الوصول الی کفایة الاصول المجلد 5

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السید محمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: کفایة الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: الوصول الی کفایة الاصول المجلد 5/ السید محمد الحسیني الشیرازي ؛ [برای] الشجرةالطیبه.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.= 1399.

مواصفات المظهر: 5ج.

ISBN : دوره:9789642045242 ؛ ج.2:9789642045228 ؛ ج.2:9789642045235 ؛ ج.3:9789642045259 ؛ ج.4:9789642045266 ؛ ج.5:9789642045273

حالة الاستماع: فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : هذا كتاب وصفي برکفایة الاصول، آخوند خراساني است.

موضوع : آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایة الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

موضوع :أصول الفقه الشيعي -- قرن 14

Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

المعرف المضاف: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

المعرف المضاف: الشجرةالطیبه (قم)

ترتيب الكونجرس: BP159/8

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6131319

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمة الله)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة:السابعة والأربعون، الأولى

للناشر - 1441ه- .ق

-------------------

شابك (الدورة): 2-204524-964-978

شابك (المجلد الرابع): 6-204526-964-978

-------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم قم

المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم إلى قيام يوم الدّين.

وبعد: فهذا الجزء الخامس من الوصول في شرح كفاية الأصول للمحقّق آية اللّه الخراساني(قدس سره)، كتبته للإيضاح، واللّه أسأل التّوفيق والتّمام والثّواب، إنّه وليّ ذلك، وهو المستعان.

كربلاء المقدّسة

محمّد بن المهدي

ص: 3

ص: 4

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، الاستصحاب

اشارة

فصل: في الاستصحاب، وفي حجيّته - إثباتاً ونفياً - أقوال للأصحاب.

ولا يخفى: أنّ عباراتهم في تعريفه، وإن كانت شتّى، إلّا أنّها تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد، وهو «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شُكَّ في بقائه»:

إمّا من جهة بناء العقلاء على ذلك

___________________________________________

[فصل في الاستصحاب]

اشارة

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، الاستصحاب

{فصل: في الاستصحاب} وهو مصدر باب الاستفعال، يقال: (استصحب الشّيء) أي: لازمه وجعله في صحبته، فكأنّ المستصحب يجعل الشّيء المشكوك فيه في صحبته، فإذا شكّ في بقاء طهارته، وقد كان سابقاً متطهّراً لازم الطّهارة وبنى على أنّها معه.

{وفي حجيّته - إثباتاً ونفياً - أقوال للأصحاب} تطلع على أهمّها في المباحث الآتية.

{ولا يخفى أنّ عباراتهم في تعريفه} أي: في تعريف الاستصحاب {وإن كانت شتّى} كقولهم: «إنّه إثبات الحكم في الزمان الثّاني تعويلاً على ثبوته في الزمان الأوّل» أو «إنّه إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه» أو «إنّه إبقاء ما كان» أو أمثال ذلك {إلّا أنّها تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد، و} مراد موحّد و{هو «الحكم ببقاء حكم} كالطهارة {أو موضوع ذي الحكم} كزيد في ما لو كان ذا حكم كوجوب النّفقة على عياله {شكّ في بقائه»} وإنّما قلنا بأنّ مراد الجميع واحد، لما يظهر من كلماتهم من أنّهم لا يعنون أُموراً متعدّدة.ثمّ إنّ الحكم بالبقاء لأحد أُمور أربعة: {إمّا من جهة بناء العقلاء على ذلك}

ص: 5

في أحكامهم العرفيّة مطلقاً، أو في الجملة - تعبّداً، أو للظنّ به النّاشئ عن ملاحظة ثبوته سابقاً - .

وإمّا من جهة دلالة النّصّ، أو دعوى الإجماع عليه كذلك، حسب ما يأتي الإشارة إلى ذلك مفصّلاً.

ولا يخفى: أنّ هذا المعنى هو القابل لأن يقع فيه النّزاع والخلاف في نفيه وإثباته - مطلقاً أو في الجملة - وفي وجه ثبوته على أقوال.

ضرورة أنّه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء، أو هو الظنّ به النّاشئ من العلم بثبوته،

___________________________________________

الإبقاء {في أحكامهم العرفيّة مطلقاً} في البيع والشّراء والحركة والسّكون وغيرها {أو في الجملة} في غير الأشياء الخطيرة - وسيأتي التفصيل - {تعبّداً} من العقلاء وإن لم يورث الظنّ {أو} من جهة بناء العقلاء {للظنّ به} أي: بالبقاء {النّاشئ} هذا الظنّ {عن ملاحظة ثبوته سابقاً} فلا تعبّد في البين {وإمّا من جهة دلالة النّصّ} مثل قوله(علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشّك»(1)، {أو دعوى الإجماع عليه كذلك} مطلقاً أو في الجملة {حسب ما يأتي الإشارة إلى ذلك مفصّلاً}.

{ولا يخفى أنّ هذا المعنى} وهو الحكم ببقاء حكم أوموضوع الخ {هو القابل لأن يقع فيه النّزاع والخلاف في نفيه وإثباته مطلقاً} بأن يدّعي بعض نفيه مطلقاً أو إثباته مطلقاً {أو في الجملة} كما يأتي {و} أن يقع النّزاع {في وجه ثبوته} وإنّه الخبر أو بناء العقلاء أو الإجماع {على أقوال} بخلاف ما لو عرفنا الاستصحاب بأنّه بناء العقلاء - مثلاً - . {ضرورة أنّه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء، أو} كان {هو الظنّ به} أي: بالبقاء {النّاشئ} هذا الظنّ {من العلم بثبوته}

ص: 6


1- تهذيب الأحكام 1: 8، عن الصّادق(علیه السلام) أنّه قال: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر» وفي وسائل الشيعة 1: 245 «لا تنقض اليقين أبداً بالشك».

لما تقابل فيه الأقوال، ولما كان النّفي والإثبات واردين على مورد واحد، بل موردين.

وتعريفه بما ينطبق على بعضها، وإن كان ربّما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء، بل ذاك الوجه، إلّا أنّه حيث لم يكن بحدّ ولا برسم، بل من قبيل شرح الاسم - كما هو الحال في التعريفات غالباً - لم يكن له دلالة على أنّه نفس الوجه، بل الإشارة إليه من هذا الوجه.

___________________________________________

سابقاً {لما تقابل فيه الأقوال} فقول النّافي لبناء العقلاء لا يقابل قول المثبت له، إذ لعلّهما يثبتان الاستصحاب؛ لأنّ النّافي للبناء يثبت الاستصحاب للنصّ - مثلاً - {ولما كان النّفي والإثبات واردين على مورد واحد} فالنافي للاستصحاب بمعنى بناء العقلاء لا ينصبّ كلامه على المورد الّذي ينصبّ عليه المثبت للاستصحاب الثابت بالنصّ {بل} كان كلامهما وارداً على {موردين} كما لا يخفى.

{و} إن قلت: كيف تقولون إنّ جميع التعاريف تقصد شيئاً واحداً، والحال أنّبعضها لا ينطبق على ما ذكرتم من التعريف؟

قلت: {تعريفه} أي: الاستصحاب {بما ينطبق على بعضها} أي: بعض المباني الّتي ذكرنا أنّها ليست صحيحة {وإن كان ربّما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء} فلا ينطبق على تعريفنا {بل} يكون الاستصحاب {ذاك الوجه} المذكور في التعريف {إلّا أنّه} أي: ذلك التعريف الموهم للخلاف {حيث لم يكن بحدّ} يذكر الفصل للاستصحاب {ولا برسم} يذكر الخاصّة له {بل من قبيل شرح الاسم} والإتيان بلفظ لإيضاح معنى في النّفس {كما هو الحال في التعريفات غالباً} حيث لا يقصدون إلّا التوضيح وشرح اللفظ {لم يكن له} أي: لذلك التعريف الموهم للخلاف {دلالة على أنّه} أي: ذلك التعريف {نفس الوجه} الّذي يقصد المعرّف {بل} المقصود {الإشارة إليه} أي: إلى الاستصحاب الّذي عرفناه {من هذا الوجه} الّذي ذكره المعرّف.

ص: 7

ولذا لا وقع للإشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطّرد أو العكس، فإنّه لم يكن به - إذا لم يكن بالحدّ أو الرّسم - بأس.

فانقدح: أنّ ذكر تعريفات القوم له - وما ذكر فيها من الإشكال - بلا حاصل، وتطويل بلا طائل.

ثمّ

___________________________________________

{ولذا} أي: حيث كان التعريف لشرح الاسم {لا وقع للإشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطّرد} أي: المنعللأغيار {أو} بعدم {العكس} أي: الجمع للأفراد {فإنّه لم يكن به} أي: بالتعريف الموهم للخلاف بأس {إذا لم يكن بالحدّ أو الرّسم} وقوله: {بأس} فاعل «لم يكن» أخّره استطرافاً.

{فانقدح أنّ ذكر تعريفات القوم له} أي: للاستصحاب {وما ذكر فيها من الإشكال بلا حاصل، وتطويل بلا طائل} لكنّه أشكل في كلام المصنّف(رحمة الله) هذا غير واحد، وعلى كلّ فالأمر سهل.

{ثمّ} إنّ الحكم الفرعي هو ما يتعلّق بالعمل بلا واسطة، والمسألة الأصوليّة هي الّتي تقع نتيجتها في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة، فالوجوب والحرمة وما أشبهها أحكام فرعيّه؛ لأنّها تتعلّق بالعمل، وليست كالمسائل الأصوليّة الّتي تتعلّق بالأدلّة لا بالعمل، وتعلّقها بالعمل بلا واسطة، وليست كالمسائل الاعتقاديّة الّتي تتعلّق بالعمل لكن بواسطة، ومسألة المقدّمة والضّدّ والمطلق والمقيّد وما أشبهها مسائل أُصوليّة لأنّ نتائجها تقع في طريق الاستنباط.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الاستصحاب له قسمان:

الأوّل: الاستصحاب الكلّي، كالحجيّة وما أشبهها.

الثّاني: الاستصحاب الجزئي، كطهارة اليد المسبوقة بالطهارة ونجاسة الماء المسبوق بالنجاسة وما أشبههما.

ص: 8

لا يخفى: أنّ البحث في حجيّته مسألة أُصوليّة؛ حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة، وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة، وإن كان ينتهى إليه، كيف؟ وربّما لا يكون مجرى الاستصحاب إلّا حكماً أُصوليّاً، كالحجيّة مثلاً.

هذا لو كان الاستصحاب عبارةً عمّا ذكرنا.

وأمّا لو كان عبارة عن بناء العقلاء علىبقاء ما علم ثبوته، أو الظنّ به النّاشئ من ملاحظة ثبوته،

___________________________________________

لكن حيث إنّ الاستصحاب في الجملة يقع نتيجته في طريق استنباط الحكم عدّوه من المسائل الأصوليّة، فإنّه {لا يخفى أنّ البحث في حجيّته} أي: حجيّة الاستصحاب وأنّه هل هو حجّة أم لا {مسألة أُصوليّة، حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة} فإنّه إذا تمّ كونه حجّة أنتج ذلك كثيراً من الأحكام المرتبطة بالعمل بلا واسطة، كما عرفت في تعريف المسألة الفرعيّة {وليس مفادها} أي: مفاد حجيّة الاستصحاب {حكم العمل بلا واسطة} فإنّ كونه حجّة يقع في طريق الحكم لا أنّه بنفسه حكم للعمل {وإن كان ينتهي} مفاد الحجيّة {إليه} أي: إلى حكم العمل بلا واسطة.

و{كيف} يكون البحث عن حجيّة الاستصحاب مسألة فرعيّة {و} الحال إنّه {ربّما لا يكون مجرى الاستصحاب إلّا حكماً أُصوليّاً} بحتاً {كالحجيّة مثلاً} كما لو كان شيء حجّة سابقاً ثمّ شككنا في سقوطه عن الحجيّة، فإنّه تستصحب حجيّته السّابقة مع وضوح أنّ الحجيّة ليست حكماً فرعيّاً.

و{هذا} الّذي ذكرنا من كون الاستصحاب من المسائل الأصوليّة {لو كان الاستصحاب عبارة عمّا ذكرنا} أي: نفس الحكم ببقاء ما ثبت سابقاً {وأمّا لو كان} الاستصحاب {عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته أو} كان عبارة عن {الظنّ به} أي: بالبقاء {النّاشئ من ملاحظة ثبوته} أي: ثبوت الشّيء المعلوم وجوده

ص: 9

فلا إشكال في كونه مسألة أُصوليّة.

وكيف كان، فقد ظهر ممّا ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده: القطع بثبوت شيء، والشّكّ في بقائه.

ولا يكاد يكون الشّكّ في البقاء إلّا مع اتحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة،

___________________________________________

في الزمان السّابق {فلا إشكال في كونه مسألة أُصوليّة} لأنّ بناء العقلاء والظنّ لا يرتبطان بالعمل بلا واسطة، بل يكون حينئذٍ من قبيل مباحث حجيّة خبر الواحد وأشباهه.

{وكيف كان} الأمر في تعريف الاستصحاب {فقد ظهر ممّا ذكرنا في تعريفه} من أنّه الحكم ببقاء ما شكّ في بقائه {اعتبار أمرين في مورده} أي: في المورد الّذي يجري فيه الاستصحاب، كالطهارة المشكوكة الّتي نريد استصحابها:

الأوّل: {القطع بثبوت شيء} لأنّ قولنا: «ما شكّ في بقائه» يدلّ على أنّه سابقاً كان مقطوعاً به.

{و} الثّاني: {الشّكّ في بقائه} كما صرّح بذلك في التعريف.

إذا تبيّن هذا فنقول: إنّه لا بدّ أن يكون الشّكّ منصباً على ما كان اليقين السّابق منصباً عليه حتّى يصحّ التعريف المتقدّم - إنّه الحكم ببقاء ما شكّ - إذ لو كان المشكوك غير المتيقّن لم يصحّ التعريف. فمثلاً: إذا شككنا في وجود زيد في الدار بعد ما علمنا بذلك كان مصبّ الشّكّ وجود زيد وهو مصبّ اليقين السّابق.

أمّا إذا شككنا في بقاء الكريّة بالنسبة إلى ما أخذوا نصفه لم يكن مصبّ الشّكّ بعينه مصبّ اليقين، إذ اليقين قد كان تعلّق بمجموع الماء والشّكّ تعلّق بنصف الماء، وهما شيئان لا شيء واحد.

وإلى هذا أشار بقوله: {ولا يكاد يكون الشّكّ فيالبقاء إلّا مع اتحاد القضيّة المشكوكة و} القضيّة {المتيقّنة} سواء كانا مفاد كان التامّة أو النّاقصة، أو مفاد

ص: 10

بحسب الموضوع والمحمول. وهذا ممّا لا غبار عليه في الموضوعات الخارجيّة في الجملة.

وأمّا الأحكام الشّرعيّة،

___________________________________________

ليس التامّة أو النّاقصة، نحو (كان زيد) و (كان زيد عادلاً)، و(لم يكن زيد) و(لم يكن زيد عادلاً)، فإنّها {بحسب الموضوع والمحمول} واحدٌ، وإنّما حدث الشّكّ في الآن اللّاحق وأنّه هل كما كان في السّابق أم لا؟

{وهذا} الّذي ذكرنا من لزوم اتحاد القضيّتين {ممّا لا غبار عليه في الموضوعات الخارجيّة} كالأمثلة الأربعة {في الجملة} وإنّما قيّده بهذا؛ لأنّه قد يختلف الموضوع الخارجي أيضاً، كمثال الكريّة المتقدّمة، فإنّه موضوع خارجيّ وقد تبدّل، وهكذا غيره ممّا لا يعلم ببقاء الموضوع فيه.

{وأمّا الأحكام الشّرعيّة} كالوجوب والحرمة وكالطهارة والنّجاسة وغيرها من الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة، فربّما يشكل في صحّة استصحابها من جهة أنّ القضيّة المشكوكة غير القضيّة المتيقّنة؛ وذلك لأنّ موضوعات الأحكام نفس المفاهيم الكليّة، ومن المعلوم أنّ الشّكّ لا يحدث إلّا بسبب اختلاف القيود في السّابق واللّاحق وباختلاف القيود يختلف المفهوم الكلّي، وبذلك يكون الموضوع السّابق الّذي تيقّنّا انصباب الحكم عليه غير الموضوع اللّاحق الّذي شككنا في بقاء الحكم بالنسبة إليه، ومع الاختلاف لا يجوز الاستصحاب.

مثلاً: إذا علمنا بوجوب الجهاد في زمن الإمام(علیه السلام) ثمّ شككنا فيبقاء وجوبه عند غيبته لم يجز لنا الاستصحاب؛ لأنّ موضوع الوجوب كان الجهاد الكلّي المقيّد بزمن الإمام، وهذا الموضوع حال الشّكّ منتفٍ، إذ ليس الموضوع الموجود فعلاً - وهو الجهاد الكلّي حال الغيبة - عين ذلك الموضوع الموجود سابقاً.

ص: 11

- سواء كان مدركها العقل أم النّقل - فيشكل حصوله فيها؛

___________________________________________

وهكذا إذا أردنا استصحاب وجوب التمام حال الشّكّ في التجاوز عن محلّ الترخّص - في السّفر - فإنّه غير تامّ، إذ الموضوع للتمام كان الحضر، وبعد ذهاب مسافة مجهولة نشكّ في بقاء الحضر.

ومثل ذلك الأحكام الوضعيّة، كما لو أردنا استصحاب نجاسة الماء بعد زوال تغيّره - في ما كان سبب النّجاسة التغيّر - فإنّ الموضوع للنجاسة سابقاً كان هو الماء المتغيّر والآن الموضوع الموجود غير ذلك الموضوع؛ لأنّه ماء غير متغيّر.

والجواب: أنّ الموضوع يلاحظ على ثلاثة أنحاء:

[1] الموضوع الدقّي العقلي.

[2] والموضوع الدليلي اللفظي.

[3] والموضوع الخارجي العرفي.

والمناط في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب هو الموضوع العرفي، وهو باقٍ وإن كان الموضوع الدقّي العقلي واللفظي الدليلي منتف.

ففي مثال المتغيّر مثلاً الموضوع العقلي منتفٍ، إذ الماء بقيد التغيّر غير الماء بقيد عدم التغيّر، وكذلك الموضوع الدليلى؛ لأنّ الدليل قال: (الماء المتغيّر نجس) وأمّا الموضوع العرفي فهو باقٍ، إذ العرف يرى أنّ النّجاسة عارضة للماء والماء باق حال الشّكّ، ويرى أنّ التغيّر من الحالات لا المقوّمات.وعلى هذا فكلّما كان موضوع الحكم العرفي باقياً كان كافياً في جريان الاستصحاب، لاتحاد قضيّة المشكوكة والمتيقّنة.

وإلى هذا الإشكال والجواب أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: وأمّا الأحكام الشّرعيّة {سواء كان مدركها العقل} كوجوب المقدّمة - مثلاً - {أم النّقل} كالأحكام المنصوصة في الشّريعة {فيشكل حصوله} أي: اتحاد القضيّتين {فيها} أي: في

ص: 12

لأنّه لا يكاد يشكّ في بقاء الحكم إلّا من جهة الشّكّ في بقاء موضوعه، بسبب تغيّر بعض ما هو عليه، ممّا احتمل دخله فيه حدوثاً أو بقاءً، وإلّا لا يختلف الحكم عن موضوعه إلّا بنحو البداء بالمعنى المستحيل في حقّه - تعالى - ،

___________________________________________

تلك الأحكام {لأنّه لا يكاد يشكّ في بقاء الحكم إلّا من جهة الشّكّ في بقاء موضوعه} إذ لو لم يشكّ في بقاء الموضوع لم يكن وجه للشكّ في بقاء الحكم، فالشكّ في بقاء الحكم ناشئ عن زيادة قيد أو نقص قيد من الموضوع يكون ذلك سبباً للشكّ في بقاء الحكم، كنقص قيد (زمن الإمام) في الشّكّ في وجوب الجهاد، ونقص قيد (التغيّر) في الشّكّ في نجاسة الماء المتغيّر، فيكون الشّكّ {بسبب تغيّر بعض ما هو عليه} أي: بعض القيود الّتي كان الموضوع على تلك القيود {ممّا} أي: من القيود الّتي {احتمل دخله فيه} أي: في الموضوع {حدوثاً أو بقاءً} فإنّ بعض الأشياء يشكّ في دخله حتّى حدوثاً، كالأعلميّة في مرجع التقليد، فلو قلّده وهو أعلم ممّن عداه ثمّ صار غيره أعلم فالأعلميّة ممّا يحتمل دخله حدوثاً، وبعض الأشياء يشكّ في دخله بقاءً مع القطع بدخله حدوثاً، كالتغيّر بالنسبة إلى الماء، فإنّه ممّا يشكّ في دخله بقاءً وإنقطع في دخله حدوثاً.

{وإلّا} يكن الشّكّ في الموضوع، بل علم ببقاء الموضوع بتمام شروطه وقيوده فبقاء الحكم واضح لا يشكّ فيه، إذ {لا يتخلّف الحكم عن موضوعه} فإنّ الموضوع علّة تامّة للحكم ولا يتخلّف المعلول عن العلّة {إلّا بنحو البداء}.

وإذ كان للبداء معنيان:

أحدهما: ممكن، وهو إظهار المخفي لمصلحة.

والآخر: مستحيل، وهو أن يظهر للحاكم الخطأ في حكمه، فيعدل ممّا حكم به أوّلاً بدون أيّ اختلاف في الموضوع، قيّد المصنّف ذلك بقوله: {بالمعنى المستحيل في حقّه - تعالى -} إذ مع بقاء الموضوع لا يمكن رفع الحكم عنه وإن

ص: 13

ولذا كان النّسخ بحسب الحقيقة دفعاً، لا رفعاً.

ويندفع هذا الإشكال بأنّ الاتحاد في القضيّتين بحسبهما - وإن كان ممّا لا محيص عنه في جريانه - ، إلّا أنّه لمّا كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافياً في تحقّقه، وفي صدق الحكم ببقاء ما شكّ في بقائه، وكان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيّات الّتي يقطع معها بثبوت الحكم له،

___________________________________________

اختلف الزمان.

{ولذا} الّذي ذكرنا من أنّ هذا القسم من البداء مستحيل في حقّه - سبحانه - {كان النّسخ} للحكم - وهو أن ينسخ الحكم بعد الأمر به - {بحسب الحقيقة} والواقع {دفعاً} فلم يكن الحكم واقعاً شاملاً لما بعد وقت النّسخ وإن كان في الظاهر شاملاً له {لا رفعاً} بأن يكونالحكم شاملاً ثمّ يرفع، فإنّ الرّفع مستلزم للجهل، وهو محال في حقّه - سبحانه - .

هذا خلاصة الإشكال في استصحاب الحكم، وأنّه كيف يكون مع أنّ الشّكّ إنّما يطرأ بعد تغيّر الموضوع، وإذا تغيّر الموضوع لا مجال لبقاء الحكم السّابق {ويندفع هذا الإشكال بأنّ الاتحاد في القضيّتين} القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة {بحسبهما} أي: بحسب الموضوع والمحمول بأن يكون موضوع القضيّتين واحداً ومحمولهما واحداً - {وإن كان ممّا لا محيص عنه} أي: عن الاتحاد {في جريانه} أي: جريان الاستصحاب - {إلّا أنّه لمّا كان الاتحاد بحسب نظر العرف} لا العقل ولا لسان الدليل {كافياً في تحقّقه} أي: تحقّق الاتحاد {و} كافياً {في صدق الحكم ببقاء ما شكّ في بقائه} فإنّه يصدق إنّا حكمنا ببقاء ما كان، إذا اتّحد الموضوع والمحمول بنظر العرف {وكان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيّات} بيان «ما» {الّتي يقطع معها} أي: مع تلك الخصوصيّات {بثبوت الحكم له} أي: للموضوع، كالتغيّر الّذي هو خصوصيّة للماء، ومعه يقطع بثبوت

ص: 14

ممّا يعدّ بالنّظر العرفي من حالاته - وإن كان واقعاً من قيوده ومقوّماته - كان جريان الاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة الثابتة لموضوعاتها عند الشّكّ فيها - لأجل طروّ انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها، ممّا عدّ من حالاتها لا من مقوّماتها - بمكانٍ من الإمكان؛ ضرورة صحّة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تعبّداً، أولكونه مظنوناً ولو نوعاً، أو دعوى دلالة النّصّ، أو قيام الإجماع عليه قطعاً، بلا تفاوت في ذلك بين كون دليل الحكم نقلاً أو عقلاً.

___________________________________________

النّجاسة للماء {ممّا يعدّ بالنّظر العرفي من حالاته} أي: حالات الموضوع. وهذا خبر «كان بعض» {وإن كان} تلك الخصوصيّة {واقعاً} وبالنّظر الدقّي العقلي {من قيوده ومقوّماته} أي: قيود الموضوع {كان} هذا جواب قوله: «إلّا أنّه لمّا كان» أي: أنّ النّظر العرفي لمّا كان كافياً كان {جريان الاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة الثابتة لموضوعاتها} كوجوب الجهاد عند الغيبة، ونجاسة الماء عند زوال التغيّر {عند الشّكّ فيها} أي: في تلك الأحكام {لأجل طروّ انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها} أي: في الموضوعات {ممّا عدّ من حالاتها} أي: حالات تلك الموضوعات {لا من مقوّماتها} كحضور الإمام(علیه السلام) والتغيّر {بمكانٍ من الإمكان} فالموضوع بنظر العرف هو الموضوع، وبقاؤه العرفي كافٍ في ترتّب الحكم عليه وإن تبدّل بعض أحواله ممّا لا يضرّ بالصدق.

وقد علّل(رحمة الله) كفاية الاتحاد العرفي بقوله: {ضرورة صحّة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء} للحكم على موضوعه {تعبّداً} أي: ولو لم يظنّ بالبقاء فالإبقاء تعبّد من العقلاء {أو لكونه} أي: البقاء {مظنوناً ولو نوعاً} أي: ظنّاً نوعيّاً، فإنّ الغالب يظنّون بالبقاء إذا كانت له الحالة السّابقة {أو دعوى دلالة النّصّ} على كفاية الاتحاد العرفي {أو قيام الإجماععليه} أي: على البقاء {قطعاً بلا تفاوت في ذلك} البقاء {بين كون دليل الحكم} السّابق الّذي يراد استصحابه {نقلاً أو عقلاً}.

ص: 15

أمّا الأوّل: فواضح.

وأمّا الثّاني: فلأنّ الحكم الشّرعي المستكشف به عند طروّ انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه - ممّا لا يرى مقوّماً له - كان مشكوك البقاء عرفاً؛ لاحتمال عدم دخله فيه واقعاً، وإن كان لا حكم للعقل بدونه قطعاً.

___________________________________________

{أمّا} استصحاب {الأوّل} وهو الحكم النّقلي {فواضح} لما تقدّم من شمول أدلّة الاستصحاب له {وأمّا الثّاني} وهو استصحاب الحكم العقلي {ف-} ربّما أشكل فيه بأنّ العقل لا بدّ وأن يلاحظ الموضوع بجميع قيوده وشروطه حتّى يحكم عليه بحكم، فإذا انتفى قيد أو شرط لم يحكم العقل فكيف يمكن إبقاء الحكم العقلي - بالاستصحاب - بعد فقد بعض خصوصيّات الموضوع.

فمثلاً: العقل يحكم بقبح الكذب الضّارّ غير المتدارك، فإذا انتفى أحد القيدين لا يحكم العقل بالقبح، فكيف يجوز استصحابه بعد انتفاء أحدهما؟

والجواب: أنّه لا بأس بانتقاء بعض القيود {لأنّ الحكم الشّرعي المستكشف به} أي: بسبب هذا الحكم العقلي، كالحرمة المستكشفة من القبح في باب الكذب {عند طروّ انتفاء ما احتمل دخله} الضّمير يعود إلى «ما» أي: عند طروّ انتفاء قيد احتمل دخله {في موضوعه} أي: موضوع الحكم العقلي {ممّا لا يرى مقوّماًله} أي: للموضوع. و«ممّا» وصف لقوله: «ما احتمل» {كان} ذلك الحكم الشّرعي المستكشف {مشكوك البقاء عرفاً} فإنّا اكتشفنا من قبح الكذب عقلاً حرمته شرعاً، وعند انتفاء بعض القيود نقطع بذهاب الحكم العقلي الّذي هو القبح، لكن نشكّ في ذهاب الحكم الشّرعي الّذي هو الحرمة {لاحتمال عدم دخله} أي: دخل ذلك القيد {فيه} أي: في الحكم الشّرعي {واقعاً، وإن كان لا حكم للعقل بدونه} أي: بدون ذلك القيد {قطعاً} قيد لقوله: «لا حكم».

ص: 16

إن قلت: كيف يكون هذا؟ مع الملازمة بين الحكمين؟

قلت: ذلك لأنّ الملازمة إنّما تكون في مقام الإثبات والاستكشاف، لا في مقام الثبوت، فعدم استقلال العقل إلّا في حالٍ غيرُ ملازمٍ لعدم حكم الشّرع في تلك الحال؛ وذلك لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشّرع - من المصلحة أو المفسدة الّتي هي ملاك حكم العقل - كان على حاله في كلتا الحالتين، وإن لم يدركه إلّا في إحداهما؛

___________________________________________

{إن قلت: كيف يكون هذا} الّذي ذكرتم من عدم الحكم العقلي مع وجوب الحكم الشّرعي {مع} أنّه قد ثبتت {الملازمة بين الحكمين} فكلّما لم يحكم العقل لم يحكم الشّرع، وذلك مقتضٍ لعدم الحكم الشّرعي أيضاً؟

{قلت}: المقدار الّذي دلّ دليل الملازمة عليه هو الإثبات عند الإثبات - أي: كلّما حكم به العقل حكم به الشّرع - لا النّفي عند النّفي حتّى يكون كلّما لم يحكم به العقل لم يحكم به الشّرع، و{ذلك لأنّ الملازمة إنّماتكون في مقام الإثبات} للحكم الشّرعي من الحكم العقلي {والاستكشاف، لا في مقام الثبوت} فإذا ثبت الحكم الشّرعي لم يدلّ دليل على الملازمة.

{فعدم استقلال العقل} بالحكم {إلّا في حال} وهو حال جمع القيود والشّروط في الموضوع {غير ملازم لعدم حكم الشّرع في تلك الحال} حتّى لا يكون للشارع حكم في حال انتفاء بعض القيود والشّروط.

{وذلك لاحتمال أن يكون} ملاك حكم العقل باقياً لكن العقل لم يطّلع عليه والشّرع عالم به فلذا حكم بالبقاء، ف- {ما هو ملاك الحكم الشّرع من المصلحة} في الواجب {أو المفسدة} في المحرّم {الّتي هي ملاك حكم العقل كان على حاله} باقياً {في كلتا الحالتين} حالة وجود قيد الموضوع وحالة انتفائه {وإن لم يدركه} أي: لم يدرك العقل ذلك الملاك {إلّا في إحداهما} وهي حالة وجود القيد.

ص: 17

لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه، أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلاً، وإن كان لها دخل في ما اطّلع عليه من الملاك.

وبالجملة: حكم الشّرع إنّما يتّبع ما هو ملاك حكم العقل واقعاً، لا ما هو مناط حكمه فعلاً. وموضوع حكمه كذلك ممّا لا يكاد يتطرّق إليه الإهمال والإجمال، مع تطرّقه إلى ما هو موضوع حكمه شأناً، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعاً،

___________________________________________

وعلّل قوله: «وذلك لاحتمال» بقوله: {لاحتمال عدم دخل تلكالحالة} الّتي كانت سابقاً ثمّ زالت، كالتغيّر - مثلاً - {فيه} أي: في ملاك الشّرع، فالحكم الشّرعي باقٍ مع ذهابها {أو احتمال أن يكون معه} أي: مع الملاك الموجود في حال التغيّر {ملاك آخر} بأن كان لنجاسة الماء المتغيّر ملاكان أحد الملاكين ملازم للتغيّر حتّى أنّه يذهب بذهابه، لكن يبقى الملاك الثّاني {بلا دخل لها} أي: لتلك الحالة الزائلة {فيه} أي: في الملاك الآخر {أصلاً، وإن كان لها} أي: لتلك الحالة {دخل في ما اطّلع عليه من الملاك} أي: في الملاك الأوّل.

والحاصل: أنّا علمنا بثبوت الحكم الشّرعي ثمّ شككنا في زواله، إمّا للشكّ في زوال الملاك المنفرد، وإمّا للشكّ في عدم ملاك آخر بعد العلم بزوال الملاك المعلوم، فاللّازم أن نستصحب الحكم لصدق أدلّته في المقام، وإن لم نتمكّن من استصحاب الحكم العقلي؛ لأنّه يزول بزوال كلّ قيد وشرط.

{وبالجملة حكم الشّرع} المستكشف من حكم العقل {إنّما يتّبع ما هو ملاك حكم العقل واقعاً} وذلك مشكوك الزوال و{لا} يتبع {ما هو مناط حكمه} أي: حكم العقل {فعلاً} المناط الفعلي الّذي هو الموضوع بشروطه وقيوده {وموضوع حكمه كذلك} أي: فعلاً {ممّا لا يكاد يتطرّق إليه الإهمال والإجمال} إذ العقل إنّما يحكم على موضوع يعلم جميع خصوصيّاته {مع تطرّقه} أي: الإهمال {إلى ما هو موضوع حكمه شأناً، وهو} أي: موضوع حكم العقل شأناً {ما قام به ملاك حكمه واقعاً}

ص: 18

فربّ خصوصيّة لها دخل في استقلاله مع احتمال عدم دخله، فبدونها لا استقلال لهبشيءٍ قطعاً، مع احتمال بقاء ملاكه واقعاً، ومعه يحتمل بقاء حكم الشّرع جدّاً؛ لدورانه معه وجوداً وعدماً، فافهم وتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب في حجيّة الاستصحاب مطلقاً، وعدم حجيّته كذلك، والتفصيل بين الموضوعات والأحكام، أو بين ما كان الشّكّ في الرّافع وما كان من المقتضي، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة،

___________________________________________

مثلاً: العقل يحكم بوجوب إطاعة الآمر غير المعزول، فإذا شكّ في عزله لم ير العقل وجوب الإطاعة، لكنّه لو لم يكن معزولاً واقعاً كان ملاك حكمه موجوداً.

{فربّ خصوصيّة لها} أي: لتلك الخصوصيّة {دخل في استقلاله} بالحكم {مع احتمال عدم دخله} واقعاً {فبدونها} أي: بدون تلك الخصوصيّة {لا استقلال له} أي: للعقل {بشيء} أي: بحكمه {قطعاً مع احتمال بقاء ملاكه واقعاً} كما في المثال {ومعه} أي: مع احتمال بقاء الملاك {يحتمل بقاء حكم الشّرع جدّاً، لدورانه} أي: حكم الشّرع {معه} أي: مع الملاك {وجوداً وعدماً، فافهم وتأمّل جيّداً}.

وحيث انتهى عن صحّة استصحاب الحكم حتّى العقلي منه شرع في بيان دليل الاستصحاب فقال: {ثمّ إنّه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب في حجيّة الاستصحاب مطلقاً وعدم حجيّته كذلك} مطلقاً {والتفصيل بين الموضوعات} فحجّة فيها {والأحكام} فليس بحجّة فيها {أو بين ما كان الشّكّ في الرّافع} فهو حجّة، كما لو شكّفي موت زيد بسبب {وما كان في المقتضي} فليس بحجّة، كما لو شكّ في بقاء المصباح للشكّ في اقتضاء زيته للبقاء {إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة} الّتي أنهاها الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل(1) إلى أحد عشر قولاً

ص: 19


1- فرائد الأصول 3: 51-190.

على أقوال شتّى لا يهمّنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها.

وإنّما المهمّ الاستدلال على ما هو المختار منها - وهو الحجيّة مطلقاً - على نحو يظهر بطلان سائرها.

فقد استدلّ عليها بوجوه:

الوجه الأوّل: استقرار بناء العقلاء من الإنسان - بل ذوي الشّعور من كافّة أنواع الحيوان - على العمل على طبق الحالة السّابقة، وحيث لم يردع عنه الشّارع كان ماضياً.

___________________________________________

{على أقوال شتّى لا يهمّنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها} فإنّه إطالة بغير طائل {وإنّما المهمّ الاستدلال على ما هو المختار منها} أي: من هذه الأقوال {وهو} القول الأوّل - أعني: {الحجيّة مطلقاً} - فاللّازم أن نستدلّ لذلك {على نحو يظهر بطلان سائرها}.

[حجيّة الاستصحاب مطلقاً والأدلة عليها]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، أدلة حجيته

{فقد استدلّ عليها} أي: على هذا القول {بوجوه}:

[الوجه الأوّل]

{الوجه الأوّل: استقرار بناء العقلاء من الإنسان، بل ذوي الشّعور من كافّة أنواع الحيوان} ممّا نشعر بحركاته وسكناته وتصرّفاته {على العمل على طبق الحالة السّابقة} فإنّا نرى أنّ الإنسان إذا عهد بوجود مدرسة في المحلّة الفلانيّة، أو كان له صديق في دار مخصوصة ثمّ سافر فإذا رجع وأرادهما قصد تلك المحلّة وذيك الدار، مع احتماله عدمهما، لخراب أو انتقال، وكذلك الحيوان، فإنّه إذا تعاهد محلّاً للماء أو مربضاً أو ما أشبه، فإنّه يقصد نحوه في حال الاحتياج.

وهذا واضح لا غبار عليه {وحيث لم يردع عنه الشّارع} إذ لم يرد في آية أو رواية الرّدع عن العمل على طبق الحالة السّابقة {كان ماضياً} بل ربّما أيّد ذلك بأنّ أصحاب النّبيّ(صلی الله علیه و آله) كانوا يعملون بالأوامر والنّواهي حتّى يعلموا بالنسخ بدون

ص: 20

وفيه أوّلاً: منع استقرار بناءهم على ذلك تعبّداً، بل إمّا رجاءً واحتياطاً، أو اطمئناناً بالبقاء، أو ظنّاً - ولو نوعاً - ؛ أو غفلة، كما هو الحال في سائر الحيوانات دائماً، وفي الإنسان أحياناً.

وثانياً: سلّمنا ذلك، لكنّه لم يعلم أنّ الشّارع به راضٍ، وهو عنده ماضٍ،

___________________________________________

سؤال واستفسار عن النّاسخ، ولو لم يكن العمل على طبق الحالة السّابقة ممضى من الشّارع لزم تنبيههم، وأنّه لا يجوز ذلك بدون سؤال مستمرّ واستعلام دائم.

{وفيه أوّلاً: منع استقرار بنائهم} أي: بناء العقلاء {على ذلك} العمل على طبق الحالة السّابقة {تعبّداً} بأن يكون مجرّد وجود حالة سابقة كافية في العمل لاحقاً على طبقها بدون رجاء أو احتياط أواطمئنان أو ظنّ {بل} كان عملهم {إمّا رجاءً واحتياطاً} فوجه العمل الاحتياط، وذلك لا ينفع المستدلّ، إذ هو لا يريد الحجيّة وباب الاحتياط غير بابها {أو اطمئناناً بالبقاء} كما هو الغالب في الاستصحابات العقلائيّة بالنسبة إلى الأشياء المستقرّة، كاستصحاب بقاء مدرسة أو نحوها {أو ظنّاً} بالبقاء {ولو نوعاً} فهم يتّبعون الظنّ لا الحالة السّابقة بما هي هي ولو ظنّوا بالعدم {أو غفلة} عن الالتفات إلى احتمال تبدّل الحالة السّابقة، والغفلة ليست من العمل العقلائي حتّى يكون معتمداً ومتّكئاً {كما هو} أي: العمل عن غفلة واعتياد {الحال في سائر الحيوانات دائماً وفي الإنسان أحياناً} ممّا تحرّكه العادة بدون وعي والتفات.

لكن الإنصاف أنّ منع بناء العقلاء خلاف المشاهد، فإنّ غالب حركات العقلاء الاستمراريّة مستند إلى الاستصحاب، حتّى أنّهم يعدّون من لا يبني عليه خارجاً عن المتعارف.

{وثانياً: سلّمنا ذلك} وهو كون بنائهم على الاستصحاب بدون احتياط واطمئنان وغفلة، بل من باب أنّ الجري على الحالة السّابقة بما هو هو عمل عقلائي متّبع لديهم {لكنّه لم يعلم أنّ الشّارع به راضٍ وهو عنده ماضٍ} حتّى يكون

ص: 21

ويكفي في الرّدع عن مثله: ما دلّ من الكتاب والسّنّة على النّهي عن اتّباع غير العلم، وما دلّ على البراءة أو الاحتياط في الشّبهات، فلا وجه لاتّباع هذا البناء في ما لا بدّ من اتّباعه من الدلالة على إمضائه،

___________________________________________

حجّة شرعيّة {ويكفي في الرّدع عن مثله ما دلّمن الكتاب والسّنّة على النّهي عن اتّباع غير العلم} كقوله - سبحانه - : {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡٔٗا}(1) وقوله: {بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ}(2)، وقوله: {قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ}(3)، وقوله(علیه السلام): «من أفتى النّاس بغير علم...»(4)،

وقوله(علیه السلام): «... رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم»(5)، وأشباه ذلك.

{و} كذلك يكفي في الرّدع {ما دلّ على البراءة أو الاحتياط} كقوله: «كلّ شيء مطلق»(6)،

وقوله: «أخوك دينك فاحتط لدينك»(7) {في الشّبهات} فإذا كان مقتضى الحالة السّابقة الوجوب كان دليل البراءة رافعاً له، كما لو وجب عليه سابقاً الإنفاق على أبيه لكونه فقيراً، ثمّ شكّ في أنّه هل استغنى أم لا كان قوله(علیه

السلام): «كلّ شيء مطلق» دليلاً على عدم الوجوب، وبالعكس لو كان في السّابق متطهّراً وشكّ في الحدث كان «احتط لدينك» مقتضياً للتوضّي وعدم الاكتفاء بالوضوء السّابق.

{فلا وجه لاتّباع هذا البناء} العقلائي {في ما لا بدّ في اتّباعه} أي: في ما يتّبعه العقلاء {من الدلالة على إمضائه} بيان قوله: «لا وجه» أي: لا دليل على إمضاء

ص: 22


1- سورة النجم، الآية: 28.
2- سورة الحج، الآية: 8؛ سورة لقمان، الآية: 20.
3- سورة يونس، الآية: 59.
4- المحاسن 1: 205؛ الكافي 1: 42؛ بحار الأنوار 2: 116 و 118.
5- الكافي 7: 407.
6- من لا يحضره الفقيه 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.
7- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

فتأمّل جيّداً.الوجه الثّاني: أنّ الثبوت في السّابق موجب للظنّ به في اللّاحق.

وفيه: منع اقتضاء مجرّد الثبوت للظنّ بالبقاء فعلاً ولا نوعاً، فإنّه لا وجه له أصلاً، إلّا كون الغالب في ما ثبت أن يدوم، مع إمكان أن لا يدوم، وهو غير معلوم.

ولو سلم، فلا دليل على اعتباره بالخصوص، مع نهوض الحجّة على عدم اعتباره بالعموم.

___________________________________________

بناء العقلاء {فتأمّل جيّداً} وإن كان فيه أن أدلّة البراءة والاحتياط والآيات النّاهية لا تصلح للردع، كما تقدّم في بحث خبر الواحد.

[الوجه الثّاني]

{الوجه الثّاني}: من أدلّة حجيّة الاستصحاب {أنّ الثبوت في السّابق موجب للظنّ به في اللّاحق} فاتّباع الحالة السّابقة إنّما هو اتّباع للظنّ.

{وفيه} أوّلاً: أنّ الثبوت في السّابق لا يوجب الظنّ به في اللّاحق مطلقاً، كما لا يخفى، ل- {منع اقتضاء مجرّد الثبوت} في السّابق {للظنّ بالبقاء فعلاً} أي: ظنّاً فعليّاً {ولا نوعاً} أي: ظنّاً نوعيّاً، وإن لم يظنّ به هذا المستصحب الشّخصي حتّى يكون حجيّته من باب الظنّ النّوعي {فإنّه لا وجه له} أي: للاقتضاء {أصلاً} فإنّه لمّا لا يكون الثبوت السّابق موجباً للظنّ اللّاحق {إلّا كون الغالب في ما ثبت أن يدوم مع إمكان أن لا يدوم} فإن كان الغلبة سبباً للاقتضاء قلنا: إنّ ذلك ليس كليّاً، إذ كثيراً يكون ما ثبت لا يدوم، كما في ما لو كان الشّكّ في المقتضي.

وإلى هذا أشار بقوله: {وهو غير معلوم} بل لو كان الرّافع غالبيّاً لم يبق وجه للاقتضاء أيضاً {ولو سلم} أنّ مجرّد الثبوت مقتضٍ للبقاء غالباً{ف-} نقول ثانياً: {لا دليل على اعتباره} أي: اعتبار هذا الظنّ المستند إلى الغلبة {بالخصوص} أي: بدليل خاصّ مقابل الظنّ الانسدادي إذا تمّت مقدّمات الانسداد {مع نهوض الحجّة على عدم اعتباره} أي: الظنّ {بالعموم} لما دلّ من الآيات والرّوايات على

ص: 23

الوجه الثّالث: دعوى الإجماع عليه، كما عن المبادئ، حيث قال: «الاستصحاب حجّة؛ لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم، ثمّ وقع الشّكّ في أنّه طرأ ما يزيله أم لا، وجب الحكم ببقائه على ما كان أوّلاً، ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّة، لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح»(1)، انتهى. وقد نقل عن غيره أيضاً(2).

وفيه: أنّ تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة - ممّا له مَبَانٍ مختلفة -

___________________________________________

عدم حجيّة الظنّ.

[الوجه الثّالث]

{الوجه الثّالث}: من أدلّة حجيّة الاستصحاب {دعوى الإجماع عليه كما عن المبادئ} وفي الرّسائل نسبه إلى غاية المبادئ {حيث قال: «الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم} في الزمان السّابق {ثمّ وقع الشّكّ في أنّه طرأ ما يزيله أم لاوجب الحكم ببقائه على ما كان أوّلاً}.

ثمّ استدلّ على ذلك بقوله: {ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لكان} الحكم بالبقاء {ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح»} إذ كلّ من الطّهارة والحدث - مثلاً - ممكن في الآن اللّاحق، فالحكم بالطهارة - لمن كان حاله السّابق ذلك - ترجيح لأحد طرفي الممكن بلا مرجّح، وذلك لا يكون، فالترجيح إنّما هو بحجّة وهو الاستصحاب {انتهى}.

{وقد نقل} هذا الدليل {عن غيره أيضاً} كالنهاية(3)

وغيرها.

{وفيه: أنّ تحصيل الإجماع} الكاشف عن قول المعصوم(علیه السلام) {في مثل هذه المسألة - ممّا له مبان مختلفة} من الغلبة والظنّ وبناء العقلاء والرّوايات -

ص: 24


1- مبادئ الوصول: 250-251.
2- الذي وجدناه في الرسائل النسبة إلى المبادئ. فرائد الأصول 3: 53.
3- نهاية الوصول 4: 363.

في غاية الإشكال، ولو مع الاتفاق، فضلاً عمّا إذا لم يكن، وكان مع الخلاف من المعظم؛ حيث ذهبوا إلى عدم حجيّته مطلقاً، أو في الجملة، ونقله موهون جدّاً لذلك، ولو قيل بحجيّته لولا ذلك.

الوجه الرّابع: - وهو العمدة في الباب - الأخبار المستفيضة:

منها: صحيحة زرارة. قال: قلت له: الرّجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟

___________________________________________

{في غاية الإشكال، ولو مع الاتفاق} القطعي من جميع الفقهاء، إذ الإجماع إذا كان محتمل الاستناد سقط عن الحجيّة، كما تقرّرفي مباحث الإجماع {فضلاً عمّا إذا لم يكن} اتفاق من الكلّ {وكان} دعوى الإجماع {مع الخلاف من المعظم حيث ذهبوا إلى عدم حجيّته مطلقاً أو في الجملة} كما في ما لو كان الشّكّ في المقتضي - مثلاً - .

{و} إن قلت: لا ندّعي الإجماع المحصّل بل الإجماع المنقول.

قلت: {نقله موهون جدّاً لذلك} الخلاف الّذي عرفت {ولو قيل بحجيّته} أي: حجيّة الإجماع المنقول {لولا ذلك} الخلاف العظيم، يعني أنّا لو قلنا بحجيّة الإجماع المنقول فإنّما نقول به في ما لم نعلم خلافا من الفقهاء، أمّا لو علمنا ذلك فلا مجال للذهاب إلى الحجيّة.

[الوجه الرّابع]

{الوجه الرّابع}: من أدلّة حجيّة الاستصحاب {وهو العمدة في الباب} لما عرفت من الإشكال في سائر الأدلّة {الأخبار المستفيضة}.

[صحيحة زرارة الأولى]

{منها: صحيحة زرارة} ابن أعين(رحمة الله) {قال: قلت له: الرّجل ينام، وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟} وقوله: «ينام» أراد به الخفقة، وهي حالة

ص: 25

قال: «يا زرارة! قد تنام العين ولا ينام القلب والأُذن، وإذا نامت العين والأُذن والقلب فقد وجب الوضوء».

قلت: فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟

قال: «لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين بالشكّأبداً، ولكنّه ينقضه بيقين آخر»(1).

وهذه الرّواية وإن كانت مضمرة، إلّا أنّ إضمارها لا يضرّ باعتبارها، حيث كان مُضْمِرها مثل زرارة، وهو ممّن لا يكاد يستفتي من غير الإمام(علیه السلام)، لاسيّما مع هذا الاهتمام.

___________________________________________

نعاس تسبق النّوم يذهب قسم من حواسّ الرّأس معها، فيسقط الرّأس غالباً لعدم الحسّ الكامل {قال: «يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والأُذن، وإذا نامت العين والأُذن والقلب فقد وجب الوضوء»}.

{قلت: فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟} أي: هل يكون هذا دليلاً على نوم الثلاثة أم لا {قال: «لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلّا} يستيقن ويأت أمر بيّن {فإنّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين بالشكّ أبداً ولكنّه ينقضه بيقين آخر»} هذه تمام رواية زرارة.

{وهذه الرّواية وإن كانت مضمرة} لعدم ذكر الإمام المروي عنه صريحاً فيها، بل أُشير إليه بالضمير بقوله: «قلت له»، والمضمره غالباً ليست بحجّة، إذ ليس من المعلوم أنّ الضّمير يعود إلى الإمام أو غيره {إلّا أنّ} هذه الرّواية {إضمارها لا يضرّ باعتبارها حيث كان مضمرها} بصيغة اسم الفاعل - أي: الّذي أضمرها - {مثل زرارة} وهو من أعاظم أصحاب الباقرين‘{وهو ممّن لا يكاد يستفتي من غير الإمام(علیه السلام)، لاسيّما مع هذا الاهتمام} فيالسّؤال والجواب.

ص: 26


1- تهذيب الأحكام 1: 8، مع اختلاف يسير.

وتقريب الاستدلال بها أنّه لا ريب في ظهور قوله(علیه السلام): «وإلّا فإنّه على يقين» الخ - عرفاً - في النّهي عن نقض اليقين بشيء بالشكّ فيه، وأنّه(علیه السلام)

___________________________________________

هذا مضافاً إلى قرب احتمال أن وقع الإضمار فيها من جرّاء تقطيع الرّوايات، فإنّه كان غالباً يسال الرّاوي الإمام ويصدّر سؤاله باسمه(علیه السلام) ثمّ يأتي بالضمير في سائر الأسئلة استفتاءً، كأن يقول: (سألت الصّادق(علیه السلام) عن الصّلاة، وسألته عن الزكاة، وسألته عن النّكاح) وهكذا، كما يظهر ذلك لمن راجع كتب الحديث الأصول، ثمّ لمّا بوّب الفقهاء وأصحاب الحديث الرّوايات وجعلوا كلّ فقرة من الرّواية في الباب المناسب لها وقع هذا الإضمار.

ولا يبعد أن يكفي في الحجيّة ذكر أصحاب الحديث الموثّقين المضمرة في كتب حديثهم في الأبواب المرتبطة، فإنّه شاهد على كون الرّواية من الإمام(علیه السلام)، وإذا اعتبرنا هذه القرينة - كما لا يبعد - استرحنا من السّند من هذه الجهة في كثيرة من الرّوايات.

هذا بالإضافة إلى أنّ مضمر زرارة المتقدّم قد قامت شواهد أُخرى على اعتبارها وصحّتها، كما تجد ذلك في الحقائق(1)

وغيره، فراجع.

هذا كلّه من جهة السّند {و} أمّا من جهة الدلالة ف- {تقريب الاستدلال بها أنّه لا ريب} في أنّ الإمام(علیه السلام) بصدد إدراج هذا الشّكّ في الوضوء - بعد ما كان يعلم به سابقاً - في كليّة ارتكازيّة هيقوله(علیه السلام): «وما ينقض اليقين بالشكّ أبداً» فهي إذن كليّة تجري في جميع موارد الاستصحاب.

وتوضيحه: أنّه لا ريب {في ظهور قوله(علیه السلام): «وإلّا فإنّه على يقين» الخ - عرفاً - في النّهي عن نقض اليقين بشيء بالشكّ فيه} أي: في ذلك الشّيء {وأنّه(علیه السلام)} في ذكره

ص: 27


1- قال في الحقائق: «رواها الشّيخ، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة... وإثبات الشّيخ والحسين لها في كتب الحديث، وإثبات حمّاد لها في أصله راوياً لها عن حريز، شهادة قطعيّة على كونها رواية عن معصوم»، حقائق الأصول 2: 400.

بصدد بيان ما هو علّة الجزاء المستفاد من قوله(علیه السلام): «لا» في جواب: «فإن حرّك في جنبه» الخ، وهو اندراج اليقين والشّكّ في مورد السّؤال، في القضيّة الكليّة الارتكازيّة غير المختصّة بباب دون باب.

___________________________________________

لهذه الفقرة «فإنّه على يقين» {بصدد بيان ما هو علّة الجزاء المستفاد} ذلك الجزاء {من قوله(علیه السلام): «لا» في جواب: «فإن حرّك في جنبه» الخ} يعني: أنّ السّائل لمّا سأل عن وجوب إعادة الوضوء أجاب الإمام(علیه السلام) بأنّه لا يجب، ثمّ علّل الإمام عدم الوجوب بأنّ المورد داخل في قضيّة كليّة ارتكازيّة شرعيّة على عدم نقض بالشكّ.

{وهو} أي: ما هو علّة الجزاء {اندراج اليقين} بالوضوء سابقاً {والشّكّ} فيه لاحقاً {في مورد السّؤال} في هذه الرّواية {في القضيّة الكليّة الارتكازيّة غير المختصّة بباب دون باب} فإنّ المرتكز في أذهان العقلاء أنّ هذه الكليّة هي علّة الحكم بعدم إعادة الوضوء كارتكازهم بأنّه لو قال المولى: (أكرم زيداً لأنّه عالم) كون العلّة في الإكرام هو العلم، ومن المعلوم أنّ هذهالقضيّة الكليّة لا تختصّ بباب الوضوء دون سائر الأبواب حتّى نقول بحجيّة الاستصحاب في هذا الباب فقط دون غيره.

وحيث كان في المقام احتمالان آخران يسبّبان عدم التمكّن من الاستدلال على الاستصحاب مطلقاً بهذه الرّواية ذكرهما المصنّف(رحمة الله) مع الإيراد عليهما:

الأوّل: احتمال أن يكون قوله(علیه السلام): «فإنّه على يقين من وضوئه» جواب الشّرط، ويكون قوله: «ولا ينقض اليقين» عطفاً تفسيريّاً له، فيكون المعنى: فإن حرّك إلى جنبه شيء، فإنّه متيقّن بالوضوء ولا ينقضه بالشكّ، وحينئذٍ يختصّ الكلام بباب الوضوء؛ لأنّه لم يذكر قاعدة كليّة تنطبق على كلّيّ الاستصحاب في جميع الأبواب.

ص: 28

واحتمال: أن يكون الجزاء هو قوله: «فإنّه على يقين»» الخ، غير سديد؛ فإنّه لا يصحّ إلّا بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه، وهو إلى الغاية بعيد.

وأبعد منه كون الجزاء قوله: «لا ينقض» الخ، وقد ذكر: «فإنّه على يقين» للتمهيد.

___________________________________________

الثّاني: احتمال أن يكون قوله(علیه السلام): «ولا ينقض اليقين» جواباً للشرط، ويكون قوله: «فإنّه على يقين» تمهيداً للجواب، فيكون المعنى أنّه لا يستيقن بأنّه نام، فبعد ما كان على يقين من وضوئه لا ينقض يقينه بالشكّ في النّوم. وعلى هذا الاحتمال لا يكون للرواية كليّة تشمل جميع الاستصحابات، بل يكون خاصّاً بالوضوء.

إذا عرفت ذلك قلنا قد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى إبطال الاحتمال الأوّل بقوله: {واحتمال أن يكون الجزاء هو قوله:«فإنّه على يقين» الخ، غير سديد} لأنّه إمّا خبر وإمّا إنشاء بلسان الخبر، نحو «الطّواف بالبيت صلاة»(1)، أمّا لو كان خبراً فلا وجه له؛ لأنّ السّائل كان يعلم أنّه على يقين سواء استيقن بالنوم أم لم يستيقن، فلا وجه لتعليقه على عدم الاستيقان بالنوم، وأمّا لو كان إنشاءً حتّى يكون معناه: اعمل على يقينك، فهو إنشاء للزوم العمل بلسان جعل موضوعه وهو اليقين، فهو بعيد إذ الإتيان بالخبر وإرادة الإنشاء خلاف الظاهر.

وإلى هذا أشار بقوله: {فإنّه} أي: هذا الاحتمال {لا يصحّ إلّا بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه} بأن يكون حكماً إنشائيّاً أتى بصورة الخبر {وهو إلى الغاية بعيد} لما عرفت من أنّ الإتيان بالخبر وإرادة الإنشاء خلاف الظاهر.

{وأبعد منه} الاحتمال الثّاني، وهو {كون الجزاء قوله: «لا ينقض» الخ وقد ذكر «فإنّه على يقين» للتمهيد} وإنّما كان أبعد؛ لأنّ الجزاء لا يدخله الواو، وقوله: «ولا ينقض» مصدّر بالواو.

ص: 29


1- غوالي اللئالي 1: 214؛ مستدرك الوسائل 9: 410.

وقد انقدح بما ذكرنا: ضعف احتمال اختصاص قضيّة «لا تنقض» باليقين والشّكّ في باب الوضوء جدّاً؛ فإنّه ينافيه ظهور التعليل في أنّه بأمر ارتكازيّ لا تعبديّ قطعاً.

ويؤيّده: تعليل الحكم بالمضيّ مع الشّكّ في غير الوضوء، - في غير هذه الرّواية - بهذه القضيّة، أو ما يرادفها، فتأمّل جيّداً.

هذا مع أنّه لا موجب لاحتماله إلّا احتمالكون اللّام في اليقين

___________________________________________

{وقد انقدح بما ذكرنا} من بعد الاحتمالين {ضعف احتمال اختصاص قضيّة «لا تنقض» باليقين والشّكّ في باب الوضوء} حتّى يكون الاستصحاب حجّة في هذا الباب فقط، بل اللّازم كونه خاصّاً بباب الشّكّ النّاشئ من النّوم لا مطلق الشّكّ، فإنّه ضعيف {جدّاً، فإنّه ينافيه} أي: ينافي الاختصاص {ظهور التعليل} في قوله: «فإنّه على يقين» {في أنّه بأمر ارتكازي لا تعبّديّ قطعاً} إذ لو كان هذا الشّيء خاصّاً بباب الوضوء لم ير العرف له وجهاً، وكان من قبيل أن يعلّل بقاء وضوئه، بأن كان مسمّى ب- (زرارة) ممّا لا يرتبط في العرف مع المعلّل.

{ويؤيّده} أي: يؤيّد كون التعليل عامّاً لا خاصّاً {تعليل الحكم بالمضي مع الشّكّ في غير الوضوء - في غير هذه الرّواية - بهذه القضيّة} فإنّ الإمام(علیه السلام) علّل المعنى على طبق اليقين السّابق وعدم الاعتناء بالشكّ الحادث، بأنّه على يقين ولا ينقضه بالشكّ {أو ما يرادفها} فإنّه يأتي في صحيحة زرارة الثّانية قوله(علیه السلام): «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً».

وفي صحيحة ثالثة «ولا ينقض اليقين بالشكّ»، فإنّ ذلك كلّه دليل على ارتكازيّة التعليل وعدم اختصاصه بباب الوضوء {فتأمّل جيّداً}.

{هذا} تمام الكلام في وجه استظهار العموم من الرّواية {مع أنّه لا موجب لاحتماله} أي: احتمال الاختصاص بباب الوضوء {إلّا احتمال كون اللّام في اليقين}

ص: 30

للعهد، إشارة إلى اليقين في «فإنّه على يقين من وضوئه»، مع أنّ الظاهر أنّه للجنس، كما هو الأصل فيه، وسبق «فإنّه على يقين» الخ، لا يكون قرينة عليه، مع كمال الملائمة مع الجنس أيضاً، فافهم.

مع أنّه غير ظاهر في اليقين بالوضوء؛ لقوّة احتمال أن يكون «من وضوئه» متعلّقاً بالظرف، لا

___________________________________________

في قوله(علیه السلام): «ولا ينقض اليقين بالشكّ» {للعهد} الذكرى حتّى يكون {إشارة إلى اليقين في} قوله(علیه السلام): {«فإنّه على يقين من وضوئه»} فيكون قضيّة «ولا ينقض اليقين» خاصّة بيقين الوضوء لا كليّة تشمل جميع أنواع اليقين والشّكّ {مع أنّ الظاهر أنّه} أي: «اللّام» في اليقين {للجنس} لا للعهد {كما هو} أي: كون اللّام للجنس {الأصل فيه} كما لا يخفى على من راجع علوم العربيّة.

{و} إن قلت: قد سبق قوله(علیه السلام): «فإنّه على يقين من وضوئه» وذلك قرينة على إرادة العهد من اللّام في قوله: «لا ينقض اليقين».

قلت: {سبق «فإنّه على يقين» الخ لا يكون قرينة عليه} أي: على كون اللّام للعهد {مع كمال الملائمة} للّام {مع الجنس أيضاً} وقد عرفت أنّ الجنس هو الأصل {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ كمال الملائمة مع الجنس لا يقتضي الحمل عليه بعد ظهور اللّام في العهد إذا سبقه ما يدلّ عليه، لكن لا يخفى أنّ الجنس أقوى، والمؤيّدات الخارجيّة والداخليّة تؤيّده أيضاً، كما سبق {مع أنّه} لو أخذنا اللّام في «لا ينقض اليقين» للعهد، لم ينفع الاختصاص أيضاً؛لأنّ المعهود ذو احتمالين:

الأوّل «يقين»، الثّاني «يقين من وضوئه» والعهد إنّما يوجب الاختصاص إذا كان المعهود الثّاني لا الأوّل، فإنّه على الأوّل يكون مطلق اليقين معهوداً، فالمعهود {غير ظاهر في اليقين بالوضوء لقوّة احتمال أن يكون «من وضوئه»} في قوله(علیه السلام): «فإنّه على يقين من وضوئه» {متعلّقاً بالظرف} وهو «على يقين» و{لا}

ص: 31

ب- «يقين»، وكان المعنى: فإنّه كان من طرف وضوئه على يقين، وعليه لا يكون الأصغر(1) إلّا اليقين، لا اليقين بالوضوء، كما لا يخفى على المتأمّل.

وبالجملة: لا يكاد يشكّ في ظهور القضيّة في عموم اليقين والشّكّ، خصوصاً بعد ملاحظة تطبيقها في الأخبار على غير الوضوء أيضاً.

ثمّ لا يخفى

___________________________________________

يكون الظرف متعلّقاً {ب- «يقين» و} على هذا {كان المعنى: فإنّه كان من طرف وضوئه} أي: من جهة وضوئه {على يقين}.

{وعليه} أي: بناءً على هذا الاحتمال {لا يكون الأصغر} في القياس الواقع في الرّواية {إلّا اليقين لا اليقين بالوضوء} فيكون المعنى: إنّه من جهة وضوئه على يقين، ولا ينقض اليقين {كما لا يخفى على المتأمّل} فاللّام وإن كان للعهد، لكنّهلا يوجب الاختصاص.

{وبالجملة لا يكاد يشكّ في ظهور القضيّة} الواقعة في الرّواية {في عموم اليقين والشّكّ} لكلّ مورد {خصوصاً بعد ملاحظة تطبيقها في} سائر {الأخبار على غير الوضوء أيضاً} واللّه العالم.

{ثمّ لا يخفى} أنّ مقتضى إطلاق هذا الخبر كون الاستصحاب حجّة مطلقاً، سواء كان في الأُمور العدميّة أو الوجوديّة من الأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة في الموضوعات أو في الأحكام طالت المدّة بحيث يظنّ بالخلاف أم لا... إلى غير ذلك، لكن الشّيخ(رحمة الله) فصّل بين كون الشّكّ في المقتضي فالاستصحاب ليس بحجّة، وكونه في المانع فهو حجّة(2).

وتوضيحه: أنّه قد يشكّ في الاستمرار لاحتمال عدم اقتضاء المقتضي للثبات

ص: 32


1- وفي المصحّحة: «الأوسط» بدل «الأصغر».
2- فرائد الأصول 3: 159.

حسن إسناد النّقض - وهو ضدّ الإبرام -

___________________________________________

والدوام، كما لو شكّ في إنارة المصباح من جهة احتمال كون الزيت الّذي فيه قليلاً لا يدوم إلى هذا الوقت، وقد يشكّ لاحتمال وجود الرّافع، كما لو علمنا بأنّ الزيت كان كافياً للإنارة إلى الصّباح، لكن احتملنا هبوب الرّيح المطفئة له.

وقد تبع الشّيخُ(1)

في هذا الإشكال والتفصيل المحقّقَ الخوانساري، وقد استدلّ لذلك بأنّ قوله(علیه السلام): «لا ينقض اليقين بالشكّ» حيث يتعذّر حمله على معناه الحقيقي، إذ ليس بالفعل يقين يراد نقضه - لفرض الشّكّ في الحكم - لا بدّ حمله على المجاز، وهنا مجازان:

الأوّل: أن يراد رفع اليد عن الأمر الثابت الّذي وجد مقتضيه ممّا له صلاحيّةالبقاء والدوام.

الثّاني: رفع اليد عن الأمر الثابت ممّا لم يعلم وجود المقتضي له، وحيث إنّ المجاز الأوّل أقرب إلى الحقيقة كان أولى بالإرادة.

وعلى هذا فالاستصحاب ليس بحجّة إذا كان الشّكّ في المقتضي، وحجيّته خاصّة بما إذا كان الشّكّ في الرّافع، لكن المصنّف(رحمة الله) تبعاً للمشهور لم يقل بهذا التفصيل.

وأجاب عن الشّيخ(رحمة الله) بما حاصله: أنّ صحّة استناد النّقض إلى اليقين إنّما هو بلحاظ كون اليقين بذاته أمراً مبرماً، وذلك لا يفرق فيه بين أن يكون المتيقّن ممّا له اقتضاء البقاء أم لم يعلم حاله، فليس أحد المجازين أولى من الآخر؛ لأنّهما بلحاظ اليقين على حدّ سواء.

