القطوف الدانية المجلد 1

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 1/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

-----------------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

-----------------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الأوّل): 6-204539-964-978

-----------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

مقدمة المؤسسة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

(القطوف الدانية) موسوعة دينية فكرية، مكوّنة من مجموعة من محاضرات المرجع الراحل آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى اللّه درجاته)، ألقاها في الكويت ومدينة قم المقدسة خلال ثلاثين عاماً، وقد تمّ تحريرها نصّيّاً، لكن مع الأسف لم يتم العثور على محاضراته في كربلاء المقدسة بسبب عدم تسجيل الكثير منها أو تعرّض أشرطتها للتلف نتيجة نهب الظالمين تراث الإمام الشيرازي في كربلاء بعد هجرته.

وتشتمل هذه المحاضرات على أفكار الإمام الشيرازي في مختلف القضايا، حيث ألقاها على العلماء وطلبة العلوم الدينية والجامعيين والمثقفين والكسبة والهيئات الدينية أو عامة الناس أو على الرجال أو النساء.

وتمتاز هذه المحاضرات بالأمور التالية:

أولاً: موضوعاتها تشتمل على أصول الدين وفروعه والأخلاق وغيرها.

أ- ففي أصول الدين ركّز الإمام الشيرازي على العقائد الحقة - من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد وما يرتبط بها - بهدف تقويتها في قلوب الناس وتعميقها ودحض الشبهات، وخاصة مع موجة الإلحاد والشيوعية التي عمّت

ص: 5

بعض البلدان الإسلامية في الستينيّات من القرن الماضي، ومع موجة الانبهار بأفكار المخالفين التي عمت البعض في السبعينيّات بحيث نقّصوا من مقامات الرسول والأئمة من أهل البيت (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، ومع موجة التأثر بالأفكار الغربية التي يدعو إليها البعض حالياً، فشحذ الإمام الشيرازي قلمه لمواجهة الأفكار المسمومة وانبرى لمقاومة تلك الموجات عبر الاستشهاد بالقرآن والحديث والعقل والتاريخ.

ب- وفي فروع الدين أجزل العطاء، فانبرى لبيان الأحكام الشرعية وبيان عللها ومصالحها، في ظلّ موجات التأثّر بالمناهج المستوردة ومطالبة البعض بتبديل أحكام الشرع بتلكم القوانين الوضعية، فكان يبيّن مصلحة البشرية في تلك الأحكام وأن تركها يوجب الخلل والإشكال في حياة الناس.

ج- أما في الأخلاق فقد كان يركّز على الفضائل الخُلُقية ويحذّر من رذائلها، وأن شخصية الإنسان المؤمن لا بدّ أن تكون متحليّة بتلك الأخلاق الفاضلة منزهة عن الرذائل، لبناء مجتمع إنساني مثالي يجمع بين رضى اللّه تعالى وتماسك المجتمع ووئامه.

كما تشتمل هذه المحاضرات على مواضيع تاريخية وثقافية واجتماعية وسياسية وعلى التوجيهات العامة، وغيرها.

ثانياً: نجد في هذه المحاضرات كثرة الاستشهاد بالقرآن الكريم وبأحاديث النبي وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) وبفقه أهل البيت، فهي زاد المؤمن، لأنها النور الذي فيه الهداية لمن وعاه وطبّقه في حياته، وكان يقول جواباً لمن سأله عن هذه الكثرة: «وهل وظيفتنا إلّا تعريف الناس بالقرآن والرسول وآله؟».

حيث كان كثير المطالعة والكتابة والتدريس لتفسير القرآن ولأحاديث الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) وكتب الفقهاء الماضين رحمهم اللّه، حتى

ص: 6

ألّف موسوعة فقهية واسعة وهي موسوعة الفقه في مائة وستين مجلداً والتي تشتمل مضافاً إلى البحوث المتداولة من الطهارة إلى الديات، بحوثاً في مختلف العلوم الحديثة لتبيان نظرة الإسلام فيها كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والبيئة وفلسفة التاريخ والسلام وغير ذلك، وكان ذلك أيضاً من موادّ محاضراته التي ضمّنها بعضاً من تلك البحوث بما يتناسب مع فهم المستمعين.

ثالثاً: كان من همّه إحياء سنن الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) والتي تركها المسلمون أو طواها النسيان، فكان يذكّر بها ويشجع الناس عليها، وخاصة في الأمور الاجتماعية كالزواج المبكر وطريقة الحياة في مختلف شؤونها، ولذا أكثر من ذكرها في محاضراته.

رابعاً: من خصائص محاضرات الإمام الشيرازي أنه اتّبع اسلوب السهل الممتنع، حيث كان يقرّب الأفكار السامية والتي يصعب فهمها بأيسر العبارات وأوضح الأمثلة، وكان يتجنّب التعقيد والاصطلاحات الصعبة، وإذا رأى من اللازم ذكر الاصطلاحات العلمية كان يشفعها بتوضيح وتسهيل للفكرة، وذلك اقتداءً بالقرآن حيث إن اللّه يسّره مع عمق معانيه لينتفع بظاهره الجميع وليتدبره من هو أهل لذلك.

خامساً: نجد في هذه المحاضرات الإكثار في القصص التي فيها العِبر، اقتفاءً للقرآن الكريم، لأن أسلوب القصة يعبّئ حماس المستمع أو القارئ، ولأن الأفكار السامية لو صيغت في قالب القصص كانت أكثر تأثيراً على الناس وأشد إقناعاً لهم وأجلى للفكرة بحيث يصبح فهمها أسهل، وخاصة إذا كانت القصص من الذين يتأسى بهم الناس ويعتقدون بهم ممّن دخلوا في وجدان الأمة كالأنبياء والأئمة^ والأصحاب الأجلاء والعلماء الخيرة، وكذلك قصص الأشرار الذين انتهكوا حرمة اللّه سبحانه وحُرَم رسوله وآله (عليهم الصلاة والسلام) حيث

ص: 7

تكون حكاية أفعالهم المشينة منفراً للناس عن تلكم الأعمال.

سادساً: ركّزت هذه المحاضرات على أوضاع المسلمين بنحو خاص، فقد كان الإمام الشيرازي كثير المطالعة وكثير التحقيق والبحث والسؤال عن أحوال المسلمين قديماً وحديثاً، رغم التعتيم الإعلامي، فما كان يلتقي بالزوار من البلاد الإسلامية أو غير الإسلامية إلّا ويسألهم عن أحوال المسلمين في تلكم البلاد وأمور معاشهم ومعادهم، كما كان يتابع المنشورات الإعلامية التي تنقل أخبار المسلمين وأمورهم في شرق الأرض وغربها، هذا مضافاً إلى إكثاره من مطالعة مختلف الكتب في هذا المضمار، ولذا كانت له معرفة واسعة بأحوالهم ويذكر شطراً منها في محاضرته للمثال أو للاستنهاض أو الحثّ والتحريض، فقد كان أكبر همّه إنقاذ المسلمين من وضعهم المرزي حيث تُركت أحكام الإسلام واُستبدلت بالأحكام الوضعية في مختلف مناحي الحياة، مع جور الظالمين واستبدادهم، وسيطرة المستعمرين على بلاد المسلمين ونهب ثرواتهم وقتل أبنائهم ومنع تطورهم مادياً ومعنوياً، وكان يرى أن العلاج يكمن في الرجوع إلى القرآن الكريم، وخاصة الآيات المنسيّة الخمس وهي: آية الأخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1)، وآية الأمة الواحدة: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(2)، وآية الحرية: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(3)، وآية الشورى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(4)، وآية التعددية: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(5)، وغيرها، ولذاركّز

ص: 8


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سورة المؤمنون، الآية: 52.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.
4- سورة الشورى، الآية: 38.
5- سورة المطففين، الآية: 26.

على هذه الآيات كثيراً في محاضراته وكتبه، تذكيراً للمسلمين بها وإفهاماً وبياناً لهم، لعلّهم يعملون بها فينظر اللّه إليهم نظرة رحيمة وينقذهم مما هم فيه.

سابعاً: يتميّز الإمام الشيرازي - عملاً وقولاً وكتابةً - بأنه جمع بين القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، فهو تمسك بالإسلام وأحكامه وعقائده وأصوله، وأضاف إلى ذلك العلومَ الجديدة في ضمن أسس الاجتهاد الشرعي.

وهذا الجمع نادراً ما نراه، إذ إن أكثر من توجه إلى الأمور الجديدة لمّا رأى تعارض بعضها مع أحكام الشرع حاول تأويل التراث الإسلامي بما ينطبق على الأمور المحدثة، كما أن أكثر من تمسك بالتراث ترك العلوم الجديدة ولم يعتنِ حتى بالصحيح منها.

وأمّا الإمام الشيرازي فقد جمع بين التراث القرآني والروائي والفقهي مع ما لا يعارضها من المستجدات، ولذا كلّما رأى أو سمع علماً جديداً كان يدقق فيه فيقبل منه ما لا يعارض الكتاب وسنة الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) ويرفض ما كان يعارضهما، كما كان أحياناً يغيّر أو يطوّر في الجديد بحيث ينسجم مع الشرع القويم، هذا مضافاً إلى ما ابتكره من أفكار ورؤى وأطروحات ضمّنها في كتبه ومحاضراته.

ثامناً: إن الإمام الشيرازي مارس جهاد الكلمة ضد الحكومات الجائرة لكي تترك الأحكام والأساليب المخالفة للشرع القويم، أو لتغييرها إلى أنظمة تعمل حسب الكتاب وسنة الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) وكان يصدح بذلك في محاضراته وكتبه والتي كلّفته الكثير حتى طاردته الحكومات الجائرة فاضطر إلى هجرات متعددة، وقد منعت تلكم الأنظمة الجائرة نشر بعض كتبه ومحاضراته وأحياناً أبادت جزءاً منها، لكن ذلك كلّه لم يوقفه عن نشاطه الإسلامي والتوعوي والتربوي.

ص: 9

وهناك مميزات أخرى في هذه الموسوعة لم نذكرها اختصاراً، لكنّا نُحيلها إلى ذكاء الفاحص الخبير.

وقد واصل الإمام الشيرازي محاضراته إلى آخر ليلة من حياته رغم هجوم الأمراض والعلل والمشاكل السياسية عليه، وكان آخر ظهور علني له هو محاضرة ألقاها على جمع من المؤمنات والتي طُبعت بعد ذلك بعنوان (المحاضرة الأخيرة)، وبعد ذلك بقليل انتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها، واستراح من همّ الدنيا وغمّها بعد خمسة وسبعين عاماً لم يعرف فيها الكلل والملل.

وحيث إنه أخلص للّه فإنه سبحانه أنمى ما بذره فكان مَثَل كلمته كمثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فقد قيّض اللّه تعالى ثلة من المؤمنين يحملون تلكم الأفكار وينشرون ذلك التراث رغم كثرة المعوقات، وما كان للّه ينمو.

وأما هذه المحاضرات فهي - كما ذكرنا - جزء من محاضراته ممّا عثرنا عليها، وقد قام جمع من الأفاضل بتنزيلها وصياغتها، وقد طبع بعضها في سنين متمادية وبشكل متفرق، إلّا أن (مؤسسة الشجرة الطيبة) قامت بجمع ما طُبع وإضافة ما لم يُطبع ثم تحريرها نصياً مع تخريج مصادرها ومراعاة آخر ما توصّل إليه علم التحقيق وعلائم التنقيط.

مع التنويه بأن هناك محاضرات كثيرة عثرنا عليها مؤخراً وهي في طور الإعداد، ولعلّ اللّه يوفقنا لطباعتها لاحقاً.

والشكر موصول إلى الأعلام الكرام الذين ساهموا في إعداد هذه المحاضرات وطباعتها، خاصة سماحة الشيخ فاضل الصفار وفضيلة الشيخ علي الفدائي حيث أعدّا أكثر هذه المحاضرات - كتابةً وصياغةً وتحقيقاً وغير ذلك - كما نتقدم بالشكر إلى فضيلة الشيخ مؤيد المؤيد حيث ساهم في ترتيب هذه الموسوعة

ص: 10

وتحقيقها والتدقيق فيها، وغيرهم ممن ساهم في إعداد وطباعة هذه المحاضرات.

فكانت هذه الموسوعة التي اقتبسنا اسمها من وصف الجنة في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٖ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}(1) فحقاً هذه المحاضرات رغم عمق مضامينها ميسّرة سهلة التناول لمن أراد أن يقتطف منها الأفكار الإسلامية الأصلية.

نسأل اللّه أن يُعلي درجات الإمام الشيرازي الراحل، النجم الذي لم يستطع الموت أن يُخفت نوره، وأن ينفع بهذه الموسوعة المؤمنين كما نفعهم بتلكم المحاضرات، وأن يجعل هذه الموسوعة حلقة من حلقات تطبيق تلك الأفكار، وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

مؤسسة الشجرة الطيبة

11 / ذي القعدة / 1441ه ق

يوم ميلاد الإمام الرضا(عليه السلام)

قم المقدسة

ص: 11


1- سورة الحاقة، الآية: 21-23.

ص: 12

الإصلاح الاجتماعي

الإصلاح

قال اللّه تعالى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(1).

هذه الآية الكريمة تدل على أهمية إلاصلاح الاجتماعي، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «صدقة يحبها اللّه إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا»(2).

وقال(عليه السلام): «ما عمل رجل عملاً بعد إقامة الفرائض خيراً من إصلاح بين الناس، يقول خيراً، أو يتمنى خيراً»(3).

وقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) وسائر أهل البيت^ خير مصداق للإصلاح بين الناس.

يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا رأيتَ بين إثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي»(4).

وروي في بحار الأنوار: عن غير واحد من أصحاب ابن دأب قال:

ص: 13


1- سورة النساء، الآية: 114.
2- الكافي 2: 209.
3- وسائل الشيعة 18: 441.
4- الكافي 2: 209.

لقيت الناس يتحدثون أن العرب كانت تقول: أن يبعث اللّه فينا نبياً يكون في بعض أصحابه سبعون خصلة من مكارم الدنيا والآخرة، فنظروا وفتشوا هل يجتمع عشر خصال في واحد فضلاً عن سبعين، فلم يجدوا خصالاً مجتمعة للدين والدنيا، ووجدوا عشر خصال مجتمعة في الدنيا، وليس في الدين منها شي ء...

قال ابن دأب: ثم نظروا وفتشوا في العرب، وكان الناظر في ذلك أهل النظر، فلم يجتمع في أحد خصال مجموعة للدين والدنيا بالاضطرار على ما أحبوا وكرهوا إلّا في علي بن أبي طالب(عليه السلام) فحسدوه عليها حسداً أنغل القلوب وأحبط الأعمال، وكان أحق الناس وأولاهم بذلك؛ إذ هدم اللّه عزّ وجلّ به بيوت المشركين، ونصر به الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واعتز به الدين في قتله مَن قتل من المشركين في مغازي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

قال ابن دأب: فقلنا لهم: وما هذه الخصال؟

قالوا: المواساة للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبذل نفسه دونه، والحفيظة ودفع الضيم عنه، والتصديق للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالوعد، والزهد، وترك الأمل، والحياء، والكرم، والبلاغة في الخطب، والرئاسة، والحلم، والعلم، والقضاء بالفصل، والشجاعة، وترك الفرح عند الظفر، وترك إظهار المرح، وترك الخديعة والمكر والغدر، وترك المثلة وهو يقدر عليها، والرغبة الخالصة إلى اللّه، وإطعام الطعام على حبه، وهوان ما ظفر به من الدنيا عليه، وتركه أن يفضل نفسه وولده على أحد من رعيته، وطعمه أدنى ما تأكل الرعية، ولباسه أدنى ما يلبس أحد من المسلمين، وقسمه بالسوية، وعدله في الرعية، والصرامة في حربه وقد خذله الناس، فكان في خذل الناس وذهابهم عنه بمنزلة اجتماعهم عليه، طاعة للّه وانتهاء إلى أمره، والحفظ وهو الذي تسميه العرب: العقل، حتى سمي: أذنا واعية، والسماحة، وبث الحكمة، واستخراج الكلمة، والإبلاغ في الموعظة، وحاجة الناس إليه إذا حضر، حتى

ص: 14

لايؤخذ إلّا بقوله، وانفلاق ما في الأرض على الناس حتى يستخرجه، والدفع عن المظلوم، وإغاثة الملهوف، والمروءة، وعفة البطن والفرج، وإصلاح المال بيده ليستغني به عن مال غيره، وترك الوهن والاستكانة، وترك الشكاية في موضع ألم الجراحة، وكتمان ما وجد في جسده من الجراحات من قرنه إلى قدمه، وكانت ألف جراحة في سبيل اللّه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود ولو على نفسه، وترك الكتمان فيما للّه فيه الرضى على ولده...

قال ابن دأب: فهل فكر الخلق إلى ما هم عليه من الوجود بصفته إلى ما مال غيره، ثم حاجة الناس إليه وغناه عنهم، إنه لم ينزل بالناس ظلماء عمياء كان لها موضعاً غيره، مثل مجي ء اليهود يسألونه ويتعنَّتونه، ويخبر بما في التوراة وما يجدون عندهم، فكم يهودي قد أسلم وكان سبب إسلامه هو، وأما غناه عن الناس فإنه لم يوجد على باب أحد قط يسأله عن كلمة، ولا يستفيد منه حرفاً، ثم الدفع عن المظلوم وإغاثة الملهوف.

قال: ذكر الكوفيون: أن سعيد بن قيس الهمداني رآه يوماً في فناء حائط، فقال: يا أمير المؤمنين، بهذه الساعة؟!

قال(عليه السلام): «ما خرجت إلّا لأعين مظلوماً، أو أغيث ملهوفاً»، فبينا هو كذلك، إذ أتته امرأة قد خُلع قلبها، لا تدري أين تأخذ من الدنيا، حتى وقفت عليه، فقالت: يا أمير المؤمنين، ظلمني زوجي وتعدى علي وحلف ليضربني، فاذهب معي إليه.

فطأطأ(عليه السلام) رأسه ثم رفعه، وهو يقول: «حتى يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، وأين منزلك؟»

قالت: في موضع كذا وكذا.

فانطلق(عليه السلام) معها حتى انتهت إلى منزلها، فقالت: هذا منزلي.

قال: فسلم، فخرج شاب عليه إزار ملونة فقال(عليه السلام): «اتق اللّه، فقد أخفت

ص: 15

زوجتك؟!».

فقال: وما أنت وذاك، واللّه لأحرقنها بالنار لكلامك!...

قال(عليه السلام) له: «آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، وترد المعروف؟...».

قال: وأقبل الناس من السكك يسألون عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حتى وقفوا عليه، قال: فأسقط في يده الشاب، وقال: يا أمير المؤمنين، اعف عني عفا اللّه عنك، واللّه لأكونن أرضاً تطؤني.

فأمرها بالدخول إلى منزلها، وانكفأ وهو يقول: «لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. الحمد للّه الذي أصلح بي بين مرأة وزوجها» يقول اللّه تبارك وتعالى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(1).

قال ابن دأب: ثم المروءة، وعفة البطن والفرج، وإصلاح المال، فهل رأيتم أحداً ضرب الجبال بالمعاول، فخرج منها مثل أعناق الجزر، كلما خرجت عنق، قال: بشر الوارث، ثم يبدو له فيجعلها صدقة بتلة(2) إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، لينصرف النيران عن وجهه، ويصرف وجهه عن النار، ليس لأحد من أهل الأرض أن يأخذوا من نبات نخلة واحدة حتى يطبق كل ما ساح عليه ماؤه.

قال ابن دأب: فكان يحمل الوسق فيه ثلاثمائة ألف نواة، فيقال له: ما هذا؟ فيقول: «ثلاثمائة ألف نخلة، إن شاء اللّه». فيغرس النوى كلها فلا يذهب منه نواة ينبع وأعاجيبها. ثم ترك الوهن والاستكانة، إنه انصرف من أحد وبه ثمانون

ص: 16


1- سورة النساء، الآية: 114.
2- أي: قطيعة بحيث لاخيار ولا عود فيها.

جراحة، يدخل الفتائل من موضع ويخرج من موضع، فدخل عليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عائداً وهو مثل المضغة على نطع، فلما رآه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكى وقال له: «إن رجلا يصيبه هذا في اللّه لحق على اللّه أن يفعل به ويفعل».

فقال(عليه السلام) مجيباً له وبكى: «بأبي أنت وأمي، الحمد للّه الذي لم يرني ولَّيت عنك، ولا فررت، بأبي أنت وأمي كيف حُرمتُ الشهادة؟».

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنها من ورائك إن شاء اللّه».

قال: فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أبا سفيان قد أرسل موعده بيننا وبينكم حمراء الأسد». فقال: «بأبي أنت وأمي، واللّه لو حملت على أيدي الرجال ما تخلفت عنك» قال: فنزل القرآن: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(1).

ونزلت الآية فيه قبلها: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْأخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّٰكِرِينَ}(2).

ثم ترك الشكاية في ألم الجراحة، شكت المرأتان إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)ما يلقى وقالتا: يا رسول اللّه، قد خشينا عليه مما تدخل الفتائل في موضع الجراحات، من موضع إلى موضع، وكتمانه ما يجد من الألم. قال: فعدَّ ما به من أثر الجراحات عند خروجه من الدنيا فكانت ألف جراحة من قرنه إلى قدمه صلوات اللّه عليه...(3).

نعم، هكذا كان أمير المؤمنين(عليه السلام) وكذلك كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قبل، وكذلك هم أهل البيت^، وهكذا يلزم أن يكون تابعيهم والمقتدين بسيرتهم بعون اللّه.

ص: 17


1- سورة آل عمران، الآية: 146.
2- سورة آل عمران، الآية: 145.
3- بحار الأنوار 40: 97؛ وكذا في الإختصاص: 144.

الكفاءة والقدرة

الكفاءة والقدرة هي من مقومات الإصلاح الاجتماعي، وما نراه اليوم من كثرة المشاكل في بلاد المسلمين فإن من أسبابها عدم القدرة والكفاءة القيادية.

وليس المقصود بالكفاءة مجرد الادعاء بالكفاءة والأهلية، أو إطلاق الشعارات الخالية من المضمون، بل هي الحالة الواقعية للكفاءة التي يلزم أن نوجهها وننميها على مستوى الأفراد وعلى مستوى الجماعة، بل على مستوى الأمة؛ لأنه لا فرق في الحاجة إلى ذلك كله، أي إلى كفاءة الفرد وكفاءة المجتمع، حيث يعتبر أحدهما مكملاً للآخر، ولذا يلزم السعي الجاد والمتواصل من أجل تنمية الكفاءات للحصول على ثمراتها بالشكل الأفضل والمطلوب.

ومن الواضح أن وجود المؤهلات وعدمها في الفرد أو الأمة، يتضح من خلال أداء وإنجاز الأعمال الموكلة للفرد أو للأمة، ودرجة النجاح أوالفشل فيهما، فنقول - مثلاً - : إن الشخص الفلاني، أو الأمة الفلانية، لديها القدرة والكفاءة على أداء مهمتها، أو نقول العكس من ذلك: بأن ذلك الشخص أو تلك الأمة ليست لها القدرة أو الكفاءة على أداء مهامها في هذا المجتمع أو ذاك. وهذا التقييم موجود في المجتمعات كافة، سواء كانت تلك المجتمعات غربية أو شرقية، أو مجتمعات إسلامية.

ونحن المسلمون - وخاصة في القرن الأخير - خرجنا من الامتحان بنتائج غير موفقة، قابلها العالم بردود فعل معاكسة، وكانت ذلك بطبيعة الحال مؤشراً واضحاً على عدم أهلية وقدرة المسلمين على أداء الدور الريادي الذي خلفه لهم الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإمام المتقين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في إدارة الأمة، مما جعل أمورهم - أي المسلمين - تصبح تحت تسلط الغربيين والشرقيين، وأصبح بعض

ص: 18

المسلمين بأفعالهم عوناً لأعداء الإسلام وأعداء الدين على الإسلام والمسلمين، كما قالأحد الشعراء العرب:

وإخوانٍ تخذتهم دروعاً *** فكانوها ولكن للأعادي

وخلتهم سهاماً صائبات *** فكانوها ولكن في فؤادي(1)

والأمة الإسلامية حينما أدت الدور الرسالي، واستطاعت أن تثبت قدرتها على ريادة العالم وقيادته إلى شاطئ الأمن والسعادة، كانت ملتفة بقيادة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام)، فكانت مصداقاً حقيقياً للآية المباركة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ}(2).

فهنا في هذه الآية الكريمة تنبيه إلى لزوم الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

{كُنتُمْ} أيها المسلمون، وكان لمجرد الربط، لا بمعنى الماضي {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي: خير جماعة ظهرت للناس، فإن كل أمة تظهر للناس في فترة، ثم تختفي وتغيب، لتأخذ مكانها أمة أخرى. وإنما كان المسلمون خير أمة لخصال ثلاث، بها تترقى الأمم إلى أوج عزّها هي: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} فإن المجتمع إذا خلا من هذين الواجبين أخذ يهوي نحو السُّفل، لما جُبل عليه من الفساد والفوضى والشغب، فإذا تحلّى المجتمع بهذين الأمرين أخذ يتقدم نحو الكمال بمدارج الإنسانية والحضارة الحقيقية، حتى يصل إلى قمة البشرية {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إيماناً صحيحاً لا كإيمان أهل الكتاب والمشركين، والإيمان

ص: 19


1- الأبيات للشاعر علي بن العباس الرومي.
2- سورة آل عمران، الآية: 110.

الصحيح باللّه رأس الفضائل، فإنه مع قطع النظر عن كونه إدراكاً لأعظم حقيقة كونية، فهو محفّز شديد نحو جميع أنواع الخير، ومنفّر قوي عن جميع أصناف الشر {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ} إيماناً صحيحاً بعدم الشرك، وقبول قول اللّه سبحانه في نبوة نبي الإسلام محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {لَكَانَ} إيمانهم {خَيْرًا لَّهُم} في دينهم ودنياهم، حتى تنظم دنياهم على ضوء الإسلام، فتخلو من الجهل والمرض والفقر والرذيلة، ويكونون في الآخرة سعداء ينجون من عذاب اللّه، وليس المراد ب- (خير) معنى التفضيل، بل هو تعبير عرفي، حيث يظهر للناس أنهم في خير في الجملة وعلى هذا يكون إيمانهم أكثر خيراً وأفضل... ، ثم بيّن سبحانه أن ليس كل الذين كانوا من أهل الكتاب بقوا على طريقتهم فإن {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} باللّه وبالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبما جاء به كالنجاشي وابن سلام وغيرهما، {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ} الخارجون عن طاعة اللّه باتباع أهوائهم المضلّة وطرائقهم الزائفة(1).

ولا يخفى ما لهذه الآية الكريمة من التأثير على إصلاح المجتمع. فإن الإصلاح بحاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبحاجة إلى الإيمان باللّه وبرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالأئمة الأطهار^.

ولكن الأمة الإسلامية في يومنا هذا، فبعد أن حمل آباؤنا وأجدادنا مشاعل العلم والنور والحياة الحرة إلى العالم، أصبحنا اليوم - بالإضافة إلى كوننا غير قادرين على أداء مهماتنا الأساسية - نهدم ما بناه السابقون من مجد وشموخ.

لذا فعلى المسلمين إن أرادوا الحصول على مافقدوه من الكرامة والعزة والقدرات والإمكانات التي تؤهلهم لتحمل المسؤولية بالشكل المطلوب، أن يهتموا بالإصلاح، وهو يشمل إصلاح النفس أولاً، ثم إصلاح المتجمع،

ص: 20


1- راجع تفسير تقريب القرآن 1: 378.

والمجتمع على قسمين:

1- مجتمع صغير.

2- مجتمع كبير.

إصلاح المجتمع الصغير

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «وأروي: أن رجلاً سأل العالم(عليه السلام)(1) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(2) قال: يأمرهم بما أمرهم اللّه، وينهاهم عما نهاهم اللّه، فإن أطاعوا كان قد وقاهم، وإن عصوه كان قد قضى ما عليه»(3).

وعن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد(عليهما السلام) قال: «لا يزال المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتى يدخلهم الجنة جميعاً، حتى لا يفقد فيها منهم صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً، ولا يزال العبد العاصي يورث أهل بيته الأدب السيئ حتى يدخلهم النار جميعاً، حتى لا يفقد فيها منهم صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً»(4).

وعنه(عليه السلام) أنه قال: «لما نزلت: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(5) قَالَ النَّاسُ: كيف نقي أنفسنا وأَهلينا؟ قال: اعملوا الخير وذكِّروا به أَهليكم وأَدِّبوهم على طاعة اللّه ثم قال أَبو عبد اللّه(عليه السلام): إِنَّ اللّهَ تعالى يقول لنبيِه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوٰةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}(6) وقَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ

ص: 21


1- أي الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام).
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- بحار الأنوار 97: 82.
4- مستدرك الوسائل 12: 201.
5- سورة التحريم، الآية 6.
6- سورة طه، الآية: 132.

إِسْمَٰعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِوَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوٰةِوَالزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}(1)»(2).

يشكِّل الناس في هذه الحياة من حيث انتسابهم إلى العائلة أو المدرسة ونحوها مجتمعاً صغيراً، وهذه المجتمعات الصغيرة باندماجها مع بعض تكون مجتمعات كبيرة.

والمجتمع الصغير تقع مسؤولية إصلاحه على الأب والأم والمعلم، فاللازم على الأبوين أن يتعاملا مع الأطفال تعاملاً متزناً يجمع بين العقل والعاطفة معاً بدون إهمال أو تشديد، حتى تستكمل التربية جميع جوانبها العقلية والعاطفية، لأجل أن يستشعر الطفل بالأمن والاستقرار النفسي، وفي الوقت نفسه يعلمانه النظام والانضباط والنظافة والأدب والعمل وحب الآخرين والمشاركة الإيجابية معهم وعدم الاستبداد بالرأي وأن لا يكون أنانياً.

ولما كانت الأم قريبة على الطفل فإنها تتمكن من التعرف على خصائص طفلها ومشاعره وأحاسيسه، فالأم لها الدور الأعظم بتربية الطفل تربية صالحة، كما قال الشاعر:

والفضل للآباء في تلقيحهم *** غرس البنين بأنفس الأعلاق

والأم أولى الوالدين بولدها *** تسقيه من دم قلبها الخفاق

الأم مدرسة البنين وحسبهم *** أن يغتدوا من ثديها المهراق

هي ترضع الأجسام والأرواح ما *** في صدرها من صحة وخلاق(3)

ص: 22


1- سورة مريم، الآية: 54-55.
2- مستدرك الوسائل 12: 201.
3- الأبيات للشاعر أحمد تقي الدين.

أو كما قال الشاعر الآخر:

من لي بتربية النساء فإنها *** في الشرق علة ذلك الإخفاق

الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيب الأعراق

الأم روض إن تعهده الحيا *** بالري أورق أيّما إيراق

الأم أستاذ الأساتذة الألى *** شغلت مآثرهم مدى الآفاق(1)

ومن قبل ذلك قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة تحت أقدام الأمهات»(2).

وهذا لا يعني إلغاءً لدور الأب كما هو واضح، فإن للأب دوراً تربوياً مهماً، بل بمعنى بيان أهمية دور الأم، وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه.

أما المدرسة، فهي محل التربية الفكرية والعملية، وتقويم الطفل فيها أصعب من تقويمه في البيت، لاختلاط الأجواء الحسنة والسيئة، والنفس في اكتساب السيئات أسرع من اكتسابها الحسنات غالباً.

أما في مرحلة الشباب والمراهقة، وخاصة عندما ندرك أن هذه المرحلة مرحلة حساسة وخطيرة؛ لأنها مرحلة تفتح ونضوج الشهوات والغرائز، يكون من اللازم إدامة التربية والتثقيف والتوعية الإسلامية، والمواظبة على الحذر الشديد خوفاً من سراية، أو استفحال العادات والأفعال السيئة بين صفوف الجيل الناشئ.

ومن هنا يلزم على الوالدين والمعلمين في المدارس، والمربين في المجتمع، كالخطباء والكتاب و... أن يهتموا بالشباب أكثر من غيرهم، لحساسية مرحلتهم في تكوين شخصيتهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي.

ولا يخفى أن المجتمع الصغير مندمج في المجتمع الكبير أو هو جزء لا

ص: 23


1- الأبيات للشاعر حافظ إبراهيم، الملقَّب بشاعر النيل.
2- مستدرك الوسائل 15: 180.

يتجزأ منه، بل إن المجتمعات الصغيرة أساس تكونه، فيلزم أن نصلح الأساسوالأصل وهو العائلة، التي هي بمثابة اللبنة الأساسية لتكوين مجتمع صالح وأساس صلاح العائلة هو صلاح الأبوين، إضافة إلى عناصر التربية الأخرى كالمدرسة والبيئة الصغيرة، ومن هنا يلزم التوجيه الصالح والحسن في كل فقرات هذا المجتمع الصغير، من بعده يصل الأمر إلى المجتمع الكبير.

إصلاح المجتمع الكبير

أما إصلاح المجتمع الكبير، فهو من أكثر الأمور تعقيداً وخطورة؛ إذ تتداخل في إصلاحه وتغييره نحو الأحسن عوامل كثيرة، منها: عامل الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والعمران، والتربية.

والتأثير على سيرة المجتمع وضبط سلوكه وتوعيته وتهذيبه، يحتاج إلى جيش من المثقفين والمبلغين والمصلحين والمفكرين، فإن محاربة تعاطي الخمور والمواد المخدرة والانحراف والشذوذ الجنسي - مثلا - لا يتم فقط بفتح مدرسة، أو إخراج مجلة، وما أشبه ذلك؛ لأنها أمور جزئية لايمكن تخليص المجتمع الكبير بها وحدها من هذه الآفة، وإنما هذا النوع من الإصلاح بحاجة إلى تخطيط عام وبرنامج كامل يشمل أموراً وجوانب متعددة ويعالج المشاكل من جذورها.

وأول الإصلاح هو أن يكون القائمون به صالحين، وإلّا فإن فاقد الشيء لا يعطيه.

والتخطيط العام لإصلاح المجتمع يبنى على دعائم وهي عديدة منها:

1- الإيمان.

2- توزيع القدرات (العلم والحكم والمال).

أما الإيمان، فإنه الوحيد الذي يمكن به تعديل الصفات والملكات والعواطف والأعمال، بحيث يجعلك مرتبطاً في كل أعمالك باللّه تعالى، فلن تجد الظلم أو

ص: 24

السرقة أو شرب الخمر أو الزنا وما شابه ذلك من المحرمات في مجتمع يسودهالإيمان.

والأمر الثاني: هو التكافؤ الموضوعي، أي الموازنة الدقيقة، والتعادل بين العلم والمال والحكم، لرفع الطغيان والاحتكار والتسلط، فإن في ذلك وقاية للمجتمع عن الانحراف والاستبداد، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج، فإن أحد الأمور الثلاثة إذا لم يكن في متناول الجميع على حد سواء - باستثناء عدم امتلاك البعض قابلية الأخذ والاستيعاب من جهة عدم الاستطاعة الذاتية فكرياً أو جسمياً - أوجب ذلك الحرمان، والحرمان ينتهي إلى الانحراف؛ ولذا يلزم تحرير هذه الثلاثة من نير الرأسمالية والشيوعية ونحوهما، حتى يكون الميزان: الكفاءة والعمل، فالكل سيقدر على أن يحصل على فرص كسب المال بقدر الآخر، وكل يقدر على أن يحصل على أرقى مراتب العلم: الجامعة وفوقها، وكلّ يقدر على أن يحصل على الحكم بعد وجود المؤهلات له من الشرائط الشخصية، كالعلم والعدالة.

فإذا حصلت الموازنة الصحيحة بين المعنويات (الإيمان والعلم) والماديات (المال والحكم) لم ينزلق المجتمع في مهاوي الانحراف، بخلاف ما إذا لم تحصل الموازنة، كما إذا كان المقام أو المنصب عند من لا علم له، أو العلم عند من لا تقوى لديه، أو المال عند من لا يمتلك الإيمان والرأفة على الفقراء، أو ما أشبه ذلك، فإن المجتمع حينئذٍ يصبح محلاً خصباً للانحراف، فعندها تثار التساؤلات والاحتجاجات العديدة: لماذا الشاب الفلاني يقدر على دخول الجامعة، وأنا لا أقدر مع أن مستواه الفكري مثلي؟

ولماذا تمكن فلان من الوصول إلى مجلس الأمة ولم أتمكن أنا؟

فهل ذلك لأنه من حاشية الحاكم، وأنا لست من حاشيته؟

وهل ميزان العدالة حاشية السلطان؟

ص: 25

ولماذا لا أتمكن أنا من كسب المال الكافي لشؤوني مع كوني أمتلك الكفاءةوالاستعداد الجيد للعمل؟

إلى غير ذلك من أسباب تواجد الطبقية المنحرفة في كل من العلم والمال والحكم، مما يؤدي أن يكون الاجتماع محلاً لولادة الانحراف والظلم.

إصلاح النفس

أما إصلاح النفس وهو اللبنة الأولى في إصلاح المجتمع، فيعني تزكية النفس وتطهيرها من الذنوب والآثام، وتنقيتها من العيب أو النقص. فإن الصالحين هم الذين صلحت نفوسهم وأعمالهم، قال اللّه تعالى عنهم: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّۧنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا}(1).

وقال عزّ اسمه: {وَأَدْخَلْنَٰهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّٰلِحِينَ}(2).

والصلاح على مراتب: فمنها ما هو مرتبة سامية وشريفة، ومنها متوسطة، وهكذا كل إنسان بحسب قدرته وقابليته على جهاد نفسه، فعن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «جاهدوا أنفسكم على شهواتكم تحلّ قلوبكم الحكمة»(3).

وعن إمام المتقين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال: «ذروة الغايات لا ينالها إلّا ذوو التهذيب والمجاهدات»(4).

لأن الغاية من صلاح النفس هي رضا وطاعة اللّه تعالى والابتعاد عن معاصيه والفوز بالجنة، فلا يتمكن الإنسان من الوصول إليها إلّا بتهذيب النفس ومجاهدتها

ص: 26


1- سورة النساء، الآية: 69.
2- سورة الأنبياء، الآية: 75.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 122.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 371.

من كل ظلم وطغيان، وعدم اتباع هواها، والالتزام بإطاعة اللّه وطاعة من أوجبطاعته من ولي الأمر المعصوم الواجب اتباعه، وطلب العلم، وتقديم التوبة.

وإن أفضل الجهاد، وهو جهاد النفس، وثمرته الفوز برضا اللّه تعالى والجنة، فإنها غاية الغايات، وقد جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن المجاهد نفسه على طاعة اللّه وعن معاصيه عند اللّه سبحانه بمنزلة برٍّ شهيد»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر؟

قال: جهاد النفس، ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «كان في وصية أمير المؤمنين(عليه السلام) لأصحابه: إذا حضرت بليةٌ فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم، وإذا نزلت نازلةٌ فاجعلوا أنفسكم دون دينكم. واعلموا أن الهالك من هلك دينه، والحريب من حرب دينه، ألا وإنه لا فقر بعد الجنة، ألا وإنه لا غنى بعد النار؛ لا يفك أسيرها ولا يبرأ ضريرها»(3).

المؤهلات الذاتية

كان مدير بلدية كربلاء المقدسة - في مدة من الزمن - رجل يدعى (مكي جميل)، وقد قام هذا الشخص يوماً بجمع المهندسين وبعض طلبة الكليات المتخصصين في مجال العمارة والبناء، وطلب منهم أن يقدموا تقريراً هندسياً حول كيفية تجديد بناء قبة الإمام الحسين(عليه السلام)؟

ص: 27


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 232.
2- الأمالي للصدوق: 466.
3- وسائل الشيعة 16: 192.

فكان جوابهم له: إن هذا العمل في غاية الصعوبة، ويتطلب تنفيذه الاستعانةبمهندسين من خارج البلاد، وعلى الأقل من البلدان المجاورة كتركيا وإيران مثلاً، وحتى لو توفر ذلك الكادر فإن المدة اللازمة لإنجاز هذا العمل تقدر بستة أشهر على أقل تقدير. وبعد مدة جاء معماري من أهل الخبرة في البناء من مدينة النجف الأشرف يدعى (الحاج سعيد)، وقال: إنه مستعد لإنجاز هذا العمل بمدة لا تزيد على أربعين يوماً فيما إذا توافرت له كل الوسائل والإمكانات الضرورية، فوضع مدير كربلاء المقدسة كل ما يحتاجه هذا المعمار تحت تصرفه، وفعلاً جاء وأزال البناء القديم وأقام البناء الجديد بمدة أربعين يوماً، وكان ذلك طبعاً بفعل المهارة والكفاءة والخبرة التي يحملها ذلك المعماري.

هذه الواقعة تشير إلى أن وجود بعض الناس في مواقع لا يستحقونها، بل وإنهم يعتبرون خطراً على المجتمع بتقليدهم المناصب الكبيرة، بحيث اتخذوا من شهادتهم العلمية رمزاً يعلق على الجدران، وعند الأمور الصعبة والمحتاجة إلى بذل الوسع والجهد والتفكر تراهم يتجهون فوراً إلى غيرهم وخصوصاً البلاد الخارجية ولم يحاولوا لجهد بسيط في إنجاز أعمالهم.

وبسبب هؤلاء وغيرهم، نرى أن الغرب قد وضع يده على ثرواتنا وممتلكاتنا ومشاريعنا العمرانية والإنتاجية، في حين أن هناك في مجتمعاتنا من هو قادر وكفء على إقامة مثل هذه المشاريع وبتكاليف قليلة ومدة أقل، ولكنه لم يأخذ مكانه الصحيح، وغيره الذي يحمل عناوين كبيرة غير واقعية من شهادات جامعية وما أشبه، تراه في مكان ليس هو أهلاً له. ونرى بعض الحكومات تحارب هذه الكفاءات والقدرات الجيدة والحقيقية بحجة أنهم خطر على الدولة أو مرتبطون بفئة معادية، وحقيقة الأمر هي غير ذلك.

وفي مثل هذه القصة لا يحتاج الإنسان إلى أكثر من الهمّة العالية

ص: 28

والإمكانيات التي هي دائماً متوفرة في البلاد الإسلامية.

المبادئ الإسلامية

مبادئ الإسلام هي القوام للإصلاح الاجتماعي، ومن أهم ما تعانيه مجتمعاتنا المعاصرة هو ترك العمل بمبادئ الإسلام، في حين استفاد الغرب من هذه المبادئ، وتفهم تجربتنا وأخذ يعمل بها، فنرى اليوم الكثير من القوانين الإسلامية يعمل بها في الغرب ورغم أنها ليست بشكلها السليم الحقيقي لكنها تؤتي بثمارها عندهم وتوجب بعض الإصلاح الاجتماعي لديهم.

فمثلاً: لو ذهب شخص إلى الغرب وحصل على الإقامة الأصولية في بلادهم، نراهم يقدمون له كل ما يحتاجه في تطوير حياته، فعندما يريد أن يشتري بيتاً فإنهم يساعدونه بتقديم القرض لشراء الدار، وإذا أراد أن ينشأ مؤسسة ذات منفعة عامة للمجتمع تدفع له الدولة مبلغاً ربما يساوي نصف كلفة تلك المؤسسة دون عوض، إيماناً منهم بأن هذه المؤسسة ستقوم - بشكل أو بآخر - بتقديم خدمة لبلدهم ولشعبهم.

وهذا هو نوع من الضمان الاجتماعي المعمول به في بلاد الغرب، والمفقود في بلاد الإسلام غالباً.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«أيها الناس من ترك مالا فلأهله ولورثته، ومن ترك كلّاً أو ضياعا فعليَّ وإليَّ»(1).

وفي بعض الروايات: «ومن ترك دينا فعلي»(2).

ص: 29


1- الأمالي للشيخ للمفيد: 188.
2- الأمالي للشيخ للمفيد: 212.

وعن عطاء عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك، إن علي ديناً إذا ذكرتهفسد علي ما أنا فيه؟

فقال(عليه السلام): سبحان اللّه، وما بلغك أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقول في خطبته: من ترك ضياعاً فعلي ضياعه، ومن ترك ديناً فعلي دينه، ومن ترك مالاً فآكله، فكفالة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ميتاً ككفالته حياً، وكفالته حياً ككفالته ميتاً».

فقال الرجل: نفست عني جعلني اللّه فداك(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أيما مؤمن أو مسلم، مات وترك ديناً لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه، فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك؛ إن اللّه تبارك وتعالى يقول: {إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَٰكِينِ}(2) الآية فهو من الغارمين وله سهمٌ عند الإمام فإن حبسه فإثمه عليه»(3).

وجاء في بعض الروايات أنه وبسبب هذه المقولة من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسلم عامة اليهود؛ لأن معنى ذلك أنه لو مات أحد وعليه دين فإن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الذي يقضي دينه، ولو ترك عيالاً دون معيل فإن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو كفيلهم، ولهذا أسلم عامة اليهود لأنهم عرفوا وتيقّنوا أن وعود الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم ستأخذ محلها للتطبيق قطعاً.

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، وعلي أولى به من بعدي، فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: قول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من ترك ديناً أو ضياعاً فعليَّ، ومن ترك مالاً فلورثته، فالرجل ليست له على نفسه ولايةٌ إذا لم يكن له مالٌ، وليس له على عياله أمرٌ ولا نهيٌ إذا لم يجر عليهم النفقة، والنبي

ص: 30


1- تهذيب الأحكام 6: 211.
2- سورة التوبة، الآية:60.
3- الكافي 1: 407.

وأمير المؤمنين(عليهما السلام) ومن بعدهما ألزمهم هذا، فمن هناك صاروا أولى بهم منأنفسهم، وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلّا من بعد هذا القول من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإنهم آمنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم»(1).

فلو نظرنا بإمعان إلى حديث الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والذي جعل اليهود يعتنقون الدين الإسلامي، لرأينا وقتنا الحاضر عكس ما قد جرى؛ فإن الغربيين يطبقون بعض مصاديق حديث الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويشجعون الإعمار والتأسيس والتقدم بإعطاء نصف كلفة المشاريع لأجل ازدياد المؤسسات الخدمية والاجتماعية والدينية والتقدم الحضاري، فيكون مدعاة لجلب الناس إلى المعتقدات الغربية وتبهرهم الحضارة، في حين أن الإسلام هو أساس الحضارات، وقد استفاد منه غيرنا ونحن نعيش في ما يسمى بالعالم الثالث بعدما كنا نحن أسياد العالم.

التضحية لأجل الآخرين

من أهم ما يشترط في المصلحين أن يتحلوا بروح التضحية في سبيل اللّه وفي خدمة الآخرين.

كان الميرزا (علي آغا)(2)

نموذجاً فريداً في كل تصرفاته، وقد نقل أحد تلامذته هذه القصة حيث قال:

بينما كنت أمشي في أحد الأيام في سوق الخضار في النجف الأشرف، رأيت الميرزا (علي آغا) وهو يشتري الخس، وعندما اقتربت منه فإذا به يختار من الخس ما هو رديء وذابل، فقلت مع نفسي: ربما لديه حيوان داجن في داره

ص: 31


1- الكافي 1: 406.
2- هو السيد الميرزا علي آغا ابن السيد محمد حسن الشيرازي، وهو النجل الثاني للسيد المجدد الشيرازي، عالم كبير وفقيه قدير وورع زاهد، ولد في النجف الأشرف سنة 1287ه ، توفي(رحمه اللّه) في النجف الأشرف ليلة الأربعاء (18 ربيع الأول 1355ه).

ويريد أن يأخذ هذا الخس علفاً له، ولما سألته عن سبب اختياره للخسالرديء؟

أجابني: سأخبرك ولا يحق لك أن تنقل هذا الخبر عني للآخرين ما دمت حياً، والحقيقة هي أنني اختار الخس الرديء الذابل لأني أريد أن أدخل السرور على قلب البائع؛ وذلك لأن الناس يأتون ويختارون من الخس ما هو جيد وسالم، ويبقى هذا الخس الرديء دون طالب، ولربما سبّب ذلك لهذا البائع خسارة ما!!

يا ترى كم هو عدد هؤلاء الرجال - اليوم - بين المسلمين، الذين يفكرون في الآخرين قبل أن يفكروا في أنفسهم، ويهتموا لنفع الآخرين دون أنفسهم؟!

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أحب الأعمال إلى اللّه عزّ وجلّ إدخال السرور على المؤمن، إشباع جوعته، أو تنفيس كربته، أو قضاء دينه»(1).

ترويض النفس

سبق أن قلنا بأن ترويض النفس ومخالفة الهوى شرط للإصلاح، وقد كان والدنا (أعلى اللّه مقامه) من العلماء الذي يسعون دائماً إلى بناء النفس وترويضها بما يرضي باريها، وله قصص كثيرة في هذا الباب، وكان(رحمه اللّه) ينشد الكثير من الشعر، ولكن - للأسف الشديد - وقع أغلب ما كتبه بيد طغاة البعث في العراق(2)

ولا يعرف مصيرها حتى الآن، ومن جملة شعره قصيدة تقرب أبياتها المائتين في مدح الإمام صاحب الزمان (أرواحنا لمقدمه الفداء)، وكانت القصيدة بائية ومن أبياتها:

ص: 32


1- الكافي 2: 192.
2- حزب البعث العربي الإشتراكي: حزب تسلط على حكم العراق منذ (17/ تموز/ 1968م حتى 9/ 4/ 2003م.

أرى وجد نفسي مستطيل الجوانب *** وفيض دموعي مستهل الذوائب

وفي الصدر من نار الفراق شرارة *** يفور لظاها في زوايا الترائب

وقال(رحمه اللّه) في قصيدة أخرى:

يا رب إنا من نبات نعمتك *** فلا تصيرنا حصاد نقمتك

ونقل لي بعض الثقاة أن الوالد(رحمه اللّه) كان يذهب إلى المقبرة ويدخل قبراً خالياً وينام فيه ليتذكر القبر وأحواله، وكان يفترض أنه الميت، ثم يقول بصوت عال: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}(1) وكان يبكي من خوف اللّه وخوف القبر كثيراً، ثم ينادي نفسه ويقول: يا فلان لم يجيبوك ب{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} بل أرجعوك! فاعمل صالحاً واستعد لآخرتك.

الإنسان يتمكن أن يقوي جسمه ونفسه حتى لا تؤثر فيهما الأهواء والشهوات، كما يتمكن أن يسيطر على الطبيعية بزمام العلم، حتى لاتطغى عليه وقد جعل سبحانه وتعالى الكون مسخراً للإنسان، لا أنه جعل الإنسان مسخراً للكون، حيث قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(3). هذا بالإضافة إلى الأسباب الغيبية التي هي من وراء الماديات.

ص: 33


1- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
2- سورة لقمان، الآية: 20.
3- سورة الأعراف، الآية: 96.

كيفية إصلاح المجتمع الإسلامي

اشارة

تبين مما سبق بعض مقومات الإصلاح الاجتماعي والسبل الكفيلة لتجديد وإعادة المجتمع الإسلامي نحو الخير والتقدم والفضيلة، فإن العالم اليوم استبدت بقيادات غير رشيدة وحكومات فاسدة، وهي من أهم أسباب تأخر المجمتع الإسلامي.

علماً بأن الإصلاح الاجتماعي لا يقتصر على البلدان الإسلامية، فالواجب الشرعي والإنساني يقتضي السعي نحو المجتمع الصالح للبشرية جمعاء؛ لأن الإسلام هو دين البشرية على الإطلاق، فيلزم على الدعاة إرشاد الناس وهدايتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ}(1).

وإعادة المجتمع نحو الصلاح تكون بإذن اللّه تعالى بأسس خمسة وهي:

1- التنظيم واحتواء الجماهير

فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «ونظم أمركم»(2).

ولأن أساس كل تنظيم وإصلاح هو الجماهيرية، فلابد من التوجه إلى الجماهير، لأنها المبدأ والقاعدة، وكل حركة اتخذت الصنمية والفردية والأنانية والاستبداد انفصلت عن الجماهير وكان مصيرها السقوط الحتمي.

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته للحسن(عليه السلام) قال: «اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك»(3).

ص: 34


1- سورة سبأ، الآية: 28.
2- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.
3- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 31 من وصية له(عليهما السلام) للحسن بن علي(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

2- التوعية العصري

ةالتوعية المناسبة والمواكبة للعصر - بعد الإيمان باللّه تعالى وبرسله^ - هي الرشد والنضوج والفهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيرها من الأمور المرتبطة بإدارة البلاد والعباد، فقد ورد في الزيارة الجامعة لأئمة أهل البيت^: «وساسة العباد»(1).

3- السلم

3- السلم(2)

من شروط إصلاح المجتمع اتخاذ منهج السلم واللاعنف. أما العنف فهو سبب للفساد والإفساد.

قال جلّ اسمه: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(3).

وقال سبحانه: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}(4).

وقال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَٰمُ}(5).

وقال جلّ وعزّ: {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(6). ودار السلام من أسماء الجنة.

وقال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ

ص: 35


1- من لا يحضره الفقيه 2: 610. مفاتيح الجنان: الزيارة الجامعة الكبيرة.
2- وللإمام الراحل(رحمه اللّه) كتاب (الفقه: السلم والسلام) وفيه بحوث شيقة حول نظرية السلم والسلام في الإسلام.
3- سورة المائدة، الآية: 16.
4- سورة النساء، الآية: 94.
5- سورة الحشر، الآية: 23.
6- سورة يونس، الآية: 25.

الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}(2).

وقال تعالى: {هُوَ سَمَّىٰكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ}(3).

نعم، فإن السلام نبتة لا تقلعها العواصف، وشعار الإسلام: (السلام)، وحتى الدولة المرهوبة الجانب خير لها أن تحل مشاكلها بسلام؛ لأنه أحمد عاقبة، وأهنأ فراقاً، والقوة وضعت لأقصى حالات الاضطرار؛ ولذا نرى شعار الأنبياء عند دعوتهم (السلام)، وقد روي عن المسيح(عليه السلام) في الإنجيل: «أحبوا أعداءكم، وصلوا قاطعيكم، واعفوا عن ظالميكم، وباركوا على لاعنيكم»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «السلام اسم من أسماء اللّه تعالى، فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مرّ بالقوم فسلّم عليهم فإن لم يردوا عليه، ردَّ عليه من هو خير منهم وأطيب»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما فشا السلام في قوم إلّا أمنوا من العذاب، فإن فعلتموه دخلتم الجنة»(6). وقال(عليه السلام): «أفشوا السلام تسلموا...»(7).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «وأفشوا السلام في العالم، وردوا التحية على

ص: 36


1- سورة البقرة، الآية: 208.
2- سورة النساء، الآية: 90.
3- سورة الحج، الآية: 78.
4- شرح نهج البلاغة 10: 159.
5- روضة الواعظين 2: 459.
6- البرهان في تفسير القرآن 3: 346.
7- جامع الأخبار: 89.

أهلها بأحسن منها»(1).

وعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال: «قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمون حوله مجتمعون أيها الناس،.. أحيوا القصاص، وأحيوا الحق لصاحب الحق، ولا تفرقوا، وأسلموا وسلِّموا تسلموا...»(2).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «أفشوا سلام اللّه، فإن سلام اللّه لاينال الظالمين»(3).

وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: «ما طلعت الشمس بيوم أفضل من يوم الجمعة، وإن كلام الطير فيه إذا التقى بعضها بعضاً: سلام سلام، يوم صالح»(4).

4- شورى المرجعية

وهذا أمر واقعي سهل المنال إن وعت الأمة ذلك الأمر وعياً سياسياً دينياً، فإن في هذا الأسلوب تحكيم عبر الانتخابات الحرة للفقهاء المراجع الذين هم نواب الأئمة^ بملء حرية المجتمع، بدون ديكتاتورية الدولة وتسلطها على المرجعية، وبمعاونة أهل الخبرة الذين يعتمد عليهم المجتمع، لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(5)، وحينئذٍ لا يكون ضغط في التقليد أيضاً.

فإذا أراد جماعة من المجتمع أن يقلدوا مجتهداً آخر غير من هو في السلطة العليا يكون لهم ذلك بدون مزاحم.

وأبناء المجتمع هم الذين يختارون هذه السلطة العليا (شورى الفقهاء

ص: 37


1- بحار الأنوار 74: 292.
2- من لا يحضرة الفقية 4: 163.
3- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار: 196.
4- الكافي 3: 415.
5- سورة الشورى، الآية: 38.

المراجع) بالترشيح، وبمعاونة أهل الخبرة من أهل العلم والعدالة وأيضاً زعماء الأحزاب الحرة الإسلامية، وبدون تدخل من السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية لأنهم تحت السلطة العليا (شورى الفقهاء المراجع)(1).

5- الاكتفاء الذاتي

فكل محتاج إلى غيره منقاد له.

نعم الاحتياج الاجتماعي الطبيعي لا مانع منه، فأبناء المجتمع بعضهم يحتاج البعض لإمرار الحياة والمعاش، يقول الشاعر:

والناس بالناس من حضر وبادية *** بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم(2)

أما الحاجة التي تسبب أسر صاحبها وفقدان حريته، سواء كانت الحاجة شخصية أم عامة، على صعيد الفرد أم الأمة، فهي كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره»(3).

إن جميع البشر من بدوٍ ومن حضرٍ بعضهم يخدم بعضاً؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يوفّر كل شيء بمفرده ما لم يتعاون مع الآخرين، فالحاجة الاجتماعية حاجة متبادلة وضرورية لإقامة المجتمع الإنساني وديمومته، أما الحاجة التي تفقد شخصية صاحبها، وتجعله ينقاد إلى الآخرين، ويستسلم لإرادتهم، فهي التي لا ينبغي أن تكون عند المؤمن؛ لأنها تذله وتدمر شخصيته، وتسلب صفة

ص: 38


1- للتفصيل يراجع كتاب: (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، و(طريق النجاة)، و(الفقه السياسة)، للإمام الراحل(رحمه اللّه).
2- البيت لأبي العلاء المعري.
3- الإرشاد 1: 303.

القيادة عنده، وتفقده استقلاليته، وهي التي قال عنها أمير المؤمنين(عليه السلام): «احتج إلى من شئت تكن أسيره».

ونحن اليوم حينما نحتاج إلى الغرب أو الشرق، ولا نعتمد على مؤهلاتنا وقدراتنا الذاتية، ولا نعتمد على أنفسنا، فإن ذلك هو الذل والأسر ذاته، فيلزم علينا أن نحرر شعوبنا الإسلامية، وذلك بتنمية قدراتنا وطاقاتنا وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا أعسر أحدكم فليخرج ويضرب في الأرض، يبتغي من فضل اللّه ولا يغمَّ نفسه وأهله»(1).

وروي: أن سلمان المحمدي كان يسفُّ الخوص وهو أمير على المدائن ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي، وقد كان تعلم سفَّ الخوص من المدينة(2).

وفي كتابه إلى عمر بن الخطاب قال: وأما ما ذكرت أني أقبلت على سفّ الخوص وأكل الشعير، فما هما مما يعيَّر به مؤمنٌ ويؤنب عليه. وأيم اللّه يا عمر لأكل الشعير وسفّ الخوص والاستغناء عن رفيع المطعم والمشرب وعن غصب مؤمنٍ حقه وادعاء ما ليس له بحق، أفضل وأحب إلى اللّه عزّ وجلّ وأقرب للتقوى، ولقد رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أصاب الشعير أكل وفرح به، ولم يسخطه(3).

وسأل الإمام الصادق(عليه السلام) عن معاذ بياع الكرابيس(4)؟

فقيل له: ترك التجارة.

فقال: «عمل الشيطان، عمل الشيطان؛ من ترك التجارة ذهب ثلثا عقله، أما

ص: 39


1- السرائر 2: 228.
2- شرح نهج البلاغة 18: 35.
3- الاحتجاج 1: 131.
4- الكرابيس: جمع كرباس، وهو القطن.

علم أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما قدمت عير من الشام فاشترى منها واتجر فربح فيها ما قضى دينه»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما غدوة أحدكم في سبيل اللّه بأعظم من غدوته يطلب لولده وعياله ما يصلحهم»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الشاخص في طلب الرزق الحلال كالمجاهد في سبيل اللّه»(3).

وروي أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقف بغزوة تبوك بشاب جلد يسوق أبعرة سماناً، فقال أصحابه: يا رسول اللّه، لو كان قوة هذا وجلده وسمن أبعرته في سبيل اللّه، لكان أحسن! فدعاه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «أرأيت أبعرتك هذا أي شي ء تعالج عليها؟».

قال: يا رسول اللّه، لي زوجة وعيال، وأنا أكتسب بها ما أنفقه على عيالي، فأكفهم عن الناس وأقضي دينا علي.

قال: «لعل غير ذلك؟».

قال: لا، فلما انصرف قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لئن كان صادقاً إن له لأجراً مثل أجر الغازي وأجر الحاج وأجر المعتمر»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تحت ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلّا ظله رجل ضارب في الأرض يطلب من فضل اللّه ما يكف به نفسه ويعود به على عياله»(5).

وحكي عن داود(عليه السلام): أنه كان يتوخى من تلقاه من بني إسرائيل فيسأله عن

ص: 40


1- تهذيب الأحكام 7: 4.
2- السرائر 2: 228.
3- بحار الأنوار 100: 17.
4- عوالي اللآلي3 : 194.
5- عوالي اللآلي 3: 194.

حاله(1)؟

فيثني عليه، حتى لقي رجلاً فقال: نعم العبد لولا خصلة فيه، فقال: وما هي؟ قال: إنه يأكل من بيت المال، فبكى داود(عليه السلام) وعلم أنه قد أتي، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى الحديد: أن لن لعبدي داود. فألان اللّه له الحديد، فكان يعمل كل يوم درعاً يبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة وستين درعاً فباعها بثلاث مائة وستين ألفاً، فاستغنى عن بيت المال(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة سلام اللّه عليها تطحن وتعجن وتخبز»(3).

وروي أن رجلاً سأل الإمام الصادق(عليه السلام) فقال: أسمع قوما يقولون: إن الزراعة مكروهة؟ فقال(عليه السلام): ازرعوا واغرسوا، فلا واللّه ما عمل الناس عملاً أحل ولا أطيب منه، واللّه ليزرعن الزرع وليغرسن النخل بعد خروج الدجال»(4).

إذاً، يلزم علينا الاهتمام كثيراً بموضوع الإكتفاء الذاتي، ودراسته من كافة الجوانب، لننهض بالمجتمع الاسلامي اقتصادياً واجتماعياً.

كما يلزم علينا أن نتجنب الأخطاء في العمل عند السعي لبناء المجتمع، فلا نفسح المجال لدخول الانتهازية والنفعية التي لا تؤمن بها الجماعة، وأن يكون البرنامج مفهوماً ومعلوماً لدى الجميع، بحيث لا يكون الهدف منه مجهولاً وغامضاً، ورفع حاجز الخوف المسيطر على الناس نتيجة التجارب السابقة التي كانت في الساحة، ودراسة الأخطاء الماضية، التي أوقعت الجماعات الأخرى في متاهات التبعية والانقياد إلى القوى المهيمنة المستبدة والابتعاد عن الجماهير.

ص: 41


1- أي عن حال نفسه، حال داود(عليه السلام).
2- عوالي اللآلي 3: 199.
3- الكافي 5: 86.
4- الكافي 5: 260.

الحريات

ولابد من التمتع بكل أشكال الحرية عند تطبيق الأسس الخمسة المذكورة؛ وهي: (التنظيم، والتوعية، والسلم، وشورى المراجع، والإكتفاء الذاتي) إذ إن الأصل في الإنسان الحرية، وقد دعم الإسلام هذا الأصل، كما جاء في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(1) إلّا في المحرمات التي نهى الإسلام عنها وهي محددة في الشريعة، وبذلك ترتفع كل أشكال التبعية عند التطبيق، ويتنعم المجتمع الإسلامي بالسعادة والرفاه، نتيجة هذا الإصلاح والتطبيق العملي للأسس والمبادئ الراسخة التي جاء بها الإسلام.

وعند تطبيق هذه البنود الخمسة: (التنظيم، والتوعية، والسلم، وشورى المراجع، والإكتفاء الذاتي) على ما مر من بيانها واشتمالها على الإيمان باللّه والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والكتاب والعترة^، تتمكن الأمة الإسلامية بإذن اللّه تعالى من الإصلاح الاجتماعي ولو بالتدريج، وما ذلك على اللّه بعزيز.

«اللّهم صل على محمد خاتم الأنبياء، وآله البررة الأتقياء، وعلى عترته النجباء، صلاة معروفة بالتمام والنماء، وباقية بلا فناء وانقضاء.

اللّهم رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، أسألك من الشهادة أقسطها، ومن العبادة أنشطها، ومن الزيادة أبسطها، ومن الكرامة أغبطها، ومن السلامة أحوطها، ومن الأعمال أقسطها، ومن الآمال أوفقها... ومن الهمم أعلاها، ومن القسم أسناها، ومن الأرزاق أغزرها، ومن الأخلاق أطهرها، ومن المذاهب أقصدها، ومن العواقب أحمدها ومن الأمور أرشدها ومن التدابير أوكدها... اللّهم إني أسألك قلباً خاشعاً زكياً، ولساناً صادقاً علياً، ورزقاً واسعاً

ص: 42


1- سورة الأعراف، الآية: 157.

هنيئاً، وعيشاً رغداً مرياً...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الإصلاح الاجتماعي

قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(4).

إصلاح النفس

قال عزّ وجلّ: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(5).

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(6).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ}(7).

ص: 43


1- بحار الأنوار 91: 155.
2- سورة هود، الآية: 88.
3- سورة الأعراف، الآية: 142.
4- سورة الحجرات، الآية: 10.
5- سورة الشمس، الآية: 7-10.
6- سورة الرعد، الآية: 11.
7- سورة الحشر، الآية: 18.

المؤهلات الذاتية

قال تعالى: {وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ إِبۡرَٰهِيمَ رُشۡدَهُۥ مِن قَبۡلُ وَكُنَّا بِهِۦ عَٰلِمِينَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(3).

العمل سُلّم الاصلاح

قال جلّ وعلا: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(4).

وقال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِنَّ كُلًّا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَٰلَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(6).

وقال سبحانه: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(7).

المجتمع والشورى

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(8).

ص: 44


1- سورة الأنبياء، الآية: 51.
2- سورة البقرة، الآية: 124.
3- سورة الأنعام، الآية: 124.
4- سورة المدثر، الآية: 38.
5- سورة النجم، الآية: 39.
6- سورة هود، الآية: 111.
7- سورة الأنعام، الآية: 132.
8- سورة آل عمران، الآية: 159.

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْوَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

الإصلاح الاجتماعي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من استصلح الأضداد بلغ المراد»(3).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم...»(4).

إصلاح النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «جاهد نفسك وحاسبها محاسبة الشريك شريكه، وطالبها بحقوق اللّه مطالبة الخصم خصمه، فإن أسعد الناس من انتدب لمحاسبة نفسه»(6).

ص: 45


1- سورة الشورى، الآية: 38.
2- جامع السعادات 2: 216.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 593.
4- بحار الأنوار 44: 329.
5- محاسبة النفس: 13.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 339.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من لم يجعل للّه له من نفسه واعظاً فإن مواعظالناس لن تغني عنه شيئاً»(1).

المؤهلات الذاتية

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «..فاعلم أن أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل، هُدِيَ وهَدَى، فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة...»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش..»(3).

العمل سُلم الإصلاح

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، إني رسول اللّه إليكم، وإني شفيق عليكم لا تقولوا: إن محمداً منا، فواللّه ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلّا المتقون.. ألا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم وفيما بين اللّه عزّ وجلّ وبينكم وإن {لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ}(4)»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من رقى درجات الهمم عظمته الأمم»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أقصر نفسك عما يضرها من قبل أن تفارقك،

ص: 46


1- الأمالي للمفيد: 28.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 164 من كلام له(عليه السلام) لما اجتمع الناس إليه وشكوا ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته لهم.
3- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 45 من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.
4- سورة يونس، الآية: 41.
5- صفات الشيعة: 5.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 621.

واسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك، فإن نفسك رهينة بعملك»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ينبغي أن يكون التفاخر بعلي الهمم»(2).

المجتمع والشورى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا مظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتدبير»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «شاور في حديثك الذين يخافون اللّه، وأحبب الإخوان على قدر التقوى...»(4).

وقال(عليه السلام): «لا تستبد برأيك فمن استبد برأيه هلك»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يطمعن القليل التجربة المعجب برأيه في رئاسة»(6).

ص: 47


1- الكافي 2: 455.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 798.
3- المحاسن 2: 601.
4- بحار الأنوار 71: 187.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 752.
6- بحار الأنوار: 72: 98.

التجربة وسلوك الخبراء

الحياة مدرسة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): ­«الأيام تُفيد التجارب»(1).

الأيام صفحات بيضاء، يُكتب فيها الأحداث والوقائع التي تمرّ على الإنسان، ولكن بعضها حلو وبعضها مرّ، وهي ليست خارجة عن يده، بل للإنسان دور فاعل فيها حسب ما خلقه اللّه مختاراً وجعل الكون في دائرة قانون الأسباب والمسببات. فيضع الإنسان تفاعلاته الداخلية موضع التنفيذ على أرض الواقع، كما أن للمؤثرات الكونية الأخرى وباقي الموجودات تأثيراً فيها.

فاليوم يتألف من الزمن الذي يقدّر ب- (24 ساعة)، وكل حالة فيه - جزئية كانت أو كلية - حدث بسيط أو ضخم حسب أهميته في مسير الإنسانية. ومجموع هذه الأيام يشكل المرحلة الزمنية التأريخية، وتشكل أحداثه أحداث التاريخ. فالأيام عبارة عن مدرسة ينمو فيها الإنسان ويتكامل، فكل يوم منها يمر عليه يستفيد فيه من الأحداث التي يخوضها، فيأخذ من كل واقعة علماً مجرباً، ومن كل حادثة درساً متقناً. وهذا له تأثير في رفع مستوى الإنسان الفكري والعملي، فيستطيع أن يملأ فراغ يوم جديد بأفضل ما يكون، وبأقل الأخطاء بالنسبة إلى ما سبق، بحيث ينعكس ذلك على مجتمعه وعلى الموجودات الأخرى. وهذا كله

ص: 48


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 31.

يعود لتكامل الإنسان ورقيّه نتيجة إيمانه والعلوم والدروس التي حصل عليها بالتجربة من أحداث الأيام الماضية والمعاشة. فمعيشة الأحداث أو التجربة هي واحدة من العوامل التي تؤدي للتكامل البشري، وهي وسيلة لاستثمار الفطنة والذكاء، وإنضاج العقل الطبيعي، فكلما تمر الأيام تزداد التجارب، والفوز لمن يستغل هذه التجارب من أجل حياة أفضل، حيث قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «التجارب لا تنقضي، والعاقل منها في زيادة»(1).

من هو المغبون والمحروم؟

روى الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام) عن أبيه(عليه السلام) قال: «بينا أمير المؤمنين(عليه السلام) ذات يومٍ جالس مع أصحابه يعبيهم(2) للحرب، إذا أتاه شيخ عليه شحبة(3)

السفر، فقال: أين أمير المؤمنين؟

فقيل: هو ذا، فسلّم عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إني أتيتك من ناحية الشام، وأنا شيخ كبير، قد سمعت فيك من الفضل ما لا أحصي، وإني أظنك ستغتال، فعلمني مما علمك اللّه.

قال: نعم يا شيخ، من اعتدل يوماه فهو مغبون.

ومن كانت الدنيا همته اشتدت حسرته عند فراقها.

ومن كان غده شر يوميه فهو محروم.

ومن لم يبال بما رزئ من آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك.

ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى.

ص: 49


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.
2- أي: يهيئهم للحرب بالتعليم أو دفع الزاد والراحلة وأمثالهما.
3- الشاحب: المتغير اللون والجسم من مرض أو سفر أو نحوهما.

ومن كان في نقصٍ فالموت خير له.

يا شيخ، ارض للناس ما ترضى لنفسك، وائت إلى الناس ما تحب أن يؤتى إليك.

ثم أقبل(عليه السلام) على أصحابه فقال: أيها الناس، أما ترون إلى أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوالٍ شتى، فبين صريعٍ يتلوى وبين عائدٍ ومعودٍ وآخر بنفسه يجود وآخر لا يرجى وآخر مسجى، وطالب الدنيا والموت يطلبه وغافلٍ وليس بمغفولٍ عنه، وعلى أثر الماضي يصير الباقي...

ثم أقبل(عليه السلام) على الشيخ فقال: يا شيخ، إن اللّه عزّ وجلّ خلق خلقاً ضيق الدنيا عليهم نظراً لهم، فزهّدهم فيها وفي حطامها، فرغبوا في دار السلام التي دعاهم إليها، وصبروا على ضيق المعيشة وصبروا على المكروه، واشتاقوا إلى ما عند اللّه عزّ وجلّ من الكرامة، فبذلوا أنفسهم ابتغاء رضوان اللّه، وكانت خاتمة أعمالهم الشهادة، فلقوا اللّه عزّ وجلّ وهو عنهم راضٍ، وعلموا أن الموت سبيل من مضى ومن بقي، فتزودوا لآخرتهم غير الذهب والفضة، ولبسوا الخشن وصبروا على البلوى، وقدموا الفضل وأحبوا في اللّه وأبغضوا في اللّه عزّ وجلّ، أولئك المصابيح وأهل النعيم في الآخرة والسلام.

قال الشيخ: فأين أذهب وأدع الجنة وأنا أراها وأرى أهلها معك يا أمير المؤمنين؟! جهزني بقوةٍ أتقوى بها على عدوك.

فأعطاه أمير المؤمنين(عليه السلام) سلاحاً وحمله، وكان في الحرب بين يدي أمير المؤمنين(عليه السلام) يضرب قدماً وأمير المؤمنين(عليه السلام) يعجب مما يصنع، فلما اشتد الحرب أقدم فرسه حتى قُتل رحمة اللّه عليه، وأتبعه رجل من أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) فوجده صريعاً ووجد دابته ووجد سيفه في ذراعه، فلما انقضت الحرب أتى أمير المؤمنين(عليه السلام) بدابته وسلاحه، وصلى عليه أمير المؤمنين(عليه السلام)

ص: 50

وقال: هذا واللّه السعيدحقاً، فترحموا على أخيكم»(1).

الاستزادة من التجارب

مما يلزم على الإنسان إذا أراد النجاح في الحياة: الاستزادة من التجارب والعبر، والاستفادة من التي تمر عليه منها، وإلّا فهو مغبون؛ كما ورد ذلك في العديد من الأحاديث الشريفة عن الأئمة الطاهرين^، فالذي يستوي يوماه هو إنسان لم يستزد من التجارب، فبقي في مكانه على النقص الذي كان فيه، ويتصرف على أساسه لتبقى نفس الأخطاء والعثرات في حياته. وهذا الإنسان يكون مغبوناً بتعبير المعصوم(عليه السلام)؛ لأنه يترك ما ينفعه في هذه الحياة الدنيا، ويأخذ بالذي يضره، ومن المعلوم أن هذه الدنيا هي مزرعة الآخرة، وأنها دار ممر وليست بدار مستقر، فإذا لم يزرع الإنسان فيها ما ينفعه للدار الأخرى والآخرة فإنه يكون من الخاسرين.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) يوماً وقد أحدق به الناس: «أحذّركم الدنيا، فإنها منزل قُلعة وليست بدار نُجعة، هانت على ربها فخلط شرها بخيرها، وحلوها بمرها، لم يصفُها لأوليائه، ولم يضَنَّ(2). بها على أعدائه، وهي دار ممر لا دار مستقر، والناس فيها رجلان: رجل باع نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها، إن اعذوذب منها جانب فحلا أمرّ منها جانب فأوبى، أولها عناء، وآخرها فناء، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، من ساعاها فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن أبصرها بصَّرته، ومن أبصر إليها أعمته، فالإنسان فيها غرض المنايا، مع كل جرعة شرق، ومع كل أكلة غصص، لا ينال منها نعمة إلّا بفراق أخرى»(3).

ص: 51


1- من لا يحضره الفقيه 4: 381.
2- ضنّ بالشيء: بخل به.
3- كشف الغمة 1: 172.

وقال(عليه السلام): «إنما الدنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختُبرتم ولغيرها خُلقتم، إن المرء إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟ للّه آباؤكم فقدموا بعضاً يكن لكم قرضاً، ولا تُخلفوا كُلاً فيكون فرضاً عليكم»(1).

نعم، إذا لم يعتبر الإنسان من هذه الدنيا ولم يستزد من تجاربها، فإنه يبدأ العد التنازلي في حياته لفقدان الكمالات يوماً بعد يوم. وهذا ناتج من كثرة الأخطاء والإخفاقات والغفلة المتكررة، وهذه ليست من صفات المؤمن، فإن: «المؤمن حسن المعونة، خفيف المئونة، جيد التدبير لمعيشته، لا يلسع من جحر مرتين»(2).

فحالة اللا استفادة من التجارب، لا تعطي إلّا تخريباً وشراً، وبذلك يستحق التأخر والبعد عن رحمة اللّه، كما تبيّنه الأحاديث الشريفة.

إن الإنسان الفاقد للكمالات بشتى صورها، يكون جزءً خاملاً في المجتمع، لا يعطي نتاجاً، وهذا أمر طبيعي؛ فكل إناء بالذي فيه ينضح، كما قيل، وحيث إن إناءه في تناقص فقابليته للعطاء ضعيفة جداً وبمرور الوقت يفقدها؛ لذلك فهو يكون ممن قيل فيهم: (إن حضر لا يُعد، وإن غاب لا يفتقد) وربما أصبح عامل شر وتخريب وفساد، نعوذ باللّه تعالى، كما كان المنافقون وأعداء أهل البيت^.

وهنا يقول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان غده شراً فهو ملعون، ومن لم يتفقد النقصان في عمله كان النقصان في عقله، ومن كان نقصان في عمله وعقله فالموت خير له من حياته»(3).

ص: 52


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 203 من كلام له(عليه السلام) في التزهيد من الدنيا والترغيب في الآخرة.
2- الكافي 2: 241.
3- إرشاد القلوب 1: 87.

نعم أصل وجود الإنسان وحياته للبناء وتعمير الدارين وسلوك طريق التكامل وعبادة اللّه عزّ وجلّ. أما الإنسان الذي لا يستفيد من التجارب وأخذ بالنقصان يوماً بعد يوم فالموت خير له، لكن هل بالموت تنتهي مأساة هذا الشخص؟

بالطبع لا؛ لأن الآخرة دار ثواب وعقاب، لا دار عمل واكتساب. وهذا يعني أن كل ما تحصّل عليه وزرعه في هذه الدنيا هو كل ما يملكه في الآخرة. وهذا النوع من البشر الخاسر يذهب للآخرة وليس له شيء يستحق به الثواب، بما ضيّع في الحياة الدنيا، فينظر إلى مقاعد الناس المؤمنين الذين كان يعرفهم في الدنيا، فيتحسر، ويشعر بخيبته وحقيقة ما فرّط فيه، فذلك اليوم يكون عليه يوم تغابن وحسرة، كما عبّر عنه القرآن الكريم، بقوله عزّ وجلّ: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}(1).

وقد ورد في التفسير: أن التغابن تفاعل من الغبن، وهو أخذ شر وترك خير، أو أخذ خير وترك شر، فالمؤمن ترك حظه من الدنيا وأخذ حظه من الآخرة، فترك ما هو شر له، وأخذ ما هو خير له فكان غابناً، والكافر ترك حظه من الآخرة وأخذ حظه من الدنيا فترك الخير وأخذ الشر فكان مغبوناً، فيظهر من ذلك اليوم الغابن والمغبون(2).

لذا لابد للإنسان أن ينتبه للتجارب والعبر، ويستفيد منها في حياته المادية والمعنوية، ويستغل كل ما في هذه الدنيا لبناء ذاته بالوسائل المشروعة، حتى يحسن من أفعاله كمّاً وكيفاً، ليسعد في الدنيا والآخرة، ويتقي يوم الغبن على الكافرين، ليكون رابحاً غير خاسر كما ورد في وصف المؤمنين.

ص: 53


1- سورة التغابن، الآية: 9.
2- تفسير مجمع البيان 10: 31.

فكل ما يحصل عليه الإنسان ليسد نقصه به ينعكس على آخرته، وتكون مرآته الثانية هي الكمالات والطاعات والمثوبات التي يحصل بسببها على بطاقة الدخول للجنة بفضل اللّه تعالى.

كان علي بن الحسين(عليهما السلام) يقول: «.. وإن استطعت أن تكون اليوم خيراً منك أمس، وغداً خيراً منك اليوم، فافعل»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما من يومٍ إلا وهو يقول: إني يوم جديد، وإن على كل ما يفعل فيَّ شهيد، ولو قد غربت شمسي لم أرجع إليكم أبداً»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما من يوم يأتي على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد، فقُل فيّ خيراً، واعمل فيّ خيراً، أشهد لك به يوم القيامة، فإنك لن تراني بعدها أبداً»(3).

وكان علي(عليه السلام) إذا أمسى قال: «مرحباً بالليل الجديد والكاتب الشهيد، اكتبا بسم اللّه ثم يذكر اللّه عزّ وجلّ»(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال في ذم الدنيا: «إنما الدنيا ثلاثة أيامٍ: يوم مضى بما فيه فليس بعائدٍ، ويوم أنت فيه يحق عليك اغتنامه، ويوم لا تدري من أهله ولعلّك راحل فيه، وأما أمس فحكيم مؤدب، وأما اليوم فصديق مودع، وأما غداً فإنما في يدك منه الأمل، فإن يكن أمس سبقك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته، وإن يكن يومك هذا آنسك بقدومه فقد كان طويل الغيبة عنك وهو سريع الرحلة عنك، فتزود منه وأحسن وداعه، خذ بالثقة في العمل، وإياك والاغترار بالأمل، ولا تُدخل

ص: 54


1- الأمالي للشيخ للمفيد: 184.
2- مستدرك الوسائل12: 148.
3- الكافي 2: 523.
4- الكافي 2: 523.

عليك اليوم همّ غدٍ يكفي اليومُ همَّه، وغداً إذا أحل لتشغله إنك إن حملت على اليوم هم غدٍ زدت في حزنك وتعبك، وتكلفت أن تجمع في يومك ما يكفيك أياماً، فعظم الحزن وزاد الشغل واشتد التعب وضعف العمل للأمل، ولو خلَّيت قلبك من الأمل تجد ذلك العمل، والأمل منك في اليوم قد ضرك في وجهين: سوّفت به في العمل، وزدت في الهم والحزن؛ أ ولا ترى أن الدنيا ساعة بين ساعتين: ساعةٌ مضت، وساعةٌ بقيت، وساعةٌ أنت فيها، فأما الماضية والباقية فلست تجد لرخائهما لذةً، ولا لشدتهما ألماً، فأنزل الساعة الماضية والساعة التي أنت فيها منزلة الضيفين نزلا بك، فظعن الراحل عنك بذمه إياك، وحل النازل بك بالتجربة لك، فإحسانك إلى الثاوي يمحو إساءتك إلى الماضي، فأدرك ما أضعت باغتنامك لما استقبلت، واحذر أن تجتمع عليك شهادتهما فيوبقاك، ولو أن مقبوراً من الأموات قيل له: هذه الدنيا من أولها إلى آخرها، تجعلها لولدك الذين لم يكن لك همّ غيرهم، أو يوم نرده إليك فتعمل فيه لنفسك، لاختار يوماً يستعتب فيه من سيئ ما أسلف على جميع الدنيا يورثها لولده ومن خلَّفه، فما يمنعك أيها المفرِّط المسوِّف أن تعمل على مهلٍ قبل حلول الأجل؟!

وما يجعل المقبور أشد تعظيماً لما في يديك منك؟!

ألا تسعى في تحرير رقبتك وفكاك رقِّك ووقاء نفسك؟!»(1).

وقال(عليه السلام): «العاقل من كان يومه خيراً من أمسه وعَقَل الذم عن نفسه»(2).

وقال(عليه السلام): «إن العاقل من نظر في يومه لغده، وسعى في فكاك نفسه، وعمل لما لابد منه، ولا محيص له عنه»(3).

ص: 55


1- التحصين: 16.
2- مستدرك الوسائل 12: 150.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 235.

ومن كلامه(عليه السلام) عند تلاوته قوله تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ}(1) «فلو مثَّلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم وفرغوا لمحاسبة أنفسهم على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، اُمروا بها فقصروا عنها، أو نُهوا عنها ففرطوا فيها، وحملوا ثقل أوزارهم ظهورهم فضعفوا عن الاستقلال بها، فنشجوا نشيجاً وتجاوبوا نحيباً، يعجّون إلى ربهم من مقام ندمٍ واعترافٍ، لرأيت أعلام هدًى ومصابيح دجًى، قد حفت بهم الملائكة وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد المكرمات - إلى أن قال(عليه السلام) - فحاسب نفسك لنفسك، فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك»(2).

وقال(عليه السلام): «لا خير في العيش إلا لرجلين: رجلٍ يزداد في كل يومٍ خيراً، ورجلٍ يتدارك منيَّته بالتوبة»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ملعون مغبون من غبن عمره يوماً بعد يومٍ، ومغبوط محسود من كان يومه الذي هو فيه خيراً من أمسه الذي ارتحل عنه»(4).

إلى غيرها من الروايات الشريفة.

ما وراء التجربة

التجربة هي المعلومات والمعارف التي يحصل عليها الإنسان من خلال معايشة الأحداث التي تمر عليه بتعاقب الأيام، وتكون إما تجارب حسنة أو سيئة،

ص: 56


1- سورة النور، الآية: 37.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 222 من كلام له(عليه السلام) عند تلاوته قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْأصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} سورة النور، الآية: 36-37.
3- الكافي 2: 457.
4- مستدرك الوسائل 12: 148.

ولها دور مؤثر في حياة الشخص وتأمين سعادته، وهذا ما يُقرّه الدين والعلم.

فالتجارب ظاهرة إيجابية يمكن للفرد أن يحسّن بها من أداء أعماله، ويقلل من أخطائه، وذلك بملاحظة التجارب السابقة التي مر بها، مما يوفر له السعادة المنشودة في حياته بالنجاحات المتكررة في تلك الأعمال، فالإنسان خلقه اللّه تعالى وهو قادر على التطور، ليرتفع بغرائزه ويبلغ بها الكمالات العُلى، بالتعليم والتعويد، وذلك بالاستفادة من التجارب التي يمر بها، أو من تجارب الآخرين.

فإن التجارب قد تكون شخصية، وقد تكون غيرية، وفي الحديث الشريف: «العاقل من اتعظ بغيره»(1).

وعن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «شكا رجل إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحرفة(2).

فقال: انظر بيوعاً فاشترها ثم بعها، فما ربحت فيه فالزمه»(3).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أن رجلاً سأله فقال: يا رسول اللّه، إني لست أتوجه في شي ء إلّا حورفت فيه؟ فقال: «انظر شيئا قد أصبت فيه مرة فالزمه». قال: القَرَظ(4).

قال: «فالزم القرظ»(5).

وعن بشير النبال، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «إذا رزقت في شي ء فالزمه»(6).

وعن يحيى الحذاء، قال: قلت لأبي الحسن(عليه السلام): ربما اشتريت الشي ء بحضرة أبي فأرى منه ما أغتم به؟ فقال: «تَنَكَّبْه ولا تشتر بحضرته، فإذا كان لك على رجل

ص: 57


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 69.
2- الحرفة بالضم: الحرمان كالحرفة بالكسر، والمحارف بفتح الراء: المحروم الذي إذا طلب لا يرزق، أو يكون لا يسعى في الكسب. مجمع البحرين 5: 37 مادة (حرف).
3- الكافي 5: 168.
4- القَرَظ بالتحريك: ورق السلم يدبغ به الأديم. مجمع البحرين 4: 289 مادة (قرظ).
5- دعائم الإسلام 2: 15.
6- الكافي 5: 168.

حق فقل له فليكتب: وكتب فلان بن فلان بخطه وأشهد اللّه على نفسه وكفى باللّه شهيداً، فإنه يقضى في حياته أو بعد وفاته»(1).

وعن السكوني، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «إذا نظر الرجل في تجارة فلم ير فيها شيئاً فليتحول إلى غيرها»(2).

وعن الوليد بن صبيح، قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «من الناس من رزقه في التجارة، ومنهم من رزقه في السيف، ومنهم من رزقه في لسانه»(3).

وكل هذه من مصاديق التجارب وسلوك الخبراء.

ومن هنا جاءت أهمية الاستفادة من التجارب لضمان حياة أفضل، ومواصلة السير نحو التكامل البشري.

كما أن التجربة تعتبر وسيلة ناجحة لاستثمار الفطنة والذكاء، فهي تساعد على إنضاج العقل الطبيعي، وظهور الكثير من الاستعدادات الإنسانية إلى حيّز الفعل، وبخزن المعلومات التي يحصل عليها الشخص المجرّب ومطابقتها للواقع الصحيح تصبح لديه عقلية ثانية وهي العقلية التجريبية. وفي الحديث: «العقل عقلان عقل الطبع وعقل التجربة»(4).

عقل الطبع وعقل التجربة

قيل: إن العقل هو ذلك النور الذي يجده العاقل في نفسه بعد أن لم يكن، وحين وجده شرع بمعرفة الحَسَن والقبيح والخير والشر..، ولكن هذا قول تقريبي

ص: 58


1- الكافي 5: 318.
2- الكافي 5: 168.
3- الكافي 5: 305.
4- بحار الأنوار 75: 6.

في تعريف العقل؛ لأن علوم البشر بما هم بشر محدودة بمقدار المكتسبات؛ لذلك لا يستطيع الإنسان العادي معرفة حقائق الأشياء معرفة تامة.

وخير ما قيل في هذا المورد ما جاء عن الأئمة الأطهار^، حيث عرّفوا لنا العقل جملة وتفصيلاً، فعن الإمام الصادق(عليه السلام)، عند ما سُئل عن العقل؟ قال(عليه السلام): «ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان»(1).

وفي هذا الحديث إشارة إلى تفاعل القوى داخل الإنسان: (العقل والفطرة وتأثيرهما على الجوانح والجوارح) لتعطي هذه النتيجة المحمودة. فالعقول تستعمل ما فُطرت عليه، فتسلك ما تألفه وتعرفه بحسب طبيعتها، وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات.

والذي فُطرت عليه العقول هو أن تستعمل مقدمات يقينية بالوجدان، لاستنتاج المعلومات التصديقية الواقعية. وهذه هي العقول الفطرية، أو العقول الطبيعية، كما عبر عنها مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في حديثه: «العقل عقلان عقل الطبع وعقل التجربة، وكلاهما يؤدي إلى المنفعة»(2).

والعقل الطبيعي هو موطن الكليات، كالحُسن والقبح العقليين، والخير والشر، وعدم اجتماع النقيضين، وما كان في عدادها من الأحكام العقلية، ولا يستطيع أن يحكم بالجزئيات إلّا بعد أن يمرّن ويطوّر بزيادة المعلومات والتجارب. وعقل التجربة ما يرتبط بالجزئيات والمصاديق.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل غريزة تزيد بالعلم والتجارب»(3).

ص: 59


1- الكافي 1: 11.
2- بحار الأنوار 75: 6.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 91.

وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الإنسان يولد وهو لا يملك سوى بعض العلم الذي منحه اللّه تعالى، ثم عن طريق الحس يبدأ بالتعلم، فيحصل لديه علم متحصل ومكتسب، عن طريق الفكر والنظر، فيبدأ الإنسان بخزن المعلومات والتجارب، ويحكم بصحة مطابقتها للواقع أم لا، وهذه المرحلة تعني أن الإنسان امتلك العقل التجريبي الذي أشار إليه الحديث الشريف.

ونتيجة العقل التجريبي والطبيعي واحدة، وهي منفعة النفس الإنسانية. فالطبيعي يرشد النفس للحُسن والقبح، ويرشدها لمعرفة الحقيقة الكبرى لخالق هذا الكون، وهو اللّه جلّ وعلا، ويحكم بضرورة عبادته. وهذا يفهم من حديث الإمام الصادق(عليه السلام) حين قال: «ما عُبد به الرحمن»، وبيّن النتيجة المترتبة عليه، وهي دخول الجنة.

وبالعقل التجريبي نستطيع معرفة أسباب الحوادث، وتشخيص نتائجها، فنختار بناءً على ذلك الموقف المصيب الحسن، الذي ينسجم وفطرة الإنسان انسجاماً تاماً. وعند ما ينسجم العقل والفطرة يتجه الإنسان والمجتمع نحو التصاعد والتقدم. وهو أمر نافع للنفس والمجتمع أيضاً.

اختلاف التجارب

إن التجارب الإنسانية مختلفة، فهي لا تأتي عن طريق المؤثرات الخارجية والآثار الحسيّة المتفرقة فقط، بل إن التجربة مؤلفة من مجموع التغييرات التي يوجدها المحيط الخارجي وتؤثر في أعمالنا، ومجموع التغيرات التي تولدها أعمالنا في المحيط الخارجي، إلى غير ذلك من الأسباب. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى شيء من التفصيل:

إن لكل حادثة ظروفاً معينة تحيط بها، إما خارجة عن يد الإنسان واختياره

ص: 60

بحيث تجعله على أن يتصرف وفقها، وهي تختلف من تجربة إلى أخرى، أو تكون بيد المجرّب نفسه وتكون باختياره، وهي تختلف أيضاً من مجرّب إلى آخر.

فمثال الظروف المختلفة من المجموعة الأولى تلك العناصر والظروف السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدينية أو العلمانية أو غيرها... الخارجة عن اختياره. وهي قد تكون مفردة أو مزدوجة من سياسية واقتصادية مثلاً، أو تكون مجتمعة كلها، إلّا الحالة العلمانية والدينية فإنهما لا تجتمعان.

وقد تكون التجربة في جوّ متشنج فيقتضي التقية وما شاكل، أو يكون غير متشنج فيقتضي الصراحة. كذلك ربما يختلف وقت التجربة وزمانها صيفاً أو شتاءً. في زمان فرعون أو في زمان صدام، وهكذا.

وكذلك نوعية المشتركين في التجربة، كالمميزات بين الشعوب وما تحملها من صفات وآثار تاريخية خارجة عن سلطة المجرّب.

أما المجموعة الثانية من العناصر، فمثالها ما يحمله الإنسان في داخله من فكر وما يختاره من أفعال، فهي إما أن تكون إلهياً توحيدياً إسلامياً، وقد تكون شيطانياً إلحادياً، فالإنسان المؤمن تكون تجربته على أسس ومبتنيات غير التي يحملها صاحب الفكر الوثني المشرك، كالإيمان والصبر والحلم، فالإيمان يجعل أقوال الإنسان وأفعاله في هذه الحياة وفقاً للأوامر والنواهي الإلهية.

فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في خصال المؤمن الصالح: «إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا، ولا تعرفوا حتى تصدقوا، ولا تصدقوا حتى تسلموا أبواباً أربعةً، لا يصلح أولها إلّا بآخرها، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيهاً بعيداً، إن اللّه تبارك وتعالى لا يقبل إلّا العمل الصالح، ولا يقبل اللّه إلّا الوفاء بالشروط والعهود، فمن وفى للّه عزّ وجلّ بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل ما وعده، إن اللّه تبارك وتعالى أخبر العباد

ص: 61

بطرق الهدى وشرع لهم فيها المنار، وأخبرهم كيف يسلكون، فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ}(1) وقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(2) فمن اتقى اللّه فيما أمره لقي اللّه مؤمناً بما جاء به محمدٌ(صلی اللّه عليه وآله وسلم). هيهات هيهات، فات قومٌ وماتوا قبل أن يهتدوا، وظنوا أنهم آمنوا وأشركوا من حيث لا يعلمون، إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى، ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللّه طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما أنزل من عند اللّه عزّ وجلّ: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ}(3) والتمسوا البيوت التي أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَٰرُ}(4) إن اللّه قد استخلص الرسل لأمره، ثم استخلصهم مصدقين بذلك في نُذُره، فقال: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}(5) تاه من جهل واهتدى من أبصر وعقل، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(6) وكيف يهتدي من لم يبصر وكيف يبصر من لم يتدبر؟!

اتبعوا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته^، وأقروا بما نزل من عند اللّه، واتبعوا آثار الهدى، فإنهم علامات الأمانة والتقى، واعلموا أنه لو أنكر رجلٌ عيسى ابن

ص: 62


1- سورة طه، الآية: 82.
2- سورة المائدة، الآية: 27.
3- سورة الأعراف، الآية: 31
4- سورة النور، الآية: 37.
5- سورة فاطر، الآية: 24.
6- سورة الحج، الآية: 46

مريم(عليه السلام) وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن، اقتصوا الطريق بالتماس المنار، والتمسوا من وراء الحجب الآثار تستكملوا أمر دينكم، وتؤمنوا باللّه ربكم»(1).

والمؤمن الصالح بالتأكيد تكون تجاربه نافعة للآخرين، كتجارب الأنبياء والأئمة^ والعلماء والصالحين من البشر.

أما المشرك والملحد والفاسق وما أشبه ممن تكون أفكاره أفكاراً وثنية فسقية مبنية على أساس الإلحاد والمصالح الشخصية والأهواء النفسية والشيطانية، فإن التجارب القائمة على أساس كهذا تكون مضرة بالآخرين، كتجارب الطغاة على مرّ التاريخ وإن تلبس بعضها بلباس الدين.

تجربتان: ناجحة وفاشلة

قال تبارك وتعالى: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ}(2).

إن في قصة النبي يوسف(عليه السلام)، خير مثال للعبرة وللتجربة النافعة، فيوسف(عليه السلام) كان من المؤمنين الموحدين، ومن سلالة النبيين، فإنه ابن النبي يعقوب(عليه السلام)، وكان يتميز بالجمال الخارق، فضرب اللّه في قصته مع زليخا امرأة العزيز مثلاً ومثالاً للعفة والشرف. وخلاصة القصة:

أن اُلقي يوسف(عليه السلام) في البئر، والتقطه بعض المارة السيّارة، وحملوه إلى مصر وباعوه من عزيز مصر، فقال العزيز لزوجته: {أَكْرِمِي مَثْوَىٰهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}(3) وربياه، فلما بلغ أشده هوته امرأة العزيز، وكانت لا تنظر إلى يوسف امرأة

ص: 63


1- الكافي 1: 181.
2- سورة هود، الآية: 120.
3- سورة يوسف، الآية: 21.

إلّا هوته، ولا رجل إلّا أحبه لشدة جماله، فراودته امرأة العزيز عن نفسه عدة مرات وكان يمتنع أشد الأمتناع، ولكن الشيطان ما يزال يوسوس في صدر امرأة العزيز ويزين لها الفاحشة، وفي المرة الأخيرة قامت وألقت ملاءة على صنم لها في الغرفة، فقال لها يوسف(عليه السلام): ما تعملين؟

قالت: أُلقي على هذا الصنم ثوباً لكي لا يرانا، فإني استحي منه.

فقال يوسف(عليه السلام): أنت تستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر، ولا أستحي أنا من ربي؟! فوثب وَعَدَا، وَعَدَت خلفه، وأدركهما العزيز على هذه الحالة، فقالت امرأة العزيز: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا}(1)، فقال يوسف(عليه السلام) للعزيز: {هِيَ رَٰوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي}(2) فألهم اللّه يوسف(عليه السلام) أن قال للملك: سلْ هذا الصبي في المهد، فإنه يشهد أنها راودتني عن نفسي. فسأل العزيز الصبي، فأنطقه اللّه في المهد ليوسف(عليه السلام) حتى قال: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَٰذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّٰدِقِينَ}(3)، فلما رأى العزيز قميص يوسف(عليه السلام) تخرق من دبر قال لامرأته: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}(4)(5).

وهكذا نجا النبي يوسف(عليه السلام) من هذه المحنة، فكانت تجربته ناجحة، وذلك لشدة إيمانه باللّه تعالى الذي أنقذه من الموت في البئر وهيّأ له أناساً يأخذونه ويوضع موضع التقدير عند العزيز بحيث يأتمنه على عرضه وملكه. وبفضل هذا

ص: 64


1- سورة يوسف، الآية: 25.
2- سورة يوسف، الآية: 26.
3- سورة يوسف، الآية: 26-27.
4- سورة يوسف، الآية: 28.
5- انظر: تفسير القمي 1: 342.

الإيمان استطاع النجاة من الرذيلة، ومن ثم الحظوة بموضع التقدير عند الملك(1).

وفي هذه القصة تجربتان، ناجحة وهي تجربة يوسف(عليه السلام) حيث يلزم على كل شاب أن يتعلم الإيمان منه، وتجربة فاشلة وهي تجربة امرأة العزيز حيث أرادت المعصية وفشلت دنيوياً وأخروياً.

إن القرآن الكريم يحث الإنسان المؤمن على التدبر في قصص الكتاب الحكيم للاستفادة من التجارب القرآنية، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(2).

وفي قصة يوسف(عليه السلام) تنبيه لكل إنسان جميل أن لا يغتر بجماله، ولا يطلق العنان لغريزته الجنسية، بل يحكّم عقله على شهوته، ويفكر في عواقب الأمور، كذلك تعطينا الآيات الكريمة درساً في الصبر على الابتلاء الإلهي في التكليف والامتثال لقضائه وحكمه.

وفي هذه القصة أيضاً جانب آخر، وهو الفشل في الاختبار للشهوة الجنسية، والاغترار بالجمال الذي كانت تحمله زليخا. وهي مثال للتجربة الفاشلة والضارة؛ فيوسف(عليه السلام) بعفته وطهارته وصبره على الابتلاء اجتباه ربه للنبوة، وملّكه، ومنّ عليه وعلى يعقوب(عليهما السلام) برؤية أحدهما للآخر.

وهكذا كانت النتيجة والعاقبة الحسنة ليوسف(عليه السلام) كما في قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(3).

ص: 65


1- للمزيد راجع تفسير تقريب القرآن 2: 673.
2- سورة يوسف، الآية: 111.
3- سورة يوسف، الآية: 56.

هذا ما يختص بالدنيا، أما في الآخرة؛ فقد جاء في قوله تعالى: {وَلَأَجْرُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}(1).

ولم ينكر يوسف(عليه السلام) على اللّه تعالى فضله وتعليمه والعناية به إذ قال: {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّٰلِحِينَ}(2). ثم يتوجه يوسف(عليه السلام) الى اللّه سبحانه، يشكره ما أنعم عليه، ويعدّد لطفه به، ويسأله حسن الخاتمة، قائلاً يا {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} أي: بعض ملك الدنيا وسلطانها، {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} تفسير المنامات، بما تؤول إليه، أنت ربي {فَاطِرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} خالقها ومبدعها، فلك الخلق ومنك الأمر والفضل {أَنتَ} دون سواك {وَلِيِّ} الذي يتولى كل شؤوني، كما تولى خلق السماوات والأرض {فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ} تتولى في الدنيا إصلاح حالي، وفي الآخرة سعادتي ونجاتي {تَوَفَّنِي} يارب، أي خذ روحي - وقت موتي - {مُسْلِمًا} لك في جميع الأمور {وَأَلْحِقْنِي} إذا توفيتني {بِالصَّٰلِحِينَ} الذين هم الأنبياء والأئمة والشهداء، ومن في زمرتهم، وهنا تنتهي قصة يوسف(عليه السلام) وقد كان فيها من العبر والعظات والتجارب الشيء الكثير، وهي من أبلغ الدروس لمن أراد أن يسلك سبل الحياة بكل طهارة ونظافة، ففيها التنبيه على الطهارة وعاقبتها، واللوث وعاقبته(3).

المقدمات والنتائج

إن لكل تجربة مقدمات تؤثر على نتيجة العمل، ولكن النتيجة تابعة لأخس

ص: 66


1- سورة يوسف، الآية: 57.
2- سورة يوسف، الآية: 101.
3- تفسير تقريب القرآن 3: 45.

المقدمات على رأي المناطقة، وفي القرآن الكريم إشارة إلى تأثير المقدماتوذلك في الآيات الشريفة التي تتحدث عن السنن الكونية، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1)، فالآية واضحة الدلالة على أن النتيجة، وهي تغيير ما بالقوم، متوقفة على المقدمة، وهي تغيير ما بالأنفس، وكيف ما يكون التغيير تكون النتيجة، فإن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} أي الحالة التي هي نازلة بقوم، من عزّ أو ذل، نعمة أو نقمة، رفعة أو انحطاط، صحة أو مرض، إلى غيرها {حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} أي: يغيروا الحالة التي هم عليها بأنفسهم، فإذا جدّوا واجتهدوا في العمل، أورثهم العز والسيادة، وإذا كسلوا أورثهم الانحطاط والذلة، وإذا تناولوا المحرمات أورثهم الأمراض، وإذا اتقوا أورثهم الصحة، وهكذا، فإن كل حالة فردية أو اجتماعية، فإنما هي وليدة عمل الفرد والجماعة(2).

كذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(3)، قوله تعالى: {ءَامَنُواْ} أي باللّه تعالى وبأنبيائه {وَاتَّقَوْاْ} معاصيه، وعملوا الصالحات {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} البركات هي: الخيرات النامية، وفتح الخير من السماء بكثرة الأمطار وطيب الهواء، وفتحه من الأرض بإخراج النبات والثمار وتفجّر العيون، إلى غيرهما من الخيرات المادية والمعنوية كاستجابة الدعاء ونحوها، وهذا إلى جنب كونه معنوياً بلطفه سبحانه، كذلك يكون بالأسباب الظاهرة، فإن الإيمان والتقوى يوجبان سيادة

ص: 67


1- سورة الرعد، الآية: 11.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 66.
3- سورة الأعراف، الآية: 96.

مناهج اللّه تعالى، وهي توجب الأخوة والتعاون مما يسببان ازدهار الحياة وتعميمالرفاه والأمن، كما أن الكفر والعصيان سببان لعكس ذلك {وَلَٰكِن كَذَّبُواْ} بالرسل ولم يؤمنوا {فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي بسبب كسبهم المعاصي والآثام(1).

وهذه الآية المباركة تبين علاقة النتيجة وهي فتح البركات من السماء والأرض، بالمقدمة التي هي الإيمان. كذلك تكون التجربة فإن النتائج فيها تبتني على المقدمات، وهذه المقدمات هي تأثير الشخص المجرّب في مجموع العوامل المؤثرة في التجربة، فيصيّرها وفق المباني الاعتقادية لدى الشخص، تلك المباني السليمة التي تعطي نتائج صحيحة لذلك الموقف، كتغيير مصدر التأثير في الحدث إلى مصدر آخر صحيح، أو تحويل الموقف من حالة الشدة إلى اللين، كما فعل الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تجربته الرائعة عند فتح مكة، حيث استخدم اللاعنف مع المشركين، الذين ظنوا أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سوف يقتلهم ويبيح أموالهم، كما فعلوا هم بالمسلمين ففاجأهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: «اذهبوا؛ فأنتم الطلقاء!»(2)، وبذلك غيّر الموقف من الشدة المتوقعة والمستحقة للمشركين، الأعداء الذين طالما آذوه وطاردوه وشردوه إلى اللين والرحمة والرأفة، على العكس مما اقترفوه بحقه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبحق أصحابه من المسلمين.

فأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يرجع سعد بن عبادة، المصدر الباعث للرعب والخوف في نفوس الناس، الذي كان حاملاً للراية يوم الفتح وهو ينادي: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة إلى مصدر باعث للاطمئنان، حيث قال رسول

ص: 68


1- تفسير تقريب القرآن 2: 218.
2- الكافي 3: 513.

اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام): «أدرك سعداً فخذ الراية منه، وأدخلها إدخالاً رفيقاً». فأخذها علي(عليه السلام) وأدخلها كما أمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منادياً: «اليوم يوم المرحمة اليوم تُصانالحرمة»(1)، وفي هذين الموقفين تكتمل الصورة للتجربة الصحيحة، ونرى كيف أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استطاع أن يضع المقدمات الصحيحة، ويؤثر في العوامل الخارجية ويغيرها وفق مبناه الفكري الاعتقادي الذي أرسله به ربّ العزة، حيث قال في كتابه العزيز: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(2). لتأتي النتائج الصائبة بدخول الناس أفواجاً في الإسلام، وهو هدف الرسول العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

بين التجربة والمجازفة

ومن هنا يظهر أن التجربة الناجحة مبتنية على مقدمات ناجحة ومؤثرة... قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير من شاورت ذوو النّهى والعلم وأولو التّجارب والحزم»(3).

أما المجازفة والتهور فلا تبتني على ذلك، وإنما هي مخاطرة بالنفس، والتعامل مع الأحداث بلا ضوابط أو قوانين عقلائية. وهذه الحالة غالباً ما تنتشر في أوساط الشباب، خاصة في بداية تفتّحهم ونموّهم الجسمي والعقلي، حيث إن أعمارهم تتراوح بين السابعة عشر والثامنة عشر، وهي جزء من مرحلة المراهقة التي يمر بها الشباب. ومن سمات هذه المرحلة عدم النضوج الكافي، وتشوش الأفكار، وعدم الإتزان في التصرفات. وهذه تتلاءم مع روح الشباب الراغبة في الأمور المجهولة، لأنها أشياء جديدة تتفق مع أفكارهم. فهم ربما يفضلون المجهول على المعلومات التجريبية، ويتعاملون في كثير من الأحيان

ص: 69


1- إعلام الورى: 109؛ المبسوط للسرخسي 10: 39.
2- سورة الأنبياء، الآية: 107.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 356.

بالعواطف والأحاسيس التي تحكمهم بقوة، بعيداً عن الإتزان والتعقل.

فالإنسان الذي يتعامل بهذه الكيفية مع الأحداث التي تواجهه، أي حسب ماتمليه عليه عواطفه وإحساساته، بالإضافة إلى عدم امتلاكه فكراً واضحاً يتصرف على أساسه، فيخوض الحدث بصفة المغامرة والمجازفة، لا بصفة العقلانية والإتزان ومن دون أي تخطيط مسبق أو تجربة سابقة، فيدخل الحدث وهو فاقد لإمكانية التأثير في المحيط، تكون النتائج معكوسة بخلاف ما يريد.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «رأي الرجل على قدر تجربته»(1).

حيث يستفاد من هذا الحديث الشريف أن الذي لم تمحصه التجارب والمواقف، فإنه لا رأي سديد له، فتتّسم أعماله ومواقفه بطابع المخاطرة والمجازفة، ويكون مثله تماماً كالذي يرمي بنفسه في البحر، وهو لا يعرف السباحة، فهو في كثير من الأحيان يغرق ويموت، إلّا إذا أنجاه اللّه سبحانه فأرسل إليه من يوصله لبر الأمان؛ ولذلك فإن العقل يفرض على الإنسان الذهاب لتحصيل مقدمات السباحة مثلاً، من التمرن والتعلم على فنون السباحة وما شابه من الأساليب والمقدمات التي تساعد الإنسان بلوغ هدفه وتحصيل النتيجة، وأما غير ذلك فهو مجازفة وتهور.

التجربة وأهميتها

في الغرر عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في مدح التجربة وحفظها روايات عديدة، منها:

قال(عليه السلام): «الأمور بالتجربة»(2).

ص: 70


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 388.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 19.

وقال(عليه السلام): «الأمور أشباه»(1).وقال(عليه السلام): «التجارب لا تنقضي والعاقل منها في زيادة»(2).

وقال(عليه السلام): «الأيام تفيد التجارب»(3).

وقال(عليه السلام): «العقل حفظ التجارب»(4).

وقال(عليه السلام): «حفظ التجارب رأس العقل»(5).

وقال(عليه السلام): «الحزم حفظ التجربة»(6).

وقال(عليه السلام): «من حفظ التجارب أصابت أفعاله»(7).

وقال(عليه السلام): «من الحزم حفظ التجربة»(8).

وقال(عليه السلام): «المجرّب أحكم من الطبيب»(9).

وقال(عليه السلام): «رأي الرجل على قدر تجربته»(10).

وقال(عليه السلام): «ليس كل من رمى يصيب»(11).

وقال(عليه السلام): «الظفر بالحزم و الحزم بالتجارب»(12).

ص: 71


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 139.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 31.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 3: 42.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 351.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 53.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 666.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 822.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 64.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 388.
11- غرر الحكم ودرر الكلم: 557.
12- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 444.

وقال(عليه السلام): «التجارب علم مستفاد»(1).وقال(عليه السلام): «التجربة تثمر الاعتبار»(2).

وقال(عليه السلام): «العاقل من وعظته التجارب»(3).

وقال(عليه السلام): «في كل تجربة موعظة»(4).

وقال(عليه السلام): «كفى عظة لذوي الألباب ما جرّبوا»(5).

وقال(عليه السلام): «كفى بالتجارب مؤدّباً»(6).

وقال(عليه السلام): «أملك الناس لسداد الرأي كل مجرّب»(7).

وقال(عليه السلام): «ثمرة التجربة حسن الاختيار»(8).

وقال(عليه السلام): «من قلّت تجربته خدع»(9).

وقال(عليه السلام): «من تجرّب يزدد حزما»(10).

وقال(عليه السلام): «من كثرت تجربته قلّت غرته»(11).

وقال(عليه السلام): «من أحكم التجارب سلم من المعاطب»(12).

ص: 72


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 56.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 59.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 63.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 477.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 521.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 519.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 196.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 327.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 585.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 590.
11- غرر الحكم ودرر الكلم: 593.
12- غرر الحكم ودرر الكلم: 444.

وقال(عليه السلام): «من غني عن التجارب عمي عن العواقب»(1).

الحاجة إلى أصحاب التجارب

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بمجالسة أصحاب التجارب، فإنها تقوّم عليهم بأغلى الغلاء، وتأخذها منهم بأرخص الرخص»(2).

إن هذا الحديث الشريف يبين لنا ضرورة الاستفادة من تجارب الذين حصلوا عليها بالمشقة والعناء، والاتعاظ بها. وهي من صفات العقلاء، حيث قال(عليه السلام) في مورد آخر: «إنما العاقل من وعظته التجارب»(3).

وعادة فإن كبار القوم هم أصحاب التجارب وعلى الإنسان أن يجالسهم ويستفيد منهم.

