم، وفي البداية جاء وجلس بكل تكبّر ثم قال: عندي جملةأسئلة. فقلت له: تفضّل.

فقال: أولاً، أنا لا أعتقد بأيّ نبي، ولا بالقرآن، ولا بالأحاديث.

فقلت له: سوف أناقشك - إن شاء اللّه - على ضوء الموازين العقلية التي تعتقد بها. قال: بأي دليل تستدل على وجود اللّه الذي تعتقد به؟ في الوقت الذي لا يوجد هناك شيء سوى الطبيعة؟

وقد طال الحديث بيننا حوالي الساعتين، وكلّما دخلنا في عمق الحديث وضع إشكالات وأصرّ على رأيه، ففكرت مع نفسي وقلت: حينما يكون المقابل معانداً فلا يصح أن تتبع معه المناقشة بالبرهان والدليل والحجة، بل عليّ أن أواصل البحث معه طبقاً لأساليب علم المناظرة، لذا سأستخدم معه أسلوب الهجوم الحواري حتى يتخذ هو أسلوب الدفاع، وفي أثناء حديثه كان هو يستشهد بكلام لينين.

وستالين، فقلت له: لقد خالفت شروط البحث التي اتفقنا عليها، ففي الوقت الذي أنا أؤمن باللّه والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا استدل بشيء من كلامهما، يتوجب عليك بالمقابل أن لا تستشهد بقول لينين وستالين، فإما كلانا له الحق أن يستشهد بما يعتقد وإلّا فلا، وعلى هذا الأساس فلا يحق لك أن تأتي بشاهد.

فقال: أنا أختلف عنك في ذلك؛ لأن ما عندك هو مجموعة خرافات، وأنت تريد أن تحمّلني إياها، لكن الذين عندي هو شيء آخر، وإني حينما أريد أن أناقش وأستشهد فإن لينين وستالين قد كانا من رجالات الفكر والمعرفة!!

فقلت له: أما بالنسبة لي فأنا لا أعتقد بستالين ولا بلينين (قلت له هذا محاولة مني للانتقال إلى حالة الهجوم).

فقال: لماذا؟

ص: 462

فقلت له: إني لا أعترف بأقوال ستالين؛ لأنه رجل يقول عكس ما يفعل(وأردت بذلك أن يتحول الخصم إلى حالة الانفعال لكي يهرب بعدها من الميدان، وذلك طبقاً لموازين علم المناظرة).

فقال: وهل تقدر أن تثبت لي بأن ستالين كان إنساناً يقول عكس ما يفعل؟

فقلت له: نعم، أثبت لك ذلك، ألم يقل ستالين: يجب أن يتساوى الناس جميعاً، فكيف وضع بعد ذلك قبة من الذهب في بيته؟!

فقال: إن هذا الكلام كذب.

فقلت له: إن هذا الكلام ذكرته كتب طبعت في موسكو، وإن الكتاب الذي ذكر هذا الكلام هو معي الآن، ولأنه كان يعرف ذلك أخذ الانفعال يبدو عليه، ولم يتمكن من إعطاء أي جواب.

فقلت له: إذاً، عليك أن لا تستشهد من الآن فصاعداً بكلام ستالين، لأن الشخص الذي يقول عكس ما يفعل لا يمكن أن يتخذ كلامه للشهادة.

وبعد أن أثبتنا هذا (وإن الذي أردته أنا هو إسقاط زعيمهم الذي إذا سقط من الحساب فسيسقط هو كذلك).

قلت له: وإن لينين كذلك، فانزعج كثيراً، وقال: لينين لماذا؟!

فقلت له: إن هذا واضح، لأن النظام الذي وضعه لينين خلف خلفاً هو ستالين، هذا الذي تسبب في ارتكاب آلاف الجرائم الفظيعة.

وكان الحديث مع هذا الرجل الشيوعي بهذه الطريقة الهجومية، فتوقف عن الكلام نهائياً، لأنّه كلّما كان يقول رأياً كنت أوجه إليه هجوماً آخر، وبعدما انتهى كل ما عنده قلت له: والآن وبعد أن عرفت أنّ مبادءك كلها باطلة، تعال وتمسك بمبادئنا، لأننا نملك دليلاً على أن ديننا قائم على أسس صحيحة مائة في المائة.

ولأنه رأى أن الهجومات التي وجهت إليه كانت بالشكل الصارم، فقد ظل

ص: 463

خائفاً ينتظر فرصة للهرب، لذلك قال: إنني سوف ألتقي بكم ثانية لو سنحتالفرصة، إن شاء اللّه!!

فقلت له: ألست أنت المنكر للّه، فكيف تقول: إن شاء اللّه؟!

فقال: هي عادة اعتدناها. وبعد هذا اللقاء جاءنا أخوه، وقال: إن أخي كان معجباً جداً بحديثكم، ويقول: إنه لم يسمع من قبل بمثل حديثكم معه، إلّا أنّه لم يأت بعد ذلك لإدامة النقاش.

اليهودي وعبقرية أمير المؤمنين(عليه السلام)

يذكر أن رجلاً من اليهود قال لأمير المؤمنين(عليه السلام): إنكم في الوقت الذي لم تدفنوا جنازة نبيكم بعد، اختلفتم حوله؟!

فقال له الإمام(عليه السلام): «إن المسلمين قد اختلفوا حول وصية نبيهم لا أنهم اختلفوا حوله، لكنكم أنتم اليهود، حينما كنتم مع موسى(عليه السلام) وعبرتم البحر وأغرق اللّه فرعون وأعوانه، وفي الوقت الذي لم تكن فيه أرجلكم قد جفت بعدُ من ماء البحر، فإنكم قلتم لنبيكم: يا موسى اجعل لنا صنماً نعبده كما يعبد الآخرون أصنامهم!».

فبهت اليهودي، وحصر عن الكلام(1).

وكلامنا هو: أن الإنسان إذا رأى خصمه التزم جانب العناد فعليه أن يبدأ بأسلوب الهجوم الجدالي والحواري نحوه، لأنه والحالة هذه قد لا يمكنه أن يرد على إشكاله بجواب مقنع يقبله، وربما كان في جوابه مناقشات... وهكذا.

ص: 464


1- انظر: نهج البلاغة، الحكم الرقم: 317. وفيه: (قَالَ لَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ: مَا دَفَنْتُمْ نَبِيَّكُمْ حَتَّى اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ؟ فَقَالَ(عليه السلام) لَهُ: إِنَّمَا اخْتَلَفْنَا عَنْهُ لا فِيهِ، وَلَكِنَّكُمْ مَا جَفَّتْ أَرْجُلُكُمْ مِنَ الْبَحْرِ حَتَّى قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ {اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}). سورة الأعراف، الآية: 138.

هل تعتقد بزواج المتعة؟

اشارة

ذكر أحد الفضلاء أنه عندما سافر مرة إلى تركيا، تعرف هناك على بعض الأشخاص، يقول وبينما كنت جالساً مع جماعة كان فيهم بعض الوجهاء والضباط من السنة والشيعة وإذا أحدهم يقول لي، وكان يبدو أنه سنيٌ متعصب: هل أنت من علماء الشيعة؟

فقلت له: نعم.

قال: وهل تعتقد بزواج المتعة؟

فقلت له: نعم.

قال: لو فرضنا أنك أتيت يوماً إلى تركيا وتزوجت امرأة بزواج المتعة، وبعد أن قضيت معها ليلة الزواج، حملت هذه المرأة تلك الليلة، ثم أردت أن تعود إلى وطنك، فماذا ستفعل المرأة حينها؟ وما هو مصير الطفل الذي سيولد؟

يقول هذا الأخ: إني رأيت هذا الضابط معانداً ومجادلاً ويتكلم بخشونة وفضاضة، فأردت أن أخرج معه بنتيجة وبأسرع وقت، وأخرجه من حالة المعاندة التي يلتزمها، فاتبعت معه هذه الطريقة، فقلت له: إذا كان إشكالك هذا صحيحاً فإن نفس الإشكال يرد عليك بالمقابل أيضاً، فهل أنت مسلم، وهل تعتقد بشرعية النكاح الدائم؟

قال: نعم.

قلت له: لو فرضنا أنك تزوجت امرأة من هذه المدينة زواجاً دائماً، وفي صباح اليوم الثاني طلّقتها، ثم تبيّن بعد الطلاق بأن اللّه رزقها منك طفلاً، فماذا ستفعل هذه المرأة ومن يقوم بكفالة ولدها؟

فاحمرَّ وجهه خجلاً ولم يعط جواباً، وظل الحضور ينظرون إليه، نظرة استغراب وانزعاج، معناها: لماذا لم تعط جواباً.

ص: 465

فكان الغلب على هذا المعاند بهذه الجملة المختصرة وليس أكثر.فعلى الإنسان أن يتخذ مثل هذا الأسلوب خاصة مع أشخاص معاندين كهذا، الذين لا يقبلون بالاستدلال والمنطق.

مع ملك الإسكندرية

لما أرسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حاطباً إلى ملك الإسكندرية(1)، قال ملك الإسكندرية لحاطب: هل تدعي يا حاطب أن هذا الشخص (ويعني الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)) هو نبي؟ قال حاطب: نعم.

فقال الملك: فهل هو نبي مرسل من اللّه؟ قال حاطب: نعم.

قال الملك: هل أن دعاء هذا النبي مستجاب؟

قال حاطب: نعم.

فقال الملك: فإذن لماذا لم يدعُ هذا النبي ربه، لكي يدحر أهل مكة وينصره، في حين أنه قد أجبر على الفرار إلى المدينة.

فقال حاطب - فوراً - : وهل أنت تعتقد بنبوة المسيح؟

قال الملك: نعم.

فقال حاطب: فهل تعتقد بأن المسيح نبي مرسل من اللّه؟

فقال الملك: نعم أعتقد ذلك، وهو كذلك ابن اللّه!

قال حاطب: وهل أنّ دعاءه مستجاب؟ قال الملك: نعم.

فقال حاطب: إذا كان الأمر هكذا، فكيف لم يدعُ المسيح ربه ليدحر اليهود، حتى لا يدخلوا داره ولا يقتلوه كما تعتقدون بذلك؟!

ص: 466


1- حاطب بن أبي بلتعة كنيته أبو عبد اللّه، آخى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين حاطب بن أبي بلتعة ورخيلة بن خالد، شهد مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدراً وأحُداً والخندق وغيرها وهو الذي كتب إلى أهل مكة يعلمهم عزيمة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتح مكة وقصته مشهورة.

فتعجب الملك من سرعة إتيان حاطب بهذا الدليل المفحم، وقال: حكيم منعند حكيم(1).

يعني: إن النبي الذي أرسلك وعلّمك الحكمة هو رجل حكيم.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رسول الرجل ترجمان عقله»(2).

قصة من الهند

هناك قصة طريفة - من هذا القبيل - حدثت في الهند، يذكر أنه جاء أحد القساوسة إلى ذلك البلد لغرض التبشير، وأخذ يدخل في مباحثات ومناقشات عديدة مع علماء المسلمين هناك، ولأنه كان فطناً حاد الذكاء كان يسعى على أن يتغلب أمام أنظار الناس في مجادلته، وحدث يوماً أن دخل هذا المسيحي في نقاش مع عالم شيعي من الطراز الأول وبحضور الآلاف من الناس، وكان من أعراف بعض مناطق الهند والباكستان أن تكون المناقشة في حضور جمع من الناس.

وعندما دار النقاش بين القس والشيعي، لم يستطع القس أن يتغلب على الشيعي، وأخيراً انهزم أمام الشيعي، وكان انكساره بمشاهدة من الحاضرين، وقد كان سؤال المسيحي وقتها أنه قال: إنكم أيها الشيعة تقيمون العزاء للحسين(عليه السلام) وتبكون وتلطمون، فهل تعتقدون أن الحسين - (عليه السلام) - هو ابن النبي؟

فقال الشيعي: نعم.

قال المسيحي: وهل أن دعاء هذا النبي مستجاب؟

فقال الشيعي: نعم.

ص: 467


1- انظر: الإصابة 6: 296.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 389.

قال المسيحي: إذا كان دعاء هذا النبي مستجاباً، فلماذا لم يدع ربه لينجي ابنهمن هذه المشكلة، والمفروض أن النبي هو حي، لا فرق بين حياته وموته؟

فأجابه الشيعي قائلاً: إنكم تعتقدون أن المسيح هو ابن اللّه، ونحن نعتقد أن الحسين ابن النبي، أصحيح هذا؟

فقال المسيحي: نعم.

قال الشيعي: إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يطلب من اللّه أن ينجي ولده؛ لأنه رأى لو أنه طلب من ربه ذلك في يوم كربلاء، لكان جواب اللّه له: إني لم أنج ولدي المسيح، فلا يمكن أن أنجي ولدك!!

فانقطع المسيحي عن الكلام، ولم يستطع أن يعطي جواباً، وافتضح أمام الجماهير الحاضرة.

والذي نستفيده من هذه القصة هو اتخاذ حالة الهجوم على الشخص المعاند ليغلبه ويفحمه ويخلص الناس من شبهاته.

نبي اللّه إبراهيم(عليه السلام) ونمرود

اشارة

وعندما نقرأ عن حياة الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) نجد أنهم كانوا يختارون أفضل أساليب الحوار والجدال مع خصومهم، وخاصة حينما كان الطرف المقابل يلتزم حال العناد، قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم حاكياً عن نبي اللّه إبراهيم(عليه السلام) أنه قال للنمرود: {قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ} {قَالَ} نمرود: {أَنَا۠ أُحْيِ وَأُمِيتُ}، فلما رأى إبراهيم(عليه السلام) أن نمرود دخل في حالة العناد واجهه بالهجوم قائلاً: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}(1).

ص: 468


1- سورة البقرة، الآية: 258.

وقد ذكرت لنا الآيات والروايات كثيراً من التفاصيل بهذا الخصوص، ويظهرذلك بوضوح لمن راجع مثل كتاب (الاحتجاج)(1).

وعلينا اليوم أن نتبع مع الغرب وأعوانه نفس الأسلوب المنطقي في الحوار، من خلال الإعلام والكتب والندوات والمؤتمرات الحوارية وما أشبه، وهذا العمل يتطلب الكثير من الجهد والمطالعة والتعلم والاجتهاد في معرفة أساليب المناظرة والمجادلة والمحاججة، ولتحقيق الغلبة في هذا النوع من الصراعات هناك مقومات أساسية لا بد من اتباعها.

مقومات النصر

خلاصة القول: إن على المسلمين أن يتبعوا سيرة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)، في كيفية المناقشة والمجادلة والمناظرة مع الآخرين، وكيفية التحول من موضع الدفاع إلى موضع الهجوم الحواري في الدعوة إلى الإسلام... .

أما اليوم فنلاحظ المسلمين خاملين في مواضعهم الدفاعية، أو يراوحون في محلهم، بل أكثر من ذلك نلاحظ البعض يعمل على إبعاد الناس عن الإسلام من حيث يعلم أو لا يعلم، فعليهم - والحال هذه - الحيطة والحذر في السير على نهج الرسالة المحمدية والعلوية إذا أرادوا الفلاح. ويتم ذلك عبر اتخاذ خطوات عديدة، من أهمها:

1- تشكيل التنظيمات الإسلامية في كل أنحاء العالم.

2- تقوية العمل التبليغي الإسلامي في كل البلدان، خصوصاً وأن التبليغ في هذا العصر يحظى بأهمية خاصة، حيث إن أعداء الإسلام جعلوا التبليغ ضد

ص: 469


1- مؤلفه: أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، من علماء القرن السادس الهجري.

الإسلام من أعمالهم الرئيسية في كل بقعة من بقاع الأرض، وبمختلف وسائل الإعلام الحديثة المرئية والمسموعة، والقديمة منها كالكتب والمجلاتوالنشرات والخطب في المساجد والأماكن العامة وإقامة المهرجانات وغير ذلك.

3- إنشاء الصناديق المالية في البلدان الإسلامية وغيرها، لتأمين الجانب المادي الداعم لهذه النشاطات.

ويجب علينا أن لا نجعل اليأس في قاموسنا؛ لأننا إذا عملنا بشكل جيد ومتقن، فمن الممكن جداً وفي عدد من السنين القليلة أن يعطي هذا العمل المبارك ثماره النافعة - إن شاء اللّه - ونكون قد حققنا خطوات متقدمة في طريق النصر والدعوة إلى الإسلام، كما أن اللّه سبحانه وتعالى يهب النصر لمن يهيئ الأسباب له، قال في القرآن الكريم: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(1)، وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً...»(2).

وإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عانى كثيراً من المصائب حتى استطاع أن يدفع عجلة الإسلام إلى الأمام، وقد اتخذ الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأسلوبين المعروفين في المواجهة، معاً لأداء مهمته: الأسلوب الكلامي والأسلوب العملي في مختلف الميادين.

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهُدى والاستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة»(3).

ص: 470


1- سورة الكهف، الآية: 89.
2- الكافي 1: 183.
3- المصباح للكفعمي: 280.

من هدي القرآن الحكيم

القرآن أسوة في الجدال الأحسن

قال تبارك وتعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(2).

وقال سبحانه: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(3).

وقال جلّ اسمه: {ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(4).

التسلح بالحكمة والمعرفة

قال تبارك وتعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(5).

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ}(6).

وقال عزّ اسمه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(8).

ص: 471


1- سورة المائدة، الآية: 16.
2- سورة الإسراء، الآية: 9.
3- سورة الجاثية، الآية: 20.
4- سورة البقرة، الآية: 2.
5- سورة البقرة، الآية: 269.
6- سورة الجمعة، الآية: 2.
7- سورة الأنعام، الآية: 50.
8- سورة الزمر، الآية: 9.

الاستعانة بالعقل

قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي النُّهَىٰ}(1).وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال جلّ اسمه: {هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(3).

الجدال بالحسنى

قال سبحانه: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(5).

وقال تبارك وتعالى: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(6).

الإصلاح هدف الجدال

قال سبحانه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(7).