وإلى هذا أشار بقوله: لا يخفى {حسن إسناد النّقض - وهو ضدّ الإبرام -} كما في قوله - تعالى - : {وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا}(2)، وقوله:

ص: 33


1- فرائد الأصول 3: 78-82.
2- سورة النحل، الآية: 92.

إلى اليقين، ولو كان متعلّقاً بما ليس فيه اقتضاء البقاء والاستمرار، لِما يتخيّل فيه من الاستحكام، بخلاف الظنّ، فإنّه يظنّ أنّه ليس فيه إبرام واستحكام، وإن كان متعلّقاً بما فيه اقتضاء ذلك، وإلّا لصحّ أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له، مع ركاكة مثل: (نقضت الحجر عن مكانه)، ولمّا صحّ أن يقال: (انتقض اليقين باشتعال السّراج)،

___________________________________________

وقوله: {وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا}(1) {إلى اليقين} لأنّه قال: «لا ينقض اليقين» {ولو كان} اليقين {متعلّقاً بما ليس فيه اقتضاء البقاء والاستمرار} كما لو كان الشّكّ في المقتضي، كما لو لم يعلم بأنّ زوج المرأة الغائب هل كان في بنيته اقتضاء البقاء إلى ثمانين سنة حتّى تجب النّفقة من ماله على زوجته وحتّى يحرم لها النّكاح برجل آخر أم لا.

وإنّما حسن هذا الإسناد {لما يتخيّل فيه} أي: في اليقين {من الاستحكام} فإنّ اليقين شيء مستحكم {بخلاف الظنّ، فإنّه يظنّ أنّه ليس فيه إبرام واستحكام، وإن كان} الظنّ {متعلّقاً بما فيه اقتضاء ذلك}.

والحاصل: أنّ العبرة باليقين والظنّ لا بمتعلّقهما، فلو تيقّن بعمر زيد كان فيه إحكام؛ لأنّه يقين، ولو ظنّ عمر الملائكة لم يكن فيه إحكام؛ لأنّه ظنّ، ولا ينظر إلى أنّ أحدهما عمر زيد الّذي لا اقتضاء فيه للبقاء، والآخر عمر الملائكة الّذي فيه اقتضاء البقاء.

{وإلّا} يكن وجه صحّة النّقض كونه مستنداً إلى اليقين، وإنّما كان الوجه كون المتيقّن ما فيه اقتضاء البقاء - كما يقوله الشّيخ - {لصحّ أن يسند} النّقض {إلى نفس ما فيه المقتضي له} أي: للبقاء {مع ركاكة مثل: (نقضت الحجر عن مكانه)} مع أنّ كونه في مكانه ممّا فيه اقتضاء البقاء، إذ لا ينقص عن مكانه إلّا برافع {ولمّا صحّ أن يقال: (انتقض اليقين باشتعال السّراج)} بنسبة النّقض إلى اليقين

ص: 34


1- سورة النحل، الآية: 91.

في ما إذا شكّ في بقائه للشكّ فياستعداده، مع بداهة صحّته وحسنه.

وبالجملة: لا يكاد يشكّ في أنّ اليقين - كالبيعة والعهد - إنّما يكون حسن إسناد النّقض إليه بملاحظته، لا بملاحظة متعلّقه، فلا موجب لإرادة ما هو أقرب إلى الأمر المبرم، أو أشبه بالمتين المستحكم ممّا فيه اقتضاء البقاء؛ لقاعدة: إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى، بعد تعذّر إرادة مثل ذاك الأمر، ممّا يصحّ إسناد النّقض إليه حقيقةً.

إن قلت:

___________________________________________

{في ما إذا شكّ في بقائه} أي: بقاء نور السّراج {للشكّ في استعداده} لعدم العلم بمقدار الزيت الكائن فيه {مع بداهة صحّته وحسنه}.

ومن هذا يعرف أنّ المعيار إنّما هو اليقين لا متعلّقه.

{وبالجملة لا يكاد يشكّ في أنّ اليقين كالبيعة والعهد إنّما يكون حسن إسناد النّقض إليه} بأن يقال: (نقض اليقين)، كما يقال: (نقض العهد) أو (نقض البيعة) {بملاحظته} أي: بملاحظة نفس اليقين {لا بملاحظة متعلّقه فلا موجب ل-} ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) من {إرادة ما هو أقرب إلى الأمر المبرم أو أشبه بالمتين المستحكم} وهو ما كان الشّكّ في الرّافع {ممّا فيه اقتضاء البقاء} لولا الرّافع، وقوله: «ممّا» بيان لقوله: «ما هو» {لقاعدة: إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى} تعليل لقوله: «إرادة» أي: المنفي لا النّفي {بعد تعذّر إرادة مثل ذاك الأمر} أي: مثل الأمر المبرمالحقيقي، لما عرفت من مجازيّة نسبة النّقض إلى اليقين في مثل المقام الّذي ليس هناك يقين فعليّ {ممّا يصحّ إسناد النّقض إليه حقيقة} قوله: «ممّا» بيان لقوله: «ذاك الأمر».

والحاصل: أنّه لا وجه للقول: بأنّه لما تعذّر نسبة النّقض إلى اليقين - حقيقة - لا بدّ وأن ينسب إلى ما فيه اقتضاء البقاء.

{إن قلت}: لا يقين في مقام الشّكّ - وهذا واضح - فإذا لم يعتبر في المتيقّن

ص: 35

نعم، ولكنّه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقةً، فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقّن، لما صحّ إسناد الانتقاض إليه بوجه ولو مجازاً، بخلاف ما إذا كان هناك، فإنّه وإن لم يكن معه أيضاً انتقاض حقيقة، إلّا أنّه صحّ إسناده إليه مجازاً، فإنّ اليقين معه كأنّه تعلّق بأمر مستمرّ مستحكم، قد انحلّ وانفصم بسبب الشّكّ فيه من جهة الشّكّ في رافعه.

قلت: الظاهر: أنّ وجه الإسناد

___________________________________________

الإبرام والاقتضاء كان نسبة النّقض غلطاً، إذ لا يقين حتّى تكون النّسبة حقيقة، ولا أمر مبرم حتّى تكون النّسبة مجازاً، فإنّه {نعم} كما ذكرتم يصحّ إسناد النّقض باعتبار اليقين {ولكنّه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقة} حيث إنّ المفروض كون الحكم مشكوكاً فعلاً {فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقّن} بأن كان المتيقّن غير معلوم الاقتضاء {لما صحّ إسناد الانتقاض إليه} أي: إلى اليقين {بوجه} أصلاً{ولو مجازاً} لما عرفت من عدم الحقيقة وعدم الإبرام في المتيقّن المصحّح للمجازيّة {بخلاف ما إذا كان هناك} اقتضاء البقاء في المتيقّن {فإنّه وإن لم يكن معه} أي: مع المتيقّن المقتضي للبقاء {أيضاً انتقاض حقيقة إلّا أنّه صحّ إسناده} أي: النّقض {إليه} أي: إلى اليقين {مجازاً، فإنّ اليقين معه} أي: مع المتيقّن الّذي فيه اقتضاء البقاء {كأنّه تعلّق} حينما تعلّق سابقاً {بأمر مستمرّ مستحكم قد انحلّ وانفصم بسبب الشّكّ فيه} أي: في ذلك الأمر {من جهة الشّكّ في رافعه} وعلى هذا فاللّازم تخصيص الأخبار بحجيّة الاستصحاب في ما كان الشّكّ في الرّافع لا ما إذا كان الشّكّ في المقتضي.

{قلت}: إنّ الشّكّ واليقين اعتبرا وكأنّهما في زمان واحد، ولذا كان لازم الاعتناء بالشكّ رفع اليد عن اليقين، وعلى هذا كان النّقض لليقين - مسامحة - وذلك حسن عرفاً، فإنّ {الظاهر أنّ وجه الإسناد} أي: إسناد النّقض إلى اليقين

ص: 36

هو لحاظ اتحاد متعلّقي اليقين والشّكّ ذاتاً، وعدم ملاحظة تعدّدهما زماناً، وهو كاف

- عرفاً - في صحّة إسناد النّقض إليه واستعارته له، بلا تفاوت في ذلك أصلاً - في نظر أهل العرف - بين ما كان هناك اقتضاء البقاء وما لم يكن.

وكونه مع المقتضي أقرب بالانتقاض وأشبه، لا يقتضي تعيينه لأجل قاعدة: إذا تعذّرت الحقيقة؛ فإنّ الاعتبار في الأقربيّةإنّما هو بنظر العرف لا الاعتبار، وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله.

___________________________________________

{هو لحاظ اتحاد متعلّقي اليقين والشّكّ} فإنّ الشّكّ قد تعلّق بما تعلّق به اليقين {ذاتاً وعدم ملاحظة تعدّدهما} أي: اليقين والشّكّ {زماناً} بأن تعلّق أحدهما بالطهارة صباحاً والآخر قد تعلّق بها عصراً {وهو} أي: اتّحاد المتعلّقين ذاتاً {كافٍ - عرفاً - في صحّة إسناد النّقض إليه} أي: إلى اليقين.

{و} صحّة {استعارته} أي: النّقض {له} أي: لليقين، فإنّ النّقض الّذي يكون حقيقته في ما إذا تعلّق باليقين قد استعير لأن يتعلّق بما كان سابقاً متعلّقاً لليقين {بلا تفاوت في ذلك} الإسناد {أصلاً - في نظر أهل العرف - بين ما كان هناك اقتضاء البقاء} وكان الشّكّ في الرّافع {وما لم يكن} له اقتضاء البقاء وكان الشّكّ في المقتضي {وكونه} أي: اليقين السّابق {مع} وجود {المقتضي} في المتيقّن {أقرب بالانتقاض} لأنّه ينتقض ما كان له صلاح البقاء {وأشبه} بذات اليقين {لا يقتضي تعيينه} دون ما كان الشّكّ في المقتضي {لأجل قاعدة: إذا تعذّرت الحقيقة} فأقرب المجازات أولى، وهذا تعليل ل- «يقتضي» لا للنفي، كما لا يخفى {فإنّ الاعتبار في الأقربيّة} للمجاز إلى الحقيقة {إنّما هو بنظر العرف لا} بحسب {الاعتبار} العقلي، إذ الظواهر حجّة وهي أُمور عرفيّة لا اعتباريّة {وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله} أي: أهلالعرف.

ص: 37

هذا كلّه في المادّة.

وأمّا الهيئة،

___________________________________________

{هذا كلّه} بيان كون مادّة (ن، ق، ض) إنّما يناسب اليقين كما ذكره المصنّف، لا المتيقّن كما ذكره الشّيخ، وبذلك تبيّن عدم الفرق بين كون اليقين متعلّقاً بما فيه اقتضاء البقاء حتّى يكون من قبيل الشّكّ في الرّافع، أو بما ليس فيه اقتضاء البقاء حتّى يكون الشّكّ في المقتضي، خلافاً لما ذكره الشّيخ من اختصاص ذلك بالشكّ في الرّافع.

وإذ أتممنا الكلام {في المادّة} نقول: {وأمّا الهيئة} أي: هيئة النّهي - وهي «لا تنقض» - فهي أيضاً تؤيّد مقالة المصنّف(رحمة الله) من كون النّقض أعمّ من كونه في الشّكّ في المقتضي أو في الشّكّ في الرّافع، خلافاً للشيخ، فإنّه ربّما يستدلّ له بالهيئة لكون المراد الشّكّ في الرّافع فقط.

وتقريب الاستدلال بالهيئة: إنّ الحرمة الّتي هي مفاد الهيئة لا تكون متعلّقة إلّا بالمقدور، ونقض اليقين بعد وقوع الشّكّ أمر قهري غير قابل للنهي، فلا بدّ وأن يراد منه المتيقّن، وحيث إنّ الأقرب للمعنى الحقيقي للنقض رفع اليد من الشّيء المستمر - وهو ما أحرز فيه المقتضي وشكّ في الرّافع - انحصر معناه في ذلك.

والجواب: أنّه كما لا يمكن نقض اليقين - لأنّ ذهاب اليقين حين الشّكّ أمر قهري - كذلك لا يمكن نقض المتيقّن؛ لأنّ المتيقّن سواء كان حكماً أو موضوعاً ليس نقضه باختيار المكلّف، فإنّ الحكم نقضه بيد الشّارع والموضوع نقضه بيد التكوين، إذن فنسبة النّقض إلى كليهما مجاز، لكن ما صنعه الشّيخ من أخذ اليقين في الرّواية بمعنى المتيقّن مجاز، ثمّ جعله المتيقّن بمعنى آخر يناسبهالنّقض مجاز آخر، أمّا نحن فلا نصنع إلّا مجازاً واحداً هو جعل اليقين بمعنى

ص: 38

فلا محالة يكون المراد منها: النّهي عن الانتقاض بحسب البناء والعمل، لا الحقيقة؛ لعدم كون الانتقاض بحسبها تحت الاختيار، سواء كان متعلّقاً باليقين - كما هو ظاهر القضيّة - أم بالمتيقّن، أم بآثار اليقين، بناءً على التصرّف فيها بالتجوّز، أو الإضمار؛

___________________________________________

يناسب النّقض، بدون احتياج إلى المجاز الأوّل وهو جعل اليقين بمعنى المتيقّن.

وبهذا تبيّن أنّ الهيئة أيضاً تؤيّد الإطلاق، وعدم الفرق بين أن يكون الشّكّ في المقتضي أو في الرّافع.

إذا عرفت ذلك قلنا: وأمّا الهيئة {فلا محالة يكون المراد منها النّهي عن الانتقاض بحسب البناء والعمل} أي: لا تنقض بناءك على اليقين السّابق وعملك على طبق ذلك اليقين بسبب الشّكّ، فكما كنت تبني حين كنت مستيقناً بالطهارة - من الصّلاة والطّواف ومسّ كتابة القرآن - ابن الآن وأنت شاكّ في أنّه هل أنت مطهّر أم لا {لا} بحسب {الحقيقة}.

إذ قد عرفت أنّ النّهي عن النّقض حقيقةً غير مقدور {لعدم كون الانتقاض بحسبها} أي: بحسب الحقيقة {تحت الاختيار} حتّى ينهى عنه {سواء كان متعلّقاً باليقين كما هو ظاهر القضيّة} لأنّه قال: «لا تنقض اليقين» {أم بالمتيقّن} كما أوّله الشّيخ(رحمة الله) إليه {أم بآثاراليقين} حتّى يكون المعنى «لا تنقض آثار اليقين» فإنّ آثار اليقين هي أحكامه، والأحكام وضعها ونقضها بيد الشّارع لا بيد المكلّف {بناءً على التصرّف فيها} أي: في الرّواية في اليقين {بالتجوّز} بأن يراد من اليقين آثاره على نحو المجاز في الكلمة، كما يقال: (أسد) ويراد به الرّجل الشّجاع {أو الإضمار} بأن يقدّر لفظ (الآثار)، فتقدير «لا تنقض اليقين» لا تنقض آثار اليقين على نحو المجاز في الإسناد.

ص: 39

بداهةَ أنّه كما لا يتعلّق النّقض الاختياري - القابل لورود النّهي عليه - بنفس اليقين، كذلك لا يتعلّق بما كان على يقين منه، أو أحكام اليقين، فلا يكاد يجدي التصرّف بذلك في بقاء الصّيغة على حقيقتها، فلا مجوّز له، فضلاً عن الملزم، كما توهّم.

___________________________________________

وإنّما قلنا بأنّ النّقض ليس مقدوراً بأيّ معنى أُخذ اليقين، ل- {بداهة أنّه كما لا يتعلّق النّقض الاختياري القابل لورود النّهي عليه بنفس اليقين} إذ اليقين أمر تكويني يأتي بأسبابه ويذهب بذهاب تلك الأسباب، سواء أراد المكلّف أم لم يرد {كذلك لا يتعلّق} النّقض الاختياري {بما كان على يقين منه} أي: المتيقّن كالطهارة - في ما يتيقّن بها - {أو أحكام اليقين} كجواز الصّلاة والطّواف ومسّ كتابة القرآن.

وبهذا تبيّن أنّ ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) منظور فيه، قال: «ثمّ لا يتوهّم الاحتياج إلى التصرّف في اليقين بإرادة المتيقّن منه؛ لأنّ التصرّف لازم على كلّ حال، فإنّ النّقض الاختياري القابل لورود النّهي عليه لا يتعلّق بنفس اليقين على كلّ تقدير، بل المراد نقض ما كان على يقين منه - وهو الطّهارة السّابقة - أوأحكام اليقين»(1)،

انتهى.

لكنّك قد عرفت عدم الفرق بين التعليقات الثلاثة {فلا يكاد يجدي التصرّف بذلك} أي: بأخذ اليقين بمعنى المتيقّن، أو بمعنى أحكام اليقين {في بقاء الصّيغة} أي: صيغة النّهي {على حقيقتها، فلا مجوّز له} إذ التصرّف المخالف للظاهر فلا يجوز {فضلاً عن الملزم، كما توهّم}.

وربّما أُشكل على المصنّف(رحمة الله) بأنّ إيراده على الشّيخ غير وارد، إذ آخر كلام الشّيخ يعطي إمكان ذلك؛ لأنّه أراد النّقض العملي. وكيف كان فلا داعي إلى أخذ اليقين بمعنى المتيقّن بالإضافة إلى أنّه خلاف الظاهر.

ص: 40


1- فرائد الأصول 3: 79.

لا يقال: لا محيص عنه؛ فإنّ النّهي عن النّقض بحسب العمل، لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره؛ لمنافاته مع المورد.

فإنّه يقال: إنّما يلزم لو كان اليقين ملحوظاً بنفسه وبالنّظر الاستقلالي، لا ما إذا كان ملحوظاً بنحو المرآتيّة وبالنّظر الآلي، كما هو الظاهر في مثل قضيّة «لا تنقض اليقين» حيث تكون ظاهرة عرفاً في أنّها كناية عن لزوم البناء والعمل، بالتزام حكم مماثل للمتيقّن تعبّداً إذا كان حكماً،

___________________________________________

{لا يقال}: لا بدّ وأن نتصرّف في لفظ «اليقين» في الرّواية بإرادة المتيقّن منه، إذ مورد الرّواية الوضوء، ومن المعلوم أنّه متعلّق اليقين لا نفس اليقين، وبهذا تبيّن أنّه {لا محيص عنه} أي: عن التصرّف بإرادة المتيقّنمن اليقين {فإنّ النّهي عن النّقض بحسب العمل} أي: لا تنقض اليقين عملاً {لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره} وذلك {لمنافاته مع المورد} فإنّ الأحكام مترتّبة على الطّهارة المشكوكة لا على اليقين بها.

{فإنّه يقال}: لو أخذ اليقين في قوله: «لا تنقض اليقين» استقلاليّاً لم يكن محيص إلّا عن التصرّف فيه - كما ذكرتم - ف- {إنّما يلزم} التصرّف في «اليقين» {لو كان اليقين} المأخوذ في الرّواية {ملحوظاً بنفسه وبالنّظر الاستقلالي} إذ لا يلائم نسبة النّقض إليه {لا ما إذا كان} اليقين {ملحوظاً بنحو المرآتيّة وبالنّظر الآلي} فإنّ النّقض العملي لليقين يعتبر اليقين - فيه - آلة ومرآة للمتيقّن، كما هو كذلك دائماً في باب العلم والظنّ واليقين وما أشبه، فإنّها لو أُطلقت يراد بها في الأغلب متعلّقاتها لا أنّها بما هي صفات نفسيّة.

{كما هو الظاهر} عرفاً {في مثل قضيّة «لا تنقض اليقين» حيث تكون ظاهرة عرفاً في أنّها} أي: هذه القضيّة {كناية عن لزوم البناء والعمل} ولا يكون ذلك البناء العملي إلّا {بالتزام حكم مماثل للمتيقّن تعبّداً} في ما {إذا كان} المتيقّن {حكماً}

ص: 41

ولحكمه إذا كان موضوعاً، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين، بالالتزام بحكم مماثل لحكمه شرعاً؛ وذلك لسراية الآليّة والمرآتيّة من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلّي، فيؤخذ في موضوع الحكم فيمقام بيان حكمه، مع عدم دخله فيه أصلاً،

___________________________________________

فلو علمنا في السّنة الماضية بوجوب إعطاء النّفقة لزيد لكونه حيّاً، ثمّ شككنا في هذه السّنة في الوجوب كان معنى «لا تنقض اليقين» التزم بوجوب مماثل لذلك الوجوب المتيقّن {و} بالتزامه حكم مماثل {لحكمه} أي: لحكم المتيقّن {إذا كان} المتيقّن {موضوعاً} ذا حكم، فلو علمنا صباحاً بالوضوء ثمّ شككنا ظهراً فيه كان معنى «لا تنقض اليقين»: التزم بجواز الصّلاة الّذي هو مماثل لجواز الصّلاة الّذي كان حكماً للوضوء المتيقّن صباحاً {لا عبارة} هذا عطف على قوله «كناية» أي: ليس «لا تنقض» عبارة {عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام بحكم مماثل لحكمه} أي: حكم اليقين {شرعاً} حتّى إذا كان لليقين بما هو صفة نفسيّة حكم، كما لو نذر أنّه لو كان متيقّناً بالوضوء تصدّق بدينار لزم ترتيب ذلك الأثر بمجرّد قوله: «لا تنقض».

والحاصل: أنّه إذا كان للمتيقّن حكم ولليقين حكم فهم العرف من قوله: «لا تنقض» ترتيب آثار المتيقّن لا آثار نفس اليقين {وذلك} الّذي ذكرنا من اليقين في «لا تنقض» أخذ آليّاً لا استقلاليّاً {لسراية الآليّة والمرآتيّة من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلّي} يعني: أنّ اليقين الخارجي القائم بنفس الإنسان لا شكّ وأنّه مرآة للمعلوم الخارجي، فمفهوم الكلّي لليقين الّذي ورد في قوله: «لا تنقض اليقين» أيضاً كذلك يراد به اليقين الآلي لا اليقين الاستقلالي {فيؤخذ} مفهوم اليقين آليّاً {في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه} فحيث يحكم على اليقين بقوله: «لا تنقض» يريد باليقين الآلي لا الاستقلالي {مع عدم دخله} أي: اليقين استقلاليّاً {فيه} أي: في الحكم {أصلاً} فيكون الحكم للمتيقّن فقط.

ص: 42

كما ربّما يؤخذ في ما له دخل فيه، أو تمام الدخل، فافهم.

ثمّ إنّه حيث كان كلّ من الحكم الشّرعي وموضوعه مع الشّكّ، قابلاً للتنزيل بلا تصرّف وتأويل - غاية الأمر تنزيل الموضوع بجعل مماثل حكمه وتنزيل الحكم بجعل مثله، كما أُشير إليه آنفاً - كان قضيّة «لا تنقض» ظاهرة في اعتبار الاستصحاب في الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة.

___________________________________________

{كما ربّما يؤخذ} اليقين {في ما له دخل فيه} أي: في موضوع لليقين - الاستقلالي - دخل في ذلك الموضوع، بأن يكون الموضوع مركّباً من اليقين والمتيقّن {أو تمام الدخل} بأن يكون اليقين الاستقلالي تمام الموضوع {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ جعل «اليقين» في قوله: «لا تنقض اليقين» آليّاً ومرآةً إلى المتيقّن خلاف ظاهر جعل اليقين في الرّواية عدلاً للشكّ، حيث قال: «ولا ينقض اليقين بالشكّ».

{ثمّ} إنّ الرّواية دلّت على استصحاب كلّ من الحكم والموضوع، ف- {إنّه حيث كان كلّ من الحكم الشّرعي} التكليفيّة والوضعيّة {وموضوعه} أي: موضوع الحكم، سواء كان موضوعاً مخترعاً كالوضوء أم لا كوجود زيد {مع الشّكّ} في بقاء ذلك الحكم أو الموضوع {قابلاً للتنزيل} بأن ينزل الشّارع المشكوك منهما منزلة المتيقّن {بلا تصرّف وتأويل} على خلاف ظاهر الكلام {غاية الأمر} يكون {تنزيل الموضوع ب-} معنى {جعل مماثل حكمه} فلو قال: (نزّل زيداً المشكوك منزلة المتيقّن) كان معناه رتّب آثار وجود زيد فعلاً وإن كنت شككت فيه {و} يكون {تنزيل الحكم ب-} معنى {جعل مثله} فمعنىنزّل الوجوب المشكوك منزلة المتيقّن التزم بالوجوب المماثل للوجوب المتيقّن {كما أُشير إليه آنفاً} في قولنا: «حيث تكون ظاهرة عرفاً» {كان قضيّة} هذا خبر قوله: «حيث كان»، أي: كان قوله(علیه السلام): {«لا تنقض» ظاهرة في اعتبار الاستصحاب في الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة} على أقسامها.

ص: 43

واختصاص المورد بالأخيرة لا يوجب تخصيصها بها، خصوصاً بعد ملاحظة أنّها قضيّة كليّة ارتكازيّة، قد أُتي بها في غير مورد لأجل الاستدلال بها على حكم المورد، فتأمّل.

ومنها: صحيحة أُخرى لزرارة. قال: قلت له: أصاب ثوبي دَمُ رُعافٍ أو غيره أو شيء من المني، فعلّمت أثره إلى أن أُصيب له الماء، فحضرت الصّلاة، ونسيت أنّ بثوبي شيئاً، وصلّيت، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟

قال: «تعيد الصّلاة، وتغسله».

___________________________________________

{و} إن قلت: كيف تعمّمون الرّواية للاستصحاب الحكمي والحال أنّ موردها هو الاستصحاب الموضوعي؛ لأنّها في باب الوضوء؟

قلت: {اختصاص المورد بالأخيرة} وهي الشّبهة الموضوعيّة {لا يوجب تخصيصها} أي: الرّواية {بها} أي: بالشبهة الموضوعيّة {خصوصاً بعد ملاحظة أنّها} أي: قضيّة «لا تنقض» {قضيّة كليّة ارتكازيّة} عند العقلاء {قد أُتي بها} في الرّوايات {في غير مورد لأجل الاستدلال بها على حكم المورد} فلا يكون المورد مخصّصاً {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّ العموم المستفاد إنّما هو بالنسبة إلى ما هو من نسخ المورد، وهوسائر الموضوعات لا مطلقاً، ولو لم يكن من نسخ المورد كالأحكام.

[صحيحة زرارة الثّانية]

{ومنها} أي: من الأخبار الّتي استدلّ بها للاستصحاب {صحيحة أُخرى لزرارة قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره} أي: غيرُ دمِ رُعاف {أو شيء من المني فعلّمت أثره} أي: جعلت له علامة {إلى أن أُصيب له الماء فحضرت الصّلاة} أي: جاء وقتها {ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال}(علیه السلام): {«تعيد الصّلاة وتغسله». قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته

ص: 44

قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنّه قد أصابه، فطلبته ولم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته؟

قال(علیه السلام): «تغسله وتعيد».

قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أر شيئاً فصلّيت، فرأيت فيه؟

قال: «تغسله ولا تعيد الصّلاة».

قلت: لم ذلك؟ قال: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً».

قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو، فأغسله؟

قال: «تغسل من ثوبك النّاحية الّتي ترى أنّه قد أصابها، حتّى تكون على يقين من طهارتك».

قلت: فهل عَلَيّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟قال: «لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشّكّ الّذي وقع في نفسك».

___________________________________________

ولم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته؟ قال(علیه السلام): «تغسله وتعيد». قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر شيئاً فصلّيت فرأيت فيه؟ قال: «تغسله ولا تعيد الصّلاة». قلت: لم ذلك؟} أي: عدم إعادة الصّلاة في صورة الظنّ بالنجاسة {قال: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ ابداً». قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟} أي: فماذا أصنع؟ {قال: «تغسل من ثوبك النّاحية الّتي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك». قلت: فهل علَيّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟} أي: هل أتحقّق أنّه أصابه أم لا؟ {قال: لا، ولكنّك تريد أن تذهب الشّكّ الّذي وقع في نفسك} يعنى(علیه السلام) أنّه لا بأس بهذا النّظر المذهب للشكّ.

ص: 45

قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة؟

قال: «تنقض الصّلاة وتعيد، إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة، وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أُوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقينبالشك»(1).

وقد ظهر ممّا ذكرنا في الصّحيحة الأُولى تقريب الاستدلال بقوله: «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» في كلا الموردين، ولا نعيد.

___________________________________________

{قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة؟ قال: «تنقض الصّلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة} والمراد بقطع الصّلاة الكفّ عن أعمالها ثمّ غسل الثوب ثمّ إتمام الصّلاة من موضع الكفّ، بقرينة قوله(علیه السلام): «ثمّ بنيت» {لأنّك لا تدري لعلّه شيء أُوقع عليك} أي: في أثناء الصّلاة {فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»} والمراد باليقين اليقين بالطهارة حالة الشّروع في الصّلاة، ثمّ في الأثناء لمّا رأى النّجاسة شكّ في أنّها هل هي حادثة أم سابقة، فليس له أن ينقض يقينه السّابق بالطهارة بشكّه الحادث وسط الصّلاة.

{وقد ظهر ممّا ذكرنا في الصّحيحة الأُولى تقريب الاستدلال} للاستصحاب {بقوله}(علیه السلام): {«فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» في كلا الموردين} في أوّل الرّواية وآخرها {و} لذا {لا نعيد} تقريب الاستدلال.

ثمّ لا يخفى أنّ في المقام قاعدتين:الأُولى: قاعدة الشّكّ الطّارئ، وهي الاستصحاب، بأن يطرأ الشّكّ على الشّيء بعد العلم به مع كون العلم محفوظاً في محلّه، وإنّما يكون متعلّق الشّكّ

ص: 46


1- علل الشرائع 2: 361؛ الاستبصار 1: 183.

___________________________________________

غير متعلّق اليقين، كما لو علمت بأنّ زيداً كان عادلاً يوم السّبت وأشكّ في أنّه هل بقي عادلاً في هذا اليوم وهو يوم الأحد أم لا؟

الثّانية: قاعدة الشّكّ السّاري، وهي قاعدة اليقين، بأن يسري الشّكّ في متعلّق العلم فيقلع العلم عن موضعه، كما لو علمت يوم السّبت بأنّ زيداً عادل، ثمّ شكّ يوم الأحد في مستند علمه حتّى كان ذلك شكّاً في نفس محلّ العلم، ويسمّى الشّكّ السّاري بهذه المناسبة؛ لأنّه يسري إلى موضع العلم. وهذه القاعدة محلّ كلام بين الأعلام كما يأتي.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ قول الإمام(علیه السلام) في المورد الأوّل: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك» الخ يحتمل وجهين:

الأوّل: أن يكون لبيان الاستصحاب إذا كان المراد من اليقين اليقين الحاصل قبل ظنّ الإصابة، والمراد من الشّكّ الشّكّ الحاصل حال الصّلاة لاحتمال الإصابة؛ لأنّه يقين سابق وشكّ طار لاحق، وقد قال الإمام(علیه السلام) بأنّه لا ينقض ذلك اليقين بهذا الشّكّ.

الثّاني: أن يكون لبيان قاعدة اليقين إذا كان المراد من اليقين اليقين بالطهارة الحاصل بالنّظر - بعد أن ظنّ أنّه أصابه - بأن يحمل قوله: «فلم أر شيئاً» على معنى علمت بأنّه لم يكن شيء، والمراد من الشّكّ الشّكّ حال الصّلاة بوجود النّجاسة حال النّظر حتّى يكون الشّكّ قالعاً لليقين عن موضعه، لكن الاحتمال الأوّل أقرب؛ لأنّ الاحتمال الثّاني مبنيّ على أن يحمل قوله: «فلم أر شيئاً» علىاليقين بعدم الإصابة، وهو خلاف الظاهر، فإنّ المنصرف من اليقين الوارد في الرّواية اليقين قبل ظنّ الإصابة لا اليقين بعده.

ص: 47

نعم، دلالته في المورد الأوّل على الاستصحاب مبنيّ على أن يكون المراد من «اليقين» في قوله(علیه السلام): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك»: اليقين بالطهارة قبل ظنّ الإصابة، كما هو الظاهر؛ فإنّه لو كان المراد منه اليقين الحاصل بالنّظر والفحص بعده - الزائل بالرؤية بعد الصّلاة - كان مفاده قاعدة اليقين، كما لا يخفى.

ثمّ

___________________________________________

ولذا قال المصنّف(رحمة الله): {نعم، دلالته} أي: الخبر {في المورد الأوّل} من الموردين اللّذين قال(علیه السلام) فيهما: «لا تنقض اليقين» {على الاستصحاب مبنيّ على أن يكون المراد من «اليقين» في قوله(علیه السلام): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك»} فشككت {اليقين بالطهارة قبل ظنّ الإصابة، كما هو الظاهر}.

وقد عرفت وجهه {فإنّه لو كان المراد منه} أي: من «اليقين» المذكور {اليقين الحاصل بالنّظر والفحص بعده} أي: بعد ظنّ الإصابة {الزائل} ذلك اليقين {بالرؤية بعد الصّلاة} المشكوك في أثناء الصّلاة، بحيث اقتلع اليقين - بسبب الشّكّ - عن أصله {كان مفاده} أي: مفاد المورد الأوّل {قاعدةاليقين} أي: الشّكّ السّاري {كما لا يخفى} لكن لو قيل بأنّ هذا المورد من الرّواية يفيد قاعدة اليقين لم يكن ذلك ضارّاً بالرواية، لدلالة المورد الثّاني على الاستصحاب قطعاً.

{ثمّ} إنّ الإمام(علیه السلام) علّل عدم وجوب الإعادة بأنّها نقض لليقين بالشكّ، فأشكل الأمر بأنّه ليس من نقض اليقين بالشكّ، بل هو نقض اليقين باليقين؛ لأنّ الإعادة مستندة إلى وجدان النّجاسة بعد الصّلاة.

والجواب: أنّ إحراز الطّهارة - ولو بالاستصحاب - كافٍ في صحّة الصّلاة، فلو جرى الاستصحاب كان كافياً في الحكم بصحّة الصّلاة، فلو أمر بالإعادة كان معناها عدم جريان الاستصحاب، فتكون الإعادة نقضاً لليقين بالشكّ.

ص: 48

إنّه أشكل على الرّواية(1)

بأنّ الإعادة بعد انكشاف وقوع الصّلاة ليست نقضاً لليقين بالطهارة بالشكّ فيها، بل باليقين بارتفاعها، فكيف يصحّ أن يعلّل عدم الإعادة بأنّها نقض اليقين بالشكّ؟ نعم، إنّما يصحّ أن يعلّل به جواز الدخول في الصّلاة، كما لا يخفى.

ولا يكاد يمكن التفصّي عن هذا الإشكال إلّا بأن يقال: إنّ الشّرط في الصّلاة فعلاً حين الالتفات إلى الطّهارة

___________________________________________

وإلى هذا أشار بقوله: {إنّه أشكل على الرّواية بأنّ الإعادة بعد انكشاف وقوع الصّلاة} مع النّجاسة {ليست نقضاً لليقين بالطهارة بالشكّ فيها} أي: في الطّهارة {بل} هي نقض للطهارة {باليقين بارتفاعها} لأنّه علم بعد الصّلاة أنّه لم يكن متطهّراً {فكيف يصحّأن يعلّل عدم الإعادة بأنّها نقض اليقين بالشكّ؟} فإنّه من نقض اليقين باليقين.

{نعم} لو كانت الرّواية علّلت جواز الدخول في الصّلاة - بأنّه لو لم يدخل لكان نقضاً لليقين بالشكّ - لكان ذلك صحيحاً؛ لأنّه كان على يقين من الطّهارة ثمّ شكّ فدخل في الصّلاة مستصحباً الطّهارة، وعليه فالاستصحاب {إنّما يصحّ أن يعلّل به جواز الدخول في الصّلاة، كما لا يخفى} لا عدم وجوب الإعادة، كما صنعته الرّواية.

{ولا يكاد يمكن التفصّي عن هذا الإشكال إلّا بأن يقال}: ليس الشّرط لصحّة الصّلاة الطّهارة الواقعيّة، حتّى لو انكشف عدم الطّهارة وجبت إعادة الصّلاة، بل {إنّ الشّرط في الصّلاة فعلاً حين الالتفات إلى الطّهارة} مقابل حال الغفلة عن الطّهارة حيث لا تصحّ الصّلاة؛ لأنّ الطّهارة شرط في الصّلاة إمّا واقعاً أو إحرازاً، وليس أحدهما موجوداً حال الغفلة؛ لأنّ المفروض أنّه لا طهارة واقعاً، كما أنّ معنى الغفلة أنّه لا إحراز لها بأصل أو دليل، فالصلاة باطلة في هذا الحال

ص: 49


1- فرائد الأصول 3: 60.

هو إحرازها، ولو بأصل أو قاعدة، لا نفسها، فتكون قضيّة استصحاب الطّهارة - حال الصّلاة - : عدم إعادتها، ولو انكشف وقوعها في النّجاسة بعدها. كما أنّ إعادتها بعد الكشف، تكشف عن جواز النّقض وعدم حجيّة الاستصحاب حالها، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

لا يقال:

___________________________________________

{هو إحرازها ولو بأصل أو قاعدة لا نفسها} أي: ليس نفس الطّهارة الواقعيّة شرطاً، وإذ كان الشّرط إحراز الطّهارة {فتكونقضيّة استصحاب الطّهارة - حال الصّلاة - عدم إعادتها} لأنّ الصّلاة واجدة للشرط الّذي هو إحراز الطّهارة بالاستصحاب {ولو انكشف وقوعها في النّجاسة بعدها} أي: ظهر بعد الصّلاة أنّها كانت في النّجاسة {كما أنّ إعادتها} أي: الصّلاة {بعد الكشف} لوقوع الصّلاة في النّجاسة {تكشف عن جواز النّقض وعدم حجيّة الاستصحاب حالها} إذ لو كان الاستصحاب لكان حال الدخول في الصّلاة محرزاً للشرط، وإحراز الشّرط كافٍ في الصّحّة {كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً} وقوله: «حالها» ظرف لقوله: «جواز النّقض».

{لا يقال}: المستصحب يجب أن يكون حكماً شرعيّاً أو موضوعاً ذا حكم، والطّهارة حالة الصّلاة ليست أحدهما:

أمّا إنّها ليست بحكم فواضح، إذ الأحكام هي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة.

وأمّا إنّها ليست بموضوع ذي حكم، فلأنّكم ذكرتم أنّ إحراز الطّهارة كافٍ في الدخول في الصّلاة، فليست الطّهارة ذات فائدة حتّى تجعل موضوعاً لحكم، إذ لم يرتّب عليها أيّ حكم إطلاقاً.

وعلى هذا يمتنع جريان الاستصحاب لإثبات الطّهارة، وإذ لم يجر الاستصحاب امتنع إحراز الطّهارة الّذي هو الشّرط، فاللّازم بطلان الصّلاة ولزوم

ص: 50

لا مجال حينئذٍ لاستصحاب الطّهارة؛ فإنّه إذا لم يكن شرطاً لم يكن موضوعاً لحكم، مع أنّه ليس بحكم، ولا محيص في الاستصحاب عن كون المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم.

فإنّه يقال: إنّ الطّهارة وإن لم تكن شرطاً فعلاً، إلّا أنّها غير منعزلة عن الشّرطيّة رأساً، بل هي شرط واقعيّ اقتضائي- كما هو قضيّة التوفيق بين بعض الإطلاقات ومثل هذا الخطاب - ،

___________________________________________

الإعادة، فكيف علّلت الرّواية عدم وجوب الإعادة بالاستصحاب، إذ {لا مجال حينئذٍ} أي: حين كان الشّرط إحراز الطّهارة {لاستصحاب الطّهارة، فإنّه إذا لم يكن} الطّهور {شرطاً} بل كان إحرازه فقط شرطاً {لم يكن موضوعاً لحكم مع أنّه ليس بحكم} فهو ليس بموضوع ذي حكم ولا حكم {ولا محيص في الاستصحاب عن كون المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم}.

والحاصل: أنّ الاستصحاب غير تامّ فكيف يعلّل به عدم وجوب إعادة الصّلاة؟

{فإنّه يقال}: الشّرط للصلاة أوّلاً وبالذات هو الطّهارة، لكن دلّ الدليل على أنّ الاستصحاب لو أخطأ كفى، فليست الطّهارة منعزلة عن الشّرطيّة فهي موضوع حكم، ولذا يصحّ استصحابها ف- {إنّ الطّهارة وإن لم تكن شرطاً فعلاً} حين استصحبت خطاءً، بأن لم يكن المصلّي متطهّراً واقعاً {إلّا أنّها} أي: الطّهارة {غير منعزلة عن الشّرطيّة رأساً، بل هي شرط واقعيّ اقتضائي} أي: فيها مقتضى الشّرطيّة حتّى في حال الاستصحاب الخطائي، وليست كالأشياء الأجنبيّة الّتي لا ترتبط بالصلاة إطلاقاً {كما هو} أي: ما ذكرنا من أنّه شرط اقتضائي وإن لم يكن شرطاً فعلاً {قضيّة التوفيق بين بعض الإطلاقات} نحو قوله: «لا صلاة إلّا بطهور»(1)

{ومثل هذا الخطاب} الوارد في هذه الرّواية بأنّه لا يعيد.

ص: 51


1- من لا يحضره الفقيه 1: 33.

هذا.مع كفاية كونها من قيود الشّرط؛ حيث إنّه كان إحرازها بخصوصها - لا غيرها - شرطاً.

لا يقال: سلّمنا ذلك، لكن قضيّة أن يكون علّة عدم الإعادة حينئذٍ - بعد انكشاف وقوع الصّلاة في النّجاسة - هو إحراز الطّهارة حالها باستصحابها، لا الطّهارة المحرزة بالاستصحاب.

___________________________________________

{هذا} أوّلاً {مع} أنّ لنا أن نقول: ثانياً ب- {كفاية كونها} أي: الطّهارة {من قيود الشّرط} وكلّ قيد للشرط يجري فيه الاستصحاب.

أمّا أنّها من قيود الشّرط؛ فلأنّ شرط الصّلاة إحراز الطّهارة، فالطهارة صارت من قيود الشّرط.

وأمّا أنّ كلّ قيد للشرط يجري فيه الاستصحاب؛ فلأنّ الاستصحاب يجري في الحكم وفي كلّ ما له دخل في الحكم، ومن المعلوم أنّ قيود الشّرط ممّا له دخل في الحكم، ولذا يجري استصحاب طهارة الماء المتوضّأ به مع أنّ الطّهارة قيد لشرط الصّلاة وهو الوضوء، فالطهارة هنا كذلك {حيث إنّه كان إحرازها} أي: الطّهارة {بخصوصها لا غيرها شرطاً} للصلاة.

{لا يقال: سلّمنا ذلك} الّذي ذكرتم من أنّ شرط صحّة الصّلاة إحراز الطّهارة، ولكن لو كان الشّرط ذلك كان من المناسب أن يعلّل الإمام(علیه السلام) عدم وجوب الإعادة بأنّه واجد للشرط الّذي هو إحراز الطّهارة، لا أن يعلّل بوجود الطّهارة، فإنّ قوله(علیه السلام): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك» ظاهر في أنّ وجه الصّحّة نفس الطّهارة لا إحراز الطّهارة - كما ادّعيتم - {لكن قضيّة أن يكون علّة عدم الإعادة حينئذٍ} أي: حين استصحاب الطّهارة {- بعد انكشاف وقوع الصّلاةفي النّجاسة - هو إحراز الطّهارة حالها} أي: حال الصّلاة {ب-} سبب {استصحابها} أي: استصحاب الطّهارة {لا الطّهارة المحرزة بالاستصحاب} وفرق بين الأمرين، كما لا يخفى.

ص: 52

مع أنّ قضيّة التعليل أن تكون العلّة له هي نفسها لا إحرازها؛ ضرورة أنّ نتيجة قوله: «لأنّك كنت على يقين» الخ. إِنّه على الطّهارة، لا أنّه مستصحبها، كما لا يخفى.

فإنّه يقال: نعم، ولكن التعليل إنّما هو بلحاظ حال قبل انكشاف الحال، لنكتة التنبيه على حجيّة الاستصحاب، وأنّه كان هناك استصحاب، مع وضوح استلزام ذلك لأن يكون المجدي بعد الانكشاف هو ذاك الاستصحاب، لا الطّهارة،

___________________________________________

{مع أنّ قضيّة التعليل} أي: مقتضى التعليل الصّادر من الإمام(علیه السلام) {أن تكون العلّة له} أي: لعدم الإعادة {هي نفسها} أي: نفس الطّهارة المحرزة {لا إحرازها} ل- {ضرورة أنّ نتيجة قوله: «لأنّك كنت على يقين» الخ، إنّه على الطّهارة} فكأنّه قال: إنّك واجد للشرط الّذي هو الطّهارة، لأنّك أحرزتها باليقين السّابق {لا أنّه مستصحبها} أي: مستصحب الطّهارة، حتّى يكون إحراز الطّهارة شرطاً {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{فإنّه يقال}: إنّ التعليل إنّما هو بلحاظ حال الدخول في الصّلاة، ويريد الإمام(علیه السلام) أن ينبّه على أنّه حال الدخول كان مستصحب الطّهارة فصلاته صحيحة.{نعم} يجب أن يكون التعليل بالإحراز لو لوحظ في التعليل حال العلم بعدم الطّهارة بعد الصّلاة {ولكن التعليل إنّما هو بلحاظ حال قبل انكشاف الحال} أي: قبل تبيّن أنّه لم يكن على طهارة.

وإنّما علّل الإمام لتلك الحالة ولم يعلّل لحالة انكشاف الحال {لنكتة التنبيه على حجيّة الاستصحاب وأنّه كان هناك} في حال الدخول في الصّلاة {استصحاب مع وضوح استلزام ذلك} أي: إنّ من الواضح أنّه يستلزم هذا التنبيه على حجيّة الاستصحاب {لأن يكون المجدي بعد الانكشاف} وأنّه لم يكن على طهر {هو ذاك الاستصحاب، لا الطّهارة} إذ الشّرط في الصّحّة: إمّا الطّهارة الواقعيّة وهي مفقودة، وإمّا استصحاب الطّهارة فمن الضّروري التنبيه على وجود الطّهارة الظاهريّة

ص: 53

وإلّا لما كانت الإعادة نقضاً، كما عرفت في الإشكال.

ثمّ إنّه لا يكاد يصحّ التعليل لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء - كما قيل - ؛ ضرورة أنّ العلّة عليه إنّما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصّلاة للإجزاء وعدم إعادتها، لا لزوم النّقض من الإعادة، كما لا يخفى.

اللّهمّ إلّا أن يقال:

___________________________________________

المستصحبة {وإلّا} يكن المجدي الاستصحاب {لما كانت الإعادة نقضاً، كما عرفت في الإشكال}.

هذا {ثمّ إنّه} ربّما قيل بأنّ تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب صحيح من جهة أنّ الاستصحاب أمر ظاهريّ والأمر الظّاهري مقتضٍ للإجزاء، فكأنّالإمام(علیه السلام) قال: لا تعد لوجود الأمر الظاهري، وعلى هذا فالتعليل إنّما هو بلحاظ حال الانكشاف لا بلحاظ حال الدخول في الصّلاة - قبل الانكشاف - .

وأشكل عليه المصنّف(رحمة الله) بأنّه لو كان الأمر كذلك لزم أن يعلّل الإمام(علیه السلام) بأنّ الأمر الظّاهري مقتضٍ للإجزاء، لا أنّ يعلّل بالاستصحاب، فإنّه {لا يكاد يصحّ التعليل} بعدم نقض اليقين بالشكّ {لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، كما قيل} بأنّ التعليل بهذا اللحاظ، وإنّما نقول بعدم صحّة هذا الوجه: ل- {ضرورة أنّ العلّة} لعدم الإعادة {عليه} أي: على هذا الوجه {إنّما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصّلاة} بأن صَلِّ لأنّك متطهّر {للإجزاء و} ل- {عدم إعادتها} أي: الصّلاة المأتي بها بذاك الأمر الظاهري، فاللّازم أن يعلّل به {لا} ب- {لزوم النّقض} لليقين {من الإعادة} كما وقع في لفظ الرّواية {كما لا يخفى} على المتدبّر.

{اللّهمّ إلّا أن يقال}: بأنّ هذا التعليل بلحاظ حال الصّلاة، وأنّ العلّة لعدم الإعادة صغرى هي «لا تنقض» وكبرى هي: اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، فكان حقّ الكلام أن يقال: لا إعادة لوجود الأمر الظاهري الاستصحابي، وكلّ أمر

ص: 54

إنّ التعليل به إنّما هو بملاحظة ضميمة اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، بتقريب: أنّ الإعادة - لو قيل بوجوبها - كانت موجبة لنقض اليقين بالشكّ في الطّهارة قبل الانكشاف، وعدم حرمته شرعاً، وإلّا للزم عدم اقتضاء ذاك الأمر له، كما لايخفى، مع اقتضائه شرعاً أو عقلاً،

___________________________________________

ظاهري يقتضي الإجزاء.

ومن المعلوم أنّه لو كان لشيء علّة مركّبة من صغرى وكبرى يصحّ تعليله بأحدهما ويصحّ تعليله بهما معاً، فلو كان زيد عالماً وكان عالم يكرم، يصحّ أن يقال: (أكرم زيداً؛ لأنّه عالم) وأن يقال: (لأنّ كلّ عالم يكرم) وأن يقال: (لأنّه عالم، وكلّ عالم يكرم) فنقول في المقام: {إنّ التعليل} لعدم وجوب الإعادة {به} أي: ب- «لا تنقض» {إنّما هو بملاحظة ضميمة اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء} فليست العلّة «لا تنقض» وحده {بتقريب أنّ الإعادة لو قيل بوجوبها} أي: بوجوب الإعادة {كانت موجبة لنقض اليقين بالشكّ في الطّهارة} «بالشكّ» متعلّق ب- «نقض» و «في الطّهارة» متعلّق ب- «الشّك» {قبل الانكشاف وعدم حرمته} أي: حرمة النّقض {شرعاً، وإلّا} تكن الإعادة موجبة للنقض ومع ذلك وجبت الإعادة {للزم عدم اقتضاء ذاك الأمر} الظاهري {له} أي: للإجزاء، فإنّ الإعادة مستندة إلى أحد أمرين: إمّا جواز نقض اليقين بالشكّ، وإمّا عدم اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، فلو قيل بوجوب الإعادة ولم نقل بجواز النّقض كان السّبب عدم اقتضاء الأمر الظاهري {كما لا يخفى، مع اقتضائه} أي: الأمر الظاهري للإجزاء {شرعاً أو عقلاً}.

وقد ظهر بما ذكرنا أنّ الفرق بين كلام المصنّف(رحمة الله) وبين هذا الوجه أنّ كلام المصنّف مبنيّ على كون الشّرط الفعلي إحراز الطّهارة لا نفس الطّهارة، وقد وجد إحرازها بالاستصحاب. وهذا الوجه مبنيّ على أنّ الشّرط هو الطّهارة

ص: 55

فتأمّل.

ولعلّ ذلك مراد من قال بدلالة الرّواية على إجزاء الأمر الظاهري.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل.

مع أنّه لا يكاد يوجب الإشكالُ فيه، والعجز عن التفصّي عنه إشكالاً في دلالة الرّواية على الاستصحاب؛ فإنّه لازم على كلّ حال،

___________________________________________

الواقعيّة، لكن الطّهارة الظاهريّة مجزية لاقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء.

وقوله: «مع اقتضائه شرعاً أو عقلاً» يشير إلى أنّ المصلحة لو كان الفائت منها - عند الأمر الظاهري - بقدر الإلزام وكان ممكن التدارك كان الإجزاء شرعيّاً؛ لأنّه يحتاج حينئذٍ إلى جعل جديد ودليل آخر، ولو كان الفائت بمقدار غير ملزم أو غير ممكن التدارك كان الإجزاء عقلاً بلا حاجة إلى دليل جديد.

{فتأمّل} لعلّه إشارة إلى ما ذكره المصنّف(رحمة الله) في الحاشية من: «أنّ اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ليس بذلك الوضوح كي يحسن بملاحظته التعليل بلزوم النّقض من الإعادة»(1).

{ولعلّ ذلك} الّذي ذكرنا في وجه التعليل عند قولنا: «اللّهمّ» {مراد من قال بدلالة الرّواية على إجزاء الأمر الظاهري} وإلّا فليس في موضع آخر منها دلالة على ذلك، كما لا يخفى.

{هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل، مع} أنّه لو لم نتمكّن من توجيه التعليل لم يضرّ ذلك بدلالةالرّواية على الاستصحاب الّذي نحن بصدده. ف- {إنّه لا يكاد يوجب الإشكال فيه} أي: في التعليل {و} لا يكاد يوجب {العجز عن التفصّي عنه} أي: عن الإشكال الوارد في التعليل {إشكالاً في دلالة الرّواية على الاستصحاب} «إشكالاً» مفعول «يوجب» {فإنّه} أي: الإشكال {لازم على كلّ حال} سواء

ص: 56


1- حقائق الأصول 2: 420؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 442.

كان مفاده قاعدته، أو قاعدة اليقين، مع بداهة عدم خروجه منهما، فتأمّل جيّداً.

ومنها: صحيحة ثالثة لزرارة: «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أُخرى، ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشكّ، ولا يدخل الشّكّ في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنّه ينقض الشّكّ باليقين، ويتمّ على اليقين فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات»(1).

___________________________________________

{كان مفاده} أي: مفاد «لا تنقض» {قاعدته} أي: قاعدة الاستصحاب {أو قاعدة اليقين} فلا يمكن أن يقال: إنّ مفاد الرّواية قاعدة اليقين؛ لأنّه لو كان مفادها قاعدة الاستصحاب لزم الإشكال، لما عرفت أنّ الإشكال لازم على التقديرين، فاللّازم حمل الرّواية على ظاهرها الّذي هو الاستصحاب {مع بداهة عدم خروجه} أي: خروج مفاد «لا تنقض» {منهما} أي: من قاعدة اليقين أو الاستصحاب {فتأمّل جيّداً}.

ولا يخفى أنّ في كلام المصنّف(رحمة الله) مواقع للنظر أضربنا عنها لخروجها عن مقصد الشّرح.

[صحيحة زرارة الثّالثة]

{ومنها} أي: من الأخبار الدالّة على الاستصحاب {صحيحة ثالثة لزرارة} أيضاً عن أحدهما‘ قال: قلت له: من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين. قال: «يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه {وإذا لم يدر في ثلاث هو أو أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أُخرى ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشكّ، ولا يدخل الشّكّ في اليقين، ولا يخلط أحدهما} أي: من الشّكّ واليقين {بالآخر، ولكنّه ينقض الشّكّ باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات»}.

ص: 57


1- الكافي 3: 351؛ الاستبصار 1: 373.

والاستدلال بها على الاستصحاب مبنيّ على إرادة اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرّابعة سابقاً، والشّكّ في إتيانها.

___________________________________________

ولا يخفى أنّ الحديث محتمل لأمرين:

الأوّل: الاستصحاب، بأن يكون قوله(علیه السلام): «ولا ينقض اليقين بالشكّ» يراد به لا ينقض اليقين بعدم الرّابعة بالشكّ فيها، فإنّه قد علم أنّه صلّى ثلاث ركعات، وكان تيقّن أنّه لم يأت بالرّابعة ثمّ شكّ في إتيانها، فإنّه لو بنى على الإتيان كان ناقضاً لليقين بعدم الإتيان بالشكّ في الإتيان.

الثّاني: أن يكون المراد من قوله(علیه السلام): «ولا ينقض» اليقين بالفراغ، أي: يأتي بكيفيّة يتيقّن بفراغ ذمّته، وذلك بأن يبني على الأربع ثمّ يأتي بركعة مفصولة، كما في كلّ شكّ بين الأقلّ والأكثر، وعلى هذا فالرواية أجنبيّة عن الاستصحاب.

وربّما قيل: بأنّ هذا الاحتمال هو الأقوى؛ لأنّ المراد باليقين لو كان هوالاحتمال الأوّل لزم إتيان الرّكعة المشكوكة موصولة بالصلاة لا مفصولة عنها، فأمر الإمام(علیه السلام) بإتيانها مفصولة يدلّ على أنّ المراد من الرّواية هو الاحتمال الثّاني.

وأُجيب: بأنّ الظاهر من اليقين هو الاستصحاب، وأمّا الإتيان بالركعة مفصولة فهو أمر آخر يقتضيه الاحتياط؛ لأنّه إن كان صلّى أربع لم تضرّه الرّكعة المفصولة، وإن كان صلّى ثلاث لم يضرّه الفصل للرابعة بالتشهّد والسّلام والتكبير؛ لأنّها ذكر ودعاء.

{و} من هذا تبيّن أنّ {الاستدلال بها} أي: بهذه الصّحيحة {على الاستصحاب مبنيّ على إرادة} الإمام من اليقين في قوله: «ولا ينقض اليقين» {اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرّابعة سابقاً} أي: قبل الشّروع في هذه الرّكعة المشكوكة إنّها الثّالثة أو الرّابعة {و} إرادة الإمام من الشّكّ {الشّكّ في إتيانها} حتّى يكون هناك يقين سابق وشكّ لاحق.

ص: 58

وقد أشكل(1)

بعدم إمكان إرادة ذلك على مذهب الخاصّة؛ ضرورة أنّ قضيّته إضافة ركعة أُخرى موصولة، والمذهب قد استقرّ على إضافة ركعة بعد التسليم مفصولة. وعلى هذا يكون المراد باليقين: اليقين بالفراغ، بما علّمه الإمام(علیه السلام) من الاحتياط بالبناء على الأكثر، والإتيان بالمشكوك بعد التسليم مفصولة.

___________________________________________

{وقد أشكل} هذا الاحتمال الأوّل {بعدم إمكان إرادةذلك} من اليقين والشّكّ {على مذهب الخاصّة} الّذين يرون وجوب البناء على الأكثر مطلقاً {ضرورة أنّ قضيّته} أي: مقتضى الاستصحاب بحمل اليقين على اليقين بعدم الرّابعة وحمل الشّكّ بالشكّ فيها {إضافة ركعة أُخرى موصولة} أي: لو أجرينا الاستصحاب كان مقتضاه أن نأتي بركعة أُخرى قبل السّلام {و} الحال أنّ {المذهب قد استقرّ على إضافة ركعة بعد التسليم مفصولة} فلا يمكن أن يراد باليقين والشّكّ ما ذكرتم من الاستصحاب.

{وعلى هذا} لا بدّ من القول بالاحتمال الثّاني الّذي ذكرناه و{يكون المراد باليقين اليقين بالفراغ} عن التكليف الصّلاتي بالإتيان - في حال الشّكّ - {بما علمه الإمام(علیه السلام) من الاحتياط بالبناء على الأكثر} فيبني على أنّه أتى بأربع ركعات {والإتيان بالمشكوك} وهو الرّكعة الرّابعة {بعد التسليم مفصولة} وهذا لا يخالف المذهب، بل هو موافق له، فالمراد من الرّواية أنّ الشّاكّ في الرّكعة الرّابعة لا ينقض اليقين بالفراغ - على نحو ما نذكره من إتيان الرّكعة مفصولة - بالشكّ في الفراغ؛ لأنّه إن أتى بالمشكوكة موصولة احتمل أن تكون ركعات صلاته خمساً، فيكون من صلاته على شكّ، وقد أدخل الشّك وهو الرّابعة المحتملة للخامسة في اليقين وهو الثلاث المتيقّنة.

ص: 59


1- فرائد الأصول 3: 62-63.

ويمكن الذبّ عنه: بأنّ الاحتياط كذلك لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الرّكعة المشكوكة، بل كان أصل الإتيان بها باقتضائه، غاية الأمر إتيانها مفصولةً ينافي إطلاق النّقض، وقد قام الدليل على التقييد في الشّكّ في الرّابعة وغيره، وأنّالمشكوكة لا بدّ أن يؤتى بها مفصولةً، فافهم.

___________________________________________

{و} لكن لا يخفى ما في هذا الاحتمال من التكلّف، بل الظاهر أنّ قوله: «ولا ينقض» علّة لإضافة ركعة أُخرى، أي: لا يكتفي بما أتى ممّا يحتمل أنّه ثلاث ركعات، ويكون قوله: «ولا يدخل» بياناً لكيفيّة العلاج.

والحاصل: أنّ هنا أمرين:

الأوّل: أن لا يكتفي بهذا المقدار الّذي أتى به غير المعلوم أنّه ثلاث أو أربع، وقد بيّنه الإمام ب- «لا ينقض».

الثّاني: أن يكون إتيانه بالباقي مفصولاً لئلّا يكون قد أتى في الواقع بأربع، فيكون عدد الرّكعات خمساً، وقد بيّنه الإمام ب- «لا يدخل».

فتحصّل أنّه {يمكن الذبّ عنه} أي: عن الإشكال {بأنّ الاحتياط كذلك} بإتمام الصّلاة وإتيان ركعة مفصولة {لا يأبى عن إرادة} الإمام من اليقين {اليقين بعدم الرّكعة المشكوكة، بل كان أصل الإتيان بها} أي: بهذه الرّكعة المشكوكة {باقتضائه} أي: باقتضاء «اليقين بالعدم» أي: بالاستصحاب {غاية الأمر إتيانها} أي: تلك الرّكعة {مفصولة ينافي إطلاق النّقض} إذ ظاهر إطلاق «لا ينقض» إتيانها موصولة.

{و} لكن نقول بذلك؛ لأنّه {قد قام الدليل على التقييد} بأن يأتي بها مفصولة {في الشّكّ في الرّابعة وغيره} سواء كان بين الثلاث والأربع أو الاثنتين والأربع أو الاثنتين والثلاث والأربع {وإنّ المشكوكة لا بدّ أن يؤتى بها مفصولة} لا موصولة رعاية للاحتياط {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّالحديث ذو احتمالين فلا يمكن أن يستدلّ به للاستصحاب.

ص: 60

وربّما أشكل أيضاً بأنّه لو سلّم دلالتها على الاستصحاب كانت من الأخبار الخاصّة الدالّة عليه في خصوص المورد، لا العامّة لغير مورد؛ ضرورة ظهور الفقرات في كونها مبنية للفاعل، ومرجع الضّمير فيها هو المصلّي الشّاكّ.

وإلغاء خصوصيّة المورد ليس بذلك الوضوح، وإن كان يؤيّده تطبيق قضيّة «لا تنقض اليقين» - وما يقاربها - على غير مورد.

بل دعوى: «أنّ الظاهر من نفس القضيّة هو أنّ مناط حرمة النّقض إنّما يكون لأجل ما في اليقين والشّكّ،

___________________________________________

{وربّما أشكل} في دلالة هذه الصّحيحة على مطلق الاستصحاب {أيضاً بأنّه لو سلّم دلالتها على الاستصحاب} ولم تناقش فيها بالمناقشة السّابقة {كانت من الأخبار الخاصّة الدالّة عليه} أي: على الاستصحاب {في خصوص المورد} أي: مورد الشّكّ في الرّكعات {لا} الأخبار {العامّة} الشّاملة {لغير مورد} واحد حتّى تعمّ جميع أنواع الاستصحاب، وإنّما كانت خاصّة لا عامّة ل- {ضرورة ظهور الفقرات} أي: قوله: «ينقض»، و«يدخل»، و«يخلط»، و«يتمّ»، و«يبني»، ولا يعتدّ {في كونها مبنيّة للفاعل} لأنّه(علیه السلام) قال في أوّلها: «قام فأضاف» {ومرجع الضّمير فيها} أي: في هذه الفقرات {هو المصلّي الشّاكّ} فالرواية مرتبطة به لا مطلقة.

{و} إن قلت: نلغي خصوصيّة المورد، فإنّ المورد لا يخصّص.قلت: {إلغاء خصوصيّة المورد ليس بذلك الوضوح} الّذي يمكن استظهار العموم منه {وإن كان يؤيّده} أي: يؤيّد إلغاء خصوصيّة المورد حتّى يكون الحديث عامّاً لكلّ استصحاب {تطبيبق قضيّة «لا تنقض اليقين» وما يقاربها} لفظاً في بعض الأحاديث الأُخر {على غير مورد} واحد، بل بعضها في الطّهارة وبعضها مطلقة {بل دعوى: «إنّ الظاهر من نفس القضيّة} أي: قضيّة لا تنقض اليقين بالشكّ {هو أنّ مناط حرمة النّقض إنّما يكون} ذلك المناط {لأجل ما في اليقين والشّكّ} من عدم

ص: 61

لا لما في المورد من الخصوصية، وأنّ مثل اليقين لا ينقض بمثل الشّكّ»، غير بعيدة.

ومنها: قوله: «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه؛ فإنّ الشّكّ لا ينقض اليقين» أو؛ «بأنّ اليقين لا يدفع بالشكّ».

___________________________________________

صلاحيّة الشّكّ لرفع اليقين، و{لا} يكون المناط {لما في المورد} كالركعة المشكوكة في ما نحن فيه {من الخصوصيّة، و} لأجل {أنّ مثل اليقين} المستحكم {لا ينقض بمثل الشّكّ»} الواهي {غير بعيدة} خبر قوله: «بل دعوى» وعلى هذا فالصحيحة تدلّ على الاستصحاب بصورة عامّة.

[رواية محمد بن مسلم]

{ومنها} أي: من الرّوايات الدالّة على الاستصحاب روايتان نقلهماالشّيخ في الرّسائل(1)

عن الخصال بسنده عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: قال أميرالمؤمنين - صلوات اللّه عليه - : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه فإنّ الشّكّ لا ينقض اليقين»(2)،

وفي رواية أُخرى عنه(علیه السلام): «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ»(3)، وقد خلطهما المصنّف(رحمة الله) بقوله: {قوله: «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه، فإنّ الشّكّ لا ينقض اليقين»، أو «بأنّ اليقين لا يدفع بالشكّ»}.

وكيف كان، فمن المحتمل أن يكون مفاد الرّواية قاعدة اليقين، فلو علمنا بأنّ زيداً كان يوم الجمعة عادلاً، ثمّ شككنا في مستند ذلك العلم، يلزم عدم الاعتناء بهذا الشّكّ والبناء على ذلك العلم، ومن المحتمل أن يكون مفادها الاستصحاب، فإن علمنا أنّ زيداً كان عادلاً يوم الجمعة، ثمّ شككنا في بقاء

ص: 62


1- فرائد الأصول 3: 68.
2- الخصال: 619، مع اختلاف يسير؛ وسائل الشيعة 1: 246.
3- الإرشاد 1: 302؛ مستدرك الوسائل 1: 228.

وهو وإن كان يحتمل قاعدة اليقين؛ - لظهوره في اختلاف زمان الوصفين، وإنّما يكون ذلك في القاعدة دون الاستصحاب؛ ضرورة إمكان اتحاد زمانهما - ، إلّا أنّ المتداول في التعبير عن مورده هو مثل هذه العبارة،

___________________________________________

عدالته يوم السّبت، يلزم عدم الاعتناء بهذا الشّكّ والحكم ببقاء عدالته.