وربما يقول الشخص: لماذا نحتاج إلى تجارب الكبار؟

إن الجواب عن هذا السؤال يرتبط بمراحل نمو شخصية الإنسان وتغيراته النفسية وغيرها، فالذي يحتاج إلى صاحب الخبرة هو الإنسان القليل الخبرة في هذه المشكلة أو تلك أو جميع المشاكل. وهؤلاء على نوعين؛ أولهما: بعض الشباب الذين ليست لديهم الخبرة بالحياة، والذين يبدأون تجاربهم من الصفر، حيث إن التغيّرات في مرحلة البلوغ تغيّر الإنسان شكلاً وحجماً، فتتولد لهم مجالات نفسية خاصة يتعاملون بها، فهم قد لا يهتمون بالعقل ويستصغرون أحكامه، فتكون تصرفاتهم غير متزنة، فيرفضون مساعدة من هو أكبر منهم سناً وأكثر تجربة، وهذا قد يكون طبيعياً منهم؛ ولكن على ذوي العقول أن يرشدوهم

ص: 73


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 630.
2- شرح نهج البلاغة 20: 335.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 272.

إلى الصواب.

والنوع الثاني: هم ذوو الخبرة بالحياة، لكن بشكل غير كاف، فيحتاجون إلىمن هو أكثر خبرة منهم.

وهنا يجب أن يلتفت الإنسان إلى نفسه، ويُحصّنها من الأمراض الأخلاقية التي تمنع من الالتفات لتجارب الآخرين وسماع كلامهم، كالتكبر والغرور والعناد، ويوطنها على قبول ذلك؛ لأن التجارب قضية منطقية يسير عليها العقلاء، حاضراً وماضياً، وإلّا فبماذا يفسر وجود المعلمين والمدربين والمرشدين وأصحاب الخبرة في المجتمع؟ إنها الاستفادة من تجارب الآخرين العلمية والعملية.

إذاً، فالحاجة للكبار ليست تقليدية، بل ضرورة حياتية تصب في كمال وسعادة الإنسان، وهذا أمر فطري في تكوين الإنسان بحيث لا يمكن الاستغناء عنه أو التنكر له.

وخلاصة القول: إن الإنسان لابدّ له أن يستفيد من التجارب الناجحة، التي جاء بها الأنبياء والأولياء^، وتؤكد على ذلك المبادئ الإسلامية الواضحة فإن سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار^ تبين كل ما هو خير للإنسان وتبعده عن كل ما هو شر، فتحث الإنسان إلى الوحدة، والأخوة، والحرية، والاكتفاء الذاتي، والعفو، ومكارم الأخلاق، والاستشارة، والاستفادة من عقول الآخرين، فإن متابعة أولئك العظماء في أفعالهم وآثارهم في مسيرة حياتهم العظيمة، تكون لنا علماً مستفاداً عند خوض تجاربنا، وتمسكنا بالشريعة الإسلامية... ومتابعة تجارب الصالحين من عباد اللّه تعالى، وسيرة علمائنا الأعلام الماضين منهم والحاضرين، تكون مقدمة لبناء النفس وبناء المجتمع الإسلامي، كما أن علينا أن نورث الأجيال القادمة أيضاً علماً وتجارب ناجحة ليستفيدوا منها في حياتهم.

ص: 74

الوصايا تجارب العظماء

ومن هنا نرى العظماء كانوا يوصون لغيرهم بتجاربهم، ويتركون وصايالأولادهم ولسائر الناس بما يرونه من صالح الدين والدنيا، حتى يجعلوا في أيديهم تلك التجارب التي حصلوا عليها في حياتهم.

كما يشاهد ذلك بوضوح في وصايا لقمان لابنه، وكذلك في وصايا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام) ولأبي ذر(رحمه اللّه)، وهكذا وصايا أمير المؤمنين(عليه السلام) لولده الإمام الحسن(عليه السلام)، إلى غير ذلك مما هو كثير في تاريخ الأنبياء والأئمة^ وتاريخ العلماء والصالحين.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام) يوصيه: «من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدنيا، الساكن مساكن الموتى، والظاعن عنها غداً، إلى المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام ورهينة الأيام ورمية المصائب، وعبد الدنيا وتاجر الغرور، وغريم المنايا وأسير الموت، وحليف الهموم وقرين الأحزان، ونصب الآفات وصريع الشهوات وخليفة الأموات.

أما بعد، فإن فيما تبيَّنتُ من إدبار الدنيا عني وجموح الدهر(1) علي، وإقبال الآخرة إلي ما يزعني(2) عن ذكر من سواي والاهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدفني رأيي وصرفني عن هواي وصرح لي محض أمري، فأفضى بي إلى جدّ لا يكون فيه لعبٌ وصدقٍ لا يشوبه كذبٌ، ووجدتك بعضي بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني وكأن

ص: 75


1- جُموح الدهر: استقصاؤه وتغلّبه.
2- يزعني: يكفّني ويَصدّني.

الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك كتابي، مستظهراً به إن أنا بقيت لك أو فنيت، فإني أوصيك بتقوى اللّه أي بنيولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله، وأيُّ سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه إن أنت أخذت به، أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوِّه باليقين، ونوِّره بالحكمة، وذلله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذِّره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكِّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلّوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة وحلوا ديار الغربة، وكأنك عن قليلٍ قد صرت كأحدهم، فأصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك ودع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تُكلَّف، وأمسك عن طريقٍ إذا خفت ضلالته، فإن الكف عند حيرة الضلال خيرٌ من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجهدك، وجاهد في اللّه حق جهاده ولا تأخذك في اللّه لومة لائم، وخض الغمرات للحق حيث كان، وتفقّه في الدين، وعوّد نفسك التصبر على المكروه، ونعم الخلق التصبر في الحق، وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك؛ فإنك تلجئها إلى كهفٍ حريزٍ ومانعٍ عزيزٍ، وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان، وأكثر الاستخارة، وتفهم وصيتي ولا تذهبن عنك صفحاً؛ فإن خير القول ما نفع.

واعلم أنه لا خير في علمٍ لا ينفع، ولا ينتفع بعلمٍ لا يحق تعلمه، أي بني، إني لما رأيتني قد بلغت سناً ورأيتني أزداد وهناً بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا، فتكون كالصعب النفور، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما

ص: 76

ألقي فيها من شي ءٍ قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك، لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قدكفيت مئونة الطلب وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه.

أي بني، إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمرٍ نخيله(1)، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك، أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نيةٍ سليمةٍ ونفسٍ صافيةٍ، وأن ابتدئك بتعليم كتاب اللّه عزّ وجلّ وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره...

ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبَّ إليَّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة، ورجوت أن يوفقك اللّه فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك وصيتي هذه.

واعلم يا بني، أن أحب ما أنت آخذٌ به إلي من وصيتي: تقوى اللّه، والاقتصار على ما فرضه اللّه عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك؛ فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عما لم يكلفوا، فإن أبت

ص: 77


1- نَخَل الشي ءَ يَنْخُله نَخْلاً وتَنَخَّله وانتَخَله: صَفَّاه واختارَه؛ وكل ما صُفِّيَ ليُعْزَل لُبابُه فقد انتُخِل وتُنُخِّل.

نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهمٍ وتعلمٍ لا بتورط الشبهات وعلق الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهكوالرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبةٍ أولجتك في شبهةٍ، أو أسلمتك إلى ضلالةٍ، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هماً واحداً فانظر فيما فسرت لك، وإن لم يجتمع لك ما تحب من نفسك وفراغ نظرك وفكرك فاعلم أنك إنما تخبط العشواء(1) وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط والإمساك عن ذلك أمثل، فتفهم يا بني وصيتي...

واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، وأن الخالق هو المميت، وأن المفني هو المعيد، وأن المبتلي هو المعافي، وأن الدنيا لم تكن لتستقر إلّا على ما جعلها اللّه عليه من النعماء والابتلاء، والجزاء في المعاد أو ما شاء مما لا تعلم، فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك؛ فإنك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك. فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك، وليكن له تعبدك وإليه رغبتك ومنه شفقتك.

واعلم يا بني أن أحداً لم ينبئ عن اللّه سبحانه كما أنبأ عنه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فارض به رائداً وإلى النجاة قائداً، فإني لم آلك نصيحة وإنك لن تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت مبلغ نظري لك.

واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه لا يضاده في ملكه أحد، ولا يزول أبداً ولم يزل، أول قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بعد الأشياء

ص: 78


1- العَشواء: الضعيفة البصر، أي تخبط خبط الناقة العشواء لا تأمن أن تسقط فيما لاخلاص منه.

بلا نهاية، عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر. فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره، و قلة مقدرته وكثرة عجزه، وعظيمحاجته إلى ربه في طلب طاعته، والخشية من عقوبته والشفقة من سخطه، فإنه لم يأمرك إلّا بحسن، ولم ينهك إلّا عن قبيح.

يا بني إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها، وزوالها وانتقالها، وأنبأتك عن الآخرة وما أُعدّ لأهلها فيها، وضربت لك فيهما الأمثال لتعتبر بها وتحذو عليها، إنما مثل من خَبَرَ الدنيا كمثل قومٍ سَفْرٍ نَبا(1) بِهِم منزل جديب(2) فأموا(3) منزلاً خصيباً وجَناباً(4) مريعاً، فاحتملوا وعثاء الطريق وفراق الصديق وخشونة السفر وجشوبة المطعم ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشي ءٍ من ذلك ألماً، ولا يرون نفقةً فيه مغرماً، ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم وأدناهم من محلتهم، ومَثَل من اغترّ بها كمثل قومٍ كانوا بمنزلٍ خصيبٍ فنبا بهم إلى منزلٍ جديبٍ، فليس شي ءٌ أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه.

يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قَلَّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك.

ص: 79


1- نَبا المنزل بأهله: لم يوافقهم المقام فيه لو خامته.
2- الجديب: المقحط لا خير فيه.
3- أمّوا: قصدوا.
4- الجَناب: الناحية.

واعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب، فاسع في كدحك، ولا تكن خازناً لغيرك، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك.

واعلم أن أمامك طريقاً ذا مسافةٍ بعيدةٍ ومشقةٍ شديدةٍ، وأنه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد وقدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمِّله إياه، وأكثر من تزويده وأنت قادرٌ عليه؛ فلعلك تطلبه فلا تجده، واغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك.

واعلم أن أمامك عقبةً كئوداً(1)، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، وأن مهبطك بها لا محالة، إما على جنةٍ أو على نارٍ، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتبٌ، ولا إلى الدنيا منصرف.

واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيرك بالإنابة، ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدد عليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنةً، وحسب سيئتك واحدةً، وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب وباب الاستعتاب، فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك وأبثثته ذات نفسك،

ص: 80


1- كئوداً: صعبة المرتقى.

وشكوت إليه همومك واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره، من زيادة الأعمار وصحة الأبدانوسعة الأرزاق، ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب(1) رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته؛ فإن العطية على قدر النية، وربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء الآمل، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خيرٌ لك، فلرب أمرٍ قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له.

واعلم يا بني، أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنك في قُلعةٍ ودار بلغةٍ(2) وطريقٍ إلى الآخرة، وأنك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه، ولا يفوته طالبه، ولابد أنه مدركه، فكن منه على حذر أن يدركك، وأنت على حالٍ سيئةٍ قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة، فيحول بينك وبين ذلك، فإذاً أنت قد أهلكت نفسك.

يا بني أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتةً فيبهرك، وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها، وتكالبهم عليها، فقد نبأك اللّه عنها ونعت هي لك عن نفسها وتكشفت لك عن مساويها، فإنما أهلها كلابٌ عاويةٌ

ص: 81


1- شآبيب: جمع الشؤبوب - بالضم - وهو الدفعة من المطر.
2- قُلْعة - بضم القاف وسكون اللام، وبضمتين، وبضم ففتح - : يقال منزل قلعة أي لا يملك لنازله ولا يدري متى ينتقل عنه. البُلغة: الكفاية وما يتبلغ به من العيش.

وسباعٌ ضاريةٌ، يهرّ(1) بعضها على بعضٍ، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرهاصغيرها، نَعَمٌ معقلةٌ وأخرى مهملةٌ، قد أضلت عقولها وركبت مجهولها، سروح(2) عاهةٍ بوادٍ وعثٍ، ليس لها راعٍ يقيمها ولا مسيمٌ(3) يسيمها، سلكت بهم الدنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها وغرقوا في نعمتها، واتخذوها رباً، فلعبت بهم ولعبوا بها ونسوا ما وراءها. رويداً يُسفِر الظلام كأن قد وردت الأظعان يوشك من أسرع أن يلحق.

واعلم يا بني، أن من كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يسار به وإن كان واقفاً، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً، واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وأنك في سبيل من كان قبلك، فخفض في الطلب، وأجمل في المكتسب، فإنه رب طلبٍ قد جر إلى حَرَبٍ(4)، وليس كل طالبٍ بمرزوقٍ، ولا كل مجملٍ بمحرومٍ، وأكرم نفسك عن كل دنيةٍ، وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً، وما خيرُ خيرٍ لا ينال إلّا بشر، ويسرٍ لا ينال إلّا بعسرٍ، وإياك أن توجف بك مطايا الطمع، فتوردك مناهل الهلكة، وإن استطعت ألّا يكون بينك وبين اللّه ذو نعمةٍ فافعل، فإنك مدركٌ قسمك وآخذٌ سهمك، وإن اليسير من اللّه سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه، وإن كان كل منه.

وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك، وحفظ ما

ص: 82


1- يهِرّ - بكسر الهاء - : يعوي وينبح، وأصلها هرير الكلب وهو صوته دون حاجة من قلة صبره على البرد.
2- السّروح - بالضم - : جمع سرح بفتح فسكون: وهو المال السارح السائم من إبل ونحوها.
3- مُسيم: من أسام الدابة يسيمها: سرحها إلى المرعى.
4- الحَرَب - بالتحريك - : سلب المال.

في الوعاء بشد الوكاء(1)، وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يدي غيرك، ومرارة اليأس خيرٌ من الطلب إلى الناس، والحرفة مع العفة خيرٌ من الغنى مع الفجور، والمرء أحفظ لسره، ورب ساعٍ فيما يضره، من أكثر أهجر، ومن تفكر أبصر، قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم، بئس الطعام الحرام، وظلم الضعيف أفحش الظلم، إذا كان الرفق خُرقاً(2) كان الخُرق رفقاً، ربما كان الدواء داءً والداء دواءً، وربما نصح غير الناصح وغش المستنصح، وإياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى(3)، والعقل حفظ التجارب، وخير ما جرّبت ما وعظك، بادر الفرصة قبل أن تكون غصةً، ليس كل طالبٍ يصيب، ولا كل غائبٍ يئوب.

ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد، ولكل أمرٍ عاقبةٌ، سوف يأتيك ما قدر لك، التاجر مخاطرٌ، ورب يسيرٍ أنمى من كثيرٍ، لا خير في معينٍ مهينٍ، ولا في صديقٍ ظنينٍ، ساهل الدهر ما ذل لك قعوده، ولا تخاطر بشيءٍ رجاء أكثر منه، وإياك أن تجمح بك مطية اللجاج، احمل نفسك من أخيك عند صرمه(4) على الصلة، وعند صدوده(5) على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر، حتى كأنك له عبدٌ وكأنه ذو نعمةٍ عليك، وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله، لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو

ص: 83


1- بشدّ وكائها: أي رباطها.
2- الخُرق - بالضم - : العنف.
3- النّوكى: جمع أنوك، وهو كالأحمق وزناً ومعنىً.
4- صَرمه: قطيعته.
5- الصُدود: الهجر.

قبيحةً، وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعةً أحلى منها عاقبةً ولا ألذ مغبّةً(1).

ولِن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك، وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظفرين، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيةً يرجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ما، ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخٍ من أضعت حقه، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك، ولا ترغبن فيمن زهد عنك، ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فإنه يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرك أن تسوءه.

واعلم يا بني أن الرزق رزقان: رزقٌ تطلبه ورزقٌ يطلبك، فإن أنت لم تأته أتاك، ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى، إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، وإن كنت جازعاً على ما تفلّت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك، استدل على ما لم يكن بما قد كان، فإن الأمور أشباه، ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة إلّا إذا بالغت في إيلامه، فإن العاقل يتعظ بالآداب والبهائم لا تتعظ إلّا بالضرب.

اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين، من ترك القصد جار، والصاحب مناسبٌ، والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى، ورب بعيدٍ أقرب من قريبٍ، وقريبٍ أبعد من بعيدٍ، والغريب من لم يكن له حبيبٌ، من تعدى الحق ضاق مذهبه، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له، وأوثق سببٍ أخذت به سببٌ بينك وبين اللّه سبحانه، ومن لم يبالك(2) فهو عدوك، قد يكون اليأس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً.

ص: 84


1- المغبّة: العاقبة.
2- لم يُبالك: أي لم يهتم بأمرك.

ليس كل عورةٍ تظهر، ولا كل فرصةٍ تصاب، وربما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده، أخِّر الشر فإنك إذا شئت تعجلته، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل، من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه، ليس كل من رمى أصاب.

إذا تغير السلطان تغير الزمان، سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار، إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكاً وإن حكيت ذلك عن غيرك. وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفنٍ(1) وعزمهن إلى وهنٍ، واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن، وليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن، وإن استطعت ألّا يعرفن غيرك فافعل، ولا تملِّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فإن المرأة ريحانةٌ وليست بقهرمانةٍ(2)، ولا تعد بكرامتها نفسها، ولا تطمعها في أن تشفع لغيرها، وإياك والتغاير في غير موضع غيرةٍ، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقَم والبريئة إلى الريب.

واجعل لكل إنسانٍ من خدمك عملاً تأخذه به، فإنه أحرى ألّا يتواكلوا في خدمتك، وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول، استودع اللّه دينك ودنياك، واسأله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة والدنيا والآخرة، والسلام»(3).

***

إلى غيرها من الوصايا الكثيرة المذكورة في كتب الروايات.

وهي تجارب وسلوك الخبراء التي قدموها لغيرهم، فينبغي الاستفادة منها إذا

ص: 85


1- الأفن - بالسكون - : النقص.
2- القَهرَمان: الذي يحكم في الأمور ويتصرف فيها بأمره كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده.
3- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند إنصرافه من صفين.

أراد الإنسان أن يعيش حياة طيبة في الدنيا والآخرة.

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يبصرنا ويرشدنا إلى ما هو الخير والصلاح إنه سميع مجيب.

«اللّهم صل على محمد وآله، وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

من مقومات التجربة استعمال العقل

قال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَالدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3).

وقال سبحانه: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءَايَةَ بَيِّنَةً لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(5).

الإيمان سر نجاح التجارب

قال تبارك وتعالى: {ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ...}(6).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(7).

ص: 86


1- الصحيفة السجادية: الدعاء رقم 20، وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الاخلاق ومرضي الفعال.
2- سورة البقرة، الآية: 242.
3- سورة الأعراف، الآية: 169.
4- سورة العنكبوت، الآية: 35.
5- سورة الروم، الآية: 28.
6- سورة البقرة، الآية: 2-4.
7- سورة البقرة، الآية: 248.

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمْ}(1).وقال جلّ وعلا: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}(2).

القرآن العظيم التجربة الناجحة

قال عزّ وجلّ: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(3).

وقال تعالى: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(4).

وقال سبحانه: {فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(6).

التأسي بسيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة^ والصالحين

قال تبارك وتعالى: {قُلْ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي

ص: 87


1- سورة يونس، الآية: 9.
2- سورة الحجرات، الآية: 7.
3- سورة المائدة، الآية: 15-16.
4- سورة الأنعام، الآية: 155.
5- سورة الأعراف، الآية: 157.
6- سورة النحل، الآية: 89.

يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(1).

وقال سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَالْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَقَالَ الَّذِي ءَامَنَ يَٰقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}(3).

وقال جلّ وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

استعمال العقل من مقومات التجربة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما يدرك الخير كله بالعقل، ولا دين لمن لا عقل له»(5).

وقال الإمام علي(عليه السلام): «بالعقل صلاح كل أمر»(6).

وقال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العقل دليل المؤمن»(8).

الإيمان سر نجاح التجارب

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان»(9).

ص: 88


1- سورة الأعراف، الآية: 158.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- سورة غافر، الآية: 38.
4- سورة الممتحنة، الآية: 4.
5- تحف العقول: ص54 ما روي عنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قصار الكلمات.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 304.
7- كنز الفوائد 1: 200.
8- الكافي 1: 25.
9- نهج الفصاحة: 598.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فبالإيمان يُستدل على الصالحات، وبالصالحات يستدل على الإيمان»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «وبالإيمان يُعمر العلم»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ}(3): «هي الإيمان باللّه يؤمن باللّه وحده لا شريك له»(4).

القرآن العظيم سر النجاح

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فعليكم بالقرآن... من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل...»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه اللّه في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(6).

وقالت موالتنا الزهراء(عليها السلام): «للّه فيكم عهد قدّمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم: كتاب اللّه بينة بصائرها، وآي منكشفة سرائره... وقائداً إلى الرضوان أتباعه، ومؤدياً إلى النجاة أشياعه...»(7).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «لو مات من بين المشرق والمغرب لما

ص: 89


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 156 من كلام له(عليه السلام) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 156 من كلام له(عليه السلام) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم.
3- سورة البقرة، الآية: 256.
4- الكافي 2: 14.
5- تفسير العياشي 1: 2.
6- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.
7- السقيفة وفدك: 139.

استوحشت بعد أن يكون القرآن معي»(1).

التأسي بسيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار^

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «هُدي من سلّم مقادته إلى اللّه ورسوله وولي أمره»(2).

وقال(عليه السلام): «واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدي، واستنّوا بسنته فإنها أهدى السنن...»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «فتأس بنبيك الأطيب الأطهر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاءً لمن تعزّى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره...»(4).

وقال الإمام سيد الساجدين(عليه السلام): «ألا وإن أبغض الناس إلى اللّه من يقتدي بُسنة إمام ولا يقتدي بأعماله»(5).

ص: 90


1- الكافي 2: 602.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 94.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 110 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 160 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها عظمة اللّه ورسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وباقي الأنبياء^.
5- الكافي 8: 234.

التعاون والعمل

التقدم والتلاحم

قال اللّه تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}(1).

الذين يحبهم اللّه عزّ وجلّ هم المجاهدون لإعلاء كلمته وفي سبيل رضوانه، في حال كونهم مصطفّين بلا تبعثر أو تفرّق، كأنهم من شدة ثباتهم بناء مرصوص أُحكم بناؤه.

ويمكن في ضوء هذه الآية الكريمة أن نتناول جانبين تعرضت لهما الآية، وهما: التقدم والتلاحم.

الجانب الأول: مسألة الرقي والتقدم، وبذل الغالي والنفيس في ذلك، حيث قال تعالى: {يُقَٰتِلُونَ} فإن هذه الكلمة تعني - من ضمن ما تعنيه - السعي الحثيث وبكل ما يملك الإنسان نحو اعتلاء سُلّم الرقي والتقدم والوصول إلى الأهداف والدفاع عنها في سبيل اللّه، فإن الجهاد والمقاتلة دفاعاً عن الأهداف العالية يكشف عن الاهتمام بالترقي والتقدم حتى إنهم يقاتلون ويضحون بأنفسهم في سبيله.

ص: 91


1- سورة الصف، الآية: 4.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «جاهدوا تغنموا»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض»(3).

يذكر علماء الاجتماع أن حركة الشعوب تنقسم على ثلاث مراحل: إما أن تكون بحالة تقدم، أو حالة تراجع، أو حالة استقرار وركود.

ولو أخذنا - على سبيل المثال - حرباً دائرة بين دولتين، فإذا تمكنت إحداهما من تحقيق انتصارات واقعية على الأرض، تمكنت من خلالها اكتساح الطرف الآخر، فإنها تمر بحالة من التقدم العسكري، واذا لم تتمكن من ذلك، فإنها تمر بحالة من التراجع والتقهقر، وربما كانت الحرب الدائرة سجالاً بين الطرفين دون أن تتحقق الغلبة لأحدهما على الآخر، فهذا أقرب ما يكون إلى حالة الركود والجمود، وإن كان الأصح أنه حالة تقهقر وتراجع لأن الحرب تعني الخراب والدمار، ومن هنا كانت محرمة في الشريعة الإسلامية إلّا في أقصى موارد الضرورة.

وهكذا المعيار في سائر شؤون المجتمع.

والمطلوب من المؤمنين - كأُمة - أن يكونوا دائماً سائرين في طريق التقدم والبناء في أجواء من الوحدة والتعاون والمودة، فهو الطريق الموصل إلى رحمة اللّه تعالى ورضاه. أما حالة الركود - فكيف بالتراجع - فهي لا تليق بالمؤمنين، بل عليهم أن يرتقوا في كل يوم مرحلة في سلّم التطور والتقدم.

ص: 92


1- الكافي 5: 8.
2- الكافي 5: 8.
3- الكافي 5: 4.

المغبون والملعون

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كانت الدنيا همته اشتدت حسرته عند فراقها، ومن كان غده شر يوميه فهو محروم، ومن لم يبال بما رُزئ من آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك، ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى، ومن كان في نقص فالموت خير له»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كان في غده شرَّ يوميه فهو مفتون، ومن لم يتفقد النقصان في نفسه دام نقصه، ومن دام نقصه فالموت خير له...»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة»(3).

وهذه الأحاديث الشريفة تبين لنا معيار التقدم والتأخر، والغبن واللعنة في هذا الباب.

فالمؤمن - كفرد أو كمجمتع وأُمة - إذا كان يوماه متساويين فهو مغبون، حيث قد ألحق بنفسه ضرر عدم التقدم؛ لأن وقتاً من عمره مضى ولم يستزد شيئاً جديداً في يومه الجديد، وبعبارة أخرى: إنه يمر بحالة من الركود والجمود، وأسوء من ذلك هو الذي يكون يومه أسوء من أمسه؛ إذ يمر بحالة التراجع والتأخر. فحالة التقدم المنشودة لا تكون إلّا إذا كان يومنا أفضل من أمسنا.

ص: 93


1- من لا يحضره الفقيه 4: 382.
2- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 107.
3- الأمالي للصدوق: 668.

شروط التقدم

هناك شروط ومقومات عديدة لتقدم الأمة وتطورها، من أهم هذه الشروط: الإخلاص والعمل الدؤوب.

فالأمة التي لا تكون مخلصة فيما بينها، والأمة الكسولة التي لاتعمل، لاتتقدم أبداً، بل تتأخر يوماً بعد يوم.

الإسلام كل لا يتجزأ

ثم إن من أهم ما يضمن لنا السير في طريق التقدم هو شدة ارتباطنا بالإسلام الحنيف بكل أبعاده دون تجزئة وتبعيض، فالإسلام كلّ لايتجزأ، وهو النهج الذي يرتقي ببلادنا صوب التقدم متحدياً كل الحواجز والعقبات التي وضعها الاستعمار في طريقنا؛ وذلك لما يمتلكه الإسلام من مميزات وخصائص تشكّل ضمانة لتقدم الأمة، فالإسلام يضمن لنا الاستقلال والحرية؛ ويزودنا بسلاح الإيمان وروح التضحية والشهادة، ويحثنا على تهيئة مقومات الاستقلال والوقوف بوجه كيد الأعداء وردّ خططهم، وذلك عبر نشر الثقافة والوعي قبل كل شيء، ومن ثم تقوية المسلمين من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والعسكرية.

يقول اللّه تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}(1). ويقول الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»(2).

أما الأخذ بجانب وترك جانب فهو لا ينتج إلّا التأخر، فمثلاً الإسلام يضمن

ص: 94


1- سورة الأنفال، الآية: 60.
2- الكافي 5: 48.

لنا الاكتفاء الذاتي عبر الاقتصاد السليم الذي منه تبدأ عملية التنمية الحقيقية والاستقلال عن التبعية للشرق والغرب، حيث يجعل الإسلام كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية حراً في مختلف الميادين الاقتصادية بلا جمارك ولا رسوم ولا ضرائب غير مشروعة، فيكون فرداً مخلصاً مجدّاً في سبيل التنمية الاقتصادية. أما الاهتمام بالجانب العسكري فقط وتركُ الجوانب الأخرى الأهم كالجانب الثقافي والسياسي والاقتصادي وما أشبه فإنه لا ينتج إلّا التأخر والدمار.

التنظيم الاجتماعي

ومن أهم مقومات التقدم: روح التعاون التي يحث عليها الإسلام، إن الدين الإسلامي يهتم ببناء تنظيم اجتماعي راق وسام تسود فيه الأخلاق الطيبة والتضحية وحب الآخرين وقضاء حوائجهم وما إلى ذلك من مصاديق التعاون والمحبة، وكان هذا ما يثير إعجاب غير المسلمين لما يرونه من الترابط والتآلف بين المسلمين، فبدءً من تقوية العلاقات الأسرية إلى تقوية العلاقات الاجتماعية الأخرى بين مختلف أبناء الأمة(1)، خاصة النشاطات التي تنبثق في المساجد والمؤسسات الدينية والاجتماعية التي تمنح القوة الفكرية والميدانية للأمة الإسلامية في مختلف المجالات الحيوية.

وقد ورد في جملة من الروايات بيان أحكام العشرة والمعاشرة في السفر والحضر وغيرها(2)، مع المؤمنين والمنافقين وسائر الناس، نذكر بعضاً منها:

ص: 95


1- وهناك جملة كبيرة من الروايات في الآداب الاجتماعية ذكر قسماً منها الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في كتاب (الفقه: الاجتماع) و(الفقه: طريق النجاة) و(السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(الصياغة الجديدة) و(الفقه: السلم والسلام) وغيرها، فراجع.
2- كما في وسائل الشيعة في المجلد 12 تحت عنوان أبواب أحكام العشر ة في السفر والحضر، وفيه مائة وست وستون باباً تتضمن أحاديث شريفة تبين آداب واخلاق العشرة والمعاشرة، وغيرها من المجاميع الروائية.

عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام):

كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟

قال(عليه السلام):«تؤدون الأمانة إليهم، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم وتشهدون جنائزهم»(1).

وعن أبي أسامة زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام):

«اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي، السلام، وأوصيكم بتقوى اللّه عزّ وجلّ، والورع في دينكم، والاجتهاد للّه، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يأمر بأداء الخيط والمِخيَط، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم؛ فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل: هذا أدب جعفر. فواللّه لحدثني أبي(عليه السلام): أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي(عليه السلام) فيكون زينها، آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه، فتقول: من مثل فلان، إنه لآدانا للأمانة وأصدقنا للحديث»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «عليكم بالورع والاجتهاد، واشهدوا الجنائز وعودوا

ص: 96


1- الكافي 2: 635؛ وسائل الشيعة 12: 5.
2- الكافي 2: 636.

المرضى، واحضروا مع قومكم مساجدكم، وأحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم، أمايستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه، ولا يعرف حق جاره!»(1).

وعنه(عليه السلام) قال: «كان أبو جعفر(عليه السلام) يقول: عظموا أصحابكم ووقروهم، ولا يتهجم بعضكم بعضاً ولا تضاروا، ولا تحاسدوا، وإياكم والبخل، وكونوا عباد اللّه المخلصين»(2).

وكان(عليه السلام) يقول لأصحابه: «اتقوا اللّه، وكونوا إخوةً بررةً متحابين في اللّه، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه»(3).

وورد عن ابن أعين أنه سأل أبا عبد اللّه(عليه السلام): عن حق المسلم على أخيه، فلم يجبه! قال: فلما جئت لأودعه قلت: سألتك فلم تجبني! فقال(عليه السلام): «إني أخاف أن تكفروا، إن من أشد ما افترض اللّه على خلقه ثلاثاً: إنصاف المؤمن من نفسه حتى لا يرضى لأخيه المؤمن من نفسه إلّا بما يرضى لنفسه منه، ومواساة الأخ في المال، وذكر اللّه على كل حال، ليس سبحان اللّه والحمد للّه، ولكن عند ما حرم اللّه عليه فيدعه».(4)

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن مَلَكاً من الملائكة مرّ برجل قائم على باب دار، فقال له الملك: يا عبد اللّه ما يقيمك على باب هذه الدار؟ فقال: أخٌ لي فيها أردت أن أسلّم عليه.

فقال المَلَك: هل بينك وبينه رحم ماسَّةٌ أو هل نزعتك إليه حاجة؟

قال فقال: لا ما بيني وبينه قرابة، ولا نزعتني إليه حاجة؛ إلّا أخوة الإسلام

ص: 97


1- الكافي 2: 635.
2- الكافي 2: 173.
3- الكافي 2: 175.
4- الكافي 2: 170.

وحرمته، وأنا أتعاهده أسلّم عليه في اللّه رب العالمين.

فقال له الملك: إني رسول اللّه إليك وهو يقرئك السلام، ويقول: إنما إياي أردت ولي تعاهدتَ، وقد أوجبتُ لك الجنة، وأعفيتك من غضبي، وآجرتك من النار»(1).

كما ورد استحباب سؤال الإنسان جليسه عن اسمه وكنيته وعمله، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا أحب أحدكم أخاه المسلم فليسأله عن اسمه واسم أبيه واسم قبيلته وعشيرته، فإن من حقه الواجب وصدق الإخاء أن يسأله عن ذلك، وإلّا فإنها معرفة حُمق»(2).

وعن جعفر بن محمد(عليهما السلام) عن أبيه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ثلاثة من الجفاء: أن يصحب الرجل الرجل فلا يسأله عن اسمه وكنيته، وأن يدعى الرجل إلى طعام فلا يجيب، أو يجيب فلا يأكل، ومواقعة الرجل أهله قبل المداعبة»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويُؤلفون، وتوطَّأ رحالهم»(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «المؤمن مألوف، ولا خير فيمن لايألف ولا يُؤلف»(5).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من زي الإيمان الفقه، ومن زي الفقه الحلم، ومن زي الحلم الرفق، ومن زي الرفق اللين، ومن زي اللين السهولة»(6).

ص: 98


1- الأمالي للصدوق: 199.
2- الكافي 2: 671.
3- قرب الإسناد: 160.
4- الكافي 2: 102.
5- الكافي 2: 102.
6- الأمالي للطوسي: 189.

وكذلك وردت روايات كثيرة تدل على استحباب البشاشة عند رؤية القادم،فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا بني عبد المطلب، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «من خرج في حاجة ومسح وجهه بماء الورد، لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، ومن شرب من سؤر أخيه المؤمن يريد بذلك التواضع أدخله اللّه الجنة البتة، ومن تبسم في وجه أخيه المؤمن كتب اللّه له حسنةً، ومن كتب اللّه له حسنةً لم يعذبه»(2).

وعن الإمام الجواد محمد بن علي الرضا(عليهما السلام) عن آبائه^ قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء، فإني سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم»(3).

إلى غير ذلك الكثير من روايات الآداب الاجتماعية الواردة عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته^ وهي مما تدل على اهتمام الإسلام بالجانب الاجتماعي والحث على التعاون والمحبة بين أفراد الأمة.

ومن مصاديق التعاون في زماننا تأسيس تنظيمات سياسية نزيهة تضمن استقلال بلادنا وتمنع انتشار الأفكار الهدّامة وتسلل العناصر الشريرة إلى داخل المجتمع الإسلامي(4)، على تفصيل ذكرناه في بعض كتبنا.

ص: 99


1- الكافي 2: 103.
2- مصادقة الإخوان: 52.
3- الأمالي للصدوق: 446.
4- للتفصيل انظر: من كتب الإمام الشيرازي(رحمه اللّه): (الدولة الاسلامية) ج1 و2 و(السبيل الى إنهاض المسلمين)، و(الصياغة الجديدة)، و(طريق النجاة)، و(السياسة) ج1 و2، و(السلم والسلام)، وغيرها.

البناء المرصوص

اشارة

أما الجانب الثاني الذي تعرضت الآية المباركة له، فهو التلاحم.

إن اللّه تبارك وتعالى شبّه المجتمع الإيماني الذي يطلب الرقي والتقدم ويضحي بنفسه في سبيل اللّه، بالبنيان المرصوص، في الآية الكريمة حيث قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}(1) والبنيان المرصوص يمتلك ثلاث خصائص متميزة تعطيه هذه الصفة(2):

الأولى: التراصّ والتماسك بين أجزائه، فلا يرى فيه خلل ولا فراغات، بل هو مشدود بعضه ببعض ومتراصّ.

الثانية: استقامة البنيان وعدم الإعوجاج فيه.

الثالثة: وضع اللبنات الأساسية كل منها في محلها.

وهكذا يريد اللّه تعالى من المسلمين أن يكونوا كالبنيان المرصوص في تلاحمهم وقوة تماسكهم ليتقدموا على غيرهم.

خصائص القوة

ثم إن من خصائص القوة خمسة أمور:

1: قداسة الهدف وشفافيته، فإنهم مقاتلون مدافعون لمنع الأعداء من النيل منهم ولتتقدم أمتهم وتزدهر، بكل إخلاص ومعنوية.

2: عدم وجود نقص وإعوجاج وخلل في أمورهم.

ص: 100


1- سورة الصف، الآية: 4.
2- رصص: رَصَّ البُنْيانَ يَرُصّه رَصّاً، فهو مَرْصُوصٌ ورَصِيصٌ، ورَصّصَه ورَصْرَصَه: أَحْكَمَه وجَمَعه وضمّ بعضَه إِلى بعض. وكلُّ ما أُحْكِمَ وضُمَّ، فقد رُصَّ. ورَصَصْتُ الشي ء أَرُصّهُ رَصّاً أَي أَلْصَقْتُ بعضَه ببعض، ومنه: بُنْيان مَرْصوصٌ، وكذلك التَّرْصِيصُ، وتَراصَّ القومُ: تضامُّوا وتلاصَقُوا، وتَراصُّوا: تصافُّوا في القتال والصلاة. انظر: لسان العرب 7: 40 مادة (رصص).

3: التلاحم والانسجام مع بعضهم.4: أن يحتل كل فرد منهم مكانه المناسب، وبعبارة أخرى جعل الفرد المناسب في المكان المناسب من دون ملاحظة المحسوبيات والمنسوبيات.

5: أن يكون عملهم دؤوباً مستمراً بلا توان وكسل.

مضافاً إلى ضرورة كونه واضح المعالم، وأنه في سبيل اللّه تعالى ومطابقاً لما أمره تعالى ضمن الضوابط الشرعية.

العرب وإسرائيل

من سلبيات عدم التعاون والعمل الجاد هو سيطرة الأعداء على الأمة، وأوضح مصداق لذلك القضية الفلسطينية.

إن المسلمين والعرب لو اتفقوا وتراصوا مع بعضهم البعض واتحدوا، وعملوا بإخلاص لأجل تحرير فلسطين من اليهود والصهاينة، فإن إسرائيل لا يمكن لها أن تبقى حتى فترة قصيرة في الوجود.

أما هذه المدة التي تمر على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين فإنها لعدم اتحاد المسلمين، ففي كل ليلة وعندما تستمع إلى نشرات الأخبار تجد أن أكثر البلدان العربية والإسلامية منشغلة بالنزاعات التافهة والمعارك الكلامية فيما بينها، يلقي بعضهم باللوم على البعض الآخر، من دون أن يخطو الخطوات اللازمة والحقيقية لإرجاع حق المسلمين في فلسطين، بل إن البعض إتجه بصورة مباشرة ليتفق مع إسرائيل(1)، والبعض الآخر يقدّم أفضل الخدمات لها بممارساته الظلم والاستبداد بالنسبة إلى الشعوب الإسلامية وقمع الكفاءات فيها مما يوجه الضربات القاسية على المسلمين وينهك قواهم.

ص: 101


1- اتفاقية (كامب ديفيد).

هذا ولا يخفى أن الإسلام كان أول من حذّر العرب والمسلمين قبل أربعةعشر قرناً من الزمان من الخطر اليهودي، وأول من تحدث عن بغضهم وحقدهم لكلّ ما يمت إلى الإسلام بصلة، حيث قال تبارك تعالى في كتابه الحكيم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ...}(1).

فقد وصف اللّه تعالى اليهود والمشركين بأنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، لأن اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين، مع أن المسلمين يؤمنون بنبوة موسى(عليه السلام) والتوراة الصحيح التي أتى بها، فكان المفروض أن يكون اليهود إلى من وافقهم في الإيمان بنبيهم وكتابهم أقرب، ولكنهم ظاهروا المشركين حسداً لنبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(2).

وهكذا نجد اليوم ممارسات إسرائيل المعادية للإسلام والمسلمين تجسّد هذه العداوة التي أشارت لها الآية الكريمة وبكل حقد، ولكن بعض المسلمين لم يستوعبوا هذا الأمر وتشاغلوا عنه بخلافاتهم وفرقتهم التي لا تخدم سوى أعداء الإسلام.

لذا يلزم علينا في المرحلة الأولى أن نتعاون مع بعض ثم نعمل بإخلاص، ولا ندع الأعداء يستفيدون من تفرقنا وتشرذمنا، ومن الواضح أن الشرق والغرب يخافون أشد الخوف من وحدتنا؛ لأنها تعني إنهاء سيطرتهم وتحكّمهم ببلادنا، أما تفرقنا فلا يخدم سوى مصالح عدونا.

وبهذا الصدد كان المرحوم كاشف الغطاء(رحمه اللّه)(3) وهو أحد العلماء الكبار

ص: 102


1- سورة المائدة، الآية: 82.
2- التبيان في تفسير القرآن 3: 614.
3- الشيخ محمد حسين بن علي آل كاشف الغطاء صاحب كتاب: (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) و(أصل الشيعة وأصولها).

- وكان في منتهى الشجاعة - يقول: بني الإسلام على أساسين: كلمة التوحيدوتوحيد الكلمة ولعل هذه هي خلاصة رسالة الإسلام في الحياة، ومع ذلك تركناها نحن وتمسك بها أعداؤنا، فتأخرنا وهوينا في مزالق مظلمة بينما تقدم العدو علينا.

الوحدة شعار الأنبياء^

يروى أن رجلاً مرّ بالمدينة المنورة في عهد الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ثم ذهب منها إلى بلاد الروم، فسأله ملك الروم: من هذا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي بُعث في الحجاز؟ وما هي أبرز مواقفه وأعماله؟

فقال الرجل: عندما اجتزت المدينة، سمعت أن قبيلتين فيها تسمى الأوس والخزرج(1) نشبت بينهما حرب طاحنة دامت مائة سنة، ولكن بجهود هذا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تم الصلح بينهما، بل وآخى بينهما.

فقال ملك الروم: إن هذا لنبي حقاً.

إن من عمل الأنبياء^ دائماً التوحيد والتأليف بين الناس، ومن عمل السلاطين والملوك هو التفرقة والمباعدة بين الناس، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم بقوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}(2)، وفي آية

ص: 103


1- الأوس والخزرج قبيلتان عربيتان من الأزد، وهم أبناء حارثة بن ثعلبة، ارتحلتا من اليمن إثر تصدع سد مأرب، فاستوطنوا المدينة المنورة، نصروا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآمنوا به، فسموا بالأنصار في قبال المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وكانت القبيلتان قبل الإسلام في حالة حرب ونزاع وتخاصم مستمرة ولأبسط الأسباب، وقد اشتهرت تلك الحروب بينهما حتى كانت لها أيام مشهورة عند العرب، منها: يوم الصفينة، وهو أول يوم جرت الحرب فيه، ويوم السرارة، ويوم وفاق بني خطمة، ويوم حاطب بن قيس، ويوم حضير الكتائب، ويوم أطم بني سالم، ويوم أبتروة، ويوم البقيع، ويوم مضرس ومعبس، ويوم الدار، ويوم بعاث الآخر، ويوم فجار الأنصار. وكانوا ينتقلون في هذه المواضع التي تعرف أيامهم بها، ويقتتلون قتالاً شديداً.
2- سورة القصص، الآية: 4.

أخرى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَيَفْعَلُونَ}(1).

وهكذا عرف ملك الروم وقال: إنه نبي لأنه أصلح بين قبيلتي الأوس والخزرج بعد مائة عام من الحرب. لأنه يعرف أخلاق الملوك وأنهم غالباً متسلطون على رقاب الناس ويعملون على إيجاد التفرقة وإيجاد التباغض بينهم، ويعرف أن الأنبياء^ صادقون؛ ويعملون ليل نهار في سبيل إيجاد روح المحبة والوئام، والوحدة والوفاق، ويستثمرون وحدة الناس لصالح الناس وسوقهم نحو الخير والفضيلة.

إذاً الوحدة والتعاون من أهم الأسس التي نحن بأمس الحاجة إليها في هذا الزمان المشحون بالحروب والأحقاد والضغائن.

إسلام الأوس والخزرج

روي أنه قدم أسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب، وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بُغاث(2)، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم، ولنا شغل لا نتفرغ لشيء.

ص: 104


1- سورة النمل، الآية: 34.
2- يوم بُغاث أو بُعاث، بضم الباء: يوم معروف، كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، هو من مشاهير أيام العرب، وبعاث: اسم حصن للأوس، انظر: لسان العرب 2: 117 مادة (بعث).

قال: وما شغلتكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟قال له عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول اللّه، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شباننا، وفرق جماعتنا.

فقال له أسعد: من هو منكم؟

قال: ابن عبد اللّه بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم - النظير وقريظة وقينقاع - أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب.

فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود، قال: فأين هو؟

قال: جالس في الحِجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم، فلا تسمع منه ولاتكلمه؛ فإنه ساحر يسحرك بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر، لابد لي أن أطوف بالبيت؟ فقال: ضع في أذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس في الحِجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني، أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنعم صباحاً. فرفع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأسه إليه، وقال: «قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم».

فقال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمد؟

قال: «إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأني رسول اللّه، وأدعوكم {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ

ص: 105

شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْالْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(1)».

فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأنك رسول اللّه، يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها اللّه بك فلا أجد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم اللّه لنا أمرنا فيك. واللّه يا رسول اللّه، لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد للّه الذي ساقني إليك، واللّه ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا، وقد أتانا اللّه بأفضل مما أتيت له.

ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول اللّه الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلم وأسلم، فأسلم ذكوان، ثم قالا: يارسول اللّه، ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمصعب بن عمير، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم ولم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، وكان مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد، فأمره رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخروج مع أسعد، وقد كان تعلّم من القرآن كثيراً، فخرج هو مع أسعد إلى

ص: 106


1- سورة الأنعام، الآية: 151-152.

المدينة ومعهما مصعب بن عمير، وقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان، وكان مصعب نازلاً على أسعد بنزرارة، وكان يخرج في كل يوم ويطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الإسلام فيجيبه الأحداث، وكان عبد اللّه بن أُبيّ شريفاً في الخزرج، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعت على أن يملّكوه عليهم لشرفه وسخائه، وقد كانوا اتخذوا له إكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها، وذلك أنه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بغاث ولم يعن على الأوس، وقال: هذا ظلم منكم للأوس ولا أعين على الظلم، فرضيت به الأوس والخزرج، فلما قدم أسعد كره عبد اللّه ما جاء به أسعد وذكوان وفتر أمره.

فقال أسعد لمصعب: إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس، وهو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فإن دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا، فهلم نأتي محلتهم، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد بن معاذ، فقعد على بئر من آبارهم، واجتمع إليه قوم من أحداثهم، وهو يقرأ عليهم القرآن، فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فقال لأسيد بن حضير وكان من أشرافهم: بلغني أن أبا أمامة أسعد بن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شباننا، فأته وانهه عن ذلك.

فجاء أسيد بن حضير، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب بن عمير: إن هذا الرجل شريف، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا، فأصدق اللّه فيه. فلما قرب أسيد منهم قال: يا أبا أمامة، يقول لك خالك: لا تأتنا في نادينا، ولا تفسد شباننا، واحذر الأوس على نفسك.

فقال مصعب: أو تجلس فنعرض عليك أمراً، فإن أحببته دخلت فيه، وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه. فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن. فقال: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟

ص: 107

قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلي ركعتين. فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر، ثم خرج وعصر ثوبه، ثم قال: أعرض عليّ، فعرض عليهشهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فقالها، ثم صلى ركعتين، ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا أبعث إليك الآن خالك وأحتال عليه في أن يجيئك.

فرجع أسيد إلى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: أقسم أن أسيداً قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا، فأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب: {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}(1) فلما سمعها، قال مصعب: واللّه، لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، فبعث إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلى ركعتين، ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه وقال: أظهر أمرك ولا تهابنّ أحداً. ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح: يا بني عمرو بن عوف، لايبقينّ رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي إلّا أن يخرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب.

فلما اجتمعوا قال: كيف حالي عندكم؟

قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا، ولا نرد لك أمراً، فمرنا بما شئت.

فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم عليَّ حرام حتى تشهدوا: أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، والحمد للّه الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به. فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلّا وفيها مسلم أو مسلمة، وحول مصعب بن عمير إليه وقال له: أظهر أمرك وادع الناس علانية. وأشاع الإسلام بالمدينة وكثر، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود.

ص: 108


1- سورة فصلت، الآية: 1-2.

وبلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام، وكتب إليه مصعب بذلك، وكان كل من دخل في الإسلام من قريش ضربه قومه وعذبوه،فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأمرهم بالخروج إلى المدينة، وكانوا يتسللون رجلاً فرجلاً فيصيرون إلى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم...(1).

اعتصموا بحبل اللّه

إن اللّه تعالى أمرنا في كتابه الحكيم بالتعاون والعمل، حيث قال عزّ وجلّ: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(2) وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(3).

كما أمرنا اللّه بالاتحاد والتآخي، ونهانا عن التفرقة ومعاداة بعضنا البعض؛ لذا علينا كمسلمين امتثال ذلك، فمن يخالف ويتخذ سياسة التفرقة والمعاداة بدل الاتحاد والتآخي، فليس هو من الإسلام في شيء، وعلى المسلمين معرفة ذلك كي لا تلتبس عليهم الأمور، فيخطط الأعداء لتمزيقهم وتشتيتهم.

قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(4).

قوله عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ} أي: تمسكوا {بِحَبْلِ اللَّهِ} أي: دينه وقرآنه، شُبّه بالحبل لمناسبة أن من يتمسك بالحبل لا بدّ وأن يرتفع به للأعلى، وكذلك من يتمسك بالإيمان يصعد به في الدنيا إلى المراتب الراقية، وفي الآخرة إلى جنات

ص: 109


1- إعلام الورى بأعلام الهدى: 55.
2- سورة المائدة، الآية: 2.
3- سورة التوبة، الآية: 105.
4- سورة آل عمران، الآية: 103.

خالدة، وفي بعض الروايات أن حبل اللّه هم أهل البيت^ {جَمِيعًا} أي: جميعكم لا بعضكم دون بعض {وَلَا تَفَرَّقُواْ} بأن يتمسك البعض بحبل اللّه، والبعض بحبل الشيطان، وهذا تأكيد لقوله: (جَمِيعاً)، {وَاذْكُرُواْ} أي: تذكروا{نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً} قبل الإسلام يعادي بعضكم بعضاً {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} جعلها قريبة بعضها إلى بعض، حيث أدخل الإيمان فيها فخرج ما كان فيها من الضغينة والإحن والحسد والعداوة {فَأَصْبَحْتُم} أيها المسلمون {بِنِعْمَتِهِ} أي: بسبب نعمة الألفة التي وهبها اللّه إليكم {إِخْوَٰنًا} أحدكم أخ الآخر في الإيمان، له ما لأخيه وعليه ما عليه. وإن هذه النعمة قد خرقت المقاييس الجاهلية القبلية والعشائرية والعرقية والقومية وما أشبهها. وما ورد في بعض الأحاديث أن المراد من حبل اللّه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أو الأئمة^ أو القرآن، فإنما هي مصاديق جلية(1).

ورد عن ابن يزيد قال:سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن قوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}؟ قال: «علي بن أبي طالب حبل اللّه المتين»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «آل محمد^ هم حبل اللّه الذي أمرنا بالاعتصام به، فقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}»(3).

وفي (مجمع البيان) في تفسير الآية المباركة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ} قال: أي تمسكوا به، وقيل: امتنعوا به من غيره، وقيل في معنى حبل اللّه أقوال: أحدها أنه القرآن، عن أبي سعيد الخدري وعبد اللّه وقتادة والسدي.

ص: 110


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 1: 374.
2- تفسير العياشي 1: 194.
3- تفسير العياشي 1: 194.

وثانيها: إنه دين اللّه الإسلام.

وثالثها: ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد(عليهما السلام) قال: «نحن حبل اللّه الذي قال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}.

والأَولى حمله على الجميع، والذي يؤيده ما رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «أيها الناس، إني قد تركت فيكم حبلين، إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». {وَلَا تَفَرَّقُواْ} معناه: ولا تتفرقوا عن دين اللّه الذي أمركم فيه بلزوم الجماعة والائتلاف على الطاعة، واثبتوا عليه. وقيل: معناه لا تتفرقوا عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وقيل: عن القرآن بترك العمل به. {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} قيل: أراد ما كان بين الأوس والخزرج، من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة، إلى أن ألّف اللّه بين قلوبهم بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد. وقيل: هو ما كان بين مشركي العرب من الطوائل.

والمعنى: احفظوا نعمة اللّه ومنته عليكم بالإسلام وبالائتلاف، ورفع ما كان بينكم من التنازع والاختلاف، فهذا هو النفع الحاصل لكم في العاجل، مع ما أعدّ لكم من الثواب الجزيل في الآجل؛ إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم بجمعكم على الإسلام، ورفع البغضاء والشحناء عن قلوبكم.

{فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ} أي: بنعمة اللّه {إِخْوَٰنًا} متواصلين، وأحباباً متحابين بعد أن كنتم متحاربين متعادين، وصرتم بحيث يقصد كل واحد منكم مراد الآخرين، لأن أصل الأخ من توخيت الشيء: إذا قصدته وطلبته. {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ} أي: وكنتم يا أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على طرف حفرة من جهنم، لم يكن

ص: 111

بينها وبينكم إلّا الموت، فأنقذكم اللّه منها بأن أرسل إليكم رسولاً، وهداكم للإيمان، ودعاكم إليه، فنجوتم بإجابته من النار. وإنما قال: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} وإن لم يكونوافيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها، من حيث كانوا مستحقين لدخولها(1).

وحدة الأعداء وفرقتنا

لا شك أن الوحدة أساس القوة والتقدم والتعاون والعمل، كما أن الفرقة تشكل العامل الأكبر للنكبات والهزائم التي تصيب الأمة، وليس على المسلمين إلّا أن يتحدوا لصد الهجمة الاستعمارية الواسعة التي تشن من مختلف الأطراف وبمختلف الأشكال، لإبادة الروح الإسلامية والقضاء على مبادئ الإسلام، وتعزيز السيطرة الاستعمارية، وفرض الوصاية وتمزيق الأمة الإسلامية.

فالوحدة تمثل حشداً للطاقات وتوجيهها باتجاه واحد يمنح الأمة قوتها الحقيقية.

والذي حصل للمسلمين أن أعداءهم وحّدوا جهودهم ضدهم، لأنهم أدركوا أن وحدتهم وحشد طاقاتهم تمكّنهم من السيطرة على المسلمين، وتمثل تمركزاً لقوتهم باتجاه القضاء على حركة الأمة الإسلامية ومقدّراتها.

فكانت الوحدة شعاراً عملياً لأعدائنا على اختلاف اتجاهاتهم ونواياهم ليتمكنوا من مواجهتنا وتفتيت مجتمعنا، والقضاء على روابطنا الدينية والاجتماعية، وحتى الأسرية، على عكسنا نحن المسلمين إذ ازددنا فرقةً وتناحراً في الوقت الذي اتحدّ فيه أعداؤنا من الكفار والمشركين أو أعداؤنا من الداخل، كبعض حكام بلادنا المستبدين الذين لا همّ لهم سوى البقاء على سدة الحكم

ص: 112


1- تفسير مجمع البيان 2: 356.

تحت مختلف الواجهات.

فأحدهم يدعي أنه: (منقذ الأمة العربية وأملها)!!

والآخر: (منقذ الدين الإسلامي والمسلمين)!!وقد يجعلون لأنفسهم واجهات من الشعارات الديمقراطية أو الاشتراكية أو الرأسمالية أو الإسلامية أو غيرها.

ومن حكام الدول العربية اليوم من يدّعي أنه يمثل: (قيادة القومية العربية)(1)، وفي الوقت نفسه نجده أشد خطراً وفتكاً على العرب من أعدائهم الآخرين.

والبعض الآخر من الحكام يدعي أنه: (حامي حمى الإسلام) في حين نجده يعتنق مذهباً من أشد المذاهب تعصباً وإثارة للتفرقة وطمس مبادئ الإسلام(2).

وكل هؤلاء الأعداء نجدهم يجلسون مع بعضهم البعض ويتحدثون وكأنهم أصدقاء على اختلاف اتجاهاتهم وأنظمتهم، لأن مصالحهم واحدة وهي القضاء على قوة الإسلام والمسلمين.

لذلك يلزم علينا أن ندرك الخطر الذي يأتينا من كل صوب ومكان، وعلينا أن نعلم كيف أن الرأسمالية التي تعتقد بأن المال هو أساس الحياة، أصبحت تتحد مع الشيوعية التي تناقضها وتعتقد خلاف ما تعتقده الرأسمالية، أصبح كل منهما حليفاً متعاوناً مع الآخر لضرب الإسلام والمسلمين. ذلك لأنهم تيقنوا بأن مصالحهم واحدة تكمن في استغلالنا ومحاربة تطورنا واستقلالنا؟

نقل عن بعض الذين يعملون في قطاع الثقافة الوطنية: أن هناك سبعين محطة راديو غربية وشرقية، عملها فقط النيل من الدول الإسلامية ومبادئ الإسلام!!

ص: 113


1- يشير الإمام الراحل(رحمه اللّه) إلى الطاغية المدحور صدام التكريتي، طاغوت العراق المخلوع.
2- إشارة إلى نظام آل سعود الذين تحالفوا مع مؤسس مذهب الوهابية، واتخذوه كمذهب مفروض على الدولة.

لذا لابد لنا أن نبذل ما بوسعنا وبكل ما استطعنا أن ننسجم ونتوحد لأن عدونا يستهدفنا جميعاً بلا تمييز، ولا يمكننا مواجهته بدون الوحدة والتعاون، وعلينا أن ننبذ الصراعات والخلافات الجانبية امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُوَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(1)، أي: تتبدّد صولتكم وقوتكم نتيجة فرقتكم ونزاعكم.

اليهود في بغداد

هناك قصة عن يهود العراق، وهي وإن كانت قصيرة إلّا أنها ذات دلالة كبيرة تدل على مدى تعاونهم فيما بينهم وعملهم الدؤوب، فقد كان اليهود في بغداد من التجار الكبار، وكانوا من الطبقة الراقية المترفة، بحيث لا يوجد بينهم فقير واحد آنذاك. وإذا أصاب الإفلاس أحدهم لم يكونوا يدعون أحداً يعرف بذلك ويسارعون للاجتماع حوله وينجونه من ورطته.

وفي أحد أهم الأسواق التجارية الكبرى في العراق وهو سوق (الشورجة) أعلن أحد التجار اليهود إفلاسه، فما كان من التجار اليهود إلّا أن اجتمعوا وقرروا إعطاءه سلعة من السلع وجعلوه ينفرد ببيعها واستيرادها ولمدة ستة أشهر، على أن لا يحق لأي تاجر آخر أن يتعامل بها لا استيراداً ولا بيعاً. وبالفعل فقد تم له ذلك، فعادت أموال هذا التاجر كما كانت، وعاد له نشاطه التجاري ومكانته المالية في السوق، وفي النهاية أنقذوا ذلك التاجر اليهودي من إفلاسه.

وفي طهران

وهناك قصة أخرى مشابهة حدثت في طهران، حيث إن أحد اليهود التجار في طهران انتشر خبر إفلاسه، فسارع الدائنون بتقديم الشكاوى ضده إلى المحكمة،

ص: 114


1- سورة الأنفال، الآية: 46.

وقرّرت المحكمة أن ترسل لجنة لحجر أمواله كالدكان والبيت والبستان، ولتبيعها وتعطي الدائنين حقهم.

وفي ليل ذلك اليوم اجتمع عشرة من كبار التجار اليهود وجاؤوا إلى دار ذلكاليهودي سائلين منه بأنه كيف أفلس وخسر أمواله؟ وبعد أن بين لهم ذلك، قالوا له: وكم أنت مدين للآخرين؟ قال: (ستة ملايين تومان) فقام التجار بكتابة شيكٍ بستة ملايين تومان، وقالوا له: تذهب غداً في الصباح الباكر إلى المصرف، وتستلم هذا المبلغ على أن تحوله إلى حسابك الخاص، ثم عد واجلس في دكانك وكل ما أتى دائن اكتب له شيكاً بالمبلغ الذي أنت مدين له به وسدّد دينك كله هكذا، وسنزورك في مساء يوم غد ونرى ماذا فعلت؟

وبالفعل قام اليهودي بما طلبوا منه، فوضع ذلك المبلغ في حسابه الخاص، ثم عاد وجلس في دكانه، ولما جاءه الدائنون يطالبون بأموالهم بالصياح والزعيق والمشاجرة، قال لهم بهدوء: ما الخبر؟

قالوا: عرفنا أنك أعلنت إفلاسك، ونحن نريد أموالنا.

فسأل أحدهم: كم تطلب يا هذا؟

قال له: أطلب مائة ألف تومان، فأخرج اليهودي الصك على الفور، وكتب له بمائة ألف تومان.

وهنا سخر الدائنون جميعاً وكانوا يقولون: هذا التاجر وبعد أن أعلن إفلاسه أخذ يكتب صكوكاً بلا رصيد؟ إلّا أن اليهودي قال لهم وبكل ثقة: اذهبوا إلى المصرف فإن لم يكن في حسابي أموال، ارجعوا حينذاك وتكلموا ما شئتم.

فراح الدائن الأول إلى المصرف وسلّم الصك واستلم مبلغه وعاد، ثم ذهب الثاني، وهكذا الثالث، وكثير منهم!

هنا توقف الدائنون مذهولين قائلين: اذاً خبر الإفلاس لهذا التاجر لا صحة له،

ص: 115

وهو لم يخسر أمواله. فرجع أكثرهم إليه وأعادوا ما أخذوه من مال، كما أن بقية الدائنين والذين كان من المتوقع أن يأتوا ويطالبوا بأموالهم، اقتنعوا بأقوال الدائنين الأوائل ولم يأت منهم أحد! وبعد كل هذا فإن التاجر المفلس لم ينقص من مبلغستة ملايين تومان الذي أودع عنده إلّا نصف مليون واحتفظ بالباقي كله.

وفي المساء جاءه أصدقاؤه من التجار اليهود إلى داره، فقام بدوره وسلّمهم ما تبقى من المبلغ (أي: خمسة ملايين تومان ونصف المليون)، حينذاك قالوا له: إنك تستطيع أن ترجع لنا ما بذمتك متى ما شئت.

والنتيجة: إن هذا اليهودي الذي أعلن إفلاسه قد خرج من محنته دون أن يعلم الآخرون بها، بسبب التعاون وجمع الكلمة والعمل الدؤوب.

وعلى ضوء هذا، نحن المسلمين بحاجة ماسة إلى مثل هذه المواقف من التكاتف والتلاحم والتعاون والعمل، فإن اليهود بالرغم من انحرافهم، وابتعادهم عن الحق، ومعاداتهم للإسلام والمسلمين - قديماً وحديثاً - كيف يتعاملون مع بعضهم ويقف أحدهم في مساندة الآخر؟ ولكن بعضنا كيف يتعامل مع أخوته المسلمين الآخرين؟

الحال المعكوس

إن حال كثير من المسلمين على العكس تماماً، أذكر لكم قصةً معاكسةً لهاتين القصّتين، والتي اطلعت عليها بنفسي، فإنها مع كونها قصة قصيرة إلّا أنها تستحق التوقف عندها، ودراسة أسبابها وسبل معالجتها.

حينما كنا في كربلاء المقدسة، وفي أحد الأيام كنت راجعاً من الصلاة قاصداً المنزل، رأيتُ امرأة واقفة على باب دارنا، وحينما رأتني تقدمت وناولتني رسالة، وعندما قرأت تلك الرسالة وجدت أن بعضاً من علماء بغداد قد كتبوا أن هذه المرأة وزوجها وفقوا لنيل شرف الإسلام بعد أن كانوا على دين المسيحية.

ص: 116

فسألتها: ماذا تريدين؟

قالت: منذ سنة اعتنقت الإسلام أنا وزوجي ولنا خمسة أطفال، وبعد ستة أشهر من اعتناقنا الإسلام مرض زوجي وفارق الحياة، فاضطررت لبيع كل ما كانعندي من الحلي الذهبية، وأنفقتها على أولادي؛ لأنهم صغار ولا أحد يقدر على كفالتهم، وبعد مدة نفذ ما كان عندي من مال ومدخرات ولم يبق منها شيء، فاضطررت على الذهاب إلى الكنيسة، حيث كان فيها صندوق خيري (وكان المتعارف عندهم إذا أتاهم نصراني مريض أو فقير وثبت ذلك لهم بشواهد بسيطة فإنهم يقدمون له مساعدة مالية جيدة)، وعندما ذهبت إلى الكنيسة قالوا لي: إنك لا تستحقين مساعدة من قبلنا بعد إسلامك؛ لأنك أصبحت مسلمة، فاذهبي للمسلمين لكي يعطوك! إلى أن قالت: عدت ولم تسمح لي نفسي أن أذهب لأحد وأقول له ذلك، فقررت بيع ما كل ما أملك من أثاث البيت لأنفقها على أطفالي، وأنا الآن أواجه مشكلة أكبر من هذا كله، وهي إني لم أكن أقدر على تسديد ما بذمتي من إيجار الدار ولمدة ستة أشهر حتى تراكم المبلغ وصار (90) ديناراً، والآن جاء صاحب الدار وأبلغني منذراً: إذا لم تدفعي الإيجار فإني سأقوم ببيع ما تبقى من أثاث بيتك واستوفي المبلغ، وأطردك خارج الدار، فلا أدري ماذا أفعل، وأنا أعيل هؤلاء الأطفال؟!

وكانت تقول هذا وهي تبكي بحرقة.

فتأثرت كثيراً لها وسألتها: ألم تذهبي - في بغداد - إلى من يعينك؟

قالت: نعم، ذهبت لبعض الناس وكان مجموع ما أعطوني هو خمسة دنانير، وقد طردني بعضهم وأهانني، وقال لي البعض الآخر: أنت تعتنقين الإسلام كذباً!، وأخيراً أشار عليّ أحد الناس: أن أعرض حاجتي عليكم لكي تجدوا لي حلاً.

ص: 117

فأعطيتها مقداراً من المال وذهبت.

ولكن هذا الموقف بقي في بالي حتى الآن، فلماذا نحن هكذا؟!

عندما يأتي مسيحي ويختار دين الإسلام، بدلاً من أن نريه خير الإسلامورحمته وعطفه ومحبته، نتركه بوضع كهذا؟ فهل سيرغب مسيحي آخر - لو تصرفنا بمثل هذه المعاملة التي لاقتها هذه المرأة - ليعتنق الإسلام؟

وهل هذا الموقف منا ينسجم مع موقف أمير المؤمنين(عليه السلام) في الكوفة، حيث روي أنه: مر شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما هذا؟!». فقالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني.

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال»(1).

نعم، هكذا كان أمير المؤمنين(عليه السلام) وهكذا أمر شيعته ومواليه!

وللأسف إننا تركنا ما أمرنا به الإسلام من التعاون والعمل، لكن اليهود مع قلتهم متكاتفون متحدون، ونحن مع كثرتنا مختلفون ومتشتتون، وكل الذي بيننا هو التناحر والصدامات، وقد أوصى أئمتنا^ بإرضاء السائل ولو بالكلمة الطيبة.

ولو كنّا متفاهمين ومتحدين ويتفقد بعضنا الآخر، وكانت لدينا مؤسسات خدمية وصناديق خيرية وقروض شرعية ومعونات إنسانية لمساعدة المحتاجين، وكنّا نعمل بإخلاص لحل مشاكلنا وخلافاتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، لما بقيت لنا مشاكل، ولتقدمنا وتطورنا، فإن الإسلام دين التقدم والتطور.

إن علينا نحن المسلمين أن نعمل من أجل رفاه الناس، ولا يمكن ذلك إلّا عن طريق توحيد الصفوف والحث على التعاون والعمل والتنسيق.

ص: 118


1- تهذيب الأحكام 6: 293.

غاندي والعمل والتعاون

أخذ غاندي رجل الهند الشهير بأسس التقدم، من التعاون والعمل الدؤوب، حيث قام بمقاطعة البضائع الأجنبية، وتحريم استخدام وارتداء الملابس غيرالوطنية، وكان تعداد سكان الهند آنذاك حوالي (450) مليون نسمة(1) (مع أن الهند لم تكن تملك سلاحاً متطوراً بل كانت تحت حظر التسليح) وكانت تواجه أكبر إمبرواطورية في العالم أي بريطانيا المجهزة بالأسلحة المتطورة، وكانت بريطانيا في ذلك اليوم امبراطورية لا تغيب عنها الشمس كما يقولون، فأمر غاندي شعبه بأن لا يلبسوا الملابس الأجنبية أبداً، وشجع عوضاً عن ذلك بحياكة ونسج الملابس يدوياً.

فنلاحظ أن دولة كان تعداد سكانها (450) مليون نسمة، وهم بحاجة إلى الملابس الصيفية والشتوية، كم يستلزم من الوقت لكي يزرعوا وينتجوا محاصيل القطن، ثم يصنعوها ثم يرتدوها.

ولكن هذا الشعب - وبعدما أصدر غاندي قراره وأخذ مغزلاً بيده وهيأ لباسه لوحده - امتثل لهذا الأمر، ومنذ ذلك اليوم الذي أعلن فيه تحريم الملابس الأجنبية أصبح الشعب الهندي لا يرتدي تلك الملابس أبداً، وذلك لمجرد أن زعيمهم حرّمها، على الرغم من أن بريطانيا وضعت الهند تحت مختلف الضغوط إلّا أن الشعب الهندي لم يرضخ لها أبداً، وكان هذا الإجراء قد أثر على اقتصاد بريطانيا تأثيراً بالغاً حتى أعجزهم. وكانت النساء الهنديات يقضين الليل بغزل ألياف القطن والكتان، وكان المغزل يلاحظ في أغلب صور الزعيم الهندي حينذاك.

ص: 119


1- تشير بعض الإحصاءات الأخيرة إلى أن نفوس الهند بلغت ما يقرب من مليار وأربعمائة مليون نسمة في سنة (2018م).

وبهذا الأسلوب وغيره، وعبر التعاون والعمل، استطاع غاندي أن يحرر الهند من الاستعمار الإنجليزي؛ لأنه دخل ميدان العمل الفعلي - وليس الشعارات فقط -بكل قواه والتف حوله الشعب بكل أصنافه ودياناته وعقائده، وآزره وتلاحم معه، وهذا التجمع والوحدة والتعاون والعمل الذي سعى إليه غاندي كان هو السر في تحرير الهند آنذاك؛ لأن التعاون والروح الجماعية والألفة قوة معنوية، والقوة المعنوية تفوق القوى المادية.

أما الإنسان الذي لا يعمل ولا يتعاون لا يستطيع أن يتقدم؛ لأن النتائج الإيجابية دائماً مرتبطة بالعمل وليست بالتقاعس أو الأماني، فإن: «الأماني شيمة الحمقى»(1)

كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام).

وقال(عليه السلام): «الأمل سلطان الشياطين على قلوب الغافلين»(2).

وفي القرآن الحكيم: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العمل رفيق الموقن»(4).

وقال(عليه السلام):

«لو كان هذا العلم يحصل بالمنُى *** ما كان يبقى في البرية جاهل

اجهد ولا تكسل ولا تك غافلاً *** فندامة العقبى لمن يتكاسل»(5)

فلابد من العمل والتعاون لا العمل الفردي، فإن العمل الجماعي أبلغ لوصول

ص: 120


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 33
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 98.
3- سورة النجم، الآية: 39-41.
4- غرر الحكم ودرر الكلم 54.
5- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 334.

الغايات والأهداف، قال(عليه السلام): «يد اللّه مع الجماعة»(1).

وقفة أُخرى مع غاندي

عندما سافر غاندي إلى لندن بدعوة من بريطانيا ذهب ومعه عنزته، لأنه حين مرضه كان يتغذى على حليبها، وقد ذهب بهذه الهيئة وجلس مع اللوردات(2) وهم الذين يخططون ويتصدون لسياسة الإمبراطورية البريطانية، وكل ما أرادوا أن يقنعوا غاندي على التراجع عن قراره بمقاطعة البضائع الإنجليزية لم يتمكنوا، فقد أصرّ على قوله: يجب أن لاتتدخل بريطانيا في بلدي، بل رفض هناك أن يأكل الطعام الإنجليزي، فقد كان يتناول وجباته من لبن معزته، وذلك لكي يبين لهم إصراره وثباته على هذا الموقف.

وأراد اللوردات أن يدخلوا إليه من باب العاطفة فقالوا له: إن أهالي مانشستر، وجهوا لك دعوة لزيارة مدينتهم، فقال غاندي: لا مانع من ذلك، وعندما وصل إلى مدخل المدينة، وجد أن هناك جمعاً غفيراً من الناس قد اصطفوا على جانبي الطريق لرؤيته، وفي نهاية الطريق كانت هناك ساحة عامة، وبمجرد وصوله حضر ذلك الجمع من الناس حوله، ثم تحدث أحدهم باسم الجميع مخاطباً غاندي: أترى هذا الجمع الكثير من الناس؟

قال غاندي: نعم؟

فقال: أتعرف عددهم؟

قال غاندي: لا.

فقال الإنجليزي: إن عددهم 250 ألف شخص، أتعلم أنك قطعت الخبز عن

ص: 121


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 127 من خطبة له(عليه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين... .
2- يعتبر مجلس اللوردات ثاني المجالس البرلمانية للمملكة المتحدة بريطانيا.

هؤلاء؛ لأنهم جميعاً من عمال معامل الغزل والنسيج الذي كان يصدر إلى الهند، وهم الآن عاطلون عن العمل، فهل ترضى بذلك؟فأجابه غاندي قائلاً: كم عددهم؟

قال: 250 ألف شخص.

فسأله غاندي أيضاً: هل هؤلاء العمال ينامون جياعاً طوال الليل منذ أن حرمت الهند من استيراد الأقمشة من المعامل التي يديرها هؤلاء العمال؟

فقال الإنجليزي: لا، لأن أصحاب المعامل ملزمون بإعطاء العامل نصف راتبه في حالة توقف المعمل عن الإنتاج.

فسأله غاندي: هل هؤلاء العمال لا يملكون من الملابس ما يقيهم البرد القارص؟

قال: لا.

فقال غاندي: هل ينامون في الأزقة والشوارع؟

قال: لا، بل ينامون في معاملهم، أو بيوتهم.

قال له غاندي: إذاً ما الذي حصل لهم؟

فقال له الإنجليزي: خسارتان: خسارة أصحاب المعامل، والضائقة المادية التي يعاني منها هؤلاء العمال.

فقال غاندي: ليأتي هؤلاء العمال ال-250 ألف شخص وليشاهدوا الهند، فإن هناك عشرات الملايين من الناس يقضون الليل جياعاً، وإن الملايين منهم يفترشون الأرض وينامون في الأزقة والشوارع بدون سكن يأويهم، والآن أنتم تريدون أن تؤثروا على مشاعري فأساوي عمالكم هؤلاء بأولئك الملايين الذين ينامون جياعاً في الشوارع، في حين أن عمالكم - إن كانوا قد تضرّروا حقاً - فهم تضرّروا بضياع نصف رواتبهم فقط، وبسبب السياسات التجارية الجائرة مع

ص: 122

الشعوب الفقيرة، فهل أنتم أنفسكم ترضون بهذا الأمر؟ أنا أريد أن أحقق لبلدي استقلالاً اقتصادياً لكي لا نحتاج إلى ملابسكم، فنضطر لإخراج الأموال الطائلةمن بلادنا، نحن نريد أن نصنع ملابسنا بأيدينا، نحن نريد أن نزرع، نريد أن تكون لنا ثروة حيوانية مستقلة، كما إننا نريد الحصول على حقوقنا المشروعة ولم نأت إليكم لنعتدي عليكم، بل أنتم الذين جئتم للتسلط على بلادنا وشعبنا وإخضاعنا ونهب ثرواتنا.

دَور الأمّة

اشارة

وهنا لا بدّ أن نعرف من الذي وقف إلى جانب غاندي: الجواب: إن الذين وقفوا إلى جنبه ونصروه هم شعب الهند بكامله، فهم الذين قضوا الليالي الطوال حتى الصباح في الغزل وحياكة الملابس، ولو أن غاندي ألزمهم بتحريم الملابس الأجنبية ولم ينصاعوا له، فهل كانوا يحصلون على الاستقلال؟

ومن هنا يتبين أن روح المبادرة والتعاون يلزم أن تبادر لها الأمة وتصبح ظاهرة عامة؛ إذ لا يمكن للزعماء مهما أوتوا من قوة ونبوغ تحقيق أهداف الأمة بمعزل عنها. فلا بد أن تأخذ الأمة دورها في العمل وتسجل حضوراً دائماً في كافة الميادين، لتحقق النصر والتقدم، أما الأمة التي لا تعمل فهي في طريقها للسقوط والانهيار.

ولا يخفى أن الأمة بما هي أمة ليست مصدر القوة، بل الأمة وهي متحدة ومتعاونة ومتلاحمة وعاملة ونشطة، أساس القوة والقدرة.

العلاج من داخل الأمة

العلاج الرئيسي للمشاكل التي يعاني منها المجتمع الإسلامي هو بأيدينا نحن المسلمين، فلا يمكننا أن ننتظر أحداً غيرنا يأتي ليحل لنا مشاكلنا؛ فذلك خلاف

ص: 123

العقل والمنطق؛ إذ حينما انتشر الإسلام في زمن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان المسلمون هم الذين يتحملون العبء الأكبر ويجدون الحل لمشكلاتهم بأنفسهم، وبالتالي همالذين أخذوا على عاتقهم نشر الإسلام وازدهار الحضارة الإسلامية.

المعصومون^ أسوة في التعامل والعمل

ولننظر إلى حياة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام) ونأخذ الدروس والعبر منها، فقد تزوّجت(عليها السلام) وهي في عمر يقارب عشر سنوات، وظلت تتعهد إدارة المنزل لمدة ثماني سنوات حتى استشهدت مظلومة شهيدة، وكانت(عليها السلام) في حياتها تغزل وتخيط وتطحن حتى تدمى يداها، وكانت(عليها السلام) تعجن وتخبز، وكذلك كانت تقوم بتربية أطفالها على أحسن وجه، وكانت تستخرج الماء من البئر بنفسها، وكل هذه الأعمال مع أنها أنجبت خمسة أطفال؛ لذلك هي(عليها السلام) أعظم أسوة لنا جميعاً، ولنسائنا خاصة، في التعاون والعمل وتحمل الصعاب والمشاكل في سبيل اللّه عزّ وجلّ.

روي عن أبي سعيد الخدري، قال: أصبح علي بن أبي طالب(عليه السلام) ذات يوم ساغباً(1)، فقال: «يا فاطمة، هل عندك شيء تطعميني؟».

قالت(عليها السلام): «لا، والذي أكرم أبي بالنبوة وأكرمك بالوصية، ما أصبح عندي شيء يطعمه بشر، وما كان من شيء أطعمك منذ يومين إلّا شيء كنت أُوثرك به على نفسي، وعلى الحسن والحسين».

قال(عليه السلام): «أعلى الصبيّين! ألا أعلمتني فآتيكم بشيء»؟

فقالت: «يا أبا الحسن: إني لأستحيي من إلهي أن أكلّفك ما لا تقدر»(2).

ص: 124


1- ساغباً: أي جائعاً.
2- الأمالي للطوسي: 616.

وعن الإمام الباقر(عليه السلام): «تقاضى علي وفاطمة إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمة ما دون الباب، وقضى على علي ماخلفه، قال: فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلّا اللّه بإكفائي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) تحمل رقاب الرجال»(1).

وعن سلمان (رضوان اللّه عليه) قال: كانت فاطمة(عليها السلام) جالسة قدامها رحى تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل، والحسين(عليه السلام) في ناحية الدار يبكي، فقلت: يا بنت رسول اللّه، دَبِرَت(2) كفاك وهذه فضة؟! فقالت(عليها السلام): «أوصاني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن تكون الخدمة لها يوماً ولي يوماً، فكان أمس يوم خدمتها».

قال سلمان: إني مولى عتاقة، إما أن أطحن الشعير، أو أسكت لك الحسين(عليه السلام)؟ فقالت: «أنا بتسكيته أرفق، وأنت تطحن الشعير»، فطحنت شيئاً من الشعير، فإذا أنا بالإقامة، فمضيت وصليت مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلما فرغت، قلت لعلي(عليه السلام) ما رأيت، فبكى وخرج، ثم عاد يتبسم، فسأله عن ذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ قال: «دخلت على فاطمة(عليها السلام) وهي مستلقية لقفاها والحسين(عليه السلام) نائم على صدرها وقدامها الرحى تدور من غير يد» فتبسم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)وقال: «يا علي، أما علمت أن للّه ملائكة سيارة في الأرض يخدمون محمداً وآل محمد إلى أن تقوم الساعة»(3).

وروي أنه دخل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على علي فوجده هو وفاطمة(عليهما السلام) يطحنان في الجاروش، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيكما أعيا؟».

ص: 125


1- قرب الإسناد: 52.
2- الدَّبَر بالتحريك كالجراحة تحدث من الرجل ونحوه.
3- الخرائج والجرائح 2: 530.

فقال علي(عليه السلام): «فاطمة، يا رسول اللّه».

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها: «قومي يا بنية»، فقامت وجلس النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) موضعها مع علي(عليه السلام) فواساه في طحن الحب(1).وروي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لرجل من بني سعد: «ألا أحدثك عني وعن فاطمة الزهراء(عليها السلام)؟ إنها كانت عندي فاستقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضر شديد. فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل؟ فأتت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوجدت عنده حداثاً فاستحيت فانصرفت. فعلم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنها قد جاءت لحاجة فغدا علينا... ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟... فقلت: أنا واللّه أخبرك يا رسول اللّه، إنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وجرَّت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت(2) البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت(3) ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم، إذا أخذتما منامكما، فكبّرا أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدة.

فقالت فاطمة(عليها السلام): رضيتُ عن اللّه وعن رسوله، رضيتُ عن اللّه وعن

ص: 126


1- بحار الأنوار 43: 51.
2- مجلت يداها أي ظهر فها المجل، وهو ما يكون بين الجلد واللحم من كثرة العمل الشاق، والمجلة القشرة الرقيقة التي يجتمع فيها ماءٌ من أثر العمل الشاق، وكسح: كنس.
3- الدكنة: لون يضرب إلى السواد.

رسوله»(1).

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) عن جابر الأنصاري: «أنه رأى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)فاطمة(عليها السلام) وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يا رسول اللّه، الحمد للّه على نعمائه والشكر للّه على آلائه، فأنزل اللّه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ}(2)»(3).

وهكذا يلزم علينا جميعاً التعاون والعمل ومضاعفة الجهود من أجل توثيق روابط الأخوة والوحدة بين المسلمين لكي تتقدم الأمة نحو سعادة الدنيا والآخرة وذلك عن طريق العمل الصالح المثمر المستمر. ولتكن هذه الأهداف العليا فوق المصالح الضيقة والنظرات القاصرة، ولنقتد في عملنا بأهل البيت الأطهار^.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ تُعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(4).

من هدي القرآن الحكيم

واعتصموا بحبل اللّه

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ

ص: 127


1- من لا يحضره الفقيه 1: 320.
2- سورة الضحى، الآية: 5.
3- المناقب 3: 342.
4- الكافي 3: 424.

كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْعَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(3).

الوحدة شعار الأنبياء^

قال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَٰتِ وَاعْمَلُواْ صَٰلِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(4).

وقال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(5).

اليهود أعداء المؤمنين

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(6).

وقال جلّ وعلا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا

ص: 128


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- سورة الأنعام، الآية: 153.
3- سورة الحجرات، الآية: 10.
4- سورة المؤمنون، الآية: 51-52.
5- سورة الأنبياء، الآية: 92.
6- سورة المائدة، الآية: 51.
7- سورة المائدة، الآية: 82.

كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

تعاونوا على البر والتقوى

تعاونوا على البر والتقوىقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم اللّه عزّ وجلّ: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}»(2)(3)

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «وليعن بعضكم بعضاً فإن أبانا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقول: إن معاونة المسلم خير وأعظم أجراً من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أربعة من أخلاق الأنبياء: البر والسخاء والصبر على النائبة والقيام بحق المؤمن»(5).

وعن أبي إسماعيل قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): جُعلت فداك، إن الشيعة عندنا كثير، فقال: «فهل يعطف الغني على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء؟ ويتواسون؟» فقلت: لا، فقال(عليه السلام): «ليس هؤلاء شيعة؛ الشيعة من يفعل هذا»(6).

ذم الخصومة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصّر فيها ظلم، ولا

ص: 129


1- سورة آل عمران، الآية: 67.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- الكافي 2: 175.
4- الكافي 8: 9.
5- تحف العقول: 375.
6- الكافي 2: 173.

يستطيع أن يتقي اللّه من خاصم»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لا يخاصم إلّا شاك في دينه أو من لا ورع له»(2). وقالالإمام الباقر(عليه السلام): «إياك والخصومات، فإنها تورث الشك، وتحبط العمل، وتردي صاحبها، وعسى أن يتكلم الرجل بالشيء لايُغفر له»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إياكم والخصومة، فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق، وتكسب الضغائن»(4).

وحدة المجتمع الإسلامي

قال الإمام السجاد(عليه السلام) في رسالة الحقوق: «وأما حق أهل ملتك عامة فإضمار السلامة ونشر جناح الرحمة والرفق بمسيئهم وتألفهم واستصلاحهم وشكر محسنهم»(5).

وقال(عليه السلام): «يا زهريُّ! أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك، وتجعل تِرْبَكَ(6) منهم بمنزلة أخيك. فأي هؤلاء تحب أن تظلم؟ وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه؟ وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره؟»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمنون في تبارّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل

ص: 130


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 298.
2- التوحيد: 460.
3- الأمالي للصدوق: 417.
4- الكافي 2: 301.
5- تحف العقول: 271.
6- التِرب بالكسر، من وُلد معه.
7- الاحتجاج 2: 320.

الجسد إذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحمى»(1).

ذم الخلاف والفرقة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الأمور المنتظمة يفسدها الخلاف»(2).

وقال(عليه السلام): «إلزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(3).

وقال(عليه السلام): «عرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة»(4).

وقال(عليه السلام): «من نكد الدنيا تنغيص الاجتماع بالفرقة، والسرور بالغصّة»(5).

وقال(عليه السلام): «سبب الفرقة الاختلاف»(6).

وقال(عليه السلام): «الخلاف يهدم الآراء»(7).

ص: 131


1- المؤمن: 39.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 63.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 5، ومن خطبة له(عليه السلام) لما قبض رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 675.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 396.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 58.

التهجير جناية العصر

جريمة التهجير

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}(1).

لتوضيح الآية المباركة نقول: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} إلى المدينة {وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ} أخرجهم المشركون من مكة، والآية عامة لكل مهاجر من دياره، ومخرج من بلاده {وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي} لأنهم آمنوا وأطاعوا {وَقَٰتَلُواْ} لأجل اللّه سبحانه {وَقُتِلُواْ} قتلهم الكفار {لَأُكَفِّرَنَّ} أي: أمحونّ {عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ} فلا آخذهم بها {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ} أي تحت نخيلها وقصورها {ثَوَابًا} أي: جزاءً لهم {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} على أعمالهم ومشاقهم في سبيله {وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} أي: الجزاء الحسن، ليس غيره ممن لايقدر ولايملك الثواب الحسن.

إذا تأمل الإنسان كيف يكون الكفار في هذه النعمة والراحة والسياحة والأسفار، والمسلمون مضطهدون يُخرجون من بلادهم ويؤذون، مع أن اللّه سبحانه ناصرهم وظهيرهم؟!

ص: 132


1- سورة آل عمران، الآية: 195.

فيأتي الجواب في الآية اللاحقة {لَا يَغُرَّنَّكَ} وأصل الغرور إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه، فالمعنى: لا يوهمنّك يا رسول اللّه، أن الكفار في سرور{تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَٰدِ} فإن تقلبهم لا يعود إليهم بالنفع؛ فإن ذلك {مَتَٰعٌ قَلِيلٌ} أي: يتمتعون بذلك في زمان قليل {ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ} مصيرهم {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي: ساء المستقر لهم(1).

إن قضية تهجير مئات الآلاف من المؤمنين من أبناء الشعب العراقي من القضايا المهمة على الصعيد الإسلامي عامة، وعلى الصعيد العراقي بشكل خاص، فقضية تهجير عشرات الألوف من أبناء الشعب العراقي المظلوم إلى إيران، وبأبشع الطرق التي تنافي الضمير الإنساني، فقد هجّروا وشردوا من ديارهم وسلبت أموالهم، بعد أن مورس بحقهم شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي بما في ذلك التفريق بين العائلة الواحدة، حيث فرقوا بين الزوج وزوجته، والطفل وأبويه، وسفّروا قسماً من العائلة، وتركوا القسم الآخر رهناً للاعتقال في سجون نظام البعث المظلمة، ومارسوا بحق المهجّرين وأقاربهم، ومَن يمتّ لهم بصلة قربى ألواناً أخرى من التعذيب الجسدي، كالضرب والإهانات والشتائم والاعتداء على الأموال والأعراض والأنفس، منتهكين بذلك جميع القوانين والأعراف الإسلامية والدولية، حتى قال بعض المحققين: إنهم - أي طغاة العراق - فاقوا جميع السفاحين وحشية على مدى التاريخ قديماً وحديثاً، أمثال:

بني أمية

وبني العباس

ص: 133


1- تفسير تقريب القرآن: 1: 435.

وهولاكو

وجنكيز خانوهتلر

ومن أشبه.

فقد جمع أزلام هذا النظام جميع الصفات الإجرامية والأساليب اللاأخلاقية المتمثلة بالسفاحين، وحينما صهر المجرمون في بوتقة واحدة تولد عن هذا الخليط أبشع وأرذل وأخبث نظام عرفه العالم ألا وهو نظام عصابة البعث العراقي الحاكمة.

وفي هذا الكتاب نحاول أن نحيط ببعض المواضيع المتعلقة بهذا الحدث المهم، وسنحاول أيضاً أن نوضح طبيعة النظام الحاكم في العراق، الذي مارس هذه العملية بحق الأبرياء المؤمنين من إخواننا في العراق الجريح، ونبين الأساليب التي استخدمها هذا النظام، والظروف التي استغلها.

كذلك نناشد الروح الإسلامية المغروسة في الضمائر والنفوس الحية في أبناء الإسلام، وأصحاب الضمائر الحية لأحرار العالم للوقوف بوجه هذا النظام والإطاحة به، ومن اللّه التوفيق(1).

التركيبة السكانية

اشارة

بداية نحاول أن نبين التركيبة السكانية للشعب العراقي - بشكل موجز - وبعد ذلك نسلط الضوء على الفئة المستهدفة من عملية التهجير اللاإنساني من قبل

ص: 134


1- أصدر الإمام الراحل بيانات عدة حول جريمة التهجير، منها ما هو موجه إلى جمعيات حقوق الإنسان، ومنها ما هو موجه إلى المهجرين، حيث يوصيهم بالصبر والعمل الجاد في سبيل اللّه عزّ وجلّ؛ انظر: كتاب مجموعة بيانات آية اللّه العظمى الحاج السيد محمد الحسيني الشيرازي إلى الشعب العراقي المسلم، طبع وتوزيع علماء الدين المجاهدون في العراق.

النظام العراقي!

يتألف الشعب العراقي من مجموعة من القوميات كالعرب، والأكراد،والتركمان، وبعض الأقليات الأخرى، والغالبية العظمى من الشعب هم من العرب، وهذه الغالبية أيضاً منقسمة إلى قسمين: عرب عراقيين بالأصل، وعرب سكنوا العراق هم وآباؤهم وأجدادهم وهؤلاء كانوا يُسمون قديماً (بالموالي) وربما كانوا من أصل فارسي أو تركي أو ما أشبه، وقد عاشوا في العراق وولدوا في العراق، وتجنسوا بالجنسية العراقية، وبعضهم لم يمنحوا (شهادة الجنسية العراقية) بالمصطلح الحديث أو أنهم لم يتقدموا بطلبها، وبعضهم كتب في صحيفة أحواله المدنية اسم (تَبَعي). والظاهر أن المسألة هي ذاتها قديماً وحديثاً - من حيث التفرقة بين هذا عربي وغير عربي - ، إذ لم يتغير من الأمر شيئاً إلّا لفظة (الموالي) التي كانت السائدة في عصر بني أمية فتحولت إلى التبعية(1)، واستغل نظام الحكم في العراق هذه اللفظة - أي التبعية - والتي تتنافى مع الروح والتعاليم الإسلامية التي أُمرنا باتباعها؛ لأن المسلمين كلهم سواسية ولا فرق بينهم وهم أبناء الإسلام، واخوة في الدين، ووطنهم الواحد بلاد الإسلام أينما امتدت فلا يجوز شرعاً إخراج وتهجير وتسفير أحد لمجرد أنه من أصل آخر.

ص: 135


1- في ظل النظام الحاكم في العراق أصبحت لفظة (التبعية) أو (التبعي) تهمة عظيمة وسبة كبيرة، يرتعب منها ويحاول أن يبتعد عنها أي عراقي، حتى وصل الحال إلى أن يُجبر الزوج على تطليق زوجته؛ لأنها من أصول غير عربية - تبعية - والزوجة تنفصل عن زوجها لأنه من أصول غير عربية، بل كان الموظف في دوائر الدولة يطرد من وظيفته إذا لم يبادر إلى تطليق زوجته - التبعية - وكذلك الموظفات، كما أن النظام استغل بعض ضعاف النفوس من التبعية فعملوا لدى دوائر أمن النظام بصفة عملاء وجواسيس؛ لإثبات الولاء الأعمى واللامحدود للنظام العفلقي حتى لو أدى بهم ذلك إلى الوشاية بأقربائهم.

فقد قال تبارك وتعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).وقال عزّ من قائل: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لما كان يوم فتح مكة قام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الناس خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، ليبلِّغ الشاهد الغائب أن اللّه تبارك وتعالى قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، والتفاخر بآبائها وعشائرها. أيها الناس، إنكم من آدم وآدم من طين، ألا وإن خيركم عند اللّه وأكرمكم عليه أتقاكم وأطوعكم له، ألا وإن العربية ليست بأب والد ولكنها لسان ناطق، فمن طعن بينكم وعلم أنه يبلغه رضوان اللّه حَسَبُه، ألا وإن كل دم مظلمة أو إحنة كانت في الجاهلية فهي تظل تحت قدمي إلى يوم القيامة»(3).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «أصل المرء دينه، وحسبه خلقه، وكرمه تقواه، وإن الناس من آدم شَرَع سواء»(4).

وروي: أن سلمان الفارسي رضي اللّه عنه دخل مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم، فعظموه وقدموه وصدروه؛ إجلالاً لحقه، وإعظاماً لشيبته، واختصاصه بالمصطفى وآله^ فدخل عمر فنظر إليه فقال: من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب؟

فصعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنبر، فخطب فقال:

«إن الناس من آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على

ص: 136


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- مستدرك الوسائل 12: 88.
4- الزهد: 57.

العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى...»(1).

فأمثال هذه الحواجز والتمايزات اللاإسلامية لا يقرها الدين الحنيف، بلالمائز هو الإيمان والتقوى أمام الكفر.

نعود ونقول: إن نظام الحكم في العراق استغل لفظة (التبعية) واتهم العديد من العراقيين بذلك للقيام بعمليات التهجير الواسعة؛ وذلك لتغيير البنية السكانية والمذهبية للشعب العراقي، ولخلق نوع من الإرهاب والظلم الجماعي، بتشتيت وتفريق العوائل المتدينة والملتزمة بالإسلام، بإلصاق التهم والافتراءات الكاذبة عليهم والبعيدة عن الواقع؛ ليجد التبريرات الواهية التي تمكّنه من سلب أموالهم وتعذيبهم، ومن ثم تهجيرهم بكل قسوة ووحشية.

وتجسدت - في واحدة من أشدها - هذه العمليات الإجرامية، حينما جمع تجار ووجهاء السوق الكبير في بغداد (الشورجة) وسفّرهم إلى خارج العراق، مستولياً على أموالهم وممتلكاتهم، زاعماً أنهم غير عراقيين، وهكذا عملوا في جميع محافظات العراق وخصوصاً كربلاء المقدسة والنجف الأشرف والكاظمية المشرفة والكوت، وباقي المناطق التي يتواجد فيها الشيعة... .

سيرة الحزب الحاكم في العراق

إن أي شخص يريد أن يتناول سيرة نظام حزب البعث الحاكم في العراق سيعجز عن الوصف الكامل والدقيق لهذا النظام، ولا أعني بذلك وصف هيكله العام، أو الأفراد المنتمين إليه، أو الجهة التي ساعدت في نشأته، فكل ذلك سهل يسير على الباحث، ولكن الشيء العسير هو الإحاطة الكاملة بالأعمال الإجرامية التي مارسها أفراد هذا الحزب بحق أبناء الشعب العراقي المسلم، من التعذيب

ص: 137


1- الإختصاص: 341.

وقتل النفس التي حرمها اللّه، وهتك الأعراض، وسلب الأموال والممتلكات، وكذلك قيامه بعمليات التهجير الواسعة ضد أبناء شعبنا المظلوم، وما إلى ذلك من الأساليب التي يعجز القلم عن كتابتها، واللسان عن سردها.ولم يتوقف هذا النظام عن ظلم الشعب العراقي بجميع فئاته عرباً وأكراداً، شيعة وسنة، بل حتى الأقليات الصغيرة لم تسلم من حقده وظلمه وجوره، وكذلك تعدى في ظلمه حدود العراق والشعب العراقي فعم ظلمه الشعوب الأخرى، فحربه التي شنها على إيران أحد دوافعها الرئيسية هو حقده على الإنسانية بصورة عامة وعلى الشعبين المسلمين العراقي والإيراني بصورة خاصة.

كذلك دخوله في مؤامرات سرية و - بعض الأحيان - علنية مع القوى الكبرى المعادية للإسلام، لضرب الشعب العراقي المسلم، وضرب نهضته الإسلامية المتوقدة.

ومن هذه المؤامرات السرية تعاونه بصورة سرية مع الكيان الصهيوني لضرب الإسلام والمسلمين، ومن مؤامراته العلنية تحالفه مع نظام الشاه لضرب الأكراد في شمال العراق - على سبيل المثال لا الحصر - ودخل في تحالفات مشبوهة كثيرة لا يسع المجال لذكرها هنا.

الغاية في وجود الحزب الحاكم

من الطبيعي في نشوء أي فكرة أو نظام أو حزب أو ما إلى ذلك كله، أنه يحتاج إلى علة وغاية لوجوده(1)، سواء كانت الغاية سامية ونبيلة أم كانت سافلة ورذيلة. وفكرة إيجاد حزب البعث في العراق نشأت بأوامر وتوجيهات الاستعمار الغربي بصورة عامة، والاستعمار البريطاني بصورة خاصة.

ص: 138


1- المقصود من العلة: الموجد، والمقصود من الغاية: الهدف.

أما الغاية من إيجاده في جسد الأمة الإسلامية بصورة عامة، والشعب العراقي بصورة خاصة، فكانت كالتالي:

إن النفوذ الاستعماري لدول الغرب، أعقاب الحربين العالميتين اتخذ أبعاداًخطيرة، وخاصة الدول المنتصرة - الحلفاء - كأمريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي، ولقد عملت الدول المذكورة بكل ما تستطيع من قوى على إبقاء دول العالم هناك تحت هيمنتها، فقسمتها إلى مناطق نفوذ لها، فكل دولة أخذت مجموعة من الدول الصغيرة وضمتها إلى سيطرتها، وكان العراق من حصة بريطانيا(1)، وهذا فيه كلام كثير ذكر في محله.

والدول الاستعمارية عادة تفكر في أسهل وأرخص الأساليب لإدارة شؤون البلاد المستعمرة، إما بطريقة مباشرة بواسطة الاحتلال المباشر، أو بطريقة غير مباشرة، أي بزرع أنظمة وتكتلات من داخل البلاد المستعمرة تدير شؤون البلاد بطريقة تضمن مصالح الدولة الاستعمارية.

مارست بريطانيا الأسلوبين معاً في إدارة شؤون العراق، ففي بداية الأمر استخدمت الأسلوب الأول (التدخل المباشر)، عبر احتلال العراق عسكرياً، وذلك عام (1917م) عندما أكملت الجيوش البريطانية احتلال بغداد وقال قائدها: (إن جيوشنا لم تدخل مدنكم وأراضيكم بمنزلة قاهرين أو أعداء بل

ص: 139


1- وذلك عبر اتفاقية سايكس - بيكو (1916م) وهي اتفاقية سرية تم إبرامها في الفترة من (9-16/5/1916م) بين فرنسا وبريطانيا العظمى، بموافقة روسيا القيصرية، وأطلق عليها في البدء (الاتفاقية الإنكليزية الفرنسية الروسية) أو اتفاقية (سايكس - بيكو - سازانوف) نسبة إلى ممثلي الدول الثلاث المعنية، وقد تم بموجب هذه الاتفاقية، التفاهم على تقسيم سورية ولبنان والعراق وفلسطين وبعض الأراضي التركية فيما بين هذه الدول وتعتبر هذه الاتفاقية المشروع الذي اعتمدت عليه فرنسا وبريطانيا لتقسيم المشرق العربي فيما بعد.

محررين)، ولكن هذا الأسلوب فشل في إدارة شؤون العراق؛ وذلك للتصدي والمعارضة الشديدة التي أبداها أبناء الشعب العراقي بقيادة العلماء لمخططاتالاستعمار ومكائده، إبان ثورة العشرين(1) التي قادها العلماء المراجع ضد قوات الاحتلال البريطاني وجيوشه التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى أمام دول المحور، ولكنها خرجت منكسرة أمام جهاد الثوار وصمود وصلابة قادة الثورة الذين انضوى تحت قيادتهم كافة أفراد الشعب العراقي وعشائره. وفي ظل هذه الظروف أخذ الإنكليز بالمراوغة والتجئوا إلى الأسلوب الثاني، أي أسلوب زرع التنظيمات والتكتلات الاستعمارية داخل الشعب العراقي لإدارة شؤون البلاد والضغط على الشعب، ومن ثم عقد اتفاقيات ومعاهدات تمرر عبرها كل مؤامراتها ضد الإسلام والمسلمين عموماً والعراقيين خاصة.

وحتى تستفيد من أغلب خيرات العراق، الطبيعية والصناعية والمعادن والموارد الحيوية من نفط وغاز وفوسفات وكبريت...الخ، وكذلك لتستغل الأيدي العاملة العراقية لصالحها، ولتجميد عقول العراقيين عن التفكير في شؤون بلادهم وكيفية الوصول إلى الهدف المنشود، خلقوا للشعب مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية بجعل همهم الوحيد كيفية الحصول على لقمة العيش، والاحتراز من السيف المسلط عليهم من قبل النظام الحاكم.

الوعي الديني السياسي

من أهم الأسباب التي دعت الاستعمار البريطاني إلى إيجاد نظام تعسفي يدير شؤون العراق ويحكمه بالحديد والنار هو نمو الوعي الديني والسياسي، وظهور

ص: 140


1- هي ثورة عارمة ضد الاستعمار الإنكليزي في العراق عام (1338ه-1920م)، حيث اصدر قائد الثورة الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) والذي كان المرجع الأعلى للطائفة، فتواه الشهيرة ضد التواجد الإنكليزي في العراق مما اضطروا للخروج بعد الخيبة والانكسار.

الصحوة الإسلامية عند غالبية الشعب العراقي، فأغلبية الشعب العراقي اتحدتتحت لواء علماء الدين المتمثلة في تلك الفترة بمراجع الدين العظام(1)،

وكذلك تعددت قنوات التوعية في المجتمع العراقي، من أمثال الخطباء والشعراء الإسلاميين، وانتشار الكتب والمجلات والموسوعات العلمية، التي تحاول جميعها أن تجعل من الشعب العراقي شعباً واعياً في أمور دينه ودنياه. هذا كله إضافة إلى غايات سياسية أخرى جعلت الإنجليز يفكرون في إيجاد نظام يحمل جميع مواصفات الإجرام والتبعية، فزرع نظام حزب العفالقة في جسد الأمة الإسلامية في العراق، ليحقق لهم من المطامع والمصالح ما لم يستطيعوا هم تحقيقه مباشرة وبشكل لم يحلموا به، ومن ذلك يتبين لنا أن غاية وجود هكذا أنظمة في العراق إنما هو لصالح الاستعمار، وليس لصالح الشعب العراقي.

فعلى كافة المسلمين في هذه المعمورة وعلى المسلمين المجاهدين من أبناء شعبنا العراقي المظلوم، وخصوصاً الذي هجّرهم النظام البعثي، ونفاهم عن أراضيهم ومسقط رأسهم، وعلى كافة الخيرين في العالم الوقوف بوجه هذا النظام بكافة الوسائل والإمكانيات؛ لأن خطره ليس على الشعب العراقي فحسب، بل على العالم الإسلامي بأكمله، بل وعلى جميع الخيرين ومحبي الإنسانية في العالم، وإن جبين الإنسانية ليندى من تصرفات وأفعال هذا النظام الاستعماري الغادر، وقد قال الإمام الحسين(عليه السلام) كلمة الفصل حينما انبرى مخاطباً الإنسان الذي لا يعمل على مكافحة الظلم والطغيان: «أما بعد فقد علمتم أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قال في حياته: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم اللّه، ناكثاً لعهد

ص: 141


1- فقد كان في العراق وحده من المراجع الكبار الذين كان لهم الدور الكبير والمؤثر في السياسة الدولية كالمجدد الشيرازي والميرزا محمد تقي الشيرازي والسيد أبو الحسن الإصفهاني والشيخ كاظم الخراساني والسيد الحبوبي والسيد الحكيم وغيرهم من كبار العلماء.

اللّه، مخالفاً لسنة رسول اللّه، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان ثم لم يُغيّر بقول ولافعل، كان حقيقاً على اللّه أن يدخله مدخله...»(1).

التهجير وسلوكية الحزب الحاكم

إن من أشد المآسي التي ابتلي بها شعبنا العراقي المسلم، في ظل حكم العفالقة، هي مأساة التهجير اللاإنسانية والتي تتعارض مع أبسط حقوق الإنسان والقوانين والأعراف الدولية، خاصة مع تلك الظروف التي مر بها المهجرون خلال الحملات الهمجية المفتقدة لأبسط معاني الإنسانية.

حيث قام هذا النظام بتهجير مجاميع كبيرة من أبناء هذا الشعب المظلوم، يصل عدد المجموعة الواحدة إلى ألف شخص أو أكثر أو أقل - وفي بعض الأحيان عائلة واحدة تهيم على وجهها في البراري والقفار دون راشد أو دليل - في ظروف مأساوية وعبر مناطق حربية حدودية مزروعة بالألغام والمتفجرات، راح ضحيتها عدد كبير من هؤلاء الأبرياء، الذين سفرهم نظام البعث لا لذنب اقترفوه، سوى أنهم من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) ومن أنصار سبط رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحسين بن علي(عليهما السلام)، لا لأنهم غير عراقيين (تبعية) كما يدعي النظام.

فإن من سلوكية النظام البعثي الحاكم في العراق هو ملاحقة الخيرين ليس في العراق فحسب بل في جميع بقاع العالم.

فالشخص الملتزم صاحب المبادئ الذي يسير مع الحق ويحارب الظلم مستهدف من قبل النظام العراقي. ويستخدم النظام عدة وسائل في سبيل تصفية مثل هؤلاء الأشخاص في العراق، كالإعدام بتهم ملفقة، والسجن مع أشد التعذيب، أو التهجير وسلب الأموال والممتلكات الأخرى، كما فعل بهذه الثلة

ص: 142


1- بحار الأنوار 44: 382.

الخيرة من أبناء العراق الجريح، أو الغدر والاغتيال غيلة كما فعل بالأخ الشهيدالسيد حسن الشيرازي(1).

وغيره(2).

فالتهجير أسلوب استخدمه طغاة العراق لإرهاب الناس ونشر سيطرتهم على البلاد ونهب ثروات العراق، ولكنهم جهلوا أن هذا الأسلوب سوف يعود عليهم

ص: 143


1- آية اللّه الشهيد السيد حسن بن السيد الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه)، ينحدر من أسرة اشتهرت بالعلم والفضيلة والتقوى ومكافحة الاستعمار. وُلد في مدينة النجف الأشرف عام (1354ه). درس السطوح العليا على يد العلماء الكبار أمثال والده آية اللّه العظمى الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه) وآية اللّه العظمى السيد محمد هادي الميلاني» وآية اللّه العظمى الشيخ محمد رضا الأصفهاني(رحمه اللّه). اشتهر في الأوساط العلمية بالعلم والفقاهة والذوق الأدبي والعمل الدؤوب. كان من طليعة المحاربين للحكومات الجائرة التي تعاقبت على العراق بالفكر واللسان والعمل، فتعرَّض لمضايقات عديدة وللاعتقال والتعذيب. ترك العراق مهاجراً إلى لبنان وسوريا عام (1390ه) واستمر في نشاطه العلمي والديني والفكري والسياسي، على أرض المهجر وتعريف ظلامة الشعب العراقي للعالم. فأسس المدارس الدينية والمراكز الإسلامية والحسينيات، فأسس الحوزة العلمية الزينبية في سوريا عام (1393ه) بتوجيه من أخيه الإمام الراحل(رحمه اللّه) وكان يدرِّس فيها بحث خارج الفقه والأصول، وأسس مكتب جماعة العلماء في لبنان عام (1397ه) ومدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف ودار الصادق^ وغيرها. اغتيل «برصاصات عملاء نظام الطغاة الحاكم في العراق بمدينة بيروت عام (1400ه). خلّف آثاراً مطبوعة ومخطوطة منها: موسوعة الكلمة في 25 مجلداً تتضمن: كلمة اللّه (جل جلاله)، وكلمة الإسلام، وكلمة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكلمة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، كما ألف كتاب (خواطري عن القرآن) الذي يقع في ثلاثة مجلدات، والاقتصاد الإسلامي، ودواوين شعرية، والعمل الأدبي، والأدب الموجه، والشعائر الحسينية، وغيرها، للتفصيل راجع كتاب (حضارة في رجل) للسيد عبد اللّه الهاشمي، وكتاب (أسرة المجدد الشيرازي) لنور الدين الشاهرودي، و(الراحل الحاضر) لمؤسسة المستقبل للثقافة والإعلام و(الموجز الجامع) للشاهرودي والفدائي.
2- كالعلامة الشهيد السيد محمد مهدي بن آية اللّه العظمى الإمام السيد محسن الحكيم».

بالخزي والعار الآن وفي المستقبل، وسوف يسجل التاريخ على طغاة العراقوفي صفحة بارزة مفصلة جميع أعمالهم الإجرامية، لتكون شاهداً على تبعيتهم وانحرافهم قال تعالى في كتابه الكريم: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(1).

ولقد صبغ النظام البعثي العراقي هذه العملية (التهجير)، بصبغة قومية لتبرير أعماله اللاإنسانية، واستمالة بعض الأقلام المتعنتة المأجورة، التي تنادي بالقومية الجاهلية التي تخالف الإسلام.

لذا يلزم على جميع المثقفين من كتاب وصحفيين ومبلغين في جميع أنحاء المعمورة، وخصوصاً العراقيين منهم، أن يعملوا على فضح وتعرية أساليب هذا النظام، ففي الحديث الشريف: «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم»(2).

وأذكّر، بل وأحذّر الأخوة المسلمين من مهجّرين وغيرهم من مغبة التقاعس عن العمل، أو التهاون في طريقة التعامل مع هذا النظام، سواء كان بأسلوب مباشر أو بأسلوب غير مباشر، مثل: الكلام لصالحه دون قصد، أو الانخراط في المشاغل الشخصية فقط، وترك المسؤولية الكبرى وهي الجهاد في سبيل إسقاط نظام طغاة العراق عبر نشر الوعي والثقافة في جميع أوساط الأمة والتبليغ بالمال والقلم واللسان ونحو ذلك، وتأسيس المنظمة العالمية الإسلامية للدفاع عن الحقوق المهدورة.

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَٰتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ

ص: 144


1- سورة الأنعام، الآية: 123.
2- الكافي 2: 164.

وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُالظَّٰلِمُونَ}(1).

العناصر الدخيلة في نظام الحكم

إن النظام الحاكم في العراق عندما قام بتهجير عشرات الألوف من أبناء العراق بحجج وادعاءات واهية وضعيفة، مبنية على أساس أن هؤلاء المهجرين هم غير عراقيين من الذين لم تدرج أسماؤهم ضمن سجل الأحوال المدنية لسنة (1920م)، وأدّعى بأنهم من أصول فارسية وتركية، فهذا يبطله الواقع؛ لأن أغلب المهجرين هم من حملة الجنسية العراقية، وهم مولودون في العراق أباً عن جد، وقد ساهموا في إعمار وحماية العراق من المخاطر الخارجية والداخلية، وأغلبهم شارك هو أو آباؤه أو أجداده في الثورات التي قام بها أبناء الشعب العراقي ضد المستعمرين الأجانب، وخصوصاً ثورة العشرين التي قامت ضد الاستعمار الإنكليزي.