وقال تبارك وتعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(8).

وقال عزّ وجلّ: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(9).

ص: 472


1- سورة طه، الآية: 54.
2- سورة الزمر، الآية: 21.
3- سورة غافر، الآية: 54.
4- سورة النحل، الآية: 125.
5- سورة النمل، الآية: 64.
6- سورة العنكبوت، الآية: 46.
7- سورة هود، الآية: 88.
8- سورة الأعراف، الآية: 142.
9- سورة الأنفال، الآية: 1.

من هدي السنّة المطهّرة

القرآن أسوة في الحوار

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أيها الناس إنكم في زمان هدنة،وأنتم على ظهر السفر، والسير بكم سريع، فقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز لبعد المفاز.

فقام المقداد فقال: يا رسول اللّه، ما دار الهدنة؟

قال: دار بلاء وانقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن؛ فإنه شافع مشفّع، وماحل(1) مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل، ليس بالهزل، له ظهر وبطن، فظاهره حكمة وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له تخوم وعلى تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنازل الحكمة ودليل على المعروف لمن عرفه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استفتحوا بكتاب اللّه، فإنه إمام مشفق، وهاد مرشد، وواعظ ناصح، ودليل يؤدِّي إلى جنة اللّه عزّ وجلّ»(3).

وقالت السيدة زينب(عليها السلام): «قالت فاطمة(عليها السلام) في خطبتها في قصة فدك: للّه فيكم عهد قدّمه إليكم وبقية استخلفها عليكم: كتاب اللّه، بينة بصائره، وآيٌ

ص: 473


1- ماحل: من محل به القرآن يوم القيامة، يقال: محل فلان بفلان إذا قال عليه قولاً يوقعه في مكروه.
2- تفسير العياشي 1: 2.
3- الأمالي، للشيخ الطوسي: 235.

منكشفة سرائره، وبرهان متجلية ظواهره، مديم للبرية استماعه، وقائد إلى الرضوان أتباعه، مؤدٍّياً إلى النجاة أشياعه...»(1).

التسلح بالمعرفة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العالم بين الجهال كالحي بين الأموات، وإن طالب العلم ليستغفر له كل شي ء حتى حيتان البحر، وهوام الأرض وسباع البر وأنعامه، فاطلبوا العلم فإنه السبب بينكم وبين اللّه عزّ وجلّ، وإن طلب العلم فريضة على كل مسلم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم، فاطلبوا العلم من مظانه واقتبسوه من أهله، فإن تعلمه للّه حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة فيه تسبيح، والعمل به جهاد، وتعلّمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى اللّه تعالى؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمونس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والتزين عند الأخلاء، يرفع اللّه به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة، تُقتبس آثارهم، ويُهتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه. إن العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظلمة، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار، ومجالس الأبرار، والدرجات العلى في الآخرة والأولى، الفكر فيه يعدل بالصيام،

ص: 474


1- من لا يحضره الفقيه 3: 567.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 28.

ومدارسته بالقيام، به يطاع الرب ويعبد، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال والحرام. العلم إمام العمل، والعمل تابعه، ويلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء، فطوبى لمن لميحرم اللّه منه حظه»(1).

وقال(عليه السلام): «يا كميل، ما من حركة إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في وصيته لجابر الجعفي: «... وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ...»(3).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قال جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام): علماء شيعتنا مرابطون بالثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة؛ لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم»(4).

الاستعانة بالعقل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما يدرك الخير كله بالعقل، ولا دين لمن لا عقل له»(5).

وأثنى قوم بحضرته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على رجل حتى ذكروا جميع خصال الخير، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كيف عقل الرجل؟» فقالوا: يا رسول اللّه، نخبرك عنه باجتهاده

ص: 475


1- إرشاد القلوب 1: 165.
2- تحف العقول: 171.
3- تحف العقول: 285.
4- بحار الأنوار 2: 5.
5- تحف العقول: 54.

في العبادة وأصناف الخير، تسألنا عن عقله؟!

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفعالعباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام قاطع، فاستر خلل خلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك»(2).

وقال علي بن الحسين(عليهما السلام): «من لم يكن عقله أكمل ما فيه، كان هلاكه من أيسر ما فيه»(3).

وسُئل الإمام الرضا(عليه السلام) - في حديث - : فما الحجة على الخلق اليوم؟ قال(عليه السلام): «العقل، يُعرف به الصادق على اللّه فيصدقه، والكاذب على اللّه فيكذبه»(4).

الجدال بالحسنى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نحن المجادلون في دين اللّه»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من أعاننا بلسانه على عدونا أنطقه اللّه بحجته يوم موقفه بين يديه عزّ وجلّ»(6).

وعن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إن الناس يعيبون علي بالكلام، وأنا أكلم الناس؟

ص: 476


1- تحف العقول: 54.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 424.
3- بحار الأنوار 1: 94.
4- الكافي 1: 24.
5- بحار الأنوار 2: 125.
6- الأمالي للشيخ المفيد: 33.

فقال(عليه السلام): «أما مثلك من يقع ثم يطير فنعم، وأما من يقع ثم لايطير فلا»(1).

وعن الطيار قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): بلغني أنك كرهت منا مناظرة الناس،وكرهت الخصومة؟

فقال(عليه السلام): «أما كلام مثلك للناس فلا نكرهه، من إذا طار أحسن أن يقع، وإن وقع يحسن أن يطير، فمن كان هكذا فلا نكره كلامه»(2).

الإصلاح هو الهدف

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيتها النفوس المختلفة والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم(3) على الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد؟ هيهات أن أطلع بكم سرار(4) العدل، أو أقيم اعوجاج الحق. اللّهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطلة من حدودك، اللّهم إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلّا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالصلاة...»(5).

وقال(عليه السلام): «وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم...»(6).

ص: 477


1- رجال الكشي: 319.
2- رجال الكشي: 348.
3- أظأركم: أعطفكم.
4- السَرار: كسحاب وتكسر أيضاً، في الأصل آخر ليلة من الشهر، والمراد الظلمة.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 131 من كلام له(عليه السلام) وفيه يبين سبب طلبه الحكم ويصف الإمام الحق.
6- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 136 من كلام له(عليه السلام) في أمر البيعة.

وقال الإمام الحسين(عليه السلام) - في حديث - : «فاللّه الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا. اللّهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهرالإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا، قوي الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيكم، وحسبنا اللّه، وعليه توكلنا، وإليه أنبنا، وإليه المصير»(1).

ص: 478


1- تحف العقول: 239.

الجهل المركب وطريق الخلاص منه

الأخسرون أعمالاً

قال اللّه سبحانه في الكتاب العزيز: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(1).

أي: {قُلْ} يا رسول اللّه، لهؤلاء الكفار، أو لكل من يسمع، مؤمناً كان أم كافراً {هَلْ نُنَبِّئُكُم} أي نخبركم {بِالْأَخْسَرِينَ} أي بأخسر الناس {أَعْمَٰلًا} الذين يكون خسائرهم أكثر من خسائر غيرهم؟ {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} فكل ما سعوا وعملوا في هذه الحياة ضل وضاع عنهم {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أي: يظنون أنهم يعملون حسناً، و«الذين ضل» من تتمة الاستفهام، بدل من «الأخسرين»(2).

من مصاديق {الأخسرين أعمالاً}

اشارة

علماً بأن هناك مصاديق كثيرة للأخسرين أعمالاً، منهم: من أشار إليه مولانا الكاظم(عليه السلام) في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا} قال(عليه السلام): «إنهم الذين يتمادون بحج الإسلام ويسوفونه»(3).

ص: 479


1- سورة الكهف، الآية: 103- 104.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 422.
3- عوالي اللئالي 2: 86.

ومنهم: النصارى والقسيسون والرهبان وأهل الشبهات والأهواء، ففي البحارعن أبي الجارود عن أبي جعفر(عليه السلام) في قوله {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} قال: «هم النصارى والقسيسون والرهبان وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة والحرورية وأهل البدع»(1).

الخوارج هم الأخسرون

ومن مصاديق {الْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا}: الخوارج الذين حاربوا أمير المؤمنين(عليه السلام) في النهروان.

عن الأصبغ بن نباتة قال: خطبنا أمير المؤمنين(عليه السلام) على منبر الكوفة فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، سلوني فإن بين جوانحي علماً جماً».

فقام إليه ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين، ما الذاريات ذروا؟

قال(عليه السلام): «الرياح».

قال: فما الحاملات وقراً؟

قال(عليه السلام): «السحاب».

قال: فما الجاريات يسرا؟

قال(عليه السلام): «السفن».

قال: فما المقسمات أمرا؟

قال(عليه السلام): «الملائكة».

قال: يا أمير المؤمنين، وجدت كتاب اللّه ينقض بعضه بعضاً؟

قال(عليه السلام): ثكلتك أمك يا ابن الكواء، كتاب اللّه يصدق بعضه بعضاً، ولا

ص: 480


1- بحار الأنوار 2: 298 عن تفسير القمي.

ينقض بعضه بعضاً، فسل عما بدا لك».قال: يا أمير المؤمنين، سمعته يقول: {رَبِّ الْمَشَٰرِقِ وَالْمَغَٰرِبِ}(1)، وقال في آية أخرى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}(2)، وقال في آية أخرى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}(3)؟

قال(عليه السلام): «ثكلتك أمك يا ابن الكواء، هذا المشرق وهذا المغرب، وأما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} فإن مشرق الشتاء على حدة، ومشرق الصيف على حدة، أما تعرف بذلك من قرب الشمس وبعدها، وأما قوله: {رَبِّ الْمَشَٰرِقِ وَالْمَغَٰرِبِ} فإن لها ثلاثمائة وستين برجاً، تطلع كل يوم من برج، وتغيب في آخر، فلا تعود إليه إلّا من قابل في ذلك اليوم».

قال: يا أمير المؤمنين، كم بين موضع قدمك إلى عرش ربك؟

قال(عليه السلام): «ثكلتك أمك يا ابن الكواء، سل متعلّماً ولا تسأل متعنّتاً، من موضع قدمي إلى عرش ربي، أن يقول قائل مخلصاً: لا إله إلّا اللّه».

قال: يا أمير المؤمنين، فما ثواب من قال: لا إله إلّا اللّه؟

قال(عليه السلام): «من قال: لا إله إلّا اللّه، مخلصاً، طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرق الأبيض، فإن قال ثانية: لا إله إلّا اللّه، مخلصاً، خرقت أبواب السماوات وصفوف الملائكة، حتى يقول الملائكة بعضها لبعض: اخشعوا لعظمة اللّه، فإذا قال ثالثة: لا إله إلّا اللّه، مخلصاً، تنته دون العرش، فيقول الجليل: اسكني، فو عزتي وجلالي، لأغفرن لقائلك بما كان فيه»، ثم تلا(عليه السلام)

ص: 481


1- سورة المعارج، الآية: 40.
2- سورة الرحمن، الآية: 17.
3- سورة الشعراء، الآية: 28.

هذه الآية: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُ}(1) يعني إذا كان عمله صالحاً ارتفع قوله وكلامه... .

قال: يا أمير المؤمنين، فأخبرني عن نفسك؟

قال(عليه السلام): «كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتدئت».

قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا}(2) الآية.

قال(عليه السلام): «كفرة أهل الكتاب اليهود والنصارى، وقد كانوا على الحق فابتدعوا في أديانهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً».

ثم نزل(عليه السلام) عن المنبر وضرب بيده على منكب ابن الكواء، ثم قال: «يا ابن الكواء، وما أهل النهروان منهم ببعيد».

فقال: يا أمير المؤمنين، ما أريد غيرك، ولا أسأل سواك.

قال - الراوي - : فرأينا ابن الكواء يوم النهروان، فقيل له: ثكلتك أمك، بالأمس تسأل أمير المؤمنين(عليه السلام) عما سألته، وأنت اليوم تقاتله؟! فرأينا رجلاً حمل عليه فطعنه فقتله(3).

وعن أبي الطفيل أنه سأل ابن الكواء أمير المؤمنين(عليه السلام) عن قوله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا} فقال(عليه السلام): «إنهم أهل حروراء» ثم قال {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} في قتال علي بن أبي طالب(عليه السلام)»(4).

ص: 482


1- سورة فاطر، الآية: 10.
2- سورة الكهف، الآية: 103.
3- الاحتجاج 1: 259.
4- مناقب آل أبي طالب 3: 186.

وقد روى المحدثون أن رجلاً تلا بحضرة علي(عليه السلام): {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} فقال علي(عليه السلام): «أهل حروراء منهم»(1).

وفي تفسير العياشي عن إمام بن ربعي قال:

قام ابن الكواء إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: أخبرني عن قول اللّه {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} قال(عليه السلام): «أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم وابتدعوا في دينهم فحبط أعمالهم وما أهل النهر منهم ببعيد»(2).

خسارة المسلمين

ومن مصاديق {الْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا} في يومنا هذا: الكثير من المسلمين، حيث يتقهقرون يوما ً بعد يوم، وهم يزعمون التقدم.

وهناك بعض الناس في الحياة، ينسب تأخره وخسارته في مختلف مجالات الحياة إلى غيره، فيأتي بأسباب وعلل لا صحة لها(3)، وإنما هي مجرد تبريرات واهية، ونتيجة ذلك هو المعبر عنه في الآية الكريمة ب(ضلال السعي) كأنه أضل الطريق، فانتهى به السير إلى خلاف الغرض.

وهذه الظاهرة من أسباب تأخر المسلمين في الحال الحاضر، حيث أصبحوا غير مستعدين للاعتراف بأخطائهم وعيوبهم، ولايريدون أن يُتعبوا أنفسهم بإزالتها.

ص: 483


1- بحار الأنوار 33: 352.
2- تفسير العياشي 2: 352.
3- أي: ليست عللاً ولا أسباباً حقيقية.

الجهل سبب الخسارة

ثم إن أسباب خسارة الأعمال عديدة، من أهمها: الجهل المركب، وهو أسوأ من الجهل البسيط، فالجاهل إذا كان يعلم بجهله فإنه جاهل بسيط، وربما سعى للتعلم والقضاء على الجهل، أما الجاهل الذي لا يعلم بجهله فإنه جاهل مركب، وهو لا يرى نفسه على خطأ حتى يسعى في إصلاحها.

قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(1).

وهذا من مصاديق الجهل المركب.

ثم إن هناك أسباباً أخرى للخسران، منها: فقدان التدريب والتجربة في العمل، وكذلك الجهل بالطرق التي تؤدي إلى النتيجة الصحيحة، فأحياناً نرى الإنسان في طريق الخسران والضرر الكبير، معتقداً أنه في الطريق الصحيح وأنه رابح ومنتفع ولا يرى غير ذلك.

وقد جاءني ذات مرة شخص، وأطلعني على كتاب له قد ألفه، واختار له عنواناً كبيراً نسبه لنفسه، وكان كتابه مليئاً بالأخطاء النحوية والصرفية، بحيث لو ألف الكتاب أي طالب علم عادي، لم يرتكب ما ارتكبه من أخطاء. وحيث إنه قد صرف وقتاً طويلاً لتأليف هذا الكتاب كان يحسبه عملاً في القمة! مع أن الواقع كان على العكس تماماً، فهو في ظنه قد أنتج عملاً جباراً، في حين أن عمله لم يكن يعد عملاً بالمستوى.

هذا نوع من الجهل المركب.

ومما يزيد الطين بلة إذا كان الجاهل المركب لا يقبل بالنصيحة. فبعض

ص: 484


1- سورة الكهف، الآية: 103-104.

الناس إذا أُرشد إلى الطريق الصحيح والموازين الصحيحة يعتبر ذلك إهانة له!، ولا يستعد للقبول، وهذا أيضاً من عوامل تأخر الفرد والمجتمع، حيث إنهم يستبدون برأيهم على أنه الصحيح والواقع، دون الالتفات إلى عيوبه والأخذ بنصائح الآخرين.

مقام الفتوى

يذكر أن بعد وفاة المرحوم السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) أراد البعض التصدي لمقام الفتوى، في حين أنه لم يكن يتسم بذلك العلم والفضل الذين يؤهلانه للاجتهاد والتصدي. فإنه إذا كان يرى نفسه بالمستوى وهو دونها فإنه من الجهل المركب.

إن مَثَل هذا الشخص كمثل من يريد الصعود إلى سطح عالٍ بدون سُلّم!!

نعم بلوغ مقام المرجعية ليس بالأمر المستحيل، لكن هناك موازين ومراحل عليه أن يقطعها الإنسان ضمن حسابات وقياسات صحيحة، مضافاً إلى سائر الشروط المذكورة في الكتب الفقهية، حتى يتمكن من تحقيق الغرض، وهذا من سنن الحياة، حيث بني الكون على (قانون الأسباب والمسببات) الحقيقية لا الخيالية، والجهل المركب لا يغير من الواقع شيئاً بل هو خيال وسراب فقط.

ولنأخذ مثال الإنسان حيث إنه في وجوده ونموه وتكامله، يمر بمراحل موزونة ومحسوبة ودقيقة، ولا يكون ذلك أبداً بالخيال والجهل المركب، ولا بالطفرة وعدم التدرج عادة.

وهكذا كل شيء في هذه الحياة، فإن الطفرة وعدم التدرج قد يكون محالاً، وربما كان خلاف الحكمة، ومن هنا كان النظام الصحيح، والمرحلية الطبيعية، والسعي الحثيث، هو السبيل الناجح من أجل تسنّم المراتب والمقامات العالية... .

ص: 485

فعلى الإنسان أن يحدث في وجوده حالة من التقدم ويوفر مقوماته، وأن يسعى لكي تكون خطاه دائماً نحو الخير والفضيلة وإلى الأمام، كما عليه أن يطّلع على الأسباب والوسائل الضرورية لتقدّمه، وهكذا أن يطلع على أسباب التأخر كالركود وطلب الراحة، ليبتعد عنها.