والفرق بين القاعدتين - كما تقدّم - أنّ في قاعدة اليقين يختلف زمان نفس الوصفين - أي: اليقين والشّكّ مع اتحاد متعلّقهما، فإنّ المتعلّق في المقام عدالةزيد يوم الجمعة، لكن علمنا بها يوم الجمعة وشككنا فيها يوم السّبت، وإنّ في الاستصحاب يختلف المتعلّق وإن اتحد الزمان، فإنّ متعلّق اليقين عدالة زيد يوم الجمعة ومتعلّق الشّكّ عدالة زيد يوم السّبت. أمّا زمان الشّكّ واليقين فيمكن اقترانهما ويمكن تقدّم كلّ منهما على الآخر.

إذا عرفت هذا قلنا: {وهو} أي: هذا الحديث {وإن كان يحتمل قاعدة اليقين لظهوره في اختلاف زمان الوصفين} أي: الشّكّ واليقين؛ لأنّه قال: «من كان على يقين فشكّ» ممّا ظاهره أنّ زمان الشّكّ بعد زمان اليقين {وإنّما يكون ذلك} الاختلاف في زمان الوصفين {في القاعدة} أي: قاعدة اليقين {دون الاستصحاب} فإنّ الاستصحاب لا يحتاج إلى اختلاف زمان الوصفين، فيمكن تقدّم الشّكّ على اليقين، كما لو شكّ في أنّ زيداً هل هو عادل الآن أم لا، ثمّ تيقّن أنّه كان عادلاً يوم أمس، كما يمكن العكس، ويمكن اتحاد زمانيهما، كما لو تيقّن الآن في عدالة زيد أمس وشكّ في عدالته الآن.

وإلى هذا أشار بقوله: {ضرورة إمكان اتحاد زمانهما} أي: زمان اليقين والشّكّ في باب الاستصحاب، فلا يعبّر عنه بمثل «من كان على يقين فشكّ» ممّا ظاهره تأخّر الشّكّ عن اليقين {إلّا} أنّ الظاهر مع ذلك إرادة الاستصحاب من الرّواية ل- {أنّ المتداول في التعبير عن مورده} أي: مورد الاستصحاب {هو مثل هذه العبارة} ولذا لا يكاد يشكّ أحد في أنّ من يسأل المفتي «إنّي كنت على يقين من طهارتي

ص: 63

ولعلّه بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين، وسرايته إلى الوصفين، لما بين اليقين والمتيقّن من نحو من الاتحاد، فافهم.

هذا مع وضوح أنّ قوله: «فإنّ الشّكّ لا ينقض» الخ، هي القضيّة المرتكزة الواردةمورد الاستصحاب في غير واحد من أخبار الباب.

ومنها: خبر الصّفّار عن عليّ بن محمّد القاساني. قال: كتبتُ إليه - وأنا بالمدينة - عن اليوم الّذي يشكّ فيه من رمضان،

___________________________________________

فشككت» يكون مراده مورد الاستصحاب لا قاعدة اليقين.

{ولعلّه} إنّما عبّر بقوله: «فشكّ» بالفاء {بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين} فإنّ الموصوف بالعدالة زيد يوم الجمعة والموصوف بالشكّ في عدالته زيد يوم السّبت {وسرايته} أي: سراية الاختلاف {إلى الوصفين} فاليقين بالعدالة يوم الجمعة سابق على الشّكّ في العدالة كما هو الغالب، وإنّما يسري اختلاف زمان الموصوفين إلى زمان الوصفين - في باب الاستصحاب - مع أنّه لا ضرورة إلى اختلاف زمان الوصفين {لما بين اليقين} الّذي هو الوصف {والمتيقّن} الّذي هو الموصوف {من نحو من الاتحاد} والوحدة.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ هذا التعليل لا يخرج «الفاء» عن ظاهره الّذي هو ترتّب الزمان بين اليقين والشّكّ الّذي هو معيار قاعدة اليقين.

{هذا} تقريب كون المراد من الرّواية قاعدة الاستصحاب {مع وضوح أنّ قوله: «فإنّ الشّكّ لا ينقض» الخ، هي القضيّة المرتكزة الواردة} في {مورد الاستصحاب في غير واحد من أخبار الباب} وهذا قرينة على إرادته من العبارة لا إرادة القاعدة.

[مكاتبة القاساني]

{ومنها} أي: من الأخبار الدالّة على الاستصحاب {خبر الصّفّار، عن عليّ بن محمّد القاساني قال: كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الّذي يشكّ فيه من رمضان}

ص: 64

هل يُصامُ أم لا؟ فكتب(علیه السلام): «اليقين لا يدخل فيه الشّكّ، صُم للرؤية وافطر للرؤية»(1).

حيث دلّ على أنّ اليقين بشعبان لا يكون مدخولاً بالشكّ في بقائه وزواله بدخول شهر رمضان، ويتفرّع عليه عدم وجوب الصّوم إلّا بدخول شهر رمضان.

وربّما يقال: إنّ مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشّكّ

___________________________________________

وهذا وإن كان محتملاً لكون الشّكّ لاحتمال كونه من شوّال، بأن كان الشّكّ في آخر الشّهر لا أوّله، إلّا أنّ المتبادر هو الأوّل {هل يصام أم لا؟ فكتب(علیه السلام): «اليقين لا يدخل فيه الشّكّ، صُمْ للرّؤية وأَفْطِر للرّؤية»}.

ووجه الاستدلال أنّ الإمام(علیه السلام) بيّن عدم دخول الشّكّ في اليقين بمعنى بقاء اليقين وأنّه لا يرفعه الشّكّ {حيث دلّ على أنّ اليقين بشعبان لا يكون} هذا اليقين {مدخولاً بالشكّ في بقائه و} في {زواله بدخول شهر رمضان} فيستصحب بقاء شهر شعبان حتّى يتيقّن بدخول شهر رمضان.

{ويتفرّع عليه عدم وجوب الصّوم} في يوم الشّكّ {إلّا} إذا علم {بدخول شهر رمضان} فقوله: «اليقين لا يدخل فيهالشّكّ» قاعدة كليّة يتفرّع عليها عدم الصّوم إلّا باليقين.

{وربّما يقال}: بأنّ هذا الخبر لا يدلّ على الاستصحاب، فليس اليقين المذكور في الخبر يراد به اليقين السّابق، بل المراد به اليقين بفريضة الصّوم، أي: فريضة الصّوم المتيقّنة لا يدخلها صوم مشكوك، ف- {إنّ مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشّكّ} كرواية الخزّاز: «شهر رمضان فريضة من فرائض اللّه - تعالى - فلا تؤدوا بالتظنّي»(2)، ورواية إسحاق: «صُمْ للرّؤية وأَفْطِرْ للرؤية، وإيّاك والشّكّ والظنّ»(3)،

ص: 65


1- وسائل الشيعة 10: 255.
2- تهذيب الأحكام 4: 160.
3- تهذيب الأحكام 4: 158؛ الاستبصار 2: 64.

يُشرف على القطع بأنّ المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان، وأنّه لا بدّ في وجوب الصّوم ووجوب الإفطار من اليقين بدخول شهر رمضان وبخروجه، وأين هذا من الاستصحاب؟ فراجع ما عُقِدَ في الوسائل لذلك من الباب تجده شاهداً عليه.

ومنها: قوله(علیه السلام):

___________________________________________

ورواية ابن مسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فَأَفْطِروا، وليس بالرأي، ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية»(1)، إلى غيرها {يشرف على القطع بأنّ المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان وأنّه لا بدّ في وجوب الصّوم} في أوّله {ووجوب الإفطار} في آخره {من اليقين بدخول شهر رمضان و} اليقين {بخروجه، وأين هذا} المعنى {من الاستصحاب؟ فراجع ما عقد في الوسائل لذلك من الباب تجده شاهداً عليه}.لكن قد يقال: بأنّه خلاف ظاهر الحديث، ولا منافاة بين الأمرين، بأن يكون الاستصحاب ومقتضى الدليل الخاصّ عدم الدخول في الصّوم إلّا بالعلم الحاصل من الرّؤية ونحوها، وخصوصاً مثل هذه القضيّة مذكورة في أخبار الوضوء والصّلاة ممّا يكون المرتكز منها الاستصحاب.

[أخبار الحلية والطهارة]

{ومنها} أي: من الأخبار الدالّة على الاستصحاب {قوله(علیه السلام)} أي: قول الصّادق(علیه السلام) في موثّقة عمّار: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك»(2)،

وقوله(علیه السلام) في خبر حمّاد: «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر»(3)،

وقوله(علیه

السلام) في خبر مسعدة: «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه»(4)،

هذه هي نصوص الأخبار، وأمّا ما ذكره

ص: 66


1- تهذيب الأحكام 4: 156.
2- تهذيب الأحكام 1: 285.
3- تهذيب الأحكام 1: 215؛ الكافي 3: 1.
4- تهذيب الأحكام 7: 226.

«كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، وقوله: «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه نجس»، وقوله: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام».

وتقريب دلالة مثل هذه الأخبار على الاستصحاب أن يقال: إنّ الغاية فيها إنّما هو لبيان استمرار ما حكم على الموضوع واقعاً - من الطّهارة والحليّة - ظاهراً، ما لم يعلم بطروّ ضدّه

___________________________________________

المصنّف(رحمة الله) بقوله: {«كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، وقوله: «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه نجس»، وقوله: «كلّ شيء حلال حتّىتعرف أنّه حرام»} فكأنّه نقل بالمعنى، إذ المهمّ بيان مفادها لا خصوصيّة ألفاظها.

ثمّ إنّه قد اختلف في المستفاد من هذه الأخبار، وقد يقال باستفادة ثلاث قواعد منها:

الأُولى: كون كلّ شيء طاهراً وحلالاً واقعاً.

الثّانية: كون كلّ شيء طاهراً وحلالاً ظاهراً، أي: ما شكّ في حليّته وحرمته حلال وما شكّ في طهارته ونجاسته طاهر.

الثّالثة:

الاستصحاب، فكلّ مشكوك حليّته وحرمته وله سابقة الحليّة تستصحب حليّته، وكلّ مشكوك طهارته ونجاسته وله سابقة الطّهارة تستصحب طهارته.

والمصنّف قد اختلف كلامه، ففي بعض كلامه لم يستبعد استفادة الأُمور الثلاثة من الرّواية، لكن هنا استقرب استفادة أمرين فقط الحليّة والطّهارة الواقعيّة واستصحابهما، وأنكر استفادة قاعدتي الطّهارة والحليّة منها.

قال: {وتقريب دلالة مثل هذه الأخبار على الاستصحاب أن يقال: إنّ الغاية فيها} وهي قوله: «حتّى تعلم» و«حتّى تعرف» {إنّما هو لبيان استمرار ما حكم على الموضوع} وهو «كلّ شيء» {واقعاً} أي: حكماً واقعيّاً {من الطّهارة والحليّة} بيان «ما» أي: إنّ الطّهارة والحليّة الواقعيّة مستمرّة {ظاهراً ما لم يعلم بطروّ ضدّه}

ص: 67

أو نقيضه، لا لتحديد الموضوع، كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شكّ في طهارته أو حليّته؛ وذلك لظهور المغيّى فيها في بيان الحكم للأشياء بعناوينها، لا بما هي مشكوكة الحكم، كما لا يخفى.

___________________________________________

كالحرمة {أو نقيضه} بأن علم ارتفاع الطّهارة مثلاً، وكأنّه أراد بذلك أنّ الحرمة والحليّة ضدّان؛ لأنّهما أمران وجوديّان لا يمكن اجتماعهما، بخلاف الطّهارة والنّجاسة، فإنّ الطّهارة عند بعض عدم القذارة لا أنّها أمر وجوديّ في قبال القذارة {لا} أن تك--ون الغاية - وه-ي «حتّ-ى تعلم» - {لتحديد الموضوع} حتّى يكون حاصل مفاد هذه الأخبار: كلّ شيء مشكوك طهارته طاهر، وكلّ شيء مشكوك حليّته حلال {كي يكون الحكم بهما} أي: بالطهارة والحليّة {قاعدة مضروبة لما شكّ في طهارته أو} شكّ في {حليّته}.

{وذلك} الّذي قلنا من أنّ الغاية لبيان الاستمرار - فيكون مفادها الاستصحاب - لا لبيان تحديد الموضوع - فيكون مفادها قاعدة الطّهارة والحليّة - {لظهور المغيّى فيها} أي: في هذه الأخبار، والمغيّى هو «حتّى تعلم» {في بيان الحكم للأشياء بعناوينها} الواقعيّة، فقوله: «كلّ شيء - يعني: الحجر والإنسان والشّجر - طاهر» وقوله: «كلّ شيء - يعني الماء والفاكهة والنّبت - حلال» {لا بما هي مشكوكة الحكم} حتّى يكون مفاد الحديثين أنّ كلّ مشكوك الطّهارة طاهر وكلّ مشكوك الحليّة حلال {كما لا يخفى}.

لكن ربّما يقال: بشمول الدليل للقاعدة أيضاً، بتقريب أنّ قوله: «كلّ شيء» له عمومان: عموم أفرادي لكلّ ذات من الذوات، وعموم أحوالي لكلّ حال من الأحوال، ومن المعلوم أنّ من أحوال الشّيء حال الشّكّ، فمعنى «كلّ شيء»: كلّ شيء بعنوانه الأوّلي وكلّ شيء مشكوك، فيثبت بالحديث حليّة الأشياء المشكوكة وطهارتها، فالحديث قد أفاد القاعدة كما أفاد الطّهارة والحليّة الواقعيّتين.

ص: 68

فهو وإن لم يكن له بنفسه مساس بذيلالقاعدة ولا الاستصحاب، إلّا أنّه بغايته دلّ على الاستصحاب؛ حيث إنّها ظاهرة في استمرار ذاك الحكم الواقعي ظاهراً ما لم يعلم بطروّ ضدّه أو نقيضه.

كما أنّه لو صار مُغَيًّى لغاية - مثل الملاقاة للنجاسة أو ما يوجب الحرمة - لدلّ على استمرار ذاك الحكم واقعاً، ولم يكن له حينئذٍ - بنفسه ولا بغايته - دلالة على الاستصحاب.

ولا يخفى: أنّه لا يلزم على ذلك

___________________________________________

وعلى كلّ حال {فهو} أي: الحكم المذكور - وهو الحليّة والطّهارة - {وإن لم يكن له بنفسه} أي: نفس الحكم وهو «كلّ شيء حلال» و «كلّ شيء طاهر» {مساس بذيل القاعدة} أي: بذيل قاعدة الطّهارة وذيل قاعدة الحليّة، وإنّما قال: «بذيل القاعدة» إرادة للطهارة والحليّة، فإنّهما ذيل للقاعدة، فإنّ القاعدة تقول: «كلّ مشكوك حلال» و«طاهر» فالحلال والطّاهر ذيل للقاعدة {ولا} له دلالة على {الاستصحاب إلّا أنّه بغايته} أي: قوله: «حتّى تعلم أنّه حلال» و «حتّى تعرف أنّه قذر» {دلّ على الاستصحاب حيث إنّها} أي: الغاية المقرونة بكلمة «حتّى» {ظاهرة في استمرار ذاك الحكم} بالحليّة والطّهارة {الواقعي ظاهراً} قيد للاستمرار، أي: إنّ ذلك الحكم مستمرّ ظاهراً {ما لم يعلم بطروّ ضدّه} أي: الحرمة {أو نقيضه} أي: النّجاسة.

{كما أنّه} أي: الحكم بالطهارة والحليّة {لو صار مُغَيًّى لغاية - مثل الملاقاة للنجاسة أو ما يوجب الحرمة -} كما لو قال: (كلّ شيء طاهر حتّى يلاقي النّجس) و (كلّ شيء حلال حتّى يعرض له ما يسبّب الحرمة) {لدلّ على استمرار ذاك الحكم} بالطهارة والحليّة {واقعاً ولميكن له حينئذٍ بنفسه ولا بغايته دلالة على الاستصحاب} أمّا بنفسه فواضح، وأمّا بغايته؛ لأنّه لم يجرّ الحكم في زمان الجهل إلى العلم، بل جرّه إلى زمان الملاقاة والانقلاب إلى الحرام.

{ولا يخفى أنّه لا يلزم على ذلك} الّذي ذكرنا من كون صدر الحديث يدلّ على

ص: 69

استعمال اللفظ في معنيين أصلاً، وإنّما يلزم لو جعلت الغاية - مع كونها من حدود الموضوع وقيوده - غاية لاستمرار حكمه، ليدلّ على القاعدة والاستصحاب، من غير تعرّض لبيان الحكم الواقعي للأشياء أصلاً، مع وضوح ظهور مثل: «كلّ شيء حلال» أو «طاهر»، في أنّه لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأوّليّة،

___________________________________________

الحكم الواقعي وذيله على الاستصحاب {استعمال اللفظ في معنيين أصلاً} خلافاً لما لو أُريد القاعدة والاستصحاب، كما قال الشّيخ(رحمة الله) بما لفظه: «نعم، إرادة القاعدة والاستصحاب معاً يوجب استعمال اللفظ في معنيين - أي: القاعدة والاستصحاب - لما عرفت من أنّ المقصود في القاعدة مجرّد إثبات الطّهارة في المشكوك، وفي الاستصحاب خصوص إبقائها في معلوم الطّهارة سابقاً، والجامع بينهما غير موجود، فيلزم ما ذكرناه»(1)،

انتهى.

{وإنّما يلزم} استعمال اللفظ في معنيين {لو جعلت الغاية} وهو «حتّى تعلم» {مع كونها من حدود الموضوع وقيوده غاية لاستمرار حكمه} حتّى يكون المعنى: كلّ شيء مشكوك الطّهارة طاهر وكلّ شيء مشكوك الحليّة حلال،ثمّ إنّ هذه الطّهارة والحليّة مستمرّتان إلى زمان العلم {ليدلّ} الحديث {على القاعدة} أي: قاعدة الطّهارة وقاعدة الحلّ {والاستصحاب} معاً.

وإنّما يلزم استعمال اللفظ في معنيين؛ لأنّ الغاية استعملت في كونها قيداً للموضوع - لتتمّ القاعدة - وفي كونها دالّة على الاستمرار للقاعدتين إلى زمان العلم - ليتمّ الاستصحاب - فيكون الحديث دالّاً عليهما {من غير تعرّض لبيان الحكم الواقعي للأشياء أصلاً} وأنّ كلّ شيء حلال واقعاً وكلّ شيء طاهر واقعاً؛ لأنّه كان بصدد بيان حكم مشكوك الطّهارة ومشكوك الحليّة {مع وضوح} أنّ ذلك باطل، ل- {ظهور مثل: «كلّ شيء حلال» أو «طاهر» في أنّه لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأوليّة}

ص: 70


1- فرائد الأصول 3: 74.

وهكذا: «الماء كلّه طاهر»، وظهور الغاية في كونها حدّاً للحكم لا لموضوعه، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

ولا يذهب عليك: أنّه بضميمة عدم القول بالفصل - قطعاً - بين الحلّيّة والطّهارة وبين سائر الأحكام، لعمّ الدليل وتمّ.

ثمّ لا يخفى: أنّ ذيل موثّقة عمّار: «فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك»(1)

يؤيّد ما استظهرنا منها، من كون

___________________________________________

لا بعنوان كونها مشكوكة {وهكذا «الماء كلّه طاهر»} فإنّه ظاهر في كونه حكم الماء بما هو ماء، لا أنّه حكم بما هو مشكوك الطّهارة والنّجاسة.

{و} كذا ل- {ظهور الغاية} وهو «حتّى تعلم» {في كونها حدّاً للحكم} وأنّ هذا الحكم الّذي هو الطّهارة أو الحليّة مستمرّ إلىزمان العلم {لا لموضوعه} حتّى يكون المعنى كلّ شيء مجهول الحكم {كما لا يخفى} فإنّ القيد قد ذكر بعد الحكم لا بعد الموضوع، والظاهر كونه قيداً لما وليه لا لما تقدّم عليه - أي: الموضوع - {فتأمّل جيّداً}.

هذا كلّه تمام وجه دلالة الخبرين «كلّ شيء حلال» و «كلّ شيء طاهر» على الاستصحاب في هذين الموردين، أي: موردي الطّهارة والحليّة.

{ولا يذهب عليك أنّه بضميمة عدم القول بالفصل - قطعاً -} قيد للعدم {بين الحليّة والطّهارة وبين سائر الأحكام} التكليفيّة والوضعيّة {لعمّ الدليل وتمّ} فإنّه لم يقل أحد بأنّ الاستصحاب حجّة في هذين الحكمين دون سائر الأحكام، فإذا ثبتت الحجيّة فيهما بالدليل ثبتت في سائر الأحكام، لكن لقائل أن يقول: إنّ عدم القول بالفصل لا يفيد وإنّما المفيد هو القول بعدم الفصل.

{ثمّ لا يخفى أنّ ذيل موثّقة عمّار} وهو قوله(علیه السلام): {«فإذا علمت فقد قَذِرَ وما لم تعلم فليس عليك» يؤيّد ما استظهرنا منها} أي: من الموثّقة {من كون} صدرها

ص: 71


1- وسائل الشيعة 3: 467.

الحكم المغيّى واقعيّاً ثابتاً للشيء بعنوانه، لا ظاهريّاً ثابتاً له بما هو مشتبه؛ لظهوره في أنّه متفرّع على الغاية وحدها - وأنّه بيان لها وحدها منطوقها ومفهومها - ، لا لها مع المغيّى، كما لا يخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّك إذا حقّقت ما تلونا عليك

___________________________________________

وهو قوله: «كلّ شيء طاهر» بيان لحكم الأشياء بما هي هي لا بما هي مشكوكةحتّى تكون قاعدة الطّهارة، فكون {الحكم المغيّى} أي: كلّ شيء طاهر {واقعيّاً ثابتاً للشيء بعنوانه} أي: إنّه ثابت واقعيّاً بعنوان نفسه {لا ظاهريّاً ثابتاً له بما هو مشتبه} ومشكوك فيه الّذي هو يظهر من الذيل {لظهوره في أنّه متفرّع على الغاية وحدها} وأنّ الغاية هي الّتي أفادت هذين الحكمين {وأنّه} أي: الذيل {بيان لها} أي: للغاية {وحدها} بلا مشاركة المغيّى في إفادته، بل الذيل مجمل من الغاية {منطوقها ومفهومها} إذ قد عرفت أنّ الذيل قد تضمّن حكمين: أحدهما مثبت، وهو قوله: «فإذا علمت فقد قذر»، والآخر منفيّ، وهو قوله: «وما لم تعلم فليس عليك».

وظاهر هذا التفريع كونه تفريعاً على الغاية الّتي هي «حتّى تعلم» فيدلّ ذلك على أنّ الغاية تضمّنت حكمين أيضاً:

أحدهما: مفاد الاستصحاب، الّذي هو استمرار الحكم المثبت في الصّدر.

وثانيهما: انتهاء الاستمرار بالعلم، فيتفرّع على الأوّل الحكم المنفي في الذيل، وعلى الثّاني الحكم المثبت.

ومن هذا يتبيّن أنّ صدر الحديث - وه-و قول-ه: «كلّ شيء طاهر» - حكم واقعيّ للأشياء بما لها من العناوين، لا أنّه ضرب للقاعدة لدى الشّكّ، فإنّ التفريع بيان للغاية وحدها {لا لها مع المغيّى، كما لا يخفى على المتأمّل} حتّى يقال بأنّ المنفي - وهو: ما لم تعلم فليس عليك - بيان للمغيّى.

{ثمّ إنّك إذا حقّقت ما تلونا عليك} من حجيّة الاستصحاب مطلقاً

ص: 72

ممّا هو مفاد الأخبار، فلا حاجة في إطالة الكلام في بيان سائر الأقوال،والنّقض والإبرام في ما ذكر لها من الاستدلال.

ولا بأس بصرفه إلى تحقيق حال الوضع: وأنّه حكم مستقلّ بالجعل - كالتكليف - ، أو منتزع عنه وتابع له في الجعل، أو فيه تفصيل؟ حتّى يظهر حال ما ذكر هاهنا بين التكليف والوضع من التفصيل.

فنقول - وباللّه الاستعانة - :

___________________________________________

{ممّا هو مفاد الأخبار، فلا حاجة في إطالة الكلام في بيان سائر الأقوال} النّافية والمفصّلة {والنّقض والإبرام في ما ذكر لها من الاستدلال}.

[الأحكام الوضعية]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، الأحكام الوضعية

{ولا بأس بصرفه} أي: صرف الكلام {إلى تحقيق حال الوضع} أي: الأحكام الوضعيّة، كالطهارة والملكيّة والزوجيّة من الأحكام الشّرعيّة غير التكليفيّة الخمسة، وهي الواجب والحرام والمكروه والمستحبّ والمباح، فإنّ كلّ حكم ممّا عدا هذه ممّا له ارتباط بالشرع يسمّى حكماً وضعيّاً {وأنّه} أي: الوضع {حكم مستقلّ بالجعل كالتكليف} الّذي لا شكّ أنّه مستقلّ وأنّه لم ينتزع من شيء آخر {أو} أنّ الحكم الوضعي ليس حكماً مستقلّاً في قبال التكليف، بل هو {منتزع عنه} أي: عن التكليف {وتابع له في الجعل أو فيه تفصيل} فبعضه منتزع وبعضه مستقلّ؟ فإنّه لا بأس بصرف عنان الكلام إلى هذا {حتّى يظهر حال ما ذكر هاهنا بين التكليف والوضع من التفصيل} بيان لقوله: «ما ذكر».{فنقول وباللّه الاستعانة}: إنّ الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في بعض الأشياء المرتبطة بالوضع غير المهمّة.

الثّاني: في كونه مجعولاً أم لا؟ وهذا هو المهمّ في المبحث، فنقول:

ص: 73

لا خلاف - كما لا إشكال - في اختلاف التكليف والوضع مفهوماً، واختلافهما في الجملة مورداً؛ لبداهة ما بين مفهوم السّببيّة أو الشّرطيّة، ومفهوم مثل الإيجاب أو الاستحباب من المخالفة والمباينة.

كما لا ينبغي النّزاع في صحّة تقسيم الحكم الشّرعي إلى التكليفي والوضعي؛ بداهة أنّ الحكم وإن لم يصحّ تقسيمه إليهما ببعض معانيه، ولم يكد يصحّ إطلاقه على الوضع، إلّا أنّ صحّة تقسيمه بالبعض الآخر

___________________________________________

{لا خلاف كما لا إشكال في اختلاف التكليف والوضع مفهوماً} فإنّ لكلّ منهما مفهوماً غير مفهوم الآخر، فمفهوم التكليف الأحكام الخمسة، ومفهوم الوضع ما عداها ممّا يرتبط بالشرع {واختلافهما في الجملة مورداً} فمثلاً نقول: (اليد نجسة) و(الإنسان واجب عليه الحجّ) فمورد النّجاسة اليد، ومورد وجوب الحجّ الإنسان، أو نقول: (القلم ملكي) و(شرب الخمر حرام) فالقلم مورد الملكيّة، وفعل الإنسان مورد الحرمة.

وإنّما قلنا بهذين الاختلافين بين التكليف والوضع {لبداهة ما بين مفهوم السّببيّة} كقولنا: (القتل سبب الدية) {أو الشّرطيّة} كقولنا: (الوضوء شرط الصّلاة) {ومفهوم مثل الإيجاب أو الاستحباب} نحو (الصلاة واجبة) و (صوم شهر رجب مستحبّ) {منالمخالفة والمباينة} بيان «ما»، إذ لكلّ من هذين مفهوم خاصّ، بخلاف مثل مفهوم الإيجاب في (الصّلاة واجبة، والصّيام واجب) فإنّه مفهوم واحد.

{كما لا ينبغي النّزاع في صحّة تقسيم الحكم الشّرعي إلى التكليفي والوضعي} فيقال: الحكم الشّرعي إمّا تكليفيّ وإمّا وضعيّ {بداهة أنّ الحكم وإن لم يصحّ تقسيمه إليهما} أي: إلى التكليفي والوضعي {ببعض معانيه، و} ذلك مثل قولهم: هو المجعول اقتضائيّاً أو تخييريّاً، فإنّه {لم يكد يصحّ إطلاقه على الوضع} إذ ليس في الوضع اقتضاء أو تخيير {إلّا أنّ صحّة تقسيمه بالبعض الآخر} أي: ببعض المعاني

ص: 74

إليهما، وصحّة إطلاقه عليه بهذا المعنى، ممّا لا يكاد ينكر، كما لا يخفى. ويشهد به كثرة إطلاق الحكم عليه في كلماتهم، والالتزام بالتجوّز فيه كما ترى.

وكذا لا وقع للنزاع في أنّه محصور في أُمور مخصوصة - كالشرطيّة والسّببيّة والمانعيّة، كما هو المحكي عن العلّامة(1)، أو مع زيادة العلّيّة والعلاميّة،

___________________________________________

الأُخر {إليهما} أي: إلى التكليف والوضع كقولهم: ما أتى به الشّارع، أو ما يؤخذ من الشّارع بما هو شارع، أو المحمولات الشّرعيّة، أو خطاب اللّه المتعلّق بفعل المكلّف {وصحّة إطلاقه} أي: الحكم {عليه} أي: على الوضع{بهذا المعنى ممّا لا يكاد ينكر، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ويشهد به} أي: بأنّه يصحّ تقسيم الحكم إليهما {كثرة إطلاق الحكم عليه} أي: على الوضع {في كلماتهم} وكلّما صحّ الإطلاق صحّ التقسيم، ألا ترى أنّ الإنسان لا يطلق على الحجر فلا يصحّ تقسيمه إليه وإلى غيره، لكنّه حيث يطلق على الأحمر يصحّ تقسيمه إلى الأحمر والأبيض {والالتزام بالتجوّز فيه} أي: في هذه الإطلاق {كما ترى} فإنّه بالإضافة إلى أنّه لا وجه له لا داعي إليه.

{وكذا لا وقع للنزاع في أنّه} أي: الحكم الوضعي {محصور في أُمور مخصوصة كالشرطيّة والسّببيّة والمانعيّة} وهو ما يلزم من وجوده العدم كالضحك المانع عن الصّلاة {كما هو المحكي عن العلّامة} وغيره {أو مع زيادة العلّيّة} ككون القتل علّة للدية، ويحتمل أن يكون الفرق بينها وبين السّببيّة: أنّ العلّة ما هو بالاختيار والسّبب ما ليس بالاختيار، كدخول الوقت لوجوب الصّلاة، وإلّا فلا وجه للفرق، كما لا يخفى {والعلامية} أي: كون شيء علامة لشيء، ككون انقضاء العدّة علامة لبراءة الرّحم، وهذه الزيادة محكية عن الشّهيد(رحمة الله)(2)

ص: 75


1- تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 50.
2- تمهيد القواعد: 37.

أو مع زيادة الصّحّة والبطلان، والعزيمة والرّخصة، أو زيادة غير ذلك، كما هو المحكي عن غيره(1)

- أو ليس بمحصور، بل كلّ ما ليس بتكليف ممّا له دخل فيه، أو في متعلّقه وموضوعه، أو لميكن له دخل ممّا أُطلق عليه الحكم في كلماتهم؛ ضرورة أنّة لا وجه للتخصيص بها بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها،

___________________________________________

{أو مع زيادة الصّحّة والبطلان والعزيمة والرّخصة} فالصّلاة في السّاتر النّجس باطلة وفي السّاتر الطّاهر صحيحة، والقصر عزيمة في غير الأماكن الأربعة وفيها رخصة، وهذه الزيادة محكية عن الآمدي {أو زيادة غير ذلك} كزيادة التقدير، أي: فرض شيء مكان شيء نحو تنزيل المقتول منزلة الحيّ في كونه مالكاً للدية، وزيادة الحجج وهي الّتي يستند إليها القضاة من بيّنة ويمين ونحوهما {كما هو المحكي عن غيره} وهو صلاح الدّين(2)

{أو} أنّ الحكم الوضعي {ليس بمحصور} في هذه الأشياء {بل كلّ ما ليس بتكليف} وهو الخمس فقط {ممّا له دخل فيه} كالزوجيّة الّتي لها دخل في جواز النّظر ووجوب النّفقة {أو في متعلّقه} أي: في متعلّق التّكليف كالجزئيّة للمأمور به، فإنّ المأمور به متعلّق التكليف والجزئيّة دخيل فيه {وموضوعه} عطف بيان ل-«متعلّقه» {أو لم يكن له دخل} في التكليف أصلاً - ومثّلوا له بالوكالة(3) - لكن الأُولى المثال بنجاسة خارجة عن محلّ الابتلاء إطلاقاً أو نحوها، إذ الوكالة موجبة لإباحة التصرّف في متعلّق الوكالة، كما لا يخفى {ممّا أُطلق عليه الحكم في كلماتهم}.

وإنّما قلنا بأنّه غير محصور ل- {ضرورة أنّه لا وجهللتخصيص بها} أي: بالمذكورات {بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها} أي: غير المذكورات

ص: 76


1- الإحكام في أصول الأحكام 1: 137.
2- راجع شرح كفاية الأصول 2: 239؛ حقائق الأصول 2: 433.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 472.

مع أنّه لا تكاد تظهر ثمرة مهمّة علميّة أو عمليّة للنزاع في ذلك.

وإنّما المهمّ في النّزاع هو: أنّ الوضع كالتكليف في أنّه مجعول تشريعاً، بحيث يصحّ انتزاعه بمجرّد إنشائه أو غير مجعول كذلك، بل إنّما هو منتزع عن التكليف، ومجعول بتبعه وبجعله؟

والتحقيق: أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء:

منها: ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعاً أصلاً، لا استقلالاً ولا تبعاً، وإن كان

___________________________________________

{مع أنّه لا تكاد تظهر ثمرة مهمّة علميّة أو عمليّة للنزاع في ذلك} وأنّه محصور أو غير محصور {وإنّما المهمّ في النّزاع هو أنّ الوضع كالتكليف في أنّه مجعول تشريعاً بحيث يصحّ انتزاعه بمجرّد إنشائه} فلو قال: (هذا ملك) أو (هذه زوجة) صحّ انتزاع الملكيّة أو الزوجيّة من مجرّد هذا الجعل {أو غير مجعول كذلك} تشريعاً {بل إنّما هو} أي: الوضع {منتزع عن التكليف} فلو أباح التصرّف أو الوطي انتزع الملك والزوجيّة {ومجعول بتبعه وبجعله} أي: بتبع التكليف حتّى أنّه لو لم يكن هناك تكليف لم يصحّ جعل الوضع إطلاقاً؟

{والتحقيق} لدى المصنّف(رحمة الله) {أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء} ثلاثة:الأوّل: ما يستحيل جعله مطلقاً لا استقلالاً ولا تبعاً.

الثّاني: ما يستحيل جعله استقلالاً.

الثّالث: ما يمكن جعله مطلقاً استقلالاً وتبعاً.

ف- {منها} وهو القسم الأوّل {ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعاً أصلاً} أي: إطلاقاً {لا استقلالاً} بأن يجعله الشّارع ابتداءً {ولا تبعاً} بأن يجعل شيئاً آخر، فينجعل هذا بتبع ذاك، كما يقال: (إنّ الزوجيّة مجعولة تكويناً تبعاً) بمعنى: أنّ المكوّن يوجد الأربعة فتوجد الزوجيّة بتبعها {وإن كان} هذا القسم من الوضع

ص: 77

مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك.

ومنها: ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل التشريعي إلّا تبعاً للتكليف.

ومنها: ما يمكن فيه الجعل استقلالاً - بإنشائه - وتبعاً للتكليف - بكونه منشأ لانتزاعه - ،

___________________________________________

وهو ما لا تناله يد التشريع إطلاقاً {مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك} أي: تكويناً.

فمثلاً: كون الدّلوك سبباً لوجوب الصّلاة ليس بجعل تشريعيّ استقلاليّ ولا تبعي، وإنّما هو لأنّ الشّارع كوّن وأوجد فيه خصوصيّة سبّبت تلك الخصوصيّة المجعولة فيه تكويناً أن يكون له سببيّة لوجوب الصّلاة، فهو مجعول تكويني عرضيّ تبعاً لجعل موضوعه.

{ومنها} وهو القسم الثّاني {ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل التشريعي إلّا تبعاً للتكليف} فهي غير قابلة للجعل الاستقلالي التشريعي، وإنّما يجعل تشريعاً منشأ انتزاعهفينتزع منه هذا الحكم الوضعي تبعاً.

فمثلاً: كون السّورة جزءاً للصلاة ليس قابلاً للجعل التشريعي ابتداءً، وإنّما يكون توجّه الأمر التشريعي إلى هذا المركّب، من السّورة وغيرها، بجعل الوجوب على الصّلاة سبباً لانتزاع الجعل للسورة جزءاً - أي: جعل الجزئيّة للسورة إنّما هو بالتبع لا بالاستقلال - فلولا الأمر بالصلاة لم يكن جعل لجزئيّة السّورة.

{ومنها} وهو القسم الثّالث {ما يمكن فيه الجعل استقلالاً بإنشائه} بأن ينشأ هو بذاته {و} يمكن فيه الجعل {تبعاً للتكليف} وذلك {بكونه} أي: التكليف {منشأً لانتزاعه} كالزوجيّة الّتي يصحّ جعلها ابتداءً بأن يحكم الشّارع بأنّ هذه زوجة ذاك، كما يمكن جعلها تبعاً بأن يبيح النّظر والوطي ويوجب النّفقة والإرث

ص: 78

وإن كان الصّحيح انتزاعه من إنشائه وجعله، وكون التكليف من آثاره وأحكامه، على ما تأتي الإشارة إليه.

أمّا النّحو الأوّل: فهو كالسببيّة والشّرطيّة والمانعيّة والرّافعيّة لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه؛

حيث إنّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخّر عنها ذاتاً

___________________________________________

والإطاعة، فينتزع منها الزوجيّة {وإن كان الصّحيح} في هذا القسم {انتزاعه من إنشائه} استقلالاً، فقد أنشأ الشّارع الزوجيّة ابتداءً {و} من {جعله} استقلالاً {وكون التكليف من آثاره وأحكامه} «وكون» عطف على «انتزاعه»، فهو بمنزلة خبر«إن كان»، أي: أنّ الصّحيح أنّ التكليف بجواز النّظر ووجوب النّفقة وغيرهما إنّما هو من آثار جعل الزوجيّة استقلالاً {على ما يأتي الإشارة إليه} إن شاء اللّه - تعالى - .

إذا عرفت إجمال الأقسام فنقول في تفصيلها: {أمّا النّحو الأوّل} وهو ما لا يتطرّق إليه الجعل إطلاقاً {فهو كالسببيّة} للدلوك {والشّرطيّة} كالعقل الّذي هو شرط للتكليف {والمانعيّة} كالحيض مثلاً {والرّافعيّة} للنسيان في ما يرفع به التكليف {لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه} كالأمثلة المتقدّمة.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) استدلّ لعدم كونها مجعولة تبعاً، ولعدم كونها مجعولة استقلالاً: أمّا عدم كونها مجعولة تبعاً {حيث إنّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين} الأربعة {لها} أي: لهذه الأُمور، أي: لا ينتزع الشّرطيّة للشرط والرّافعيّة للرافع وهكذا {من التكليف المتأخّر عنها ذاتاً} فإنّه لو قيل - مثلاً - بأنّ سببيّة الدلوك لوجوب الصّلاة منتزعة عن وجوب الصّلاة لزم تأخّر السّبب عن المسبّب، وذلك محال فالانتزاع محال.

والدليل على الملازمة: أنّه لو كان وصف السّببيّة منتزعاً من المسبّب كان

ص: 79

- حدوثاً وارتفاعاً - ، كما أنّ اتصافها بها ليس إلّا لأجل

___________________________________________

متأخّراً عنه، إذ يلزم تقدّم منشأ الانتزاع على وصف الانتزاع، فيلزم تأخّر ذات السّبب بوصف كونه سبباً عن المسبّب، وهو محال لفرض كونه السّبب فيلزم تقدّمه. وقوله: {حدوثاً وارتفاعاً} تمييزان لقوله: «المتأخّر».قال المشكيني: «الأوّل: أي: قوله: حدوثاً - في الشّرطيّة والسّببيّة والمانعيّة: أمّا الأوّلان فواضح لتأخّر التكليف عنهما ممّا تقدّم، وأمّا الأخير فلأنّ المانعيّة متقدّمة على عدم التكليف، فتكون متقدّمة على نفس التكليف - أيضاً - حفظاً لاتحاد مرتبة النّقيضين، فيكون التكليف متأخّراً عن المانعيّة. والثّاني: أي: قوله: ارتفاعاً - في الرّافعيّة؛ لأنّها متقدّمة على عدم التكليف بقاءً، فتكون متقدّمة على بقائه، لما تقدّم، فيكون التكليف في البقاء متأخّراً عن الرّافعيّة»(1)، انتهى.

هذا دليل لعدم كون هذه الأربعة مجعولة تبعاً، وأمّا الدليل على عدم كونها مجعولة استقلالاً فقد استدلّ له بقوله: {كما أنّ اتّصافها} أي: السّبب والشّرط والمانع والرّافع {بها} أي: بالسّببيّة والشّرطيّة والمانعيّة والرّافعيّة {ليس إلّا لأجل} أنّ في هذه الذوات خصوصيّة تلك الخصوصيّة تسبّب هذه الآثار وتلك الخصوصيّة تكوينيّة لا جعليّة تشريعيّة: أمّا أنّ في هذه الذوات خصوصيّة؛ فلأنّه إن لم تكن بها خصوصيّة لم يكن جعل الدلوك سبباً للوجوب أولى من جعل الضّحى سبباً ولم يكن جعل العقل شرطاً أولى من جعل السّنّ الكذائي - مثلاً - .

وهذا هو الّذي بيّنه أهل المعقول من أنّه يجب أن يكون بين الفاعل بالجبر وبين المعلول سنخيّة وإلّا لصدر كلّ شيء من كلّ شيء، فلو لم يكن بين النّار وبين الإحراق سنخيّة لزم أن يصدر الإحراق عن الثلج أيضاً، كما يجب أن يصدر الإبراد عن النّار أيضاً، وهذه السّنخيّة هي المعبّر عنها بخصوصيّة في الفاعل

ص: 80


1- راجع كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 474.

ما عليها من الخصوصيّة المستدعية لذلك تكويناً؛ للزوم أن يكون في العلّة بأجزائها

___________________________________________

تقتضي صدور المعلول عنه.

وإنّما قيّدنا ذلك بالفاعل بالجبر؛ لأنّ الفاعل بالاختيار لا يحتاج إلى السّنخيّة، إذ الصّدور إنّما يكون بالإرادة والإرادة تتعلّق بكلّ شيء ممكن. وبناءً على هذه القاعدة يجب أن يكون في الدلوك والعقل والحيض والخطأ خصوصيّة بتلك الخصوصيّة استوجبت هذه الأُمور لأن تكون سبباً وشرطاً ومانعاً ورافعاً، وإلّا فلو لم تكن خصوصيّة وكان بصرف ذواتها كان اللّازم إمكان أن يكون الحيض شرطاً والعقل مانعاً، كما لا يخفى.

وأمّا أنّ تلك الخصوصيّة الكامنة في هذه الذوات الّتي سبّبت هذه الآثار لهذه الذوات تكوينيّة لا جعليّة؛ فلأنّ الجعل التشريعي لا يعطي الفاقد ما يتمكّن به من التأثير، فلو لم يكن في الدلوك ما يسبّب كونه سبباً لا يمكن أن يتحصّل عليه بمجرّد الإنشاء. ألا ترى أنّ الماء الفاقد ذاتاً لخصوصيّة الإحراق لا يمكن إعطاء هذه الخصوصيّة له بمجرّد الإنشاء التشريعي، بأن يقول المولى: (جعلت الماء محرقاً)، وعلى هذا فالخصوصيّة الموجودة في السّبب والشّرط والمانع والرّافع ممّا أهّلها لهذه التأثيرات التكوينيّة ليست قابلة للجعل استقلالاً، فاتصاف الذوات بهذه الخصوصيّات إنّما هو لأجل {ما عليها} هذه الذوات {من الخصوصيّة المستدعية} تلك الخصوصيّة {لذلك} أي: لهذا النّحو من التأثير {تكويناً} كخصوصيّة النّار للإحراق تكويناً.

وإنّما قلنا بأنّ الخصوصيّة لا تنالها يد التشريع {للزوم أن يكون في العلّة} سواء كان علّة الإيجاب كالسبب والشّرط أم علّة السّلب كالمانع والرّافع {بأجزائها} أي: بأجزاء العلّة من المعدّ والمانع والشّرط ونحوها، أو بأجزاء العلّة

ص: 81

ربط خاصّ، به كانت مؤثّراً في معلولها،لا في غيره، ولا غيرها فيه، وإلّا لزم أن يكون كلّ شيء مؤثّراً في كلّ شيء.

وتلك الخصوصيّة لا تكاد توجد فيها بمجرّد إنشاء مفاهيم العناوين، وبمثل قول: (دلوك الشّمس سبب لوجوب الصّلاة)، إنشاءً لا إخباراً؛ ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السّببيّة له، من كونه واجداً لخصوصيّة مقتضية لوجوبها، أو فاقاً لها،

___________________________________________

إذا كانت ذات أجزاء كالمعاجين المركّبة المؤثّرة لبعض الآثار {ربط خاصّ به} أي: بسبب ذلك الرّبط الخاصّ {كانت} العلّة {مؤثّراً في معلولها} والأحسن أن يقول: «مؤثّرة» {لا في غيره} أي: في غير المعلول - كالتبريد - فالنار فيها خصوصيّة بها تؤثّر في الإحراق {ولا غيرها} أي: غير العلّة - كالماء مثلاً - {فيه} أي: في هذا المعلول {وإلّا} فلو لم يلزم ربط خاصّ بين العلّة والمعلول {لزم أن يكون كلّ شيء مؤثّراً في كلّ شيء} إذ لا وجه لاختصاص بعض المؤثّرات ببعض الآثار، فيؤثّر الماء والنّار في كلّ واحد من الإحراق والتبريد ويؤثّر النّور في الإضاءة والإظلام وهكذا.

{وتلك الخصوصيّة} الرّابطة بين العلّة والمعلول {لا تكاد توجد فيها} أي: في العلّة {بمجرّد إنشاء مفاهيم العناوين وبمثل قول: (دلوك الشّمس سبب لوجوب الصّلاة} والعقل شرط لوجوبها، والحيض مانع) وهكذا إذا كان مجرّد هذا القول {إنشاءً لا إخباراً} بأن لا يكون مثل: (النّار محرقة)، فإنّه إخبار صحيح؛ لأنّه إعلام عن وجود الخصوصيّة، أمّا الإنشاء فلا يوجب أن يكون ذلك الشّيء واجداً للخصوصيّة إذا كان فاقداً لها تكويناً{ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السّببيّة له} أي: للدلوك، وبيّن قوله: «ما هو عليه» بقوله: {من كونه} أي: الدلوك {واجداً لخصوصيّة مقتضية لوجوبها} أي: وجوب الصّلاة {أو فاقداً لها}

ص: 82

وأنّ الصّلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها، ومعه تكون واجبة لا محالة، وإن لم ينشئ السّببيّة للدلوك أصلاً.

ومنه انقدح أيضاً: عدم صحّة انتزاع السّببيّة له حقيقة من إيجاب الصّلاة عنده؛ لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة.

نعم، لا بأس باتصافه بها عناية،

___________________________________________

أي: لتلك الخصوصيّة {وأنّ الصّلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما} أي: خصوصيّة في الدلوك {يدعو إلى وجوبها} أي: وجوب الصّلاة {ومعه} أي: مع وجود «ما يدعو» أي: تلك الخصوصيّة في الدلوك {تكون} الصّلاة {واجبة لا محالة} عند دلوك الشّمس {وإن لم ينشئ السّببيّة للدلوك أصلاً} فهو بعينه كالنار والإحراق، فإن كانت الخصوصيّة تسبّب الإحراق أحرقت ولو لم ينشئ المشرع الإحراق لها، بأن لم يقل: النّار تحرق، وإن لم تكن فيها تلك الخصوصيّة لم تحرق وإن أنشأ المشرع لها بأن قال: (النّار تحرق) - كما لو أنشأ الإحراق للثلج - .

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من أنّ الإنشاء لفاقد الخصوصيّة لا يفيد {انقدح أيضاً} أي: كما انقدح عدم صحّة تسميته سبباً {عدم صحّة انتزاع السّببيّة له حقيقةً من إيجابالصّلاة عنده، لعدم اتّصافه} أي: اتّصاف هذا الشّيء الّذي وجبت الصّلاة عنده {بها} أي: بالسببيّه - إذا كان فاقداً للخصوصيّة - {بذلك} أي: بإيجاب الصّلاة عنده {ضرورة} لما عرفت.

{نعم} لو لم يكن للدلوك خصوصيّة توجب إيجاب الصّلاة ثمّ رأينا الشّارع أنشأ إيجاب الصّلاة عنده، بأن قال: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ}(1) {لا بأس باتصافه} أي: ذلك المنشأ عنده - كالدلوك - {بها} أي: بالسببيّة {عناية} ومجازاً

ص: 83


1- سورة الإسراء، الآية: 78.

وإطلاق السّبب عليه مجازاً. كما لا بأس بأن يعبّر عن إنشاء وجوب الصّلاة عند الدلوك - مثلاً - بأنّه سبب لوجوبها، فكنّي به عن الوجوب عنده.

فظهر بذلك: أنّه لا منشأ لانتزاع السّببيّة - وسائر ما لأجزاء العلّة للتكليف - إلّا عمّا هو عليها من الخصوصيّة الموجبة لدخل كلٍّ فيه على نحوٍ غير دخل الآخر، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

لشبهه لفظاً بالسبب الحقيقي {و} يصحّ حينئذٍ {إطلاق السّبب عليه مجازاً، كما لا} يخفى.

فإن قلت: إذا لم تكن السّببيّة قابلة للجعل - كما ذكرتم - فلماذا نرى في بعض الأخبار قوله: (إنّ الشّيء الفلاني سبب للحكم الكذائي، مثلاً) وهل ظاهر هذا الكلام إلّا أنّ السّببيّة مجعولة؟

قلت: كلّا، فإنّه مجاز، إذ لا {بأس بأن يعبّر عن إنشاء وجوب الصّلاة عند الدلوك - مثلاً - بأنّه سبب لوجوبها} أي: الدلوك سبب لوجوب الصّلاة {فكنّي به}أي: بلفظ «السّبب» {عن الوجوب عنده} لأنّه يشبه السّبب، فكما أنّ السّبب يصاحب المسبّب، كذلك الدلوك يصاحب الوجوب {فظهر بذلك} كلّه {أنّه لا منشأ لانتزاع السّببيّة و} انتزاع {سائر ما لأجزاء العلّة للتكليف} كالشرطيّة وعدم المانع وعدم الرّافع، أي: لا تنتزع هذه الصّفات {إلّا عمّا هو عليها من الخصوصيّة} أي: إلّا عن أشياء فيها خصوصيّات تؤهِّلها لكونها سبباً وشرطاً ومانعاً ورافعاً، فليس الانتزاع بمجرّد التشريع، بل إنّما تنتزع هذه الاعتبارات ممّا فيها خصوصيّات كانت هي {الموجبة لدخل كلّ} من السّبب والشّرط والمانع والرّافع {فيه} أي: في التكليف كالصلاة - مثلاً - {على نحو غير دخل الآخر} فدخل السّبب في الصّلاة على نحو غير نحو دخل الشّرط وهكذا {فتدبّر جيّداً} والإنصاف أنّ في كلام المصنّف مواقع للنظر، كما لا يخفى على من تأمّل،

ص: 84

وأمّا النّحو الثّاني: فهو كالجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة لما هو جزء المكلّف به وشرطه ومانعه وقاطعه؛

___________________________________________

أضربنا عنها لخروجها عن مقصد الشّرح.

{وأمّا النّحو الثّاني} من أنحاء الوضع - وهو ما لا يتطرّق إليه الجعل الاستقلالي ويتطرّق إليه الجعل التبعي - {فهو كالجزئيّة} كجزئيّة الرّكوع للصلاة {والشّرطيّة} كشرطيّة الطّهارة لها {والمانعيّة} كلباس غير المأكول {والقاطعيّة} كالضحك {لما هو جزء المكلّف وشرطه ومانعه وقاطعه} على نحو اللفّ والنّشر المرتّب.

ولا يخفى أنّ الكلام في النّحو الأوّل في السّبب والشّرط والمانع والرّافعللتكليف، وهنا للجزء والشّرط والمانع والقاطع للمكلّف به.

ومن المعلوم أنّ خصوصيّات التكليف غير خصوصيّات المكلّف به، فقولنا: (الصّلاة واجبة) إذا نظرنا إلى الموضوع - وهو: الصّلاة - سمّي ذلك المكلّف به، وإذا نظرنا إلى المحمول - وهو: واجبة - سمّي ذلك التكليف، ومنه يعلم أنّ ذكر المانع في النّحو الأوّل وفي النّحو الثّاني ليس بتكرار، كما ربّما يسبق إلى بعض الأذهان المبتدئة.

وعلى كلٍّ فهذه الأشياء الأربعة قابلة للجعل تبعاً، وليست قابلةً للجعل استقلالاً:

أمّا أنّ هذه الأُمور قابلة للجعل تبعاً، فلأنّه إذا ورد أمر بجملة أُمور تدريجيّة متصلة مقيّدة بوجود شيء وعدم شيء آخر كانت تلك الأُمور أجزاءً وما يقطع هذا الاتصال قاطعاً، وما أخذ وجوده قيداً شرطاً وما أخذ عدمه قيداً مانعاً، فإذا ورد الأمر بالتكبير والقراءة والرّكوع والسّجود بشرط الاتصال مقيّدةً بالطهارة وعدم لبس غير المأكول كانت الأُمور الأربعة - التكبير وأخواتها - أجزاءً، والضّحك المنافي للاتصال قاطعاً، والطّهارة شرطاً، ولباس غير المأكول مانعاً.

ص: 85

حيث إنّ اتصاف شيء بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته أو غيرهما؛ لا يكاد يكون إلّا بالأمر بجملة أُمور مقيّدة بأمر وجودي أو عدمي، ولا يكاد يتصف شيء بذلك - أي: كونه جزءاً أو شرطاً للمأمور به - إلّا بتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل عليه مقيّداً بأمر آخر، وما لم يتعلّق بها الأمر كذلك لما كاد اتصف بالجزئيّة أو الشّرطيّة، وإن أنشأ الشّارع له الجزئيّة أو الشّرطيّة.

و

___________________________________________

وأمّا أنّ هذه الأُمور غير قابلة للجعل استقلالاً؛ فلأنّه لو لم يأمر الشّارع بالصلاة ثمّ قال: (الرّكوع جزء)، أو (الطّهارة شرط) لم يفد قوله هذا في تشريعالجزئيّة والشّرطيّة، إذ لا شيء مأمور به حتّى يكون له جزء وشرط.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) بيّن وجه إمكان الجعل التبعي بقوله: {حيث إنّ اتصاف شيء بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته أو غيرهما} كمانعيّته وقاطعيّته {لا يكاد يكون إلّا بالأمر بجملة أُمور} كالركوع والسّجود والتكبير {مقيّدة بأمر وجودي} كالطهارة {أو عدمي} كالضحك ولبس غير المأكول {ولا يكاد يتصف شيء بذلك - أي: كونه جزءاً أو شرطاً للمأمور به -} أو مانعاً أو قاطعاً له {إلّا بتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل} ذلك الشّيء {عليه} الضّمير يعود إلى «ذلك» {مقيّداً بأمر آخر} هذا للشرط، كما أنّ قوله: «بما يشتمل» للجزء، فالركوع والطّهارة لا يكونان جزءاً وشرطاً إلّا بتبع ملاحظة الأمر بالصلاة المشتملة على الرّكوع المقيّدة بالطهارة.

وبيّن المصنّف عدم إمكان الجعل الاستقلالي بقوله: {وما لم يتعلّق بها} أي: بالأجزاء والشّرائط {الأمر كذلك} أي: في ضمن مركب ذي أجزاء وشروط {لما كاد اتصف بالجزئيّة أو الشّرطيّة وإن أنشأ الشّارع له الجزئيّة أو الشّرطيّة} لما عرفت.

{و} إن قلت: إنّه لا إشكال في أنّ الماهيّات المخترعة - كالصلاة والحجّ - مجعولة للشارع، وذلك الاختراع كافٍ في اعتبار الجزئيّة أو الشّرطيّة لأجزائها

ص: 86

جعل الماهيّة وأجزائها ليس إلّا تصوير ما فيه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها، فتصوّرها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته قبل الأمر بها.

فالجزئيّة للمأمور به أو الشّرطيّة لهإنّما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به، بلا حاجة إلى جعلها له، وبدون الأمر به لا اتصاف بها

___________________________________________

وشرائطها وإن لم يأمر بها الشّارع.

قلت: إنّ معنى اختراع الماهيّات: تصوّرها ولحاظها، ومن المعلوم أنّ تصوّر الصّلاة - مثلاً - بدون أمر بها لا يصحّ أن يسمّى الرّكوع والطّهارة جزءاً وشرطاً للمأمور به.

نعم، يصحّ أن يقول: الرّكوع والطّهارة جزء وشرط لذي المصلحة أو للأمر الذهني المقصود، وذلك غير ما نحن فيه، لبداهة أنّ {جعل الماهيّة وأجزائها} وشرائطها وموانعها وقواطعها {ليس إلّا تصوير ما فيه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها} أي: بتلك الماهيّة {فتصوّرها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها} أي: من تلك الأجزاء والقيود المتصوّرة {بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته قبل الأمر بها} أي: بتلك الماهيّة، فإنّه إذا لم يكن أمر كيف يمكن أن يقال: إنّ هذا جزء أو قيد للمأمور به؟

{فالجزئيّة للمأمور به أو الشّرطيّة له إنّما ينتزع لجزئه} أي: جزء المأمور به {أو شرطه بملاحظة الأمر به} أي: بذلك المأمور به - أي: الماهيّة المتصوّرة - {بلا حاجة إلى جعلها} أي: الجزئيّة والشّرطيّة {له} أي: للمأمور به فلا يحتاج أن يقول المولى: (جعلت الرّكوع جزءاً والطّهارة شرطاً) بل يكفي الأمر بالصلاة المركّبة المقيّدة {وبدون الأمر به} أي: بالمأمور به كالصلاة - مثلاً - {لا اتصاف} للأجزاء والشّرائط المتصوّرة{بها} أي: بالجزئيّة والشّرطيّة للمأمور به

ص: 87

أصلاً، وإن اتصف بالجزئيّة أو الشّرطيّة للمتصور أو لذي المصلحة، كما لا يخفى.

وأمّا النّحو الثّالث: فهو كالحجيّة والقضاوة والولاية والنّيابة والحريّة والرّقيّة والزوجيّة والملكيّة... إلى غير ذلك؛ حيث إنّها وإن كان من الممكن انتزاعها من الأحكام التكليفيّة الّتي تكون في مواردها - كما قيل(1) -

___________________________________________

{أصلاً، وإن اتصف بالجزئيّة أو الشّرطيّة للمتصوّر} بصيغة اسم المفعول {أو} الجزئيّة والشّرطيّة {لذي المصلحة، كما لا يخفى} لكنّه غير محلّ الكلام.

{وأمّا النّحو الثّالث} من أنحاء الحكم الوضعي - وهو الّذي يصحّ جعله استقلالاً ويصحّ جعله تبعاً للتكليف - {فهو كالحجيّة} للخبر الواحد مثلاً.

{والقضاوة} بأن يكون لفرد حقّ فصل الخصومات ويكون أمره نافذاً فيها {والولاية} بأن يكون لأحد حقّ التصرّف في الشّؤون الاجتماعيّة أو في شؤون القصّر والغيّب والأموات.

{والنّيابة} بأن يكون شخص نائباً عن الإمام(علیه السلام) مثلاً، فيجوز له أن يتصرّف في ما لا يجوز لغير الإمام التصرّف فيه من أُمور الحسبة والجهاد وإجراء الحدود {والحريّة} بأن يكون شخص مختاراً في ما يفعل ممّا أباحه الشّرع.

{والرّقيّة} بأن يكون شخص مقيّداً لغيره في جميع الشّؤون باستثناء ماألزمه الشّارع {والزوجيّة} بأن يحلّ لأحد الوطي والنّظر وتجب النّفقة وتجب الإطاعة {والملكيّة} بأن يكون لأحد التصرّف في شيءٍ كما أراد - باستثناء ما حظره الشّارع - {إلى غير ذلك} من الأشياء الّتي من هذا القبيل {حيث إنّها وإن كان من الممكن انتزاعها من الأحكام التكليفيّة الّتي تكون في مواردها - كما قيل -} فتنتزع من وجوب العمل الحجيّة، ومن لزوم الرّجوع إليه في الخصومات ولزوم إطاعة فصله في القضاء وإباحة تصرّفه ونفوذه الولاية وهكذا.

ص: 88


1- فرائد الأصول 3: 126.

ومن جعلها بإنشاء أنفسها، إلّا أنّه لا يكاد يشكّ في صحّة انتزاعها من مجرّد جعله - تعالى - ، أو من بيده الأمر من قبله لها بإنشائها، بحيث يترتّب عليها آثارها، كما تشهد به ضرورة صحّة انتزاع الملكيّة والزوجيّة والطّلاق والعتاق، بمجرّد العقد والإيقاع ممّن بيده الاختيار، بلا ملاحظة التكاليف والآثار. ولو كانت منتزعة عنها لما كاد يصحّ اعتبارها إلّا بملاحظتها،

___________________________________________

{ومن} الممكن {جعلها بإنشاء أنفسها} بأن يقول المولى: جعلته قاضياً ونائباً وزوجة وملكاً وهكذا {إلّا أنّه لا يكاد يشكّ في صحّة انتزاعها} أي: انتزاع هذه الأُمور كالقضاوة والحجيّة، الخ {من مجرّد جعله - تعالى - أو} جعل {من بيده الأمر من قبله} - تعالى - كالنبيّ والإمام أو من عيّنه اللّه - تعالى - لهذه الأُمور، وأعطاه السّلطنة كالمالك والأب بالنسبة إلى عقد الصّغير وهكذا {لها} أي: لهذه الأُمور، والظرف متعلّق بقوله: «جعله» وكيفيّة جعله -سبحانه - لهذه الأُمور إنّما هي {بإنشائها} أي: إنشاء هذه الأُمور {بحيث يترتّب عليها آثارها} فيترتّب على الملك جواز البيع والشّراء، وعلى الزوجيّة جواز الملامسة ووجوب النّفقة وهكذا {كما تشهد به} أي: بما ذكرنا من صحّة انتزاع هذه الأُمور من مجرّد الجعل بلا حاجة إلى توسيط حكم تكليفي {ضرورة} بالرّفع فاعل «تشهد» {صحّة انتزاع الملكيّة والزوجيّة والطّلاق والعتاق بمجرّد العقد} في الأوّلين {والإيقاع} في الأخيرين {ممّن بيده الاختيار} وله السّلطة على إنشائها في نظر الشّارع مالكاً أم وليّاً أم وكيلاً أم مأذوناً أم غيرهم {بلا ملاحظة التكاليف والآثار} المترتّبة على هذه الأُمور فلا يحتاج في صحّة انتزاع الملكيّة أكثر من أن يقول المالك: «بعت» بلا ملاحظة الآثار المترتّبة على المشتري من جواز تصرّفه في الشّيء وهبته ورهنه وبيعه وإيجاره.

{ولو كانت} هذه الأحكام الوضعيّة {منتزعة عنها} أي: عن التكاليف {لما كاد يصحّ اعتبارها} أي: اعتبار هذه الأحكام الوضعيّة {إلّا بملاحظتها} أي: ملاحظة

ص: 89

وللزم أن لا يقع ما قصد، ووقع ما لم يقصد.

كما لا ينبغي أن يشكّ في عدم صحّة انتزاعها عن مجرّد التكليف في موردها، فلا ينتزع الملكيّة عن إباحة التصرّفات، ولا الزوجيّة من جواز الوطي، وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والإيقاعات.

___________________________________________

التكاليف، فإذا أردنا أن ننتزع الملكيّة عن شيء لم يكف ملاحظة قول البائع: «بعت»، بل اللّازم ملاحظة أنّه يجوز للمشتري التصرّف فيه {وللزم} منكون هذه العناوين منتزعة من الآثار لا من إنشائها {أن لا يقع ما قصد ووقع ما لم يقصد} إذ اللّازم أن لا تترتّب هذه العناوين على إنشائها - مع أنّه المقصود - فلم يقع ما قصد، وأن تترتّب الآثار على الإنشاء - مع أنّه ليس بمقصود - فوقع ما لم يقصد.

والحاصل: أنّ غرض القائل «بعت» ترتّب الملك لا ترتّب الآثار، فإذا ترتّبت الآثار على «بعت» دون الملك، فقد وقع ما لم يقصد وقصد ما لم يقع، وذلك محال، إذ الأُمور القصديّة لا بدّ وأن تترتّب على القصد وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلّة.

وقد يستدلّ لكون هذه العناوين ليست منتزعة من الأحكام التكليفيّة وإنّما هي مستقلّة بإنشائها وإنّ الأحكام التكليفيّة مترتّبة عليها، بأنّه لو كانت هذه العناوين من آثار التكليف لزم أن تنتزع الملكيّة من إباحة جميع التصرّفات، فلو أباح زيد لمحمّد جميع التصرّفات في كتابه لزم أن تنتزع الملكيّة لهذا الكتاب بالنسبة إلى محمّد مع أنّه ليس كذلك، إذ لا يسمّى الكتاب ملكاً لمحمّد.

وإلى هذا أشار بقوله: {كما لا ينبغي أن يشكّ في عدم صحّة انتزاعها} أي: هذه العناوين {عن مجرّد التكليف في موردها} أي: في مورد هذه العناوين {فلا ينتزع الملكيّة عن إباحة التصرّفات ولا الزوجيّة من جواز الوطي} ولا الرّقيّة من صحّة الأمر والنّهي {وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والإيقاعات} لكن لا يخفى

ص: 90

فانقدح بذلك: أنّ مثل هذه الاعتبارات إنّما تكون مجعولة بنفسها، يصحّ انتزاعها بمجرّد إنشائها كالتكليف، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه.وهم ودفع:

أمّا الوهم فهو: أنّ الملكيّة كيف جعلت من الاعتبارات الحاصلة بمجرّد الجعل والإنشاء الّتي تكون من خارج المحمول،

___________________________________________

ما في ذلك أيضاً.

وعلى كلّ {فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من كون هذه الأحكام الوضعيّة مجعولة بإنشائها لا أنّها مجعولة تبعاً لإنشاء التكاليف في موردها {أنّ مثل هذه الاعتبارات إنّما تكون مجعولة بنفسها يصحّ انتزاعها بمجرّد إنشائها كالتكليف} الّذي ينشأ بنفسه، فكما ينشئ المولى الوجوب والتحريم كذلك ينشئ الحجيّة والقضاء، و{لا} تكون الأحكام الوضعيّة {مجعولة بتبعه} أي: بتبع التكليف {ومنتزعة عنه} واللّه العالم.

[وهم ودفع]

{وهم ودفع} حاصل الوهم: أنّ الملك من مقولة الجدة الّتي لا تحصل إلّا بأسبابها الخاصّة فهو مثل التعمّم والتقمّص له تأصّل في الخارج، فكيف قلتم بأنّه من الأُمور الجعليّة الّتي توجد بالإنشاء؟ وحاصل الدفع أنّ للملك إطلاقين:

الأوّل: إطلاقه على الجدة، وهذا ليس بمراد هنا.