وإذا كان ما يدعيه النظام - صحيحاً - بأنه سفّر هؤلاء الخيرين من أبناء العراق لأنهم غير عراقيين، فهذا الإدعاء هو وحده كاف لإدانة هذا النظام؛ فالسؤال الذي يطرح نفسه هو:

إذا كان قرار التسفير أو التهجير مبنياً على عدم أصالة وانتماء الشخص إلى العراق، أي إذا كان الشخص من غير العراقيين الأصليين فهو معرض للتهجير، فمن أين تأتي الأصالة إلى أزلامه وعناصره المتنفذة، من أمثال:

ميشيل عفلق(2).

ص: 145


1- سورة الممتحنة، الآية: 9.
2- ميشيل عفلق مسيحي من أم يهودية مواليد دمشق (1910م)، أحد مؤسسي حزب البعث مع صلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني وغيرهم.

وشبلي العيسمي

وطارق يوحنا عزيز

والبيطار

وحفيد ساسون حسقيل (أحمد حسن البكر)

وصدام

فحقيقة هؤلاء الأشخاص تثبت أنهم غير عراقيين، بل إن بعضهم غير عربي أصلاً.

فالشخص الأول في الحزب وهو ميشيل عفلق لا ينتمي للعراق ولا للعروبة في أصل أو فرع، فهو مسيحي غربي، واختلف في ذلك أيضاً، هل هو غربي فرنسي أم غربي يوناني؟ فهو وأبوه ينتميان إلى الديانة المسيحية، أما أمه فهي من الديانة اليهودية، وهو الصديق الحميم لرئيس وزراء إسرائيل (مناحيم بيغن)، فقد درس معه في مدرسة واحدة، وفي صف واحد.

إضافة إلى ذلك فهو - عفلق - يُعد من العملاء المخلصين للحكومة البريطانية، وهو أحد الأعضاء الفاعلين لشركة لايف الصهيونية.

أما شخص شبل العيسمي، فهو أيضاً مسيحي وغير عراقي، فهو من أصل سوري، وقد حكم عليه بالإعدام في سوريا، وفرّ إلى العراق.

أما طارق يوحنا عزيز، فهو يدين بالمذهب الآشوري المسيحي.

أما حفيد ساسون حسقيل (أحمد حسن البكر)، فهذا جده يهودي الأصل، عمل تاجراً في سوق بغداد المعروف بسوق (الشورجة)(1)، وكان يدعى

ص: 146


1- وهو سوق كبير وقديم يقع في بغداد، كان التجار اليهود هم المسيطرون فيه على الأعمال التجارية، وفيه قبر الشيخ الحسين بن روح النائب الخاص للإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشريف.

ب(ساسون حسقيل)، وكان يعمل مع أبناء عمومته في نفس السوق (الشورجة)وحصل خلاف بينه وبين أبناء عمومته بشأن بعض المعاملات التجارية فقطع علاقته بهم، وترك العمل في دكانه وغير مجرى حياته، فرحل إلى تكريت، وأسلم ظاهرياً في تكريت على يد أحد علماء السنة يدعى (الشيخ عبد اللّه)، وأخذ يشتهر بين الناس في تكريت بأنه قد أسلم، وقد تبين فيما بعد أن هذا العمل ما هو إلّا خطة استعمارية، ثم بدّل هذا الملا - كما يدعى - اسمه إلى (أبو بكر) ثم جعلوا ينادونه باسم (بكر)، ثم يولد للبكر هذا ولد يسميه (حسن)، ومن الجدير بالذكر أن اسم (حسن) هو اسم قليل الشياع بين أهل السنة في العراق، فيتضح هنا بأن وضعهم لاسم (حسن) ما كان إلّا خطة مدروسة لتضليل أبناء الشعب العراقي، ولكسب عواطف الشيعة، ثم بعد ذلك ولد لهذا، أي ل(حسن) مولود سمي ب(أحمد).

وأما (صدام) فقد تحير العراقيون في إرجاع نسبه، هل هو عربي عراقي أم غير عراقي؟ وهل هو مسلم أو مسيحي أم يهودي أم ماذا؟

فبعضهم يقول: بأن اسم (حسين) هذا ليس هو الاسم الحقيقي لوالده، وكان بعض العراقيين يعرف أباه، ويقول أنه كان يعمل في السفارة البريطانية بصفة خادم، وبعضهم قال: إنما سماه الإنكليز بهذا الاسم - حسين - لكي لا يستطيع أحد أن يطلع على اسمه الحقيقي، فنسبه إذن من الأمور المجهولة على الشعب العراقي، وقيل بأن صدام كان قبل الانقلاب العسكري عام (1968م)، موظفاً صغيراً يعمل في دائرة الكهرباء براتب بسيط، وعندما جيء به من قبل الاستعمار إلى الحكم في العراق ما هي إلّا فترة حتى أصبح يعد من أغنياء العالم، والسبب معروف ونحن لسنا بصدد ذلك الآن.

إذن هؤلاء هم عناصر الحزب الحاكم في العراق، ومن على شاكلتهم أيضاً

ص: 147

هذه سيرتهم، فهم بالإضافة إلى أصولهم وأنسابهم غير العراقية، وغير العربية، أوالمشكوك فيها أصلاً عملوا على ظلم الشعب العراقي بكافة الوسائل التي وضعها لهم الاستعمار، وقتلوا وشرّدوا وسجنوا وسلبوا حقوق الشعب كافة، حتى أصبح العراق سجناً كبيراً بفعل تصرفاتهم المشبوهة، بل ويتبجحوا باتهام العراقيين بأنهم غير عراقيين، وغير عرب، فأي الفريقين أولى بالتسفير؟!

هل الأشخاص الذين يعملون في سبيل اللّه والوطن، وقاوموا الاستعمار وأطماعه هم وآباؤهم وأجدادهم، وضحوا بدمائهم وأموالهم في سبيل اللّه والإسلام والوطن، أم أولئك البُعداء عن الشعب والوطن المرتبطين بتحالفات مشبوهة وأحزاب تتستر بشعارات مزيفة، والذين عملوا ما عملوا بهذا الشعب من أعمال إجرامية قادت العراق إلى هذا الوضع المتردي والمزري الذي هو فيه الآن(1).

فجميع الأعراف والقوانين الدولية والمحلية ينددون بهذه الزمرة الطاغية التي ظلمت وشردت وقتلت أبناء الشعب العراقي؛ وذلك لأن الظلم قبيح، وعامل القبيح يستحق الذم والعقاب من قبل جميع العقلاء، فلينتظر حكام العراق مصيرهم الأسود بالقريب العاجل - إن شاء اللّه تعالى - قال عزّ من قائل في كتابه الكريم: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٖ}(2).

وقال تبارك وتعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(3).

ص: 148


1- وإن كان لهم تأريخ في العراق فتاريخهم يشهد على عمالتهم وخياناتهم وغدرهم بالأمة الإسلامية والعربية والعراق.
2- سورة هود، الآية: 81.
3- سورة آل عمران، الآية: 178.

طغاة العراق.. أهداف وأساليب

إن الأسلوب الذي تتبعه الأنظمة المستبدة الفاسدة في إدارة شؤون البلاد عادة ما يكون أسلوباً تعسفياً، مبنياً على الإرهاب والقتل والتشريد والتصفية الروحية والجسدية لمعارضيها، وهذا الأسلوب قريب جداً من أسلوب عمل العصابات العالمية، كعصابة المافيا في إيطاليا ومنظمة الهاغانا الصهيونية وجهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)، وما شابه ذلك. فهذه الأنظمة الفاسدة والعصابات العالمية تعتمد أسلوب التصفية لكل من يعارضها، وخصوصاً الأشخاص الذين كانوا منتمين إليها ثم خرجوا منها لسبب أو لآخر، مثلاً ينكشف لهم زيف الشعارات والأهداف التي كانت تنادي بها هذه الأحزاب والأنظمة هذا إذا كان دخولهم فيها لجهلهم بأسلوب تلك العصابات وغفلتهم عن ارتباطاتها وأهدافها، أو يقضون على عملائهم لانتفاء الحاجة إليهم، فتتم تصفيتهم بكافة الوسائل؛ لأن هؤلاء الأشخاص بدخولهم في تلك الأنظمة سوف يطلعون على أسرار عملها وطريقة تعاملها مع الناس والقضايا، وبما أنها على باطل فعندما يخرجون سوف يفضحونها ويكشفون للناس باطلها وزيفها وعمالتها؛ ولذا فإن تلك الأنظمة تسعى في قتلهم بكافة الوسائل. ويكون ذلك - القتل - عبر قتلهم شخصاً أوقتل شخصيتهم أيضاً في كثير من الأحيان.

وهذا الأسلوب نراه واضحاً في تعامل نظام البعث الحاكم في العراق مع عناصره، وهو دليل آخر مع آلاف الأدلة التي تثبت عمالة وهمجية هذا النظام، فقد عمد هذا النظام ومنذ الأيام الأولى لتأسيسه إلى هذا الأسلوب وهو القتل والسجن والتشريد لأغلب معارضيه، بل وأكثر من ثلاثة أرباع أتباعه المنتمين إليه، والذين حاولوا الخروج من هذا الحزب، فأين البعثيون الأوائل من أمثال:

حردان التكريتي؟!

ص: 149

وناصر الحاني؟!

وإبراهيم الداود؟!

وعدنان حسين الحمداني؟!

ومحمد عايش؟!

وعبد الخالق السامرائي، وعبد الوهاب الأسود، وغيرهم؟!

ألم ينته مصيرهم إلى القتل أو التشريد؟

فهذا (ناصر الحاني) الذي كان يعد من الحزبيين الكبار فيما يسمى بمجلس قيادة الثورة، اختلف في الرأي مع بعض العناصر الرئيسية في الحزب، وتشاجر معهم وهددهم، وقال لهم: سأذهب وأكشف زيفكم وحقيقتكم للشعب العراقي، وأقول لهم: بأن نظامكم عميل للإنكليز، والدليل على ذلك هو أن السفارة الإنكليزية كانت تمدكم بالمال عن طريقي أنا، فتم قتله في نفس الليلة، وثم إلقاء جثته في منطقة من مناطق بغداد يقال لها: منطقة قناة الجيش.

وهذا (حردان التكريتي) من القياديين في الحزب الحاكم، بمجرد اختلافه معهم تم عزله وعندما هدد بالقتل حاول أن يفشي أسرار طغاة العراق فتمت تصفيته وقتله في دولة الكويت في حادث اغتيال مدبر ولم تشفع له سنوات خدمته لهم.

وذاك (عبد الوهاب الأسود) أيضاً، حاول أن يعمل نفس العمل الذي قام به حردان وناصر الحاني، فتمت تصفيته أيضاً، وهكذا تمت تصفية أكثر من ثلاثة أرباع العناصر الأولى في جهاز حزب البعث العراقي. وهكذا لم تتوقف وحشية هذا النظام على العناصر التي عملت معه وحاولت كشف زيفه وتبعيته، بحيث جعل ذلك هدفاً لسياسته التعسفية، بل شملت جميع أصناف الشعب العراقي المظلوم.

ص: 150

فعلى جميع الأخوة الأحرار المؤمنين في المعمورة، وخصوصاً الأخوةالمؤمنين في العراق الوقوف بوجه هذا النظام الباغي عبر نشر الثقافة والوعي والمطالبة الدولية بحقوقهم المشروعة؛ واللّه تعالى سوف يعوضهم عن ذلك، حيث قال تعالى في كتابه الكريم: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(1).

أساليب التهجير

استعمل نظام البعث العراقي عدة وسائل وأساليب في تهجير أبناء العراق، نذكر بعضاً منها هنا وبإيجاز:

أولاً: مداهمة بيوت المهجّرين في هدأة الليل، وبصورة همجية، مستعينين برجال الأمن المدججين بالسلاح.

ثانياً: التحايل على المواطنين لاستدراجهم وتهجيرهم بحجة استجوابهم لمدة عشر دقائق فقط.

ثالثاً: تهجير أعداد كبيرة من المواطنين وهم بملابس النوم.

رابعاً: محاربة المهجرين بطرق الحرب النفسية والإرهاب والتخويف وقذفهم بألفاظ قذرة نابعة من الانحطاط الخلقي لعملاء النظام العراقي الحاكم.

خامساً: حجز الفتيات المسلمات من أبناء شعبنا العراقي في دائرة الأمن الإجرامية، والاعتداء عليهن بعد تهجير عوائلهن.

سادساً: إنزال المهجرين على مسافات بعيدة عن الحدود الإيرانية، وهم حفاة وفي أراضٍ جبلية وعرة جداً، وفي ظروف جوية رديئة، ولم يسلم من حقدهم حتى الطاعنون في السن والأطفال والمرضى.

ص: 151


1- سورة التوبة، الآية: 20.

سابعاً: مصادرة كافة الأموال المنقولة وغير المنقولة للمهجرين ووضعها تحتتصرف أزلام السلطة.

ثامناً: فصل الشباب الذين تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة عن عوائلهم المهجرة، وحجزهم في معتقلات الأمن الإرهابية، والتجنيد الإجباري لبعضهم، ومن يعارض ذلك يخضع للتعذيب الرهيب وقاموا بإعدام الكثير منهم.

تاسعاً: وضع الألغام في طريق المهجرين، بحيث راح ضحية ذلك العديد من الأبرياء.

نعم، فهذه بعض التصرفات والأعمال الوحشية التي قام بها النظام ضد المهجرين من أبناء العراق المسلم، ولا يتسع المجال إلى ذكر جميع الانتهاكات الوحشية التي اتبعها - وما زال يتبعها - النظام مع المواطنين؛ فإنها كثيرة جداً، ولا بأس بالإشارة إلى بعضها من باب التعرف على طبيعة النظام الحاكم في العراق، وليس من باب الحصر.

من أساليب النظام

اشارة

تعددت أساليب النظام البعثي الحاكم في العراق، في تعذيب معارضيه حتى فاقت جميع أساليب الأنظمة العميلة الأخرى، فذلك نظام الشاه العميل(1) للاستعمار الغربي الأمريكي، كان يعتقل ويعذب أبناء الإسلام في إيران، ويلفق لهم التهم الفارغة، مدعياً بأن هذا شيوعي وذاك متآمر وهكذا؛ وذلك ليبرر للعالم والشعب بأنه أعدم أو اعتقل هؤلاء لعمالتهم (كما يدعي)، ولكن نظام البعث العراقي تجاوز حتى هذا التعامل (أي تبرير عمله في قتل أبناء الشعب العراقي) فإنه يعتقل ويعذب أبناء الشعب العراقي المعارضين لحكمه وعلى الشبهة

ص: 152


1- محمد رضا بهلوي (1919-1980م).

والظنة، أو كل من يعد من المتدينين الإسلاميين بدون تهمة واضحة موجهة لهولو ظاهرياً، وإليكم هذا النموذج من أساليب التعامل مع المعتقلين، ينقله أحد الناجين من حبالهم، فقال:

في إحدى الليالي المظلمة داهمت عناصر النظام عدة منازل في مدينة كربلاء المقدسة، واعتقلت بعض من فيها، واستشهد إثر المداهمة البعض الآخر، وكان ضمن المعتقلين شخص يعمل في وزارة العدل، اعتقل في منتصف الليل بملابس نومه، وبحجة استجوابه لمدة عشر دقائق ذهبوا به إلى مديرية الأمن العامة، وفي الصباح تم إعدامه - أي بعد مرور أقل من (6ساعات) على اعتقاله - ويقول ناقل القصة، الذي كان أحد المعتقلين معه: تم اعتقالنا، وذهبوا بنا إلى بغداد ووضعونا في غرفة لكي تتم محاكمتنا، وشاهدت الذين اعتقلوا معنا في السجن، ولقد عرفت الكثير منهم، ثم سألت عن السبب الذي جاء بنا إلى هنا؟

قالوا: لأجل محاكمتكم.

كنا أربعاً وأربعين شخصاً، وضعونا في غرفة، وأغلقوا الباب علينا، وكان الحاكم جالساً فسأل الحاكم شخصاً يدعى حسين الدلال: ما اسمك؟

فقال: حسين.

ما هو لقبك؟

قال: الدلال.

فقال: أين تسكن؟

قال: كربلاء.

قال: ما هو عملك؟

قال: وكيل لوزارة العدل.

ص: 153

فأصدر الحاكم حكم الإعدام الفوري بحقه بعد انتهائه من هذه الأسئلة!!ثم اقتيد من قبل ثلاثة من رجال الأمن وذهبوا لتنفيذ حكم الإعدام به.

ثم جاء دوري للتحقيق معي، فسألني الحاكم: ما اسمك؟

وما لقبك؟

وأين تسكن؟

وما هو عملك؟

وبعد استجوابي أمر بإطلاق سراحي، بعد أن أجبت عن هذه الأسئلة، وأخرجوني من باب ثانٍ للسجن.

ويذكر - الراوي - سبب نجاته من حكم الإعدام فقال: بعد سماع خبر اعتقالي في منتصف الليل، من قبل والد زوجتي، الذي كان شخصاً ثرياً من سكنة كربلاء، ذهب إلى بغداد فوراً ومعه خمسون ألف دينار، وأوصل نفسه إلى أحد الجلاوزة من أعضاء ما يسمى بمجلس قيادة الثورة، بشكل من الأشكال، وأعطى المبلغ المذكور رشوة لهم، فاتصل هؤلاء بالحاكم تلفونياً، وأمروه بإطلاق سراحي فوراً، فأصدر الحاكم العفو عني وأطلق سراحي.

نعم، هكذا يقتل أبناء الشعب على يد هؤلاء الجلاوزة بدون أي مبرر للقتل، سوى حقدهم عليه وعلى جميع الشعب وعلى الإنسانية ولهذا عارضهم الشعب العراقي المسلم بشكل كبير، وأعطى الشهداء في سبيل ذلك، ولم يركن أو يستكن إلى الظلم والظلمة، بل حاربهم بكل ما يستطيع، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصَّٰدِقُونَ}(1).

ص: 154


1- سورة الحجرات، الآية: 15.

من مآسي المهجرين

عند مطالعة بعض القصص والمآسي التي تحمّلها الشعب العراقي في ظل حكم هذا النظام الجائر سنعرف ولو جزئياً مقدار الظلم والانتهاكات الصارخة التي ارتكبت بحقه، ونرى لزاماً على المؤمنين نشرها في العالم أجمع وبيانها على مستوى منظمات هيئات حقوق الإنسان بالخصوص حتى تكون شاهداً وحجة مع آلاف الشواهد والحجج الأخرى على ظلم واستبداد هذا النظام.

ومن أبرز هذه المآسي والقصص مأساة التهجير والمهجرين التي نحن بصددها الآن.

فقد نقل أحد الإخوة المهجرين عن حادثة مأساوية لإحدى العوائل المهجرة، وكانت هذه العائلة تعيش في إحدى المحافظات الجنوبية في العراق، كانت عائلة متدينة وملتزمة بالتعاليم الإسلامية، شأنها شأن أغلب العوائل العراقية، وهي مكونة من زوجين طاعنين في السن، وخمسة أبناء، مصدر معيشتهم قطعة أرض يزرعونها فتدر عليهم ما يسد رمقهم ويؤمن مصاريف أبنائهم؛ حيث إن أكبرهم شاب في مرحلة الدراسة الجامعية، وأخته طالبة في المرحلة الثانوية، وأما الآخرون فهم صغار لم يبلغوا الحلم بعد.

فكان هذا الشاب ملتزماً دينياً، وكان يحث الشباب الضالين في مجتمعهم وفي محيطهم الجامعي من الطلاب على عدم الانخداع بأفكار الحزب الحاكم المنحرفة، فيبين لهم مفاهيم الإسلام، ويحثهم على العمل بالشريعة الإسلامية، ويفضح الأعمال الإجرامية التي يقوم بها النظام ضد أبناء الشعب المسلم، مما أثار حقد جلاوزة النظام وغيظهم عليه، فعنصر كهذا يعكر عليهم صفو حياتهم المليئة بالانحراف والجريمة فهم لا يتركونه لحاله.

لذا قاموا بفصله من الجامعة، ولم يكتفوا بذلك بل اعتقلوه وأرسلوه إلى مراكز

ص: 155

التعذيب ليبقى هناك تحت وطأة سياط الجلادين، أما عائلته فقد تم استدعاءهاإلى مراكز المخابرات، ومن ثم تم تهجيرها إلى إيران بحجة أنها غير عراقية، فخلفت وراءها ابنها الشاب في سجون النظام، وسكنت هذه العائلة بعد تهجيرها إحدى المناطق الحدودية في إيران، وبعد أن شن هذا النظام حربه على إيران ودخل المناطق الحدودية الإيرانية، كان من ضمن تلك المناطق الحدودية التي احتلها النظام المنطقة التي تسكنها هذه العائلة، وكعادة النظام عندما يدخل أو يسيطر على أي شيء يحاول تدميره، فدمر هذه المنطقة وقتل بعض أبنائها وأسر البعض الآخر، وكان ضمن الأسرى هذه العائلة المنكوبة، وبعد التحقيق معها في بغداد تبين لجلاوزة النظام أن هذه العائلة هي مهجرة سابقاً، وبعد حجزها عدة أشهر تم تسفيرها إلى إيران مرة ثانية، ولكن بعد أن أخذوا منها ابنتها الشابة هذه المرة، وهكذا فقدت هذه العائلة فردين من أفرادها، إضافة إلى جميع ممتلكاتها من أموال وغيرها، وتعرضها للويلات والتعذيب من قبل هذا النظام الطاغي، والكافر بكل الأعراف الإنسانية والأخلاقية، والذي لا يؤمن باللّه العظيم ولا باليوم الآخر.

نحن عراقيون

وهذه قصة أخرى بل صورة عن مأساة التهجير يرويها أحد المهجرين، نذكرها باختصار: يقول المهجَّرين:

اكتب قصة تهجيرنا بأمانة وإخلاص دون ذكر اسمي ومكاني، لا خوفاً من أحد بل خوفاً على أولئك الناس الطيبين الذين رفضوا الظلم ولم تكن لديهم الشجاعة لنصرة الحق، ولأسباب أمنية معروفة للجميع في عراق الظلم والإرهاب، ويبقى أملنا بالعودة كبير، ويكبر كل ما زادت سنين الغربة كما يشتاق الزرع للنبع كل ما زاد العطش.

ص: 156

هكذا نحن جميعاً وبلا استثناء نحن المهجَّرين أبناء دجلة والفرات، ونحنعلى أتم استعداد لأن نموت من أجل كرامة شعبنا ووطننا إذا ما أراد له الأعداء شراً، نضحي من أجله بكل الوسائل الممكنة حتى لو منعنا من دخوله عندما يكون الأمر حق.

تبلغت بضرورة الحضور أمام ضابط الجنسية وذلك من قبل إدارة مدرستي التي أعمل فيها، وبعد مراجعتي للضابط المذكور وجه لي بعض الأسئلة ومن جملتها مَن مِن أهلك تم تهجيرهم؟

فأجبته: بأن والدي البالغ من العمر (70 عاماً) هجّر مع جملة التجار الذين بدأت حملة التهجير الظالمة بهم.

ثم سألني: ما عندك من مستمسكات عراقية؟

فقلت له: إخلاصي للوطن وحبي لأبناء بلدي ومعاداتي للاستعمار وقبور أجدادي. قال: وغير ذلك؟

ففتحت حقيبتي اليدوية وأخرجت له ما عندي من المستمسكات وهي: جواز السفر العراقي العائد لي ولأفراد عائلتي، بطاقات الأحوال المدنية، دفتر إكمال الخدمة العسكرية، ونسخة من ورقة رسمية إقرار بالتملك العقاري (ورقة الطابو لبيتي) وضعت الجميع أمامه.

مدّ يده لأخذها ثم نظر إليّ وارتبك الرجل ولملم وبسرعة جميع المستمسكات ووضعها داخل مظروف، وكتب اسمي عليه وقال: أستاذ الآن هي الحادية عشر ظهراً، ماذا تقول إن تأتي الساعة الثانية بعد الظهر إلى البيت؛ لأنك شملت وعائلتك بقرار التهجير لإيران؟

فأجبته: أخي، لا اعتقد أن الساعات الثلاث كافية لأودع بها أهلي وجيراني

ص: 157

وتلاميذي وزملائي وأصدقاء الطفولة، والأهم من كل ذلك إنها لا تكفي لتقبيلكل شبر داسته قدماي من أرض الوطن، ثم كيف تسمح لنفسك أن يأتوا أفرادك إلى بيتي ويأمرونا بالصعود لسيارتهم، هل تعتقد أننا غجر!؟

فرد علي: كما تريد.

فقلت له: غداً صباحاً وفي تمام الساعة الثامنة سأكون وأفراد عائلتي جميعاً عندك في المكتب.

وفعلاً كان ذلك، جلبت أفراد عائلتي وجلست وزوجتي وأختي الخريجة الجديدة، وأخي طالب المعهد وأبنائي السبعة في مكتبه، وبعد أن أتم الإجراءات التي تخص تهجيرنا طلب منا أن ننتقل إلى غرفة مجاورة لمكتبه، وقال: أنتم الآن موقوفون بحكم القانون! لكن لا أستطيع أن أضعكم في غرفة التوقيف، فتفضلوا في هذه الغرفة حتى المساء كي يتم تهجيركم.

بقينا حتى السادسة مساء عندما جاءنا وأخبرني فقال: بأن مسؤول الحزب يريد التحدث إليك وهو الآن يجلس عند مدير الجنسية، ذهبنا جميعاً ودخلنا حيث يجلسون وبدأ الحديث والأسئلة والاستفسارات، ومن جملتها سألني قائلاً: أخي ماذا تقول إن لقبك عربي، وإن هذا من الألقاب العربية والمصنفة ضمن سجلاتنا؟

فقلت له: إذا كان كذلك فلماذا هجّرتم والدي ومن بعده أفراد عائلته، ألم يكن لقبهم عربياً وعراقياً؟

وإذا كنتم تعرفون ذلك فلماذا أنجزتم معاملة تهجيرنا؟

الحقيقة أنا لا أعرف بأي قانون تحكمون الناس، وما هو معيار المواطنة!!

هل الوثائق التي يحملها؟ فإن جميع مستمسكاتنا العراقية بين أيديكم.

ص: 158

وإذا كان معيار المواطنة هو الولاء للوطن فإن ابنتي الصغيرة (7سنوات)والتي تجلس هي أكثر وطنية منك أيها الرفيق.

عندها قاطعني هذا الرفيق متأثراً من كلامي، قائلاً: كيف أنها أكثر وطنية مني وهي في الصف الأول الابتدائي؟!

قلت له: كن على ثقة لو أن الأمر معكوس عليك لما تذكرت تراب الوطن كما هي تذكرته، وطلبت من ابنتي الناجحة للصف الثاني الابتدائي أن تثبت للرفيق ادعائي.

فتكلمت بهدوئها وخجلها المعهودين - وباللّهجة العراقية الدارجة - فقالت: عمو الصبح واحنا كاعدين نفطر فكرت اشلون راح انعوف بيتنا وأرضنا وبلدنا، فكمت وجبت كيس نايلون صغير وخليت بيه تراب من كاع حديقتنا حتى إذا رحت إلى إيران أضل أبوس بيه، وبعدين كلت لأبويه كام يبوس بيه ويبجي.

ما ان انتهت ابنتي من حديثها حتى أظهر جلاوزة النظام تأثرهم الواضح أو لعله وكما يقال دموع تماسيح.

ثم عاد هذا الرفيق مسؤول الحزب إلى مكانه، وقال بالحرف الواحد: واللّه يا أخي، هذي أوامر، وكلش زين نعرفك، عراقي ومواطن شريف لاكن منكدر إنكول: لا، وأنت تعرف قصدي.

فأجبته: لو كنت مكانك لقلت: لا وألف لا، لو كل شريف يقول للخطأ: لا لما استمر الظلم.

... اقتربت الساعة من السابعة والربع مساءً حيث رن جرس التلفون، فردّ عليه الضابط ولم نسمع سوى: نعم سيدي جاهزين وخمس دقائق يكونون عندكم.

بعد انتهاء المكالمة طلب منا الضابط النزول والتوجه إلى سيارة كانت معدة لنا خارج الدائرة، صعدنا وكان لفيف من الأهل والأقارب والأصدقاء ينتظروننا

ص: 159

للتوديع من بعيد، نقلنا إلى دائرة أخرى قريبة من مديرية الجنسية ودخلنا إلىغرفة كانت تنتظرنا فيها لجنة حزبية وضابط شرطة برتبة كبيرة، وضابطان عسكريان وامرأتان، جلست بعد أداء السلام، ومن معي بقي واقفاً لضيق المكان، وضعوا أمامي ورقة طلبوا وضع بصمة إبهامي عليها، ففعلت دون أن أقرأها، أخرج أحدهم أوراقاً نقدية من حقيبته وطلب مني استلامها، وقال: هذه هدية الحزب والثورة!! فرفضت استلامها، وقلت له: ما هي المناسبة التي يوزع الحزب فيها هداياه؟

فقال: يا أخي خذها أرجوك؛ لأنك ستذهب إلى مكان غريب لا تعرف عنه شيئاً، وعندك عائلة كبيرة!!

فأجبته: إذا كنت حقاً تؤكد بأنه بلد غريب فلماذا تقتلعوننا من بلدنا وترسلوننا إليه؟ هل قدمنا لكم طلباً بذلك؟

فأجاب كبيرهم: يا أخي متعرف ما نكدر نخالف الأوامر فأرجوك أن تأخذ هذا المبلغ البسيط.

فسألته: كم هو المبلغ؟

فأجاب: بما أن عائلتك كبيرة وعددهم (11 شخصاً) فقد قررنا إعطائكم (500 دينار).

فقلت له: حسناً لقد استلمت المبلغ لأنني وقعت وصل الاستلام، فأرجو استلام المبلغ مني واعتباره تبرعاً من عائلتي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم استدركت قائلاً: أو لأية جبهة أو منظمة فلسطينية ترتئونها؛ لأن علاقة العراق حينذاك لم تكن ودية مع منظمة التحرير.

وهنا ثارت ثائرة الرفيق المسؤول فقال بغضب: أخي شنو هذا الكلام؟

فقلت له: نحن المهجرين وإخواننا الفلسطينيين وجهان لعملة واحدة،

ص: 160

الفلسطينيون هجرتهم العصابات الصهيونية ونحن هجرنا من قبلكم، ولا أقبلهذا المبلغ البسيط بدل قيمة أرض آبائي وأجدادي؛ فليس للأرض والوطن ثمن غير دم الإنسان، ولا تحلو لي جنان الدنيا كلها مثل ما يحلو لي ذلك القبر المظلم المدروس في ثنية من ثنايا أرض وطني الحبيب، عندها خيّم على الجميع السكون ثم أطرقوا برؤوسهم، أما المرأتان فكان نحيبهما مسموعاً، اقترح الرجل المسؤول أن أقبل المبلغ وأتبرع فيه إلى المنظمة في طهران، وبعد أخذ ورد قبلت المبلغ.

وبعد ذلك أخذونا بعد أن احتجزوا أخي عندهم وفرقوه عنا؛ لأن أخي يبلغ من العمر عشرون عاماً، وقالوا: حسب الأوامر إنه لن يهجر معكم بل يحتجز. ولما سمع أولادي ذلك ولشدة تعلقهم به أجهشوا بالبكاء.

خرجنا من هذه الدائرة حيث نقلونا إلى أحد مراكز الشرطة وهنا أحسست بتوتر شديد ومرارة كبيرة ملأت نفوسنا، وبعد مرور ساعات قضاها الأولاد نوماً على أرض ممر مركز الشرطة والكبار سكنت شفاههم عن الحركة، وكل منا ينظر إلى وجه الآخر ولسان حالنا يقول: قاتل اللّه الظلم هل نحن في حلم؟ هل حقيقة أننا نفترش الأرض وعندنا الكثير من البيوت؟ فلماذا نعامل هكذا ونحن العائلة العريقة المعروفة بكل فضيلة؟ لماذا يصل الحقد بالحاكم الجائر لهذه الدرجة؟

صارت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وأخبرونا بأن السيارة جاهزة لنقلكم إلى الحدود الإيرانية، وكانت من النوع الذي يخصص لنقل المجرمين ذات الحاجز المشبك من الداخل، حيث يفصل المجرم عن طاقم الحرس المأمورين، وهنا جن جنون زوجتي والتي كانت في الأيام الأخيرة لوضع مولودها، فصرخت وبعصبية قائلة: ألا تخجلوا من أنفسكم لتنقلونا بمثل هذه السيارة هل نحن مجرمين؟

ص: 161

لم تجد إجابة لسؤالها شافية.اخترقت السيارة شوارع مدينتنا ونحن نمر من أمام بيوت أهلنا وأصدقائنا، نودعهم وهم نيام لا يعرفون بأن هناك عائلة لها جذورها في هذه الأرض قد اقتلعت، وهي محمولة في سيارة حقيرة لقذفها خارج حدود الوطن.

وبعد مسيرة طويلة استغرقت أربع ساعات ونصف وصلنا المخفر الحدودي، لم يدم بقاؤنا عند المخفر أكثر من ربع ساعة حيث ودعنا آخر قطعة أرض من الوطن ونحن نحمل ذكريات اللوعة والحزن على فعل بنا هذا النظام الذي ابتلى به العراق. وكانت المسافة بين المخفر الحدودي والخط الدولي الفاصل (500متر) تقريباً، جلسنا عند شاخصة إسمنتية كتب على وجه منها العراق وعلى الوجه الآخر إيران، ونحن لا نعرف هل نحن ولدنا في الهواء؟!

طلعت علينا شمس تموز من خلف جبال إيران لتشهد المأساة، مأساة أم حامل في أيامها الأخيرة وأطفال أبرياء بعمر الزهور قد ضاق بهم هذا الكوكب الواسع، مرت ساعة وساعتان وثلاث حتى انتصف النهار، ولا أحد من شرطة الحدود الإيرانيين يأتي لنقلنا، واشتدت حرارة الشمس ولم يكن في المكان شجرة أو شيئاً نستظل به، جمعت الأم أولادها الصغار وكان أكبرهم يبلغ من العمر (13 عاماً) جمعتهم تحت عبائتها وبدأت تقص لهم قصصاً قصيرة وهي يائسة خائرة القوى، عسى أن تنسيهم وتبعد عنهم الخوف من المصير المجهول الذي ينتظرهم، طلبت ابنتي الصغيرة قليلاً من الماء، فعندما أردت سكب الماء لها فوجئت بنفاده، حيث كان معنا قربة صغيرة فيها قليل من الماء نزل منها ما يكفي لتبليل الشفاه فقط، عندها رفضت الصغيرة وبإصرار على أن لا تشربه، فسألتها لماذا؟ فأجابتني: إذا شربت الماء فماذا يبقى لإخواني الصغار إذا عطشوا. لقد أثر هذا الموقف بنفسي كثيراً وأحسست بأن الموت قادم لنا جميعاً.

ص: 162

عندها أخذت اثنين من بناتي الصغيرات واتجهت بهم صوب مخفرنا سابقاً - أي:المخفر الحدودي العراقي - وأنا ألوّح بقطعة قماش كنت أقي بها طفلتي من حرارة الشمس، ألوّح بها لأفراد المخفر؛ عسى أن يقدموا نحونا لإسعافنا بقليل من الماء، تابعنا نحن الثلاثة مسيرنا نحوهم ونحن منهكي القوى، وأخذ العطش والتعب والخوف من المجهول منا مأخذه، حتى شاهدنا ثلاثة عسكريين يتقدمون نحونا، فالتقينا قريباً من المخفر وكان أحدهم ضابط المخفر والاثنان في حراسته، سألني الضابط وكان الحرج واضحاً عليه: لماذا وكيف دخلت الأراضي العراقية؟ لدينا أوامر من الرئيس صدام بأن نطلق النار عليك وعلى بناتك ونقتلكم؟ يقصد تنفيذ التأكيد الوارد في البرقية السرية لوزير الداخلية، والموجهة إلى الأجهزة الأمنية بخصوص عملية تهجير المواطنين المرقمة (2884 في 10/4/1988) حيث جاء في ذيل هذه البرقية: (نؤكد أمرنا في فتح النار على من يحاول العودة إلى الأراضي العراقية من المهجرين).

صرخت الطفلتان وطوقتاني بأذرعهما مذعورتين ثم تركتني إحداهما وأمسكت بالضابط متوسلة وهي تصرخ: لا، لا تقتلنا نحن عراقيون. ثم تابع الضابط كلامه فقال: أنا الآن مراقب ومسؤول لعدم تنفيذ أمر إطلاق النار عليكم. فأجبته: إن العطش سيقتل أولادي. فقال: هم سبعة ليمت منهم اثنان، أمس كانت عائلة مات منهم رجل مسن وطفل رضيع دفنهم أهلهم هناك!!

قال ذلك وكأنه يتحدث عن نعاج نفقت، قلت له: ألا تتحمل المسؤولية من أجل أبنائي؟

قال: لا.

قلت: لو كنت مكانك لضحيت بأبنائي السبعة من أجل إنقاذ طفل من أطفالك، وأتحدى كل قوانين الظلم من أجل موقف إنساني، فطلب من الطفلتين

ص: 163

السير خلفهم بعد أن طالبني بالرجوع حيث تجلس عائلتي، فزودوا الطفلتانبالماء وعندما عادتا قالتا لي: إن الجنود قالوا لهما: إذا بقيتم على الحدود إلى الليل تعالوا لنا خلسة كي نزودكم بالغذاء والماء، وكونوا حذرين أن لا يراكم ضابط المخفر. عادت الطفلتان تحملان الماء، فشرب الجميع دون تبذير.

طال انتظارنا وخيم اليأس على نفوسنا ونحن بانتظار حدوث المعجزة.

وبعد يأس كبير قررت أن أسير داخل الأراضي الإيرانية واستمر بالسير مهما طال الطريق؛ عسى أن اصل إلى قرية أو جماعة أو مخفر، سرت وبصعوبة بالغة، فقد أخذ الأمر مني مأخذه، وبعد أن قطعت مسافة طويلة استغرقت ساعة ونصف وإذا بأربعة شباب ينزلون وبسرعة فائقة من قمة جبل متوسط الارتفاع متجهين نحوي يحملون البنادق الرشاشة، وفهمت منهم أن اقف وأرفع يدي ففعلت، وقاموا بتفتيشي وبعد التأكد سألوني وأفهمتم بأني لا أعرف ما يقولون ولحسن الحظ كان من بينهم جندياً يعرف اللغة العربية من عبادان فترجم لهم أقوالي، بعدها اتصلوا بجهاز اللاسلكي وطلبوا على الفور سيارة تنقلنا إلى إيران.

لا تتكلموا، هذه أوامر صدام!

وهذه قصة أخرى يرويها أحد المهجرين من الذين عانوا من جريمة التهجير وذاقوا ظلم ومرارة نظام العفالقة، فيقول:

بدون سابق إنذار فوجئنا بمسلحين يطرقون باب بيتنا، ووقتها كنت وأمي وإخوتي الثلاثة وأختي الصغيرة جالسين نتناول طعام الغداء، ففزعنا جميعاً من شدة الطرق على الباب، وأسرعت لفتح الباب، فاقتحم رجال مسلحون الدار دون استئذان، وهددوا الجميع بعدم القيام بأية حركة، ثم أخبرونا بضرورة الإسراع وتهيئة أنفسنا للذهاب معهم إلى مركز الشرطة، حيث سيتم تهجيرنا إلى إيران، صعقنا جميعاً لهذا الخبر، وأخبرناهم بأننا عراقيون ولدينا كافة المستمسكات العراقية، وقد

ص: 164

ولدنا وآباؤنا وأجدادنا في العراق، وليس لنا أي وثائق تربطنا بإيران، ولا نعرف عنهاشيئاً لا من قريب ولا من بعيد، فلماذا تفعلون بأبناء الوطن هكذا؟!

فأجابونا بعصبية: لا تتكلموا؛ هذه أوامر الرئيس صدام.

اقتادونا بسيارتهم دون أن يسمحوا لنا بجلب أي شيء معنا، حتى وجبة الغداء بقيت على الأرض دون أن نكملها، أخذونا إلى سجن رقم واحد السيئ الصيت، وفيه شاهدنا عشرات العوائل جلبوها لنفس الغرض، بقينا عدة ساعات حتى جاء دورنا للتحقيق ولم يستغرق التحقيق الصوري أكثر من (15 دقيقة) حيث أخذوا منا جميع المستمسكات العراقية، وبعدها نقلونا نحن الأخوة الشباب الثلاثة إلى غرفة خاصة وعزلونا عن والدتي وأختي الصغيرة، وقالوا لأمي: سوف تذهبين إلى إيران وابنتك فقط وأما أولادكم سيتم حجزهم؛ لأن هذه أوامر الحكومة.

فلما سمعت أمي هذا الكلام صرخت ثلاث مرات: لا لا لا، وأغمي عليها، افترقنا ولم نعرف عنهم شيئاً، حيث تم اقتيادنا إلى مركز شرطة في منطقة البتاوبين في بغداد وحجزنا فيه مدة (20يوماً) ثم نقلنا إلى سجن أبو غريب الرهيب، تصوروا ثلاثة إخوة يفرقونهم عن أمهم وأختهم ويدخلونهم السجن دون أي ذنب أو جرم!! دخلنا سجن (صدام) ورأينا جميع غرف السجن الرهيب مليئة بشباب مثلنا وكان عددهم يزيد على (80 شخصاً)، وهؤلاء كلهم هجرت السلطة عوائلهم.

ما أن مرّ على بقائنا في السجن (8 أيام) حتى حدثت انتفاضة (5/5/1980) والتي قام بها الشباب العراقي المؤمن ليعلنوا غضبهم بوجه الجلاد، ولقد أضاف هذا اليوم رقماً جديداً في سجل بطولات الشعب العراقي المعروفة، تحطم كل شيء في هذا السجن وأبوابه الحديدية الداخلية القوية لم تصمد أمام عزيمتنا لأكثر من (10 دقائق) فقط أصبح السجن كالبحر تتلاطم فيه الأمواج، وارتبك الحرس وهربوا إلى السطح وبعد مدة قليلة وإذا بالمروحيات تنزل قواتاً من

ص: 165

الحرس الجمهوري وبدءوا بإطلاق الرصاص وبشكل عشوائي علينا، وأخذواينادوننا بمكبرات الصوت ويدعونا إلى الهدوء وتعهدوا لنا وباسم الطاغية صدام بأنه سيتم إخلاء سبيلنا، وفعلاً وبعد الانتفاضة بيومين تم نقلنا جميعاً وعلى شكل وجبات إلى الحدود الإيرانية، أما الذين هيئوا للانتفاضة فقد تم عزلهم ولايعرف أحد عن مصيرهم شيئاً.

لن نرضى بغير العراق وطناً

وهذه قصة أخرى يرويها أحد الأشخاص كان يعمل موظفاً في مديرية التأمين على الحياة - ولم يسعفه عمله في التأمين على حياته - حيث يذكر طريقة تهجيره فيقول: عند الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم (19/نيسان/1980) وبينما كنت منهمكاً بإنجاز بعض المعاملات - التأمين على الحياة!! - اتصلت بي والدتي تلفونياً وهي خائرة القوى، وطلبت مني الحضور وبسرعة إلى البيت؛ لان مجموعة من المسلحين دخلوا عليها وأخبروها بضرورة الذهاب معهم إلى مركز الشرطة لتهجيرها ومن معها إلى إيران.

خرجت من الدائرة بعد أن طلبت إجازة زمنية!! ولما وصلت إلى البيت وجدت أربعة أشخاص بيد كل منهم مسدساً، وكانوا في حالة تأهب وكأنهم دخلوا ليحتلوا موقعاً عسكرياً أو داراً للإذاعة، سلمت عليهم فرد علي أحدهم بعبارات نابية، وطلبوا مني الإسراع للذهاب معهم، فرجوتهم أن يعطوني فرصة كي أتصل بأختي الموظفة في وزارة الزراعة - زراعة بلد تطرد منه - وأختي الصغيرة في المدرسة وأخي في الصف الثاني المتوسط وولدي في الصف الأول الابتدائي؛ إذ لا يمكن أن نذهب بدونهم، وأخيراً تمكنت بعد عناء شديد من إقناعهم، ولما حضر الجميع صعدنا إلى السيارة المعدة لنا دون أن يسمحوا لنا بحمل أي شيء معنا، سوى جوازات سفرنا وهويات الأحوال المدنية ووثيقة إنهاء الخدمة العسكرية

ص: 166

ومستمسكات ثبوتية أخرى من أجل سحبها منا - وهم ومع كل هذه المستمسكاتوالأوراق الثبوتية يعتبروننا غير عراقيين حسب ضوابط نظام الطاغية - وفعلاً سحبت جميعها من قبلهم، وبعد ساعة واحدة من التحقيق السريع تم نقلنا وثلاث عوائل أخرى بواسطة إحدى السيارات إلى مخفر حدودي حيث تم تسليمنا لهم، وبعد التأكد من الأسماء الواردة في كتاب الإبعاد وضعونا على خط الحدود الفاصل بين العراق وإيران حتى جاءت سيارة تابعة إلى شرطة الحدود الإيرانية ونقلونا بها إلى مركزهم، ومن ثم وضعونا في مخيم محافظة خرم آباد.

نعم، هكذا وببساطة ودون رفة جفن واحدة هجرنا من بلدنا الذي ولدنا فيه نحن وآباءنا وأجدادنا، وفرقوا أختي عن خطيبها، وزوجتي عن أمها وأبيها، وصادروا كل ما عندنا حتى بيتنا الذي أكملنا بناءه قبل التهجير بستة اشهر والذي كلّفنا جهد العمر.

لقد تم تهجيرنا بهذه الصورة اللا إنسانية رغم كل ما نحمله من مستمسكات ثبوتية عراقية ورغم ولاداتنا المضاعفة حيث ولادة جدي في العراق عام (1881م) وولادة أبي عام (1915م) وولادتي وولادة أبنائي جميعاً ولا نعرف وطناً غير العراق، ولن نرضى بغير العراق وطناً لنا مهما طال الزمن ومهما طال عمر الظالم.

تهجير التجار غيلة

أما قضية تهجير التجار الجماعية فكما يرويها أحد التجار فيقول:

قامت غرف التجارة في بغداد وبقية المحافظات بتوجيه دعوة رسمية تم بها استدعاء كبار تجار الشيعة لاجتماع عاجل، بحجة التباحث والتداول والتشاور في بعض الأمور الاقتصادية بهدف حل أزمة المواد المعيشية التي استعصت على الدولة.

وهكذا ما أن وصل التجار إلى أمكنة الاجتماعات المزعومة، أصيبوا بالذهول

ص: 167

لهول الصدمة؛ إذ تم اعتقالهم فوراً والاستيلاء على سياراتهم التي قدموا بها، وإذابهم بعد دقائق داخل قفص محكم الطوق من قبل أزلام الطاغية من أفراد الأمن والاستخبارات وغيرهم. وانهم وقعوا في مكيدة خبيثة خسيسة نصبها لهم الطاغية.

وقبل أن يفيقوا من صدمتهم اقتيدوا بسيارات أعدت لهم خصيصاً إلى مديريات أمن المحافظات وسط إجراءات إرهابية، حيث أفرغت جيوبهم من كل محتوياتها، كالنقود والأوراق الخاصة والأوراق الثبوتية والصكوك والمفاتيح ودفاتر الهاتف، وأجري لكل منهم تحقيقاً سريعاً حيث أخذوا منهم المعلومات مثل: الاسم، العنوان، الرصيد في البنك، الأموال المنقولة وغير المنقولة، المحلات والتجار الذين يتعاملون معهم، عدد الأبناء والاخوة وعناوينهم وعناوين الأقارب حتى الدرجة الرابعة، وبعد الانتهاء من كل هذه الإجراءات الإرهابية سيقوا جماعات جماعات، وتحت حراسة مشددة إلى الحدود، فرموا بالعراء وأمروا بالسير نحو الأراضي الإيرانية، بعدما أبلغوهم بأنهم غير مرغوب في وجودهم في البلد؛ لأنهم - حسب زعم الطغاة - عجم!!! ويجب أن يعودوا إلى بلادهم، وأنذروهم بأن أي شخص يحاول العودة إلى الوطن، أو يتردد في الحركة إلى إيران فإن النار ستطلق عليه بدون إنذار.

وهكذا تمت مرحلة من مراحل جريمة التهجير المقترنة بكوابيس الإرهاب والرعب للمسلمين العراقيين من شيعة أهل البيت^، حيث جرى بها تشريد شعب كامل وتغيير بنيته السكانية ضمن مخطط شرير تكمن في أساسه عقدة الخوف من الشعب ذاته.

تهجير آلاف العوائل

وبعد مدة قصيرة جداً من ترحيل التجار، ودون سابق إنذار وطوال أيام مريرة

ص: 168

واجهت آلاف الأسر العراقية البريئة محنة التهجير القسرية، جريمة جناها الطغاة ترسيخاً لسياسة الإرهاب والتمييز القومي والطائفي، حيث تمت مداهمة بيوتالآمنين من قبل قوات الأمن والشرطة ومرتزقة الجيش الشعبي والأجهزة القمعية الأخرى، روعت النساء والأطفال وأهانت الأمهات والآباء الذين انتزعوا من أسرتهم وأخرجوا من بيوتهم بالقوة والإكراه بما عليهم من ملابس، بعد أن جردوا من كل ممتلكاتهم ومقتنياتهم كالنقود والمصوغات، وتم الاستيلاء على أملاكهم من العقارات والأراضي والبساتين بحجة أنها غنائم، ومنعوا من سحب الأموال من المصارف، كما منعوا من إعطاء وكالات لبعض من - لعله يقبل أن - ينوب عنهم في سبيل تصفية أمورهم المادية، وحرم عليهم أخذ أي زاد أو متاع أو اصطحاب أبسط حاجياتهم، وحذروا بأن كل من يخفي في ملابسه مالاً أو ذهباً سوف يقتل بتهمة سرقة أموال الدولة!

وبعد ذلك تم عزل الأبناء والإخوة من الشبان الذين تتراوح أعمارهم ما بين (16-28) سنة واحتجازهم، ثم حشرت الأسر المنكوبة من رجال ونساء وأطفال بسيارات شحن، انطلقت بهم إلى الحدود في ساعات الفجر الأولى، وتركوا في البرد والعراء تحت طائلة التهديد بإطلاق النار عليهم حتى الموت إن تلكؤا في المسير، أو حاولوا العودة إلى وطنهم، وأجبروا على السير على الأقدام باتجاه إيران، وأمروا أن يعبروا الخط الفاصل بين الدولتين، عبر مناطق جبلية وعرة غير مأهولة، في طقس قاس وسط الثلوج وفي ظروف صعبة، وهم في أشد حالات التعب والإرهاق والخوف.

أكراد العراق

اشارة

يتوزع الأكراد فيما بين العراق وإيران وتركيا وسوريا ومناطق أخرى من العالم،

ص: 169

ويبلغ تعدادهم - حسب بعض الإحصاءات - (25 مليون نسمة)(1) تقريباً موزعين بين هذه البلدان، وأكراد العراق وأسوة بإخوانهم من أفراد الشعب العراقي المظلوم عانوا ما عانوا من النظام الحاكم في العراق.

فجرائم النظام الحاكم بحق الأخوة الأكراد العراقيين هي مما لايمكن حصره بهذه الكلمات القليلة؛ وقد شاطروا إخوانهم الشيعة بما وقع عليهم من الظلم والاضطهاد بكافة أشكاله، فقد ارتكب النظام أبشع الجرائم وأشد أنواع الاضطهاد العنصري البغيض ضدهم؛ فإضافة للسجن والتعذيب والتهجير مورس بحقهم ما يعرف بحملات التعريب، حيث قام جلاوزة السلطة الحاكمة وبأوامر من رأس النظام بتهجير الأكراد من مدنهم وقراهم إلى مدن وقرى في جنوب ووسط العراق، وإسكان العرب مكانهم بعد تقديم إغراءات كبيرة لهم، وعند إسكانهم في مناطق العرب تم وضعهم في ظروف معيشية مهينة مجبرين على امتهان أدنى الأعمال في سبيل سد رمق أطفالهم وعيالهم، كما كان يقوم أفراد الحزب الحاكم بالضغط على الأكراد في سبيل تغيير قوميتهم وإغرائهم بالانتساب إلى القومية العربية، كما قام النظام الحاكم بإصدار الأوامر لجيشه بحرق قرى كردية بأكملها وأبادتها عن بكرة أبيها، لمجرد إظهار أي نوع من أنواع المعارضة للنظام أو الاحتجاج على أساليبه، وهذا كله مخطط له ومنسق مع أسياد النظام من الاستعمار الذين أتوا به ليحكم العراق.

جريمة حلبجة

لعل من أبشع الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الكردي هي جريمة ضرب مدينة حلبجة الكردية بالأسلحة الكيماوية، حيث قام النظام بجريمته هذه قبل

ص: 170


1- أما الإحصائيات الأخيرة تشير إلى أن عددهم يتراوح ما بين (32 إلى 50) مليون نسمة.

نهاية الحرب التي شنها نظام العفالقة على إيران، وذلك عندما أشيع للنظام بأن القوات الإيرانية ستدخل مدينة حلبجة بمعونة الأكراد عندها أصدر صدام أوامره بضرب المدينة الآمنة بالأسلحة الكيماوية والغازات السامة، فقتل ما لا يقل عن (5000) مواطن كردي أعزل من السلاح، بينهم مئات الأطفال والشيوخ والنساء الذين لا ذنب لهم، وتعتبر هذه الجريمة من سلسلة الجرائم التي ارتكبت بحق أبناء هذا الشعب بعربه وأكراده وسائر قومياته.

كما تبعتها سلسلة من الجرائم الخطيرة ضد الأكراد، تمثلت في هدم عدة قرى كردية ومسحها عن وجه الأرض بحجة أنها تقع على الحدود مع إيران، وقام نظام صدام بقتل الآلاف من الأكراد في عمليات تعرف بالأنفال سيئة الصيت، هذا فضلاً عن استمرار سياسة التطهير العرقي بحق الأكراد الساكنين في المدن الكردية، وبخاصة من مدينة كركوك عبر اتباع نهج عنصري إجرامي في سبيل تغيير قومية الأكراد.

قصص من مأساة حلبجة

روى أحد الناجين من هذه الجريمة قائلاً:

لقد غض المجتمع الدولي الطرف عما جرى في حلبجة؛ لأن صدام كان آنذاك يحارب إيران، ولكنه اليوم وبعد ما أدى ونفذ ما طلب منه من قبل أسياده الإنكليز والأميركيين والصهاينة نراهم اليوم يستغلون معاناة الناس في هذه المدينة ويتاجرون بمآسيهم في سبيل تأليب الرأي العام ضد نظام صدام.

ويضيف - الراوي - : لقد نجوت من القصف بالغاز بأعجوبة فعندما هاجمت الطائرات العراقية المدينة وذلك في يوم (16 آذار 1988م) وقد كانت مدينة حلبجة تزخر بالحياة والحركة، أتذكر هدير الطائرات التي ألقت قنابل الموت، والقصف الذي نفذ آنذاك أسفر عن مقتل ما لا يقل عن خمسة آلاف مدني على

ص: 171

الفور، غالبيتهم من الأطفال والنساء. ودفن عدد كبير منهم في مقابر جماعية حول التلال المطلة على المدينة بالقرب من الحدود العراقية الإيرانية.

ويقول: رأيت مشاهد لن أنساها طوال العمر، فقد بدأ القصف بصوت قوي غريب لا يشبه بشيء انفجار القنابل، ثم دخل أحدهم إلى منزلنا صارخا: الغاز، الغاز، وقد صعدنا في السيارة على عجل وأغلقنا نوافذها، واعتقد أن السيارة سارت على جثث الأبرياء، وكان بعض الأشخاص يتقيئون سائلا أخضر اللون وبشرتهم تميل إلى السواد وتصبح متورمة، في حين أن آخرين أصيبوا بهستيريا وراحوا يقهقهون قبل أن يسقطون من دون روح، ثم شممت رائحة تفاح وفقدت الوعي. وعندما استيقظت، كانت الجثث متناثرة حولي بالمئات(1).

رواية أخرى للمأساة

وفي رواية أخرى لما جرى في حلبجة يقول الراوي:

في الساعات المتأخرة من صباح يوم (16 آذار 1988م)، ظهرت طوّافة تابعة لسلاح الجو العراقي فوق مدينة حلبجة، كانت الحرب الإيرانية - العراقية في سنتها الثامنة وكانت حلبجة على مقربة من خطوط الجبهة. ويسكنها قرابة ثمانين ألف كردي تعوّدوا العيش على مقربة من العنف في حياتهم اليومية، وكغيرها من معظم مناطق كردستان العراق، كانت حلبجة في ثورة دائمة ضد نظام صدّام،

ص: 172


1- ذكر الخبراء أن الطيران العراقي أمطر حلبجة بخليط من العناصر الكيميائية تتضمن الغاز المسيل للدموع المكثف وغاز الخردل وعنصر (في اكس) المتلف للأعصاب،. وكان العراق قد زود آنذاك بالأسلحة الكيماوية من جانب الدول الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا. وقد سببت هذه المأساة الكثير من التأثيرات الجانبية للغاز، وظهر العديد من الأمراض التي تفتك بأهالي مدينة حلبجة حتى الآن وهذه الأمراض هي: التشوه المنغولي، الربو، الإجهاض، ولادة الأجنة الميتة، أمراض الجلد والرئتين المزمنة، سرطان الدم، التشوهات في الحلق.

وكان سكانها من مؤيدي (البيشمرجا)، وهم المقاتلون الأكراد الذين كان يعني اسمهم: أولئك الذين يواجهون الموت.

وعند حوالي الساعة العاشرة، وربما أقرب إلى العاشرة والنصف، شوهدت طوّافة تابعة لسلاح الجو العراقي، غير أن الطوّافة لم تكن تهاجم، كان على متنها رجال يأخذون صوراً، كان مع أحدهم آلة تصوير عادية وكان آخر يحمل ما كان يبدو أنها آلة تصوير فيديو، دنوا منا كثيراً، ثم ابتعدوا. كان المشهد غريبا؟!

بدأ القصف قبل الحادية عشرة بقليل، أطلق الجيش العراقي المتمركز على الطريق التي تصل ببلدة سيد صديق، القذائف المدفعية على حلبجة وبدأت القوة الجوية إلقاء ما كان يعتقد بأنه قنابل النابالم على المدينة، وعلى الأخص على المنطقة الشمالية، ركضنا إلى القبو، واختبأنا فيه.

انحسر الهجوم حوالي الثانية بعد الظهر، وصعدنا السلم بكل تأن باتجاه مطبخ البيت الذي كنا فيه لحمل الطعام إلى العائلة، وعند توقف القصف، تغيّر الصوت، لم يكن قوياً، كان أشبه بقطع معدنية تتساقط دون أن تنفجر، لم نعرف سبب هذا السكون.

جمعنا الطعام بسرعة لكن لاحظنا مجموعة من الروائح الغريبة أتت بها الريح إلى داخل المنزل، في البداية، كانت الرائحة كريهة مثل رائحة النفايات، ثم تحولت إلى رائحة طيبة، مثل التفاح المحلّى، ثم مثل البيض، ألقيت نظرة على طير حجل داخل قفص في المنزل، كان الطائر يموت وقد استلقى جانباً، نظرت خارج النافذة: كان كل شئ هادئاً، لكن الحيوانات - الخراف والماعز - كانت تنفق، ركضت إلى القبو قلت للجميع: إن ثمة شيئا غير طبيعي.

تملّك الذعر الأفراد الموجودين في القبو، لقد هربوا إلى الطابق السفلي للنجاة من القصف، وكان من الصعب عليهم مغادرة الملجأ، كانت خيوط من النور

ص: 173

تدخل إلى الطوابق السفلية من المنازل، لكن الظلام كان يعطي شعوراً غريباً بالراحة، لقد أردنا البقاء مختبئين حتى عندما بدأنا نشعر بالمرض، لقد شعرت بألم في عيني كغرز الإبر، دنت شقيقتي من وجهي وقالت: عيناك كثيرة الاحمرار، ثم بدأ الأطفال بالتقيؤ، واستمروا على التقيؤ. لقد كانوا يشعرون بألم كبير ويبكون بشدة، كانوا يبكون طوال الوقت، وكانت أمي تبكي ثم بدأ المسنّون بالتقيؤ.

لقد ألقيت الأسلحة الكيماوية على حلبجة من قبل السلاح الجوي العراقي، الذي أدرك إن أي ملجأ تحت الأرض سوف يصبح شبيهاً بغرفة غاز.

عرفنا أن في الجو مواد كيماوية، أصيبت أعيننا بالاحمرار، كما إن السوائل كانت تخرج من أعين البعض، لقد قررنا الركض. توجهت وأقاربي إلى الخارج بحذر شديد، وأتذكر أني رأيت بقرتنا مستلقية على جانبها، كانت تتنفس بسرعة كبيرة، كما لو أنها كانت تركض، كانت الأوراق تتساقط من الأشجار مع أنه كان فصل الربيع، لقد مات طير الحجل، كانت هناك سحب من الدخان تصل إلى الأرض وكان الغاز أثقل من الهواء، وكان يدخل إلى الآبار وينزل فيها.

راقبت العائلة اتجاه الريح وقررّت الركض في الاتجاه المعاكس، كانت هناك صعوبة في الركض، لم يتمكن الأطفال من الركض؛ لأنهم كانوا يعانون من شدة المرض وكانوا منهوكي القوى من التقيؤ فحملناهم على أذرعنا.

أما في المدينة، كانت العائلات الأخرى تتخذ نفس القرارات، لقد قرر بعضهم التوجه مع عائلته إلى عناب، وهو مخيم في ضواحي حلبجة يضّم الأكراد الذين هجّروا عندما دمر الجيش العراقي قراهم، وعلى الطريق إلى عناب، بدأ العديد من النساء والأطفال يقضون نحبهم؛ فقد كانت السحب الكيماوية تغطي الأرض، كانت ثقيلة وكنا نراها. وكان الناس يموتون من حولنا، وعندما كان طفل ما يعجز عن السير، كانت الهستيريا تتملك أهله من الخوف،

ص: 174

فيتركونه خلفهم. لقد ترك العديد من الأطفال على الأرض، إلى جانب الطريق، وهكذا الحال بالنسبة للمسنين أيضاً، كانوا يركضون ثم يتوقّفون عن التنفس ويقضون.

كنا نريد الاغتسال أولاً وإيجاد ماء للشرب، وكنا نريد غسل وجوه الأطفال الذين كانوا يتقيئون وكانوا يبكون بشدة ويطالبون بالماء، وكانت هناك بودرة بيضاء على الأرض، لم نكن نستطيع أن نقرر بالنسبة لشرب الماء أو عدمه، لكن بعض الأفراد شربوا من ماء البئر لشدة عطشهم.

أما القصف فقد كان متواصلا بشكل متقطع بينما طائرات السلاح الجوي تحلق بشكل دائري من فوق، كانت تظهر على الناس عوارض مختلفة، لمس أحد الأشخاص البودرة، فبدأت تبرز على جلده فقاقيع.

وصلت إلى المكان شاحنة يقودها أحد الجيران، لقد رمى الناس أنفسهم فيها، وشاهدنا أناساً ممددين متجمدين على الأرض، كان هناك طفل رضيع على الأرض بعيداً عن أمه، ظننت أنهما نائمان، لكن يبدو أن هذه الأخيرة رمته أرضاً ثم ماتت، وأظن أن الطفل حاول الزحف لكنه مات هو أيضاً، لقد بدا كأنهم جميعاً نيام.

وبينما كانت سحب الغاز تغطّي المدينة، كان الناس يشعرون بالمرض والضياع. أحد الأشخاص علق في قبوه مع عائلته؛ قال: إن أخاه بدأ يضحك بشكل هستيري ثم خلع ثيابه، وبعدها بقليل مات، مع حلول الليل، بدأ أطفال العائلة يصبحون أشد مرضاً لدرجة لم يعد بإمكانهم التحرك.

في منطقة مجاورة أخرى، كان شاب في سن العشرين، قد هالته رائحة حلوة غريبة من الكبريت، وأدرك أن عليه إجلاء عائلته؛ كان هناك حوالي مائة وستين فرداً محشورين في القبو. قال: لقد رأيت سقوط القنبلة، كان ذلك على مسافة

ص: 175

ثلاثين متراً من المنزل أغلقت الباب المؤدي إلى القبو، سمعت أصوات صراخ وبكاء في القبو، وأصبح الناس يجدون صعوبة في التنفس، شوهد أحد الذين أصابهم الغاز وكان ثمة شئ يخرج من عينيه، كان شديد العطش ويطالب بالماء. أما الآخرون في الطابق السفلي من المنزل بدؤوا يشكون من الارتجاف.

ويقول: كان يوم السادس عشر من آذار يوم عقد قران أحد الشبان. وكانت كل الاستعدادات قد تمّت. كانت عروسه بين أول الذين قضوا في القبو، يتذكر عريسها أنها كانت تبكي بشدة، حاولت تهدئتها، قلت لها: إن الأمر هو مجرد قصف مدفعي، لكن رائحته غير الرائحة العادية للأسلحة، كانت ذكية وتعرف ما الذي يجري. لقد ماتت على السلم، حاول والدها مساعدتها لكن كان قد فات الأوان.

وطال الموت بسرعة أناساً آخرين، حاولت امرأة إنقاذ ابنتها ذات العامين بإرضاعها معتقدة أن الطفلة لن تتنفس الغاز وهي ترضع، لقد رضعت مدة طويلة، وماتت أمها وهي ترضع، لكنها ظلت ترضع. وكان معظم الناس الموجودين في الطابق السفلي من المنزل قد فقدوا الوعي؛ العديد منهم قد مات.

قصة أخرى

وهذه قصة أخرى يرويها أحد الإخوة الأكراد يبين فيها واحدة من المآسي التي جرت عليهم من نظام الطاغية فيقول:

في الحقيقة عندما يتم الحديث عن جرائم النظام العراقي وانتهاكات حقوق الإنسان في العراق، لا يمكن الإحاطة بهذه الجرائم بكاملها، ولكني سأتحدث بشيء من التفصيل حول إحدى الجرائم، كوني عشت حياة عشرات الآلاف أثناء الترحيل، وأثناء استخدام السلاح الكيمياوي من قبل النظام الجائر ضد المدنيين الأكراد، وهي من الجرائم البشعة التي تعرض لها شعبنا الكردي، وهي من أبشع

ص: 176

الصور في انتهاك حقوق الإنسان ارتكبت ضد شعب آمن لم يرتكب جرماً.

فاستخدام السلاح الكيماوي له وقع نفسي كبير على الناس، ومجرد ذكر هذا السلاح أمامهم يثير فيهم الفزع والحزن العميق، فالتأثير كان كبيراً، وفعلاً في يوم (24/8/1988) - أي بعد الإعلان الرسمي لنهاية الحرب بستة عشر يوماً - جاءت الأخبار عن وجود نية لهجوم كاسح، السلاح الأول فيه هو السلاح الكيماوي.

إن الليالي من (24/8/1988 ولغاية 28/8/1988) كانت قمة خوف وفزع ومأساة الجماهير، وكانت ليلة (27/8/1988) من أحرج الليالي، وكان العبور محدد بمناطق لايمكن العبور من غيرها، وهي مناطق محفوفة بالمخاطر، فالطريق الذي كان يعبرون منه لم يكن مستوياً، وقد عبر من واحدة من هذه المناطق أكثر من (13 ألف) كردي، ولم يستطع كل المتواجدين في تلك المنطقة أن يعبروا، لأن الوقت لم يسعهم فكان عليهم أن يتراجعوا وعوائلهم المتعبة الخائرة القوى مع المرضى وحيواناتهم وكل ما يملكون، فاضطروا في اليوم التالي إلى التسليم لقوات الحكومة التي كانت تحاصرهم في يوم (28/8/1988).

والحديث عن المأساة التي حصلت في منطقة كَلي بازي، وكَلي بازي هي قرية في البرواري، للذين لم يستطيعوا العبور إلى مناطق أكثر أمناً، حيث تم حصارهم وبعدما رفضوا الاستسلام لقوات النظام تم قتلهم جميعاً، وفي قرية أخرى قتل (48) رجلاً بعد أن تمت محاصرتهم ولم يسلموا أنفسهم، وفي قرية زيوه، القريبة من بامرني أيضاً تمت محاصرتها والكثير من سكانها الآن في عداد المفقودين لايعرف عنهم شيء حتى بلغ عددهم المئات ولا يعرف لهم مصير، وبهذه الطريقة صفي هؤلاء الناس.

الممارسة الأخرى التي هي بشعة أيضاً: تعامل أجهزة السلطة مع ممتلكات

ص: 177

الناس، فقد كانوا يحرقون كل شيء يجدونه في طريقهم، البيوت بكاملها وصولاً للإنسان نفسه.

هذا بعض معاناة الأكراد في العراق، أما من اضطر وهرب إلى تركيا فهناك المعاناة لاتقل مرارة، فواحدة من مناطق المجمعات مجمع ماردين الذي يسمى بالمجمع الرهيب، وهو فعلاً مجمع رهيب وفي هذا المجمع يعيش مايزيد على (16) ألف مواطن عراقي كردي في ظروف صعبة جداً، تتضمن أشكال من المعاناة والآلام، والتهديد بالتسليم للسلطات العراقية بالقوة، والمحاولات بجرهم لقرارات العفو المزعوم من قبل النظام، هذه القرارات التي يعرفها الجميع بأنها زائفة.

شيعة الأكراد

وهذه صورة من المعاناة التي كانت تعانيها طائفة أخرى من طوائف الشعب العراقي، ألا وهي معاناة شيعة أهل البيت^ من الأكراد، حيث تم اعتقالهم وسجنهم وتعذيبهم وتهجيرهم وقتلهم، فصار النظام يطاردهم لأنهم شيعة ولأنهم أكراد.

فطرد أكثر من (300000) مواطن كردي فيلي - الشيعة - إلى إيران وحجز أموالهم المنقولة وغير المنقولة وحجز نحو (10000) شاب كردي فيلي كرهائن، وذلك خلال سنوات (1970-1982). إلى غيرها من الإحصاءات المذكورة.

يروي أحدهم هذه المعاناة ويقول:

كثيرا ما يدور في خاطر المرء ويسجل ذكرياته عن الأيام الجميلة التي يقضيها ليحتفظ بها للأيام اللاحقة نموذجا، لكننا نحن الأكراد العراقيين لانملك من تلك الذكريات شيئا إلّا الحزينة منها، لا بل الكارثية بعد أن ابتلينا بشرور وأعمال الأنظمة المتخلفة التي حكمتنا وتحكمنا منذ تشكيل الدولة العراقية. وخلالال

ص: 178

عقود الماضية واجهت شرائح المجتمع الكردي صنوفا من الاضطهاد، ومأساة تهجير الأكراد الفيليين هي إحدى أشكال الاضطهاد والتمييز العنصري، ودليل على الترابط المصيري لمعاناة هذه الشريحة مع واقع معاناة الشعب الكردي في العراق عموماً.

فعند الرجوع إلى الماضي القريب وتذكر جريمة التهجير والحملات الظالمة التي طالت الأكراد بعد أن اصدر ما يسمى بمجلس قيادة الثورة القرار (666 في 7/4/1980) والذي سبب إبعاد ما يزيد على (400 ألف) كردي فيلي من ديارهم وسلب أموالهم.

فقد نكثت السلطات العراقية بوعودها - كما هي العادة - عندما زرعت بعض الأمل في نفوس آلاف البسطاء بإصدار القرار المرقم (180 في 3/2/1980) الصادر عن مجلس قيادة الثورة على أساس أنه وبموجب القرار ستمنح شهادة الجنسية العراقية للأكراد الفيليين، لكنها وبدلاً من تنفيذ ذلك القرار شرعت باعتقالهم وتسفيرهم إلى إيران، وقامت السلطات بالاستيلاء على ما كانوا يمتلكونه من أموال وعقارات وأوراق ثبوتية تؤكد أصالة عراقيتهم.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض ما كانت تعانيه هذه الشريحة من المجتمع العراقي كنموذج لبعض ما جرى في تلك الليالي والأيام المشؤومة التي عاشها أبناء هذه الشريحة، وبما تحملوه من شتى أنواع الإهانات على أيدي أزلام السلطة الحاكمة في بغداد.

فقد كان أحد الشباب طالباً في السادس الأدبي، وقبل التسفير كان يأمل في نيل الشهادة في القانون، وكان أحد أعضاء فريق كرة القدم في منطقته، وبعد صدور قرار منح الجنسية بدأ العديد من الأكراد الفيليين بتقديم طلباتهم بحسن نية لنيل شهادة الجنسية العراقية، وكان والد هذا الشاب من ضمنهم وشعروا بسعادة غامرة لهذا

ص: 179

الأمر، فقد قال ذات مرة: لقد انهينا المعاملة وطلبوا منا (18) صورة شخصية لكل فرد من العائلة، لكنه وبعد مرور أكثر من شهر بدا هذا الشاب حزينا وقال: يا ليتنا لم نقدم معاملتنا لهذه الشهادة اللعينة، ولم يكن أحد من زملائه وأعضاء الفريق يدركون مغزى حديثه، حتى جاءت الليلة الظلماء التي توقعها وسفّر هذا المسكين مع عائلته المتكونة من والده العليل ووالدته وإخوته السبعة.

وبما أنه كان أحد الأعضاء الأساسيين في الفريق الكروي للمحلة؛ لذا فانه كان يحتفظ بالكرة دائما في بيته، وبعد أيام من تسفيرهم جاءت لجنة من الحزبيين وسجلوا ما في بيتهم من أثاث ومحتويات لمصادرتها وكأنها غنيمة حرب، وكانت (كرة الفريق) من ضمنها، ولما تقدم أحد أعضاء الفريق بعفوية وطلب من اللجنة إعادة الكرة إلى بقية أعضاء الفريق ردّ أحدهم وبكل حقد قائلا: كيف تلعب بكرة وصاحبها إيراني؟!

قصة أخرى

كان أحد الأشخاص يعمل قصاباً وكان لديه ثلاثة أطفال، وفي إحدى الليالي قام رجال الأمن بقطع التيار الكهربائي عن الحي فأصبح الجميع في ظلام دامس فأغاروا على بيت هذا المسكين ولم يمهلوهم كثيراً، بل قاموا بتسفيره فوراً، ولما كان يعمل قصاباً فقد أبقى في بيته عددا من الخراف للذبح، وبعد أن سفروهم جاءت لجنة المصادرة إلى بيته فكانت فيه أربعة خراف من ضمن الأشياء المصادرة، فقال أحد أعضاء اللجنة بخبث ساخراً: حتى لو تكون الأغنام إيرانية، فنحن لا نسفر الحيوانات بل نسفر أصحابها.

هذه هي بعض تصرفات الحزب الحاكم المتسلط على رقاب شعبنا في العراق بجميع شرائحه عرباً وأكراداً وأقليات أخرى، لكن غضب اللّه عزّ وجلّ

ص: 180

على هؤلاء الظالمين قريب جداً إن شاء اللّه تعالى، وسوف ينالون جزاءهم العادل، بإذن اللّه وقدرته، كما وعد في كتابه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٖ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَٰرُ}(1).

من الأمويين إلى طغاة العراق

إن التاريخ يعيد نفسه عادةً، فبالأمس كان هناك جانب الشر والظلم والسجون والاستبداد والسيطرة، وتقييد الأيدي، وكمّ الأفواه، المتمثل في حكم الأمويين، الذين استحوذوا على سدة الحكم في البلاد الإسلامية بالظلم والطغيان، أمثال معاوية بن أبي سفيان زعيمهم الذي مارس بحق من أبناء الإسلام ألواناً من الظلم والاضطهاد والتعذيب والقتل والتشريد، ولكن في مقابله برز رجال أحرار من رحم الأمة مجاهدين مناضلين ومضحّين بكل غالٍ ورخيص في سبيل إعلاء كلمة «لا إله إلّا اللّه»، ولقد تمركزت تلك الثلة الخيرة من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) في أوساط العراقيين في الكوفة والبصرة وبعض المناطق الإسلامية الأخرى.

فمارس والي معاوية على الكوفة والبصرة آنذاك، وهو (زياد بن أبيه)(2) بحقهم

ص: 181


1- سورة إبراهيم، الآية: 42.
2- زياد بن أبيه كما سمته عائشة وهو زياد، يقال له تارة: زياد بن أمة، وتارة زياد بن سمية، وأخرى زياد بن أبيه، استلحقه معاوية فقيل له: زياد بن أبي سفيان، وكان يقال له: أبو المغيرة، لحق بمعاوية، بعدما كتب له كتاباً يستعطفه منه وقد قال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان شعراً أغضب معاوية فقال: ألا أبلغ معاوية بن حرب *** لقد ضاقت بما تأتي اليدان أتغضب أن يقال: أبوك عف *** وترضى أن يقال: أبوك زان فاشهد أن رحمك من زياد *** كرحم الفيل من ولد الأتان وأشهد أنها حملت زياداً *** وصخراً من سمية غير دان انظر الكنى والألقاب 1: 301 (ابن زياد).

ألواناً من التعذيب والسبي والقتل، حتى كثرت العوائل التي تعرضت لظلمهم،وأصبحت تهدد مصير عرش الظالم معاوية بن أبي سفيان، فكتب زياد إلى معاوية يخبره بقرب مصيرهم الأسود، فجاءت الأوامر من البيت الأموي في الشام بتهجير عوائل الشهداء والمجاهدين من العراق إلى خراسان لكي يتخلص منهم بابتعادهم عن مصادر القرار، ولكن النتيجة جاءت عكسية، فازداد السخط على نظام بني أمية وكثر المعارضون.

تلك كانت صورة الأمس، واليوم نلاحظ نفس الظلم السابق لا يتغير منه شيء، إن لم نقل بأنه أشد وأقوى، فبالأمس كان الظلم يتمثل ببني أمية ومقره الشام، واليوم يتمثل بالنظام البعثي ومقره العراق.

ولكنهم اليوم نسوا أو تناسوا مصير معاوية الأسود، فبعد الحكم والسيطرة والبطش، وبعد تمتعه بالقصور الفاخرة والجواري العديدة، وما إلى ذلك من وسائل البذخ، كيف أصبح مصيره الآن؟

فإذا ذكر معاوية ذكرت جميع الرذائل والصفات السيئة، أما إذا ذكر الجانب المقابل له، أي المعارض لحكم معاوية، من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأصحابه من أمثال حجر بن عدي، وميثم التمار، ومالك الأشتر، وسلمان الفارسي، ومحمد بن أبي بكر (رضوان اللّه عليهم) - وغيرهم كثيرون - ذكرت معهم الصفات الحميدة التي كانوا يتمتعون بها، والذي استلهموها من سيد الوصيين وقائد الغر المحجلين، علي أمير المؤمنين(عليه السلام)، فهم أصبحوا مدرسة الخير والصلاح للأجيال يقتدى بها إلى يومنا هذا، فعلى طغاة العراق الاستفادة من هذا الدرس التاريخي، والاعتبار بمن كان قبلهم قبل فوات الوقت، إذا كانوا يملكون ذرة من الإنسانية، ولو أن هذا بعيد على نظام مثل نظامهم، الذي اقترف ما اقترف من الآثام والمعاصي، التي سوّدت صفحاتهم،

ص: 182

ولم تُبقِ لهم عودةً إلى الخير.

إذن، من اللازم على كافة المسلمين في العالم أن يساندوا إخوانهم في العراق قولاً وفعلاً، وعلى العراقيين المجاهدين في داخل العراق وخارجه، وخصوصاً المهجّرين منهم، أن يعملوا يداً واحدة، ويديموا روافد الجهاد حتى إسقاط هذا النظام الجائر وذلك بعد نشر الوعي والثقافة بين صفوف الأمة.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

بث روح الأخوة

قال تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَٰبِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَٰنِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(3).

ص: 183


1- الكافي 3: 424.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
3- سورة الحجرات، الآية: 10-11.

قال جلّ وعلا: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}(1).

قال سبحانه: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا}(2).قال عزّ وجلّ: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}(3).

قال اللّه تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(4).

الهجرة والتهجير

قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْأخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(5).

قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}(6).

قال جلّ وعلا: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(7).

قال عزّ وجلّ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا

ص: 184


1- سورة الأعراف، الآية: 65.
2- سورة الأعراف، الآية: 73.
3- سورة الأعراف، الآية: 85.
4- سورة الحجر، الآية: 45-49.
5- سورة النحل، الآية: 41-42.
6- سورة الحج، الآية: 58-59.
7- سورة النساء، الآية: 100.

مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصَّٰدِقُونَ}(1).

حرمة الركون إلى الظالمين وإعانتهم

قال عزّ وجلّ: {وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْأَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(2).

قال تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّٰلِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}(3).

قال سبحانه: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(4).

قال جلّ وعلا: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}(5).

الظالم والمظلوم

قال عزّ وجلّ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}(6).

قال سبحانه: {وَالظَّٰلِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ}(7).

قال تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ}(8).

قال جلّ وعلا: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَٰنًا}(9).

ص: 185


1- سورة الحشر، الآية: 8.
2- سورة هود، الآية: 113.
3- سورة سبأ، الآية: 31.
4- سورة الأنعام، الآية: 129.
5- سورة القصص، الآية: 17.
6- سورة الفرقان، الآية: 27.
7- سورة الشورى، الآية: 8.
8- سورة النساء، الآية: 148.
9- سورة الإسراء، الآية: 33.

من هدي السنّة المطهّرة

الهجرة والتهجير

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وإن الهجرة تهدمما كان قبلها...»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تهادوا تزدادوا حباً وهاجروا تورثوا أبنائكم مجداً...»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مَن فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(3).

وفي قوله تعالى: {يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَٰسِعَةٌ}(4) قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «معناه إذا عصي اللّه في أرض أنت فيها فاخرج منها إلى غيرها»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا أعسر أحدكم فليخرج يضرب في الأرض يبتغي من فضل اللّه ولا يَغُمَّ نفسه وأهله»(6).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سافروا تصحوا وجاهدوا تغنموا وحجوا تستغنوا»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق»(8).

ص: 186


1- نهج الفصاحة: 260.
2- نزهة الناظر: 19.
3- تنبيه الخواطر 1: 34.
4- سورة العنكبوت، الآية: 56.
5- بحار الأنوار 19: 36.
6- السرائر 2: 228.
7- المحاسن 2: 345.
8- من لا يحضره الفقيه 3: 156.

وسئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أي الهجرة أفضل؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من هجر السوء»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «يقول أحدكم إني غريب، إنما الغريب الذي يكونفي دار الشرك»(2).

وسئل أبو عبد اللّه(عليه السلام): عن الكبائر؟ قال(عليه السلام): «أكبر الكبائر الشرك وعقوق الوالدين والتعرّب بعد الهجرة...»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ليس من المروءة أن يحدث الرجل بما يلقى في سفره من خير أو شر»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ألا أنبئكم بشر الناس؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: من سافر وحده، ومنع رفده، وضرب عبده»(5).

جزاء الظالمين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يقول اللّه عزّ وجلّ أشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من ارتكب أحداً بظلم بعث اللّه عزّ وجلّ من يظلمه بمثله أو على ولده أو على عقبه من بعده»(8).

ص: 187


1- الأمالي للطوسي: 539.
2- تهذيب الأحكام 6: 174.
3- الخصال 2: 411.
4- المحاسن 2: 358.
5- المحاسن 2: 356.
6- الأمالي للطوسي: 405.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 605.
8- ثواب الأعمال: 273.

بث روح الأخوة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً إن يكُ ظالماً فأردده عن ظلمهوان يكُ مظلوماً فانصره»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنما أنتم إخوان على دين اللّه، ما فرق بينكم إلّا خبث السرائر، وسوء الضمائر فلا توازرون ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادّون»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق، فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال، أما إنه قد يرمي الرامي، وتخطيء السهام ويحيل(3)

الكلام»(4).

وعن أبان بن تغلب قال: كنت أطوف مع أبي عبد اللّه(عليه السلام) فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجة فأشار إلي، فكرهت أن أدع أبا عبد اللّه(عليه السلام) وأذهب إليه، فبينا أنا أطوف إذ أشار إليّ أيضاً فرآه أبو عبد اللّه(عليه السلام) فقال: «يا أبان إياك يريد هذا؟» قلت: نعم - إلى أن قال - قال: «فاذهب إليه» قلت: فاقطع الطواف؟ قال: «نعم» قلت: وإن كان طواف الفريضة، قال: «نعم» قال: فذهبت معه...(5).

جزاء إعانة الظالمين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الظلمة وأعوانهم، من لاق لهم دواةً، أو ربط كيساً، أو مدّ لهم مدّة قلمٍ، فاحشروهم معهم»(6).

ص: 188


1- نهج الفصاحة: 265.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 113 من خطبة له في ذم الدنيا.
3- يحيل: يتغير عن وجه الحق.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 141 من كلام له(عليه السلام) في النهي عن سماع الغيبة.
5- الكافي 2: 171.
6- ثواب الأعمال: 260.

وقال أبو جعفر(عليهما السلام) - في حديث - : «... فاذا ظهر إمام عدل فمن رضي بحكمه وأعانه على عدله فهو وليه، وإذا ظهر إمام جور فمن رضي بحكمه وأعانه علىجوره فهو وليه»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن عيسى ابن مريم(عليه السلام) قام في بني إسرائيل فقال: يا بني اسرائيل... ولا تعينوا الظالم على ظلمه فيبطل فضلكم»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من أعان ظالماً على مظلوم لم يزل اللّه عليه ساخطاً حتى ينزع عن معونته»(3).

الظالم والمظلوم

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من عذر ظالماً بظلمه سلط اللّه عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له ولم يأجره اللّه على ظلامته»(5).

وعن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه(عليهما السلام) قال: «ما يأخذ المظلوم من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من دنيا المظلوم»(6).

ص: 189


1- تنبيه الخواطر 1: 17.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 400.
3- وسائل الشيعة 16: 57.
4- نهج البلاغة، الحكم: الرقم 241.
5- الكافي 2: 334.
6- ثواب الأعمال: 272.

احذروا اليهود

اشارة

لو تفحصنا التاريخ الغابر والحاضر، لوجدنا أن هناك فاصلاً كبيراً بين اليهود وبين القيم الإنسانية العليا، كالسلم والوفاء.

وهذا ما يجعلهم منبوذين عند عموم الأمم والشعوب، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}(1) أي أنهم ثلة من الجياع والأذلاء الفقراء(2).

هذا من جانب، ومن جانب آخر يقول عزّ وجلّ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(3) والعزة بمعنى: الغلبة والقوة(4)، وهو يخص بها المؤمنين دون غيرهم.

ولكن وبنظرة واحدة نجد اليوم أنه قد تغير الأمر، فصارت العزة للأعداء.

فإذا رجعنا بالتاريخ خمسين عاماً الى الوراء، وفي فلسطين بالتحديد، لوجدنا أن اليهود فيها لا يتجاوزون ال(56000) نسمة، برجالهم ونسائهم وشيوخهم وأطفالهم، أما اليوم فإن الإحصاءات تقول: أن نفوس اليهود في الأراضي الفلسطينية أربعة ملايين نسمة(5)،

وهم في ازدياد مطرد، وقوتهم في تصاعد

ص: 190


1- سورة البقرة، الآية: 61.
2- يدور معنى المسكنة على الخضوع والذلة وقلة المال والحال السيئة.
3- سورة المنافقون، الآية: 8.
4- انظر: تفسير شبر: 518.
5- الإحصاءات الأخيرة تشير إلى أن عددهم أكثر من ستة ملايين نسمة في الأراضي الفلسطينية.

مستمر.

أما نحن المسلمين هل نخطو نحو الأمام كما هم يخطون؟!

بل كما أمرنا الإسلام؟

وقد ورد في الحديث الشريف: عن الإمام الصادق(عليه السلام) من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة»(1).

كيف حدث هذا؟

وكيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟

الحديث طويل، وهو ذو شجون، ولسنا الآن بصدد بحثه تفصيلاً.

من أسباب تأخر المسلمين

إن المسلمين في الحقيقة أخلّوا بأوامر اللّه وتركوا ما أمرهم به تبارك وتعالى، فانعكست بهم الآية، وسيطر عليهم من {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}(2) فلنتدبر كيف تكون العقوبة!

فقد جاء في الحديث القدسي في باب كلام اللّه مع أنبيائه^ «إذا عصاني من يعرفني سلّطت عليه من لا يعرفني»(3).

فإذا ما تفحصنا التاريخ وغصنا في أحداثه، سنجد هذا القانون العادل أمام العين في كل معادلة حيوية؟!

ص: 191


1- الأمالي للصدوق: 668.
2- سورة البقرة، الآية: 61.
3- الكافي 2: 276.

وقد كانت الفترة الأولى من حياة المسلمين تتميز بطابع خاص، وكانوا ينظرون إلى كلام اللّه والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما ينظرون الى المسلّمات غير القابلة للنقاش، سواء علموا سرّه، أم لم يعلموا.

وأقول: سواء قبلنا أم لم نقبل، إن المسلمين عصوا اللّه، فسلط عليهم اليهود، وليس هذا التسلط ليوم أو بعض يوم، بل هو خمسون عاماً.

المسلمون واليهود

اشارة

إن المسلمين اليوم ليسوا بأقليّة، فقبل عدة سنوات كانت أقل الإحصاءات تقول: إن عدد المسلمين يناهز الألف مليون مسلم، واليوم فإن عددهم قد ناهز المليار وستمائة مليون مسلم(1).

أما اليهود، فإن عددهم في جميع المعمورة(2)

لا يناهز الأربعة عشر مليون نسمة (14000000) منهم أربعة ملايين في اسرائيل، وخمسة ملايين في امريكا، والباقي في سائر انحاء العالم.

ومن باب المثال، ولا مناقشة في الأمثال: إن يهود العالم بأجمعهم أقل من نفوس مدينة طهران ذات الستة عشر مليون نسمة.

السؤال هو: كيف حدث أن أربعة ملايين يهودي في اسرائيل يصمدون في وجوه المسلمين، بل ينفذون ما يريدون ونحن ذوي المليار والستمائة مليون؟!

هذا بغض النظر عن أن المسلمين في العالم هم الأغنى! فمصادر الطاقة تحت أيدينا، بل احتياطي العالم من الطاقة تحت أراضينا، مما يجعلنا أسياد

ص: 192


1- وفي كتاب (عندما يحكم الإسلام) لعبد اللّه فهد النفيسي، الصفحة الاخيرة، 1996م يذكر ان عدد المسلمين حالياً مليارا مسلم (2000000000).
2- وفي يومنا هذا تشير أكثر الإحصاءات أن عددهم لا يتجاوز 18 مليون نسمة.

العالم ويكون الغرب والشرق خاضعاً لنا ومحتاجاً إلينا.

فكيف يحدث أن أربعة ملايين يهودي في إسرائيل يحكمون ويسيطرون على أراضينا، ونحن نملك العدة والقوة؟! وقد قال اللّه تعالى عنهم: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}(1).

وقال تعالى عنا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(2).

اتحادهم وتفرقنا

ولأجل تقريب معنى ما نعانيه اليوم، وما وصل بنا الحال نذكر هذه القصة الطريفة:

يحكى أنه كانت هناك قافلة ضخمة متجهة نحو إحدى المدن، وفي الطريق تعرض لها قطاع الطرق وسلبوا القافلة، حتى جرّدوهم من ثيابهم وتركوهم في العراء، وعند وصول القافلة إلى المدينة القريبة تعجب أهلها من هذا المنظر، وسألوا عن السبب؟

فقالوا لهم: لقد تعرض لنا قطاع الطريق وسلبونا وتركونا كما ترون؟!

فسألوهم: وكم كنتم؟

قالوا: مائة نفر.

ثم سألوهم: وكم عدد اللصوص؟

فقالوا: اثنان.

فتعجب أهل القرية، وأخذوا يضحكون من هؤلاء ويقولون كيف سلبكم اثنان وأنتم مائة؟!

ص: 193


1- سورة البقرة، الآية: 61.
2- سورة المنافقون، الآية: 8.

فقال أهل القافلة: ما كان ذاك إلّا لاتحادهم على باطلهم وتفرقنا عن حقنا!

وهكذا الحال في قضيتنا اليوم: فان أربعة ملايين يهودي متحدون على باطلهم والعرب - لو عبرّنا كما يعبّرون حيث جعلوا الصراع عربياً اسرائيلياً - مائتان وخمسون مليون متفرقون غير متحدين، هذا إن اخرجنا المسلمين غير المتحدين ايضاً من المعادلة والّا فنحن مليار وستمائة متفرقون.

في الواقع نحن خالفنا أوامر اللّه.

وقد ورد مثل هذا في القرآن الكريم في سورة البقرة، حيث يقول اللّه تعالى مخاطباً اليهود: {يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}(1).

أي: إنكم كنتم أمة قد ارتقت المراتب العالية من طيبة النفس وحسن الالتزام، مما استوجب تفضيلكم على بقية الأمم والشعوب في ذلك الزمان على الذين عتوا عن أمر ربهم ولم يلتزموا بأوامر الانبياء^.

وفي آية أخرى يقول عزّ وجلّ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ}(2).

فإن طاعة بني إسرائيل للّه تعالى جعلتهم ملوكاً واستطالوا على أهل زمانهم.

ولكن ذلك لم يدم طويلاً، فبمجرد أن تركوا أوامر اللّه تعالى جانباً سلب عنهم تاج الملوكية والعزة، وألبسوا لباس الخزي وجرّعوا الذل وهذه الآية تشير الى ذلك: {ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمْ تَظَٰهَرُونَ

ص: 194


1- سورة البقرة، الآية: 47.
2- سورة المائدة، الآية: 20.

عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَالْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ...}(1).

أي: لانكم خالفتم أوامر اللّه، ضربت عليكم الذلة والمسكنة.

ونفس هذا الأمر حصل مع المسلمين حيث أنهم - في بدو الأمر - انصاعوا لأوامر اللّه تعالى فكان ذلك سبب ازدهارهم وتفرقهم على جميع الأمم ففي القرآن الكريم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(3).

ولكن اليوم حيث ترك المسلمون أوامر اللّه سبحانه جانباً، سلب عنهم تاج العزة، وأصبحوا تحت سيطرة الأعداء.

بين العراق واسرائيل

لو قارنّا بين إسرائيل والعراق كمثال على ذلك فالإسرائيليون اليهود في قانونهم لا يُقتل يهودي واحد، وفي الجانب الآخر العراق كم قتل من الأبرياء المسلمين والعراقيين هناك؟!!

فالانتهاك لحقوق المسلمين في العراق وقتلهم للأبرياء لا يدخل ضمن دائرة الحصر.

فها نحن كسبنا صفاتهم وكسبوا صفاتنا.. سلكوا سبل العزة وسلكنا سبل

ص: 195


1- سورة البقرة، الآية: 85.
2- سورة آل عمران، الآية: 110.
3- نهج الحق وكشف الصدق: 515.

الذل!

وعلى مدى الخمسين عاماً لم يحصل أن إسرائيل اخرجت يهودياً واحداً منإسرائيل. أما العراق، فإنه اخرج أكثر من ثلاثة ملايين من العراقيين بين مهجر ومهاجر، ناهيك عن مئات الآلف من القتلى والمعوقين، هم حصاد حربين استنزافيتين وعشرات الآلاف من السجناء الأبرياء؟!

وهذا مجرد مثال بسيط، وبلاد المسلمين حبلى بأشباه ونظائر ما يحصل مع شعب العراق.

فالخلاصة: أنه بعد أن تبادل القوم الصفات الحسنة بالسيئة(1) وجّه اللّه الضربة علينا بذات الصفعة التي صفع بها اليهود آنذاك، فالدنيا دنيا الأسباب والمسببات، وقد قال تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ}(2).

هذا هو القانون الإلهي العادل في هذا الكون.

رسالة إلى ياسر عرفات

قبل فترة طويلة(3) بعثت برسالة إلى أحد القادة الفلسطينيين(4) قلت فيها ضمن كلام لي:

لا يمكن أن تحصلوا على النصر وتصلوا إلى أهدافكم - إزالة إسرائيل - وأنتم تتمسكون بأساليبكم هذه، وذلك لسببين:

الأول: العنف.

الثاني: ترك كتاب اللّه وراء أظهركم.

ص: 196


1- قال تعالى: {ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمْ} سورة البقرة، الآية: 85.
2- سورة الإسراء، الآية: 20.
3- في أوائل الثمانينات أو قبلها.
4- وهو ياسر عرفات.

أما محاولة الوصول إلى الهدف بواسطة العنف فهي فاشلة مقدماً، وذلك لسبب بسيط وهو أنكم تحملون السيف بوجه الرشاش الذي يحمله العدو - اسرائيل -فكيف يمكن لهذا العنف، غير المتوازن، إزالة إسرائيل؟!!

بغض النظر عن أسلوبكم في إدارة الأمور في فلسطين المستند الى الإرهاب والقتل.

فإسرائيل غالبة بما تملك من تقنية عالية في السلاح وهي في ذلك تفوقكم كمية وكيفية، ففي العقد الماضي كانت إسرائيل تصنع بنفسها ستمائة نوع من السلاح من الرصاص إلى الطائرات الحربية، وفي المقابل البلاد الإسلامية جمعاء لاتصنع من سلاحها ستمائة نوع، ولا يجاري سلاحها السلاح الإسرائيلي في الكيفية.

إذن العنف ليس هو الطريق الأسلم لاسترداد الحقوق، بل مردوده سلبي دائما، والطريق الأمثل والأنجح في العمل هو السلم واللاعنف وخير مثال على ذلك هو أسلوب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1) السلمي في مواجهة المؤامرات الضخمة التي كانت تحاك من قبل المشركين والكفار في الجزيرة العربية، وكيف تمكن من دخول مكة المكرمة - معقل المشركين - وفتحها بدون إراقة دماء أو اللجوء الى الإرهاب(2).

أما عن السبب الثاني

ترك العمل بكتاب اللّه تعالى

فلو ألقينا نظرة سريعة على تاريخ فلسطين لوجدنا أن القرآن - ومن ثم المسلمون وليس العرب فقط - هو الذي يحافظ على وجود هذا البلد بين أيدينا،

ص: 197


1- راجع كتاب (الصياغة الجديدة) و(ممارسة التغيير) و(السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(حكومة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)) للإمام المؤلف(رحمه اللّه).
2- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) للإمام المؤلف.

فكلما خرجت فلسطين من أيدينا استرجعها المسلمون من الصليبيين وغيرهم،وليس العرب - بعنوان أنهم عرب - أما أنتم(1) فتجعلون النزاع بين العرب فقط وإسرائيل، لا المسلمين بأجمعهم.

أما اليهود فإنهم صاروا كلهم إخوانا تحت مظلة الدين اليهودي، فاليهودي الروسي يحترم اليهودي اليمني، وكذلك الحال مع اليهودي الأمريكي والمغربي والأثيوبي الأسود و... فهولاء اليهود الذين هم من مختلف القوميّات يجتمعون تحت مظلة واحدة، هي الديانة اليهودية.

هذا العنوان الديني هو الذي أعطاهم هذا الكيان الضخم، الأمة الواحدة اليهودية، الأُخوة اليهودية، الحرية اليهودية.

ونحن المسلمون عندما تركنا عنوان الدين الإسلامي جانباً، وتركنا هذه الركائز تلقائياً، أصبحنا بعيدين عن الأمة الإسلامية الواحدة، الأُخوة الإسلامية، والحرية الإسلامية.

مع أن القرآن الكريم يشير إلى هذه النقاط المهمة في آيات متعددة.

قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(2).

لكننا أصبحنا أُمماً متشتتة: الأمة العراقية والإيرانية والباكستانية والسودانية و... و... فأصبحنا خمسين أمة بل أكثر.

أما اليهود فغدوا أمة واحدة، وصاروا إخوة، بخلاف ما عليه المسلمون الذين امتلأت حياتهم تفرقة وشتتهم الأممية والقومية(3).

ص: 198


1- الخطاب إلى ياسر عرفات.
2- سورة الأنبياء، الآية: 92.
3- لكل يهودي في العالم جنسيتان، الأولى إسرائيلية والثانية جنسية الوطن الذي يقطنه، وبلادنا تمنع الحصول على جنسية ثانية، بل ترى لنفسها الحق في إسقاط الجنسية عمن لا ترغب فيه.

ونتيجة هذه التفرقة انتهى الأمر بالقيادة الفلسطينية بعد جهاد طويل مرير إلىالتنازل عن الأرض الفلسطينية التي سفك على أعتابها دماء عشرات الآلاف من المسلمين للحفاظ عليها إسلاميةً، خالصةً لليهود والاقتناع بحكم شظايا صغيرة باسم (غزة وأريحا) تحت مظلة الحكم الإسرائيلي الذي ما انفك يشبعهم الإهانة تلو الإهانة، تحت مرأى ومسمع الفلسطينيين الذين يتجاوز عددهم الخمسة ملايين، والعرب ال(250) مليون، والمسلمين ال(الف وستمائة مليون)(1).

هذه هي النتيجة الحتمية، وإننا لن ولن ننجح ما دمنا ننتهج هذا الأسلوب الخاطئ، وما دمنا نبتعد عن النهج الذي رسمه القرآن الكريم لنا.

حتمية السقوط

وذكرت في محاضرة لي(2) أن عبد الناصر لن ينتصر على إسرائيل! في حين كان الجميع يظن خلاف ذلك، وكان لي الأدلة على ذلك، استفادتها من طريقة تعامل عبد الناصر حتى مع شعبه، وطريقة تعامل اليهود حتى مع غيرهم، فقرأت كتابين.

الأول اسمه: (أقسمت أن أقول).

والكتاب الثاني: (في معتقل الأنصار).

وعندما يقرأ الإنسان هذين الكتابين يعرف بعض المشكلة الموجودة في البلاد الإسلامية، ومن خلال ذلك قد يكون الأمر جلياً بعدم انتصار عبد الناصر، فالكتاب الأول لأحد السجناء المسلمين في زنزانات عبد الناصر، والثاني لفلسطيني قد سجن في إسرائيل.

ص: 199


1- وعدد المسلمين حالياً يقرب من ملياري مسلم.
2- ألقاها الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في أواخر عهد جمال عبد الناصر.

أشار صاحب الكتاب الاول إلى التعذيب الوحشي الذي يمارس في سجونعبد الناصر وكيف كانوا يتفننون في تعذيب المسلمين.

كما يذكر المؤلف الثاني ما مورس بحقه في سجون اسرائيل، فإن الممارسات الإسرائيلية اليهودية بحق ذلك الفلسطيني الذي يعتبر عدواً لهم تكون أخف مما كان في سجون عبد الناصر فلم تتجاوز بعض أنواع التعذيب النفسي وما أشبه.

مع فارق أن إسرائيل لا تعذب اليهود.

ولكنا لو راجعنا سجلات السجون والتعذيب القاسي - إن وجدت سجلات - في البلاد الإسلامية لما وجدناها تجاوزت المسلمين!

الخطر اليهودي

اشارة

لا يقتصر الخطر اليهودي على فلسطين وما جاورها، بل خطرها عام شامل. فهو لا يتوجه إلى الذين تصالحوا مع اليهود في إسرائيل فقط، بل خطرهم يتوجه إلى جميع المسلمين، بل وغير المسلمين.

ويمكن الإشارة إلى بعض الخطر المتوجه من قبلهم وتلخيصها بما يلي(1):

1- السيطرة على التجارة والاقتصاد.

2- نشر الفساد والجنس.

3- المخدرات.

4- الإيدز.

ص: 200


1- وهناك أخطار يهودية أخرى ايضاً، منها: شراء الأراضي العربية والإسلامية بمبالغ طائلة جداً وتملكها حتى تصبح يهودية، وقد اتخدوا هذه الطريقة منذ خمسين عاماً بل أكثر، وإلى يومنا هذا، وكمثال على ذلك نقلت مجلة (المجلة) العدد 920 ص 11 الصادرة بتاريخ 4/10/1997م أن: مليار دولار خصصها متموّل يهودي لشراء ما يمكن من الأراضي العربية في القدس والخليل و... .

1- السيطرة على التجارة

يحاول اليهود دائماً الإمساك بخيوط التجارة بكل الوسائل المتاحة، المشروعة وغيرها. والشواهد على ذلك كثيرة(1)، وأذكر لكم شاهداً واحداً على سبيل المثال وللاختصار:

أيام كنت في العراق(2) جاءني أحد الأشخاص وقال لي: إن عندي ذنباً كبيراً، فهل لي من توبة؟

قلت له: كل مذنب إذا تاب بإخلاص تاب اللّه عليه.

قال: إن ذنبي أكبر.

قلت: ليس بالضرورة أن تشرح لي ذنبك، ولكن اعلم أن اللّه يغفر لك ويتوب عليك: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}(3).

ولكنه أصر أن يكشف لي عن ذنبه الذي ارتكبه.

فقال: الواقع أني أذنبت ولم أكن أعلم أني أذنب، أي ارتكبت ذنباً كبيراً من حيث لا أشعر، كنت أعمل في ادارة البريد والتلغراف، في قسم التلغراف، براتب شهري (عشرة دنانير)(4) مثلاً.

وفي أحد الأيام جاءني أحد اليهود من بغداد، وسألني: كم راتبك؟

قلت: عشرة دنانير.

قال: وأنا أعطيك عشرة دنانير فوق راتبك مقابل عمل واحد بسيط فقط

ص: 201


1- ويمكن معرفة ذلك عبر ملاحظة الأسهم في الشركات العالمية الكبيرة.
2- هاجر الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) من العراق في 18 / شعبان / 1391ه خوفاً على حياته. راجع كتاب (أضواء على حياة الإمام الشيرازي) 61.
3- سورة الزمر، الآية: 53.
4- 10 دنانير في ذلك الوقت يمكن للإنسان أن يعيش بواسطتها حياة بسيطة.

تعمله لي.

قلت له: وما هو؟

قال: عندما يصلك تلغراف إلى التاجر الفلاني بقائمة الأسعار الجديدة للبضائع، أن تبعث بالقائمة لي قبل أن تعطيها إلى صاحبها بيوم واحد. وليس من الضرورة قدومك إليّ، بل يكفي الاتصال الهاتفي، وإعلامي بالأسعار.

فوافقت على ذلك، واستمر العمل عدة سنوات على هذا المنوال، ولم أكن أعلم ماذا يترتب على هذا الاتصال، وبعدها عرفت أنني كنت السبب في تضرر المسلمين بالملايين وكانت الأرباح تنصب في كيس اليهود!

2- نشر الفساد

قد رأيت في العراق كيف كان اليهود ينشرون كتب الفساد والانحراف الجنسي بين الفتيان والفتيات، بالإضافة الى المنهج الإباحي الذي كان يسير عليه فتيان اليهود وفتياتهم.

وبين هذا المنهج الإباحي، والكتب والمجلات الإباحية كان ينتشر الفساد بشكل غريب وسريع.

ينقل (عبد الجبار أيوب) في مذكراته حادثةً حصلت معه أيام كان رئيساً لسجن الكوت في العراق.

يقول: في إحدى الأيام سلمتني الدولة ثلاثة سجناء خطرين وأوصت أن يكونوا تحت الحماية المشددة، ولشدة خطرهم فكنت اشدد الحراسة عليهم تنفيذاً للأوامر، ولما قد يسببه فرارهم من الإهانة والتوبيخ والعقوبة.

بعد فترة وجيزة، جائني تاجران من تجار بغداد الكبار وكانا من اليهود(1) وبعد

ص: 202


1- الحادثة قبل ترحيل اليهود من العراق إلى فلسطين.

السلام والجواب قالا لي:

يوجد عندك ثلاثة سجناء من المسلمين - وليسوا من اليهود - ، ولا نريد أن نتحدث عنهم بشعور ديني، بل حديثنا عنهم من الجانب الإنساني البحت، والنظر إلى الوضع السيئ الذي تعيشه عوائلهم وأولادهم، والمطلوب منك أمر بسيط، هو نقلهم إلى سجن بغداد وهذا لا يضرك في شيء(1)، لا أمام الدولة ولا أمام الضمير بل بالعكس، فيه خدمة إنسانية!

وراحوا يسردون عليّ آيات من القرآن، وبعض الأقوال عن الأنبياء موسى وعيسى(عليهما السلام).

كل هذا الحديث اللطيف وأنا ارفض نقلهم إلى بغداد، وباءت محاولتهم بالفشل.

ذهبوا وبعد أيام وجيزة جاءوا عندي مجدداً، وناقشوني في الأمر، وكان من الصعب اقناعهم ورد مطلبهم، فقد قال لي أحدهم: لا يصعب عليك كتابة ثلاث كلمات: لا - مانع - لدي.

أعطيك على كل كلمة مائة دينار(2)

فرفضت هذا العرض المغري.

فقال: بترغيب اكثر: ماذا تريد؟ بيتاً؟ اكتب بنقلهم إلى بغداد وخذ ما تريد.

رفضت أيضاً.

وأصروا، ولكن من غير فائدة.

فخرجوا.

وبعد أيام عادوا مجدداً بصحبة ثلاث فتيات من أجمل ما رأيت، وكرروا الطلب.

ص: 203


1- لعل سبب طلب النقل إلى بغداد هو سهولة إخراجهم من السجن، لما يتمتع هؤلاء التجار من علاقات مع المسؤولين هناك، بحيث يمكنهم إخراج السجناء بسهولة.
2- وهذا مبلغ كبير جداً في ذلك الوقت حيث أن العائلة تكفيها عدة دنانير لمصاريف الشهر الواحد.

فرفضت.

فخرجوا من الغرفة بحجة شرب الماء وأخلوا الغرفة لي مع الفتيات، وعادوا بعد ساعة واستفسروا من الفتيات عن ردود فعلي، فأشرن بالنفي.

عند ذلك توجه إليّ أحدُهم بجدية قائلاً: حضرة (عبد الجبار أيوب) في البداية طلبنا منك حل المشكلة عن طريق الإنسانية والعواطف، فرفضت، ثم طلبنا الحل عن الطريق المال، فرفضت، وفي الثالثة عن طريق البنات، فرفضت ولم تقبل، فاستعد للبلاء.

ثم تركوني وخرجوا جميعاً.

ولم تمض برهة وجيزة حتى نقلت عن إدارة السجن، وتحققت بعدها فعلمت أن السجناء الثلاثة نقلوا إلى بغداد، ثم اطلق سراحهم.

فهذا هو دأب اليهود.

فهم يطلبون الوصول إلى غاياتهم بكل الطرق، وإن كان في طياتها الفساد والرشا والبغاء(1).

وهذا هو الخطر الثاني الذي يتوجه المسلمين من اليهود.

3- خطر المخدرات

وهي من الأخطار الجديدة التي استغلها اليهود أبشع استغلال، وبادروا في الإمساك بتجارتها، وهم الآن أكبر تجارها في العالم.

وهي تدر عليهم أرباحاً طائلة، لما تستنزفه من الناس من الأموال، فالذي

ص: 204


1- قد نقلت مجلة (الشراع) العدد 11787 عن صحيفة معارف: أن فتاة في التاسعة عشرة من عمرها ادعت على (الحاخام ابراهام راطا) بتهمة اغتصابها منذ كانت في الثامنة من عمرها! وأن كشفها هذا السر الآن جاء بعد أن تمادى هذا الحاخام في عمله الشائن واغتصابه شقيقتيها 11 و12 سنة اللتين عاشتا في منزل والده.

يعتاد على المخدر، لو اضطره الأمر أن يبيع أهله وأولاده ونفسه وعرضه مقابلالحصول على الجرعة التي تعيد له توازنه، لفعل بدون أدنى رادع.

وهو سلاح ذو حدّين، فهو من جانب يوفّر لليهود الأموال الطائلة بدون بذل جهود حقيقية، ومن الجانب الآخر ينحدر بالبيوت والمجتمعات التي تتعاطاها إلى الإفلاس والفساد والجوع والمرض، بل إلى كل أنواع الرذيلة والمهانة، ويشل المتعاطين لهذه السموم عن كل انواع الحركة والبناء، ويحولهم إلى مجاميع هدّامة.

ولليهود جماعاتهم التي مهمتها نشر هذه السموم بين المجتمعات الإسلامية وغيرها، وبين الآونة والاخرى تظهر فضائحهم في هذه المهمة اللا أخلاقية.

4- نشر الإيدز

الخطر الرابع الذي يواجه المسلمين وغيرهم من قبل اليهود: نشر الإيدز.

وهم المسؤولون عن ترويج هذا المرض الخيبث، خصوصاً في البلاد الإسلامية. فهم ينشرون هذا المرض بين المسلمين، تحت عناوين غير مشبوبة، مثل السياحة وما شابه.

وهذه الظاهرة بارزة في كل بلد فتح حدوده أمام السياحة الإسرائيلية، حيث إنهم يرسلون فتياتهم المصابات بهذا المرض الخبيث - الإيدز - للسياحة في البلاد الإسلامية، فيقومون باسم السياحة والتعارف بنشر هذا المرض الرهيب بين الشباب المسلمين، ومنهم ينتقل المرض إلى الفتيات المسلمات(1).

ص: 205


1- ذكرت مجلة الشراع اللبنانية في عددها الصادر بتاريخ 8 / ايلول/ 1997م برقم (797): في مصر - التي فتحت باب السياحة أمام اليهود - تم القاء القبض على عدد من العاهرات الاسرائيليات بعد ثبوت تورطهن بعلاقات مشبوهة مع شبان مصريين اصيبوا جميعاً بمرض الايدز وايضاً صدر الحكم بترحيل مئات الغواني الصهيونيات اللواتي ثبت تعمدهن نشر الامراض القاتلة بين الشبان المصريين كالايدز وغيره.

بل سيصاب بذلك حتى الأطفال(1).

فيجب علينا - المسلمين - أن نحصِّن أنفسنا ضد هذه الإخطار اليهودية التي قد ترد علينا بعناوين جميلة وشكليات قد يحميها القانون غير الواعي لبلادنا.

وأن نقوم بنشاطات توعوية كبيرة بين شبابنا وفتياتنا، لنبعدهم عن كل التصرفات المشبوهة، ليضمنوا لأنفسهم السعادة في الدنيا والآخرة.

وأن ننبذ الفرقة ونشعر أنفسنا بالأخوة الإسلامية، ونكون أكثر وعياً بما يجري حولنا لنحصّن أنفسنا وبلادنا من مطامع اليهود ومآربهم في بلادنا.