من علائم التأخر

هناك علائم لتأخر الفرد والأمة، يمكن من خلالها معرفة أنه متأخر، وإن كان الفرد - أو الأمة - يرى أنه متقدم، أي كان على الجهل المركب. ومن تلك العلائم: الكسل والبطالة.

فإذا رأينا الأمة كسولة، أو قد انتشر فيها ظاهرة البطالة، فهذا يعني تأخر الأمة وإن ادعت أنها متقدمة أو زعمت ذلك.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «آفة العمل البطالة»(1).

وقال(عليه السلام): «آفة النُجح الكسل»(2).

وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «لا راحة لمؤمن على الحقيقة إلّا عند لقاء اللّه، وما سوى ذلك ففي أربعة أشياء: صمت تعرف به حال قلبك ونفسك فيما يكون بينك وبين باريك، وخلوة تنجو بها من آفات الزمان ظاهراً وباطناً، وجوع تميت به الشهوات والوسواس والوساوس، وسهر تنوّر به قلبك، وتنقّي به طبعك وتزكي به روحك»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً لأصحابه: «لا تتمنوا المستحيل»،قالوا: ومن يتمنى

ص: 486


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 817.
2- عيون الحكم والمواعظ: 181.
3- بحار الأنوار 69: 69.

المستحيل؟فقال: «أنتم؛ ألستم تمنون الراحة في الدنيا؟». قالوا: بلى، فقال(عليه السلام): «الراحة للمؤمن في الدنيا مستحيلة»(1).

حيث يستفاد من هذا الحديث أن على المؤمن أن يكدّ في العمل في دار الدنيا ويجهد نفسه، ولا يكون كسولاً ولا عاطلاً، ولايبحث عن الراحة الدنيوية بل يكون في طلب الراحة الأخروية.

لماذا تأخر المسلمون؟

إن المسلمين قد خسروا مواقع عديدة في هذا العالم وتأخروا عن ركب الحضارة كثيراً، وذلك بسبب قلة التجربة والممارسة، وترك التعاليم الإسلامية، مضافاً إلى سوء الحكام. ولكن تجد البعض يعلل التأخر بحجج واهية، هذا فيما إذا استعد للاعتراف بالتأخر، أما لو عكسنا الواقع وحسبنا أنفسنا متقدمين، والحال أننا متأخرون، فنحن في قمة الخسارة، وهذا هو الجهل المركب، وينطبق علينا قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا...}(2) انطباقاً تاماً على وضعنا الحالي.

فإذا أردنا أن نتقدم ونحسن صنعاً حسب الموازين الكونية الصحيحة، فعلينا أن نتمسك بالمراحل التدريجية للكمال والتقدم، عبر الندوات المشتركة، والمشورة الدائمة، في أمورنا وأعمالنا؛ لنصل إلى التفاهم الحقيقي والمستمر في نقل التجارب وتكامل الأفكار على طريق صنع المجتمع الصحيح والقويم.

التقدم والقضاء على الجهل

هنالك أمور عديدة يمكن أن تساعدنا على التقدم والرقي إذا استطعنا التمسك

ص: 487


1- أعلام الدين: 278.
2- سورة الكهف، الآية: 103.

بها، في بدايتها القضاء على الجهل وخاصة الجهل المركب، وذلك بالاجتهاد في طلب العلم والعمل به، وكذلك دراسة التاريخ والاستفادة من تجاربها، إلى غيرها من الأمور.

ومن أهم أسباب القضاء على الجهل المركب: الاستشارة.

عن جعفر بن محمد(عليهما السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قيل: يا رسول اللّه، ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي، واتباعهم»(1).

وإذا لاحظنا التاريخ ورأينا الشعوب المتقدمة أو القبائل التي تفوقت على غيرها في مختلف أعمالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية وما أشبه، نرى أن من أسرار تقدمهم عدم الجهل المركب، وأنهم لا يقدمون على أي عمل إلّا بعد استشارة الخبراء والأخذ بأفضل الآراء، وبذلك تقل أخطاؤهم، ويزداد تقدمهم.

فإن الاستشارة تعرّف الإنسان على الخطأ والصواب، وتأخذ بيده إلى الطريق السليم. وتمنعه من الجهل المركب، بل مطلق الجهل، مثال ذلك مثال من يريد أن يرى قفاه، فإنه لا يستطيع، ولكنه إذا جمع مرآتين مرآة أمامه ومرآة خلفه، فعند ذلك يستطيع أن يرى قفاه... وهكذا يستطيع أن يصل الإنسان إلى صحة عمله أو خطأه بالمشورة؛ لأن كل مستشار فهو بمنزلة المرآة يبين لك جانباً من جوانب القضية، ومن هنا كان تعدد الاستشارات مطلوباً لا أن يقتصر على واحدة، وفي ذلك قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «خوافي الآراء تكشفها المشاورة»(2).

وعنه أيضاً(عليه السلام) قال: «ما استنبط الصواب بمثل المشاورة»(3).

ص: 488


1- وسائل الشيعة 12: 39.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 818.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 687.

الإسلام دين السلام

من مقومات القضاء على الجهل: تركيز مبادئ السلم في المجتمع، فإن العنف سبب للجهل، وربما الجهل المركب، وكذلك يكون الجهل من أسباب العنف.

لقد ركز الإسلام تركيزاً كثيراً على السلم والسلام حتى جعله شعاراً للإسلام فإن: (الإسلام دين السلام)، ومن مصاديق التركيز على ذلك، هو فيما إذا التقى المسلم بآخر، حيث يستحب أن يقول له: (السلام عليكم).

قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(1).

وكذلك كانت السيرة النبوية(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة الأئمة الأطهار(عليهم السلام) حيث كانوا يتعاملون مع كل الناس وفق قانون السلم والسلام وبالصورة الحسنة حتى مع أعدائهم، وهذا يعني أننا مطالبون بأن نعمل على جمع الناس وتوحيدهم، تأسياً بالنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الأئمة الأطهار(عليهم السلام) بدون تفريق أو تحيّز في المعاملة، حتى مع علمنا بمخالفة الآخرين، وما ذلك إلّا لأن العفو واللين والسلم والسلام من شعارات الإسلام. قال تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).

وليس من الصحيح أن نشن الهجوم على الآخرين لنبعدهم عن العمل، بل الطريق الصحيح والسليم والذي أكد عليه الإسلام، هو جمع الكلمة والوحدة والسلام الدائم، طبعاً مع حفظ الموازين الشرعية ومراعاة الأهم والمهم.

الشهيد الثاني(رحمه اللّه) وطريق النجاح

العلم هو الذي يقضى على الجهل المركب، وبقدر ما يجتهد الإنسان في

ص: 489


1- سورة البقرة، الآية: 208.
2- سورة البقرة، الآية: 237.

طلب العلم يبتعد عن الجهل، كما هو واضح.

يذكر أن الشهيد الثاني (رضوان اللّه عليه) المتوفى قبل خمسمائة عام تقريباً، كان قد تباحث مرة مع أحد العلماء في مسائل علمية عديدة، وغلبه في تلك المسائل إلّا في علم التجويد، حيث لم يكن مسلطاً عليه بدقة، فاعتبر ذلك نقصاً، فراح يسأل عن عالم متبحر في علم التجويد فأرشدوه إلى شخص في مصر، وآنذاك سافر الشهيد(رحمه اللّه) إلى مصر ودرس علم التجويد على يد ذلك العالم ثم عاد إلى لبنان وبعد ذلك حرر كتابه (المسالك) المشهور والذي يعد من أمهات الكتب الاستدلالية الفقهية.

والآن وبعد مئات السنين من استشهاده لم يستغن طلبة العلم عن مطالعة علومه وآرائه الموجودة في رسائله ومؤلفاته القيمة، ويعود سبب ذلك إلى ما أجهد وأتعب نفسه للعلم بحيث هاجر مرات عديدة إلى مختلف المراكز العلمية، منها: إلى ميس سنة (925ه) وإلى كرك نوح سنة (933ه)، ثم انتقل إلى وطنه جبع سنة (934ه) وأقام بها مشتغلاً بمطالعة العلم والمذاكرة إلى سنة (937ه) حيث رحل إلى دمشق وبقي بها إلى سنة (938ه)، ثم رحل إلى مصر سنة (942ه) ثم ارتحل من مصر إلى الحجاز سنة (943ه) وبعد قضاء الواجب من الحج والعمرة عاد إلى وطنه الأول ووصله سنة (944ه)، وفي سنة (946ه) سافر إلى العراق لزيارة الأئمة(عليهم السلام) وبعد أن عاد سافر إلى بيت المقدس سنة (948ه)، ثم رجع إلى وطنه وبقي فيه إلى سنة (951ه) حيث سافر إلى جهة الروم في القسطنطينية زمن السلطان سليمان بن عثمان، وقد وصل مدينة القسطنطينية سنة (952ه) وبعد أن أقام بها عدة شهور توجه إلى العراق، وبعد زيارة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف والكاظمية وغيرها، عاد إلى بلده منتصف صفر من سنة (953ه) ثم انتقل إلى بعلبك يدرس فيها مدة، كل ذلك

ص: 490

من أجل طلب العلم والمعرفة، والمباحثة مع العلماء، والبحث عن المؤلفات والأحاديث النبوية وسيرة الأئمة الأطهار(عليهم السلام) حتى وصل إلى قمة العلم وأشرف منازل العلماء.

ومن هنا كان جواب سقراط لمن شتمه وأعابه قائلاً: يا فاقد النسب! فأجابه سقراط بجواب حكيم: إن نسبي العائلي يبدأ مني، ونسبك العائلي ينتهي بك.

حيث ذهب إلى أن شرف الانتساب في العلم لا في النسب.

نعم العلم هو ضد الجهل، ومتى ما كان العلم ارتحل الجهل، فإذا أردنا القضاء على الجهل المركب علينا بطلب العلم، دائماً وأبداً، كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اطلب العلم من المهد إلى اللحد»(1).

والحقيقة أن هذه الأمور راجعة إلى التدبير الموزون، فاللّه سبحانه وتعالى قادر على كل شيء وهو الحكيم المتعال.

أما الإنسان فإنه عاجز جاهل، ويحتاج إلى التعلم والممارسة والتدريب والتجربة والصبر والاستعداد؛ لأن إدارة الأعمال ودفع عجلة الأمة الإسلامية إلى الأمام، أمر صعب جداً لا يتحقق بسهولة، بل يحتاج إلى نشر الفكر الإسلامي، وإحياء علومه الحقّة، وإخراج الأفكار الغربية والاستعمارية من أذهاننا وبلادنا، أي غربلتها من كل الشوائب الدخيلة على ثقافة الأمة الإسلامية، وهذا يتم عبر الندوات المشتركة والمشاورات المستمرة، وبعث روح الممارسة والتدريب بين المسلمين، للوصول إلى التطبيق الصحيح، وترك الأعمال الباطلة من العنف وغيرها، والتي يحسبها البعض هي الصحيحة، والقضاء على الجهل البسيط والجهل المركب، والتي تؤدي إلى تأخر المسلمين بهذا الشكل الذي نحن عليه.

ص: 491


1- في نهج الفصاحة: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»: 218 وهو من المشهورات.

التبشير المسيحي

تقوم القساوسة في الغرب بدعوة الناس إلى الإيمان بالدين المسيحي، والالتزام بالتعاليم التي يُمليها البابا(1) عليهم، وقد خصصت لهم مكاناً يتسع لحوالي مائة ألف شخص، يقوم البابا فيها بإلقاء المحاضرات في المناسبات المختلفة، وأحياناً تقوم إذاعة خاصة بنقل هذا الحديث، حيث يستمع إليه الملايين في العالم حسب بعض الإحصاءات(2)... .

ص: 492


1- هو الحبر الأعظم للكنيسة الكاثوليكية، أسقف روما، وخليفة القديس بطرس الأول، وهو ممثل السيد المسيح في العالم، ويعتبره الكاثوليك معصوماً أي منزهاً عن الخطأ.
2- في وسط الإهمال المتزايد أو القصور والتقصير الكبير من قبل المسلمين في مجال التبليغ والإعلام وجدت المنظمات التنصيرية المدعومة من الكنائس الغربية فرصتها، بل واستغلتها أيما استغلال، إذ أنها وتحت ستار تقديم المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء، تعمل هذه المنظمات وبشكل دؤوب في تنصير المسلمين حتى في البلدان الإسلامية، وعلى الأخص في القارة الأفريقية، وذلك تطبيقاً لمخططات وبرامج تم وضعها بدراسة وعناية كبيرين، كما تم تهيئة الإمكانيات البشرية والمالية اللازمة لهذه الغاية من خلال مؤتمرات كثيرة عقدت لهذا الغرض، يأتي في مقدمتها مؤتمر عقد في ولاية كلورادو الأمريكية عام (1978م) حيث تم وضع خطة شاملة تحت شعار تنصير المسلمين، يتم العمل على هذه الخطة للخمسين عاماً القادم. وعقد فى هولندا مؤتمر آخر نظمته الطائفة البروتستانتية في عام (2000م) واستمر تسعة أيام وحضره عشر آلاف مندوب من أنحاء العالم، وتكلف المؤتمر (45 مليون) دولار تبرع أحد المنصرين المشهورين، وقد حققت منظمات التبشير المسيحية نجاحات كبيرة في بعض البلدان الإسلامية كالباكستان وبنجلاديش والسودان والمغرب والجزائر، وقد وصل عدد الكنائس فى بنجلاديش الى (170) كنيسة خلال ثلاث سنوات، وتضاعف عدد الكنائس فى أفريقيا خلال العقد الأخير حتى وصل إلى أكثر من 24 ألف كنيسة. وإليك بعض النشاط التبشيري حسب ما نشرته (مجلة LAVIDA) في عام 1987م) وهو تقرير سنوي لدائرة تنصير الشعوب في الفاتيكان: بلغ عدد المنصرين الكاثوليك في العالم (471000) منصر. وعدد المدارس التابعة لهم في العالم (58000) مدرسة. وعدد المعاهد التابعة لهم في العالم (26000) معهداً. وإن مجموع الإعانات التي وزعتها الدائرة (120 مليون) دولار لعام (1986م). وأن (422 لغة) أفريقية ترجمت إليها الأناجيل. وأن (104 ألف) قسيس ومنصر يعمل في إفريقيا. وأن (16671) معهداً كنيسياً في إفريقيا أنشأ حتى عام (1990م). وأن الكنائس في أفريقيا تشرف على (500) جامعة وكلية، و(489) مدرسة لاهوتية لتخريج المنصرين، و(2594) مدرسة ثانوية، و(83900) مدرسة ابتدائية، و(11130) روضة أطفال. وهناك (600) مستشفى، و(265) معهد للأيتام، و(130) ملجأ للمرضى، و(115) مدرسة للمكفوفين، و(85 ملجأ مميز للأرامل، و(5112) مستوصف كلها تملكها أو تدار تحت إشراف الكنائس في إفريقيا. وهناك (6 ملايين) مسلم يدرس في المدارس التنصيرية. وتصدر (75) مجلة تنصيرية في إفريقيا. وأن مقدار ما أنفق على النشاط التبشيري في افريقيا بلغ (32 مليار) دولار. وهذه الأرقام نشرت سنة (1410ه) والأرقام الحالية تفوق ذلك بكثير. وذكر موقع إحدى المحطات العربية الأرقام والمعلومات التالية: قارة أفريقيا التي يزيد عدد سكانها على المليار نسمة كان الدين الإسلامي الدين الأساسي فيها، وهناك ثلاثون لغة إفريقية كانت تكتب بالخط العربي، انخفض عدد المسلمين فيها إلى (316 مليون)، وهؤلاء نصفهم من العرب في الشمال الإفريقي، وأخيراً أصبح عدد المسلمين فيها لا يتجاوز (150) مليون نسمة، وبالمقابل ارتفع عدد الكاثوليك من واحد مليون في عام (1902م) إلى (330 مليون) نسمة في عام (2000م). وفي أفريقيا الآن مليون ونصف مليون كنيسة، وأن عدد أعضاء هذه الكنائس (46 مليون) نسمة، وما معدله في كل عام (6 ملايين انسان يتحول إلى النصرانية. في عام واحد جمعت المؤسسات التنصيرية المسيحية (194مليار دولار) وهو ما يعادل ميزانيات جميع الدول العربية. و(كينيا) على سبيل المثال عدد سكانها (ثلاثون مليون نسمة)... ربعهم من المسلمين، في كل (كينيا) يوجد (900 مسجد) مقابل (25 ألف) كنيسة، وهذه المساجد نصفها غير صالح للاستفادة. وقد أعلن اتحاد الكنائس للتبشير الذي عُقد في (كاليفورنيا) سنة (1980م) أنه توجد في مصر (Association) مؤسسة اسمها (Upper Egypt) بمعنى مصر العليا، ولها ستون فرعًا تنصيريًّا في مصر، وفي دولة مثل (موريتانيا) وهي دولة عربية مسلمة، عدد سكانها مليونان ونصف مليون نسمة مسلمة بالكامل بها هيئة (ديلوليس) الأمريكية، ومنظمة (الرويال) العالمية، ومنظمة (كاراتاس)، وجمعية الأمل الموريتانية، ومنظمة انفجار البشر، واتحاد الإنجيليين العرب، وكل هذه جمعيات تنصيرية في موريتانيا، وما من دولة عربية مستثناة من برنامج التنصير. أما في ماليزيا فتوجد خمسمائة مؤسسة تنصيرية. ذكرت مجلة اسمها (International Bulletin of Missionary Researches)، وهذه خاصة بالأبحاث التنصيرية، نشرت الآتي عن عام (1996م): عدد المنظمات التنصيرية (23,300 منظمة)، جمعت في عام (1996م) (193مليون) دولار، عدد المنظمات التي ترسل مُنَصِّرين منها إلى الخارج (4,500 منظمة)، عدد المنصرين الذين يعملون داخل أوطانهم (4,635,500 مُنَصِّر)، ارتفع بعد ذلك إلى (6 مليون إلّا ربع)، عدد كتب الإنجيل التي وزعت خلال عام واحد ملياران إلّا ربع نسخة، عدد المجلات والدوريات التنصيرية (3,100)، عدد أجهزة الكمبيوتر في المؤسسات التنصيرية (20 مليون و696 ألف و100 جهاز)، ارتفعت في عام (1998م) إلى (340 مليون) جهاز كمبيوتر، ظهرت كلمة السيد المسيح(عليه السلام) بهدف تبشيري وليس بهدف ديني على شاشات التليفزيون في عام واحد هو عام (1996م) (1500مرة) بمعدل 4 مرات يوميًّا، أُنفِق على التنصير في عام (1997م) (200 مليار) دولار، تشرف الكنيسة على (104 ألف) معهد ومدرسة، بهذه المعاهد والمدارس (6 مليون) تلميذ مسلم، وتشرف على (500 جامعة)، تُشرف أيضا على (490 مدرسة) لاهوت لتخريج المنصرين، عندها (10.677) مدرسة رياض أطفال، وألف وخمسين صيدلية، لها (3600 محطة) ما بين مرئية ومسموعة تبث (447 مليون) ساعة تنصيرية في كل عام!! وفي نفس الوقت ذكر أن ثريًّا عربيًّا بنى في لندن قصرًا بسبعة مليار دولار. ونشرت صحيفة (لوفيغارو) الفرنسية خبرًا مفاده: أن ثريًّا عربيًّا خسر في ليلة واحدة على موائد القمار (85 مليون فرنك)، ولم يكتفِ بهذا بل قدم مليون فرنك بقشيش للنساء!!