الثّاني: إطلاقه على اختصاص شيء بشيء الّذي هو من مقولة الإضافة، وهذا هو المراد هنا، فلا ينافي ما ذكرناه هنا ما ذكره أهل المعقول.

{أمّا الوهم: فهو أنّ الملكيّة كيف جعلت} في كلامكم {من الاعتبارات الحاصلة بمجرّد الجعل والإنشاء} حتّى أنّه لو أنشأ الملك من بيده السّلطة تحقّق في الخارج {الّتي تكون} هذه الاعتبارات {من خارجالمحمول} فإنّ المحمول قد

ص: 91

حيث ليس بحذائها في الخارج شيء، وهي إحدى المقولات المحمولات بالضميمة الّتي لا تكاد تكون بهذا السّبب، بل بأسباب أُخر كالتعمّم والتقمّص والتنعّل، فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملك، وأين هذه من الاعتبار الحاصل بمجرّد إنشائه؟

___________________________________________

يكون بإزائه شيء في الخارج فيسمّى المحمول بالضميمة كالسواد والبياض، وقد لا يكون بإزائه شيء في الخارج فيسمّى خارج المحمول، وقد تقدّم في المجلّد الأوّل تفصيله(1)،

وأنّ السّبزواري أشار في منظومته إلى ذلك بقوله:

والخارج المحمول من صميمه

يغاير المحمول بالضميمة(2)

وعلّل كون تلك الاعتبارات من خارج المحمول بقوله: {حيث ليس بحذائها في الخارج شيء و} الحال {هي} أي: الملكيّة {إحدى المقولات المحمولات بالضميمة} وإنّما سمّيت بالمحمولات بالضميمة؛ لأنّها أشياء منضمّة إلى المعروضات، فالسواد - مثلاً - منضمّ إلى الجسم، ولذا يسمّى بالمحمول بالضميمة {الّتي لا تكاد تكون بهذا السّبب} أي: إنّ وجود المحمول بالضميمة لا يكون بالجعل والإنشاء، فكما أنّه لا يمكن إيجاد السّواد بالإنشاء كذلك لا يمكن إيجاد الملك بالإنشاء {بل} تكون وتوجد {بأسباب} تكوينيّة {أُخر كالتعمّم والتقمّص والتنعّل} فإنّها من مقولة الملك الّذي عرّفوه بأنّة هيئة تحصل بسبب نسبة الجسم إلى ما يلاصق جميعه أو بعضه بحيث ينتقل بانتقاله، وقد ذكروا أنّ هذه المقولة قد تكون ذاتيّة كنسبة إهاب الكبش إليهوقد تكون عرضيّة، كالتعمّم والتقمّص.

{فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملك} في اصطلاح أهل المعقول {وأين هذه من} ما ذكرتم من تعريف الملك من أنّه {الاعتبار الحاصل بمجرّد إنشائه؟} وهل يمكن إنشاء التنعّل والتقمّص.

ص: 92


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 325.
2- شرح المنظومة 1: 154.

وأمّا الدفع فهو: أنّ الملك يقال بالاشتراك على ذلك - ويسمّى بالجِدَةِ أيضاً - واختصاص شيء بشيء خاصّ، وهو ناشئ.

إمّا من جهة إسناد وجوده إليه، ككون العالم ملكاً للباري - جلّ ذكره - .

أو من جهة الاستعمال والتصرّف فيه، ككون الفرس لزيد بركوبه له وسائر تصرّفاته فيه.

أو من جهة إنشائه والعقد مع من اختياره بيده، كملك الأراضي والعقار البعيدة للمشتري بمجرّد عقد البيع شرعاً وعرفاً.

___________________________________________

{وأمّا الدفع: فهو} أنّ الملك الّذي ذكرنا أنّه يحصل بالإنشاء غير الملك الّذي ذكره أهل المعقول، ف- {أنّ الملك يقال بالاشتراك على ذلك} المعنى الّذي ذكره أهل المعقول {ويسمّى بالجدة} مصدر (وجد) ك- (عدة) مصدر (وعد) {أيضاً} أي: كما يسمّى بالملك؛ لأنّ الشّيء يجد هذه الهيئة بواسطة نسبته إلى ما يلاصقه {و} على {اختصاص شيء بشيء خاصّ} كاختصاص الكتاب بزيد والدار بعمرو {وهو} أي: إنّ هذا المعنى للملك الّذي قصدناه نحن - في قولنا: «إنّه يجعل بالإنشاء» - {ناشئ إمّا من جهة إسناد وجوده إليه ككون العالم ملكاً للباري -جلّ ذكره -} فإنّه حيث أسند وجود العالم إليه - تعالى - سمّي ملكاً له {أو من جهة الاستعمال والتصرّف فيه} أي: يستعمل المالك لملكه {ككون الفرس لزيد ب-} سبب {ركوبه له وسائر تصرّفاته فيه} وهذا يضرّ جليّاً في ما لو تصرّف فيه بدون سبق عقد، كحيازة المباحات.

{أو من جهة إنشائه} أي: الملك {والعقد مع من اختياره بيده} أي: مع شخص صاحب سلطة اختيار هذا الملك بيده {كملك الأراضي والعقار البعيدة للمشتري بمجرّد عقد البيع شرعاً وعرفاً} فإنّه ليس بالخلق - كالأوّل - ولا بالتصرّف - كالثّاني - فيكون قسماً ثالثاً، وجميع هذه الأقسام ليست من مقولة الجدة.

ص: 93

فالملك الّذي يسمّى بالجدة أيضاً غير الملك الّذي هو اختصاص خاصّ ناشئ من سبب اختياري كالعقد، أو غير اختياري كالإرث، ونحوهما من الأسباب الاختياريّة وغيرها.

فالتوهّم إنّما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضاً، والغفلة عن أنّه بالاشتراك بينه وبين الاختصاص الخاصّ والإضافة الخاصّة الإشراقيّة، كملكه - تعالى - للعالم، أو المقوليّة، كملك غيره لشيء بسبب، من تصرّف واستعمال أو إرث أو عقد أو غيرهما من الأعمال، فيكون شيء ملكاً لأحد بمعنى، ولآخر بالمعنى الآخر،

___________________________________________

{فالملك الّذي يسمّى بالجدة أيضاً} المصطلح عند أهل المعقول {غير الملك} الّذي هو مقصودنا ونقول بأنّه ينشأبالجعل {الّذي هو اختصاص خاصّ ناشئ من سبب اختياري كالعقد} والتمليك {أو غير اختياري كالإرث ونحوهما} أي: نحو العقد والإرث {من} سائر {الأسباب الاختياريّة وغيرها ف-} إذا عرفت ما ذكرناه تعرف بأنّ {التوهّم إنّما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضاً} كما يطلق على هذا الاختصاص النّاشئ من الخلق والتصرّف والعقد {والغفلة عن} أي: مرادنا من كون الملك قابلاً للجعل المعنى الثّاني لا المعنى الأوّل المعقولي، ف- {إنّه} أي: الملك يقال {بالاشتراك بينه} أي: بين الملك بمعنى الجدة {وبين الاختصاص الخاصّ والإضافة الخاصّة} بين المالك والمملوك، سواء كانت على نحو الإضافة {الإشراقيّة} وهي الحاصلة من إشراق المبدأ الأعلى على الموجودات {كملكه - تعالى - للعالم أو} على نحو الإضافة {المقوليّة} الّتي هي أحد المقولات العشر.

فإنّ الإضافة من المقولات، كما لا يخفى {كملك غيره} تعالى {لشيء بسبب: من تصرّف، واستعمال، أو إرث، أو عقد، أو غيرهما} أي: غير الإرث والعقد {من الأعمال} الموجبة للملكيّة الاختياريّة أو الاضطراريّة {فيكون شيء ملكاً لأحد بمعنى} التصرّف والاستعمال {ولآخر بالمعنى الآخر} الّذي هو العقد وهكذا

ص: 94

فتدبّر.

إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل، فقد عرفت أنّه لا مجال لاستصحاب دخل ما له الدخل في التكليف، إذا شكّ في بقائه علىما كان عليه من الدخل؛ لعدم كونه حكماً شرعيّاً، ولا يترتّب عليه أثر شرعي، و

___________________________________________

بالنسبة إلى ملكه سبحانه، والملك الّذي هو مقولة الجدة {فتدبّر} لعلّه إشاره إلى أنّ الملك بمعنى السّلطة من أقسام الملك بمعنى الجدة، إذ هو أيضاً هيئة إحاطة المالك بالمملوك ولو كانت هيئة واقعيّة لا خارجيّة، كما أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى الإشكال في أصل المطلب وأنّ الملك ونحوه من الأحكام الوضعيّة ليست هي في الحقيقة أشياء في مقابل الأحكام التكليفيّة وإنّما هي عبارة مجملة عن عدّة من الأحكام التكليفيّة.

{إذا عرفت اختلاف} أنحاء {الوضع في} قابليّة {الجعل} وعدمها، وأنّ منها ما لا يتطرّق إليه الجعل لا استقلالاً ولا تبعاً، ومنها يتطرّق إليه الجعل تبعاً لا استقلالاً، ومنها يتطرّق إليه الجعل بكلا قسميه، إلّا أنّ الظاهر أنّه مجعول استقلالاً {فقد عرفت أنّه} في القسم الأوّل {لا مجال لاستصحاب دخل ما له الدخل في التكليف إذا شكّ في بقائه على ما كان عليه من الدخل} فلو شككنا في بقاء السّبب - مثلاً - على سببيّته لم يكن لنا أن نستصحبه، وذلك {لعدم كونه حكماً شرعيّاً} لما عرفت من أنّ هذا القسم ليس بمجعول إطلاقاً {ولا يترتّب عليه أثر شرعي} فالدلوك ليس بحكم شرعي ولا يترتّب عليه أثر شرعي حتّى يستصحب سببيّته إذا شكّ في بقائه سبباً أم أُزيل عن السّببيّة، وقد تقدّم كون وجوب المستصحب إمّا حكماً شرعيّاً أو ذا أثر شرعي.

{و} إن قلت: هب أنّ هذا القسم من الحكم الوضعي ليس حكماً شرعيّاً، لكنّه يترتّب عليه أثر شرعي، فالدلوك - مثلاً - يترتّب عليه وجوب الصّلاة، إذا كان

ص: 95

التكليف وإن كان مترتّباً عليه، إلّاأنّه ليس بترتّب شرعيّ، فافهم.

وأنّه لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقلّ بالجعل؛ حيث إنّه كالتكليف.

وكذا ما كان مجعولاً بالتبع؛ فإنّ أمر وضعه ورفعه بيد الشّارع ولو بتبع منشأ انتزاعه.

___________________________________________

باقياً على سببيّته.

قلت: كلّا، فإنّ {التكليف وإن كان مترتّباً عليه إلّا أنّه ليس بترتّب شرعي} فإنّ المعلول مترتّب على علّته تكويناً لا تشريعاً، وقد عرفت أنّ هذه الأشياء تؤثّر في المعلول بما لها من خصوصيّات كامنة فيها من غير دخل للتشريع فيها أصلاً {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّه لو تمّ هذا لأشكل في استصحاب عامّة الموضوعات الشّرعيّة، فإنّ ترتّب التكليف عليها ليس إلّا لخصوصيّة ذاتيّة فيها.

على أنّه يمكن أن يقال: بعد تسليم كون السّبب ونحوه حقيقيّاً، بل هو أمر صوري، وإنّما العلّة إراده الشّارع، فليس ترتّب الصّلاة على الدلوك - مثلاً - من قبيل ترتّب المعلول على العلّة {وأنّه لا إشكال} في القسم الثّالث - وهو ما يمكن جعله تبعاً واستقلالاً - فلا شبهة {في جريان الاستصحاب في الوضع المستقلّ بالجعل} والإنشاء كالزوجيّة والملكيّة {حيث إنّه} أي: هذا القسم {كالتكليف} فكما يجري الاستصحاب في الوجوب كذلك يجري الاستصحاب في الزوجيّة؛ لأنّ كلّاً منهما حكم مجعول شرعي.

{وكذا} لا إشكال في جريان الاستصحاب في القسم الثّاني، وهو ما يمكن جعله تبعاً لا استقلالاً، ف- {ما كان مجعولاً بالتبع}كالجزئيّة إذا شكّ في بقائها وزوالها يستصحب بقاؤها {فإنّ أمر وضعه ورفعه بيد الشّارع} أمّا في القسم الثّالث فواضح.

وأمّا في القسم الثّاني فلما أشار إليه بقوله: {ولو بتبع منشأ انتزاعه} فإنّ كون

ص: 96

وعدم تسميته حكماً شرعيّاً - لو سلّم - غير ضائر، بعد كونه ممّا تناله يد التصرّف شرعاً.

نعم، لا مجال لاستصحابه؛ لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه، فافهم.

___________________________________________

الأمر بالمركّب بيد الشّارع كافٍ في كون الجزئيّة بيد الشّارع، فإذا كان بيد الشّارع وضعه ورفعه جرى الاستصحاب فيه.

{و} إن قلت: كيف يجري الاستصحاب في هذه الأُمور والحال أنّ الاستصحاب لا يجري إلّا في الحكم الشّرعي؟

قلت: {عدم تسميته حكماً شرعيّاً - لو سلّم -} عدم التسمية، ولم نقل بأنّه يسمّى حكماً شرعيّاً، إذ الحكم الشّرعي أعمّ من التكليفي والوضعي، فكون مريم زوجة جواد حكم شرعي، كما أنّ وجوب الصّلاة حكم شرعي {غير ضائر بعد كونه ممّا تناله يد التصرّف شرعاً} ولا دليل على لزوم تسمية المستصحب حكماً شرعيّاً، وإنّما الدليل على لزوم أن تناله يد الجعل، وهو موجود في الأحكام الوضعيّة.

{نعم} إذا كان هناك استصحاب حاكم على هذا الاستصحاب في القسم الثّاني لم يجر الاستصحاب المسبّبي لجريان الاستصحاب السّببي، لما يأتي من أنّه إذا كان هناك استصحاب سببي واستصحاب مسبّبي لم يجر الثّاني في صورةجريان الأوّل، فلو كان هناك ماء مستصحب الكريّة وكانت يدي نجسة فغسلتها بذلك الماء لم يجر استصحاب نجاسة اليد؛ لأنّ استصحاب الكريّة في الماء حاكم عليه، كما سيأتي إن شاء اللّه - تعالى - ف- {لا مجال لاستصحابه} أي: استصحاب القسم الثّاني وهو المجعول تبعاً {لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه} فإذا شككنا في جزئيّة السّورة للصلاة بعد ما كنّا متيقّنين بها لم يجر استصحاب الجزئيّة؛ لأنّ استصحاب وجوب الصّلاة حاكم عليه، وبهذا الاستصحاب تثبت الجزئيّة بدون حاجة إلى استصحاب جديد لها {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّه ربّما

ص: 97

ثمّ إنّ هاهنا تنبيهات

الأوّل: إنّه يعتبر في الاستصحاب فعليّة الشّكّ واليقين، فلا استصحاب مع الغفلة؛ لعدم الشّكّ فعلاً، ولو فرض أنّه يشكّ لو التفت؛ ضرورة أنّ الاستصحاب وظيفة الشّاكّ، ولا شكّ مع الغفلة أصلاً.

___________________________________________

لا يجري الاستصحاب السّببي لوجود معارض أو نحوه، فيجري الاستصحاب المسبّبي، فلا وجه لإطلاق القول: بأنّه لا مجال لاستصحابه واللّه العالم. هذا تمام الكلام في أصل الاستصحاب.

{ثمّ إنّ هاهنا} في باب الاستصحاب {تنبيهات} أربعة عشر:

[تنبيهات الاستصحاب]

[التنبيه الأوّل]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، تنبيهات الاستصحاب

التنبيه {الأوّل} في اعتبار فعليّة اليقين والشّكّ في جريان الاستصحاب وما يترتّب على ذلك من الثمرة {أنّه يعتبر في} جريان{الاستصحاب فعليّة الشّكّ واليقين} بأن يكون المكلّف شاكّاً فعلاً بالنسبة إلى الحال - ومتيقّناً فعلاً - بالنسبة إلى السّابق، كما لو علمت الآن بأنّ زيداً كان عادلاً يوم الجمعة وشككت الآن في بقاء عدالته إلى هذا اليوم - وهو يوم السّبت - فإنّه تستصحب العدالة لفعليّة الشّكّ واليقين {فلا استصحاب مع الغفلة} عن متعلّق الشّكّ واليقين {لعدم الشّكّ فعلاً ولو فرض أنّه يشكّ لو التفت} قوله: «ولو فرض» وصليّة.

وإنّما قلنا باشتراط فعليّة الشّكّ واليقين في جريان الاستصحاب ل- {ضرورة أنّ الاستصحاب وظيفة الشّاكّ} لأنّه(علیه السلام) قال: «لا ينقض اليقين بالشكّ»(1)،

فلا بدّ من أن يكون هناك شكّ فعلي {ولا شكّ مع الغفلة أصلاً} والقول بأنّ الشّكّ أعمّ

ص: 98


1- تهذيب الأحكام 2: 186؛ الاستبصار 1: 373.

فيحكم بصحّة صلاة من أحدث، ثمّ غفل وصلّى، ثمّ شكّ في أنّه تطهّر قبل الصّلاة؛ لقاعدة الفراغ. بخلاف من التفت قبلها وشكّ، ثمّ غفل وصلّى، فيحكم بفساد صلاته في ما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشّكّ؛

___________________________________________

من الفعلي والتقديري خلاف الظاهر، فإنّ قولنا: (فلان شاكّ) ينصرف منه الشّكّ فعلاً، لا أنّه لو التفت لكان شاكّاً.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الشّخص إذا صلّى غافلاً عن الطّهارة ثمّ بعد الصّلاة شكّ في أنّه هل كان متطهّراً حال الصّلاة أم لا، وقد كان قبل الصّلاة أحدث لكنّه يحتمل أنّه قد توضّأ قبل الصّلاة بعد الحدث، كانت قاعدة الفراغ محكمة وحكم بصحّة صلاته؛ لأنّه حيث كان غافلاً عن الطّهارة قبل الصّلاة لم يكن يجريبالنسبة إليه استصحاب الحدث، أمّا إذا تيقّن بالحدث وشكّ في الطّهارة ثمّ غفل ثمّ صلّى ثمّ التفت بعد الصّلاة حكم ببطلان صلاته؛ لأنّه بمجرّد التفاته - قبل الصّلاة - إلى حاله شكّ في الطّهارة واستصحب الحدث، فدخل في الصّلاة وهو مستصحب الحدث، فكانت صلاته باطلة، إذ لا مجال لقاعدة الفراغ بعد الصّلاة في ما كان قبل الصّلاة قاطعاً بالحدث أو مستصحب الحدث.

وعلى هذا {فيحكم بصحّة صلاة من أحدث ثمّ غفل وصلّى ثمّ} بعد الصّلاة توجّه إلى حالته و{شكّ في أنّه} هل {تطهّر قبل الصّلاة} بعد الحدث أم لم يتطهّر، فإنّه حيث لا يعلم بكونه كان محدثاً حالة الصّلاة - لاحتماله التوضّئ بعد الحدث - .

وحيث لا يجرى بالنسبة إليه استصحاب الحدث - لأنّه كان غافلاً عن حاله قبل أن يشرع في الصّلاة - حكم بصحّة صلاته {لقاعدة الفراغ} الّتي لا حاكم عليها {بخلاف من} أحدث ثمّ {التفت قبلها} أي: قبل الصّلاة {وشكّ} في أنّه هل توضّأ أم لا {ثمّ غفل} عن استصحابه للحدث {وصلّى} ثمّ التفت بعد الصّلاة {فيحكم بفساد صلاته في ما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشّكّ} بخلاف من احتمل

ص: 99

لكونه محدثاً قبلها بحكم الاستصحاب مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي.

لايقال: نعم، ولكن استصحاب الحدث في حال الصّلاة بعد ما التفت بعدها يقتضي أيضاً فسادها.

فإنّه يقال: نعم، لولا قاعدة الفراغ المقتضية لصحّتها، المقدّمة على أصالة فسادها.

___________________________________________

أنّه تطهّر بعد الشّكّ قبل الصّلاة، إذ يجري بالنسبة إليه قاعدة الفراغ أيضاً.

وإنّما قلنا بعدم جريان القاعدة بالنسبة إلى من أحدث ثمّ شكّ ثمّ صلّى وقد قطع أنّه بين شكّه وصلاته لم يتطهّر {لكونه محدثاً قبلها} أي: قبل الصّلاة {بحكم الاستصحاب} السّابق على الصّلاة {مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي}.

{لا يقال}: ما ذكرتم من صحّة الصّلاة في صورة كونه غافلاً عن الحدث قبل الصّلاة {نعم} صحيح من جهة عدم استصحاب الحدث قبل الصّلاة {ولكن} لا تتمّ الصّحّة من جهة أُخرى.

إذ {استصحاب الحدث في حال الصّلاة بعد ما التفت بعدها} أي: بعد الصّلاة {يقتضي أيضاً فسادها} فإنّه لم يكن مستصحب الحدث قبل الصّلاة، لكن بعد الصّلاة لمّا التفت شكّ في أنّه هل تطهّر أم لا، فاستصحاب الحدث قاضٍ بأنّه لم يتطهّر.

ومنه يعلم أنّه دخل في الصّلاة بلا طهارة فاللّازم أن نحكم بفساد صلاته، للاستصحاب المتأخّر عن الصّلاة - وإن لم يجر الاستصحاب قبل الصّلاة لما ذكرتم من الغفلة - .

{فإنّه يقال: نعم} مقتضى الاستصحاب بعد الصّلاة الفساد {لولا قاعدة الفراغ المقتضية لصحّتها} أي: صحّة الصّلاة {المقدّمة على أصالة فسادها} ولذا يحكم بصحّة الصّلاة السّابقة وإن حكم بأنّه يلزم التطهّر للصلاة اللّاحقة.

ولا يستشكل بأنّه كيف يمكن ذلك، فإن كان متطهّراً صحّ الدخول في الصّلاة

ص: 100

الثّاني: أنّه هل يكفي في صحّة الاستصحاب الشّكّ في بقاء شيء على تقدير ثبوته، وإن لم يحرز ثبوته، في ما رتّبعليه أثر شرعاً أو عقلاً؟ إشكال:

من عدم إحراز الثبوت، فلا يقين، وأنّه لا بدّ منه،

___________________________________________

اللّاحقة، وإن لم يكن متطهّراً لم تصحّ الصّلاة السّابقة، فكيف يمكن التفكيك بينهما؟ لأنّه يجاب عن ذلك بأنّه تفكيك حسب الدليل ولا بأس به، فهو كدرهمي الودعي الّذي ضاع أحدهما، وكإقرارين من شخص واحد لشخصين بشيء واحد، وهكذا.

[التنبيه الثّاني]

التنبيه {الثّاني} إذا قامت أمارة على حكم ولم يكن للأمارة إطلاق بحيث يشمل الزمان الثّاني، فهل يصحّ الرّجوع في الزمان الثّاني إلى الاستصحاب لإثبات الحكم أم لا؟ كما لو قام الدليل على وجوب الدعاء عند هلال رمضان ثمّ شكّ في انسحاب الحكم في كلّ أوّل شهر ولم يكن للدليل إطلاق، فإنّ وجوب الدعاء عند الرّؤية في رمضان غير ثابت واقعاً وإنّما قام الدليل عليه فقط، فنشكّ في أنّه هل هذا الوجوب باقٍ على تقدير ثبوته واقعاً أم لا {أنّه هل يكفي في صحّة الاستصحاب الشّكّ في بقاء شيء على تقدير ثبوته وإن لم يحرز ثبوته} سابقاً {في ما رتّب عليه أثر شرعاً أو عقلاً} فإنّه على تقدير ثبوت الدعاء واقعاً كان الوجوب سابقاً ثابتاً، فهل هذا باق - إلى أوّل شوّال مثلاً - أم لا؟

وقوله: «في ما» متعلّق بقوله: «صحّة الاستصحاب» أي: هل يصحّ الاستصحاب في الشّيء الّذي رتّب عليه أثر إذا كان على تقدير ثبوته، وقوله: «شرعاً» بالنسبة إلى استصحاب الموضوع، وقوله: «عقلاً» بالنسبة إلى استصحاب الحكم.

{إشكال} مرتبط بقوله: «هل يكفي» ووجه الإشكال ما بيّنه بقوله: {منعدم إحراز الثبوت} سابقاً {فلا يقين و} الحال {أنّه لا بدّ منه} لأنّ ركني الاستصحاب

ص: 101

بل ولا شكّ، فإنّه على تقدير لم يثبت.

ومن أنّ اعتبار اليقين إنّما هو لأجل أنّ التعبّد والتنزيل شرعاً إنّما هو في البقاء، لا في الحدوث، فيكفي الشّكّ فيه على تقدير الثبوت، فيتعبّد به على هذا التقدير، فيترتّب عليه الأثر فعلاً في ما كان هناك أثر،

___________________________________________

اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق، فإذا زال أحد الرّكنين انتفى الاستصحاب {بل ولا شكّ} لاحقاً {فإنّه} أي: الشّكّ {على تقدير لم يثبت} ذلك التقدير.

والحاصل: أنّه لو كان هناك شيء محقّق ثمّ شكّ فيه حصل ركنا الاستصحاب، أمّا في المقام فإنّ اليقين السّابق تقديريّ لا موجود واقعاً، وإذا انتفى اليقين السّابق ينتفي الشّكّ اللّاحق، إذ لا يشكّ في ما لا وجود له، وعلى هذا فلا يصحّ مثل هذا الاستصحاب.

هذا كلّه وجه عدم جريان الاستصحاب، وأمّا وجه جريان الاستصحاب فقد بيّنه بقوله: {ومن أنّ اعتبار اليقين} السّابق في الاستصحاب {إنّما هو لأجل أنّ التعبّد والتنزيل شرعاً إنّما هو في البقاء لا في الحدوث} فلا بدّ من إتيان اليقين في كيان الدليل توصّلاً إلى إفهام هذا الأمر، لا أنّ اليقين له موضوعيّة حتّى يلزم وجوده سابقاً {فيكفي الشّكّ فيه على تقدير الثبوت} بأنّه لو كان سابقاً يقين لشككنا فيه الآن {فيتعبّد به} أي: باليقين {على هذا التقدير} أي:تقدير ثبوته {فيترتّب عليه الأثر فعلاً في ما كان هناك أثر}.

والحاصل: أنّ أدلّة الاستصحاب تفيد الملازمة بين ثبوت الشّيء وبقائه، ومن المعلوم أنّ صدق الشّرطيّة لا يتوقّف على صدق طرفيها، فيصحّ أن يقال: (لو كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين)(1)

فكيف يمكن الثبوت، فإذا ثبتت الملازمة بسبب الاستصحاب ودلّ الدليل على الثبوت دلّ على البقاء، فإنّ الدليل على أحد

ص: 102


1- إشارة إلى الآية الكريمة: {قُلۡ إِن كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٞ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡعَٰبِدِينَ} سورة الزخرف، الآية: 81.

وهذا هو الأظهر.

وبه يمكن أن يذبّ عمّا في استصحاب الأحكام الّتي قامت الأمارات المعتبرة على مجرّد ثبوتها، وقد شكّ في بقائها على تقدير ثبوتها، من الإشكال بأنّه لا يقين بالحكم الواقعي، ولا يكون هناك حكم آخر فعلي، بناءً على ما هو التحقيق

___________________________________________

المتلازمين دليل على الآخر {وهذا} القول أعني: جريان الاستصحاب {هو الأظهر}.

إذا عرفت ذلك نقول: إذا قامت الأمارة على حكم ولم يكن للأمارة إطلاق يشمل الثبوت والبقاء، ثمّ شككنا في بقاء ذلك الحكم فربّما أشكل في صحّة استصحاب ذلك الحكم من جهة أنّه لا يقين سابق بالحكم حتّى يستصحب:

أمّا عدم اليقين الواقعي، فلبداهة أنّا لا نعلم بالحكم الواقعي بمجرّد قيام الأمارة فإنّها تورث الظنّ بالواقع لا اليقين به.

وأمّا عدم اليقين بالحكم الظاهري؛ فلأنّ الأمارات - على ما عرفت في بعض المباحث السّابقة - لا توجب أكثر من التنجيز والإعذار، فلو قام دليل على وجوب الدعاء عند رؤية هلال رمضان وشككنا في امتداد الوجوب رأس كلّ شهرلم نعلم بالحكم الواقعي ولا الحكم الظاهري، إذ الدليل إنّما ينجّز على تقدير المصادفة لا أنّه ينشئ حكماً ظاهريّاً، فكيف يمكن استصحاب الحكم؟

والجواب: أنّه يمكن إثبات ذلك الحكم بنحو الاستصحاب التقديري، وإلى هذا أشار بقوله: {وبه} أي: بما ذكرنا من جريان الاستصحاب {يمكن أن يذبّ} ويدفع {عمّا في استصحاب الأحكام الّتي قامت الأمارات المعتبرة على مجرّد ثبوتها} أي: ثبوت تلك الأحكام {وقد شكّ في بقائها على تقدير ثبوتها من الإشكال} بيان قوله: «عمّا».

والإشكال هو ما أشار إليه بقوله: {بأنّه لا يقين بالحكم الواقعي} إذ الأمارة لا تثبت الحكم الواقعي {ولا يكون هناك حكم آخر فعلي} ظاهري {بناءً على ما هو التحقيق}

ص: 103

من: أنّ قضيّة حجيّة الأمارة ليست إلّا تنجّز التكاليف مع الإصابة، والعذر مع المخالفة - كما هو قضيّة الحجّة المعتبرة عقلاً، كالقطع والظنّ في حال الانسداد على الحكومة - ، لا إنشاء أحكام فعليّة شرعيّة ظاهريّة، كما هو ظاهر الأصحاب.

___________________________________________

هذا وجه عدم الحكم الظاهري {من أنّ قضيّة حجيّة الأمارة ليست إلّا تنجّز التكاليف مع الإصابة} بأن كانت مطابقة للواقع {والعذر مع المخالفة} بأن كانت مخالفة للواقع.

وقد علّق المصنّف على هذا بقوله: «وأمّا بناءً على ما هو المشهور من كون مؤدّيات الأمارات أحكاماً ظاهريّة شرعيّة - كما اشتهر أنّ ظنيّة الطّريق لا تنافيقطعيّة الحكم - إذ الحكم الظاهري قطعيّ، فالاستصحاب جارٍ؛ لأنّ الحكم الّذي أدّت إليه الأمارة محتمل البقاء، لإمكان إصابتها الواقع، وكان ممّا يبقى، والقطع بعدم فعليّته - حينئذٍ - مع احتمال بقائه، لكونها بسبب دلالة الأمارة، والمفروض عدم دلالتها إلّا على ثبوته، لا على بقائه، غير ضائر بفعليّته النّاشئة باستصحابه، فلا تغفل»(1)،

انتهى.

{كما هو} أي: التنجيز والإعذار {قضيّة} أي: مقتضى {الحجّة المعتبرة عقلاً كالقطع} فإنّه إذا قطع المكلّف بحكم فلا يوجب قطعه هذا إنشاء حكم ظاهري، بل يوجب التنجيز لدى المصادفة والإعذار لدى المخالفة {و} كذا {الظنّ} المطلق {في حال الانسداد} بناءً {على الحكومة} أي: حكومة العقل لا على الكشف، إذ على الكشف يكون حاله حال سائر الأمارات الشّرعيّة.

والحاصل: أنّ الأمارة ليست إلّا للتنجيز والإعذار، و{لا} يكون مقتضاها {إنشاء أحكام فعليّة شرعيّة ظاهريّة، كما هو ظاهر الأصحاب} حتّى يستصحب ذاك الحكم الظاهري.

ص: 104


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 496.

ووجه الذبّ بذلك: أنّ الحكم الواقعي الّذي هو مؤدّى الطّريق حينئذٍ محكوم بالبقاء، فتكون الحجّة على ثبوته حجّة على بقائه تعبّداً؛ للملازمة بينه وبين ثبوته واقعاً.

إن قلت: كيف؟ وقد أُخِذَ اليقين بالشيء في التعبّد ببقائه في الأخبار، ولا يقين في فرض تقدير الثبوت.

___________________________________________

هذا حاصل الإشكال في استصحاب مؤدّيات الأمارات {ووجه الذبّبذلك} الّذي ذكرناه في أوّل التنبيه {أنّ الحكم الواقعي} - كوجوب الدعاء عند الرّؤية - {الّذي هو مؤدّى الطّريق} كخبر زرارة الّذي قام عليه {حينئذٍ} أي: حين الشّكّ {محكوم بالبقاء، فتكون الحجّة على ثبوته} أي: ثبوت ذلك الحكم {حجّة على بقائه تعبّداً} وإن لم نعلم ببقائه واقعاً، بل لم نعلم بثبوته الواقعي أصلاً، وإنّما كانت الحجّة على ثبوته حجّة على بقائه {للملازمة بينه} أي: بين البقاء {وبين ثبوته واقعاً}.

والحاصل: هنا دليلان: دليل يقول كلّما ثبت دام - هو الاستصحاب - ، ودليل يقول هذا الحكم ثابت - هو خبر زرارة - ، فإذا جمعنا هذين الدليلين أنتج بقاء وجوب الدعاء.

وإن شئت قلت: قيام الخبر على وجوب الدعاء يرفع عذريّة الجهل وينجز الواقع على تقدير الإصابة، فيأتي دور دليل الاستصحاب ليقول: لو كان الحكم ثابتاً واقعاً لكان منجّزاً عليك، فتجب عليك الموافقة حتّى تحترز عن احتمال العقاب المنجز.

{إن قلت: كيف} يجري الاستصحاب ويثبت به الحكم والحال أنّه لم يتمّ ركنه وهو اليقين السّابق؟ {و} ذلك لأنّه {قد أخذ اليقين بالشيء في التعبّد ببقائه في الأخبار} في دليل الاستصحاب {ولا يقين في فرض تقدير الثبوت} إذ لو فرض الحكم الواقعي ثابتاً لم يكن لنا يقين به، فإنّ الدليل لا يثبت أكثر من التنجيز والإعذار.

ص: 105

قلت: نعم، ولكن الظاهر أنّه أخذ كشفاً عنه ومرآة لثبوته، ليكون التعبّد في بقائه، والتعبّد مع فرض ثبوته إنّمايكون في بقائه، فافهم.

الثّالث:

___________________________________________

{قلت: نعم} لا يقين سابقاً كما ذكرتم {ولكن الظاهر} كون أخذ اليقين من باب المرآة إلى الثبوت والحدوث حتّى يرد التعبّد على البقاء، وهي على تقدير ثبوته واقعاً في الآن الأوّل يكون بقاؤه مورداً للتعبّد، ف- {إنّه} أي: اليقين {أخذ كشفاً عنه} أي: لأجل الكشف عن الواقع {ومرآة لثبوته ليكون التعبّد في بقائه} لا أنّ لليقين موضوعيّة حتّى إذا لم يكن في السّابق لم يصحّ الاستصحاب اللّاحق {والتعبّد مع فرض ثبوته} أي: ثبوت الواقع {إنّما يكون} ذلك التعبّد {في بقائه، فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ كون اليقين أخذ مرآة خلاف الظاهر، فالوجه في الدفع أنّ المؤدّي للأمارة منزل منزلة الواقع ولذا يصحّ استصحابه.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) في هذا التنبيه غير ما ذكره في الاستصحاب التعليقي الآتي في التنبيه الخامس، فإنّ هذا التنبيه متعرّض لما لا يقين به سابقاً، والآتي متعرّض لما يكون اليقين التعليقي موجوداً سابقاً.

[التنبيه الثّالث]

التنبيه {الثّالث} في أقسام الاستصحاب الكلّي، وهو على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يعلم بوجود الكلّي في ضمن فرد خاصّ ثمّ يشكّ في زوال الكلّي للشكّ في زوال الفرد، كما لو كان المولى أمر بالبقاء في الدار مادام فيها شخص ثمّ دخل زيد وبعد مدّة شكّ العبد في أنّه هل خرج أم لا، فإنّه يستصحب بقاء الشّخص في الدار؛ لأنّه علم بالكلّي وشكّ في زواله فيستصحب بقاءه. ولا يخفى أنّه كما يجري في المقام استصحاب الكلّي يجري استصحاب الفرد أيضاً في ما لو رتّب عليه أثر شرعي.

ص: 106

أنّه لا فرق في المتيقّن السّابق بين أن يكون خصوص أحد الأحكام، أو ما يشترك بين الاثنين منها،

___________________________________________

الثّاني: أن يعلم بوجود الكلّي في ضمن فرد، لكن يشكّ في أنّ هذا الفرد طويل العمر أم قصيره بحيث لا يبقى إلى هذا الزمان، كما لو أمر عبده بالبقاء في الحمّام مادام فيه إنسان ودخل إنسان يشكّ كونه زيداً الّذي يبقى في الحمّام ثلاث ساعات أم عمرواً الّذي لا يبقى أكثر من ساعة، فبعد ساعتين يشكّ في بقاء الإنسان في الحمّام، وهنا يجري استصحاب الكلّي؛ لأنّه علم بوجوده وشكّ في زواله، وإن لم يجر استصحاب الفرد؛ لأنّه لم يعلم بوجود هذا الفرد الخاصّ - وهو زيد - .

الثّالث: أن يعلم بوجود الكلّي في ضمن فرد ويتيقّن بزواله بزوال ذلك الفرد، لكنّه يحتمل في أنّه حدث فرد جديد مقارناً لذهاب الفرد الأوّل أو في حال كون الفرد الأوّل موجوداً، كما لو علم بدخول إنسان في الحمّام وعلم بخروجه واحتمل أنّه مقارن لخروجه أو قبل خروجه دخل إنسان آخر ممّا يبقى معه الكلّي ولذا يحتمل بقاء الكلّي، وفي جريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلّي خلاف: فبعضهم يرون جريانه؛ لأنّه تيقّن بوجود الكلّي وشكّ في زواله فالأصل يقتضي بقاءه، والعلم بخروج الفرد الأوّل غير ضارّ بعد الشّكّ في بقاء الكلّي لاحتمال تقوّمه بفرد آخر، وبعضهم يرون عدم جريان الاستصحاب؛ لأنّ الحصّة من الكلّي الّتي وجدت في ضمن الفرد السّابق متيقّن الزوال وغير ذلك الحصّة مشكوك الحدوث، ولذا فلا مجال للاستصحاب.

إذا عرفت ذلك قلنا: {إنّه لا فرق في المتيقّن السّابق} الّذي يجري فيه الاستصحاب و{بين أن يكون خصوص أحد الأحكام} كما لو علم سابقاً بوجوب الدعاء عند رؤيةالهلال ثمّ شكّ في بقاء الوجوب {أو ما يشترك بين الاثنين منها}

ص: 107

أو الأزيد من أمر عام.

فإن كان الشّكّ في بقاء ذاك العام من جهة الشّكّ في بقاء الخاصّ - الّذي كان في ضمنه - وارتفاعه، كان استصحابه كاستصحابه بلا كلام.

وإن كان الشّكّ فيه من جهة تردّد الخاصّ - الّذي في ضمنه - بينما هو باقٍ أو مرتفع قطعاً، فكذا لا إشكال في استصحابه، فيترتّب عليه كافّة ما يترتّب عليه عقلاً أو شرعاً من أحكامه ولوازمه.

___________________________________________

أي: من الأحكام {أو الأزيد من أمر عام} بيان «ما» كما لو علم سابقاً بأنّه توجّه إليه إلزام إمّا بالفعل أو بالترك وشكّ في بقائه، أو علم سابقاً بتوجيه تكليف إليه إلزام أو ترغيب ممّا يشترك بين الوجوب والحرمة والاستحباب {فإن كان الشّكّ في بقاء ذاك العام} هذا إشارة إلى القسم الأوّل {من جهة الشّكّ في بقاء الخاصّ الّذي كان} العام {في ضمنه و} في {ارتفاعه} بأن شكّ في بقاء الإنسان من جهة الشّكّ في بقاء زيد وخروجه {كان استصحابه} أي: استصحاب العام {كاستصحابه} أي: استصحاب الخاص {بلا كلام} فيجري كلّ منهما.

{وإن كان الشّكّ فيه} أي: في بقاء ذاك العام، وهذا إشارة إلى القسم الثّاني {من جهة تردّد الخاصّ الّذي} كان العام {في ضمنه بينما هو باقٍ أو مرتفع قطعاً} كما لو تردّد بين زيد الباقي قطعاً وبين عمرو الخارج قطعاً {فكذا لا إشكال فياستصحابه} أي: استصحاب العام {فيترتّب عليه} أي: على هذا البقاء الاستصحابي {كافّة ما يترتّب عليه عقلاً أو شرعاً} وليس المراد من قوله: «عقلاً» اللوازم العقليّة، بل الآثار العقليّة كوجوب الامتثال ونحوه.

وقد يقال: إنّ عقلاً بالنسبة إلى استصحاب الحكم وشرعاً بالنسبة إلى استصحاب الموضوع {من أحكامه ولوازمه} الشّرعيّة لا العقليّة والعادية، لما سيأتي من عدم ترتّب الأثر غير الشّرعي على الاستصحاب، وقوله: «من» بيان لقوله: «ما».

ص: 108

وتردّدُ ذاك الخاصّ - الّذي يكون الكلّي موجوداً في ضمنه، ويكون وجوده بعين وجوده، بين متيقّن الارتفاع ومشكوك الحدوث المحكوم بعدم حدوثه - غيرُ ضائرٍ باستصحاب الكلّي المتحقّق في ضمنه، مع عدم إخلاله باليقين والشّكّ في حدوثه وبقائه. وإنّما كان التردّد بين الفردين ضائراً باستصحاب أحد الخاصّين - اللّذين كان أمره مردّداً بينهما - ؛

___________________________________________

{و} إن قلت: كيف يجري الاستصحاب في هذا القسم الثّاني مع أنّ أركان الاستصحاب غير تامّ فيه، إذ زيد الطّويل غير معلوم الحدوث وعمرو القصير - لو كان - فهو معلوم الارتفاع، فعلى أحد التقديرين ليس يقين سابق، وعلى التقدير الآخر ليس شكّ لاحق؟

قلت: {تردّد ذاك الخاص - الّذي يكون الكلّي موجوداً في ضمنه و} الّذي {يكون وجوده} أي: الكلّي {بعين وجوده} أي: الخاص {بين متيقّن الارتفاع} وهو عمرو - مثلاً - {ومشكوك الحدوث} وهو زيد - مثلاً -{المحكوم بعدم حدوثه -} لأنّه إذا شكّ في حدوث زيد - الطّويل - كان الأصل عدم حدوثه {غير ضائر باستصحاب الكلّي} إذ الكلّي بوصف الكليّة متيقّن حدوثه مشكوك بقاؤه، فيتمّ فيه ركنا الاستصحاب، وإن كان ركنا الاستصحاب بالنسبة إلى الخاصّين غير تامّ، لعدم يقين سابق بوجود زيد وعدم شكّ لاحق في وجود عمرو، فاستصحاب الكلّي {المتحقّق في ضمنه} أي: ضمن الخاصّ لا يضرّ به تردّد الخاصّ {مع عدم إخلاله} أي: التردّد {باليقين والشّكّ في حدوثه وبقائه} فإنّا نتيقّن بحدوث الكلّي ونشكّ في بقائه، فيتمّ فيه ركنا الاستصحاب {وإنّما كان التردّد بين الفردين ضائراً باستصحاب أحد الخاصّين اللّذين كان أمره} أي: أمر الخاصّ {مردّداً بينهما} إذ لا يقين بالفرد الطّويل ولا شكّ بالنسبة إلى الفرد القصير، فإذا كان حكم مرتّباً على زيد أو عمرو لم يصحّ ترتيبه فعلاً لعدم صحّة الاستصحاب بالنسبة إلى أحدهما

ص: 109

لإخلاله باليقين الّذي هو أحد ركني الاستصحاب، كما لا يخفى.

نعم، يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالاً المترتّبة على الخاصّين، في ما علم تكليف في البين.

وتوهّمُ؛ «كون الشّكّ في بقاء الكلّي - الّذي في ضمن ذاك المردّد - مسبّباً عن الشّكّ في حدوث الخاصّ

___________________________________________

{لإخلاله} علّة قوله: «ضائراً» أي: إخلال التردّد {باليقين الّذي هو أحد ركني الاستصحاب}.

وإنّما لم يذكر الشّكّ؛ لأنّ الفرد الّذي يدوم هو زيد ولا يقين سابق به، وأمّا الفردالّذي لا يدوم وهو عمرو لا يهمّ المستصحب {كما لا يخفى} لكن عدم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الخاصّ إنّما هو في ما لو كان لأحدهما حكم خاص.

{نعم، يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالاً المترتّبة على الخاصّين في ما علم تكليف في البين} كما لو أمر المولى ببقائه في الحمّام مادام فيه إنسان، وأمر بإعطاء خبز للفقير إن جاء إلى الحمّام، وإعطاء درهم له إن جاء عمرو، فإنّه وإن لم يصحّ استصحاب أحدهما لكنّه يجب عليه إعطاء الخبز والدرهم للعلم الإجمالي.

{و} إذ قد فرغنا من الجواب عن الإشكال الأوّل في استصحاب الكلّي في القسم الثّاني نقول: قد أُشكل على هذا الاستصحاب بإشكال آخر، وهو أنّ الشّكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشّكّ في وجود زيد الطّويل، لكن الأصل عدم وجود زيد فلا مجال لاستصحاب الكلّي، إذ الأصل الجاري في السّبب مقدّم على الأصل الجاري في المسبّب.

وإلى هذا أشار بقوله: و{توهّم «كون الشّكّ في بقاء الكلّي الّذي في ضمن ذاك} الفرد {المردّد} بين الطّويل والقصير {مسبّباً عن الشّكّ في حدوث الخاصّ} الطّويل

ص: 110

المشكوك حدوثه، المحكوم بعدم الحدوث بأصالة عدمه»(1).

فاسدٌ قطعاً؛ لعدم كون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه وعدم حدوثه، بل من لوازم كون الحادث المتيقّن ذاك المتيقّن الارتفاع أو البقاء.

___________________________________________

{المشكوك حدوثه} لأنّ شكّنا في بقاء الإنسان من جهة شكّنا في وجود زيد {المحكوم} هذا الخاصّ الطّويل {بعدم الحدوث ب-} سبب جريان {أصالة عدمه»} فإذا انتفى الخاصّ الطّويل بالأصل انتفى الشّكّ في بقاء الكلّي، فلا مجال لاستصحاب الكلّي.

لكن هذا التوهّم {فاسد قطعاً} لما يرد عليه من إشكالات ثلاثة:

الأوّل: إن كان السّببيّ والمسبّبي هو الأوّل كان المسبّب وجوداً وعدماً منوطاً بالسبب، كطهارة اليد الّتي غسلها بماء مشكوك الكريّة مسبوقاً بكونه كرّاً، فإنّ وجود الطّهارة لليد وعدمها منوط بالكريّة وعدمها، وذلك بخلاف ما نحن فيه، فإنّ بقاء الكلّي مسبّب عن كون الحادث هو الفرد الطّويل وارتفاعه مسبّب عن كون الحادث هو الفرد القصير.

ومن المعلوم أنّه لا أصل يعيّن الفرد الحادث وأنّه طويل أو قصير حتّى يكون ذلك الأصل سبباً واستصحاب الكلّي مسبّباً، فلا أصل سببيّ ومسبّبيّ في البين {لعدم كون بقائه} أي: الكلّي {وارتفاعه من لوازم حدوثه} أي: حدوث الفرد الطّويل {وعدم حدوثه، بل} كلّ من بقاء الكلّي وارتفاعه يترتّب على أحد أمرين، فارتفاعه {من لوازم كون الحادث المتيقّن ذاك} الفرد القصير {المتيقّن الارتفاع} وبقاؤه من لوازم كون الحادث المتيقّن ذاك الفرد المتيقّن البقاء، وإليه أشار بقوله: {أو البقاء}.

الثّاني: إنّ بقاء الكلّي ليس مسبّباً عن بقاء الفرد الطّويل حتّى يكون من باب السّببي والمسبّبي، بل بقاء الكلّي عين بقاء ذاك، وإليه أشار بقوله:

ص: 111


1- فرائد الأصول 3: 193.

مع أنّ بقاء القدر المشترك إنّما هو بعين بقاء الخاصّ الّذي في ضمنه، لا أنّه من لوازمه.على أنّه لو سلّم أنّه من لوازم حدوث المشكوك، فلا شبهة في كون اللزوم عقليّاً، ولا يكاد يترتّب بأصالة عدم الحدوث إلّا ما هو من لوازمه وأحكامه شرعاً.

وأمّا إذا كان الشّكّ في بقائه من جهة الشّكّ في قيام خاصّ آخر في مقام ذاك الخاصّ - الّذي كان في ضمنه -

___________________________________________

{مع أنّ بقاء القدر المشترك إنّما هو بعين بقاء الخاصّ الّذي} كان الكلّي {في ضمنه} أي: ضمن ذاك الخاصّ {لا أنّه} أي: بقاء الكلّي {من لوازمه} أي: من لوازم بقاء الخاصّ.

الثّالث: إنّه لو سلّمنا كون بقاء الكلّي من لوازم حدوث الفرد، لكن الاستصحاب في السّبب لا يرفع الاستصحاب في المسبّب، إذ اللزوم عقليّ، وفي اللزوم العقلي لا يكون الأصل الجاري في السّبب حاكماً على الأصل الجاري في المسبّب، وإليه أشار بقوله: {على أنّه لو سلّم أنّه} أي: بقاء الكلّي {من لوازم حدوث} الفرد الطّويل {المشكوك} حدوثه {فلا شبهة في كون اللزوم عقليّاً} إذ العقل هو الحاكم ببقاء الكلّي عند بقاء الفرد الطّويل - لا الشّرع - {ولا يكاد يترتّب بأصالة عدم الحدوث} للفرد الطّويل {إلّا ما هو من لوازمه وأحكامه شرعاً} كما لو نذر بأن يتصدّق بدينار إذا لم يأت زيد إلى الحمّام، إذ الأصل لا يثبت اللوازم العقليّة والعادية وإنّما يثبت اللوازم الشّرعيّة، كما سيأتي.

هذا تمام الكلام في القسم الثّاني من أقسام الاستصحاب الكلّي {وأمّا} القسم الثّالث، وهو ما {إذا كان الشّكّ في بقائه} أي: بقاءالكلّي {من جهة الشّكّ في قيام خاصّ آخر في مقام ذاك الخاصّ} الأوّل {الّذي كان} الكلّي {في ضمنه} أي: في ضمن ذلك الخاصّ، كما إذا شكّ في دخول عمرو الدّار مقارناً لخروج زيد

ص: 112

بعد القطع بارتفاعه، ففي استصحابه إشكال، أظهره عدم جريانه؛ فإنّ وجود الطّبيعي وإن كان بوجود فرده، إلّا أنّ وجوده في ضمن المتعدّد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له، بل متعدّد حسب تعدّدها، فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده منها لقطع بارتفاع وجوده، وإن شكّ في وجود فرد آخر مقارن لوجود ذاك الفرد، أو لارتفاعه بنفسه

___________________________________________

منها {بعد القطع بارتفاعه} أي: ارتفاع الخاصّ الأوّل {ففي استصحابه} أي: الكلّي {إشكال} من أنّه علم بوجود الكلّي وشكّ في ارتفاعه - وإن قطع بارتفاع فرده الأوّل - فقد تمّ ركنا الاستصحاب وهو اليقين السّابق والشّكّ واللّاحق، ومن أنّه حيث علم بارتفاع الفرد الأوّل فقد علم بارتفاع الحصّة المتيقّنة من الكلّي والحصّة الأُخرى مشكوكة الحدوث، فلا مجال للاستصحاب.

وهذا هو المختار، ولذا قال: {أظهره عدم جريانه} أي: جريان الاستصحاب الكلّي {فإنّ وجود} الكلّي {الطّبيعي وإن كان بوجود فرده} كما حقّق في المنطق، ولذا قال في التهذيب: «والحقّ أنّ وجود الطّبيعي بمعنى وجود أفراده»(1)

{إلّا أنّ وجوده}أي: الطّبيعي {في ضمن المتعدّد من أفراده} كزيد وعمرو وبكر {ليس من نحو وجود واحد له} أي: للطّبيعي {بل متعدّد} وجود الطّبيعي {حسب تعدّدها} أي: تعدّد الأفراد.

{فلو قطع} الشّخص {بارتفاع ما علم وجوده منها} كما لو علم بخروج زيد عن الدار {لقطع بارتفاع وجوده} أي: وجود الطّبيعي {وإن شكّ في وجود فرد آخر} كعمرو {مقارن لوجود ذاك الفرد} المرفوع، بأن احتمل دخول عمرو الدار قبل خروج زيد منها {أو} مقارن {لارتفاعه} أي: ارتفاع الفرد الأوّل، بأن احتمل دخول عمرو مقارناً لخروج زيد - سواء كان وجود هذا الفرد المحتمل المقارن لزوال الفرد الأوّل - {بنفسه} بأن كان وجود الحادث مقارناً لوجود الفرد القديم

ص: 113


1- الحاشية على تهذيب المنطق: 49.

أو بملاكه، كما إذا شكّ في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإيجاب بملاك مقارن أو حادث.

لا يقال: إنّ الأمر وإن كان كما ذكر، إلّا أنّه حيث كان التفاوت بين الإيجاب والاستحباب - وهكذا بين الكراهة والحرمة - ليس إلّا بشدّة الطّلب بينهما وضعفه، كان تبدّل أحدهما بالآخر - مع عدم تخلّل العدم - غير موجب لتعدّد وجود الطّبيعي بينهما؛

___________________________________________

{أو} كان {بملاكه} بأن قارن زوال الفرد الأوّل الثّاني، فالأقسام ثلاثة: المقارن للارتفاع، والمقارن للوجود بنفسه، والمقارن للوجود بملاكه {كما إذا شكّ في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإيجاب} بحيث كان ذلك الاستحباب الحادث {بملاك مقارن} للوجوب {أو حادث} عند زوال الوجوب.ومن المعلوم أنّه إذا كان الملاك مقارناً للوجوب كان الاستحباب بنفسه موجوداً حالة الوجوب، بخلاف ما إذا كان حادثاً. وقد اختلف المعلّقون في مراد المصنّف(رحمة الله) هنا، فراجع.

{لا يقال}: كيف ذكرتم أنّ الاستحباب فرد جديد، وجعلتم ذلك من القسم الثّالث من استصحاب الكلّي، والحال أنّه بعض مراتب الوجوب، إذ الوجوب شدّة الطّلب والاستحباب ضعفه، فالجامع بينهما موجود من أوّل الأمر، فلا مانع من استصحاب الاستحباب بعد العلم برفع الوجوب.

ف- {إنّ الأمر} في الوجوب والاستحباب {وإن كان كما ذكر} من أنّها فردان {إلّا أنّه حيث كان التفاوت بين الإيجاب والاستحباب، وهكذا} التفاوت {بين الكراهة والحرمة ليس إلّا بشدّة الطّلب بينهما} أي: بين الإيجاب والاستحباب، وبين الكراهة والحرمة {وضعفه} أي: ضعف الطّلب {كان تبدّل أحدهما بالآخر مع عدم تخلّل العدم} بأن جاء الاستحباب بمجرّد زوال الوجوب {غير موجب لتعدّد وجود الطّبيعي بينهما} أي: بين الوجوب والاستحباب والكراهة والحرمة.

ص: 114

لمساوقة الاتصال مع الوحدة، فالشكّ في التبدّل حقيقة شكّ في بقاء الطّلب وارتفاعه، لا في حدوث وجود آخر.

فإنّه يقال: الأمر وإن كان كذلك،

إلّا أنّ العرف حيث يرى الإيجاب والاستحباب المتبادلين فردين متباينين، لا واحد مختلف الوصف في زمانين، لم يكن مجال للاستصحاب؛

___________________________________________

وإنّما قلنا: إنّ الفرق بينهما غير موجب لتعدّد الطّبيعي {لمساوقة الاتصال مع الوحدة} أي: إنّ الوجود المتصل وجود واحد لا أنّه وجودات متعدّدة، فالوجوب والاستحباب حيث إنّ الطّلب فيهما واحد يكونان شيئاً واحداً {فالشكّ في التبدّل} وهل أنّه انعدم الوجوب بلا خلف أو انعدم مع خلف هو الاستحباب {حقيقة شكّ في بقاء الطّلب وارتفاعه} لفرض أنّ الطّلب في الواجب والمستحبّ أمر واحد لا متعدّد {لا في حدوث وجود آخر} فهو من قبيل تبدّل السّواد الشّديد بالسواد الضّعيف، لا من قبيل تبدّل زيد بعمرو - ممّا لهما وجودان منحازان - .

وعلى هذا فلا يصحّ التمثيل للقسم الثّالث بالوجوب والاستحباب.

{فإنّه يقال}: الوجوب والاستحباب وإن كانا كما ذكرتم حقيقة إلّا أنّهما متباينان عرفاً، والمناط في الاستحباب وحدة الموضوع عرفاً، فإنّ {الأمر وإن كان كذلك} بأنّ الاستحباب من مراتب الوجوب والطّلب فيها واحد منتهى الأمر بشدّة وضعف {إلّا أنّ العرف حيث يرى الإيجاب والاستحباب المتبادلين} القائم أحدهما مكان الآخر {فردين متباينين} لا علقة بينهما أصلاً، و{لا} يرى أنّهما {واحد مختلف الوصف} بالشدّة والضّعف {في زمانين} زمان الوجوب السّابق وزمان الاستحباب اللّاحق {لم يكن} جواب قوله: «حيث يرى» أو أنّ العرف حيث يراهما اثنين لم يكن {مجال للاستصحاب} وهكذا في السّواد الضّعيف والشّديد

ص: 115

لما مرّت الإشارة إليه ويأتي من أنّ قضيّة إطلاق أخبار الباب: أنّ العبرة فيه بما يكون رفع اليد عنه - مع الشّكّ، بنظرالعرف - نقضاً، وإن لم يكن بنقض بحسب الدقّة، ولذا لو انعكس الأمر ولم يكن نقض عرفاً، لم يكن الاستصحاب جارياً وإن كان هناك نقض عقلاً.

وممّا ذكرنا في المقام يظهر أيضاً حال الاستصحاب في متعلّقات الأحكام في الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة،

___________________________________________

{لما مرّت الإشارة إليه ويأتي} تفصيله في الخاتمة {من أنّ قضيّة إطلاق أخبار الباب أنّ العبرة فيه} أي: في الاستصحاب {بما} خبر «إنّ» أي: الاعتبار بشيء {يكون رفع اليد عنه - مع الشّكّ، بنظر العرف - نقضاً} فكلّما رأى العرف أنّه نقض جرى الاستصحاب، وكلّما رأى أنّه ليس بنقض لم يجر وإن كان في نظر الدقّة والعقل خلاف ذلك.

وما نحن فيه ممّا يرى أنّه ليس بنقض، ولذا نرى أنّه لو ارتفع الوجوب عن شيء فلم يقل المكلّف باستحبابه لم يره العرف ناقضاً ليقينه السّابق، فكلّما قال العرف أنّه نقض {وإن لم يكن بنقض بحسب الدقّة} العقليّة جرى الاستصحاب، كما لو نقص عن ماء الكرّ مقدار، فإنّ رفع اليد عن الكريّة نقض عرفي، وإن لم يكن نقضاً دقّيّاً، وكلّما قال العرف إنّه ليس بنقض - وإن كان نقضاً بحسب الدقّة - لم يجر الاستصحاب، كما نحن فيه من مثال الوجوب والاستحباب {ولذا لو انعكس الأمر ولم يكن نقض عرفاً} وإن كان نقضاً عقلاً ودقّة {لم يكن الاستصحاب جارياً، وإن كان هناك نقض عقلاً} كما عرفت.

{وممّا ذكرنا في المقام} من تفصيل أقسام الاستصحاب الكلّي وأنّه يجري في الأوّلين دون الأخير {يظهر أيضاًحال الاستصحاب في متعلّقات الأحكام} وهي الموضوعات ممّا ليس بأُمور مجعولة كالخمر والميتة ونحوهما {في الشّبهات الحكميّة} كما لو شكّ في أنّ الواجب في الكفّارة مدّ أو مدّان {والموضوعيّة} كما

ص: 116

فلا تغفل.

الرّابع: أنّه لا فرق في المتيقّن بين أن يكون من الأُمور القارّة

___________________________________________

لو علم بأنّه وجب عليه أمداد متعدّدة لكن لا يعلم بأنّها لشهر كامل أو لنصف شهر، فإنّه لا يجري استصحاب الوجوب لتعيين الزائد؛ لأنّه من القسم الثّالث من الاستصحاب الكلّي، وقد عرفت عدم جريانه {فلا تغفل} واللّه العالم.

[التنبيه الرّابع]

اشارة

التنبيه {الرّابع} في جريان الاستصحاب في الأُمور التدريجيّة، كجريان النّهر وسيلان الدم، فإنّ الأُمور تنقسم إلى قسمين:

الأوّل: الأُمور القارّة، وهي الّتي تجتمع أجزاؤها في الوجود كالخطّ والإنسان والشّجر وما أشبه، ولا إشكال في جريان الاستصحاب فيها؛ لأنّها كانت في الزمان الأوّل ثمّ شكّ في بقائها فيستصحب.

الثّاني: الأُمور غير القارّة، وهي الّتي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود، بل ينعدم جزء ليوجد جزء، وقد أشكل في جريان الاستصحاب في هذا القسم من جهة أنّ الجزء السّابق المتيقّن قد زال يقيناً، فإنّ القطرة الأُولى من الدم قد أُريقت، والجزء اللّاحق المشكوك لا حالة سابقة له، فإنّه لا يعلم بخروج قطرة أُخرى من الرّحم - في باب الحيض - فكيف يستصحب بقاء دم الحيض - مثلاً - .

وإن شئت قلت: القطرة الأُولى متيقّن الزوال والقطرة الثّانية مشكوك الحدوث، فلا يتمّ ركنا الاستصحاب في مثله.لكن يدفع هذا الإشكال بأنّ موضوع الاستصحاب - كما عرفت - هو الأمر العرفي، ومن المعلوم أنّ العرف يرى هذا الدم هو الدم الأوّل، فإنّه لا يفرق بين الأجزاء القارّة وغير القارّة، والموضوع العرفي كافٍ في جريان الاستصحاب، ف- {إنّه لا فرق في المتيقّن بين أن يكون من الأُمور القارّة} الّتي تجتمع أجزاؤها في

ص: 117

أو التدريجيّة غير القارّة؛ فإنّ الأُمور غير القارّة، وإن كان وجودها ينصرم، ولا يتحقّق منه جزء إلّا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم، إلّا أنّه ما لم يتخلّل في البين العدم - بل وإن تخلّل بما لا يخلّ بالاتصال عرفاً، وإن انفصل حقيقة - كانت باقية مطلقاً أو عرفاً، ويكون رفع اليد عنها مع الشّكّ في استمرارها وانقطاعها نقضاً، ولا يعتبر في الاستصحاب - بحسب تعريفه وأخبار الباب وغيرها من أدلّته -

___________________________________________

الوجود في زمان واحد {أو} الأُمور {التدريجيّة غير القارّة} ممّا لا تجتمع أجزاؤها في زمان واحد.

{فإنّ الأُمور غير القارّة، وإن كان وجودها ينصرم} ويمضي {ولا يتحقّق منه جزء إلّا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم} ومضى {إلّا أنّه ما لم يتخلّل في البين العدم} بأن لم تر المرأة بياضاً بعد الجزء الأوّل من الدم - مثلاً - {بل وإن تخلّل} العدم القليل {بما لا يخلّ بالاتصال عرفاً، وإن انفصل حقيقة}.

كما لو رأت البياض لحظة واحدة ممّا لا يسبّب الاثنينيّة بين الدم الأوّل والدمالثّاني عند العرف {كانت} متعلّق بقوله: «إنّه ما لم يتخلّل» أي: كانت هذه الأُمور غير القارّة {باقية مطلقاً} أي: حقيقة وعرفاً في ما لم يتخلّل العدم أصلاً {أو} باقية {عرفاً} لا حقيقة في ما تخلّل العدم القليل {ويكون رفع اليد عنها} أي: عن تلك الأُمور غير القارّة {مع الشّكّ في استمرارها وانقطاعها}.

كما لو شكّ في أنّه هل انقطع دمها أم استمرّ، فإنّه لو رفعت اليد عن الدم كان ذلك {نقضاً} لليقين بالشك، ويقال لها عرفاً: أنت الّتي كنت تيقّنت بالدم كيف رفعت اليد عنه مع أنّك لا تعلمين بالنقاء؟

{و} على هذا فيجب الاستصحاب، إذ {لا يعتبر في الاستصحاب بحسب تعريفه} وه--و إبقاء ما كان {وأخبار الباب} ك- «لا تنقض اليقين ب-الشكّ» {وغيرها} أي: غير الأخبار {من أدلّته} كالظنّ وبناء العقلاء والإجماع

ص: 118

غيرُ صدق النّقض والبقاء كذلك قطعاً، هذا.

مع أنّ الانصرام والتدرّج في الوجود في الحركة - في الأين وغيره -

___________________________________________

{غير صدق النّقض والبقاء كذلك} أي: عرفاً {قطعاً} كما لا يخفى.

{هذا مع} أنّه يمكن الجواب عن إشكال الاستصحاب في الأشياء التدريجيّة بوجه آخر، وهو أنّ الحركة على قسمين: قطعيّة، وتوسّطيّة.

فالحركة القطعيّة: هي الّتي يعتبر المتحرّك في كلّ زمان في مكان خاصّ أو عند حدّ خاصّ، ككون المسافر من كربلاء إلى النّجف في السّاعة الأُولى في الفرسخ الأوّل وهكذا، أو كون الطّفل في اليوم الأوّل في هذا الحدّ الخاصّ من عمره، وفياليوم الثّاني في حدّ آخر، أو كون التمر في اليوم الأوّل في الاخضرار وفي اليوم الثّاني في الاصفرار وهكذا، وبهذا الاعتبار يكون المتيقّن السّابق غير المشكوك اللّاحق، إذ كون المسافر في الفرسخ الأوّل غير كونه في الفرسخ الثّاني.

والحركة التوسطيّة: عبارة عن كون المتحرّك بين المبدأ والمنتهى، ككون المسافر بين كربلاء والنّجف، والطّفل بين الجنينيّة والكهليّة، والتمر بين الاخضرار والاسوداد، وبهذا الاعتبار يكون المتيقّن السّابق عين المشكوك اللّاحق.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الأُمور التدريجيّة لو اعتبرناها بالحركة القطعيّة لم يجر الاستصحاب فيها؛ لأنّ المتيقّن قد زال والمشكوك لا يقين سابق بالنسبة إليه، ولو اعتبرناها بالحركة التوسطيّة جرى الاستصحاب فيها، لما عرفت من أنّ المتيقّن عين المشكوك، فنقول: كان المسافر بين المبدأ والمنتهى فنشكّ عن خروجه عن ذلك فالأصل البقاء، لكن لا يخفى أنّ هذا جواب دقّيّ مستغن عنه في باب الاستصحاب، وربّما يشكل عليه بما لا مجال لذكره.