ونسأل اللّه سبحانه أن ينصر المسلمين على اليهود، إنه سميع الدعاء.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

ص: 206


1- ذكرت مجلة (العربي) الكويتية في عددها 468 نومبر 1997م ص 86-67 تحت عنوان (أطفال الإيدز) أنه: في مؤتمر حول الإيدز جرى عقده أخيراً في فانكوفر بكندا جرى تقديم بعض الأرقام ذات الدلالة، ففي كل يوم يصاب 8500 شخص بالإيدز، بينهم ألف طفل، وفي عام 1995م فارق الحياة بسبب الإيدز 1.3 مليون شخص بينهم 300 ألف طفل!... .
2- الكافي 3: 424.

احترام الإنسان في الإسلام

في البدء

قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق...»(2).

جاء في تفسير الآية المباركة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ} التقويم بمعنى تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون عليه من التأليف والتعديل، يعني الإنسان مخلوق في أحسن طراز من جهة حواسه وظواهره، ومن جهة مشاعره وأجهزته(3).

وقيل: أراد جنس الإنسان وهو آدم وذريته، خلقهم اللّه في أحسن صورة.

وقيل: {أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ} أي منتصب القامة، وسائر الحيوان مكب على وجهه إلّا الإنسان.

وقيل: أراد أنه خلقهم على كمال في أنفسهم، واعتدال في جوارحهم، وأبانهم عن غيرهم بالنطق والتمييز والتدبير، إلى غير ذلك مما يختص به الإنسان(4).

ص: 207


1- سورة التين، الآية: 4.
2- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 53 عهده(عليه السلام) لمالك الأشتر لمّا ولاه على مصر.
3- تفسير تقريب القرآن 5: 700.
4- راجع تفسير مجمع البيان 10: 393.

لذا فإن من أهم الأمور التي أكد عليها الإسلام تأكيداً بالغاً، هو احترام الإنسان بما هو إنسان، مع قطع النظر عن لونه ولغته وقوميته ودينه ورأيه، فالإسلام يؤكد على احترام كل الناس حتى إذا كانوا كفاراً غير مسلمين؛ لأن الإنسان بما هو إنسان محترم؛ والقرآن الكريم يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(1).

وجاء في بيان قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ} أي: تكريماً ذاتياً بالعقل، وحسن الخلقة، وتهيئة أسباب الراحة له، وتسخير كل شيء لأجل منافعه، إلى غير ذلك من أنواع التكريم {وَحَمَلْنَٰهُمْ} أي: هيئنا لهم وسائل الركوب {فِي الْبَرِّ} بالخيل والبغال والحمير، ومنه هذه الآلات الحديثة، فإنها تحمل الإنسان بفضل اللّه سبحانه، وإلّا فمن خلق الحديد، ومن جعل للنار قوة السير، ومن هيّأ وسائل الآلة؟ {وَالْبَحْرِ} بالسفن {وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ} أكلاً وشرباً ولبساً، ونكاحاً، وغيرها، فإن كل ذلك رزق خصهم اللّه سبحانه بها، وإن اشترك بعض الحيوانات في بعضها، ولكن ليس بهذا العموم، والشمول، والكيفية المرفهة {وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} إما المراد أنهم مفضلون على الكثير دون الكل، بأن يكون الملائكة أفضل من الإنسان جنساً، وإما المراد أن التفضيل على كثير، فليس المراد المفهوم، بل المراد الخلق الكثير الذي ملأ ما بين السماء والأرض، أن الناس مفضل عليه، ف{من} بيانية، لا تبعيضية، ولعل هذا هو الأقرب(2).

أفضل الخلق

اشارة

وقد اختلفت أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ} فهل

ص: 208


1- سورة الإسراء، الآية: 70.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 330.

المراد: ليس الإنسان مفضلاً على كل المخلوقات؟ فهل يوجد هناك مخلوق غير الإنسان أفضل من الإنسان؟

بعض المفسرين يعتقدون أن للّه مخلوقاً آخر أفضل من الإنسان، ولكن مما لا شك فيه أن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين^ هم أفضل الخلائق أجمعين.

فإن أهل البيت^ وإن كانوا خلقوا كبقية البشر من حيث إنهم مخلوقون، ولكن ورد في الرواية: «خلقكم اللّه أنواراً»(1)، فضلاً عن الروايات الكثيرة التي تصرح بأفضلية المعصومين^ على جميع المخلوقات بلا استثناء.

فقد ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام) عن آبائه^ عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ... إن اللّه تبارك وتعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك ثم إن اللّه تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً، وكان سجودهم للّه عزّ وجلّ عبودية ولآدم إكراماً وطاعةً؛ لكوننا في صلبه، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون...»(2).

وعن أبي محمد العسكري(عليهما السلام) أنه قال: «سأل المنافقون النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول اللّه، أخبرنا عن علي(عليه السلام) هو أفضل أم ملائكة اللّه المقربون؟

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وهل شرفت الملائكة إلّا بحبها لمحمد وعلي وقبولها لولايتهما، إنه لا أحد من محبي علي(عليه السلام) نظَّف قلبه من قذر الغش والدغل

ص: 209


1- من لا يحضره الفقيه 2: 613.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 262.

والغل ونجاسة الذنوب، إلّا كان أطهر وأفضل من الملائكة؛ وهل أمر اللّه الملائكةبالسجود لآدم إلّا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم أنه لا يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوهم عنها، إلّا - وهم يعنون أنفسهم - أفضل منهم في الدين فضلاً، وأعلم باللّه وبدينه علماً، فأراد اللّه أن يعرفهم أنهم قد أخطئوا في ظنونهم واعتقاداتهم، فخلق آدم وعلمه الأسماء كلها ثم عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها، فأمر آدم أن ينبئهم بها وعرفهم فضله في العلم عليهم، ثم أخرج من صلب آدم ذرية منهم الأنبياء والرسل والخيار من عباد اللّه أفضلهم محمد ثم آل محمد، ومن الخيار الفاضلين منهم أصحاب محمد وخيار أمة محمد، وعرف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة»(1).

وعن محمد بن الحنفية(عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: قال اللّه تعالى: لأعذبن كل رعية دانت بطاعة إمام ليس مني، وإن كانت الرعية في نفسها برة، ولأرحمن كل رعية دانت بإمام عادل مني وإن كانت الرعية غير برة ولا تقية، ثم قال لي: يا علي، أنت الإمام والخليفة بعدي، حربك حربي وسلمك سلمي، وأنت أبو سبطي وزوج ابنتي ومن ذريتك الأئمة المطهرون، وأنا سيد الأنبياء وأنت سيد الأوصياء، وأنا وأنت من شجرة واحدة، لولانا لم يخلق اللّه الجنة ولا النار ولا الأنبياء ولا الملائكة.

قال: قلت: يا رسول اللّه، فنحن أفضل أم الملائكة؟

فقال: يا علي، نحن أفضل خير خليقة اللّه على بسيط الأرض، وخيرة ملائكة اللّه المقربين، وكيف لا نكون خيرا منهم وقد سبقناهم إلى معرفة اللّه وتوحيده، فبنا عرفوا اللّه وبنا عبدوا اللّه وبنا اهتدوا السبيل إلى معرفة اللّه. يا علي، أنت مني

ص: 210


1- بحار الأنوار 26: 338.

وأنا منك، وأنت أخي ووزيري، فإذا مت ظهرت لك ضغائن في صدور قوم،وسيكون فتنة صيلم(1) صماء يسقط منها كل وليجة وبطانة، وذلك عند فقدان شيعتك الخامس من ولد السابع من ولدك، يحزن لفقده أهل الأرض والسماء، فكم من مؤمن متلهف متأسف حيران عند فقده»(2).

وهكذا فإن الكثير من المفسرين يعتقدون بأن اللّه لم يخلق مخلوقاً أفضل من الإنسان، ويقولون: إن آية {وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(3)، أريد بالكثير فيها: الجميع، فتكون «من» بيانية، والمعنى: وفضلناهم على من خلقنا وهم كثير، وجاءت الآية بهذه الصيغة كجملة بليغة، فإن الأديب في بعض الأحيان لا ينقل الكليات بضرس قاطع(4).

الإنسان المكرّم

فخلاصة الكلام هو: إن الأصل في الإنسان الاحترام والتقدير، بغض النظر عن مكانته ومقامه، وبغض النظر عن دينه ومذهبه، وبغض النظر عن عرقه ولونه ولغته.

وهذا هو الأصل الأولي الذي أقره القرآن الكريم في آية التكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ}(5)، تكريماً ذاتياً بالعقل، وحسن الخلقة، وتهيئة أسباب الراحة له، وتسخير كل شيء لأجل منافعه، إلى غير ذلك من انواع التكريم، وقد جاء التكريم بصيغة الجمع {بَنِي ءَادَمَ} بلا ملاحظة الجوانب الأخرى.

ص: 211


1- الصيلم: الداهية، وأمر صيلم: شديد مستأصل، لسان العرب 12: 340.
2- بحار الأنوار 26: 349.
3- سورة الإسراء، الآية: 70.
4- انظر: تفسير مجمع البيان 6: 274، وبحار الأنوار 57: 274، باب فضل الإنسان وتفيله على الملك.
5- سورة الإسراء، الآية: 70.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ليس شيء خيراً من ألف مثله إلّا الإنسان»(1).

وعن كرامة المؤمن قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مثل المؤمن عند اللّه عزّ وجلّ كمثل ملك مقرب، وإن المؤمن عند اللّه أعظم من ذلك، وليس شيء أحب إلى اللّه من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما خلق اللّه عزّ وجلّ خلقاً أكرم على اللّه عزّ وجلّ من المؤمن؛ لأن الملائكة خدّام المؤمنين...»(3).

وعن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟

فقال: «قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): إن اللّه عزّ وجلّ ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم»(4).

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واحترام الإنسان

لقد حفظ لنا التأريخ أحداث ووقائع ومواقف مشرفة تحكي الأسلوب الإسلامي الحقيقي في مراعاة حقوق الإنسان كائنا من كان، مسلماً كان أو منافقاً، مشركاً كان ذلك الإنسان أو كافراً، وقد تجسد ذلك بأعظم صورة من خلال الحياة الشريفة وأسلوب المعاشرة التي كان يتبعها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة المعصومين^ مع كل الناس.

ص: 212


1- نهج الفصاحة: 661.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 29.
3- الكافي 2: 33.
4- علل الشرائع 1: 4.

فقد روي أنه ذات يوم دخل عدد من الكفار المشرّدين المحتاجين، مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة، وسألوه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يأويهم ويلجئهم في مكان ما يستقرون فيه... فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه: كل منكم يأخذ أحدهم ضيفاً عنده، وكان أحد هؤلاء الكفار قبيح المنظر ذا شكل سيئ وكثير الأكل، فلم يأويه أحد، فبقي في المسجد، فأخذه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى بيته، فكان معه في غاية الرحمة والعطف، وعندما أحضروا الطعام عنده أكل حصته وحصة أهل المنزل كلهم، فبقي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جائعاً في ذلك اليوم، ولكنه احترم هذا الرجل كثيراً ووفر له الراحة والاطمئنان، وبعد أن رأى هذا الرجل عطف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليه واحترامه وتقديره له أسلم على يده(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ومثله ما روي عن ابن عباس حيث قال: خرج أعرابي من بني سليم يتبدى(1) في البرية، فإذا هو بضب قد نفر من بين يديه، فسعى وراءه حتى اصطاده، ثم جعله في كمه، وأقبل يزدلف نحو النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما أن وقف بإزائه ناداه: يا محمد يا محمد، وكان من أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا قيل له: يا محمد، قال: يا محمد، وإذا قيل له: يا أحمد، قال: يا أحمد، وإذا قيل له: يا أبا القاسم، قال: يا أبا القاسم، وإذا قيل له: يا رسول اللّه، قال: لبيك وسعديك، وتهلل وجهه.

فلما أن ناداه الأعرابي: يا محمد يا محمد، قال له النبي: «يا محمد يا محمد»، قال له: أنت الساحر الكذاب، الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة هو أكذب منك، أنت الذي تزعم أن لك في هذه الخضراء إلها، بعث بك إلى الأسود والأبيض، واللات والعزى، لولا أني أخاف أن قومي يسمونني: العجول، لضربتك بسيفي هذا ضربة أقتلك بها، فأسود بك الأولين والآخرين.

فوثب إليه عمر بن الخطاب ليبطش به، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اجلس يا أبا

ص: 213


1- تبدّى الرجل: أقام بالبادية، وتبادى: تشبّه بأهل البادية، انظر: لسان العرب 14: 68 مادة (بدو).

حفص؛فقد كاد الحليم أن يكون نبياً». ثم التفت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الأعرابي، فقال له: «يا أخا بني سليم، هكذا تفعل العرب، يتهجمون علينا في مجالسنا يَجْبَهُوننا بالكلام الغليظ؟! يا أعرابي، والذي بعثني بالحق نبياً، إن من ضرَّ بي في دار الدنيا هو غداً في النار يتلظى، يا أعرابي، والذي بعثني بالحق نبياً، إن أهل السماء السابعة يسمونني: أحمد الصادق، يا أعرابي، أسلم تسلم من النار، يكون لك ما لنا وعليك ما علينا، وتكون أخانا في الإسلام».

قال: فغضب الأعرابي وقال: واللات والعزى،لا أومن بك يا محمد، أو يؤمن هذا الضب، ثم رمى بالضب عن كمه.

فلما أن وقع الضب على الأرض وَلّى هارباً، فناداه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الضب، أقبل إلي».

فأقبل الضب ينظر إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

قال: فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الضب، من أنا؟».

فإذا هو ينطق بلسان فصيح ذرب غير قطع فقال: أنت محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تعبد؟».

قال: أعبد اللّه عزّ وجلّ، الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، واتخذ إبراهيم خليلاً، واصطفاك يا محمد حبيباً. ثم أنشأ يقول:

ألا يا رسول اللّه إنك صادق *** فبوركت مهدياً وبوركت هادياً

شرعت لنا دين الحنيفة بعد ما *** عبدنا كأمثال الحمير الطواغياً

فيا خير مدعو ويا خير مرسل *** إلى الجن بعد الإنس لبيك داعياً

ونحن أناس من سليم وإننا *** أتيناك نرجو أن ننال العوالياً

ص: 214

أتيت ببرهان من اللّه واضح*** فأصبحت فينا صادق القول زاكياً

فبوركت في الأحوال حياً وميتاً *** وبوركت مولوداً وبوركت ناشياً

قال: ثم أطبق على فم الضب فلم يحر جواباً، فلما أن نظر الأعرابي إلى ذلك قال: وا عجباً! ضب اصطدته من البرية، ثم أتيت به في كمي لا يفقه ولا ينقه، ولا يعقل، يكلم محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذا الكلام، ويشهد له بهذه الشهادة!! أنا لا أطلب أثراً بعد عين، مد يمينك فأنا أشهد: أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فأسلم الأعرابي وحسن إسلامه.

ثم التفت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أصحابه، فقال لهم: «علموا الأعرابي سوراً من القرآن».

قال: فلما أن علم الأعرابي سوراً من القرآن قال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هل لك شيء من المال؟».

قال: والذي بعثك بالحق نبياً، إنا أربعة آلاف رجل من بني سليم، ما فيهم أفقر مني، ولا أقل مالاً.

ثم التفت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أصحابه فقال لهم: «من يحمل الأعرابي على ناقة أضمن له على اللّه ناقة من نوق الجنة؟».

قال: فوثب إليه سعد بن عبادة، قال: فداك أبي وأمي، عندي ناقة حمراء عشراء وهي للأعرابي، فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا سعد، تفخر علينا بناقتك، ألا أصف لك الناقة التي نعطيكها بدلاً من ناقة الأعرابي؟»...

- إلى أن قال: - ثم التفت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أصحابه فقال لهم: «من يتوج الأعرابي، أضمن له على اللّه تاج التقى».

قال: فوثب إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وقال: «فداك أبي وأمي، وما تاج التقى؟».

ص: 215

فذكر من صفته قال: فنزع علي(عليه السلام) عمامته فعمم بها الأعرابي.

ثم التفت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «من يزود الأعرابي، وأضمن له على اللّه عزّ وجلّ زاد التقوى».

قال: فوثب إليه سلمان الفارسي فقال: فداك أبي وأمي، وما زاد التقوى؟

قال: «يا سلمان، إذا كان آخر يوم من الدنيا لقنك اللّه عزّ وجلّ قول شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فإن أنت قلتها لقيتني ولقيتك، وإن أنت لم تقلها لم تلقني ولم ألقك أبداً».

قال: فمضى سلمان حتى طاف تسعة أبيات من بيوت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يجد عندهن شيئا، فلما أن وَلّى راجعاً نظر إلى حجرة فاطمة(عليها السلام) فقال: إن يكن خير فمن منزل فاطمة بنت محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقرع الباب، فأجابته من وراء الباب: «من بالباب».

فقال لها: أنا سلمان الفارسي.

فقالت له: «يا سلمان، وما تشاء؟».

فشرح قصة الأعرابي والضب مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قالت له: «يا سلمان، والذي بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق نبياً، إن لنا ثلاثاً ما طعمنا، وإن الحسن والحسين(عليهما السلام) قد اضطربا علي من شدة الجوع، ثم رقدا كأنهما فرخان منتوفان، ولكن لا أرد الخير إذا نزل الخير ببابي، يا سلمان، خذ درعي هذا ثم امض به إلى شمعون اليهودي وقل له: تقول لك فاطمة بنت محمد: أقرضني عليه صاعاً من تمر وصاعاً من شعير، أرده عليك إن شاء اللّه تعالى».

- إلى أن قال: - وتزود الأعرابي واستوى على راحلته، وأتى بني سليم، وهم يومئذ أربعة آلاف رجل، فلما أن وقف في وسطهم ناداهم بعلو صوته قولوا: لا إله إلّا اللّه محمداً رسول اللّه، قال: فلما سمعوا منه هذه المقالة أسرعوا إلى سيوفهم فجردوها، ثم قالوا له: لقد صبوت إلى دين محمد الساحر الكذاب؟

ص: 216

فقال لهم: ما هو بساحر ولا كذاب، ثم قال: يا معشر بني سليم، إن إله محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير إله، وإن محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير نبي، أتيته جائعاً فأطعمني، وعارياً فكساني، وراجلاً فحملني، ثم شرح لهم قصة الضب مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنشدهم الشعر الذي أنشد في النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال: يا معاشر بني سليم، أسلموا تسلموا من النار، فأسلم في ذلك اليوم أربعة آلاف رجل، وهم أصحاب الرايات الخضر وهم حول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1).

من ينجيك مني؟

كان من كريم أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) العظيمة هي العفو حتى عمن حاول قتله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «نزل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرةٍ على شفير وادٍ، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل، فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً، فجاء وشد على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالسيف، ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ربي وربك، فنسفه جبرئيل(عليه السلام) عن فرسه فسقط على ظهره، فقام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخذ السيف وجلس على صدره، وقال: من ينجيك مني يا غورث؟ فقال: جودك وكرمك يا محمد، فتركه فقام وهو يقول: واللّه لأنت خير مني وأكرم»(2).

أمير المؤمنين(عليه السلام) وأهل الذمة

وكذلك كان أمير المؤمنين علي(عليه السلام) راعياً لحقوق الإنسان واحترامه، كائناً من

ص: 217


1- بحار الأنوار 43: 69.
2- الكافي 8: 127.

كان، كيف لا وهو ربيب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي علمه من العلم ألف باب كل بابيفتح منه ألف باب. فقد روي في أحوال أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه:

مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما هذا؟!».

قالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني.

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال»(1).

ولو تمعّنا في هذه القصة لكانت تصلح أن تكون قدوة في تأريخ الإنسانية في مراعاة حقوق الإنسان وكفالته.

وكذلك ورد عن أبي عبد اللّه عن آبائه^: «أن أمير المؤمنين(عليه السلام) صاحب رجلاً ذمياً، فقال له الذمي: أين تريد يا عبد اللّه؟

فقال(عليه السلام): أريد الكوفة.

فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين(عليه السلام).

فقال له الذمي: أ لست زعمت أنك تريد الكوفة؟

فقال له: بلى.

فقال له الذمي: فقد تركت الطريق؟

فقال له: قد علمت!

قال: فلم عدلت معي، وقد علمت ذلك؟!

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئةً إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقال له الذمي: هكذا قال؟

ص: 218


1- تهذيب الأحكام 6: 293.

قال: نعم.قال الذمي: لا جرم إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، فأنا أشهدك أني على دينك. ورجع الذمي مع أمير المؤمنين(عليه السلام) فلما عرفه أسلم»(1).

احترام جميع الناس

قال اللّه تبارك وتعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٖ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٖ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(2).

إن من السلبيات في تعامل بعض الناس مع الفقراء، أنهم إذا تصدقوا على فقير أو محتاج فإنهم يمنّون عليه، أو يؤلمونه بالكلام والتقريع!

بينما لو نتدبر في تفسير قوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} يعني: كلام حسن جميل، لا وجه فيه من وجوه القبح، يرد به السائل. وقيل: معناه دعاء صالح نحو أن يقول: صنع اللّه بك، وأغناك اللّه عن المسألة، وأوسع اللّه عليك الرزق، وأشباه ذلك. وقيل: إن معناه عفو المسؤول عن ظلم السائل، وعلى هذا فيكون ظلم السائل أن يسأل في غير وقته، أو يلحف في سؤاله، أو يسيء الأدب بأن يفتح الباب، أو يدخل الدار بغير إذن، فالعفو عن ظلمه، هو{خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٖ يَتْبَعُهَا أَذًى}؛ وإنما صار القول المعروف، والعفو عن الظلم، خيرا من الصدقة التي يَتْبَعُها أَذىً لأن صاحب هذه الصدقة، لا يحصل على خير، لا على عين ماله في دنياه، ولا على ثوابه في عقباه. والقول بالمعروف والعفو، طاعتان يستحق الثواب عليهما.

ص: 219


1- الكافي 2: 670.
2- سورة البقرة، الآية: 263-264.

وقد روي في الحديث القدسي كما عن أبي جعفر الباقر(عليهما السلام) قال: «كان فيماناجى اللّه عزّ وجلّ به موسى(عليه السلام) قال: يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو بردٍّ جميل، لأنه يأتيك من ليس بإنس ولا جانٍ، ملائكة من ملائكة الرحمان يبلونك فيما خوّلتك ويسألونك عما نوّلتك فانظر كيف أنت صانع يا بن عمران»(1).

وقوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٖ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ} ثم أكد تعالى ما قدمه بما ضرب من الأمثال، فقال:

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي: صدقوا اللّه ورسوله {لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ} أي: بالمنة على السائل. وقيل: بالمنة على اللّه {وَالْأَذَىٰ} بمعنى أذى صاحبها.

ثم ضرب تعالى مثلا لعمل المنان، وعمل المنافق جميعاً، فإنهما إذا فعلا الفعل على غير الوجه المأمور به، فإنهما لا يستحقان عليه ثواباً. وهذا هو معنى الإبطال: وهو إيقاع العمل على غير الوجه الذي يستحق عليه الثواب، فقال: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} هذا يدخل فيه المؤمن والكافر إذا أخرجا المال للرئاء. {وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} هذا للكافر خاصة أي: لا يصدق بوحدانية اللّه، ولا بالبعث والجزاء. وقيل: إنه صفة للمنافق؛ لأن الكافر معلن غير مراء، وكل مراء كافر أو منافق {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} شبَّه سبحانه فعل المنافق والمنان، بالصفا الذي أزال المطر ما عليه من التراب، فإنه لا يقدر أحد على رد ذلك التراب عليه، كذلك إذا دفع المنان صدقة، وقرن بها المن، فقد أوقعها على وجه لا طريق له إلى استدراكه وتلافيه، لوقوعها على الوجه الذي لا يستحق

ص: 220


1- الكافي 4: 15.

عليه الثواب، فإن وجوه الأفعال تابعة لحدوث الأفعال، فإذا فاتت، فلا طريق إلىتلافيها. فقد تضمنت الآية، والآي التي قبلها، الحث على الصدقة، وإنفاق المال في سبيل الخير، وأبواب البر، ابتغاء مرضاة اللّه، والنهي عن المن والأذى، والرياء والسمعة، والنفاق، والخبر عن بطلان العمل بها.

ومما جاء في معناه من الحديث ما روي عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا كان يوم القيامة، نادى مناد يسمع أهل الجمع: أين الذين كانوا يعبدون الناس؟ قوموا خذوا أجوركم ممن عملتم له، فإني لا أقبل عملا خالطه شيء من الدنيا وأهلها»(1).

وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من أسدى إلى مؤمن معروفا، ثم آذاه بالكلام، أو منَّ عليه، فقد أبطل اللّه صدقته، ثم ضرب فيه مثلاً فقال: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} إلى قوله {الْكَٰفِرِينَ}»(2).

وها نحن قد رأينا أن عظمة الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)مع ذلك الكافر لم تتمثل في عطائه واستضافته له وعنايته به فحسب، بل بقدر ما تمثل في تحمله لأذاه ومداراته. وفي ذلك درس لنا، مفاده: أنّ على الإنسان أن يحترم الجميع حتى الذين يخالفونه أو يعادونه، وهذا يدل على مدى كرامة الإنسان في الإسلام.

وقد روي: أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إحدى حروبه بعث اثنين من المسلمين لغرض الاستطلاع على معسكر الأعداء ودراسة أوضاعهم، وفي أثناء الطريق كمن هذان المسلمان عند بئر ماء كانت مورداً لأفراد معسكر الأعداء، فجاء اثنان من الأعداء لأخذ الماء فهجم عليهما المسلمان وأسراهما وأخذاهما إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكانا يضربانهما على وجهيهما من أجل انتزاع الأخبار المرتبطة بمعسكر الكفار،

ص: 221


1- روضة الواعظين 2: 414.
2- تفسير القمي 1: 91.

وعندما وصلا كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الصلاة فرأى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنهما يضربانهما، فخفف صلاته وأتمها بسرعة، ثم صاح بهما وزجرهما ونهرهما وقال: لماذا تضربانهما؟ لا يحق لكما ضربهما أبداً؟(1).

نعم، إن الإنسان له مقام محترم وقيمة عالية، حتى لو كان كافراً قد خرج لحرب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلا يجوز تعذيب الخصم مهما كانت الغاية والغرض من تعذيبه، وإنما جعل الإسلام طرقاً أخرى نزيهة لكسب المعلومات تنسجم مع الرحمة الإنسانية التي جاء بها الإسلام في التعامل مع الخصوم، وهي لا تخفى على من راجع سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في ذلك وخاصة في باب القضاء.

حرمة التعذيب لانتزاع الاعتراف

جاء ذات يوم رئيس منظمة الأمن العامة في العراق إلى أحد العلماء، وخلال حديثه قال: إني عذبت فلاناً حتى انتزعت منه الاعتراف بأنه سارق، فقال له - ذلك العالم - : لقد فعلت خلاف العقل والشرع؛ حيث إن التعذيب في دين الإسلام حرام، وهو بنظر العقل أمر قبيح(2)!

قال: إذن، فماذا أفعل لأجل انتزاع الاعتراف؟

ص: 222


1- انظر: تفسير القمي1: 260. سورة الأنفال، غزوة بدر، وفيه: وأقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانية، وبعثت عبيدها تستعذب من الماء، فأخذهم أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحبسوهم، فقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيد قريش، قالوا: فأين العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير، فأقبلوا يضربونهم، وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصلي فانفتل من صلاته فقال: «إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم! عليَّ بهم»، فأتوا بهم فقال لهم: «من أنتم؟» قالوا: يا محمد نحن عبيد قريش، قال: «كم القوم؟» قالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: «كم ينحرون في كل يوم جزوراً؟» قالوا: تسعة أو عشرة، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تسعمائة أو ألف»... فأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهم فحبسوهم، و بلغ قريشاً ذلك فخافوا خوفاً شديداً... .
2- الفقه، كتاب الحقوق 100: 366.

فقال له: افعل ما كان يفعله أمير المؤمنين(عليه السلام) اسأل المتهم في أوقات مختلفة وبأشكال مختلفة، فإذا كذب في المرة الأولى فإنه سينسى كذبته الأولى، وهكذا حتى يصدقك في مرة، وأول من استعمل هذه الطريقة للحصول على الحقيقة النبي دانيال(عليه السلام) كما نقل ذلك في الروايات(1).

فقد روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «أتي عمر بن الخطاب بجارية قد شهدوا عليها أنها بغت، وكان من قصتها أنها كانت يتيمة عند رجل، وكان الرجل كثيراً ما يغيب عن أهله فشبّت اليتيمة، فتخوفت المرأة أن يتزوجها زوجها، فدعت بنسوة حتى أمسكنها فأخذت عذرتها بإصبعها، فلما قدم زوجها من غيبته رمت المرأة اليتيمة بالفاحشة وأقامت البينة من جاراتها اللائي ساعدتها على ذلك، فرفع ذلك إلى عمر، فلم يدر كيف يقضي فيها، ثم قال للرجل: ائت علي بن أبي طالب(عليه السلام) واذهب بنا إليه.

فأتوا علياً(عليه السلام) وقصوا عليه القصة، فقال لامرأة الرجل: أ لك بينة أو برهان؟

قالت: لي شهود، هؤلاء جاراتي يشهدن عليها بما أقول. فأحضرتهن، فأخرج علي بن أبي طالب(عليه السلام) السيف من غمده فطرح بين يديه، وأمر بكل واحدة منهن فأدخلت بيتاً، ثم دعا بامرأة الرجل فأدارها بكل وجه فأبت أن تزول عن قولها، فردها إلى البيت الذي كانت فيه، ودعا إحدى الشهود وجثا على ركبتيه، ثم قال: تعرفيني أنا علي بن أبي طالب، وهذا سيفي، وقد قالت امرأة الرجل ما قالت ورجعت إلى الحق وأعطيتها الأمان، وإن لم تصدقيني لأملأن السيف منك.

فالتفتت إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين، الأمان عليَّ.

فقال لها أمير المؤمنين: فاصدقي.

ص: 223


1- سيأتي ذكره في الرواية المقبلة.

فقالت: لا واللّه، إلّا أنها رأت جمالاً وهيئة، فخافت فساد زوجها عليها،فسقتها المسكر ودعتنا فأمسكناها فافتضَّتها بإصبعها.

فقال علي(عليه السلام): اللّه أكبر، أنا أول من فرق بين الشاهدين إلّا دانيال النبي. فألزم علي المرأة حدّ القاذف، وألزمهن جميعاً العقر، وجعل عقرها أربعمائة درهم، وأمر المرأة أن تنفى من الرجل ويطلقها زوجها، وزوجه الجارية، وساق عنه علي(عليه السلام) المهر.

فقال عمر: يا أبا الحسن، فحدثنا بحديث دانيال؟

فقال علي(عليه السلام): إن دانيال كان يتيماً لا أم له ولا أب، وإن امرأة من بني إسرائيل عجوزاً كبيرة ضمته فربته، وإن ملكاً من ملوك بني إسرائيل كان له قاضيان، وكان لهما صديق وكان رجلاً صالحاً، وكانت له امرأة بهية جميلة، وكان يأتي الملك فيحدثه، واحتاج الملك إلى رجل يبعثه في بعض أموره، فقال للقاضيين: اختارا رجلاً أرسله في بعض أموري.

فقالا: فلان. فوجهه الملك.

فقال الرجل للقاضيين: أوصيكما بامرأتي خيراً.

فقالا: نعم.

فخرج الرجل، فكان القاضيان يأتيان باب الصديق، فعشقا امرأته فراوداها عن نفسها، فأبت.

فقالا لها: واللّه، لئن لم تفعلي لنشهدن عليك عند الملك بالزنى، ثم لنرجمنك!

فقالت: افعلا ما أحببتما.

فأتيا الملك فأخبراه وشهدا عنده، أنها بغت.

فدخل الملك من ذلك أمر عظيم، واشتد بها غمه، وكان بها معجباً، فقال لهما: إن قولكما مقبول، ولكن ارجموها بعد ثلاثة أيام، ونادى في البلد الذي هو

ص: 224

فيه: احضروا قتل فلانة العابدة؛ فإنها قد بغت، فإن القاضيين قد شهدا عليهابذلك، فأكثر الناس في ذلك.

وقال الملك لوزيره: ما عندك في هذا من حيلة؟

فقال: ما عندي في ذلك من شيء.

فخرج الوزير يوم الثالث وهو آخر أيامها، فإذا هو بغلمان عراة يلعبون وفيهم دانيال، وهو لا يعرفه، فقال دانيال: يا معشر الصبيان، تعالوا حتى أكون أنا الملك، وتكون أنت يا فلان العابدة، ويكون فلان وفلان القاضيين الشاهدين عليها، ثم جمع تراباً وجعل سيفاً من قصب، وقال للصبيان: خذوا بيد هذا فنحوه إلى مكان كذا وكذا، وخذوا بيد هذا فنحوه إلى مكان كذا وكذا، ثم دعا بأحدهما وقال له: قل حقاً، فإنك إن لم تقل حقاً قتلتك، والوزير قائم ينظر ويسمع، فقال: أشهد أنها بغت.

فقال: متى؟

قال: يوم كذا وكذا.

فقال: ردوه إلى مكانه، وهاتوا الآخر.

فردوه إلى مكانه وجاءوا بالآخر، فقال له: بما تشهد؟

فقال: أشهد أنها بغت.

قال: متى؟

قال: يوم كذا وكذا.

قال: مع من؟

قال: مع فلان بن فلان.

قال: وأين؟

قال: بموضع كذا وكذا.

فخالف أحدهما صاحبه!

ص: 225

فقال دانيال: اللّه أكبر، شهدا بزور، يا فلان، ناد في الناس: أنهما شهدا علىفلانة بزور، فاحضروا قتلهما.

فذهب الوزير إلى الملك مبادراً، فأخبره الخبر، فبعث الملك إلى القاضيين، فاختلفا كما اختلف الغلامان، فنادى الملك في الناس، وأمر بقتلهما»(1).

الاحترام بين الزوج والزوجة

لا شك أن أحد الأسباب التي أوجدت الاختلافات والتفرقات في مجتمعنا الإسلامي هو افتقاد الاحترام المتبادل فيما بين الناس؛ وهذا مما نهى عنه الإسلام أشد النهي، فإنه إذا لم يحترم زيد عمرواً في مكان ما فإن عمرواً سوف لا يحترم زيداً بعد ذلك، أو إذا لم يسلّم زيد عليه فإنه لا يسلم عليه عمرو، وهكذا، وهذا ممّا يدعو إلى افتقاد المحبة والألفة بين الناس.

أما الإسلام فقد ألزم على كل شخص أن يحترم الآخرين، سواء في المجتمع الصغير أو الكبير، بدءاً من العائلة والحياة الزوجية، حيث الزوج والزوجة، والوالدين والأولاد، وانتهاءً بسائر الناس.

فجعل على الزوجة أن تحترم زوجها، وهكذا على الزوج أن يحترم ويقدر مشاعر زوجته.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل اللّه صلاتها ولا حسنةً من عملها حتى تعينه وترضيه، وإن صامت الدهر وقامت وأعتقت الرقاب وأنفقت الأموال في سبيل اللّه، وكانت أول من ترد النار - ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وعلى الرجل مثل ذلك الوزر والعذاب إذا كان لها مؤذياً ظالماً. ومن صبر على سوء خلق امرأته واحتسبه أعطاه اللّه (بكل مرةٍ) يصبر عليها من الثواب مثل ما

ص: 226


1- الكافي 7: 425.

أعطى أيوب على بلائه، وكان عليها من الوزر في كل يوم وليلة مثل رمل عالج، فإنماتت قبل أن تعتبه، وقبل أن يرضى عنها حشرت يوم القيامة منكوسةً مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عيال الرجل أسراؤه، وأحب العباد إلى اللّه عزّ وجلّ أحسنهم صنعاً إلى أسرائه»(4).

ونقل عن سيرة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه عندما كان يخرج من الدار يرجع إلى الوراء القهقرى احتراماً وتقديراً للسيدة الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة(عليها السلام)، وكانت الزهراء(عليها السلام) بدورها تحترم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) غاية الاحترام إلى درجة أنها لم تكن تعترض عليه أبداً، ولو بالإشارة غير المباشرة، ولم تكن تتذمر من جشوبة العيش وبساطة الغذاء والمسكن والملبس، حتى إذا لم يدخل دارها أو جوفها طعام لعدة أيام.

فقد ذكر أنه لما مرضت فاطمة(عليه السلام) مرضاً شديداً بعد ما اعتدى عليها المعتدون الظلمة، ومكثت أربعين ليلة في مرضها الذي توفيت فيه (صلوات اللّه عليها) فلما نعيت إليها نفسها دعت أم أيمن وأسماء بنت عميس ووجهت خلف علي(عليه السلام) وأحضرته، فقالت: «يا ابن عم، إنه قد نعيت إلي نفسي، وإني لأرى ما بي لا أشك إلّا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي؟».

ص: 227


1- وسائل الشيعة 20: 163.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 555.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 443.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 555.

قال لها علي(عليه السلام): «أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)».

فجلس(عليه السلام) عند رأسها وأخرج من كان في البيت، ثم قالت(عليها السلام): «يا ابن عم، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني؟».

فقال(عليه السلام): «معاذ اللّه، أنت أعلم باللّه وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفا من اللّه من أن أوبخك بمخالفتي، قد عزّ علي مفارقتك وبفقدك، إلّا أنه أمر لابد منه، واللّه جُدّد عليَّ مصيبة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد عظمت وفاتك وفقدك، فإنا للّه وإنا إليه راجعون من مصيبة، ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها،هذه واللّه مصيبة لا عزاء عنها، ورزية لا خلف لها».

ثم بكيا جميعاً ساعةً، وأخذ علي(عليه السلام) رأسها وضمها إلى صدره، ثم قال(عليه السلام): «أوصيني بما شئت؛ فإنك تجديني فيها أمضي كل ما أمرتني به، وأختار أمرك على أمري».

ثم قالت(عليها السلام): «جزاك اللّه عني خير الجزاء يا ابن عم أوصيك أولاً: أن تتزوج بعدي بابنة أمامة؛ فإنها تكون لولدي مثلي؛ فإن الرجال لابد لهم من النساء».

قال - الراوي - : فمن أجل ذلك قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أربعة ليس إلى فراقهن سبيل: بنت أمامة، أوصتني بها فاطمة(عليها السلام)».

ثم قالت(عليها السلام): «أوصيك يا ابن عم أن تتخذ لي نعشاً، فقد رأيت الملائكة صوروا صورته».

فقال لها: «صفيه إليّ».

فوصفته، فاتخذه لها، فأول نعش عمل على وجه الأرض ذلك وما رأى أحد قبله، ولا عمل أحد.

ثم قالت: «أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، وأخذوا حقي؛ فإنهم أعدائي وأعداء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن لا يصلي عليّ أحد

ص: 228

منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار».

ثم توفيت صلوات اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها، فصاحت أهل المدينة صيحةً واحدةً واجتمعت نساء بني هاشم في دارها، فصرخن صرخةً واحدةً كادت المدينة أن تزعزع من صراخهن، وهن يقلن: يا سيدتاه يا بنت رسول اللّه، وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلى علي(عليه السلام) وهو جالس و الحسن و الحسين(عليهما السلام) بين يديه يبكيان، فبكى الناس لبكائهما...(1).

نعم، فهذا أعظم نموذج وأفضل مثال لعلاقة الاحترام والمودة والرحمة بين الزوجين التي أمر بها الإسلام، وهكذا كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار^ فهم أعظم أسوة لنا في ذلك، وفي احترام الإنسان بما هو إنسان.

المحدود واحترامه

لقد جسد الإسلام العزيز بتعاليمه وأوامره أسمى درجات الاحترام للإنسان، فقد أوصى الإسلام باحترام الجميع حتى لو كان فاسقاً أقيم عليه حد من حدود اللّه، وفي ذلك الشأن قصص عديدة ومشهورة، منها قصة (ماعز) واعترافه بالزنا، فقد روي عن أبي الحسن(عليه السلام): «أن ماعز بن مالك أقر عند رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالزنا، فأمر به أن يرجم، فهرب من الحفيرة، فرماه الزبير بن العوام بساق بعيرٍ فعقله، فسقط فلحقه الناس فقتلوه، ثم أخبروا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك، فقال لهم: فهلا تركتموه إذا هرب يذهب؛ فإنما هو الذي أقر على نفسه، وقال لهم: أما لو كان علي(عليه السلام) حاضراً معكم لما ضللتم، قال: ووداه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من بيت مال المسلمين»(2).

وفي رواية أخرى عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «أتى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجلٌ فقال: إني

ص: 229


1- روضة الواعظين 1: 150.
2- الكافي 7: 185.

زنيت فطهرني، فصرف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجهه عنه، فأتاه من جانبه الآخر، ثم قال مثل ما قال،فصرف وجهه عنه، ثم جاء الثالثة فقال له: يا رسول اللّه، إني زنيت، وعذاب الدنيا أهون لي من عذاب الآخرة. فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أ بصاحبكم بأسٌ؟ يعني: جنةً. فقالوا: لا، فأقر على نفسه الرابعة، فأمر به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يرجم، فحفروا له حفيرةً، فلما وجد مس الحجارة خرج يشتد، فلقيه الزبير فرماه بساق بعيرٍ فسقط، فعقله به، فأدركه الناس فقتلوه، فأخبروا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك، فقال: هلّا تركتموه؟! ثم قال: لو استتر ثم تاب كان خيراً له»(1).

وفي هذه القصة نقطتان لا بد لنا من التأمل فيهما:

1- النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صنع مجتمعاً يفيض بالفضائل والمكرمات والأخلاق الحسنة، إلى درجة أن المذنب يأتي ويعترف بنفسه بما فعله من الجرم، مع أنه يعلم بأنه ليس وراء اعترافه إلّا الموت، بل الموت رجماً.

2- إن علم الحاكم والقاضي لا يكفي في باب الزنا وليس بحجة، فالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن كان يعلم بفعل هذا الشاب (ماعز)، لكنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المرحلة الأولى لم يتخذ أي قرار برجمه، بل اتخذ ذلك بعد الاعتراف الرابع وبعد تحقق الشروط المقررة شرعاً.

وذات يوم اطلع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على شخصين كانا يتكلمان معاً حول قصة ماعز، فقد روي: أنه لما رجم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الرجل في الزنا قال رجل لصاحبه: هذا قُعِصَ(2). كما يُقْعَصُ الكلب، فمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معهما بجيفة فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «انهشا منها!!».

ص: 230


1- الكافي 7: 185.
2- مات قصعاً: أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه.

قالا: يا رسول اللّه صلى اللّه عليكَ، ننهش جيفةً؟!

قال: «ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه»(1).

وقيل: إنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لهما: «وقد أكلتم لحم ماعزٍ وهو أنتن من هذه، أما علمتما أنه يسبح في أنهار الجنة»(2).

نعم، فالإسلام يحترم حتى الإنسان الزاني والذي أجري عليه الحد.

وفي أخبار أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه لما رجم سراجة الهمدانية كثر الناس، فأغلق أبواب الرحبة، ثم أخرجها، فأدخلت حفرتها، فرجمت حتى ماتت، ثم أمر بفتح أبواب الرحبة، فدخل الناس، فجعل كل من كان يدخل يلعنها، فلما سمع ذلك(عليه السلام) أمر منادياً فنادى: «أيها الناس، لم يقم الحد على أحد قط إلّا كان كفارة ذلك الذنب، كما يجزى الدَّين بالدَّين»(3).

وفي قصة أخرى عن بشير بن المهاجر عن أبيه قال: كنت جالساً عند النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجاءته امرأة من غامد فقالت: يا نبي اللّه، إني قد زنيت وأريد أن تطهرني.

فقال لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ارجعي».

فلما كان من الغد أتته فاعترفت عنده بالزنا، فقالت: يا رسول اللّه، إني قد زنيت وأريد أن تطهرني.

فقال لها: «فارجعي».

فلما أن كان من الغد أتته فاعترفت عنده بالزنا فقالت: يا نبي اللّه، طهرني، فلعلك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، فو اللّه إني لحبلى.

ص: 231


1- تنبيه الخواطر 1: 116.
2- مستدرك الوسائل 9: 120.
3- مستدرك الوسائل 18: 52.

فقال لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ارجعي حتى تلدين».

فلما ولدت جاءت بالصبي تحمله، قالت: يا نبي اللّه، هذا قد ولدت؟

قال: «فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه».

فلما فطمته جاءت بالصبي في يده كسرة خبز قالت: يا نبي اللّه هذا فطمته، فأمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين، وأمر بها فحفر لها حفرة فجعلت فيها إلى صدرها، ثم أمر الناس أن يرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فنضح الدم على وجنة خالد، فسبها، فسمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سبه إياها، فقال: «مهلاً يا خالد، لاتسبها؛ فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له» فأمر بها فصلي عليها فدفنت(1).

ولا يخفى أن الإسلام قد حدد ضوابط وشروط كثيرة لإجراء الحدود بحيث لا يمكن إقامتها بشكل عشوائي، وهي مذكورة في الفقه، ويظهر للمتتبع من خلالها مدى احترام الإنسان حتى المجرم في ظل الإسلام، فإن الأصل في الإسلام هو براءة الإنسان حتى تثبت إدانته بالدليل الشرعي والطرق المقررة شرعاً، فلا يجوز الأخذ بالظن والتهمة وما أشبه.

وقد روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه نظر إلى امرأة يسار بها، فقال: «ما هذه؟».

قالوا: أمر بها عمر لترجم، إنها حملت من غير زوج.

قال: «أو حاملٌ هي؟!».

قالوا: نعم.

فاستنقذها من أيديهم ثم جاء إلى عمر، فقال: «إن كان لكم عليها سبيل، فليس لك سبيلٌ على ما في بطنها».

ص: 232


1- بحار الأنوار 21: 366.

فقال عمر: لو لا علي لهلك عمر!(1).

احترام الأعداء

العدو إنسان، فله حقوقه واحترامه، هذا ما يؤكد عليه الإسلام، وقد كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحترم حتى أعدائه، فهذا عبد اللّه بن أبيّ بن سلول قائد المنافقين ورئيسهم(2) وكان يحوك الدسائس ضد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويخطط ضد الدولة

ص: 233


1- مستدرك الوسائل 18: 55.
2- عبد اللّه بن أبي بن سلول الخزرجي الأنصاري، وسلول أمرأة من خزاعة وهي أم أبيّ والد عبد اللّه وهو رأس المنافقين وزعيمهم في المدينة. كان عبد اللّه بن أبي بن سلول من رؤساء الخزرج قبل الإسلام، وكانت الخزرج قد اجتمعت أن يتوجوه ويسندوا أمرهم إليه، فلما جاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالإسلام إلى المدينة أسلم ظاهراً ولم يخلص للإسلام وأضمر النفاق حسداً وبغياً. وهو الذي قال في غزوة تبوك: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، سورة المنافقون، الآية: 8. وكان يعني الأذل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأعز هو والمنافقين، فلما نزلت هذه الآية توبخهم قال ابنه عبد اللّه لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): هو الذليل يا رسول اللّه وأنت العزيز. وابنه هو الذي قال لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: فمرني به فأنا أحمل اليك رأسه، فواللّه لقد علمت الخزرج ما كان بها رجلٌ أبر بوالديه مني واني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن انظر إلى قاتل عبد اللّه بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافرٍ فأدخل النار، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا». بحار الأنوار 20: 283. وكان عبد اللّه بن أبي بن سلول يثبط الناس، ويعمل على إضعاف الدولة الإسلامية التي أرسى دعائمها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكان معه عصبة من المنافقين يأتمرون بأمره، يعملون ليلاً ونهاراً في معاداة الإسلام وتثبيط الناس عنه، ويزرعون بينهم العداوة والبغضاء. واتهام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشتى التهم والتخطيط لاغتياله، كما تآمروا في قصة تنفير ناقة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل أن يصل إلى المدينة، ذلك في منطقة العقبة، وقد أنزل اللّه تعالى إثر هذه الحادثة قرآناً فقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}. سورة التوبة، الآية: 65. أما ابنه عبد اللّه الذي كان أسمه الحباب، وسماه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبد اللّه، فرغم أن أباه كان رأس المنافقين في المدينة، لكنه كان هو من أشراف الخزرج ومن خيار الصحابة، شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، استشهد عبد اللّه يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة.

الإسلامية، وكان له ابن صالح يدعى عبد اللّه، وذات يوم طلب من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يعطيه من ريقه الشريف ليسقيه أباه علّه يهتدي ببركة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقبل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك، وجاء بإناء فيه ماء شرببعضه وترك الباقي وأعطاه لعبد اللّه، فأخذه فرحاً وذهب به إلى أبيه، وأعطاه ليشربه بعد أن نقل له القصة، فلم يكتف أبوه برفض شرب ذلك الماء للتبرك به، بل سبّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهانه، فجاء عبد اللّه إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونقل له ما حدث ثم قال: يا رسول اللّه، إئذن لي بقتل أبي؛ ليرتاح الجميع من شره ودسائسه!

لكن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يأذن له في ذلك وقال له: «دار أباك!»(1).

عطاء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

لقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المثل الأعلى في إكرام الإنسان واحترام الناس وكذلك في خدمة الآخرين وقضاء حوائجهم والعطاء والكرم والجود، حتى قيل فيه: إنه يعطي عطاء من لا يخاف الفقر(2)، فكان يعطي المهاجرين والأنصار وجميع المسلمين، بل وكان يعطي المنافقين والكفار أيضاً، تأليفاً لقلوبهم وردعاً لهم عن كيد المؤامرات ضد الإسلام والمسلمين... .

وقد حفظ التاريخ للنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عطايا فريدة في بابها لأعدائه وأعداء الإسلام أمثال: أبي سفيان وأولاده وغيرهم، فقد ورد: أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجزل العطاء من غنائم حنين حتى لأعداء الإسلام: أمثال أبي سفيان، وابنه معاوية، وعكرمة ابن أبي جهل، وصفوان ابن أمية، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصين، وهمام أخي سهيل، ومالك بن عوف، وعلقمة بن

ص: 234


1- قريبٌ منه قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا» بحار الأنوار 20: 283.
2- كشف الغمة 1: 10.

علاثه، فكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعطي الواحد منهم مائة من الإبل، وأكثر من ذلك وأقل(1).

وفي البحار: ثم رجع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الجعرانة بمن معه من الناس، وقسم بها ما أصاب من الغنائم يوم حنين في المؤلفة قلوبهم من قريش ومن سائر العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وقيل: إنه جعل للأنصار شيئاً يسيراً، وأعطى الجمهور للمتألفين، قال محمد بن إسحاق: وأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، ومعاوية ابنه مائة بعير، وحكيم بن حزام من بني أسد بن عبد العزى مائة بعير، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مائة بعير، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني وهدة مائة بعير، وأعطى الحارث بن هشام من بني مخزوم مائة، وجبير بن مطعم من بني نوفل بن عبد مناف مائة، ومالك بن عوف النصري مائة، فهؤلاء أصحاب المائة.

وقيل: إنه أعطى علقمة بن علاثة مائة، والأقرع بن حابس مائة، وعيينة بن حصن مائة، وأعطى العباس بن مرداس أربعاً، فتسخطها وأنشأ يقول:

أتجعل نهبي ونهب العبيد *** بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس *** يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما *** ومن تضع اليوم لا يرفع

وقد كنت في الحرب ذا تدرأ *** فلم أعط شيئاً ولم أمنع

ص: 235


1- انظر: بحار الأنوار 18: 118 وفيه: ومن أسمائه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) القثم، وله معنيان أحدهما: من القثم، وهو الإعطاء؛ لأنه كان أجود بالخير من الريح الهابة، يعطي فلا يبخل، ويمنح فلا يمنع، وقال الأعرابي للذي سأله: إن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، وروي: أنه أعطى يوم هوازن من العطايا ما قُوِّم خمسمائة ألف ألف، وغير ذلك مما لا يحصى. والوجه الآخر أنه من القثم وهو الجمع، يقال للرجل: الجموع للخير، قثوم وقثم، كذا حدث به الخليل، فإن كان هذا الاسم من هذا فلم تبق منقبة رفيعة ولا خلة جليلة ولا فضيلة نبيلة إلّا وكان لها جامعاً، قال ابن فارس: والأول أصح وأقرب.

فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟» فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي لست بشاعر، قال: «كيف قال؟». فأنشدهأبو بكر، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، قم إليه فاقطع لسانه».

قال عباس: فو اللّه، لهذه الكلمة كانت أشد علي من يوم خثعم، فأخذ علي(عليه السلام) بيدي فانطلق بي وقلت: يا علي، إنك لقاطع لساني؟

قال: «إني ممض فيك ما أمرت» حتى أدخلني الحظائر فقال: «اعقل ما بين أربعة إلى مائة». قال: قلت: بأبي أنتم وأمي، ما أكرمكم وأحلمكم وأجملكم وأعلمكم؟!

فقال لي: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعطاك أربعاً وجعلك مع المهاجرين، فإن شئت فخذها، وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة».

فقال: فقلت لعلي(عليه السلام): أشر أنت علي؟

قال: «فإني آمرك أن تأخذ ما أعطاك وترضى».

قال: فإني أفعل(1).

مع ذي الخويصرة

قال أبو سعيد الخدري: بينا نحن عند رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يقسم، إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، فقال: يا رسول اللّه، اعدل.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ويلك، من يعدل إن أنا لم أعدل، وقد خبت أو خسرت إن أنا لم أعدل».

فقال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه، ائذن لي فيه أضرب عنقه.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته،

ص: 236


1- بحار الأنوار 21: 169.

وصيامه مع صيامه، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافهفلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نَضِيِّه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في قذذه فلا فيه شيء قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على خير فرقة من الناس».

قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأشهد أن علي بن أبي طالب(عليه السلام) قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد، فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول اللّه الذي نعت(1).

وهذا نموذج بسيط من سياسة العطاء التي كان يمارسها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجاه أعدائه ومعارضيه.

فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فريداً من نوعه في تاريخ البشرية عامة؛ فإن البعير الواحد ذلك اليوم كان يعد ثروة جيدة... تماماً مثل ما يمتلك اليوم بعض الناس مجموعة من السيارات الراقية.

بل البعير الواحد كان سيارة وكان مأكلاً وكان مشرباً وكان ملبساً؛ إذ أنه يستفاد من ظهره للركوب ومن لحمه للأكل ومن لبنه للشرب ومن وبره للملبس.

فهل يجد التاريخ الإنساني مثل هذه السياسة الحكيمة في احترام الأعداء واحتوائهم وتأليف قلوبهم؟!

وهذا كله من مصاديق احترام الإنسان بما هو إنسان.

العفو حتى في ميدان القتال

روي أنه في اليوم الثامن من معركة صفين، جاء رجل من عسكر الشام إلى

ص: 237


1- إعلام الورى: 121.

ميدان الحرب وطلب المبارزة.

فبرز إليه رجل من عسكر العراق، فلما اشتدت مبارزتهما وضع العراقي يدهفي عنق الشامي وجذبه إليه حتى سقطا عن فرسيهما، وفرَّ الفرسان، وفي آخر الأمر طرح العراقي خصمه الشامي أرضا فجلس على صدره وكشف المغفر عنه يريد ذبحه، فلما رآه عرفه فإذا هو أخوه لأبيه وأمه، فصاح به أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام): أجهز على الرجل! فقال: إنه أخي، قالوا: اتركه، قال: لا حتى يأذن لي أمير المؤمنين(عليه السلام) فأخبر أمير المؤمنين(عليه السلام) بذلك، فأرسل إليه: «دعه». فتركه فقام فعاد - الشامي - إلى صف معاوية. ورجع العراقي إلى عسكر الإمام(عليه السلام)(1).

مالك الأشتر قائد الجيوش

روي أن مالك الأشتر (رضوان اللّه عليه) كان يجتاز يوماً في سوق الكوفة، فشتمه رجل وأظهر عليه السفاهة والإهانة.

فلم يقل في جوابه شيئاً ولم يتعرض عليه وجاوزه.

فقال رجل للشاتم: أما عرفته؟ هذا مالك، أمير عسكر أمير المؤمنين(عليه السلام) وذكر له نبذاً من أوصافه.

فلما عرف الرجل أنه مالك دخله الرعب الشديد وظن أنه ينتقم منه، فذهب إلى أثره ليعتذر منه ليسلم من عقوبته...

فوجده في المسجد يصلي، فجلس في زاوية حتى يفرغ من صلاته.

فلما فرغ من صلاته نظر فرآه أنه يطلب من اللّه المغفرة للرجل المستهزئ.

فجاءه وأعتذر منه.

ص: 238


1- قريبٌ منه في وقعة صفين: 271.

فقال مالك: لا بأس عليك، فواللّه ما دخلت المسجد إلّا لأستغفر لك!(1).

من أخلاق الآخوند الخراساني(رحمه اللّه)

نقل أحد تلاميذ الآخوند الخراساني(رحمه اللّه) بعض أحوال أستاذه، فذكر منها: أنه كان يقوم احتراماً لكل من يدخل عليه في مجلسه ويرحب به، عالماً كان الداخل عليه أم طالباً مبتدئاً، وهذا ديدنه طوال حياته، ومنها: أنه كان يسلّم على الجميع صغيراً أو كبيراً، ويقول: إن الإنسان يجب أن يكون مورداً للاحترام والتقدير.

وكان الآخوند الخراساني(رحمه اللّه) يتمتع بهذه الصفات رغم ما اشتهر من شجاعة وجرأة في مواجهة الظالمين، فقد روي أنه(رحمه اللّه) بعث برقية احتجاج وتهديد إلى السطان العثماني عبد الحميد(2) لاقترافه الأعمال المنافية للشريعة المقدسة.

عندما انتشر خبر البرقية في الأوساط، توجه البعض إلى الشيخ الخراساني وقالوا له: هل تدري ماذا فعلت يا شيخنا؛ إنّ البرقية ستكون وبالاً علينا، ستصبح النجف الأشرف والحوزة العلمية هدفاً لقذائف العثمانيين. فهل تظن إن هذا كسلطان العجم يخاف منكم؟ ألا تدري أنه بإشارة واحدة قتل سبعين ألفاً من الأرمن؟ ألا تعلم إنّ هذا السلطان رجل جزّار لا يخاف اللّه ولا يرعى حرمة لأحد، وليس مهماً لديه أن تفنى النجف بأهلها.

أجابهم الشيخ بكل هدوء وطمأنينة: إنكم تخافون السلطان وأنا لا أهابه، وقد استخرت اللّه سبحانه في إرسال البرقية، وإن الخير ما اختاره اللّه سبحانه وهو معنا وسينصرنا. وكان الأمر كما ذكره الشيخ(رحمه اللّه)، فإن مواقف الشيخ من السلطان

ص: 239


1- قريبٌ منه في تنبيه الخواطر 1: 2.
2- عبد الحميد بن عبد المجيد بن محمود بن عبد الحميد الأول، السلطان العثماني ولد عام (1842م) مارس الحكم من سنة (1876م حتى 1909م).

العثماني والتفاف الناس حوله أضعف السلطان.

وهكذا نرى الشيخ الخراساني(رحمه اللّه) كان يحارب الروس والعثمانيين وسلاطين إيران في وقت واحد، وقد سبّب ذلك إنقاذ إيران والعراق من الأفكار التي كانتتهددهما آنذاك(1).

المرجع لسمح

نعم، إن سياسة الإسلام الإنسانية والحكيمة في احترام الناس وتقديرهم والرحمة بهم من أهم الأساليب التي ساعدت - وبشكل كبير - على انتشاره بين الناس وجلب قلوب الأعداء نحوه، حتى اليهود والنصارى والمنافقين، فجعلتهم يسلمون، فما أحوجنا اليوم إلى هذه المبادئ الحقة التي جاء بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهداية الناس وإعادة الأمن والسلام في كل العالم، بعد أن أصبح الإنسان أرخص شيء في هذه الدنيا، وما أحوجنا إلى اتباع سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في التعامل مع الأعداء والأصدقاء، كي نتمكن من أن نرفع راية الإسلام عالية في كل مكان، كما قال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(2).

وقد كان أحد العلماء المعاصرين للآخوند الخراساني(رحمه اللّه) مخالفاً لبعض آراء الآخوند الخراساني(رحمه اللّه) ومظهراً لمخلافته له.

قال: جاءني ذات يوم رجل غريب وهو يحمل كيساً مملواً بليرات ذهبية وقال: من هو المرجع هنا؟

قلت: إنّ فلاناً هو من المراجع، وأنا موافق له لكنه لا يعطي، والآخوند هو من

ص: 240


1- انظر: حقائق من تأريخ العلماء: 33 للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- سورة التوبة، الآية: 33.

المراجع أيضاً وأنا مخالف له لكنه يعطي.

قال الرجل الغريب: ليس لي حاجة بمن لا يعطي، فاذهب بي إلى من يعطي.قال: فأخذته إلى دار الآخوند(رحمه اللّه) وأنا فقير معدم محتاج إلى ليرة واحدة منها، فدخلنا على الآخوند فرأيناه يتوضأ، فقلت للرجل الغريب: إنّ هذا الذي يتوضأ هو الآخوند، فالتفت إليه الرجل الغريب وقال: إنّ هذا المال هو ثلث ميّت، وقد جئت به إليك.

فقال له الآخوند: تقبّل اللّه منه ومنك ورحمه وايّاك، نعم ضعه على الحصير، ثمّ أتمّ وضوئه، وقد ذهب الرجل.

عندها قال لي الآخوند: خذ هذا المال لك.

فتعجبت من كلامه وقلت: لا إنّما آخذ بعضه.

فقال الآخوند: كلا، بل كلّه لك، وبالتالي وبإصرار كثير أعطاني المال كلّه ولم يرضَ لي بغيره، ممّا صار ذلك سبباً لأن ارفع اليد عن مخالفتي له، وأن أكون بعد اظهار الخلاف له ممّن يظهر الوفاق له ويعلن بالمحبّة والإجلال والمدح والثناء عليه.

نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا للاهتداء بسنّة نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)وأوليائه المعصومين^ في القول والعمل، وخاصة فيما يرتبط باحترام الإنسان وحقوق الناس.

«الحمد للّه مالك الملك، مجري الفلك، مسخّر الرياح، فالق الأصباح، ديّان الدين، ربّ العالمين، الحمد للّه على حلمه بعد علمه، والحمد للّه على عفوه بعد قدرته، والحمد للّه على طول أناته في غضبه، وهو القادر على ما يريد،

ص: 241

الحمد للّه خالق الخلق، باسط الرزق، فالق الإصباح، ذي الجلال والإكرام»(1) وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

كرامة الإنسان

قال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(2).

وقال سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}(4).

احترام جميع الناس

قال جلّ ثناؤه: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(5).

وقال تبارك وتعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}(6).

ص: 242


1- تهذيب الأحكام 3: 109.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- سورة المائدة، الآية: 32.
4- سورة النساء، الآية: 75.
5- سورة البقرة، الآية: 83.
6- سورة النساء، الآية: 36.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(1).

الاحترام بين الزوج والزوجة

قال سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(2).

وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوٰةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}(3).وقال عزّ وجلّ: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوٰةِوَالزَّكَوٰةِ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَا أَوْلَٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(5).

في ذم العداوة

قال سبحانه وتعالى: {فَإِنِ انتَهَوْاْ فَلَا عُدْوَٰنَ إِلَّا عَلَى الظَّٰلِمِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {...وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(7).

وقال تبارك وتعالى: {وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَٰرِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(8).

وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ

ص: 243


1- سورة الأنبياء، الآية: 107.
2- سورة النساء، الآية: 19.
3- سورة طه، الآية: 132.
4- سورة مريم، الآية: 55.
5- سورة المنافقون، الآية: 9.
6- سورة البقرة، الآية: 193.
7- سورة المائدة، الآية: 2.
8- سورة المائدة، الآية: 62.

وَيَتَنَٰجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}(1).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَٰجَوْاْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَٰجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(2).

الإسلام يدعو إلى السلم

قال سبحانه: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ وَالْأُمِّيِّۧنَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَٰغُ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(5).

وقال جلّ ثناؤه: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}(6).

وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(7).

ص: 244


1- سورة المجادلة، الآية: 8.
2- سورة المجادلة، الآية: 9.
3- سورة آل عمران، الآية: 20.
4- سورة البقرة، الآية: 208.
5- سورة الأنفال، الآية: 61.
6- سورة النساء، الآية: 90.
7- سورة فصلت، الآية: 33.

من هدي السنّة المطهّرة

في ذم العداوة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم ومشاجرة الناس فإنها تظهر الغرّة وتدفن العزّة»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رأس الجهل معاداة الناس»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إياكم والخصومة فإنها تفسد القلب وتورث النفاق»(3).وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من زرع العداوة حصد ما بذر»(4).

وقال(عليه السلام): «إياكم والخصومة فإنها تشغل القلب وتورث النفاق وتكسب الضغائن»(5).

احترام جميع الناس

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «ليس منّا من لم يوقّر كبيرنا ويرحم صغيرنا»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «التودد إلى الناس نصف العقل»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «خالطوا الناس مخالطة إن متّم معها بكوا

ص: 245


1- بحار الأنوار 72: 210.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 377.
3- كشف الغمة 2: 133.
4- الكافي 2: 302.
5- الكافي 2: 301.
6- الكافي 2: 165.
7- الكافي 2: 643.

عليكم وإن عشتم حنّوا إليكم»(1).

وقال لقمان لابنه يوصيه: «يا بني لا تكالب الناس فيمقتوك، ولا تكن مهيناً فيذلّوك، ولا تكن حلواً فيأكلوك، ولا تكن مرّاً فيلفظوك»(2).

وقال أبو جعفر الباقر(عليهما السلام): «إنّ إعرابياً من بني تميم أتى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: أوصني فكان مما أوصاه: تحبب إلى الناس يحبوك»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «مجاملة الناس ثلث العقل»(4).

الاحترام بين الزوج والزوجة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في الزوج والزوجة: «من أساء إلى أهله لم يتصل به تأميل»(5).

وقال(عليه السلام): «من سعادة المرء أن يضع معروفه عند أهله»(6).

وقال(عليه السلام): «الزوجة الموافقة إحدى الراحتين»(7).

وقال(عليه السلام): «أنعم الناس عيشاً من منحه اللّه سبحانه القناعة وأصلح له زوجه»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خصال يتكلفها وإن لم يكن في طبعه ذلك: معاشرة جميلة وسعة بتقدير وغيرة بتحصن»(9).

ص: 246


1- نهج البلاغة الحكم: الرقم 10.
2- الإختصاص: 338.
3- الكافي 2: 642.
4- الكافي 2: 643.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 598.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 822.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 87.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 212.
9- بحار الأنوار 75: 236.

الإسلام يدعو إلى السلم

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي إلّا بمثل ذلك: إن الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل، والعمل هو الأداء»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الإسلام عريان فلباسه الحياء، وزينته الوقار، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت^»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحمد للّه الذي شرع الإسلام فسهل شرائعهلمن ورده، وأعز أركانه على من غالبه، فجعله أمناً لمن علقه، وسلماً لمن دخله، وبرهاناً لمن تكلم به...»(3).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه تعالى خصّكم بالإسلام واستخلصكم له؛ وذلك لأنه اسم سلامة وجماع كرامة، اصطفى اللّه منهجه وبيّن حججه... لا تفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه، ولاتكشف الظلمات إلّا بمصابيحه»(4).

ص: 247


1- الكافي: 2: 45.
2- الكافي 2: 46.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 106 من خطبة له(عليه السلام) يبين فضل الإسلام ويذكر الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 152 من خطبة له(عليه السلام) في صفات اللّه جلّ جلاله وصفات أئمة الدين.

أثر النشاط والحكمة في تقدم المسلمين

انتشار الإسلام

اشارة

في رواية عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذكرها الفريقان في كتبهم جاء فيها:

لما بعث محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنبوة، بعث كسرى رسولاً إلى باذان(1) عامله في أرض المغرب: بلغني أنه خرج رجل قبلك يزعم أنه نبي، فلتقل له: فليكفف عن ذلك، أو لأبعثن إليه من يقتله ويقتل قومه، فبعث باذان إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لو كان شيء قلته من قبلي لكففت عنه، ولكن اللّه بعثني» وترك رسل باذان وهم خمسة عشر نفراً ولا يكلمهم خمسة عشر يوماً ثم دعاهم، فقال: «اذهبوا إلى صاحبكم فقولوا له: إن ربي قتل ربّه الليلة، إن ربي قتل كسرى الليلة ولا كسرى بعد اليوم، وقتل قيصر ولا قيصر بعد اليوم» فكتبوا قوله، فإذا هما قد ماتا في الوقت الذي حدثه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(2).

يتضمن حديث النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا إخباراً عن الغيب، ويكشف أيضاً عن واقع وحقيقة اجتماعية مؤداها أن المبادئ الحقة والقيم الصحيحة والفضائل الحميدة عندما تظهر للوجود تموت في مقابلها المبادئ الباطلة بجميع سماتها وخصوصياتها، وكذلك عندما يظهر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وينشر رسالته بين الناس

ص: 248


1- باذان: أحد ملوك اليمن، المنصوب من قبل كسرى.
2- الخرائج والجرائح 1: 132.

ويحكمهم بالعدل والمنطق فإنه يطيح بكل سلطان ظالم.

وقد أخبر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن مستقبل الأمة الإسلامية ومستقبل الأمم المجاورة لها؛ فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لما حفر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الخندق مرّوا بكدية(1)،

فتناول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المعول من يد أمير المؤمنين(عليه السلام) أو من يد سلمان (رضي اللّه عنه) فضرب بها ضربةً فتفرّقت بثلاث فرق، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لقد فُتح عليَّ في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر، فقال أحدهما لصاحبه: يعدنا بكنوز كسرى وقيصر وما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلّى»(2).

عمومية الرسالة

من أسباب تقدم الإسلام عمومية رسالته، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لما أسري بي إلى السماء ما سمعت شيئا قط هو أحلى من كلام ربي عزّ وجلّ - قال - فقلت: يا رب، اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، ورفعت إدريس مكاناً علياً، وآتيت داود زبوراً، وأعطيت سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فما ذا لي يا رب؟

فقال جلّ جلاله: يا محمد، اتخذتك خليلاً كما اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمتك تكليماً كما كلمت موسى تكليماً، وأعطيتك فاتحة الكتاب وسورة البقرة ولم أعطهما نبياً قبلك، وأرسلتك إلى أسود أهل الأرض وأحمرهم وإنسهم وجنّهم، ولم أرسل إلى جماعتهم نبياً قبلك، وجعلت الأرض لك ولأمتك مسجداً وطهوراً، وأطعمت أمتك الفيء ولم أحله لأحد قبلها، ونصرتك بالرعب حتى أن عدوك ليرعب منك، وأنزلت سيد الكتب كلها مهيمنا عليك قرآناً عربياً

ص: 249


1- الكدية، بالضم: قطعة غليظة صلبة لا يعمل فيها الفأس.
2- الكافي 8: 216.

مبيناً، ورفعت لك ذكرك حتى لا أذكر بشيء من شرائع ديني إلّا ذكرت معي»(1).

إن من العوامل التي تدعم النشاط الإسلامي على المستوى العالمي كون رسالة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عالمية، جاءت للناس كافة، جاءت للشرق والغرب، وللعرب والعجم؛كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

فقد بين اللّه سبحانه شمولية نبوة نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ} يا محمد بالرسالة التي حملناكها {إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} أي: عامة للناس كلهم،العرب والعجم وسائر الأمم، ويؤيده الحديث المروي عن ابن عباس عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أعطيت خمساً ولا أقول فخراً: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً،وأحلّ لي المغنم ولا يحل لأحد قبلي...» الحديث(3).

وورد في تفسير الآية المباركة أن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ} أي: يارسول اللّه{إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} أي: للناس عامة، وكان تقديم {كَافَّةً} لإفادة أن الغرض المسوق له الكلام هو عموم الرسالة، وإنما كان {كَافَّةً} بمعنى عامة؛ لأنها إذا عمتهم فقد كفتهم - وصفتهم - أن يخرج منها أحد منهم(4).

ومن المؤيدات لعمومية الرسالة وشمولها للقاصي والداني وبقائها إلى يوم القيامة حديث الإمام الصادق(عليه السلام) في بيان الأنبياء من أولي العزم حتى انتهى إلى نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «... حتى جاء محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجاء بالقرآن وشريعته

ص: 250


1- بحار الأنوار 18: 305.
2- سورة سبأ، الآية: 28.
3- تفسير مجمع البيان 8: 217.
4- تفسير تقريب القرآن 4: 386.

ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة...»(1).

والمتوخى من التذكير بعمومية الرسالة الإسلامية هو أن همتنا وطموحنا في نشر الإسلام يجب أن يكونا بالمستوى العالمي،وأن تكون همة المسلمين عالية قادرة على إيصال الحق إلى أبعد نقطة في العالم، وأن يرقى منطقنا إلى مستوى رفيع، وأن تتسلح أجهزتنا التبليغية بروح المعرفة والوعي والحجج البالغة؛ لنشر التعاليم الإسلامية السامية،وسيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المطهرين^، فعندها ستكون عوامل التقدم والنهضة العالمية منجزة على أيدينا.

ومن هنا يتوجب على الرساليين معرفة السياسة الحكيمة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأسلوبه في التعامل مع أبناء العالم وملوكهم؛باعتباره مبعوثاً للخلق أجمع.

ولكي نقتدي به(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونهدي العالم إلى الإسلام وننقذ الناس من هذا الظلام الدامس نشير إلى بعض تلك النقاط من سياسة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لتكون لنا نوراً نستضيء به.

السياسة الحكيمة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة له يبين فيها فضل الرسول الكريم وأهل بيته^: «... حتّى أفضت كرامة اللّه سبحانه وتعالى إلى محمّدٍ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً، وأعزّ الأرومات(2) مغرساً، من الشّجرة الّتي صدع منها أنبياءه، وانتجب منها أمناءه. عترته خير العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير الشّجر، نبتت في حرمٍ وبسقت(3) في كرمٍ، لها فروعٌ طوالٌ وثمرٌ لا ينال، فهو إمام

ص: 251


1- الكافي 2: 17.
2- الأرومات: جمع أرومة: الأصل.
3- بَسَقَتْ: ارتفعت.

من اتّقى وبصيرة من اهتدى، سراجٌ لمع ضوؤه وشهابٌ سطع نوره وزندٌ برق لمعه، سيرته القصد(1) وسنّته الرّشد وكلامه الفصل وحكمه العدل، أرسله على حين فترةٍ(2) من الرّسل، وهفوةٍ عن العمل وغباوةٍ من الأمم»(3).

وقال(عليه السلام): «بعثه والنّاس ضلالٌ في حيرةٍ، وحاطبون(4) في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، واستزلّتهم الكبرياء، واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء، حيارى في زلزالٍ من الأمر، وبلاءٍ من الجهل، فبالغ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في النّصيحة، ومضى على الطّريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة...»(5).

وقال (صلوات اللّه وسلامه عليه) في ذكر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «مستقرّه خير مستقرٍّ، ومنبته أشرف منبتٍ، في معادن الكرامة ومماهد(6) السّلامة، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثنيت إليه أزمّة الأبصار، دفن اللّه به الضّغائن، وأطفأ به الثّوائر(7)، ألّف به إخواناً، وفرّق به أقراناً، أعزّ به الذّلّة، وأذلّ به العزّة، كلامه بيانٌ، وصمته لسانٌ»(8).

لم يقدم التاريخ البشري حاكماً وزعيماً لدولة واسعة الأطراف والنواحي

ص: 252


1- القَصد: الاستقامة.
2- فترة: الزمان بين الرسولين.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 94 فيها يصف اللّه تعالى ثم يبين فضل الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته^ ثم يعظ الناس.
4- حاطبون: جمع حاطب، وهو الذي يجمع الحطب، يقال لمن يجمع الصواب والخطأ: حاطب ليل.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 95 يقرر فضيلة الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
6- المماهد: جمع ممهد: ما يمهد، أي يبسط فيه الفراش ونحوه.
7- الثوائر: جمع ثائرة، وهي العداوة.
8- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 96 من خطبة له(عليه السلام) في اللّه وفي الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

كرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إنسانيته وعدله وإخلاصه، وتواضعه للناس، وصبره واستقامته،وشهامته وشجاعته،وكل هذا من أسرار العظمة في شخصية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي جعلت منه سيد الأنبياء، وأنموذجاً فذاً لساسة العالم، ومعلماً للبشرية جمعاء،الذي قال فيه عزّ وجلّ: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}(1) وقال جلّ وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(2).

فقد استطاع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بسياسته العادلة الحكيمة أن يدخل في الإسلام أكبر عدد ممكن من البشر في مدة قصيرة أدهشت التاريخ حتى قال تبارك تعالى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}(3).

حيث جاء في تفسير السورة المباركة: {إِذَا جَاءَ} يا محمد{نَصْرُ اللَّهِ} على من عاداك، وهم قريش {وَالْفَتْحُ} فتح مكة. وهذه بشارة من اللّه سبحانه لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنصر والفتح قبل وقوع الأمر {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} أي: جماعة بعد جماعة، وزمرة بعد زمرة، والمراد بالدين الإسلام، والتزام أحكامه، واعتقاد صحته، وتوطين النفس على العمل به. قيل: لما فتح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكة، قالت العرب: أما إذا ظفر محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأهل الحرم، وقد أجارهم اللّه من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان، أي: طاقة، فكانوا يدخلون في دين اللّه أفواجاً أي: جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً، أو اثنين. فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام. وقيل: {فِي دِينِ اللَّهِ} أي: في طاعة اللّه وطاعتك، وأصل الدين الجزاء. ثم يعبر به عن الطاعة التي يستحق بها

ص: 253


1- سورة طه، الآية: 41.
2- سورة القلم، الآية: 4.
3- سورة النصر، الآية: 2.

الجزاء(1).

العفو العظيم

إن من أبرز سمات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسياسته العظيمة العفو والصفح حتى عن أشرس الأعداء وأشد المنافقين؛ فإن من عظيم عفوه تعامله مع أهل مكة الذين قتلوا أصحابه وأنصاره وأقرباءه في عشرات المواقف والحروب، وفيهم الذين أخرجوه من بلد صباه وأرض شبابه ومرتع حياته، فأجبروه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على فراق وطنه وعذبوا المسلمين بأنواع التعذيب وقتلوا العديد منهم.

فقد روي عن الإمام السجاد(عليه السلام) قال: «لما بعث اللّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة وأظهر بها دعوته، ونشر بها كلمته، وعاب أديانهم في عبادتهم الأصنام، وأخذوه وأساؤوا معاشرته، وسعوا في خراب المساجد المبنية كانت لقوم من خيار أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشيعته وشيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، كان بفناء الكعبة مساجد يحيون فيها ما أماته المبطلون، فسعى هؤلاء المشركون في خرابها، وأذى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسائر أصحابه، وألجئوه إلى الخروج من مكة إلى المدينة، التفت(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخلفه إليها فقال: اللّه يعلم أني أحبك، ولولا أن أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً، ولا ابتغيت عنك بدلاً، وإني لمغتم على مفارقتك. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا محمد، إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، ويقول سأردك إلى هذا البلد ظافراً غانماً سالماً، قادراً قاهراً، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖ}(2) يعني إلى مكة ظافراً غانماً. وأخبر بذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه، فاتصل بأهل مكة فسخروا منه. فقال اللّه تعالى

ص: 254


1- تفسير مجمع البيان10: 466.
2- سورة القصص، الآية: 85.

لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): سوف أظهرك بمكة، وأجريعليهم حكمي، وسوف أمنع عن دخولها المشركين حتى لا يدخلها منهم أحد إلّا خائفاً، أو دخلها مستخفياً من أنه إن عثر عليه قتل. فلما حتم قضاء اللّه بفتح مكة استوسقت له، أَمَّر عليهم عتاب بن أسيد...»(1).

فهؤلاء جاءهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاتحاً منتصراً عليهم، تُرى ما الذي كان سيفعله إنسان آخر غير النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من موقف كهذا؟

إنه بلا شك سيرتكب مجزرة رهيبة... فالأسرى الذين في قبضته الشريفة هم الظالمون أنفسهم لا غيرهم... أبو سفيان وهند، وأضرابهما من الرجال والنساء.

وعندما حمل الراية سعد بن عبادة زعيم الأنصار وجعل يسير في طرقات مكة ويهزها منادياً: اليوم يوم الملحمة،اليوم تسبى الحرمة. لكن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذا الأخلاق الرحمانية أبى أشد الأباء، وسجل نقطة مشرفة في تاريخ الإسلام والإنسانية، فأمر علياً(عليه السلام) أن يحمل الراية بدلاً عن سعد بن عبادة وأمره أن ينادي في أهل مكة بلين بعكس ذلك النداء، فنادى علي(عليه السلام) في طرقات مكة: «اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة» ثم جمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أهل مكة فنادى فيهم: «ما تقولون إني فاعل بكم؟».

قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أقول لكم كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}»(2).

ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

ثم قال: «أيها الناس من قال: لا إله إلا اللّه فهو آمن، ومن دخل الكعبة فهو

ص: 255


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 55.
2- سورة يوسف، الآية: 92.

آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن...»(1).

الأسوة الحسنة

لقد كانت دعوة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للرؤساء والملوك إلى الإسلام تتضمن نفس الأسلوب الحكيم والوادع الذي دعا فيه أهل مكة - وغيرهم - إلى الإسلام، من حيث طريقة الخطاب واختيار الرسل والمبعوثين؛ إذ كانت تتلخص بالدعوة إلى الإسلام والأمن والإيمان، وأي عاقل يرفض دعوة الأمن والسلام والإيمان باللّه الواحد القهار؟! الأمر الذي كان يدعو المئات بل والآلاف من الناس إلى قبول الإسلام كدين ورسالة إلى الحياة، وهذه هي إحدى ركائز العظمة في شخصية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والباري جلّ وعلا في القرآن الكريم يطلب من المسلمين الاقتداء بنبيهم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ فهو خير قدوة لخير دين فقال عزّ وجلّ: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(2).

لذا - كما ورد في تفسير الآية - يلزم على المؤمن أن يقتدي بالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في سيرته العطرة وأخلاقه العظيمة، فإن قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ} يعني: أيها المسلمون {فِي رَسُولِ اللَّهِ} أي: في سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصبره وعنائه في اللّه {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي:مقتدى صالحاً، بحيث يراه الناس فيعملون كما يعمل(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والأسوة من الاتساء،كما إن القدوة من الإقتداء، بمعنى الإقتداء والمتابعة {لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ} أي: يرجو ثواب اللّه ونعيمه، ويرجو أن يكون في اليوم الآخر من الفائزين{لِّمَن}بدل من {لَكُمْ} والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة حسنة لمطلق الناس، وإنما من كان يرجو اللّه يتأسى فكان

ص: 256


1- انظر: بحار الأنوار 21: 130-132.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.

أسوة له؛ إذ الانتفاع بهذا المقتدىعائداً إليه {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} فإن من ذكره سبحانه ترسخ في كيانه الخوف من اللّه سبحانه؛ فيطيع أوامره ويقتدي برسوله فيما عمل وسار عليه(1).

في بعض التفاسير: هذا خطاب اللّه للمكلفين، يقول لهم: إن لكم معاشر المكلفين {فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: إقتداءً حسناً، في جميع ما يقوله ويفعله متى فعلتم مثله كان حسناً، والمراد بذلك الحث على الجهاد والصبر عليه في حروبه، والتسلية لهم في ما ينالهم من المصائب، فإن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شج رأسه وكسرت رباعيته في يوم أحد، وقتل عمه حمزة(عليه السلام) فالتأسي به في الصبر على جميع ذلك من الأسوة الحسنة... فمن تأسى بالحسن ففعله حسن {لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ} فالرجاء توقع الخير، فرجاء اللّه توقع الخير من قبله، ومثل الرجاء الطمع والأمل، ومتى طمع الإنسان في الخير من قبل اللّه فيكون راجياً له(2). لذا يلزم على المسلمين الاقتداء بسيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جميع نشاطاتهم الداخلية والخارجية، في الدعوة إلى الدين ونشر أحكامه بواسطة الحوار الهادئ والموعظة الحسنة والرفق واللين؛فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «أحب العباد إلى اللّه تعالى المتأسي بنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمقتص أثره»(3).

وقال(عليه السلام): «اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أصدق الهدى واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن»(4).

وقال (صلوات اللّه وسلامه عليه): «يا أيها الناس، إنه لم يكن للّه سبحانه

ص: 257


1- تفسير تقريب القرآن 4: 320.
2- التبيان في تفسير القرآن 8: 327.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 110.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 155.

حجة في أرضه أوكد من نبينا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا حكمة أبلغ من كتابه القرآن العظيم،ولا مدح اللّه تعالى منكم إلّا من اعتصم بحبله واقتدى بنبيه، وإنما هلك من هلك عند ما عصاه وخالفه واتبع هواه؛ فلذلك يقول عزّ من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}»(1)(2).

اليقظة والفكر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لمحمد بن الحنفية: «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ، من تورط في الأمور غير ناظر في العواقب فقد تعرض لمفظعات النوائب، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم، والعاقل من وعظه التجارب، وفي التجارب علم مستأنف، وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال»(3).

وقال(عليه السلام): «إذا قدمت الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر»(4).

وقيل لأحد أصحاب كسرى - وكان شيخاً كبيراً طاعناً في السن - : «في أي شيء يكون نفع الإنسان؟».

قال: «أن يكون أعداء الإنسان كثيرين وأصدقاؤه قليلين؛ وذلك حتى يكون الإنسان في كل لحظة على حذر تام من كيد الأعداء، فحينئذ يكون مهتماً كثيراً لكي لا تصدر منه نقطة ضعف يريدها الأعداء، ودائماً يراقب أعماله وتصرفاته الشخصية والاجتماعية، فيكون هذا داعياً إلى رقي هذا الإنسان».

ص: 258


1- سورة النور، الآية: 63.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 806.
3- من لا يحضرة الفقيه 4: 384.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 58.

ومن الواضح أن الإنسان يصبح حذرا ويقظاً عندما يكثر أعداؤه في كل جوانب حياته، وجميع تصرفاته، لكن هذا وحده لا يكفي؛ إذ لابد من اقترانالحذر برفع النواقص ومواطن الضعف، واستبدالها بمقومات القوة والكمال، وهذا ما يحتاجه المسلمون اليوم؛ لما هم عليه من كثرة أعدائهم وقلة أصدقائهم، الأمر الذي يوجب شدة الحذر والإمعان في الاهتمام برفع النواقص، لكي لا يعطوا فرصة للعدو للتغلب عليهم.

لا يغيّر اللّه ما بقوم

إذا بقي المسلمون على حالهم هذه في الوقت الحاضر فإنهم سيتلقون الصفعات والنكبات المتتالية يوماً بعد يوم من هؤلاء الأعداء الذين وقفوا ضدهم.

حيث إن المسلمين غافلون عن التوجه إلى أنفسهم ولم يصلحوا أمورهم ويرفعوا نواقصهم المعنوية والمادية، فإن أوضاعهم - لا سمح اللّه ولا قدر - سوف تسير من سيئ إلى أسوأ؛ لأن اللّه يقول:

{لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1).

فإنه لا يغير ما فيهم أو يصلحهم إلّا إذا غيروا أنفسهم وتركوا المعصية والشرك وتوجهوا إلى الشكر والطاعة والإيمان، فحينئذ فقط تنهال العناية الإلهية والرحمة عليهم؛ لأنها تحتاج إلى مقدمات وقابليات.

صحيح أن رحمة اللّه تعالى عامة شاملة للجميع كما أخبر سبحانه وتعالى: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٖ رَّحْمَةً وَعِلْمًا}(2).

وقال عزّ وجلّ أيضاً: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ}(3).

ص: 259


1- سورة الرعد، الآية: 11.
2- سورة غافر، الآية: 7.
3- سورة الأعراف، الآية: 156.

ولكن هذا كلي مشكك - على اصطلاح المناطقة - وذو مراتب ودرجات، فيلزم على الإنسان أن يوفر في نفسه القابلية والاستعداد فيحصل على تمامالرحمة والعناية، فقد قال سبحانه:

{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}(1).

كيف انتشر الإسلام؟

اشارة

انتشر الإسلام بمقومات عديدة كان منها نشاط وحكمة المسلمين، قال الإمام جعفر بن محمد(عليهما السلام) للمفضل: «أي مفضل، قل لشيعتنا: كونوا دعاة إلينا بالكف عن محارم اللّه واجتناب معاصيه واتباع رضوان اللّه، فإنهم إذا كانوا كذلك كان الناس إلينا مسارعين»(2). لقد كان المسلمون في السابق يهتمون بتقدم الإسلام ونشره اهتماماً شديداً؛ لذلك ربّوا كوادر كثيرة عملت على خدمة الإسلام ورفع رايته. روي أن السيد الرضي أسس في بغداد تجمعاً يجمع تحت لوائه الأفراد البارزين من غير المسلمين ويطلعهم على محاسن الإسلام وأهدافه السامية وقوانينه السمحاء، وذلك من أجل جذبهم إلى الإسلام الحنيف،وكان من هؤلاء (مهيار الديلمي)(3) الذي كان مجوسياً، ولكن بعد التوجيه المركز والإرشاد المتواصل له من قبل السيد الرضي أصبح مسلماً وموالياً لأهل البيت^ ومن العلماء البارزين في عصره ومن الشعراء المشهورين أيضاً، ويعتبر ديوانه (ديوان

ص: 260


1- سورة الأعراف، الآية: 56.
2- دعائم الإسلام 1: 58.
3- مهيار بن مرزويه أبو الحسن الديلمي البغدادي. أديب فاضل وشاعر كبير من شعراء أهل البيت^ المجاهرين بولائهم الشديد، من تلامذة الشريف الرضي، توفي في سنة (428ه). انظر: أمل الآمل 2: 329.

مهيار الديلمي) من أفضل الدواوين في الشعر العربي والإسلامي، وكان هذا عملاً واحداً من الأعمال الكثيرة التي كان يقوم بها المسلمون علماء وشعراءوخطباء وغيرهم من أجل جذب الناس إلى الإسلام.

علم الهدى

ذكر أن الناس أصابهم السنين (قحط شديد) في بعض السنين في أيام السيد المرتضى علم الهدى(رحمه اللّه) فاحتال رجل يهودي على تحصيل قوت يحفظ نفسه من الهلاك، فحضر مجلس المرتضى وأستأذنه أن يقرأ عليه شيئا من علم النجوم، فأذن له وأمر له بجائزة تجري عليه كل يوم، فقرأ عليه برهة ثم أسلم على يده.

فقصة السيد المرتضى علم الهدى وسيرته مع اليهودي - وغيره - توضح دور رجال الإسلام الحريصين على نشر وإشاعة هذا الدين الحنيف، وقوة تأثيرهم على غيرهم والمخالفين معهم، كما هو شأن الأئمة^ مع الناس. فإننا نرى كيف أن اليهودي وقد نبذ يهوديته وأعتنق دين الإسلام لما شعر به من عظمة هذا الدين وعظمة الرجال القائمين عليه الممثلين له تمثيلاً مشرقاً يجذب القلوب والعقول إليه، لا تمثيلاً سيئاً ينفر الناس منه. فالسيد علم الهدى صاغ طلب العلم في إطار الإيمان باللّه عزّ وجلّ فعكس من خلاله الفكر الإسلامي والنظريات الإسلامية والآيات الدالة على جوانب الخير لحياة الإنسان؛ ولعل هذا من الأسباب التي جعلت السيد مؤهلاً لأن يدعي ب(علم الهدى) فكان علم نور وهداية، وسبباً مباشراً لهداية الناس لحقيقة الإيمان باللّه(1).

ستر العطاء

عندما كنا في مدينة كربلاء المقدسة وفي يوم من أيام الصيف الحار كنت

ص: 261


1- لؤلؤة البحرين: 317.

عائداً إلى البيت بعد أداء صلاتي الظهر والعصر، شعرت بأن أحداً يتابعني، وكان ذلك أيام حكومة (عبد السلام عارف)، واحتملت أنهم يريدون اعتقالي، لكنيواصلت المسير في طريقي حتى بلغت باب المنزل، فتقدم إليّ هذا الرجل الذي كان يعقبني وهو متزمل(1) بعباءة على رأسه وسلم عليّ فعرفته، حيث كان أحد التجار المعروفين في كربلاء، فقدم لي ظرفاً فيه ثلاثة آلاف دينار لدعم المشاريع الإسلامية، وقال: لا أريد أن يطلع أحد على ذلك!

أريد أن أقول: إن هنالك أفراداً يهتمون بالمسائل الدينية والمؤسسات الخيرية إلى هذه الدرجة، وهذه الحالة تنبع عند الأفراد من التربية الصالحة والمحيط الملتزم، وتنمو بالتركيز والاهتمام والمتابعة، والتأريخ مليء بالأفراد الذين تقدموا وأحرزوا مراتب عالية بسبب المواصلة المستمرة في العمل والتعب من أجل التقدم.

روي عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لما أخذت في غسل أبي علي بن الحسين(عليهما السلام) أحضرت معي من رآه من أهل بيته، فنظروا إلى مواضع السجود منه في ركبتيه وظاهر قدميه وبطن كفيه وجبهته قد غلظت من أثر السجود حتى صارت كمبارك البعير(2)، وكان (صلوات اللّه عليه) يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة».

ثم نظروا إلى حبل عاتقه وعليه أثر قد اخشوشن، فقالوا لأبي جعفر(عليه السلام): أما هذه فقد علمنا أنها من أثر السجود، فما هذا الذي على عاتقه؟!

قال(عليه السلام): «واللّه، ما علم به أحد غيري، وما علمته من حيث علم أني علمته،

ص: 262


1- التزمل: التلفف بالثوب، وقد تزمل بالثوب وبثيابه أي: تدثر، انظر: لسان العرب 11: 311، مادة (زمل).
2- مبارك البعير: من بَرَكَ البعير إذا أناخ في موضعه فلزمه، وتطلق البركة أيضا على الزيادة. انظر: لسان العرب 10: 396، مادة (برك).

ولولا أنه قد مات ما ذكرته، كان إذا مضى من الليل صدره قام وقد هدأ كل من فيمنزله، فأسبغ الوضوء وصلى ركعتين خفيفتين، ثم نظر إلى كل ما فضل في البيت عن قوت أهله، فجعله في جراب ثم رمى به إلى عاتقه وخرج محتسباً يتسلل لا يعلم به أحد، فيأتي دوراً فيها أهل مسكنة وفقر، فيفرق ذلك عليهم وهم لا يعرفونه، إلّا أنهم قد عرفوا ذلك عنه، فكانوا ينتظرونه، فإذا أقبل قالوا: هذا صاحب الجراب، وفتحوا أبوابهم له، ففرق عليهم ما في الجراب وانصرف به فارغاً، يبتغي بذلك فضل صدقة السر وفضل صدقة الليل وفضل إعطاء الصدقة بيده، ثم يرجع فيقوم في محرابه فيصلي باقي ليله، فهذا الذي ترون على عاتقه أثر ذلك الجراب»(1).

وعن معلى بن خنيس قال: خرج أبو عبد اللّه(عليه السلام) في ليلة قد رُشَّت(2)، وهو يريد ظلة بني ساعدة فاتبعته، فإذا هو قد سقط منه شيء، فقال: «بسم اللّه، اللّهم ردّ علينا».

فأتيته فسلمت عليه، فقال: «معلى؟». قلت: نعم جعلت فداك.

فقال لي: «التمس بيدك فما وجدت من شيء فادفعه إلي».

فإذا أنا بخبز منتشر كثير، فجعلت أدفع إليه، فإذا أنا بجراب أعجز عن حمله من خبز، فقلت: جعلت فداك، أحمله على رأسي فقال: «لا أنا أولى به منك، ولكن امض معي».

قال: فأتينا ظلة بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام، فجعل يدس الرغيف والرغيفين حتى أتى على آخرهم، ثمّ انصرفنا، فقلت: جعلت فداك، يعرف هؤلاء الحق؟

ص: 263


1- مستدرك الوسائل 7: 182.
2- أي: أمطرت.

فقال: «لو عرفوه لوا سيناهم بالدُّقَّةِ - والدُّقَّةُ هي الملح - إن اللّه تبارك وتعالىلم يخلق شيئاً إلّا وله خازن يخزنه إلّا الصدقة؛ فإن الرب يليها بنفسه - إلى أن قال(عليه السلام): - إن صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتمحو الذنب العظيم، وتهون الحساب، وصدقة النهار تثمر المال، وتزيد في العمر...»(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}(2).

قال: «الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه اللّه؛ إنما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يُسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه - ثم قال: - ما من عبد أسرَّ خيراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر اللّه له خيراً، وما من عبدٍ يسر شراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر اللّه له شراً»(3).

الهمة العالية

مما يلزم على المسلمين في نشاطهم وتقدمهم التحلي بالهمة العالية عندما صدر كتاب القانون لابن سينا قام كثير من العلماء بشرح هذا الكتاب القيّم، وكان أحد الشرّاح يقيم في مدينة شيراز وكان معاصراً للشيخ نصير الدين الطوسي، وقد واجهته صعاب كثيرة لدى شرح القانون، فكان يسافر كثيراً إلى أصفهان ومنها إلى قزوين ليتباحث مع العلماء هناك كل ما واجهته مسألة صعبة في كتاب القانون، ولكنه بسفره إلى هاتين المدينتين ورغم لقائه للعلماء لم يستطع حل كل مشكلات الكتاب، ولم يعثر على أحدٍ يرشده إلى حلها، فقيل له: إن في بغداد

ص: 264


1- الكافي 4: 9.
2- سورة الكهف، الآية:110.
3- الكافي 2: 293.

شخصاً متبحراً في كتاب القانون، يدعى: الخواجة نصير الدين الطوسي فاذهبإليه لعله يعينك على أمرك.

فسافر من قزوين إلى بغداد وعندما وصلها بادر إلى السؤال عن نصير الدين الطوسي، فقيل له: إنه أصبح وزيراً لسلطان المغول، وإذا كنت تريد لقاءه فعليك أن تنتظر في المكان الفلاني عند وقت الصلاة حيث يخرج الخواجة للصلاة والاستراحة. فجعل هذا العالم ينتظر الشيخ في المكان المحدد حتى شاهد موكب الشيخ، فتقدم إليه طالباً لقاءه، فأخذه الشيخ الطوسي إلى داره وحل له جميع مشكلات القانون المستعصية.

فهذه القصة تدل على مدى علمية الخواجة نصير الدين الطوسي العميقة، وعلى مدى عزم وهمة العالم الشارح في نفس الوقت على المتابعة المستمرة في إنجاز ما شرع به من عمل، بالرغم من كثرة ما تطلبه ذلك من سفر وتحمل للصعوبات والمشاكل. والخواجة نصير الدين الطوسي بالرغم من كثرة مهام منصب الوزارة الذي يتقلده نراه يعطي مقداراً من وقته للشارح، ويحل له جميع غوامض كتاب القانون التي اعترضت ذلك العالم في شرحه.

كما يذكر أن الخواجة نصير الدين الطوسي(رحمه اللّه) سئل يوما من قبل أحد العلماء وهو في معركة القتال، وبينما كان واضعاً إحدى رجليه على الركاب والأخرى على الأرض عن أربعمائة مسألة من المعضلات والمشكلات الكلامية العلمية، فأجابها جميعاً في فترة قياسية قصيرة جداً، حتى أن السائل تعجب أشد التعجب من سرعة بديهة الخواجة وعلميته.

نعم، بهذا الاهتمام والجد والعمل كان يعمل علماؤنا في نشر الفضائل وإثراء الحياة بها.

ص: 265

الصينيون وإحياء بلادهم

جاء في تاريخ الصين أن بعض الصينيين كانوا كسالى جداً يقضون أكثر أوقاتهم في الاستراحة والنوم، فلو استيقظ أحدهم في العاشرة صباحاً - مثلاً - فإنه يقول: لا زال الوقت باكراً فلأعود إلى النوم، وهكذا كان أمرهم إلى أن فكروا ذات يوم ببناء وطنهم وعزموا على ذلك، وكانت النتيجة أن رفعوا مستوى بلادهم إلى مرتبة البلدان المتقدمة بسبب النشاط والعمل ليل نهار، ووصلوا إلى درجة من حب العمل والنشاط بحيث أنهم يستيقظون في وقت ما بين الطلوعين فيقولون لقد سبقنا الوقت!...

والمسلمون أيضاً باستطاعتهم أن يتداركوا تأخرهم وينفضوا عن أنفسهم غبار الكسل والتكاسل، على أن يعاهدوا أنفسهم على عدم السماح للفتور أن يتغلغل إلى أنفسهم وأعمالهم وأهدافهم، حتى يحققوا التقدم الزاهر بالعمل الجاد والنشاط المتواصل والمستمر. فقد ورد في الأحاديث الشريفة الحث الكثير على السعي الجاد والابكار في طلب قضاء الحوائج وطلب الرزق، حيث قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا كانت لك حاجة فاغْدُ فيها؛ فإن الأرزاق تُقَسَّم قبل طلوع الشمس، وإن اللّه تعالى بارك لهذه الأمة في بكورها، وتصدق بشيءٍ عند البكور فإن البلاء لا يتخطى الصدقة»(1).

يقظة الأعداء

إن الدوائر الاستعمارية تسعى لتشويه سمعة الإسلام في العالم، وتتبع أساليب خبيثة ماكرة لتعطي انطباعاً بشعاً عنه، وترسم عنه في الأذهان صورة مخالفة لفطرة الإنسان وحريته؛ لأنهم بدون تشويه صورة الإسلام لا يتمكنون من الوصول إلى

ص: 266


1- الأمالي للشيخ المفيد: 54.

أهدافهم.

وبهذا الأسلوب المخادع استطاعوا أن يستولوا على العالم، يقول أحد القساوسة: إن مثل الدين المسيحي في مقابل الدين الإسلامي كمثل النور الضعيف جداً في مقابل النور القوي جداً، ونحن إذا أردنا أن نتغلب على المسلمين علينا أن نطفئ ذلك النور القوي الذي يحملونه كي نسلخهم عن الإسلام، ونجمعهم حول الدين المسيحي(1).

ص: 267


1- فقد ذكر من نشاطهم في هذا الاتجاه: إن أوربا أخذت تغزو العالم الإسلامي غزوا استعمارياً عن طريق حملات التبشير، وذلك باسم العلم والخدمة الإنسانية، فرصدت لذلك الميزانيات الضخمة؛ وذلك لتمكين دوائر الاستخبارات السياسية ودوائر الاستعمار الثقافي من القيام بالدور المرسوم لها، وبهذا فتح باب العالم الإسلامي على مصراعيه، فانتشرت الجمعيات التبشيرية في كثير من البلدان الإسلامية، ومعظمها إنجليزية وفرنسية وأمريكية، فتغلغل النفوذ البريطاني والفرنسي عن طريقها، وأصبحت بمرور الزمن الموجهة للحركات القومية والمسيطرة على توجيه المتعلمين من المسلمين، وكان أثرها بليغا في العالم الإسلامي، ولعل من نتائج ذلك الغزو هو ما نعانيه اليوم من ضعف وانحطاط. وكانوا قد أسسوا في أواخر القرن السادس عشر الميلادي مراكز كبيرة للتبشير في (مالطة) وجعلوها قاعدة نشاطهم التبشيري على العالم الإسلامي، ومنها انطلقوا لبلاد الشام سنة (1625م) وحاولوا إيجاد حركات تبشيرية تساندهم في مساعيهم غير أن نشاطهم كان محدوداً لم يتعد تأسيس بعض المدارس الصغيرة ونشر بعض الكتب الدينية، وعانوا مشقات كبيرة بسبب تنبه علماء المسلمين لخطرهم فتصدى المسلمون لهم بمختلف الوسائل إلّا أنهم ثبتوا حتى سنة (1773م) حيث ألغيت الجمعيات التبشيرية لليسوعيين، وأغلقت مؤسساتهم ماعدا بعض الجمعيات التبشيرية الضعيفة، ولم يعد لهم وجود إلّا في مالطة حتى سنة (1820م) حيث أسس أول مركز تبشير في بيروت وبدأ نشاطهم فيها، فلاقوا صعوبات كثيرة وبالرغم من هذه الصعوبات استمروا في عملهم، وفي سنة (1824م) انتشرت البعثات التبشيرية في سائر بلاد الشام، ففتحت كلية في قرية عينطورة في لبنان، ونقلت الإرسالية الأمريكية مطبعتها من مالطة إلى بيروت لتقوم بطبع الكتب ونشرها، وقام إبراهيم باشا بتطبيق برنامج للتعليم الابتدائي في سوريا مستوحى من برنامج التعليم الموجود في مصر المأخوذ عن برنامج التعليم في فرنسا؛ وبهذه المقدمات وغيرها نشط الغرب في غزوه الفكري لبلاد الإسلام، وشاركت في الحركة التعليمية مشاركة ظاهرة، فهبت مواجهة شديدة من البغضاء بين المسلمين والنصارى أدت إلى مذابح كثيرة وتخريب وتدمير الممتلكات العامة، وأدى هذا الأمر إلى تدخل الدول الغربية بحجة إخماد الفتنة. ولم يقتصر أمر الاهتمام بالغزو التبشري باسم الدين والعلم على أمريكا وفرنسا وبريطانيا، بل شمل روسيا القيصرية فأرسلت البعثات التبشيرية، وبالرغم من تباين وجهات النظر السياسية بين البعثات التبشيرية بالنسبة لمنهجها السياسي باعتبار مصالحهم الدولية فقد كانت متفقة في الغاية، وهي: بعث الثقافة الغربية إلى الشرق، وتشكيك المسلمين في دينهم، وحملهم على الابتعاد عنه، وعلى احتقار تاريخهم، وتمجيد الغرب وحضارته، كل ذلك مع بغض شديد للإسلام والمسلمين واحتقارهم واعتبارهم برابرة متأخرين، يقول الفرنسي الكونت هنري ديكاستري في كتابه (الإسلام) سنة (1896م) ما لفظه: لست أدري مالذي يقوله المسلمون لو علموا أقاصيص القرون الوسطى وفهموا ما كان يأتي في أغاني المغنيين المسيحيين، فجميع أغانينا حتى التي ظهرت قبل القرن الثاني عشر ميلادي صادرة عن فكر واحد كان السبب في الحروب الصليبية، وكلها محشوة بالحقد على المسلمين؛ للجهل الكلي بديانتهم، وقد نتج عن تلك الأناشيد بتثبيت هاتيك القصص في العقول ضد ذلك الدين ورسوخ تلك الأغلاط في الأذهان ولا يزال بعضها راسخاً إلى هذا اليوم. فنتج عن هذه الغزوات التبشيرية تمهيد الطريق للاستعمار الأوروبي ليستولي على العالم الإسلامي سياسياً بعد أن تمكنت منه ثقافياً؛ فالاستعمار كان في مدارس المسلمين قبل استعمار الأرض عبر الاحتلال العسكري وبعده، حيث كان قد وضع بنفسه مناهج التعليم والثقافة، على أساس فلسفته وحضارته، ثم جعل الشخصية الغربية الأساس الذي تنتزع منه الثقافة، كما جعل تاريخه ونهضته وبيئته المصدر الأصلي لما يحشو به عقول المسلمين السذج منهم خاصة، فالدين الإسلامي يعلم في المدارس الإسلامية كمادة روحية أخلاقية فقط، وليس منهج ودستور متكامل للحياة في كافة مجالاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وهذا ترسيخ لمفهوم الغرب عن الدين الذي فصلوه عن الدولة. فحياة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تدرس لأبنائنا منقطعة الصلة عن النبوة والرسالة وتدرس كما تدرس حياة بسمارك ونابليون - مثلاً - . وتألفت في بيروت سنة (1870م) جمعية سرية، وأخذت هذه الجمعية تركز نفسها على فكرة سياسية، فأخذت تبعث فكرة القومية العربية، والذين قاموا بتأسيسها هم خمسة شبان من الذين تلقوا العلم في الكلية البروتستانتية في بيروت، وبعد مدة استطاعوا أن يضموا إليهم عدداً قليلاً، وبدأت تدعو هذه الجمعية عن طريق المنشورات وغيرها إلى استقلال العرب السياسي، وخاصة في سوريا ولبنان وإلى القومية العربية، والى إثارة العداء للدولة العثمانية وتسميها (التركية) وتعمل على فصل الدين عن الدولة، وجعل القومية العربية هي الأساس، والذي يتتبع تاريخ هذه الحركات يجد أن الغربيين هم أنشؤوها وأنهم كانوا يراقبونها ويشرفون عليها، للتفصيل انظر: كتاب من أسباب ضعف المسلمين للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

ص: 268

نعم، هذا ما أراده الأعداء منا حتى يتمكنوا من السيطرة علينا وتطويقنا، فنصبح بأيديهم أسراء، وأن طريق الخلاص من هذا الوضع السيئ هو النشاط والعمل الجاد والتواصل، بعد تشكيل الاجتماعات المكثفة والمؤتمرات الكبيرة لدراسة طرق العلاج وللتفكير والتخطيط في كيفية السعي نحو تقدم المجتمع الإسلامي من الناحية الفكرية والعلمية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية؛ لتحصين مجتمعنا أمام الغرب أولاً، ثم نعمل على نشر الإسلام في العالم، وقد أكد أمير المؤمنين(عليه السلام) في حديث شريف على لزوم اليقظة والتفكير في عواقب الأمور حيث قال(عليه السلام): «إذا قدمت الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر»(1).

سياسة أعداء الإسلام

يطمح المستعمرون ويصرون على الوصول إلى أهدافهم مهما كلف الأمر؛ لذلك قاموا ويقومون برفع الموانع التي تعترضهم في هذا السبيل، بدءً بقتل واغتيال العلماء الكبار الذين يشكلون مانعاً كبيراً يعترض سبيلهم؛ حيث إنهم يقومون بفضح السياسة الاستعمارية أين ما حلوا، ويبطلون خططهم الخبيثة وسياستهم الآثمة المبنية على استغلال الشعوب المستضعفة والمسلمين العزل مستخدمين طريقتين للاغتيال هما:

ص: 269


1- تصنيف غرر الحكم ودررالكلم: 58.

أولاً: التصفية الجسدية ومثالها اغتيال المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه)بالسم بهدف الالتفاف على نتائج ثورة العشرين(1)، وكذلك ما جرى بعد ذلك من عمليات قتل واغتيال صريحة للعلماء في السجون أو في الشوارع والأزقة.

ثانياً: اغتيال الشخصية وتسقيط السمعة بالدعايات والتهم وأمثال ذلك، وفي كل ذلك تتم الاستفادة من وجوه غير معروفة أو حكومات دموية كحكومة البعثيين في العراق وأمثالهم، حتى إذا انكشف الأمر تبرؤوا منه فوراً ونسبوه إلى الحكومة، أو بعض الناس؛ لكي لا تتلوث سمعتهم إذ أنهم أغلب الأحيان لايتضررون ولا يحدث لهم شيء يسيء إلى سمعتهم مع كونهم السبب الأول في قتل العلماء واغتيال الشخصيات، وبالتالي يبقى القاتل مجهولاً ويضيع الأمر في أكثر الحالات.

إن أعداء الإسلام والتشيع في تربص وتخطيط دائم لاغتنام أية فرصة لضرب الإسلام والتشيع وضرب كل مسلم وشيعي على وجه البسيطة بلا سبب أو ذنب.

ولذلك علينا جميعاً بالخصوص العلماء والخطباء والمثقفين وأصحاب الأقلام، الدفاع عن الإسلام والتشيع بكل ما نؤتى من قوة، والتخطيط والتفكير لعبور الأزمات، وذلك عبر تأليف الكتب والمنشورات التوعوية التي توقظ المسلمين وتنبههم إلى مكائد الأعداء وإحباطها قبل وقوعها،خصوصاً وإننا نعلم أنهم مستمرين على نصب الشراك وإعداد الخطط، فيلزم نشر الأفكار الإسلامية

ص: 270


1- ثورة العشرين: هي ثورة عارمة ضد الاستعمار الإنجليزي في العراق عام (1338ه-1920م)، قادها الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) وذلك حين أصدر فتواه الشهيرة ضد التواجد الإنجليزي في العراق مما اضطروا للخروج من العراق بعد الخيبة والانكسار، انظر: الحقائق الناصعة، لمزهر آل فرعون.

التي كانت تحكم المجتمع الإسلامي في الصدر الأول، والسعي لترسيخ مبدأ الشورى في كل مرافئ الحياة الخطيرة منها والبسيطة، وتعدد الأحزاب الحرة،وتعدد القدرات والتوازن بينهما، لنوفر فينا القوة والحصانة مقابل هجمات الأعداء فتعم حياة المسلمين الإيمان والأمن والسلام بإذن اللّه.

الغرب والبعث

إن أعداء الإسلام لا يوقّفون دعمهم ولا يتبرؤن من أعوانهم الذين سلطوهم على بلادنا المسلمة؛ وذلك لتحطيم الإسلام، وقد روجوا لأفكار باطلة ونشروا مبادئ ومناهج لا تمت إلى الإسلام بصلة بل وتحارب الإسلام صراحة، وكان من هذه المبادئ إنهم روجوا للحزب الشيوعي وحزب البعث وما أشبه. وأبتلي العراق بهذه الحركات أشد ابتلاء وخاصة من حزب البعث؛ حيث عمل أعداء الإسلام لسنين طويلة من أجل تقوية هذا الحزب وجعله أداة قوية وفعالة لتنفيذ مصالحهم وأغراضهم. فلابد لهم الاستفادة منه عشرات السنين على الأقل قبل التخلي عنه. فصدام مثلاً الذي لم يترك منكراً إلّا فعله يسمى بطل القومية العربية أو رائد الأمة، وما إلى غير ذلك من الألقاب التي ما أنزل اللّه بها من سلطان. أفلا يعني هذا أنهم يريدون الاحتفاظ بهذا الحزب والإبقاء على قوته وصولته.