ص: 493

بالإضافة إلى سائر برامج الكنيسة، وما يسعون لأجله من تثقيف الشعوب على ثقافتهم.

ولكننا لا نفعل حتى عشر ذلك في سبيل نشر الثقافة الحقة وهي ثقافة الإسلام.

إن المجتمع الغربي وإن حصل على بعض التقدم في المجال المادي الدنيوي، وقضى على بعض الجهل في ذلك، ولكنهم فقدوا الآخرة ولم يعلموا بها، وخسروا العاقبة، وذلك لمخالفتهم أمر اللّه تعالى، قال عزّ وجلّ: {بَلِ ادَّٰرَكَ

ص: 494

عِلْمُهُمْ فِي الْأخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكّٖ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}(1).

أي إن علم هؤلاء منحصر في الدنيا، وليس لهم في الآخرة من علم، وعواقب الأمور لمن علم الآخرة وعرفها؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

وقد أصبح بعض الأمة اليوم مصداقاً للخاسرين في الدنيا والآخرة - والعياذ باللّه - حيث حصر نفسه في الجهل - وربما كان جهله جهلاً مركباً - وأغمض عينيه عن عواقب الأمور وأسباب التطور والتقدم وطرق تحصيله، كما نسي الآخرة وضرورة تحصيلها، وهذا من أسباب تأخر المسلمين.

والخلاصة: إن المسيحيين لعملهم حصلوا على الدنيا (النسبي) دون الآخرة، ونحن المسلمين تركنا العلم والعمل معاً، مع أنه إذا عملنا حصلنا على الدنيا والآخرة. ولكن كسلَنا أفقدنا موازين التقدم، فلم نتبع القرآن والشرع الحنيف ولا العترة الطاهرة(عليهم السلام)، فتأخرنا مع ما لنا من مقومات التقدم.

العلم والعمل

من هنا لا يكفي العلم وحده بل يحتاج إلى العمل أيضاً، ولايكفي القول بمفرده بل لا بد وأن يتبعه الفعل، كما هو واضح. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المحسن من صدقت أقواله أفعاله»(3).

وقال(عليه السلام): «إنكم إلى إعراب الأعمال أحوج منكم إلى إعراب الأقوال»(4).

ص: 495


1- سورة النمل، الآية: 66.
2- سورة آل عمران، الآية: 85.
3- عيون الحكم والمواعظ: 45.
4- عيون الحكم والمواعظ: 174.

وقال(عليه السلام): «زيادة الفعل على القول أحسن فضيلة، ونقص الفعل عن القول أقبح رذيلة»(1).

وقال(عليه السلام): «لسان الحال أصدق من لسان المقال»(2).

وقال(عليه السلام): «يقبح بالرجل أن يقصر عمله عن علمه، ويعجز فعله عن قوله»(3).

ذات مرة قال لي شخص: إنني أستطيع تأليف كتاب ك(العروة الوثقى)(4) في السعة والعمق في أسبوع واحد فقط! هذا قول لاعمل فيه، فإنه قد غفل هذا الشخص عن الشخصية العلمية التي امتاز بها صاحب العروة، وكثرة جده واجتهاده في طلب العلم، فإنه لم يعلم بأن (السيد محمد كاظم اليزدي(رحمه اللّه)) قد ذهب مشياً على الأقدام من يزد إلى النجف الأشرف، حتى تمكن من إنجاز هذا الكتاب، كما سافر إلى خراسان وأصفهان قبل هجرته للنجف ودرس على علمائها، وقد طالع كتاب (الجواهر)(5) وهو في الطريق، وأتم كتابه (العروة الوثقى) بعد اثنتي عشرة سنة، فإنه بعد ما أفنى سنين طويلة من عمره الشريف في

ص: 496


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 391.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 573.
3- عيون الحكم والمواعظ: 555.
4- كتاب العروة الوثقى، تأليف آية اللّه العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي المتوفى سنة (1337ه)، يبرز كتاب (العروة الوثقى) كرسالة عملية للأحكام الشرعية لفقيه عصره ووحيد دهره العلامة اليزدي(رحمه اللّه)، هذه الرسالة احتلت مقام المحورية للأبحاث الاستدلالية في الفقه لكثير من العلماء الأفاضل الذين جاءوا بعده من جهابذة الطائفة ومراجعها وفقهائها، فكتب العشرات من التعليقات والحواشي والأبحاث الفقهية في ذيل مسائل هذه الرسالة الشريفة، ولم يكن ذلك إلّا لما امتازت به من كثرة الفروع ودقة النظر في بيان الأحكام الشرعية.
5- قال الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة: جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام، للفقيه العلامة الشيخ محمد حسن ابن الشيخ باقر ابن الشيخ عبد الرحيم ابن الآغا محمد الصغير ابن المولى عبد الرحيم الشريف الكبير الذي جاور النجف الأشرف.

طلب العلم والاجتهاد في تحصيله، حينذاك أدرك أسراره وغوامضه، وتعرف على مطالبه، ثم قام بعد ذلك بكتابة (العروة الوثقى).

نعم، إن كتابة كتاب مثل (العروة الوثقى) عمل يحتاج إلى جهد سنين عديدة، لا إلى أسبوع واحد فقط كما كان يدّعي هذا الشخص، ولكن في الحديث الشريف: «عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان»(1).

وقس على ذلك الكثير من أمورنا التي نقولها ولا نعمل بها.

وقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «تعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن ينفعكم اللّه بالعلم حتى تعملوا به، إن العلماء همتهم الرعاية، والسفهاء همتهم الرواية»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تعلموا العلم لتماروا به السفهاء، وتجادلوا به العلماء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم ما عند اللّه، فإنه يدوم ويبقى، وينفد ما سواه، كونوا ينابيع الحكمة، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت(3)، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون في أهل الأرض»(4).

المجالس والتعازي

إن من أهم ما يقضي على الجهل البسيط والمركب، ويوجب نشر الثقافة الدينية هي المجالس الحسينية الشريفة.

ص: 497


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 454.
2- تنبيه الخواطر 2: 213.
3- أحلاس: جمع حَلَس وهو مسحٌ يبسط في البيت وتجلّل به الدابة، ومن المجاز: كن حَلس بيتك: أي الزمه.
4- منية المريد: 135.

فإن من خلال هذه المجالس المباركة يمكن للإنسان أن يحصل على إقامة الروابط مع مختلف أفراد المجتمع وخاصة المثقفين منهم، وإزالة الجهل والشبهات، والتحصين بالمعرفة والوعي وأسباب النجاح... .

إقامة المجالس الأسبوعية وحضورها، وكذلك الشهرية والموسمية، وقراءة التعازي على سيد الشهداء وأهل البيت(عليهم السلام)، فيها بركة كثيرة - مادية ومعنوية - ويستطيع الإنسان من خلالها أن يصل إلى هداية الناس وإرشادهم للفضيلة والتقوى ولخير الدنيا والآخرة، وهذا الأمر بالطبع يحتاج إلى السعي وبذل الجهد، لتكون هذه المجالس ناجحة ومفيدة وعاملة لتقدم المجتمع ونجاحه.

ومن اللازم علينا نحن الطلبة أن نربي مجتمعاتنا على الثقافة والوعي الإسلامي الحقيقي؛ وذلك لأن مجتمعاتنا اليوم أصبحت تعاني من مشاكل عديدة، فهي تعيش في ظل القمع والاستبداد، وتعاني من حالة الاستسلام والخنوع، وتمزق أوصالها الخلافات والصراعات، وينتشر في أجوائها الفساد والانحراف، وتعصف بأفكار أبنائها أمواج التضليل الإعلامي والتشويش الثقافي.

والمجالس الحسينية وما شابهها ينبغي الاستفادة منها بأكبر قدر ممكن لمعالجة هذه المشكلات والأوضاع، فإنها إضافة إلى أثرها المعنوي والاستمداد الغيبي التي تجلبه لنا من اللّه والأئمة(عليهم السلام) هي محل لنشر الثقافة والوعي وارتباط المجتمع بالقيادة الدينية.

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إذا رأيتم روضة من رياض الجنة فارتعوا فيها، قيل: يا رسول اللّه، وما الروضة؟ قال: مجالس المؤمنين»(1).

وقال لقمان(عليه السلام) لابنه: «يا بني، اختر المجالس على عينك، فإن رأيت قوماً

ص: 498


1- السرائر 3: 635.

يذكرون اللّه جلّ وعزّ فاجلس معهم، فإن تكن عالماً نفعك علمك، وإن تكن جاهلاً علّموك، ولعل اللّه أن يظلَّهم برحمته فيعمك معهم، وإذا رأيت قوماً لا يذكرون اللّه فلا تجلس معهم؛ فإن تكن عالماً لم ينفعك علمك، وإن كنت جاهلاً يزيدوك جهلاً، ولعل اللّه أن يظلَّهم بعقوبة فيعمك معهم»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «من جلس مجلساً يحُيى فيه أمورنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(2)

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لفضيل: «تجلسون وتحدثون؟».

قال: نعم، جُعلت فداك.

قال(عليه السلام): «إن تلك المجالس اُحبها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم اللّه من أحيا أمرنا، يا فضيل من ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(3).

وقال(عليه السلام): «أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى اللّه العظيم، وأن يعود غنيهم على فقيرهم، وقويهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم؛ فإن في لقاء بعضهم بعضاً حياة لأمرنا» - ثم قال(عليه السلام): - «رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «اجتمعوا وتذاكروا، تحفَّ بكم الملائكة، رحم اللّه من أحيا أمرنا»(5).

ص: 499


1- الكافي 1: 39.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 73.
3- قرب الإسناد: 37.
4- مصادقة الإخوان: 34.
5- مصادقة الإخوان: 38.

المجالس وقضايا الأمة

كما يلزم على المسئولين والإداريين في المجالس الحسينية - مضافاً إلى بيان السيرة وذكر المصائب - أن يتناولوا القضايا التي تعيشها الأمة من سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، وكل ما يمس حياة الفرد المسلم وواقعه الذي يعيشه، لكي يتحقق الغرض من وجودها بشكل أتم، وبذلك ستكون في المجتمع نفوس تحمل الروح الحسينية الأبية وتعاليم الإسلام وتعاليم الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، فهم(عليهم السلام) شعلة من التضحية والفداء والعمل والعلم والتقدم والسعادة والنجاح. فإذا أردنا أن لا نكون من الخاسرين في أعمالنا فلنحيي مجالس أهل البيت(عليهم السلام) بكل صورها.

ومن كل ما تقدّم من شواهد وإيضاحات للآية الكريمة في بداية البحث، نعرف أن غاية هذا الدين العظيم هي النجاح في الأعمال الدنيوية والأخروية، وهذا يتطلب القضاء على الجهل البسيط والمركب، والتحلي بمعرفة الدين بصورة صحيحة، وأخذه من منابعه الأصلية وهي القرآن والعترة الطاهرة(عليها السلام)، وتطبيقه بشكل صحيح... من أجل الوصول إلى حياة طيبة سليمة وواعية، حتى تسود المجتمع العدالة في كل الميادين، فلا يوجد مكان للحرمان أو الظلم السياسي أو المالي، فإن توصلنا إلى هذا الأمر نكون قد نجحنا في نشر أهداف هذا الدين العالمي، وإدارة حياتنا بالأسلوب الأفضل.

ورد عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال - في خطبة له(عليه السلام) - : «... أيها الأمة التي خدعت فانخدعت، وعرفت خديعة من خدعها فأصرت على ما عرفت، واتبعت أهواءها وضربت في عشواء غواتيها، وقد استبان لها الحق فصدت عنه، والطريق الواضح فتنكّبته. أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو اقتبستم العلم من

ص: 500

معدنه،وشربتم الماء بعذوبته، وادخرتم الخير من موضعه، وأخذتم الطريق من واضحه، وسلكتم من الحق نهجه، لنهجت بكم السبل، وبدت لكم الأعلام، وأضاء لكم الإسلام، فأكلتم رغداً، وما عال فيكم عائل، ولا ظُلم منكم مسلم ولا معاهد، ولكن سلكتم سبيل الظلام، فأظلمت عليكم دنياكم برحبها، وسدت عليكم أبواب العلم، فقلتم بأهوائكم، واختلفتم في دينكم، فأفتيتم في دين اللّه بغير علم، واتبعتم الغواة فأغوتكم، وتركتم الأئمة فتركوكم، فأصبحتم تحكمون بأهوائكم، إذا ذكر الأمر سألتم أهل الذكر، فإذا أفتوكم قلتم: هو العلم بعينه، فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه، رويداً عما قليل تحصدون جميع ما زرعتم، وتجدون وخيم ما اجترمتم وما اجتلبتم. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لقد علمتم أني صاحبكم، والذي به اُمرتم، وإني عالمكم، والذي بعلمه نجاتكم، ووصي نبيكم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخيرة ربكم ولسان نوركم، والعالم بما يصلحكم، فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وعدتم، وما نزل بالأمم قبلكم...»(1).

نسأل اللّه عزّ وجلّ أن يمن علينا بالعلم والمعرفة وأن يخلصنا من الجهل بأنواعه البسيط والمركب.

«إلهي فاسلك بنا سبل الوصول إليك، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك، قرّب علينا البعيد، وسهل علينا العسير الشديد، وألحقنا بالعباد الذين هم بالبدار إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإياك في الليل يعبدون، وهم من هيبتك مشفقون، الذين صفيت لهم المشارب، وبلّغتهم الرّغائب، وأنجحت لهم المطالب...»(2).

ص: 501


1- الكافي 8: 31.
2- بحار الأنوار 91: 147.

من هدى القرآن الكريم

موجبات الضلالة

قال تعالى: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}(1).

وقال سبحانه: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا}(4).

من عوامل التقدم

أ: الاستفادة من التجارب

قال تعالى: {فَاعْتَبِرُواْ يَٰأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(5).

وقال جلّ وعلا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(7).

وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن

ص: 502


1- سورة البقرة، الآية: 108.
2- سورة النساء، الآية: 116.
3- سورة الجاثية، الآية: 23.
4- سورة النساء، الآية: 136.
5- سورة الحشر، الآية: 2.
6- سورة يوسف، الآية: 111.
7- سورة الرعد، الآية: 19.

قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَاللَّهِ مِن وَاقٖ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَلَقَدْ مَكَّنَّٰهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّٰكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَٰرًا وَأَفِْٔدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَٰرُهُمْ وَلَا أَفِْٔدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(2).

ب: المشاورة

قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(3).

وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(4).

ج: العفو والسلم

قال تعالى: {وَجَزَٰؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ

ص: 503


1- سورة غافر، الآية: 21.
2- سورة الأحقاف، الآية: 26.
3- سورة الشورى، الآية: 38.
4- سورة آل عمران، الآية: 159.
5- سورة الشورى، الآية: 40.
6- سورة النساء، الآية: 149.

الْمُحْسِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًامِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}(2).

وقال جلّ وعلا: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(3).

الإيمان طريق النجاة

قال عزّ وجلّ: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}(4).

وقال سبحانه: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}(5).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٖ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

موجبات الضلالة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا وإن شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة، من أخذ

ص: 504


1- سورة آل عمران، الآية: 134.
2- سورة البقرة، الآية: 109.
3- سورة الأعراف، الآية: 199.
4- سورة فصلت، الآية: 18.
5- سورة يونس، الآية: 103.
6- سورة الصف، الآية: 10- 11.
7- سورة الزمر، الآية: 61.

بها لحق وغنم، ومن وقف عنها ضل وندم»(1).

وقال(عليه السلام): «ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة وحسنت عنده السيئة وسكر سكر الضلالة»(2).

وقال(عليه السلام): «ضل من اهتدى بغير هدى اللّه»(3).

وقال(عليه السلام):«ضلال النفوس بين دواعي الشهوة والغضب»(4).

وقال(عليه السلام): «صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله»(5).

من عوامل التقدم

أ: الاستفادة من التجارب

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «مَن حفظ التجارب أصابت أفعاله»(6).

وقال(عليه السلام): «مَن أحكم التجارب سلم من المعاطب»(7).

وقال(عليه السلام): «من كثرت تجربته قلّت غرّته»(8).

وقال(عليه السلام): «المجرّب أحكم من الطبيب»(9).

وعنه(عليه السلام): «التجارب لا تنقضي والعاقل منها في زيادة»(10).