إذا عرفت ذلك فلنوضّح المتن ونقول: {إنّ الانصرام والتدرّج في الوجود في الحركة في الأين وغيره} كالحركة في الكمّ في الطّفل النّامي، والحركة في الكيف

ص: 119

إنّما هو في الحركة القطعيّة، وهي: كون الشّيء في كلّ آن في حدّ أو مكان، لا التوسطيّة، وهو كونه بين المبدأ والمنتهى؛ فإنّه بهذا المعنى يكون قارّاً مستمرّاً.

فانقدح بذلك أنّه: لا مجال للإشكال في استصحاب مثل الليل أو النّهار وترتيب ما لهما من الآثار.

وكذا كلّما إذا كان الشّكّ في الأمر التدريجي من جهة الشّكّ في انتهاء حركته ووصوله

___________________________________________

في التمر المتلوّن، وهكذا من أقسام الحركة المذكورة في كتب الكلام والفلسفة {إنّما هو في الحركة القطعيّة، وهي} الّتي تعتبر الحركة أجزاء تدريجيّة، فالمتحرّك في كلّ آن في مكان أو حال غير المكان الأوّل، والحال الأوّل بما حاصلها {كون الشّيء في كل آنٍ في حدٍّ أو مكانٍ} فلا متيقّن باقٍ حتّى يستصحب {لا} الحركة {التوسطيّة، وهو كونه} أي: الشّيء المتحرّك {بين المبدأ والمنتهى} بأن تعتبر الحركة أمراً واحداً يبتدئ من هنا وينتهي إلى هنا {فإنّه} أي: الشّيء المتحرّك {بهذا المعنى} التوسطي {يكون قارّاً مستمرّاً} ويصحّ استصحابه لليقين السّابق بعين ما يشكّ فيه لاحقاً.

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من صحّة استصحاب الأُمور التدريجيّة {أنّه لا مجال للإشكال في استصحاب مثل اللّيل أو النّهار} إمّا ببيان أنّ كلّاً منهما أمر واحد عرفاً، فإذا شكّ في زواله استصحب لليقين السّابق، وإمّا ببيان أنّ النّهار عبارة عن: كون الشّمس بين المشرق والمغرب، والليل عبارة عن: كونها بين المغرب والمشرق، وهما أمران باقيان قارّان لا متصرّمان تدريجيان غير قارّين {و} عليه يجب الاستصحاب و{ترتيب ما لهما من الآثار} الشّرعيّة عليهما.

{وكذا} لا مجال للإشكال في {كلّما إذا كان الشّكّ في الأمر التدريجي} وأنّه هل زال أم بعد باقٍ {من جهة الشّكّ في انتهاء حركته ووصوله} أي: المتحرّك

ص: 120

إلى المنتهى، أو أنّه بعد في البين.

وأمّا إذا كان من جهة الشّكّ في كميّته ومقداره - كما في نبع الماء وجريانه، وخروج الدم وسيلانه، في ما كان سبب الشّكّ في الجريان والسّيلان، الشّكّ في أنّه بقي في المنبع والرّحم فعلاً شيء من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما - .

فربّما يشكل في استصحابهما حينئذٍ؛ فإنّ الشّكّ ليس في بقاء جريان شخص ما كان جارياً، بل في حدوث جريان جزء آخر شكّ في جريانه من جهة الشّكّ في حدوثه.

___________________________________________

{إلى المنتهى أو أنّه بعد في البين} وهذا في ما إذا كان الشّكّ في المانع، كما لو شكّ في أنّه منع عن جريان النّهر مانع أم لا، مع العلم بالاستعداد واضح، فإذا علمنا بأنّ للماء استعداداً للجريان ثمّ شككنا في أنّه هل وقع على فم العين حجر يمنع عن الجريان، كان الأصل مقتضياً للجريان.

{وأمّا إذا كان} الشّكّ في الأمر التدريجي {من جهة الشّكّ في كمّيّته ومقداره كما} لو شكّ {في نبع الماء وجريانه} وهل أنّه لهذه العين استعداد للجريان إلى هذا الوقت أم لا {وخروج الدم وسيلانه} بأن شكّ في أنّ دمها للحيض هل يكون بكميّة يمكن بقاؤه إلى هذا اليوم أم لا {في ما كان سبب الشّكّ في الجريان والسّيلان الشّكّ في أنّه بقي في المنبع} للماء {والرّحم} بالنسبة إلى الدم {فعلاً شيء من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما} أم لا، فهل يستصحبان؟{فربّما يشكل في استصحابهما} أي: الجريان والسّيلان {حينئذٍ} أي: حين كان الشّكّ في المقتضي لأجل ما ذكره بقوله: {فإنّ الشّكّ} في الاستمرار {ليس في بقاء جريان شخص ما كان جارياً} إذ الشّخص الجاري قد نفد وتمّ {بل} الشّكّ {في حدوث جريان جزء آخر} الّذي {شكّ في جريانه من جهة الشّكّ في حدوثه} لأنّه لا يعلم بالكميّة، ولهذا لا يدري أنّ الماء الزائد والدم الزائد هل حدث في المنبع والرّحم حتّى يجري أم لا؟

ص: 121

ولكنّه يتخيّل بأنّه لا يختلّ به ما هو الملاك في الاستصحاب، بحسب تعريفه ودليله حسب ما عرفت.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ استصحاب بقاء الأمر التدريجي إمّا يكون من قبيل استصحاب الشّخص، أو من استصحاب الكلّي بأقسامه.

فإذا شكّ في أنّ السّورة المعلومة الّتي شرع فيها تمّت، أو بقي شيء منها، صحّ فيه استصحاب الشّخص والكلّي.

___________________________________________

{ولكنّه} لا يتمّ هذا الإشكال، فإنّ مقتضى القاعدة القول بجريان الاستصحاب، إذ {يتخيّل} وهذا من باب التواضع من المصنّف(رحمة الله) {بأنّه لا يختلّ به} أي: بهذا الشّكّ {ما هو الملاك في الاستصحاب بحسب تعريفه ودليله} إذ يصدق هنا «بقاء ما كان» كما يصدق «لا تنقض اليقين بالشكّ» {حسب ما عرفت} سابقاً، فإذا صدق دليل الاستصحاب وتعريفه لم يكن مجال للإشكال.

{ثمّ إنّه لا يخفى} أنّ الأقسام الأربعة للاستصحاب: وهو الاستصحاب الشّخصي، والاستصحاب الكلّي بأقسامه الثلاثة، وهي ما كان الشّكّ في الكلّي من جهة الشّكّ في بقاء الفرد المتحقّق في ضمنه، والشّكّ فيالكلّي من جهة تردّد الأمر بين الفرد القصير والفرد الطّويل، والشّكّ في الكلّي من جهة الشّكّ في أنّه هل حدث فرد جديد عند ذهاب الفرد الأوّل أم لا؟

وإنّما قلنا بجريان الاستصحاب في جميع هذه الأقسام في الأُمور التدريجيّة لما عرفت من جريان دليل الاستصحاب وتعريفه فيها.

والحاصل: {أنّ استصحاب بقاء الأمر التدريجي إمّا يكون من قبيل استصحاب الشّخص أو من استصحاب الكلّي بأقسامه} الثلاثة {فإذا شكّ في أنّ السّورة المعلومة} كسورة تبارك {الّتي شرع فيها تمّت أو بقي شيء منها صحّ فيه استصحاب الشّخص} بأن يقال: إنّ سورة تبارك لم تتمّ {والكلّي} بأن يقول: السّورة لم تتمّ في

ص: 122

وإذا شكّ فيه من جهة تردّدها بين القصيرة والطّويلة كان من القسم الثّاني.

وإذا شكّ في أنّه شرع في أُخرى مع القطع بأنّه قد تمّت الأُولى، كان من القسم الثّالث، كما لا يخفى.

هذا في الزّمان ونحوه من سائر التّدريجيّات.

وأمّا الفعل المقيّد بالزمان:

___________________________________________

ما كان كلّ منهما ذا أثر.

ولا يفرق في ذلك الشّكّ كون منشأه الشّكّ في المقتضي، بأن كان الشّكّ من جهة عدم علمه بطول السّورة وقصرها، أم الشّكّ في المانع؟ وأنّه هل منعه عن إتمامها شيء {وإذا شكّ فيه من جهة تردّدها بين القصيرة والطّويلة} كما لو لم يدر بأنّه هل كان يقرأ سورة البقرةحتّى لم تكن قد تمّت، أم كان يقرأ {قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ}(1) حتّى تكون قد تمّت {كان من القسم الثّاني} الّذي ذكرنا بجريان الاستصحاب فيه، فأصالة عدم التمام محكمة.

وعليه يقتضي إمّا إتمام البقرة - لو كان يعلم أنّه قرأ إلى آية كذا على تقدير كون المقروّة البقرة - أو الإتيان بسورة جديدة وفاءً للنذر أو امتثالاً لقراءة السّورة الكاملة بعد الحمد في الصّلاة.

{وإذا شكّ في أنّه} هل {شرع في} سورة {أُخرى مع القطع بأنّه قد تمّت الأُولى} في ما لو كان المكلّف به: أن يقف العبد بخدمة القارئ مادام مشتغلاً بقراءة السّورة، فعلم بأنّه أتمّ السّورة الأُولى ولم يعلم بأنّه هل شرع في أُخرى أم لا؟ {كان من القسم الثّالث} الّذي ذكرنا أنّه لا يجري الاستصحاب فيه {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{هذا} كلّه {في الزّمان ونحوه من سائر التدريجيّات} وقد علمت أنّها كسائر الأُمور القارّة في جميع الخصوصيّات {وأمّا الفعل المقيّد بالزمان} كصوم نهار

ص: 123


1- سورة الإخلاص، الآية: 1.

فتارة: يكون الشّكّ في حكمه من جهة الشّكّ في بقاء قيده

___________________________________________

رمضان والجلوس في المسجد يوم الجمعة، فإنّ الشّكّ فيه على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون الشّكّ في الفعل، لأجل الشّكّ في بقاء الزمان وعدمه، كما لو شكّ في وجوب الإمساك من جهة الشّكّ في بقاء النّهار ودخول الليل، وهذا ممّالا شكّ في جريان الاستصحاب في الزمان بالنسبة إليه، فيحكم بوجوب الإمساك.

الثّاني: أن يكون الشّكّ في الفعل من جهة الشّكّ في أنّه هل الفعل محدود بهذا الزمان أم ليس بمحدود، بل يجب حتّى بعد انتهاء الزمان مع كون الزمان قيداً للفعل، كما لو قال: (اجلس في المسجد نهار يوم الجمعة) فانقضى النّهار وجاء الليل وشكّ في أنّه هل يجب جلوسه فيه في الليل أم انتهى الوجوب بانتهاء النّهار، وكان سبب شكّه في الوجوب احتماله وجوب الجلوس في الليل أيضاً، وإنّما قيل بالنهار - في لسان الدليل - من باب تعدّد المطلوب، بأن يكون أصل الجلوس في المسجد مطلوباً وكونه في النّهار مطلوباً ثانياً، وهنا لا يجري الاستصحاب؛ لأنّ كون النّهار قيداً لموضوعه موجب لانتفاء الحكم بزوال القيد، إذ الشّيء المقيّد غير الشّيء المطلق، واستصحاب الحكم حينئذٍ يكون من باب انسحاب الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

الثّالث: هو الثّاني لكن في ما إذا أخذ الزمان - في لسان الدليل - ظرفاً للفعل لا قيداً، وهنا يجري الاستصحاب؛ لأنّ الفعل مطلق غير مقيّد ونشكّ في بقائه وارتفاعه والأصل بقاؤه. وبهذا تعرف أنّ قول المصنّف: «المقيّد بالزمان» يراد به المذكور فيه الزمان، حتّى يشمل القسم الثّالث.

وكيف كان {ف-} الفعل المذكور فيه الزمان {تارة يكون الشّكّ في حكمه من جهة الشّكّ في بقاء قيده} كالشكّ في الإمساك من جهة الشّكّ في بقاء النّهار

ص: 124

وطوراً: مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أُخرى، كما إذا احتمل أن يكون التعبّد به إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب، لا أصله.

فإن كان من جهة الشّكّ في بقاء القيد،فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان، كالنهار الّذي قيّد به الصّوم - مثلاً - ، فيترتّب عليه وجوب الإمساك وعدم جواز الإفطار ما لم يقطع بزواله.

كما لا بأس باستصحاب نفس المقيّد، فيقال: إنّ الإمساك كان قبل هذا الآن في النّهار، والآن كما كان، فيجب، فتأمّل.

___________________________________________

{وطوراً} يكون الشّكّ في حكمه {مع القطع بانقطاعه وانتفائه} أي: انتفاء القيد ويكون سبب الشّكّ {من جهة أُخرى، كما إذا احتمل أن يكون التعبّد به} أي: التعبّد بهذا المقيّد بالزمان كالجلوس يوم الجمعة في المسجد {إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب، لا أصله} أي: لا أصل المطلوب، فالمطلوب متعدّد. وقد أراد المصنّف بهذا التقسيم بين القسمين الأخيرين القيد والظرف، وسيأتي منه التفكيك بينهما، إذ يوم الجمعة في المثال قد يكون ظرفاً وقد يكون قيداً.

إذا عرفت القسمين من تقيّد الفعل بالزمان - الإمساك والجلوس - قلنا {فإن كان} الشّكّ في بقاء الحكم {من جهة الشّكّ في بقاء القيد فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان} «من» بيان لقوله: «قيده» {كالنهار الّذي قيّد به الصّوم مثلاً} فإذا شكّ في آخر النّهار - لظلمة - هل أنّه يجب عليه الإمساك أم لا استصحب النّهار {فيترتّب عليه وجوب الإمساك وعدم جواز الإفطار ما لم يقطع بزواله} أي: زوال النّهار {كما لا بأس باستصحاب نفس} الفعل {المقيّد} بالزمان - بأن لا يستصحب الزمان - {فيقال: إنّ الإمساك كان قبل هذا الآن}المشكوك كونه من النّهار أو الليل {في النّهار، والآن} حالة الشّكّ {كما كان فيجب، فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّه لا مجال لهذا الاستصحاب مع وجود الاستصحاب السّببي الّذي هو النّهار، إذ

ص: 125

وإن كان من الجهة الأُخرى، فلا مجال إلّا لاستصحاب الحكم في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلّا ظرفاً لثبوته، لا قيداً مقوّماً لموضوعه، وإلّا فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه في ما بعد ذاك الزمان؛ فإنّه غير ما علم ثبوته له، فيكون الشّكّ في ثبوته له أيضاً شكّاً في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه،

___________________________________________

الشّكّ في وجوب الإمساك ناشئ عن الشّكّ في بقاء النّهار.

{وإن كان} الشّكّ في بقاء الحكم {من الجهة الأُخرى} واحتمال أن يكون القيد بالزمان من باب تعدّد المطلوب كالجلوس {فلا مجال إلّا لاستصحاب الحكم في} القسم الثّالث، وهو {خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلّا ظرفاً} بأن كان قيداً للنسبة لا قيداً للموضوع أو قيداً للمحمول {لثبوته} أي: ثبوت الحكم، كما لو قال: (يجب عليك الجلوس في المسجد) ثمّ قال: (هذا الأمر في يوم الجمعة) بأن لم يقيّد الموضوع ولا المحمول بكونه في يوم الجمعة {لا قيداً مقوّماً لموضوعه} أو محموله، وإنّما يجري الاستصحاب حينئذٍ لأنّ أركانه تامّة، فيقين سابق وشكّ لاحق والموضوع المشكوك فيه هو الموضوع المتيقّن؛ لأنّه لم يؤخذ الزمان قيداً حتّى يتبدّل الموضوع بذهاب القيد.

{وإلّا} بأن أُخذ الزمان قيداً - لا ظرفاً - {فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه} أي: عدم الحكم - وهذا هو القسم الثّاني - {فيما بعد ذاك الزمان} فإذا انتهى النّهار لم يجب الجلوس في المسجد {فإنّه} أي: الحكم في الزمان الثّاني {غير ما علم ثبوته له} فإنّ وجوب الجلوس في الليل غير وجوب الجلوس المعلوم في النّهار، ومصداق «ما» الحكم، وضمير «ثبوته» عائد إلى «ما»، وضمير «له» عائد للموضوع {فيكون الشّكّ في ثبوته} أي: ثبوت الحكم في الزمان الثّاني {له} أي: للموضوع {أيضاً شكّاً في أصل ثبوته} أي: إنّه شكّ في أنّه هل هنا - في الليل - حكم جديد بوجوب الجلوس أم لا {بعد القطع بعدمه} لأنّه كان العبد - قبل أن

ص: 126

لا في بقائه.

لا يقال: إنّ الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع، وإن أُخذ ظرفاً لثبوت الحكم في دليله؛ ضرورة دخل مثل الزمان في ما هو المناط لثبوته، فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه.

___________________________________________

يقول المولى: (اجلس في المسجد يوم الجمعة) - قاطعا بعدم وجوب الجلوس في الليل، فإذا شكّ في أنّه هل وجب أم لا؟ كان محلّاً لاستصحاب العدم {لا} أنّ الشّكّ فيه شكّ {في بقائه} أي: بقاء الحكم النّهاري.

والحاصل: أنّه لم يتمّ فيه ركنا الاستصحاب، فإن قلنا بالوجوب كان حكماً جديداً لا حكماً مستصحباً.

وإن شئت قلت: في يوم الخميس لم يكن تكليف بالجلوس في المسجد لا بالنسبة إلى يوم الجمعة ولا بالنسبة إلى ليلة السّبت، ثمّ انقطع هذا العدم بسبب أمر المولى بوجوب الجلوس في يوم الجمعة وبقي عدم الوجوب على حاله بالنسبة إلى ليلة السّبت، فالاستصحاب يقتضي عدم الوجوب.

{لا يقال}: كيف ذكرتم بأنّ الزمان المأخوذ في لسان الدليل قد يكونظرفاً لا قيداً فيمكن استصحاب الحكم والحال {إنّ الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع} فقوله: (اجلس يوم الجمعة) ينحلّ إلى: (الجلوس يوم الجمعة واجب) {وإن أُخذ} الزمان {ظرفاً لثبوت الحكم في دليله} بأن كان لسان الدليل ظاهراً في ظرفيّة الزمان لا في قيديّته.

وإنّما قلنا بأنّ الزمان لا محالة قيد ل-{ضرورة دخل مثل الزمان في ما هو المناط لثبوته} أي: ثبوت الحكم، فإنّ الزمان من الأُمور المهمّة {فلا مجال} في الحكم المذكور فيه الزمان {إلّا لاستصحاب عدمه} فلا يكون هناك زمان ظرف وزمان قيد، بل كلّ زمان قيد.

ص: 127

فإنّه يقال: نعم، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقّة ونظر العقل، وأمّا إذا كانت العبرة بنظر العرف، فلا شبهة في أنّ الفعل - بهذا النّظر - موضوع واحد في الزمانين، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الأوّل، وشكّ في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثّاني، فلا يكون مجال إلّا لاستصحاب ثبوته.

لا يقال:

___________________________________________

{فإنّه يقال: نعم} الزمان من الأُمور المهمّة الّتي لا بدّ وأن يكون له مدخليّة في الحكم، لكن هذا إنّما يتبع في باب الاستصحاب {لو كانت العبرة في تعيين الموضوع} الاستصحابي {بالدقّة و} ب- {نظر العقل، وأمّا إذا كانت العبرة} في موضوع الاستصحاب {بنظر العرف، فلا شبهة في أنّ الفعل بهذا النّظر} العرفي {موضوعواحد في الزمانين} الزمان المذكور في لسان الدليل والزمان الّذي بعده {قطع بثبوت الحكم له} أي: لذلك الموضوع {في الزمان الأوّل وشكّ في بقاء هذا الحكم له} أي: للموضوع {و} في {ارتفاعه} عنه {في الزمان الثّاني} غير المذكور في لسان الدليل {فلا يكون مجال إلّا لاستصحاب ثبوته} أي: بقاء الحكم الأوّل إلى الزمان الثّاني، لتماميّة أركان الاستصحاب الّتي هي اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق.

{لا يقال}: ذكر الفاضل النّراقي في المناهج - في ما لو علم وجوب الجلوس يوم الجمعة إلى الزوال وشكّ فيه في ما بعد الزوال - يجوز استصحاب الوجوب إلى ما بعد الزوال، كما يجوز استصحاب عدمه الثابت قبل التكليف بالجلوس(1)، انتهى.

وعلى هذا فلو سلّمنا بجريان استصحاب الحكم إلى ما بعد الزمان الأوّل يقع التعارض بين استصحاب الحكم الممتد من قبل الظهر واستصحاب عدمه

ص: 128


1- مناهج الأحكام والأصول: 239.

فاستصحاب كلّ واحد من الثبوت والعدم يجري؛ لثبوت كلا النّظرين، ويقع التعارض بين الاستصحابين، كما قيل.

فإنّه يقال: إنّما يكون ذلك لو كان في الدليل ما بمفهومه يعمّ النّظرين، وإلّا فلا يكاد يصحّ إلّا إذا سبق بأحدهما؛ لعدم إمكان الجمع بينهما؛ لكمال المنافاة بينهما، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمّهما،

___________________________________________

الممتد من تخوم العدم {فاستصحاب كلّ واحد من الثبوت والعدم يجري لثبوت كلا النّظرين} أي: النّظر إلى أنّهلم يكن بعد الظهر واجباً فهو على حالة عدم الوجوب، وإلى أنّه كان قبل الظهر واجباً فيستصحب إلى ما بعد الظهر فهو على حالة الوجوب {ويقع التعارض بين الاستصحابين كما قيل} والقائل النّراقي كما عرفت.

{فإنّه يقال}: لا يمكن أن يعمّ دليل الاستصحاب كلا الاستصحابين للزومه التناقض، فلا بدّ وأن يشمل أحدهما، فإذا أُخذ الزمان قيداً شمل استصحاب عدم التكليف لتبدّل الموضوع وإذا أُخذ الزمان ظرفاً شمل استصحاب الوجود لتماميّة أركان الاستصحاب فيه، ف- {إنّما يكون ذلك} الّذي ذكرتم من لزوم التعارض بين استصحاب الجلوس واستصحاب عدم الجلوس {لو كان في الدليل} الدالّ على الاستصحاب {ما بمفهومه يعمّ النّظرين} النّظر إلى استصحاب الجلوس الواجب قبل الظهر، والنّظر إلى استصحاب عدم الجلوس الّذي كان من الأوّل {وإلّا} فلو لم يكن في دليل الاستصحاب ما يعمّ الأمرين {فلا يكاد يصحّ} الدليل {إلّا إذا سبق بأحدهما} أي: أحد النّظرين {لعدم إمكان الجمع بينهما} أي: بين النّظرين؛ لأنّ في الجمع بينهما تناقضاً في مدلول الدليل.

وهذا علّة لعدم إمكان أن يشمل دليل الاستصحاب للأمرين {لكمال المنافاة بينهما ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمّهما} لما عرفت من عدم تماميّة

ص: 129

فلا يكون هناك إلّا استصحاب واحد، وهو استصحاب الثبوت في ما إذا أُخذ الزمان ظرفاً، واستصحاب العدم في ما إذا أُخذ قيداً؛ لما عرفت من أنّ العبرة في هذا الباب بالنّظر العرفي.ولا شبهة في أنّ الفعل - في ما بعد ذاك الوقت مع قبله - متّحد في الأوّل، ومتعدّد في الثّاني بحسبه؛ ضرورة أنّ الفعل المقيّد بزمان خاصّ غير الفعل في زمان آخر، ولو بالنّظر المسامحي العرفي.

___________________________________________

أركان الاستصحاب فيهما معاً في وقت واحد {فلا يكون هناك إلّا استصحاب واحد} فقط من دون معارض {وهو استصحاب الثبوت في ما إذا أُخذ الزمان ظرفاً} لا قيداً للموضوع، بأن كان الدليل متعرّضاً لوجود الحكم هاهنا - قبل الظهر - من دون أن يقيّده بالقبليّة، فهو مثل أن يخبر أنّ زيداً كان جالساً قبل الظهر، فإنّه ليس مقيّداً جلوسه بالقبليّة {واستصحاب العدم في ما إذا أُخذ} الزمان {قيداً} لا ظرفاً، بأن كان المأمور به الجلوس المقيّد بكونه قبل الظهر {لما عرفت من أنّ العبرة في هذا الباب} أي: باب الاستصحاب {بالنّظر العرفي} فإنّ العرف هو الحاكم في تعيين الموضوع لا الدقّة.

{ولا شبهة في أنّ الفعل} كالجلوس {في ما بعد ذاك الوقت} كبعد الظهر {مع قبله متّحد في الأوّل} الّذي أُخذ الزمان ظرفاً للفعل {ومتعدّد في الثّاني} الّذي أُخذ الزمان قيداً {بحسبه} أي: بحسب النّظر العرفي.

{ضرورة أنّ الفعل المقيّد بزمان خاصّ غير الفعل في زمان آخر} هذا وجه التعدّد في صورة التقييد {ولو بالنّظر المسامحي العرفي} «لو» متّصلة بقوله: «ومتعدّد»، فإنّه لو قال المولى: (اذهب إلى دار زيد في هذا اليوم) رآه العرف غير الذهاب إلى داره غداً، وهكذا لو قال: (اجلس هنا مادام زيد في الدار) رأوه غير الجلوسبعد خروج زيد.

ص: 130

نعم، لا يبعد أن يكون بحسبه أيضاً متّحداً في ما إذا كان الشّكّ في بقاء حكمه، من جهة الشّكّ في أنّه بنحو التعدّد المطلوبي، وأنّ حكمه - بتلك المرتبة الّتي كان مع ذاك الوقت - وإن لم يكن بعده باقياً قطعاً، إلّا أنّه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه، فيستصحب، فتأمّل جيّداً.

إزاحة وهم

___________________________________________

{نعم} لو احتمل أن يكون التقييد بالزمان من باب تعدّد المطلوب - كما لو قال: (اجلس ليلة عرفة في حرم الحسين(علیه السلام) إلى الصّباح) - فإنّه لو شكّ في أنّ المطلوب هل هو المقيّد فقط، أو أنّ المقيّد ذو طلبين طلب الأصل وطلب كونه مقيّداً وأنّه بعد الصّباح أيضاً الجلوس مستحبّ، جرى الاستصحاب وأنّه كان مطلوباً قبل الصّباح، فهو مطلوب بعده، لتماميّة أركان الاستصحاب من اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق.

ف- {لا يبعد أن يكون} الجلوس في الزمان الأوّل والثّاني {بحسبه} أي: بحسب النّظر العرفي {أيضاً متّحداً} كما هو متّحد في صورة العلم بتعدّد المطلوب {في ما إذا كان الشّكّ في بقاء حكمه من جهة الشّكّ في أنّه بنحو التعدّد المطلوبي} حتّى يكون أصل الفعل مطلوباً مطلقاً، وكونه في هذا الزمان الخاصّ مطلوباً آخر {و} في {أنّ حكمه بتلك المرتبة} الأكيدة {الّتي كان مع ذاك الوقت وإن لم يكن بعده باقياً قطعاً، إلّا أنّه يحتمل بقاؤه} أي: بقاء ذلك الحكم {بما دون تلك المرتبة}بمرتبة ضعيفة {من مراتبه} أي: من مراتب الحكم {فيستصحب، فتأمّل جيّداً}.

وبهذا تحقّق أنّ الاستصحاب يجري في صورتين: صورة الظرفيّة للزمان، وصورة الشّكّ في أنّه على نحو تعدّد المطلوب أو وحدته.

[إزاحة وهم]

{إزاحة وهم} ذكر الفاضل النّراقي(رحمة الله)، أنّه لو تطهّر الإنسان ثمّ خرج منه مذي

ص: 131

لا يخفى: أنّ الطّهارة الحدثيّة والخبثيّة وما يقابلها يكون ممّا إذا وجدت بأسبابها، لا يكاد يشكّ في بقائها إلّا من قبل الشّكّ في الرّافع لها، لا من قبل الشّكّ في مقدار تأثير أسبابها؛

___________________________________________

يشكّ في كونه ناقضاً أم لا؟ يتعارض هنا استصحابان: استصحاب الطّهارة، واستصحاب عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي، وهكذا إذا غسل الثوب النّجس بالماء مرّة - إذا شكّ في لزوم الغسل مرّة أو مرّتين - فإنّه يتعارض استصحاب النّجاسة واستصحاب عدم جعل الشّارع الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة.

ثمّ جعل الفاضل(رحمة الله) استصحاب عدم الرّافعيّة للمذي والغسل مرّة حاكماً على ذينك الاستصحابين المتعارضين، ثمّ ذكر أنّ التعارض والحكومة إنّما هو بالنسبة إلى الأُمور الشّرعيّة، أمّا الأُمور الخارجيّة كالليل والنّهار، فلا مجال إلّا لاستصحاب الوجود فيها، فلا يعقل التعارض.

وأجاب المصنّف(رحمة الله) بما ملخّصه: أنّ الطّهارة والنّجاسة الحدثيّة والخبثيّة ممّا ثبت في الشّريعة أنّها تدوم إذا حدثت، فلا مجال إلّا لاستصحاب بقائها حينما يشكّ في الرّافع لها، ففي المثالين لا مجال إلّا لاستصحاب الطّهارةبعد خروج المذي واستصحاب النّجاسة بعد الغسل بالماء مرّة، إذ {لا يخفى أنّ الطّهارة الحدثيّة والخبثيّة وما يقابلها} أي: يقابل الطّهارة - وهي النّجاسة الحدثيّة والخبثيّة - {يكون ممّا إذا وجدت بأسبابها} المقرّرة في الشّريعة {لا يكاد يشكّ في بقائها إلّا من قبل الشّكّ في الرّافع لها} فالمذي إذا خرج يشكّ في كونه رافعاً للوضوء أم لا، لا أنّه يشكّ في أنّ الوضوء له مقتضٍ للبقاء بعده أم لا، وكذلك بالنسبة إلى الغسل مرّة بعد النّجاسة، فإنّه يشكّ في كون الغسل مرّة رافعاً أم لا، لا أنّه يشكّ في كون النّجاسة لها مقتضٍ للبقاء بعد الغسل مرّة أم لا {لا من قبل الشّكّ في مقدار تأثير أسبابها} أي: أسباب الطّهارة والنّجاسة، وأنّه هل سبب

ص: 132

ضرورة أنّها إذا وجدت بها كانت تبقى ما لم يحدث رافع لها، - كانت من الأُمور الخارجيّة، أو الأُمور الاعتباريّة الّتي كانت لها آثار شرعيّة - ، فلا أصل لأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي، وأصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة - كما حكي عن بعض الأفاضل(1)

- ، ولا يكون هاهنا أصل إلّا أصالة الطّهارة أو النّجاسة.

الخامس:

___________________________________________

الطّهارة والنّجاسة ذو مقتضٍ طويل أم مقتضٍ قصير.

{ضرورة أنّها} أي: الطّهارة والنّجاسة بقسميها {إذا وجدت بها} أي: بأسبابها الخاصّة {كانت تبقى ما لم يحدثرافع لها} سواء {كانت} الطّهارات والنّجاسات {من الأُمور الخارجيّة} الّتي كشف عنها الشّارع {أو الأُمور الاعتباريّة} صرف المجعولة {الّتي كانت لها آثار شرعيّة} بالنسبة إلى الصّلاة وبعض أنحاء الاستعمال وغيرهما، وعلى هذا الّذي ذكرنا من كونها ممّا إذا ثبتت دامت {فلا أصل لأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي} حتّى يعارض أصالة الطّهارة الممتدّة ممّا قبل المذي {و} كذا لا أصل ل- {أصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة} حتّى يعارض أصالة النّجاسة الممتدّة ممّا قبل التطهير مرّة {كما حكي عن بعض الأفاضل} وهو النّراقي(رحمة الله) القول بذلك ممّا عرفت تفصيله {ولا يكون هاهنا أصل إلّا أصالة الطّهارة أو النّجاسة} كما لا يخفى.

[التنبيه الخامس]

التنبيه {الخامس} في استصحاب التعليقي. اعلم أنّ المستصحب قد يكون شيئاً محقّقاً سابقاً فيستصحب حكمه إذا شكّ فيه في الزمان اللّاحق، كما إذا علمنا أنّ ماء العنب المغلي قد حرم، ثمّ شككنا بعد ذلك هل أنّ هذا الماء الّذي صار حراماً بالغليان باقٍ على حرمته أم طهر بسبب تبخّر ثلثيه بالهواء، فإنّه لا

ص: 133


1- مناهج الأحكام والأصول: 237.

أنّه كما لا إشكال في ما إذا كان المتيقّن حكماً فعليّاً مطلقاً، لا ينبغي الإشكال في ما إذا كان مشروطاً معلّقاً، فلو شكّ في مورد - لأجل طروّ بعض الحالات عليه - في بقاء أحكامه، ففي ما صحّ استصحاب أحكامه المطلقة، صحّ استصحاب أحكامه المعلّقة؛

___________________________________________

إشكال في استصحاب الحكم السّابق هنا، وقد يكون المستصحب شيئاً تقديريّاً وتعليقيّاً في الزمان السّابق، بمعنى أنّه أمر على تقدير لا أمر محقّق، كما أنّه لو علم بأنّ العنب إذا غلى ماؤه صار حراماً ثمّ شكّ في أنّ الزبيب هل هو كذلك أم لا؟ فإذا غلى ماء الزبيب ربّما يقال باستصحاب الحرمة التقديريّة، فيقال: إنّ هذا الماء لو غلى قبل شهر - في ما كان عنباً - صار حراماً فلمّا غلى فعلاً نشكّ في عدم الحرمة فالأصل الحرمة، وهذا يسمّى بالاستصحاب التعليقي؛ لأنّه يريد استصحاب الحرمة المعلّقة بالغليان لا الحرمة المحقّقة، لكون المفروض أنّه لم يكن في السّابق حراماً.

وربّما يقال بالعدم وإنّه قبل الغليان لم تكن حرمة، فإذا غلى نشكّ في طروّ الحرمة والأصل العدم، والغالب على جريان الاستصحاب التعليقى، ف- {إنّه كما لا إشكال في ما إذا كان المتيقّن} السّابق {حكماً فعليّاً} في جريان الاستصحاب {مطلقاً} كذلك {لا ينبغي الإشكال في ما إذا كان} المتيقّن السّابق {مشروطاً} بشرط و{معلّقاً} بقيد، سواء كان الحكم المراد استصحابه تكليفيّاً كحرمة المغلي من ماء الزبيب أم وضعيّاً كنجاسته.

{فلو شكّ في مورد - لأجل طروّ بعض الحالات عليه -} أي: على ذلك المورد {في بقاء أحكامه} السّابقة {ففي ما صحّ استصحاب أحكامه المطلقة} غير المشروطة فنقول: هذا كان ملكاً لزيد والحال ملك له، وهذا كان جائز الاستعمال في غير شؤون الأكل والحال جائز، وهكذا {صحّ استصحاب أحكامه المعلّقة} بأن يقال: كان حراماً إذا غلى ولم يذهب ثلثاه والآن حرام إذا غلى كذلك، وكان نجساً

ص: 134

لعدم الاختلال بذلك في ما اعتبر في قوام الاستصحاب، من اليقين ثبوتاً والشّكّ بقاءً.

وتوهّم: «أنّه لا وجود للمعلّق قبل وجود ما علّق عليه فاختلّ أحد ركنيه»(1).

فاسدٌ؛ فإنّ المعلّق قبله إنّما لا يكون موجوداً فعلاً، لا أنّه لا يكون موجوداً أصلاً ولو بنحو التعليق، كيف؟ والمفروض أنّه مورد فعلاً للخطاب بالتحريم - مثلاً - أو الإيجاب، فكان على يقين منه

___________________________________________

- على القول به - إذا غلى قبل ذهاب الثلثين والآن كذلك {لعدم الاختلال بذلك} التعليق {في ما اعتبر في قوام الاستصحاب من اليقين ثبوتاً والشّكّ بقاءً} فإنّا نتيقّن أنّه كان يحرم إذا غلى - قبل شهر حال كونه عنباً - والآن نشكّ في ذلك فيجب بقاؤه على ما كان.

{وتوهّم} أنّه لم يتمّ ركنا الاستصحاب لأنّه لا يقين سابقاً، إذ لم تكن حرمة قبل الغليان، ف- {«إنّه لا وجود للمعلّق} وهو الحرمة والنّجاسة {قبل وجود ما علّق عليه} وهو الغليان الّذي علّق عليه الحرمة والنّجاسة {فاختلّ أحد ركنيه»} أي: ركني الاستصحاب وهو اليقين السّابق {فاسد، فإنّ} الحكم بالتحريم {المعلّق قبله} أي: قبل وجود المعلّق عليه - وهو الغليان - {إنّما لا يكون موجوداً فعلاً} سابقاً {لا أنّه لا يكون موجوداً أصلاً ولو بنحو التعليق} والوجود التعليقي هو قسم من الوجود؛ لأنّه تلازم في ظرفه.و{كيف} لا يكون موجوداً سابقاً بنحو التعليق {و} الحال كون {المفروض أنّه} أي: المكلّف - المفهوم من الكلام - {مورد فعلاً للخطاب بالتحريم مثلاً} فيقال له: (لا تشرب العصير إذا غلى) {أو الإيجاب} فيقال له: (حجّ إذا استطعت) فإذا استطاع بعد ما عرض له شيء يشكّ في أنّه هل يكون مانعاً عن الحجّ أم لا؟ كان مقتضى الاستصحاب الوجوب {فكان على يقين منه} أي: من

ص: 135


1- كتاب المناهل: 652.

قبل طروّ الحالة، فيشكّ فيه بعده. ولا يعتبر في الاستصحاب إلّا الشّكّ في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته. واختلاف نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتاً في ذلك.

وبالجملة: يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم في ما أهمل أو أجمل، - كان الحكم مطلقاً أم معلّقاً - ، فببركته يعمّ الحكم للحالة الطّارئة اللّاحقة كالحالة السّابقة،

___________________________________________

الحكم التعليقي {قبل طروّ الحالة} الّتي صارت سبباً للشكّ {فيشكّ فيه} أي: في الحكم {بعده} أي: بعد طروّ الحالة، فيجري الاستصحاب لتماميّة أركانه.

{و} من المعلوم أنّه {لا يعتبر في الاستصحاب إلّا الشّكّ في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته}.

وإن شئت قلت: كان سابقاً تلازم بين الغليان والحرمة، فإذا شككنا في ذهاب التلازم - بعد صيرورته زبيباً - كان مقتضى الأصل بقاءَهُ {و} من المعلوم أنّ {اختلاف نحو ثبوته} أي: ثبوت الحكم سابقاً بكون أحدهما ثبوتاً تحقيقيّاً والآخر ثبوتاً تقديريّاً {لا يكاد يوجب تفاوتاً فيذلك} الأمر المعتبر في الاستصحاب من اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق.

{وبالجملة} إنّه كما لا إشكال في ما إذا قال المولى: (إذا غلى العصير صار حراماً ولو بعد الزبيبيّة) كذلك لا ينبغي الإشكال في ما إذا قال المولى: (إذا غلى العصير صار حراماً) وقال دليل الاستصحاب هذا الحكم ممتدّ إلى ما بعد الزبيبيّة، فإنّه {يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم} السّابق {في ما أُهمل أو أُجمل} ففي حالة الشّكّ الّذي أُهملت في الدليل أو أُجملت يكون الاستصحاب مبيّناً لها سواء {كان الحكم مطلقاً} كما لو قال: (ماء العنب المغلي حرام) {أم معلّقاً} كما لو قال: (إذا غلى ماء العنب حرم) {فببركته} أي: ببركة الاستصحاب {يعمّ الحكم} السّابق {للحالة الطّارئة اللّاحقة كالحالة السّابقة} من

ص: 136

فيحكم - مثلاً - بأنّ العصير الزبيبي يكون على ما كان عليه سابقاً في حال عنبيّته، من أحكامه المطلقة والمعلّقة لو شكّ فيها، فكما يحكم ببقاء ملكيّته، يحكم بحرمته على تقدير غليانه.

إن قلت: نعم، ولكنّه لا مجال لاستصحاب المعلّق؛ لمعارضته باستصحاب ضدّه المطلق، فيعارض استصحاب الحرمة المعلّقة للعصير باستصحاب حليّته المطلقة.

قلت:

___________________________________________

دون تفاوت بين المطلق والمعلّق والتكليفي والوضعي.

{فيحكم مثلاً بأنّ العصير الزبيبي} وهو الماء المستخرج منه ولو بمعونة ماء مطلق عصر فيه {يكون على ما كانعليه سابقاً في حال عنبيّته من أحكامه المطلقة} كالملكيّة وجواز الاستعمالات {والمعلّقة} من أنّ غليانه سبب لنجاسته وحرمته {لو شكّ فيها} أي: في تلك الأحكام {فكما يحكم ببقاء ملكيّته} المطلقة لمالكه {يحكم بحرمته على تقدير غليانه} وعدم ذهاب ثلثيه.

{إن قلت: نعم} نسلّم جريان استصحاب الحرمة المعلّقة المقتضي لحرمته إذا غلى {ولكنّه لا مجال لاستصحاب} الحكم {المعلّق} من جهة أُخرى، وذلك {لمعارضته} أي: هذا الاستصحاب للحكم المعلّق {باستصحاب ضدّه المطلق} فإنّ هذا الماء للزبيب قبل أن يغلي كان حلالاً، فإذا غلى نشكّ في ذهاب حليّته، فالأصل بقاؤها {فيعارض استصحاب الحرمة المعلّقة للعصير باستصحاب حليّته المطلقة} لكن هذا الاستصحاب أقوى؛ لأنّه قبل الغليان مباشرة فيقدّم على ذلك، أو يقال بأنّهما يتعارضان فيتساقطان وتكون النّتيجة عدم جريان الاستصحاب التعليقي والحكم بالحليّة لقاعدة كلّ شيء لك حلال.

{قلت}: لا تعارض بين الاستصحابين؛ لأنّه لا يجري استصحاب الحلّ، فإنّ الحلّ كان مغيّى بالغليان، فإذا غلى ذهب الحلّ تلقائيّاً فيكون حال الزبيبيّة مثل

ص: 137

لا يكاد يضرّ استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة الّتي شكّ في بقاء حكم المعلّق بعده؛ ضرورة أنّه كان مغيّى بعدم ما علّق عليه المعلّق، وما كان كذلك لا يكاد يضرّ ثبوته بعده بالقطع، فضلاً عن الاستصحاب؛ لعدم المضادّة بينهما، فيكونان بعد عروضها بالاستصحاب، كماكانا معاً - بالقطع - قبل،

___________________________________________

حال العنبيّة، فكما أنّه إذا غلى ماء العنب يذهب حلّه كذلك إذا غلى ماء الزبيب يذهب حلّه، إذ {لا يكاد يضرّ استصحابه} أي: استصحاب الضّدّ الّذي هو الحلّ، لكن لكم أن تقولوا بالحلّ - بالنسبة إلى الزبيب - بالنحو الّذي كنتم تقولون بالحلّ - بالنسبة إلى العنب - .

وهذا معنى قوله: {على نحو} أي: إنّ الحلّ المستصحب يكون على نحوٍ وصِفَةٍ {كان} ذلك النّحو {قبل عروض الحالة} أي: حالة الزبيبيّة {الّتي شكّ في بقاء حكم المعلّق بعده} أي: بعد العروض، فإنّ الحلّ المستصحب ليس حلّاً جديداً، بل هو الحلّ السّابق الّذي كان في زمان العنبيّة، ومن المعلوم أنّ الحلّ في زمان العنبيّة كان مغيّى بعدم الغليان، ل- {ضرورة أنّه} أي: الحلّ - في حال العنبيّة - {كان مغيّى بعدم ما} أي: الغليان الّذي {علّق عليه} أي: على ذلك الغليان {المعلّق} الّذي هو الحرمة {وما} أي: الحلّ الّذي {كان كذلك} أي: مغيّى بعدم الغليان {لا يكاد يضرّ ثبوته بعده} أي: بعد عروض حالة الزبيبيّة {بالقطع} يعني لو قطعنا بأنّ لماء الزبيب حليّة ماء العنب على نحو الحلّ المغيّى الّذي كان لماء العنب لم يضرّنا من جهة الاستصحاب التعليقي {فضلاً عن} ما إذا ثبت هكذا حليّة ب- {الاستصحاب لعدم المضادّة بينهما} أي: بين استصحاب حلّ مغيّى واستصحاب حرمة معلّقة، إذ الثّاني يرفع موضوع الأوّل {فيكونان} أي: هذان الحالان الحلّ والحرمة {بعد عروضها} أي: عروض الحالة الزبيبيّة {بالاستصحاب} متعلّق ب- «يكونان» {كما كانا معاً - بالقطع - قبل} أي: قبل عروض الحالة، فكما أنّ الحلّ

ص: 138

بلا منافاة أصلاً، وقضيّة ذلك انتفاء حكم المطلق بمجرّد ثبوت ما علّق عليه المعلّق.

فالغليان في المثال كما كان شرطاً للحرمة كان غاية للحليّة، فإذا شكّ في حرمته المعلّقة بعد عروض حالة عليه، شكّ في حليّته المغيّاة لا محالة أيضاً، فيكون الشّكّ في حليّته أو حرمته فعلاً بعد عروضها، متّحداً خارجاً مع الشّكّ في بقائه على ما كان عليه من الحليّة والحرمة بنحوٍ كانتا عليه، فقضيّة استصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضها - الملازم لاستصحاب حليّته المغيّاة -

___________________________________________

القطعي يخلّي مكانه للحرمة المعلّقة كذلك الحلّ المستصحب يخلّي مكانه للحرمة المستصحبة {بلا منافاة} بين الاستصحابين {أصلاً}.

{وقضيّة ذلك} أي: مقتضى كونهما بعد الحالة ككونهما قبل الحالة {انتفاء حكم المطلق} وهو الإباحة {بمجرّد ثبوت ما} أي: الغليان الّذي {علّق عليه المعلّق} وهو الحرمة {فالغليان في المثال كما كان شرطاً للحرمة كان غاية للحليّة} فإذا جاء الغليان ذهب الحلّ وجاءت الحرمة {فإذا شكّ في حرمته المعلّقة} بالغليان وكان الشّكّ {بعد عروض حالة} زبيبيّة {عليه شكّ في حليّته المغيّاة} بالغليان {لا محالة أيضاً} لتلازمهما {فيكون الشّكّ في حليّته} أي: العصير {أو حرمته فعلاً} أي: بعد الغليان {بعد عروضها} أي: عروض الحالة الزبيبيّة {متّحداً خارجاً مع الشّكّ في بقائه} أي: العصير{على ما كان عليه من الحليّة والحرمة بنحو كانتا عليه} أي: إنّه نشكّ بعد غليان عصير الزبيب هل أنّ الحليّة والحرمة في حال الزبيبيّة كالحليّة والحرمة في حال العنبيّة أم لا؟

{فقضيّة} أي: مقتضى {استصحاب حرمته المعلّقة} بالغليان {بعد عروضها} أي: عروض الحالة الزبيبيّة؛ لأنّكم تريدون أن تقولوا بحرمة العصير الزبيبي إذا غلى {الملازم} هذا الاستصحاب للحرمة {لاستصحاب حليّته المغيّاة} بالغليان، إذ الاستصحابان متلازمان فلو كان حلالاً كانت حليّته مغيّاة بالغليان

ص: 139

حرمته فعلاً بعد غليانه وانتفاء حليّته؛ فإنّه قضيّة نحو ثبوتهما، كان بدليلهما أو بدليل الاستصحاب، كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب، فالتفت ولا تغفل.

السّادس:

___________________________________________

{حرمته فعلاً بعد غليانه وانتفاء حليّته} لفرض كون حليّته مغيّاة {فإنّه} أي: كونه فعلاً حراماً {قضيّة} أي: مقتضى {نحو ثبوتهما} أي: مقتضى كيفيّة ثبوت الحليّة والحرمة، سواء {كان} نحو ثبوتهما {بدليلهما} القائل بأنّ عصير العنب حلال إذا لم يغل فإذا غلى حَرم {أو بدليل الاستصحاب} القائل بأنّ حالته بعد الزبيبيّة كحالته وقت العنبيّة {كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب، فالتفت ولا تغفل}.

وفي المقام إشكالات وأجوبة أضربنا عنها.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) على المقام بقوله: «كيلا تقول في مقام التفصّيعن إشكال المعارضة: إنّ الشّكّ في الحليّة فعلاً بعد الغليان، فيكون مسبّباً عن الشّكّ في الحرمة المعلّقة، فيشكل بأنّه لا ترتّب بينهما عقلاً ولا شرعاً، بل بينهما ملازمة عقلاً، لما عرفت من أنّ الشّكّ في الحليّة أو الحرمة الفعليّين بعده، متّحد مع الشّكّ في بقاء حرمته وحليّته المعلّقة، وأنّ قضيّة الاستصحاب حرمته فعلاً، وانتفاء حليّته بعد غليانه، فإنّ حرمته كذلك - وإن كان لازماً عقلاً لحرمته المعلّقة المستصحبة - إلّا أنّه لازم لها كان ثبوتها بخصوص خطاب، أو عموم دليل الاستصحاب، فافهم»(1)،

انتهى.

[التنبيه السّادس]

التنبيه {السّادس} في أنّه هل يستصحب أحكام الشّرائع السّابقة في ما إذا لم يكن في هذه الشّريعة تعرّض لها لا إثباتاً ولا نفياً؟ فيه خلاف، والمصنّف على أنّه يستصحب، وذلك لتماميّة أركان الاستصحاب، إذ هناك يقين سابق بالحكم

ص: 140


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 534.

لا فرق أيضاً بين أن يكون المتيقّن من أحكام هذه الشّريعة أو الشّريعة السّابقة إذا شكّ في بقائه وارتفاعه بنسخه في هذه الشّريعة؛ لعموم أدلّة الاستصحاب، وفساد توهّم(1)

اختلال أركانه في ما كان المتيقّن من أحكام الشّريعة السّابقة لا محالة:

___________________________________________

وشكّ لاحق فيستصحب.

وقد أُشكل في ذلك بأمرين:

الأوّل: إنّه لا يقين سابقاً، إذ الحكم كان لأُولئك المتشرّعين بذلك الشّرع لا مطلقاً.

والجواب: أنّ الأحكام مطلقة، وإنّما كان ظرف تلك الأحكام تلك الشّريعة، كما نشاهد من إطلاق أحكام شرعنا.الثّاني: أنّه لا شكّ لاحقاً، بل نقطع بعدم جريان أحكام أُولئك بالنسبة إلينا؛ لأنّ ديننا قد نسخ الأديان.

والجواب: أنّ النّسخ لم يقع في كلّ الأحكام، والمقدار المنسوخ معلوم فما عداه يشكّ في بقائه وزواله، فالأصل بقاؤه.

إذا عرفت ذلك قلنا: {لا فرق} في الاستصحاب {أيضاً} كما لم يكن فرق بين الاستصحاب التعليقي والتنجيزي في التنبيه المتقدّم {بين أن يكون المتيقّن من أحكام هذه الشّريعة} كما لو شككنا في كون الجهاد والحدود كانت خاصّة بزمان المعصوم أم تعمّ سائر الأزمان {أو} أحكام {الشّريعة السّابقة إذا شكّ في بقائه} أي: حكم تلك الشّريعة {وارتفاعه ب-} سبب {نسخه في هذه الشّريعة}.

وإنّما قلنا بعدم الفرق بين هذين {لعموم أدلّة الاستصحاب} إذ لم يقل الدليل لا تنقض اليقين بحكم هذه الشّريعة بالشكّ، بل أطلق {و} ل- {فساد توهّم اختلال أركانه} أي: أركان الاستصحاب {في ما كان المتيقّن من أحكام الشّريعة السّابقة لا محالة} لأحد أمرين:

ص: 141


1- الفصول الغرويّة: 315.

إمّا لعدم اليقين بثبوتها في حقّنا، وإن علم بثبوتها - سابقاً - في حقّ آخرين، فلا شكّ في بقائها أيضاً، بل في ثبوت مثلها، كما لا يخفى.

وإمّا لليقين بارتفاعها بنسخ الشّريعة السّابقة بهذه الشّريعة، فلا شكّ في بقائها حينئذٍ، ولو سلم اليقين بثبوتها في حقّنا.

وذلك لأنّ الحكم الثابت في الشّريعةالسّابقة حيث كان ثابتاً لأفراد المكلّف،

___________________________________________

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: {إمّا لعدم اليقين بثبوتها} أي: ثبوت تلك الأحكام الّتي يراد استصحابها {في حقّنا وإن علم بثبوتها - سابقاً - في حقّ آخرين} فإنّ تلك الشّريعة كانت لهم لا لنا، فلا يقين سابق لنا بثبوت تلك الأحكام بالنسبة إلينا حتّى نستصحب ذلك المتيقّن، وإذ لا يقين سابقاً {فلا شكّ} لاحقاً {في بقائها} أي: بقاء تلك الأحكام {أيضاً} أي: كما لا يقين {بل} لو كان هناك شكّ كان {في ثبوت مثلها} أي: مثل تلك الأحكام بالنسبة إلينا {كما لا يخفى} ومن المعلوم أنّ الأصل قاض بعدم الثبوت.

الثّاني: ما أشار إليه بقوله: {وإمّا} نسلّم اليقين السّابق لكن نقول: لا يتمّ الاستصحاب {لليقين بارتفاعها} أي: ارتفاع تلك الأحكام {ب-} سبب {نسخ الشّريعة السّابقة بهذه الشّريعة} فإنّ شريعة الإسلام ناسخة للشرائع الّتي كانت قبلها، وعلى هذا فيختلّ ركنا الاستصحاب {فلا شكّ في بقائها} بل قطع بعدم البقاء {حينئذٍ} أي: حين القطع بالنسخ {ولو سلم اليقين بثبوتها في حقّنا} سابقاً لإطلاق أدلّة تلك الأحكام.

{وذلك} الّذي قلنا بفساد توهّم اختلال أركان الاستصحاب {ل-} أنّا نجيب عن الإشكال الأوّل ب- {إنّ الحكم الثابت في الشّريعة السّابقة حيث كان ثابتاً لأفراد المكلّف} بصورة عامّة، ويأتي خبر قوله: «كان ثابتاً» في قوله: «كان الحكم» سواء

ص: 142

كانت محقّقة وجوداً أو مقدّرة - كما هوقضيّة القضايا المتعارفة المتداولة، وهي قضايا حقيقيّة - ، لا خصوص الأفراد الخارجيّة - كما هو قضيّة القضايا الخارجيّة - ، وإلّا لما صحّ الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشّريعة، ولما صحّ النّسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها،

___________________________________________

{كانت} تلك الأفراد {محقّقة وجوداً} لها وجودات خارجيّة حال الحكم {أو مقدّرة} بأن لم يكن لها وجود ولكنّه حكم عليهم على فرض وجودهم {كما هو} أي: كون الحكم على الأفراد الأعمّ من المحقّقة والمقدّرة {قضيّة} أي: مقتضى {القضايا المتعارفة المتداولة} في الألسنة، فإنّه إذا قال: (صلّ) أراد كلّ فرد محقّق أو مقدّر، لا الفرد الخارجي الموجود حال الخطاب {وهي} أي: القضايا المتعارفة {قضايا حقيقيّة} أي: يحكم على طبيعة المكلّف المقيّدة بالوجود سواء فعلاً أم بعداً، مقابل القضايا الّتي يحكم على المكلّف الموجود وتسمّى الخارجيّة، والقضايا الّتي يحكم على طبيعة الشّيء بما هي هي وتسمّى الطّبيعيّة {لا خصوص الأفراد الخارجيّة} عطف على قوله: «ثابتاً لأفراد المكلّف» {كما هو قضيّة القضايا الخارجيّة} كما لو قال: (جئني بكلّ من في الدار) فإنّه قضيّة خارجيّة لا تشمل إلّا الموجودين فعلاً {وإلّا} فلو كانت القضايا على نحو القضيّة الخارجيّة {لما صحّ الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشّريعة} إذ لو كان قوله - تعالى - : {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ} و{ءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ} قضايا خارجيّة كان المكلّف بها الموجودين في زمان الخطاب، فلم يصحّ استصحاب تلك الأحكام بالنسبةإلينا.

{و} كذلك لو كانت القضايا الخارجيّة {لما صحّ النّسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها} أي: ثبوت تلك الأحكام، وإنّما لم يصحّ النّسخ لأنّ النّسخ فرع عموم الحكم، وإذا كان الخطاب خاصّاً بالنسبة إلى الموجود لم يعمّ

ص: 143

كان الحكم في الشّريعة السّابقة ثابتاً لعامّة أفراد المكلّف، ممّن وجد أو يوجد، وكان الشّكّ فيه كالشكّ في بقاء الحكم الثابت في هذه الشّريعة لغير من وجد في زمان ثبوته.

___________________________________________

الحكم بالنسبة إلى المعدوم حتّى يصحّ نسخه بالنسبة إليه، فلا يصحّ أن يقال: شريعة الإسلام نسخت الشّرائع السّابقة - إطلاقاً - .

{كان الحكم} خبر قوله: «حيث كان ثابتاً» أي: لمّا كان الحكم في الشّريعة السّابقة للأفراد الخارجيّة والمقدّرة كان الحكم {في الشّريعة السّابقة ثابتاً لعامّة أفراد المكلّف ممّن وجد} حال الخطاب {أو يوجد} إلى هذا اليوم وبعده {وكان الشّكّ فيه} أي: في بقاء ذلك الحكم بالنسبة إلينا {كالشكّ في بقاء الحكم الثابت في هذه الشّريعة لغير من وجد في زمان ثبوته} أي: ثبوت الحكم - كزمان النّبيّ(صلی الله علیه و آله) والأئمّة - فكما لا إشكال في استصحاب الأحكام بالنسبة إلى الّذين لم يوجدوا في زمان بيان الأحكام كذلك لا إشكال في استصحاب أحكام الشّرائع السّابقة بالنسبة إلينا.

وقد علّق المصنّف على قوله: «وكان الشّكّ فيه» بقوله: «في كفاية اليقين بثبوته، بحيث لو كان باقياً ولم ينسخ لعمّه، ضرورة صدق أنّه على يقين منه،فشكّ فيه بذلك، ولزوم اليقين بثبوته في حقّه سابقاً بلا ملزم.

وبالجملة، قضيّة دليل الاستصحاب جريانه لإثبات حكم السّابق للّاحق، وإسرائه إليه في ما كان يعمّه ويشمله، لولا طروّ حالة معها يحتمل نسخه ورفعه، وكان دليله قاصراً عن شمولها، من دون لزوم كونه ثابتاً له قبل طروّها أصلاً، كما لا يخفى»(1)، انتهى.

هذا تمام الكلام في وجه فساد الإشكال الأوّل القائل بأنّه لا يقين سابقاً

ص: 144


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 539.

والشّريعة السّابقة وإن كانت منسوخة بهذه الشّريعة يقيناً، إلّا أنّه لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها؛ ضرورة أنّ قضيّة نسخ الشّريعة ليس ارتفاعها كذلك، بل عدم بقائها بتمامها.

والعلمُ إجمالاً بارتفاع بعضها

___________________________________________

بالنسبة إلى أحكام الشّرائع السّابقة {و} أمّا جواب الإشكال الثّاني القائل بأنّه لا شكّ لاحقاً؛ لأنّا نعلم بنسخ تلك الشّرائع ففيه: أنّ {الشّريعة السّابقة وإن كانت منسوخة بهذه الشّريعة يقيناً إلّا أنّه} بمعنى النّسخ في الجملة لا نسخ جميع الأحكام، إذ النّسخ {لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها} وذلك ل- {ضرورة أنّ قضيّة نسخ الشّريعة ليس ارتفاعها كذلك} بتمام أحكامها {بل} معناه {عدم بقائها بتمامها} ولذا نرى بقاء كثير من الأحكام السّابقة في الجملة كالصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والصّدق والأمانة والوفاء والحياء والتولّي للأولياء والتبرّي من الأعداء وغيرهما، ممّا هو منسوب في نصّ القرآن إلى الأنبياء وأُممهم.{و} إن قلت: سلّمنا أنّ نسخ الشّريعة لا يوجب ارتفاع تمام أحكامها لكن العلم الإجمالي بارتفاع بعض الأحكام كافٍ في عدم جريان الاستصحاب في كلّ حكم مشكوك ارتفاعه وبقاؤه، فإنّ الاستصحاب لا يجري في أطراف العلم الإجمالي.

قلت: إذا علم مقدار المعلوم بالإجمال نسخه كان الشّكّ في غير المعلوم محلّاً للاستصحاب، وذلك كما لو علمنا بأنّ عشرة أحكام نسخت ثمّ وجدناها كان الاستصحاب مقتضى القاعدة في بقيّة الأحكام المشكوكة نسخها، ويكون من قبيل ما لو علمنا بنجاسة إناء في عشرة أواني ثمّ وجدناها، فإنّ التسعة الباقية تكون محلّاً لاستصحاب الطّهارة، فإنّ {العلم إجمالاً بارتفاع بعضها} أي: بعض

ص: 145

إنّما يمنع عن استصحاب ما شكّ في بقائه منها، في ما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعها إجمالاً، لا في ما إذا لم يكن من أطرافه، كما إذا علم بمقداره تفصيلاً، أو في موارد ليس المشكوك منها، وقد علم بارتفاع ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشّريعة.

ثمّ

___________________________________________

أحكام الشّرائع السّابقة {إنّما يمنع عن استصحاب ما شكّ في بقائه منها} أي: من تلك الأحكام {في ما إذا كان} المشكوك ارتفاعه وبقاؤه {من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالاً لا في ما إذا لم يكن} المشكوك {من أطرافه} أي: أطراف العلم الإجمالي {كما إذا علم بمقداره} أي: مقدار المعلوم بالإجمال بأن ظفرنا بمقداره علمنا بالنسخ{تفصيلاً} حتّى صار المشكوك من الشّكّ البدوي {أو} علمنا بالمنسوخ علماً إجماليّاً أصغر {في موارد ليس المشكوك منها} كما لو علمنا أوّلاً بأنّ مائة حكم في مجموع ألف حكم للشريعة السّابقة منسوخة، ثمّ علمنا أنّ هذه المائة محصورة في النّصف الأوّل من أحكام التوراة والإنجيل - مثلاً - فإنّ المشكوك نسخه لو كان في النّصف الثّاني لم يكن من أطراف العلم وجاز الاستصحاب فيه ويكون حاله حال ما لو علمنا بأنّ إناءً في هذه العشرة نجس ثمّ علمنا بأنّ النّجس في أطراف الأواني البيض، فإنّ الشّكّ بالنسبة إلى الحمر حينئذٍ يكون بدويّاً ويكون مورده مجرى للاستصحاب.

{و} حيث {قد علم بارتفاع} أحكام الشّريعة السّابقة بالنسبة إلى {ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشّريعة} إذ كلّ حكم في هذه الشّريعة مناف لحكم الشّرائع السّابقة دليل على النّسخ في مورده، ففي سائر الموارد يكون الارتفاع مشكوكاً فيكون مجرى لاستصحاب البقاء.

{ثمّ} إنّ شيخنا المرتضى(رحمة الله) قد أجاب عن الإشكالين - الواردين على استصحاب أحكام الشّرائع السّابقة قائلاً في أوّلهما: بأنّه لا يقين في السّابق

ص: 146

___________________________________________

لاختصاص الحكم بأُولئك المخاطبين، فلا وجه لجريان الحكم بالنسبة إلينا. وفي ثانيهما: بأنّه لا شكّ في اللّاحق؛ لأنّا نعلم بنسخ تلك الشّرائع بشريعة الإسلام. - بما حاصل جوابه عن الوجه الأوّل: بأنّه يمكن تحصيل اليقين السّابق بالنّسبة إلى مدرك الشّريعتين، فإنّه لو شكّ في أنّ حكمه السّابق باقٍ أم لا؟ يستصحب البقاء ويستصحب غيره - ممّن لم يدرك - البقاء، لعدم التفاوت بين نفرين محكومين بحكم شريعة واحدة.وبما حاصل جوابه عن الثّاني: بأنّ المستصحب هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه غاية الأمر احتمال مدخليّة بعض أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم، ومثل هذا لو أثّر في الاستصحاب لقدح في أكثر الاستصحابات(1)، انتهى.

لكن المصنّف(رحمة الله) أشكل في الجواب الأوّل: بأنّه وإن كان صحيحاً بالنسبة إلى من أدرك الشّريعتين أمّا بالنّسبة إلى غيره فلا يتمّ، إذ اشتراك أهل شريعة واحدة لازمه أن يكون لكلّ مدركٍ للشريعتين استصحاب الحكم السّابق، إلّا من لم يدرك الشّريعة السّابقة فلا يكون محكوماً بحكم من أدرك؛ لأنّ من أدرك له يقين سابق ومن لم يدرك ليس له يقين سابق.

وأشكل في الجواب الثّاني: بأنّه إن أراد ما ذكرناه من كون الحكم في الشّريعة السّابقة للكلّي الموجود في ضمن أُولئك كما هو موجود في ضمن هؤلاء كان تامّاً، وإن أراد كون الحكم لمجرّد الكلّي بما هو كلّيّ فليس يصحّ إذ الكلّي بما هو هو لا وجود له في الخارج حتّى يصحّ كونه مخاطباً.

ص: 147


1- راجع فرائد الأصول 3: 225-226.

لا يخفى: أنّه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلّامة - أعلى اللّه في الجنان مقامه(1)

- في الذبّ عن إشكال تغاير الموضوع في هذا الاستصحاب - من الوجه الثّاني - إلى ما ذكرنا، لا ما يوهمه ظاهر كلامه من: «أنّ الحكم ثابت للكلّي، كما أنّ الملكيّة له في مثل باب الزكاة والوقف العام، حيث لا مدخل للأشخاص فيها»؛

___________________________________________

إذا عرفت تفصيل الكلام فلنرجع لشرح المتن فنقول: {لا يخفى أنّه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا} المرتضى {العلّامة - أعلى اللّه في الجنان مقامه - في الذبّ عن إشكال تغاير الموضوع} وهو الإشكال الثّاني الّذي كان يقول: موضوع الحكم المتيقّن هم أُولئك، أمّا بالنسبة إلينا فلا يقين في السّابق {في هذا الاستصحاب} أي: استصحاب أحكام الشّريعة السّابقة {من الوجه الثّاني} بيان «ما» في قوله: «ما أفاده» {إلى ما ذكرنا} متعلّق بقوله: «إرجاع» {لا} إلى {ما يوهمه ظاهر كلامه من: «أنّ الحكم ثابت للكلّي} إذ لو أراد ذلك أشكل عليه بأنّ الكلّي بما هو كلّيّ ليس قابلاً للحكم؛ لأنّه لا وجود له في الخارج، بخلاف أن يريد الكلّي بما هو موجود مقابل الأفراد الخارجيّة، إذ لو أراد الكلّي بما هو موجود فهو محقّق الآن كما كان محقّقاً سابقاً.

وليس كذلك لو كان الحكم على الأفراد - كما هو كذلك في القضيّة الخارجيّة - إذ الأفراد الحاليّة غير تلك الأفراد فلا يمكن الاستصحاب {كما أنّ الملكيّة له} أي: للكلّي بما هو موجود - لا أنّه للكلّي بما هو كلّيّ كما توهّم - {في مثل باب الزكاة} فكلّيّ الفقير مستحقّ لكن الكلّي الموجود لا الكلّيّ بما هو هو، ولا الأفراد الخارجيّة بما هم أفراد {والوقف العام} الّذي وقفه للطلّاب مثلاً، فإنّه للكلّي بما هو موجود في الخارج {حيث لا مدخل للأشخاص فيها»} على نحو القضيّة الخارجيّة، إذ لو كان ملكاً ووقفاً للأشخاص لزم أن يبقى الملك بلا مالك

ص: 148


1- فرائد الأصول 3: 226.