زارنا شخص قادماً من العراق، فسألته: هل تقام صلاة جماعة في صحن الإمام الحسين(عليه السلام)؟

قال: كلا، ولكن في بعض الأحيان يصلي أحد المعممين فيأتم به بضع مصلين الذين يكون بعضهم من عملاء النظام وجواسيسه من البعثيين، وليس لهم غاية من هذه الصلاة إلّا التجسس ومراقبة الناس!

نعم، هكذا يفعلون في سبيل حفظ وجودهم وتحكيم قدرتهم وسيطرتهم على

ص: 271

الناس، ونحن لا يمكننا أن نتخلص من هذه الأوضاع إلّا بالنشاط والاهتمام والتفكير والعمل الجدي المتواصل في سبيل الخلاص، ومن الواضح أن منأوّليّات خلاصنا هو الإيمان بضرورة تعدد القدرة وتعدد الأحزاب الحرة، وإيجاد شورى الفقهاء المراجع؛ فهذه العوامل تعد من السبل المهمة التي توفر لنا التحرر من أسر أعداء الإسلام وأذنابه،كما تعد من أبرز العوامل في إدامة استقلالنا ومنحنا الحياة الحرة الآمنة، ولكن إيجادها في حياتنا المعاصرة بحاجة إلى تفكير وحركة وعمل، ونفس طويل الأمد من الجميع والصبر على المشاكل حتى نحصل عليها، إن شاء اللّه تعالى.

الصبر وطول النفس

عن حفص بن غياث، قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا حفص، إن من صبر صبر قليلاً، وإن من جزع جزع قليلاً - ثم قال: - عليك بالصبر في جميع أمورك؛ فإن اللّه عزّ وجلّ بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فأمره بالصبر والرفق فقال: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ}(1)، وقال تبارك وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(2).

فصبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى نالوه بالعظائم، ورموه بها، فضاق صدره، فأنزل اللّه عزّ وجلّ عليه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّٰجِدِينَ}(3).

ص: 272


1- سورة المزمل، الآية: 10 - 11.
2- سورة فصلت، الآية: 34-35.
3- سورة الحجر، الآية: 97-98.

ثم كذبوه ورموه، فحزن لذلك، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنقَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا}(1).

فألزم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نفسه الصبر، فتعدوا فذكر اللّه تبارك وتعالى وكذبوه، فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي، ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٖ * فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ}(2). فصبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جميع أحواله، ثم بُشِّر في عترته بالأئمة^ ووصفوا بالصبر، فقال جلّ ثناؤه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(3). فعند ذلك قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فشكر اللّه عزّ وجلّ ذلك له فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}(4).

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إنه بشرى وانتقام، فأباح اللّه عزّ وجلّ له قتال المشركين، فأنزل اللّه: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ}(5)، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}(6) فقتلهم اللّه على يدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأحبائه، وجعل له ثواب صبره، مع ما ادخر له في الآخرة، فمن صبر واحتسب لم

ص: 273


1- سورة الأنعام، الآية: 33-34.
2- سورة ق، الآية: 38-39.
3- سورة السجدة، الآية: 24.
4- سورة الأعراف، الآية: 137.
5- سورة التوبة، الآية: 5.
6- سورة البقرة، الآية: 191.

يخرج من الدنيا حتى يقر اللّه له عينه في أعدائه، مع ما يدخر له في الآخرة»(1).

إن العدو يتبع سياسة الصبر وطول النفس؛ ولذا فإنه يحقق أهدافه ويتغلبعلينا في أحيان كثيرة، يقال: إن البريطانيين بحثوا في مجلس العموم البريطاني أنه إذا كانت سياسة ما تعطي نتائجها المطلوبة بعد ثلاثمائة سنة فلابد من اتباع هذه السياسة والاستمرار فيها طوال هذه المدة المخمنة؛ حتى تؤتي أكلها وثمارها! فعلينا نحن أيضاً أن لا نتوقع ظهور النتيجة فوراً بل لابد من طول النفس.

فأولئك هكذا يخططون وهكذا يتصرفون ويسيرون، من أجل الوصول إلى أهدافهم.

أما المسلمون فإن بعضهم يريدون ظهور النتيجة والوصول إلى الهدف فوراً وبأسرع وقت من ودون تخطيط مسبق وصحيح، وهذا لا يوصل إلى الهدف عادة، قال تعالى في كتابه الكريم: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْأخِرَةَ}(2) ومن الواضح إن الذي يتعجل على الثمرة قبل أوانها، أو يتسرع لحصول النتائج ثم تتأخر عليه سوف يصاب بالملل واليأس، والنتيجة هي الهزيمة، وفي أحيان كثيرة يلجئه التسرع إلى أن يسير في غير الطريق الصحيح الموصل إلى الهدف، غافلاً عن خطأ سيره وانحرافه؛ ولذلك لم يصل في آخر الأمر إلى النتيجة الحسنة التي كان يطلبها، كل ذلك لعدم أخذ الاستعداد الكافي، والتسلح بالروح العالية، وطول النفس، والثقافة القوية، فهذه العوامل - وغيرها - هي التي تعينه على تحقيق أهدافه.

والخلاصة: إن كل ما نريده مما تقدم هو أن يدرك المسلمون وضعهم، ويكونوا دائماً في يقظة وحذر، وأن يوسعوا من نشاطاتهم في التبليغ والكتابة

ص: 274


1- الكافي 2: 88.
2- سورة القيامة، الآية: 20-21.

الواعية والهادفة للوقوف أمام هذه المخططات، فإن للنشاط وانتشار الإسلام وتقدمه على المستوى العالمي أثراً بالغاً في تقدم المسلمين وعودة المبادئالإسلامية إلى الواقع بعد طرد الأفكار المعادية والمغرضة.

«سبحانك ما أضيق الطرق على من لم تكن دليله، وما أوضح الحق عند من هديته سبيله، إلهي، فاسلك بنا سبل الوصول إليك، وسيرنا في اقرب الطرق للوفود عليك، قرّب علينا البعيد، وسهل علينا العسير الشديد، وألحقنا بالعباد الذين هم بالبدار إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإياك في الليل يعبدون»(1).

من هدي القرآن الحكيم

لا للكسل

قال اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {فَلَا تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ}(4).

النشاط في العمل

قال جلّ وعلا: {لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ}(5).

ص: 275


1- بحار الأنوار 91: 147.
2- سورة النساء، الآية: 142.
3- سورة آل عمران، الآية: 139.
4- سورة محمد، الآية: 35.
5- سورة النجم، الآية: 39-40.

وقال سبحانه: {فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}(1).

وقال اللّه تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُكَٰتِبُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(3).

التطلع إلى المستقبل

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٖ}(4).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ}(5).

النشاط الفكري

قال تبارك وتعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(7).

المسلمون والتنمية الاجتماعية

قال اللّه تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(8).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ

ص: 276


1- سورة الشورى، الآية: 15.
2- سورة الأنبياء، الآية: 94.
3- سورة الأنعام، الآية: 132.
4- سورة هود، الآية: 81.
5- سورة الحشر، الآية: 18.
6- سورة البقرة، الآية: 219
7- سورة الحشر، الآية: 21
8- سورة الفتح، الآية: 29.

تُرْحَمُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْإِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2).

الإسلام دين اللّه

قال عزّ اسمه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(4).

الشورى في الإسلام

قال اللّه تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(5).

وقال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(6).

الأمة الإسلامية خير الأمم

قال عزّ وجلّ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(7).

وقال جلّ وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(8).

ص: 277


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
3- سورة آل عمران، الآية: 85.
4- سورة آل عمران، الآية: 19.
5- سورة آل عمران، الآية: 159.
6- سورة الشورى، الآية: 38.
7- سورة آل عمران، الآية: 110.
8- سورة المائدة، الآية: 3.

من هدي السنّة المطهّرة

في ذم الكسل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي... إياك وخصلتين: الضجر والكسل، فإنك إنضجرت لم تصبر على حق، وإن كسلت لم تؤد حقاً»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) - وهو يصف المؤمن - : «بعيد كسله، دائم نشاطه، قريب أمله، حي قلبه»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «الكسل يضرّ بالدين والدنيا..»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عدوّ العمل الكسل»(4).

العمل الصالح

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن وإن قل أرضى للّه وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتباع الأهواء»(5).

ومن وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسين(عليهما السلام) قال: «يا بني أوصيك... وبالعمل في النشاط والكسل»(6).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من شيء أحب إلى اللّه عزّ وجلّ من عمل يداوَم عليه وان قل»(7).

ص: 278


1- من لا يحضره الفقيه 4: 355.
2- بحار الأنوار 75: 26.
3- بحار الأنوار 75: 180.
4- الكافي 5: 85.
5- الكافي 8: 8.
6- تحف العقول: 88.
7- الكافي 2: 82.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند اللّه من العمل الكثير على غير يقين»(1).

المسابقة إلى الخيرات

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من فتح له باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عليه»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «انتهزوا فرص الخير فإنها تمر مر السحاب»(3).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام): «الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «خذ لنفسك من نفسك خذ منها في الصحة قبل السقم، وفي القوة قبل الضعف، وفي الحياة قبل الممات»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي! بادر بأربع قبل أربع: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك»(6).

نشاط الفكر

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فإنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً يتجنب فيه الصرعة في المهاوي...»(7).

ص: 279


1- الكافي 2: 57.
2- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 22.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 152.
4- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 72.
5- الكافي 2: 455.
6- من لا يحضرة الفقية 4: 357.
7- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 153 صفات الغافلين.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن التفكر يدعو إلى البرّ والعمل به»(2).

المسلمون والتنمية الاجتماعية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «والذي نفسي بيده لا يضع اللّه رحمته إلّا على رحيم».

قالوا: يا رسول اللّه كلنا نرحم؟

قال: «ليس بالذي يرحم نفسه خاصة، ولكن الذي يرحم المسلمين عامة»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لكل شيء شيء يستريح إليه، وإن المؤمن يستريح إلى أخيه المؤمن كما يستريح الطائر إلى شكله، أو ما رأيت ذلك؟»(5).

المسلمون ومعرفة الأعداء

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه إن امرءاً يمكن عدوه من نفسه يعرُقُ لحمه(6)

ويهشم عظمه ويفري جلده لعظيم عجزه...»(7).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «كفى بنصر اللّه لك أن ترى عدوك يعمل بمعاصي

ص: 280


1- الكافي 2: 599.
2- الكافي 2: 55.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 11.
4- الكافي 2: 117.
5- الإختصاص: 30.
6- يعرق لحمه: يأكل حتى لا يبقى منه شيء على العظم.
7- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 34 من خطبة له(عليه السلام) في استنفار الناس إلى أهل الشام... .

اللّه فيك»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم»(2).وقال(عليه السلام): «كان فيما أوصى به لقمان ابنه ناتان أن قال له: يابني، ليكن مما تتسلح به على عدوك فتصرعه المماسحة وإعلان الرضا عنه، ولا تزاوله بالمجانبة؛ فيبدو له ما في نفسك فيتأهب لك»(3).

المسلمون والشورى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من رجل يشاور أحداً إلا هدي إلى الرشد»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه»(5).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام): «ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم»(6).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «في التوراة أربعة أسطر: من لا يستشير يندم...»(7).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأِ عاذراً»(8).

ص: 281


1- بحار الأنوار 75: 136.
2- الكافي 2: 335.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 668.
4- تفسير نور الثقلين 4: 584.
5- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 211.
6- تحف العقول: 233.
7- المحاسن 2: 601.
8- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 123.

إحياء الشعائر

معنى الإحياء

قال تعالى في كتابه المجيد: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}(1).

ورد في بعض التفاسير(2) أن من معاني الإحياء في هذه الآية الكريمة هو الخروج من الضلالة إلى النور، كما ورد عن سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): أنزل اللّه عزّ وجلّ: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(3) قال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى فقد أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها».

وعن أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}؟ قال: «من استخرجها من الكفر إلى الإيمان»(4).

وعن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}؟ قال: «من حرق أو غرق».

ص: 282


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- تفسير العياشي 1: 313.
3- سورة المائدة، الآية: 32.
4- تفسير العياشي 1: 313.

قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟فقال: «ذاك تأويلها الأعظم»(1).

كما قال تبارك تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(2). فاعتبرت الآية أن من كان بعيداً عن الإيمان فهو بعيد عن نور العلم والهداية، وجعلت الإيمان بمثابة النور أو العلم الذي يعيش به الإنسان بين الناس، فالنور الذي بمعنى العلم أو الإيمان كما في الآية، هو أحد معاني الإحياء. وحيث إن الإحياء مفهوم كلي فله مصاديق عديدة(3)...

فتارة يكون إحياءً لإنسان منحرف بأن يأتي إليه أحد المؤمنين ويعمل على إصلاحه وهدايته، وتارة يكون إحياءً لأناس موتى وذلك بذكرهم وبيان تاريخهم كما ورد في الحديث الشريف: «من ورخ مؤمناً فكأنما أحياه»(4)، فتعقد مجالس خاصة لذكر سيرة المؤمن المتوفى وتذكر مناقبه وفضائله، وإيمانه وأعماله، أو تكتب وتنشر هذه الأمور فتكون أيضاً إحياءً له.

ومن مصاديق الإحياء أيضاً المجالس التي تُعقد لذكرى وفيات ومواليد الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار^ فإن إحياءها يعتبر وبلا شك، من الشعائر التي قال عنها اللّه عزّ وجلّ في كتابه المجيد: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(5).

ص: 283


1- الكافي 2: 210.
2- سورة الأنعام، الآية: 122.
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 152 سورة الأنعام.
4- سفينة البحار 8: 435 مادة (ورخ).
5- سورة الحج، الآية: 32.

فإن {ذَٰلِكَ} أي الأمر الذي هو من لوازم الإيمان وترك الشرك. {وَمَن يُعَظِّمْشَعَٰئِرَ اللَّهِ} جمع شعيرة، وهي الشيء الملاصق للبدن، وسمى شعيرة بعلاقة الملابسة، والمراد بها الأمور المرتبطة باللّه، وهو عام يشمل كل ما ورد به دليل خاص كالمناسك في الحج، أو دليل عام كالمدارس الدينية التي لم تكن في زمن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة^ وإنما تشملها الأدلة العامة، والإتيان بهذه الجملة هنا بمناسبة أن أعمال الحج من الشعائر،{فَإِنَّهَا} أي أن تعظيم الشعائر {مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} والضمير في {فَإِنَّهَا} عائد إلى الشعائر، والمراد به تعظيم الشعائر، من باب الملابسة - مجازاً - وإضافة التقوى إلى القلوب؛ لأن حقيقة التقوى في القلب، وإنما يظهر أثره على الجوارح، والتعظيم حقيقة لا ينشأ إلّا من تقوى القلب. والشعيرة هي الأمر المرتبط بشيء كأنه من علائمه ومزاياه، فشعائر الحج الأمور المربوطة بالحج، وشعائر اللّه الأمور المرتبطة باللّه، ولعل اشتقاقها من الشعر بمعنى الشعور كأنه يشعر بالشيء، أو من الشعر بمعنى ما ينبت من الإنسان، كأن الشعيرة تلازم الشيء تلازم الشعر، أو تلازم الشعار - الذي هو الثوب الذي على الجسد مقابل الدثار الذي هو الثوب الفوقاني - لبدن الإنسان، والشعائر في الآية - لكونها مطلقة - تشمل كل شيء كان أو أصبح من الأمور المرتبطة باللّه مما لم ينه عنه، فمعالم الحج من الشعائر، كما أن تشييد القباب على أضرحة الأئمة الطاهرين^ من الشعائر(1).

ص: 284


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 600. والشعائر لغة - كما في لسان العرب - : من شعر: شَعَرَ به وشَعُرَ يَشْعُر شِعْراً وشَعْراً وشِعْرَةً ومَشْعُورَةً وشُعُوراً، كله: عَلِمَ. وحكي: ما شَعَرْتُ بِمَشْعُورِه حتى جاءه فلان، وحكي أَيضاً: أَشْعُرُ فلاناً ما عَمِلَهُ، وأَشْعُرُ لفلانٍ ما عمله، وما شَعَرْتُ فلاناً ما عمله، قال: وهو كلام العرب. ولَيْتَ شِعْرِي: أَي ليت علمي أَو ليتني علمت، وليتَ شِعري من ذلك: أي ليتني شَعَرْتُ، وروي: ليتَ شِعْرِي ما صَنَعَ فلانٌ، أَي ليت علمي حاضر أَو محيط بما صنع. وأَشْعَرَهُ الأَمْرَ وأَشْعَرَه به: أَعلمه إِياه. والإِشْعارُ: الإِعلام. والشّعارُ: العلامة. والشَّعِيرة: البدنة المُهْداةُ، سميت بذلك لأَنه يؤثر فيها بالعلامات، والجمع شعائر. وشِعارُ الحج: مناسكه وعلاماته وآثاره وأَعماله، جمع شَعيرَة، وكل ما جعل عَلَماً لطاعة اللّه عزّ وجلّ كالوقوف والطواف والسعي والرمي والذبح وغير ذلك. والمَشْعَرُ: المَعْلَمُ والمُتَعَبَّدُ من مُتَعَبَّداتِهِ. والمَشاعِرُ: المعالم التي ندب اللّه إِليها وأَمر بالقيام عليها؛ ومنه سمي المَشْعَرُ الحرام لأَنه مَعْلَمٌ للعبادة وموضع؛ قال: ويقولون هو المَشْعَرُ الحرام والمِشْعَرُ، ولا يكادون يقولونه بغير الأَلف واللام. وقال الزجاج: شعائر اللّه: يعني بها جميع متعبدات اللّه التي أَشْعرها اللّه أَي جعلها أَعلاماً لنا، وهي كل ما كان من موقف أَو مسعى أَو ذبح، وإِنما قيل شعائر لكل علم مما تعبد به لأَن قولهم شَعَرْتُ به علمته، فلهذا سميت الأَعلام التي هي متعبدات اللّه تعالى شعائر. والمشاعر: مواضع المناسك. انظر: لسان العرب: 4: 409 مادة (شعر).

ومن أهم الشعائر الإلهية ما يرتبط بالمناسبات الدينية فإنه يصادف بعض أيام السنة العديد من المناسبات الإسلامية، ولابد من الاستعداد مسبقاً بشكل جيد لغرض إحيائها وتعظيمها بصورة تناسب نوع المناسبة؛ فإن إحياء المناسبات الإسلامية من الشعائر التي دعا إليها الإسلام. وليس هذا فحسب، بل حتى إحياء ذكرى موتى المؤمنين يعدّ بمثابة إحياء لهم، فيكون من باب أولى إحياء ذكرى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته^.

فقد ورد عن أبي جعفر محمّد بن عليّ(عليهما السلام) أنّه قال: «اجتمعوا وتذاكروا تحفّ بكم الملائكة، رحم اللّه من أحيا أمرنا»(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) لداود بن سرحان: «يا داود أبلغ مواليّ عنّي السّلام، وإنّي أقول: رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا فإنّ ثالثهما ملكٌ

ص: 285


1- مصادقة الأخوان: 38.

يستغفر لهما، وما اجتمعتم فاشتغلوا بالذّكر فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءً لأمرنا، وخير النّاس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا»(1).

إحياء ذكرى المؤمن

ولكن ما معنى إحياء ذكرى المؤمن؟

فإنّ للإنسان بُعدان:

الأول: البعد المادي، المتمثل بالجسد وملازماته، من الطول والقصر واللون وما إلى ذلك... .

الثاني: البُعد الروحي، أي آثاره العلمية، وسيرته الطيبة، وكلماته البنّاءة، فهذا البعد - الذي نحن بصدده الآن - يعتبر بمثابة الإشعاع، وبحثنا يدور حول الفائدة التي نحصل عليها منه.

فإن الإسلام أكّد كثيراً على هذا البعد في حياة الإنسان وبعد موته. ففي حياته أكّد على طلب العلم والتعلم والاتصال باللّه تعالى بإخلاص، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الدنيا كلها جهل إلّا مواضع العلم، والعلم كله حجة إلّا ما عمل به، والعمل كله رياء إلّا ما كان مخلصاً، والإخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يُختم له»(3).

وحذّر الإسلام من الجهل باعتباره من عوامل التخلف، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الجهل مميت الأحياء ومخلد الشقاء»(4).

ص: 286


1- بشارة المصطفى: 110.
2- وسائل الشيعة 27: 27.
3- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 281.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 78.

ثم نهى عن رذائل الأخلاق من الغيبة وغيرها، التي تميت الإنسان وتعمل على عكس إحيائه فقد اعتبر الغيبة مثلاً من الذنوب العظيمة؛ لأنها عامل قوي في إسقاط البعد المعنوي للإنسان المؤمن، وذهاب سمعته، وشخصيته، فإن الغيبة سوف تجذر النفاق في المجتمع بما تسبب انقطاع أواصر المحبة والأخوة، ومن ثم تسري إلى أن يتلاشى البعُد الروحي في حياة الإنسان نفسه، ومن هنا جاء القرآن يمنع حالة الغيبة فقال تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}(1)، فإن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، ولو بالإشارة و{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} فالغيبة بمنزلة أكل لحم الأخ الميت في شدة قبحه وكراهته، ولعل التشبيه من باب أن للأخ ذاتاً وذكراً فكما أن قطع قطعة من لحمه ولوكها في الفم قبيح، كذلك قطع قطعة من ذكره (عرضه) ولوكها في الفم كذلك، وقد جعل كونه غائباً مثل كونه ميتاً في عدم شعور كليهما بما يصنع بلحمه وبذكره{فَكَرِهْتُمُوهُ} فكما كرهتم أكل لحمه اكرهوا أكل عرضه {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوا في عصيانه، وإذا اتقيتم اللّه وتبتم عما سلف منكم، ف- {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} كثير قبول التوبة {رَّحِيمٌ} يرحم العباد فلا يعاقبهم بعد توبتهم(2).

وقد وردت أحاديث كثيرة عن الأئمة^ ينهون فيها عن الغيبة، ويبينون عقوبة مرتكبها، منها:

عن الإمام أبي محمّد العسكريّ(عليهما السلام) قال:

«اعلموا أنّ غيبتكم لأخيكم المؤمن من شيعة آل محمّد^ أعظم في التّحريم من الميتة، قال اللّه عزّ وجلّ: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ

ص: 287


1- سورة الحجرات، الآية: 12.
2- تفسير تقريب القرآن 5: 208.

أَن يَأْكُلَ لَحْمَأَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}»(1)(2).

وقال الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام):

«إيّاكم والغيبة فإنّها إدام من يأكل لحوم النّاس»(3).

وعن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى(عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك، الرّجل من إخواني يبلغني عنه الشّي ء الذي أكرهه فأسأله عن ذلك فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟

فقال لي: «يا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك؛ فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم، لا تذيعن عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته، فتكون من الّذين قال اللّه في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَٰحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}»(4)(5).

وقال الإمام الصّادق(عليه السلام): «إنّ للّه تبارك وتعالى على عبده المؤمن أربعين جُنّة، فمتى أذنب ذنباً كبيراً رفع عنه جُنّة، فإذا اغتاب أخاه المؤمن بشيء يعلمه منه انكشفت تلك الجنن عنه، ويبقى مهتوك السّتر، فيفتضح في السّماء على ألسنة الملائكة، وفي الأرض على ألسنة النّاس، ولا يرتكب ذنباً إلّا ذكروه، ويقول الملائكة الموكّلون به: يا ربّنا، قد بقي عبدك مهتوك السّتر وقد أمرتنا بحفظه! فيقول عزّ وجلّ: ملائكتي، لو أردت بهذا العبد خيراً ما فضحته، فارفعوا أجنحتكم

ص: 288


1- سورة الحجرات، الآية: 12.
2- بحار الأنوار 72: 258.
3- مستدرك الوسائل 9: 113.
4- سورة النور، الآية: 19.
5- الكافي 8: 147.

عنه، فوعزتي، لا يئول بعدها إلى خير أبداً»(1).

وقال(عليه السلام): «الغيبة حرام على كل مسلم مأثوم صاحبها في كل حال، - إلى أن قال(عليه السلام) - والغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب، أوحى اللّه تعالى عزّ وجلّ إلى موسى بن عمران(عليه السلام): المغتاب إن تاب هو آخر من يدخل الجنّة، وإن لم يتب فهو أول من يدخل النار، قال اللّه عزّ وجلّ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} ووجوه الغيبة يقع بذكر عيب في الخَلق والخُلُق والعقل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه، وأصل الغيبة تتنوّع بعشرة أنواع: شفاء غيظ، ومساعدة قوم، وتهمة، وتصديق خبر بلا كشفه، وسوء ظنّ، وحسد، وسخريّة، وتعجّب، وتبرّم، وتزيّن، فإن أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق فيصير لك مكان الغيبة عبرةً ومكان الإثم ثواباً»(2).

ومن هذا المعنى ندرك مدى اهتمام الإسلام بالإنسان حيث لم يسوغ له أن يغتاب أحداً فيقضي على البعد المعنوي فيه.

ومن جهة أخرى أكّد الإسلام على إحياء المؤمن بالذكر الحسن فحث على ذكر الناس المؤمنين بسيرتهم الصالحة أحياءً كانوا أم أمواتاً، والدعاء لهم، بل تقديمهم في الدعاء.

فقد جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما من مؤمن دعا للمؤمنين والمؤمنات، إلّا ردّ اللّه عزّ وجلّ عليه مثل الذي دعا لهم به من كل مؤمن ومؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آتٍ إلى يوم القيامة، إن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب، فيقول المؤمنون والمؤمنات: يا ربِّ هذا الذي كان يدعو لنا،

ص: 289


1- الاختصاص: 220.
2- بحار الأنوار 72: 257.

فشفِّعنا فيه،فيشفّعهم اللّه عزّ وجلّ فيه فينجو»(1).

نعم، هذا قسم من البعد الروحي الذي يهتم الإسلام بتنميته، لما له من فوائد جليلة في الدنيا والآخرة. ونلمس هذا بوضوح في حكاية القرآن عن لسان إبراهيم(عليه السلام) في قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٖ فِي الْأخِرِينَ}(2).

يعني: يا ربّ، أسألك أن تجعل الناس من بعدي يذكرونني بأن أكون قدوة لهم، فيثنون عليَّ ثناءً صادقاً، لكي تبقى طريقتي بين الناس، التي هي التوحيد، والعمل بشرع اللّه، وفي النهاية سيصبح الدين الذي أرسلتني به سبباً لسعادة الناس في الدنيا ونجاتهم يوم الحساب، وقد أجاب اللّه سبحانه دعاء إبراهيم(عليه السلام)، فقد مرت عشرات القرون والأمم كلها يثنون على إبراهيم(عليه السلام) ويذكرونه بتجلة وإكبار(3).

الاستعمار ومحاربة الشعائر

اشارة

إن الأجهزة الاستعمارية اليوم، تعارض وبشدة، إقامة مثل هذه المجالس والشعائر، في مختلف المناسبات، خوفاً من امتداد إشعاع الأئمة^ على كل طبقات المجتمع، فيفيق من نومه ويصحو كاشفاً مخططات الاستعمار فيفشلها، ولا بد من ذلك اليوم الذي تهدّ فيه أعمدة الكفر.

أما كيف كان الاستعمار يحارب المجالس فذلك عبر أساليب عديدة ومن جملة تلك الأساليب هو زرع أو تربية عملاء لمحاربة الدين وربما كان يتظاهر بعضهم بخدمة الدين. وهذا ما حصل بالفعل.

ص: 290


1- الكافي 2: 507.
2- سورة الشعراء، الآية: 84.
3- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 56.

فعلى سبيل المثال قام البهلوي الأول في إيران: بمحاربة قرّاء القرآن وخطباء المنابر كثيراً، وقد أوجد كثيراً من الضغوط عليهم، يقول شاعر فارسي قصيدة حول هذا الوضع ما مضمونه(1):

إن البهلوي أول أمره كان يركض حاسراً في العزاء، وآخر الأمر أقام حفلات الفسق في ليلة عاشوراء.

وكذلك كان ياسين الهاشمي(2) وهو أحد عملاء الاستعمار في العراق والمنطقة العربية، فإنه عمل كلّ ما بوسعه من أجل الضغط على هذه المجالس، وملاحقتها، ومنعها.

وقد كان مصطفى كمال أتاتورك في تركيا(3) كذلك، حيث حارب الدين

ص: 291


1- وأصل البيت باللغة الفارسية هو: اولش او سر برهنه در عزاها می دويد *** عاقبت جشنى بپا در ليله عاشور كرد
2- ياسين حلمي باشا سلمان الهاشمي، من مواليد بغداد عام (1882م)، تقلد رئاسة الوزارة مرتين. ومما ذكر في أحواله أنه بعد تعيينه زار المس بيل وصافحها قائلاً: نريد معونتكم ومعونتكِ أنت بوجه خاص، وتقول المس بيل في رسالتها إلى أبيها المؤرخة في (31 آب 1922م): اعتقد أن ياسين رجل القَدَر. أطلق عليه لقب (أتاتورك العراق) لتشابه المنهج والسياسة التي كانا يسيران عليها ولقساوته وعنفه وطغيانه، وتكفّل مهمة تصفية الحوزات العلمية في العراق، فطارد رجال الدين وقتل بعضهم ونفى البعض الآخر ومنع إجراء مراسم الشعائر الحسينية واستخدم العنف في تطبيق قانون التجنيد الإلزامي. وموسوعة السياسة: 7: 387 ياسين الهاشمي.
3- الشيعة يشكلون الملايين من سكان تركيا، وأغلبهم من العلويين حيث يقدر عددهم بأكثر من خمسة وعشرين مليوناً، لكنهم تعرّضوا إلى الضغوط والمضايقات أيام الملك العثماني سليم القانوني وغيره، ولذا أخفوا مذهبهم، فاختفى إلى جانب ذلك الوعظ والتبليغ والكثير من آداب المذهب الشيعي، وظهر في جماعة منهم بعض الأمور البعيدة عن واقعهم. وأتاتورك هذا هو مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938م) ولد في سلانيك، مؤسس الجمهورية التركية وأول رئيس لها، قام بنشر المفاسد في بلاده، رسخ العلمانية والأفكار الغربية في تركيا، وحارب كل ما يمت إلى الدين الإسلامي فيها، وغيّر كتابة اللغة التركية من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني.

والمتدينين ومنع مختلف الشعائر الدينية ومجالس العزاء وما أشبه، ثم إن هؤلاء الثلاثة (البهلوي والهاشمي وأتاتورك) كانوا قد ظهروا في وقت واحد.ولكن رُبَّ سائل يسأل: لماذا كان هؤلاء يحاربون الشعائر الدينية، التي من بينها مجالس العزاء، أو محافل القرآن وغيرها؟

نقول: إن محاربتهم للشعائر دليل واضح على مدى أهميتها، وقوة تأثيرها على أفراد الأمة، وإلّا لم يكن هناك مبرر ومقتض لمنع الناس عنها، ومنعها عنهم.

إن لمجالس العزاء أهمية كبيرة لا يمكن تجاهلها، وإن للمنبر الحسيني والشعائر دوراً عظيماً في إحياء الشعوب. وهذا مما لا ينكر، وإن لمحافل القرآن أثراً فعّالاً في النفوس، حيث يبقى صدى القرآن يرنّ في مسامع المؤمنين، وتطمئن قلوبهم لذكر اللّه، فيدخل القرآن في وجودهم وتكون آياته منطلقاً لهم، فالقرآن يرفض الظلم والعدوان،وأكل حقوق الناس،ومصادرة حرياتهم، واستعبادهم؛ قال تعالى في كتابه المجيد: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ}(1).

وقال سبحانه: {وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(2).

وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}(3).

وقال سبحانه أيضاً: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَٰفِرِينَ نُزُلًا}(4).

والمسلمون عندما يقرأون هذه الآيات، سوف يفتح اللّه لهم أفئدتهم ويرسخ

ص: 292


1- سورة المائدة، الآية: 47.
2- سورة البقرة، الآية: 190.
3- سورة الأنعام، الآية: 151.
4- سورة الكهف، الآية: 102.

في نفوسهم مفاهيم القرآن أكثر فأكثر ليدركوا أن الواقع الذين يعيشونه مخالف للقرآن فيسعون في إصلاحه.

من هنا عمل الطغاة على منع ومحاربة المنابر، ومجالس العزاء، التي تفضح المجرمين وتبشرهم بالعذاب الأليم، وتكشف الحقائق للأمة، وتجعلهم على دراية من الأمر.

أتأتي قبر الحسين(عليه السلام)؟

إن أئمة أهل البيت^ كانوا يؤكدون دائماً على إحياء الشعائر بمختلف أشكالها من الزيارة وإقامة المجالس والبكاء وما أشبه.

فقد ورد عن مسمع بن عبد الملك كردين البصري قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا مسمع، أنت من أهل العراق، أما تأتي قبر الحسين(عليه السلام)؟

قلت: لا؛ أنا رجل مشهور عند أهل البصرة، وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة وعدونا كثير من أهل القبائل من النصاب وغيرهم، ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثلون بي.

قال لي: «أفما تذكر ما صنع به؟».

قلت: نعم.

قال: «فتجزع؟».

قلت: إي واللّه واستعبر لذلك حتى يرى أهلي اثر ذلك علي، فامتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي.

قال: «رحم اللّه دمعتك، أما انك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنّا، أما انك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيتهم ملك الموت بك، وما يلقونك به

ص: 293

من البشارة أفضل، وملك الموت أرق عليك وأشد رحمة لك من الأم الشفيقة على ولدها».

قال: ثم استعبر واستعبرت معه، فقال: «الحمد للّه الذي فضلنا على خلقه بالرحمة وخصنا أهل البيت بالرحمة، يا مسمع، إن الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين(عليه السلام) رحمة لنا، وما بكى لنا من الملائكة أكثر، وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا، وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا إلّا رحمه اللّه قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه على خده فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم لأطفأت حرّها حتى لا يوجد لها حر، وإن الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتى يرد علينا الحوض، وإن الكوثر ليفرح بمحبنا إذا ورد عليه حتى أنه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه. يا مسمع، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ولم يستق بعدها أبداً، وهو في برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل، أحلى من العسل، وألين من الزبد، وأصفى من الدمع، وأذكى من العنبر، يخرج من تسنيم ويمر بأنهار الجنان، يجري على رضراض الدر والياقوت، فيه من القدحان اكثر من عدد نجوم السماء، يوجد ريحه من مسيرة ألف عام، قدحانه من الذهب والفضة وألوان الجوهر، يفوح في وجه الشارب منه كل فائحة حتى يقول الشارب منه: يا ليتني تركت هاهنا لا أبغي بهذا بدلاً ولا عنه تحويلاً. أما إنك يابن كردين ممن تروى منه، وما من عين بكت لنا إلّا نعمت بالنظر إلى الكوثر وسقيت منه من أحبنا، وإن الشارب منه ليعطى من اللذة والطعم والشهوة له أكثر مما يعطاه من هو دونه في حبنا، وإن على الكوثر أمير المؤمنين(عليه السلام) وفي يده عصاً من عوسج يحطم بها أعدائنا، فيقول الرجل منهم: إني أشهد الشهادتين! فيقول: انطلق إلى إمامك فلان فاسأله أن يشفع لك، فيقول: تبرأ مني إمامي الذي تذكره؟ فيقول: ارجع إلى

ص: 294

ورائك فقل للذي كنت تتولاه وتقدمه على الخلق، فاسأله إذا كان خير الخلق عندك أن يشفع لك، فإن خير الخلق حقيق أن لا يرد إذا شفع، فيقول: إني أهلك عطشاً؟ فيقول له: زادك اللّه ظمأ، وزادك اللّه عطشاً».

قلت: جعلت فداك وكيف يقدر على الدنو من الحوض ولم يقدر عليه غيره؟

فقال: «ورع عن أشياء قبيحة وكف عن شتمنا أهل البيت إذا ذكرنا، وترك أشياء اجترى عليها غيره، وليس ذلك لحبنا ولا لهوى منه لنا، ولكن ذلك لشدة اجتهاده في عبادته وتدينه ولما قد شغل نفسه به عن ذكر الناس، فأما قلبه فمنافق ودينه النصب واتباعه أهل النصب وولاية الماضين وتقدمه لهما على كل أحد»(1).

حيل الغرب في بلاد المسلمين

وسنذكر شاهداً حول هذا الكلام، ثم نعود لنسمع الحقائق على لسان أحدهم.

أما شاهدنا فهو من بلاد الهند وفي إحدى مدنها، التي كانت تعيش الإسلام في حياتها، ويتعالى في آفاقها صدى الأذان، ونداءات الإيمان، في تلك المدينة كان الناس يعيشون حياة هانئة في ظل الإسلام، ولكن عندما دخلها الإنكليز تحت خدعة وحيلة الشركات التجارية، حوّلوا الهند بعد عدة سنوات إلى بلاد مستعمرة بأيديهم - أي غزوها اقتصادياً - وحينما دخل الإنكليز كان في الهند شخص اسمه السلطان (تيبو)(2) فقام تيبو هذا بجمع الأعوان وتكوين جيش، وقاوم الاستعمار الإنكليزي، لكنه لم يكن يملك العدد الكافي من المقاتلين في حين كان الإنكليز يمتلكون كل القدرات الحربية. وكانت النتيجة أن تغلّب الإنكليز على (تيبو) وقتلوا جميع أعوانه وأنصاره، ثم أعطوا أمراً يقضي بقتل

ص: 295


1- كامل الزيارات: 101.
2- لقد قام سفير الهند في العراق بزيارة الإمام الراحل(رحمه اللّه) في مدينة كربلاء المقدسة، وتحدّث السفير عن السلطان تيبو، وقال: إنه قام بتلك المواجهة، لأنه كان علوياً، كما أن اسمه علي، وزوجته فاطمة.

نسائهم وأطفالهم وعرّضوا المدينة لمجزرة بشعة، وبقيت جثث القتلى مدة طويلة على الأرض حتى صارت طعمة للحيوانات الجائعة.

بعد ذلك وعندما أثبت الاستعمار الإنكليزي سيطرته على الهند، كان مما أصدروا قانوناً منعوا بموجبه إقامة محافل القرآن، ومجالس التعزية، بينما كان الهنود يهتمون بهذين الأمرين، ويقيمون مراسم العزاء والشعائر الحسينية بشكل جيد، وأكثر من هذا فقد أصدروا قانوناً مفاده: أن أي إنسان يقوم بعقد هذه المجالس، فإنه يُحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات.

وبعد مدة من صدور هذين القانونين، ظهر رجل متدين ومخلص، وكان من علماء الدين، وقال: حتى لو قررت الدولة حبسي فإنني عازم على تعليم الأطفال القرآن، وكان يقول لكثير من الآباء: أرسلوا أولادكم لكي يتعلموا القرآن، ونتيجة بطش السلطة خاف الناس من إرسال أولادهم إليه حيث لم يأته إلى المسجد في البداية غير طفل يتيم واحد، إلّا أن الرجل لم ييأس ولم يهن بل كان مصمماً على عمله، فاستمر في تدريس اليتيم مدة من الزمن حتى أخذ الطلاب يزدادون يوماً بعد يوم وشيئاً فشيئاً، حتى صار ذلك المسجد عامراً بالدرس والمجالس، بعد ذلك علمت الدولة بالموضوع، وأخذت الشيخ إلى السجن وضغطت عليه لكي يتعهد بعدم تدريس القرآن، إلّا أنه أظهر الثبات وعلو الهمة والاستقامة، فاستمر في تعليم القرآن، حتى بعد أن خرج من السجن.

وهكذا استمر على إقامة الدرس، حتى تكوّنت إلى جانب دروسه دروسٌ أخرى، ثم انتشرت بعد ذلك مدارس القرآن، في العديد من المساجد مرة أخرى.

يعلم من هذه القصة: أن الاستعمار وعملاءه يخافون من الثقافة الإسلامية وترويج الشعائر الإلهية، فيمنعون إقامتها في مستعمراتهم بشتى الطرق والمبررات، ولا يمكن مقابلتهم إلّا بالصمود والإصرار والتواصل حتى ولو كان

ص: 296

ذلك بمقدار قليل، فإن تحقيق الأهداف العظيمة إنما ينشأ من خطوات قصيرة، وكما في المثل: (طريق الألف ميل يبدأ بخطوة).

ومن هنا يلزم التأكيد على ضرورة إقامة المجالس الحسينية بمختلف أشكالها المعهودة، سواء كان للرجال أم النساء وحتى الأطفال، أما ما يقوله البعض بأن فلاناً يقرأ المجالس النسوية استصغاراً بشأنه، فإنه غير صحيح، وذلك لما تقدم من ذكر فائدة المجالس. فمثلاً: حين ما يقول القارئ: إن يزيد كان شارب الخمر، فإن المستمع سواء كان امرأة أو طفلاً، فإنه يفهم من هذا أن شرب الخمر شيء قبيح، وحين ما يقول: إن يزيد لم تكن لديه عفة، فإن المرأة والبنت الصبية تفهم من أن العفة شيء حسن، وهكذا بقية الصفات من هذا القبيل.

ثم إذا كان القارئ في المجالس قليل العلم، فيجب عليه أن يتعلم، ولا عيب في التعلم، بل كل العيب في الجهل، وفي إعطاء المفاهيم بصورة غير صحيحة، أما القارئ الذي يقرأ للنساء أو للأطفال فلا عيب فيه.

ورد عن أبي عبد اللّه عن أبيه(عليهما السلام) قال: «قال علي(عليه السلام) - في كلام له - : لا يستحي الجاهل إذا لم يعلم أن يتعلم»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، لا فقر أَشد من الجهل ولا مال أَعود من العقل»(2).

لذا فإن هذه المجالس تساهم بشكل مباشر في بث الوعي الديني بين الجماهير، وغرس المبادئ الصحيحة والأخلاق الحسنة، واقتلاع جذور الظالمين من البلاد الإسلامية، وتبعث اليأس في قلوب الطامعين في ثروات

ص: 297


1- بحار الأنوار 1: 176.
2- الكافي 1: 25.

البلاد الإسلامية.

مجالس التعزية على لسان قس مسيحي

نقل لي أحد مراجع الدين في مدينة قم المقدسة، قصة ظريفة؛ حيث قال: حين ما كنت أدرس في النجف الأشرف، سافرت مرة إلى بغداد مع بعض الطلبة، حيث عرضت لنا حاجة، وهناك سمعنا أن أحد القساوسة يبشّر للمسيحية، فأردنا أن نطلع على نشاطهم في بلادنا فذهبنا إلى المجلس الذي فيه ذلك القس.

وبعد انتهاء المجلس، وانصراف الناس، توجّه إلينا، وقال: من أنتم؟

فقلت له: نحن من أهل هذا البلد.

فقال: لا أعني هذا، بل إني أرى عليكم صفة أهل العلم، ولا أرى أنكم أتيتم إلى هنا لكي تستفيدوا.

فقلت له: إننا من طلبة العلوم الدينية، وندرس في النجف الأشرف.

فقال: نعم لقد أدركت هذا.

ثم قال ذلك المسيحي: سأقول لك حقيقة قد لا يقولها لك إنسان غيري، وهذه الحقيقة هي أن نبيكم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إنساناً عالماً واعياً فاهماً، ولا يدانيه أحد في ذلك، وقد ترك لكم أشياء لم يتركها أي نبي من الأنبياء لأمته من بعده، ولو كان عندنا واحدة من هذه الأشياء، لجعلنا العالم كله مسيحياً وهي كالتالي:

أولها: هو القرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة.

وثانيها: ذرية نبيكم الذين يطلق عليهم الآن (السادة)، الذين يوحون للناس بوجود الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وثالثها: مراقد الأئمة^ وأولادهم، فهي كالقطب، تستقطب الناس حولها دوماً، وهي مصدر روحي لهم، وهي مدرسة تذكر الناس بسيرتهم وشريعتهم.

ورابعها: مجالس العزاء التي تقام من أجلهم، فهي أفضل مراكز روحية تشد

ص: 298

الناس نحو الإسلام، وكما ترى فإنني هيأتُ هذه الكميات الكبيرة من الفواكه والحلويات، ولكن لم يأت إلى هذا المجلس إلّا العدد القليل من الناس، في حين أنكم بمجرد أن تضعوا راية على باب الدار، وتكتبون عليها (يا حسين) ولا تعطون غير الشاي، ومع هذا فإن جمعاً غفيراً من الناس يجتمع حولكم للاستماع إليكم.

وخامسها: علماؤكم فإنهم حصون الناس من الفتن.

نعم، إن مجالس العزاء تحظى بأهمية خاصة، وكذلك إقامة المراسيم، وإحياء الاحتفالات بمناسبة ولادات الأئمة الأطهار^.

فإن لهذه المجالس فوائد عظيمة جداً، حيث يطرح من خلالها رأي الإسلام تجاه كل شيء في الحياة، لا سيما مسألة الحكم والحكومة، ورئيس الدولة ومواصفاته، وكيفية سيرته، وغير ذلك من المواصفات التي ذكرها الإسلام بدقة، وتراها في سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين^ بشكل واضح.

وعندما تطرح هذه المسائل، من خلال هذه المجالس فإنها لا تتناسب مع رغبات حكّام الجور، وعندما تذكر صفات الأئمة^ وشجاعتهم وتضحياتهم من أجل الإسلام والمسلمين، وأمر الناس بالتحلي والتأسي بهم، والتوكل والاعتماد على اللّه عزّ وجلّ وعدم الخوف من أي أحد دونه، فهذه المواضيع كلها لاتتلاءم مع سياسة الطغاة، الذين يحاولون إبعاد الناس عن الإسلام، وإبعادهم عن حضارتهم، وتضعيف إيمانهم، والعمل على زرع مفاهيم ملحدة فيهم، بدل المفاهيم الإسلامية؛ مثل: الصدق والأمانة والإخلاص والمسؤولية، والجهاد والتضحية، وقول كلمة الحق، فيعمل هؤلاء الحكام على نشر مفاهيم الفساد وزرع الفتن وإبعاد الناس عن الأخوة الإسلامية بالتركيز على القومية وما أشبه من المفاهيم الخاطئة الباطلة، للتغطية على المفاهيم الصحيحة.

ومن هنا، كان الحكام الجائرون في حروب مستمرة مع مجالس العزاء

ص: 299

والشعائر الدينية، لا سيما مجالس أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام).

والكل يعلم ما للمنبر الحسيني من دور واضح، في توعية الأمة وبث الروح فيها، واستنهاض هممها وتعبئتها بالأفكار الإسلامية، ودعوة الناس إلى الخير والفضيلة، والتعاون والمحبة والتناصر والتأسي بالإمام الحسين(عليه السلام).

فاللازم على كافة المؤمنين الاهتمام بالشعائر الدينية والمجالس الحسينية، كما ينبغي أن تقام المجالس الأسبوعية في كل بيت ومسجد وحسينية وما أشبه، فإن هذه المجالس توجب الرحمة والبركة ونشر الوعي الديني بين الأمة.

من هدي القرآن الحكيم

حياة المؤمن

قال تعالى: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتُ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}(1).

وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّئَِّاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ}(3).

وقال تبارك وتعالى: {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(4).

دور المجالس في إنهاض الأمة

قال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ

ص: 300


1- سورة البقرة، الآية: 154.
2- سورة الجاثية، الآية: 21.
3- سورة الأنفال، الآية: 42.
4- سورة يس، الآية: 70.

الْقُلُوبُ}(1).

وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}(2).

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(4).

الاستعداد الدائم للدفاع عن الإسلام

قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}(5).

وقال سبحانه: {وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَٰعُواْ}(7).

الدعوة لنشر الدين الإسلامي

قال عزّ وجلّ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ}(8).

ص: 301


1- سورة الرعد، الآية: 28.
2- سورة ق، الآية: 45.
3- سورة الأعراف، الآية: 201.
4- سورة القصص، الآية: 43.
5- سورة الأنفال، الآية: 60.
6- سورة الأنفال، الآية: 39.
7- سورة البقرة، الآية: 217.
8- سورة الروم، الآية: 43.

وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَالْمُسْلِمِينَ}(1).

وقال تعالى: {فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

إحياء الشعائر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا...»(4).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «تجلسون وتحدثون؟»

قال قلت: نعم.

قال قال: «تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، يا فضيل فرحم اللّه من أحيا أمرنا. يا فضيل، مَن ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(5).

وعن معتب مولى أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سمعته يقول لداود بن سرحان: «يا داود، أبلغ موالي عني السلام، وإني أقول رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا، فإن ثالثهما ملكٌ يستغفر لهما وما اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإن في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءً لأمرنا وخير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا

ص: 302


1- سورة فصلت، الآية: 33.
2- سورة الشورى، الآية: 15.
3- سورة غافر، الآية: 14.
4- الكافي 2: 236.
5- مصادقة الإخوان: 32.

إلى ذكرنا»(1).

وعن أم المؤمنين أم سلمة (رضي اللّه عنها) أنها قالت: سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «ما قومٌ اجتمعوا يذكرون فضل علي بن أبي طالب(عليه السلام) إلّا هبطت عليهم ملائكة السماء حتى تحف بهم، فإذا تفرقوا عرجت الملائكة إلى السماء فيقول لهم الملائكة: إنا نشم من رائحتكم ما لا نشمه من الملائكة، فلم نر رائحة أطيب منها؟ فيقولون: كنا عند قوم يذكرون محمداً وأهل بيته^ فعلق فينا من ريحهم فتعطرنا، فيقولون: اهبطوا بنا إليهم، فيقولون: تفرقوا ومضى كل واحد منهم إلى منزله، فيقولون: اهبطوا بنا حتى نتعطر بذلك المكان»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ما قال فينا مؤمن شعراً يمدحنا به إلّا بنى اللّه تعالى له مدينة في الجنة أوسع من الدنيا سبع مرات، يزوره فيها كل ملك مقرب، وكل نبي مرسل»(3).

وقال أيضاً(عليه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(4).

دور المجالس في إنهاض الأمة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «مجلس الحكمة غرس الفضلاء»(5).

ص: 303


1- بشارة المصطفى: 110.
2- بحار الأنوار 38: 199.
3- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 7.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 73.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 704.

وقال(عليه السلام): «مجالس العلم غنيمة»(1).

وقال(عليه السلام): «أيها الناس، إنه من استنصح اللّه وفّق، ومن اتخذ قوله دليلاً هُدِيَ للتي هي أقوم»(2).

وقال(عليه السلام): «ما جالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، أو نقصان في عمى»(3).

نفي البدع

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم، يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فانه شافع مشفع - إلى قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وهو أوضح دليل إلى خير سبيل...»(7).

ص: 304


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 705.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 147 من خطبة له(عليه السلام).
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 698.
4- الكافي 1: 54.
5- الكافي 2: 375.
6- الطرائف 2: 456.
7- عدة الداعي: 286.

الدعوة لنشر الدين الإسلامي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أدى إلى أمتي حديثاً واحداً يقيم به سُنّة ويرد به بدعة فله الجنة»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تعلم حديثين اثنين ينفع بهما نفسه، أو يعلمهما غيره فينتفع بهما كان خيراً من عبادة ستين سنة»(2).

عن الإمام الصادق(عليه السلام): «خطب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم منى فقال: نضّر اللّه عبداً(3). سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها - إلى أن قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ثلاثة لا يغل عليهن قلب عبد مسلم: إخلاص العمل للّه، والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم...»(4).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما نصر اللّه هذه الأمة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم وصلاتهم»(5).

ص: 305


1- جامع الأخبار: 181.
2- منية المريد: 372.
3- أي: نعّمه.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 186.
5- المحجة البيضاء 8: 125.

إحياء معالم الإسلام

بين الرسول والنبي

اشارة

قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى تطرق إلى موضوع الرسالة وصفاتها في القرآن المجيد، وعبّر عن شخصية المرسَل بتعبيرين مختلفين، هما: الرسول بقوله: {أَرْسَلْنَٰكَ} والنبي في خطابه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ}، فمعنى الرسول حامل الرسالة، ومعنى النبي حامل النبأ، فللرسول شرف الوساطة بين اللّه سبحانه وبين خلقه، وللنبي شرف العلم باللّه وصفاته، وبما عنده من أحكام وتعاليم للبشرية والإخبار بها.

وقيل: إن الفرق بين النبي والرسول بالعموم والخصوص المطلق، فالرسول هو الذي يبعث فيؤمر بالتبليغ فيحمل الرسالة، والنبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر، فالرسول أخص من النبي مطلقاً؛ لأن النبي له مصداقان أحدهما الرسول فيما إذا أمر بالتبليغ، والآخر إذا بعث ولم يؤمر بالتبليغ فهو نبي فحسب وليس برسول.

ص: 306


1- سورة الأحزاب، الآية: 45-46.

وهناك اعتبارات أخرى تتناسب مع بعض استعمالات اللغة العربية، قالتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(1). والآية هنا في مقام المدح والتعظيم، وقد لايتناسب في هذا المقام التدرج من الخاص إلى العام؛ فربما كان النبي هنا بمعنى آخر، كالذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم، من أصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية اللّه من هداية الناس إلى سعادتهم، والرسول(عليه السلام) هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام الحجة لمن بعث إليهم، كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ}(2)، ولازمه أن للرسول شرف الوساطة بين اللّه تعالى وبين عباده، وللنبي شرف إخبار الناس بالأحكام الشرعية.

ويستفاد من بعض الروايات: إن الرسول هو الذي يظهر له المَلَك، أو المبعوث من اللّه تعالى كجبرائيل(عليه السلام) مثلاً ويحدثه، أما النبي فهو الذي يرى في منامه، وفي رواية عن زرارة قال:

سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(3) ما الرسول، وما النبي؟

قال: «النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين المَلَك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين المَلَك».

قلت: الإمام ما منزلته؟

قال: «يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين المَلَك» ثم تلا هذه الآية: «{وَمَا

ص: 307


1- سورة مريم، الآية: 51.
2- سورة النساء، الآية: 165.
3- سورة مريم، الآية: 51.

أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ}(1) ولا محدّث»(2).

وقيل في معنى النبي: النبي هو الإنسان المخبر عن اللّه بغير واسطة بشر، أعم من أن يكون له شريعة كمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو ليس له شريعة كيحيى(عليه السلام). وقيل: سمي نبياً لأنه أنبأ من اللّه تعالى، أي: أخبر. وقيل: هو من النبوة والنباوة لما ارتفع من الأرض، والمعنى: أنه ارتفع وشرف على سائر الخلق، وقيل غير ذلك. وفرق بينه وبين الرسول: أن الرسول هو المخبر عن اللّه بغير واسطة أحد من البشر، وله شريعة مبتدأة كآدم(عليه السلام) أو ناسخة كمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وبأن النبي هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت، ولا يعاين المَلَك، والرسول هو الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين، وبأن الرسول قد يكون من الملائكة بخلاف النبي. وجمع النبي أنبياء، وهم - على ما ورد في بعض الأحاديث - مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر.

وقد سئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكان آدم نبيا؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«نعم، كلمه اللّه وخلقه بيده».

وأربعة من الأنبياء عرب، وعد منهم هود وصالح وشعيب ورسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(3).

وفي حديث الإمام الصادق(عليه السلام): «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات: فنبي منبأ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد وعليه إمام، مثل ما كان إبراهيم(عليه السلام) على لوط(عليه السلام)، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك، وقد أرسل إلى طائفة قلوا أو

ص: 308


1- سورة الحج، الآية: 52.
2- الكافي 1: 176.
3- انظر: تفسير نور الثقلين 5: 562.

كثروا،كيونس(عليه السلام) قال اللّه ليونس: {وَأَرْسَلْنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}(1) قال: يزيدون ثلاثين ألفاً وعليه إمام، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة، وهو إمام مثل أولي العزم، وقد كان إبراهيم نبياً وليس بإمام حتى قال اللّه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي}(2)؟ فقال اللّه: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(3)، من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماما»(4) انتهى.

وقد جمع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين النبوة والرسالة، فقد كان نبياً ورسولاً إلى الأمم. ومن الأنبياء من نبأ ولم يبعث إلى أمة أو قرية كالنبي إسماعيل(عليه السلام).

وهناك رسول بالمعنى الأعم لا يكون نبياً بالمعنى الأخص كجبرائيل(عليه السلام) حيث كان رسولاً من قبل اللّه لإبلاغ الوحي ولم يكن نبياً، وعلى هذا يكون الفرق بين النبي والرسول بنسبة العموم والخصوص من وجه - على اصطلاح المناطقة - لاشتراكهما في خاتم الأنبياء(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وافتراقهما في النبي إسماعيل(عليه السلام) وجبرائيل(عليه السلام).

ثم إن القرآن الكريم صرح بأن الأنبياء كثيرون وإن لم يذكر قصص الجميع، فإن الذي قصهم اللّه تعالى في كتابه بالاسم يبلغون بضعة وعشرين نبياً. وقد جاء في الروايات تفصيل أكثر لأخبار الأنبياء^ وكلها دروس وعبر(5).

ص: 309


1- سورة الصافات، الآية: 147.
2- سورة البقرة، الآية: 124.
3- سورة البقرة، الآية: 124.
4- الكافي 1: 173، وراجع مجمع البحرين 1: 404 مادة (نبأ).
5- انظر: (قصص الأنبياء^) للسيد نعمة اللّه الجزائري(رحمه اللّه) و(قصص الأنبياء^) لقطب الدين الراوندي. وهناك مؤلفات عديدة للإمام الراحل(رحمه اللّه) أورد فيها تأريخ الأنبياء^ وأحوالهم،منها: إلماع إلى تاريخ الأنبياء^/ مخطوط، قصص الأنبياء^ في القرآن والروايات/ مخطوط، القصص الحق/ مطبوع، من سيرة الأنبياء^/ مخطوط، وغيرها.

أولوا العزم

ثم إن سادات الأنبياء هم أولوا العزم منهم، وهم: (نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد^ فقد قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «سادة النبيين والمرسلين خمسة، وهم أولو العزم من الرسل وعليهم دارت الرحى: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى اللّه عليه وآله وعلى جميع الأنبياء»(1).

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}(2) وإن معنى العزم هنا هو الثبات على العهد الأول المأخوذ منهم، وعدم التعامل معه كالناسي. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّۧنَ مِيثَٰقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا}(3).

روي عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}(4) قال: «عهد إليه في محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة من بعده فترك ولم يكن له عزم أنهم هكذا، وإنما سموا أولو العزم؛ أنه عهد إليهم في محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأوصياء من بعده^ والقائم عجل اللّه تعالی فرجه الشريف وسيرته، فأجمع عزمهم على أن ذلك كذلك، والإقرار به»(5).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «إن اللّه تبارك وتعالى حيث خلق الخلق، خلق ماء عذباً وماء مالحاً أجاجاً، فامتزج الماءان، فأخذ طيناً من أديم الأرض، فعركه عركاً شديداً، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: إلى الجنة بسلام، وقال

ص: 310


1- الكافي 1: 175.
2- سورة الأحقاف، الآية: 35.
3- سورة الأحزاب، الآية: 7.
4- سورة طه، الآية: 115.
5- تفسير القمي 2: 66.

لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنتَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ}(1)، ثم أخذ الميثاق على النبيين، فقال: ألست بربكم، وأن هذا محمدٌ رسولي، وأن هذا علي أمير المؤمنين؟

قالوا: بلى، فثبتت لهم النبوة. وأخذ الميثاق على أولي العزم: أنني ربكم، ومحمدٌ رسولي وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي، وأن المهدي أنتصر به لديني، وأظهر به دولتي، وأنتقم به من أعدائي، وأعبد به طوعاً وكرهاً؟

قالوا: أقررنا يا رب، وشهدنا. ولم يجحد آدم ولم يقر، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي، ولم يكن لآدم عزمٌ على الإقرار به؛ وهو قوله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}(2) قال: إنما هو فترك، ثم أمر ناراً فأججت، فقال لأصحاب الشمال: ادخلوها، فهابوها، وقال لأصحاب اليمين: ادخلوها، فدخلوها، فكانت عليهم برداً وسلاماً، فقال أصحاب الشمال: يا رب، أقلنا، فقال: قد أقلتكم اذهبوا، فادخلوا فهابوها، فثم ثبتت الطاعة والولاية والمعصية»(3).

من أوصاف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(4).

ص: 311


1- سورة الأعراف، الآية: 172.
2- سورة طه، الآية: 115.
3- الكافي 2: 8.
4- سورة الأحزاب، الآية: 45-46.

أرسل اللّه سبحانه وتعالى النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) داعياً إلى الحق، وزوده بالحججالكافية الوافية، مبشراً من أطاع بالجنة، ومنذراً من عصاه بعذاب أليم... وسيشهد غداً على هذا بأنه أعرض وتولى، ولذلك بأنه سمع وأطاع؛ فهو(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شاهدٌ ومبشر ونذير.

وفي نهج البلاغة لأمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «أرسله داعياً إلى الحق، وشاهداً على الخلق، فبلغ رسالات ربه، غير وانٍ ولامقصر، وجاهد في اللّه أعداءه، غير واهن ولا معذر(1)،

إمام من اتقى، وبصر من اهتدى»(2).

وسوف نتطرق إجمالاً إلى بعض مفردات هذه الآية المباركة، فإن {شَٰهِدًا} أي: شاهداً على أمتك في ما يفعلون من طاعة اللّه أو معصيته أو إيمان أو كفر؛ لتشهد لهم يوم القيامة أو عليهم، فيجازيهم اللّه عزّ وجلّ بحسب ذلك.

{وَمُبَشِّرًا} أي: مبشراً لهم بالجنة وثواب الأبد، إن أطاعوا اللّه سبحانه واجتنبوا معصيته، أي: إنك من المبشرين للذين يعملون الحسنات في الدنيا بالحسنى، كما قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}(3) والجزاء الأوفى في الآخرة، كما قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}(4).

{وَنَذِيرًا} أي: مخوّفاً من النار وعقاب الأبد لمن يرتكب المعاصي ويترك الواجبات. فالذين يعملون السيئات أنت لهم من المنذرين والمحذرين بسوء

ص: 312


1- وان: متباطئ متثاقل، واهن: ضعيف، مُعَذّر: من يعتذر ولا يثبت له عذر.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 116 من خطبة له(عليه السلام) وفيها ينصح أصحابه.
3- سورة الزلزلة، الآية: 7.
4- سورة النجم، الآية: 39-41.

العاقبة في الدنيا والآخرة، كما قال اللّه تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).

{وَدَاعِيًا} أي: وبعثناك داعياً لهم فتدعوهم. {إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} والإقرار بوحدانيته عزّ وجلّ، وامتثال ما أمرهم به والانتهاء عما نهاهم عنه، فإنك يا رسول اللّه تمتلك الوعاء الطاهر في جوفك، وهو قلبك الكبير السليم النظيف؛ لذا فأنت مؤهل لأن تكون صاحب إذن وإجازة من اللّه عزّ وجلّ لكي تدعو الناس إلى عبادته.

{وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} أي: أنت يا رسول اللّه بمنزلة السراج الذي يهتدي به الخلق، والمنير هو الذي يصدر النور من جهته، إما بفعله أو لأنه سبب له، فالقمر منير والسراج منير بالمعنى الأول، أي: ما يصدر منه النور، واللّه نور السماوات والأرض بالمعنى الثاني، أي: إنه خالق للنور وسبب لإنارتها، وفي هذه الآية المباركة يشبه اللّه سبحانه وتعالى الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمصباح المضيء الذي يضيء به قلوب الناس المظلمة، ليهتدي به التائهون إلى شاطئ السلام والأمان، ويهديها إلى سبيل الهدى والصلاح بإذن اللّه تعالى(2).

وهذا التشبيه «السراج المنير» في الاصطلاح البلاغي من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، أي: كما أن رؤية الأمور المادية تحتاج إلى الضوء والمصباح، فكذلك الأمور المعنوية تحتاج إلى من يبعث النور فيها لكي تتجلى لمن أراد أن يتبع طريق الحق والإيمان.

فالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الوقت الذي هو شاهد على أعمال الناس، هو أيضاً نور ومصباح، يشع بضوئه في قلوب المؤمنين، وما تزال أنواره دائمة باقية لا زوال لها ولا اضمحلال؛ حيث جعله اللّه سبحانه خاتماً لأنبيائه، وشريعته آخر الشرائع

ص: 313


1- سورة الزلزلة، الآية: 8.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 343، وانظر التبيان في تفسير القرآن 8: 349.

حيث قال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(1).

من معالم الإسلام

مسجد قبا

لقد ركز رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معالم الإسلام بنفسه الشريفة، لذا علينا أن نحيي تلك المعالم المقدسة ونحافظ عليها، فقد كان من سياسة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بناء المساجد، حيث أمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببناء أول مسجد في تأريخ الإسلام على بعد فرسخ من المدينة المنورة باسم مسجد قبا(2)، وذلك عند هجرة

ص: 314


1- سورة آل عمران، الآية: 85.
2- قبا: بالضم: وأصله اسم بئر هناك عرفت القرية بها وهي مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار، وهي قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة، بها أثر بنيان كثير، وهناك مسجد التقوى عامر قدامه ورصيف وفضاء حسن وآبار ومياه عذبة، قيل: كان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن نزلوا عليه من الأنصار بنوا بقباء مسجداً يصلون فيه الصلاة سنة إلى البيت المقدس، فلما هاجر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وورد قباء صلى بهم فيه، وأهل قباء يقولون: هو المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، وقيل: إنه مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأقام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما هاجر بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وركب يوم الجمعة يريد المدينة، فجمع في مسجد بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، فكانت أول جمعة جمعت في الإسلام، وقد جاء في فضائل مسجد قباء أحاديث كثيرة، وقبا أيضا: موضع بين مكة والبصرة، انظر: معجم البلدان: 4: 301. باب القاف والباء وما يليهما. وقال صاحب كتاب (مرآة الحرمين) في مسجد قباء: حتى نزل بهم - رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في بني عمرو بن عوف بقباء على كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس، وكان له مربد - الموضع الذي يبسط فيه التمر لييبس - فأخذه منه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأسسه وبناه مسجداً، وكان يعمل فيه بنفسه ولم يزل يزوره(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ويصلي فيه أهل قباء، وكان يؤمهم فيه معاذ بن جبل، ولما توفي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم تزل الصحابة تزوره وتعظمه. انظر مرآة الحرمين 1: 395-396.

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منمكة إلى المدينة حيث نزل في قبا وانتظر أمير المؤمنين علياً(عليه السلام) والفواطم (السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وفاطمة بنت أسد والدة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب) هناك ثم دخل المدينة بصحبتهم.

وقد كرم اللّه تعالى في كتابه الكريم هذا المسجد وقال: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}(1). وقد ذكر المفسرون أن المسلمين الذين شاركوا في بنائه كانوا من بني عمرو بن عوف.

ومازال هذا المسجد المبارك يفد إليه الملايين من المسلمين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي في موسم الحج وغيره لزيارته والتبرك به والصلاة فيه. وأغلب الروايات تشير إلى أن هجرة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة كانت في شهر ربيع الأول؛ إذ أنه خرج من مكة في اليوم الأول من ربيع الأول متخفياً ونام في فراشه أمير المؤمنين(عليه السلام) يفتديه بنفسه، وقد وصل(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة في الثاني عشر من ربيع الأول، وقيل: في الحادي عشر، وقيل: في الخامس من ربيع الأول، والأغلب يشير إلى الثاني عشر من ربيع الأول، وقد أقام في مسجد قبا وصلى فيه، وكان نازلاً على عمرو بن عوف ينتظر لحوق ابن عمه أمير المؤمنين ومعه الفواطم^(2).

والمقصود من قوله تعالى: {أَوَّلِ يَوْمٍ} في الآية المباركة هو ذلك اليوم الذي نزل فيه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقرب المدينة وصلى في مسجد قبا، وعلى هذا فالمسجد

ص: 315


1- سورة التوبة، الآية: 108.
2- انظر: بحار الأنوار 19: 104 وتفسير مجمع البيان 10: 10.

الذي أسس على التقوى هو مسجد قبا وربما يكون المصداق الأظهر، وبعضالمفسرين قصدوا به مسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقيل: بأن المقصود منه هو كل مسجد بني للإسلام(1).

مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

بعد أن دخل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة المنورة قام ببناء مسجد فيها أيضاً وهو المسجد الذي يطلق عليه اليوم (المسجد النبوي الشريف)، فإن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اشترى أرض المسجد وبنى هو بنفسه وأصحابه جداراً يحيط بالمسجد كله، وحول الجدار بنى غرفاً عديدة؛ لتكون محلاً لسكنه وسكن بعض أصحابه، وكان لهذه الغرف بابان باب من داخل المسجد وباب آخر يفتح على خارج المسجد، وكان مقابل كل غرفة ساحة خارج المسجد. فأغلقت جميع هذه الأبواب إلّا باب علي أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«سدوا هذه الأبواب إلّا باب علي(عليه السلام)».

فتكلم في ذلك الناس، فقام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي(عليه السلام) فقال قائلكم، وإني واللّه ما سددت شيئاً ولافتحته، ولكني أمرت بشيء فاتبعته»(2).

ولهذا المسجد الشريف منزلة كبيرة عند جميع المسلمين، والى الآن هو محط تقدير وإجلال من قبلهم، لكونه كان محل سكن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين^ وأيضا محل مهبط جبرائيل(عليه السلام)؛ لذا فإن الصلاة في مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتضاعف أجرها وثوابها عند اللّه تعالى، جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام)

ص: 316


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 2: 463 وتفسير مجمع البيان 5: 126.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 333.

عن آبائه^ قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): صلاة في مسجدي هذا تعدل عند اللّه عشرة آلاف صلاة في غيره من المساجد، إلّا المسجد الحرام؛ فإن الصلاة فيه تعدل مائة ألفصلاة»(1).

وهناك روايات عديدة في فضل مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أربعة من قصور الجنة في الدنيا: المسجد الحرام، ومسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ومسجد بيت المقدس، ومسجد الكوفة»(2).

وعن جميل بن دراج قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة، وصلاةٌ في مسجدي تعدل عشرة آلاف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام».

قال جميل: قلت له: بيوت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبيت علي منها؟

قال: «نعم، وأفضل»(3).

العتبات المقدسة

اشارة

لقد وردت روايات عديدة عن أهل البيت^ تبين المكانة السامية لمراقد ومقامات الأئمة^ وأن الأعمال تضاعف في الأجر والثواب، كما ورد أن في تربة سيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) الشفاء وتحت قبته يستجاب الدعاء وغفران الذنوب، فعن ابن عباس عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أنه أخبره بقتل الحسين(عليه السلام) - إلى أن قال: - «من زاره عارفاً بحقه كتب له ثواب ألف حجة وألف عمرة، ألا

ص: 317


1- ثواب الأعمال: 30.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 369.
3- الكافي 4: 556.

ومن زاره فكأنما زارني ومن زارني فكأنما زار اللّه، وحق الزائر على اللّه أن لا يعذبه بالنار، ألا وإن الإجابة تحت قبته، والشفاء في تربته، والأئمة من ولده»الحديث(1).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إن الحسين صاحب كربلاء قتل مظلوماً مكروباً عطشاناً لهفاناً، وحق على اللّه عزّ وجلّ، أن لايأتيه لهفان ولا مكروب ولا مذنب ولا مغموم ولا عطشان، ولا ذو عاهة، ثم دعا عنده وتقرّب بالحسين(عليه السلام) إلى اللّه عزّ وجلّ إلا نفّس اللّه كربته وأعطاه مسألته، وغفر ذنوبه ومد في عمره، وبسط في رزقه، فاعتبروا يا أولي الأبصار»(2).

وهناك روايات عديدة في هذا الباب وهذه أمور مجربة ومصداقيتها أشهر من نار على علم على مر التاريخ، ولا يسعنا المجال هنا لذكرها. وقد ذكر في كتب التاريخ والحديث، أمثال كتاب بحار الأنوار وكامل الزيارات والأمالي... فضل زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) وآدابها وأثر التوسل به إلى اللّه عزّ وجلّ(3).

ففي رواية عن الإمام الكاظم(عليه السلام) قال: «من أتى قبر الحسين بن علي(عليهما السلام) عارفاً بحقه غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»(4).

وروى قدامة بن زائدة عن أبيه قال: قال علي بن الحسين(عليهما السلام): «بلغني يا زائدة أنك تزور قبر أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) أحيانا؟».

فقلت: إن ذلك لكما بلغك.

ص: 318


1- كفاية الأثر: 16.
2- كامل الزيارات: 168.
3- انظر: بحار الأنوار 98: 1 تتمة كتاب المزار أبواب فضل زيارة سيد الشهداء(عليه السلام)، وكامل الزيارات: 111 - 298 والأمالي للشيخ الصدوق: 133 و 139 و 154.
4- كامل الزيارات: 139.

فقال لي: «فلماذا تفعل ذلك؛ ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمة من حقنا؟».فقلت: واللّه، ما أريد بذلك إلّا اللّه ورسوله، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه.

فقال: «واللّه، إن ذلك لكذلك؟».

فقلت: واللّه، إن ذلك لكذلك، يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً.

فقال: «أبشر، ثم أبشر، ثم أبشر، فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب - البحر - المخزون، فإنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا وقتل أبي(عليه السلام) وقتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب، يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يواروا، فعظم ذلك في صدري واشتد لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي(عليهما السلام) فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي؟

فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي، مصرعين بدمائهم مرملين بالعراء، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر؟!

فقالت: لا يجزعنك ما ترى؛ فواللّه إن ذلك لعهد من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ اللّه ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة، وهم معروفون في أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً وأمره إلّا علواً.

ص: 319

فقلت: وما هذا العهد، وما هذا الخبر؟

فقالت: نعم، حدثتني أم أيمن أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) زار منزل فاطمة(عليها السلام) في يوم منالأيام، فعملت له حريرة وأتاه علي(عليه السلام) بطبق فيه تمر، ثم قالت أم أيمن: فأتيتهم بعس فيه لبن وزبد، فأكل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين^ من تلك الحريرة، وشرب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشربوا من ذلك اللبن، ثم أكل وأكلوا من ذلك التمر والزبد، ثم غسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يده وعلي يصب عليه الماء، فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه، ثم نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً، ثم إنه وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا، ثم خر ساجداً وهو ينشج، فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثم رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين^ وحزنت معهم لما رأينا من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهبناه أن نسأله، حتى إذا طال ذلك، قال له علي، وقالت له فاطمة: ما يبكيك يا رسول اللّه، لاأبكى اللّه عينيك؛ فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك؟

فقال: يا أخي سررت بكم سروراً ما سررت مثله قط، وإني لأنظر إليكم وأحمد اللّه على نعمته عليَّ فيكم، إذ هبط علي جبرئيل(عليه السلام) فقال: يا محمد، إن اللّه تبارك وتعالى اطلع على ما في نفسك وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك، فأكمل لك النعمة وهنأك العطية، بأن جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة لا يفرق بينك وبينهم، يحبون كما تحب، ويعطون كما تعطي حتى ترضى وفوق الرضا، على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا، ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملتك ويزعمون أنهم من أمتك، براء من اللّه ومنك، خبطاً خبطاً وقتلاً قتلاً، شتى مصارعهم، نائية قبورهم، خيرة من اللّه لهم

ص: 320

ولك فيهم، فاحمد اللّه عزّ وجلّ على خيرته وارض بقضائه، فحمدت اللّه ورضيت بقضائه بما اختاره لكم.

ثم قال لي جبرئيل: يا محمد، إن أخاك مضطهد بعدك، مغلوب على أمتك، متعوب من أعدائك، ثم مقتول بعدك، يقتله أشر الخلق والخليقة وأشقى البرية، يكون نظير عاقر الناقة ببلد تكون إليه هجرته، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم، وإن سبطك هذا، وأومأ بيده إلى الحسين(عليه السلام)، مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك وأخيار من أمتك، بضفة الفرات بأرض يقال لها: كربلاء، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريتك، في اليوم الذي لاينقضي كربه ولا تفنى حسرته، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة، يُقتل فيها سبطك وأهله، وأنها من بطحاء الجنة، فإذا كان ذلك اليوم الذي يقتل فيه سبطك وأهله، وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة، تزعزعت الأرض من أقطارها ومادت الجبال وكثر اضطرابها واصطفقت البحار بأمواجها وماجت السماوات بأهلها؛ غضباً لك يا محمد ولذريتك، واستعظاماً لما ينتهك من حرمتك، ولشر ما تكافى به في ذريتك وعترتك، ولايبقى شيء من ذلك إلّا استأذن اللّه عزّ وجلّ في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين، الذين هم حجة اللّه على خلقه بعدك.

فيوحي اللّه إلى السماوات والأرض والجبال والبحار، ومن فيهن: إني أنا اللّه الملك القادر، الذي لا يفوته هارب ولا يعجزه ممتنع، وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام، وعزتي وجلالي، لأعذبن من وتر رسولي وصفيي، وانتهك حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم أهل بيته، عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، فعند ذلك يضج كل شيء في السماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك واستحل حرمتك، فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولى اللّه عزّ وجلّ قبض أرواحها بيده،

ص: 321

وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة، معهم آنية من الياقوت والزمرد، مملوة من ماء الحياة وحلل من حلل الجنة، وطيب من طيب الجنة، فغسلواجثثهم بذلك الماء وألبسوها الحلل، وحنطوها بذلك الطيب، وصلت الملائكة صفاً صفاً عليهم.

ثم يبعث اللّه قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نيّة، فيوارون أجسامهم، ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء(عليه السلام) بتلك البطحاء، يكون علماً لأهل الحق وسبباً للمؤمنين إلى الفوز، وتحفه ملائكة من كل سماء مائة ألف ملك في كل يوم وليلة، ويصلون عليه ويطوفون عليه، ويسبحون اللّه عنده ويستغفرون اللّه لمن زاره، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمتك، متقرباً إلى اللّه تعالى وإليك بذلك وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم، ويوسمون في وجوههم بميسم نور عرش اللّه: هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء. فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نور تغشى منه الأبصار يدل عليهم ويعرفون به. وكأني بك يا محمد بيني وبين ميكائيل وعلي أمامنا، ومعنا من ملائكة اللّه ما لا يحصى عددهم، ونحن نلتقط مَن ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق، حتى ينجيهم اللّه من هول ذلك اليوم وشدائده، وذلك حكم اللّه وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمد، أو قبر أخيك، أو قبر سبطيك، لا يريد به غير اللّه عزّ وجلّ. وسيجتهد أناس ممن حقت عليهم اللعنة من اللّه والسخط، أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره، فلا يجعل اللّه تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً.

ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): فهذا أبكاني وأحزنني.

قالت زينب: فلما ضرب ابن ملجم لعنه اللّه أبي(عليه السلام) ورأيت عليه أثر الموت منه، قلت له: يا أبة، حدثتني أم أيمن بكذا وكذا، وقد أحببت أن أسمعه منك.

ص: 322

فقال: يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد، أذلاء خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً، فوالذيفلق الحبة وبرأ النسمة، ما للّه على ظهر الأرض يومئذ ولي غيركم، وغير محبيكم وشيعتكم، ولقد قال لنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين أخبرنا بهذا الخبر: إن إبليس لعنه اللّه في ذلك اليوم يطير فرحاً، فيجول الأرض كلها بشياطينه وعفاريته، فيقول: يا معاشر الشياطين، قد أدركنا من ذرية آدم الطلبة، وبلغنا في هلاكهم الغاية، وأورثناهم النار، إلّا من اعتصم بهذه العصابة، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم، وحملهم على عداوتهم وإغرائهم بهم وأوليائهم، حتى تستحكموا ضلالة الخلق وكفرهم، ولا ينجو منهم ناج، ولقد صدق عليهم إبليس وهو كذوب، أنه لاينفع مع عداوتكم عمل صالح، ولا يضر مع محبتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر». قال زائدة: ثم قال علي بن الحسين(عليهما السلام) بعد أن حدثني بهذا الحديث: «خذه إليك ما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولاً لكان قليلاً»(1).

ثم أن ما روي في فضل مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) ينطبق أيضاً في الجملة على زيارة الإمام أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والإمام الحسن وسائر الأئمة من أبناء الإمام الحسين^، وليس هنا محل التفصيل فيها، ومن هنا يلزم أن تقدّس هذه الأماكن الطاهرة وتحترم بالاحترام اللائق والمناسب.

الوهابيون وهدم مراقد الأولياء

لكن الوهابيين(2) وبحجة توسعة مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وغيره من المساجد

ص: 323


1- كامل الزيارات: 260.
2- الوهابيون أو الوهابية فرقة تنسب إلى محمد بن عبد الوهاب بن سليمان النجدي (1111-1206ه). ظهرت في بلاد الجزيرة العربية، ومحمد بن عبد الوهاب هذا كان قد أخذ شيئاً من العلوم الدينية، وكان مولعاً بمطالعة أخبار مدّعي النبوة كمسيلمة الكذّاب وسجاح والأسود العنسي وطُليحة الأسدي، فظهر منه أيام دراسته زيغ وانحراف كبير، ممّا دعا والده وسائر مشايخه إلى تحذير الناس منه، فقالوا فيه: سيضلّ هذا، ويضلّ اللّه به من أبعده وأشقاه! أظهر دعوته إلى مذهبه سنة (1143ه)، ولكن وقوف والده ومشايخه بوجهه أبطل أقواله ومزاعمه، فلم تلق رواجاً حتّى وفاة والده سنة (1153ه) فجددّ دعوته بين البسطاء والعوام، فتابعه حثالة من الناس، ثار عليه أهل بلده وهمّوا بقتله، ففرّ إلى (العُيينة) وهناك تقرب إلى أمير العيينة وتزوج أخت الأمير، ومكث عنده يدعو إلى نفسه وإلى بدعته، فضاق أهل العيينة منه ذرعاً فطردوه من بلدتهم، فخرج إلى (الدرعّية) شرقي نجد، وهذه البلاد كانت من قبل بلاد مسيلمة الكذّاب التي انطلقت منها أحزاب الردّة. فراجت أفكاره، وكان في ذلك كّله يتصرّف وكأنّه صاحب الاجتهاد المطلق. وقيل: إن العرب سيما أهل اليمن تحدثوا بأن راعياً فقيراً اسمه سليمان رأى في منامه كأن شعلة نار خرجت منه وانتشرت في الأرض وصارت تحرق من قابلها، فقصها على معبر، فعبرها بأن ولداً له يحدث دولة قوية، فتحققت الرؤيا في حفيده محمد بن عبد الوهاب بن سليمان المذكور، فلما كبر محمد ذاع صيته في بلده؛ بسبب ترويجه لهذه الرؤيا التي لا يعلم أنها كانت أم لا، فأخبرهم أنه من ذرية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واسمه كاسمه، وأنه يدعو إلى توحيد اللّه تعالى وأن القرآن قديم يجب اتباعه دون الفروع المستنبطة، وأن محمداً رسول اللّه وحبيبه، ولكن لا ينبغي وصفه بأوصاف المدح والتعظيم؛ إذ لا يليق ذلك إلّا بالقديم، وأن ذلك من قبيل الإشراك، وأن اللّه تعالى حيث لم يرض بهذا الشرك أرسله ليهدي الناس إلى سواء السبيل، فمن أجاب أجاب وإلّا وجب قتله، فبيّن مذهبه سراً فتبعه جماعة ثم سافر إلى الشام، فلم يتبعه أحد، فرجع إلى بلاد العرب بعد أن غاب عنها ثلاث سنين، فاتبعه ابن سعود (لعل الصحيح هو سعود نفسه) وهو من مشائخ عرب نجد، وبعد أن حكم قبيلته تغلّب على قبيلتين من اليمن، وبقوة السلاح والمال تبعته بعض العرب في الجزيرة، فأخذ في الانتشار ودان به جميع عرب نجد، فرتب محمد مذهبه واظهر الاجتهاد، فكان هو الرئيس الديني للوهابية وابن سعود رئيس الحكم والحرب، وصارت ذرية كل منهما تتولى رتبة سلفها. واختاروا مدينة الدرعية قاعدة بلادهم، وتقع في الجنوب الشرقي من البصرة في البادية. فلما مات ابن سعود خلفه ابنه عبد العزيز. وكان إذا أراد محاربة قبيلة دعاها إلى اعتقاد القرآن على ما يفسره الوهابية فان قبلت وإلّا قاتلها، وكان يستصفي جميع الأموال، وإذا أطاعته القبيلة أرسل إليها حاكماً ويأخذ منها عشر المواشي والنقود والعروض بل والأنفس، فيأخذ عشر الناس بالقرعة، فجمع أموالاً عظيمة، وصار جيشه يربو على مائة وعشرين ألف مقاتل، فأخضع جميع أهل البادية التي بين البحر الأحمر وبحر فارس وحوالي بلاد حلب ودمشق. ومن أبرز معتقدات الوهابية: تحريم التوسل والاستشفاع بالأنبياء والأئمة^ والأولياء إلى اللّه تعالى، وبناء قبورهم، أو المساجد قرب مراقدهم، والتوسل بجاههم عند اللّه عزوجل في قضاء الحوائج، وتحريم مناداة غير اللّه تعالى عند الشدائد ولو كان المنادى من الأنبياء أو الأوصياء^ فإنهم يعتبرونه شركاً باللّه، وإذا سمعوا ذلك من أحد شتموه وضربوه وقالوا له: أشركت، وادّعوا تحريم شرب القهوة والتتن ونحو ذلك - ويتساهلون فيهما بعض الأحيان - . ووصف الشيخ سلمان بن عبد الوهّاب، وهو أخو محمد بن عبد الوهاب - وهو أعرف الناس به - وقد ألف كتاباً في إبطال دعوة أخيه وإثبات زيفها، وممّا جاء فيه عبارة موجزة وجامعة في التعريف بالوهّابية ومؤسّسها، قال فيها: اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنّة ويستنبط من علومهما ولا يبالي من خالفه، ومن خالفه فهو عنده كافر، هذا وهو لم يكن فيه خصلة واحدة من خصال أهل الاجتهاد، ولاواللّه ولا عُشر واحدة، ومع هذا راج كلامه على كثير من الجهّال،فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون. انظر: (تاريخ نجد) لمحمود شكري الآلوسي، (الصواعق الإلهية في الردّ على الوهّابية) للشيخ سليمان بن عبد الوهاب، (فتنة الوهّابية) لأحمد زيني دحلان، (الحصون المنيعة) للسيد محسن الأمين، (الوهابية في صورتها الحقيقية) لصائب عبد الحميد.

ص: 324

الشريفة،محوا وهدموا الكثير من معالم الإسلام والتراث النبوي الشريف وآثار أهل البيت^، خاصة في المدينة المنورة. وكذلك فعلوا ما فعلوه بأضرحة أئمتنا الأطهار^ والعديد من مراقد الصحابة الأخيار والأولياء الكرام في البقيع، حيث عمدوا إلى تدميرها وتخريبها، علماً أن أهل البيت^ هم مدرسة الإسلام الصحيحة، وفي إحياء ذكرهم إحياء لذكر الإسلام والقرآن، فإنهم^ هم الذين بنوا صرح الإسلام عزيزاً عالياً(1).

ص: 325


1- حيث هاجم الوهابيون العتبات المقدسة في الحجاز والعراق، فإنهم بعدما اخترعوا ما اخترعوا في الدين أباحوا دماء المسلمين وتخريب قبور الأئمة المعصومين^ وباقي الصحابة، فقد أغاروا على مشهد الإمام الحسين(عليه السلام) فقتلوا الرجال والأطفال وأخذوا الأموال وعاثوا في الحضرة المقدسة فساداً وحرقاً وتخريباً، فافسدوا بنيانها وهدموا أركانها، وذلك في سنة (1216ه) ثم إنهم بعد ذلك استولوا على مكة المشرفة والمدينة المنورة وفعلوا بالبقيع ما فعلوا بكربلاء المقدسة، لكنهم لم يتمكنوا من هدم قبة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وفي سنة (1221ه) أغاروا على النجف الأشرف وأهلها في غفلة لم يكونوا يعلمون بالخطر الذي دهمهم، حتى أن بعض الوهابية صعدوا السور وكادوا يأخذون البلد، فظهرت لأمير المؤمنين(عليه السلام) المعجزات الظاهرة والكرامات الباهرة فقتل من جيشهم كثير ورجعوا خائبين. وفي سنة (1222ه) جاءوا من نجد بما يقرب من عشرين ألف مقاتل أو أكثر، فهاجموا النجف الأشرف غيلة فتحذر منهم أهل المدينة وصدوا هجومهم وتحصنوا بسور البلد، فأتوا ليلاً فرأوا الناس على حذر متأهبين بالبنادق والاطواب، فمضوا إلى الحلة وكانوا كذلك، ثم مضوا إلى مشهد الإمام الحسين(عليه السلام) غفلة فحاصروها حصاراً شديداً، فثبتوا لهم خلف السور وقتلوا منهم جماعة فرجعوا خائبين، بعد أن عاثوا في العراق فساداً وقتلاً، وقد استولوا على مكة المشرفة والمدينة المنورة فهدموا وخربوا وقتلوا من يعترض طريقهم ولايتبع ملتهم وتعطل الحاج ثلاث سنين. وذكر أن في سنة (1217ه) حضرت كتب من الحجاز إلى مصر فيها أن الوهابيين حضروا إلى الطائف فخرج إليهم (الشريف غالب) شريف مكة فهزموه فرجع إلى الطائف وأحرق داره وفر هارباً إلى مكة، وكان رئيس عسكر الوهابيين عثمان المضايفي زوج أخت الشريف وكان حصل بينهما وحشة فخرج المضايفي مع الوهابيين وطلب من سعود الوهابي أن يؤمره على العسكر الموجه لمحاربة الشريف، ففعل، فحاربوا أهل الطائف ثلاثة أيام حتى دخلوا البلدة عنوة، وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال، وهذا دأبهم مع من يحاربهم، وهدم المضايفي قبة ابن عباس الغريبة الشكل والوصف. وفي سنة (1218ه) حضر هجان إلى مصر معه كتب مؤرخة في العشرين من ذي الحجة وفيها: إن الوهابية أحاطوا ببلاد الحجاز، وأن الشريف غالب طلب من والي جدة وأمراء الحاج الشامي والمصري أن يبقوا معه أياماً لينقل ماله ومتاعه إلى جدة، فأجابوه بعد أن بذل لهم مالاً، فبقوا معه اثني عشر يوماً ثم رحلوا ورحل بعد أن احرق داره. وفي تلك السنة أيضاً وردت كتب من الحجاز إلى مصر بتاريخ منتصف المحرم وفيها أن الوهابيين استولوا على مكة في يوم عاشوراء بعد ارتحال الشريف غالب وبعد ارتحال الحاج بيومين لان الحاج تأخر بمكة ثمانية أيام زيادة على المعتاد. وحضر إلى مصر الشريف عبد اللّه بن سرور مع بعض أقاربه من شرفاء مكة واتباعهم نحواً من ستين شخصاً واخبروا أنهم خرجوا من مكة مع الحاج، وأن عبد العزيز بن سعود الوهابي دخل مكة بغير قتال وأنه هدم قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والأبنية التي هي أعلى من الكعبة، وحضر مع الحجاج كثير من أهل مكة إلى مصر هربا من الوهابية. وفي سنة (1221ه) وردت أخبار إلى مصر بمسالمة الشريف غالب للوهابيين لما اشتد عليه الحصار، فأخذ العهد على دعاتهم بداخل الكعبة ومنع من شرب الاراكيل بالتنباك، وعاهده على أمور منها: ترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير اللّه من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وبناء القباب على القبور وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، وهدم القباب المبنية على القبور والأضرحة. وفي سنة (1222ه) ورد خبر إلى مصر برجوع الحاج الشامي من منزل هديه؛ لأن الوهابي أرسل إلى عبد اللّه باشا أمير الحاج أن يأتي بدون المحمل والطبل والزمر والأسلحة. وفي ثالث صفر من تلك السنة وصل الحجاج المغاربة إلى مصر، واخبروا أن سعود الوهابي دخل مكة بجيش كثيف، وانه هدم القباب وقبة آدم وقباب ينبع والمدينة وابطل شرب التنباك في الأسواق وغيرها. وقد طرد سعود الوهابي قاضي المدينة وجميع خدام الحرم المكي، وأنهم منعوا من زيارة المدينة المنورة، وأن الوهابي أخذ كل ما كان في الحجرة النبوية من الذخائر والجواهر؛ وعلل فعله بأنها لا ينبغي أن تكون للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لزهده في الدنيا، وأنه بعث ليكون نبياً لا ملكاً. وقيل: إن الوهابي ملأ أربعة صناديق من الجواهر المحلاة بالألماس والياقوت العظيمة القدر، ومن ذلك أربعة شمعدانات من الزمرد، ونحو مائة سيف لاتقوم قراباتها ملبسة بالذهب الخالص ومنزل عليها الماس وياقوت، ونصابها من الزمرد. انظر: (تاريخ نجد) لمحمود شكري الآلوسي، (الصواعق الإلهية في الردّ على الوهّابية) للشيخ سليمان بن عبد الوهاب، (فتنة الوهّابية) لأحمد زيني دحلان، وراجع مذكرات الجاسوس البريطاني (المستر همفر).

ص: 326

وقد جاء الوهابيون بأمر من الاستعمارً فأخذوا بتخريب هذه الأماكن المقدسة، وبدءوا يبحثون عن دليل يبرر لهم هدم تلك الآثار الشريفة في البقيع ومحو آثار النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت^ والصحابة، فلجئوا إلى الاستفتاء من بعض علماء المدينة المنورة حول حرمة البناء على القبور؛ محاولة منهم لتبرير موقفهم أمام الرأي العام الإسلامي - وخاصة في الحجاز - لأنهم كانوا يدركون جيداً أن المسلمين في الحجاز هم كالمسلمين في كل مكان، يعتقدون بكرامة أولياء اللّه وقدسيتهم والاهتمام بقبورهم وآثارهم، فحاول الوهابيون أن يلبسوا

ص: 327

جريمتهم هذه بلباس الإسلام والشرعية؛ دفعاً لنقمة المسلمين!!

ولكن علماء المسلمين حتى من أبناء العامة أفتوا بلزوم حفظ آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)وأهل بيته الطاهرين^ وجواز التبرك والتوسل بهم، ولكن الوهابيين استمروا في هدم الكثير من الآثار الإسلامية بما فيها المساجد وكذلك مزارات الصحابة الأخيار والعلماء الأبرار والشعراء الأتقياء، والتي يرجع تاريخها إلى مئات السنين وتعد رموزاً للحضارة الإسلامية. علماً بأن المقدسات محترمة عند جميع الناس حتى في اتفه الأشياء، وكما هو معروف بأن المسيحيين بنوا كنيسة عظيمة في المكان الذي فيه أثر لحافر حمار نبي اللّه عيسى(عليه السلام) وكل اعتقادهم بأن ذلك مبارك لانتسابه إلى عيسى(عليه السلام).

النصراني ورأس سيد الشهداء(عليه السلام)

اشارة

وقد روي عن الإمام زين العابدين(عليه السلام): «أنه لما أتي برأس الحسين(عليه السلام) إلى يزيد كان يتخذ مجالس الشراب، ويأتي برأس الحسين ويضعه بين يديه ويشرب عليه، فحضر في مجلسه ذات يوم رسول ملك الروم، وكان من أشراف الروم وعظمائهم، فقال: يا ملك العرب، هذا رأس من؟

فقال له يزيد: ما لك ولهذا الرأس؟

فقال: إني إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كل شيء رأيته، فأحببت أن أخبره بقصة هذا الرأس وصاحبه حتى يشاركك في الفرح والسرور.

فقال له يزيد: هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب^.

فقال الرومي: ومن أمه؟

فقال: فاطمة بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقال النصراني: أف لك ولدينك؛ لي دين أحسن من دينك، إن أبي من حوافد

ص: 328

داود(عليه السلام) وبيني وبينه آباء كثيرة، والنصارى يعظموني ويأخذون من تراب قدمي تبركاً بأني من حوافد داود، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما بينه وبين نبيكم إلّاأم واحدة، فأي دين دينكم؟!

ثم قال ليزيد: هل سمعت حديث كنيسة الحافر؟

فقال له: قل حتى أسمع؟

فقال: بين عمان والصين بحر مسيرة سنة، ليس فيها عمران إلّا بلدة واحدة في وسط الماء، طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين، ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها، ومنها يحمل الكافور والياقوت، أشجارهم العود والعنبر، وهي في أيدي النصارى لا ملك لأحد من الملوك فيها سواهم، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة، أعظمها كنيسة الحافر، في محرابها حقة ذهب معلقة فيها حافر، يقولون إن هذا حافر حمار كان يركبه عيسى(عليه السلام) وقد زينوا حول الحقة بالذهب والديباج، يقصدها في كل عام عالم من النصارى، ويطوفون حولها ويقبلونها ويرفعون حوائجهم إلى اللّه تعالى، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار، يزعمون أنه حافر حمار كان يركبه عيسى نبيهم، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم!! فلا بارك اللّه تعالى فيكم، ولا في دينكم.

فقال يزيد: اقتلوا هذا النصراني؛ لئلا يفضحني في بلاده.

فلما أحس النصراني بذلك قال له: تريد أن تقتلني؟

قال: نعم.

قال: اعلم أني رأيت البارحة نبيكم في المنام يقول لي: يا نصراني، أنت من أهل الجنة، فتعجبت من كلامه! وأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم وثب إلى رأس الحسين(عليه السلام) فضمه إلى صدره، وجعل يقبله ويبكي،

ص: 329

حتىقتل»(1).

أثر الرسول

كذلك جاء في القرآن الكريم حيث يبين الباري تعالى أن التراب من تحت قدم فرس جبرائيل(عليه السلام) له الكرامة، إلّا أن السامري استغل هذه الكرامة لإغواء بني إسرائيل، فأخذ قبضة من التراب الذي كان يطأه فرس جبرائيل حيث كانت تبعث الحياة في الميت: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(2).

كما إن التابوت أو الصندوق الذي وضع فيه نبي اللّه موسى(عليه السلام) وهو صغير وألقي في البحر، أصبح فيما بعد مبعثا للسكينة والاطمئنان في قلوب المؤمنين، قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ}(3).

روي عن أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن بني إسرائيل بعد موسى(عليه السلام) عملوا المعاصي وغيروا دين اللّه وعتوا عن أمر ربهم، وكان فيهم نبي يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه»(4).

وروي: أنه إرميا النبي(عليه السلام) فسلط اللّه عليهم جالوت وهو من القبط، فأذلهم وقتل رجالهم، وأخرجهم من ديارهم وأموالهم واستعبد نساءهم، ففزعوا إلى

ص: 330


1- بحار الأنوار 45: 141.
2- سورة طه، الآية: 96. وفي بحار الأنوار 13: 212. إن قوله تعالى: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} الآية، أي: علمت بما لم يعلموه، وفطنت بما لم يفطنوا به، وهو أن الرسول الذي جاءك به روحاني محض لا يمس أثره شيئاً إلّا أحياه، أو رأيت ما لم يروه وهو أن جبرئيل جاءك على فرس الحياة... .
3- سورة البقرة، الآية: 248.
4- تفسير القمي 1: 81.

نبيهم،وقالوا: سل اللّه أن يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل اللّه، وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر لم يجمع اللّه لهم النبوة والملك في بيت واحد، فمن ذلك قالوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(1) فقال لهم نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَٰتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَٰتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبْنَائِنَا}(2) وكان كما قال اللّه تبارك وتعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ}(3) ف- {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}(4).

فغضبوا من ذلك و{قَالُواْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ}(5) وكانت النبوة في ولد لاوي، والملك في ولد يوسف، وكان طالوت من ولد ابن يامين أخي يوسف لأمه لم يكن من بيت النبوة ولا من بيت المملكة، فقال لهم نبيهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(6) وكان أعظمهم جسماً وكان شجاعاً قوياً، وكان أعلمهم إلّا أنه كان فقيراً فعابوه بالفقر.

فقالوا: {لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ}(7) ف- {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحْمِلُهُ

ص: 331


1- سورة البقرة، الآية: 246.
2- سورة البقرة، الآية: 246.
3- سورة البقرة، الآية: 246.
4- سورة البقرة، الآية: 247.
5- سورة البقرة، الآية: 247.
6- سورة البقرة، الآية: 247.
7- سورة البقرة، الآية: 247.

الْمَلَٰئِكَةُ}(1) وكان التابوت الذي أنزله اللّه على موسى(عليه السلام)، فوضعته فيه أمه وألقته في اليم، فكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلما حضر موسى(عليه السلام) الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوة، وأودعه يوشع وصيه، فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام التابوت عندهم، فلما عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه اللّه عنهم، فلما سألوا النبي وبعث اللّه إليهم طالوت ملكاً يقاتل معهم رد اللّه عليهم التابوت، كما قال اللّه: {إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَٰئِكَةُ}(2) قال: البقية ذرية الأنبياء وقوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}(3) فإن التابوت كان يوضع بين يدي العدو وبين المسلمين، فتخرج منه ريح طيبة لها وجه كوجه الإنسان(4).

فهل آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين^ ومراقدهم وقبورهم والأضرحة التي بنيت كرامة لهم ليست أماكن مقدسة، إن تراب قدم فرس جبرائيل موضع كرامة من اللّه؟ فهل تراب قبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقبور أهل البيت^ الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا ليست مواضع مقدسة؟! هذا مع ما ورد من الأدلة العقلية والنقلية العديدة الدالة على قدسية مراقدهم واستحباب زيارتها والتبرك بها، واستخلاص العبر من أصحابها.

ص: 332


1- سورة البقرة، الآية: 248.
2- سورة البقرة، الآية: 248.
3- سورة البقرة، الآية: 248.
4- بحار الأنوار 13: 438.

تواطؤ الإنجليز

عندما تسلط الاستعمار على الحجاز، أصدر أمراً لآل سعود الوهابيين بهدم قبور الأئمة الطاهرين^ وسائر قبور الأصحاب والعلماء والمؤمنين والمؤمنات بما فيهم زوجات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمهات المؤمنين، فان أعداء الإسلام يعلمون أن هذه القبور الطاهرة خصوصاً قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأهل بيته الأطهار^ محل تجمع المسلمين، وباعث كبير يدعوهم إلى تذكر قادتهم الأطهار والسير على منهجهم القويم، كما يذكرهم بأمجاد المسلمين وتضحياتهم في صدر الإسلام، فإن الأعداء يعلمون أنه طالما بقيت هذه المراقد عامرة لايمكن إخضاع المسلمين بالشكل الذي يطمعون فيه؛ ولذلك عمدوا إلى الإيعاز لعملائهم بهدم تلك الأضرحة المباركة لأجل فصل المسلمين عن تراثهم وماضيهم المجيد، وخاصة تلك الآثار الموجودة في الحجاز؛ وذلك لكي يتمكنوا من تطبيق قانون (فرق - تسد) بين المسلمين بكل سهولة، حيث أخذوا يتهمون المسلمين بالكفر والزندقة.

قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

بعد أن نفذ عبد العزيز آل سعود أمر أسياده الإنجليز بهدم قبور أهل البيت^ أراد أن يهدم قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً، ولكن رأى المستعمرون أنه لو تم هدم قبر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيثور جميع المسلمين في العالم ضد مصالحهم، وهذا ما لا يحمد عقباه؛ وذلك بسبب التظاهرات والاحتجاجات الصاخبة التي اندلعت هنا وهناك في البلاد الإسلامية وبالأخص في مصر والهند، فخاف الإنجليز على مصالحهم في هذه البلدان أن تتعرض إلى الخطر. فأرسلوا السفير البريطاني لعبد العزيز لإبلاغه أمر الحكومة البريطانية بعدم هدم قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن عبد العزيز قال للسفير: نحن قلنا بأن هذه القبور

ص: 333

بدع وشرك باللّه، فكيف نبقي قبرالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وماذا نقول للناس إذا اعترضوا؟

فقال السفير البريطاني: الأمر بسيط، أعلن للناس بأنك رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المنام وقال: ليس من الصلاح أن تهدم قبري، فاتركه على حاله، ولهذا انصرفت عن هدمه!

وفعلاً قام عبد العزيز بهذا العمل؛ ولهذا ترى قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الآن باقياً دون أن يهدم، أما مراقد الأئمة الأطهار^ في البقيع وسائر قبور الأولياء والصالحين فقد هدمت ولم يبق منها إلّا الآثار البسيطة فقط(1).

ص: 334


1- تشير المصادر التاريخية إلى أن أول من دفن في تلك البقعة الطاهرة - وكانت بستاناً يحوي أشجاراً من العوسج - هو الصحابي عثمان بن مظعون حيث شارك الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه الشريفة في دفنه في ذلك البستان، ثم دفن إلى جانبه إبراهيم بن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورغب المسلمون فيها وقطعوا الأشجار ليستخدموا المكان للدفن، وقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستغفر لأهل البقيع ويقول: «اللّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد». أما أهم المدفونين في البقيع فهم: السيدة فاطمة الزهراء - على رواية - الإمام الحسن بن علي، والإمام علي بن الحسين، والإمام محمد الباقر، والإمام جعفر الصادق، وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين، وبنات النبي زينب ورقية وأم كلثوم (صلوات اللّه عليهم)، ولكثرة ما في مكة والمدينة من الآثار الدينية والشواهد التاريخية الإسلامية فقد كانتا من أكثر المدن تعرضاً لهجمات الهدم والتخريب والاعتداء على الأعتاب الشريفة من قبل الوهابية، وهذا ما أدمى قلوب المسلمين وهم يرون هذا التخريب لآثار عظيمة من تأريخهم وماضيهم المجيد خصوصاً آثار الرسول وأهل البيت^ والصحابة الأخيار. وكان عام (1220ه) تاريخ أول هدم لقبور أهل البيت^، ولكن المسلمين أعادوا بناءها على يد العثمانيين بعد سقوط دولة آل سعود الأولى. وعاود الوهابيون هجومهم على المدينة المنورة مرة أخرى في عام (1344ه) - وقيل عام (1343ه) وذلك بعد قيام دولتهم الثالثة، وأيضاً عادوا لسيرتهم بتهديم المشاهد المقدسة للائمة الأطهار وأهل البيت^ بعد تعريضها للإهانة والتحقير بفتوى من وعاظهم. ولم يكتف الوهابيون بتلك الجرائم بل حاولوا مراراً هدم قبة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلّا أنهم غيروا رأيهم؛ وذلك بسبب الخوف من حدوث ردود فعل من المسلمين في كل العالم. واصبح البقيع قاعاً صفصفاً بعد أن كان مزاراً مهيباً ومهوى لأفئدة المسلمين المحبين لأهل البيت^ أصبح مزبلة لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلاً عن أن تعرف صاحبه. وقد وصف أحد السياح الغربيين البقيع بعد الهدم فقال: تبدو مقبرة البقيع حقيرة جداً لا تليق بقدسية الشخصيات المدفونة فيها. وقد تكون أقذر واتعس من أية مقبرة موجودة في المدن الشرقية الأخرى التي تضاهي المدينة المنورة في حجمها، فهي تخلو من أي قبر مشيد تشييداً مناسباً، وتنتشر القبور فيها وهي أكوام غير منتظمة من التراب. يحد كل منها عدد من الأحجار الموضوعة فوقها، ويعزي تخريب المقبرة إلى الوهابيين. إلى أن قال: فالموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر، وحفر عريضة ومزابل! أما جبل أحد فيقول عنه:أنه وجد المسجد الذي شيد حول قبر حمزة (رضوان اللّه عليه) وغيره من شهداء أحد، مثل مصعب بن عمير وجعفر بن شماس وعبد اللّه بن جحش قد هدمه الوهابيون، وعلى مسافة وجد قبور اثني عشر صحابياً من شهداء أحد وقد خرب الوهابيون قبورهم وعبثوا بها. وكانت فاجعة هدم البقيع الثانية أعظم وأجل من الأولى؛ فقد هوجم الوهابيين من قبل الجيش العثماني إثر عملية التخريب والاعتداء على مقدسات المسلمين الأولى، وتعرضوا لهزيمة منكرة قصمت ظهورهم، فقام المسلمون بإعادة بناء تلك القباب والمساجد الشريفة وبشكل فني رائع أجمل من السابق، وعادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين، أما بعد واقعة التهديم الثانية ما زالت القبور الطاهرة مهدمة حتى الآن. وقد وصف المدينة بعد تعميرها - بعد الهدم الأول - أحد الرحالة الإنجليز فقال: بأنها تشبه استانبول أو أية مدينة أخرى من المدن الجميلة في العالم، وكان هذا في عام (1877-1878م) وذلك قبل تعرض المدينة المباركة لمحنتها الثانية. ويصف رحالة آخر البقيع والمدينة بعد جريمة الهدم الثانية فقال: لقد هدمت واختفت عن الأنظار القباب البيضاء التي كانت تدل على قبور آل البيت النبوي... وأصاب القبور الأخرى نفس المصير فسحقت وهشمت. راجع مذكرات المستر همفر الجاسوس البريطاني، وكتاب (الوهابية نقد وتحليل) لهمايون همتي وغيرها.

وظيفتنا إزاء مدينة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

يلزم على المسلمين أن يهتموا بمدينة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل اهتمام، وينبغي مراعاة الأمور التالية:

أولاً: لا بد من السعي الجاد والمثمر من أجل أن نجعل المدينة المنورة التي

ص: 335

تضم في أحضانها خير خلق اللّه عزّ وجلّ وخاتم أنبيائه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، مدينة عالمية لجميع المسلمين من دون أن يسيطر عليها الوهابيون وهم زمرة قليلة تكفّر جميع المسلمين، فإنه يلزم أن تشع المدينة المنورة بنورها إلى كل نقطة من نقاط العالم؛ لأن هناك مليار ونصف المليار من المسلمين في العالم(1)، وهم يعتقدون ويؤمنون كل الإيمان بهذا النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكل يوم يرددون اسمه الشريف على المآذن بكل إجلال واحترام.

إذن، فبأي حق تأتي جماعة يسمون أنفسهم بالوهابية لتتسلط على بلد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحكم فيها كيف ما تشاء؟! وبأي عنوان تصدر أحكاماً بين فترة وأخرى تمنع المسلمين من زيارة مكة والمدينة لأداء مناسك الحج والعمرة، أو تقلص من عددهم؟ بينما في العصور المتقدمة كان المسلمون يذهبون إلى الديار المقدسة في الحجاز متى شاؤوا، بلا منع أو حظر أو تحديد عدد، ومن دون حاجة إلى تأشيرة أو دفع ضريبة باسم (صك المطوف) أو ما أشبه؟!(2)

ثانياً: يلزم السعي لإحياء جميع الآثار الإسلامية في هذه البقعة الشريفة والتي قام الاستعمار بهدمها وخاصة آثار النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين^ وقبورهم الشريفة، وقد كان العلماء والفقهاء يهتمون وعلى مر التاريخ بحفظ وترميم هذه الآثار المقدسة، فقد توجه مجموعة من العلماء إلى المدينة وأخذوا بتثبيت وترميم سبعة وأربعين مسجداً بناها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهكذا بقية الآثار التي تركها خصوصاً مسجده الشريف وبيته وبيت الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام).

ص: 336


1- تبلغ نفوس المسلمين حسب الإحصاءات الأخيرة: ملياري نسمة.
2- روي أن عدد الحجاج بلغ ما يزيد على أربعة ملايين نسمة، وذلك في زمان الإمام زين العابدين(عليه السلام). انظر: كتاب (ليحج خمسون مليوناً كل عام) للإمام الراحل(رحمه اللّه).

وهكذا يجب علينا أن نسعى لأجل أن نعمر أيضاً قبور الشهداء في أحد وسائرالشهداء الآخرين، فإذا ما أعدنا ترميم مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهكذا محل سكناه، وأرجعنا سائر الآثار الإسلامية الأخرى إلى حالتها الأولى وترميمها بشكل يناسب مقامها فسوف نكون قد قمنا بخطوة في سبيل مهمة الدعوة إلى الإسلام؛ وذلك بصورة عملية واضحة وهادئة، قد تضمن لنا دخول الكثير من أبناء هذه المعمورة الاهتداء إلى الإسلام الحنيف.

لذا يجب علينا أن نسعى جادين للقيام بهذا الهدف السامي والنبيل لنحصل على مرضاة اللّه تعالى ورسوله والأئمة الأطهار^ فإن ذلك من تعظيم شعائر اللّه أولاً، كما قال تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(1)، ولأن في ذلك إحياءً لمعالم الإسلام وتراثه الحضاري العظيم الذي يعتبر وبحق رمزاً لعزة المسلمين ثانياً.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

دعوة الإسلام

قال تعالى: {يَٰقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٖ}(3).

ص: 337


1- سورة الحج، الآية: 32.
2- الكافي 3: 422.
3- سورة الأحقاف، الآية: 31.

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَايُحْيِيكُمْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(2).

وقال تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(3).

صفات الأنبياء والرسل^

قال جلّ وعلا: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}(4).

وقال تبارك وتعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}(5).

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَايِٕ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}(6).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(7).

ص: 338


1- سورة الأنفال، الآية: 24.
2- سورة يونس، الآية: 25.
3- سورة فصلت، الآية: 33.
4- سورة النساء، الآية: 165.
5- سورة الأعراف، الآية: 68.
6- سورة الشورى، الآية: 51.
7- سورة الأحزاب، الآية: 45-46.

بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال عزّ وجلّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(1).

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}(3).

بيوت اللّه جلّ جلاله

قال عزّ وجلّ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِۧمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَٰكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ}(5).

وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا أُوْلَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(6).

ص: 339


1- سورة التوبة، الآية: 128.
2- سورة الجمعة، الآية: 2.
3- سورة الكهف، الآية: 110.
4- سورة البقرة، الآية: 125.
5- سورة التوبة، الآية: 18.
6- سورة البقرة، الآية: 114.

من هدي السنّة المطهّرة

معالم الإسلام

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شعار المسلمين على الصراط يوم القيامة: لا إله إلا اللّهوعلى اللّه فليتوكل المتوكلون»(1).