ص: 505


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 120 من كلام له(عليه السلام) يذكر فضله ويعظ الناس.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 31.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 426.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 310.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 421.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 666.
7- عيون الحكم والمواعظ: 431.
8- عيون الحكم والمواعظ: 432.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 64.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.
ب: المشاورة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المستشير متحصن من السقط»(1).

وقال(عليه السلام): «نعم الاستظهار المشاورة»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لن يهلك امرؤ عن مشورة»(3).

وقال(عليه السلام) في وصية له: «اعلم، أن ضارب علي(عليه السلام) بالسيف وقاتله، لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثم قبلت ذلك منه لأديت إليه الأمانة»(4).

ج: العفو والسلم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة: العفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليكم بالعفو؛ فإن العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً، فتعافوا يعزكم اللّه»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصية لابنه الحسن(عليه السلام): «فإذا استحق أحد منك ذنباً فإن العفو مع العدل أشد من الضرب لمن كان له عقل»(7).

وقال(عليه السلام): «المبادرة إلى العفو من أخلاق الكرام»(8).

ص: 506


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 64.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 717.
3- المحاسن 2: 601.
4- الكافي 5: 133.
5- الكافي 2: 107.
6- الكافي 2: 108.
7- بحار الأنوار 74: 216.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 84.

وقال(عليه السلام): «العفو أعظم الفضيلتين»(1).

طرق النجاة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، ثلاث موبقات وثلاث منجيات، فأما الموبقات: فهوى متبع، وشُحّ مطاع، وإعجاب المرء بنفسه. وأما المنجيات: فالعدل فيالرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وخوف اللّه في السر والعلانية كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه امرأً سمع حكماً فوعى، ودُعي إلى رشاد فدنا، وأخذ بحجزة هادٍ فنجا»(3).

وقال(عليه السلام): «الزموا الحق تلزمكم النجاة»(4).

وقال(عليه السلام): «بالإيمان تكون النجاة»(5).

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «إنّ أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم خشية للّه»(6).

ص: 507


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 87.
2- تحف العقول: 8.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 76 من خطبة له(عليه السلام) في الحث على العمل الصالح.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 297.
6- الكافي 8: 68.

التقوى والأخلاق

مقدّمة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الْأَخْلاق»(1).

نتطرّق اليوم لبعض الأمور المهمة، والتي ينبغي على كلّ مسلم أن يتحلّى بها. (كالتقوى والأخلاق وخدمة الناس) والتي يتوصل الإنسان بالعمل بها إلى مرتبة السمو والكمال وتجعله إنساناً حقيقياً. وعند تركها مع غيرها من الواجبات ينحطُّ الإنسان إلى مرتبة الحيوان؛ لأنّ الإنسان بتقواه وأخلاقه وخدمته للناس... وغيرها، يتميز عن الحيوان. وإلّا فهو كالحيوان، بل أضل سبيلاً.

فالإنسان والحيوان كلاهما جسم نام حساس متحرك بالإرادة كما يعبر المناطقة. وكلاهما يشغل حيزاً في الفراغ، كما يعبّر بعض الطبيعيين، ولكن الفرق بينهمنا هو أن الإنسان عاقل يعمل بالأعمال التي دلَّه عليها العقل، أو أرشده إليها الشارع، وعرّفه بحسنها كالتقوى والأخلاق والصدق والأمانة وخدمة الناس وغيرها، ويترك الأعمال القبيحة والمضرة، والتي نهاه عنها العقل والشارع كشرب الخمر ولعب القمار والكذب والغيبة... الخ. فلنصبح إنسانيين بمعنى هذه الكلمة، وهذا يستلزم منّا أن نجتهد ونعمل بجميع ما أمرنا به الشارع، ونتجنب عن جميع ما نهى عنه.

ص: 508


1- بحار الأنوار 16: 210.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ذللوا أنفسكم بترك العادات، وقودوها إلى فعل الطاعات، وحملّوها أعباء المغارم، وحلُّوها بفعل المكارم، وصونوها عن دنس المآثم»(1).

التَّقوى

اشارة

قال سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(2).

التقوى هي وقاية النفس وصيانتها من الرذائل والمعاصي، وهي من الفضائل النفسية التي تسمو بالإنسان إلى مراتب العلو والكمال وإلى مراتب القرب من اللّه تعالى، فالتقوى لا تزيد الإنسان طولاً أو عرضاً أو ما إلى ذلك من الأبعاد الجسمية. بينما الإنسان لا يُدعى إنساناً بلحاظ الجسم وصفاته، بل بلحاظ روحه وأبعاده المعنوية من تقوى وأخلاق قال الشاعر(3):

أقبل على النّفس وإستكمل فضائلها *** فأنت بالنّفس لا بالجسم إنسان

وتشير الآية الكريمة: {...إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ...}(4). إلى أن اختلاف الناس في الفضل منوط بالتقوى، وأنّ الإنسان كريم على اللّه ما دام تقياً، ولا ينفعه نسبه أو حسبه، فعن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «جلس جماعة من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينتسبون ويفتخرون، وفيهم سلمان(رحمه اللّه)، فقال عمر: ما نسبتك أنت يا سلمان؟ وما أصلك؟ فقال:

أنا سلمان بن عبد اللّه كنت ضالاً فهداني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكنت عائلاً

ص: 509


1- عيون الحكم والمواعظ: 255.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- أبو الفتح البستي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 14: 232.
4- سورة الحجرات، الآية: 13.

فأغناني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهذا حسبي ونسبي يا عمر، ثم خرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فذكر له سلمان ما قال عمر، ما أجابه. فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يا معشر قريش إن حسب المرء دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1). ثم أقبل على سلمان(رحمه اللّه) فقال له: يا سلمان إنّه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلّا بتقوى اللّه، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه»(2).

وقول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه الرواية لا يدع مجالاً للشك بأنّ الناس سواسية، ويكون الفاصل والمميّز في ما بينهم - التقوى - فلا مايز في نظر الإسلام على أساس سواد البشرة أو بياضها ولا الغنى أو الفقر ولا الطول أو العرض ولا العروبة أو العجمة و... هكذا، حيث قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ}(3). وجعل اللّه تعالى هذا التمايز في اللون والطول والألسن للتعارف وللدلالة على خلق اللّه تعالى حيث قال تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(4).

وفي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال لأحد أصحابه واسمه جابر: «يا جابر أيكتفي من انتحل التشيع(5) أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فواللّه ما شيعتنا إلّا من اتقى اللّه وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشع، والأمانة وكثرة

ص: 510


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 147.
3- سورة النساء، الآية: 1.
4- سورة الروم، الآية: 22.
5- أي: يتخذ التشيع مذهباً.

ذِكر اللّه، والصوم والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعاهد للجيران، من الفقراء وأهلالمسكنة، والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء».

قال جابر: فقلت ياابن رسول اللّه ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال: «يا جابر لا تذهبن بك المذاهب، حسبُ الرَّجُل أنْ يقول: أُحب علياً وأتولاه، ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً، فلو قال: إني أحب رسول اللّه، فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير من علي(عليه السلام)، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبُّه إياه شيئاً.

فأتقوا اللّه وأعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، أحبُّ العباد إلى اللّه عزّ وجلّ وأكرمهم عليه، أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر واللّه ما يُتقرب إلى اللّه تبارك وتعالى إلّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على اللّه لأحد من حجة، من كان للّه مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان للّه عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»(1).

صحيح أنّ حب أهل البيت(عليهم السلام) واجب، ولا يدخل الجنة من يبغضهم، والروايات كثيرة جداً في هذا المجال.

فبحبهم(عليهم السلام) ينال الإنسان الثواب، وهذا ما لا شك فيه ولكنّ ترك العمل بتعاليمهم ووصاياهم يصل بالإنسان إلى عتاب من اللّه تعالى شديد، بل الأكثر من ذلك أن الإنسان الذي يعرف فضل أهل البيت(عليهم السلام) ويعرف منزلتهم ويحبهم لذلك، ولا يعمل بما يأمرون به، بل يعمل على عكس ذلك فجزاؤه عند اللّه تعالى العقاب الشديد.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في إحدى خطبه: «إنّ العالِم العامِل بغير علمه

ص: 511


1- الكافي 2: 74.

كالجاهل الحائِر الذي لا يستفيق مِن جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة لهألزم، وهو عند اللّه ألْوم»(1).

فالعبرة ليس في تعلم العلم، وإنما العبرة وتحصيل الثواب هو بتطبيق العلم الذي تعلمه الشخص، بل يكون ذلك العلم حجة عليه.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «من لم يعمَل بالعِلم كان حجة عليه ووبالاً»(2).

التقوى والقانون

تُنظِّم حياة البشر مجموعة من القوانين والنظم. واختلف الناس في أصل هذه القوانين - أي: مَنْ وضع القانون الأول في الحياة؟- ، فاختلفوا إلى مذاهب وآراء كثيرة جداً، لو أردنا ذكرها لطال بنا المقال، فنتوقف على رأي الإلهيين في ذلك، وهو: أن الواضع الأول للقانون هو اللّه تعالى، أي أنّ اللّه تعالى عندما خلق الإنسان أوجد له كذلك نظاماً لكلِّ شيء، وأنزل له كُتباً، ودساتير بواسطة أنبيائه(عليهم السلام) تنظم له حياته وبما يناسب المستوى الفكري لكل أمّة من الأُمم، إلى أن وصل الحال إلى زمن نبينا الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فأنزل عليه القرآن، وفيه إحاطة تامة بكل احتياجات الإنسان إلى قيام الساعة. قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖ}(3).

والقانون هو الضابط المهم للحياة، وضامن الحريات لجميع البشر، وهو المسؤول عن تأمين النظام والسلام، وبواسطته تتحقق العدالة بصورة عامة، أي إنَّ القانون وضع على أساس العدالة، ويعكس القانون قواعد الأخلاق. وكلامنا هذا هو

ص: 512


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 100 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 651.
3- سورة الكهف، الآية: 54.

في القانون الإلهي، لأن القانون الوضعي فيه كثير من الهفوات والأخطاء، وأصبح بيدجماعة من المستفيدين الذين يضعون فقرات القانون حسب أهوائهم، وتماشياً مع مصالحهم، أمّا القانون الإلهي فهو بعيد عن الأهواء والمصالح الخاصة، وكما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(1).

ومن فقرات هذا القانون الإلهي التقوى، يعني أن يكون الإنسان مرتبطاً باللّه تعالى في كلّ أعماله، وعن طريق الارتباط باللّه تعالى يحصل الإنسان على الترتيب والتنظيم في دنياه وفي آخرته، فالشخص المرتبط باللّه (التقي) تجده سعيداً في الدنيا والآخرة. ففي كتاب للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «إعلموا عباد اللّه أنَّ المتيقن ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم»(2).

فلنكن من المتقين لكي نفوز في الدنيا والآخرة، إن الدنيا فانية، وأنّ الناس جميعهم سوف يوارون في التراب، وسوف تغلق صحائف أعمالهم، فلا الذين قبلنا خلدوا في الدنيا، ولا نحن سوف نخلد فيها، ولا الذين سوف يأتون بعدنا، فالجميع راحلون كما قال الشاعر(3):

الموتُ بابٌ وكُلّ النّاس وارده *** فَلَيْتَ شِعْري بَعْدَ الباب ما الدّار؟

لذا علينا أن نتذكر دائماً بأننا سوف نرحل من هذه الدنيا عاجلاً أم آجلاً، وهذا هو ما نص عليه القانون الإلهي، بأنّ الحياة فانية، والدار الآخرة هي الباقية. ففي خطبةٍ لإمام المتيقن(عليه السلام) قال فيها يصف الدنيا: «فإنّ الدنيا لم تخلق لكم دار

ص: 513


1- سورة النجم، الآية: 3-4.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 27 من عهد له(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر رضي اللّه عنه حين قلده مصر.
3- ينقل عن الحسن البصري، الأغاني 21: 199.

مقامٍ،بل خلقت لكم مجازاً، لتزوَّدوا منها الأعمال إلى دار القرار»(1).

فلنتزود بالتقوى لأنها أفضل الأعمال.

وسُئل أمير المؤمنين(عليه السلام): أي عمل أفضل؟ قال: «التقوى»(2).

فلنتخلق بأفضل زاد في الدنيا والآخرة، كما وصفه إمام المتقين(عليه السلام) ألّا وهو التقوى.

العبادة والتقوى

قال تعالى: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ فَاعْبُدُوهُ}(3).

تنقسم دوافع الناس في عبادتهم للّه سبحانه إلى أقسام هي:

أولاً الخوف: حيث إنّ بعض الناس يعبدون اللّه تعالى خوفاً من عذابه، فإن الإنسان في طبيعته يتجنب الوقوع في المهالك والأخطار، وبما أنّ اللّه تعالى حذَّر الإنسان ووعده بالعذاب في حالة عصيانه، حيث قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(4). وكثير من الآيات والروايات في هذا الجانب، فنلاحظ أغلب الناس يعبدون اللّه تعالى خوفاً من عذابه.

ثانياً الطمع: أيضاً يوجد في هذه المعمورة من يعبد اللّه طمعاً في الحصول على الثواب، فكلَّما فكّر الإنسان في ما وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحُسن العاقبة ازداد طمعاً، وبالغ في التقوى والتزم بعمل الخير، وترك عمل الشر، وذلك طمعاً في المغفرة والجنّة.

قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا

ص: 514


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 132 من خطبة له(عليه السلام) يعظ فيها ويزهد في الدنيا.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 394.
3- سورة الأنعام، الآية: 102.
4- سورة آل عمران، الآية: 28.

عَظِيمَا}(1). وكثيراً من الآيات والروايات في الكتاب والسنّة تتضمن ذلك.

ثالثاً الحب: وهناك قسم ثالث من الناس يعتبرون خاصة اللّه في أرضه من أنبياء وأوصياء وصالحين. فهؤلاء هم العلماء باللّه لا يعبدون اللّه خوفاً من عذابه، أو طمعاً في ثوابه، وإنما يعبدونه لأنه حبيبهم، ولأن قلوبهم مغمورة بالمحبة الإلهية، قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(2). فإنّ أصحاب هذا الطريق هم الغالبون، وهو الأبرار، ولهم ثواب عظيم في الآخرة فهم في أعلى عليِّين.

ويأتي في قمة هؤلاء نبينا العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(3).

ويرى أصحاب هذا الطريق - حب اللّه تعالى - أنّ عبادة اللّه تعالى خوفاً من عذابه، أو طمعاً في ثوابه، لا تخلو من الشرك إذ لعلّ هؤلاء لو وجدوا طريقاً موصلاً إلى الجنة، وتخليصهم من عذاب اللّه تعالى؛ لم يعبدوا اللّه تعالى. واستدلالهم على ذلك هو أنّ الشخص الذي يعبد اللّه تعالى خوفاً من عذابه، يبعثه هذا الخوف على ترك المحرمات، أي: الزهد في الدنيا للفوز في الآخرة، وأمّا عبادته تعالى طمعاً في الثواب فتبعث الإنسان على العبادة في الدنيا لنيل الآخرة. والطريقان معاً قد يدعوان إلى الإخلاص للدين لا لخالق الدين.

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(4). إنّ المتتبع لسيرة

ص: 515


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة البقرة، الآية: 165.
3- بحار الأنوار 41: 14.
4- سورة القلم، الآية: 4.

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سوف يجد وبوضوح ما يتمتع به الرسول من أخلاق فاضلة كريمة، فهو منبع الأخلاق، ويعد بحراً زاخراً من المثل العليا، والقيم الإنسانية، والفضائل الأخلاقية، في كل مناحي الحياة وجوانبها. فهو القائد المعلِّم، وهو الأب الروحي، وهو المرُشد، وهو المُصلح، وهو الأمين، إلى آخر قاموس الفضائل التي يعجز القلم عن الإحاطة بها.

فالأخلاق في حياة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واضحة وجلية في مختلف مناحي الحياة وشاملة لجميع الناس، تجده مع الصديق والمحب الأب والمرشد، وتجده مع العدو المصلح والمنقذ. فالكل يعاملهم معاملة أخلاقية، فهذا وحشي قاتل حمزة(عليه السلام) تلكم القتلة المفجعة والأليمة التي يقف شعر البدن لدى سماعها دون رؤيتها، حتى وصف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يومها بأنه أشد يوم مرّ على قلبه الطاهر(1)، ذلك القلب الملئ بالحب والعطف والإنسانية، والبعيد كلّ البعد عن البغض والكراهية، ذلك القلب العامر بالإيمان الذي لا يهمّه شيء سوى مرضاة اللّه تعالى، ومع هذا كلّه عندما جاء وحشي قاتل حمزة(عليه السلام) من وراء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأعلن توبته، وقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أنّ محمداً رسول اللّه، ماذا عمل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ التفت إليه وقال: من؟ وَحشيّ؟ عفوت عنك. ولكن لا تُرني وجهك، أي ابتعد عنّي(2). أيُّ أخلاقٍ هذه! هذه هي أخلاق رسول الإنسانية، خير خلق اللّه تعالى، فقد كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجمع الناس لدواعي الترفع والسمو. فقد كان أوسط الناس نسباً، وأنقاهم حسباً، وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم، وما إلى ذلك من الصفات الحسنة. وقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أدنى الناس إلى

ص: 516


1- انظر تفسير القمي 1: 123.
2- انظر المغازي 2: 863.

التواضع، فإنه كان يرّقع الثوب، ويخصف النعل، ويركبالحمار، ويعلف الناضح ويجيب دعوة المملوك، ويجلس على الأرض، ويأكل من الأرض.

وقد أحسن من مدَحَه حيث قال فيه:

فما حملت من ناقة فوق ظهرها *** أبرّ وأوفى ذمّةً من محمد(1)

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) واصفاً أخلاق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أرَمثله، قبله ولا بعده»(2).

وأجاد من قال:

بلغ العلى بكماله *** كشف الدّجى بجماله

حسنت جميع خصاله *** صلّوا عليه وآله

هذه ذكرها جميعاً، والقلم عن الإحاطة بكتابتها، فليتخلق المسلمون اليوم بأخلاق ذلك الرائد العظيم، ليفوزوا في الدنيا والآخرة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنّ فيه أُسوةً لمن تأسى، وعزاءً لمن تعزى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره»(3).