ضرورة أنّ التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلّق به كذلك، بل لا بدّ من تعلّقه بالأشخاص، وكذلك الثواب أو العقاب المترتّب على الطّاعة أو المعصية، وكانغرضه من عدم دخل الأشخاص: عدم دخل أشخاص خاصّة، فافهم.

وأمّا ما أفاده من الوجه الأوّل، فهو وإن كان وجيهاً بالنسبة إلى جريان الاستصحاب في حقّ خصوص المدرك للشريعتين، إلّا أنّه غير مجد في حقّ غيره من المعدومين.

___________________________________________

والوقف بلا مصرف لو فنوا أُولئك المعاصرون وجاء آخرون.

وإنّما قلنا بأنّ المراد الكلّي بما هو موجود لا بما هو كلّيّ ل- {ضرورة أنّ التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلّق به} أي: بالكلّي {كذلك} أي: بما هو كلّيّ - لا بما هو موجود في الخارج - {بل لا بدّ من تعلّقه} أي: التكليف وأخويه {بالأشخاص} لا الخارجيّة وإنّما بما هم مشتملون على الكلّي.

{وكذلك الثواب أو العقاب المترتّب على الطّاعة أو المعصية} فإنّهما مرتّبان على الكلّي بما هو موجود {وكان غرضه} أي: غرض الشّيخ {من عدم دخل الأشخاص} في التكليف {عدم دخل أشخاص خاصّة} على نحو القضيّة الخارجيّة لا عدم دخل الأشخاص مطلقاً، حتّى يرد عليه ما ذكرنا من أنّ الكلّي بما هو هو ليس قابلاً للتكليف والبعث والزجر {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ ظاهر عبارة الشّيخ(رحمة الله) مخالف لما ذكرناه؛ لأنّه نصّ على عدم مدخليّة الأشخاص، فظاهره عدم المدخليّة مطلقاً.

{وأمّا ما أفاده} الشّيخ {من} الجواب عن {الوجه الأوّل} بمدرك الشّريعتين وقياس غيره عليه لعدم اختلاف الأحكام في شريعة واحدة {فهو وإن كان وجيهاً بالنسبة إلى جريان الاستصحاب في حقّ خصوص المدرك للشريعتين} لأنّ له يقين سابق وشكّ لاحق، فيجري في حقّهالاستصحاب {إلّا أنّه غير مجد في حقّ غيره من المعدومين} حال تلك الشّريعة الّذين وجدوا في هذه الشّريعة، إذ لا حالة

ص: 149

ولا يكاد يتمّ الحكم فيهم بضرورة اشتراك أهل الشّريعة الواحدة أيضاً؛ ضرورة أنّ قضيّة الاشتراك ليس إلّا أنّ الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشكّ، لا أنّه حكم الكلّ ولو من لم يكن كذلك، بلا شكّ، وهو واضح.

السّابع:

___________________________________________

سابقة لهم حتّى يتمّ الاستصحاب.

{ولا يكاد يتمّ الحكم} الثابت في الشّريعة السّابقة {فيهم ب-} ما استدلّ له الشّيخ من {ضرورة اشتراك أهل الشّريعة الواحدة} في جميع التكاليف {أيضاً} أي: كما لا حالة سابقة لا اشتراك {ضرورة أنّ قضيّة الاشتراك} المحقّق بالإجماع {ليس إلّا أنّ الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشكّ} فهما مشتركان؛ لأنّهما مثلان في الصّفة {لا أنّه حكم الكلّ}: مدرك الشّريعتين وغيره {ولو من لم يكن كذلك} أي: لا يقين سابق له؛ لأنّه لم يدرك تلك الشّريعة {بلا شكّ، وهو واضح} فقياس غير المدرك بالمدرك مثل قياس من لا حالة له سابقاً بمن له طهارة سابقة، وهو باطل قطعاً.

[التنبيه السّابع]

التنبيه {السّابع} في الأصل المثبت. لا يخفى أنّ لوجود زيد أربعة أقسام من الآثار:الأوّل: الآثار الشّرعيّة بلا واسطة، كوجوب نفقة زوجته.

الثّاني: في الآثار الشّرعيّة مع الواسطة، كاستحباب خضاب لحيته، فإنّه أثر شرعيّ لكن مع واسطة هي إنبات لحيته.

الثّالث: الآثار العادية كإنبات لحيته، فإنّه عادة تنبت لحية الرّجل إذا تجاوز سنّ البلوغ.

الرّابع: الآثار العقليّة ككونه في الحيّز.

ص: 150

لا شبهة في أنّ قضيّة أخبار الباب هو إنشاء حكم مماثل للمستصحب في استصحاب الأحكام، ولأحكامه في استصحاب الموضوعات.

كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشّرعيّة والعقليّة.

___________________________________________

إذا عرفت ذلك قلنا: لو غاب زيد عن البلد وهو أمرد، ثمّ شككنا في موته وحياته، فلا إشكال في جريان استصحاب حياته، وهذا الاستصحاب موجب لترتّب الآثار الشّرعيّة بلا واسطة عليه، فيحكم بوجوب الإنفاق على زوجته، لكن هل يثبت بهذا الاستصحاب سائر أقسام الآثار الثلاثة أم لا؟ فيه خلاف، والمشهور عدم الترتّب، وهذا هو الّذي اصطلحوا عليه بأنّ الأصل المثبت ليس بحجّة، أي: إنّ الأصل لا يثبت سائر الآثار غير الشّرعيّة.

وبيان ذلك: أنّه {لا شبهة في أنّ قضيّة} أي: مقتضى {أخبار الباب} أي: أخبار الاستصحاب نحو «من كان على يقين فشكّ» و «لا تنقض اليقين بالشكّ» {هو إنشاء حكم مماثل للمستصحب في استصحاب الأحكام} فلو استصحبنا وجوب الجهاد في زمان الغيبة كان معناه أنّ الشّارع أنشأ وجوباً مماثلاً للوجوب الحضوري في زمان الغيبة {و} أنشأ أحكاماً مماثلة {لأحكامه} أي: أحكامالمستصحب {في استصحاب الموضوعات} فلو استصحبنا وجود زيد كان معناه أنّ الشّارع أنشأ وجوب النّفقة وحرمة التزويج لزوجته وحرمة الخروج عن الدار بدون إذنه - في هذا الحال - كما أنشأها في حال وجود زيد خارجاً، فلزيد الواقعي كانت أحكام، ولزيد المستصحب أحكام مماثلة لتلك الأحكام.

{كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشّرعيّة والعقليّة} أي: إنّا نرتّب على وجوب الجهاد المستصحب كلّ أثر شرعيّ أو عقلي، فالأثر العقلي: وجوب المقدّمة ووجوب الإطاعة وحرمة المخالفة.

ص: 151

وإنّما الإشكال في ترتيب الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بواسطة غير شرعيّةٍ، - عاديةً كانت أو عقليّةً - . ومنشأه أنّ مفاد الأخبار:

هل هو تنزيل المستصحب والتعبّد به وحده، بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة؟

أو تنزيله بلوازمه العقليّة أو العادية، كما هو الحال في تنزيل مؤدّيات الطّرق والأمارات؟

___________________________________________

والأثر الشّرعيّ: كما لو نذر أنّه لو كان الجهاد واجباً أرسل ولده وأعطى دابّته وهكذا، وكذلك بالنسبة إلى استصحاب الموضوع، كما لا يخفى.

{وإنّما الإشكال في ترتيب الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بواسطة غير شرعيّةٍ، عاديةً كانت} تلك الآثار كإنبات لحيته {أو عقليّة} ككونه في الحيّز، وأنّ ضدّه لا يجتمع معه، فإذا نذر أنّه لو نبتت لحيةزيد أو كان في الحيّز أعطى ديناراً للفقير، هل يجب الإعطاء بهذا الاستصحاب أم لا؟

{ومنشأه} أي: منشأ الإشكال {أنّ مفاد الأخبار} محتمل بدواً لثلاثة أُمور ف- {هل هو}:

الأوّل: بأن يكون المفاد {تنزيل المستصحب} منزلة المتيقّن {والتعبّد به وحده بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة} فإذا شكّ في الطّهارة قال له الشّارع: (أنت متطهّر) بلحاظ آثار الطّهارة فقط، وهو جواز مسّ كتابة القرآن.

{أو} هو الثّاني: بأن يكون المفاد {تنزيله} أي: تنزيل المستصحب {بلوازمه العقليّة} في ما كان له لازم عقليّ {أو العادية} في ما كان له لازم عادي، فلو أشعل ناراً ثمّ بعد ساعة شكّ في بقائها وعدمه واستصحب بقائها، كان يترتّب عليه ضمان إحراق حطب الغير الّذي جعله بقرب النّار، ممّا أثّر الإحراق فيه قطعاً لو كانت النّار باقية {كما هو الحال في تنزيل مؤدّيات الطّرق والأمارات}.

ص: 152

أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة، بناءً على صحّة التزيل بلحاظ أثر الواسطة أيضاً؛ لأجل أنّ أثر الأثر أثر؟

___________________________________________

الطُّرُق: عبارة عن الأُمور المنصوبة لإفادة الأحكام كخبر الواحد.

والأمارات: عبارة عن الأُمور المنصوبة لإفادة الموضوعات كالبيّنة، فلو قام الخبر الواحد على أنّ الشّيء الكذائي واجب ترتّب عليه كلّ أثر شرعي وعقليوعادي، وكذلك لو قامت البيّنة على أنّ هذه الدار لزيد ترتّب على ملكيّته لها جميع الآثار، فهل الاستصحاب أيضاً كذلك بأنّه لو استصحب كون الشّيء الفلاني واجباً أو استصحب كون الدار الفلانية باقية في ملك زيد، ترتّب عليهما جميع آثارهما أم لا؟

{أو} هو الثّالث: بأن يكون المفاد تنزيله {بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة} فيترتّب على الاستصحاب التعبّد بالمستصحب وبأثره غير الشّرعي ليترتّب الأثر الشّرعي لأثره أيضاً، فإذا استصحب وجود النّار كان معناه هو التعبّد بها وبالاحتراق معاً، فيترتّب الأثر الشّرعي للنار والأثر الشّرعي للاحتراق معاً.

وهذا الاحتمال الثّالث إنّما يكون {بناءً على صحّة التنزيل بلحاظ أثر الواسطة أيضاً، لأجل أنّ أثر الأثر أثر} فأثر الإحراق الّذي هو أثر النّار أثر للنار، فإذا استصحب وجود النّار ترتّب عليه أثر الإحراق أيضاً.

وقد علّق المصنّف على قوله: «بناءً» بقوله: «ولكن الوجه عدم صحّة التنزيل بهذا اللحاظ، ضرورة أنّه ما يكون شرعاً لشيء من الأثر لا دخل له بما يستلزمه عقلاً أو عادة، وحديث أثر الأثر أثر - وإن كان صادقاً - إلّا أنّه إذا لم يكن الترتّب بين الشّيء وأثره وبينه وبين مؤثّره مختلفاً، وذلك ضرورة أنّه لا يكاد يكون الأثر الشّرعي لشيء أثراً شرعيّاً لما يستلزمه عقلاً أو عادة أصلاً - لا بالنّظر الدقيق العقلي ولا بالنّظر المسامحي العرفي - إلّا في ما عدّ أثر الواسطة أثراً لذيها،

ص: 153

وذلك لأنّ مفادها لو كان هو تنزيل الشّيء وحده بلحاظ أثر نفسه لم يترتّب عليه ما كان مترتّباً عليها؛ لعدم إحرازها حقيقة ولا تعبّداً، ولا يكون تنزيله بلحاظه، بخلاف ما لو كان تنزيلهبلوازمه، أو بلحاظ ما يعمّ آثارها، فإنّه يترتّب باستصحابه ما كان بواسطتها.

___________________________________________

لخفائها أو لشدّة وضوح الملازمة بينهما، عدا شيئاً واحداً ذا وجهين، وأثر أحدهما أثر الاثنين، كما يأتي الإشارة إليه، فافهم»(1)،

انتهى.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّ منشأ الاختلاف تابع لمفاد أخبار الباب {لأنّ مفادها لو كان هو تنزيل الشّيء وحده} فمعنى «لا تنقض اليقين» احكم بقاء المتيقّن وحده {بلحاظ أثر نفسه} كأن يحكم بالطهارة بلحاظ جواز الصّلاة {لم يترتّب عليه} أي: على المتيقّن المستصحب {ما كان مترتّباً عليها} أي: على الواسطة {لعدم إحرازها} أي: الواسطة {حقيقة} فلا نعلم بوجود الواسطة علماً قطعيّاً {ولا تعبّداً} أي: لم يكن هناك تعبّد من الشّارع بوجود الواسطة. وقوله: «لعدم» علّة لقوله: «لم يترتّب».

{ولا يكون تنزيله} أي: تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن {بلحاظه} أي: بلحاظ أثر الواسطه، فالضمان الّذي هو أثر الإحراق الّذي هو الواسطة لا يترتّب - كما في المثال الثّاني - لأنّ الإحراق لم يحرز بالعلم، ولا دلّ دليل تعبّديّ على وجوده، وليس تنزيل النّار المشكوكة منزلة النّار المتيقّنة بلحاظ الضّمان الّذي هو أثر الإحراق، فكيف يمكن إثبات الضّمان؟

{بخلاف ما لو كان تنزيله} أي: تنزيل المشكوك {بلوازمه} العقليّة والعادية كما هو الاحتمال الثّاني {أو بلحاظ ما يعمّ آثارها} مطلقاً كما هو الاحتمال الثّالث {فإنّه يترتّب باستصحابه ما كان بواسطتها} أي: بواسطة الواسطة، كما لا يخفى.

ص: 154


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 548.

والتحقيق: أنّ الأخبار إنّما تدلّ على التعبّد بما كان على يقين منه فشكّ، بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحكامه، ولا دلالة لها بوجه على تنزيله بلوازمه الّتي لا تكون كذلك - كما هي محلّ ثمرة الخلاف - ، ولا على تنزيله بلحاظ ما له مطلقاً ولو بالواسطة؛ فإنّ المتيقّن إنّما هو لحاظ آثار نفسه، وأمّا آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها أصلاً، وما لم يثبت لحاظها بوجه أيضاً لما كان وجه لترتيبها عليه باستصحابه، كما لا يخفى.

___________________________________________

{و} إذا عرفت الاحتمالات الثلاثة نقول: {التحقيق أنّ الأخبار إنّما تدلّ على التعبّد بما كان على يقين منه فشكّ} لأنّه قال: «لا تنقض اليقين» بمعنى جعل المتيقّن كما كان، وعدم الاعتناء بالشكّ الطّارئ، وهذا لا يكون إلّا {بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحكامه} فكلّ أثر وحكم كان مترتّباً على المتيقّن حال اليقين به يترتّب عليه حال الشّكّ به، فإذا كان الإنسان متيقّناً بالطهارة جاز له الصّلاة ومسّ الكتابة والطّواف، وكذلك إذا شكّ فيها، فإنّ استصحابها موجب لليقين التعبّدي بها.

{ولا دلالة لها} أي: للأخبار {بوجه على تنزيله} أي: تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن {بلوازمه الّتي لا تكون كذلك} أي: لا تكون تلك اللوازم من آثاره وأحكامه، كما هو الاحتمال الثّالث {كما هي محلّ ثمرة الخلاف} فإنّ ثمرة الخلاف إنّما هي بلحاظ الآثار الشّرعيّة الثابتة لأثر غير شرعيّ للمستصحب {ولا} دلالة للأخبار {على تنزيله بلحاظ ما له} من الأثر {مطلقاً ولو بالواسطة} كما هو الاحتمال الثّاني.{فإنّ المتيقّن} من دليل الاستصحاب {إنّما هو لحاظ آثار نفسه، وأمّا آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها} في دليل الاستصحاب {أصلاً وما لم يثبت لحاظها} أي: لحاظ الآثار {بوجه أيضاً} كما لم تلاحظ استقلالاً {لما كان وجه لترتيبها عليه} أي: على المستصحب {باستصحابه، كما لا يخفى} فتحقّق أنّه لا يثبت

ص: 155

نعم، لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه، لخفاء ما بوساطته، بدعوى: أنّ مفاد الأخبار عرفاً ما يعمّة

___________________________________________

بالاستصحاب الآثار العقليّة والعادية والآثار الشّرعيّة المتوقّفة على أثر غير شرعي.

{نعم} قد استثني من عدم حجيّة الأصل المثبت موارد:

منها: ما لو كانت الواسطة بين المستصحب وبين الأثر الشّرعي خفيّة، بأن كانت الآثار الشّرعيّة للوازم غير شرعيّة لكن كانت وساطة تلك اللوازم بين المستصحب وبين الأثر الشّرعي بحيث لا يلتفت إليه العرف، ويرى كأنّ الأثر الشّرعي لنفس المستصحب لا لواسطة هناك، كما لو لاقى شيء مع ثوب نجس كان سابقاً مرطوباً فشككنا في نجاسة ذلك الشّيء من جهة الشّكّ في بقاء الرّطوبة، فإذا استصحبنا الرّطوبة حكمنا بنجاسة الملاقي، مع أنّ النّجاسة ليست من آثار الرّطوبة وإنّما هي من آثار السّراية الّتي هي من لوازم الرّطوبة، فإنّ وساطة السّراية خفيّة عند العرف، ولذا لا بأس بترتيب النّجاسة على مجرّد استصحاب الرّطوبة.

وهكذا في ما لو شككنا في الوضوء والغسل بأنّه هل هناك مانع أم لا؟ فإنّ استصحاب عدم المانع كافٍ في الحكم بصحّة الوضوء والغسل، مع أنّ الصّحّةليست من آثار عدم المانع وإنّما هي من آثار غسل الموضع المشكوك، لكن العرف يرى أنّ عدم المانع يترتّب عليه الصّحّة بدون الالتفات إلى الواسطة الّتي هي غسل المحلّ، فإنّه {لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها} أي: من الآثار الشّرعيّة المترتّبة على وسائط {محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه} أي: نفس المستصحب {لخفاء ما} أي: الشّيء الّذي هذا الأثر {بوساطته}.

وإنّما نقول بترتيب مثل هذه الآثار الشّرعيّة الّتي هي بواسطة خفيّة {بدعوى أنّ مفاد الأخبار عرفاً} أي: في نظر العرف {ما يعمّه} أي: يعمّ مثل هذا الأثر الّذي

ص: 156

أيضاً حقيقة، فافهم.

___________________________________________

هو بواسطة خفيّة {أيضاً} كما يشمل ما ليس بواسطة إطلاقاً {حقيقة، فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّه لا عبرة بخطأ العرف في تطبيق مفاد الدليل، بل العبرة بنظرهم في تشيخص المعنى، إذ العرف هو المرجع في الثّاني لا الأوّل، فإنّ للعرف أن يعيّن أنّ الكرّ ألف ومائتا رطل، لكن ليس له أن يطبّق هذا المعنى على ما نقص عن هذا المقدار بدعوى التسامح، فيقول: إنّ أقلّ من ألف ومائتا رطل أيضاً يعدّ كرّاً.

أقول: لكن ذكرنا في بعض المسائل أنّ العرف هو المحكم في الأمرين؛ لأنّه المخاطب ففهمه حجّة مطلقاً.

ومن الموارد المستثناة من الأصل المثبت ما لو كان بينهما تلازم، بحيث كان تنزيل أحدهما تنزيلاً للآخر كالمتضايفات، فمثلاً التعبّد بأُبوّة زيد لعمرو ملازم للتعبّد ببنوّة عمرو لزيد، فإذا جرى الاستصحاب في الأوّل ثبت لوازم الثّاني.

ومن الموارد الّتي قالوا بعدم المانع عن كون الأثر بواسطة ما لو كان بينالمستصحب وبين شيء آخر ملازمة، بحيث يرى العرف أنّ الاستصحاب موجب لإثبات آثار اللّازم، حتّى أنّه لو لم ترتّب الآثار لرأوا أنّه من نقض اليقين بالشك، كما لو كان أثر للميتة ثمّ أجرينا استصحاب عدم التذكية لترتيب ذلك الأثر على الاستصحاب، وإن كان بين الميتة وعدم التذكية تلازم، فإذا جرى استصحاب أحدهما ثبت الآخر وترتّب على ذلك أثر اللّازم، فإنّ بين المستصحب وبين الأثر واسطة وهو اللّازم لكن رؤية العرف أنّ الأثر كأنّه للمستصحب كافية في جواز ترتيبه.

ومثل التلازم بين عدم الإتيان وبين الفوت، فإنّه لو استصحب عدم إتيان الفريضة في الوقت ترتّب عليه وجوب القضاء مع أنّه من آثار الفوت، لكن العرف لا يلتفت إلى هذه الواسطة الّتي هي الفوت.

ص: 157

كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفاً بينه وبين المستصحب تنزيلاً، كما لا تفكيك بينهما واقعاً، أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له، أو ملازمته معه بمثابةٍ عُدَّ أثرُهُ أثراً لهما؛ فإنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضاً ليقينه بالشكّ أيضاً بحسب ما يفهم من النّهي عن نقضه عرفاً، فافهم.

___________________________________________

وإلى هذا أشار بقوله: {كما لا يبعد ترتيب ما} أي: الأثر الشّرعي الّذي {كان بوساطة ما} أي: بوساطة ملازم {لا يمكن التفكيك عرفاً بينه} أي: بين ذلك الملازم {وبين المستصحب تنزيلاً} فإذا نزّل الشّارع أحدهما كان معناه تنزيل الآخر أيضاً، فلو نزل الأب كان معناه تنزيل الابن وبالعكس.

{كما لا تفكيك بينهما} أي: بين هذين الأمرين{واقعاً} فإنّ الحقيقة أنّه كلّ أب يلازم الابن وكلّ ابن يلازم الأب، فإنّه لا ينفكّ في الخارج أحدهما عن الآخر {أو} ترتيب الأثر {بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له} أي: لزوم ذلك اللّازم للملزوم الّذي هو المستصحب {أو ملازمته} أي: ملازمة الشّيء ذي الأثر {معه} أي:مع المستصحب {بمثابةٍ عُدَّ أثرُهُ} أي: أثر المستصحب الّذي هو اللّازم أو الملازم {أثراً لهما} فيرى العرف أنّ أثر الميتة - كالنجاسة - وأثر الفوت - وهو القضاء - أثر لعدم التذكية وأثر لعدم الإتيان بالصلاة.

والحاصل: أنّ المتضايفين والمتلازمين واللّازم والملزوم يكون جريان الاستصحاب في أحدهما كافٍ لترتيب آثار الآخر عليه {فإنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه} أي: على المستصحب {يكون نقضاً ليقينه بالشكّ أيضاً} أي: كما أنّ عدم ترتيب أثر نفسه عليه يكون نقضاً {بحسب ما يفهم من النّهي عن نقضه عرفاً} فإنّ العرف يفهم من النّقض أعمّ من نقض أثر نفسه أو أثر لازمه وملازمه ومضايفه.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى ما تقدّم من عدم الاعتبار بالفهم العرفي في تطبيق مفاد الدليل.

ص: 158

ثمّ لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الأصول التعبديّة وبين الطّرق والأمارات؛

___________________________________________

{ثمّ} إنّه ربّما يشكل بأنّه ما الفرق بين الاستصحاب الّذي تقولون: إنّ لازمه ليس بحجّة، وبين الطّرق والأمارات الّتي تقولون بأنّ لوازمها حجّة مع أنّ جميعها أدلّة تعبّديّة؟ لكن هذا الإشكال ليس في محلّه، إذ {لا يخفى وضوحالفرق بين الاستصحاب وسائر الأصول التعبّديّة} كأصل الطّهارة وأصل الحلّ وغيرهما {وبين الطّرق} كالخبر الواحد {والأمارات} كالبيّنة، فإنّ الأصول إنّما تحكم تعبّداً بمفادها، فإذا قال: «كلّ شيء طاهر»(1)

أو (احمل فعل أخيك على الصّحّة)(2)

- في أصالة الصّحّة - فليس معنى ذلك إلّا أنّ هذا الشّيء طاهر أو أنّ هذا الفعل صحيح تعبّداً، وليس هناك علم بلازمه ولا تعبّد بالنسبة إليه، فلو كان لازم طهارة هذا الشّيء نجاسة شيء آخر وصحّة هذا العمل بطلان عمل آخر لم يكن دليل شرعيّ أو عقليّ على ذلك اللّازم، ولذا لا يقال بترتيب ذلك اللّازم على مجرّد هذه الأصول.

وهذا بخلاف الطّرق والأمارات، فإنّها جعلت كاشفة عن الواقع، فمعنى كون خبر الواحد حجّة أنّ مفاده هو الواقع، كما أنّ معنى كون البيّنة حجّة أنّ قولها هو الواقع، فإذا قاما على شيء كان ذلك الشّيء ثابتاً - تعبّداً - وكما أنّه يترتّب على ذلك الشّيء لازمه وملازمه كذلك يترتّب على وجوده التعبّدي، فلو دلّ الدليل على أنّ صلاة الظهر يوم الجمعة واجبة، وكان هناك دليل آخر على أنّه لا صلاتين في يوم واحد، كان ذلك مقتضياً لعدم وجوب الجمعة، فكما أنّه لو علمنا بمفاد هذين الخبرين لم تجب الجمعة كذلك إذا كشف لنا الشّارع عنهما بالتعبّد.

ص: 159


1- مستدرك الوسائل 2: 583.
2- إشارة إلى: «ضع أمر أخيك على أحسنه»، وسائل الشيعة 12: 302.

فإنّ الطّريق أو الأمارة حيث إنّه - كما يحكى عن المؤدّى ويشير إليه، كذا يحكى عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ويشير إليها - كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها،

___________________________________________

لكن ربّما يقال: بأنّ هذا الفرق ليس بفارق إذ كما لا يكون في الأصول علم بالواقع كذلك لا يكون في الأمارات، وكما يكون في الأمارات تعبّد بمفادها كذلك يكون في الأصول تعبّد بمفادها، وأيّ فرق عرفاً بين أن يقول المولى: (هذا المتولّد بين حيوانين طاهر إذا لم تعلم بطهارته أو نجاسته) الّذي هو مفاد الأصل، وبين أن يقول: (خذ بقول زرارة) ثمّ يقول: (قال المولى هذا المتولّد بين حيوانين طاهر) الّذي هو مفاد الطّريق، فإنّ في كليهما يرى العرف حكم المولى بالطهارة، ويرى أنّ كليهما بمثابة واحدة في أنّ لازمه وملازمه ومضايفه وآثارها يترتّب عليه.

وعلى أيّ حال، فما ذكروه من الفرق فيه غموض، ولذا نرى أنّ القدماء والمتأخّرين ومتأخّريهم - باستثناء من قاربنا عصرهم - لم يفهموا من أدلّة الأصول إلّا كما فهموا من أدلّة الأمارات، مع أنّ أفهامهم من أصفى أفهام العرف.

وحيث إنّ البحث في ذلك خارج عن نطاق الشّرح، فلنعد إلى توضيح المتن فنقول: إنّ الفرق بين الأصول وبين الطّرق والأمارات واضح {فإنّ الطّريق أو الأمارة حيث إنّه كما يحكى عن المؤدّى ويشير إليه كذا يحكى عن أطرافه} المرتبطة به {من ملزومه ولوازمه وملازماته} فالضوء ملزومه الشّمس - أي: إنّ الشّمس تلزم الضّوء - ولازمه نفوذ نور البصر وملازمه الحرارة - لأنّ الضّوء والحرارة لازمان للشمس، فأحدهما ملازم للآخر {ويشير إليها} فمعنى قول القائل: (الضّوء موجود) أنّ نور البصر ينفذ في الأشياء، والشّمس طالعة والهواء ذات حرارة {كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها} أي: اعتبار الطّرق والأمارات {لزوم تصديقها} أي: تصديق تلك الطّرق والأمارات {في حكايتها}.

ص: 160

وقضيّته حجيّة المثبت منها، كما لا يخفى.بخلاف مثل دليل الاستصحاب، فإنّه لا بدّ من الاقتصار بما فيه من الدلالة على التعبّد بثبوته، ولا دلالة له إلّا على التعبّد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره حسب ما عرفت، فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه كسائر الأصول التعبديّة، إلّا في ما عدّ أثر الواسطة أثراً له، لخفائها، أو شدّة وضوحها وجلائها، حسب ما حقّقناه.

الثّامن: إنّه لا تفاوت في الأثر المترتّب على المستصحب بين أن يكون مترتّباً عليه بلا وساطة شيء،

___________________________________________

{وقضيّته} أي:مقتضى تصديقها {حجيّة المثبت منها، كما لا يخفى} لازماً أو ملزوماً أو ملازماً {بخلاف مثل دليل الاستصحاب} وأدلّة سائر الأصول {فإنّه لا بدّ من الاقتصار بما فيه من الدلالة على التعبّد بثبوته} أي: ثبوت ما فيه {ولا دلالة له} أي: لمثل الاستصحاب {إلّا على التعبّد بثبوت المشكوك} فقط {بلحاظ أثره} لا شيء آخر {حسب ما عرفت} تفصيله.

{فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه} من اللّازم والملزوم والملازم وآثارها {ك-} ما هو كذلك في {سائر الأصول التعبديّة} كأصالة الحلّ والطّهارة والصّحّة {إلّا في ما عدّ أثر الواسطة} كالنّجاسة الّتي هي أثر السّراية الّتي هي واسطة بين استصحاب الرّطوبة وبين النّجاسة {أثراً له} أي: لنفس المستصحب {لخفائها} أي: خفاء الواسطة {أو شدّة وضوحها وجلائها} بحيث كان دليل التنزيل دليلاً على تنزيلها لما بينهما من الارتباط الجلي الواضح {حسب ما حقّقناه} في الموارد الثلاثة المستثناة منالأصل المثبت.

[التنبيه الثّامن]

التنبيه {الثّامن} في بيان موارد ليست من الأصل المثبت {إنّه لا تفاوت في الأثر المترتّب على المستصحب بين أن يكون مترتّباً عليه بلا وساطة شيء} فإنّ

ص: 161

أو بوساطة عنوان كلّيّ ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشّائع، ويتحد معه وجوداً، كان منتزعاً عن مرتبة ذاته، أو بملاحظة بعض عوارضه ممّا هو خارج المحمول

___________________________________________

الأمر المترتّب على شيء على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ماكان مرتّباً على نفس المستصحب، كما لو وجب إكرام زيد فشكّ في بقائه، فإنّه يجب إكرامه استصحاباً.

الثّاني: ما كان مرتّباً على لازمه أو ملزومه أو ملازمه أو مقارنه، وقد عرفت في التنبيه المتقدّم أنّه من الأصل المثبت الّذي لا يجري.

الثّالث: أن يترتّب على محموله، والمحمول إمّا أن يكون غير الذات كحمل النّوع أو جنسه أو فصله أو عارضه الّذي هو من قبيل خارج المحمول، أو من عارضه الّذي هو من قبيل المحمول بالضميمة، نحو (زيد إنسان، أو حيوان، أو ناطق، أو زوج، أو أسود).

والكلام في هذا التنبيه الثّامن في هذا القسم، فالشيخ على أنّه لا يثبت بالاستصحاب هذه الأُمور الخمسة، فإذا شكّ في وجود زيد واستصحبناه لم يجز أن نرتّب عليه هذه الأُمور، خلافاً للمصنّف الّذي لا يرى من الأصل المثبت إلّا الأمر الخامس، وهو المحمول بالضميمة كالسواد.إذا عرفت ذلك قلنا: يترتّب الأثر على الاستصحاب سواء كان بلا واسطة كإكرام زيد وهو القسم الأوّل {أو بوساطة عنوان كلّيّ ينطبق} ذلك العنوان الكلّي {ويحمل عليه بالحمل الشّائع} الصّناعيّ، مقابل الحمل الأوّلي الذاتي الّذي هو حمل الشّيء على نفسه، نحو (الإنسان إنسان) {ويتّحد معه} أي: مع المستصحب {وجوداً} لا مفهوماً سواء {كان} ذلك الكلّي {منتزعاً عن مرتبة ذاته} أي: ذات المستصحب كالنوع والجنس والفصل {أو} منتزعاً {بملاحظة بعض عوارضه ممّا هو خارج المحمول} نحو الزوجيّة والملكيّة والغصبيّة والرّقّيّة،

ص: 162

لا بالضميمة؛ فإنّ الأثر في الصّورتين إنّما يكون له حقيقة، حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلّي في الخارج سواه، لا لغيره ممّا كان مبايناً معه، أو من أعراضه ممّا كان محمولاً عليه بالضميمة كسواده - مثلاً - أو بياضه؛ وذلك

___________________________________________

فإذا استصحبنا وجود زيد أو وجود الدار المملوكة أو المغصوبة - سابقاً - ثبت وجوب نفقة زوجته وجواز التصرّف أو حرمة التصرّف أو جواز الإعتاق؛ لأنّ بقاء زيد موجب لانتزاع عناوين هذه الأحكام.

وقد عرفت أنّها ليست من الأُمور الخارجة حتّى يندرج في الأصل المثبت {لا} المحمول {بالضميمة} فإنّه لا يثبت، فإذا استصحبنا بقاء زيد لم يثبت بقاء سواده؛ لأنّ السّواد أمر خارج، وليس مثل خارج المحمول ممّا ليس إلّا أمراً انتزاعيّاً لا غير.

وإنّما قلنا بترتّب القسم الأوّل والقسم الثّالث {فإنّ الأثر في الصّورتين} صورة الترتّب على نفس الذات، وصورة الترتّب على عنوان كلّيّمنتزع {إنّما يكون له} أي: للمستصحب {حقيقة} فإنّ آثار الإنسان والحيوان والنّاطق والزوج آثار لزيد في الواقع والحقيقة، فلا مانع من ترتّب آثارها عليه {حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلّي} الّذي هو صاحب الأثر {في الخارج سواه} أي: سوى ذلك الفرد المستصحب {لا لغيره} أي: ليس الأثر لغير ذلك المستصحب {ممّا كان مبايناً معه} كما في القسم الثّاني الّذي يكون الأثر للملازم واللّازم والملزوم والمقارن {أو} ممّا كان {من أعراضه ممّا كان محمولاً عليه بالضميمة} فإنّه لو كان للسواد أثر لم يكن استصحاب زيد كافياً في ترتّب أثر السّواد عليه، إذ السّواد الّذي هو محمول على زيد ليس خارج المحمول، وإنّما هو محمول بالضميمة، فأثره ليس أثراً لزيد حتّى إذا استصحب زيد ترتّب أثر السّواد عليه {كسواده - مثلاً - أو بياضه} ولو أُريد ترتّب هذا النّحو من الأثر كان من الأصل المثبت الّذي تقدّم أنّه ليس بحجّة.

{وذلك} الّذي ذكرنا من ترتّب الآثار في الصّورتين لكونه للمستصحب

ص: 163

لأنّ الطّبيعي إنّما يوجد بعين وجود فرده، كما أنّ العرضي - كالملكيّة والغصبيّة ونحوهما - لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه، فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتّب عليه الأثر، لا لشيء آخر، فاستصحابه لترتيبه لا يكون بمثبت، كما توهّم(1).

وكذا لا تفاوت في الأثر المستصحب أو المترتّب عليه، أن يكون مجعولاً شرعاً بنفسه، - كالتكليف وبعض أنحاء الوضع - ،

___________________________________________

{لأنّ الطّبيعي} الّذي هو صاحب الأثر في الواقع {إنّما يوجد بعين وجود فرده} فإنّ الإنسان والحيوان والنّاطق توجد بعين وجود زيد، فأثرها أثره {كما أنّ العرضي كالملكيّة والغصبيّة} والزوجيّة والرّقيّة {ونحوهما لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه} الّذي هو زيد ودار، وذلك بخلاف المحمول بالضميمة الّذي له وجود منحاز عن وجود منشأ انتزاعه {فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج} كزيد الّذي هو فرد للإنسان ومنشأ لانتزاع الزوجيّة، و{هو عين ما رتّب عليه الأثر} إذ الأثر له {لا لشيء آخر} غير زيد {فاستصحابه} أي: استصحاب الفرد {لترتيبه} أي: ترتيب الأثر {لا يكون بمثبت كما توهّم} وكأنّه أراد بذلك الشّيخ(رحمة الله).

{وكذا} ليس من الاستصحاب المثبت ما توهّم من استصحاب الأجزاء والشّرائط والموانع، حيث إنّها ليست بذات أثر شرعي، بل إجراء الاستصحاب فيها إنّما هو للكلّ والمشروط والممنوع الّتي يترتّب عليها الآثار، لكن فيه أنّ الجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة أيضاً من الآثار الشّرعيّة، منتهى الأمر أنّها وضعيّة لا تكليفيّة، فالاستصحاب في الجزء والشّرط والمانع ليس مثبتاً.

وعلى هذا {لا تفاوت في الأثر المستصحب أو المترتّب عليه أن يكون مجعولاً شرعاً بنفسه كالتكليف} كاستصحاب الوجوب والحرمة {وبعض أنحاء الوضع}

ص: 164


1- فرائد الأصول 3: 235-236.

أو بمنشأ انتزاعه، - كبعض أنحائه، كالجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة - ؛ فإنّهأيضاً ممّا تناله يد الجعل شرعاً، ويكون أمره بيد الشّارع وضعاً ورفعاً، ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه. ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتّب أو المستصحب مجعولاً مستقلّاً، كما لا يخفى.

فليس استصحاب الشّرط أو المانع لترتيب الشّرطيّة أو المانعيّة بمثبت - كما ربّما توهّم - بتخيّل أنّ الشّرطيّة أو المانعيّة ليست من الآثار الشّرعيّة، بل من الأُمور الانتزاعيّة(1)،

___________________________________________

وهو القسم الثّالث من أقسام الوضع المتقدّمة، وهو الّذي يمكن فيه الجعل استقلالاً وتبعاً، كالولاية والحجيّة والقضاء وغيرها، فيجوز استصحاب الولاية والحجيّة، كما يصحّ استصحاب الوجوب والحرمة.

{أو} يكون مجعولاً شرعاً {بمنشأ انتزاعه، كبعض أنحائه كالجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة، فإنّه أيضاً ممّا تناله يد الجعل شرعاً ويكون أمره بيد الشّارع وضعاً ورفعاً} بأن يجعل شيئاً جزءاً لشيء أو يرفع الجزئيّة في حال دون حال مثلاً، وهكذا بالنسبة إلى الشّرطيّة والمانعيّة {ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه} كما تقدّم في القسم الثّاني من أقسام الوضع تفصيله.

{ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتّب أو المستصحب مجعولاً مستقلّاً، كما لا يخفى} فإذا شكّ في شرطيّة الطّهارة الخبثيّة في حال الاضطرار جاز إجراء أصالة العدم، كما أنّه لو شكّ في الطّهارة لعارض بعد ما كانت سابقاً موجودة صحّ إجراء أصالة البقاء، فما قيل من أنّه لا أثر لهذه الأُمور إلّا صحّة الصّلاة وبطلانها - مثلاً - وهما حكمانعقليّان لا يرتبطان بالشرع، في غير محلّه.

{فليس استصحاب الشّرط أو المانع} أو الجزء {لترتيب الشّرطيّة أو المانعيّة} أو الجزئيّة {بمثبت - كما ربّما توهّم -} أنّها مثبتات فليست بحجّة {بتخيّل أنّ الشّرطيّه أو المانعيّة ليست من الآثار الشّرعيّة، بل من الأُمور الانتزاعيّة} من كون

ص: 165


1- فرائد الأصول 2: 333 و 367، 3: 127.

فافهم.

وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتّب بين أن يكون ثبوت الأثر ووجودَه، أو نفيه وعدمه؛ ضرورة أنّ أمر نفيه بيد الشّارع كثبوته.

___________________________________________

شيء دخيلاً في شيء وجوداً أو دخيلاً فيه عدماً {فافهم} وتأمّل.

ثمّ إنّه ربّما أُشكل في جريان استصحاب عدم الحكم أو عدم الموضوع: بأنّه يجب أن يكون للاستصحاب أثر شرعيّ، وعدم الحكم أو عدم الموضوع المسبّب لعدم الحكم لا أثر شرعيّ لهما، فلا يجري استصحابهما، وعلى هذا فلا يصحّ استصحاب عدم التكليف بأن يقال: زيد لم يكن مكلّفاً فإذا شككنا في أنّه هل كلّف أم لا فالأصل عدم تكليفه، وهكذا في استصحاب عدم الموضوع.

وإن قلت: إنّ استصحاب العدم له أثر وهو عدم العقاب.

قلت: لا يكون عدم العقاب أثراً شرعيّاً، وإنّما هو أثر عقليّ لعدم التكليف، لكن يرد على هذا الإشكال أنّه حيث كان كلّ من التكليف وعدمه بيد الشّارع صحّ جريان الاستصحاب فيهما، وأمّا ما ذكر من أنّ عدم العقاب من الآثار العقليّة ففيه أنّ كونه من الآثار العقليّة إنّما يصحّ بالنسبة إلى الواقع، وأمّا بالنسبةإلى الظاهر فالاستصحاب مثبت لموضوع عدم العقاب العقلي.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتّب} على المستصحب {بين أن يكون} المستصحب والمترتّب {ثبوت الأثر ووجوده} كأن يستصحب الوجوب أو يستصحب بقاء زيد المترتّب عليه وجوب الإنفاق على زوجته {أو نفيه وعدمه} كأن يستصحب عدم الوجوب وعدم وجود زيد {ضرورة أنّ أمر نفيه} أي: نفي الأثر {بيد الشّارع ك-} ما أنّ {ثبوته} بيد الشّارع.

ص: 166

وعدم إطلاق الحكم على عدمه غير ضائر؛ إذ ليس هناك ما دلّ على اعتباره بعد صدق نقض اليقين بالشكّ برفع اليد عنه، كصدقه برفعها من طرف ثبوته، كما هو واضح.

فلا وجه للإشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة من التكليف، وعدم المنع عن الفعل بما في الرّسالة من: «أنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشّرعيّة»(1)؛

فإنّ عدم استحقاق العقوبة - وإن كان غير مجعول - إلّا أنّه

___________________________________________

{و} إن قلت: إنّ لنا أن نستصحب الأحكام، والأعدام ليست بأحكام.

قلت: {عدم إطلاق الحكم على عدمه} أي: عدم الأثر، فإنّ عدم الوجوب ليس حكماً بل هو عدم حكم {غير ضائر، إذ ليس هناك ما دلّ على اعتباره} أي: اعتبار أن يطلقعلى المستصحب لفظ (الحكم) {بعد صدق نقض اليقين بالشكّ برفع اليد عنه} فإنّه لو علمنا سابقاً بعدم وجوب الصّلاة على زيد ثمّ شككنا في الوجوب فقلنا بأنّها واجبة صدق أنّا نقضنا يقيننا بالشكّ، وهو غير جائز {كصدقه} أي: صدق نقض اليقين بالشكّ {برفعها} أي: رفع اليد {من طرف ثبوته} أي: حيث يكون الثبوت مورداً للاستصحاب {كما هو واضح} لا يخفى.

{فلا وجه للإشكال في الاستدلال على البراءة: باستصحاب البراءة من التكليف} في ما شكّ في أنّه هل كلّف بالفعل أم لا {و} الاستدلال على البراءة ب- {عدم المنع عن الفعل} في ما شكّ في أنّه هل منع عن الفعل أم لا {بما في الرّسالة} للشيخ(رحمة الله) {«من أنّ عدم استحقاق العقاب} في ترك المشكوك الوجوب وفعل مشكوك الحرمة {في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشّرعيّة»} حتّى يرفع بالاستصحاب ولا أثر آخر لهذا الاستصحاب؛ لأنّه نافٍ للتّكليف لا مثبت له.

وإنّما قلنا بأنّه لا وجه للإشكال {فإنّ عدم استحقاق العقوبة - وإن كان غير مجعول -} بل هو أثر عقليّ لعدم التكليف {إلّا أنّه} لا دليل لنا على أنّ كلّ

ص: 167


1- فرائد الأصول 2: 60، مع اختلاف يسير.

لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع.

وترتّب عدم الاستحقاق - مع كونه عقليّاً - على استصحابه، إنّما هو لكونه لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر، فتأمّل.

التّاسع:

___________________________________________

استصحاب يلزم أن يكون له أثر وجوديّ، إذ {لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع} فإذا أردنا أن نستصحب عدم المنع - بأن نقول: إنّ هذا الفعل لم يكن ممنوعاً سابقاً فهو ليس بممنوع فعلاً - لا نحتاج إلى أن يكون لهذا الاستصحاب أثر مجعول، بل نفس عدم التكليف أمر مهمّ مع صدق دليل الاستصحاب وهو «لا تنقض اليقين بالشكّ».

{و} أمّا ما ذكره من أنّ عدم استحقاق العقاب مرتّب على عدم المنع واقعاً، ففيه: أنّه مرتّب على الأعمّ من عدم المانع الواقعي والظاهري، فإذا ثبت الاستصحاب عدم المنع الظاهري ترتّب عليه عدم استحقاق العقاب، فإنّ {ترتّب عدم الاستحقاق} للعقاب عل-ى استصحاب ع--دم المنع {- مع كونه عقليّاً - على استصحابه} أي: استصحاب عدم المنع {إنّما هو لكونه} أي: عدم الاستحقاق {لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر} فإذا استصحبنا عدم المنع تحقّق موضوع عدم العقاب - ظاهراً - {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّ الشّيخ(رحمة الله) يرى أنّ عدم استحقاق العقاب من لوازم عدم ثبوت المنع الواقعي، فيترتّب بمجرّد الشّكّ، ولا يحتاج في ترتّبه إلى الاستصحاب.

[التنبيه التّاسع]

التنبيه {التّاسع} في أنّه يترتّب على المستصحب الآثار العقليّة الّتي هي من قبيل وجوب الإطاعة وحرمة المخالفة، فإنّ ما ذكرنا سابقاً من أنّه لا يترتّب على المستصحب الأثر العقلي أو الأثر الشّرعي المتوقّف على الأثر غير الشّرعي إنّما

ص: 168

إنّه لا يذهب عليك: أنّ عدم ترتّب الأثرغير الشّرعي ولا الشّرعي، بواسطة غيره من العادي أو العقلي بالاستصحاب، إنّما هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعاً، فلا يكاد يثبت به من آثاره إلّا أثره الشّرعي الّذي كان له بلا واسطة أو بوساطة، أثر شرعيّ آخر - حسب ما عرفت في ما مرّ - ،

___________________________________________

أُريد بالأثر الأثر الّذي يكون متوقّفاً على الشّيء واقعاً، فإنّ كون زيد في الحيّز من الآثار المتوقّفة على وجوده واقعاً فلا يترتّب على وجوده الاستصحابي.

أمّا الآثار العقليّة الّتي هي أثر للأعمّ من وجود المستصحب واقعاً أو ظاهراً فهي تترتّب على المستصحب، وذلك كوجوب الإطاعة، فإنّه وإن كان أثراً عقليّاً إلّا أنّه مترتّب على الحكم سواء ثبت واقعاً أو ظاهراً، فإذا استصحبنا وجوب الجمعة حال الغيبة ترتّب عليه وجوب الإطاعة عقلاً، كما أنّ وجوب الإطاعة كما يترتّب على وجوب الجمعة إذا كان معلوماً لدينا بدون الاستصحاب، ف- {إنّه لا يذهب عليك أنّ} ما ذكرنا من {عدم ترتّب الأثر غير الشّرعي} كالعقلي والعادي {ولا} ترتّب الأثر {الشّرعي بواسطة غيره} أي: غير الشّرعي {من العادي أو العقلي} كالأثر الشّرعي المتوقّف على إنبات لحية زيد الّذي هو أثر عادي لوجوده المستصحب {بالاستصحاب} متعلّق بقوله: «عدم ترتّب الأثر» {إنّما هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعاً} أي: الأثر العقلي والعادي الّذي هو للمستصحب واقعاً لا يثبت بالاستصحاب.

{فلا يكاد يثبت به} أي: بالاستصحاب {من آثاره} أي: آثار المستصحب {إلّا أثره الشّرعي الّذي كان له} أي: للمستصحب {بلا واسطة} كالدخول في الصّلاة الّذي هو أثرللطهارة بلا واسطة {أو بوساطة أثر شرعيّ آخر} كما لو نذر بأنّه لو جاز له الدخول في الصّلاة تصدّق بكذا، فالتصدّق أثر شرعيّ مترتّب على الطّهارة بواسطة جواز الدخول في الصّلاة {حسب ما عرفت في ما مرّ} في التنبيه

ص: 169

لا بالنسبة إلى ما كان للأثر الشّرعي مطلقاً، كان بخطاب الاستصحاب، أو بغيره من أنحاء الخطاب؛ فإنّ آثاره - شرعيّة كانت أو غيرها - يترتّب عليه إذا ثبت، ولو بأن يستصحب، أو كان من آثار المستصحب؛ وذلك لتحقّق موضوعها حينئذٍ حقيقة.

فما للوجوب عقلاً يترتّب على الوجوب الثابت شرعاً باستصحابه أو استصحاب موضوعه، من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة... إلى غير ذلك،

___________________________________________

السّابع {لا بالنسبة إلى ما كان} أي: إلى الأثر العقلي الّذي كان {للأثر الشّرعي مطلقاً}.

فإنّ الأثر العقلي - كوجوب الإطاعة - الّذي كان مرتّباً على أثر شرعيّ مطلقاً يترتّب مهما وجد أثر شرعي، سواء {كان بخطاب الاستصحاب} بأن ثبت الحكم بالاستصحاب {أو بغيره من أنحاء الخطاب} كالبيّنة وخبر الواحد وغيرهما.

{فإنّ آثاره} أي: آثار الحكم الشّرعي الثابتة له مطلقاً {شرعيّة كانت} تلك الآثار {أو غيرها} كالعقليّة {يترتّب عليه} أي: على الأثر الشّرعي {إذا ثبت} ذاك الأثر الشّرعي {ولو بأن يستصحب} كالوجوب الّذي يستصحب {أو كان من آثارالمستصحب} كما لو استصحب الموضوع الّذي كان الوجوب من آثاره، فإنّه إذا استصحبنا الوجوب أو موضوع الوجوب يثبت تبعاً - لثبوت الوجوب - كلّ أثر شرعيّ أو عقليّ للوجوب.

{وذلك} الّذي ذكرنا من ثبوت كلّ أثر عقليّ أو شرعيّ إنّما هو {لتحقّق موضوعها} أي: موضوع تلك الآثار الشّرعيّة والعقليّة {حينئذٍ} أي: حين ثبت الحكم ولو بالاستصحاب {حقيقة فما للوجوب عقلاً} كوجوب الإطاعة وحرمة المخالفة {يترتّب على الوجوب الثابت شرعاً باستصحابه أو استصحاب موضوعه} إذ باستصحاب الموضوع يثبت الحكم أيضاً، فيثبت آثار الحكم عقليّة كانت أو شرعيّة {من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة} «من» بيان قوله: «ما للوجوب» {إلى غير ذلك} من الآثار.

ص: 170

كما يترتّب على الثابت بغير الاستصحاب، بلا شبهة ولا ارتياب، فلا تغفل.

العاشر: إنّه قد ظهر ممّا مرّ: لزوم أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو ذا حكم كذلك. لكنّه لا يخفى: أنّه لا بدّ أن يكون كذلك بقاءً، ولو لم يكن كذلك ثبوتاً. فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكماً، ولا له أثر شرعاً، و

___________________________________________

{كما يترتّب} مثل هذه الآثار {على} الحكم {الثابت بغير الاستصحاب} كما لو ثبت بالخبر أو الإجماع {بلا شبهة ولا ارتياب، فلا تغفل} فإنّ هذه ليست من الأثر المثبت، كما لا يخفى.

[التنبيه العاشر]

التنبيه {العاشر} في أنّه لا يجب في المستصحب أن يكون ذا أثر شرعيّ حال اليقين، بل كونه ذا أثر حال الشّكّ كافٍ في إجراء الاستصحاب.

فمثلاً: لو شكّ في بلوغ زيد، فإنّ استصحاب عدم التكليف بالنسبة إليه جارٍ، وإن كان قبل البلوغ لا أثر شرعيّ بالنسبة إلى زيد، إذ ليس داخلاً في موضوع التكليف حتّى يكون لليقين السّابق أثر شرعيّ.

وكذلك إذا وقع مالٌ لزيدٍ في البحر ثمّ أخرج جرى استصحاب ملكيّته له، وإن كان في حال كونه في البحر مأيوساً منه لا أثر شرعيّ لملكيّته إيّاه، لكنّه حيث يكون في حال الشّكّ ذا أثر من جواز تصرّفه وحرمة تصرّف غيره. وهكذا، جرى الاستصحاب {إنّه قد ظهر ممّا مرّ لزوم أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً} كاستصحاب الوجوب {أو ذا حكم كذلك} شرعيّ كاستصحاب الملك.

{لكنّه لا يخفى أنّه} أي: أنّ المستصحب {لا بدّ أن يكون كذلك} حكماً أو ذا حكم {بقاءً} وفي حال الشّكّ {ولو لم يكن كذلك ثبوتاً} في حال اليقين {فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكماً} شرعيّاً {ولا له أثر شرعاً، و} لكن

ص: 171

كان في زمان استصحابه كذلك - أي: حكماً أو ذا حكم - يصحّ استصحابه، كما في استصحاب عدم التكليف؛ فإنّه وإن لم يكن بحكم مجعول في الأزل ولا ذا حكم، إلّا أنّه حكم مجعول في ما لا يزال؛ لما عرفت من أنّ نفيه - كثبوته في الحال - مجعول شرعاً.

وكذا استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتاً، أو كان ولم يكن حكمه فعليّاً، ولهحكم كذلك بقاءً، وذلك لصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عنه، والعمل كما إذا قطع بارتفاعه يقيناً، ووضوح عدم دخل أثر الحالة السّابقة - ثبوتاً - فيه وفي تنزيلها بقاءً.

___________________________________________

{كان في زمان استصحابه} في حال الشّكّ {كذلك أي: حكماً أو ذا حكمٍ، يصحّ استصحابه} فعلاً {كما في استصحاب عدم التكليف} قبل البلوغ في ما لو شكّ أنّه هل بلغ أم لا {فإنّه وإن لم يكن بحكم مجعول في الأزل ولا} موضوعاً {ذا حكم} شرعيّ {إلّا أنّه حكم مجعول في ما لا يزال} وفي حال الشّكّ {لما عرفت} في التنبيه السّابق {من أنّ نفيه} أي: نفي التكليف {كثبوته في الحال مجعول شرعاً} وهذا القدر كافٍ في صدق «لا تنقض».

{وكذا استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتاً} في حال اليقين {أو كان} له حكم ثبوتاً {ولم يكن حكمه فعليّاً} بل اقتضائيّاً أو إنشائيّاً {وله حكم كذلك} فعليّاً {بقاءً} في حال الشّك.

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم لزوم الحكم في الحالة السّابقة {لصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عنه} فإنّه لو رفع اليد عن الملكيّة بالنسبة إلى الشّيء الملقى في البحر صدق أنّه نقض يقينه بكونه ملك زيد بالشكّ فيه - بعد خروجه من البحر - {والعمل} أي: إذا رفع اليد عنه وعمل {كما إذا قطع بارتفاعه يقيناً} بأن عملنا مع الملقى في البحر عمل ما لا مالك له {ووضوح} عطف على قوله:«لصدق» {عدم دخل أثر الحالة السّابقة - ثبوتاً - فيه} أي: في النّقض {وفي تنزيلها} أي: تنزيل الحالة السّابقة {بقاءً} يعني لا يتوقّف التعبّد ببقاء الحالة

ص: 172

فتوهّم اعتبار الأثر سابقاً - كما ربّما يتوهّمه الغافل من اعتبار كون المستصحب حكماً أو ذا حكم - ، فاسد قطعاً، فتدبّر جيّداً.

الحادي عشر:

___________________________________________

السّابقة على ثبوت الأثر في الزمان السّابق، بل يكفي الأثر في الزمان اللّاحق.

{فتوهّم اعتبار الأثر} الشّرعي {سابقاً} في حال اليقين {كما ربّما يتوهّمه الغافل} توهّماً ناشئاً {من اعتبار كون المستصحب حكماً أو ذا حكم} فيظنّ أنّه يجب كونه كذلك في السّابق {فاسد قطعاً} خبر قوله: «فتوهّم» {فتدبّر جيّداً}.

[التنبيه الحادي عشر]

التنبيه {الحادي عشر} يتعرّض في هذا التنبيه إلى أربعة أقسام من الاستصحاب:

الأوّل: ما إذا شكّ في وجود حادث فإنّ الأصل عدمه، كما لو شكّ في أنّه هل وجب عليه كذا أم لا، ولا إشكال في هذا.

الثّاني: ما إذا علم بوجود هذا الحادث ولكنّه شكّ في أنّه هل حدث في زمان متقدّم أم زمان متأخّر، كما إذا علم بأنّ زوجته خرجت عن النّشوز، ولكن يشكّ في أنّها خرجت أوّل شهر رمضان أو أوّل شوّال، ممّا يسبّب عدم اشتغال ذمّته بنفقة شهر رمضان، وهنا يجري أصالة عدم الطّاعة إلى أوّل شوّال، فذمّته فارغةعن نفقتها لشهر رمضان.

الثّالث: ما إذا علم بوجود هذا الحادث، ولكن كان ترتّب الأثر متوقّفاً على وصف خاصّ، كما لو أسلم أحد الورثة وشكّ في أنّ إسلامه هل كان متأخّراً عن القسمة حتّى لا يشارك باقي الورثة أم كان قبل ذلك حتّى يشاركهم، فإنّ الإسلام وإن كان أمراً حادثاً والأصل عدم حدوثه إلى زمان القسمة، إذ التأخّر وصف زائد على عدم الحدوث، فإنّه إن كان ملازماً معه - إذ عدم الحدوث إلى زمان القسمة

ص: 173

لا إشكال في الاستصحاب في ما كان الشّكّ في أصل تحقّق حكم أو موضوع.

وأمّا إذا كان الشّكّ في تقدّمه وتأخّره، بعد القطع بتحقّقه وحدوثه في زمان:

فإن لوحظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان، فكذا لا إشكال في استصحاب عدم تحقّقه في الزمان الأوّل، وترتيب آثاره، لا آثار تأخّره عنه؛ - لكونه بالنسبة إليها مثبتاً،

___________________________________________

ملازم للحدوث بعدها - إلّا أنّه مثبت، وقد عرفت أنّ الأصل المثبت ليس بحجّة.

الرّابع: ما لو علم بحدوث الحادثين لكن لا يعلم التأخّر والتقدّم، كما لو علم بأنّ هذا الماء كان قليلاً ويده كانت نجسة، وقد حدثت الكريّة والملاقاة ولكنّه لا يعلم بتقديم الملاقاة حتّى يحكم بنجاسة الماء أم تأخّره حتّى يحكم بطهارته، وسيأتي تفصيل الكلام فيه، إذا عرفت ذلك قلنا:

أمّا الأوّل: فقد أشار إليه بقوله: {لا إشكال في الاستصحاب في ما كان الشّكّ في أصل تحقّق حكم أو موضوع} ذي حكم، لما سبق من أدلّة حجيّة الاستصحاب.

وأمّا الثّاني: فقد أشار إليه بقوله: {وأمّا إذا} علم بحدوثه - كالطاعة - و{كان الشّكّ في تقدّمه} أوّل شهر رمضان {وتأخّره} أوّلشوّال {بعد القطع بتحقّقه} أي: تحقّق ذلك الحادث {وحدوثه في زمان} ما {فإن لوحظ} هذا الحادث {بالإضافة إلى أجزاء الزمان} كما في المثال {فكذا لا إشكال في استصحاب عدم تحقّقه في الزمان الأوّل} لأنّه يشكّ في حدوثه ذلك الوقت، فالأصل عدمه {و} لا إشكال في {ترتيب آثاره} أي: آثار عدم التحقّق، فلا تجب نفقتها لشهر رمضان.

وأمّا الثّالث: فقد اشار إليه بقوله: {لا آثار تأخّره عنه} يعني أنّه إذا شكّ في تقدّم الحادث وتأخّره، كما لو شكّ في تقدّم الإسلام على القسمة وتأخّره عنه، فإنّه لا يرتّب على أصالة عدم الإسلام إلى حال القسمة تأخّر الإسلام عن القسمة {لكونه} أي: الاستصحاب {بالنسبة إليها} أي: آثار التأخّر {مثبتاً} فإنّ صفة التأخّر الّتي هي موضوع للأثر الشّرعي - وهو عدم استحقاق هذا الشّخص الإرث -

ص: 174

إلّا بدعوى خفاء الواسطة، أو عدم التفكيك في التنزيل بين عدم تحقّقه إلى زمان، وتأخّره عنه عرفاً، كما لا تفكيك بينهما واقعاً - ، ولا آثار حدوثه في الزمان الثّاني؛

___________________________________________

صفة وجوديّة، وهي ليست مجرى للاستصحاب بل من لوازم عدم وجود الإسلام قبل القسمة، فإثبات هذه الصّفة باستصحاب العدم من قبيل الأصل المثبت الّذي تقدّم أنّه غير صحيح.

والحاصل: أنّ مجرى الاستصحاب هو عدم الإسلام إلى حال القسمة، ولازم ذلك تأخّر الإسلام، والأصل إنّما يثبت مجراه لا لازم مجراه {إلّا بدعوىخَفَاء الواسطة} فإنّ العرف يرى أنّ عدم الإرث من آثار عدم الإسلام إلى حال القسمة، ولا يرى الواسطة - الّتي هي تأخّر الإسلام عن القسمة - بينهما، وقد عرفت أنّ الأصل لا يكون مثبتاً إذا كانت الواسطة خفيّة.

{أو} دعوى {عدم التفكيك في التنزيل} أي: تنزيل الشّارع المشكوك منزلة المتيقّن {بين عدم تحقّقه} أي: الإسلام {إلى زمان} القسمة {وتأخّره} أي: الإسلام {عنه} أي: عن ذلك الزمان {عرفاً} فبين عدم الإسلام إلى زمان القسمة وبين تأخّر الإسلام عن القسمة تلازم جلي، فإذا نزل الشّارع أحدهما - وهو عدم الإسلام - فإنّه قد نزل الآخر - وهو التأخّر - عرفاً، إذ لا تفكيك بينهما في نظرهم {كما لا تفكيك بينهما واقعاً} فإنّه إذا حدث شيء ولم يكن إلى زمان القسمة كان متأخّراً عنه في الخارج - قطعاً - وقد عرفت سابقاً أنّه لو كان تلازم جلي بين المستصحب وبين ذي الأثر لم يكن ذلك من الأصل المثبت.

وكيف كان، فقد عرفت أنّه لا يثبت بالاستصحاب آثار تأخّر المستصحب {ولا آثار حدوثه في الزمان الثّاني} فإذا قال المولى: (إن جاءك زيد يوم الجمعة فأكرمه) ثمّ شككنا في أنّه هل جاء يوم الخميس أو يوم الجمعة، فإنّه يستصحب عدم مجيئه يوم الخميس، لكن لا يثبت بذلك مجيئه يوم الجمعة حتّى يثبت

ص: 175

فإنّه نحو وجود خاصّ.

نعم، لا بأس بترتيبها بذاك الاستصحاب، بناءً على أنّه عبارة عن أمر مركّب من الوجود في الزمان اللّاحق، وعدم الوجود في السّابق.

___________________________________________

بذلك هذا الأثر وهو وجوب إكرامه {فإنّه} أي: الحدوث في الزمان الثّاني{نحو وجود خاصّ} والاستصحاب لا يفيد إلّا عدم الوجود في الزمان الأوّل لا الوجود في الزمان الثّاني، فإنّ الوجود يوم الجمعة لازم عدم الوجود يوم الخميس.

{نعم} لو قلنا: إنّ الإكرام معلّق على أمر مركّب من عدم الوجود يوم الخميس والوجود يوم الجمعة ثبت بالاستصحاب ذلك؛ لأنّ هذا المركّب - الّذي هو موضوع الإكرام - ذو جزأين:

الأوّل: عدمي، ثبت بالاستصحاب.

والثّاني: وجوديّ، ثبت بالوجدان؛ لأنّا نرى زيداً فعلاً - أي: في يوم الجمعة - وجداناً.

ف- {لا بأس بترتيبها} أي: ترتيب آثار الحدوث في الزمان الثّاني {بذاك الاستصحاب} أي: استصحاب عدم الحدوث في الزمان الأوّل {بناءً على أنّه} أي: الحدوث {عبارة عن أمر مركّب من الوجود في الزمان اللّاحق} المعلوم بالوجدان {وعدم الوجود في} الزمان {السّابق} المحرز بالأصل.

وإذ تمّ الكلام في القسم الثّالث فلنشرع في القسم الرّابع، فنقول: إذا حدث أمران فإمّا أن نعلم زمانهما ولا إشكال في هذا، وإمّا أن نجهل زمانهما، وإمّا أن نعلم زمان أحدهما دون الآخر، فلو مات ابن وأب، وعلمنا أنّ موت الابن يوم الجمعة، وموت الأب يوم السّبت، ورث الأب من الابن، وليس من محلّ الكلام، ولو علمنا أنّ الأب مات يوم السّبت، ولم نعلم أنّ الابن مات يوم الجمعة أو يوم الأحد، كان من القسم الثّالث الّذي يأتي الكلام فيه.

ص: 176

وإن لوحظ بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه أيضاً، وشكّ في تقدّم ذاك عليهوتأخّره عنه، كما إذا علم بعروض حكمين، أو موت متوارثين، وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما:

فإن كانا مجهولي التاريخ:

فتارة: كان الأثر الشّرعي لوجود أحدهما

___________________________________________

ولو لم نعلم أنّ أيّهما مات مقدّماً، وأيّهما مات مؤخّراً، وهذا يتصوّر على صورتين:

الأُولى: أن نعرف التقدّم والتأخّر، ولكن لا نعلم بأنّ أيّهما المقدّم وأيّهما المؤخّر.

الثّانية: أن لا نعلم التقارن والتقدّم والتأخّر - بأن لم نعلم هل ماتا معاً أم مات أحدهما مقدّماً والآخر مؤخّراً - .

إذا عرفت ذلك نقول: {وإن لوحظ} ما كان الشّكّ في تقدّمه وتأخّره {بالإضافة إلى حادث آخر} - لا بالإضافة إلى أجزاء الزمان - بأن {علم بحدوثه} أي: حدوث الحادث الآخر {أيضاً} كما علم حدوث الحادث الأوّل {وشكّ في تقدّم ذاك} الحادث الآخر {عليه} أي: على الحادث الأوّل {وتأخّره عنه، كما إذا علم بعروض حكمين} بأن علم أنّ صلاة الجمعة وجبت وحرمت ولم يعلم أنّ أيّ الحكمين كان سابقاً وأيّهما كان لاحقاً حتّى يكون اللّاحق ناسخاً للسابق {أو موت متوارثين} كالأب والابن اللّذين ماتا ولم يعلم بأنّ أيّهما مات أوّلاً حتّى يرثه الآخر - فيرث ورثة الآخر أمواله - {وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما} فهذا على قسمين:

الأوّل: الجهل بتاريخهما.