أولوا العزم؟

قال علي بن الحسين(عليهما السلام): «من أحب أن يصافحه مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، فليزر قبر أبي عبد اللّه الحسين بن علي(عليهما السلام) في النصف من شعبان؛ فإن أرواح النبيين يستأذنون اللّه في زيارته، فيؤذن لهم، منهم خمسة أولوا العزم من الرسل» قلنا: من هم؟ قال: «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى اللّه عليهم أجمعين».

قلنا له: ما معنى أولي العزم؟

قال(عليه السلام): «بعثوا إلى شرق الأرض وغربها جنها وإنسها»(2).

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «سادة النبيين والمرسلين خمسة وهم أولوا العزم من الرسل، وعليهم دارت الرحى: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى اللّه عليه وآله وعلى جميع الأنبياء»(3).

النبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء^

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنا خاتم النبيين، وعلي خاتم الوصيين»(4).

ص: 340


1- بحار الأنوار 90: 204.
2- كامل الزيارات: 179.
3- الكافي 1: 175.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 74.

وقال أبو جعفر الباقر(عليهما السلام): «لما حضر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الوفاة نزل جبرئيل(عليه السلام) فقال له جبرئيل: يا رسول اللّه، هل لك في الرجوع؟

قال: لا؛ قد بلغت رسالات ربي.

ثم قال له: يا رسول اللّه، أ تريد الرجوع إلى الدنيا؟

قال: لا بل الرفيق الأعلى، ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للمسلمين وهم مجتمعون حوله: أيها الناس، إنه لا نبي بعدي ولا سنة بعد سنتي، فمن ادعى ذلك فدعواه وبدعته في النار، ومن ادعى ذلك فاقتلوه ومن اتبعه؛ فإنهم في النار، أيها الناس، أحيوا القصاص وأحيوا الحق ولا تفرقوا وأسلموا وسلموا تسلموا {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}»(1)(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إلى أن بعث اللّه سبحانه محمداً رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لإنجاز عدته(3)، وإتمام نبوته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة، بين مشبه للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشيرٍ إلى غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة، ثم اختار سبحانه لمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لقاءه ورضي له ما عنده، وأكرمه عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه إليه كريماً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخلف فيكم ما خلَّفت الأنبياء في أممها؛ إذ لم يتركوهم هملاً بغير طريق واضح، ولا علم قائم»(4).

ص: 341


1- سورة المجادلة، الآية: 21.
2- أمالي الشيخ المفيد: 53.
3- الضمير في «عدته» للّه تعالى، والمراد وعد اللّه بإرسال محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على لسان أنبيائه السابقين^.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر مبعث النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزَّ ذكره ختم بنبيكم النبيين فلا نبي بعده أبداً، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبداً»(1).

زيارة قبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقبور الأئمة المعصومين^

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة»(2).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام) لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبتاه، ما لمن زارك؟».

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا بني، من زارني حياً أو ميتاً، أو زار أباك، أو زار أخاك، أو زارك، كان حقاً عليّ أن أزوره يوم القيامة وأخلصه من ذنوبه»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من أتى مكة حاجاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن أتاني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة، ومن مات في أحد الحرمين مكة والمدينة لم يعرض ولم يحاسب، ومن مات مهاجراً إلى اللّه عزّ وجلّ حشر يوم القيامة مع أصحاب بدر»(4).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم»(5).

وعن يحيى بن يسار قال: حججنا فمررنا بأبي عبد اللّه(عليه السلام) فقال: «حاج بيت اللّه، وزوار قبر نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وشيعة آل محمد، هنيئاً لكم»(6).

ص: 342


1- الكافي 1: 269.
2- الكافي 4: 548.
3- الكافي 4: 548.
4- الكافي 4: 548.
5- وسائل الشيعة 4: 549.
6- الكافي 4: 549.

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فائت المنبر فامسحه بيدك، وخذ برمانتيه وهما السُفلاوان فامسح عينيك ووجهك به؛ فإنه يقال: إنه شفاء العين، وقم عنده فاحمد اللّه وأثن عليه وسل حاجتك؛ فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: ما بين منبري وبيتي روضةٌ من رياض الجنة، ومنبري على ترعة منترع الجنة، والترعة هي الباب الصغير، ثم تأتي مقام النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتصلي فيه ما بدا لك، فإذا دخلت المسجد فصل على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإذا خرجت فاصنع مثل ذلك، وأكثر من الصلاة في مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لما كان سنة إحدى و أربعين أراد معاوية الحج، فأرسل نجاراً وأرسل بالآلة وكتب إلى صاحب المدينة: أن يقلع منبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويجعلوه على قدر منبره بالشام، فلما نهضوا ليقلعوه انكسفت الشمس وزلزلت الأرض، فكفوا وكتبوا بذلك إلى معاوية»(2).

وعن أبي وهب القصري قال: دخلت المدينة، فأتيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك أتيتك ولم أزر قبر أمير المؤمنين(عليه السلام)؟

فقال: «بئس ما صنعت، لولا أنك من شيعتنا ما نظرت إليك؛ ألا تزور من يزوره اللّه تعالى مع الملائكة، ويزوره الأنبياء ويزوره المؤمنون؟!».

قلت: جعلت فداك، ماعلمت ذلك.

قال: «فاعلم، أن أمير المؤمنين(عليه السلام) عند اللّه أفضل من الأئمة كلهم، وله ثواب أعمالهم، وعلى قدر أعمالهم فُضِّلوا»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من زار أمير المؤمنين(عليه السلام) ماشياً كتب اللّه له

ص: 343


1- الكافي 4: 553.
2- الكافي 4: 554.
3- الكافي 4: 580.

بكل خطوة حجةً و عمرةً، فإن رجع ماشياً كتب اللّه له بكل خطوة حجتين وعمرتين»(1).

وعن عمر بن عبد اللّه بن طلحة النهدي عن أبيه قال: دخلت على أبي عبداللّه(عليه السلام)، فقال: «يا عبد اللّه بن طلحة، أما تزور قبر أبي الحسين(عليه السلام)؟».

قلت: بلى، إنا لنأتيه.

قال: «تأتونه كل جمعة؟».

قلت: لا.

قال: «تأتونه في كل شهر؟».

قلت: لا.

قال: «ما أجفاكم، إن زيارته تعدل حجة وعمرة، وزيارة أبي عليٍّ(عليه السلام) تعدل حجتين وعمرتين»(2).

وذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) عند جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) فقال ابن مارد لأبي عبد اللّه(عليه السلام): ما لمن زار جدك أمير المؤمنين(عليه السلام)؟

فقال: «يا ابن مارد، من زار جدي عارفاً بحقه كتب اللّه له بكل خطوة حجة مقبولة وعمرة مبرورة، واللّه يا ابن مارد، ما يطعم اللّه النار قدماً اغبرت في زيارة أمير المؤمنين(عليه السلام) ماشياً كان أو راكباً، يا ابن مارد، اكتب هذا الحديث بماء الذهب»(3).

وعن عمارة بن زيد عن أبي عامر الساجي واعظ أهل الحجاز قال: أتيت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد(عليهما السلام) فقلت له: يا ابن رسول اللّه، ما لمن زار قبره - يعني

ص: 344


1- تهذيب الأحكام 6: 20.
2- تهذيب الأحكام 6: 21.
3- تهذيب الأحكام 6: 21.

أمير المؤمنين - وعمّر تربته؟

قال: «يا أبا عامر، حدثني أبي عن أبيه عن جده الحسين بن علي عن علي^: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال له: واللّه، لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها، قلت: يا رسول اللّه، مالمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟

فقال لي: يا أبا الحسن، إن اللّه جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة وعرصةً من عرصاتها، وإن اللّه جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحن إليكم، وتحتمل المذلة والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها؛ تقرباً منهم إلى اللّه، مودةً منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنة. يا علي، من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك له ثواب سبعين حجةً بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه، فأبشر وبشر أولياءك ومحبيك، من النعيم وقرة العين بما لا عينٌ رأت ولاأذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالةً من الناس يعيِّرون زوار قبوركم بزيارتكم كما تعيَّر الزانية بزناها، أولئك شرار أمتي، لا نالتهم شفاعتي ولا يردون حوضي»(1).

وعن المفضل بن عمر الجعفي قال: دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فقلت له: إني أشتاق إلى الغري؟

فقال: «فما شوقك إليه؟».

فقلت له: إني أحب أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأحب أن أزوره.

قال: «فهل تعرف فضل زيارته؟».

ص: 345


1- تهذيب الأحكام 6: 22.

فقلت: لا يا ابن رسول اللّه، إلّا فعرفني ذلك.

قال: «إذا أردت زيارة أمير المؤمنين(عليه السلام) فاعلم أنك زائر عظام آدم، وبدن نوح، وجسم علي بن أبي طالب(عليه السلام)».

قلت: إن آدم(عليه السلام) هبط بسرنديب في مطلع الشمس، وزعموا أن عظامه في بيت اللّه الحرام، فكيف صارت عظامه بالكوفة؟

قال: «إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى نوح(عليه السلام) وهو في السفينة: أن يطوف بالبيت أسبوعاً، فطاف كما أوحى اللّه إليه، ثم نزل في الماء إلى ركبتيه فاستخرج تابوتاً فيه عظام آدم(عليه السلام)، فحمله في جوف السفينة حتى طاف بالبيت ما شاء اللّه تعالى أن يطوف، ثم ورد إلى باب الكوفة في وسط مسجدها، ففيها قال اللّه للأرض: {ابْلَعِي مَاءَكِ}(1) فبلعت ماءها من مسجد الكوفة كما بدأ الماء من مسجدها وتفرق الجمع الذي كان مع نوح في السفينة، فأخذ نوح التابوت فدفنه في الغري، وهو قطعة من الجبل الذي كلم اللّه عليه موسى تكليماً، و قدس عليه عيسى تقديساً، واتخذ عليه إبراهيم خليلاً، واتخذ عليه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حبيباً، وجعله للنبيين مسكناً، واللّه ما سكن فيه بعد آبائه الطاهرين آدم ونوح أكرم من أمير المؤمنين(عليه السلام)، فإذا زرت جانب النجف فزر عظام آدم وبدن نوح وجسم علي بن أبي طالب(عليه السلام) فإنك زائرٌ الآباء الأولين ومحمداً خاتم النبيين وعلياً سيد الوصيين، فإن زائره تفتح له أبواب السماء عند دعوته، فلا تكن عن الخير نوّاماً»(2).

وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: كنا عند الرضا(عليه السلام) والمجلس غاص

ص: 346


1- سورة هود، الآية: 44.
2- كامل الزيارات: 38.

بأهله، فتذاكروا يوم الغدير، فأنكره بعض الناس، فقال الرضا(عليه السلام): «حدثني أبي عن أبيه(عليهما السلام) قال: إن يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض، إن للّه في الفردوس الأعلى قصراً لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، فيه مائة ألف قبة من ياقوتة حمراء ومائة ألف خيمة من ياقوت أخضر ترابه المسك والعنبر، فيه أربعة أنهار: نهر منخمر، ونهر من ماء، ونهر من لبن، ونهر من عسل، وحواليه أشجار جميع الفواكه، عليه طيور أبدانها من لؤلؤ وأجنحتها من ياقوت تصوت بألوان الأصوات، إذا كان يوم الغدير ورد إلى ذلك القصر أهل السماوات، يسبحون اللّه ويقدسونه ويهللونه، فتطاير تلك الطيور، فتقع في ذلك الماء وتتمرغ على ذلك المسك والعنبر، فإذا اجتمعت الملائكة طارت، فتنفض ذلك عليهم، وإنهم في ذلك اليوم ليتهادون نثار فاطمة(عليها السلام)، فإذا كان آخر ذلك اليوم نودوا: انصرفوا إلى مراتبكم، فقد أمنتم من الخطأ والزلل إلى قابل في مثل هذا اليوم، تكرمةً لمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام).

ثم قال: «يا ابن أبي نصر، أين ما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين(عليه السلام) فإن اللّه يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنةً، ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر، والدرهم فيه بألف درهم لإخوانك العارفين، فأفضل على إخوانك في هذا اليوم، وسُرَّ فيه كل مؤمن ومؤمنة».

ثم قال: «يا أهل الكوفة، لقد أعطيتم خيراً كثيراً، وإنكم لممن امتحن اللّه قلبه للإيمان، مستقلون مقهورون ممتحنون، يصب عليكم البلاء صباً، ثم يكشفه كاشف الكرب العظيم، واللّه لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات، لولا أني أكره التطويل لذكرت من فضل هذا

ص: 347

اليوم، وما أعطى اللّه فيه من عرفه ما لا يحصى بعدد»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما بين قبري ومنبري روضة منرياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة؛ لأن قبر فاطمة(عليها السلام)(2) بين قبره ومنبره، وقبرها روضة من رياض الجنة، وإليه ترعة من ترع الجنة»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من زار الحسن في بقيعه ثبت قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ومن زار الحسين(عليه السلام) عارفاً بحقه كتب اللّه له ثواب ألف حجة مقبولة، وألف عمرة مقبولة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»(5).

عن عبد الرحمن بن مسلم قال: دخلت على الكاظم(عليه السلام) فقلت له: أيما

ص: 348


1- تهذيب الأحكام 6: 24.
2- لا يخفى أن الروايات في قبر السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) مختلفة والقبر الشريف مجهول مكانه ليبقى دليلاً على مظلوميتها(عليها السلام). وقال العلامة المجلسي (رضوان اللّه عليه): وقبر عقيل بن أبي طالب ومعه في القبر ابن أخيه عبد اللّه الجواد بن جعفر الطيار، وقريب من قبة عقيل بقعة فيها زوجات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقبر صفية بنت عبد المطلب عمة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على يسار الخارج من البقيع وفي طرف القبلة من البقعة قبر متصل بجدار البقعة عليه ضريح والعامة يعتقدون أنه قبر الزهراء(عليها السلام) وأن قبر فاطمة بنت أسد هو الواقع في زاوية المقبرة العمومية للبقيع في الطرف الشمالي من قبة عثمان وهو اشتباه؛ فإن من المحقق أن قبر فاطمة الزهراء(عليها السلام) إما في بيتها أو في الروضة النبوية على مشرفها آلاف الثناء والتحية، وأن القبر الواقع في الطرف القبلي من البقعة هو قبر فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين(عليه السلام) كما في بعض الأخبار، أن الأئمة^ الأربعة نزلوا إلى جوار جدتهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وأن القبر الواقع في المقبرة العمومية هو مشهد سعد بن معاذ الأشهلي أحد أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما ذكره في تلخيص معالم الهجرة. و ممن عين قبر فاطمة بنت أسد حيث ما ذكرنا السيد علي السمهودي في (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى) بحار الأنوار 48: 298.
3- معاني الأخبار: 267.
4- بحار الأنوار 97: 141.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 215.

أفضل، زيارة الحسين بن علي، أو أمير المؤمنين^، أو لفلان و فلان، وسميت الأئمة واحداً واحداً؟

فقال لي: «يا عبد الرحمن، من زار أولنا فقد زار آخرنا، ومن زار آخرنا فقد زار أولنا، ومن تولى أولنا فقد تولى آخرنا، ومن تولى آخرنا فقد تولنا أولنا، ومن قضى حاجة لأحد من أوليائنا فكأنما قضاها لأجمعنا. يا عبد الرحمن، أحبنا وأحب من يحبنا وأحب فينا وأحبب لنا، وتولنا وتول من يتولانا وأبغض من يبغضنا، ألا وإن الراد علينا كالراد على رسول اللّه جدنا، ومن رد على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد رد على اللّه، ألا يا عبد الرحمن، ومن أبغضنا فقد أبغض محمداً ومن أبغض محمداً فقد أبغض اللّه ومن أبغض اللّه عزّ وجلّ كان حقاً على اللّه أن يصليه النار و ما له من نصير»(1).

المساجد المشرفة

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا تدع إتيان المشاهد كلها: مسجد قباء، فإنه المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، ومشربة أم إبراهيم، ومسجد الفضيخ، وقبور الشهداء، ومسجد الأحزاب وهو مسجد الفتح - قال - وبلغنا أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا أتى قبور الشهداء قال: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، وليكن فيما تقول عند مسجد الفتح: يا صريخ المكروبين ويا مجيب دعوة المضطرين، اكشف همي وغمي وكربي كما كشفت عن نبيك همه وغمه وكربه وكفيته هول عدوه في هذا المكان»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «مسجد الكوفة صلى فيه سبعون نبياً وسبعون

ص: 349


1- كامل الزيارات: 335.
2- الكافي 4: 560.

وصياً أنا أحدهم»(1).وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن مسجد الكوفة بيت نوح(عليه السلام) لو دخله رجل مائة مرة لكتب اللّه له مائة مغفرة؛ لأن فيه دعوة نوح(عليه السلام) حيث قال: {رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا}(2)(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «بالكوفة مسجد يقال له: مسجد السهلة، لو أن عمي زيداً أتاه فصلى فيه واستجار اللّه لأجاره عشرين سنة، فيه مناخ الراكب، وبيت إدريس النبي(عليه السلام)، وما أتاه مكروب قط فصلى فيه بين العشائين ودعا اللّه إلّا فرج اللّه كربته»(4).

ص: 350


1- بحار الأنوار 11: 57.
2- سورة نوح، الآية: 28.
3- بحار الأنوار 97: 262.
4- الكافي 3: 495.

إعداد الأجيال

التربية وأدواتها

قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَئًْا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَٰرَ وَالْأَفِْٔدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(1).

يعدد الباري تبارك وتعالى في هذه الآية الشريفة جملة من نعمه عزّ وجلّ على الإنسان، فإن قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم} يعني: أيها البشر {مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ} فمن يا ترى يقدر على هذا الإخراج بالأجهزة واللوازم الطبيعية التي جعلها في داخل الرحم إلى فم المخرج {لَا تَعْلَمُونَ شَئًْا} فإن الإنسان جاهل محض عند الولادة {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَٰرَ وَالْأَفِْٔدَةَ} (السمع) يراد به الجنس، والاختلاف بين الألفاظ بالجمع والمفرد للتفنن، و(الأفئدة) جمع فؤاد وهو القلب، أي: إنه تفضل عليكم بالحواس لتستقوا بها المعلومات وبالقلب لتعوا به الأشياء، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لكي تشكروا نعمه سبحانه(2).

وهذه الآية تبين للإنسان ما أنعم اللّه عليه من آلات تحصيل العلم بعد أن لم يكن يعلم شيئا، فرزقه اللّه السمع والبصر والفؤاد ولولاها لما تمكن الإنسان من تحصيل العلم أبداً، كما هو واضح.

ص: 351


1- سورة النحل، الآية: 78.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 245.

التربية والتعليم في الإسلام

إن الأمم إذا أرادت أن تتقدم وتزدهر وتبلغ أهدافها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فلا بدّ لها أن تهتم بالأجيال القادمة، فتقوم بتربية وتنشئة جيل صحيح قوي، مهيأ لتحمل مسؤلية قيادة الأمة وتسلمها من الآباء، فعلى الوالدين وغيرهم - من المسؤولين، من العلماء والحكام - أن يوفروا لأبنائهم مناهج التربية الصحيحة، ويهيّؤوا لهم وسائل تقدمهم وبناء شخصيتهم ومستقبلهم، أما الأمم التي لا تهتم بتربية وتنشئة أجيالها فلا توفر لأبنائها مثل هذه الأجواء الصحيحة والهادفة، فليس لها إلّا أن تتخلف عن مواكبة الأمم المتقدمة.

الآية الكريمة تشير إلى أن العلم والأدب من الأمور الكسبية التي يمكن أن يحصل عليها الإنسان في حياته عن طريق السمع والبصر والفؤاد.

فإن ما يحصل عليه الإنسان من أدب وحكمة، وعلم وحلم، إنما هو عبر ما يتعلمه ويتلقاه عن طريق سمعه وبصره وفؤاده؛ وعبر التعليم والتجربة وما أشبه، فتكوين الشخصية الاجتماعية والنفسية - في الغالب - ليس إرثاً ينتقل من الآباء إلى الأبناء، وإنما هو ناشيء عن طريق التعليم والتربية، وإن كان لعامل الوراثة التأثير المهم أيضاً.

ومن هنا يعلم ضرورة التربية للفرد، كما هي ضرورية للمجتمع، إذ أن تربية الأبناء تبدأ من خلال الأسرة، وتستمر في أجواء المجمتع - في المدرسة والسوق والتجمعات الاجتماعية وما أشبه - مما يعلم أن لكل من الأسرة والمجتمع الأثر العميق على المدى القريب والبعيد في تحديد ملامح شخصية الإنسان، لأن الإنسان يستند إليها في سنه المبكر ويعتمد عليها في شبابه وكبره، مضافاً إلى ما قد تلقاه من تعليم في صغره، وما سوف يحصل عليه من تجارب وعلوم في

ص: 352

مستقبله.

الاهتمام بالتربية

إن من أبرز المسائل التي حازت على أهمية خاصة في الدين الإسلامي هي التربية الصحيحة في كل جوانبها والاهتمام بها؛ وذلك لما لها من أثر عميق في صقل النفس الإنسانية ورفع مستواها المعنوي، وانقاذها من مزالق الشيطان ومرديات الهوى، وكذلك في إصلاح المجتمع وسوقها نحو الخير والفضيلة والمحبة والإنسانية. فالنفس متى ما تقدمت ونمت بالإتجاه الصحيح، فلن يجد الشيطان سبيلاً للتسلل إليها؛ وإذا قال الإنسان المسلم: (أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم) فإن كلامه هذا إنما يفيده فائدة تامة إذا كان قد ربى نفسه من جهة على مقاومة إغواء الشيطان ومجانبة تسويل النفس ومخالفة وساوس الهوى، ومن جهة ثانية على إطاعة اللّه وإطاعة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين^.

يقول تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَٰنٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(1)، فاللّه تبارك وتعالى أمر عباده بتهذيب أنفسهم، والتوكل على ربهم، وأن يتحصنوا من كيد الشيطان بصدق النية، والتوجه الصحيح إلى اللّه تعالى، وإلى رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإلى الأئمة المعصومين^، حتى لا يجعلوا مدخلاً للشيطان إلى أنفسهم.

ولا يكون هذا إلّا بالتربية الصحيحة، من هنا إذا أردنا مجتمعاً صالحاً علينا أن نقوم بإعداد الأجيال وتربيتها تربية شرعية صحيحة.

هذا ولا يخفى، أن تأثير التربية على سلوك الإنسان يشبه إلى حد كبير توفير

ص: 353


1- سورة النحل، الآية: 99-100.

التربة الصالحة والظروف الملائمة لنمو النبات ورشده، وثمره وينعه. وعليه:فالاهتمام بالتربية، يعني: توفير مستلزمات التوجه الصحيح، وتهيئة البيئة الصالحة لنشوء الأفراد الصادقين والصالحين.

التربية وأبعادها الثلاثة

اشارة

لقد رسم القرآن الحكيم للتربية ثلاثة أبعاد:

1- البعد الفردي. 2- البعد الأُسري. 3- البعد الاجتماعي.

يعني: إنه لم يحصر وجوب التربية على تربية الفرد لنفسه وتهذيبها فقط، وإنما أوجب عليه أن يقوم أيضا بتربية أسرته، وبتربية مجتمعه بل سائر المجتمعات بحسب الإمكان، على ما ذكره الفقهاء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويمكن أن نلمس ذلك بوضوح من خلال الآيات الكريمة التالية:

البعد الأول

بالنسبة إلى البعد الأول فقد قال اللّه تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}(1) وهذه الآية الكريمة توجب على الإنسان تربية نفسه، فإن (عليك) اسم فعل بمعنى: الزم واحفظ، أي: احفظوا {أَنفُسَكُمْ} عن الضلال والانحراف.

رُوي أن ثعلبة الخشني سأل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن هذه الآية: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(2) فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر، واصبر على ما أصابك، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً،

ص: 354


1- سورة المائدة، الآية: 105.
2- سورة المائدة، الآية: 105.

وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع أمر العامة»(1).

البعد الثاني

اشارة

أما بالنسبة إلى البعد الثاني (تربية الأسرة) فقد قال اللّه سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَٰئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(2) حيث توجب هذه الآية الكريمة على الإنسان بَعد تربية نفسه أن يربي أسرته.

فإن قوله تعالى: {قُواْ} أمر للجمع المذكر، من (وقى) بمعنى: حفظ، أي احفظوا {أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} وهم عائلة الإنسان من أولاده وزوجته وإخوته ومن شابههم {نَارًا} عن نار جهنم التي هي بهذه الصفة: {وَقُودُهَا} أي حطبها الموجب لإيقادها وإشعالها {النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وهما يزيدان في قوة النار لدسومة الأول وصلابة الثاني {عَلَيْهَا} أي: المأمورون على تلك النار {مَلَٰئِكَةٌ} جمع ملك، وأصله من الألوكة، بمعنى الرسالة؛ لأن الملائكة رسل من قبله سبحانه إلى الأنبياء^ {غِلَاظٌ} جمع غليظ، وكأن المراد غليظ القلب فلا يرحم أحداً {شِدَادٌ} جمع شديد، وكأن المراد شديد البنية والقوة، فما أراد تمكن منه {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} من عذاب أهل النار، فلا يرتشون ولايميلون نحو الكفار مخالفة للّه سبحانه {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} من قبل اللّه سبحانه، وهذا تأكيد لما سبق بأنهم لا يعصون(3).

من أحكام البُعد الثاني

ثم إن تربية الأسرة لا يعني جبرهم على شيء، بل أن يقوم بالأمر بالمعروف

ص: 355


1- بحار الأنوار 97: 83.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- تفسير تقريب القرآن 5: 456.

والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، ويهيأ لهم مقدمات ومقومات الهداية والتربية الصالحة.

قال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لما نزلت هذه الآية: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} جلس رجل من المسلمين يبكي، وقال: أنا قد عجزتعن نفسي؛ كُلّفت أهلي! فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك»(1).

وعن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أيما رجل رأى في منزله شيئاً من الفجور فلم يغيّر، بعث اللّه تعالى طيراً أبيض، تظلّ عليه أربعين صباحاً، فيقول كل ما دخل وخرج: غيّره غيّره، فإن غيّر، وإلّا مسح رأسه بجناحه على عينيه، وإن رأى حسناً لم يره حسناً، وإن رأى قبيحاً لم ينكره»(2).

وعن أبي بصير في قول اللّه عزّ وجلّ: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قال: قلت - للإمام الصادق(عليه السلام) - : كيف أقيهم؟

قال: «تأمرهم بما أمر اللّه، وتنهاهم عما نهاهم اللّه، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك»(3).

وسُئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} كيف نقيهن؟ قال: «تأمرونهن وتنهونهن» قيل له: إنا نأمرهن وننهاهن، فلا يقبلن؟ قال: «إذا أمرتموهن ونهيتموهن فقد قضيتم ما عليكم»(4).

وعنه(عليه السلام) قال: «لا يزال العبد المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح،

ص: 356


1- الكافي 5: 62.
2- النوادر للراوندي: 47.
3- الكافي 5: 62.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 442.

حتى يدخلهم الجنة جميعاً، حتى لا يفقد فيها منهم صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً، ولا يزال العبد العاصي يورث أهل بيته الأدب السيء حتى يدخلهم النار جميعاً، حتى لايفقد فيها من أهل بيته صغيراً ولا كبيراً، ولا خادماً ولاجاراً»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لما نزلت: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قال الناس: كيف نقي أنفسنا وأهلينا؟ قال: اعملوا الخير، وذكّروا به أهليكم، وأدّبوهم على طاعة اللّه». ثم قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه تعالى يقول لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوٰةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}(2) وقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ إِسْمَٰعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}»(3)(4).

البعد الثالث

قال اللّه عزّ وجلّ بالنسبة إلى البعد الثالث وهو تربية المجتمع:

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(5).

حيث توجب هذه الآية الكريمة على الإنسان مسؤولية هداية الآخرين وتربية المجتمع تربية صالحة.

فإن اللّه تبارك وتعالى بما أنعم على المسلمين من نعمة الهداية إلى الإسلام

ص: 357


1- دعائم الإسلام 1: 82.
2- سورة طه، الآية: 132.
3- سورة مريم، الآية: 54-55.
4- البرهان في تفسير القرآن 3: 741.
5- سورة آل عمران، الآية: 104.

وشرّفهم بالإيمان به، والنعمة يجب شكرها، ومن شكر هذه النعمة هو الاهتمام بهداية سائر الناس إلى الإسلام والإيمان، فإن قوله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} أي: يجب أن يكون منكم جماعة {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} كل خير: من الإسلام والدين والأحكام وغيرها {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} والمعروف كل فعلاستحسنه الشرع أو العقل سواء وصل إلى حد الوجوب أم إلى حد الندب، وإنما سمي معروفاً لأن الناس يعرفونه {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وهو بعكس المعروف، كل ما استقبحه الشرع أو العقل، وسمي منكراً لأن الناس ينكرونه {وَأُوْلَٰئِكَ} الذين يتصفون بهذه الصفات الثلاث {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: الفائزون الناجون(1).

فإذا أراد الفرد النجاح، وكذلك إذا أرادت الأمة الفوز، فعليه وعليها بإعداد الأجيال وتربيتها تربية صالحة.

واجبات في التربية

تحصل مما سبق أنه تتعلق بالإنسان في مجال التربية ثلاثة واجبات وهي عبارة عمّا يلي:

أولاً: تربيته لنفسه وتهذيبها من رذائل الأخلاق وتحليتها بالفضائل والمحاسن.

ثانياً: تربيته لأسرته وتوفير الأجواء الصالحة والمناخ المناسب داخل العائلة، ليكون نشاط أفرادها وفق الموازين الإسلامية.

ثالثاً: مسؤوليته التربوية تجاه مجتمعه، وما يصاحب ذلك من إشاعة الفضائل وتهيئة الأجواء الإسلامية، حتى يمكن للجميع الارتقاء بأنفسهم إلى سماء المكارم، ويتسنّى لهم الوصول إلى مستوى السعادة المنشودة والكمال

ص: 358


1- تفسير تقريب القرآن 1: 376.

المطلوب، ويتجنبوا من الرذائل والموبقات.

هذا ولا يخفى، أن حدوث أي خلل أو نقص في أيٍ من هذه الأبعاد التربوية الثلاثة، موجب لتعثر المسيرة الأخلاقية في المجتمع، وهبوط المستوى الأخلاقي فيه، وعندئذ علينا أن نتوقع عواقب سيئة ونتائج وخيمة، ونشوء جيلغير متماسك بالقيم والأخلاق، وذلك حسب الموازين الطبيعية. حيث إن من سنن اللّه في الكون أن يحصد الإنسان ما زرعه.

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من زرع العداوة حصد ما بذر»(1).

وفي غرر الحكم عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «من زرع شيئاً حصده»(2).

وقال(عليه السلام): «من زرع خيراً حصد أجراً»(3).

وقال(عليه السلام): «من زرع الإحن حصد المحن»(4).

وقال(عليه السلام): «من زرع العدوان حصد الخسران»(5).

وقال(عليه السلام): «كما تزرع تحصد»(6).

القرآن الحكيم ومراتب التربية

اشارة

ثم إن فريضة التربية والبلاغ من النفس إلى عموم الناس - حسب الإمكان وحسب شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - تتدرج في خمس مراحل، كما ورد ذلك في آيات القرآن الحكيم، وهي:

ص: 359


1- الكافي 2: 302.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 668.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 610.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 665.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 592.
6- نهج البلاغة: الخطب الرقم 153.

1: النفس أولاً، بقوله تبارك وتعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(1).2: والأهل ثانياً، بقوله عزّ وجلّ: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(2).

3: والعشيرة ثالثاً بقوله تبارك اسمه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(3).

4: وأهل البلدة رابعاً، بقوله جلّ وعلا: {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ}(4).

5: وأهل العالم أجمع خامساً بقوله الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ}(5)، والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة، وبقوله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}(6).

التربية وعوامل التأثير

ثم إن هناك ثلاثة عوامل رئيسية لها تأثير مباشر وكبير على تربية الإنسان، وقد أشار إلى ذلك القرآن الحكيم والروايات الشريفة. والعوامل الثلاثة هي عبارة عمّا يلي:

1- الوراثة

اشارة

العامل الأول في التربية: الوراثة، قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم على لسان نبيه نوح(عليه السلام): {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَٰفِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُواْ إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}(7).

ص: 360


1- سورة المائدة، الآية: 105.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- سورة الشعراء، الآية: 214.
4- سورة التوبة، الآية: 122.
5- سورة سبأ، الآية: 28.
6- سورة آل عمران، الآية: 104.
7- سورة نوح، الآية: 26-27.

أي: {وَقَالَ نُوحٌ} في دعائه على قومه قبل أن يغرقوا، يا {رَّبِّ لَا تَذَرْ} أي: لا تدع ولا تبق سالماً {عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَٰفِرِينَ دَيَّارًا} أي: أحداً يعمر الديار، أو ينزل الدار، بل عمم عقابك على جميعهم. ثم بيّن(عليه السلام) علة هذا الدعاء بقوله: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} من نسل المؤمنين {وَلَا يَلِدُواْ} هم بأنفسهم {إِلَّافَاجِرًا} يفجر ويعصي {كَفَّارًا} كثير الكفر، يعني: أن أولادهم فاسدو العقيدة والعمل، فلا خير فيهم، وقد علم نوح(عليه السلام) ذلك من طريق الوحي(1).

فالآية الكريمة تكشف عن انتقال خصال الكفار الرذيلة، وصفاتهم الذميمة إلى أبنائهم، وذلك بحسب عامل التربية، والقرآن الكريم أشار في هذه الآية إلى العامل الوراثي قبل أن يصل إليه (مندل)(2) وغيره من علماء النفس والاجتماع،

ص: 361


1- تفسير تقريب القرآن 5: 523.
2- جريجور يوهان مندل (1822-1884م) أعتبر أبو علم الوراثة الحديث، عالم نبات وراهب نمساوي، نسب إليه اكتشاف الكثير من التجارب والقوانين الأساسية للوراثة، وأدت تجاربه في تكاثر نبات البازلاء إلى تطور علم الوراثة، وكانت تجاربه هي الأساس لعلم الوراثة الذي يشهد تقدماً في عالم اليوم. كان والداه مزارعين فقيرين، وكان مندل طالباً مجداً، وقرر أن يصبح مدرساً. دخل مندل دير القديس توماس في برون بالنمسا وعمره (21 عاماً)، وأصبح قسيساً في سلك الدير عام (1847م). ثم درس العلوم والرياضيات في جامعة فيينا، وعاد إلى الدير ودرّس علم الأحياء والفيزياء في مدرسة محلية لمدة (14سنة). جاءت شهرة مندل العالمية من بحوثه الصغيرة في حديقة الدير على نباتات البازلاء وزهورها وبذورها. قام مندل بتهجين آلاف النباتات وملاحظة خاصيات كل جيل لاحق من النباتات، استنتج أن السمات المميزة تنتقل خلال عناصر وراثية في الأمشاج، وتسمى هذه العناصر اليوم الجينات، واستنتج نتيجة تجاربه، أنه إذا ورثت نبتة جينين مختلفين لسمة ما، فسيكون أحد الجينين سائداً، بينما يكون الثاني متنحِّياً. وتظهر سمة الجين السائد في النبتة. فمثلاً، إذا كان جين البذور المستديرة سائداً وجين البذور المتجعدة متنحِّياً، فإن النبتة التي ترث كلا الجينين ستكون لها بذور مستديرة. كما اعتقد أن النبتة ترث كلاّ من سماتها مستقلة عن السمات الأخرى. ويُعرف هذان الاستنتاجان بقانون الفصل وقانون الاتساق المستقل. نشرت نتائج بحوث مندل وخلاصة تجاربه في علوم الوراثة عام (1866م) إلّا أن أحدا لم يتنبه إليها في حينها إلى أن عثر العلماء على بحوثه عام (1900م) فعرفت واشتهرت في علم الوراثة.

وأكدّ على أن لعامل الوراثة دوراً في انتقال التربية والأخلاق من الآباء إلى الأبناء، وأنه أول العوامل الرئيسية الثلاثة في حقل التربية، وهذا العامل أشير إليه فيالكثير من أحاديث الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين^ أيضاً.

عامل الوراثة في الروايات

ومن هذا المنطلق، نرى أن الإسلام يوصي الشابّ الذي يريد الزواج بالتعرّف على أسرة البنت التي يريد الزواج منها، والتحقيق عن أصالتها وعراقتها، ومكانتها وأخلاقها، لئلا تكون مصابة ببعض العاهات الروحية والأمراض النفسية، فتنتقل منها إلى الأبناء، ففي الخبر: أن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قام خطيباً بين أصحابه وقال: «إياكم وخضراء الدمن»(1)، قيل: يا رسول اللّه، وما خضراء الدمن؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

ص: 362


1- قال في مجمع البحرين: الدمنة، هي المنزل الذي ينزل فيه أخيار العرب، ويحصل فيه بسبب نزولهم تغير في الأرض بسبب الأحداث الواقعة منهم ومن مواشيهم، فإذا أمطرت أنبتت نبتا حسنا شديد الخضرة والطراوة، لكنه مرعى وبي ء للإبل مضر بها، فشبه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المرأة الجميلة إذا كانت من أصل ردي ء بنبت هذه الدمنة في الضر والفساد، والنهي للتنزيه. وفلان يدمن كذا أي يديمه. والدمن كحمل: ما يتلبد من السرجين، والجمع دمن كسدرة و سدر. مجمع البحرين 6: 247 مادة (دمن). ويقال: الماء متدمن إذا سقطت فيه أبعار الإبل والغنم. والدمنة، بهاء: آثار الدار والناس. وأيضا: ما سودوا وأثروا فيه بالدمن؛ ويقال: وقعوا على دمنة الدار، وهي البقعة التي سودها أهلها وبالت فيه وبعرت ماشيتهم. ومن المجاز: الدمنة: الحقد القديم الثابت المدمن للصدر. وقيل: لا يكون الحقد دمنة حتى يأتي عليه الدهر؛ ولذا وصفوه بالقديم. وقد دمن عليه، كفرح؛ ودمنت قلوبهم: أي ضغنت. وفي الحديث: شبه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المرأة بما ينبت في الدمن من الكلأ يرى له غضارة وهو وبيء المرعى منتن الأصل؛ قال شاعر: وقد ينبت المرعى على دمن الثرى *** وتبقى حزازات النفوس كما هيا راجع تاج العروس 18: 201 مادة (دمن).

«المرأة الحسناء في منبت السوء»(1).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «توقوا على أولادكم من لبن البغية والمجنونة؛ فإن اللبنيُعدي»(2).

ويقول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «تخيروا لنطفكم، فإن العرق دسّاس»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «تزوجوا في الحجز الصالح، فإن العرق دساس»(4).

وقد أهتم الأئمة المعصومون^ من أهل بيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كجدّهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اهتماماً كبيراً في بيان ما لعامل الوراثة من أثر كبير على تنشئة الأبناء وتربيتهم، حتى روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن جده أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إياكم وتزويج الحمقاء؛ فإن صحبتها بلاء، وولدها ضياع»(5).

والإمام الصادق(عليه السلام) حينما استشاره أحد أصحابه في الزواج فقال(عليه السلام) له: «انظر أين تضع نفسك، ومن تُشركه في مالك، وتطلعه على دينك وسرّك، فإن كنت لا بدّ فاعلاً، فبكراً تُنسب إلى الخير، وإلى حسن الخلق»(6).

من شواهد تأثير الوراثة

كما روي أن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لأخيه عقيل(عليه السلام) - وكان نسابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم - : «أنظر إلى امرأة قد ولّدتها الفحولة من العرب؛ لأتزوّجها فتلد لي غلاما فارسا».

ص: 363


1- الكافي 5: 332.
2- مكارم الأخلاق: 223.
3- السرائر 2: 559.
4- مكارم الأخلاق: 197.
5- الكافي 5: 353.
6- الكافي 5: 323.

فقال له: تزوج أم البنين الكلابية، فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها. فتزوجها(عليه السلام)(1).

وهكذا نرى الإسلام يولي اهتماماً كبيراً بعامل الوراثة، ويؤكّد على تأثيره في تربية الأبناء وتنشئتهم، وذلك من أجل حماية الأسرة والمجتمع من عوامل الانحطاط الخلقي والنزعات النفسية الشريرة.

قال النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من نعمة اللّه على الرجل أن يشبهه ولده»(2).

وقال بعض أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللّه ما بالنا نجد بأولادنا ما لا يجدون بنا؟! قال: «لأنهم منكم ولستم منهم»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً

ص: 364


1- عمدة الطالب لابن عنبة: 357. وورد في هامش مقتل أبي مخنف: إن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لأخيه عقيل وكان نسابة عالماً بأخبار العرب وأنسابها: «ابغني أمرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها؛ فتلد لي غلاماً فارساً». فقال له: أين أنت عن فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية(عليها السلام)، فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس، وفي آبائها يقول لبيد للنعمان بن المنذر ملك الحيرة: نحن بنو أم البنين الأربعة *** ونحن خير عامر بن صعصعة الضاربون الهام وسط المجمعة فلا ينكر عليه أحد من العرب، ومن قومها ملاعب الأسنة أبو براء، الذي لم يعرف في العرب مثله في الشجاعة، والطفيل فارس قرزل، وابنه عمر فارس المزتوق، فتزوجها أمير المؤمنين(عليه السلام)، فولدت له وأنجبت. وأول ما ولدت العباس(عليه السلام) يلقب في زمنه: قمر بني هاشم، ويكنى أبا الفضل، وبعده عبد اللّه، وبعده جعفراً، وبعده عثمان، وعاش العباس مع أبيه أربع عشرة سنة، حضر بعض الحروب فلم يأذن له أبوه بالنزال، ومع أخيه الحسن(عليه السلام) أربعاً وعشرين سنة، ومع أخيه الحسين(عليه السلام) أربعاً وثلاثين سنة، وذلك مدة عمره، وكان(عليه السلام) أيداً شجاعاً فارساً وسيماً جسيماً، يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطان في الأرض. مقتل أبي مخنف: 175.
2- الكافي 6: 4.
3- من لا يحضرة الفقيه 3: 559.

جمع كل صورة بينه وبين آدم، ثم خلقه على صورة إحداهن، فلا يقولن أحد لولده: هذا لا يشبهني، ولا يشبه شيئاً من آبائي»(1).وقال(عليه السلام) أيضاً: «من سعادة الرجل أن يكون الولد يعرف بشبهه وخلقه وخلقه وشمائله»(2).

وعن أبي إبراهيم الكاظم(عليه السلام) قال: «إن جعفراً(عليه السلام) كان يقول: سعد من لم يمت حتى يرى خلفه من نفسه».

ثم أومأ بيده إلى ابنه علي فقال(عليه السلام): «وقد أراني اللّه خلفي من نفسي»(3).

2- الأسرة

اشارة

العامل الثاني من عوامل التربية: الأسرة، قال اللّه تبارك وتعالى في كتابه الحكيم وخطابه العظيم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى الْعَٰلَمِينَ * ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِن بَعْضٖ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٖ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}(6).

الأسرة وآية الاصطفاء

قال اللّه سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ} أي اختار لرسالته ووحيه، وجعلهم أنبياء

ص: 365


1- من لا يحضره الفقيه 3: 484.
2- مكارم الأخلاق: 222.
3- كفاية الأثر: 273.
4- سورة آل عمران، الآية: 33-34.
5- سورة الفرقان، الآية: 74.
6- سورة الطور، الآية: 21.

مرشدين {ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ} وهم الأنبياء الذين من نسله: إسماعيل واسحاق ويعقوب ويوسف وعيسى ومحمد^ {وَءَالَ عِمْرَٰنَ} موسى وهارون(عليهما السلام) {عَلَى الْعَٰلَمِينَ} وإنما خصّص بذلك هؤلاء الأنبياء، لكون آدم(عليه السلام) أبو البشر، ونوحوآل إبراهيم بما فيهم إبراهيم^ - فإنه يقال آل فلان للأعم منه ومن آله - وآل عمران الذين فيهم الأنبياء^، هم مدار الرسالات العالمية، حال كون نوح وآل إبراهيم وآل عمران^ {ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِن بَعْضٖ} في أداء الرسالة ومناصرة الدين وإرشاد الناس، فإن من خرج عن دين آبائه فهو ليس منهم، كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}(1) بخلاف من اتبع آباءه {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لما تقوله الذرية {عَلِيمٌ} بضمائرهم وأعمالهم؛ ولذا فضّلهم على من سواهم، إن هؤلاء الأنبياء كلهم، ذووا خصائص واحدة موروثة من جدهم آدم(عليه السلام) مما تؤهلهم لحمل الرسالة الواحدة التي هي الإسلام(2).

وعليه: فآية الاصطفاء الكريمة، وآيات أخرى في هذا المجال، تؤكد على أن للأسرة التأثير المباشر والكبير على تربية الإنسان، وأنه ثاني العوامل الرئيسية في حقل التربية، كما يقوله علماء النفس والاجتماع.

دعائم الأسرة

ثم إن دعائم الأسرة ثلاث: الأب، والأم، والأولاد، ولكل واحد من الأب والأم والأولاد حقوق وواجبات، ينبغي ذكر كل منها على حدة.

الأسرة وواجبات الوالدين

لا شك أن للأسرة - وخاصة الوالدين - الأثر البالغ في بناء شخصية الأبناء، وحملهم على العادات الطيبة، والتقاليد الجميلة، والقيم الرفيعة، والاتجاهات

ص: 366


1- سورة هود، الآية: 46.
2- تفسير تقريب القرآن 1: 333.

الحسنة، التي ينبغي لهم ملازمتها طوال حياتهم، وتطبيقها في سلوكهم الفردي والاجتماعي، كما أن لها - بالنتيجة - الدور الكبير في بناء المجتمع، وتشييد الحضارة الإنسانية، وإقامة العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، فالأسرة هيالتي تربّي الأبناء وتعدهم للمشاركة في الحياة؛ لذا فهي مسؤولة عن تنشئة أطفالها تنشئة سليمة متسمة بالاتزان والاستقامة، والبعد عن الإنحراف والتطرف، وهذا بحاجة إلى تمهيد ممهدّات وتقديم مقدمات، منها:

أن تهيّئ جواً من الإستقرار والود والطمأنينة، والرفق والمحبة داخل البيت، وأن تبعد عنهم مظاهر العنف والخرُق، والكراهية والبغض، وأن تدرّبهم على تحمل المشاق والصعوبات؛ لأن ذلك له دور كبير في تكوينهم تكويناً سليماً بعيداً عن الأمراض الروحية، والعُقد النفسية، التي قد تسبب لهم الكثير من المشاكل في حياتهم المستقبلية، فمتى ما قام الأبوان بواجبهما تجاه أبنائهم، وأدّت الأسرة وظيفتها أمام أبنائها، وذلك من خلال التعامل معهم بحسن ولين، ورفق ومحبة، واحترام وإكرام، وتوقير وتبجيل، كان الجيل الناشيء جيلاً صالحاً وسعيداً، ويكون فخراً للآباء والأسلاف وشرفاً لهم، بينما لو لم تؤدّ الأسرة وظيفتها وانشغل الآباء عن أبنائهم، ولم يهتموا بهم وبتنشئتهم، ولا بتربيتهم وتأديبهم، فسوف يكون الجيل الصاعد جيلاً لا يحمل - على الأقل - سمات الصالحين، ولا يكون مفخرة للأسلاف، وتكون النتائج سلبية وتنعكس على مستقبل الأبناء ومصيرهم.

اليتيم: يتيم الأدب والعلم

يقول أحد الشعراء:

وإذا النساء نشأن في أمِّية *** رضع الرجال جهالة وخمولاً

ليس اليتيم من انتهى أبواه من *** همّ الحياة وخلفاه ذليلاً

فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما *** وبحسن تربية الزمان بديلاً

ص: 367

إن اليتيم هو الذي تلقى له *** أماً تخلت أو أباً مشغولاً(1)

الجمال: جمال العلم والأدبونقل عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله:

ليس البلية في أيامنا عجباً *** بل السلامة فيها أعجب العجب

ليس الجمال بأثواب تزينها *** إن الجمال جمال العلم والأدب

ليس اليتيم الذي قد مات والده *** إن اليتيم يتيم العقل والحسب(2)

إيجاز عامل الأسرة

والخلاصة: إنه ينبغي للأسرة المؤمنة وخاصة الوالدين جميعاً، أن يخصصوا جزءً من وقتهم لأبنائهم، وأن يتفقوا على برنامج معين للتربية الصالحة، وأن تكون معايير السلوك لكل من الأم والأب بالنسبة للأطفال منسقة، فلا يصح أن يرى الأب - مثلاً - أسلوباً خاصاً من التعامل مع ابنه، أو تصرفاً معيناً لابنه غير مقبول، وترى الأم بأن هذا السلوك والأسلوب هو عين الصحة!

كما أنه ينبغي للوالدين جميعاً أن يعلموا، أن الأبناء بحاجة إلى رعاية مستمرة من الوالدين لهم، وأن تكون تصرّفاتهم أمام أبنائهم منتظمة ومتوازنة، لتكون نموذجاً للإقتداء بها، فالأب - مثلاً - عندما يكون في تعامله متصلباً وفي أسلوبه خشناً مع ولده ولا يُظهر حبّه له وشفقته عليه، فإنه يدفع ابنه بطريق غير مباشر للارتماء في أحضان أمه والنفور من الأب، وبالتالي إلى التأثر بها وتقليد أساليبها النسائية. فالولد يحتاج إلى أب ذي رجولة وقوة، على أن يكون في ذات الوقت عطوفاً يحيطه بالحنان والرعاية. أما البنت الصغيرة فتحتاج إلى أن تحس بأنها أنثى، وتشعر بأن من الأفضل لها أن تكون امرأة تتمتع بالعفاف والاستقامة، لا أن

ص: 368


1- الأبيات للشاعر أحمد شوقي.
2- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 66.

تعامل معاملة الولد لتكتسب صفات الرجولة في مستقبلها، وتبتعد عن وظائفها الأنثوية.

إذن: فإن حقوق الأولاد والأبناء على الآباء والأمهات ليست محصورة في تهيئة الخبز، وتوفير الطعام، وإعداد الغداء والعشاء، وتقديم الإحتياجات المادية لهم فحسب، بل هناك لهم حقوق كبرى في ذمة الوالدين تتعلق بتربيتهم وتنشئتهم، وتهذيبهم وتأديبهم، وتوجيههم الوجهة الصالحة، وتعويدهم على الخير والإحسان، والمحبة والإكرام، وعلى كل العادات الطيبة، وتحذيرهم من الشر والعدوان، والبغض والاستهزاء، ومن كل العادات السيئة.

الأسرة في الحديث الشريف

لقد جاء في رسالة الحقوق للإمام السجاد علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام) في حقوق الأولاد على الوالدين ما هو في منتهى الدقة والروعة، حيث قال(عليه السلام):

«وأما حق ولدك، فتعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب، والدلالة على ربّه، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه ولا قوة إلّا باللّه»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) عن آبائه^ قال: «في وصية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام) قال: يا علي، حق الولد على والده، أن يحسّن اسمه وأدبه، ويضعه موضعاً صالحاً. وحق الوالد على ولده، أن لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس أمامه، ولا يدخل معه الحمام... . يا علي، لعن اللّه والدين حملا ولدهما

ص: 369


1- تحف العقول: ص263 ما روي عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) في طوال هذه المعاني.

على عقوقهما. يا علي، يلزم الوالدين من عقوق ولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما. يا علي، رحماللّه والدين حملا ولدهما على برّهما. يا علي من أحزن والديه فقد عقّهما»(1).

وعن يونس بن رباط عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رحم اللّه من أعان ولده على برّه»، قال: قلت: كيف يعينه على برّه؟ قال: «يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه ولا يخرق به، فليس بينه وبين أن يصير في حد من حدود الكفر إلّا أن يدخل في عقوق، أو قطيعة رحم»، ثم قال(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الجنّة طيّبة، طيّبها اللّه وطيّب ريحها، يوجد ريحها من مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريح الجنة عاق، ولا قاطع رحم، ولا مرخي إزاره خيلاء»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من حق الولد على والده ثلاثة: يحسّن اسمه، ويعلّمه الكتابة، ويزوّجه إذا بلغ»(3).

وعليه: فعلى الأسرة المؤمنة وخاصة الأب أن يعتني بأبنائه أشد العناية، ويحيطهم بالعطف والحنان، ويقتدي بسيرة الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين^ في ذلك.

الأسرة في سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

لقد كان الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثير التعلق بسبطيه الحسن والحسين(عليهما السلام) وكان يقول لفاطمة الزهراء(عليها السلام): «ادعي إلي أبنيّ»، فتأتي بهما إليه، فيشمهما ويضمها

ص: 370


1- من لا يحضره الفقيه 4: 372.
2- الكافي 6: 50. والخيلاء بالضم والكسر بمعنى التكبر أي من جر ثيابه على الأرض تكبراً.
3- روضة الواعظين 2: 369.

إليه(1).

وروي في هذا المجال: أن الأقرع بن حابس لما رأى شدة إقبال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على الحسنين(عليهما السلام) قال له: إن لي عشرة من الأولاد، ما قبّلت واحداً منهم، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ماعلي إن نزع اللّه الرحمة منك!»(2).

وجاء رجل إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: ما قبّلت صبياً قط، فلما ولّى قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هذا رجل عندي أنه من أهل النار»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحبوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم، فإنهم لا يرون إلّا إنكم ترزقونهم»(4).

ونظر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى رجل له ابنان، فقبَّل أحدهما وترك الآخر، فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فهلا واسيت بينهما»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «اعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف»(6).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «سموا أولادكم أسماء الأنبياء، وأحسن الأسماء: عبد اللّه، وعبد الرحمن»(7).

وقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «من عال ثلاث بنات، ومثلهن من الأخوات، وصبر

ص: 371


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة 1: 520.
2- مكارم الأخلاق: 220.
3- الكافي 6: 50.
4- الكافي 6: 49.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 483.
6- بحار الأنوار 101: 92.
7- مكارم الأخلاق: 220.

على إيوائهن، حتى يبنَّ(1) إلى أزواجهن، أو يمتن فيصرن إلى القبور، كنت أنا وهو فيالجنة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى. فقيل: يا رسول اللّه، واثنتين؟ قال: «واثنتين» قيل: وواحدة؟ قال: «وواحدة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قبلوا أولادكم، فإن لكم بكل قبلة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين خمسمائة عام»(3).

وعن ابن عباس قال: قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإنه من فرّح أنثى فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل(عليه السلام)، ومن أقرّ بعين ابن فكأنما بكى من خشية اللّه، ومن بكى من خشية اللّه أدخله جنات النعيم»(4).

عامل الأسرة وكيفية تطبيقه

روى عبد اللّه بن فضالة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أو أبي جعفر(عليه السلام) فقال: سمعته يقول: «إذا بلغ الغلام ثلاث سنين يقال له سبع مرات: قل: لا إله إلّا اللّه، ثم يُترك حتى يتم له ثلاث سنين وسبعة أشهر وعشرون يوماً، فيقال له: فقل: محمدٌ رسول

ص: 372


1- البَيْنُ على وجْهَين: يكون البَينُ الفُرْقةَ، ويكون الوَصْلَ، بانَ يَبِينُ بَيْناً وبَيْنُونةً، وهو من الأَضداد، والمُبايَنة: المُفارَقَة. وتَبايَنَ القومُ: تَهاجَرُوا. وتقول: ضربَه فأَبانَ رأسَه من جسدِه وفَصَلَه، فهو مُبِينٌ. وفي حديث الشُّرْب: «أَبِنِ القَدَحَ عن فيك» أَي: افْصِلْه عنه عند التنفُّس لئلا يَسْقُط فيه شي ءٌ من الرِّيق، والبَينِ البُعْد والفِراق. وتبَايَنَ الرجُلانِ: بانَ كلُّ واحد منهما عن صاحبه، وكذلك في الشركة إذا انفصلا. وبانَت المرأةُ عن الرجل، وهي بائن: انفصلت عنه بطلاق. والطَّلاقُ البائِنُ: هو الذي لا يَمْلِك الزوجُ فيه استِرْجاعَ المرأَةِ إلّا بعَقْدٍ جديدٍ، وقد تكرر ذكرها في الحديث. وبَيَّن فلانٌ بِنْتَه وأَبانَها إذا زوَّجَها وصارت إلى زوجها، وبانَت هي إذا تزوجت، وفي الحديث: «مَنْ عالَ ثلاثَ بناتٍ حتى يَبِنَّ أَو يَمُتْنَ» ويَبِنَّ بفتح الياء: أَي يتزوَّجْنَ. لسان العرب 13: 62 مادة (بين).
2- عدة الداعي: 90.
3- مكارم الأخلاق: 220.
4- ثواب الأعمال: 201.

اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سبع مرات، ويترك حتى يتم له أربع سنين، ثم يقال له: قل: سبع مرات قل صلى اللّه على محمد وآله ثم يترك حتى يتم له خمس سنين، ثم يقال له: أيهما يمينك وأيهما شمالك؟ فإذا عرف ذلك حوّل وجهه إلى القبلة، ويقال له: اسجد، ثميترك حتى يتم له ست سنين، فإذا تم له ست سنين وعُلّم الركوع والسجود، حتى يتم له سبع سنين، فإذا تم له سبع سنين قيل له: اغسل وجهك وكفيك، فإذا غسلهما قيل له: صلّ، ثم يترك حتى يتم له تسع سنين، فإذا تمت له عُلّم الوضوء وضرب عليه، وأُمر بالصلاة وضرب عليها، فإذا تعلم الوضوء والصلاة غفر اللّه لوالديه، إن شاء اللّه تعالى»(1).

من تطبيقات عامل الأسرة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبع سنين واضربوهم على تركها إذا بلغوا تسعاً، وفرقوا بينهم في المضاجع، إذا بلغوا عشراً»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم يُغفر لكم»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «الولد سيد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت أخلاقه لإحدى وعشرين، وإلّا فاضرب على جنبه، فقد أعذرت إلى اللّه تعالى»(4).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لأن يؤدب أحدكم ولداً خير له من أن يتصدق بنصف صاع كل يوم»(5).

ص: 373


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 391.
2- دعائم الإسلام 1: 194.
3- مكارم الأخلاق: 222.
4- مكارم الأخلاق: 222.
5- بحار الأنوار 101: 95.

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «يرخى الصبي سبعاً، ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، وينتهي طوله في ثلاث وعشرين وعقله في خمسة وثلاثين، وماكان بعد ذلك فبالتجارب»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «يفرق بين الغلمان والنساء في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدَّب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح وإلّا فإنه ممن لا خير فيه»(3).

وعنه(عليه السلام) عن آبائه^ قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الصبي والصبي، والصبي والصبية، والصبية والصبية، يفرق بينهم في المضاجع لعشر سنين»(4).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «إذا بلغت الجارية ست سنين فلا تقبلها، والغلام لا تقبله المرأة إذا جاوز سبع سنين»(5).

وعنه(عليه السلام) قال: «احمل صبيك تأتي عليه ست سنين، ثم أدّبه في الكتاب ست سنين، ثم ضمّه إليك سبع سنين فأدّبه بأدبك، فإن قبل وصلح، وإلّا فخّل عنه»(6).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): اغسلوا صبيانكم من الغَمَر(7)، فإن الشيطان يشم الغمر فيفزع الصبي في رقاده، ويتأذى بها

ص: 374


1- مكارم الأخلاق: 223.
2- الكافي 6: 47.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 492.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 436.
5- مكارم الأخلاق: 223.
6- مكارم الأخلاق: 222.
7- الغمر، بالتحريك: السهك وريح اللحم وما يعلق باليد من دسمه.

الكاتبان»(1).

الأسرة وبعض آدابها

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أولادنا أكبادنا، صغراؤهم أمراؤنا، وكبراؤهم أعداؤنا، فإن عاشوا فتنونا، وإن ماتوا أحزنونا»(2).

وقال النبي الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «خمسة في قبورهم وثوابهم يجري إلى ديوانهم: من غرس نخلاً، ومن حفر بئراً، ومن بنى للّه مسجداً، ومن كتب مصحفاً، ومن خلف ابناً صالحاً»(3).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «ما سألت ربي أولاداً نضر الوجه، ولا سألته ولداً حسن القامة؛ ولكن سألت ربي أولاداً مطيعين للّه وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع للّه قرت عيني»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال موسى(عليه السلام): يا رب، أي الأعمال أفضل عندك؟ فقال: حب الأطفال، فإني فطرتهم على توحيدي، فإن أمتهم أدخلتهم برحمتي جنتي»(5).

الأسرة وسيرة أهل البيت^

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الولد للوالد ريحانة من اللّه قسمها، وإن ريحانتي الحسن والحسين(عليهما السلام) سميتهما باسم سبطي بني إسرائيل: شبراً وشبيراً»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «رحم اللّه من أعان ولده على برّه؛ وهو أن يعفو عن سيئته،

ص: 375


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 69.
2- بحار الأنوار 101: 97.
3- جامع الأخبار: 105.
4- بحار الأنوار 101: 98.
5- المحاسن 1: 293.
6- عدة الداعي: 86.

ويدعو له فيما بينه وبين اللّه»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من قبّل ولده كتب اللّه عزّ وجلّ له حسنة، ومنفرّحه فرّحه اللّه يوم القيامة، ومن علّمه القرآن دُعي بالأبوين فيُكسيان حُلتين، يضي ء من نورهما وجوه أهل الجنة»(2).

وقال رجل من الأنصار لأبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): من أبر؟ قال: «والديك» قال: قد مضيا. قال: «برّ ولدك»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وسنة سنها هدىً فهي تعمل بها بعد موته، وولد صالح يستغفر له»(4).

الأسرة والتعليمات التربوية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تضربوا أطفالكم على بكائهم؛ فإن بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأربعة أشهر الصلاة على النبي وآله، وأربعة أشهر الدعاء لوالديه»(5).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اسقوا صبيانكم السويق في صغرهم، فإن ذلك ينبت اللحم ويشد العظم»، وقال(عليه السلام): «من شرب سويقاً أربعين صباحاً امتلأت كتفاه قوة»(6).

وقال بعضهم: شكوت إلى أبي الحسن موسى(عليه السلام) ابناً لي فقال: «لا تضربه؛

ص: 376


1- بحار الأنوار 101: 98.
2- الكافي 6: 49.
3- الكافي 6: 49.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 35.
5- التوحيد: 331.
6- المحاسن 2: 489.

واهجره ولا تطل»(1).

الأسرة ومنزلة الأم

لقد اهتم الإسلام بالأسرة اهتماماً كبيراً، وخاصة فيما يتعلق بالروابط بين أعضاء الأسرة وعلى الخصوص الأم من بينها، ولذلك شرّع آداباً مشتركة بين أعضاء الأسرة الواحدة، وجعل لكل فرد من أفرادها واجبات متعلقة به، تهدف إلى زيادة تماسك الروابط الأسرية، فقد اهتم بالبيت بوصفه المنبع الطبيعي للحياة الهادئة المطمئنة، وأوصى - مؤكداً - بأن تكون أجواء المحبة والتعاون هي السائدة فيه، وأمر - مشدداً - باجتناب كل ما يعكّر صفو الأجواء الداخلية ويهم سكونها وقرارها، وذلك لما فيها من عظيم الأثر على حياة الطفل وتكوينه النفسي. وتقع المسؤولية في توفير الأجواء الهادئة والمناسبة داخل البيت على الأم بالدرجة الأولى.

الأم مدرسة الأجيال

وإلى هذا المعنى أشار الشاعر وهو يقول:

الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيب الأعراق

الأم روض إن تعهَّده الحيا *** بالري أورق أيّما إيراق

الأم أستاذ الأساتذة الألى *** شغلت مآثرهم مدى الآفاق(2)

أحضان الأمّهات مدارس

وأشار الشاعر الآخر إلى (الأم) أيضاً وهو يقول:

ولم أر للخلائق من محل *** يهذبها كحضن الأمهات

فحضن الأم مدرسة تسامت *** بتربية البنين أو البنات

ص: 377


1- عدة الداعي: 89.
2- الأبيات للشاعر حافظ إبراهيم، الملقب بشاعر النيل.

وأخلاق الوليد تقاس حسناً *** بأخلاق النساء الوالدات

وليس ربيب عالية المزايا *** كمثل ربيب سافلة الصفات(1)

الزوجة الصالحة هي: أم صالحة

روي عن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أن شخصاً جاءه قائلاً له: إن لي زوجة إذا دخلت تلقتني، وإذا خرجت شيعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت: ما يهمك؛ إن كنت تهتم لرزقك فقد تكفل به غيرك، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك اللّه هماً!

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بشرها بالجنة وقل لها: إنك عاملة من عمال اللّه، ولكِ في كل يوم أجر سبعين شهيداً»(2).

وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: كنا جلوساً مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: فتذاكرنا النساء وفضل بعضهن على بعض، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا أخبركم بخير نسائكم؟».

قالوا: بلى يا رسول اللّه فأخبرنا؟

قال: «إن من خير نسائكم: الولود الودود، الستيرة العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرجة مع زوجها، الحصان مع غيره، التي تسمع قوله وتطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها، ولم تبذل له تبذل الرجل»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة، تسرّه إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله»(4).

ص: 378


1- الأبيات للشاعر معروف الرصافي.
2- مكارم الأخلاق: ص200 ب 8 ف2 في أصناف النساء.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 389.
4- الكافي 5: 327.

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «خير نساءكم الطيبة الريح، الطيبة الطبيخ، التي إن انفقت أنفقت بمعروف، وإن أمسكت أمسكت بمعروف، فتلك عامل منعمال اللّه، وعامل اللّه لايخيب، ولا يندم»(1).

من حقوق الأم

قال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «أما حق امك، فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لايعطي أحد أحداً، ووَقَتْك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظلك، وتهجر النوم لأجلك، ووَقَتْك الحر والبرد، لتكون لها، فإنك لاتطيق شكرها إلّا بعون اللّه وتوفيقه»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «جاء رجل إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك»(3).

الأم: الحجر الأساس في التربية

إذن فأحضان الأم هي المدرسة الأولى في التربية، وتُعرف بأنها الحجر الأساس الأول في بناء شخصية الطفل وتحديد اتجاهاته وميوله، فالأم أكثر صبراً وتحمّلاً على تربية أبنائها، وأكبر دراية وبراعة في تنشئتهم، وذلك لما أودعه اللّه تعالى فيها من دافع فطري نحو أطفالها، ولأنها - بسبب تواجدها الدائم بالقرب منهم، تكون أعرف بطبيعتهم وصفاتهم، وميولهم ونفسياتهم، وأبصر بالوسائل التي تنفع في توجيههم وإرشادهم وهدايتهم وإصلاحهم.

ص: 379


1- الكافي 5: 325.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 621.
3- الكافي 2: 159.

ومن هذا المنطلق تكون مسؤولية الأم كبيرة، ووظيفتها ثقيلة؛ تستدعيها الاهتمام الدائم بكل الأمور التي تخص أبناءها وتتطلب منها الاعتناء المستمربجميع ما يرتبط بهم من معاملتهم بصورة متساوية، وبالشكل المناسب، وتوجيههم الوجهة الصحيحة، وبالصورة اللائقة، ومن تربيتهم على احترام الكبار وإكرامهم، وإيقافهم على معرفة مقام أبيهم ولزوم احترامه.

كما أنه ينبغي لها أن تربي بناتها على العفة والطهارة، وعلى ارتداء الحجاب والستر، وعلى الالتزام بأوامر الإسلام وأحكامه.

والأم التي تقوم بتأدية هذه الوظائف والواجبات بالصورة الصحيحة، وبالشكل اللائق، هي التي يكرمها الإسلام ويعزّها، ويرفعها إلى أعلى الدرجات، وأرقى المستويات، ولذا ورد في الحديث الشريف عن النبي الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة تحت أقدام الأمهات»(1). فالجنة قريبة من الأمهات اللاتي يؤدين دورهن بالشكل الأحسن، ويقمن بواجبهن على الوجه الأتم، تجاه البيت والأبناء، لنيل رضا اللّه سبحانه وتعالى.

التأدّب مع الأم

ومن أجل ذلك نرى أن اللّه سبحانه وتعالى جعل للأمهات على الأبناء حقوقاً أكثر... في مقابل ما جعله على الأبناء تجاه الآباء؛ وذلك لما تعانيه الأمهات في طريق ما تقدمه من خدمات للأبناء.

يقول إبراهيم بن مهزم: خرجت من عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) ليلة ممسياً فأتيت منزلي بالمدينة، وكانت أمي معي، فوقع بيني وبينها كلام، فأغلظت لها، فلما أن كان من الغد صليت الغداة، وأتيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) فلما دخلت عليه فقال لي مبتدئاً:

ص: 380


1- مستدرك الوسائل 15: 180.

«يا أبا مهزم! مالك وللوالدة: أغلظت في كلامها البارحة، أما علمت أن بطنها منزل قد سكنته، وأن حجرها مهد قد غمزته، وثديها وعاء قد شربته»!قال: قلت: بلى.

قال: «فلا تغلظ لها»(1).

الأسرة وواجبات الأولاد

سبق أن أشرنا - بصورة مختصرة - إلى بعض ما يتعلق بالآباء والأمهات من واجبات ووظائف تجاه أبنائهم وأولادهم، وينبغي لنا الآن أن نقف وقفة سريعة أيضاً عند وظائف وواجبات الأبناء تجاه الوالدين.

توصية القرآن بالوالدين

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم وخطابه العظيم: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفّٖ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}(2).

قبس من الآيتين الكريمتين

في الآيتين الكريمتين نهى اللّه عزّ وجلّ عن الشرك في العبادة كما نهى اللّه سبحانه وتعالى عن الشرك في العقيدة حيث قال: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ} أي: أَمَرَ أَمْرَ إلزام وفرض {أَلَّا تَعْبُدُواْ} أيها البشر - أصله (أن لا) أدغمت النون في اللام، لقاعدة (يرملون)(3)-

{إِلَّا إِيَّاهُ} فالعبادة خاصة برب العالمين، وهي مشتقة من (عَبَد) أي

ص: 381


1- بصائر الدرجات 1: 243.
2- سورة الإسراء، الآية: 23-24.
3- قاعدة في علم التجويد: وهي كل ما جاء النون والتنوين مع حروف الياء والراء والميم واللام والواو والنون (حروف يرملون) فإنهما يدغمان ويصيران حرف واحداً مشدداً.

الإتيان برسوم العبودية فإن عزّ الإنسان أن يكون للّه عبداً(1) {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا} أي: قضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين، وهما الأب والأم، والإحسانفوق العدل، ثم بيّن سبحانه لزوم الإحسان في حال كبرهما، لأن الإنسان - عادة - إذا كبر يسيئُ خلقه، ويكثر طلبه، ومن طرف ثان: إن الولد - كما هو عادة كل إنسان - إذا كبر ورشد، رأى نفسه في غنى عنهما، فكان مقتضى عدم الإحسان إليهما موجوداً عنده من جهتين؛ ولذا يخص سبحانه هذه الحال بالذكر، وقد قال بعض العارفين: إن أباك وأمك أحسنا إليك، وهما يريدان بقاءك ويهفو قلبهما إليك، وأنت تحسن إليهما - إن تحسن - وأنت ترى استغناك عنهما، فلا يبلغ إحسانك إحسانهما مهما أحسنت. وليعلم الولد، أن الدار دار مكافات، فمن أحسن إلى أبويه أحسن أولاده إليه، ومن أساء إليهما اساؤوا إليه، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ} أيها الولد، و(إمّا) أصله (إن ما) دخلت ما الزائدة على إن الشرطية للتزيين {الْكِبَرَ} الشيخوخة والكثرة في السن {أَحَدُهُمَا} أي: أحد الأبوين، وهو فاعل {يَبْلُغَنَّ} والكبر مفعوله، أي: إن عاش أحدهما {أَوْ كِلَاهُمَا} عندك حتى كبرا، وبلغا مبلغاً كبيراً من العمر {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفّٖ} وهي كلمة تستعمل عند الضجر، فقول مثل هذه اللفظة البسيطة، منهي عنه في الشريعة، وقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «لو علم اللّه لفظة أوْجَز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى بها»(2).{وَلَا تَنْهَرْهُمَا} النهر هو الزجر بإغلاظ وصياح، أي: لاتزجرهما، وإن أرادا منك شيئا لا تطردهما، كما قال سبحانه: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}(3) {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} أي: خاطبهما،

ص: 382


1- إشارة إلى قول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في دعاءه حيث قال: «إلهي كفى لي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب» الخصال 2: 420.
2- بحار الأنوار 71: 42.
3- سورة الضحى، الآية: 10.

وتكلم معهما بكلام لطيف حسن جميل. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} فكما أن فرخ الطائر يخفض جناحه لأبويه، تذللا وخضوعاً، فافعل أنت ذلك بأبويك {مِنَ الرَّحْمَةِ} أي: اعمل هذا العمل من جهةالرحمة، والعطف بهما، لا كالطائر الذي يفعل ذلك من جهة طلب الغذاء؛ فإن الإنسان قد يتواضع رحمة، وقد يتواضع طمعاً أو طلباً أو ما أشبه {وَقُل} داعياً لهما {رَّبِّ ارْحَمْهُمَا} تفضّل عليهما باللطف والكرامة {كَمَا رَبَّيَانِي} أي: جزاء تربيتهما لي في حال كوني {صَغِيرًا} فإنك يا رب أجزهما على أتعابهما، فإني لا أقدر على جزائهما، وفي الآثار الواردة عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين^ كثرة مدهشة من التأكيدات العجيبة حول الوالدين وخصوصا الأم(1).

عامل الأسرة ملخصاً

إن اللّه تبارك وتعالى، قد قرن وجوب طاعة الوالدين بطاعته جلّ وعلا، وأوصى الأبناء بالوالدين إحساناً، وأمرهم بالعمل بما يُرضي الوالدين، ويُرسخ الرضا في نفوسهم، وأن يقوموا بخدمتهم وإكرامهم، وشكرهم واحترامهم، وذلك بكل ألوان التكريم والخدمة، والاحترام والرعاية، مما يدل على أن رعاية احترام الوالدين وطاعتهم، والقيام بخدمتهم وإكرامهم، وخاصة بالنسبة إلى الأم، تمثل العناصر الأساسية في التربية الإسلامية والتنشئة الإيمانية، تلك التربية الهادفة إلى تماسك المجتمع وشدّ أواصره، وذلك على أساس من المودة والرحمة المتقابلة، والصفاء والاحترام المتبادل، فالأولاد إذن مسؤولون شرعاً وأخلاقاً عن رعاية حقوق الوالدين وخاصة الأم جزاءً لأتعابها الكبيرة، وعنائها العظيم، الذي تحملته في سبيل تربية الأولاد وتنشئتهم.

ص: 383


1- تفسير تقريب القرآن 3: 299.
الحديث الشريف والبر المتقابل
اشارة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما سمي الأبرار أبراراً لأنهم برّوا الآباء والأبناء والإخوان»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أبي(عليه السلام) يقول: خمس دعوات لا يحجبن عن الرب تبارك وتعالى: دعوة الإمام المقسط، ودعوة المظلوم، يقول اللّه عزّ وجلّ: لأنتقمن لك ولو بعد حين، ودعوة الولد الصالح لوالديه، ودعوة الوالد الصالح لولده، ودعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب فيقول: ولك مثله»(2).

وعن جابر قال: سمعت رجلاً يقول لأبي عبد اللّه الإمام الصادق(عليه السلام): إن لي أبوين مخالفين. فقال: «برهما كما تبر المسلمين ممن يتولانا»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «بروا آباءكم يبركم أبناؤكم، وعفّوا عن نساء الناس تعفّ نساؤكم»(4).

وعن معمر بن خلاد قال: قلت لأبي الحسن الرضا(عليه السلام): أدعو لوالدي إذا كانا لا يعرفان الحق(5)؟

قال: «ادع لهما، وتصدق عنهما، وإن كانا حيّين لا يعرفان الحق فدارهما؛ فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إن اللّه بعثني بالرحمة لا بالعقوق»(6).

الأم في الحديث الشريف

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تحت أقدام الأمهات روضة من رياض الجنة»(7).

ص: 384


1- وسائل الشيعة 16: 296.
2- الكافي 2: 509.
3- الكافي 2: 162.
4- الكافي 5: 554.
5- أي كانا مخالفين.
6- الكافي 2: 159.
7- مستدرك الوسائل 15: 181.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «إذا كنت في صلاة التطوع فإن دعاك والدك فلا تقطعها، وإندعتك والدتك فاقطعها»(1).

وروي أن رجلاً قال للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللّه، أيّ الوالدين أعظم؟ قال: «التي حملته بين الجنبين، وأرضعته بين الثديين، وحضنته على الفخذين، وفدته بالوالدين»(2).

وقيل: يا رسول اللّه، ما حق الوالد؟ قال: «أن تطيعه ما عاش» قيل: وما حق الوالدة؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هيهات هيهات، لو أنه عدد رمل عالج وقطر المطر أيام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها»(3).

وقال رجل لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن والدتي بلغها الكبر، وهي عندي الآن، أحملها على ظهري، وأطعمها من كسبي، وأميط عنها الأذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي، استحياءً منها، وإعظاماً لها، فهل كافأتها؟ قال: «لا؛ لأن بطنها كان لك وعاءً، وثديها كان لك سقاءً، وقدمها لك حذاءً، ويدها لك وقاءً، وحِجرها لك حواءً، وكانت تصنع ذلك لك وهي تمنى حياتك، وأنت تصنع هذا بها وتحب مماتها»(4).

وقيل للإمام زين العابدين(عليه السلام): أنت أبر الناس، ولا نراك تؤاكل أمك! قال: «أخاف أن أمد يدي إلى شي ءٍ وقد سبقت عينها عليه، فأكون قد عققتها»(5).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «واعلم، أن حق الأم ألزم الحقوق وأوجبها؛ لأنها

ص: 385


1- مستدرك الوسائل 15: 181.
2- مستدرك الوسائل 15: 182.
3- عوالي اللئالي 1: 269.
4- مستدرك الوسائل 15: 180.
5- مستدرك الوسائل 15: 182.

حملت حيث لا يحمل أحد أحداً، ووقت بالسمع والبصر وجميع الجوارح،مسرورةً مستبشرةً بذلك، فحملته بما فيه من المكروه والذي لا يصبر عليه أحد، ورضيت بأن تجوع ويشبع ولدها، وتظمأ ويروى، وتعرى ويكتسي، ويظلّ وتضحى، فليكن الشكر لها، والبر والرفق بها على قدر ذلك، وإن كنتم لا تطيقون بأدنى حقها إلّا بعون اللّه، وقد قرن اللّه عزّ وجلّ حقها بحقه، فقال: {اشْكُرْ لِي وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}»(1)(2).

3- البيئة الاجتماعية

اشارة

العامل الثالث من عوامل التربية: البيئة الاجتماعية، قال اللّه تعالى في كتابه الكريم عن لسان خليله إبراهيم(عليه السلام): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ الْأُمُورِ}(4).

وقال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(5).

البيئة وآية الأمان

قوله تعالى: {وَ} أي اذكر يا رسول اللّه {إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ} في دعائه للّه تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا} البلد وهو مكة التي بني فيها البيت {الْبَلَدَ ءَامِنًا} عن الأخطار،

ص: 386


1- سورة لقمان، الآية: 14.
2- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 334.
3- سورة إبراهيم، الآية: 35.
4- سورة الحج، الآية: 41.
5- سورة القصص، الآية: 83.

أو محكوماً بحكم الأمن حكماً شرعياً(1).

البيئة وآية المُكنة

في هذه الآية الكريمة يمدح اللّه تعالى الذين إن كانت لهم سُلطة في الأرض مهدّوها لإصلاح الناس وإسعادهم، فجعلوا فيها البيئة الصالحة، وذلك بإقامة ما أمر اللّه به عليها.

قال اللّه سبحانه: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ} بأن كانت لهم المكنة والسلطة {أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ} أي: أدّوها بحقوقها وآدابها وشرائطها {وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ} أعطوها إلى من يستحق حسب موازينها الشرعية {وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ} وهو كل شيء أمر به الشرع أو العقل إيجاباً أو ندباً {وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ} وهو كل شيء نهى عنه الشرع أو العقل تحريماً أو تنزيهاً... {وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ الْأُمُورِ} أي: إن اللّه يرث الأشياء، فالعاقبة والخاتمة له، وهذا وعد للمؤمنين وإيجاد أمل فيهم(2).

البيئة وآية المصلحين

قال في (مجمع البيان) عند تفسير الآية الكريمة: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ...} روى زاذان عن أمير المؤمنين(عليه السلام): أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو دال، يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمرّ بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} ويقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس(3).

إذن: فالآيات الكريمات في هذا المجال تؤكد على أن للبيئة التأثير المباشر والكبير على تربية الإنسان، وأنه - بحسب ما قاله علماء النفس والاجتماع - ثالث

ص: 387


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 134.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 608.
3- تفسير مجمع البيان 7: 464.

العوامل الرئيسية في حقل التربية.

إن الأنبياء^ والسائرين على نهجهم يحاولون خلق الأجواء المناسبة والمناخ الصالح في البيئة، لحمل الذين يعيشون في تلك البيئة على الصلاح والفلاح،وعلى الفوز والنجاح. كما هو واضح لمن راجع سيرتهم الطاهرة.

المراد من عامل البيئة

ونعني بالبيئة هنا الأجواء الاجتماعية، والمناخ السائد من حيث علاقة أفراد المجتمع وجماعاته بعضهم مع بعض، في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية وما إلى ذلك.

إن استقرار البيئة الاجتماعية على الخير والبرّ، وعلى الأخلاق والآداب الإسلامية، لها دخل كبير في استقامة سلوك الأبناء؛ فالبيئة الاجتماعية والمناخ الاجتماعي، تتحمل في الدرجة الثالثة بعد عامل الوراثة وعامل الأسرة، مسؤولية أيّ انحطاط أو تأخر تربوي يصيب أبناءها، فاستقرارها على البرّ والخير، وعلى الاحترام والإكرام من أهم الأسباب والعوامل المؤثرة في تماسك وبناء شخصية الأجيال، وإبعادها عن جميع أشكال الشقاء والدمار، ومن كل أنواع البؤس والحرمان، ممّا تجعل الجيل يشعر أنه يعيش في عالم مرتبك ومتناقض، مليء بالغش والخداع، وبالتوتر والشقاء، وهو يرى نفسه أنه مخلوق ضعيف، لا حول له ولا قوة تجاه وضعه الاجتماعي المتوتر والمضطرب.

اهتمام الإسلام بالبيئة الاجتماعية

لقد اهتم الإسلام كثيراً في أمر البيئة الاجتماعية وإصلاحها، فكان يهدف لأن تسود فيها القيم الإنسانية الراقية من العدل والإنصاف، والحق والمساواة، وأن تنعدم منها مظاهر الفساد والعنف، والظلم والأنانية، وأن تكون مستقرة

ص: 388

خالية من الفتن والإضطرابات، لأن لهذا الجانب تأثيراً مهماً مباشراً على اكتساب الفرد العادات الطيبة، والأخلاق الحسنة من خلال العلاقات والصداقات، وهي من العوامل المؤثرة شديداً، والتي تنقل بسرعة فائقة عاداتالأفراد واتجاهاتهم، وميولهم وطباعهم إلى الآخرين.

وبهذا الخصوص حثّ الإسلام على ضرورة إصلاح البيئة ووعد عليه الأجر والثواب، وحذّر في المقابل من إفساد البيئة وتوعد عليه العذاب والنيران. قال اللّه تعالى: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا}(1).

كما وأكدّ الإسلام على مجانبة الأشرار والمفسدين من جهة، وحرّض من جهة ثانية على مصاحبة الأخيار والمتدينين ومرافقة ذوي الشرف والاستقامة؛ حتى يكسب الفرد منهم حسن السلوك ومكارم الأخلاق.

البيئة الاجتماعية في الروايات

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أحسن مصاحبة الإخوان استدام منه الوصلة»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) أيضاً: «خير الأصحاب أعونهم على الخير، وأعملهم بالبر، وأرفقهم بالمصاحب»(3).

ويقول الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) في وصيته لجنادة: «... وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك. وإن قلت صدّق قولك، وإن صُلت شدّ صولك، وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت عنك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة

ص: 389


1- سورة الأعراف، الآية: 56.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 632.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 365.

عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتدأك»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «استرعوا دين اللّه بالرغبة في مصاحبة العلموأهله قبل انتقاض عراه». قال عبد الرحمن بن الحجاج: كيف ينتقض عراه يا ابن رسول اللّه؟ قال: «إذا مات العالم انتقض عراه، وبقي الناس كالغنم لا راعي لها فضل مرعاها، ولا تهتدي مأواها»(2).

وروي أن لقمان الحكيم قال لابنه: «يا بني، إياك ومصاحبة الفساق، هم كالكلاب، إن وجدوا عندك شيئا أكلوه، وإلّا ذموك وفضحوك، وإنما حبهم بينهم ساعة. يا بني، معاداة المؤمن خير من مصادقة الفاسق(3).

يا بني، المؤمن تظلمه ولا يظلمك، وتطلب عليه ويرضى عنك، والفاسق لا يراقب اللّه فكيف يراقبك؟!»(4).

وقال نبي اللّه سليمان(عليه السلام): «لا تحكموا على رجل بشي ء حتى تنظروا من يصاحب، فإنما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه، وينسب إلى أصحابه وإخوانه»(5).

تلخيص عامل البيئة

وعليه: فإنه ينبغي للمؤمنين أن يسعوا جميعاً لتوفير البيئة السالمة والمستقرة، وأن يختاروا أصدقاءهم وجلساءهم ممن يتسمون بالأخلاق الحسنة والصفات الحميدة، والذين تتوفر فيهم الصفات التي أشار إليها الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)، وينبغي لهم أن يكونوا حذرين من مصاحبة المنحرفين في

ص: 390


1- كفاية الأثر: 228.
2- الدعوات: 220.
3- يريد بيان تشديد الحذر من مصادقة الفاسق، فإن معاداة المؤمن مع شدة حرمته هو أهون خطراً على الإنسان من مصادقة الفاسق؛ إذ مصادقة الفاسق تذهب بدنيا الإنسان وآخرته معاً.
4- الإختصاص: 338.
5- كنز الفوائد 1: 98.

أخلاقهم وسلوكهم؛ لأنهم سيشكلون عامل انحراف يدفع باتجاه الأثم والفساد، وعلى المؤمنين أن يراعوا هذه المواصفات في رسم وتحديد علاقات أبنائهم وأفراد أسرتهم فيالمجتمع؛ ليكسبوا الأخلاق الحميدة والعادات الحسنة، ويتجنبوا مزالق الانحراف ومهاوي الفساد.

التأكيد على مصاحبة الأخيار

وفي ما يخص صحبة الأخيار يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليس شيء أدعى لخير وأنجى من شر، من صحبة الأبرار»(1).

ويقول(عليه السلام) أيضاً: «صحبة الولي اللبيب حياة الروح»(2).

وفيما يخص صحبة الأشرار ينهى الإمام(عليه السلام) عنها، لما لها من عواقب وخيمة فيقول: «صحبة الأشرار تكسب الشر، كالريح إذا مرت بالنتن حملت نتناً»(3).

ويقول(عليها السلام): «مصاحب الأشرار كراكب البحر، إن سلم من الغرق لم يسلم من الفرق»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «جُمع خير الدنيا والآخرة في: كتمان السر، ومصادقة الأخيار. وجُمع الشر في: الإذاعة، ومؤاخاة الأشرار»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «وأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى شعيب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أني معذب من قومك مائة ألف: أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفا من خيارهم. فقال(عليه السلام): يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟! فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه:

ص: 391


1- عيون الحكم والمواعظ: 411.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 420.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 420.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 709.
5- الإختصاص: 218.

داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي»(1).وقال الإمام الهادي(عليه السلام): «مخالطة الأشرار تدل على شرار من يخالطهم»(2).

التربية: مسؤولية الجميع

ظهر من هذه اللمحة المختصرة من الكلام، ما للتربية من أثر كبير في تنشئة الجيل الصالح، مضافاً إلى عامل البيئة الصالحة، مما يكشف أن مسؤولية تربية الأجيال أمانة في أعناق الجميع، بدءً من الأب والأم في محيط الأسرة الصغير، وانتهاءً بالمجتمع بصورة عامة، فجميعهم مسؤولون مسؤولية مشتركة عن رعاية الأجيال، وتوفير الأجواء المناسبة وإعداد مستلزمات التربية الصالحة لهم، وإبعادهم عن مزالق الرذيلة ومهاوي الجريمة.

يقول الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه تعالى سائل كل راع عمّا استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيّعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته»(3).

ويقول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «ألاكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(4).

ويقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «كل امرئ مسئول عمّا ملكت يمينه وعياله»(5).

ص: 392


1- الكافي 5: 56.
2- نزهة الناظر: 140.
3- نهج الفصاحة: 296.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 539.

ويقول الإمام زين العابدين(عليه السلام) في دعائه لبنيه ضمن أدعية الصحيفة السجادية: «اللّهم ومُنّ عليّ ببقاء ولدي، وبإصلاحهم لي وبإمتاعي بهم، إلهي امدد لي فيأعمارهم، وزد لي في آجالهم، وربِّ لي صغيرهم،وقوّ لي ضعيفهم، وأصح لي أبدانهم وأديانهم وأخلاقهم، وعافهم في أنفسهم، وفي جوارحهم، وفي كل ما عنيت به من أمرهم، وأدرر لي وعلى يدي أرزاقهم، واجعلهم أبراراً أتقياء بصراء سامعين مطيعين لك ولأوليائك، محبين مناصحين، ولجميع أعدائك معاندين ومبغضين، آمين. اللّهم اشدد بهم عضدي، وأقم بهم أودي، وكثِّر بهم عددي، وزين بهم محضري، وأحي بهم ذكري... وأعني على تربيتهم وتأديبهم وبرهم...»(1).

خلاصة البحث

والخلاصة: إن الآيات الكريمة وكذلك الروايات الشريفة، تثبت أن المسؤولية في إعداد الأجيال الصالحة تشمل الجميع، وفي عاتق الجميع، وذلك كلاً حسب اختصاصه وموقعه.

فينبغي لكل فرد منا أن يمارس دوره في العملية التربوية داخل أسرته ومجتمعه، وأن يجعل الآخرين يتحسسون بواجباتهم ومسئولياتهم تجاه أبنائهم ومجتمعهم؛ فإن فساد أسرة واحدة، بل شخص واحد، له تأثير سلبي ولو بنسبة معينة على المجتمع كله الذي يضم الأسر الأخرى والأفراد الآخرين، وله تأثير غير محمود على معايير المجتمع السلوكية والأخلاقية التي تربط أفراده بعضهم ببعض، وقد أوضحنا أن لكل من الفرد والأسرة والمجتمع تأثيراً على سلوك الأولاد والأبناء وتوجهاتهم المستقبلية، وهذا ما يحتّم علينا أن نسعى في إصلاح

ص: 393


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) لولده.

أنفسنا وإصلاح مجتمعنا حتى نتمكن من إعداد جيل مؤمن ومن إسعاف الأمة الإسلامية بالأجيال الصالحة المستقيمة التي تضمن تقدمها وازدهارها، وتقضيعلى عوامل التخلف والتأخر في كل المجالات المادية والمعنوية.

«اللّهم، ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة... وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة... بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

من هدي القرآن الحكيم

التربية الإيمانية

قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٖ كُلُّ امْرِيِٕ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}(2).

وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ

ص: 394


1- البلد الأمين: 349.
2- سورة الطور، الآية: 21.
3- سورة آل عمران، الآية: 159.

تُفْلِحُونَ}(1).

التربية والبيئة الصالحة

قال تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَٰنُ لِلْإِنسَٰنِ خَذُولًا}(2).

وقال سبحانه: {قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَٰهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَٰكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}(5).

تزكية النفس

قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ}(6).

وقال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ

ص: 395


1- سورة آل عمران، الآية: 200.
2- سورة الفرقان، الآية: 27-29.
3- سورة الكهف، الآية: 66.
4- سورة الشعراء، الآية: 69-74.
5- سورة النساء، الآية: 140.
6- سورة النازعات، الآية: 40.

صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(2).وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}(3).

المجتمع والمسؤولية التربوية

قال عزّ من قائل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَعَلَى الثَّلَٰثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(5).

وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(7).

ص: 396


1- سورة التوبة، الآية: 103.
2- سورة التغابن، الآية: 16.
3- سورة النساء، الآية: 110.
4- سورة آل عمران، الآية: 104.
5- سورة التوبة، الآية: 118.
6- سورة المائدة، الآية: 2.
7- سورة الحجرات، الآية: 10.

من هدي السنّة المطهّرة

تزكية النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «جاهدوا أهواءكم تملكوا أنفسكم»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، تولوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوابها عن ضراوة عاداتها»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «صلاح النفس قلة الطمع»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن أسلمت نفسك للّه سَلِمَتْ نفسك»(4).

وقال(عليه السلام): «أرجى الناس صلاحاً من إذا وقف على مساويه سارع إلى التحول عنها»(5).

وجاء في الدعاء عن الإمام زين العابدين(عليه السلام): «اللّهم صل على محمد وآله، وادرأ عني بلطفك، واغذني بنعمتك، وأصلحني بكرمك»(6).

تأثير الوراثة في سلوك الفرد

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق»(7).

وقال أبو جعفر(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لاتسترضعوا الحمقاء، فإن اللبن يعدي، وإن الغلام ينزع(8). إلى اللبن، يعني إلى الظئر، في الرعونة

ص: 397


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 122.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 359.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 416.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 258.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 215.
6- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 346.
8- نزع إليه: أشبهه، والرعونة: الحمق والاسترخاء.

والحمق»(1).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «استرضع لولدك بلبن الحسان، وإياك والقباح فإن اللبن قد يعدي»(2).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لا تسترضع للصبي المجوسية... ولايشربن الخمر، ويمُنعن من ذلك»(3).

تأثير البيئة على الفرد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فيما كتب إلى الحارث الهمداني: «واحذر صحابة من يفيل(5).

رأيه وينكر عمله، فإن الصاحب معتبر بصاحبه»(6).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لا تصحبوا أهل البدع، ولا تجالسوهم؛ فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): المرء على دين خليله وقرينه»(7).

وعن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) عن آبائه^ قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): سائلوا العلماء وخالطوا الحكماء، وجالسوا الفقراء»(8).

ص: 398


1- الكافي 6: 43.
2- الكافي 6: 44.
3- الكافي 6: 44.
4- من لا يحضرة الفقيه 4: 395.
5- فال الرأي، يفيل: أي ضعف.
6- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 69 من كتاب له(عليه السلام) إلى الحارث الهمذاني.
7- الكافي 2: 375.
8- النوادر للراوندي: 26.

مسؤولية الآباء تجاه الأبناء

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من حق الولد على والده ثلاثة: يحُسّن اسمه، ويعلّمه الكتابة، ويزوّجه إذا بلغ»(1).

وقال رجل: يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما حق ابني هذا؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تحسّن اسمه وأدبه،وضعه موضعاً حسناً»(2).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أحبوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم؛ فإنهم لا يدرون إلّا أنكم ترزقونهم»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): حق الولد على والده إذا كان ذكراً أن يستفره أمه، ويستحسن اسمه، ويعلّمه كتاب اللّه، ويطهره، ويعلمه السباحة، وإذا كانت أنثى أن يستفره أمها ويستحسن اسمها، ويعلمها سورة النور، ولا يعلمها سورة يوسف، ولا ينزلها الغرف، ويعجل سراحها إلى بيت زوجها»(4).

ص: 399


1- روضة الواعظين 2: 369.
2- الكافي 6: 48.
3- الكافي 6: 49.
4- الكافي 6: 48.

اغتنام الفرص

الزمن وعمر الإنسان

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن الفرص تمر مرّ السحاب، فانتهزوها إذا أمكنت في أبواب الخير، وإلّا عادت ندماً»(1).

إن الإنسان في هذه الدنيا مرهون بساعات عمره من جهة، ومرهون بالزمن المحيط به من جهة أخرى، فلكل منهما قيمة لاتقدر بشيء؛ لأن الإنسان إنما يقيّم بعمله.

فاللّه عزّ وجلّ يحاسب الإنسان من منظار العمل، كما أن المجتمع يقّدر الإنسان ويقيمّه من خلال عمله أيضاً. إذن فالعمل هو الجهة المهمة في الإنسان، وعلى أساسها يكون للإنسان الاعتبار، ولكن هذا العمل مرهون بأمرين هما: العمر، والزمن.

ولا يخفى أن العمر يتكون من مجموعة ساعات متلاحقة، فإذا استطاع الإنسان أن يستثمر عمره هذا وساعاته تلك بعمل الخير، فإنه يكون قد ضمن مصيراً سعيداً لنفسه، يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن عمرك عدد أنفاسك وعليها رقيب تُحصيها»(2).

ص: 400


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 238.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 222.

فلا يحسب المرء أن لحظات عمره إنما تذهب اعتباطاً وبدون حساب، بل إنها تُسجل عليه، ويسجل كل ما يعمل فيها من عمل، خير أو شر، فهي محسوبة عليه وهو محاسب عليها بالنهاية، ولذا ينبغي له اغتنامها لحظة لحظة وجزءاً جزءاً، ولا يحسب أن عمره سيطول، فيؤجل عمله إلى الغد وبعد الغد، فإن: «العمر تفنيه اللحظات»(1).

إن تقدم العمر بالإنسان عبارة عن قرب نهاية وجوده على هذه البسيطة، وخاتمة عمره في هذه الدنيا، والدنيا - كما في الحديث الشريف - (مزرعة الآخرة)، فلا بدّ للعاقل من استغلالها للآخرة، وعليه: فالساعات التي يضيّعها الإنسان هنا وهناك، بلا استثمار ولا استغلال، فإنه إنما يضيع بها جزءاً من وجوده، ويخسر عبرها مقداراً من أيام عمره.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الساعات تنهب الأعمار»(2).

وقال(عليه السلام) في خطبة له: «أيها الناس، إنه من مشى على وجه الأرض فإنه يصير إلى بطنها، والليل والنهار يتنازعان في هدم الأعمار»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «واعلموا، أن الأمل يسهي العقل وينسي الذكر، فأكذبوا الأمل، فإنه غرور وصاحبه مغرور»(4).

وقال(عليه السلام): «فاللّه اللّه معشر العباد، وأنتم سالمون، في الصحة قبل السقم، وفي الفسحة قبل الضيق، فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها»(5).

ص: 401


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 30.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 30.
3- الكافي 8: 23.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 86 من خطبة له(عليه السلام) وفيها بيان صفات الحق جلّ جلاله.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 183 من خطبة له(عليه السلام) في قدرة اللّه وفضل القرآن.

وقال(عليه السلام): «إنكم إن رغبتم في الدنيا أفنيتم أعماركم في ما لاتبقون له، ولا يبقى لكم»(1).

وقال(عليه السلام): «إن أوقاتك أجزاء عمرك، فلا تنفد لك وقتاً إلّا فيما ينجيك»(2).

استثمار العمر

لكي يحافظ الإنسان على فرصة عمره يلزم عليه أن يستثمر ساعات العمر، ولحظات الزمن بالعمل الصالح؛ إذ بواسطته سوف يطول عمر الإنسان؛ لأن «بركة العمر في حسن العمل»(3) أو كما جاءت الأخبار متظافرة، في أن الصدقة وصلة الرحم تزيدان في العمر. فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «صلة الأرحام تثمر الأموال وتنسيء في الآجال»(4).

وقال(عليه السلام): «بالصدقة تفسح الآجال»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب، وتنسئ في الأجل»(6).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار»(7).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره

ص: 402


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 270.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 243.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 312.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 420.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 299.
6- الكافي 2: 150.
7- الأمالي للشيخ الطوسي: 305.

ثلاث سنين فيصيرها اللّه ثلاثين سنة، ويفعل اللّه ما يشاء»(1).

ولا يخفى أن الصدقة وصلة الرحم، كلاهما من العمل الصالح والبِرّ والخير الذي دعت الشريعة إليها وشجعت عليها.

ومن جهة ثانية: فإن الإنسان عندما يؤدي العمل الصالح ويأتي بفعل الخير، فإنه يشعر بالراحة النفسية؛ لأنه يرى أن فعله هذا صدر في محله، وأنه قد استفاد من الزمن استفادة تامة، وأنه سوف لا يتحسر يوم القيامة على هذه اللحظات والساعات، على العكس من الذي ضيع ساعات عمره في اللّهو واللعب، فإنه يندم على كل لحظة لم يستثمرها في فعل الخير، ويتعقب ذلك الندم حسرة نفسية وكآبة روحية.

ومن جهة ثالثة: فإن الذي يقدّر الزمن ويعمد إلى صالح الأعمال، إنما يزيد لروحه ومعنويته معنوية وكمالاً مضاعفاً، ومضافاً إلى طول عمره عندما يأتيه الموت تراه فرحاً مستبشراً؛ لأنه يشعر أنه غير مقصر في أمره، فلا يندم ولا يتحسر كما يتحسر من ضيع عمره، فبهذا الاهتمام والاغتنام وبفضل اللّه تعالى يضمن نجاته من أليم العذاب.

بعكس الذي لا يعرف قدر الزمن وثمن الساعات، فتمر عليه السنين والأعوام وهو في غفلة من أمره، فتراه يراوح في مكانه دون أن يتقدم، ودون أن يضفي على نفسه كمالاً، فهذا مضافاً إلى تأخره وتقهقره في حياته، واضطرابه وخوفه عند موته، يحصد يوم القيامة حسرة وندامة، نتيجة جهله بالزمن وتغافله عن قيمة العمر والحياة.

وعليه: فالزمن مجموعة ساعات تتخللها فرص ثمينة للإنسان، فالذكي من

ص: 403


1- الكافي 2: 150.

اغتنمها وعمل فيها فربحها، والشقي من غفل عنها ولم يعمل فيها فخسرها، فإنها لن تعود أبداً.

الفُرَص وطول الأمل

الفُرَص هي عبارة عن أوقات زمانية رائعة، لما تحمل في طيّاتها من خير للإنسان، ولكن على الإنسان أولاً: أن يدرك أن هذه اللحظات هي الفرصة التي لا تعود.

ويعرف ثانياً: كيف يستغلّها ويستفيد منها فائدة عقلائية، فالبعض من الناس عندما تتهيأ له الأسباب الجيدة، أو مقدمات النجاح، تراه يعرض عن استثمارها، بل أحياناً تأتي الفرصة جاهزة فيأتيه الخير كله، وما يبقى عليه إلّا أن يمد يده نحوه ليأخذه، ومع ذلك يتوانى ويفرّط ويترك الأمر، استجابة لطول الأمل، واتباعاً للهوى، واتكالاً على أن في العمر فسحة، وفي الأجل مدة!، وأن عمره طويل!، واعتقاداً بأنه إذا ذهبت هذه الفرصة فسوف تأتي فرصة أخرى بدلها، وهكذا يدع الفرص تمرّ من بين يديه مر السحاب، وهو ينظر إليها غير معتنٍ بها ولا مغتنم لها؛ والسبب في هذا التغافل هو انعدام الهدف في الحياة، ونسيان عالم الآخرة، والركون إلى الدنيا، والتعلق بها والانهماك فيها، ولكنه بعد مرور الزمن سوف يتحسر على خسران تلك الفرص، ويندم على إضاعة العمر وإتلاف الوقت، دون أن يستغله في خيره وكماله.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «قصّر الأمل، فإن العمر قصير، وافعل الخير فإن يسيره كثير»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «الفرص خلس، الفوت غصص»(2).

ص: 404


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 503.
2- مستدرك الوسائل 12: 141.

فعلى الإنسان العاقل والذكي أن يستغل أوقاته بشكل تام وصحيح، وأن يستقبل الفرص ويتقدم هو نحوها، لا أن ينتظر قدومها هي نحوه.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه امرأ اغتنم المهل وبادر العمل...»(1).

أما الإتكال على طول الأمل، ومجّرد الأماني، والاغترار بالوساوس الشيطانية، والأفكار الواهية، وإقناع المرء نفسه بأنه طويل العمر، وأن عمل اليوم سوف يقوم به غداً، وما إلى ذلك، فهذا كله عبارة عن الإسراف والتبذير للعمر الغالي، والتسويف والتضييع للوقت الثمين، وهي ليست من علامات الإنسان الناجح، بل وليست من علامات الإنسان العاقل والمؤمن أيضاً.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيمة الأتقياء اغتنام المهلة والتزود للرحلة»(2).

ولا يخفى أن الفرص التي تتهيأ اليوم لعلها - بل غالباً - لا تتهيأ غداً، ولن تتوفّر أبداً، فيظل الإنسان يتجرع غصص الندم والحسرة. يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من وجد مورداً عذباً يرتوي منه فلم يغتنمه، يوشك أن يظمأ ويطلبه ولم يجده»(3).

ثم إن هناك أخباراً كثيرة تذم طول الأمل، وتعتبره من لوازم حب الدنيا المهلك للإنسان، وإنه أحد أسبابه. فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر، إياك والتسويف بأملك، فإنك بيومك، ولست بما بعده، فإن يكن غد لك تكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غد لك لم تندم على ما فرطت في اليوم، ... يا أبا ذر، لو

ص: 405


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 373.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 414.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 596.

نظرت إلى الأجل ومسيره لأبغضت الأمل وغروره، ... يا أبا ذر، إذا أصبحت فلاتحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من أطال الأمل أساء العمل»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إياك وطول الأمل، فكم من مغرور افتتن بطول أمله، وأفسد عمله، وقطع أجله، فلا أمله أدرك، ولا ما فاته استدرك»(4).

ثم إن الجهل هو السبب الآخر لطول الأمل، ويمكن معالجته ودفعه بالعلم والفكر الصافي، كما ويمكن معالجة ودفع الأول، أي: حب الدنيا، بالتوجه إلى اللّه عزّ وجلّ.

وبالجملة: فاللازم على الإنسان أن يقصر أمله في هذه الحياة، وأن يرى الآخرة على مقربة منه، وأنه صائر عن قريب إليها، ومنقطع عن تدارك ما فاته فيها.

مع أسامة بن زيد

ورد في التاريخ أن أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر، فسمع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال: «ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر؛ إن أسامة لطويل الأمل، والذي نفسي بيده، ما طرفت عيناي إلّا ظننت أن شفريّ لا يلتقيان

ص: 406


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 526.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 42 من كلام له(عليه السلام) وفيه يحذر من ابتاع الهوى وطول الأمل في الدنيا.
3- نهج البلاغة، الحكم: الرقم 36.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 171.

حتى يقبض اللّه روحي، ولا رفعت طرفي وظننت أني خافضه حتى أقبض، ولا لقمتلقمة إلّا ظننت أني لا أسيغها لحصرتها من الموت، ثم قال: يا بني آدم، إن كنتم تعقلون، فعدّوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأتٖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}»(1)(2).

وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في دعائه: «اللّهم، إني أعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة، ومن حياة تمنع خير الممات، وأعوذ بك من أمل يمنع خير العمل»(3).

وقال الأصمعي(4):

حدثني من أثق به قال: غزونا البحر سنة، فمالت بنا السفينة إلى جزيرة، فإذا قصر شاهق، وللقصر بابان وإلى جنبه قبر، وبين القبر والقصر فسيل(5)

لم أر فسيلاً أحسن منه، وعلى القبر مكتوب:

يؤمّل دنيا لتبقى له *** فمات المؤمل قبل الأمل

وبات يروي أصول الفسيل *** فعاش الفسيل ومات الرجل

وعلى وجه القصر مكتوب:

وفتى كأن جبينه بدر الدجى *** قامت عليه نوائح وروامس(6)

غرس الفسيل مؤملاً لبقائه *** فبقى الفسيل ومات عنه الغارس(7)

ص: 407


1- سورة الأنعام، الآية: 134.
2- مشكاة الأنوار: 87.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 273.
4- عبد الملك بن قريب أبو سعيد الأصمعي (122-216ه) أحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان.
5- الفَسيل: كل عود يقطع من شجرته فيغرس، صغار النخل.
6- الروامس: كل دابة تخرج بالليل.
7- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 128.

اغتنام الفرص دليل الحزم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر، اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اغتنم المهل، وبادر الأجل، و تزود من العمل»(2).

وقال الغلابي: سألت الإمام الهادي(عليه السلام) عن الحزم؟ فقال(عليه السلام): «هو أن تنتظر فرصتك، وتعاجل ما أمكنك»(3).

لما كان طول الأمل أحد الدواعي الرئيسية لتفويت الفرص، كان التفريط هو السبب الثاني لذلك. ولكن تارة يكون التفريط فرعاً عن طول الأمل، أي: بسبب طول الأمل ينتج التفريط، وتارة أخرى ينتج بسبب الجهل، فالجاهل قدر الفرصة تمر الفرص من بين يديه وهو غير ملتفت إليها أبداً.

وعكس التفريط في الأمر هو الحزم في الأمور، وعدم تركها للظروف الإستثنائية، لأن ترك الأمر يؤدي إلى هدم حزم الإنسان وانهياره في داخله، يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ضادوا التفريط بالحزم»(4).

وحيث إن التفريط موجب لتفويت الفرصة وخسرانها، نرى أهل البيت^ يؤكدّون على الحزم والجزم في الأمور، وينهون عن التهاون والتفريط في الأعمال، ويحثّون على قصر الأمل وعدم التعويل على الأماني، لكي يكون الإنسان غانماً في حياته.

ص: 408


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 526.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 76 من خطبة له(عليه السلام) في الحث على العمل الصالح.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 138.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 427.

فهذا الإمام الحسن(عليه السلام) وهو في آخر لحظاته، وكان يقذف كبده الشريف قطعة قطعة!، كان في تلك اللحظات يَعِظْ (جنادة)، فقد روي عن جنادة بن أبي أمية(1) قال:

دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب^ في مرضه الذي توفي فيه، وبين يديه طست يقذف عليه الدم، ويخرج كبده قطعة قطعة من السم الذي أسقاه معاوية، فقلت: يا مولاي، ما لك لا تعالج نفسك؟

فقال(عليه السلام): «يا عبد اللّه، بماذا أعالج الموت؟!».

قلت: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}(2).

ثم التفت(عليه السلام) إليّ فقال: «واللّه، لقد عهد إلينا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة، ما منا إلّا مسموم أو مقتول».

ثم رفعت الطست، وبكى صلوات اللّه عليه وآله، قال: فقلت له: عظني يا ابن رسول اللّه.

قال: «نعم، استعد لسفرك، وحصل زادك قبل حلول أجلك. واعلم، أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك. ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه. واعلم، أنك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلّا كنت فيه خازناً لغيرك. واعلم، أن في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب. فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك، فإن كان ذلك حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر، فأخذت كما أخذت من الميتة، وإن كان العتاب فإن العتاب يسير. وأعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل

ص: 409


1- قال الشيخ في رجاله: جنادة بن أبي أمية الأزدي من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سكن مصر. رجال الطوسي: 34.
2- سورة البقرة، الآية: 156.

لآخرتك كأنك تموت غداً. وإذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذل معصية اللّه إلى عزّ طاعة اللّه عزّ وجلّ...»(1).

وهكذا كان الإمام الحسن(عليه السلام) فإنه قد اقتدى بجدّه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حيث إن الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو في آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة يحاول أن يستغل تلك الثواني ويستخدمها من أجل نفع الأمة، قائلاً: «أئتوني بدواة وكتف، اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً»(2) فكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حريصاً على سعادة الأمة بعده، وحريصاً على بقاء السير الواعي فيها، لكيلا تنقلب على عقبها.

ص: 410


1- بحار الأنوار 44: 138.
2- الإرشاد 1: 184. وذكر العلامة المجلسي في بحار الأنوار، بسنده عن عبد اللّه بن عباس قال: لما حضرت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الوفاة، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً» فقال: لا تأتوه بشي ء، فإنه قد غلبه الوجع!، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّه، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول اللّه، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما كثر اللغط والاختلاف قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قوموا عني» قال عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة: وكان ابن عباس رحمه اللّه يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لنا ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. بحار الأنوار22: 474. وروي باختلاف يسير في اللفظ، في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 2: 55. ورواه البخاري في صحيحه 7: 9، ومثله في السنن الكبرى للنسائي3: 433، ورواه ابن حنبل في مسنده 1: 222، وفي السنن الكبرى للبيهقي عن سليمان بن أبي مسلم قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس رضي اللّه عنهما يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس، ثم بكى، ثم قال: اشتد وجع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «ائتوني اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً»، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقال: «ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه». السنن الكبرى 9: 207، وعن الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عباس قال: دعا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكتف فقال: «ائتوني بكتف، أكتب لكم كتاباً لا تختلفون بعدي أبداً» فأخذ من عنده من الناس في لغط، فقالت امرأة ممن حضر: ويحكم، عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليكم. فقال بعض القوم: اسكتي، فإنه لا عقل لك. فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنتم لا أحلام لكم». مجمع الزوائد 4: 215.

فالرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومون^ كانوا قد وظفوا كل أعمارهم حتى آخر لحظات حياتهم من أجل تقديم الهداية والسعادة للبشرية.

مع مؤلف مستدرك البحار

كنت وقبل خمسين عاماً تقريباً برفقة والدي المرحوم السيد ميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه) في زيارة للمرحوم السيد حسين القمي(رحمه اللّه) في سامراء، وكان الجوّ حاراً للغاية، فلما فرغ السيد القمي(رحمه اللّه) من صلاة العشائين وتناول قليلاً من الطعام، ذهب مع أصحابه العلماء إلى منطقة الشطيّة(1) وقضى ليلته هناك، وكان من جملة أصحابه الذين رافقوه: المرحوم الميرزا محمد الطهراني(2) ذلك العالم الفقيه، المتقي الخدوم، الذي كان لايعرف الكلل والملل، وكان منشدّاً ومنكباً على تأليف كتابه: «مستدرك البحار». وكان طوال تلك الليلة لا يفتر من الكتابة، وقضى أكثرها بالتأليف والتحقيق، وكان لا تصدّه الموانع، ولاتعيقه المشاكل والصعوبات، وكان يستضيء للكتابة بمصباح ذي بطّارية، حيث كان يأخذ المصباح بيد ويكتب باليد الأخرى، فاستغل وقت الراحة هذا بالتأليف والكتابة والبحث، فأفاد واستفاد(رحمه اللّه).