الأخْلاقِ الإسلاميّة

إنّ النفس البشريه صفحة بيضاء تنقش عليها الأعمال والأفعال، فإذا كانت هذه الأعمال والأفعال حسنة ازدادت هذه الصفحة بياضاً ونصاعة، وسمت

ص: 517


1- انظر تفسير مجمع البيان 2: 429.
2- بحار الأنوار 16: 231.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 160 من خطبة له(عليه السلام).

بصاحبها إلى مراتب العلو والقرب من اللّه سبحانه ومن الناس، وإذا كانت هذه الأعمال رديئة سيئة، لوّثت هذه الصفحة، وجعلتها سوداء داكنة، وتحطُّ منصاحبها، وتزيد من بعد الشخص عن اللّه تعالى وعن الناس.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ النفس لجوهرة ثمينة من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها»(1).

والنفس البشرية واحدة تكويناً كما صرّح بذلك القرآن الكريم: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ}(2).

ولكن هذه النفس لها مراتب ودرجات كما يقول البعض: النفس تحولت بفعل أعمال بعض الناس إلى نفس مطمئنة فاضلة وذلك، لأنّ صاحبها حصنّها وروّضها على ترك الأفعال القبيحة وغير اللائقة بالإنسان. فاستحق على ذلك الفوز الإلهي، كما وعد اللّه تعالى المؤمنين: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(3).

وعند قسم آخر من الناس تحولت النفس إلى نفسٍ كدرة ومنحطة، وذلك لأنّ صاحبها لم يتجنب فعل الرذائل، وغاص بها إلى أعماقه، مما قاده إلى غضب اللّه تعالى وانتقامه وكره الناس له.

قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}(4).

فخلاصة ما نريد قوله هنا هو أنّ الإنسان بيده المسير على كلا الطريقين؛ طريق يؤدي به إلى النفس الفاضلة، وذلك بعمل الأعمال الحسنة، مثل الصدق والأمانة والوفاء والمحبة والتقوى، وغيرها من الفضائل الأخلاقية التي ذكرها اللّه في كتابه الكريم، ووضحها لنا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وآل بيته الأطهار(عليهم السلام)، وذلك بتحلِّيهم

ص: 518


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 227.
2- سورة الأنعام، الآية: 98.
3- سورة الروم، الآية: 47.
4- سورة الأحزاب، الآية: 64.

وعملهم بها، فهم عليهم أفضل الصلاة والسلام منبع الأخلاق الحميدة، وأساسكل فضيلة، فسالك هذا الطريق لا يضل، وسوف يضمن الفوز في كلا الدارين؛ الفوز في الدنيا، وهذا معلوم ولا يحتاج إلى تأمل، لأنّ جميع العقلاء يمدحون صاحب الأخلاق الفاضلة الحميدة، ويذمون صاحب الأخلاق الفاسدة والسيئة. أمّا الفوز في الآخرة فهذا أيضاً معلوم، ويؤكده العقل والنقل.

أمّا باب العقل فلأنّ اللّه تعالى عادل، فلا يضيع أجر من عمل صالحاً، وسوف يجزيه على ذلك الثواب.

وأمّا باب النقل فهذا واضح أيضاً، فإنّ المتفحص للكتاب والسنّة يجد مئات الآيات والأحاديث، التي تحثُّ على عمل الفضائل والاجتناب عن الرذائل، وما يقابلها من الأجر الجزيل.

أما الطريق الآخر فيجعل نفس الإنسان منحطة ملوثة، وذلك لارتكابه الأعمال السيئة؛ مثل الكذب والخيانة والغيبة وغيرها من الأعمال الرذيلة، فالإنسان إذن مُخيّر في المسير بكلا الطريقين؛ طريق الفضيلة، وطريق الرذيلة.

قال اللّه تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(1). والإسلام يختار للإنسان طريق الفضيلة، لما به من محاسن ومنافع خاصة وعامة، ويطرح الإسلام الدلائل والنماذج على ذلك، وقمة النماذج والدلائل للفضائل هو النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وآل بيته الأطهار(عليهم السلام)، ومن سار على طريقهم ومنحاهم.

نماذج أخلاقية

اشارة

الأخلاق على قسمين: أخلاق حسنة، وأخلاق سيئة، ولكن عندما يُطلق لفظ الأخلاق فالمراد منه الأخلاق الحسنة.

ص: 519


1- سورة الإنسان، الآية: 3.

والإسلام يعرض لنا نماذج كثيرة من الأخلاق، استمدت أخلاقها من أخلاقالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار(عليهم السلام)، قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1). نذكر بعضاً منها هنا لكي تكون عبرة وأُسوة لأُولي الألباب. قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(2).

الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) والعمري

روي عن بعض الأصحاب أنّ رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان في المدينة، وهذا الرجل يؤذي الإمام أبا الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) ويسبّه إذا رآه، ويشتم علياً، فقال للإمام(عليه السلام) بعض حاشيته يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي، وزجرهم، وسأل عن العمري، فذُكر أنّه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب إليه فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا، فوطئه(عليه السلام) حتى وصل إليه، ونزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له: «كم غرمت على زرعك هذا؟» قال: مائة دينار. قال: «وكم ترجو أن تصيب؟». قال: لست أعلم الغيب. قال له: «إنما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟» قال: أرجو أن يجيء مائتا دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن(عليه السلام) صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: «هذا زرعك على حاله، واللّه يرزقك فيه ما ترجو». قال: فقام العمري فقبّل رأسه، وسأله أن يصفح عنه، فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف، قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً فلّما نظر إليه قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته. قال: فوثب أصحابه إليه، فقالوا له: ما قضيتك؟ قد كنت تقول غير هذا؟ قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي

ص: 520


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- سورة الذاريات، الآية: 55.

الحسن(عليه السلام) فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائهالذين سألوه في قتل العمري: أيّما كان خيراً ما أردتم؟ أم ما أردت؟ انني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم، وكفيت به شرَّه»(1).

هذه هي أخلاق أهل بيت النبوة(عليهم السلام) مستمدة من أخلاق حامل الرسالة الإلهية(صلی اللّه عليه وآله وسلم). يعاملون المسيء بالإحسان. فهذا الرجل أساء إلى الإمام ولكن لحسن خلق الإمام لم يعامله بالمثل، بل أحسن إليه واستطاع بهذا العمل تحقيق ثلاثة أهداف: أولها وأهمها: عند الإمام هو رضا اللّه تعالى، وثانيها: إصلاح المسيء وجرّه إلى جادة الحق، والثالث: هو ليكون عمل الإمام هذا أُسوة ومنهجاً لكافة المسلمين. فلنتخلق بأخلاق أهل البيت(عليهم السلام) ففي ذلك فوز بالدنيا والآخرة.

صورةٌ مِن الخُلق المِثالي

نقل أنّ الشيخ جعفر كاشف الغطاء(رحمه اللّه) وزّع مبلغاً من المال على الفقراء قبل أن يبدأ صلاته، ثم شرع في الصلاة، فجاءه سيد من فقراء السادة، كان قد تأخر في الحضور. فلما أنهى الشيخ صلاته الأُولى، قال له السيد: أعطني من مال جدي رسول اللّه (وهو الخمس)! قال له الشيخ: تأخرت عن الحضور، ولم يبق لديّ ما أُسعفك به. فغضب السيد وبصق في وجه الشيخ، فأصابت لحيته. فقام الشيخ من محراب صلاته ورفع طرف ثوبه، ومشى بين صفوف الجالسين في صلاة الجماعة قائلاً: من أحب ذقن الشيخ، فليغن السيد. فملأ المصلّون ثوبه بالدراهم، وقدّم الشيخ ماجمعه من الناس للسيد، ثم وقف ليصلي بهم صلاة العصر.

هذه هي الأخلاق التي ينبغي أن يتمتع بها المسلمون، وإنّ فعل الشيخ هذا لم يحطّ من قدر الشيخ، مع أنّه كان مرجعاً كبيراً، بل زاده احتراماً وتقديراً، وحاز

ص: 521


1- انظر الإرشاد 2: 233.

على رضا اللّه تعالى واحترام الناس، فلو غضب الشيخ وقام وضرب السيد،لحصل شجار، واختل النظام في الجامع، مما يؤدي إلى تأخير الصلاة وكثرة الكلام غير المرغوب فيه، إضافة إلى مشاكل أخرى لكن الشيخ الجليل تصرّف عكس ذلك تماماً، وقام وجمع له المبلغ من المصلين، مما دفع ذلك السيد إلى التفكير في غلطته، والاعتذار من الشيخ، ولم يحصل أي شجار أو زعزعة نظام. وهذه الأخلاق تعلمها الشيخ من أخلاق أئمة الهدى(عليهم السلام).

ففي رواية عن عصام بن المصطلق الشامي أنه قال: دخلت المدينة المنورة، فرأيت الحسين بن علي(عليهما السلام) فأعجبني منظره الجميل، ومسلكه البديع، فغلب عليّ الحسد، وجرّني إلى إظهار ما أُكُّنه من العدواة والبغضاء في صدري لأبيه. فدنوت منه وقلت: أأنت ابن أبي تراب؟ فقال الحسين بن علي(عليهما السلام): «نعم». فبالغت في سبّه وشتمه، وشتم أبيه. فنظر اليّ نظرة عاطف رؤوف.

وقال: «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}(1). ثم قال الإمام الحسين(عليه السلام): «خفّض عليك! أستغفر اللّه لي ولك، فإن طلبت عوناً وإعانة لأعناك، وان طلبت العطاء أعطيناك، وان طلبت النصح نصحناك». قال عصام: فندمت على تجاسري، وأدرك الحسين(عليه السلام) ذلك بكياسته وفراسته. فقال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّٰحِمِينَ}(2). فسألني الحسين بن علي(عليهما السلام): «أمن أهل

ص: 522


1- سورة الأعراف، الآية: 199-202.
2- سورة يوسف، الآية: 92.

الشام؟» قلت: نعم. قال الحسين(عليه السلام): «شنشنة أعرفها من أخزم»(1). ثم قال الحسين(عليه السلام): «حيانا اللّهواياك، فأطلب إلينا ما أنت بحاجة إليه على الرحب والسعة، فأنك تجدنا بأفضل ما ظننت بنا ان شاء اللّه تعالى»، قال عصام: فضاقت عليّ الأرض بما رحبت وودت لو ساخت بي ثمّ سللت منه لواذاً وما على الأرض أحبّ إليّ منه ومن أبيه»(2).

فلو فرضنا أنّ الامام(عليه السلام) غضب من سباب هذا الرجل وعامله معاملة أخرى - وحاشا الإمام أن ينتهج هذا الأسلوب - ولكن نقول لو فرضنا وفرض المحال ليس بمحال، فلو عمل الإمام(عليه السلام) ذلك ألم يكن قد ازداد غضب وحقد هذا الرجل على الإمام وأبيه(عليهما السلام)، وظلّ يسير على طريق الضلالة، ولامتلأ قلبه حقداً أكثر من ذي قبل؟ والإمام واجبه الهداية؛ فعن طريق حسن أخلاقه(عليه السلام) استطاع أن يحوّل هذا الشخص من طريق الضلالة، وهو بغض الإمام أمير المؤمنين، وأهل بيته(عليهم السلام) جميعاً، إلى طريق الهداية وهو محبة الإمام أمير المؤمنين وأهل بيته(عليهم السلام).

اللّهم صَلِّ على محمّد وآله كأفضَل ما صلَّيْتَ على أحدٍ مِن خَلْقِك قبله، وأنت مُصلّ على أحدٍ بَعده، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وَقِنا بِرَحْمَتك عذابَ النّار.

من هدي القرآن الحكيم

التقوى

قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ}(3).

ص: 523


1- مثل يضرب به عند العرب، أراد به الإمام(عليه السلام): أننا تعودنا المسبات والشتائم لأنها سنّة سنها معاوية.
2- انظر سفينة البحار 2: 705.
3- سورة النساء، الآية: 131.

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِوَالْأَرْضِ...}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}(2).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(3).

دوافع العبادة

1- الخوف

قال عزّ اسمه: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}(4).

2- الطمع في تحصيل الثواب

قال جلّ شأنه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ...}(5).

3- حُب اللّه عزّ وجلّ

قال عزّ من قائل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(6).

الأخلاق الإسلامية

قال جلّ ثناؤه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(7).

ص: 524


1- سورة الأعراف، الآية: 96.
2- سورة الحج، الآية: 1.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.
4- سورة الإنسان، الآية: 10.
5- سورة البقرة، الآية: 25.
6- سورة البقرة، الآية: 165.
7- سورة المائدة، الآية: 13.

وقال تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًاعَلِيمًا}(1).

وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}(3).

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال جلّ شأنه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...}(4).

وقال عزّ اسمه: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(6).

وقال عزّ من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

التقوى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيّها النّاس... إنّ العربيّة ليست بأب ووالدة، وإنما هو

ص: 525


1- سورة النساء، الآية: 148.
2- سورة هود، الآية: 115.
3- سورة الحجرات، الآية: 12.
4- سورة آل عمران، الآية: 159.
5- سورة الأنبياء، الآية: 107.
6- سورة التوبة، الآية: 128.
7- سورة القلم، الآية: 4.

لسان ناطق، فمن تكلم به فهو عربيٌ، ألا إنكم مِن آدم وآدم من تراب وأكرمكم عند اللّهأتقاكم»(1).

وقال الامام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأوصاكم بالتقوى وجعلها منتهى رِضاه وحاجته من خلقه فأتقوا اللّه الذي أنتم بعينه ونواصيكم بيده وتقلبكم في قبضته»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اتقوا اللّه وصونوا دينكم بالورع»(3).

وكتب الإمام الجواد(عليه السلام) إلى سعد الخير: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أما بعد فإني أُوصيك بتقوى اللّه فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب، إن اللّه عزّ وجلّ يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عَماه وجهله...»(4).

دوافع العبادة

1- الخوف

قال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «فأشعروا قلوبكم خوف اللّه وتذكروا ما قد وعدكم اللّه في مرجعكم إليه... كما قد خوفكم من شديد العقاب...»(5).

2- الطمع في تحصيل الثواب

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «... وقوم عبدوا اللّه تبارك وتعالى طلب الثواب...»(6).

ص: 526


1- تفسير القمي 2: 322.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 183 من خطبة له(عليه السلام) في قدرة اللّه وفي فضل القرآن وفي الوصيه بالتقوى.
3- الكافي 2: 76.
4- الكافي 8: 52.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 505.
6- الكافي 2: 84.

3- حُب اللّه عزّ وجلّ

في ما جاء في صحيفة إدريس(عليه السلام): «طوبى لقوم عبدوني حُباً واتخذوني إلهاًورباً، سهروا ودأبوا النهار طلباً لوجهي من غير رهبه ولا رغبه ولا لنار ولا لجنة بل للمحبة الصحيحة...»(1).

الأخلاق الإسلاميّة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحُسن البشر»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «عليكم بالورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى مَن أئتمنكم عليها برأ كان أو فاجراً...»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): عليكم بمكارم الأخلاق فإن اللّه عزّ وجلّ بعثني بها، وإنّ من مكارم الأخلاق أن يعفوا الرجل عمّن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه وأن يعود من لا يعوده»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اصبروا على المصائب...»(5).

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

عن أنس بن مالك قال: «كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا فقدَ الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده»(6).

ص: 527


1- بحار الأنوار 92: 467.
2- الكافي 2: 103.
3- تحف العقول: 299.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 478.
5- الكافي 2: 92.
6- مكارم الأخلاق: 19.

وعن أبي الحُميساء قال: بايعت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل أن يبعث فواعدته مكاناً فنسيته يومي والغد فأتيته يوم الثالث فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يافتى لقد شققت علي أنا هاهنا منذ ثلاثةأيام»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما صافح رسول اللّه رجلاً قط فنزعَ يده حتى يكون هو الذي ينزع يده منه»(2).

ص: 528


1- بحار الأنوار 16: 235.
2- الكافي 2: 182.

التواضع طريق النجاح

التواضع رفعة

اشارة

جاء في الخبر عن إمامنا الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه، وهو في بيتٍ له جالس على التراب، وعليه خلقان(1) الثياب. قال: فقال جعفر(عليه السلام): فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما بنا، وتغيّر وجوهنا، قال: الحمد للّه الذي نصر محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأقرّ عينه، ألّا أُبشركم؟ فقلت: بلى أيها الملك، فقال: إنه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك، فأخبرني أن اللّه عزّ وجلّ قد نصر نبيّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأهلك عدوّه وأُسر فلان وفلان وفلان، التقوا بوادٍ يقال له بدر، كثير الأراك، لكأني أنظر إليه حيث كنت أرعى لسيدي هناك، وهو رجل من بني ضمرة، فقال له جعفر: أيها الملك فما لي أراك جالساً على التراب وعليك هذه الخلقان؟ فقال له: يا جعفر إنا نجد في ما أنزل اللّه على عيسى(عليه السلام) أن من حق اللّه على عباده أن يحدثوا له تواضعاً عندما يحدث لهم من نعمةٍ، فلما أحدث اللّه عزّ وجلّ لي نعمة بمحمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أحدثت للّه هذا التواضع، فلما بلغ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لأصحابه: إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة، فتصدقوا يرحمكم اللّه، وإن التواضع يزيد صاحبه

ص: 529


1- ثوب خلق: أي بال يستوي فيه المذكر والمؤنث لأنه في الأصل مصدر الأخلق وهو الأملس والجمع خلقان.

رفعةً، فتواضعوا يرفعكم اللّه، وإن العفو يزيد صاحبه عزّاً، فاعفوا يُعزَّكم اللّه»(1).