الثّاني: الجهل بتاريخ أحدهما.

{فإن كانا مجهولي التاريخ} فهو على قسمين: {فتارة كان الأثر الشّرعي لوجود أحدهما}وأُخرى كان الأثر الشّرعي لعدم أحدهما، وكلّ واحد منهما على نحوين:

ص: 177

بنحو خاصّ، من التقدّم أو التأخّر أو التقارن، لا للآخر، ولا له بنحو آخر، فاستصحاب عدمه صار بلا معارض، بخلاف ما إذا كان الأثر لوجود كلّ منهما كذلك،

___________________________________________

فلو كان الأثر للوجود فإمّا أن يكون مترتّباً على نحو من أنحاء الوجود من التقدّم والتأخّر والتقارن بنحو كان التامّة، وإمّا أن يكون مترتّباً على نحو من أنحائه بنحو كان النّاقصة.

ولو كان الأثر للعدم فإمّا أن يكون موضوعه هو العدم التامّ المقيّد بكونه في زمان الآخر، وإمّا أن يكون موضوعه هو العدم النّاقص، بأن يكون الموضوع هو الحادث الّذي كان معدوماً في زمن الآخر، فهذه أربعة أقسام لمجهولي التاريخ.

فلو كان الأثر الشّرعي لوجود أحدهما {بنحو خاصّ من التقدّم أو التأخّر أو التقارن} كما لو نذر بأنّه لو جاء زيد مقدّماً على عمرو أعطاه ديناراً، ثمّ جاءا وشكّ في أنّه هل جاء مقدّماً أو مؤخّراً أم مقارناً، فإنّ الأثر الشّرعي مرتّب على وجود زيد بنحو خاصّ هو التقدّم {لا للآخر} أي: لا يكون الأثر الشّرعي للوجود الخاصّ للآخر؛ فإنّ وجود عمرو لا أثر له، إذ لم يجعل وجوده موضوعاً لدليل {ولا له} أي: لا يكون أثر شرعيّ لوجود الحادث الأوّل - وهو مجيء زيد في المثال - {بنحو آخر} إذ لا يترتّب أثر شرعيّ على وجود زيد مقارناً لعمرو أو مؤخّراً عنه {فاستصحاب عدمه} أي: عدم هذا الوجود الخاصّ الّذي هو موضوع للحكم {صار بلا معارض} فيقول: الأصل عدم مجيء زيد مقدّماً على عمرو، فلا يجب عليه إعطاء الدينار، ولا معارض لهذا الأصل.

وذلك {بخلاف ما إذا كان الأثر} الشّرعي {لوجودكلّ منهما} أي: من الحادثين {كذلك} أي: بنحو خاصّ، كما لو نذر بأنّه لو جاء زيد مقدّماً على عمرو أعطى زيداً ديناراً، ولو جاء عمرو مقدّماً على زيد أعطى عمرواً ديناراً ثمّ شكّ في أنّ أيّهما جاء مقدّماً.

ص: 178

أو لكلّ من أنحاء وجوده، فإنّه حينئذٍ يعارض، فلا مجال لاستصحاب العدم في واحد؛ للمعارضة باستصحاب العدم في آخر؛ لتحقّق أركانه في كلّ منهما.

هذا إذا كان الأثر المهمّ مترتّباً على وجوده الخاصّ الّذي كان مفاد كان التامّة.

وأمّا إن كان مترتّباً على ما إذا كان متّصفاً بالتقدّم، أو بأحد ضدّين الّذي كان مفاد كان النّاقصة،

___________________________________________

{أو} كان الأثر الشّرعي {لكلّ من أنحاء وجوده} أي: وجود الحادث الأوّل، كما لو نذر إن جاء زيد مقدّماً على عمرو أعطى زيداً ديناراً، وإن جاء زيد مؤخّراً عن عمرو أعطى عمرواً ديناراً {فإنّه} أي: الاستصحاب في الحادث الأوّل {حينئذٍ يعارض} بالاستصحاب في الحادث الثّاني أو بالاستصحاب في حالة أُخرى للحادث الأوّل، فيعارض عدم مجيء زيد مقدّماً بعدم مجيء عمرو مقدّماً بالنسبة إلى «وجود كلّ منهما»، ويعارض عدم مجيء زيد مقدّماً بعدم مجيئه مؤخّراً بالنسبة إلى «كلّ من أنحاء وجوده» {فلا مجال لاستصحاب العدم في واحد} من الأمرين أو من الحالتين {للمعارضة باستصحاب العدم في آخر لتحقّق أركانه} أي: أركان الاستصحاب {في كلّ منهما} لأنّ لعدم كلّ منهما يقيناً سابقاً وشكّاً لاحقاً.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرناه من جريان الاستصحاب في ما إذا كان الأثر الشّرعي لأحدهما فقط، إنّما يصحّ {إذا كان الأثر المهمّ}الّذي نريد ترتيبه على الاستصحاب {مترتّباً على وجوده الخاصّ الّذي كان مفاد كان التأمّة} كما لو نذر إعطاء الدينار لزيد المتقدّم، بأن جعل متعلّق النّذر الوجود الخاصّ، فإنّ هذا الوجود الخاصّ لم يكن سابقاً، فإذا شكّ فيه فالأصل عدمه.

{وأمّا إن كان} الأثر المهمّ {مترتّباً على ما إذا كان} الحادث {متّصفاً بالتقدّم أو بأحد ضدّين} التقارن والتأخّر، كما لو نذر إعطاء الدينار لزيد إذا جاء مقدّماً {الّذي كان مفاد كان النّاقصة} بمعنى أنّه لم يلحظ الوجود الخاصّ، بل لوحظ

ص: 179

فلا مورد هاهنا للاستصحاب؛ لعدم اليقين السّابق فيه بلا ارتياب.

___________________________________________

وجود شيء لشيء.

إذ قد يلحظ الوجود المتقدّم حتّى يكون المراد حصّة خاصّة من الوجود، وقد يلحظ المتقدّم للوجود، بأن يؤخذ مطلقاً ثمّ يضاف إليه التقدّم، فالأوّل مفاد كان التامّة، والثّاني مفاد كان النّاقصة.

والأوّل يمكن إجراء الاستصحاب العدمي فيه، فإنّ هذه الحصّة من الوجود لم تكن، فإذا شكّ فيها كان الأصل عدمها، بخلاف الثّاني فلا يجري فيه الاستصحاب، إذ لا حالة سابقة عدميّة ل- (الوجود المضاف إلى التقدّم)، فإنّه إن أُريد عدم الوجود فإنّ له حالة سابقة لكنّه لا ينفع في نفي الوجود الموصوف بالتقدّم، فإنّه مثبت وهو من قبيل أن نقول - في الماء المشكوك الكريّة - : (لم يكن هنا ماء فماء الكرّ لم يكن) أو نقول - في زيد المشكوك عدم اليد له - : (لم يكن سابقاً زيد فلم يكن له يد) لنثبت بذلك أن لا يد لزيد الموجود، وإن أُريدعدم الوجود الموصوف فإنّه كيف نعلم بأنّه كان في زمان سابق الوجود بلا وصف حتّى يتحقّق عدم الوجود الموصوف.

والحاصل: أنّ الأصل على التقدير الأوّل مثبت، وعلى التقدير الثّاني لا يقين سابق له.

فتحصّل أنّه إن ترتّب الأثر على الوجود المتّصف على نحو كان النّاقصة {فلا مورد هاهنا للاستصحاب لعدم اليقين السّابق فيه بلا ارتياب}.

وإن خفي عليك الفرق بين النّاقصة والتامّة في المقام فقس ذلك بهذا المثال، فإنّه ربّما يقول المولى: (العالم واجب الاحترام) فإذا شككت في وجود الموضوع كان الأصل عدمه.

وربّما يقول: (الإنسان العالم واجب الاحترام) فإنّه إذا شككت في أنّه هل هذا

ص: 180

وأُخرى: كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر، فالتحقيق أنّه أيضاً ليس بمورد للاستصحاب، في ما كان الأثر المهمّ مترتّباً على ثبوته للحادث، بأن يكون الأثر للحادث المتّصف بالعدم في زمان حدوث الآخر؛ لعدم اليقين بحدوثه كذلك في زمان.

___________________________________________

الإنسان عالم أم لا يمكن إجراء أصل العدم، إذ لو أُريد نفي الإنسان فله حالة سابقة لكنّه لا يثبت نفي العالم، ولو أُريد نفي الإنسان العالم - بمعنى أنّه كان إنساناً ولم يكن عالماً - فإنّه لا حالة سابقة له.

{و} تارة {أُخرى كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر، فالتحقيق أنّه أيضاً} كالقسم السّابق الّذي كان مفاد كان النّاقصة {ليس بمورد للاستصحاب} سواء أُخذالعدم على نحو ليس النّاقصة أم أُخذ على نحو ليس التامّة.

أمّا عدم جريان الاستصحاب في ما أُخذ العدم على نحو ليس النّاقصة، أي: {في ما كان الأثر المهمّ مترتّباً على ثبوته} أي: ثبوت العدم {للحادث} أي: العدم القائم بالحادث {بأن يكون الأثر للحادث المتّصف بالعدم في زمان حدوث الآخر} كما لو علم بحدوث الكريّة والملاقاة للنجاسة بالنسبة إلى ماء قليل ولم يعلم هل أنّ الملاقاة كانت أسبق حتّى يكون الماء نجساً أم أنّ الكريّة كانت أسبق حتّى يكون الماء طاهراً، وكان الدليل يقول عدم الكريّة في زمان الملاقاة موجبة للنجاسة، فإنّه لا يصحّ أن نستصحب عدم الكريّة في زمان الملاقاة، إذ المتيقّن إنّما هو عدم الكريّة في السّابق.

أمّا عدم الكريّة في حال الملاقاة فلا حالة سابقة له {لعدم اليقين بحدوثه كذلك في زمان} بل قضيّة الاستصحاب عدم حدوثه كذلك، كما لا يخفى.

فإنّ المتيقّن أنّ الكريّة لم تحدث إلى زمان الملاقاة، وذلك لا ينفع، وإنّما النّافع الملاقاة في زمن عدم الكريّة وذلك لا يقين به.

ص: 181

وكذا في ما كان مترتّباً على نفس عدمه في زمان الآخر واقعاً، وإن كان على يقين منه في آن قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما؛

___________________________________________

{وكذا} ليس بمورد للاستصحاب {في ما كان} الأثر {مترتّباً على نفس عدمه في زمان الآخر واقعاً} بلا تقيّد العدم بالاتصاف.

والحاصل: أنّ الأثر مترتّب على العدم على نحو مفاد ليس التامّة، فإنّه لايجري استصحاب العدم هنا أيضاً {وإن كان على يقين منه} أي: من هذا العدم {في آنٍ قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما}.

ولتوضيح المطلب نفرض الزمان ثلاث ساعات: السّاعة الأُولى نعلم بعدم الملاقاة وعدم الكريّة، والسّاعة الثّانية نعلم بوجود أحدهما دون الآخر، والسّاعة الثّالثة نعلم بوجودهما - لكن لا نعلم هل أنّ الكريّة حدثت في السّاعة الثّانية أم الملاقاة - ففي هذه الصّورة لا يجري استصحاب عدم الكريّة ولا استصحاب عدم الملاقاة في السّاعة الثّانية، لاحتمال انتقاض اليقين في السّاعة الأُولى باليقين في السّاعة الثّانية؛ لأنّه يحتمل الوجود بالنسبة إلى كلّ منهما حيث يعلم بوجود أحدهما.

فمثلاً: لو كان في الواقع أنّ الماء صار كرّاً في السّاعة الثّانية والملاقاة في السّاعة الثّانية فأردنا أن نستصحب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة كان اليقين بعدم الكريّة - في السّاعة الأُولى - غير متصل بالشكّ في الكريّة - في السّاعة الثّالثة - إذ اليقين بالعدم انقطع بواسطة الكريّة المتحقّقة في السّاعة الثّانية واقعاً. والمستصحب وإن لم يكن يعلم ذلك إلّا أنّه يحتمل الانقطاع، وهذا القدر كافٍ في عدم جريان الاستصحاب، إذ دليل الاستصحاب يقول: «لا تنقض اليقين بالشكّ» ونحن نحتمل أنّه من نقض اليقين باليقين لا بالشكّ.

والحاصل: أنّه إنّما يصحّ الاستصحاب لو كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق،

ص: 182

لعدم إحراز اتصال زمان شكّه - وهو زمان حدوث الآخر - بزمان يقينه؛ لاحتمال انفصاله عنه باتصال حدوثه به.

وبالجملة: كان بعد ذاك الآن - قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما - زمانان: أحدهما: زمان حدوثه، والآخر: زمان حدوث الآخروثبوته، الّذي يكون طرفاً للشكّ في أنّه فيه أو قبله، وحيث شكّ في أنّ أيّهما مقدّم وأيّهما مؤخّر، لم يحرز اتصال زمان الشّكّ بزمان اليقين،

___________________________________________

أمّا لو كان يقين سابق واحتمال يقين مضادّ وشكّ لاحق فلا يجري الاستصحاب {لعدم إحراز اتصال زمان شكّه} في الكريّة وهو السّاعة الثّالثة في المثال {وهو زمان حدوث الآخر} أي: الملاقاة في المثال {بزمان يقينه} بعدم الكريّة {لاحتمال انفصاله} أي: انفصال زمان شكّه {عنه} أي: عن زمان يقينه {باتصال حدوثه} أي: حدوث المشكوك فيه - كالكريّة - {به} أي: بزمان اليقين، لاحتماله أنّ الكريّة حدثت في السّاعة الثّانية.

{وبالجملة كان بعد ذاك الآن} أي: بعد السّاعة الأُولى، أي: {قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما} وهو السّاعة الثّانية {زمانان} اسم «كان» {أحدهما زمان حدوثه} أي: حدوث الحادث الأوّل الّذي استصحب عدمه - كالكريّة فرضاً - {و} الزمان {الآخر زمان حدوث الآخر} - كالملاقاة فرضاً - .

{وثبوته} عطف على «حدوث»، فإنّ هذا الزّمان الثّاني هو الزّمان {الّذي يكون طرفاً للشكّ في أنّه} أي: الحادث {فيه أو قبله} إذ كلّ واحد من الحادثين يحتمل كونه في السّاعة الثّالثة، ويحتمل كونه في السّاعة الثّانية {وحيث شكّ في أنّ أيّهما} أي: الحادثين {مقدّم وأيّهما مؤخّر لم يحرز اتّصال زمان الشّكّ} وهو السّاعة الثّالثة {بزمان اليقين} وهو السّاعة الأُولى، لما تقرّر من احتمال كون المشكوك قد وجد في السّاعة الثّانية،فكان نقض يقين عدمه - في السّاعة الأُولى -

ص: 183

ومعه لا مجال للاستصحاب؛ حيث لم يحرز معه كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشّكّ، من نقض اليقين بالشكّ.

لا يقال:

___________________________________________

بوجوده في السّاعة الثّالثة من نقض اليقين باليقين، لاحتمال أن يكون اليقين بالوجود في السّاعة الثّانية، فالساعة الأُولى عدم والسّاعة الثّانية محتمل والسّاعة الثّالثة مشكوك، فلم يتصل الشّكّ باليقين.

{ومعه} أي: مع عدم اتصال زمان الشّكّ بزمان اليقين {لا مجال للاستصحاب حيث لم يحرز معه} أي: مع عدم الاتصال {كون رفع اليد عن اليقين} السّابق في السّاعة الأُولى المتعلّق هذا اليقين {بعدم حدوثه} أي: حدوث الحادث المستصحب {بهذا الشّكّ} متعلّق بقوله: «رفع» {من نقض اليقين بالشكّ} خبر «كون» فلا يشمله دليل الاستصحاب القائل بعدم نقض اليقين بالشكّ.

وقد علّق المصنّف على قوله: «وبالجملة» بقوله: «إن شئت قلت: إنّ عدمه الأزلي المعلوم قبل السّاعتين، وإن كان في السّاعة الأُولى منهما مشكوك، إلّا أنّه - حسب الفرض - ليس موضوعاً للحكم والأثر، وإنّما الموضوع هو عدمه الخاصّ، وهو عدمه في زمان حدوث الآخر، المحتمل كونه السّاعة الأُولى المتصلة بزمان يقينه، أو الثّانية المنفصلة عنه، فلم يحرز اتصال زمان شكّه بزمان يقينه، ولا بدّ منه في صدق «لا تنقض اليقين بالشكّ» فاستصحاب عدمه إلى السّاعة الثّانية، لا يثبت عدمه في زمان حدوث الآخر، إلّا على الأصل المثبت فيما دار الأمر بين التقدّم والتأخّر، فتدبّر»(1)،

انتهى.

{لا يقال}: إنّ المكلّف شاكّ في السّاعة الثّانية والسّاعة الثّالثة في حدوث الكريّة وفي حدوث الملاقاة، فزمان اليقين وهو السّاعة الأُولى متصل بزمان

ص: 184


1- حقائق الأصول 2: 503؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 576.

لا شبهة في اتصال مجموع الزمانين بذلك الآن، وهو بتمامه زمان الشّكّ في حدوثه؛ لاحتمال تأخّره عن الآخر. مثلاً: إذا كان على يقين من عدم حدوث واحد منهما في ساعة، وصار على يقين من حدوث أحدهما - بلا تعيين - في ساعة أُخرى بعدها، وحدوث الآخر في ساعة ثالثة، كان زمان الشّكّ في حدوث كلّ منهما تمام السّاعتين، لا خصوص أحدهما، كما لا يخفى.

فإنّه يقال:

___________________________________________

الشّكّ وهو السّاعتان، فإنّه {لا شبهة في اتصال مجموع الزمانين} الثّانية والثّالثة {بذلك الآن} أي: السّاعة الأُولى {وهو} أي: مجموع الزمانين {بتمامه زمان الشّكّ في حدوثه} أي: حدوث هذا الحادث الّذي يراد استصحاب عدمه إلى السّاعة الثّالثة - كالكريّة - إذ نريد استصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة {لاحتمال تأخّره} - كالكريّة - {عن الآخر} - كالملاقاة - .

{مثلاً: إذا كان على يقين من عدم حدوث واحد منهما في ساعة} وهي السّاعة الأُولى {وصار على يقين من حدوث أحدهما - بلا تعيين -} وإنّه هل الكريّة أم الملاقاة {في ساعة أُخرى} ثانية {بعدها} أي: بعدالسّاعة الأُولى {وحدوث الآخر في ساعة ثالثة كان زمان الشّكّ في حدوث كلّ منهما} من الكريّة والملاقاة {تمام السّاعتين} الثّانية والثّالثة {لا} أنّ زمان الشّكّ {خصوص أحدهما} أي: إحدى السّاعتين - كالثّالثة - حتّى يقال بأنّ السّاعة الثّانية فاصلة بين زمان اليقين - أي: السّاعة الأُولى - وزمان الشّكّ - أي: السّاعة الثّالثة - {كما لا يخفى}.

{فإنّه يقال:} بما توضيحه بلفظ الحقائق: «إنّ الأثر الشّرعي تارة يكون مترتّباً على عدم أحد الحادثين في الزمان التفصيلي، مثل يوم الجمعة ونحوه، وأُخرى يكون مترتّباً على عدم في الزمان الإجمالي، مثل ما نحن فيه - أعني: العدم في زمان حدوث الآخر - فإن كان مترتّباً على النّحو الأوّل أمكن استصحابه في

ص: 185

نعم، ولكنّه إذا كان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان، والمفروض أنّه بلحاظ إضافته إلى الآخر، وأنّه حدث في زمان حدوثه وثبوته أو قبله، ولا شبهة أنّ زمان شكّه بهذا اللحاظ إنّما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه، لا السّاعتين.

فانقدح:

___________________________________________

مجموع الزمانين وترتيب أثره عليه، أمّا إذا كان مترتّباً على النّحو الثّاني فلا يتمّ؛ لأنّ زمان حدوث أحدهما - الّذي هو زمان الشّكّ - لا ينطبق إلّا على أحدهما على البدل ويمتنع انطباقه عليهما معاً، كما عرفت، فلا يكون زمان الشّكّ إلّا أحدهما، ومع احتمال انطباقه على الثّاني دون الأوّل يكون ممّا لم يحرز اتصالهبزمان اليقين بالمستصحب، ويرجع الإشكال»(1)،

انتهى.

فما ذكرتم من أنّ السّاعتين زمان الشّكّ صحيح {نعم، ولكنّه إذا كان بلحاظ إضافته} أي: إضافة هذا الحادث {إلى أجزاء الزمان، والمفروض أنّه} ليس كذلك وإنّما هو {بلحاظ إضافته إلى الآخر} إذ نريد استصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة، ولا نريد استصحاب عدم الكريّة إلى السّاعة الثّالثة {وأنّه} هل {حدث} هذا الحادث الأوّل - كالكريّة - {في زمان حدوثه} أي: حدوث الآخر - كالملاقاة - {وثبوته} بأن صارت الملاقاة ثمّ الكريّة {أو} حدث {قبله} بأن صارت الكريّة ثمّ الملاقاة.

{ولا شبهة أنّ زمان شكّه} أي: شكّ هذا الحادث - كالكريّة - {بهذا اللحاظ} أي: بلحاظ النّسبة إلى الآخر {إنّما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر} أي: ثبوت الملاقاة - مثلاً - {وحدوثه} فالزمان المشكوك فيه إجماليّ {لا السّاعتين}.

{فانقدح} أنّ ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) من أنّ الاستصحاب في مجهولي التاريخ جارٍ لكنّه يسقط بالمعارضة، فاستصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة معارض

ص: 186


1- حقائق الأصول 2: 505.

أنّه لا مورد هاهنا للاستصحاب؛ لاختلال أركانه، لا أنّه مورده، وعدم جريانه إنّما هو بالمعارضة، كي يختصّ بما كان الأثر لعدم كلّ في زمان الآخر، وإلّا كان الاستصحاب في ما له الأثر جارياً.

وأمّا لو علم بتاريخ أحدهما، فلا يخلوأيضاً:

إمّا أن يكون الأثر المهمّ مترتّباً على الوجود الخاصّ، من المقدّم أو المؤخّر

___________________________________________

باستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة(1)،

ف- {إنّه لا مورد هاهنا للاستصحاب لاختلال أركانه} لعدم اتصال الشّكّ باليقين، فليس نقض الحالة السّابقة نقضاً لليقين بالشكّ {لا أنّه} أي: هاهنا {مورده} أي: مورد الاستصحاب {وعدم جريانه إنّما هو بالمعارضة كي يختصّ} عدم الجريان {بما كان الأثر لعدم كلّ في زمان الآخر، وإلّا} يكن كذلك، بل كان الأثر لأحدهما فقط {كان الاستصحاب في ما له الأثر جارياً} دون ما لا أثر له.

والحاصل: أنّه لا مقتضى للاستصحاب، لا أنّ له مقتضياً، ولكن يمنع عنه مانع المعارضة حتّى يقال بأنّه يجري حيث لا معارضة لعدم الأثر لأحد الاستصحابين.

هذا كلّه في مجهولي التاريخ {وأمّا لو علم بتاريخ أحدهما} كما لو علمنا بأنّ الأب مات يوم الجمعة، ولم نعلم بأنّ الابن أسلم يوم الخميس أو يوم السّبت، فهو على أربعة أقسام: لأنّه إمّا مفاد كان التامّة، أو النّاقصة، أو ليس التامّة، أو النّاقصة، كما أنّ مجهولي التاريخ كان على أربعة أقسام.

{فلا يخلو} الأمر {أيضاً} كالمجهولين {إمّا أن يكون الأثر المهمّ} الّذي يراد ترتيبه على الاستصحاب {مترتّباً على الوجود الخاصّ من المقدّم} ككون تقدّم الإسلامموجباً للإرث {أو المؤخّر} ككون تأخّر الإسلام موجباً لإرث سائر الورثة

ص: 187


1- راجع فرائد الأصول 3: 248-249.

أو المقارن، فلا إشكال في استصحاب عدمه، لولا المعارضة باستصحاب العدم في طرف الآخر أو طرفه - كما تقدّم - .

وإمّا أن يكون مترتّباً على ما إذا كان متّصفاً بكذا، فلا مورد للاستصحاب أصلاً، لا في مجهول التاريخ ولا في معلومه،

___________________________________________

{أو المقارن} كما لو كان تقارن الإسلام للموت موجباً لعدم الإرث من هذا، وإرث سائر الورثة مثلاً.

{فلا إشكال في استصحاب عدمه} فيجري استصحاب عدم التقدّم وعدم التأخّر وعدم التقارن، ويترتّب على هذا الاستصحاب انتفاء الأثر المترتّب على التقدّم وأخويه، إذ هذا الوجود الخاصّ - أعني: تقدّم الإسلام على الموت، مثلاً - مسبوق بالعدم، فإذا شكّ فيه كان الأصل عدمه.

لكن لا يخفى أنّ هذا الاستصحاب يجري {لولا المعارضة باستصحاب العدم في طرف الآخر} كأن يقال: استصحاب عدم الإسلام قبل الموت معارض باستصحاب عدم الموت قبل الإسلام، بأن يضاف العدم إلى أمرين، كالإسلام والموت {أو طرفه} أي: ولا يكون تعارض بين هذا الاستصحاب واستصحاب آخر في طرف آخر كهذا المستصحب أيضاً، كأن يقال استصحاب عدم الإسلام قبل الموت معارض باستصحاب عدم الإسلام بعد الموت، ففيهما أُضيف العدم إلى الإسلام لكن أحدهما: إسلام قبل الموت، والآخر: إسلام بعد الموت {كما تقدّم} مفصّلاً.

{وإمّا أن يكون} الأثر {مترتّباً على ما إذا كان متّصفاً بكذا} بمعنى كون الموضوع أُخذ على نحو كان النّاقصة،فالأثر مرتب على الوجود المتّصف بالتقدّم أو التأخّر أو التقارن {فلا مورد للاستصحاب أصلاً لا في مجهول التاريخ ولا في معلومه} إذ ليس للوجود الرّبطي حالة سابقة إلّا بنحو السّالبة بانتفاء الموضوع.

فلا يصحّ أن نستصحب عدم الإسلام قبل الموت، ولا أن نستصحب عدم

ص: 188

كما لا يخفى؛ لعدم اليقين بالاتّصاف به سابقاً منهما.

وإمّا أن يكون مترتّباً على عدمه - الّذي هو مفاد ليس التامّة - في زمان الآخر، فاستصحاب العدم في مجهول التاريخ منهما كان جارياً؛ لاتّصال زمان شكّه بزمان يقينه، دون معلومه؛ لانتفاء الشّكّ فيه في زمان،

___________________________________________

الموت قبل الإسلام {كما لا يخفى، لعدم اليقين بالاتّصاف به} أي: بكذا {سابقاً منهما} أي: من مجهول التاريخ ومعلومه، لوضوح أنّ التقدّم والتأخّر والتقارن أوصاف تنتزع من الوجود الخارجي، فإذا وجد الشّيء يكون إمّا واجداً لمنشأ انتزاع هذه العناوين أو ليس بواجدٍ لها، لا أنّه ليس بواجدٍ له من الأزل، ثمّ يشكّ في اتّصافه بها حتّى يجري استصحاب عدم الاتّصاف.

{وإمّا أن يكون} الأثر {مترتّباً على عدمه - الّذي هو مفاد ليس التامّة - في زمان الآخر} أي: إنّ الموضوع للأثر عدم أحد الحادثين المقيّد بكونه في زمان الحادث الآخر، كما لو كان موضوع الأثر عدم الإسلام إلى حين القسمة، أو عدم القسمة إلى حين الإسلام - على نحو مفاد ليس التامّة - {فاستصحاب العدم في مجهول التاريخ منهما كانجارياً} كما لو علمنا بأنّ القسمة وقعت ظهر يوم الجمعة ولكن لم نعلم أنّ الإسلام حدث قبل الظهر أو بعد الظهر، فإنّه نقول: الأصل عدم الإسلام إلى ما بعد الظهر، ويترتّب على هذا الاستصحاب أثره، وهو عدم إرث هذا المسلم الجديد.

وإنّما قلنا بجريان الاستصحاب هنا {ل-} تماميّة أركانه الّتي هي اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق، و{اتّصال زمان شكّه بزمان يقينه دون معلومه} أي: لا يجري استصحاب العدم في معلوم التاريخ؛ لأنّ هذا الاستصحاب:

إمّا أن يكون بالنسبة إلى أجزاء الزمان فهو منقطع بالعلم {لانتفاء الشّكّ فيه في زمان} فلا يصحّ أن يقال: الأصل عدم القسمة؛ لأنّا نعلم بوجودها ظهر يوم

ص: 189

وإنّما الشّكّ فيه بإضافة زمانه إلى الآخر، وقد عرفت جريانه فيهما تارةً، وعدم جريانه كذلك أُخرى.

فانقدح: أنّه لا فرق بينهما، كان الحادثان مجهولي التاريخ، أو كانا مختلفين، ولا بين مجهوله ومعلومه في المختلفين، في ما اعتبر في الموضوع خصوصيّة ناشئة من إضافة أحدهما إلى الآخر بحسب الزمان، من التقدّم أو أحد ضدّيه، وشكّ فيها، كما لا يخفى.

___________________________________________

الجمعة. نعم، لو شكّ في أنّها هل حدثت ظهراً أم قبله كان الأصل عدمها إلى الظهر.

وإمّا يكون بالنسبة إلى الحادث الآخر، ولا يجري هنا؛ لأنّه لا اتصال للشكّ باليقين، وإلى هذا أشار بقوله: {وإنّما الشّكّ فيه} أي: في هذاالمعلوم التاريخ {بإضافة زمانه إلى} زمان الحادث {الآخر، وقد عرفت جريانه} أي: الاستصحاب {فيهما} أي: في الحادثين {تارة} في ما كان الأثر مترتّباً على الوجود الخاصّ - تقدّماً أو تأخّراً أو تقارناً - على نحو مفاد كان التامّة {وعدم جريانه} أي: الاستصحاب {كذلك} فيهما أي: في الحادثين تارة {أُخرى} في ما كان الأثر مترتّباً على الوجود المتّصف بكونه متقدّماً أو متأخّراً أو مقارناً على نحو مفاد كان النّاقصة.

{فانقدح} من أوّل البحث إلى هنا أنّ الأقسام ثلاثة: مجهولا التاريخ، ومعلوما التاريخ، ومختلفا التاريخ. ولا كلام في الثّاني، و{أنّه لا فرق بينهما} أي: بين الحادثين سواء {كان الحادثان مجهولي التاريخ أو كانا مختلفين} أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً {ولا بين مجهوله ومعلومه في المختلفين} ولا فرق {في ما اعتبر في الموضوع خصوصيّة ناشئة من إضافة أحدهما} أي: أحد الحادثين {إلى الآخر بحسب الزمان من التقدّم أو أحد ضدّيه} أي: التأخّر والتقارن {وشكّ فيها، كما لا يخفى} وقوله: «من» بيان لقوله: «خصوصيّة».

ص: 190

كما انقدح: أنّه لا مورد للاستصحاب أيضاً في ما تعاقب حالتان متضادّتان - كالطهارة والنّجاسة - وشكّ في ثبوتهما وانتفائهما؛

___________________________________________

والحاصل: أنّه إذا اعتبر في الموضوع خصوصيّة - كالتقدّم والتقارن والتأخّر - جرى أصل عدمه. واحترز بهذا عمّا لو أُخذ بنحو النّاقصة، بأن كان المعتبرالاتصاف.

وهذا إشارة إلى ردّ الشّيخ(رحمة الله) حيث فرّق بين معلوم التاريخ فلا يجري أبداً، وبين مجهوله فيجري كذلك.

والحاصل: أنّه لا تفاوت من جهة العلم والجهل، ولا من ناحية التقدّم والتأخّر، ولا من ناحية العدمي والوجودي، وإنّما التفاوت من حيث كون المراد استصحابه مفاد التامّة أو النّاقصة، ففي كان التامّة وليس التامّة يجرى الاستصحاب مطلقاً، وفي النّاقصة منهما لا يجرى مطلقاً.

{كما انقدح} أنّه لو تعاقبت حالتان متضادّتان على الشّخص وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما، كما لو كان في السّاعة الأُولى متيقّناً بعدم الطّهارة والحدث وفي السّاعة الثّانية بأحدهما وفي السّاعة الثّالثة بالآخر وشكّ في السّاعة الرّابعة فهل في هذه السّاعة يجرى استصحاب الطّهارة واستصحاب الحدث ويسقطان بالمعارضة أو لا يجرى أيّ من الاستصحابين لعدم تماميّة أركان الاستصحاب فيهما؟ فيه خلاف، فالمشهور الجريان والسّقوط بالمعارضة، والمصنّف على عدم الجريان لعدم اتصال زمان الشّكّ بزمان اليقين.

إذ انقدح ممّا تقدّم {أنّه لا مورد للاستصحاب أيضاً} كما لا مورد له في السّابق {في ما تعاقب حالتان متضادّتان كالطهارة والنّجاسة} المراد بهما الحدث أو الخبث {وشكّ} في السّاعة الرّابعة - بعد اليقين بوجودهما - {في ثبوتهما وانتفائهما} أي: الثبوت والانتفاء بالنسبة إلى كلّ واحد منهما لا ثبوتهما معاً

ص: 191

للشكّ في المقدّم والمؤخّر منهما؛ وذلك لعدم إحراز الحالة السّابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشّكّ في ثبوتهما،وتردّدها بين الحالتين، وأنّه ليس من تعارض الاستصحابين، فافهم وتأمّل في المقام، فإنّه دقيق.

الثّاني عشر: أنّه قد عرفت(1):

أنّ مورد الاستصحاب لا بدّ أن يكون حكماً شرعيّاً،

___________________________________________

وانتفائهما كذلك لوضوح عدم إمكان الجمع بينهما {للشكّ في المقدّم والمؤخّر منهما} وأنّه هل أحدث في السّاعة الثّانية وتطهّر في الثّالثة أو بالعكس.

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم مورد للاستصحاب هاهنا {لعدم إحراز الحالة السّابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشّكّ} لاحتمال انفصال الشّكّ عن اليقين بزمان اليقين بانتقاضه، فإنّه لو كان في الواقع تطهّر في الثّانية وأحدث في الثّالثة كان شكّه في الطّهارة في الرّابعة غير متصل بزمان يقينه وهو السّاعة الثّانية، لانتقاض اليقين بالطهارة بالحدث الّذي كان زمانه السّاعة الثّالثة، فالمتيقّن السّاعة الثّانية والمشكوك السّاعة الرّابعة.

وبالعكس في ما لو أراد استصحاب الحدث لاحتمال كونه في الثّانية وأنّه انفصل عن زمان شكّه - وهو الرّابعة - باليقين بالطهارة في السّاعة الثّالثة {في ثبوتهما} متعلّق ب- «الشّكّ» أي: الشّكّ في ثبوت الطّهارة والحدث {وتردّدها} أي: تردّد الحالة السّابقة {بين الحالتين} أي: حالة الطّهارة والحدث.

{وأنّه} أي: انقدح أنّ تعاقب الحالتين {ليس من تعارض الاستصحابين} كما يظهر من المشهور {فافهم وتأمّل في المقام، فإنّه دقيق} وبالتأمّل حقيق.

[التنبيه الثّاني عشر]

التنبيه {الثّاني عشر} في بيان عدم صحّة استصحاب الكتابي بنبوّة الأنبياء السّالفين {أنّه قد عرفت أنّ مورد الاستصحاب لا بدّ أن يكون حكماً شرعيّاً}

ص: 192


1- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 171.

أو موضوعاً لحكم كذلك، فلا إشكال في ما كان المستصحب من الأحكام الفرعيّة، أو الموضوعات الصّرفة الخارجيّة، أو اللغويّة، إذا كانت ذات أحكام شرعيّة.

وأمّا الأُمور الاعتقاديّة الّتي كان المهمّ فيها شرعاً هو الانقياد والتسليم والاعتقاد - بمعنى عقد القلب عليها - من الأعمال القلبيّة الاختياريّة، فكذا لا إشكال في الاستصحاب فيها حكماً،

___________________________________________

كاستصحاب الوجوب {أو موضوعاً لحكم كذلك} أي: لحكم شرعيّ كاستصحاب حياة زيد الموجب لنفقة عياله، وإنّما اشترط أن يكون حكماً أو موضوعاً لحكم؛ لأنّ ما ليس كذلك ليس له في مقام التشريع مجال.

وعلى هذا {فلا إشكال في ما كان المستصحب من الأحكام الفرعيّة} وجوباً وحرمة وإباحة واستحباباً وكراهة، وسائر الأُمور الوضعيّة القابلة للوضع والرّفع - كما مرّ تفصيله - {أو الموضوعات} الشّرعيّة كالصلاة والصّيام والحجّ أو {الصّرفة} كالماء والتراب {الخارجيّة أو اللغويّة} مثلاً كان الأمر في اللغة بمعنى الوجوب ثمّ شككنا في أنّه هل تغيّر عن ذلك المعنى أم لا {إذا كانت ذات أحكام شرعيّة} إذ اللّازم في الاستصحاب أن يكون ذا أثر، كما مرّ.{وأمّا الأُمور الاعتقاديّة} فهي على قسمين: الأوّل: ما كان اللّازم فيها صرف الاعتقاد وعقد القلب، والثّاني: ما كان اللّازم فيها المعرفة واليقين.

أمّا القسم الأوّل - {الّتي كان المهمّ فيها شرعاً هو الانقياد والتسليم والاعتقاد

- بمعنى عقد القلب عليها - من الأعمال القلبيّة الاختياريّة} حتّى يمكن الأمر بها ولو مع عدم المعرفة واليقين {فكذا لا إشكال في الاستصحاب فيها حكماً} بأن كان سابقاً واجب الاعتقاد ثمّ يشكّ في أنّه هل سقط عن وجوب الاعتقاد أم لا، فإنّه يستصحب وجوب الاعتقاد، وكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام بأن لم يكن سابقاً واجب الاعتقاد ثمّ شكّ في أنّه هل وجب أم لا.

ص: 193

وكذا موضوعاً، في ما كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق؛ لصحّة التنزيل وعموم الدليل.

وكونُهُ أصلاً عمليّاً إنّما هو بمعنى أنّه وظيفة الشّاكّ تعبّداً، قبالاً للأمارات الحاكية عن الواقعيّات، فيعمّ العمل بالجوانح كالجوارح.

وأمّا الّتي كان المهمّ فيها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها، فلا مجال له موضوعاً،

___________________________________________

{وكذا موضوعاً} كما لو شكّ في أنّ الشّيء الّذي يجب الاعتقاد به هل هو باقٍ أم زائل؟ كما لو فرض أنّه كان من الواجب الاعتقاد بالإمام الحيّ بقسم خاصّ غير الاعتقاد بالإمام مطلقاً، ثمّ شكّ في أنّ الإمام هل مات أم لا؟ فإنّه يستصحب حياته، فإنّه يجري الاستصحاب في الأُمور الاعتقاديّة مطلقاً{في ما كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق} وإنّما قلنا بجريان الاستصحاب في الأُمور الاعتقاديّة {لصحّة التنزيل} للمشكوك منزلة المتيقّن {وعموم الدليل} فإنّ قوله: «لا تنقض» شامل للأُمور الاعتقاديّة كما هو شامل لسائر الأُمور.

{و} إن قلت: إنّ الاستصحاب من الأصول العمليّة فلا يجري في الأُمور الاعتقاديّة، إذ الاعتقاد مقابل للعمل.

قلت: {كونه أصلاً عمليّاً إنّما هو بمعنى أنّه وظيفة الشّاكّ تعبّداً، قبالاً} أي: مقابلاً {للأمارات الحاكية عن الواقعيّات} أي: إنّه أصل لا أمارة {فيعمّ العمل بالجوانح} والقلوب - كالاعتقاد - {كالجوارح} وليس المراد بكونه أصلاً عمليّاً أنّه للعمل الجارحي فقط حتّى لا يعمّ العمل القلبي.

هذا كلّه في القسم الأوّل من الأُمور الاعتقاديّة {وأمّا} القسم الثّاني من الأُمور الاعتقاديّة {الّتي كان المهمّ فيها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها فلا مجال له} أي: للاستصحاب {موضوعاً} فإن شكّ في أنّه هل بقي موضوعه أم لا لم يستصحب فلا يصلح الاستصحاب لإثبات الموضوعات الّتي يجب معرفتها

ص: 194

ويجري حكماً. فلو كان متيقّناً بوجوب تحصيل القطع بشيء - كتفاصيل القيامة - في زمان، وشكّ في بقاء وجوبه، يستصحب.

وأمّا لو شكّ في حياة إمام زمان - مثلاً - فلا يستصحب، لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه، بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكانه.

___________________________________________

{ويجري حكماً} فإذا علم ببقاء الموضوع وشكّ في أنّه هل خرج عن وجوب المعرفة أم لا استصحب الحكم، فيبنى على وجوب المعرفة.

وإن شئت قلت: إنّ الاعتقاد بالإمام - مثلاً - أُخذ في موضوعه العلم بالإمام بحيث كان العلم جزء الموضوع، ولذا لو شكّ في الإمام ذهب الموضوع ولم يكن معنى لاستصحاب وجود الإمام ليترتّب عليه وجوب الاعتقاد به، إذ الاستصحاب لا يوجب العلم الّذي هو جزء الموضوع، وهذا بخلاف ما لو علم بالموضوع وشكّ في ذهاب الحكم - أي: وجوب الاعتقاد به - فإنّه حيث كان الموضوع باقياً كان مجال للاستصحاب إذا طرأ ما يشكّ معه في بقاء الحكم.

{فلو كان} المكلّف {متيقّناً} سابقاً {بوجوب تحصيل القطع بشيء كتفاصيل القيامة} من الميزان والصّراط والحساب {في زمان} سابق {وشكّ في بقاء وجوبه} لطروّ عارض {يستصحب} لأنّه من الشّكّ في الحكم الّذي عرفت أنّه لا مانع من الاستصحاب فيه.

{وأمّا لو شكّ في حياة إمام زمان مثلاً} ممّا دلّ الدليل على أنّه يجب الاعتقاد بمن علم حياته من الأئمّة {فلا يستصحب} حياة ذلك الإمام {لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه} على ذلك المستصحب {بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكانه} أي: إمكان تحصيل اليقين، كما تقدّم من أنّ وجوب الاعتقاد إنّما هو منصب على موضوع العلم بالإمام، فإذا ذهب العلم وشكّ لم يكن موضوع في البين ليستصحب حكمه، إذ العلم جزء الموضوع.

ص: 195

ولا يكاد يُجدي في مثل وجوب المعرفة عقلاً أو شرعاً، إلّا إذا كان حجّة من بابإفادته الظنّ، وكان المورد ممّا يكتفى به أيضاً.

فالاعتقادات - كسائر الموضوعات - لا بدّ في جريانه فيها من أن يكون في المورد أثر شرعي، يتمكّن من موافقته، مع بقاء الشّكّ فيه، كان ذاك متعلّقاً بعمل الجوارح أو الجوانح.

___________________________________________

{ولا يكاد يجدي} الاستصحاب {في مثل وجوب المعرفة عقلاً أو شرعاً} فكلّما دلّ العقل على وجوب معرفته - كالباري سبحانه - أو دلّ النّقل على وجوب معرفته كالأئمّة^، إذا زالت المعرفة لشبهة لم يصحّ استصحابه بأن يستصحب الإمام مثلاً، إذ الاستصحاب لا يفيد العلم والمعرفة {إلّا} إذا أفاد الاستصحاب الظنّ وقلنا بأنّه يكفي الظنّ باللّه وبالأئمّة، ف- {إذا كان} الاستصحاب {حجّة من باب إفادته الظنّ وكان المورد} الّذي يراد استصحابه {ممّا يكتفى به} أي: بالظنّ {أيضاً} كما تجب معرفته صحّ الاستصحاب.

لكن في كلتا المقدّمتين نظر، إذ الاستصحاب حجّة من باب الأخبار، والأصول ممّا يلزم فيها المعرفة فلا يكتفى فيها بالظنّ.

{ف-} تحصّل ممّا سبق أنّ {الاعتقادات كسائر الموضوعات} الّتي هي مصبّ الأحكام {لا بدّ في جريانه} أي: الاستصحاب {فيها} أي: في الاعتقادات {من أن يكون في المورد} أي: مورد الاستصحاب {أثر شرعيّ يتمكّن من موافقته} أي: موافقة ذلك الأثر الشّرعي {مع بقاء الشّكّ فيه} أي: في ذلك الموضوع، كما لو وجب الاعتقاد، فإنّه يمكن الاعتقاد مع بقاء الشّكّ في موضوعه، إذ الاعتقاد عبارة عن البناء وعقد القلب، وهو ممكن معالشّكّ، كما لا يخفى، سواء {كان ذاك} الأثر المترتّب على الاستصحاب {متعلّقاً بعمل الجوارح أو الجوانح}.

فتحصّل أنّ الاستصحاب في الأصول مثل الاستصحاب في الفروع له شرطان:

ص: 196

وقد انقدح بذلك: أنّه لا مجال له

___________________________________________

الأوّل: أن يكون المستصحب حكماً أو موضوعاً ذا حكم.

الثّاني: أن لا يكون العلم جزءاً للموضوع.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّه قد وقع بحث بين بعض المسلمين وبعض أهل الكتاب، فأراد الكتابي إثبات نبوّة نبيّه بالاستصحاب، لكن هذا الاستصحاب غير تامّ، إذ لا يخلو الأمر إمّا أن يراد استصحاب النّبوّة نفسها أو استصحاب أحكامها، فإن أُريد استصحاب الأحكام فلا بأس بذلك كما تقدّم في جواز استصحاب الشّرائع السّابقة.

وإن أُريد استصحاب النّبوّة قلنا إنّ النّبوّة إمّا هي كمال نفسي غير قابل للزوال، وإمّا كمال نفسيّ قابل للزوال كالعدالة، وإمّا منصب إلهيّ كالولاية والوكالة:

فإن كانت كمالاً غير قابل للزوال لم يكن معنى لاستصحابها؛ لأنّها إمّا بلا يقين سابق وإمّا بلا شكّ لاحق.

وإن كانت كمالاً قابلاً للزوال فهي أمر واقعيّ كالعدالة، فلا معنى لاستصحابها؛ لأنّ المطلوب المعرفة بها وتلك لا تثبت بالاستصحاب، وإن كانت منصباً كالولاية فهي قابلة للاستصحاب فيترتّب عليها آثار النّبوّة.

لكن هذا الاستصحاب مستلزم للدور، إذ الاستصحاب متوقّف على نبوّة النّبيّ(صلی الله علیه و آله) حتّى يحكم بصحّته ونبوّة النّبيّ متوقّفة على الاستصحاب لفرض أنّها تثبت بها، إذن فاستصحاب النّبوّة بمعنى بقاء الأحكام لا ينفع الكتابي واستصحابها بمعنى البناء على بقائها في نفسها غير تامّ، فلايمكن إثبات النّبوّة بالاستصحاب.

إذا عرفت ذلك نرجع إلى شرح العبارة فنقول: {وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من التفصيل في جريان الاستصحاب في الأصول الاعتقاديّة {أنّه لا مجال له} أي:

ص: 197

في نفس النّبوّة، إذا كانت ناشئة من كمال النّفس بمثابة يوحى إليها، وكانت لازمة لبعض مراتب كمالها، إمّا لعدم الشّكّ فيها بعد اتصاف النّفس بها، أو لعدم كونها مجعولة، بل من الصّفات الخارجيّة التكوينيّة، ولو فُرض الشّكّ في بقائها باحتمال انحطاط النّفس عن تلك المرتبة، وعدم بقائها بتلك المثابة - كما هو الشّأن في سائر الصّفات والملكات الحسنة، الحاصلة بالرياضات والمجاهدات - ، وعدم أثر شرعيّ مهمّ لها يترتّب عليها باستصحابها.

___________________________________________

للاستصحاب {في نفس النّبوّة إذا كانت ناشئة من كمال النّفس بمثابة يوحى إليها} فإذا وصلت النّفس إلى تلك المرتبة من الرّوحانيّة أوحى اللّه إليها، وهذا لا ينافي حصر الأنبياء وعدم لياقة غيرهم حتّى هذه المرتبة من الكمال {وكانت} النّبوّة {لازمة لبعض مراتب كمالها} أي: كمال النّفس.

وإنّما قلنا بعدم جريان الاستصحاب لو كانت النّبوّه بمعنى كمال النّفس {إمّا لعدم الشّكّ فيها} أي: في النّبوّة {بعد اتصاف النّفس بها} حيث قلنا بأنّها غير قابلة للزوال {أو لعدم كونها مجعولة، بل من الصّفات الخارجيّةالتكوينيّة} كالعدالة {ولو فرض الشّكّ في بقائها} أي: بقاء النّبوّة {ب-} سبب {احتمال انحطاط النّفس عن تلك المرتبة وعدم بقائها} أي: بقاء النّفس {بتلك المثابة} من الكمال والصّفة الرّاقية {كما هو الشّأن} أي: إمكان انحطاط النّفس {في سائر الصّفات والملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات والمجاهدات، و} من جاهد في اللّه هداه - سبحانه - إلى سبله.

وإنّما قلنا بعدم إجراء الاستصحاب لو كانت النّبوّة من الملكات القابلة للزوال ل- {عدم أثر شرعيّ مهمّ لها} أي: للنبوّة بهذا المعنى {يترتّب} ذلك الأثر {عليها} أي: على النّبوّة {باستصحابها} لما عرفت من أنّ الموضوع للآثار هي معرفة النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، والمعرفة لا تحصل بالاستصحاب، كما تقدّم.

ص: 198

نعم، لو كانت النّبوّة من المناصب المجعولة، وكانت الولاية - وإن كان لا بدّ في إعطائها من أهليّة وخصوصيّة يستحقّ بها لها - لكانت مورداً للاستصحاب بنفسها، فيترتّب عليها آثارها - ولو كانت عقليّة - بعد استصحابها، لكنّه يحتاج إلى دليل كان هناك غير منوط بالنبوّة، وإلّا لدار، كما لا يخفى. وأمّا استصحابها، بمعنى استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها، فلا إشكال فيها، كما مرّ.

___________________________________________

{نعم، لو كانت النّبوّة من المناصب المجعولة وكانت الولاية} والوكالة {- وإن كان لا بدّ في إعطائها} لشخص {من أهليّة وخصوصيّةيستحقّ} ذلك الشّخص {بها} أي: بتلك الأهليّة {لها -} أي: للنبوّة {لكانت مورداً للاستصحاب} جواب «لو كانت» {بنفسها} كما تستصحب سائر المناصب إذا شكّ في بقائها وزوالها {فيترتّب عليها} أي: على النّبوّة {آثارها ولو كانت} تلك الآثار {عقليّة} كوجوب العلم بالأحكام، فإنّ العقل يحكم بوجوب العمل بأحكام النّبيّ كما يحكم بوجوب العمل بسائر الحجج والأدلّة {بعد استصحابها} أي: استصحاب النّبوّة.

{لكنّه} أي: استصحاب النّبوّة بهذا المعنى {يحتاج إلى دليل كان هناك} لحجيّة الاستصحاب، كما لو قلنا بأنّ حجيّة الاستصحاب بدليل عقليّ مستقلّ حتّى يقال: النّبوّة ثابتة بالاستصحاب والاستصحاب حجّة بدليل العقل، فدليل الاستصحاب حجّة {غير منوط بالنبوّة وإلّا} بأن كان منوطاً بالنبوّة {لدار} إذ يكون إثبات النّبوّة بالاستصحاب وإثبات حجيّة الاستصحاب بالنبوّة، وهو دور صريح {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

هذا تمام الكلام في استصحاب النّبوّة بمعانيها الثلاث {وأمّا استصحابها} أي: استصحاب النّبوّة {بمعنى استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها} كاستصحاب بعض أحكام شريعة موسى(علیه السلام) إلى هذا الحال {فلا إشكال فيها، كما مرّ} في التنبيه السّادس.

ص: 199

ثمّ لا يخفى: أنّ الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم، إلّا إذا اعترف بأنّه على يقين فشكّ، في ما صحّ هناك التعبّد والتنزيل ودلّ عليه الدليل، كما لا يصحّ أن يقنع به إلّا مع اليقين والشّكّ،والدليل على التنزيل.

ومنه انقدح: أنّه لا موقع لتشبّث الكتابي باستصحاب نبوّة موسى أصلاً:

لا إلزاماً للمسلم؛ لعدم الشّكّ في بقائها قائمة بنفسه المقدّسة،

___________________________________________

{ثمّ لا يخفى} أنّ المفروض من الاستصحاب إمّا إلزام الخصم وإمّا إقناع الإنسان نفسه، ولا يصحّ الإلزام ولا الإقناع إلّا مع ثلاثة شروط:

[1] تماميّة أركان الاستصحاب، بأن كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق.

[2] وكان الاستصحاب حجّة.

[3] وكان للاستصحاب أثر شرعي.

ف- {إنّ الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم إلّا إذا اعترف} الخصم {بأنّه على يقين فشكّ} وهو الشّرط الأوّل {في ما صحّ هناك التعبّد والتنزيل} وهو الشّرط الثّالث {ودلّ عليه} أي: على الاستصحاب {دليل} وهو الشّرط الثّاني، إذ لو لم يكن الاستصحاب حجّة أو لم يكن يقين وشكّ أو لم يكن للاستصحاب أثر شرعيّ لم يجر الاستصحاب بديهة {كما لا يصحّ أن يقنع} الإنسان {به} أي: بالاستصحاب {إلّا مع} الشّروط الثلاثة المذكورة من {اليقين والشّك} والأثر المستصحب {والدليل على التنزيل} كما هو واضح.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من لزوم توفّر الاستصحاب لهذه الشّروط الثلاثة {انقدح أنّه لا موقع لتشبّث الكتابي} يهوديّاً كان أم نصرانيّاً أم غيرهما {باستصحاب نبوّة موسى} أو عيسى أو غيرهما - عليهم الصّلاة والسّلام - {أصلاً} أي: {لا إلزاماًللمسلم، لعدم الشّكّ في بقائها} أي: بقاء النّبوّة {قائمة بنفسه المقدّسة} بل

ص: 200

واليقين بنسخ شريعته، وإلّا لم يكن بمسلم، مع أنّه لا يكاد يلزم به ما لم يعترف بأنّه على يقين وشكّ.

ولا إقناعاً مع الشّكّ؛ للزوم معرفة النّبيّ بالنّظر إلى حالاته ومعجزاته عقلاً، وعدم الدليل على التعبّد بشريعته، لا عقلاً ولا شرعاً، - والاتّكال على قيامه

___________________________________________

كلّ مسلم يعلم بأنّ موسى نبيّ إلى الآن {لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ}(1) فلا يقين وشكّ حتّى يكون مجالاً للاستصحاب لانتفاء الشّرط الأوّل {واليقين بنسخ شريعته وإلّا لم يكن بمسلم} فهو ليس بشاكّ لا في النّبوّة ولا في الشّريعة، إذ الأوّل باق والثّاني منسوخ.

هذا كلّه بالنسبة إلى الواقع وأمّا بالنسبة إلى الظاهر فللمسلم أن يقول: أنا لست بمتيقّن ولا شاكّ - جدلاً - حتّى لا يتمكّن الكتابي من إلزامه.

وإلى هذا أشار بقوله: {مع أنّه لا يكاد يلزم} المسلم {به} أي: بالاستصحاب {ما لم يعترف بأنّه على يقين وشكّ} هذا لو أراد الكتابي إلزام المسلم.

{ولا} يمكن تشبّث الكتابي بالاستصحاب لنبوّة نبيّه {إقناعاً} لنفسه حتّى {مع الشّكّ} في أنّه هل بقي نبيّاً أم لا {للزوم معرفة النّبيّ بالنّظر إلى حالاته ومعجزاته عقلاً} فإنّ العقل يلزم النّظر وتحصيل المعرفة {وعدم الدليل على التعبّد بشريعته لا عقلاً ولا شرعاً} إذ لا دليل فيشريعة أهل الكتاب على حجيّة الاستصحاب، ولا دليل عقليّ لها حتّى يمكن بالاستصحاب إثبات شيء، فالشرط الثّاني لإجراء الاستصحاب منتف.

{و} إن قلت: إنّه يتّكل في حجيّة الاستصحاب على شريعتنا، فقد دلّ الدليل الشّرعي على حجيّة الاستصحاب.

قلت: {الاتّكال على قيامه} أي: قيام الدليل على حجيّة الاستصحاب

ص: 201


1- سورة البقرة، الآية: 285.

في شريعتنا لا يكاد يجديه إلّا على نحو محال - ، ووجوب العمل بالاحتياط عقلاً - في حال عدم المعرفة - بمراعاة الشّريعتين، ما لم يلزم منه الاختلال؛ للعلم بثبوت إحداهما على الإجمال، إلّا إذا علم بلزوم البناء على الشّريعة السّابقة ما لم يعلم الحال.

الثّالث عشر:

___________________________________________

{في شريعتنا} لقوله(علیه السلام): «لا تنقض» {لا يكاد يجديه} أي: يجدي الكتابي {إلّا على نحو محال} لأنّ اعتماد الكتابي على الاستصحاب الثابت في شريعتنا ملازم لتصديقه بشريعتنا، وتصديقه بشريعتنا ملازم لتصديقه برفع شريعته، وتصديقه برفع شريعته ملازم لعدم صحّة استصحاب شريعته، فيلزم من استصحاب شريعته عدم استصحاب شريعته.

{و} إن قلت: إنّكم ذكرتم أنّه لا مجال لاستصحاب الكتابي إقناعاً لنفسه؛ لأنّ المعرفة واجبة فلا يمكن الاكتفاء بالاستصحاب، لكن هذا إنّما يتمّ إذا تمكّن الكتابي من تحصيل المعرفة، أمّا إذا لم يتمكّن فله مجال لأن يستصحب شريعته.

قلت: إنّه إذا لم يتمكّن يجب عليه الاحتياط باتّباع أحكام الشّريعتين لاالاستصحاب.

وإلى هذا أشار بقوله: و{وجوب العمل} عطف على قوله: «للزوم معرفه النّبيّ» أي: يجب العمل {بالاحتياط - عقلاً -} أي: وجوباً عقليّاً للأمن من العقوبة {في حال عدم} إمكان {المعرفة} والاحتياط إنّما يكون {بمراعاة الشّريعتين ما لم يلزم منه} أي: من الاحتياط {الاختلال} بالنظام، وإنّما يجب الاحتياط {للعلم بثبوت إحداهما} أي: إحدى الشّريعتين {على الإجمال إلّا إذا علم بلزوم البناء على الشّريعة السّابقة ما لم يعلم الحال} وإنّه هل أتت شريعة أُخرى أم لا.

[التنبيه الثّالث عشر]

التنبيه {الثّالث عشر} في كون الزمان قد يكون مفرداً وقد يكون ظرفاً، وأنّه لو

ص: 202

أنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في مقام مع دلالة مثل العام،

___________________________________________

تعارض استصحاب مع عموم كان المرجع أيّهما، فإنّه إذا ورد عامّ مثل: (أكرم العلماء) وخاصّ مثل: (لا تكرم زيداً يوم الجمعة) فإنّه لا شكّ في وجوب إكرام زيد قبل يوم الجمعة، كما لا شبهة في حرمة إكرامه يوم الجمعة، لكن يوم السّبت هل يجب إكرامه تمسّكاً بالعام أم يحرم تمسّكاً باستصحاب المخصّص؟ فيه تفصيل، وهو أنّ الزمان المأخوذ في كلّ من العام والمخصّص قد يؤخذ مفرداً، فإكرام العلماء في كلّ يوم واجب مستقلّ، حتّى أنّ للعام - مثلاً - أفراداً عرضيّة هي أفراد العلماء وأفراداً طوليّة هي الأيّام، فإكرام كلّ عالم في كلّيوم واجب مستقلّ، وكذا يلاحظ الزمان بالنسبة إلى المخصّص، فيكون الزمان مقيّداً له، حتّى أنّ قوله: (لا تكرم زيداً يوم الجمعة) يراد به أنّ حرمة الإكرام مقيّدة بيوم الجمعة.

وقد يؤخذ الزمان ظرفاً حتّى أنّ قوله: (أكرم العلماء) يكون إكرام كلّ عالم في مجموع الأزمان فرداً واحداً، ويكون يوم الجمعة في (لا تكرم زيداً يوم الجمعة) ظرفاً بحتاً لا مقيّداً.

إذا تحقّق هذا نقول: الأقسام أربعة: لأنّ الزمان في العام إمّا ظرف وإمّا مفرد، وعلى كلّ تقدير فالزمان في الخاصّ إمّا ظرف وإمّا مفرد، فإن كان الزمان فيهما ظرفاً كان المرجع يوم السّبت استصحاب الخاصّ، وإن كان الزمان فيهما مفرداً كان المرجع عموم العام، وإن كان الزمان ظرفاً للعام مفرداً للخاصّ كان المرجع سائر الأدلّة كالبراءة في المثال، وإن كان الزمان مفرداً للعامّ ظرفاً للخاصّ كان المرجع العام.

ثمّ {إنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في مقام مع دلالة مثل العام} فلا مجال لاستصحاب عدم الرّكعة الزائدة في قبال قوله(علیه السلام): «إذا شككت فابن على

ص: 203

لكنّه ربّما يقع الإشكال - والكلام في ما إذا خصّص في زمان - في: أنّ المورد بعد هذا الزمان مورد الاستصحاب، أو التمسّك بالعام.

والتحقيق أن يقال:

إنّ مفاد العام تارة: يكون - بملاحظة الزمان - ثبوت حكمه لموضوعه على نحو الدوام والاستمرار. وأُخرى: على نحو جعل كلّ يوم من الأيّام مثلاً فرداً لموضوع ذاك العام.

وكذلك مفاد مخصّصة: تارة: يكون على نحوأخذ الزمان ظرف استمرار حكمه ودوامه.

___________________________________________

الأكثر»(1)؛

لأنّ العام دليل والاستصحاب أصل، والأصل أصيل حيث لا دليل، إذ قد أُخذ في موضوع الاستصحاب الجهل بالواقع، والعام يعيّن الواقع، فلا جهل به حتّى يكون موضوعاً للاستصحاب.

وهذا ممّا لا إشكال فيه {لكنّه ربّما يقع الإشكال والكلام في ما إذا خصّص} العام {في زمان} كالمثال المتقدّم {في أنّ المورد بعد هذا الزمان} كيوم السّبت هل هو {مورد الاستصحاب} حتّى يحرم إكرام زيد {أو التمسّك بالعام} حتّى يجب؟

{والتّحقيق أن يقال:} إنّ الأقسام أربعة: ف- {إنّ مفاد العام تارةً يكون - بملاحظة الزمان} أي: إذا لوحظ الزمان بالنسبة إلى الزمان وهل أنّ الزمان قيد له أو ظرف - {ثبوت حكمه لموضوعه على نحو الدّوام والاستمرار} حتّى يكون الزمان ظرفاً ويكون إكرام كلّ عالم واجباً واحداً مستمرّاً {وأُخرى على نحو جعل كلّ يوم من الأيّام مثلاً فرداً لموضوع ذاك العام} حتّى يكون الزمان قيداً ويكون إكرام كلّ عالم في كلّ يوم فرداً مستقلّاً من الواجب، فللعام أفراد طوليّة وأفراد عرضيّة.

{وكذلك مفاد مخصّصه} يكون على نوعين ف- {تارة يكون على نحو أخذ الزمان ظرف استمرار حكمه ودوامه} أي: دوام الحكم، بأن تكون حرمة إكرام زيد غير

ص: 204


1- الفصول المهمة في أصول الأئمة 2: 115؛ وفي تهذيب الأحكام 2: 349: «إذا سهوت فابن على الأكثر»؛ وفي وسائل الشيعة 8: 212، «متى ما شككت فخذ بالأكثر».

وأُخرى: على نحو يكون مُفَرِّداً ومأخوذاًفي موضوعه.

فإن كان مفاد كلّ من العامّ والخاصّ على النّحو الأوّل. فلا محيص عن استصحاب حكم الخاصّ في غير مورد دلالته؛ لعدم دلالة للعامّ على حكمه، لعدم دخوله في حدة في موضوعه، وانقطاع الاستمرار بالخاصّ الدالّ على ثبوت الحكم له في الزمان السّابق، من دون دلالته على ثبوته في الزمان اللّاحق، فلا مجال إلّا لاستصحابه.

نعم،

___________________________________________

مقيّدة بيوم الجمعة وإنّما يوم الجمعة ظرف للتحريم {وأُخرى على نحو يكون مفرّداً ومأخوذاً في موضوعه} بحيث يكون يوم الجمعة قيداً للتحريم.

إذا عرفت الأقسام الأربعة الحاصلة من ضرب صورتي العام في صورتي الخاص نقول: {فإن كان مفاد كلّ من العامّ والخاصّ على النّحو الأوّل} بأن أُخذ الزمان فيها ظرفاً - وهو القسم الأوّل - {فلا محيص عن استصحاب حكم الخاصّ في غير مورد دلالته} فمورد دلالة حكم الخاصّ - وهو يوم الجمعة - يحكم بحرمة الإكرام للنصّ، وغير مورده - وهو يوم السّبت - يحكم بالحرمة للاستصحاب، وذلك {لعدم دلالة للعام على حكمه} أي: حكم هذا المورد وهو يوم السّبت {لعدم دخوله} أي: دخول هذا المورد {على حدة في موضوعه} أي: موضوع العام، إذ ليس الزمان مفرداً للعام حتّى يدلّ على وجوب إكرام كلّ يوم {وانقطاع الاستمرار} الّذي كان للعام {بالخاصّ الدالّ على ثبوت الحكم له} أي: للخاص {في الزمان السّابق}وهو يوم الجمعة {من دون دلالته} أي: دلالة الخاصّ {على ثبوته} أي: ثبوت حكم الخاصّ {في الزمان اللّاحق} فإنّ المفروض أنّ الزمان أُخذ ظرفاً للخاصّ أيضاً {فلا مجال إلّا لاستصحابه} أي: استصحاب الخاص.

{نعم} يستثنى من هذا الحكم - وهو استصحاب الخاص - مورد واحد كان المرجع فيه هو العام، وهو في ما إذا كان الخاص وارداً في أوّل زمان العام، كما لو

ص: 205

لو كان الخاصّ غير قاطع لحكمه، - كما إذا كان مخصّصاً له من الأوّل - لما ضرّ به في غير مورد دلالته، فيكون أوّل زمان استمرار حكمه بعد زمان دلالته، فيصحّ التمسّك ب-{أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(1) ولو خصّص بخيار المجلس ونحوه،

___________________________________________

قال: {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ} ممّا دلّ على اللزوم مطلقاً، ثمّ قال: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا»(2)

ممّا دلّ على خيار المجلس الكائن في أوّل زمان العقد، فإنّه بعد المجلس يكون المرجع عموم العام لا استصحاب المخصّص، فيحكم بلزوم المعاملة لا أنّ له اختيار الفسخ.

والسّبب في كون المرجع في هذه الصّورة العام لا الاستصحاب أنّ العام يدلّ على أمرين:

الأوّل: أنّ حكماً واحداً - هو اللزوم - مستمرّ.

الثّاني: أنّ مبدأ ثبوت هذا الحكم أوّل وجود الموضوع - وهو العقد - ،والخاصّ إذا كان مخصّصاً في أوّل الأزمنة - كخيار المجلس - إنّما ينافي دلالة العام على الثّاني دون دلالته على الأوّل فيجب الأخذ به، فيفيد أنّ الاستمرار يبتدئ من بعد المجلس.