ص: 411


1- الشطيّة: منطقة في مدينة سامراء تقع قرب نهر دجلة تمتاز باعتدال المناخ ولطافة الهواء.
2- الشيخ الجليل الميرزا محمد بن رجب علي الطهراني (1281-1371ه) العسكري، نزيل سامراء. فقيه، بحاثة، محدث، عارف بالرجال. من آثاره: الفوائد العسكرية في ثلاث مجلدات، الصحيفة المهدوية في أدعية الإمام الثاني عشر(عليه السلام)، ومستدرك بحار الانوار في (25 مجلداً) ومستدرك إجازات بحار الأنوار في ست مجلدات. ورسالة في كرامات السيد محمد بن الإمام علي الهادي(عليه السلام). جاء في الذريعة: مستدرك بحار الأنوار: لمولانا العلامة الميرزا محمد بن رجب علي الطهراني العسكري نزيل سامراء، كتب أولاً (مصابيح الأنوار) في فهرس أبواب البحار ثم اشتغل باستدراك كل باب، واستدرك في كثير من أبوابه، واستدراك مجلده الأخير في الإجازات ثمينة جداً بلغ ست مجلدات كبار. انظر: معجم المؤلفين 9: 307 والذريعة إلى تصانيف الشيعة 21: 4.

مع المحدث القمي(رحمه اللّه)

ومما يذكر في هذا المجال أيضاً: إن إحدى الشخصيات المعروفة في النجف الأشرف، سافر ذات مرة إلى لبنان برفقة جماعة لأجل الاستجمام، فعمد إلى الشيخ عباس القمي(رحمه اللّه) مؤلف كتاب (مفاتيح الجنان) وأخذه معه.

يقول ذلك الشخص: فلما وصلنا إلى لبنان واستقر بنا المقام، انكب الشيخ عباس القمي(رحمه اللّه) على التأليف والكتابة ولزم غرفته، ولم يخرج منها إلّا للأمور الضرورية اللازمة، وكل ما أصررنا عليه حتى نأخذه معنا للمنتزهات البهيجة والمصايف الجميلة، لكي يرفه عن نفسه ويبتهج بمناظرها ومباهجها، وطراوة أشجارها وصفاء هوائها، لكنه لم يقبل ولم يستجب لنا، بل اغتنم الفرصة بجزم وحزم، وبقي مشتغلاً بالتأليف والتصنيف، وألفّ في ذلك المكان عدة مؤلفات، فللّه درّه وعليه أجره(رحمه اللّه).

الكتب بساتين العلماء

وكان والدنا السيد الميرزا مهدي(رحمه اللّه) من هذا الركب، فقد كان يؤثر البقاء في كربلاء المقدسة، ولم يكن يخرج منها للتنّزه والاستجمام في بساتينها ومزارعها، بين أشجارها وسنابلها، وأنهارها وعيونها، علماً بأن كربلاء المقدسة كانت تمتاز بكثرة بساتينها الوارفة ومياهها الغزيرة، وأشجارها ونخيلها، وكانت البساتين قريبة على كربلاء، هذا على الرغم من أن كثيراً من أصحابه ومقلديه كانوا يطلبون منه ذلك، ويصرّون عليه في الخروج إليهم، لكنه(رحمه اللّه) لم يخرج ولا مرّة، وذلك ليغتنم فرصة العمر ولايفوّت على نفسه لحظة من لحظاته قدر الإمكان، فإنه لو فات شيء منها لم يمكن استردادها ولا تداركها، لذلك كانوا كل ما أشاروا عليه بالتنّزه وقالوا بأن النزهة ضرورية لمثل سماحتكم وهكذا الاستراحة والترفيه، كان يذكر

ص: 412

الحديث الوارد عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الكتب بساتين العلماء»(1).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أدلكم على الخلفاء من أمتي، ومن أصحابي، ومن الأنبياء قبلي؛ هم: حملة القرآن والأحاديث عني وعنهم في اللّه وللّه عزّ وجلّ، ومن خرج يوماً في طلب العلم فله أجر سبعين نبياً»(2).

نماذج أخرى

هذا ولا يخفى: أن التنزه - مع رعاية الشروط الشرعية - شيء جائز، وربما كان ممدوحاً وجميلاً، فهناك روايات تدعو إليه وتمدحه، وليس قصدنا هنا ذم التنزه والتحامل عليه، وإنما نريد أن نقول: إن بعض الناس حريصون على وقتهم، شحيحون على عمرهم، بحيث يعتبرون التنزّه مضيعة للوقت، والاستجمام متلفة للعمر؛ ولذلك تراهم دائماً يرّجحون الأعمال والانجازات التي كانت تحت أيديهم على الاستجمام والتنزه ويقدّمون للمجتمع منجزات كبيرة ومعطيات عظيمة، وعلى الإنسان المؤمن أن يتعلم منهم ومن قدوتهم وأسوتهم الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين^ ذلك.

فقد روي عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: استقبلت أبا عبد اللّه الإمام الصادق(عليه السلام) في بعض طرق المدينة في يومٍ صائفٍ شديد الحر، فقلت: جعلت فداك، حالك عند اللّه عزّ وجلّ وقرابتك من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأنت تجهد لنفسك في مثل هذا اليوم؟!

فقال: «يا عبد الأعلى، خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك»(3).

ص: 413


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 54.
2- مستدرك الوسائل 17: 301.
3- الكافي 5: 74.

وعن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «لقي رجل أمير المؤمنين(عليه السلام) وتحته وسق من نوى، فقال له: ما هذا يا أبا الحسن تحتك؟ فقال: مائة ألف عذقٍ، إن شاء اللّه، قال: فغرسه، فلم يغادر منه نواة واحدة»(1).

وفي رواية أخرى عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «إن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يخرج ومعه أحمال النوى، فيقال له: يا أبا الحسن، ما هذا معك؟ فيقول: نخلٌ، إن شاء اللّه، فيغرسه فلم يغادر منه واحدة»(2).

وعن أبي عمرو الشيباني قال: رأيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له، والعرق يتصاب عن ظهره، فقلت: جعلت فداك، أعطني أكفك؟ فقال لي: «إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة»(3).

نعم، هكذا كانوا^، وكذلك يلزم أن يكون شيعتهم.

مع مؤلف اللمعة الدمشقية

يُذكر أن الشهيد الأول(رحمه اللّه) استطاع أن يكتب كتابه: (اللمعة الدمشقية) في مدة لا تتجاوز السبعة أيام، ولم يحضره من المراجع الفقهية غير كتاب: (المختصر النافع) للمحقق الحلي، علماً بأن الشهيد(رحمه اللّه) كان لا يخلو بيته من أبناء العامة، ورجال السياسة الذين كانوا يضيّقون عليه، ولكنه عندما بدأ بكتابة (اللمعة الدمشقية) لم يدخل بيته ولم يمر به أحد منهم لمدة سبعة أيام!

وما زال هذا الكتاب المبارك يستفيد منه عشرات الآلاف من طلاب العلوم

ص: 414


1- الكافي 5: 75.
2- الكافي 5: 75.
3- الكافي 5: 76.

الدينية، والذين بدورهم ينشرونه على الملايين من البشر، عن طريق المنبر، والمحراب، والوكلاء، وكذلك المجتهدون مباشرة.

الشهيد الأول(رحمه اللّه) وكيفية شهادته

ولبيان همة هذا العالم الكبير - الشهيد الأول - وشدة معاناته، لابأس بذكر قصة استشهاده، فقد ذكر أن شخصاً يدعى محمد اليالوشي أسس في جبل عامل حزباً منحرفاً، استطاع أن يغوي به بعض عوام الناس ويخدعهم، ويثير بينهم النعرات الطائفية وفتنة داخلية، راح ضحيتها الكثير من الناس، ذلك بسبب حدوث الاضطرابات والمشاحنات في بعض بلاد الشام.

غير أن الشهيد الأول(رحمه اللّه) تصدى له، وأقنع الحكومة المركزية - آنذاك - بضرورة مواجهته وإخماده، فتحركت قطعات من الجيش لقمع الفتنة واستئصالها، فقتل محمد اليالوشي وبعض جماعته وأسر آخرون، واندحرت فلوله، لكن البعض استطاع الفرار إلى مناطق أخرى.

وكان من نتيجة ذلك أن جمع (قرن الشيطان) فلول تلك الحركة الضالة تحت قيادة (تقي الدين الجبلي) في الجنوب اللبناني، ثم توسعت الحركة في عهد (يوسف بن يحيى) الذي خلَّف (الجبلي) في قيادة الحركة، وقد تمكن بعض أفراده من الاندساس في القوة القضائية في مدينتي بيروت وحلب، وكان شغلهم الشاغل الانتقام من الشهيد الأول (رضوان اللّه تعالى عليه).

وهكذا استغلوا نفوذهم في القوة القضائية، وتقربوا من حاكم دمشق (بيدمر) وهو صاحب السلطة المطلقة آنذاك، ودبّجوا التقارير، وحاكوا المؤامرات للكيد بالشهيد الأول(رحمه اللّه).

وآخر تلك المؤامرات، كان افتعال رسالة مزورة تطفح بالارتداد ومخالفة

ص: 415

الشرع الإسلامي، دبّجها يوسف بن يحيى المذكور ونسبها إلى الشهيد، وأشهد عليها من جماعته سبعين رجلاً، وادّعوا أن الشهيد(رحمه اللّه) قد ارتد عن دين الإسلام!

ورفعوا المذكرة إلى قاضي صيدا، وهو أحد أعضاء حركتهم، ثم رفعها هو بدوره إلى القاضي عبّاد بن جماعة الشافعي، قاضي قضاة الشام في دمشق، وهو المنصب الثاني في البلاد، ولم يكن حقد هذا الأخير وحسده للشهيد بأقل من سابقيه، وطالما كان يتحيّن للشهيد فرصة كهذه ليزيحه من طريقه، خصوصاً وإن الشهيد كان قد سلب الأنظار عن ابن جماعة وأشباهه، وذلك لما اشتهر به من علم وتواضع، بحيث كان قاضياً محبوباً من جميع الأطراف والمذاهب، يقضي لكلّ على مذهبه، ويسعى دائماً من أجل لمّ الشمل ووحدة الصف.

اعتقال الشيخ الشهيد

عند ذلك أصدر (ابن جماعة) أمراً باعتقال الشهيد(رحمه اللّه)، وشكل محكمة صورية تحت إشراف برهان الدين المالكي، للنظر في تهمة الارتداد، واجتمع الملك بيدمر والأمراء والقضاة والشيوخ، وأُحضر الشهيد العاملي، وقرؤوا عليه المحضر. فأنكر الشهيد جميع التهم والافتراءات التي وجهت ضده.

فقيل له: قد ثبت ذلك عليك شرعاً، وإنّ القاضي قد حكم بارتدادك.

فرد الشهيد قائلاً: الحكم الغيابي الذي صدر بحقي باطل استناداً إلى قاعدة: (إن الغائب على حجته، فإن أتى بما يناقض الحكم جاز نقضه، وإلّا فلا، وها أنا أبطل شهادات من شهد بالجرح ولي على كل واحد حجة بينة) وهو كلام معقول، إلّا أن ذلك لم يسمع منه.

فقال القاضي برهان الدين، الذي يحكم وفق المذهب المالكي: إن الشهود قد أدلوا بشهاداتهم، وردّك للتهمة لا ينفي الحكم.

ص: 416

قال الشهيد: إنني على استعداد ان أبطل شهادات الشهود، بعد أن أثبت جرحهم.

قال القاضي: إن حكم القاضي غير قابل للفسخ.

فلمّا علم الشهيد إصرار القاضي على الباطل، توجه إلى القاضي عباد بن جماعة بالقول: أتزعم أنك إمام لمذهب الشافعي، فاقض لي حسب موازين مذهبك.

لكن ابن جماعة الشافعي قطع مقولة الشهيد وقال: إن المرتد حسب المذهب الشافعي يسجن سنة واحدة، ويفرج عنه إذا تاب، وإنك قد أنهيت مدة السجن، وما عليك إلّا أن تستغفر ربك، وتتوب لكي يطلق سراحك.

لكن مكرهم وحيلتهم لم تكن لتنطلي على رجل مثل الشهيد؛ ذلك لأنه لو نفذ طلبهم لاحتجوا بذلك لقتله؛ بذريعة أنه اعترف بالارتداد، فضلاً عن سقوطه اجتماعياً أمام الرأي العام، الذي سرعان ما تنطلي عليه أحابيل الإعلام ودعايته، ثم كيف يتوب من ذنب هو لم يرتكبه؟!

عندئذ توجّه ابن جماعة الشافعي إلى برهان الدين، وأوعز له بالقضاء على ضوء المذهب المالكي، فأصدر القاضي حكم الإعدام بحقه.

إن كنت عبدي فاصطبر

بعد ذلك اقتيد الشهيد الأول(رحمه اللّه) إلى قلعة دمشق، وفي وسط الطريق، كتب الشهيد على رقعةٍ كانت عنده: (ربّ إني مغلوب فانتصر)(1) ثم وضعها على الأرض، وما هي إلّا خطوات، وإذا بريح ترفع الرقعة وتلقي بها أمام الشهيد، وقد كتب على طرفها الآخر بخط غيبيّ: (إن كنت عبدي فاصطبر).

ص: 417


1- اقتباس من سورة القمر، الآية: 10 قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}.

هناك أيقن الشهيد أن التقدير الإلهي هو أن يقتل في سبيل اللّه عزّ وجلّ. كما ورد بالنسبة إلى سيد الشهداء الإمام أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام): «شاء اللّه أن يراك قتيلاً»(1).

وعند الفجر قطعوا رأس الشهيد(رحمه اللّه) وصلبوه، ثم نادوا في الناس، أن يرموا جثمانه الشريف بالحجارة. وعصر ذلك اليوم المشؤوم أضرموا في جسده الطاهر النار، ثم جمعوا رماده وذرّوه في الهواء.

نعم، لقد قتل الشهيد وأحرق وذرّ في الهواء، ولكن إرادة السماء شاءت أن يبقى اسم الشهيد خالداً، رغم مكر الآثمين وكيد الحاقدين. وصار قبر الشهيد في قلب كل مؤمن، وآراؤه وعلومه في قلب كل عالم، وقد انتقم اللّه سبحانه من كل من اشترك في بهذه الجريمة البشعة بأنواع العذاب حتى أبادهم عن آخرهم، ولعذاب الآخرة أشد(2).

ص: 418


1- روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «سار محمد بن الحنفية إلى الحسين(عليه السلام) في الليلة التي أراد الخروج صبيحتها عن مكة، فقال: يا أخي، إن أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعز من في الحرم وأمنعه، فقال: يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت. فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن، أو بعض نواحي البر، فإنك أمنع الناس به ولا يقدر عليك. فقال: انظر: فيما قلت، فلما كان في السحر ارتحل الحسين(عليه السلام) فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه، فأخذ زمام ناقته التي ركبها فقال له: يا أخي، أ لم تعدني النظر فيما سألتك؟! قال: بلى، قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: أتاني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين(عليه السلام) اخرج، فإن اللّه قد شاء أن يراك قتيلاً. فقال له ابن الحنفية: إنا للّه وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: قد قال لي: إن اللّه قد شاء أن يراهن سبايا. وسلم عليه ومضى». اللّهوف على قتلى الطفوف: 63.
2- روضات الجنات: 7: 12 ترجمة محمد بن مكي العاملي الشهيد الأول.

مع مصنّف تبصرة المتعلمين

ينقل عن العلامة الحلي(رحمه اللّه) الذي كان يقطن الحّلة الفيحاء، وكانت يوم ذاك مركزاً علمياً وحوزوياً كبيراً،أنه دعي ذات مرة لحضور مجلس عقد قران في قضاء المسيب في العراق، واستغرق سفره أسبوعاً كاملاً، وحين ما رجع العلامة لم يحضر ولده فخر المحققين صلاته - وكان فخر المحققين من العبّاد والزهاد - وعندما سُئل عن سبب عدم حضوره لاة جماعة والده، قال: كيف ترك والدي أعماله وذهب لإجراء عقد قران، لمدة أسبوع كامل؟! فلما سمع العلامة الحلي(رحمه اللّه) مقالته أخرج كتابه (تبصرة المتعلمين) وقال: إنني قد اغتنمت الوقت هناك، وألفت هذا الكتاب في سبعة أيام فقط، وكانت مصادر العلامة لتأليف كتابه هذا هي ذاكرته لا غير، فقد كان يتمتع بإحاطة كاملة بالفقه.

إذن، على الإنسان المؤمن أن يستفيد من الوقت، حتى ذلك الذي يخصصه للنزهة والاستجام، فإنه ينبغي له أن لا يضيّعه هدراً، بل عليه استغلاله في تدارك ما مضى، أو تهيئة مقدمات المستقبل. ومستقبل المؤمن عمله الذي يدّخره للآخرة، لذا عليه أن يملأ أوقات فراغه، بكل أمر مفيد ولو بالذكر، لأن اللّه يسمع ما يتكلم به عبده، وأنه يبصر ويرى، وهو عليم بذات الصدور.

مع أحد المأمومين

دعاني ذات مرة أحد المقلدين وكان من المواظبين على الاقتداء بنا والصلاة معنا. وطلب مني أن أستجيب لدعوته، فقلت له: إني أعتذر من قبول هكذا دعوات؛ وذلك لما فيها من الوقوع في محاذير أتجنبها، إلّا أنه أصر علي كثيراً، فقلت له: إذاً بشرط أن لا تكلف نفسك، وكان معي أحد السادة الفضلاء(رحمه اللّه) وعندما ذهبنا إلى بيته، وجدناه قد وفى بوعده جزاه اللّه خيراً.

وعندما جلسنا واستقر بنا المقام، رأيت من المناسب أن أغتنم هذا الوقت

ص: 419

لأطرح على الحاج موضوعاً لربما تكون من ورائه نتائج نافعة.فقلت له: عندي موضوع أودّ أن أكلمك فيه.

فقال: تفضل.

قلت له: إن بعض المدارس الدينية في مدينة مشهد المقدسة تعرضت للهدم ونالها التخريب، فقلّ عددها هناك، فما رأيك - لو كنت قادراً - أن تبني مدرسة علمية هناك بإسم الإمام الرضا(عليه السلام)؟

فقال: وأنت تشجّع على هذا المشروع؟

قلت له: نعم، فقال: وهل يمكن حساب كلفة البناء من الحقوق الشرعية؟

قلت له: نعم، فإن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «الخمس عوننا على ديننا»(1).

فقال الحاج: لا مانع لدي من ذلك، ثم قال: وكم تبلغ تكاليف هذا المشروع؟

قلت له: سأتصل بأحد أصدقائنا في طهران، وأخبرك بالموضوع، وبالفعل أخيراً تم بناء مدرسة الإمام الرضا(عليه السلام) في مدينة مشهد المقدسة، وكان سبب بنائها هو ذلك الحديث الذي لم يستمر أكثر من عشر دقائق!

يوم القيامة وساعات عمر الإنسان

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن جسده فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت»(2).

وجاء في بعض الروايات: أن في يوم القيامة يؤتى بساعات عمر الإنسان، كل ساعة على هيئة صندوق، ثم يفتحون تلك الصناديق واحداً واحداً، فإن كانت

ص: 420


1- الكافي 1: 548.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 593.

ساعات خير، خرج منها نور يضيء المحشر، فيسرّ به صاحبه. ولو كان الإنسان- والعياذ باللّه - قد ارتكب عملاً قبيحاً، خرجت من الصندوق رائحة كريهة، أو الأفاعي والعقارب، أما تلك الساعات التي لم يعمل فيها الإنسان لا شراً ولا خيراً، فإن الصندوق لتلك الساعة يأتي خالياً فيتحسّر عليها. أما ساعات النوم فإن كان نام الليل على وضوء، فإن جميع صناديق ساعات ليله تكون صناديق نور، أما لو نام الإنسان ليلة وباتت معه نية سوء، فستكون صناديق تلك الساعات، مملوءة بما يعبّر عن السوء.

قال الشيخ إبراهيم الكفعمي(رحمه اللّه) في كتاب (محاسبة النفس): يا نفس، وهذا يوم جديد، وهو عليك شهيد، فاعملي فيه للّه بطاعته، وإياك إياك من إضاعته، فإن كل نفس من الأنفاس، وحاسة من الحواس، جوهرة عظيمة، ليس لها قيمة:

أولى الذخائر في الحماية والرعاية والحراسة

عمر الفتى فهو النهاية في الجلالة والنفاسة

وحذار من تضييعه إن كنت من أهل الكياسة

وا علمي يا نفس، إن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، فاشتغلي فيها بالطاعة، فقد ورد في الخبر، عن سيد البشر(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنه ينشر للعبد كل يوم أربع وعشرون خزانة، بعضها فارغة وبعضها ملآة، فإذا فتحت له خزانة الحسنات، والمراضي والمثوبات، ناله من الفرح والسرور، والبهجة والحبور، بمشاهدة تلك الأنوار، التي هي وسيلة عند الملك الجبار، ما لو وزّع على أهل النار، لأدهشهم ذلك الفرح عن دار البوار. وإن فتحت له خزانة العصيان، والغيبة والبهتان، غشيه من نتنها وظلامها، وأصابه من شرها وآلامها، ما لو قسم على أهل النعيم، لنغّص عليهم التنعيم. وإن فتحت الفارغة من الأعمال، الموصوفة بالتكاسل والإهمال، لحقه الحزن العظيم، على خلوها من الثواب الدائم المقيم». فاملأها كلها يا

ص: 421

نفس من الحسنات، واشحنها بما شق من العبادات ولا تميلي إلى الكسلوالاستراحة، فما ملأ الراحة من استوطأ الراحة. وهب كنت مسيئة قد عفي عن جريرتك، وستر على سريرتك، أليس قد فاتك ثواب المحسنين، ودرجات الأبرار في عليين(1).

هذا وقد سبق أن أشرنا إلى أن تفويت الفرص لا تخلو من آثار سلبية على شخصية الإنسان وروحه، لأنه سوف يتأخر في الحصول على الكمالات، وبالتالي سوف يحرم من المقامات العالية في الدنيا والآخرة. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أخر الفرصة عن وقتها، فليكن على ثقة من فوتها»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من الخرق ترك الفرصة عند الإمكان»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من قعد عن الفرصة أعجزه الفوت»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «عود الفرصة بعيد مرامها»(5).

وقال(عليه السلام): «بادر الفرصة قبل أن تكون غصة، بادر البرّ فإن أعمال البر فرصة»(6).

نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لكي تكون كل ساعات عمرنا ميداناً لعمل الخير، ومجلبةً لرضا اللّه وثوابه، وأن يوفقنا لأغتنام الفرص، والقدرة على استخدامها واستغلالها في صالح الأعمال لخدمة النوع الإنساني، إن شاء اللّه تعالى.

ص: 422


1- محاسبة النفس: 5.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 638.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 681.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 614.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 343.
6- مستدرك الوسائل 12: 142.

«اللّهم صل على محمد وآله، ونبّهني لذكرك في أوقات الغفلة، واستعملني بطاعتك في أيام المهلة، وانهج لي إلى محبتك سبيلاً سهلة، وأكمل لي بها خيرالدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

هكذا املأ وقتك

1- بالعمل المفيد للدنيا والآخرة

قال اللّه تعالى: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَٰتُ الْعُلَىٰ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحًا تَرْضَىٰهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّٰلِحِينَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}(5).

2- فعل الخير

قال اللّه تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(6).

ص: 423


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة الأنعام، الآية: 132.
3- سورة طه، الآية: 75.
4- سورة النمل، الآية: 19.
5- سورة البروج، الآية: 11.
6- سورة آل عمران، الآية: 104.

وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَٰتِ وَإِقَامَ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوٰةِ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ}(1).وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {أُوْلَٰئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ}(3).

3- طلب العلم

قال اللّه تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(4).

وقال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّلْعَٰلِمِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال جلّ وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(7).

4- ذكر اللّه على كل حال

قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}(8).

ص: 424


1- سورة الأنبياء، الآية: 73.
2- سورة الحج، الآية: 77.
3- سورة المؤمنون، الآية: 61.
4- سورة طه، الآية: 114.
5- سورة الروم، الآية: 22.
6- سورة الزمر، الآية: 9.
7- سورة المجادلة، الآية: 11.
8- سورة البقرة، الآية: 152.

وقال سبحانه: {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَٰرِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِالسَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(2).

وقال جلّ وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

هكذا املأ وقتك

1- بالعمل الصالح المفيد دنياً وآخرة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بإدمان العمل في النشاط والكسل»(5).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إن أحبكم إلى اللّه عزّ وجلّ أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند اللّه عملاً أعظمكم فيما عند اللّه رغبة، وإن أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم خشية للّه، وإن أقربكم من اللّه أوسعكم خلقاً، وإن أرضاكم عند اللّه أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم عند اللّه أتقاكم للّه»(6).

وقال الإمام أبو الحسن الثالث الهادي(عليه السلام): «الناس في الدنيا بالأموال، وفي

ص: 425


1- سورة آل عمران، الآية: 41.
2- سورة آل عمران، الآية: 191.
3- سورة الأعلى، الآية: 14-15.
4- الخصال 1: 178.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 444.
6- الكافي 8: 68.

الآخرة بالأعمال»(1).

2- فعل الخير

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من فتح له باب خير فلينتهزه؛ فإنه لا يدري متى يغلقعنه»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليكم بأعمال الخير فبادروها، ولا يكن غيركم أحق بها منكم»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) لزرارة: «اعلم، أن أأول الوقت أبداً أفضل، فعجِّل الخير ما أستطعت، وأحب الأعمال إلى اللّه ما داوم عليه العبد وإن قل»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا هممت بخير فلا تؤخره، فإن اللّه تبارك وتعالى ربما اطلع على عبده وهو على الشيء من طاعته، فيقول: وعزتي وجلالي لا أعذبك بعدها أبداً، وإذا هممت بمعصية فلا تفعلها فإن اللّه تبارك وتعالى ربما اطلع على العبد وهو على شيء من معاصيه فيقول: وعزتي وجلالي، لا أغفر لك أبداً»(5).

3- طلب العلم

قال الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(عليه السلام): «بينما أنا جالس في مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ دخل أبو ذر، فقال: يا رسول اللّه، جنازة العابد أحب إليك، أم مجلس العالم؟

ص: 426


1- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 139.
2- عوالي اللئالي 1: 289.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 448.
4- الكافي 3: 274.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 205.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا أبا ذر، الجلوس ساعة عند مذاكرة العالم، أحب إلى اللّه من ألف جنازة من جنازة الشهداء، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم، أحب إلى اللّه من قيام ألف ليلة يصلي في كل ليلة ألف ركعة، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى اللّه من ألف غزوة، وقراءة القرآن كله.

قال: يا رسول اللّه، مذاكرة العلم خير من قراءة القرآن كله؟!

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا أبا ذر، الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم، أحب إليّ من قراءة القرآن كله اثني عشر ألف مرة، عليكم بمذاكرة العلم؛ فإن بالعلم تعرفون الحلال من الحرام؛ ومن خرج من بيته ليلتمس باباً من العلم كتب اللّه عزّ وجلّ له بكل قدم ثواب نبي من الأنبياء، وأعطاه اللّه بكل حرف يستمع أو يكتب مدينة في الجنة، وطالب العلم أحبّه اللّه وأحبّه الملائكة وأحبّه النبيون، ولايحب العلم إلّا السعيد، وطوبى لطالب العلم يوم القيامة.

يا أبا ذر، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم خير لك من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، والنظر إلى وجه العالم خير لك من عتق ألف رقبة، ومن خرج من بيته ليلتمس بابا من العلم كتب اللّه له بكل قدم ثواب ألف شهيد من شهداء بدر، وطالب العلم حبيب اللّه، ومن أحب العلم وجبت له الجنة، ويصبح ويمسي في رضا اللّه، ولا يخرج من الدنيا حتى يشرب من الكوثر، ويأكل من ثمرة الجنة، ولا يأكل الدود جسده، ويكون في الجنة رفيق الخضر(عليه السلام)، وهذا كله تحت هذه الآية قال اللّه تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(1)»(2).

ص: 427


1- سورة المجادلة، الآية: 11.
2- جامع الأخبار: 37.

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من عبد يغدو في طلب العلم أو يروح، إلّا خاض الرحمة، وهتفت به الملائكة: مرحباً بزائر اللّه، وسلك من الجنة مثل ذلك المسلك»(1).وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «طالب العلم يستغفر له كل شيء، والحيتان في البحار، والطير في جو السماء»(2).

4- ذكر اللّه على كل حال

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بادروا إلى رياض الجنة» فقالوا: وما رياض الجنة؟ قال: «حَلَق الذّكر»(3).

وفيما أوصى به أمير المؤمنين(عليه السلام) عند وفاته: «هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أخو محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وابن عمه وصاحبه، أول وصيتي: أني أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمداً رسوله وخيرته اختاره بعلمه وارتضاه لخيرته، وأن اللّه باعث من في القبور، وسائل الناس عن أعمالهم عالم بما في الصدور.

ثم إني أوصيك يا حسن - وكفى بك وصياً - بما أوصاني به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإذا كان ذلك يا بني الزم بيتك، وابك على خطيئتك، ولا تكن الدنيا أكبر همك، وأوصيك يا بني بالصلاة عند وقتها، والزكاة في أهلها عند محالِّها، والصمت عند الشبهة والاقتصاد، والعدل في الرضاء والغضب، وحسن الجوار، وإكرام الضيف، ورحمة المجهود و أصحاب البلاء، وصلة الرحم، وحب المساكين ومجالستهم، والتواضع فإنه من أفضل العبادة، وقصر الأمل، واذكر الموت، وازهد في الدنيا، فإنك رهين موت، وغرض بلاء، وصريع سقم. وأوصيك بخشية اللّه في سرِّ أمرك

ص: 428


1- ثواب الأعمال: 131.
2- بصائر الدرجات 1: 4.
3- معاني الأخبار: 321.

وعلانيتك، وأنهاك عن التسرع بالقول والفعل، وإذا عرض شي ء من أمر الآخرة فابدأ به، وإذا عرض شي ء من أمر الدنيا فتأنه حتى تصيب رشدك فيه، وإياك ومواطن التهمة والمجلس المظنون به السوء، فإن قرين السوء يَغُرُّ جليسه. وكنللّه يا بني عاملاً، وعن الخنا(1) زجوراً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً، وواخ الإخوان في اللّه، وأحب الصالح لصلاحه، ودار الفاسق عن دينك، وأبغضه بقلبك، وزايله بأعمالك، كي لا تكون مثله، وإياك والجلوس في الطرقات، ودع المماراة، ومجازاة من لا عقل له ولا علم. واقتصد يا بني في معيشتك، واقتصد في عبادتك، وعليك فيها بالأمر الدائم الذي تطيقه، والزم الصمت تسلم، وقدم لنفسك تغنم، وتعلم الخير تعلم، وكن للّه ذاكراً على كل حال، وارحم من أهلك الصغير، ووقّر منهم الكبير، ولا تأكلن طعاماً حتى تتصدق منه قبل أكله، وعليك بالصوم فإنه زكاة البدن وجُنة لأهله، وجاهد نفسك، واحذر جليسك، واجتنب عدوك، وعليك بمجالس الذكر، وأكثر من الدعاء فإني لم آلك يا بني نصحاً، وهذا فراق بيني وبينك. وأوصيك بأخيك محمد خيراً، فإنه شقيقك وابن أبيك، وقد تعلم حبي له، فأما أخوك الحسين فهو ابن أمك، ولا أزيد الوصاة بذلك، واللّه الخليفة عليكم، وإياه أسأل أن يصلحكم، وأن يكف الطغاة البغاة عنكم، والصبر الصبر حتى ينزل اللّه الأمر، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم»(2).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام) في إحدى مناجاته: «اللّهم صل على محمد وآل محمد واجعلنا من الذين اشتغلوا بالذكر عن الشهوات...»(3).

ص: 429


1- الخنا: الفحش في الكلام.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 7.
3- بحار الأنوار 91: 127.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «شيعتنا الذين إذا خلوا ذكروا اللّه كثيراً»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه: ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عندمليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الدينار والدرهم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم وتقتلونهم، ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: ذكر اللّه كثيراً»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «قال اللّه تعالى: ابن آدم، اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي. ابن آدم اذكرني في خلاء، أذكرك في خلاء. ابن آدم اذكرني في ملأ، أذكرك في ملأ خير من ملائك - وقال: - ما من عبد يذكر اللّه في ملأ من الناس إلّا ذكره اللّه في ملأ من الملائكة»(3).

ص: 430


1- الكافي 2: 499.
2- المحاسن 1: 38.
3- المحاسن 1: 39.

أقسام الجهاد

أقسام الجهاد

اشارة

قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «أما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللّه لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى، ودرع اللّه الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذل، وشمله البلاء ودُيِّث(1) بالصّغار والقماءة(2) وضرب على قلبه بالإسهاب(3) وأديل الحق منه بتضييع الجهاد...»(4).

عند البحث في موضوع الجهاد نلاحظه في أمور أربع، هي:

الأول: الهجرة إلى أرض الإسلام

اشارة

قال اللّه تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(5).

فقد ورد هنا - المهاجرة إلى اللّه - كناية عن المهاجرة إلى أرض الإسلام، وهذا معناه مفارقة أهل الشرك والكفر والهرب بالدين من الوطن إلى أرض الإسلام. وورد أيضاً: أخبر سبحانه أن مَن خرج من بلده مهاجراً من أرض الشرك فاراً بدينه

ص: 431


1- دُيِّث: مبني للمجهول من ديّثَهُ، أي: ذلَّله.
2- القماءة: الصّغار والذل.
3- الإسهاب: ذهاب العقل أو كثرة الكلام، أي حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلام بلا فائدة.
4- نهج البلاغة،الخطبة: الرقم 27، قالها(عليه السلام) يستنهض بها الناس... ويذكر فضل الجهاد.
5- سورة النساء، الآية: 100.

إلى اللّه ورسوله {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} قبل بلوغه دار الهجرة وأرض الإسلام {فَقَدْ وَقَعَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي ثواب عمله وجزاء هجرته على اللّه تعالى، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} أي ساتراً على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم {رَّحِيمًا} بهم رفيقاً(1).

عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد (صلى اللّه عليهما وآلهما)»(2).

وعن محمد بن حكيم قال: وجه زرارة بن أعين ابنه عبيداً إلى المدينة ليستخبر له خبر أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) وعبد اللّه، فمات قبل أن يرجع إليه عبيد ابنه، قال محمد بن أبي عمير،حدثني محمد بن حكيم قال: ذكرت لأبي الحسن(عليه السلام) زرارة وتوجيهه عبيداً ابنه إلى المدينة فقال: «إني لأرجو أن يكون زرارة ممن قال اللّه فيهم: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}»(3).

ومما لا شك فيه إن آيات القرآن لا تختص بزمن معين أو مكان خاص بل هي عامة لكل الأزمنة والأمكنة، وإن كان نزولها على الصدر الأول من المسلمين الذين عاشوا في جزيرة العرب في عهد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الفترة بين هجرته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة وحتى فتح مكة.

في تلك الفترة كانت الأرض منقسمة يومئذ إلى أرض الإسلام وهي المدينة وما حولها حيث كان المسلمون فيها أحراراً في دينهم لا يستطيع المشركون من منعهم من أداء الشعائر أو الفروض، ويقابل أرض الإسلام أرض الشرك، وهي

ص: 432


1- تفسير مجمع البيان 3: 172.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 33.
3- تفسير مجمع البيان 3: 172.

مكة وما حولها التي كان للمشركين سطوة عليها، وتسود فيها الوثنية والجاهليةبكل وحشيتها وهمجيتها، ولا يمكن لمسلم أن يظهر دينه فيها دون أن يناله عسف أو أذى.

لكن ذلك لا يقتصر على تلك الفترة فالآيات القرآنية المباركة التي تناولت هذا التقسيم تشمل كل العصور والأزمنة، وهذا يعني أن المسلم عليه أن يتجه إلى الأماكن والبلدان التي يستطيع فيها من إقامة شعائر الإسلام وأحكامه وأن يغادر التي لا علم فيها بمعارف الدين ولا سبيل للعمل بأحكامه.

الهجرة اليوم

لكن في الواقع المعاصر تغيرت الأسماء وهجرت مصطلحات مثل دار الإسلام، ودار الشرك، فصار الدين جنسية، والإسلام مجرد اسم. في حين أن القرآن الكريم لا يعتني بكل ذلك ويرتب الأثر على حقيقة الإسلام والإيمان فقط.

فمثلاً دولة إسرائيل تحتل أرضنا المقدسة، وأهلها يهجَّرون ويهاجرون منها فراراً من التنكيل والتقتيل الجماعي الذي يُمارس ضدهم. وكذلك الحال بالنسبة لعراقنا الجريح حيث يتسلط الطاغوت على رقاب شعبنا المظلوم، ويعمل نظام البعث الصدامي الذي امتلأت صفحاته السوداء بالقتل والتعذيب فيه بما لم يشهد له العالم مثيلاً، الأمر الذي أدى أيضاً إلى هجرة عدد كبير من أبناءه(1).

هجرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

وهنا لابد من إدراك الفرق بين هذه الهجرات وهجرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين في صدر الإسلام فهي ليست كما يظن البعض إنها لمجرد الهروب من الأذى

ص: 433


1- تشير بعض الإحصاءات أن عدد المهاجرين والمهجرين العراقيين قد بلغ الثلاثة ملايين نسمة، مشتتين في مختلف بقاع الأرض.

والتنكيل والخلاص من المنع الذي يفرضه المشركون في مجال ممارسة الشعائرمثلما يلجئ العابد الزاهد إلى المسجد يقيم فيه الصلاة بعيداً عن المضايقة والضوضاء في الخارج.

فهجرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانت أبعد وأعمق؛ لأن فيها أبعاد إضافية تتعدى الهروب بالدين، ذلك إنها تنطوي على خطة مرسومة وممهدة للمعركة الفاصلة، بدأت بوصول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة عندما آخى بين المهاجرين والأنصار، فوُحِّدَ القلوب المتخاصمة من الأوس والخزرج، وأذاب العصبية والأحقاد الجاهلية وعندما حقق(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تلك الأهداف، صار المسلمون مهيئون لخوض غمار الجهاد، فبدأ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرغِّبهم فيه ويحثهم عليه، دفاعاً عن كيانهم، وعقيدتهم، ضامناً الجنة لمن يقتل في سبيل اللّه، والعزة والكرامة دنيا وآخرة لمن ينجو من القتل، ولما أخذت هذه التعاليم سبيلها إلى نفوس المسلمين شرع(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تجنيدهم وتأليف السرايا، فصار يبعثها هنا وهناك وقاد بعضها بنفسه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكثر من مرة، وبذلك حقق الاستقرار(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأمن للمسلمين، كما أقلقت راحة قريش وسلامتها وتحولت السرايا إلى جيش يخوض معارك كبرى ويبذل جنده أرواحهم وأموالهم في سبيل الفتح حتى أتى اللّه بالفتح {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}(1).

ولعل في هذه الإشارة كفاية للاعتبار واستنتاج ما نحتاج إليه لندفع به نكبتنا في العراق بحزب البعث الكافر ومن يسانده.

لماذا الهجرة؟

لما تزايد اعتداء طغيان المشركين على الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هاجر من مكة ومعه أصحابه، كذلك هاجر وهجّر مسلموا العراق من الأماكن المقدسة،

ص: 434


1- سورة التوبة، الآية: 40.

ككربلاء المقدسة والنجف الأشرف وباقي مدن العراق، وكانت هجرتهم آنذاك ابتعاداً عنالوقوع في التهلكة وانسحاباً من ميدان المعركة لتجميع القوى والاستعداد لتوجيه الضربة إلى العدو، وهكذا يجب أن يظل دائماً وليس لأجل إخلاء البيت للصوص يسرحون ويمرحون فيه.

وهذا ما قام ويقوم به الشهداء على طريق تحرير العراق، الذين يموتون وينالون شرف الشهادة فختموا هذه الدنيا بسلام، لأنها دار فناء فهي مزرعة الآخرة(1)، فإذا مات الإنسان انقطع عمله(2)، فإذا كان موته هذا في سبيل اللّه وفي سبيل الإسلام فقد فاز فوزاً عظيماً؛ لأن الشهادة باب من أبواب الجنة وأي شيء أفضل من ذلك؟

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن جبرائيل أخبرني بأمر قرت به عيني وفرح به قلبي، قال: يا محمد، من غزا غزاة في سبيل اللّه من أمتك فما أصاه قطرة من السماء أو صداع إلّا كانت له شهادة يوم القيامة»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «للشهيد سبع خصال من اللّه أول قطرة من دمه مغفور له كل ذنب، والثانية يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه تقولان مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما، والثالثة يكسى من كسوة الجنة، والرابعة يبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيبة أيهم يأخذه معه، والخامسة أنه يرى منزلته، والسادسة يقال لروحه اسرح في الجنة حيث شئت، والسابعة أن ينظر في وجه اللّه وإنها لراحة لكل نبي وشهيد»(4).

ص: 435


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 183.
2- روضة الواعظين 1: 11.
3- الكافي 5: 8.
4- تهذيب الأحكام 6: 121.

فإذا حصل الإنسان على أشرف أنواع الموت وهو الموت في سبيل اللّهمجاهداً، فقد قال أمير المتقين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «إن الموت طالب حثيث، لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، إن أكرم الموت القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتةٍ على الفراش في غير طاعة اللّه»(1).

موت كموت بعير

لما اقترب أجل أحد أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان قد اشترك في عدد من الغزوات مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكن لم تكتب له الشهادة، فلما رأى نفسه على فراش الموت أخذ يبكي بكاءً مريراً رغم انه سيلقى اللّه وفيه من آثار الجهاد فقيل له: لماذا تبكي؟

قال: «موت كموت البعير» أي انه استنكر على نفسه أن يموت كما يموت البعير وانه أحب أن يستشهد في سبيل اللّه وينال ثواب الشهادة الذي يفوق كل ثواب واذا كان الموت قدر على كل إنسان ولا مفر منه، فلماذا لا يموت الإنسان في سبيل مبادئه، وعقيدته، وفي سبيل اللّه والدار الآخرة؟

روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه كتب القتل على قوم والموت على آخرين وكل آتيه منيته كما كتب اللّه له، فطوبى للمجاهدين في سبيل اللّه والمقتولين في طاعته»(2).

لذا فان المجاهدين الذين ماتوا في سبيل اللّه نالوا المنزلة الرفيعة عند اللّه والتي لا تضاهيها منزلة أخرى ولا يصل إليها إلّا من امتلأت قلوبهم حباً للّه وخشية منه. ولا بد من الإشارة إلى أن الشهيد لا يصدق على من يموت بسيف العدو فحسب. بل حتى لو كان سائراً في الطريق إلى المعركة أو أرض العدو.

ص: 436


1- نهج البلاغة، الخطبة: الرقم 123، من كلام له(عليه السلام) قاله لأصحابه في ساحة الحرب بصفين.
2- وقعة صفين: 111.
قصة استشهاد الراهب

في حرب صفين وبينما كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يسير مع أصحابه في الصحراء بقصد الوصول إلى ساحة المعركة نفد الماء عندهم، وأخذ العطش منهم مأخذاً وبينما هم كذلك رأوا ديراً، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «سارعوا إلى ذلك الراهب إن كان يوجد ماء قريب أو لا».

فقال لهم الراهب: نعم هناك ماء على بعد فرسخين، في هذه الأثناء نظر الإمام إلى أصحابه وقال لهم: احفروا هنا في هذا المكان، فامتثلوا أمر الإمام وشرعوا في الحفر حتى وصلوا إلى صخرة صماء لا يؤثر فيها ضرب المعاول ولم يستطع الأصحاب إزاحة الصخرة مهما بذلوا جهداً لإزالتها وعندها جاء الإمام(عليه السلام) ووضع يده المباركة تحتها ثم رفعها ورماها عدة أمتار وانفجر الماء زلالاً وشرب منه جميع الأصحاب حتى رووا ولما رأى الراهب فعل الإمام سأله هل أنت نبي؟

فأجاب(عليه السلام) أنه ليس كذلك، فسأل الراهب: هل أنت من الملائكة؟ فرد(عليه السلام) بالنفي أيضاً، فقال الراهب: فمن أنت اذن؟ فقال الإمام: أنا وصي رسول اللّه وخاتم الأنبياء محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نبي الإسلام.

فقال الراهب: لقد بنيت هذا الدير هنا للعثور على الشخص الذي يزحزح هذه الصخرة من محلها لأني سمعت من كبار علمائنا أن في هذا المكان صخرة لا يرفعها إلّا ولي من أولياء اللّه، ثم أسلم والتحق بجيش الإمام(عليه السلام) وقاتل معه واستشهد بين يديه في حرب صفين فصلى عليه الإمام ودفنه(1).

هذه الروح الصادقة والإيمان العميق والذوبان في دين اللّه أوصلت هذا الراهب إلى درجة الشهادة الرفيعة.

ص: 437


1- انظر: الإرشاد 1: 334.

الثاني: طلب الشهادة

إن من غير المستبعد أن يفكر الأخوة المؤمنون ويتمنون الشهادة في سبيل اللّه، ولعل هذه الرغبة هي التي تقف وراء رفع الأيادي بالدعاء أثناء القنوت وخارجه بالقول: اللّهم اجعلنا من الشهداء في سبيلك، أو كما في الدعاء الذي يقرأ بعد دعاء الافتتاح في كل ليلة من شهر رمضان وهو: «وقتلاً في سبيلك فوفق لنا»(1).

وهذا يؤخذ على وجهين، الوجه الأول منه هو الصحيح والثاني هو غلط. ويجب أن ننتبه إليه ونكون على حذر.

والوجه الأول هو: أن الإنسان المؤمن يقتل في سبيل اللّه وهي درجة لا ينالها إلّا الذين امتلأت قلوبهم إيماناً ولا ينالها إلّا ذو حظ عظيم، وكما جاء في الدعاء الخاص بالإمام الحجة بن الحسن(عليه السلام) المعروف بدعاء العهد والمنقول عن الإمام الصادق(عليه السلام) ويقول فيه: «اللّهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه... والمستشهدين بين يديه»(2). وهذا لا يعني أن الإنسان لا بدّ له أن يستشهد مع الإمام(عليه السلام) وبين يديه، ولكن يكفي أن يستشهد على طريقته وعلى منهجه، وحين ذاك يكون كمن استشهد بين يديه(عليه السلام) أو مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو مع سائر الأئمة^.

وإذا قتل الإنسان في سبيل غير سبيل اللّه (والعياذ باللّه) فان ذلك يعني أنه قتل على طريق الشيطان وطريق الكفر، وطريق الشرك والظالمين في كل زمان ومكان ومن سار على نهجهم من الظلمة وأعداء الحق والإنسانية فيحشر معهم، لأنه كما جاء في الحديث الشريف عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك فإن كان يحبّ أهل طاعة اللّه ويبغض أهل معصيته ففيك خير واللّه يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة اللّه ويحب أهل معصيته فليس فيك

ص: 438


1- إقبال الأعمال 1: 61.
2- المصباح للكفعمي: 550.

خير واللّه يبغضك والمرء مع من احب»(1).

فان أفضل ما يحصل عليه الإنسان في طريق أداء مهمة جهادية دفاعاً عن الإسلام، كأن يموت وهو يؤدي واجبه في أثناء تحركه الإسلامي وكلها مؤداها واحد وهو الاستشهاد في سبيل اللّه.

الوجه الثاني: أن لا نقتل اعتباطاً فقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(2) وماذا بعد {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} وهذا يعني أولاً: وجوب قتل الكفار والمنافقين الذين يحاربون الإسلام وأذنابهم وعملائهم، ونطهر الأرض منهم وبعد ذلك نُقتل في سبيل اللّه، أما أن نُقتل بدون أن نَقتل الكفار والمنافقين، فهذا ليس صحيحاً وكما دعا أمير المؤمنين(عليه السلام) إذا أراد القتال «اللّهم إنك أعلمت سبيلاً من سبلك جعلت فيه رضاك، وندبت إليه أولياءك، وجعلته أشرف سبلك عندك ثواباً، وأكرمها لديك مآباً، وأحبها إليك مسلكاً، ثم اشتريت فيه من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل اللّه فَيَقتلون ويُقتلون وعداً عليك حقاً، فاجعلني ممن اشتريت فيه منك نفسه ثم وفى لك ببيعك الذي بايعك عليه غير ناكث ولا ناقض عهداً ولا مبدلاً تبديلاً»(3).

وإنه(عليه السلام) قام بقتل أعداء اللّه من القاسطين والمارقين والناكثين أولاً ثم استشهد، والإمام الحسين(عليه السلام) كذلك استشهد ولكن بعدما قتل من الكفار والمنافقين جمعاً كبيراً.

إذن لا بدّ أن يكون تفكيرنا مثلهم، وأن تقاتل فتَقتل وتُقتل لا أن تُقتل فقط.

ص: 439


1- الكافي 2: 126.
2- سورة التوبة، الآية: 111.
3- الكافي 5: 46.

والآية الكريمة: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(1).

فإن كثيراً من الأنبياء قاتل وجاهد معه وتحت لوائه أناس من المؤمنين منسوبون إلى الرب تعالى بالطاعة والعبادة والإيمان أو بمعنى أخيار فقهاء {فَمَا وَهَنُواْ} أي ما فتروا {لِمَا أَصَابَهُمْ} من القتل والسلب والجروح والقروح {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} للتنبيه على أن شدائدهم كانت في سبيل اللّه سبحانه {وَمَا ضَعُفُواْ} عن عدوهم {وَمَا اسْتَكَانُواْ} أي ما خضعوا ولا تضرعوا لعدوهم {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ} الذين يصبرون في الشدائد وفي الحروب(2).

وكذلك قال تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ...}(3).

وبهذا يظهر وجوب إعداد العدة الجيدة وبكافة الوسائل الشرعية بما يحق الحق ويبطل الباطل.

الثالث: قتل سمعة الأعداء

اشارة

القتل قتلان، قتل الذوات والأشخاص وقتل السمعة؛ ولهذا علينا حين نقاتل الأعداء أن نقتلهم كأشخاص وكسمعة وفكر؛ ولذا علينا أن نمرغ سمعة الأحزاب والمنظمات الكافرة والملحدة كبعث العراق والشيوعية وما أشبه وسائر المنافقين في الوحل، وهذا يعني أن نقتلهم معنوياً بأن نظهر مساوئهم وإنحرافهم وظلمهم وإجرامهم حتى ينفض الناس من حولهم والشاعر يقول:

ص: 440


1- سورة آل عمران: 146.
2- تفسير تقريب القرآن 1: 401.
3- سورة الأنفال، الآية: 60.

زعموا بأن قَتَل الحسين يزيدهم *** لكن ما قتل الحسين يزيداً

فالإمام الحسين(عليه السلام) قتل سمعة يزيد بل وبني أمية قاطبة، وإن كان الحسين(عليه السلام) هو المقتول جسداً؛ ولهذا فان مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة ويزيد يُلعن والحسين(عليه السلام) يُمدح ويقدّس ويزار ويجل، وضريحه في كربلاء يشهد له بذلك(1) وهذه هي صفة الحق فان الناس يلتفون حوله لأنه عدل وينفضون من حول الظلم.

السبيل إلى ذلك

أما ما هو السبيل إلى قتل سمعة الكفار؟ فانه يتم عبر تنشيط الإعلام ضدهم وبكل الوسائل المتاحة عبر الكتاب والمجلة والإنترنت وما أشبه، لتعلوهم الذلة والمهانة. فان الناس سينظرون إليهم باشمئزاز وازدراء، وهذا طبعاً يفرض على المسلم أن يكون شجاعاً وذكياً في فضح مؤامرات الكفار الشرقيين والغربيين وعملاءهم المتسلطين على رقاب المسلمين، الذين يقتلون ويهدرون دماء الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ وينتهكون الأعراض والحرمات، فان محاربة الكفار ولو بكلمة حق نقذفها على مسامعهم لهي من أفضل الجهاد وفي هذا يقول الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر»(2).

وذلك لأن كلمة العدل هذه سوف تقتل كلمة الجائر التي هي الباطل مهما كان مبدئه ومنهجه وسلوكه، وهذا هو الذي يريده الإسلام فان قتل الكافر هو أولاً قتل مبدئه وعقيدته الفاسدة وانتزاعها من اذهان الناس، إذ لا فائدة من قتله جسدياّ

ص: 441


1- لأن أدل دليل على الشيء هو الوقوع في الخارج.
2- الكافي 5: 60.

إذا ما بقيت أفكاره متداولة فالحجاج قتل، وكذلك ابن زياد، ويزيد، والمتوكل، وغيرهم من الطواغيت، لكن قتلهم كان يحتاج أيضاً إلى قتل أفكارهم حتى لا يقتدي بها أحد بعدهم.

واليوم حيث تعيش الأمة ظروف عصيبة في العراق وأفغانستان وفي أصقاع أخرى من العالم الإسلامي، تعيش صراعاً مريراً ضد الأفكار والمبادئ الزائفة التي يتبناها نظام البعث الصدامي، تلك الأفكار المملوءة بالأحقاد الاستعمارية الخبيثة والتي يرفعها النظام الكافر كشعار لسحق الدين الإسلامي الحنيف.

الرابع: قراءة القرآن

اشارة

إن قراءة القرآن ضرورية ومهمة لكل مسلم ولو بمقدار صفحة يومياً؛ لأن القرآن كتاب جهاد وثورة وتوجيه وتوعية وكتاب رشد وكتاب حركة وكتاب حياة.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حملة القرآن عرفاء أهل الجنة والمجاهدون في اللّه قواد أهل الجنة، والرسل سادة أهل الجنة»(1).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «لقاح الإيمان تلاوة القرآن»(2).

وقال(عليه السلام): «تعلموا القرآن فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور»(3).

تقوى القلوب

لذا على الإنسان أن لا ينسى شيئين في حياته، أولهما: أن لا ينسى اللّه وأنه من اللّه، والى اللّه، واللّه مشرف عليه، وهو معه أين ما كان، في الحياة وفي الممات

ص: 442


1- النوادر للراوندي: 20.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 572.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 321.

وهو السميع البصير. ويجب أن يضع الإنسان اللّه عزّ وجلّ نصب عينيه في كل صغيرة وكبيرة دائماً، بأن يحاسب نفسه مع كل عمل يقوم به(1)، فان كان هذا العمل مرضي للّه ولرسوله فيستزيد منه، وإن لم يكن مرضٍ للّه ولرسوله فانه يمتنع عنه بكل قوة وعزم، متذكراً لحظة الوقوف بين يدي اللّه ولحظة الجزاء التي يجزى فيها بالخير خيراً، وبالشر شراً. والمجاهد أولى الناس بالتمسك بالتقوى. فقد قال اللّه تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما أحق الإنسان أن يكون له ساعة لا يشغله عنها شاغل يحاسب فيها نفسه فينظر فيما اكتسب لها وعليها في ليلها ونهارها»(3).

ولهذا لا بدّ أن تكون التقوى منطلقاً لأعمال المجاهدين. فلا ينطلقوا من الغضب أو الشهوة أو الشهرة ولا من حب الدنيا ولا من حب المال والزوجة، بل من منطلق التقوى والزهد والعمل الصالح الذي فيه رضا اللّه.

ذكر الموت

الأمر الثاني الذي يجب أن لا ينسى هو ذكر الموت؛ لأن الموت آت وإنه يوماً ما سيأتي تعود فيه إلى التراب سواء كان هذا اليوم قريباً أم بعيداً، قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسُ بِأَيِّ أَرْضٖ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُ}(4).

والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: «فاحذروا عباد اللّه الموت وقربه وأعدوا له

ص: 443


1- قال الإمام الكاظم(عليه السلام): «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسناً استزاد اللّه وإن عمل سيئاً استغفر اللّه منه وتاب إليه». الكافي 2: 453.
2- سورة المائدة، الآية: 8.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 698.
4- سورة لقمان، الآية: 34.

عدّته فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، بخير لا يكون معه شرٌ أبداً، أو شرٍ لايكون معه خيرٌ أبداً فمن أقرب إلى الجنة من عاملها ومن أقرب إلى النار من عاملها، وأنتم طرداء الموت إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم وهو ألزم لكم من ظَلّكم، الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تُطوى من خلفكم، فاحذروا ناراً قعرها بعيد وحرها شديد وعذابها جديد...»(1).

فهذه الحياة لابد لها من خاتمة ويجب أن تكون خاتمة خير؛ لأن الأيام تسرع بنا إليها، وأن الدنيا دار عمل بلا حساب والآخرة دار الحساب. فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنما أخاف عليكم اثنتين اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ارتجلت الآخرة مقبلة وارتحلت الدنيا مدبرة ولكل بنون، فكونوا من بني الآخرة ولا تكونوا من بني الدنيا، اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل»(2).

وقد سئل النبي نوح(عليه السلام) عن هذه الدنيا وهو الذي عاش ما يقرب من ألف وخمسمائة سنة، فقال: كأني دخلت من باب وخرجت من آخر، وتمثل أمير المؤمنين(عليه السلام) بأبيات شعر قال فيها:

إنما الدنيا فناء ليس للدنيا ثبوت *** إنما الدنيا كبيت نسجته العنكبوت

ولقد يكفيك منها أيها الطالب قوت *** ولعمري عن قليل كل من فيها يموت(3)

غير أن الجهاد عماد الدين ومنهاج السعادة وهو أفضل الأشياء بعد الفرائض، واللّه ما صلح دين ولا دنيا إلّا به.

ص: 444


1- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 27، من عهد له(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر حين قلّوه مصر.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 207.
3- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 116.

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يتغمد شهداء الإسلام في مشارق الأرضومغاربها برحمته الواسعة وأن يدخلهم فسيح جنانه، وأن يوفق الجميع لخدمة الإسلام والمسلمين، والإنصراف عن هذه الدنيا إلى الجهاد في سبيله سبحانه وتعالى.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الجهاد في سبيل اللّه

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ جَٰهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}(2).

وقال سبحانه: {لَّا يَسْتَوِي الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَٰهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّٰبِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(5).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(6).

ص: 445


1- الكافي 3: 424.
2- سورة التحريم، الآية: 9.
3- سورة النساء، الآية: 95.
4- سورة محمد، الآية: 31.
5- سورة العنكبوت، الآية: 6.
6- سورة العنكبوت، الآية: 69.

الهجرة إلى اللّه تعالى

قال تعالى: {يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَٰسِعَةٌ فَإِيَّٰيَ فَاعْبُدُونِ}(1).وقال عزّ وجلّ: {قُلْ يَٰعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةٌ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(3).

جهاد الكلمة

وقال عزّ وجلّ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلَا بَلِيغًا}(4).

وقال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ الرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(6).

وقال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(7).

ص: 446


1- سورة العنكبوت، الآية: 56.
2- سورة الزمر، الآية: 10.
3- سورة النساء، الآية: 97.
4- سورة النساء، الآية: 63.
5- سورة المائدة، الآية: 63.
6- سورة الأعراف، الآية: 164.
7- سورة طه، الآية: 43-44.

تذكر الموت

قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِيقَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

الجهاد في سبيل اللّه تعالى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن جبرئيل(عليه السلام) أخبرني بأمر قرّت به عيني وفرح له قلبي قال: يا محمد، من غزا غزاة في سبيل اللّه من أمتك فما أصابه قطرة من السماء أو صداع إلّا كانت له شهادة يوم القيامة»(4).

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «ما من قطرة أحب إلى اللّه عزّ وجلّ من قطرتين قطرة دم في سبيل اللّه، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها عبد إلّا اللّه عزّ وجلّ»(5).

ص: 447


1- سورة الزمر، الآية: 42.
2- سورة الجمعة، الآية: 8.
3- سورة سبأ، الآية: 14.
4- الكافي 5: 8.
5- الخصال 1: 50.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى اللّه سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإنه ذروة الإسلام»(1).وقال الإمام الرضا(عليه السلام) عن آبائه^: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أفضل الأعمال عند اللّه عزّ وجلّ إيمان لا شك فيه، وغزو لا غلول فيه وحج مبرور، وأوّل من يدخل الجنة شهيد، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، ورجل عفيف متعفف ذو عيال»(2).

أقسام الجهاد وشرائطه وأحكامه

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أربع لا يجزن في أربع: الخيانة والغلول والسرقة والربا، لا يجزن في حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صدقة»(3).

وقال(عليه السلام): «والجهاد واجب مع إمام عادل ومن قتل دون ماله فهو شهيد ولا يحل قتل أحد من الكفار والنصاب في دار التقية إلّا قاتل أو ساع في فساد، وذلك إذا لم تخف على نفسك ولا على أصحابك...»(4).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «بعثني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى اليمن وقال: يا علي لا تقاتلنَّ أحداً حتى تدعوه وأيم اللّه لأن يهدي اللّه على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا عليّ»(5).

وقال(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا التقى المسلمان بسيفيهما على غير سنة فالقاتل والمقتول في النار. فقيل: يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال:

ص: 448


1- نهج البلاغة، الخطبة: الرقم 110 في أركان الدين.
2- عيون أخبار الرضا 2: 28.
3- الخصال 1: 216.
4- الخصال 2: 607.
5- الكافي 5: 28.

لأنه أراد قتله»(1).

السبيل إلى الجهاد

سئل الإمام جعفر بن محمد(عليهما السلام) عن الحديث الذي جاء عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر» ما معناه؟ قال: «هذا على أن يأمره بقدر معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه وإلّا فلا»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته للحسنين(عليه السلام) عند وفاته: «قولاً بالحق واعملا للأجر وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»(3).

وأيضاً جاء في نفس الوصية عنه(عليه السلام): «اللّه اللّه في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل اللّه... لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم»(4).

الهجرة عن بلد المعاصي

قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام) في قوله تعالى: {يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَٰسِعَةٌ}(5) يقول: «لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك فإن خفتموهم أن يفتنوكم على دينكم فإن أرضي واسعة...»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليس بلد بأحق بك من بلدٍ، خير البلاد ما حملك»(7).

ص: 449


1- علل الشرائع 2: 462.
2- الخصال 1: 6.
3- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 47، من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم.
4- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 47، من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم.
5- سورة العنكبوت، الآية: 56.
6- تفسير القمي 2: 151.
7- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 442.

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «... إذا عصي اللّه في أرض أنت فيها فأخرج منها إلى غيرها»(1).

التحذير من مؤازرة الحكومات الجائرة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربعة من قواصم الظهر: إمام يعصي اللّه ويطاع أمره...»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... ومن خف لسلطان جائر كان قرينه في النار، ومن دلّ سلطاناً على الجور قرن مع هامان وكان هو والسلطان من أشد أهل النار عذاباً...»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير قول اللّه تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}(4): «واللّه، ما صلوا لهم ولا صاموا، ولكن أطاعوهم في معصية اللّه»(5).

ص: 450


1- تفسير مجمع البيان 8: 37.
2- الخصال 1: 206.
3- ثواب الأعمال: 281.
4- سورة التوبة، الآية: 31.
5- المحاسن 1: 246.

الأحلام من وجهة نظر الإسلام

تمهيدٌ

قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِي أَرَيْنَٰكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ}(1).

الرؤيا أو الأحلام من الأمور التي اهتم بها الإنسان منذ القدم والى الآن، لما تتركه من طابع خاص على المرء، ولما تؤثر به أحياناً على مزاجه الشخصي، فإما أن يكون فرحاً أو مستاءً. ولكل مجتمع تعابير خاصة به، يفسّر بموجبها الأحلام، ويعطي لها صوراً في الواقع الخارجي.

وفي بعض المجتمعات تكون الأحلام أمراً مهما في حياتهم، ولعلها تمثل لهم جزءً من تراثهم، فيما لا ترى مجتمعات أخرى للأحلام هذه المكانة، ولا تقيم لها وزناً، كما هو الحال في المجتمعات الأوروبية، وربما تعتبر الأحلام واحدة من المشاكل الروحية للبعض، لا سيما بعض الشباب، فعندما يرى المرء رؤيا تحمل في طياتها الجمال والشرف والرفعة، أو يرى نفسه في المنام بأنه يشغل منصباً عالياً، يتصور أن هذا الأمر لابد أن يحدث في الواقع، فيحاول جاهداً أن يرسم حول نفسه هالة من التعظيم، فيبدأ - أين ما جلس - يتحدث عن صورته الجميلة في عالم الرؤيا، وأن له شأناً عظيماً.

ومن الناس من يدعي أشياء خارجة عن الدين، أو يرتب على الأحلام سلوكاً

ص: 451


1- سورة الإسراء، الآية: 60.

خاصاً ينفرد به عن السلوك العام، فهذه في الواقع قد تكون أزمات نفسية روحية يعيشها البعض، دون أن يشعر بأنها مشاكل روحية، بل لعله يتصورها كمالاً روحياً أعطي له هو خاصة من دون الناس، ويتصور بأنه من المحال أن تكون من الأحلام التي يتدخل بها الشيطان، ليحرفه عن المجتمع أو الدين والأخلاق.

هذا ومن الناحية الشرعية قد تكون الرؤيا صادقة وقد لا تكون، لكن وبشكل عام الرؤيا لا تكون حجة شرعاً، ولا يترتب عليها أثر شرعي إلّا في بعض الموارد الخاصة كرؤيا الأنبياء^، قال تعالى: {إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّٰبِرِينَ}(1).

كيف تحدث الأحلام؟

في الكثير من القضايا والأحداث تكون هناك نظرتان:

1- نظرة مادية تفسر كل الظواهر على أساس المادة والتجربة والحس.

2- نظرة غير مادية، وهي نظرة ثانية تدخل الاتجاه الغيبي مع الظواهر كلها، باعتبار أن الكون بما فيه خاضع لإرادة اللّه عزّ وجلّ.

وفي مسألة الأحلام والرؤيا كذلك، فيقول صاحب الاتجاه المادي: إن الرؤيا تكون بسبب عوامل نفسية داخلية، وأخرى بدنية، فالنفسية مثلاً لو كان الشخص يفكر بأمر ما، ثم غلبه النوم فإنه سوف يرى ما كان يفكر به ذهنياً، أو أن خزانة اللاشعور المحتفظة بالصور الذهنية السابقة تقوم فتخرجها أثناء النوم فيراها الإنسان.

أما العوامل البدنية فهي مثل ما لو أكل الإنسان أنواعاً مختلفة من الطعام ثم أخلد إلى النوم، فإن ذلك سوف يظهر له عدة صور مختلفة، أو عندما يأكل حتى

ص: 452


1- سورة الصافات، الآية: 102.

الشبع، أو يتناول أغذية أو مشروبات حارة جداً أو باردة جداً، إلى غير ذلك مما يؤثر على روح الإنسان وتفكيره، فيرى صوراً متعددة وأحلاماً مختلفة. ومن هنا ذهب هؤلاء الماديون إلى القول بكذب وتكذيب جميع الأحلام، وأنها لااعتبار لها في الواقع.

أما الاتجاه الثاني الذي يدخل العوامل الغيبية في نظرياته، فإنه لاينفي العوامل المادية تماماً، وإنما يضيف إليها أسباباً أخرى لحدوث الأحلام، منها - على ما ذكروا - الأخلاق والسجايا الإنسانية، فهي شديدة التأثير في نوع التخيّل، فالإنسان الذي يحب إنساناً أو عملاً ما حبّا كبيراً، فإن ذلك يشغل تفكيره عادة، بحيث أنه لا يزول ولاينفك عن مخيلته، ويراه حتى في منامه، وكذلك من الأسباب طهارة القلب، وصفاء النفس، ومنها نوع العلاقة مع اللّه عزّ وجلّ، ومنها ما يكون كشفاً للحقائق، ماضية أو فعلية أو مستقبلية ويكون ذلك نتيجة جهاد النفس ومخالفة الهوى في درجاتها العالية، إلى غيرها من الأسباب.

الأحلام الصادقة والكاذبة

اشارة

والذي يلزم قوله هنا: أن الأحلام ليست كلها كاذبة ولا اعتبار لها، بل منها ما هو صادق، وله الأثر الفعال والفائدة الكبيرة، ومنها ما هو كاذب لا واقع له، فإن كان له بعض التأثير فإنما هو عن طريق حالة الإيحاء التي تركب صاحبها عادة.

تفسير الأحلام

لما كانت الأحلام مختلفة وبعضها صادقة قد يترتب عليها بعض الآثار، مضافاً إلى أن لبعض الأحلام الصادقة تأثيراً كبيراً في المستقبل على مستوى الفرد أو الأمة، كما هو الحال في زمن النبي يوسف(عليه السلام)، إذ كان لحلم الملك أثر على مستوى الأمة، من هنا لا يمكن تركها دون تمييز ما هو صالح منها، وهذا هو

ص: 453

فلسفة علم تفسير الأحلام علماً بأن هذا العلم يكون عادة من باب المقتضي لا العلة التامة، ومن المعلوم أنه ليس كل ما كتب في هذا الشأن يتصف بطابع الصحة، نعم ما ثبت وروده عن أهل البيت^ فهو صحيح لا شك فيه.

وقد ورد عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(1) قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «لم يبق من النبوة إلّا المبشرات». قالوا: يا رسول اللّه، وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة»(3).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «الرؤيا الصالحة بشرى من اللّه، وهي جزء من أجزاء النبوة»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الرؤيا ثلاثة: رؤيا بشرى من اللّه، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا يحدث بها الإنسان نفسه فيراها في المنام»(5).

وهذه إشارة إلى فوائد الأحلام الصادقة، والرؤيا الصالحة، أما كيف نميز الصالح من الرؤيا عن غيره؟

قالوا: إن العوالم ثلاثة: عالم الطبيعة، وهو عالمنا الذي نعيش فيه، والأشياء الموجودة فيه لها صور مادية عادة، وعالم المثال وهو فوق عالم الطبيعة وجوداً، فقالوا إنه أشرف من عالمنا هذا، وفيه صور الأشياء بلا مادة، وهو مؤثر نسبة في

ص: 454


1- سورة يونس، الآية: 64.
2- بحار الأنوار 58: 191.
3- بحار الأنوار 58: 177.
4- بحار الأنوار 58: 192.
5- عوالي اللئالي 1: 79.

حوادث عالم الطبيعة. والعالم الثالث هو عالم العقل، وهو فوق عالم المثالوجوداً، وفيه حقائق الأشياء من غير مادة ولا صورة.

والنفس الإنسانية عندما تتجرد عن البدن في النوم تتصل بأصلها، وهو عالم المثال وعالم العقل، فإذا نام الإنسان وتعطلت الحواس، انقطعت النفس عن الأمور الطبيعية المادّية، واتصلت بعالمها المسانخ لها، وشاهدت بعض ما فيه من الحقائق. وكل نفس تشاهد بمقدار مالها من استعداد وكمال وطهارة.

وقد قال إمامنا الباقر(عليه السلام): «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء، وبقيت روحه في بدنه، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس، فإذا أذن اللّه في قبض الأرواح أجابت الروح والنفس، وإن أذن اللّه في رد الروح أجابت النفس والروح، وهو قوله سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}(1) فمهما رأت في ملكوت السماوات فهو مما له تأويل، وما رأت في ما بين السماء والأرض فهو ما يخيله الشيطان ولا تأويل له»(2).

وكل ما كانت النفس عالية وطاهرة وشريفة ومخلصة للّه عزّ وجلّ، فإنها تصل إلى الملكوت، وبقوة كمالها تشاهد حقائق الأشياء، وتشاهد بعض الحوادث المستقبلية أيضاً، وكل ما كانت النفس ضعيفة وعلاقتها مع اللّه عزّ وجلّ سطحية وخالية من الكمالات، فإن غالب رؤاها تكون ما بين السماء والأرض، أي إنها لا تشاهد حقائق الأشياء عادة، بل ترى ما يصوّره الشيطان لها، وهي الرؤيا الكاذبة.

ولكن لا يستطيع الشيطان أن يتلبس بكل الموجودات، ويبطل كل الرؤى، فإذا كانت الموجودات تحمل كمالاتٍ شديدة، فإن الشيطان لا يستطيع أن يتلبس بها

ص: 455


1- سورة الزمر، الآية: 42.
2- بحار الأنوار 58: 27.

عادة، ويقلب صورتها الحقيقية، كما هو الحال في شخص النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أمين الوحيجبرائيل والأئمة الطاهرين^، فإنه لا يستطيع أن يأتي بهيئتهم أبداً.

من رآني فقد رآني

فعن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من رآني في منامه فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي، ولا في صورة أحد من أوصيائي، ولا في صورة أحد من شيعتهم، وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءاً من النبوة»(1).

القرآن والرؤيا

لقد تعرض القرآن إلى الأحلام، وأشار إلى أن الرؤيا في المنام إحدى طرق وصول الرسالة إلى الأنبياء^، واستعرض أيضاً عدة قصص حول الرؤيا، كما في قصة إبراهيم(عليه السلام)، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّٰبِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَٰدَيْنَٰهُ أَن يَٰإِبْرَٰهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا}(2) إذ كانت رؤيا إبراهيم(عليه السلام) صادقة، كما هو الحال في جميع رؤى الأنبياء^، فهذه من الأحلام الصادقة التي حكاها اللّه عزّ وجلّ في القرآن.

وكذلك ما حكاه من رؤيا النبي يوسف(عليه السلام) حيث قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَٰأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَٰجِدِينَ}(3).

ومنها رؤيا صاحبي السجن اللذين كانا مع يوسف(عليه السلام) في السجن.

ص: 456


1- من لا يحضره الفقيه 2: 585.
2- سورة الصافات، الآية: 102-105.
3- سورة يوسف، الآية: 4.

ومنها رؤيا الملك أيضاً.

وكذلك الحال بالنسبة لنبينا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عدة مواضع، منها قوله تعالى: {إِذْيُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَىٰكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ}(1).

ومنها قوله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}(2).

ومنها الآية الكريمة التي هي موضوع بحثنا: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِي أَرَيْنَٰكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ}(3)، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال حول نزول هذه الآية وقصتها: «رأى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في منامه بني أمية يصعدون على منبره من بعده، ويضلون الناس عن الصراط القهقرى، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل(عليه السلام) فقال: يا رسول اللّه، مالي أراك كئيباً حزيناً؟

قال: يا جبرئيل، إني رأيت بني أمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي ويضلون الناس عن الصراط القهقرى.

فقال: والذي بعثك بالحق نبياً، إن هذا شيء ما اطلعتُ عليه، فعرج إلى السماء، فلم يلبث أن نزل عليه بآيٍ من القرآن يؤنسه بها، قال: {أَفَرَءَيْتَ إِن مَّتَّعْنَٰهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ}(4)، وأنزل عليه: {إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٖ}(5) جعل اللّه عزّ وجلّ ليلة القدر لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خيراً من ألف شهر

ص: 457


1- سورة الأنفال، الآية: 43.
2- سورة الفتح، الآية: 27.
3- سورة الإسراء، الآية: 60.
4- سورة الشعراء، الآية: 205-207.
5- سورة القدر، الآية: 1-3.

مُلك بني إمية»(1).وفي روايات أخرى أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأى قروداً تنزو على منبره(2)،

والقرود عبارة عن الشخصية الحقيقية بصورتها الواقعية في العالم الآخر، فكل إنسان له صورة في العالم الأخروي هي عبارة عن مجموعة أعماله وسلوكه ورغباته، فإما أن تكون بصورة الملوك الأجّلاء، وإمّا بصورة القرود أو الكلاب أو ما شابه ذلك نعوذ باللّه تعالى، فمن خلال رؤيا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذه، وغيرها، ومن تفسيره(صلی اللّه عليه وآله وسلم) القرود ببني أمية، نعرف بوجود رؤيا صادقة، ونستدل على صحة تعبير الرؤيا بشروطه.

نعم يبقى هناك، أنواع التفسير للرؤيا، وأنواع الرؤيا، ووقتها، وتفاصيل أخرى مذكورة في الكتب الخاصة بهذا العلم.

لا حجية للرؤيا

ثم إنه لا يخفى أن الرؤيا لا تكون حجة شرعاً فلا يترتب عليها أمر شرعي إلّا بعض الرؤى كما في الأنبياء^ فإذا رأى أحدنا رؤيا مهمة وعظيمة، وكان لها مساس بالشريعة الإسلامية، فهل هذه الرؤيا حجة علينا أم لا؟ أي: هل يجب أن نلتزم بما دلت عليه أم لا يكون كذلك؟

ولتوضيح السؤال أكثر نضرب مثالاً في الأحكام، وآخر في الموضوعات، أما في الموضوعات فلو رأى شخص في المنام مثلاً: أن فلاناً قتل فلاناً، أو زنى بفلانة، أو سرق شيئاً، أو ارتكب معصية، فهل يحق له أن يشهد ضده أو يخبر أهل المرأة بأن ابنتكم زانية، أو يذهب إلى صاحب المحل المسروق، ويقول له إن فلاناً سرق منك، لأنه شاهده في المنام، وهو يسرق أو يزني...؟ هل يحق لنا

ص: 458


1- الكافي 4: 159.
2- بحار الأنوار 28: 257، 44: 58.

ذلك أم لا؟

وأمّا في الأحكام، فلو رأى أحد في المنام أن العمل الكذائي المستحب مكروهوليس بمستحب، فهل يتركه ولا يأتي به من اليوم فصاعداً نظراً لكراهته؟ أم يبقى الحكم على استحبابه ولا حجية للرؤيا؟

والإجابة في كلا الموردين هي النفي؛ إذ لا حجية للرؤيا، ولا دليل قائم على حجيتها أبداً. فليس من الصحيح أن نرتّب أثراً خارجياً، وسلوكاً خاصاً على أثر رؤيا شاهدناها في المنام، أو نحكم ببطلان عمل فلان، أو عدم نزاهته وغير ذلك لمجرد الأحلام، بل يجب أن نلتفت إلى عدم الحجية، ولا نقع ضحيتها نحن وغيرنا، كما ويجب أن لا تؤدي الأحلام إلى اضطراب علاقتنا الاجتماعية، أو النفسية، ولا تؤثر على سلوكنا الشخصي. نعم، هي قد تفيد من ناحية إزدياد الإيمان، والتثبت في الدين، والحذر من النار، ومن كلّ الأسباب المؤدية إليها، والتنافس لعمل الخير، وربما تدل على عظمة الشخص، وزيادة إيمانه، كما لو كان دائماً يرى الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى^.

ابن سيرين وتعبير الرؤيا

وكما أسلفنا فإن للإخلاص أثراً فعالاً في عالم الرؤيا وهكذا في معرفة تعبير الرؤيا، ذكروا في حياة ابن سيرين، فقد جاء عنه إنه كان شابّاً وسيماً، وكان يعمل عند أحد البزازين(1)، وذات يوم جاءت إليه امرأة حسناء فاشترت منه أقمشة، وطلبت منه أن يحملها معها إلى المنزل، وبعد أن دخل دارها، غلَّقت عليه الأبواب، وطلبت منه أن يفعل الحرام معها، ولمّا لم يجد ابن سيرين مفراً منها، طلب أن يذهب إلى الكنيف، وبعد دخوله لطخ بدنه بالنجاسة، ثم خرج إليها

ص: 459


1- بائع الأقمشة.

فاستاءت منه، وطردته من بيتها، فتخلّص من ارتكاب الذنب، وجاء إلى بيته وطهر ثيابه وبدنه، ثم عاد إلى دكانه، وفي الليل رأى رؤياه التي أعطي فيها علم تفسير الأحلام.

فيلزم أن تكون الرؤيا والأحلام من القضايا التي تزيد من إيمان المرء وإخلاصه للّه عزّ وجلّ، لا أن نجعل من الأحلام أساطير وقصصاً خيالية كاذبة، تزيد رقماً إضافياً إلى حالة التخلف واللاوعي المتفشي في الأمة.

بل إن الرؤيا كما عبر عنها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشرى للمؤمنين وأحياناً إنذار لهم لا غير.

ومما يذكر أن امرأة رأت في المنام زوجها، وقد أدخلت هرة رأسها في بطنه، وأكلت ما كان في معدته من غذاء، فخافت هذه المرأة من هذه الرؤيا، وجاءت إلى ابن سيرين لمعرفة تفسيرها، فقال لها ابن سيرين: إن هذه الرؤيا ليست مخيفة أبداً، فقال: وإنما تعني أن أحد اللصوص قد دخل حانوت زوجك الليلة الماضية، وسرق منه مبلغاً من المال، فذهبت المرأة إلى الحانوت، فاتضح لها صحة ما قاله ابن سيرين.

وما حصل عليه ابن سيرين من العلم في تعبير الرؤيا، تدخلت به عوامل عديدة، منها ما سبق من إخلاصه للّه سبحانه، وخوفه منه، وابتعاده عن المحرمات، ومنها سعيه إلى معرفة عوامل علمية عديدة، تدخل في هذا المجال، كالطبيعيات والحساب وغيرها.

رؤيا الوالد وإصابته بالسكتة

وقد رأى والدنا في منامه - قبل أن يصاب بالسكتة وينجو منها - أن إحدى منائر ضريح الإمام الحسين(عليه السلام) قد وقعت، وأن الناس جاءوا، وبعد جهد كبير أعادوا المنارة إلى محلّها، ثم أصيب والدنا بالسكتة، وعوفي منها، فقال

ص: 460

المفسرون: إن وقوع المنارة هو دلالة على مرضه، وإن دعاء الناس هو الذي كان في الرؤيا عبارة عن مجيء الناس، وإعادة المنارة إلى محلها.

الدقة في تفسير الرؤيا

وفي كربلاء المقدسة كان هناك خطيب من الخطباء المعروفين، يمتاز بقدرته الفائقة على تفسير الأحلام، وذات مرة قيل له: إن شخصاً غير صالح - لم يذكروا اسمه - شاهد في عالم الرؤيا أنه أخرج بدن الإمام الحسين(عليه السلام) من قبره، ثم غسّله وكفّنه، وأعاده إلى قبره ثانية، وأن الشخص الذي كان قد شاهد هذه الرؤيا كان مسروراً جداً من رؤياه، ولكن الخطيب قال: إن سريرة هذا الشخص سيئة جداً، وإنه من أصحاب البدع والضلالة، حيث إنه ارتكب ثلاث معاصٍ:

الأولى: نبش القبر، وإخراج بدن الإمام(عليه السلام).

الثانية: أنه قام بتغسيل بدن الإمام(عليه السلام)، في حين أن بدن الشهيد لا يغسّل.

الثالثة: أنه قام بتكفين بدن الإمام(عليه السلام)، في حين أن بدن الشهيد لايكفن. إذن هذا الشخص هو من أهل البدعة.

وكانت الحقيقة كذلك، حيث كان الرجل من أهل البدعة، وكان قد تجاسر على المرحوم السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) مرات عديدة.

فالأحلام تنقسم إلى أقسام مختلفة ولكل واحد منها تعبيره الخاص به وليست كالمطر آخره الوقوع على الأرض.

فلو فرضنا مثلاً مدينة من المدن، فلربما يكون مجموع ما يراه أهلها من الأحلام قد يصل إلى مليون رؤيا أو حلم، ولربما أكثر من ذلك.

ومن الممكن أن يرى الإنسان أكثر من حلم في ليلة واحدة، وأن هذا العدد الكبير من الأحلام يشكّل عالماً واسعاً، وإن منها ما يدل على الماضي، ومنها ما يدل على الحاضر ومنها ما يدل المستقبل.

ص: 461

من هدي القرآن الحكيم

القرآن والرؤيا

قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَٰأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَٰجِدِينَ * قَالَ يَٰبُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ}(1).

وقال سبحانه: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَٰتٍ خُضْرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ يَٰأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَٰيَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}(3).

من أنباء الغيب

قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ}(4).

وقال سبحانه: {عَٰلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(6).

الإيمان الحقيقي كاشف عن المغيبات

قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ}(7).

وقال سبحانه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ... أُوْلَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن

ص: 462


1- سورة يوسف، الآية: 4-5.
2- سورة يوسف، الآية: 43.
3- سورة الصافات، الآية: 102.
4- سورة الأنفال، الآية: 7.
5- سورة الجن، الآية: 26-27.
6- سورة يونس، الآية: 63-64.
7- سورة البقرة، الآية: 26.

رَّبِّهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).وقال عزّ وجلّ: {أُوْلَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنْهُ}(2).

تعبير الرؤيا

قال تعالى: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}(3).

قال سبحانه: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَىٰنِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْأخَرُ إِنِّي أَرَىٰنِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ... يَٰصَٰحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْأخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَٰتٍ خُضْرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ... قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

الرؤيا ومنشأها

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الرؤيا الصالحة من اللّه والحلم من الشيطان»(6).

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «الرؤيا ثلاثة: رؤيا بشرى من اللّه، ورؤيا تحزين من

ص: 463


1- سورة البقرة، الآية: 3 و5.
2- سورة المجادلة، الآية: 22.
3- سورة يوسف، الآية: 21.
4- سورة يوسف، الآية: 36 و41.
5- سورة يوسف، الآية: 43 و47-49.
6- عدة الداعي: 278.

الشيطان، ورؤيا يحدث بها الإنسان نفسه فيراها في النوم»(1).وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الرؤيا الصالحة إحدى البشارتين»(2).

وعن الإمام أبي محمّد العسكري(عليه السلام) قال: «من أكثر المنام رأى الأحلام»(3).

الرؤيا الصادقة والكاذبة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خياركم أولو النهى، قيل: يا رسول اللّه، ومن أولو النهى؟ فقال: أولو النهى أولو الأحلام الصادقة والأخلاق الطاهرة المطعمون الطعام المفشون السلام المتهجدون بالليل والناس نيام»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، ما من عبد ينام إلا عرج بروحه إلى رب العالمين، فما رأى عند رب العالمين فهو حق، ثم إذا أمر اللّه العزيز الجبار برد روحه إلى جسده، فصارت الروح بين السماء والأرض، فما رأته فهو أضغاث أحلام»(5).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: في قول اللّه عزّ وجلّ: {لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(6) قال: «هي الرؤيا الحسنة يرى المؤمن فيبشر بها في دنياه»(7).

عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): جعلت فداك الرؤيا الصادقة والكاذبة مخرجهما من موضع واحد؟ قال(عليه السلام): «صدقت أما الكاذبة المختلفة

ص: 464


1- عوالي اللئالي 1: 79.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 86.
3- الدرة الباهرة: 46.
4- مستدرك الوسائل 6: 334.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 146.
6- سورة يونس، الآية: 64.
7- الكافي 8: 90.

فإن الرجل يراها في أول ليله في سلطان المردة الفسقة، وإنما هي شيء يخيّل إلى الرجل وهي كاذبة مخالفة لا خير فيها، وأما الصادقة إذا رآها بعد الثلثين من الليل معحلول الملائكة وذلك قبل السحر فهي صادقة لا تخلف إن شاء اللّه...»(1).

تعبير الرؤيا

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من رأى أنه في الحرم وكان خائفاً أمن»(2).

عن صفوان، عن داود عن أخيه عبد اللّه قال: بعثني إنسان إلى أبي عبد اللّه(عليه السلام)، زعم أنه يفزع في منامه من امرأته تأتيه، فيصيح حتى سمع الجيران، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اذهب فقل له إنك لاتؤدي الزكاة» فقال: بلى واللّه إني لأؤديها قال: فقل له: «إن كنت تؤديها فانك لا تؤتيها أهلها»(3).

وروي أن أبا عمارة، المعروف بالطيّار، قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): رأيت في النوم كأن معي قناة، قال: «كان فيها زجُّ»؟ قلت: لا، قال: «لو رأيت فيها زجاً لولد لك غلام، ولكن تولد جارية»، ثم مكث ساعة يتحدث، ثم قال: «كم في القناة من كعب»؟ قلت: اثنا عشر كعباً، قال: «تلد الجارية اثنتي عشر بنتاً»(4).

عن إبراهيم الكرخي قال: قلت للصادق(عليه السلام): إن رجلاً رأى ربه عزّ وجلّ في منامه، فما يكون ذلك؟ فقال: «ذلك رجل لا دين له، إن اللّه تبارك وتعالى لا يُرى في اليقظة، ولا في المنام، ولا في الدنيا، ولا في الآخرة»(5).

ص: 465


1- الكافي 8: 91.
2- قرب الأسناد: 82.
3- ثواب الأعمال: 235.
4- الخرائج 2: 638.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 610.

الرؤيا على ما تعبر

عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «ربما رأيت الرؤيا فأعبرها، والرؤيا على ما تعبر»(1).

لمن تقص الرؤيا؟

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الرؤيا لا تقص إلّا على مؤمن خلا من الحسد والبغي»(2).

سوء الأحلام

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أيضاً قال: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: اللّهم إني أعوذ بك من الاحتلام ومن سوء الأحلام وأن يلعب بي الشيطان في اليقظة والمنام»(3).

إذا عُبرت وقعت

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «الرؤيا على رِجْلِ طائرٍ ما لم تعبّر فإذا عبرت وقعت»(4).

صدق رؤياه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثير الرؤيا ولا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح»(5).

رفع الرؤيا

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا يحزن أحدكم أن ترفع عنه الرؤيا، فإنه إذا رسخ في العلم

ص: 466


1- الكافي 8: 335.
2- الكافي 8: 336.
3- الكافي 2: 536.
4- عوالي اللئالي 1: 79.
5- مكارم الأخلاق: 292.

رفعت عنه الرؤيا»(1).

رؤيا الإمام(عليه السلام)

عن الإمام أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: «رأيت أبي(عليه السلام) في المنام فقال: يا بني إذا كنت في شدة فأكثر أن تقول يا رؤوف يا رحيم والذي تراه في المنام كما تراه فياليقظة»(2).

الرؤيا الصالحة

عن عبادة بن الصامت قال: «سألت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(3)؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له»(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الرؤيا الصالحة إحدى البشارتين»(5).

ما يكره من الرؤيا

عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «شكت فاطمة(عليها السلام) إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما تلقاه في المنام، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها: إذا رأيت شيئاً من ذلك فقولي: أعوذ بما عاذت به ملائكة اللّه المقربون، وأنبياء اللّه المرسلون، وعباد اللّه الصالحون، من شر رؤياي التي رأيت أن تضرني في ديني ودنياي، واتفلي على يسارك ثلاثاً»(6).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إذا رأى الرجل في منامه ما يكره فليتحول عن

ص: 467


1- تحف العقول: 50.
2- مهج الدعوات: 333.
3- سورة يونس،الآية: 64.
4- سعد السعود: 197.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 86.
6- فلاح السائل: 289.

شقه الذي كان عليه نائماً، وليقل: {إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَٰنِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَئًْا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}(1)، ثم ليقول: أعوذ بما عاذت به ملائكة اللّه المقربون وأنبياء اللّه المرسلون وعباد اللّه الصالحون من شر ما رأيت ومن شر الشيطان الرجيم»(2).وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «الرؤيا الصالحة من اللّه فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلّا من يحب وإذا رأى رؤيا مكروهاً فليتفل عن يساره»(3).

الروح والرؤيا

عن محمد بن القاسم النوفلي قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام) الرجل يرى الرؤيا فيكون كما يراه، وربما يرى الرؤيا فلا يكون شيئاً؟

فقال(عليه السلام): «إن المؤمن إذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة وربما صعدت إلى السماء، فكل ما رأته روح المؤمن في موضع التقدير والتدبير فهو الحق، وكل ما رأته في الأرض فهو أضغاث أحلام» فقلت له: جعلت فداك ويصعد روحه إلى السماء؟

فقال(عليه السلام): ­«نعم»، فقلت له: جعلت فداك حتى لا يبقى منها شيء في بدن المؤمن؟

قال(عليه السلام): «لا لو خرجت كلها حتى لا يبقى منها شيء في بدن المؤمن لمات».

قلت: وكيف تخرج؟

ص: 468


1- سورة المجادلة، الآية: 10.
2- فلاح السائل: 289.
3- عدة الداعي: 277.

قال(عليه السلام): «أما ترى الشمس في السماء في موضعها وشعاعها في الأرض، فكذلك الروح أصلها في البدن وحركتها ممدودة»(1).

رؤيا أم سلمة(عليها السلام)

عن أم سلمة قالت: «رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المنام وعلى رأسه التراب، فقلت: مالك يا رسول اللّه؟ فقال: شهدت قتل الحسين(عليه السلام) آنفاً»(2).وعن ابن عباس قال: «بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أم سلمة وهي تقول: يا بنات عبد المطلب أسعدنني وإبكين معي فقد قتل سيدكن.

فقيل: ومن أين علمت ذلك؟

قالت: رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الساعة في المنام شعثاً مذعوراً، فسألته عن ذلك؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قتل ابني الحسين وأهل بيته فدفنتهم».

قالت: فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرائيل من كربلاء وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا صارت دماً فقد قتل إبنك...»(3).

ص: 469


1- جامع الأخبار: 172.
2- المناقب 4: 55.
3- المناقب 4: 55.

الأخوة الإسلامية

الأُخوّة وأقسامها

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1).

أي: إنهم إخوة في الإيمان، فكما أن الأخ النسبي يحنو على أخيه كذلك المؤمن يحنو على المؤمن {فَأَصْلِحُواْ} أيها المؤمنون {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} إذا حدث بينهما شقاق وشجار {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه فلا تنازعوا، وإن تنازع اثنان منكم فلا تتركوهما أعداءً بل أصلحوا بينهما {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فإن المتقي لا يعلم هل يموت على التقوى؟ وهل يبقى على التقوى في مستقبل عمره؟ فكونه مرحوماً ليس مقطوعاً به، بل لعله يرحم. وإذ كان المؤمنون إخوة، فاللازم عليهم أن لا يفعل البعض ما يسيء إلى البعض الآخر(2).

إذن، فقد بيّن الإسلام أنّ الأُخوّة عنده ليست قسماً واحداً، بل هي على أقسام:

منها: الأُخوّة النسبية، وهي التي تنشأ بين أخوين لأبوين أو لأب أو لأم.

وقد أشارت إليها الآية الكريمة عند قوله سبحانه: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ

ص: 470


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- تفسير تقريب القرآن 5: 205.

مِّنْهُمَا السُّدُسُ}(1).

وقوله عزّ وجلّ: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءَايَٰتٌ لِّلسَّائِلِينَ}(2).

وقوله تبارك وتعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَٰفِظُونَ}(3).

وقوله سبحانه: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}(4).

فالمراد من هذه الأُخوّة في هذه الآيات الكريمة هي الأُخوّة النسبية.

ومنها: الأُخوّة الرضاعية، التي ليست من أب وأم وإنما رضعوا من أم واحدة، ويشير لذلك قوله تعالى: {وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ}(5).

ومنها: الأخوة بالمشاكلة، قال تعالى: {يَٰأُخْتَ هَٰرُونَ}(6). أي شبيهته في الزهد والصلاح، وكان رجلاً عظيم الذكر في زمانه. وقيل: كان لمريم(عليها السلام) أخ يقال له: هارون.

ومثل قوله سبحانه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَٰنَ الشَّيَٰطِينِ}(7) يريد المشاكلة؛ لأن الإخوَّة إذا كانت في غير الولادة كانت بالمشاكلة والاجتماع في الفعل.

ومنها: الأُخوّة القبلية أو العشائرية، وإليها يشير قوله سبحانه وتعالى: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}(8).

ص: 471


1- سورة النساء، الآية: 12.
2- سورة يوسف، الآية: 7.
3- سورة يوسف، الآية: 63.
4- سورة القصص، الآية: 11.
5- سورة النساء، الآية: 23.
6- سورة مريم، الآية: 28.
7- سورة الإسراء، الآية: 27.
8- سورة الأعراف، الآية: 65.

ولعل خطاب هود(عليه السلام) بالأخ لأنه كان من قبيلتهم فاختاره سبحانه بالرسالة من بينهم وأرسله إليهم. أو تنبيهاً على إشفاقه عليهم شفقة الأخ على أخيه(1).

ومنها: الأُخوّة الدينية والعقائدية، وإليها يشير قول اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2).

وقوله(عليه السلام): «المؤمن أخ المؤمن»(3).

وقوله(عليه السلام): «المسلم أخ المسلم»(4).

وقال(عليه السلام): «المسلمون إخوة»(5).

فالمؤمنون والمسلمون بعضهم إخوة بعض من حيث الدين والعقيدة، ولأنهم إخوة في الدين فيلزم نصرة بعضهم بعضاً.

الأخوة في اللغة

أما (الأخوة) في اللغة فمعناه واضح، أخو: أخ وأخوان وإخوة وإخوان. وبيني وبينه أخوة وإخاء. وتقول: آخيته، ولغة طيء: واخيته. و هذا رجل من آخائي، بوزن أفعالي، وتقول: آخيت على أصل التأسيس، ومن قال: واخيت، بلغة طيء أخذه من الوخاء، وتأنيث الأخ: أخت، وتاؤها هاء. وتقول: أخت وأختان وأخوات. ولفلان عند الأمير أخية ثابتة(6).

وفي لسان العرب: الأَخُ من النسَب: معروف، وقد يكون الصديقَ والصاحِبَ،

ص: 472


1- مفردات ألفاظ القرآن: 68.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- تحف العقول: 296.
4- تحف العقول: 203.
5- الكافي 1: 403.
6- كتاب العين 4: 319 مادة (أخو).

والأَخا، مقصور، الأَخُ أَصله أَخَوٌ، بالتحريك، لأَنه جُمِع على آخاءٍ مثل آباء، والذاهب منه واو لأَنك تقول في التثنية: أَخَوان، وبعض العرب يقول: أَخانِ، على النقْص، ويجمع أَيضاً على إِخْوان، وعلى إِخْوة وأُخْوة.

وقوله عزّ وجلّ: {وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ}(1)، يعني بإخوانهم: الشياطين لأَن الكفار إخوانُ الشياطين.

وقيل في الأنبياء: أخوهم وإن كانوا كَفَرة، لأنه إنما يعني أنه قد أتاهم بَشر مثلهم من ولد أبيهم آدم(عليه السلام)، وجائز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم فيكون أفْهَم لهم بأَنْ يأْخذوه عن رجُل منهم. وقولهم: فلان أخُو كُرْبةٍ وأخُو لَزْبةٍ وما أشبه ذلك، أي: صاحبها. وقولهم: إخْوان العَزاء وإخْوان العَمل، إنما يريدون أَصحابه ومُلازِمِيه، وقد يجوز أن يَعْنوا به أنهم إخْوانه، أي إخْوَتُه الذين وُلِدُوا معه، وقيل: إِنَّما يَنْجَحُ إِخْوان العَمَلْ. يعني من دَأبَ وتحرَّك ولم يُقِمْ.

وأَكثرُ ما يستعمل (الإِخْوانُ) في الأَصْدِقاء و(الإِخْوةُ) في الولادة، وقد جمع بالواو والنون، فإن الإِخْوةُ إِذا كانوا لأَبٍ، وهم الإِخوان إِذا لم يكونوا لأَب. وآخَى الرجلَ مُؤَاخاةً وإِخاءً ووخاءً.

وعامَّة الناس تقول: وَاخاهُ، حكي: آخَيْتَ وواخَيتَ وآسَيْتَ ووَاسَيْتَ وآكَلْتَ وواكَلْتَ.

وتأَخَّى الرجلَ: اتَّخذه أخاً أو دعاه أخاً(2).

الاخوة في الحديث الشريف

ورد عن الأئمة المعصومين^ أحاديث عديدة في باب (الأخوة) وحقوقها

ص: 473


1- سورة الأعراف، الآية: 202.
2- انظر: لسان العرب 14: 19 مادة (أخو).

وآدابها وما يتعلق بها.

فعنهم^ قالوا: «لا يكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يحب أخاه المؤمن»(1).

وعنهم^: «شيعتنا المتحابون المتباذلون فينا»(2).

وقال عبد المؤمن الأنصاري: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) وعنده محمد بن عبد اللّه الجعفري، فتبسمت إليه، فقال(عليه السلام): «أ تحبه؟».

فقلت: نعم، وما أحببته إلّا لكم.

فقال(عليه السلام): «هو أخوك، والمؤمن أخ المؤمن لأبيه وأمه، ملعون ملعون من اتهم أخاه، ملعون ملعون من غش أخاه، ملعون ملعون من لم ينصح أخاه، ملعون ملعون من استأثر على أخيه، ملعون ملعون من احتجب عن أخيه، ملعون ملعون من اغتاب أخاه»(3).

وعن جابر الجعفي قال: تقبَّضت بين يدي أبي جعفر(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، ربما حزنت من غير مصيبة تصيبني، أو أمر ينزل بي حتى يعرف ذلك أهلي في وجهي وصديقي؟

فقال: «نعم يا جابر، إن اللّه عزّ وجلّ خلق المؤمنين من طينة الجنان، وأجرى فيهم من ريح روحه، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، فإذا أصاب روحاً من تلك الأرواح في بلد ٍمن البلدان حزن حزنت هذه؛ لأنها منها»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن أخ المؤمن، وهو عينه ومرآته ودليله، لا

ص: 474


1- بحار الأنوار 71: 236.
2- عدة الداعي: 187.
3- عدة الداعي: 187.
4- الكافي 2: 166.

يخونه ولا يخدعه، ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه»(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن لله عزّ وجلّ جنة لا يدخلها إلّا ثلاثة: رجل حكم على نفسه بالحق، ورجل زار أخاه المؤمن في اللّه، ورجل آثر أخاه المؤمن في اللّه»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «أيما مؤمن سأل أخاه المؤمن حاجة وهو يقدر على قضائها فرده عنها سلط اللّه عليه شجاعاً(3) في قبره ينهش من أصابعه»(4).

الأخوة الإيمانية

ثم إن الأُخوّة الإيمانية تمتاز على الأُخوّة الخالية من الإيمان؛ إذ قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(5)، أي إن أكثركم ثواباً وأرفعكم منزلة عند اللّه أتقاكم لمعاصيه، وأعملكم بطاعته(6)، لذا فمن أراد الرفعة عند اللّه فليجدّ في أن يكون أكثر تقوى من الآخرين(7).

هذا ولا يخفى أن مقياس إنسانية الإنسان - في الشريعة الإسلامية - ليس باللون والانتماء القبلي أو القومي، ولا بالأموال والانتساب الملكي أو السلطوي، بل جميع الناس متساوون من هذه الجهة، كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمنون

ص: 475


1- عدة الداعي: 187.
2- الكافي 2: 178.
3- الشجاع: ضرب من الحيّات، تزعم العرب أن الرجل إذا طال جوعه تعرضت في بطنه حية يسمونها الشُّجاع والشِّجاع، لسان العرب 8: 174 مادة (شجع).
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 664.
5- سورة الحجرات، الآية: 13.
6- تفسير مجمع البيان 9: 230.
7- تفسير تقريب القرآن 5: 209.

كأسنان المشط يتساوون في الحقوق بينهم، ويتفاضلون بأعمالهم...»(1).

فكما أنّ المشط ليست في أسنانه ارتفاع وانخفاض عادة، بل كلها متساوية، فكذلك الناس من منظار الإسلام كلهم متساوون.

نعم، هناك في الإسلام معيار واحد للتفاضل وهو: التقوى، فيقيس الإسلام شخصيّة الإنسان بمقدار ما يتصف به من التقوى، ويكرمه بقدرها، ويفضله بحسبها، وذلك كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2).

نعم، إن الإسلام ينظر إلى الناس كل الناس بمنظار واحد، ويتعامل مع الجميع بصورة واحدة، فنظرته التصورية وتطبيقه العملي الخارجي متطابقان بالنسبة إلى الإنسان، فالنظرة نظرة واحدة، والتعامل تعامل واحد، لا تفاوت فيهما ولا تفاضل، وإلى هذا المعنى يشير الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله:

«أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى، قال اللّه تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}»(3).

فالتفاضل إنما هو بالتقوى، وفيما عدا ذلك فالناس فيه شرع سواء.

وبعبارة أخرى: كما أن الناس بالنسبة إلى الشمس سواسية، بحيث إنّ كل من يتعرض لأشعتها يحصل على نورها، وهكذا كل من يتعرض للأمور التكوينية الأخرى فإنه يفوز بالنيل منها، فكذلك الناس بالنسبة إلى رحمة الإسلام وهدى القرآن وقوانين الشريعة سواسية وشرع سواء، كما إنهم أمام عدل الإسلام وحُكمه

ص: 476


1- مستدرك الوسائل 8: 327.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- معدن الجواهر: 21.

وفصل قضائه على نحو سواء أيضاً.

ثم إن التقوى هو معيار مهم للتفاضل عند اللّه عزّ وجلّ، لا أمام القانون، فالناس مختلفون في الثواب بحسب امتثال أوامر اللّه تعالى ونواهيه، واتباع مناهجه وبرامجه، مع إزالة كلّ الفوارق الأخرى، ولكنهم يتساوون أمام القانون، فلا فرق في ذلك بين المتقي وغيره.

ومن هنا دعى الإسلام جميع الناس إلى الأخوة، لأنه لا يعتقد بالنظام الطبقية بين البشر.

آية الأُخوّة والتدبّر فيها

وهنا لا بأس بأن نتوقف عند هذه الآية المباركة: (آية الأخوة) لنتدبّر في مفرداتها، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1).

فنقول: إن كلمة {إِنَّمَا} الواردة في الآية الكريمة، تفيد الحصر في اللغة العربية، حيث ذكروا أن أبرز أدوات الحصر اثنتان هما: إنما، وما مع إلّا في جملة واحدة،كقوله تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}(2).

ومعنى الحصر هنا؛ أنّه سبحانه يقول: إن المؤمنين ليسوا إلّا إخوة بعضهم لبعض، فلا يكونون متباغضين ولا متناحرين ولا متنازعين ولا غير مبالين بعضهم ببعض، بل إنهم إخوة متحابين متبارين كما في الحديث الشريف عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «اتقوا اللّه وكونوا إخوة بررة متحابين في اللّه، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه»(3).

ص: 477


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سوة هود، الآية: 88.
3- الكافي 2: 175.

وإذا كانت أخوتهم هذه في اللّه، فما أحراها أن تدوم، وما أجدرها أن تسلم من تقلبات الزمن، كما قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «الإخوان في اللّه تعالى تدوم مودّتهم لدوام سببها»(1).

وأمّا (الفاء) في قوله: {فَأَصْلِحُواْ} فهي للتفريع، فيكون المعنى إذا حصل اختلاف بين الأخوة فأصلحوا ذلك الاختلاف، واجعلوا الأخوة قائمة بينهم على قدم وساق.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لئن أصلح بين اثنين أحب إلي من أن أتصدق بدينارين»(3).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «صدقة يحبها اللّه، إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا»(4).

وربما يستفاد من هذه الآية الكريمة(5)

أنه في الوقت الذي تكون فيه مشاريع المسلمين بصورة جماعية مترابطة، يلزم حل نزاعاتهم، وجمع شملهم؛ لأنهم إخوة، فالإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول في وصيته لكميل بن زياد: «يا كميل، المؤمنون أخوة، ولا شيء آثر عند كلّ أخ من أخيه»(6).

ص: 478


1- غرر الحكم: 96.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 522.
3- ثواب الأعمال: 148.
4- الكافي 2: 209.
5- بدلالة الاقتضاء.
6- بشارة المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم): 26.

والإمام الصادق(عليه السلام) يقول: «إنما المؤمنون أخوة بنو أب وأم، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون»(1).

أخوّة المسلمين الأوائل

قال معلى بن خنيس لأبي عبد اللّه(عليه السلام): ما حق المسلم على المسلم؟

قال(عليه السلام): «له سبع حقوق واجبات، ما منها حق إلّا هو واجب عليه، إن ضيع منها شيئا خرج من ولاية اللّه وطاعته، ولم يكن لله فيه نصيب».

قلت له: جعلت فداك، و ما هي؟

قال(عليه السلام): «يا معلى، إني عليك شفيق؛ أخاف أن تضيع ولاتحفظ، وتعلم ولا تعمل».

قلت له: لا قوة إلّا باللّه.

قال(عليه السلام): «أيسر حق منها: أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك.

والحق الثاني: أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره.

والحق الثالث: أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك.

والحق الرابع: أن تكون عينه ودليله ومرآته.

والحق الخامس: أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى.

والحق السادس: أن يكون لك خادم، وليس لأخيك خادم، فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه.

والحق السابع: أن تبر قسمه وتجيب دعوته وتعود مريضه وتشهد جنازته، وإذا علمت أن له حاجة فبادره إلى قضائها، ولا تلجئه أن يسألكها، ولكن تبادره

ص: 479


1- الكافي 2: 165.

مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته، وولايته بولايتك»(1).

ولقد جسد المسلمون الأوئل الأخوة الإسلامية بأسمى معانيها، حيث كان يشد بعضهم أزر البعض الآخر، يعطف ويعين ويساعد ويحنو، ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة وحاجة لما يعطي؛ وكان هذا كله من بركات الإسلام وتعاليمه السماوية، وقد أثمر ذلك انتشار الاسلام في بدايات الدعوة المباركة انتشارا سريعاً حتى كان الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً أفواجاً، ووحداناً وزرافات.

فقد روي من قصص الإيثار والمعونة بين المسلمين ما ملأ بطون الكتب، وما لم نجد له مثيلاً في عالم اليوم، وكان من أجلى مصاديق تلك الاخوة ما بينته روايات وأحاديث أهل البيت^.

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤاخي بين المسلمين

لقد آخى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين المسلمين مرتين(2)، مرة في مكة قبل الهجرة، ومرة في المدينة المنورة بعد الهجرة.

وفي كل مرة كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستخلص لاخوته أمير المؤمنين(عليه السلام) حتى كان علي(عليه السلام) يقول: «أنا عبد اللّه وأخو رسوله، لا يقولها بعدي إلّا كذاب..»(3).

ففي المؤاخاة الأولى والتي كانت قبل الهجرة، آخى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين أبي بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبدالرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن

ص: 480


1- الكافي 2: 169.
2- المحبر: 70؛ وانظر الغدير 3: 113 و 124.
3- فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام): 85.

عبيد اللّه، وبين علي(عليه السلام) وبينه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).(1)

أما المواخاة الثانية فقد كانت بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، حيث آخى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين المهاجرين والأنصار على المواساة والحق، فكانوا يتوارثون بالأخوة التي كانت بين المهاجري والأنصاري إلى أن نزلت آيات أولي الأرحام في الإرث.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما هاجر إلى المدينة آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، وجعل المواريث على الأُخوة في الدين لا في ميراث الأرحام، وذلك قوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ}(2) فأخرج الأقارب من الميراث وأثبته لأهل الهجرة وأهل الدين خاصةً، ثم عطف بالقول فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}(3) فكان من مات من المسلمين يصير ميراثه وتركته لأخيه في الدين دون القرابة والرحم الوشيجة(4)، فلما قوي الإسلام أنزل اللّه: {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَٰجُهُ أُمَّهَٰتُهُمْ وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَٰجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُواْ إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَٰبِ مَسْطُورًا}(5)...»(6).

ص: 481


1- المحبر: 70؛ عيون الأثر 1: 264.
2- سورة الأنفال، الآية: 72.
3- سورة الأنفال، الآية: 73.
4- الرحم الوشيجة: أي الرحم المتصلة المشتبكة.
5- سورة الاحزاب، الآية: 6.
6- مستدرك الوسائل: ج17 ص151 ب1 ح21014.

وكانت المواخاة بعد بنائه(عليه السلام) المسجد، وقيل: كان ذلك والمسجد يُبنى، وقيل:بعد قدومه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة لخمسة أشهر(1).

وقد وصف المهاجرون مواساة الأنصار فقالوا: يا رسول اللّه، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير، كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنى، حتى لقد خشينا أن قد ذهبوا بالأجر كله؟

قال: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم(2).

وروي: لقد رأيتنا وما الرجل المسلم بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم(3).

نعم، استقبل الأنصار المهاجرين الذين خرجوا من مكة تاركين فيها أموالهم، على الرحب والسعة حريصين على مواساتهم، متنافسين في استضافتهم، حتى ذكر أنه ما كان ينزل المهاجري على الأنصاري إلّا بالقرعة، حتى قال تعالى واصفاً الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(4).

وكان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع لما آخى بينهما رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلّت تزوجتها.

وقالت الأنصار لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): اقسم بيننا وبينهم النخل.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا، تكفونا المؤنة وتشركونا في التمر».قالوا: سمعنا واطعنا(5).

ص: 482


1- انظر: عيون الأثر: ج1 ص265 ذكر المواخاة.
2- فضيلة الشكر لله: 65.
3- عيون الأثر 1: 265.
4- سورة الحشر، الآية: 9.
5- صحيح البخاري 4: 222.

وقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد معركة حنين: «اللّهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار، يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاة والنعم وترجعون أنتم وفي سهمكم رسول اللّه؟».

قال: بلى رضينا.

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الأنصار كرشي وعيبتي، لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللّهم اغفر للأنصار»(1).

وكانت الأخوة الإسلامية على هذه الدرجة العالية، وبقيت كذلك إلى أن ترك المسلمون تعاليم الإسلام، وطبقوا قوانين الشرق والغرب، فحلت بنا الكارثة بل الكوارث.

الحدود المصطنعة بين الدول الإسلامية

إن أهم عامل يقوض الأخوة الإسلامية فيما بين المسلمين المنتشرين شرق الأرض وغربها، هو عامل الفرقة والتفريق بين الأمة، من خلال تأجيج النزعات القومية والقبلية والعرقية وما أشبه فيما بين المسلمين، حيث دأب أعداء الإسلام منذ زمن بعيد على ذلك من خلال إنشاء أحزاب قومية، أو إيجاد خلافات على حدود مصطنعة، إلى غير ذلك مما يرسخ الفرقة بين المسلمين أنفسهم.