ولا ريب في أن التواضع يعكس أثراً بليغاً على الروح، فتشق طريقاً عميقاً من الخير للإنسان، لأن المتواضع هو ذلك الإنسان الذي يسع قلبه الآخرين، ويحتوي المواقف والأشخاص الذين يترفع عنهما الآخرون، فهو يعيش الحرية والاطمئنان والارتياح عندما يجالس الفقراء والضعفاء والمستضعفين، ولعلّه يعيش حالة عدم الارتياح والتوبيخ الروحي عندما يبتعد قليلاً عن تلك الأجواء فالمتواضع يضع ذاتياته جانباً، ويتعامل بروح تسع رغبات الآخرين، إنه يحاول أن يضيّق دائرة (الأنا) والشعور بالذات، لينطلق إلى دوائر ومساحات أوسع، تشمل الآخرين، وكل ما هو بسيط فتراه يختار المواضع الاعتيادية، والملابس المتواضعة، والطعام البسيط، وحتى كلامه ومنطقه تلمس منه روح التواضع، مع قدرته على اختيار الأحسن والأجود والأجمل والأطيب، إلّا أنه يرى الكمال الإنساني في التواضع والعيش البسيط، والقناعة بالقليل، لكي يبقى قلبه كبيراً، يحتضن الناس، وطاهراً يقطر قدسيّة ونقاءً، وتبقى نفسه شريفة وعزيزة، مترفعة عن مادّيات الدنيا وزخارفها الفانية، فيعيش بنفسه الكمال واللذّة الروحية والعقلية، مفضلاً الأخيرة على اللذة المادية. وبذلك يزداد رفعة في الدنيا قبل الآخرة، ويَكْبر مقامه في قلوب الناس الذين احتواهم بفؤاده، بل وحتى أعدائه.

توهّم باطل

عندما نتأمّل في أسباب التكبّر والكِبَر، نلاحظ أنّ أهمها توهّم الكمال، فالمتكبر يتوهم لنفسه كمالاً من الكمالات، ويتصور أنه متحلٍّ بهذه الصفة، وأن الآخرين أدنى منه وأقلّ، فيترفّع عليهم ويتعاظم وينظر إليهم بعين التحقير

ص: 530


1- الكافي 2: 121.

والازدراء، فيبدأ ينظر إلى المؤمنين على أنّ إيمانهم سطحي قشري، وهو صاحب الإيمان الحق، وهكذا ينظر إلى كل الشرائح الاجتماعية، لا سيما البسطاء منهم،بل إنه يحتقر إنسانيتهم، ويتنرفز من وجودهم، ويحاول إلغاء حركتهم ووجودهم، والشطب عليهم في الحياة. وكل ذلك إنما جاء بسبب توهّم الكمالات وتخيّل الفضل على الآخرين. ولذلك فلا غرابة في أن يتكبّر الإنسان على اللّه والرسل والدين، بعد أن كان التكبر نفسه حاجباً غليظاً، يحجب الروح عن الاتصال بربّها ويكون حجر عثرةٍ في طريق الإيمان، وحجاباً من الظلمة يغلّف الإنسان، فيجعله مظلماً لا إشراق فيه، فيسلب التكبر التوفيق من صاحبه، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ}(1). وقال سبحانه: {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}(2). فيكون التكبر الذي تولّد من طريق وهميّ سبباً لمنع الإنسان من الوصول إلى الإيمان.

كما أن من أسباب التكبر قلّة العقل وضيق الأفق الفكري، فالشخص المتصف بذلك ما إن يجد في نفسه خصلةً مميزةً حتى يتصور لها مقاماً، ومركزاً خاصاً، فيتكبّر على الآخرين بهذا الإحساس الوهمي، والضحالة الروحية. ولا يخفى ما لذلك من أضرار اجتماعية وخيمة، من قبيل اضطراب العلاقات بين الأفراد والجماعات، وما يخلّفه ذلك من عواقب ونتائج لا تنسجم مع الطبيعة الاجتماعية.

ومن هنا تظهر بجلاء فائدة وقيمة التواضع الذي أكّد عليه العقل والدين، باعتباره القاعدة الخصبة التي يجتمع الأفراد عليها، فإنّا لا نجد أحداً يكره

ص: 531


1- سورة الأعراف، الآية: 146.
2- سورة النحل، الآية: 22.

المتواضع بسبب تواضعه، وذلك لأن التواضع صفة إنسانية يحبها ويحترمها كل إنسان، مضافاً إلى أن المتواضع إنما يتنازل بتواضعه عن بعض حقوقه، ويرفع كَلَّهوثقله عن كاهل الآخرين، وذلك ما يرغب فيه الناس. وهو بعد هذا وذاك: الدواء الشافي لمرض الكبر، والعلاج الناجح لقلع الجذور والانحرافات الفاسدة التي تولدت من مرض التكبر؛ «ضادوا الكبر بالتواضع»(1)، لأن الإنسان المتواضع لديه روحية وقلب كبيران يحوي بهما الناس، وبقية الصفات التي تصدر من بعضهم. وبذلك يكون قريباً من اللّه ومن الناس، لأنه يتواضع لكل شيء، ولا يتنفَّر من أخيه الإنسان أبداً، ولا شك أنّ هذا الأمر يقرّب المتواضع من اللّه، لأن اللّه يُحبّ هذه الصفات الحسنة. ولذا فقد نسبت بعض الأحاديث التواضع إلى العلم والتكبر إلى الجهل: «التواضع رأس العقل والتكبر رأس الجهل»(2).

وقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «في ما أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داود(عليه السلام): يا داود كما ان أقرب الناس من اللّه المتواضعون، كذلك أبعد الناس من اللّه المتكبرون»(3).

أعلى الدرجات

لا يخفى أن التواضع درجات، وليس على وتيرة واحدة، لأنه صفة كمال، والكمال ذو مراتب. فهناك من يتواضع في الملبس أو المأكل أو في المجلس... ولكن جوهر التواضع وأعلى مراتبه هو أن يذلّ الإنسان نفسه وكيانه أمام اللّه، فيشعر بذلّ الروح، وفقر الحال، ونقص مرتبة الوجود، فيتذلَّل قلباً للّه عزّ وجلّ.

ص: 532


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 820.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 124.
3- الكافي 2: 123.

ومعنى ذلك أن تعترف الروح بأنها في أشدّ الحاجة لكسب الكمال من اللّه، وأنها في أشدّ الذل والفقر، وبذلك تنهل من فيض اللّه عزّ وجلّ، فتتصف بالطهارةوالخير، فتشرق بذلك ويشع منها كل خير وحبّ للناس. ولذلك جاء في ما: «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى(عليه السلام): أن يا موسى أتدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال: يا رب ولم ذاك؟ قال: فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه: أن يا موسى، إني قلّبت عبادي ظهراً لبطن، فلم أجد فيهم أحداً أذلّ لي نفساً منك. يا موسى إنك إذا صليت وضعت خدَّك على التراب»(1).

نعم، وكلّما اتجه الإنسان نحو التواضع الحقيقي كبر في أعين الناس، وزاد شرفه، وحسن صيته. ولذا قيل: «تمام الشرف التواضع»(2). وأبرز شيئ في هذا المقام هي كنية أمير المؤمنين(عليه السلام) (أبو تراب)، فقد كان كثير العبادة والسجود للّه عزّ وجل، وكان يسجد على التراب الحارّ طاعةً للّه، ويمرِّغ وجهه الشريف بالتراب خضوعاً وتواضعاً له عزّ وجلّ، فأطلق عليه الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كنيته المفضلّة (أبو تراب)(3). وكذا باقي الأئمة الأطهار(عليهم السلام) فلقد كانوا يظهرون للّه عزّ وجلّ تواضعاً منقطع النظير في العبادة، وذل النفس، ومن شدة تواضع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه كان يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل(4).

المحبّة والوئام

اشارة

لقد قلنا من خلال الحديث الذي افتتحنا به المحاضرة: إن ثمرة التواضع هي

ص: 533


1- الكافي 2: 123 في رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام).
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 317.
3- انظر إعلام الورى: 1: 307، ومسند أحمد 4: 263.
4- انظر مكارم الأخلاق: 16.

الرفعة في الدنيا قبل الآخرة، والشرف فيها والفوز في الجنان، والقرب من اللّه في الدنيا وجواره في الختام... على أن هناك ثمرة أخرى لها فضل كبير، وعليها أجرعظيم، لأننا إذا لاحظنا كل تلك الثمرات السابقة وجدناها تعود بالفائدة على نفس المتواضع، من قبيل الرفعة وزيادة الشرف، وحب اللّه له، وفوزه بالمقام الاجتماعي المرموق، فضلاً عن فوزه بما ادّخره اللّه له في الآخرة.

أما الثمرة الأخرى فهي أن التواضع للناس في الكلام والجلوس والتعامل والمأكل والمركب... كل ذلك يخلق حالة من المحبّة والوئام والاطمئنان بينه وبين الناس، لأنهم سوف يشعرون بأن المتواضع لا يعرف في حياته إلّا السلم، ولا يظهر من منطقه وشكله وسلوكه إلّا الخير والحبّ لهم فيحاولون أن يقتدوا به، ويعتبروا منه، وكل واحد يحاول أن يجذبه إلى ساحته كي يستفيد من خيره، وحينئذٍ سيكون العنصر المشترك الذي تلتف حوله الناس دائماً، لا سيما إذا تعلق الأمر بقضاء حوائج المجتمع، فإن المتواضع تراه لا يردّ أحداً لشدة تواضعه، بل ويقوم على خدمتهم جهد إمكانه، ويخفض لهم جناحه، فيزرع حبّه في قلوبهم، ومودّته في أوساطهم، مصداقاً لما قاله أمير المتواضعين(عليه السلام): «بخفض الجناح تنتظم الأمور»(1). ولقوله كذلك: «ثمرة التواضع المحبة»(2). وهكذا يعيش أفراد المجتمع حالة الانفتاح على المتواضعين بغية الاكتساب والتعلّم منهم، والتأسي بهم، باعتبارهم أفراداً وعناصر يميل العقل والقلب إليهم. وكلما كثر الأفراد المتواضعون في المجتمع كانت عاقبته على خير، ولا يصدر منه إلّا الخير لعالم الإنسانية.

ص: 534


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 302.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 327.

مَع العَالِم والمُتعَلِم

والتواضع في مجال تحصيل العلم من أهم الأمور التي ركّز عليها الإسلام،لأنه النافذة الوحيدة للحصول على أكبر قدر ممكن من العلم والآداب والسلوك الحسن، لأن الإسلام لا يرضى بأن يعيش الإنسان حالة العلم بلا تقوى وموعظة وأدب بارع. وطريق ذلك هو التواضع، إذ هو القناة التي من خلالها يكون العالم مؤدَّبا تقياً، وواعظاً روحياً نزيهاً، لأن طالب العلم إذا اتّصف بالتواضع وجسّده في سلوكه، وأوجده في أعماق روحه فسوف يظل ينعت نفسه بالفقر العلمي والأدبي، فيظل ينهل من الأستاذ إلى أن يصل إلى كمال لائق، من حيث العلم والأدب والورع. اما إذا اعتقد الطالب أنه أفضل من الأستاذ، وأخذه العجب بنفسه، ومارس الكبر والأنفة والتعالي على الأستاذ، فهو حينئذٍ قد خلق حاجباً كبيراً، ومانعاً من تحصيل العلم، لأنّه يشعر ويعتقد بأنه أفضل وأحسن وأعلم، فيقوم رويداً رويداً، بترك حلقة الدرس، باعتقاده أنّه أخذ كفايته من العلم، وعندما يمارس الاحتكاك مع الناس، ويصطدم بفقر روحه، وقلّة معلوماته، وسوء سلوكه، حينذاك يشعر ويندم على كل لحظة لم يغتنمها في تحصيل العلم، وفوّتها بشعوره التكبري الخاطيء. وكذا الكلام عن الأستاذ والعالم، فكلّما كان متواضعاً لطلابه في إعطائهم الدرس تفاعلوا معه، والتفّوا حوله، واستفادوا، وتمكن من إيصال علمه وفكره لهم، لأن تواضعه يدعوه لذلك، وبالتالي يكون قد صنع جيلاً من العلماء الذين اقتدوا به أخلاقياً، فصاروا مثل أستاذهم متواضعين وعلماء. أما إذا عاش الأستاذ حالة الكبر والتكبر والاستعلاء، وبدل أن يُسمع طلابه كلمات العلم والأدب، يقوم بتسميعهم كلمات التحقير وعدم الفهم والوضاعة، فإن الخسارة لن ترجع إلّا عليه هو، لسقوطه من أعينهم، وانفضاضهم من حوله، مضافاً إلى أنه هو بنفسه لن يجد

ص: 535

الانسجام والطمأنينة مع جماعة يرى نفسه أعلى وأفضل وأشرف منهم، يحجبه عن الانفتاح عليهم حذره من أن يصلوا إلى مرتبته، ويرتقوا إلى درجته. وبذلكتجده يعيش الفقرين؛ الاجتماعي والروحي معاً.

أعظم الشرف

يروى أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعطى كلاً من أبي سفيان وعينية بن حصن وسهيل بن عمرو مائة من الإبل، فقالوا: يا نبي اللّه، تُعطي هؤلاء وتدع جُعيلاً (وكان من أصحاب الرسول المجاهدين والمساكين) وهو رجل من بني غطفان؟ فقال: «جعيل خير من طلاع الأرض مثل هؤلاء، ولكني أعطي هؤلاء أتألَّفهم، وأكِلُ جعيلاً إلى ما جعله اللّه عنده من التواضع»(1). وقال علي(عليه السلام): «ما تواضع إلّا رفيع»(2). فالذي يترفع عن الماديات وزخارف الدنيا ومباهجها، وموادّها الفانية، يكون متواضعاً حقيقياً، لأنه يطلب الحب الذي لا خدشة فيه، وهو حب اللّه عزّ وجلّ ويطلب النعيم الذي لا يزول، وهو الجنة. فالعاقل يدعوه عقله إلى التواضع، والتواضع يدعو إلى الترفع عن الماديات. ويطلب شرفاً وعزّاً آخر، أما الإنسان الذي يلهث وراء نعيم هذه الدنيا، فهذا من دون أدنى شك يمتاز بضعف في عقله، وضيق في أُفقه الفكري، واتساع مساحة الجهل فيه، ويعيش ظلام الروح، لذلك فهو يتصور أن الشرف والعزّ والرفعة في هذه الدنيا والتكالب على فنائها.

وكفى بالإنسان أن تكون نفسه بصيرة بأمره إذا تأمّل وتفكّر وتدبّر في أمره، فالعقل لديه القابلية على اختيار الطريق المستقيم أو المنحرف، ولكن عندما

ص: 536


1- ربيع الأبرار 2: 140.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 684.

يترك الإنسان عقله ويتحرك بوحي الشهوات والهوى، يقع في المهالك. ولذا قال أحدهم: ما رضيت عن نفسي طرفة عين ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أنيضعوني كاتّضاعي عند نفسي ما أحسنوا ذلك.

{بَلِ الْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}(1).

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، ولا ترفعني في الناس درجةً إلّا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تُحدث لي عزاً ظاهراً إلّا أحدثت لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها»(2)، بحق محمد وآل محمد.

من هدي القرآن الحكيم

الشرف والرفعة بالتقوى

قال تعالى: {يَٰبَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَٰرِي سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}(3)

و قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(4)

وقال عزّ وجلّ: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(5)

لا للكبر

قال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِي ءَايَٰتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَٰنٍ أَتَىٰهُمْ إِن فِي

ص: 537


1- سورة القيامة، الآية: 14-15.
2- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
3- سورة الأعراف، الآية: 26.
4- سورة الحجرات، الآية: 13.
5- سورة التغابن، الآية: 16.

صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِ}(1)وقال عزّ اسمه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}(2).

وقال جلّ شأنه: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}(3).

حقيقة الدنيا

قال عزّ من قائل: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(4).

وقال جلّ ثناؤه: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا}(5).

وقال تعالى: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

الشَرَف والرِّفعة بالتقوى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحب العباد إلى اللّه الأتقياء...»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم، عباد اللّه، بتقوى اللّه التي هي الزاد وبها المعاذ...»(8).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «... أحب العباد إلى اللّه عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته...»(9).

ص: 538


1- سورة غافر، الآية: 56.
2- سورة النحل، الآية: 23.
3- سورة النحل، الآية: 29.
4- سورة آل عمران، الآية: 185.
5- سورة لقمان، الآية: 33.
6- سورة الحديد، الآية: 20.
7- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 5.
8- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 114 من خطبة له(عليه السلام) وفيها مواعظ للناس.
9- الكافي 2: 74.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لعمرو بن سعيد الثقفي: «... أوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد...»(1).

لا للكبر

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنّ في النار قصراً يجعل فيه المتكبرون ويطبق عليهم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إيّاك والكِبرَ، فإنه أعظمُ الذنوب وأَلأَمُ العيوب وهو حِليَةُ إبليس»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في قوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}(4): «أي: بالعظمة»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(6).

حقيقة الدنيا

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن الدنيا كالحيّة لين مسها قاتل سمها...»(8).

وقال الباقر(عليه السلام): «... ما الدنيا وما عسى أن تكون الدنيا هل هي إلّا طعام

ص: 539


1- الكافي 2: 76.
2- المحجة البيضاء 6: 215.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 166.
4- سورة لقمان، الآية: 18.
5- تفسير القمي 2: 165.
6- الكافي 2: 310.
7- نهج الفصاحة: 163.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 246.

أكلته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن الدنيا منزل قلعة وليست بدار نجعة...»(2).

ص: 540


1- الكافي 2: 133.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 247.

فهرس المحتويات

الأخلاق المثالية

الإنسان الحقيقي... 5

من مصاديق الخلق العظيم... 8

التقوى قوام الأخلاق... 9

الشيعة والأخلاق المثالية... 12

من صفات الشيعة... 16

من آداب الشيعة... 20

الشيعة في يوم القيامة... 27

حب أهل البيت(عليهم السلام) والعمل... 30

التقوى والقانون... 33

العبادة والتقوى... 36

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 41

عفو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 41

تواضع النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 42

الأخلاق الإسلامية... 46

خلاصة الكلام... 47

نماذج أخلاقية... 49

الإمام الحسين(عليه السلام) وتعامله مع الشامي... 50

الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) ورجل من ولد عمر... 51

ص: 541

صور من الخلق المثالي... 53

العلماء الأبرار... 54

من هدي القرآن الحكيم... 58

التقوى قوام الأخلاق... 58

دوافع العبادة... 58

1- الخوف من النار... 58

2- الطمع في تحصيل الثواب... 59

3- حب اللّه عزّ وجلّ... 59

مصاديق للأخلاق المثالية... 60

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 60

من هدي السنّة المطهّرة... 61

التقوى قوام الأخلاق... 61

دوافع العبادة... 61

1- الخوف من النار... 61

2- الطمع في تحصيل الثواب... 62

3- حب اللّه عزّ وجلّ... 62

مصاديق للأخلاق السامية... 62

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 63

الارتباط باللّه وجهاد النفس

بين متاع الدنيا والآخرة... 65

تفسير آخر... 67

اللّه بشّر أهل العقل... 70

تحرير النفس من أسر الهوى... 79

بين الصمت المطلوب والصمت المبغوض... 81

ص: 542

القنوت بدعاء أبي حمزة... 83

القرآن الكريم والقنوت به... 83

موسوعتان عظيمتان... 84

بين اللذتين: المادية والمعنوية... 84

مع المؤلف الكبير: الشيخ البلاغي... 87

من أسباب قوة غاندي... 88

الإنسان والمعرفة... 89

الفكر والتفكر... 90

من عجائب صنع اللّه... 91

العقل والتعقل... 92

من هدى القرآن الحكيم... 94

الطريق إلى معرفة اللّه... 94

الإخلاص للّه تعالى... 94

هكذا عباد اللّه... 95

العدل والاعتدال... 95

الذكرى تفيد المتعقلين... 96

من هدى السنة المطهرة... 96

النفس من طرق معرفة اللّه... 96

الإخلاص للّه سبحانه... 97

التواضع يسّبب الرفعة... 98

العدل: ميزان اللّه... 99

التعقّل والتواصي به... 100

الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش

قانون الاكتفاء والبساطة... 101

ص: 543

العمل طريق الاكتفاء... 101

البساطة في العيش... 102

من سمات النجاح... 103

مقومات الاكتفاء... 104

خير أسوة... 104

وفي البيت العائلي... 107

سيرة الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)... 108

العمل الدءوب... 109

العمل في فترة الاستجمام... 110

المسلمون بين الأمس واليوم... 112

ابن سينا... 117

طعم الحياة... 121

الفرق بين الشخصيتين... 127

الحسينية العامرة... 128

الشكوى دائماًً... 129

استثمار الوقت... 129

من هدي القرآن الحكيم... 130

حقيقة الزهد... 130

الحث على العمل... 130

من هدي السنّة المطهّرة... 131

البساطة في العيش... 131

الزهد... 133

ذم الطمع... 133

العمل... 134

ص: 544

الأكثرية الشيعية في العراق

الشعور بالمسؤولية... 136

من مشاكل العراق... 137

هدف حكام العراق... 138

النصب التاريخي... 138

التعصب الشديد ضد الشيعة في العراق... 139

وحدة الأمة... 139

ضرورة وعي الأكثرية... 141

مرض الطائفية... 142

مداهمات وأشغال شاقة... 143

الأطماع الخارجية... 144

كيفية الخلاص من هذه المشاكل... 144

دور الرأي العام في الضغط على الظالم... 145

يجب أن تكون الحكومة بيد الشيعة... 146

إيجاد الديمقراطية في العراق... 147

من هدي القرآن الحكيم... 147

نتائج الإعراض عن الحق... 147

إيثار الحق والعمل به... 148

التعصب الأعمى... 148

الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامي... 149

من هدي السنّة المطهّرة... 149

إيثار الحق والعمل به... 149

من صفات الشيعة... 150

المؤمنون أخوة... 150

ص: 545

الاهتمام بأمور المسلمين... 151

الموعظة والإرشاد... 151

الأمة الواحدة

الأمة الواحدة... 152

الوحدة بين الادعاء والتطبيق... 153

فقدان الوعي... 154

الضنك في المعيشة... 155

الواقع الإسلامي... 156

نقاط الضعف... 156

ما هي البداية؟... 159

مسؤولية المسلمين... 162

المسلمون اليوم... 163

الاستعمار وراء التجزئة... 164

التخلف خطة استعمارية... 165

التصدي للمخططات الاستعمارية... 166

أ: العقل... 168

ب: العلم... 170

ج: التربية... 171

من هدي القرآن الحكيم... 172

الإسلام يرفض التفرقة... 172

مسؤولية المسلمين... 173

الإسلام يدعو للعلم والتعلم... 174

العمل بسيرة المعصومين(عليهم السلام)... 174

من هدي السنّة المطهّرة... 174

ص: 546

الإسلام يرفض التفرقة... 174

مسؤولية المسلمين... 175

السنة تدعو للعلم والتعلم... 176

العمل بسيرة المعصومين(عليهم السلام)... 177

الإنسان والمحبة الاجتماعية

بين المحبة والمودّة... 178

الناس يحبون الصالحين... 179

قصة الطبيب مع الفقراء... 180

حسن الخلق ضرورة... 181

الفضل ما شهدت به الأعداء... 182

الثبات على الخلق الحسن... 182

القول والعمل... 184

حقوق الناس... 186

المكر والخديعة... 187

من هدي القرآن الحكيم... 188

الذين يحبهم اللّه عزّ وجلّ... 188

هؤلاء لا يحبهم اللّه عزّ وجلّ... 189

من هدي السنّة المطهّرة... 190

موجبات المحبة... 190

أعمال يحبها اللّه عزّ وجلّ... 191

كيف نكسب حبّ اللّه سبحانه؟... 192

أي الناس أحب إلى اللّه سبحانه؟... 193

البعثة النبوية الشريفة والدين الإسلامي

البعثة المباركة... 194

ص: 547

أفضلية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 195

المؤمنون ونصرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 197

سبب شهرة نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 200

أولاً: الإسلام والقرآن الكريم والعترة... 201

روايات حول القرآن... 202

روايات حول العترة(عليهم السلام)... 202

سر النجاح... 203

حقيقة الإسلام... 204

ثانياً: الأحكام العادلة... 207

ثالثاً: الأمة الواحدة... 208

الوصي(عليه السلام) يصف البعثة... 208

الصديقة(عليها السلام) تصف البعثة... 209

من بركات البعثة... 211

التعامل الإنساني مع الكل... 211

أخلاقيات البعثة... 213

التأسي برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 216

العفو عن القاتل... 216

رابعاً: دولة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 218

مفتاح القوة والضعف... 222

سبب رقي الإسلام أيام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 225

التعامل بحسب الظاهر... 229

أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 230

من هدي القرآن الحكيم... 233

ص: 548

بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 233

البعثة النبوية ومكارم الأخلاق... 233

البعثة النبوية والمسؤولية... 234

بعثة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأمة الواحدة... 234

من هدي السنّة المطهّرة... 235

بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 235

بعثة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومكارم الأخلاق... 236

المسؤولية وإقامة الدين... 236

حقيقة الإسلام... 237

التأسي بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 238

البلاد الإسلامية بين الحاجة والاستعمار

الحاجة أساس الفقر... 239

عليك بالسوق... 240

من استغنى أغناه اللّه... 241

كيف تغلغل الاستعمار في بلادنا؟... 241

أعوان الظلمة... 243

مخلفات الاستعمار... 245

الاستعمار الاقتصادي... 246

الحكومات الإسلامية أدوات الاستعمار... 247

قانون الإصلاح الزراعي... 248

كتاب الإصلاح الزراعي... 249

تبعية البلاد الإسلامية للاستعمار... 250

حوار حول الإصلاح الزراعي المزعوم... 251

ص: 549

الاختلاس وعدم الإخلاص... 255

كيف نعالج الوضع؟... 256

من برامج التنمية والاكتفاء الذاتي... 258

من هدي القرآن الحكيم... 259

الخسران في العبودية لغير اللّه تعالى... 259

الابتعاد عن الإسلام وعاقبته... 260

العبادة المطلوبة هي الإخلاص... 261

فضيلة العلم والمعرفة... 261

من هدي السنّة المطهّرة... 262

الإنسان وكرامته في الاستغناء... 262

العبودية فقط للّه عزّ وجلّ... 262

ما هو الإخلاص؟... 264

فضيلة العلم والمعرفة... 265

التصرفات العقلائية واللاعقلائية

وظيفة العقل... 267

العقل في القرآن... 270

العقل في الأحاديث الشريفة... 272

بشارة لأهل العقل... 273

العقل رأس الفضائل... 281

العقل والعقلاء... 285

الملائكة والإنسان... 286

من هم العقلاء؟... 287

قانون المعرفة وطرقها... 290

من آثار عدم التعقل... 291

ص: 550

الحيوانات ورسائلها... 294

كيفية إنماء العقل... 295

العقل وشبيهه... 296

الإنسان وعمل الخير... 297

رضا خان والسلطة... 298

إرادة اللّه فوق كل شيء... 300

طغيان المتوكل... 302

عبرة لذوي العقول... 303

التصرف غير العقلائي في العراق... 304

مجيء الحكومة البعثية... 305

الحكومات غير الشرعية... 307

من هدي القرآن الحكيم... 314

دور العقل... 314

مدح العقلاء بتصرفاتهم العقلائية... 314

ذم التصرفات غير العقلائية... 314

مدح التفكر والاعتبار... 315

ذم عدم التعقل... 316

من هدي السنّة المطهّرة... 316

دور العقل والتعقل... 316

مدح العقلاء بتصرفاتهم العقلائية... 316

ذم التصرفات غير العقلائية... 317

مدح التعقل والتفكر... 320

التكامل والشمولية في الشريعة الإسلامية

شمولية الشريعة الإسلامية... 322

ص: 551

حق الحاكمية في الشريعة الإسلامية... 325

الشريعة الإسلامية وسعادة الإنسان... 327

تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها... 329

الغدير وتمامية الشريعة الإسلامية... 333

الشريعة الإسلامية مكملة وناسخة للشرايع... 338

من آثار التكامل والشمول... 339

الشريعة لا تقبل التبعيض... 341

ما تركه المسلمون... 341

التوعد للمبعّضين... 344

ضمان لتطبيق الشريعة... 344

الشريعة الإسلامية وقانون العقوبات... 346

من شروط قانون العقوبات... 348

حدّ الارتداد... 348

أقسام المرتد... 350

متى تجرى الحدود؟... 351

الحد رحمة شرعية... 352

شروط إقامة الحد وإجرائه... 353

محارب المعصوم(عليه السلام)... 359

مع المرتدين من أصحاب الجمل... 359

مع الخوارج المرتدين... 360

استنتاج... 364

الحد الشرعي وحرية الإنسان... 364

بين الإسلام وسائر الأنظمة... 366

من هدي القرآن الحكيم... 367

ص: 552

شمولية الشريعة الإسلامية ودوامها... 367

تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها... 368

حق الحاكمية في الشريعة الإسلامية... 368

الحريات المطلقة في الشريعة الإسلامية... 369

الثواب والعقاب ضمان لتطبيق الشريعة... 369

الشريعة الإسلامية وحدة لا تقبل التجزئة والتبعيض... 370

من هدي السنّة المطهّرة... 370

شمولية الشريعة الإسلامية ودوامها... 370

الحريات التي منحتها الشريعة الإسلامية... 375

الشريعة الإسلامية لا تقبل التجزئة والتبعيض... 375

أهمية الحد والقصاص في الشريعة... 378

التواصي والمواساة طريقا الإصلاح

التواصي وأهميته... 380

التواصي عبر الأحزاب الحرة... 383

تصوير الوقائع التاريخية... 384

معنى الآية الشريفة... 384

سبب النزول... 386

الانقلاب بعد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 388

أقسام الانقلاب... 390

المواساة... 391

المواساة سبيل الإصلاح... 393

المواسي ابن المواسي... 397

كيف كانت مواساة العباس(عليه السلام)... 399

أنصار الحسين(عليه السلام)... 402

ص: 553

ليلة العاشر... 402

يوم عاشوراء... 404

مع الغلام التركي... 405

عمرو بن قرطة الأنصاري... 406

جون مولى أبي ذر(رحمه اللّه)... 406

الصيداوي... 406

حنظلة الشامي... 407

سعيد بن عبد اللّه الحنفي... 407

مواساة النساء... 408

فما بالموت عار... 409

المواساة في المال... 409

الاكتفاء الذاتي والمواساة... 410

ابدأ بنفسك... 412

نموذج للاكتفاء الذاتي... 414

ثورة الهند... 415

الطالب للرزق... 416

من هدى القرآن الكريم... 418

الإسلام يحث على المواساة... 418

الإنفاق المالي... 419

ابدأ بتغيير نفسك... 419

الاكتفاء الذاتي... 420

من هدي السنّة المطهّرة... 420

المواساة... 420

المواساة المالية... 421

ص: 554

ابدأ بتغيير نفسك... 422

الاكتفاء الذاتي... 422

نشر العلوم الإسلامية... 423

الثبات على المبدأ

الصبر... 425

كمال الشخصية... 427

نوح(عليه السلام) وقومه... 427

الاستقامة... 429

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحمل الأذى... 430

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والثبات على المبدأ... 432

الصبر والثبات أقوى... 433

تشكيل الحكومة الإسلامية... 434

مفتاح النجاح... 437

من هدي القرآن الحكيم... 440

جزاء الصابرين... 440

الاستقامة طريق النجاح... 441

الصبر في العمل وتحمل الأذى... 441

الثبات على المبدأ... 442

من هدي السنّة المطهّرة... 442

جزاء الصابرين... 442

الاستقامة طريق النجاح... 443

الصبر في العلم وتحمل الأذى... 444

بالصبر ينال المطلوب... 445

ص: 555

الجدال بالتي هي أحسن

الموعظة الحسنة... 446

التقسيمات الأولية للمناقشة... 448

تبديل حالة الدفاع إلى الهجوم... 450

الجدال الحسن والمذموم... 451

الجدال في الكتاب والسنة... 452

من معاني الجدال... 456

من مصاديق الجدال... 456

جدال المعاند... 456

حوار مع ملحد... 457

المسلمون الأوائل والأسوة الحسنة... 458

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدوة... 459

عبرة لمن يعتبر... 460

مناقشة مع شيوعي... 461

اليهودي وعبقرية أمير المؤمنين(عليه السلام)... 464

هل تعتقد بزواج المتعة؟... 465

مع ملك الإسكندرية... 466

قصة من الهند... 467

نبي اللّه إبراهيم(عليه السلام) ونمرود... 468

مقومات النصر... 469

من هدي القرآن الحكيم... 471

القرآن أسوة في الجدال الأحسن... 471

التسلح بالحكمة والمعرفة... 471

الاستعانة بالعقل... 472

ص: 556

الجدال بالحسنى... 472

الإصلاح هدف الجدال... 472

من هدي السنّة المطهّرة... 473

القرآن أسوة في الحوار... 473

التسلح بالمعرفة... 474

الاستعانة بالعقل... 475

الجدال بالحسنى... 476

الإصلاح هو الهدف... 477

الجهل المركب وطريق الخلاص منه

الأخسرون أعمالاً... 479

من مصاديق {الأخسرين أعمالاً}... 479

الخوارج هم الأخسرون... 480

خسارة المسلمين... 483

الجهل سبب الخسارة... 484

مقام الفتوى... 485

من علائم التأخر... 486

لماذا تأخر المسلمون؟... 487

التقدم والقضاء على الجهل... 487

الإسلام دين السلام... 489

الشهيد الثاني(رحمه اللّه) وطريق النجاح... 489

التبشير المسيحي... 492

العلم والعمل... 495

المجالس والتعازي... 497

المجالس وقضايا الأمة... 500

ص: 557

من هدى القرآن الكريم... 502

موجبات الضلالة... 502

من عوامل التقدم... 502

أ: الاستفادة من التجارب... 502

ب: المشاورة... 503

ج: العفو والسلم... 503

الإيمان طريق النجاة... 504

من هدي السنّة المطهّرة... 504

موجبات الضلالة... 504

من عوامل التقدم... 505

أ: الاستفادة من التجارب... 505

ب: المشاورة... 506

ج: العفو والسلم... 506

طرق النجاة... 507

التقوى والأخلاق

مقدّمة... 508

التَّقوى... 509

التقوى والقانون... 512

العبادة والتقوى... 514

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 515

الأخْلاقِ الإسلاميّة... 517

نماذج أخلاقية... 519

الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) والعمري... 520

صورةٌ مِن الخُلق المِثالي... 521

ص: 558

من هدي القرآن الحكيم... 523

التقوى... 523

دوافع العبادة... 524

1- الخوف... 524

2- الطمع في تحصيل الثواب... 524

3- حُب اللّه عزّ وجلّ... 524

الأخلاق الإسلامية... 524

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 525

من هدي السنّة المطهّرة... 525

التقوى... 525

دوافع العبادة... 526

1- الخوف... 526

2- الطمع في تحصيل الثواب... 526

3- حُب اللّه عزّ وجلّ... 527

الأخلاق الإسلاميّة... 527

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 527

التواضع طريق النجاح

التواضع رفعة... 529

توهّم باطل... 530

أعلى الدرجات... 532

المحبّة والوئام... 533

مَع العَالِم والمُتعَلِم... 535

أعظم الشرف... 536

من هدي القرآن الحكيم... 537

ص: 559

الشرف والرفعة بالتقوى... 537

لا للكبر... 537

حقيقة الدنيا... 538

من هدي السنّة المطهّرة... 538

الشَرَف والرِّفعة بالتقوى... 538

لا للكبر... 539

حقيقة الدنيا... 539

فهرس المحتويات... 541

ص: 560

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.