إن هذه الحدود المصطنعة التي جاء بها الغرب وفرّق بها المسلمين من أهم أسباب ضياع الأخوة الإسلامية؛ ولذا من الواجب السعي لإزالة هذه الحدود المصطنعة وإرجاع الأمة الواحدة.

ص: 483


1- الإرشاد 1: 146.

إن الحكام المرتبطين بالدوائر الاستعمارية والذين تسلطوا على دفة الحكم في البلاد الإسلامية بالانقلابات العسكرية وما أشبه، عملوا كلّ ما بوسعهم لإيجاد وتعميق هذه الحدود بين البلاد الإسلامية، وهذه الحدود ليست الباعث في تزايد الاختلاف بين الأمة الإسلامية فقط، بل إنها تبعثر قوى المسلمين وقدراتهم وتشتت وحدتهم. هذا بالإضافة إلى زرع بؤر فتن واختلاف حول هذه البقعة من الأرض أو تلك وتشعل نيران الحرب بين فترة وأخرى.

وقد ترسخ تقسيم البلاد الإسلامية عبر معاهدات واتفاقات ومؤتمرات استعمارية فرضت على المسلمين من القوى الكبرى عبر عملاء الاستعمار، ومن أشهر هذه الاتفاقيات اتفاقية سايكس بيكو(1) ومؤتمر سان ريمو(2) ووعد بلفور المشؤوم، وغيرها.

السبيل إلى الأخوة

قال الإمام علي(عليه السلام): «... فإياكم والتلون في دين اللّه، فإن جماعة فيما

ص: 484


1- تفاهم سري استعماري بين بريطانيا وفرنسا، متمم لاتفاق رئيسي بين بريطانيا وفرنسا وروسيا لتقسيم تركة السلطة العثمانية والاستيلاء على المشرق العربي في أعقاب دخول الأتراك الحرب إلى جانب ألمانيا، ولدت الاتفاقية عام 1916م، عقدت بين المندوبين الفرنسي جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس الذي كان عضواً في مجلس العموم البريطاني، وقد شكلت الاتفاقية الأساس الفعال لخطة تمزيق المشرق العربي، والحيلولة دون نيل العرب الوحدة والاستقلال. انظر: موسوعة السياسة: 3: 120 حرف السين.
2- مؤتمر دولي عقده الحلفاء الغربيون واليابان المنتصرون على ألمانيا في الحرب العالمية الأولى في مدينة سان ريمو الايطالية عام (1920م) لبحث مصير السلطنة العثمانية ورسم معاهدة صلح مع تركيا الخاسرة للحرب، ولتقاسم وتقسيم المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا وتجزئته إلى دويلات تحت نفوذ الدول المنتصرة في الحرب، وفق خطة سايكس - بيكو الاستعمارية. انظر: موسوعة السياسة 3: 107 حرف السين.

تكرهونمن الحق خير من فرقة فيما تحبون من الباطل، وإن اللّه سبحانه لم يعط أحداً بفرقة خيراً ممن مضى، ولا ممن بقي»(1).

إذا أراد المسلمون أن يتمسكوا بدينهم ويسيروا بسيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار^، فإنه يلزم عليهم أن لا يعترفوا بهذه الحدود التي وضعت فيما بينهم لإبعادهم عن دينهم وعقيدتهم، وتسهيل السيطرة عليهم، وأن يعملوا كلّ ما من شأنه إزالة هذه الحدود المصطنعة التي تهدف إلى تحجيمهم وإيجاد الفوارق القطرية والقومية والعرقية واللغوية بين أبناء الأمة الواحدة.

وقد قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - كما مر - : «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى»(2).

فهذا هو معيار الأفضلية لا الحدود الجغرافية واللون ولا القومية، وما أشبه.

إن الاستعمار تنبه بشكل جيد إلى ما تعنيه هذه الآية حيث تركز الأخوة بين المسلمين، وتيقن أنه باتحاد وتماسك المسلمين تحت نهج الإسلام لن يتمكن من السيطرة عليهم وجعلهم خاضعين أذلاء تابعين له؛ ولذا درس وخطط وجرّب كل الطرق والمخططات الملتوية التي توصله إلى السيطرة على مقدرات الأمة الإسلامية، فهو يعلم جيداً ما تمتلكه هذه الأمة من الطاقات البشرية والفكرية والمادية والمعنوية، ومنابع الثروة، فكان أول ما حاول تحقيقه هو بث الفرقة والتنافر وتجزأة الأمة والقضاء على الإخوة الإسلامية.

ومنذ حوالي ما يزيد على مائة سنة تراه قد أحكم وضع أسس التفرقة بين

ص: 485


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبيِّن فضل القرآن وينهى عن البدعة.
2- معدن الجواهر: 21.

المسلمين بوضع الحدود غير الشرعية بينهم.

إنه لمن المؤسف جداً أن نرى المسلمين اليوم تشتتوا وتفرقوا، فصار كل منهم يفتخر ببلده وقوميته وانتمائه، ناسياً أو متناسياً الأخوة التي شرفه اللّه بها، فأحدهم يقول: أنا عربي، والآخر: أنا أفغاني، والآخر: أنا إيراني، والآخر: أنا باكستاني، وكلٌّ يرى نفسه أفضل من الآخر. في الوقت الذي نسوا قيم الإسلام ومعاييره في التفاضل، ونسوا قوله تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

الحج والأخوة

لا شك أن أداء شعيرة حج بيت اللّه الحرام وزيارة قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين^، هو من أبرز من مظاهر الأخوة الإسلامية، ومن أحسن السبل إلى تعميق الروابط الإيمانية بين المسلمين الذين يفدون إلى بيت اللّه الحرام والديار المقدسة من كل حدب وصوب. فإن من فوائد الحج هي مدارسة شؤون المسلمين، والعمل على اتحادهم وتكاتفهم وتكافلهم.

وقد تفطن أعداء الإسلام إلى ما يجلب الحج للمسلمين من منافع وفوائد، فسعوا بكل ما أوتوا من قوة لمحو المفهوم الحقيقي للحج. ولذا ترى هذه التعقيدات الكثيرة في سفر الحج والتقسيمات التي تعزل المسلمين بعضهم عن بعض، فمكان خاص للمسلمين الأتراك، ومكان خاص للإيرانيين، ومكان للباكستانيين، ومكان للأوربيين، ومكان للعرب، ولكل من العرب مكان معزول عن إخوانهم، وهكذا مما جعل المسلمين الوافدين من كل حدب وصوب لايتعرفون على إخوانهم المسلمين، ولا يطلعون على أوضاعهم ومشاكلهم. ومن

ص: 486


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.

هنا يلزم إرجاع الحج إلى ما كان عليه من روح الأخوة.

لورانس العرب

لورانس العرب(1)

إن من أبرز الاعداء الذين استطاعوا توجيه ضربة مهلكة لجسد الأمة الإسلامية وتشتيتها، وذلك قبل ما يقارب (80 سنة) كان المدعو (لورانس العرب)، والذي استطاع بعمله أن يمرر المخططات الغربية في بلاد المسلمين.

إنّ ضربات (لورانس) أدت إلى تمزيق وحدة المسلمين، وإلى تشتت أراضيهم، والذي أدى أخيراً إلى الضعف الشديد بالأمة الإسلامية كما هو واضح اليوم.

إنّ الإطلاع على حياة أمثال هؤلاء الأشخاص ودراسة مخططاتهم الإستعمارية ضروري جداً؛ فإنهم استطاعوا في مقابل عمل الأنبياء^ أن يصلوا

ص: 487


1- توماس ادوارد لورانس ولد عام (1888م) في مدينة ثرمادوك، اشتهر باسم (لورانس العرب) بعد نشره لمذكراته عن حرب الصحراء،تخرج من جامعة اكسفورد عام (1910م)، درس العربية في أكسفورد على يد مستشرق مشهور يدعى (ديفد جورج هوغارث) الذي يعتبر من أشهر جواسيس الإنجليز. ثم انتقل بعد ذلك إلى لبنان من أجل التدرب كجاسوس، منتحلاً شخصية عالم آثار، درس العربية على يد مدرسة لبنانية مسيحية فاتقن اللغة العربية وعمل على تعلم بعض اللّهجات العربية كاللبنانية، وفي بداية الحرب العالمية الأولى انتقل إلى القاهرة والتحق بجهاز مخابرات الجيش البريطاني، وانضم سنة (1916م) إلى القوات العربية المحاربة ضد الدولة العثمانية، بقيادة فيصل الأول بن الشريف حسين. لعب دوراً هاماً في تأجيج الثورة العربية على الأتراك، فقد قام بقطع الخط الحديدي الواصل بين المدينة ودمشق، وقاد الجيش العربي إلى احتلال ميناء العقبة ثم دخل مدينة دمشق سنة (1918م). رافق فيصل الأول إلى مؤتمر فرساي ولعب دوراً كبيراً في خداع العرب وتنفيذ سياسة الإنكليز في المنطقة العربية، وبعد أن فشل المؤتمر ونكثت بريطانيا وعودها للعرب رجع إلى بريطانيا وانضم إلى سلاح الجو البريطاني. نشر مذكراته عن حرب الصحراء (ثورة الصحراء) عام 1927م، و(أعمدة الحكمة السبعة) للتفصيل انظر: موسوعة السياسة: 5: 503، حرف اللام.

إلى أهدافهم الشريرة.

ولنسأل أنفسنا: كيف وصل هؤلاء إلى أهدافهم؟ وما هي الظروف التي ساعدت على ذلك؟

ولو كان المسلمون إخوة في اللّه متحدين مع بعضهم البعض، هل كان يصل مثل هؤلاء إلى مبتغاهم؟ وهل كانت تلك القوى الاستعمارية ومنفذوا مخططاتها يمتلكون هذه الإمكانات للتلاعب بمصير المسلمين وزجّهم في خلافات ومشاكل فيما بينهم؟!

نعم، إن الأسباب الرئيسية لكل ذلك يعود إلى ابتعاد المسلمين أنفسهم عن معاني (الأخوة الإسلامية) التي نادى بها القرآن الكريم، وانحرافهم عن جادة الشريعة المقدسة، وابتعادهم عن الأوامر الإلهية التي تضمن قوتهم.

لذا فمتى ما سلك المسلمون طريق الأخوة والوحدة الإسلامية في ظل تعاليم القرآن الكريم وسيرة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين^ فإنهم سيتمكنون من الوقوف بكل ثبات أمام مخططات الشرق والغرب؛ لأن وحدتهم هي سبيل تقدمهم وعندها سيكونون سادة الدنيا بالتزامهم بمبادئ دينهم وتقدمهم في جميع المجالات، ويتمكنون من إنقاذ العالم الغارق في مشاكل المادية.

إلى متى هذه الفرقة؟

قال تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(1).

ص: 488


1- سورة آل عمران، الآية: 103.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلاث(1) بسوءالأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم. فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها، والتواصي بها. واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم، وأوهن مُنَّتهم(2)، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي.

وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء، وأجهد العباد بلاء، وأضيق أهل الدنيا حالاً، اتخذتهم الفراعنة عبيداً فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة، لا يجيدون حيلة في امتناع ولا سبيلاً إلى دفاع، حتى إذا رأى اللّه سبحانه جدَّ الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً وأئمة أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تذهب الأمال إليه بهم.

فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة. ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين؟

فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتتت

ص: 489


1- المثلاث: العقوبات.
2- المُنة - بضم الميم - : القوة.

الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، قد خلعاللّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين...»(1).

نعم، إلى أن يستيقظ المسلمون من نومهم وسباتهم، وإلى أن يحس المسلمون فرداً فرداً بمسؤوليتهم، ويرجعوا الى رحمة الأخوة الإسلامية، ويضعوا أيديهم في أيدي البعض الآخر، فإن هذه التفرقات والنزاعات الحزبية والقومية موجودة وباقية، وكلنا سنكون تحت تسلط قوى الشرق والغرب.

ولكن فيما إذا توجه المسلمون يوماً للأخذ بأحكام وأهداف القرآن الكريم ومراعاة ذلك ومن أهمها (قانون الأخوة)، بالإضافة إلى مزج القول بالعمل والسير على نهج الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعترته الطاهرة^، ففي ذلك الوقت نصل - بعون اللّه تعالى - إلى النتيجة المطلوبة وهي بعث الأمة الإسلامية الواحدة، وتشكيل حكومتها العالمية بإذن اللّه تعالى، فإن من سنن الكون أن العاملين يصلون والذين لا يعملون لا يصلون الى أهدافهم، وهذا ما يُصرح به القرآن الكريم حيث قال تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ...}(2) أي أنّ كلّ من يستفيد من قدراته وطاقاته بالنحو الأفضل والأحسن فسنمده ونعطيه.

نعم، باليقظة والانتباه الكاملين للمسلمين في كلّ أنحاء المعمورة، وبالاتكال على اللّه تعالى واستمداد العون منه، وبتعميق وترسيخ معاني الأخوة الإسلامية، سيصل المسلمون إلى هدفهم، إن شاء اللّه، وهو نجاة كلّ الأمة من قيود القوى الإستعمارية والسائرين في ركابها. قال تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ

ص: 490


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.
2- سورة الإسراء، الآية: 20.

حَسْبُهُ}(1).

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

الأخوة النَسَبية

قال تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٖ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ}(3).

وقال سبحانه: {وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيًّا}(5).

وقال تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَٰرُونَ بَِٔايَٰتِنَا وَسُلْطَٰنٖ مُّبِينٍ}(6).

وقال عزّ من قائل: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي}(7).

وقال سبحانه: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوْءَةَ أَخِي}(8).

الأخوة الرضاعية

قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ

ص: 491


1- سورة الطلاق، الآية: 3.
2- الكافي 3: 424.
3- سورة يوسف، الآية: 59.
4- سورة يوسف، الآية: 69.
5- سورة مريم، الآية: 53.
6- سورة المؤمنون، الآية: 45.
7- سورة المائدة، الآية: 25.
8- سورة المائدة، الآية: 31.

وَخَٰلَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِوَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ}(1).

الأخوة الدينية

قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(2).

وقال تبارك وتعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ}(3).

وقال سبحانه: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ}(4).

لا للفرقة

قال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(5).

وقال تعالى: {فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَىٰكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ}(6).

وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(7).

ص: 492


1- سورة النساء، الآية: 23.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- سورة الحجر، الآية: 47.
4- سورة التوبة، الآية: 11.
5- سورة آل عمران، الآية: 103.
6- سورة الحج، الآية: 78.
7- سورة آل عمران، الآية: 105.

من هدي السنّة المطهّرة

حقوق الأخوة الإسلامية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمن مرآة لأخيه المؤمن ينصحه إذا غاب عنه، ويُميط عنه ما يكره إذا شهد، ويوسع له في المجلس»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ست خصال من كن فيه كان بين يدي اللّه وعن يمينه: إن اللّه يحب المرء المسلم الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، ويناصحه الولاية...»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أحبب أخاك المسلم وأحبب له ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك، إذا احتجت فسله، وإذا سألك فأعطه»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المسلم أخو المسلم، وحق المسلم على أخيه المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه، ولا يروى ويعطش أخوه، ولا يُكسى ويعرى أخوه، فما أعظم حق المسلم على أخيه المسلم»(4).

وقال(عليه السلام) لخثيمة: «يا خثيمة، أبلغ من ترى من موالينا السلام وأوصهم بتقوى اللّه العظيم، وأن يعود غنيهم على فقيرهم، وقويهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميتهم وأن يتلاقوا في بيوتهم فإن لُقيا بعضهم بعضاً حياةٌ لأمرنا، رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إن اشتكى

ص: 493


1- النوادر للراوندي: 8.
2- وسائل الشيعة 12: 212.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 323.
4- الإختصاص: 27.
5- الكافي 2: 175.

شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة وإن روح المؤمنلأشدّ اتصالاً بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها»(1).

الأخوة الدينية

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إنما المؤمنون إخوة، بنو أب وأم، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون»(2).

وقال الامام الباقر(عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه لأن اللّه عزّ وجلّ خلق المؤمنين من طينه الجنان، وأجرى في صورهم من ريح الجنّة، فلذلك هم أخوة لأب وأم»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام):

عليك بإخوان الصفا فإنهم *** عماد إذا استنجدتهم وظهور

وما بكثير ألف خلّ وصاحب *** وإن عدواً واحداً لكثير(4)

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من صحب مؤمناً أربعين خطوة سأله اللّه عنه يوم القيامة»(5).

وعنهم^:«لا يكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يحب أخاه»(6).

وعنهم^: «شيعتنا المتحابّون المتباذلون فينا»(7).

ص: 494


1- الكافي 2: 166.
2- الكافي 2: 165.
3- الكافي 2: 166.
4- ديوان أمير المؤمنين: 207.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 413.
6- عدة الداعي: 186.
7- عدة الداعي: 187.

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «لا تقطع أودّاء أبيك فيطفى نورك»(1).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم»(2).

الأخوة في اللّه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في اللّه»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) عند وفاته: «واخ الإخوان في اللّه وأحب الصالح لصلاحه»(4).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «من استفاد أخاً في اللّه عزّ وجلّ استفاد بيتاً في الجنّة»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا يدخل الجنة رجل ليس له فرط» قيل: يا رسول اللّه ولكنّا فرط، قال: «نعم إن من فرط الرجل أخاه في اللّه»(6).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من زار أخاه في اللّه ولله جاء يوم القيامة يخطر بين قباطيَّ من نور، لا يمر بشيء إلّا أضاء له، حتى يقف بين يدي اللّه عزّ وجلّ، فيقول اللّه عزّ وجلّ: له مرحباً، وإذا قال مرحباً أجزل اللّه عزّ وجلّ له العطية»(7).

ص: 495


1- علل الشرائع 2: 582.
2- نهج البلاغة، الحكم: الرقم 12.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 47.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 222.
5- ثواب الأعمال: 151.
6- مصادقة الإخوان: 32.
7- الكافي 2: 177.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من زار أخاه في بيته قال اللّه عزّ وجلّ له: أنت ضيفي وزائري، عليّ قراك، وقد أوجبت لك الجنة بحبك إياه»(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن العبد المسلم إذا خرج من بيته يريد أخاه لله لا لغيره، التماس وجه اللّه عزّ وجلّ، ورغبة فيما عنده، وكَّل اللّه به سبعين ألف ملك ينادونه من خلفه إلى أن يرجع إلى منزله: ألا طبت وطابت لك الجنة»(2).

ص: 496


1- الكافي 2: 177.
2- المؤمن: 58.

المنبر الحسيني وبناء الإنسان

الأئمة وصِناعة النَوع الإنساني

اشارة

قال تعالى في كتابه الحكيم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1).

وقد جاء في تفسير الآية المباركة: أن اللّه سبحانه وتعالى يُظهر الدين ويؤيّده بالنصر، بالرغم من كُره المشركين والمعاندين. وفي ذلك دلالة واضحة على صحة نبوّة نبيّنا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لأنه سبحانه قد أظهر دينه على باقي الأديان بالإستعلاء وإعلان الشأن، كما وعده ذلك في حالة الضعف وقلّة الأعوان. وقد سُمِعَ أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}. «أَظَهَرَ بَعدُ ذلك؟» قالوا: نعم. قال: «كلّا، فوالذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلّا وينادى فيها بشهادة لا إله إلّا اللّه بكرة وعشيّاً»(2). وهو أمر طبيعي أن الرسالة يومئذٍ لم تكن قد وصلت بعد إلى كل أركان الأرض، لأنها كانت في بداية الأمر، وكان المقدّر لها أن تكون كذلك بمرور الزمن، لكن هذا لم يحصل لحد الآن، بل العكس بدأ يتراجع حتى من المناطق التي وصلها، فياترى ما السبب؟ هل إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يبلِّغ على الوجه الأكمل والعياذ

ص: 497


1- سورة الصف، الآية: 9.
2- انظر تفسير مجمع البيان 9: 463 و 464.

باللّه؟ أم أن الأئمة من بعده لم يفعلوا ذلك نستجير باللّه؟ أم أن الاسلام ليس له قابلية الانتشار أو أنه لميستطع كنظرية حياة أن يقدّم الحلّ الأمثل للبشرية؟ والجواب على ذلك كله واضح: لأن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بلَّغ الرسالة على أكمل وجه، والدليل على ذلك انتشار الإسلام في أغلب بقاع العالم، والأئمة الأطهار^ من بعده أكملوا ذلك الخطّ أيضاً، وإلّا فكيف وصل هذا التراث الضخم إلى زماننا الحاضر ومن دون تحريف؟ والنظرية الإسلامية لها قابلية الإنتشار، وهي الحلّ الأمثل للبشرية جمعاء. والدليل على ذلك الصحوة الإسلامية التي تجتاح بعض بقاع العالم، وقبول الناس للإسلام كمبدأ للحياة. وهذا ما لم يحصل للأديان الأخرى، ولكن يبقى السؤال عالقاً في الذهن: ما السبب في عدم انتشار الإسلام بشكل كامل وتامّ؟

الحقيقة أن الإسلام له قابلية الانتشار، وهو الأطروحة الحياتية الناجحة مئة في المئة، لأنها إلهيّة جاءت من لدن خالق الحياة، فهو نورٌ كما يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ}(1). ومن ذا الذي يستطيع أن يحجب نور الشمس؟ ولكن العلّة في من يحمل الإسلام ويدخل الصراع مع المشركين أو النفس. حيث يكون منهزماً في داخله، لأنه يحمل ألفاظاً مجردة عن التطبيق. والإسلام دين لا يرضى إلّا بتطبيق أن يكون الإنسان الخاوي داخلياً خاسراً في أيّ صراع يدخله، ولذلك اهتم الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتربية دعاة للإسلام ثم التنصيص على خلفائه ليرعوه من بعده ويحفظوه من الضياع والتحريف.

ومع أن الأمة قد زوت الحق عن نصابه، والخلافة عن أهلها والحقيقين بها، وهم الأئمة الطاهرون^، إلّا أن أهل البيت^ قد سعوا جهدهم لرعاية تلك

ص: 498


1- سورة الصف، الآية: 8.

النبتة التي غرسها الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وروايتها وتعهدها، فكان أن تمخضت جهودهم الجبارة تلكعن ثلّة مؤمنة كزبر الحديد، لا ترى إلّا الحق ولا تعمل إلّا به، كأصحاب علي والحسين(عليهما السلام) ويوميات كربلاء عام (61ه) أوضح برهان على ذلك. ومن يراجع كتب التاريخ ويطالع مواقف زهير ومسلم بن عوسجة يرى جهود أهل البيت^ رأي العين، ويتلمس تلك التربية النوعية للعترة الطاهرة. فصلابة أنصار الحسين(عليه السلام) في معركة الطف لم تكن صلابة عاديّة أبداً، وكذلك صبرهم على حرّ السيف والعطش، على الرغم من كثرة الأعداء. وأبلغ من ذلك إرعابهم لقلوب الأعداء. فقد نقلت الروايات: أن عابس بن شبيب الشاكري نزل إلى أرض المعركة، والعدوّ يفرّ من أمامه، حتى أنه نزع لاَمَة حربه، فلم يزدهم ذلك إلّا فراراً(1). وما عابس إلّا مثال تكرر في سائر الأنصار، حتى أن عمرو بن الحجّاج أخذ يصيح في الناس قائلاً: يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوماً مستميتين لم يبرز إليهم أحد منكم إلّا قتلوه(2).

كذلك كان الأئمة^ يعملون على نشر الدين، وتهيئة الأجيال للدفاع عن حريمه. فإذا أردنا أن نكسب الصراعات لصالحنا، فيجب أن نكون كأولئك الذين ربّاهم الأئمة من خلال الاقتراب للعلماء الصالحين، وورثة الأنبياء الصادقين. حيث يقول الحديث الشريف عن الامام الصادق(عليه السلام): «إن العلماء ورثة الأنبياء...»(3).

المنبر الحسيني وبناء الذات

والمنبر وسيلة إعلامية مهمّة جداً، لأنها من أهم وسائل الاتصال الجماهيري، حيث تطرح من خلاله الأفكار الحقّة للجماهير بصورة مسموعة ومرئيّة، فهو

ص: 499


1- انظر وقعة الطف: 236.
2- الإرشاد 2: 103.
3- الكافي 1: 32.

يرسخ العقائد والأفكار بشكل تفصيلي ودقيق في ذهن المستمع، ويشدّه إلىالارتباط الروحي باللّه من خلال شكله المنتظم الجميل، الذي ينقل المستمعين إلى أجواء العظماء والشهداء والصالحين، ومواقفهم ومناقبهم، ومردوده إيجابي على الفرد في تقوية إرادته التي تكون من العوامل الحاسمة في الصراعات بشكل عام، فينهض المستمع من تحته بعقيدة وفكر راسخ، وروح قوية، وهذا ما يميّزه عن وسائل الإعلام الأخرى. لذلك يمكننا أن نعدّ هذه الخصيصة واحدة من أسرار خلوده إلى الآن، بالإضافة إلى جوانب أخرى لسنا بصددها الآن. وخير من عرّف المنبر، وبيّن الدور الذي يجب أن يقوم به هو الإمام زين العابدين(عليه السلام)، عندما قال ليزيد بن معاوية (عليه لعنة اللّه): «يا يزيد أتأذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلم بكلمات فيهن للّه رضا، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب...»(1). حيث إنه(عليه السلام) أوضح أن المنبر يجب أن يكون بناء للإنسان ضمن الخط الإلهي الذي يجعل في نفوس الحاضرين إرادة قويّة، من خلال تزكيتها وتصفيتها وربطها بالخالق المطلق وهو اللّه عزّ وجلّ.

خَصائِص المِنبر الحُسيني

اشارة

من هنا فلا نبالغ إذا قلنا: إن للمنبر دوراً هامّاً وحاسماً في تهيئة المناخ الحسن لبناء الإنسان، خصوصاً في هذين الشهرين، بل في هذه العشرة أيام بالذات(2). وبناءً على هذا لا بدّ من بيان كيفية البناء الذي يقوم به المنبر، والخصائص التي يتميز بها.

1- أن يكون منبراً بنّاءً

قلنا إن المنبر وسيلة مهمة من وسائل الاتصال الجماهيري، التي تبني الإنسان

ص: 500


1- انظر بحار الأنوار 45: 137.
2- المحاضرة ألقيت على مجموعة من الخطباء، قبل توجههم لأداء مهام المنبر الحسيني في شهر محرم الحرام.

وتقوّمه وتوجّهه الوجهة الصحيحة نحو هدفه الذي خُلِقَ من أجله، وهو الوصولإلى كماله الذي يربطه باللّه عزّ وجلّ. وخلاف ذلك لا يكون المنبر إلّا أعواداً لا قيمة لها. وفي محاورة سيد الساجدين(عليه السلام) ليزيد (لعنة اللّه عليه) خير شاهد على ما نقول، لأن يزيد أمر بمنبر، وخطيب يصعد المنبر، فيذم الحسين وأباه صلوات اللّه عليهما. فصعد الخطيب المنبر، ثم بالغ في ذم أمير المؤمنين والحسين الشهيد(عليهما السلام)، وأطنب في مدح معاوية ويزيد(1). ولم يكن هذا إلّا مخالفة لأمر اللّه، الذي نهى عن الأخلاق السيئة. والسبّ والشتم ليسا من صفات المسلمين. وهذا واضح عقلاً، لأن العقل يقبّح الفعل السيء، ولا أتصور أنَّ هناك عاقلاً يُحسِّن السبّ والشتم، مضافاً إلى أن فعله مخالفة صريحة لقوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(2). والسبّ والشتم خلاف حسن الخلق الذي فسّرته السنّة الشريفة بطيب الكلام. ففي الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام)، سُئل: ما حدّ حسن الخلق؟ «قال: تليّن جناحك، وتطيّب كلامك، وتلقى أخاك ببشرٍ حسن»(3).

أما ما فعله خطيب يزيد فليس إلّا تلويثاً للقلوب بالكلمات البذيئة التي تنمال من أولياء اللّه الصالحين. فأحدهم أخو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وابن عمه، وخليفته، وأب من آباء هذه الامة، وذلك قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي أنا وأنت أَبَوا هذه الأمة»(4). فهل يعقّ الابن أباه، وإن لم تكن أبوةً نسبيّة. وأما الآخر فابن الزهراء بضعة الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ونفس الرسول الأمجد، عندما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسين مني وأنا من حسين».

ص: 501


1- انظر الفتوح لابن أعثم 5: 132.
2- سورة البقرة، الآية: 83.
3- الكافي 2: 103.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 657.

تلك إذن كانت بضاعة الخطيب ودخيلته، فلا رضا اللّه أراد، ولا الأجر والثواب للجالسين. بينما الإمام السجاد(عليه السلام) حين يصعد تلك الأعواد من بعد ذلك الخطيبيجعلها منبراً حقيقياً بناءً، لأنه ربطهم باللّه تبارك وتعالى، وعرفهم وقربهم بأهل بيت النبوّة، وعدل القرآن الكريم، وأيقظ فطرتهم التي لوّثها الطغاة، وزاد طينها بلةً ذلك الخطيب البائس، الذي اشترى مرضاة المخلوق بسخط الخالق.

2- نشر الوعي

فإن اللّه سبحانه يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(1).

وقد تناولت الآية المباركة جانب البصيرة، وهو جانب مهم لدى الإنسان. والبصيرة تأتي عن طريق وعي الإنسان للحوادث التاريخية وما شابه. ولعل من أظهر أدوار المنبر أثره في توعية الناس، ووضع أيديهم على العلل والأسباب الحقيقية للأحداث، الأمر الذي يكون له مردود إيجابي على المجتمع الإسلامي بشكل عام، في درك الأخطار قبل حدوثها، وعدم مرور المخططات الاستعمارية عليه. وجاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «فإنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً، يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي»(2).

والخطيب الذي يصعد المنبر يجب أن يعطي هذه النقطة حقها من التحليل والتفصيل، ويربطها بالواقع الحاضر.

فمثلاً عندما يذكر الطواغيت وأفعالهم، ومنهاجهم في تضليل الناس، يجب

ص: 502


1- سورة الحج، الآية: 46.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 153 من خطبة له(عليه السلام).

أن يذكر طواغيت العصر الحاضر، لأن الطاغوت دائماً واحد، ولا فرق بين فرعون وغيره من العصر الحاضر. غاية ما في الأمر أن الأسلوب يختلف تبعاً لما يناسبالزمان الذي يعيش فيه.

بالإضافة إلى ذلك، التنبيه على الأخطار والمخططات التي قد تلحق بالأمة من جراء التصرفات الخاطئة. وهذا يعني أن خطيب المنبر الواعي يزرع في كل فرد، تحت منبره، جرساً للإنذار من الأخطار، وذلك عبارة عن وضوح الفكر والبصيرة الجيدة. فنحن نخاطب العباس بن علي(عليه السلام) في الزيارة المخصوصة به، ونقول له: «أشهد إنك مضيت على بصيرةٍ من أمرك»(1). وهذه البصيرة هي الوعي لقضية الحسين(عليه السلام) من خلال جلوسه، ومخالطته لأبيه وإخوته^. فكان ذلك سبباً لسلوكه لطريق الحق، واجتنابه لطريق الظلم ومغريات الدنيا. وبالتالي جلس مطمئناً في جنّة الفردوس عند مليك مقتدر.

3- أن يكون المنبر هادفاً

كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2). فإن الآية الشريفة تبيّن الهدف من خلق الإنسان، وهو عبادة اللّه سبحانه وتعالى. وهذا لا يأتي إلّا عن طريق الكمال الإنساني، الذي يوجّهه للكمال المطلق وهو اللّه عزّ وجلّ. وتبيّن أن لكل شيء في هذا الكون هدفاً، وأنه لم يخلق عبثاً، وتعطينا طريقاً ومنهجاً في الحياة لأن يكون لنا في كل صغيرة وكبيرة هدف نسعى إليه. والمنبر هو أحد الوسائل التي أسسها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهدفها الأول والأخير بناء الإنسان وذاته، حتى يكون قوياً في الصراعات، وقوراً في الشدائد والأزمات. فإذا كان

ص: 503


1- مصباح المتهجد 2: 726.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.

المنبر يخدم الأغراض الشخصية والفئوية فهو وإن كان هادفاً إلّا أن أهدافه تكون غير مشروعة، فيتحول إلى أعواد لا قيمة لها، أما إذا كان قاصداً للصالح العامولخير المجتمع فهو هادف، وهدفه مشروع. فيتلاقى مع الآية المباركة المذكورة آنفاً، لأنه حينئذ يكون موصلاً إلى اللّه سبحانه وتعالى وهو المطلوب.

فالمنبر المطلوب إذن هو البنّاء والهادف والتوعوي، الذي يستلّ تعاليمه من كتاب اللّه وسيرة المعصومين، بعيداً عن الفئوية الضيّقة، والمصالح الشخصية الأنانية.

وما سوى ذلك فهو مجرد أعواد لا يكون فيها للّه رضاً، ولا للجالسين أجر وثواب كما قال امام الساجدين(عليه السلام).

ملاحظات على المِنبر

على أنه يجدر بنا التذكير بأنّ قسماً من الناس يظن أنّ كثرة الصياح وحركة اليد هي التي تنفع الخطيب، وتجعل الناس ينسجمون معه، في حين أنّ العكس هو الصحيح، فالمنبر الهادئ هو المنبر النافع. لأن الصياح والنياح الزائد على طريقة المنبر الشائعة هي دلالة على الإفلاس. ولقد عرفنا - ولا بدّ أنكم عرفتم كذلك - من الخطباء من لا يستخدم اسلوب الصياح، ولا يخرج عن خط المنبر العام، فلم يمنع ذلك الناس من أن ينجذبوا إليه من بداية المجلس، ويستمعوا بشوق. وإذا بدأ بقراءة المصيبة بكوا جميعاً، علماً بأنه لا يطيل في قراءة المصيبة أكثر من دقيقة أو دقيقتين. فالبكاء لا يأتي بإطالة المصيبة، بل بتهييج مكامن العاطفة.

ثم ينبغي على الخطيب عند ذكر الشواهد والقصص تحليلها وبيان وجه الشاهد فيها للخروج منها بالفائدة المرجوّة، كما أن عليه أن يبتعد كل البعد عن ذكر القضايا المجلة أو المبهمة التي تثير الشكوك في نفوس الحاضرين، أو القضايا الخلاقية بين العلماء، التي تحتاج إلى الدقّة العلمية والاطلاع التخصصي.

ص: 504

الإيمان والبناء

للإيمان معنىً ينقله الحديث المروي عن الإمام الباقر(عليه السلام): «الإيمان ما استقرّفي القلب وأفضى به إلى اللّه عزّ وجلّ وصدَّقه العمل»(1).

فالإيمان أساس متين لتربية ثابتة وبناء دائم مضمون النتائج والاستمرار وبهذا يكون للإنسان المؤمن سيرة معلومة ويكون في حياته الأحكام والترتيب والانسجام، ونستطيع أن نقول بكل جزم أنه سيعمل العمل الفلاني في الوقت الفلاني، أما غير المؤمن لا سيرة ثابتة له في حياته إذ أن له أن يظهر بمظهر الشيطان متى يشاء وهذا أمر طبيعي لأنه لا يلتزم فكرة معينة ولم تستقر في قلبه عقيدة من العقائد. والإيمان لا يكون دائماً مصدر خير، فربما بُني الإيمان على الخرافات والأساطير كما هو في الأديان الوثنية أو الفِرق الضالّة وهو الإيمان غير الصحيح الذي يهدم ذات الإنسان ويجعل قوتها بقوة المعتقد الذي آمن به. ولأهمية الإيمان في بناء الفرد نلاحظ أن عمل الأنبياء هو غرس الإيمان في نفوس الناس والأمثلة على ذلك كثيرة: فبلال الحبشي كان عبداً مسلوب الإرادة لا يملك من أمره شيئاً نشاهد كيف انه تحوّل إلى عملاق في وجه زعماء مشركي قريش حتى أنه لم يكن يحتاج في حربه النفسية معهم إلى أكثر من سبابته كسلاح لهزيمتهم تحركها قوة الإيمان التي زرعها في نفسه نبينا محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمجرد طرحه للمعتقد الصحيح وبالأسلوب الحِسي والعقلي المتلائم مع الفطرة الإنسانية السليمة.

خلاصة القول

إذن نحن بحاجة ماسّة لصناعة إنسان قوي في مواجهة صعوبات الحياة المادية ومواجهة الأمواج والتيارات والأعاصير الفكرية المنحرفة، بحاجة إلى

ص: 505


1- الكافي 2: 26.

صناعة إنسان مؤمن بعقيدته الربانيّة وفكره الإلهي وكل ذلك لا يكون إلّا ببناء داخل الإنسان بالإنبات الحسن المثمر والمنبر الحسيني أحد الأدوات المهمة فيطريق الإنبات والتربية وترسيخ الإيمان لنصل إلى الهدف والكمال الذي تتوخاه الإنسانية من هذا الوجود الرائع.

«اللّهم إني أسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلمَّ بها شعثي، ... وتُزكّي بها عملي، وتُلهمني بها رشدي، وتعصمني بها من كل سوء. اللّهم أعطني إيماناً صادقاً، ويقيناً خالصاً، ورحمةً أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة»(1). بحق محمّد وآل محمّد الغُرّ الميامين والحمد للّه ربّ العالمين.

من هدي القرآن الحكيم

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني

التمسك بالإسلام

قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(2).

وقال سبحانه: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ}(5).

ص: 506


1- مصباح المتهجد 1: 268.
2- سورة آل عمران، الآية: 19.
3- سورة آل عمران، الآية: 20.
4- سورة آل عمران، الآية: 85.
5- سورة الحج، الآية: 34.

العمل للآخرة

قال عزّ اسمه: {وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(1).وقال جلّ شأنه: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}(2).

وقال عزّ من قائل: {وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(3).

وقال جلّ ثناؤه: {وَإِنَّ الْأخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}(4).

الإلتزام بمكارم الأخلاق

قال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(5).

وقال سبحانه: {وَءَاتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ...}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ وَأُوْلَٰئِكَ مِنَ الصَّٰلِحِينَ}(7).

وقال جلّ شأنه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}(8).

ص: 507


1- سورة الأنعام، الآية: 32.
2- سورة الإسراء، الآية: 19.
3- سورة العنكبوت، الآية: 64.
4- سورة غافر، الآية: 39.
5- سورة البقرة، الآية: 83.
6- سورة البقرة، الآية: 177.
7- سورة آل عمران، الآية: 114.
8- سورة الحجرات، الآية: 12.

اتّباع الحق أن لا أقول على اللّه إلّا الحق

قال عزّ اسمه: {حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}(1).وقال جلّ وعلا: {وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ}(2).

وقال عزّ من قائل: {إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني

التمسك أكثر بالاسلام

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا شرف أعلى من الإسلام»(4).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه تعالى خصَّكم بالإسلام، واستخلصكم له. وذلك لأنه اسمُ سلامةٍ، وجِماع كرامة... لا تُفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه، ولا تُكشف الظلمات إلّا بمصابيحه»(5).

وقال(عليه السلام): «لا مَعقِلَ أمنَع من الإسلام»(6).

العمل للآخرة

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شرُّ الناس من باع آخرته بدنياه»(7).

ص: 508


1- سورة الأعراف، الآية: 105.
2- سورة محمد، الآية: 3.
3- سورة العصر، الآية: 3.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 371.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 152 من خطبة له(عليه السلام).
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 777.
7- من لا يحضره الفقيه 4: 353.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إجعل هَمَّك وجِدِّك لآخرتك»(1).

وقال(عليه السلام): «إنك مخلوق للآخرة فاعمل لها»(2).

الالتزام بمكارم الأخلاق

قال نبي الرحمة والهدى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليكم بمكارم الأخلاق، فإن اللّه عزّ وجلّ بعثني بها، وإن مِن مكارم الأخلاق أن يعفو الرجل عمّن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وأن يعود من لا يعوده»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن لأهل الدين علامات يُعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، ووفاء بالعهد، وصلة الأرحام ورحمة الضعفاء وقلّة المراقبة للنساء - أو قال: قلّة المواتاة للنساء(4)

- وبذل المعروف وحسن الخلق وسعة الخلق واتباع العلم وما يقرب إلى اللّه عزّ وجلّ زلفى»(5).

وعن جرَّاح المدائني قال: قال لي أبو عبد اللّه (الإمام الصادق)(عليه السلام): «ألّا أحدثك بمكارم الأخلاق؟» قلت: بلى: قال: «الصّفح عن الناس، ومؤاساة الرجل أخاه في ماله، وذكر اللّه كثيراً»(6).

اتّباع الحق والقول بالحق والعمل بالحق

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أتقى الناس من قال الحق في ما له وعليه»(7).

ص: 509


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 133.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 267.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 478.
4- المواتاة: الموافقة والمطاوعة.
5- الكافي 2: 239.
6- معاني الأخبار: 191.
7- الأمالي للشيخ الصدوق: 20.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحق مَنجاةٌ لكل عاملٍ وحجةٌ لكل قائل»(1).

وقال(عليه السلام): «إن أفضل الناس عند اللّه من كان العملُ بالحقِ أحبَّ إليه وإن نقَصَه وكَرَثَة...»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن الحق مُنيف(3) فاعملوا به»(4).

ص: 510


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 69.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 125 من كلام له(عليه السلام) في التحكيم.
3- منيف: عالٍ، مشرف.
4- بحار الأنوار 69: 232.

مع المبلّغين

اشارة

قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}(1).

حديثنا اليوم مع بعض طلبة العلوم الدينية، الذين سوف يتوجَّهون قريباً إن شاء اللّه إلى مراكز التبليغ للقيام بمهمة الوعظ والإرشاد، ويدور حديثنا معهم حول توضيح جملة من المواضيع منها:

أولاً: التعريف بالداعية المسلم المُبَلِّغ.

ثانياً: الشروط أو الصفات التي يجب توفرها فيه.

ثالثاً: الواجبات التي يجب أن يعملها الداعية في رحلته التبليغيّة.

ولا مفرّ لنا عند الخوض في موضوع خطير كهذا من الرجوع إلى المدرسة الأخلاقية، المَعين الذي لا يَنْضب، المتمثل بالقرآن الكريم وسيرة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآل بيته الكرام^، لأنهم الوسائط إلى اللّه في أرضه، ومَنهل جميع العلوم. ولأن كلّ العلوم التي لا تأتي من القرآن والسنّة هي مبهمة، وغير واضحة، وبما أنه لا يمكن العمل بالشيء المبهم، وغير الواضح، لأنّ نتائجه غير مضمونة، فتحتاج دائماً إلى المُفسر والمبيّن. والمفسر والمبين لجميع العلوم هو محمّد وآل محمّد (صلوات ا للّه وسلامه عليهم أجمعين) لأنهم كاشفون عن الحق، ومبينّون

ص: 511


1- سورة الأحزاب، الآية: 39.

لشريعة اللّه في الأرض، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... بهم - أي آل محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - عاد الحق إلى نصابه وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته»(1).

المُبَلِّغ المُسْلِم

المبلّغ المسلم هو الداعي إلى اللّه سبحانه وتعالى، الذي يحمل مبادئ الإسلام وأفكاره، ويحاول أن يوصلها إلى البشرية جمعاء تقرّباً إلى اللّه تعالى وابتغاءً لمرضاته.

قال اللّه تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(2).

والمبلّغ المسلم، الذي يتمسّك بتعاليم النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت^ عقيدةً وعملاً وتطبيقاً على نفسه، أولاً يعتبر سفير اللّه في أرضه.

فعلى كل شخص يريد أن يقوم بتلك المهمة النبيلة، أن يضع في حسابه أنه سفير للّه تعالى، بما تحمله هذه الكلمة من معان، وما يترتب عليها من واجبات، فإن الواجبات التي يتحملها تختلف عن الواجبات التي يتحملها الشخص العادي، وما يترتب عليها من أثر عند اللّه سبحانه. فمثلاً الشخص المبلّغ، يختلف عن بائع السلعة والتاجر، وعن سائق السيارة، لأن بائع السلعة وأمثاله إن أخطأ فإنه لا يضر إلّا نفسه، أو مجموعة قليلة من المقربين إليه، أمّا الشخص المبلّغ فإذا عمل على عكس رسالته، وحاول أن ينشر أفكاراً وتعاليم مضادة وهدامة، سواءً كان ذلك بقصد أم بدون قصد (أي بقصور أو تقصير) فإن تأثيره يكون على المجتمع أكبر، ونتائجه على مجتمعه أخطر، بل وحتى على نفسه وعلى دينه.

ص: 512


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 239 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها آل محمد^.
2- سورة آل عمران، الآية: 104.

وربما يترتب عليه عقاب من اللّه سبحانه وقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا ظهرت البدعه في أمتي فليُظهر العالم عِلمه، فإنْ لم يفعل فعليه لعنةُ اللّه»(1).

ومعنى ذلك أن الشخص العالم - أي الشخص الذي يحمل علماً ويكتمه ولا يعمل بعلمه في خدمة نفسه ومجتمعه، فإنّ اللّه تعالى سوف يعاقبه أشد عقوبة، فكيف حال الذي يحرّف العلم عن مواضعه، ويشوه أفكار الناس، ويزج في أذهانهم بتعاليم محرّفة فاللّه سبحانه وتعالى سوف يضعه في أسفل دركات الجحيم.

فعلى المبلّغ المسلم أن يتحصن ويتسلح بالعلم والمعرفة والتقوى والإخلاص قولاً وعملاً، وأن لا يكتم علمه عن الناس، وإلّا وقع في حبال الشيطان، وعليه أن لا يخشى أحداً في الحق، أي: أن لا يخاف من أي شخص، مهما لاقى من مصائب ومتاعب في طريق الحق، فيقف دائماً مع الحق وأهله، ويقف ضد الباطل وأهله، ويحاول أن يحرّض الناس على دفع الباطل أينما وجد، ولا يخشى في ذلك سوى اللّه تعالى تماماً مثل أولئك: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}(2).

وعلى المبلّغ بالإضافة إلى ذلك أن يدرك أنّ أمامه عملاً كبيراً، وله أعداءً كثيرين يملكون من وسائل التضليل الشيء الكثير، مثل الإعلام بجميع أنواعه من إذاعة وتلفاز، وكتب وجرائد، ومجلات، تحاول تشويه الإسلام والمسلمين بنظر العالم، وهم بالإضافة إلى ذلك يُسخِّرون الأموال الطائلة لخدمة غرضهم هذا، وما إلى ذلك من وسائل، فإنهم يعملون طوال (1400) عام ونيف (أي منذ انبثاق الرسالة الإسلامية ولحد الآن) على إزالة الإسلام من الوجود، وغايتهم من

ص: 513


1- المحاسن 1: 231.
2- سورة الأحزاب، الآية: 39.

ذلك أن كما قال اللّه تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(1).

وصف اللّه تعالى أعداء الحق والدين وصفاً بليغاً في هذه الآية، ففي بعض التفاسير شبّه اللّه تعالى القرآن والإسلام بنور اللّه، ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى أنهم يريدون أن يطفئوا نور اللّه الشعشاع الوضّاح بنفخ أفواههم الواهن الكليل. فالإطفاء معناه الإخماد، وذكر سبحانه الأفواه لأنّ النفخ الذي يتوسل به لإخماد الأنوار والسُرج يكون بالأفواه، وغالباً ما يكون النفخ بالأفواه مؤثراً في الأنوار الضعيفة، ولا يقدر على إخماد الأنوار الساطعة. وهذا من أعظم البيان، وذلك تصغير شأن أعداء الحق والدين(2).

فعلينا والحال هذه، أن نجنّد كافة إمكانياتنا العلمية والمادية للوقوف بوجه أعداء الإسلام.

ولعل فينا من يتساءل: كيف يمكن الوقوف بوجه هؤلاء الأعداء المتكالبين علينا، مع ما يمتلكونه من الإمكانات الهائلة، ووسائل التضليل المتنوعة، في ما نجد أنفسنا عزّلاً مجرّدي من أمثال هذه الأسلحة والوسائل المؤثرة؟

والجواب هو: صحيح أن الأعداء يملكون من الإمكانات والوسائل المادية الشيء الكثير، والتي لا نملك بقدرها ولكن نحن نملك من الوسائل المعنوية الشيء الكثير، وكذلك نحن مع الحق والحق هو المنتصر في النهاية، كما قال اللّه تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(3).

ص: 514


1- سورة التوبة، الآية: 32.
2- انظر تفسير مجمع البيان 5: 44.
3- سورة الأنفال، الآية: 7-8.

وكل هذه الأعمال التي ذكرناها من إحقاق الحق، وتعرية الباطل، وتوعية الناس، وما إلى ذلك من الأعمال الكثيرة تقع مسؤوليتها وبدرجة كبيرة على المبلّغ، لأن المبلّغ المسلم العامل بالإسلام والملتزم بكل أصوله وفروعه، يُعدّ ترجمان الحق فلا تنحصر وظيفته في بيان زاوية من أخلاق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار، ولا ببيان بعض المسائل الشرعية أو الأخلاقية كآراء ونظريات يطرحها على الناس فحسب، بل لا بدّ أن يبيّن للناس كيفية تجسيد هذه المعاني العظيمة، والعمل بها وتطبيقها في كلّ شؤونهم الحيوية، على النفس والأسرة والمجتمع. وهذا ليس بالعمل الهيّن، بل يحتاج إلى الكثير من الجدّ والاجتهاد مع التحمل والصبر، وذلك لأنه كما أن المباديء الحقة والاعتقاد بها والالتزام بها في العقيدة من الواجبات، كذلك العمل بها وتطبيقها في السلوك أيضاً من الواجبات، لأن العقيدة إذا لم تطبق على أرض الواقع من السلوك والعمل يبقى أثرها ضعيفاً ولا ينتفع منها صاحبها.

وخير شاهد على كلامنا هذا قول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «علمٌ بلا عمل، كشجرٍ بلا ثمر»(1).

حيث شبّه الإمام(عليه السلام) الشخص الذي يحمل العلم ولا يعمل به بالشجرة التي لا تثمر. فعلى المبلّغ المسلم أن ينذر ويحذر المسلمين من التقاعس في العمل والاعتماد على الأقوال فقط، لأنّ ذلك الهلكة وانتقام اللّه تعالى، كما انتقم تعالى من اليهود، عندما انحرفوا ولم يعملوا بما أنزل في التوراة من العلم وانجرفوا وراء أهوائهم، وحرّفوا التوراة نفسها حسب مصالحهم وأهوائهم.

الصِّفات التي يجب توفّرها في المُبلّغ المسلم

اشارة

يعتبر المبلّغ الحق، مرتكز المجتمع الإسلامي، وهو من الأركان الأساسية

ص: 515


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 463.

التي يعتمد عليها الإسلام في نشر الثقافة والفكر والعلوم الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وكذلك في تصحيح الأفكار المشوّهة عند المجتمعات غير المسلمة. وتترتب على الشخص الذي يريد أن يصبح مبلّغاً ناجحاً جملة من الشرائط والصفات التي يجب توفرها فيه، لكي يتمكن من تأدية مسؤوليته الدينية بنجاح، ونذكر هنا وبإيجاز بعض الشرائط المهمة منها:

أولاً

أن يكون المبلّغ مؤمناً باللّه ورسوله، وبجميع الكتب والرسل المنزلة، من اللّه تعالى، وأن يكون كذلك مؤمناً بالفكرة التي يقوم بالدعوة إليها إيماناً كاملاً، لأن الشخص غير المؤمن بالفكرة التي يبلّغ من أجلها لا يستطيع أن يوصل فكرته بالشكل المقبول إلى الطرف المقابل.

فمثلاً لو أراد شخص أن يوصل فكرة مّا إلى شخص، وهو غير مؤمن أساساً بفكرته، فتلاحظه يتعثر في إيصالها إلى المقابل بل ربما يفشل في ذلك فشلاً ذريعاً.

وقد ورد ذكر الإيمان والحث عليه في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، ومنها ذكر اللّه تعالى الإيمان في الكتاب العزيز؛ قال تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}(1).

فإنّ الإيمان من العوامل المهمة في وصول الفرد إلى هدفه.

روي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصف الإيمان أنه قال: «الإيمان شجرة أصلها اليقين، وفرعها التُّقى ونورها الحياء وثمرها السخاء»(2).

ص: 516


1- سورة الحجرات، الآية: 7.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 95.

ثانياً

أن يكون المبلّغ على قدر وافٍ من العلم، لأنّ العلم سلاح ينجي صاحبه من الوقوع في شرك الجهالة والتخبّط، وقد ورد فضل العلم، والحث عليه، ووجوب طلبه، وثواب العالم والمتكلم في كثير من الموارد في القرآن والسنة النبوية الشريفة، فقد ذكر اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(1). وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(2).

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في إحدى خطبه قال: «ولا كنز أنفع من العلم»(3).

وأغلب الناس مشغولين بأعمالهم الخاصة ومسؤولياتهم اليومية، ولذا فهم يعتمدون على الخطباء والمبلّغين في مواسم التبليغ في أخذ العلوم والمعارف والتوجيهات، ولذا فهو يتوقع من الموجّه أن يكون كفؤاً في هذا المجال، فإذا وجده عكس ما يتوقع سوف يبتعد عنه وربما يتركه ولا يستفيد منه شيئاً.

ثالثاً

أن يمتلك المبلّغ أسلوباً جيداً في المناقشة والإقناع والمنطق، وأن يتمتع بفطنة عالية وسرعة بديهة، وأن يمتلك قوة على المصاعب (أي أن يكون صبوراً) لأن الناس الذين سوف يلاقيهم يختلفون من حيث المزاج والطبائع، وأن يوضّح المسائل التي ترد عليه توضيحاً لا لبس منه، وأن يتطرق إلى الموضوع المناسب في الزمان والمكان المناسب (أي أن يكون جيد الاختيار). وفي الوقت نفسه أن يكون ليّناً وهشاً وهاديء النفس والبال مبتعداً عن الحدة والغضب والعنف، لأن هذا مما يفشل المبلّغ ويضعف من البرهان، ولو في أعين الناس ويجعل البعض

ص: 517


1- سورة طه، الآية: 114.
2- سورة المجادلة، الآية: 11.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 321.

لا يقبلون توجيهاته تعصباً أو غير ذلك... .

مِن مَهام المُبَلِّغين

اشارة

وكما أن المبلّغ المسلم يختلف عن الشخص العادي في بعض الصفات، فكذلك الواجبات التي تقع عليه أيضاً تختلف عنها بالنسبة إلى الشخص العادي، فإنّ الواجبات والمسؤوليات التي تقع عليه كثيرة ومتعددة، منها: ترجمة الأقوال التي جاءت في القرآن الكريم، وتجسيد الأقوال والأفعال التي قام بها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار^ (أي نقل هذه الأقوال والأفعال إلى الناس وتعليمهم كيفية تجسيدها على أرض الواقع).

ولكن يجب على المبلّغ أن يطبق هذه الأقوال والأفعال على نفسه أولاً، ويكون في سلوكه مرآة صافية تعكس مباديء الإسلام الحق وقيمه الإنسانية والإلهية الرفيعة، ثم يدعو الناس إليها بأقواله وأفكاره ثانياً، كما كان إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) يفعل.

ففي إحدى خطبه قال(عليه السلام): «... أيها الناس، إني، واللّه ما أحثكم على طاعة إلّا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلّا وأتناهى قبلكم عنها»(1).

وكذلك يجب على المبلّغ غرس الثقافة والوعي في المجتمع الإسلامي، والحث على الحرية، والوقوف بوجه الظالمين، وتحفيز المجتمع الإسلامي على الاكتفاء الذاتي، والتركيز على العوامل التي تساعد على انتشار الإسلام ومبادئه القيّمة في داخل المجتمعات الغربية والشرقية، خصوصاً وأنّ الظروف في هذه الفترة تساعد على نشر المفاهيم الإسلامية في هذه المجتمعات، نظراً لفشل النظريات المعادية للإسلام، وتخبط المجتمعات الشرقية والغربية في دوّامة الانحلال الخلقي.

ص: 518


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 175 من خطبة له(عليه السلام) في الموعظة وبيان قرباه في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فعلى المبلّغ المسلم أن يركز على هذه العوامل لخدمة الإسلام والمسلمين، وليحقق الأهداف التي جاء من أجلها الإسلام، ويكون مرآة تعكس المبادئ الحقة قولاً وفعلاً.

الإكتفاء الذّاتي

من جملة المهام التي تقع على عاتق المبلّغ المسلم هو توعية المسلمين بشأن مجموعة من النقاط، من ضمنها إرشادهم إلى كيفية الحصول على الاكتفاء الذاتي في جميع جوانب الحياة المادية، وذلك لأنّ الحاجة إلى الغير والتبعية لهم في الصناعات ونحوها تعدّ من الأسباب المؤثرة في ضعف المسلمين وسيطرة الأجانب عليهم. فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «أمنن على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره»(1).

ومن أهم الطرق التي توصلنا إلى الاكتفاء الذاتي:

استغلال المسلمين للموارد الطبيعية والأيدي العاملة المتوفرة في بلادهم من دون حاجة إلى الغير، أضف إلى ذلك الاستفادة من خيرات المسلمين.

نعم يمكن أن نستفيد من خيرات الغير وتقدّمهم، ثم نوظّف هذه الخيرات في مصالح الإسلام وبلاد الإسلام، ولكن يجب أن لا يكون مصحوباً بالذيلية والتبعية.

فقد أثبت العلم الحديث بأن للاقتصاد دوراً مهماً في استقرار المجتمع ورفاهيته، وبما أنّ منطقتنا الإسلامية غنية بما أنعم اللّه تعالى عليها من ثروات طبيعية هائلة، من نفط وفوسفات وكبريت، ومعادن مثل الذهب والفضة والحديد والخارصين(2) والنحاس والألمنيوم الخ... بالإضافة إلى توفر الأرض الزراعية

ص: 519


1- الخصال 2: 420.
2- هو الزِّنك.

الخصبة، ذات المسافة الجغرافية الواسعة، مع توفر الأيدي العاملة المسلمة مما يساعد المسلمين على النهوض والتقدم والاستغناء عن الغير. فلو استغلت هذه الثروات بالشكل المطلوب لأصبح المسلمون في وضع جيد أفضل مما هم عليه الآن من تشتت وضياع واستبداد في السياسة والحكم، وذلك كله ناجم عن تصرف بعض الحكام الذين ابتلُي المسلمون بهم في تسليم ثروات المسلمين، بيد الأجانب أعداء الإسلام والمسلمين.

فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال:

«إن من بقاء المسلمين وبقاء الإسلام أن تصير الأموال عند من يعرف فيها الحق، ويصنع المعروف، فإنّ(1) من فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في أيدي من لا يعرف فيها الحق، ولا يصنع فيها المعروف»(2).

وعلى هذا الأساس فإنّ السبيل الوحيد للخلاص من الظلم الاقتصادي الذي عليه المسلمون اليوم، ولتحقق العدل الاقتصادي، هو إعادة تربية الإنسان وصياغة مفاهيمه ونظراته إلى الحياة والمال والثروة، صياغة موضوعية جيّدة وسليمة تتناسب مع منهج القرآن والسنة، وهذه من مسؤوليات علماء الإسلام ومبلغيه، إذ عليهم أن يطرحوا هذه الأفكار الصحيحة، ويرشدوا الناس إليها في الاقتصاد والصناعة والعمل والزراعة ونحو ذلك.

الحريّة ورسالة المُبَلِّغ

اشارة

إنّ من جملة الأهداف التي دعا إليها الأنبياء والأوصياء^، وسعوا إلى تركيزها وتنقيتها في المجتمعات: تحرير الإنسان من العبودية، حيث قال اللّه

ص: 520


1- في وسائل الشيعة 16: 285: «وإنّ».
2- الكافي 2: 25.

تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

فإنّ اللّه سبحانه وتعالى في هذه الآية عندما يخاطب الناس بصورة عامة، واليهود والنصارى بصورة خاصة، يحثهم على اتباع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأخذ بالتعاليم السماوية التي جاء بها لأنها جاءت لإنقاذهم ورفع القيود التي كانت تقيدهم وتوصلهم إلى الحرية الحقيقية، إذا ما تمسكوا بها.

والحرية هذه كلمة ذات معنى كبير ومهم، وقد استغلت اليوم في المجتمعات الغربية، وأغلب المجتمعات الشرقية، ومن سار على طريقتهم، بحيث خرجت عن حدودها الأخلاقية والإنسانية.

فعلى المبلّغ المسلم أن يوضّح للعالم أجمع - وخصوصاً للمجتمعات الإسلامية التي غزتها الأفكار الغربية والشرقية المعادية للإسلام المعنى الحقيقي للحرية، والذي جاء به الإسلام، وهو أن الحرية هي حرية الفكر، وحرية التقدم والاستقلال، وحرية الوعي والمسؤولية، وحرية الكرامة والحقوق، لا الحرية التي تنادي بها أغلب المجتمعات الغربية والشرقية اليوم، وهي بنظرهم حرية التحلل الأخلاقي والاستهتار، وحرية إباحة المنكرات مثل شرب الخمر ومخالطة النساء، وحرية الميوعة والطيش، وما إلى ذلك من التفاسير التي حاول أعداء الإسلام أن يزرعوها في المجتمعات الإسلامية. وللأسف فقد نجحوا في بعض خططهم، وذلك بمساعدة أعوانهم، كبعض الحكام المسلمين.

ص: 521


1- سورة الأعراف، الآية: 157.

فالمهمة اليوم تقع على عاتق جميع المسلمين، وخصوصاً المبلغين لتوضيحالهدف الذي يصبوا إليه الأعداء وكيفية مواجهتهم. وكما قلنا في كلمة سابقة: إن خير وسيلة لمواجهة الأعداء هي أن تترك موضع الدفاع وتتحول إلى الهجوم، ولا تركن في الجانب وتنتظر الحل. فعلينا والحال هذه أن نبيّن للجميع معنى الحرية الحقيقية التي جاء بها الإسلام، ونحاول الإحاطة بكافة الوسائل التي تهين الإسلام، وتهتك كرامة المسلمين، التي زرعها الأعداء في مجتمعاتنا وعلى المبلّغ أن يفهم الناس بأن لا يكونوا عبيداً لغيرهم وقد خلقهم اللّه أحراراً، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنه الإمام الحسن(عليه السلام): «ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(1).

فإنّ في هذه الوصية درساً أخلاقياً كبيراً ليس للمسلمين فقط، وإنما للبشرية جمعاء، فلو تمسكوا به عاشوا أحراراً سعداء. وعلى المبلّغين أيضاً أن يفهموا المسلمين بأنهم قادرون على الوصول إلى الحرية الحقيقية، إذا تضافروا وعملوا بجد، وأن لا يكونوا كالذين قال فيهم الشاعر:

كالعِيس في البَيْداء يَقْتُلها الظّما *** والماءُ فوقَ ظهورِها مَحْمُول

أي: يكونوا هم أهل الإسلام الذي بكل جوانبه حرية وكرامة، وهو الذي شرع للناس جميعاً مبادئ الحرية، وعلمهم كيف يكونون أحراراً، ومع ذلك نجد أعداداً كبيرة من المسلمين محرومين من الحرية. ألّا ينطبق هذا القول على بعض المجتمعات في عالمنا الإسلامي اليوم؟

الأنبياء والدعوة إلى الحريّة

إن الأنبياء^ استهدفوا هذا الهدف، وجعلوه في قمة أهدافهم، لأنهم بعثوا

ص: 522


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) لولده الحسن(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

لأن يزيحوا الشقاء والتعب عن حياة الإنسان، ولأن يضعوا عنه القيود والأغلال التي تقيده، ولأن يخلّصوه من عبادة الناس، ويحولّوه إلى عبادة اللّه تعالى، حتى يتمتعبالحرية والكرامة من غير الركون لأي جائر أو ظالم، ويعلموا الناس أن لهم كرامة وحرية، وأن الناس سواسية عند اللّه تعالى، حيث قال رسول الإنسانية(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلّا بالتقوى»(1). وما دام الناس خلقوا سواسية، أي أن ربهم واحد، وأباهم واحد، ولا فرق بين واحد وآخر إلّا بالتقوى، كما قال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلماذا نجد اليوم أُناساً يستخدمون الآخرين، ويذلونهم ويسومونهم سوء العذاب؟ ونلاحظ التسلط والظلم؟ فالناس أحرار كما خلقهم اللّه. فما معنى أن يستبد به جائر، ويصادر كل حقوقهم، وينتهك حرماتهم. فالإنسان بلا حرية كما قال علماء الاجتماع يعني: إنساناً بلا روح. وعندما كان المسلمون يرفلون بالعز في عصر الحرية، كانت الحياة متوهجة وفي قمة أوجها، وبرز في تلك الفترة علماء ومجددون كثيرون، خدموا الإسلام والإنسانية جميعاً، من أمثال الشيخ المفيد والعلامة والشيخ الطوسي والكليني (رحمة اللّه عليهم)، وكذلك في جانب الطب اشتهر في تلك الفترة أستاذ الطب والمعقول ابن سينا، وكذلك في الكيمياء اشتهر جابر بن حيان الكوفي، واكتشف الذرة وأسرارها كما نقل بعض المؤرخين، وكذلك الحسن بن الهيثم رجل الرياضيات، وغيرهم الكثيرون في شتى مجالات الحياة الأخرى. وفي نفس الوقت كانت المجتمعات الغربية والتي كانت لا توجد فيها الحرية تتخبط في الجهل والظلام، وكانت الكنيسة تحرق العلم والعلماء، وعاشت

ص: 523


1- تحف العقول: 34.

أوروبا في تلك الفترة في ظلام دامس، وقد جاء في بعض المصادر أن الكنيسة قتلت في تلك الفترة أكثر من ثلاثين ألف عام من أمثال غاليليو وغيره. فعلى المبلّغين أن يعملوابجد لتنبيه الناس على المخاطر التي تحيط بهم من جراء الديكتاتورية والاستبداد، ويفهموهم كيفية الخلاص من هذا الوضع المزري الذي يعيشه بعض المسلمين، وعلى المسلمين أن يبذلوا في سبيل تحقيق هذا الهدف، لو اقتضى الأمر، وبإذن العلماء الأعلام، النفس والمال، لأن الحرية لا تنال بالكتابة على الورق والمقالات والشعارات فقط، وإنما تحتاج إلى جهاد ومصابرة ورباطة جأش وبذل النفس في سبيل ذلك. وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «إن الحر حر على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكَّت عليه المصائب لم تكسره، وإن أُسر وقُهر واستبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين(عليه السلام)، لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأُسر، ولم تضرره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله، ... فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصبر توجروا»(1).

اليَهود ومُعْجِزَة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)

حينما نريد أن نتصفح التاريخ الإسلامي فسوف يتبين لنا أن اليهود في زمن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانوا دائماً يحاولون توجيه الضربات المتوالية لقطع جذور الدين الإسلامي، وكانوا يلجأون إلى إلقاء الشبهات، حيث كانوا يقولون: إذا كان حقاً ما يدعيه محمد فليأت لنا بمعجزة. ولهذا أراهم اللّه تعالى معجزات كثيرة على نبوة النبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ منها معجزة قلع باب خيبر على يد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهي أن باب حصنهم الذي كان يحتاج لتحريكه إلى (44) شخصاً. استطاع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يقلعه من أساسه. وقد قال ابن أبي الحديد، المعتزلي

ص: 524


1- الكافي 2: 89.

المذهب، مشيراً إلى ذلك في قصيدة له:يا

قالِع البابَ الذي عن هَزِّها *** عجزت أكف أربعون وأربع(1)

كان باب خيبر هذا - الذي قلعه الإمام علي(عليه السلام) موجوداً في الحجاز إلى قبل مائة سنة، وكان يعدّ من الأشياء القيمة التي تكشف عن معجزات الاسلام، التي قام بها أمير المؤمنين(عليه السلام). إلّا أن الوهابيين حطّموا هذا الباب، وجعلوه قطعاً قطعاً، ثم أزالوا آثاره. وفي جملة الأشخاص الذين شاهدوا هذا الباب أكثر من مرة هو المرحوم الحاج علي أكبر النائيني(2)، حيث شاهده مرتين حينما ذهب لأداء فريضة الحج. ومما ذكرته كتب السنة: أن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بعدما قلع الباب بيد واحدة وضعه على ضفتي خندق، وقيل نهر، كان محيطاً بقلعة اليهود، وجعله جسراً، فعبر جيش المسلمين عليه، ثم رفعه ورماه في مكان بعيد، لكي لا يستفيد الأعداء منه(3). نعم. كان قلع باب خيبر من قبل الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) معجزة أظهرها اللّه تعالى بواسطة أمير المؤمنين(عليه السلام) إضافة إلى معجزات الإسلام الأخرى، مثل معجزة القرآن، ومعجزة قتل الإمام(عليه السلام) لمرحب، وغيرها، لكي ينتبه اليهود وغيرهم إلى أن هذه المعجزات كمعجزة عصى موسى(عليه السلام)، ومعجزة خلق عيسى(عليه السلام) الطير وإبرائه الأكمه والأبرص، ونحو ذلك من المعجزات التي تظهر على أيدي أولياء اللّه تعالى بإذنه سبحانه، للدلالة على الحق واتباع الفضيلة. فعلى المبلّغ المسلم اليوم أن يقوم بفضح ومعالجة الأساليب التي يقوم بها أعداء الدين من يهود ونصارى وغيرهم، للنيل من الإسلام كما كان المسلمون الأوائل

ص: 525


1- الروضة المختارة (شرح القصائد العلويات السبع): 132.
2- هو الذي تعلم على يده الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) القراءة والكتابة كما قرأ عنده گلستان سعدي الشيرازي.
3- انظر المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب(عليه السلام): 344، والأمالي للشيخ الصدوق: 399 و 514، والإرشاد 1: 128.

يفضحون ويعرّون ادعاءات اليهود وغيرهم حفاظاً على الإسلام والمسلمين.

عاشوراء درسُ البطولة

عندما يتبادر إلى ذهن الإنسان المسلم كلمة عاشوراء يحضر في ذهنه معنى البطولة والإقدام والشهادة، وأغلب الصفات الحسنة المرسومة عن هذا اليوم وأصحابه^ ونحن نتعرض لهذه النقطة (أي موضوع عاشوراء) في موضوعنا هذا، لجملة من الأسباب: منها أهمية هذا اليوم في الإسلام، وللتحول الذي حصل في الإسلام من جراء قتل الإمام الحسين(عليه السلام) في هذا اليوم، ولكون هذا اليوم يعتبر مدرسة أخلاقية يشتمل على كافة القيم الإنسانية، وذلك لأن الإمام الحسين(عليه السلام) علّمنا معنى الحرية، ومعنى البطولة، وعلّمنا كيف نقف بوجه الباطل ولا نرضخ للظالم مهما بلغت الخسائر والتضحيات. ومن المعروف في كتب التاريخ أن من أبرز الكلمات التي حفظها التاريخ للبشرية للإمام الحسين(عليه السلام)، «إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم»(1). وهذا الدرس لا يختص بنا فقط، وإنما هو درس لكافة البشرية، وقد قال زعيم الهند غاندي، وهو غير مسلم: (تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر).

وفي يوم عاشوراء دروس كثيرة لا يسع المجال لذكرها الآن، وذلك لأنها كالسيل الذي لا ينقطع، وكذلك لوجود الكتب الكثيرة التي تناولت هذا الموضوع، فأوصى الطلبة الذين سوف يتوجهون إلى مواقع التبليغ لقراءة هذه الكتب والاستفادة منها، وتذكير الناس بمفاهيمها وفضائلها، ولكن أريد في هذا الموضوع أن أُبيّن للطلبة أن يفهّموا الناس ويوضّحوا لهم لماذا خرج الإمام الحسين(عليه السلام) إلى أرض أنه مقتول فيها، وكذلك يبينوا لهم ما هي الدروس والعبر التي

ص: 526


1- بحار الأنوار 45: 51.

استفادت منها البشرية، وما يجب أن يستفيد منها الجميع بصورة عامة، والمسلمونبصورة خاصة من يوم عاشوراء. إن الإمام الحسين سيد الأحرار والشهداء(عليه السلام) عندما قام بثورته العظيمة ضد الظلم والطغيان، لا لكي يذكر اسمه في التاريخ، أو أن يحصل على مكاسب مادية من مال وجاه، أو سلطان أو غير ذلك، من الأقاويل التي أرجف بها بعض المغرضين والحاقدين على الإسلام. فهو(عليه السلام) غني عن كل ذلك. وإنما قام الإمام(عليه السلام) في سبيل إحقاق الحق ونشر العدالة الإلهية في المعمورة، وقام لكي ينشر الحرية الحقيقية، ويحارب الباطل وأهله، وقام لكي يكون درساً للحق يقتدى به، وجميع ما عمله الإمام من بذل حياته وأهل بيته وكل شيء في الدنيا، كل هذا لابتغاء مرضاة اللّه تعالى، وتطبيقاً لأوامره تعالى. فعندما خرج الإمام الحسين(عليه السلام) إلى كربلاء فإنه كان يعلم أنه سوف يقتل في تلك الأرض، ولكن أراد من ذلك أن يعلّم الإنسانية محاربة الظلم وبذل النفس في سبيل اللّه. وعندما دخل الإمام(عليه السلام) المعركة وفقد جميع أهل بيته وأصحابه^ لم تنثني عزيمته عن محاربة الظلم وإحقاق الحق. فلو كان ما يريده الإمام كما يدعيه المغرضون والحاقدون هو المصلحة الدنيوية لخاف وتزعزع، لأنه سوف يفقد حياته لا محالة. ولكن الإمام بعكس ذلك كله وقف مستبشراً وبيده سيف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبين جنبيه قلب أبيه أمير المؤمنين(عليه السلام)، وتحته فرس جده(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يمتطيه وبيده الأخرى راية الحق، وعلى لسانه كلمة التقوى، وهو يقول:

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى *** إذا ما نوى حقّاً وجاهد مُسلماً

وواسى الرّجال الصالحين بنفسه *** وفارقَ مثبوراً وخالف مُجرماً

فإنْ عِشت لم أنْدَم وإنْ متُّ لَم أُلَم *** كفى بِك ذُلاً أنْ تَعيش وتُرغماً(1)

ص: 527


1- كامل الزيارات: 96.

فعلى المبلّغين أن يوضحوا للناس هذه الأهداف ويبيّنوا الدروس والعبر التياستفادت منها البشرية من هذه الثورة العظيمة، وكيفية تجسيدها على أرض الواقع بالإضافة إلى ذكرهم مصيبة المولى سيد الشهداء، وكيفية قتله(عليه السلام)، وكيفية سبي أهل بيته، وذلك لكي يحيطوا بكل العبر والدروس التي أحاطت بها ثورة الإمام الحسين(عليه السلام)، ويجسِّدوا معانيها على أرض الواقع.

ومن الواضح أن شخصية الحسين(عليه السلام) ومواقفه ومواقف أصحابه وأهل بيته جسدت فضائل الإسلام ومناقبه، وأظهرت القيم الإنسانية بشكل واضح لا يقبل التشويه والتحريف. فالمبلّغ الذي يجسِّد هذه الحقائق للناس قولاً وعملاً على نفسه وعلى مستمعيه يكون قد نجح في مهمته الدينية العظيمة.

{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1).

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال، ... وصحح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد منّي»(2) برحمتك يا أرحم الراحمين.

من هدي القرآن الحكيم

مِن صِفات المُبَلِّغ

الإيمان مع العَمل

قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزْقًا قَالُواْ هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهًا

ص: 528


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- الصحيفة السجادية وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(1).وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَٰرُ فِي جَنَّٰتِ النَّعِيمِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّٰتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّٰلِحِينَ}(4).

الإخلاص

قال عزّ اسمه: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(5).

وقال جلّ شأنه: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي}(6).

وقال عزّ من قائل: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(7).

وقال جلّ ثناؤه: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(8).

الأخلاق الحسنة

قال تعالى: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(9).

ص: 529


1- سورة البقرة، الآية: 25.
2- سورة يونس، الآية: 9.
3- سورة الكهف، الآية: 107.
4- سورة العنكبوت، الآية: 9.
5- سورة الأعراف، الآية: 29.
6- سورة الزمر، الآية: 14.
7- سورة غافر، الآية: 65.
8- سورة البينة، الآية: 5.
9- سورة آل عمران، الآية: 134.

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُالْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٖ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَٰتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

من صفات المبلّغ

الإيمان مع العمل

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن الإيمان ما خلص في القلوب وصدّقه الأعمال»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الإيمان إخلاص العمل»(5).

وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: «الإيمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل»(6).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «الإيمان هو الإقرار باللسان وعقد في القلب وعمل بالأركان»(7).

ص: 530


1- سورة المؤمنون، الآية: 3.
2- سورة الفرقان، الآية: 63.
3- سورة لقمان، الآية: 17-19.
4- معاني الأخبار: 187.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 50.
6- الكافي 2: 24.
7- الكافي 2: 27.

الإخلاص

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مخبراً عن جبرئيل عن اللّه عزّ وجلّ أنه قال: «الإخلاص سرُ من أسراري أستودعه قلب من أحببته من عبادي»(1).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الاخلاص شيمة أفاضل الناس»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الإخلاص يجمع فواضل الأعمال، وهو معنى مفتاحه القبول وتوقيعه الرضا...»(3).

الأخلاق الحسنة

قال الرسول الأمين(عليه السلام): «إن التواضع لا يزيد العبد إلّا رفعة فتواضعوا يرفعكم اللّه، ... والعفو لا يزيد العبد إلّا عزة فاعفوا يعزكم اللّه»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... واكظم الغيظ، وتجاوز عند المقدرة، واحلُم عند الغضب، واصفح مع الدولة، تكن لك العاقبة...»(5).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إن من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الإقتار(6)، والتوسع على قدر التوسع، وإنصاف الناس من نفسه، وابتداؤه إياهم بالسلام»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «صدقة يحبّها اللّه إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا»(8).

ص: 531


1- منية المريد: 133.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 39.
3- مصباح الشريعة: 36.
4- مستدرك الوسائل 7: 160.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 69 من كتاب له(عليه السلام) إلى الحارث الهمداني.
6- الإقتار: ضيق المعيشة.
7- الكافي 2: 241.
8- الكافي 2: 209.

الإنسان جسدٌ وروح

اشارة

قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(1).

الإنسان مركب من الروح والجسد، فيتعرض الجسد إلى الصحة والسقم والمرض والسلامة، وهذا الجسد كما أنه تكوَّن يوماً من الأيام ونمى، فكذلك سوف يأتي يوم يكون فيه دماره وفناؤه، والذي يبقى هو الروح الذي هو الجانب المهم في الإنسان. بعض الأحيان يكون جسم الإنسان سالماً معافى، بسبب عيشته الفارهة المنعّمة، إلّا أن روحه خاوية حائرة مضطربة، وتارة يعيش في ضيق وضنك، إلّا أن روحه سامية متفائلة، لذا فمن الواجب على الإنسان السعي لأجل أن يوجد نوعاً من التوازن والإكتفاء في الطرفين، سواء الجانب الجسدي أو الروحي، وقد ذكرنا سابقاً بأن للروح والجسد تأثيراً متبادلاً بينهما، فكل منهما يؤثر على الآخر، سواء في الصحة أو السقم.

ولكن الروح يضع تأثيره على الجسد في كلتا الحالتين، فالإنسان السعيد يكون جسمه في راحة وليس في ألم، ذلك لأن روحه في خير.

إذن قيمة الإنسان ليست بجسده وإنما بروحه. فقيمة الشيخ الأنصاري جاءت من سمو روحه وعلوّها، وتفاهة الظالمين أمثال يزيد وشمر جاءت من دناءة أرواحهم، وإن كانت أجسادهم قوّية وكبيرة. وذلك هو القرآن الكريم يقول: {إِلَّا

ص: 532


1- سورة الشعراء، الآية: 88-89.

مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(1). أي من أتى اللّه بروح مؤمنة شريفة، ذات نوايا صالحة وأعمال خيرة، لأن الروح هي محل الأخذ والعطاء والردّ والقبول.

لقد كان ابن سينا وابن مسكويه يعيشان في زمن واحد، ولكن كان لكل منهما طريق خاص في السلوك الروحي، فابن سينا قضى عشرين سنة من عمره في دراسة العلوم الطبية والطبيعية والدنيوية الأخرى حتى أتمّها، وكان يُعدّ من العلماء الكبار في ذلك اليوم. وفي أحد الأيام جاء إلى مجلس ابن مسكويه وحضر عند درسه، وكان آنذاك شابّاً، يمتلك الحيوية والعلم، بحيث كان يتصور بأنه يعرف كل شيء، فأراد أن يُظهر فضله ومنزلته في مجلس ابن مسكويه، وقد كانت بيده جوزة فألقاها أمام ابن مسكويه، وقال له: عَيِّن لي مساحة هذه الجوزة! وذلك لأن هناك أسلوباً خاصاً لمعرفة مساحة سطح الأجسام الدائرية والكروية، فما كان من ابن مسكوية إلّا أن وضع كتابه الذي كتبه في الأخلاق أمام أبي علي ابن سينا وقال له: من الأولى لك أن تقرأ هذا الكتاب أولاً، لكي تصلح دواخلك وقلبك، وبعدها أقول لك مساحة هذه الجوزة، فأنت تحتاج إلى إصلاح النفس أكثر من احتياجك لمعرفة مساحة هذه الجوزة. ومن البديهي أن قيمة الإنسان مرتبطة بأخلاقه، فترتفع قيمته مع ارتفاع أخلاقه، وتنزل قيمته من انعدامها، فتأثر أبو علي من كلام ابن مسكويه، وأصبحت الجملة التي قالها له ابن مسكويه باعثاً نحو اهتمامه بتربية وتزكية نفسه.

النفس وقواها

اشارة

ولا يخفى أن حقيقة الإنسان إنما روحه التي بين جنبيه، فهي الجوهر الملكوتي الرحماني، وما البدن إلّا آلة لذلك الجوهر. ولقد قيل: إن النفس

ص: 533


1- سورة الشعراء، الآية: 89.

تسمى روحاً لتوقف حياة البدن عليه، وتسمى عقلاً لإدراكه المعقولات وتسمى قلباً لتقلبه في الخواطر(1).

ومن المعروف أن النفس تمتاز بأربع قوى تشكل قوامها، وهي: القوة العقلية - القوة الغضبية - القوة الشهوية - القوة الوهمية. ويمكن أن يقال: إن القوى الثلاث الأخيرة إذا طغت عن حدّ الإعتدال يقال لها: القوة الشيطانية باعتبار أن مصدرها وملاكها واحد وهو الهوى.

ولعل قائلاً يقول: إذا كانت هذه القوى لها هذا الخطر العظيم، فلما أودعها اللّه عزّ وجلّ في الإنسان؟ فنقول وبكل بساطة: إنه لولا القوة الغضبية، أي لولا الغضب، لما دافع الإنسان عن عرضه وماله ودينه وأرضه، ولما أخذته الحميّة، ولو فقدت القوة الشهوية لما مال الإنسان إلى المأكل والملبس والزواج، ولاضطربت حياته كل اضطراب، وهكذا في القوة الوهمية، فبها يستطيع المرء أن يستنبط وجوه المكر والحيل. وعلى هذا نجد أن وجود هذه القوى سبب لبقاء الإنسان وانسجامه مع الناس وبقاء بدنه واستمرار حياته. ولكن هذا الكلام في ما إذا تعادلت القوى، أي في ما إذا لم يمل الإنسان إلى حدّ الإفراط أو التفريط، فمثلاً الشجاعة صفة كمال وجمال للإنسان، ولكن إذا تهوّر هذا الإنسان واستفاد من قوته وشجاعته استفادة سيئة، بحيث يعتدي على الناس ويغتصب أموالهم ويهدد أعراضهم، فإن ذلك إفراط، وهو مذموم عند الناس جميعاً، أو بالعكس حيث لا يستفيد الإنسان من قوته، ومن الطاقة الموجودة فيه، ومن بدنه، فيركن إلى الجبن، فهو الآخر قبيح، وهكذا في باقي الصفات، من العفة والصبر. فكما أنّ الشجاعة هي الحدّ المعتدل في القوة الغضبية لتنزهها عن التهور (الإفراط) وعن الجبن (التفريط) وسيرها في خطّ النمط الأوسط الذي تتتعادل فيه جميع

ص: 534


1- انظر جامع السعادات 1: 51.

القوى النفسانية. كذلك الأمر في باقي الصفات. فإذا عادل الإنسان في قواه، واعتدل في سلوكه، حينئذ يكون إنساناً، وإلّا ففي كلا جانبي الإفراط والتفريط يفقد الإنسان إنسانيته، ويتصف بصفات الحيونات والعجماوات.

حفظ التوازن

إن حفظ التوازن العام للسلوك من أدق الأمور وأصعبها، لا سيما في الظروف الصعبة والمواقف الحرجة، إذ يتطلب الأمر أن يكون المرء على ثقة عالية بنفسه وتفعيله وتجسيده صفات الحسن والجمال، كالصبر والحلم والتأني وعدم الانفعال في المواقف التي ينفعل فيها الإنسان العادي. فمما يذكر أن نصرانياً قال للإمام الباقر(عليه السلام): أنت بقر؟ قال الإمام: «أنا باقر»، قال: أنت ابن الطباخة؟ قال: «ذاك تلك حرفتها»، قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذّية؟ قال: «إن كنت صدقت غفر اللّه لها، وإن كنت كذبت غفر اللّه لك»، قال فأسلم النصراني(1).

لما رأى حلم الإمام وأجوبته الطيّبة، التي تنم عن طهارة القلب واتساع العلم.

وهناك رواية تقول: أم جميل زوجة أبي لهب قالت حول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

مذمَّماً أبينا *** ودينه قلينا

وأمره عصينا(2)

فلم يلتفت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «إنهم يذمون مذمّماً، وأنا محمد»(3)! فالإنسان إذا سمح لنفسه الإنخراط في السفاسف والاهتمام بالأمور الصغيرة فإنه سوف ينشغل عن تحقيق أهدافه وأعماله الكبيرة. فلكي يحفظ الإنسان

ص: 535


1- مناقب آل ابي طالب^ 4: 207.
2- إعلام الورى: 30.
3- انظر الخرائج والجرائح 2: 776.

توازنه في السلوك والمنطق لا بدّ أن يمتلك عشرات الصفات، وذلك عن طريق جمعها في نفسه بصورة تدريجية، وأن يبعد عن نفسه عشرات الصفات السيئة أيضاً، وذلك لكي يصح أن يطلق عليه بأنه كريم، وحليم، وعالم، ومتواضع، وخدوم وغير متكبر، ويحب الخير للآخرين، فإذا استطعنا إبعاد السيئات عن أنفسنا وجلب الخيرات، يصح عندها أن نقول لأنفسنا: بأننا هذّبناها. ذلك لأن تهذيب النفس وحفظ التوازن كبناء الدار تماماً، كما أن الدار تحتاج إلى عشرات الأشياء، بل كل شيء من هذه اللوازم تحتاج بدورها إلى عشرات الأعمال فالحجارة التي هي عامل مهم في بناء البيت، تحتاج إلى أنواع التكسير والنقل والترصيف وما إلى ذلك من الأمور الأخرى، وكما أن البيت المسكون يحتاج إلى التعمير والصينانة المستمرة، كذلك النفس تحتاج إلى التعمير والتنظيف الدائمين، لذا يقول بعض الحكماء: بأن الدنيا دار بناءٍ وفساد. أي: فكما أن الشجرة تنمو وتعطي ثمارها، فكذلك يأتي عليها يوم تذبل وتتلاشى وتموت، وهكذا الإنسان؛ أحياناً يكون سليماً وطيباً، وأحياناً يمرض ويموت، هكذا عملية صقل وإصلاح النفس، فالإنسان لا بدّ عليه أن يستمر في تهذيب نفسه إلى آخر عمره، قال سبحانه وتعالى في كتابه المجيد عن لسان عيسى(عليه السلام): {وَأَوْصَٰنِي بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}(1). والسرّ الذي جعل الصلاة أن تكون عمود الدين هو لكونها تدعو الإنسان بصورة مستمرة إلى النظافة الروحية والجسدية، أو بكلمة واحدة: إلى تهذيب نفسه، فكما أن السقف يحتاج إلى جدران لترفعه فكذلك الصلاة بالنسبة إلى الدين إذ أنَّها عمود الدين، هكذا هي طريقة تهذيب النفس وتزكيتها، ولهذا كان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 536


1- سورة مريم، الآية: 31.

يقول: «اللّهم لا تكلني إلىنفسي طرفة عينٍ أبداً»(1).

إذن فمن الممكن للإنسان السقوط والهلاك لو ترك وخُلِّي مع نفسه.

ومما يحضرني الآن أنه كان لي صديق، صادف أن انقطعت أخباره عنّي لعدّة أيام، فسألت عنه، فقالوا لي: بأنه راقد في المستشفى لحادث اصطدام وقع له بالسيارة، وبعد مدة زارني وكانت يداه ورجلاه مشدوَدتين، ولا يستطيع المشي بصورة طبيعية، فسألته عن ذلك، فقال: كنت أسوق سيارتي، فغفلت نفسي لحظة واحدة، وإذا بي أسمع صوتاً شديداً مع ضربة قوية من الخارج ففهمت بأني اصطدمت مع سيارة أخرى، بعدها فتحت عيني وإذا أنا في المستشفى، هذه اللحظة أو الثانية التي غفلت فيها أدّت بي إلى هذه النتيجة.

آفة النفس

من طبيعة هذا العالم أن الأشياء بعضها مسلط على البعض، فالحيوانات بعضها يتغذى على البعض الآخر وعلى النبات أيضاً، والنبات يعاني من تسلط الأمراض عليه، ومما يؤدي إلى موته... وكذا الحال بالنسبة إلى النسيان، فإنه آفة العلم والعجلة آفة النفس، والجهل آفة السعادة... فكما أن لكل شيء آفة، فإن النفس لها آفة أيضاً وهي مجموع القبائح والمعاصي التي يرتكبها الإنسان فإنها تلوِّث روحه وفطرته التوحيدية التي فطره اللّه عليها، مما يؤدي إلى تنكره للدين والرسالات فيقف محارباً لرسل اللّه وكتبه.

فمثلاً: الجهل قبيح ونتائجه أقبح منه، فأرقى مستوى يعيشه الجاهل هي الخرافة، والأساطير التي تنمّي فيه جانب اللاوعي والقوة الوهمية، فيعيش الخيالات والأمنيات الكاذبة، ويركن إلى السكون في الوصول إلى أمانيه، والعجله

ص: 537


1- الكافي 7: 2.

أيضاً أمر قبيح؛ إذ أنها تفوِّت الفرص المناسبة على الإنسان، وتورثه الندامة والحسرة، وتجعله إرتجالياً في جميع مواقفه، مما لا ينسجم مع منطق التفكير والتدبر. والزنا من المعاصي والقبائح، إذ أنه يقتل العفّة والمروءة في الإنسان وبالتدرج يفقد الحياء الذي هو من أُمهات الشخصية الإنسانية والإسلامية. فقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام): «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة»(1). وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الحياء حياءان: حياء عقل، وحياء حمق، فحياء العقل هو العلم، وحياء الحمق هو الجهل»(2). فالزاني والسارق والغاصب و... لا حياء لهم، ولا علم لهم، لأنهم لو علموا بما يصنعون وما يرتكبون من القبائح لما فعلوها، ولكن فعلهم لها دليل جهلهم وحمقهم، وهكذا الأمر في بقيّة الذنوب والقبائح.

لأن الإنسان عندما خلقه اللّه عزّ وجلّ، وبثّ فيه الروح، كانت تلك الروح متَّسمة بالإيمان باللّه وتوحيده، ولديها الاستعداد التامّ لحمل كافة الصفات الحسنة التي أمر اللّه بها، كالعدل والصبر والإحسان والوفاء والصدق و... ولكن عندما يسوء إختيار الإنسان في حياته، فإنه يكون قد لوّث روحه بالقبائح، فبدل أن يختار العمل والسعي، نراه يفضّل طريق السرقة وغصب أموال الناس، لأنه طريق أسهل، رغم قباحته. وبدل أن يختار الزواج وبناء الأسرة وتربية الأولاد نراه ينحرف إلى اختيار سيء، فيزني. وبدل أن يكون صادقاً فانه يختار طريق الكذب لتحقيق أغراضه، وهكذا. فهذه الاختيارات السيئة تلوِّث الروح، وتكون آفة لقتل الإيمان وانحراف الإنسان إلى الطرق غير المستقيمة، التي لا تتلاءم وهدفه في هذه الحياة الدنيا.

ص: 538


1- الكافي 2: 106.
2- الكافي 2: 106.

القلب السليم

ولهذا نجد أن الآية - التي افتتحنا بها الكلام - قالت: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(1)، أي: أن يكون قلب الإنسان سليماً خالياً من الآفات الظاهرة والباطنة(2). لأننا قلنا: إن آفات النفس أو القلب أو الروح، أو - بالأعم - الإنسان، إنما هي القبائح، واللّه عزّ وجلّ نهى الإنسان عن الاقتراب أو اقتراف هذه القبائح، لأنها لا تنسجم مع غرض المولى لخلق الإنسان.

إذ أن اللّه تعالى أراد له الكمال الحقيقي، الذي يضمن له الخلود النهائي في جنات الرحمن، وهو لا يتأتّى إلّا بالإيمان والعمل الصالح، ومجانبة القبائح. ولذلك قالت الآية: إن كل الأشياء والمتعلقات لا تنفع يوم القيامة، إلّا أن يأتي الإنسان إلى ربه بقلب طاهر حافظ على فطرة التوحيد التي تدعوه دوماً إلى طاعة اللّه وتنفيذ أوامره، وليس المراد بالقلب هذا الشكل الدموي الصنوبري، وإنما كناية عن الروح الطاهرة. لأنها إما أن تتقلب في أجواء الإيمان والصالحات، فتقدم إلى ربها وخالقها بصورة أحسن من صورة الملائكة، وإما أن تعيش أجواء الانحراف والقبائح، فتحشر على شكل القوة التي كانت الروح تتحرك معها. فمثلاً: إذا كانت صفة الإنسان الغالبة عليه في الدنيا هو الغضب، فإنه يحشر على شكل السباع، وإذا كانت القوة الوهمية هي المتحكمة في سلوك وسير الإنسان، فإنه سوف يُحشر على شكل البهائم التي همها بطنها وفرجها وهكذا... فيوم الحشر لا ينفع الإنسان شيء سوى أن يأتي إلى ربه بروح طاهرة ابتعدت في الدنيا عن الآفات، لتقدم على اللّه بطهارة مطلقة وسمات حسنة.

فتكون تلك الطهارة في القلب أو الروح، أو تلك السلامة - كما عبّر القرآن

ص: 539


1- سورة الشعراء، الآية: 89.
2- انظر مفردات ألفاظ القرآن: 421.

الكريم عنها - سبباً كافياً لنجاة الإنسان وعدم احتياجه لأحد سوى رحمة ربه، بعكس أولئك الذين أمضوا حياتهم بالسيئات والقبائح، فإنهم يومئذٍ يختصمون في ما بينهم، كلٌّ يلقي اللّوم على صاحبه، ويجعله سبباً لانحرافه وتلوثه: {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٖ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(1). ولكن هيهات، إنها أُمنيّة لا تتحقق أبداً، ولو تحققت لعادوا إلى نفس الانحراف لأنّ قلوبهم طبعت على حبّ الفساد والميل إلى الانحراف، لفساد اختياراتهم وتلوُّث قلوبهم، تماماً عكس نتائح أصحاب القلوب السليمة: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2). الذين جعلوا أنفسهم في تقوى من المعاصي.

اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، «اللّهم وفِّر بلطفك نيَّتي، وصحّح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد مني، ... اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد ومتِّعْني بهدى صالح لا أستبدل به، وطريقة حقٍ لا أزيغ عنها، ونيّة رشد لا أشك فيها»(3)، بحق محمّد وآل محمّد.

ص: 540


1- سورة الشعراء، الآية: 96-102.
2- سورة الشعراء، الآية: 90.
3- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

فهرس المحتويات

مقدمة المؤسسة... 5

الإصلاح الاجتماعي

الإصلاح... 13

الكفاءة والقدرة... 18

إصلاح المجتمع الصغير... 21

إصلاح المجتمع الكبير... 24

إصلاح النفس... 26

المؤهلات الذاتية... 27

المبادئ الإسلامية... 29

التضحية لأجل الآخرين... 31

ترويض النفس... 32

كيفية إصلاح المجتمع الإسلامي... 34

1- التنظيم واحتواء الجماهير... 34

2- التوعية العصرية... 35

3- السلم... 35

4- شورى المرجعية... 37

5- الاكتفاء الذاتي... 38

الحريات... 42

من هدي القرآن الحكيم... 43

ص: 541

الإصلاح الاجتماعي... 43

إصلاح النفس... 43

المؤهلات الذاتية... 44

العمل سُلّم الاصلاح... 44

المجتمع والشورى... 44

من هدي السنّة المطهّرة... 45

الإصلاح الاجتماعي... 45

إصلاح النفس... 45

المؤهلات الذاتية... 46

العمل سُلم الإصلاح... 46

المجتمع والشورى... 47

التجربة وسلوك الخبراء

الحياة مدرسة... 48

من هو المغبون والمحروم؟... 49

الاستزادة من التجارب... 51

ما وراء التجربة... 56

عقل الطبع وعقل التجربة... 58

اختلاف التجارب... 60

تجربتان: ناجحة وفاشلة... 63

المقدمات والنتائج... 66

بين التجربة والمجازفة... 69

التجربة وأهميتها... 70

الحاجة إلى أصحاب التجارب... 73

الوصايا تجارب العظماء... 75

ص: 542

من هدي القرآن الحكيم... 86

من مقومات التجربة استعمال العقل... 86

الإيمان سر نجاح التجارب... 86

القرآن العظيم التجربة الناجحة... 87

التأسي بسيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة^ والصالحين... 87

من هدي السنّة المطهّرة... 88

استعمال العقل من مقومات التجربة... 88

الإيمان سر نجاح التجارب... 88

القرآن العظيم سر النجاح... 89

التأسي بسيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار^... 90

التعاون والعمل

التقدم والتلاحم... 91

المغبون والملعون... 93

شروط التقدم... 94

الإسلام كل لا يتجزأ... 94

التنظيم الاجتماعي... 95

البناء المرصوص... 100

خصائص القوة... 100

العرب وإسرائيل... 101

الوحدة شعار الأنبياء^... 103

إسلام الأوس والخزرج... 104

اعتصموا بحبل اللّه... 109

وحدة الأعداء وفرقتنا... 112

اليهود في بغداد... 114

ص: 543

وفي طهران... 114

الحال المعكوس... 116

غاندي والعمل والتعاون... 119

وقفة أُخرى مع غاندي... 121

دَور الأمّة... 123

العلاج من داخل الأمة... 123

المعصومون^ أسوة في التعامل والعمل... 124

من هدي القرآن الحكيم... 127

واعتصموا بحبل اللّه... 127

الوحدة شعار الأنبياء^... 128

اليهود أعداء المؤمنين... 128

من هدي السنّة المطهّرة... 129

تعاونوا على البر والتقوى... 129

ذم الخصومة... 129

وحدة المجتمع الإسلامي... 130

ذم الخلاف والفرقة... 131

التهجير جناية العصر

جريمة التهجير... 132

التركيبة السكانية... 134

سيرة الحزب الحاكم في العراق... 137

الغاية في وجود الحزب الحاكم... 138

الوعي الديني السياسي... 140

التهجير وسلوكية الحزب الحاكم... 142

العناصر الدخيلة في نظام الحكم... 145

ص: 544

طغاة العراق.. أهداف وأساليب... 149

أساليب التهجير... 151

من أساليب النظام... 152

من مآسي المهجرين... 155

نحن عراقيون... 156

لا تتكلموا، هذه أوامر صدام!... 164

لن نرضى بغير العراق وطناً... 166

تهجير التجار غيلة... 167

تهجير آلاف العوائل... 168

أكراد العراق... 169

جريمة حلبجة... 170

قصص من مأساة حلبجة... 171

رواية أخرى للمأساة... 172

قصة أخرى... 176

شيعة الأكراد... 178

قصة أخرى... 180

من الأمويين إلى طغاة العراق... 181

من هدي القرآن الحكيم... 183

بث روح الأخوة... 183

الهجرة والتهجير... 184

حرمة الركون إلى الظالمين وإعانتهم... 185

الظالم والمظلوم... 185

من هدي السنّة المطهّرة... 186

الهجرة والتهجير... 186

ص: 545

جزاء الظالمين... 187

بث روح الأخوة... 188

جزاء إعانة الظالمين... 188

الظالم والمظلوم... 189

احذروا اليهود

من أسباب تأخر المسلمين... 191

المسلمون واليهود... 192

اتحادهم وتفرقنا... 193

بين العراق واسرائيل... 195

رسالة إلى ياسر عرفات... 196

أما عن السبب الثاني... 197

حتمية السقوط... 199

الخطر اليهودي... 200

1- السيطرة على التجارة... 201

2- نشر الفساد... 202

3- خطر المخدرات... 204

4- نشر الإيدز... 205

احترام الإنسان في الإسلام

في البدء... 207

أفضل الخلق... 208

الإنسان المكرّم... 211

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واحترام الإنسان... 212

من ينجيك مني؟... 217

ص: 546

أمير المؤمنين(عليه السلام) وأهل الذمة... 217

احترام جميع الناس... 219

حرمة التعذيب لانتزاع الاعتراف... 222

الاحترام بين الزوج والزوجة... 226

المحدود واحترامه... 229

احترام الأعداء... 233

عطاء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 234

مع ذي الخويصرة... 236

العفو حتى في ميدان القتال... 237

مالك الأشتر قائد الجيوش... 238

من أخلاق الآخوند الخراساني(رحمه اللّه)... 239

المرجع لسمح... 240

من هدي القرآن الحكيم... 242

كرامة الإنسان... 242

احترام جميع الناس... 242

الاحترام بين الزوج والزوجة... 243

في ذم العداوة... 243

الإسلام يدعو إلى السلم... 244

من هدي السنّة المطهّرة... 245

في ذم العداوة... 245

احترام جميع الناس... 245

الاحترام بين الزوج والزوجة... 246

الإسلام يدعو إلى السلم... 247

ص: 547

أثر النشاط والحكمة في تقدم المسلمين

انتشار الإسلام... 248

عمومية الرسالة... 249

السياسة الحكيمة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 251

العفو العظيم... 254

الأسوة الحسنة... 256

اليقظة والفكر... 258

لا يغيّر اللّه ما بقوم... 259

كيف انتشر الإسلام؟... 260

علم الهدى... 261

ستر العطاء... 261

الهمة العالية... 264

الصينيون وإحياء بلادهم... 266

يقظة الأعداء... 266

سياسة أعداء الإسلام... 269

الغرب والبعث... 271

الصبر وطول النفس... 272

من هدي القرآن الحكيم... 275

لا للكسل... 275

النشاط في العمل... 275

التطلع إلى المستقبل... 276

النشاط الفكري... 276

المسلمون والتنمية الاجتماعية... 276

الإسلام دين اللّه... 277

ص: 548

الشورى في الإسلام... 277

الأمة الإسلامية خير الأمم... 277

من هدي السنّة المطهّرة... 278

في ذم الكسل... 278

العمل الصالح... 278

المسابقة إلى الخيرات... 279

نشاط الفكر... 279

المسلمون والتنمية الاجتماعية... 280

المسلمون ومعرفة الأعداء... 280

المسلمون والشورى... 281

إحياء الشعائر

معنى الإحياء... 282

إحياء ذكرى المؤمن... 286

الاستعمار ومحاربة الشعائر... 290

أتأتي قبر الحسين(عليه السلام)؟... 293

حيل الغرب في بلاد المسلمين... 295

مجالس التعزية على لسان قس مسيحي... 298

من هدي القرآن الحكيم... 300

حياة المؤمن... 300

دور المجالس في إنهاض الأمة... 300

الاستعداد الدائم للدفاع عن الإسلام... 301

الدعوة لنشر الدين الإسلامي... 301

من هدي السنّة المطهّرة... 302

إحياء الشعائر... 302

ص: 549

دور المجالس في إنهاض الأمة... 303

نفي البدع... 304

الدعوة لنشر الدين الإسلامي... 305

إحياء معالم الإسلام

بين الرسول والنبي... 306

أولوا العزم... 310

من أوصاف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 311

من معالم الإسلام... 314

مسجد قبا... 314

مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 316

العتبات المقدسة... 317

الوهابيون وهدم مراقد الأولياء... 323

النصراني ورأس سيد الشهداء(عليه السلام)... 328

أثر الرسول... 330

تواطؤ الإنجليز... 333

قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 333

وظيفتنا إزاء مدينة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 335

من هدي القرآن الحكيم... 337

دعوة الإسلام... 337

صفات الأنبياء والرسل^... 338

بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 339

بيوت اللّه جلّ جلاله... 339

من هدي السنّة المطهّرة... 340

ص: 550

معالم الإسلام... 340

أولوا العزم؟... 340

النبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء^... 340

زيارة قبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقبور الأئمة المعصومين^... 342

المساجد المشرفة... 349

إعداد الأجيال

التربية وأدواتها... 351

التربية والتعليم في الإسلام... 352

الاهتمام بالتربية... 353

التربية وأبعادها الثلاثة... 354

البعد الأول... 354

البعد الثاني... 355

من أحكام البُعد الثاني... 355

البعد الثالث... 357

واجبات في التربية... 358

القرآن الحكيم ومراتب التربية... 359

التربية وعوامل التأثير... 360

1- الوراثة... 360

عامل الوراثة في الروايات... 362

من شواهد تأثير الوراثة... 363

2- الأسرة... 365

الأسرة وآية الاصطفاء... 365

دعائم الأسرة... 366

الأسرة وواجبات الوالدين... 366

ص: 551

اليتيم: يتيم الأدب والعلم... 367

الجمال: جمال العلم والأدب... 368

إيجاز عامل الأسرة... 368

الأسرة في الحديث الشريف... 369

الأسرة في سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 370

عامل الأسرة وكيفية تطبيقه... 372

من تطبيقات عامل الأسرة... 373

الأسرة وبعض آدابها... 375

الأسرة وسيرة أهل البيت^... 375

الأسرة والتعليمات التربوية... 376

الأسرة ومنزلة الأم... 377

الأم مدرسة الأجيال... 377

أحضان الأمّهات مدارس... 377

الزوجة الصالحة هي: أم صالحة... 378

من حقوق الأم... 379

الأم: الحجر الأساس في التربية... 379

التأدّب مع الأم... 380

الأسرة وواجبات الأولاد... 381

توصية القرآن بالوالدين... 381

قبس من الآيتين الكريمتين... 381

عامل الأسرة ملخصاً... 383

الحديث الشريف والبر المتقابل... 384

الأم في الحديث الشريف... 384

3- البيئة الاجتماعية... 386

ص: 552

البيئة وآية الأمان... 386

البيئة وآية المُكنة... 387

البيئة وآية المصلحين... 387

المراد من عامل البيئة... 388

اهتمام الإسلام بالبيئة الاجتماعية... 388

البيئة الاجتماعية في الروايات... 389

تلخيص عامل البيئة... 390

التأكيد على مصاحبة الأخيار... 391

التربية: مسؤولية الجميع... 392

خلاصة البحث... 393

من هدي القرآن الحكيم... 394

التربية الإيمانية... 394

التربية والبيئة الصالحة... 395

تزكية النفس... 395

المجتمع والمسؤولية التربوية... 396

من هدي السنّة المطهّرة... 397

تزكية النفس... 397

تأثير الوراثة في سلوك الفرد... 397

تأثير البيئة على الفرد... 398

مسؤولية الآباء تجاه الأبناء... 399

اغتنام الفرص

الزمن وعمر الإنسان... 400

استثمار العمر... 402

الفُرَص وطول الأمل... 404

ص: 553

مع أسامة بن زيد... 406

اغتنام الفرص دليل الحزم... 408

مع مؤلف مستدرك البحار... 411

مع المحدث القمي(رحمه اللّه)... 412

الكتب بساتين العلماء... 412

نماذج أخرى... 413

مع مؤلف اللمعة الدمشقية... 414

الشهيد الأول(رحمه اللّه) وكيفية شهادته... 415

اعتقال الشيخ الشهيد... 416

إن كنت عبدي فاصطبر... 417

مع مصنّف تبصرة المتعلمين... 419

مع أحد المأمومين... 419

يوم القيامة وساعات عمر الإنسان... 420

من هدي القرآن الحكيم... 423

هكذا املأ وقتك... 423

1- بالعمل المفيد للدنيا والآخرة... 423

2- فعل الخير... 423

3- طلب العلم... 424

4- ذكر اللّه على كل حال... 424

من هدي السنّة المطهّرة... 425

هكذا املأ وقتك... 425

1- بالعمل الصالح المفيد دنياً وآخرة... 425

2- فعل الخير... 426

ص: 554

3- طلب العلم... 426

4- ذكر اللّه على كل حال... 428

أقسام الجهاد

أقسام الجهاد... 431

الأول: الهجرة إلى أرض الإسلام... 431

الهجرة اليوم... 433

هجرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 433

لماذا الهجرة؟... 434

موت كموت بعير... 436

قصة استشهاد الراهب... 437

الثاني: طلب الشهادة... 438

الثالث: قتل سمعة الأعداء... 440

السبيل إلى ذلك... 441

الرابع: قراءة القرآن... 442

تقوى القلوب... 442

ذكر الموت... 443

من هدي القرآن الحكيم... 445

الجهاد في سبيل اللّه... 445

الهجرة إلى اللّه تعالى... 446

جهاد الكلمة... 446

تذكر الموت... 447

من هدي السنّة المطهّرة... 447

الجهاد في سبيل اللّه تعالى... 447

أقسام الجهاد وشرائطه وأحكامه... 448

ص: 555

السبيل إلى الجهاد... 449

الهجرة عن بلد المعاصي... 449

التحذير من مؤازرة الحكومات الجائرة... 450

الأحلام من وجهة نظر الإسلام

تمهيدٌ... 451

كيف تحدث الأحلام؟... 452

الأحلام الصادقة والكاذبة... 453

تفسير الأحلام... 453

من رآني فقد رآني... 456

القرآن والرؤيا... 456

لا حجية للرؤيا... 458

ابن سيرين وتعبير الرؤيا... 459

رؤيا الوالد وإصابته بالسكتة... 460

الدقة في تفسير الرؤيا... 461

من هدي القرآن الحكيم... 462

القرآن والرؤيا... 462

من أنباء الغيب... 462

الإيمان الحقيقي كاشف عن المغيبات... 462

تعبير الرؤيا... 463

من هدي السنّة المطهّرة... 463

الرؤيا ومنشأها... 463

الرؤيا الصادقة والكاذبة... 464

تعبير الرؤيا... 465

الرؤيا على ما تعبر... 466

ص: 556

لمن تقص الرؤيا؟... 466

سوء الأحلام... 466

إذا عُبرت وقعت... 466

صدق رؤياه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 466

رفع الرؤيا... 466

رؤيا الإمام(عليه السلام)... 467

الرؤيا الصالحة... 467

ما يكره من الرؤيا... 467

الروح والرؤيا... 468

رؤيا أم سلمة(عليها السلام)... 469

الأخوة الإسلامية

الأُخوّة وأقسامها... 470

الأخوة في اللغة... 472

الاخوة في الحديث الشريف... 473

الأخوة الإيمانية... 475

آية الأُخوّة والتدبّر فيها... 477

أخوّة المسلمين الأوائل... 479

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤاخي بين المسلمين... 480

الحدود المصطنعة بين الدول الإسلامية... 483

السبيل إلى الأخوة... 484

الحج والأخوة... 486

لورانس العرب... 487

إلى متى هذه الفرقة؟... 488

ص: 557

من هدي القرآن الحكيم... 491

الأخوة النَسَبية... 491

الأخوة الرضاعية... 491

الأخوة الدينية... 492

لا للفرقة... 492

من هدي السنّة المطهّرة... 493

حقوق الأخوة الإسلامية... 493

الأخوة الدينية... 494

الأخوة في اللّه... 495

المنبر الحسيني وبناء الإنسان

الأئمة وصِناعة النَوع الإنساني... 497

المنبر الحسيني وبناء الذات... 499

خَصائِص المِنبر الحُسيني... 500

1- أن يكون منبراً بنّاءً... 500

2- نشر الوعي... 502

3- أن يكون المنبر هادفاً... 503

ملاحظات على المِنبر... 504

الإيمان والبناء... 505

خلاصة القول... 505

من هدي القرآن الحكيم... 506

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني... 506

التمسك بالإسلام... 506

العمل للآخرة... 507

الإلتزام بمكارم الأخلاق... 507

ص: 558

اتّباع الحق أن لا أقول على اللّه إلّا الحق... 508

من هدي السنّة المطهّرة... 508

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني... 508

التمسك أكثر بالاسلام... 508

العمل للآخرة... 508

الالتزام بمكارم الأخلاق... 509

اتّباع الحق والقول بالحق والعمل بالحق... 509

مع المبلّغين

المُبَلِّغ المُسْلِم... 512

الصِّفات التي يجب توفّرها في المُبلّغ المسلم... 515

أولاً... 516

ثانياً... 517

ثالثاً... 517

مِن مَهام المُبَلِّغين... 518

الإكتفاء الذّاتي... 519

الحريّة ورسالة المُبَلِّغ... 520

الأنبياء والدعوة إلى الحريّة... 522

اليَهود ومُعْجِزَة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)... 524

عاشوراء درسُ البطولة... 526

من هدي القرآن الحكيم... 528

مِن صِفات المُبَلِّغ... 528

الإيمان مع العَمل... 528

الإخلاص... 529

الأخلاق الحسنة... 529

ص: 559

من هدي السنّة المطهّرة... 530

من صفات المبلّغ... 530

الإيمان مع العمل... 530

الإخلاص... 531

الأخلاق الحسنة... 531

الإنسان جسدٌ وروح

النفس وقواها... 533

حفظ التوازن... 535

آفة النفس... 537

القلب السليم... 539

فهرس المحتويات... 541

ص: 560

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.