ف- {لو كان الخاصّ غير قاطع لحكمه} أي: لحكم العام بأن لم يكن يرفع العام من وسط الزمان {كما إذا كان مخصّصاً له من الأوّل لما ضرّ} الخاص {به} أي: بالعام {في غير مورد دلالته} أي: دلالة الخاصّ {فيكون أوّل زمان استمرار حكمه} أي: حكم العام {بعد زمان دلالته} أي: دلالة الخاص {فيصحّ التمسّك ب-{أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ} ولو خصّص بخيار المجلس} فيحكم بأنّ المجلس إذا انقضى وجب البيع {ونحوه} أي: نحو خيار المجلس من الخيارات الّتي تكون في أوّل

ص: 206


1- سورة المائدة، الآية: 1.
2- الكافي 5: 170.

ولا يصحّ التمسّك به في ما إذا خصّص بخيار لا في أوّله، فافهم.

وإن كان مفادهما على النّحو الثّاني، فلا بدّ من التمسّك بالعام بلا كلام؛ لكون موضوع الحكم - بلحاظ هذا الزمان - من أفراده، فله الدلالة على حكمه، والمفروض عدم دلالة الخاصّ على خلافه.

___________________________________________

المعاملة كخيار الغبن ونحوه.

{ولا يصحّ التمسّك به} أي: بالعام {في ما إذا خصّص بخيار لا في أوّله} كخيار الثلاثة بالنسبة إلى من اشترى شيئاً ولم يسلّم الثمن ولم يأخذ المبيع، فإنّ العقد لازم إلى ثلاثة أيّام وبعده يكونالبائع بالخيار.

فإنّه في مثل هذا لا يكون المرجع بعد انقضاء زمان الخيار عموم العام؛ لأنّ العام قد انقطع، فالمرجع استصحاب الخاصّ {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى ما يظهر من {أَوۡفُواْ} من كون العقد علّة للزوم، فإذا استثنى فيه وقت - كخيار الثلاثة - يبقى المرجع العام بعد تمام وقت الخاصّ لوجود العلّة، فلا فرق بين أقسام الخيار سواء أوجب جواز البيع من الأوّل أو من الوسط.

{وإن كان مفادهما} أي: العام والمخصّص {على النّحو الثّاني} وهو أن يكون الزمان مفرداً فيهما وهو القسم الثّاني {فلا بدّ من التمسّك بالعام} في يوم السّبت {بلا كلام، لكون موضوع الحكم} أي: حكم العام {بلحاظ هذا الزمان} وهو يوم السّبت {من أفراده} أي: من أفراد العام، إذ العام دلّ على وجوب إكرام زيد يوم الخميس والجمعة والسّبت والأحد وهكذا، فخروج الجمعة بالمخصّص لا يضرّ بالسبت {فله} أي: للعام {الدلالة على حكمه} أي: حكم يوم السّبت {والمفروض عدم دلالة الخاصّ على خلافه} فإنّ الخاصّ لم يحكم إلّا على يوم الجمعة فقط.

ص: 207

وإن كان مفاد العام على النّحو الأوّل، والخاص على النّحو الثّاني، فلا مورد للاستصحاب؛ فإنّه وإن لم يكن هناك دلالة أصلاً، إلّا أنّ انسحاب الحكم الخاصّ إلى غير مورد دلالته، من إسراء حكم موضوع إلى آخر، لا استصحاب حكم الموضوع. ولا مجال - أيضاً - للتمسّك بالعامّ؛ لما مرّ آنفاً، فلا بدّ من الرّجوع إلى سائر الأصول.وإن كان مفادهما على العكس كان المرجع هو العام؛ للاقتصار في تخصيصه

___________________________________________

{وإن كان مفاد العام على النّحو الأوّل} بأن كان الزمان فيه ظرفاً {والخاصّ على النّحو الثّاني} مفرداً، بأن كان الزمان قيداً فيه وهو القسم الثّالث، فهنا يجب الرّجوع في يوم السّبت إلى دليل ثالث غير الخاصّ والعالم.

{فلا مورد للاستصحاب} أي: استصحاب حكم الخاص {فإنّه وإن لم يكن هناك} بالنسبة إلى يوم السّبت {دلالة أصلاً} من العام {إلّا أنّ انسحاب الحكم الخاص} من يوم الجمعة {إلى غير مورد دلالته} أي: دلالة الخاصّ - فإنّ يوم السّبت ليس مورداً لدلالة الخاصّ - {من إسراء حكم موضوع إلى آخر} إذ موضوع الخاصّ كان هو يوم الجمعة {لا} من {استصحاب حكم الموضوع} إذ لو كان الزمان قيداً لا يبقى الموضوع إذا ذهب القيد، كما لا يخفى، ففي يوم السّبت لا مجال لاستصحاب الخاصّ.

{ولا مجال - أيضاً - للتمسّك بالعام} بأن نقول بوجوب الإكرام يوم الجمعة {لما مرّ آنفاً} من أنّ العام لم يجعل هذا الوقت فرداً لنفسه حتّى يشمله {فلا بدّ من الرّجوع} في يوم السّبت - مثلاً - {إلى سائر الأصول} كأصالة البراءة عن الوجوب وعن التحريم.

{وإن كان مفادهما} أي: العام والخاصّ {على العكس} بأن كان الزمان في العام مفرداً وفي الخاصّ ظرفاً وهو القسم الرّابع {كان المرجع} يوم السّبت{هو العام} فيجب إكرام زيد فيه {للاقتصار في تخصيصه} أي: تخصيص العام

ص: 208

بمقدار دلالة الخاص. ولكنّه لولا دلالته لكان الاستصحاب مرجعاً؛ لما عرفت من أنّ الحكم في طرف الخاص قد أُخِذ على نحو صحّ استصحابه.

فتأمّل تعرف أنّ إطلاق كلام شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه(1)

- في المقام نفياً وإثباتاً، في غير محلّه.

الرّابع عشر: الظاهر: أنّ الشّكّ - في أخبار الباب وكلمات الأصحاب - هو خلاف اليقين، فمع الظنّ بالخلاف - فضلاً عن الظنّ بالوفاق - يجرى الاستصحاب.

___________________________________________

{بمقدار دلالة الخاص} وهو يوم الجمعة.

{ولكنّه} لا يخفى أنّه {لولا دلالته} أي: دلالة العام على المفرديّة {لكان الاستصحاب} للخاصّ {مرجعاً} كما تقدّم في حال كون الزمان ظرفاً فيهما {لما عرفت من أنّ الحكم في طرف الخاصّ قد أُخذ على نحو صحّ استصحابه} لكون الزمان ظرفاً فيه {فتأمّ-ل تعرف أنّ إطلاق ك-لام شيخنا العلّام-ة} المرتضى {- أعلى اللّه مقامه - في المقام نفياً وإثباتاً في غير محلّه} فإنّه(رحمة الله) أناط نفي الاستصحاب بكون الزمان في طرف الخاصّ قيداً، وأناط إثبات الاستصحاب بكون الزمان في طرف الخاصّ ظرفاً، مع أنّك علمت أنّ المناط ملاحظة العام والخاص لا الخاص فقط، واللّه العالم.

[التنبيه الرّابع عشر]

التنبيه {الرّابع عشر} في كون المراد من الشّك الّذي لا ينقض اليقين به الأعمّ من الشّكّ والظنّ، فلو كان سابقاً متطهّراً ثمّ ظنّ بأنّه أحدث لم يعتن بهذا الظنّ، بل يستصحب الطّهارة.

{الظاهر أنّ الشّكّ في أخبار الباب وكلمات الأصحاب هو خلاف اليقين} ظنّاً أو شكّاً أو وهماً {فمع الظنّ بالخلاف} أي: بخلاف الحالة السّابقة {فضلاً عن الظنّ بالوفاق} كان ظنّ بقاء الطّهارة بأن وهم الخلاف {يجري الاستصحاب} ولا يرفع

ص: 209


1- فرائد الأصول 3: 274-275.

ويدلّ عليه - مضافاً إلى أنّه كذلك لغة، كما في الصّحاح(1)

وتعارف استعماله فيه في الأخبار في غير باب - قوله(علیه السلام)في أخبار الباب: «ولكن تنقضه بيقين آخر»(2)، حيث إنّ ظاهره أنّه في بيان تحديد ما ينقض به اليقين، وأنّه ليس إلّا اليقين.

وقوله(علیه السلام) أيضاً: «لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام»(3)، بعد السّؤال منه: عمّا إذا حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم، حيث دلّ بإطلاقه - مع ترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الأمارة

___________________________________________

اليد عن اليقين السّابق.

{ويدلّ عليه} أي: على كون المراد من الشّكّ الأعمّ من الظنّ {مضافاً إلى أنّه} أي: الشكّ {كذلك} بمعنى الأعمّ من الظنّ {لغةً كما في الصّحاح} والقاموس(4)

ومجمع البحرين(5)

وغيرها {و} مضافاً إلى {تعارف استعماله} أي: الشّكّ {فيه} في الأعمّ {في الأخبار في غير باب} واحد، بل أبواب متعدّدة، كباب الشّكّ في عدد الرّكعات وغيره - {قوله(علیه السلام)} فاعل «يدلّ» {في أخبار الباب} أي: باب الاستصحاب {«ولكن تنقضه بيقين آخر» حيث إنّ ظاهره أنّه} لا تنقض الحالة السّابقة بالشكّ والظنّ والوهم؛ لأنّه {في بيان تحديد ما ينقض به اليقين وأنّه ليس} النّاقض للحالة السّابقة {إلّا اليقين}.

{وقوله(علیه السلام) أيضاً: «لا حتّى يستيقن أنّه قد نام» بعد السّؤال منه: عمّا إذا حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ حيث دلّ بإطلاقه - مع ترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الأمارة}

ص: 210


1- الصحاح 4: 1594.
2- تهذيب الأحكام 1: 8، وفيه: «ولكن ينقضه بيقين آخر»، وفي وسائل الشيعة 1: 245: «إنما تنقضه بيقين آخر».
3- تهذيب الأحكام 1: 8؛ وسائل الشيعة 1: 245.
4- القاموس المحيط 3: 421.
5- مجمع البحرين 5: 276.

الظنّ، وما إذا لم تفد؛ بداهة أنّها لو لم تكن مفيدة له دائماً لكانت مفيدة له أحياناً - على عموم النّفي لصورة الإفادة.

وقوله(علیه السلام) - بعده - : «ولا تنقض اليقين بالشكّ»(1)، أنّ الحكم في المغيّىمطلقاً هو: عدم نقض اليقين بالشكّ، كما لا يخفى.

وقد استدلّ عليه أيضاً بوجهين آخرين:

الأوّل: الإجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف، على تقدير اعتباره من باب الإخبار.

___________________________________________

وهي أن يحرّك في جنب الغافي شيء وهو لا يعلم {الظنّ} بالنوم {وما إذا لم تفد؟ بداهة أنّها} أي: هذه الأمارة {لو لم تكن مفيدة له دائماً لكانت مفيدة له} أي: للظنّ بالنّوم، وهو الحدث {أحياناً - على عموم} متعلّق بقوله: «حيث دلّ بإطلاقه» أي: إنّ إطلاق قوله: «حتّى يستيقن» دلّ على عموم {النّفي} أي: قوله: «لا» {لصورة الإفادة} أي: إفادة الأمارة الظنّ بالنوم.

{و} دلّ {قوله(علیه السلام) - بعده - : «ولا تنقض اليقين بالشكّ»} على {أنّ الحكم في المغيّى} وهو قوله(علیه السلام): «حتّى يستيقن» {مطلقاً هو عدم نقض اليقين بالشكّ، كما لا يخفى} لأنّه تقرير للحكم السّابق في المغيّى.

{وقد استدلّ عليه} أي: على أنّ المراد بالشكّ الأعمّ من الظنّ، والمستدلّ هو الشّيخ(رحمة الله) {أيضاً بوجهين آخرين:}

{الأوّل: الإجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف} أي: بخلاف الحالة السّابقة، لكن الإجماع على الاعتبار إنّما هو {على تقدير اعتباره} أي: اعتبار الاستصحاب {من باب الإخبار} أمّا لو اعتبرناه من باب إفادتهالظنّ لم يكن حجّة إذا كان الظنّ النّوعي على خلافه.

ص: 211


1- تهذيب الأحكام 1: 8؛ وسائل الشيعة 1: 245، مع اختلاف يسير.

وفيه: أنّه لا وجه لدعواه، ولو سلّم اتفاق الأصحاب على الاعتبار؛ لاحتمال أن يكون ذلك من جهة ظهور دلالة الأخبار عليه.

الثّاني: «أنّ الظنّ غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل، فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشّارع، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعاً على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده. وإن كان ممّا شكّ في اعتباره، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السّابق بسبّبه

___________________________________________

{وفيه أنّه لا وجه لدعواه} أي: دعوى الإجماع {ولو سلّم اتفاق الأصحاب على الاعتبار} للاستصحاب ولو مع الظنّ بالخلاف {لاحتمال أن يكون ذلك} الاتفاق من الأصحاب {من جهة ظهور دلالة الأخبار عليه} وقد تقرّر في مبحث الإجماع أنّ الإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجّة.

{الثّاني}: الظنّ الّذي لم يعتبره الشّارع إذا كان على خلاف الحالة السّابقة، فلا يخلو الأمر: إمّا أن نعلم أنّه ليس بمعتبر فلا إشكال في أنّه غير صالح لنقض الاستصحاب، وإمّا أن نشكّ في أنّه معتبر أم لا، فإذا رفعنا اليد عن الاستصحاب بسبب هذا الظنّ المشكوك فيه كان نقضاً لليقين السّابق بالشك، ف- {«إنّ الظنّ غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل} كالظنّ القياسي إذا كان على خلاف الاستصحاب {فمعناه} أي: معنى عدم اعتباره {أنّ وجوده كعدمه عند الشّارع، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعاً على تقدير عدمه} كاستصحاب الحالة السّابقة المرتّبعلى تقدير عدم هذا الظنّ القياسي {فهو المترتّب على تقدير وجوده} لأنّ الشّارع أسقطه عن الاعتبار.

{وإن كان} هذا الظنّ المخالف للاستصحاب {ممّا شكّ في اعتباره} كالظنّ الحاصل من الشّهرة إذا شككنا في كونه حجّة أم لا {فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السّابق بسببه} أي: بسبب هذا الظنّ المخالف المشكوك اعتباره

ص: 212

إلى نقض اليقين بالشكّ، فتأمّل جيّداً».

وفيه: أنّ قضيّة عدم اعتباره؛ - لإلغائه أو لعدم الدليل على اعتباره - لا يكاد يكون إلّا عدم إثبات مظنونه به تعبّداً ليترتّب عليه آثاره شرعاً، لا ترتيب آثار الشّكّ مع عدمه،

___________________________________________

{إلى نقض اليقين بالشكّ} «إلى» متعلّق «بمرجع»، إذ أنّك كنت متيقّناً سابقاً وتشكّ فعلاً في أنّ هذا الظنّ المخالف حجّة أم لا، فإذا رفعت اليد عن يقينك كان بسبب هذا الشّكّ {فتأمّل جيّداً»} هذا تمام الوجه الثّاني للشيخ(رحمة الله).

{وفيه} أنّ عدم اعتبار الظنّ قد يكون بمعنى ترتيب آثار الشّكّ عليه، وقد يكون بمعنى عدم ترتيب آثار الظنّ.

والظاهر الأوّل، فمعنى عدم حجيّة الظنّ: لا ترتّب أثر الظنّ، لا أنّ معناه: رتّب أثر الشّكّ، فإذا كان أثر الاستصحاب إنّما يجري إذا شكّ في الأمر لم يكن جارياً إذا لم يكن هناك شكّ، فلو ظنّ بالخلاف لم يجر الاستصحاب لعدم الشّكّ ولم يرتّب أثر الظنّ؛ لأنّه ليس بحجّة، وإنّما اللّازم الرّجوع إلى سائر الأصول العمليّة.

ف- {إنّ قضيّة} أي: مقتضى {عدم اعتباره} أي: عدم اعتبارالظنّ {لإلغائه} أي: لكون الشّارع ألغاه كالظنّ القياسي {أو لعدم الدليل على اعتباره} كالظنّ الحاصل من الشّهرة - مثلاً - {لا يكاد يكون} مقتضى عدم الاعتبار {إلّا عدم إثبات مظنونه}.

فإذا ظنّ بالحدث - مثلاً - لا يرتّب أثر الحدث {به} أي: بسبب هذا الظنّ {تعبّداً} قيد للمنفي، أي: لا يرتّب أثر الظنّ ترتيباً تعبّديّاً {ليترتّب عليه} أي: على هذا الظنّ {آثاره شرعاً} إذ معنى عدم حجيّة شيء عدم ترتيب أثره عليه {لا} أنّ معنى عدم حجيّة الظنّ {ترتيب آثار الشّكّ مع عدمه} أي: مع عدم الشّكّ، إذ للشكّ آثار وللظنّ آثار فليس معنى عدم الثّاني ترتيب آثار الشّكّ.

ص: 213

بل لا بدّ حينئذٍ في تعيين أنّ الوظيفة أيّ أصلٍ من الأصول العمليّة من الدليل، فلو فرض عدم دلالة الأخبار معه على اعتبار الاستصحاب، فلا بدّ من الانتهاء إلى سائر الأصول بلا شبهة ولا ارتياب. ولعلّه أُشير إليه بالأمر بالتأمّل(1)،

فتأمّل جيّداً.

تتمّة

لا يذهب عليك: أنّه لا بدّ في الاستصحاب من: بقاء الموضوع؛ وعدم أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه.

___________________________________________

{بل لا بدّ حينئذٍ} أي: حين ظنّ بخلاف الحالة السّابقة {في تعيين أنّ الوظيفة} لهذا الظانّ بخلاف الحالة السّابقة {أَيُّ أصلٍ من الأصول العمليّة من الدليل} متعلّق بقوله:«لا بدّ»، إذ الاستصحاب لا يجري لعدم الشّكّ، وآثار الظنّ لا ترتب لعدم حجيّة الظنّ، فلا بدّ من التماس دليل ثالث.

{فلو فرض عدم دلالة الأخبار معه} أي: مع الظنّ بالخلاف {على اعتبار الاستصحاب فلا بدّ من الانتهاء إلى سائر الأصول} العمليّة {بلا شبهة ولا ارتياب}.

{ولعلّه} أي: هذا الإشكال {أُشير إليه} في كلام الشّيخ {بالأمر بالتأمّل، فتأمّل جيّداً}.

فتحصّل أنّه إن دلّ دليل الاستصحاب على أنّ الظنّ بالخلاف كالشكّ فلا بأس من القول به، وإلّا كان المرجع في ما ظنّ بالخلاف - الأصول العمليّة - ولا ينفع دليل الشّيخ في إلحاقه بالشّكّ.

[تتمّة للاستصحاب]

اشارة

{تتمّة} للاستصحاب {لا يذهب عليك أنّه لا بدّ في الاستصحاب من بقاء الموضوع} في حال الشّكّ {وعدم أمارة معتبرة هناك} على الحكم {ولو على وفاقه} أي: وفاق الاستصحاب، فإذا ذهب الموضوع السّابق لم يجر الاستصحاب،

ص: 214


1- في كلام الشيخ الأعظم، فرائد الأصول 3: 286.

فهاهنا مقامان:

المقام الأوّل: أنّه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع، بمعنى اتحاد القضيّة المشكوكة مع القضيّة المتيقّنة موضوعاً، كاتحادهما حكماً؛ ضرورة أنّه بدونه لا يكون الشّكّ في البقاء، بل في الحدوث، ولا رفع اليد عن اليقين في محلّ الشّكّ

___________________________________________

وإذا كان الموضوع السّابق ولكن كانت أمارة على وفاق الحكم الّذي يراد استصحابه لم يجر الاستصحاب أيضاً {فهاهنا مقامان}: مقام بقاء الموضوع، ومقام عدم أمارة في باب الاستصحاب على خلافه أو وفاقه.

[المقام الأوّل اعتبار بقاء الموضوع]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، تتمة للاستصحاب

{المقام الأوّل} في أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع السّابق، فلو شكّ في أنّ الماء هل سقط عن الكرّيّة أم لا - بسبب أخذ بعضه - كان شرط جريان الاستصحاب أن يكون الماء المراد استصحاب كريّته هو ذاك المعلوم كريّته، ف- {إنّه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضيّة المشكوكة} نحو (هل هذا الماء كرّ؟) {مع القضيّة المتيقّنة} وهي (هذا الماء كُرٌّ) {موضوعاً} فإنّ موضوع القضيّتين (هذا الماء) {كاتحادهما} أي: اتحاد القضيّتين {حكماً} نحو (كرّ) في المثال، منتهى الأمر أنّ في القضيّة المتيقّنة الكرّيّة مقطوعة، وفي القضيّة المشكوكة الكريّة مشكوكة.

وإنّما قلنا بلزوم بقاء الموضوع ل- {ضرورة أنّه بدونه} أي: بدون بقاء الموضوع {لا يكون الشّكّ في البقاء، بل في الحدوث} فلو علمنا سابقاً بأنّ الماء في الإناء الأصفر كرّ، وشككنا فعلاً في أنّ الماء في الإناء الأبيض كرّ أم لا، لم يكن شكّاً في البقاء بالنسبة إلى الأصفر، بل شكّاً في حدوث الكريّة بالنسبة إلى الإناء الأبيض {ولا} يكون {رفع اليد عن اليقين في محلّ الشّكّ} أي: لو رفعنا اليد عن اليقين بكون الأبيض كرّاً وشككنا فيه لم يكن رفع اليد عن اليقين من

ص: 215

نقض اليقين بالشكّ. فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان.والاستدلال عليه ب- «استحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر؛ لتقوّمه بالموضوع وتشخّصه به»(1)،

غريبٌ؛ بداهة أنّ استحالته حقيقةً

___________________________________________

{نقض اليقين بالشكّ} إذ لم يكن هناك يقين سابق حتّى نكون قد نقضناه بالشكّ {فاعتبار البقاء} للموضوع السّابق {بهذا المعنى} الّذي ذكرناه {لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان} كما لا يخفى.

{والاستدلال عليه} أي: على لزوم بقاء الموضوع {ب- «استحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقوّمه} أي: العرض {بالموضوع وتشخّصه} أي: العرض {به»} أي: بالموضوع.

وهذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من أنّ العَرَض هو الّذي يقوم بغيره، فانتقاله عنه محال، إذ في حال الانتقال لا يخلو إمّا أن يكون قائماً بالمنتقل عنه أو بالمنتقل إليه أو بهما، فالأوّل يسبّب عدم الانتقال، والثّاني خلف، إذ المفروض أنّه في حال الانتقال لا بعد الانتقال، والثّالث محال إذ الشّيء الواحد لا يمكن قيامه بشيئين.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الحكم عَرَضٌ على الموضوع، فلو أردنا استصحاب الحكم لموضوع آخر كان ذلك سبباً لانتقال العَرَض من موضوع إلى موضوع آخر الّذي عرفت استحالته.

لكن الاستدلال لبقاء الموضوع في باب استصحاب بهذا الدليل الفلسفي {غريب} وإن صدر من الشّيخ المرتضى(رحمة الله)، إذ لو كان المراد من البقاء هو البقاء الحقيقي لزم ما ذكر - على تقدير تماميّة المقدّمات - أمّا لو أُريد الإبقاءالتعبّدي الّذي هو عبارة عن ترتيب الآثار فقط فلا استحالة فيه مع الشّكّ في الموضوع {بداهة أنّ استحالته} أي: استحالة انتقال العرض {حقيقة} كما ذكره الحكماء

ص: 216


1- فرائد الأصول 3: 290.

غيرُ مستلزم لاستحالته تعبّداً، والالتزام بآثاره شرعاً.

وأمّا بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجاً، فلا يعتبر قطعاً في جريانه؛ لتحقّق أركانه بدونه. نعم، ربّما يكون ممّا لا بدّ منه في ترتيب بعض الآثار، ففي استصحاب عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته لجوازه تقليده، وإن كان محتاجاً إليه في جواز الاقتداء به، أو وجوب إكرامه، أو الإنفاق عليه.

وإنّما الإشكال كلّه

___________________________________________

{غير مستلزم لاستحالته تعبّداً، و} الانتقال تعبّداً يراد منه {الالتزام بآثاره شرعاً} كما لو كان هناك ماء كثير ثمّ أخذ نصفه ممّا شكّ معه في بقاء الموضوع، فإنّه لا يستحيل أن يعبّدنا الشّارع ببقاء آثار الكريّة بالنسبة إلى هذا الماء.

ثمّ إن قلنا بوجوب اتحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة موضوعاً وحكماً، والمراد ببقاء الموضوع في ظرف نفسه من الخارج أو الذهن أو التقرّر في نفس الأمر، فإنّ البقاء صادق بمجرّد ذلك.

{وأمّا} بقاء الموضوع {بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجاً فلا يعتبر قطعاً في جريانه} أي: جريان الاستصحاب {لتحقّق أركانه} أي: أركان الاستصحاب {بدونه} أي: بدون البقاء الخارجي.

{نعم، ربّما يكون} بقاء الوجود الخارجي {ممّا لا بدّمنه في ترتيب بعض الآثار} مما أخذ في موضوعها الوجود الخارجي {ففي استصحاب عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته} إذا كان الاستصحاب {لجواز تقليده} فلو شككنا في أنّ زيداً هل سقط عن العدالة أم لا، جاز الاستصحاب، وإن كنّا لم نعلم أنّه بقي حيّاً أم لا، إذ جواز التقليد ليس متوقّفاً على الحياة {وإن كان محتاجاً إليه} أي: إلى إحراز الحياة {في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الإنفاق عليه} لأنّ هذه الأحكام تحتاج إلى الوجود الخارجي.

هذا كلّه ممّا لا إشكال فيه {وإنّما الإشكال كلّه} في أنّ الموضوع الّذي يجب

ص: 217

في: هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف، أو بحسب دليل الحكم، أو بنظر العقل؟

فلو كان مناط الاتحاد هو نظر العقل، فلا مجال للاستصحاب في الأحكام؛ لقيام احتمال تغيّر الموضوع في كلّ مقام شكّ في الحكم، بزوال بعض خصوصيّات موضوعه؛ لاحتمال دخله فيه، ويختصّ بالموضوعات؛

___________________________________________

بقاؤه هل هو الموضوع العقلي أو الدليلي - أي: ما أُخذ في لسان الدليل - أو العرفي.

فمثلاً: لو قال المولى: (الماء المتغيّر نجس) فتغيّر الماء ثمّ زال تغيّره هل يجوز استصحاب النّجاسة أم لا؟ لو قلنا بأنّ الموضوع هو العقلي أو الدليلي لم يصحّ الاستصحاب، إذ الموضوع الدقّي قد ذهب، وكذا الموضوع الدليلي، فإنّ الدليل قال: (الماء المتغيّر) وليس الباقي متغيّراً، وهذا بخلاف ما لو أخذنا الموضوع عرفيّاً، فإنّه باقٍ، إذ العرف يرى أنّ الماء هو الموضوع للنجاسة وأنّالتغيّر من أحواله لا من مقوّماته.

فنقول: قد وقع الكلام {في هذا الاتحاد} بين القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة موضوعاً {هل هو بنظر العرف أو بحسب دليل الحكم أو بنظر العقل} والدقّة {فلو كان مناط الاتحاد هو نظر العقل فلا مجال للاستصحاب في الأحكام} إطلاقاً {لقيام احتمال تغيّر الموضوع في كلّ مقام شكّ في الحكم} وكان الشّكّ {ب-} سبب {زوال بعض خصوصيّات موضوعه} وإنّما يكون الشّكّ {لاحتمال دخله} أي: ذلك البعض الزائل {فيه} أي: في الموضوع، إذ كلّ شكّ في الحكم ناشٍ عن تغيّر بعض خصوصيّات الموضوع، ولو كان تلك الخصوصيّة الزمان؛ لأنّ للزمان أيضاً دخلاً في الموضوع، ولذا لا يكون التناقض مع اختلاف الزمان. {ويختصّ} الاستصحاب بناءً على كون المناط في الموضوع نظر العقل {بالموضوعات} كاستصحاب حياة زيد ووجود الدار وأشباههما.

ص: 218

بداهة أنّه إذا شكّ في حياة زيد شكّ في نفس ما كان على يقين منه حقيقة.

بخلاف ما لو كان بنظر العرف، أو بحسب لسان الدليل؛ ضرورة أنّ انتفاء بعض الخصوصيّات وإن كان موجباً للشكّ في بقاء الحكم، - لاحتمال دخله في موضوعه - ، إلّا أنّه ربّما لا يكون - بنظر العرف ولا في لسان الدليل - من مقوّماته:

كما أنّه ربّما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعاً، مثلاً إذا ورد (العنب إذا غلى يحرم) كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفاً هو خصوص العنب،

___________________________________________

{بداهة أنّه إذا شكّ في حياة زيد} مثلاً {شكّ في نفس ما كان على يقين منه حقيقة} بلا تغيّر خصوصيّة أصلاً، ولا يأتي هاهنا ما ذكرناه سابقاً من أنّ الزمان أيضاً من الخصوصيّات المغيّرة، إذ موضوع الموضوع هو الماهيّة المتقرّرة والزمان لا دخل له فيها.

هذا كلّه بناءً على أنّ الموضوع يجب أن يكون بنظر العقل {بخلاف ما لو كان بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل} فإنّ الموضوع فيهما باقٍ غالباً وإن لم يحكم العقل بالبقاء {ضرورة أنّ انتفاء بعض الخصوصيّات وإن كان موجباً للشكّ في بقاء الحكم لاحتمال دخله} أي: دخل ذلك البعض المنتفي {في موضوعه} أي: في موضوع الحكم - كالحياة في جواز التقليد - فإنّا نحتمل دخله في موضوع التقليد {إلّا أنّه ربّما لا يكون بنظر العرف ولا في لسان الدليل من مقوّماته} أي: من مقوّمات الموضوع {كما أنّه ربّما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعاً} فإنّه وإن أُخذ في الدليل موضوع خاصّ لكن العرف يرى الأعمّ من ذلك موضوعاً، فإذا كان معيار بقاء الموضوع نظر العرف جاز الاستصحاب، وإن كان المعيار دلالة الدليل لم يجز لانتفاء الموضوع الدليلي.

{مثلاً: إذا ورد (العنب إذا غلى يحرم) كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفاً هو خصوص العنب} أي: خصوص الرّطب لا الأعمّ من الرّطب والجاف حتّى يشمل

ص: 219

ولكن العرف - بحسب ما يرتكز في أذهانهم، ويتخيّلونه من المناسبات بينالحكم وموضوعه - ويجعلون الموضوع للحرمة ما يعمّ الزبيب، ويرون العنبيّة والزبيبيّة من حالاته المتبادلة، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بما حكم به العنبُ، كان عندهم من ارتفاع الحكم من موضوعه، ولو كان محكوماً به كان من بقائه.

ولا ضير في أن يكون الدليل بحسب فهمهم، على خلاف ما ارتكز في أذهانهم، بسبب ما تخيّلوه من الجهات والمناسبات،

___________________________________________

الزبيب {ولكن العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم} من كون جاف غالب الأشياء كرطبه في الخواصّ والآثار {و} بحسب ما {يتخيّلونه من المناسبات بين الحكم وموضوعه} في كلّ مكانٍ، فيعمّمون الحكم تارةً، ويخصّصونه أُخرى، ولذا لو قال الطّبيب لمن به سعال: (لا تأكل الرّمّان) عمّمه العرف إلى كلّ حامض، كما يخصّصه بالرمّان الّذي فيه الحموضة ويستثني الحلو المحض {ويجعلون الموضوع للحرمة ما يعمّ الزبيب ويرون العنبيّة والزبيبيّة من حالاته} أي: حالات الموضوع {المتبادلة} الّتي لا ترتبط ببقاء الموضوع {بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بما حكم به العنب} من الحرمة إذا غلى {كان عندهم من ارتفاع الحكم من موضوعه، ولو كان} الزبيب {محكوماً به} أي: بما حكم به العنب من الحرمة إذا غلى {كان} في نظرهم {من بقائه} أي: بقاء الحكم على موضوعه.

{و} إن قلت: كيف قلتم إنّ العرف يفهم من العنب خصوص العنب ثمّ قلتم أنّهم يرون الموضوع أعمّ من العنب والزبيب؟

قلت: هنا شيئان:الأوّل: معنى اللفظ وهو خصوص الرّطب.

الثّاني: المراد من اللفظ بقرينة الحكم وهو الأعمّ، ولا تنافي بينهما، إذ {لا ضير في أن يكون الدليل بحسب فهمهم} لمعنى اللّفظ {على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيّلوه من الجهات والمناسبات} حتّى يرون الموضوع للحكم

ص: 220

في ما إذا لم تكن بمثابة تصلح قرينة على صرفه ممّا هو ظاهر فيه.

ولا يخفى: أنّ النّقض وعدمه - حقيقة - يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع، فيكون نقضاً بلحاظ موضوع، ولا يكون بلحاظ موضوع آخر.

___________________________________________

أعمّ ممّا هو معنى اللفظ لغةً {في ما إذا لم تكن} الجهات والمناسبات {بمثابة تصلح قرينةً على صرفه} أي: صرف الدليل {ممّا} أي: عن معنى {هو} أي: الدليل {ظاهر فيه} أي: في ذلك المعنى.

والحاصل: أنّ الموضوع الدليلي والموضوع العرفي إنّما يختلفان في ما إذا كان ظاهر الدليل شيئاً ومتفاهم العرف - بسبب المناسبات - شيئاً آخر، أمّا إذا كانت المناسبات الّتي في أذهان العرف صارفة للدليل عن ظاهره لم يكن تخالف بين الدليل والعرف.

مثلاً: لو قال: (رأيت أسداً في الحمّام) كانت المناسبة العرفيّة بين الأسد والحمّام صارفة للأسد عن ظاهره إلى معنى الرّجل الشّجاع، ولذا كان معنى الأسد في اللفظ هو الرّجل الشّجاع كما هو متفاهم العرف، وهنا لا تخالف بين موضوع الدليل وموضوع العرف، بخلاف مثل: (العنب إذا غلى) فإنّ المناسبةالموجبة لرؤية العرف أعمّ من الجافّ والرّطب ليست بحيث تصلح صارفة للفظ حتّى يكون العنب بمعنى الأعمّ.

والحاصل: أنّه قد يوسّع في الحكم فقط وقد يتصرّف في الموضوع، ففي مثال العنب والرّمّان توسعة في الحكم، وفي مثال الأسد تصرّف في الموضوع.

{و} بعد ما ذكرناه لا مجال لأن يقال: وهل يختلف الموضوع الدليلي والموضوع العرفي؟ إذ {لا يخفى أنّ النّقض وعدمه - حقيقةً - يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع} دليليّاً وعرفيّاً {فيكون نقضاً بلحاظ موضوع} فعدم الحرمة للزبيب نقض بلحاظ الموضوع العرفي {ولا يكون} نقضاً {بلحاظ موضوع آخر} كما إذا أخذنا

ص: 221

فلا بدّ في تعيين أنّ المناط في الاتحاد هو الموضوع العرفي أو غيره، من بيان أنّ خطاب «لا تنقض» قد سيق بأيّ لحاظ.

فالتحقيق أن يقال: إنّ قضيّة إطلاق خطاب «لا تنقض» هو أن يكون بلحاظ الموضوع العرفي؛ لأنّه المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفيّة، ومنها الخطابات الشّرعيّة، فما لم يكن هناك دلالة على أنّ النّهي فيه بنظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم، لا محيص عن الحمل على أنّه بذاك اللحاظ، فيكون المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد

___________________________________________

موضوع العنب دليليّاً، فإنّ القول بعدم حرمة الزبيب لا يكون نقضاً {فلا بدّ في تعيين أنّ المناط في الاتحاد} الموضوعي بين القضيّتين {هو الموضوع العرفي أو غيره، من بيان أنّ خطاب «لا تنقض» قد سيق بأيّلحاظ؟} لحاظ العرف أو العقل أو الدليل.

{فالتحقيق أن يقال: إنّ قضيّة إطلاق خطاب «لا تنقض»} بدون تقييد بالنّظر الدّليلي أو الدقّي، فإنّه لم يقل: لا تنقض بالنّظر الدقّي، ولم يقل: لا تنقض بالنّظر الدّليلي، فمقتضى الإطلاق - كسائر إطلاقات الأدلّة - {هو أن يكون} النّقض {بلحاظ الموضوع العرفي؛ لأنّه} أي: المعنى العرفي هو {المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفيّة، ومنها الخطابات الشّرعيّة} إذ {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1)، فكلّما صدق النّقض عرفاً كان منهيّاً عنه وإن كان بنظر العقل أو بنظر الدليل ليس بنقض لذهاب الموضوع في نظرهما.

{فما لم يكن هناك دلالة على أنّ النّهي فيه} أي: في الخطاب الشّرعي {بنظر آخر} غير النّظر العرفي {غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم لا محيص عن الحمل على أنّه} أي: الخطاب {بذاك اللحاظ} العرفي {فيكون المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد} بين الموضوع السّابق في زمان اليقين والموضوع اللّاحق في زمان

ص: 222


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

بحسب نظر العرف - وإن لم يحرز بحسب نظر العقل، أو لم يساعده النّقل - فيستصحب مثلاً ما يثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيباً؛ لبقاء الموضوع واتحاد القضيّتين عرفاً. ولا يستصحب في ما لا اتحاد كذلك، وإن كان هناك اتحاد عقلاً، كما مرّت الإشارة إليه في القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي، فراجع.المقام الثّاني:

___________________________________________

الشّكّ {بحسب نظر العرف وإن لم يحرز} الموضوع {بحسب نظر العقل} فيرى أنّ الباقي غير السّابق {أو لم يساعده النّقل} لأنّه أخذ في الموضوع خصوصيّة قد زالت {فيستصحب - مثلاً - ما يثبت بالدليل للعنب} من الحرمة إذا غلى ماؤه {إذا صار زبيباً لبقاء الموضوع واتحاد القضيّتين عرفاً} فالقضيّة المشكوكة هي القضيّة المتيقّنة في نظر العرف. ولا يخفى أنّ هذا غير الاستصحاب العقلي الّذي ذكرناه سابقاً.

{ولا يستصحب في ما لا اتحاد كذلك} بين القضيّتين {وإن كان هناك اتحاد عقلاً} بأن رأى العقل أنّ هذا الموضوع الباقي هو ذاك الموضوع السّابق {كما مرّت الإشارة إليه في القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي، فراجع} كما لو علم بارتفاع الإيجاب وشكّ في بقاء الاستحباب، فإنّه لا يستصحب مع أنّ الاستحباب مرتبة من مراتب الإيجاب عقلاً واتحاد بين السّابق واللّاحق، إلّا أنّ العرف لمّا يرى الاثنينيّة بينهما لم يصحّ الاستصحاب، وكذا بين الحرمة والكراهة.

[المقام الثّاني اعتبار عدم جريان الأمارة في مورد الاستصحاب]

{المقام الثّاني} في أنّ الأمارات مقدّمة على الاستصحاب، سواء كانت الأمارة موافقة للاستصحاب - كما لو دلّت الأمارة على أنّ من توضّأ ثمّ شكّ حكم بالوضوء - أم مخالفة له - كما لو دلّت الأمارة في المثال على عدم الوضوء -

ص: 223

أنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحابمع الأمارة المعتبرة في مورده، وإنّما الكلام في أنّه للورود، أو الحكومة، أو التوفيق بين دليل اعتبارها وخطابه؟

___________________________________________

{أنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة} عقلاً أو شرعاً {في مورده} أي: مورد الاستصحاب {وإنّما الكلام في أنّه} أي: تقدّم الأمارة عليه {للورود} الّذي هو عبارة عن رفع دليل الوارد لموضوع دليل المورود حقيقةً أو تنزيلاً، كما لو قال: «رفع ما لا يعلمون»(1)

وقال: (الخمر نجس)، فإنّ الدليل الثّاني يرفع موضوع الدليل الأوّل، إذ «لا يعلمون» انقلب إلى «يعلمون» بواسطة دليل نجاسة الخمر.

{أو الحكومة} الّتي هي عبارة عن نظر دليل الحاكم إلى المحكوم، بحيث ينشأ الحكم في مورده ويصحّ أن يفسّر دليل الحاكم ب- (أي) كما لو قال: (صلّ بطهارة) ثمّ قال: «الطّواف بالبيت صلاة»(2)

فإنّ دليل الطّواف حاكم على دليل الصّلاة، فيصحّ أن يقال: الصّلاة - أي: الطّواف وما فيه الأركان - تحتاج إلى الطّهارة.

{أو التوفيق بين دليل اعتبارها} أي: اعتبار الأمارة {وخطابه} أي: خطاب الاستصحاب، بأن يقال: إنّ العرف يجمع بين هذين بتقديم الأمارة لكون دليلها أظهر من دليله، من قبيل الجمع بين (اغتسل للجمعة) و(لا بأس بترك غسل الجمعة) حيث يحمل الأوّل على الثّاني لكون الثّاني أظهر من الأوّل، أو لأجل أنّه لا يبقى مورد للأمارة لو تقدّم عليها الأصل، إذ في جميع موارد الأمارات أُصول معتبرة، فتقديم الأصل على الأمارةموجب للغويّتها بخلاف العكس، فإنّ كثيراً من موارد الأصول لا أمارة فيها، أو يكون تقدّم الأمارة لأجل التخصيص، فهو من

ص: 224


1- الخصال 2: 417.
2- غوالي اللئالي 1: 214؛ مستدرك الوسائل 9: 410.

والتحقيق: أنّه للورود؛ فإنّ رفع اليد عن اليقين السّابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ، بل باليقين. وعدم رفع اليد عنه مع الأمارة على وفقه ليس لأجل أن لا يلازم نقضه به، بل من جهة لزوم العمل بالحجّة.

لا يقال: نعم، هذا

___________________________________________

قبيل تقدّم (لا تكرم زيداً) على (أكرم العلماء) وسيأتي في باب التعارض تفصيل معاني الورود والحكومة وغيرهما.

{والتحقيق أنّه للورود} وأنّ دليل الأمارة رافعة لموضوع دليل الاستصحاب {فإنّ رفع اليد عن اليقين السّابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ} الّذي نهي عنه في خطاب «لا تنقض» {بل} نقض لليقين {باليقين} فإنّ المراد من اليقين ليس إلّا الحجّة، لا اليقين الّذي هو حالة نفسانيّة، فإذا قامت الأمارة فقد تيقّنّا بالحكم، وبهذا اليقين نرفع اليد عن اليقين السّابق {وعدم رفع اليد عنه} أي: عن اليقين السّابق {مع الأمارة على وفقه} أي: وفق اليقين السّابق، بأن كان مؤدّى الاستصحاب والأمارة واحداً، فإنّه حينئذٍ لا يعمل بالاستصحاب، بل بالأمارة الّتي في المقام {ليس لأجل أن لا يلازم نقضه} أي: نقض اليقين {به} أي: بالشكّ، فإن عملنا في مورد توافقهما ليس لأجل الاستصحاب {بل من جهة لزوم العمل بالحجّة} الموجودة في المقام وهي الأمارة، ففي كلتا الصّورتين لا عمل بالاستصحاب.{لا يقال: نعم} صحيح ما ذكرتم من أنّه لو أخذنا بدليل الأمارة - المخالفة للحالة السّابقة - لم يكن من نقض اليقين بالشكّ، بل كان من نقض اليقين باليقين، لكن {هذا} إنّما يتمّ بعد إثبات مقدّمة، وهي أنّه يؤخذ بدليل الأمارة - يعني يجب أن نثبت أوّلاً وجوب الأخذ بدليل الأمارة ثمّ نرفع التنافي بين الأمارة والاستصحاب - .

ص: 225

لو أُخذ بدليل الأمارة في مورده، ولكنّه لم لا يؤخذ بدليله، ويلزم الأخذ بدليلها؟

فإنّه يقال: ذلك إنّما هو لأجل أنّه لا محذور في الأخذ بدليلها، بخلاف الأخذ بدليله، فإنّه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصّص إلّا على وجه دائر؛

___________________________________________

ولقائلٍ أن يقول: نأخذ بدليل الاستصحاب حتّى لا يرد إشكال أصلاً، فإنّه {لو أُخذ بدليل الأمارة في مورده} أي: مورد الاستصحاب، احتجنا إلى تجشّم هذا الجواب والجمع بينهما {ولكنّه لم لا يؤخذ بدليله} أي: بدليل الاستصحاب {و} لم {يلزم الأخذ بدليلها؟}

وإن شئت قلت: إنّ في المقام دليلين: دليل الاستصحاب، ودليل الأمارة، فما الّذي يلزمنا على الأخذ بدليل الأمارة دون دليل الاستصحاب؟

{فإنّه يقال}: إنّ في المقام دليلين متنافيين، فلو أخذنا بدليل الأمارة لا يلزم محذور، ولو أخذنا بدليل الاستصحاب يلزم محذور التخصيص بلا مخصّص، ولذا يجب الأخذ بما لا محذور فيه، ف- {ذلك} التقديم لدليل الأمارة {إنّما هو لأجل أنّه لا محذور في الأخذبدليلها} أي: دليل الأمارة {بخلاف الأخذ بدليله} أي: دليل الاستصحاب {فإنّه يستلزم تخصيص دليلها} أي: دليل الأمارة {بلا مخصّص إلّا على وجه دائر} فإنّه إذا أخذنا بالاستصحاب يلزم أحد أمرين: إمّا التخصيص بلا مخصّص، أو الدّور، إذ دليل الاستصحاب إمّا شامل لمورد الأمارة أو لا يشمل موردها، فعلى فرض عدم الشّمول يلزم تخصيص دليل الأمارة بلا مخصّص، وعلى فرض الشّمول يلزم الدور، غايته أنّ تخصيص دليل الاستصحاب لدليل الأمارة متوقّف على حجيّته بحيث يشمل مورد الأمارة، وحجيّته هكذا متوقّفة على تخصيص الاستصحاب لدليل الأمارة، وهو دور صريح.

أمّا المقدّمة الأُولى - وهي كون التخصيص متوقّفاً على حجيّة دليل الاستصحاب - فواضحة، إذ لولا حجيّة الاستصحاب لم يتمكّن من تخصيص دليل الأمارة.

ص: 226

إذ التخصيص به يتوقّف على اعتباره معها، واعتباره كذلك يتوقّف على التخصيص به؛ إذ لولاه لا مورد له معها، كما عرفت آنفاً.

وأمّا حديث الحكومة: فلا أصل له أصلاً؛ فإنّه لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله

___________________________________________

وأمّا المقدّمة الثّانية - وهي أنّ حجيّة دليل الاستصحاب متوقّفة على تخصيصه لدليل الأمارة - فلأنّه لولا أن تخصّص دليل الأمارة تكون الأمارة يقينيّاً فيجب رفع اليد عن الاستصحاب بها، وذلك بخلاف رفع اليد عن دليل الاستصحاب بسبب دليل الأمارة، فإنّ الأمارة تحدث اليقين، فرفع اليد عن دليل الاستصحاب إنّما هو بارتفاع موضوع الاستصحاب الّذي هو الشّكّ في الحكم، فلا يلزم التخصيص بغير مخصّص، ولا يلزم الدور.

وإن شئت قلت: إنّ هذين الدليلين لا يجتمعان، فرفع اليد عن دليلالاستصحاب على القاعدة، إذ قال الدّليل: «بل انقضه بيقين آخر».

أمّا رفع اليد عن دليل الأمارة فهو دور {إذ التخصيص به} أي: بدليل الاستصحاب {يتوقّف على اعتباره} أي: اعتبار دليل الاستصحاب {معها} أي: مع الأمارة - حتّى يخصّص دليلها - {واعتباره} أي: دليل الاستصحاب {كذلك} أي: مع وجود الأمارة {يتوقّف على التخصيص به} أي: بالاستصحاب {إذ لولاه} أي: لولا التخصيص {لا مورد له} أي: للاستصحاب {معها} أي: مع الأمارة {كما عرفت آنفاً} من أنّه لولا تخصيصه لها لكانت الأمارة رافعة لموضوعه.

{وأمّا حديث الحكومة} وأنّ دليل الأمارة حاكمة على دليل الاستصحاب - كما يظهر من الشّيخ(1) - {فلا أصل له أصلاً، فإنّه لا نظر لدليلها} أي: دليل الأمارة {إلى مدلول دليله} أي: دليل الاستصحاب، فإنّ قول زرارة مثلاً: (العصير حرام) لا نظر له إلى الاستصحاب الجاري في حليّته، فالقولُ بأنّه حاكم عليه - إذ دليل

ص: 227


1- فرائد الأصول 3: 314.

إثباتاً، وبما هو مدلول الدليل، وإن كان دالّاً على إلغائه معها ثبوتاً وواقعاً؛ لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها، كما أنّ قضيّة دليله إلغاؤها كذلك؛ فإنّ كلّاً من الدليلين

___________________________________________

الاستصحاب يعتبر الشّكّ، و(صدّق العادل) الّذي هو دليل الأمارة يلغي الشّكّ ويقول: (ألغ احتمال الخلاف) - غيرُ تامٍّ، إذ دليل الأمارة إنّما يدلّ على مفادها{إثباتاً} في مقام الإثبات والدلالة {وبما هو مدلول الدليل} فمعنى (صدّق العادل): اتّبع قوله، وخذ بما قال، وليس فيه (ألغ احتمال الخلاف) حتّى يكون ناظراً إلى الأحكام الثابتة للشكّ في حال الأخذ باحتمال الخلاف - كدليل الاستصحاب - {وإن كان} دليل الأمارة {دالّاً على إلغائه} أي: إلغاء الاستصحاب {معها} أي: مع الأمارة {ثبوتاً وواقعاً} إذ العمل بالأمارة لازمه ترك العمل بما يخالفها {لمنافاة لزوم العمل بها} أي: بالأمارة {مع العمل به} أي: بالاستصحاب {لو كان} الاستصحاب {على خلافها} أي: خلاف الأمارة.

فتحصّل أنّ الحكومة عبارة عن نظر الحاكم إلى دليل المحكوم - من قبيل (لا شكّ لكثير الشّكّ)(1)

النّاظر إلى قوله: «إذا شككت فابن على الأكثر»(2)

- وليس ل- (صدّق العادل) نظر إلى دليل «لا تنقض اليقين بالشكّ» - في عالم الإثبات والدلالة - وإن كان لازم تصديق العادل عدم العمل بمفاد الاستصحاب الّذي هو على خلاف قول العادل.

{كما أنّ قضيّة} أي: مقتضى {دليله} أي: دليل الاستصحاب {إلغاؤها كذلك} أي: إلغاء الأمارة، فإنّ لازم العمل بالحالة السّابقة عدم العمل بمفاد الأمارة المخالفة لذلك، لكن ليس ذلك من باب الحكومة، بل من باب أنّ العمل بكلّ شيء لازمه ترك العمل بما يخالفه {فإنّ كلّاً من الدليلين} المتعارضين

ص: 228


1- راجع وسائل الشيعة 8: 227.
2- الفصول المهمة في أصول الأئمة 2: 115.

بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل، فيطرد كلّ منهما الآخر مع المخالفة، هذا.

مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة، ولا أظنّ أن يلتزم به القائل بالحكومة، فافهم، فإنّ المقام لا يخلو من دقّة.

وأمّا التوفيق: فإن كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق، وإن كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له؛

___________________________________________

{بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل} فعلاً {فيطرد كلّ منهما الآخر مع المخالفة} بينهما، إذ لا يمكن العمل بالمخالفين.

{هذا مع} أنّه لو كان سبب تقديم الأمارة على الاستصحاب كونها حاكمة عليه لزم أن نقول باعتبار الاستصحاب والأمارة معاً في صورة التوافق بينهما، كما لو كان هناك استصحاب الحليّة ودليل على الحليّة، إذ لا يكون حينئذٍ منافاة حتّى تكون الأمارة طاردة لدليل الاستصحاب، فالقول بالحكومة غير تامّ، ل- {لزوم اعتباره} أي: الاستصحاب {معها} أي: مع الأمارة {في صورة الموافقة} بينهما {ولا أظنّ أن يلتزم به} أي: باعتبارهما معاً {القائل بالحكومة} إذ لا مجال للاستصحاب مع الأمارة إطلاقاً {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ الحكومة آتية حتّى مع الموافقة، إذ لو كان دليل الأمارة ناظراً لم يكن فرق بين صورتي المخالفة والموافقة، فتأمّل {فإنّ المقام لا يخلو من دقّة} وبهذا كلّه تحقّق أنّ دليل الأمارة وارد لا أنّه حاكم.

{وأمّا} الجمع بين الدليلين ب- {التوفيق} بكون دليل الأمارة أظهر من دليل الاستصحاب {فإن كان} مراد القائل {ب-} -ه {ماذكرنا} من الورود {فنعم الاتفاق} بيننا وبينه {وإن كان} مراده {بتخصيص دليله} أي: دليل الاستصحاب {بدليلها} أي: بدليل الأمارة {فلا وجه له} إذ يلزم في التخصيص بقاء الموضوع مع الخروج عن الحكم نحو (أكرم العلماء ولا تكرم زيداً) فإنّ زيداً موضوعاً

ص: 229

لما عرفت من أنّه لا يكون مع الأخذ به نقض يقين بشكّ، لا أنّه غير منهيّ عنه مع كونه من نقض اليقين بالشكّ.

خاتمة: لا بأس ببيان النّسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول العمليّة؛ وبيان التعارض بين الاستصحابين:

___________________________________________

عالم لكنّه خارج عن حكم العلماء وهو وجوب الإكرام، وليس ما نحن فيه كذلك، إذ دليل الاستصحاب لا يشمل مورد الأمارة أصلاً، فإنّه نقض اليقين باليقين الحاصل من الأمارة، لا أنّه نقض اليقين بالشكّ حتّى يكون من أفراد الاستصحاب {لما عرفت من أنّه لا يكون مع الأخذ به} أي: بدليل الأمارة {نقض يقين بشكّ} أصلاً، فلا موضوع للاستصحاب {لا أنّه غير منهيّ عنه مع كونه من نقض اليقين بالشكّ} حتّى يكون نقضاً غير منهيّ عنه فيصحّ تسميته تخصيصاً، وإن كان مراد القائل بالتوفيق الجمع العرفي، كما هو بين الظّاهر والأظهر - وإن لم يكن وروداً أو حكومة أو تخصيصاً - ففيه أنّه لا تصل النّوبة إلى ذلك مادام يمكن أحد الثلاثة.

[خاتمة تعارض الاستصحابين]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، تعارض الاستصحابين

{خاتمة: لا بأس ببيان النّسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول العمليّة} وأنّه لو كان فيالمقام احتياط أو براءة أو تخيير، عقليّةً كانت أو شرعيّةً، وكان استصحاب، فهل يقدّم الاستصحاب عليها أو تقدّم تلك على الاستصحاب؟ {وبيان التعارض بين الاستصحابين} وأنّ أيّهما يقدّم على الآخر، كما لو غسل يده في الماء المشكوك الكريّة مع كون الماء سابقاً كرّاً، فاستصحاب نجاسة اليد يقول بالنجاسة، واستصحاب كريّة الماء يقتضي الطّهارة، فهل يقدّم ذلك الاستصحاب أم هذا؟

ص: 230

أمّا الأوّل: فالنسبة بينه وبينها هي بعينها النّسبة بين الأمارة وبينه، فيقدّم عليها، ولا مورد معه لها؛ للزوم محذور التخصيص إلّا بوجه دائر في العكس، وعدم محذور فيه أصلاً،

___________________________________________

{أمّا الأوّل} وهو النّسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول {فالنسبة بينه} أي: بين الاستصحاب {وبينها} أي: بين سائر الأصول {هي بعينها النّسبة بين الأمارة وبينه} أي: بين الاستصحاب {ف-} كما أنّ الأمارة تقدّم على الاستصحاب كذلك الاستصحاب {يقدّم عليها} أي: على سائر الأصول {ولا مورد معه} أي: مع وجود الاستصحاب {لها} أي: لسائر الأصول، فلو كان لشيء سابق الحرمة كان اللّازم استصحاب حرمته ولا مورد للتمسّك بأصالة الحلّ، كما أنّه لو دار أمر شيء بين الوجوب والتحريم وكان سابقاً واجباً لم يبق مورد للتخيير وحكم بوجوبه، كما أنّه لو تردّد الوجوب بين شيئين وكان أحدهما واجباً سابقاً كان مقتضى الاستصحاب ولم يبق مورد للاحتياط.

وإنّما يكون المورد للاستصحاب {للزوم محذور التخصيصإلّا بوجه دائر في العكس} أي: في تقديم الأصول على الاستصحاب {وعدم محذور فيه} أي: في تقديم الاستصحاب عليها {أصلاً} وتقرير المحذور - كما تقدّم في الاستصحاب والأمارة - وبيانه:

أمّا عدم المحذور في تقديم الاستصحاب؛ فلأنّ الأصول الأُخر قد أُخذ في موضوعها الجهل والاستصحاب رافع للجهل.

فمثلاً: «كلّ شيء حلال» يقول: ما لم تعلم أنّه حلال أو حرام فهو حلال، ودليل الاستصحاب يقول: إنّك تعلم أنّه حرام؛ لأنّ الشّارع حكم بجرّ الحالة السّابقة وهي الحرمة. مثلاً - إلى هذا الحال، وكذا «أخوك دينك» يقول: احتط في ما لا تعلم من الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، ودليل الاستصحاب يقول:

ص: 231

هذا في النّقليّة منها.

وأمّا العقليّة: فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها؛ بداهة عدم الموضوع معه لها؛ ضرورة أنّه إتمام حجّة وبيان، ومؤمّن من العقوبة وبه الأمان، ولا شبهة في أنّ الترجيح به عقلاً صحيح.

___________________________________________

لا شبهة لك؛ لأنّ الشّارع أمر بجرّ الحالة السّابقة إلى هنا، وكذا «إذن فتخيّر» يقول: إن شئت فعلت وإن شئت تركت في الدوران بين المحذورين، ودليل الاستصحاب يقول: لا دوران، إذ الحالة السّابقة باقية تعبّداً.

وأمّا المحذور في تقديم سائر الأصول، فإنّ فيه محذور تخصيص دليل الاستصحاب بلا مخصّص، إذ تخصيص دليل الاستصحاب بدليل الأمارة متوقّف على حجيّة دليل الأمارة حتّى في حال الاستصحاب، وحجيّته كذلك موقوفة على تخصيص دليل الأمارة - كما سبق تقريره - .

{هذا} كلّه {في النّقليّة منها} أي: من الأصول العمليّة{وأمّا} الأصول {العقليّة} وهي البراءة العقليّة لقبح العقاب بلا بيان، والاحتياط العقلي لوجوب الإطاعة، والتخيير العقلي لعدم إمكان الجمع بين المحذورين {فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه} أي: الاستصحاب {عليها} أي: على هذه الأصول العقليّة {بداهة عدم الموضوع معه} أي: مع الاستصحاب {لها} أي: للأُصول العقليّة.

{ضرورة أنّه} أي: الاستصحاب {إتمام حجّة وبيان} فلو قام على ثبوت التكليف يكون الشّارع قد بيّن الحكم، فلا مجال للبراءة العقليّة القائلة بقبح العقاب بلا بيان {ومؤمّن من العقوبة وبه الأمان} فلو قام على نفي التكليف لم يبق مجال للاشتغال العقلي والاحتياط القائل بأنّ التكليف يحتاج إلى الامتثال وإلّا لم يؤمّن العقوبة {ولا شبهة في أنّ الترجيح به} أي: بالاستصحاب {عقلاً صحيح} فلو قام على ثبوت حكم أو نفيه لم يبق مجال للتخيير الّذي يكون مقوّمه العلم

ص: 232

وأمّا الثّاني: فالتعارض بين الاستصحابين:

إن كان لعدم إمكان العمل بهما، بدون علم بانتقاض الحالة السّابقة في أحدهما - كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التضادّ في زمان الاستصحاب - فهو من باب تزاحم الواجبين.

___________________________________________

بأحد المحذورين من دون تعيين.

{وأمّا الثّاني} وهو التعارض بين الاستصحابين {ف-} هو على أقسام أربعة:

لأنّه إمّا أن يكون بينهما تزاحم، وإمّا أن يكون تعارض، والثّاني إمّا أن يكون أحدهما مسبّباً عن الآخر أم لا، والثّاني إمّا أن يلزم من إجرائهما محذورالمخالفة القطعيّة أم لا.

فالأوّلى: أن يكون بينهما تزاحم.

والثّاني: أن يكون بينهما تعارض مع كون أحدهما من آثار الآخر.

والثّالث: أن يكون بينهما تعارض بدون أن يكون أحدهما من آثار الآخر ولكن لزم من إجرائهما المخالفة القطعيّة.

والرّابع: هو الثّالث بدون أن يلزم مخالفة قطعيّة.

إذا عرفت ذلك قلنا: {التعارض بين الاستصحابين إن كان لعدم إمكان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السّابقة في أحدهما} كما لو وقع نفران في الماء وكانا سابقاً واجبي الإنقاذ وشككت في وجوب إنقاذهما فعلاً لاحتمال كفرهما قبل أن يغرقا فإنّه يجري الاستصحاب فيهما ويجب إنقاذهما، لكن إذا لم يقدر إلّا من إنقاذ أحدهما صار التزاحم بينهما، فهو {كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التضادّ في زمان الاستصحاب} لأنّهما وقعا في الماء في الحال {فهو من باب تزاحم الواجبين}.

وفي تعليق المصنّف(رحمة الله): «فيتخيّر بينهما إن لم يكن أحد المستصحبين أهمّ،

ص: 233

وإن كان مع العلم بانتقاض الحالة السّابقة في أحدهما:

فتارةً يكون المستصحب في أحدهما من الآثار الشّرعيّة للمستصحب الآخر، فيكون الشّكّ فيه مسبّباً عن الشّكّ فيه، كالشكّ في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطّهارة وقد كان طاهراً، وأُخرى لا يكون كذلك.

___________________________________________

وإلّا فتعيّن الأخذ بالأهم، ولا مجال لتوهّم أنّه لا يكاد يكون هناك أهمّ، لأجل أنّ إيجابهما إنّما يكون من باب واحد - وهو استصحابهما - من دون مزيّة في أحدهما أصلاً، كما لا يخفى، وذلك لأنّ الاستصحاب إنّما يتّبع المستصحب، فكما يثبت به الوجوب والاستصحاب، يثبت به كلّ مرتبة منهما، فتستصحب فلا تغفل»(1)،

انتهى.

{وإن كان} التعارض بين الاستصحابين {مع العلم بانتقاض الحالة السّابقة في أحدهما}:

{فتارةً يكون المستصحب في أحدهما من الآثار الشّرعيّة للمستصحب الآخر} كما لو علم بنجاسة الثوب وطهارة الماء القليل الّذي غسل ذلك الثوب، فإنّ الطّهارة في الثوب من الآثار الشّرعيّة لطهارة الماء {فيكون الشّكّ فيه} أي: في المستصحب الأوّل - وهو المسبّب - {مسبّباً عن الشّكّ فيه} أي: في المستصحب الثّاني - وهو السّبب - {كالشكّ في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطّهارة وقد كان} الماء سابقاً {طاهراً} فإنّ شكّنا حينئذٍ في طهارة الثوب ناشٍ عن شكّنا في طهارة الماء، إذ لو كان الماء طاهراً لم نشكّ في طهارة الثوب ولو كان الماء نجساً لم نشكّ في بقاء نجاسة الثوب، فهنا استصحابان: استصحاب طهارة الماء واستصحاب نجاسة الثوب، لكن الثّاني مسبّب عن الأوّل.

{وأُخرى لا يكون} المستصحب في أحدهما {كذلك} أي: من الآثار الشّرعيّة

ص: 234


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 5: 16.

فإن كان أحدهما أثراً للآخر، فلا مورد إلّا للاستصحاب في طرف السّبب؛ فإنّالاستصحاب في طرف المسبّب موجب لتخصيص الخطاب، وجواز نقض اليقين بالشكّ في طرف السّبب بعدم ترتيب أثره الشّرعي، فإنّ من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته، بخلاف استصحاب طهارته؛ إذ لا يلزم منه

___________________________________________

لمستصحب آخر، وسيأتي أنّ هذا القسم ينقسم إلى ما يستلزم جريانهما المخالفه القطعيّة وما لا يستلزم ذلك {فإن كان أحدهما أثراً للآخر فلا مورد إلّا للاستصحاب في طرف السّبب} فيجري استصحاب طهارة الماء ويحكم به بطهارة الثوب المغسول فيه، ولا يجري استصحاب نجاسة الثوب {فإنّ الاستصحاب في طرف المسبّب موجب لتخصيص الخطاب وجواز نقض اليقين بالشكّ في طرف السّبب بعدم ترتيب أثره الشّرعي} فلو أجرينا استصحاب نجاسة الثوب كان لازمه أن نرفع اليد عن «لا تنقض» في طرف طهارة الماء، إذ لو كان الماء طاهراً لم يبق وجه لنجاسة الثوب، وذلك بخلاف ما لو أجرينا استصحاب طهارة الماء وقلنا بطهارة الثوب، فإنّه لم نستصحب النّجاسة في الثوب لعدم تماميّة أركان الاستصحاب فيه، لا أنّا تركنا الاستصحاب في النّجاسة اعتباطاً، وذلك لأنّ رفع اليد عن نجاسة الثوب ليس من نقض اليقين بالنجاسة بالشكّ فيها حتّى يمتنع، بل هو من نقض اليقين باليقين؛ لأنّ الحكم بطهارة الماء يوجب اليقين بطهارة الثوب - ظاهراً - فرفع اليد عن النّجاسة إنّما هو باليقين، ويكون ذلك مشمول ذيل الخطاب حيث قال: «ولكن أنقضه بيقين آخر» {فإنّ من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته} لأنّ الشّارع رتّب هذا الأثر على الطّهارة {فاستصحابنجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته} أي: طهارة الماء {بخلاف استصحاب طهارته} المستلزم لطهارة الثوب {إذ لا يلزم منه} أي: من استصحاب

ص: 235

نقض يقين بنجاسة الثوب بالشكّ، بل باليقين بما هو رافع لنجاسته، وهو غَسله بالماء المحكوم شرعاً بطهارته.

وبالجملة: فكلّ من السّبب والمسبّب وإن كان مورداً للاستصحاب، إلّا أنّ الاستصحاب في الأوّل بلا محذور، بخلافه في الثّاني، ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلّا بنحو محال،

___________________________________________

طهارة الماء {نقض يقين بنجاسة الثوب بالشكّ، بل} قد نقضنا يقيننا بنجاسة الثوب {باليقين بما هو رافع لنجاسته وهو} أي: ما هو رافع لنجاسته {غسله بالماء المحكوم شرعاً بطهارته} فكما يرفع اليد عن النّجاسة باليقين الخارجي وبالأمارة، كذلك يرفع اليد عنها بما حكم الشّارع بأنّه طاهر ولو كان بالاستصحاب.

{وبالجملة فكلّ من السّبب} وهو طهارة الماء {والمسبّب} وهو نجاسة الثوب {وإن كان مورداً للاستصحاب} لتماميّة أركانه فيه {إلّا أنّ الاستصحاب في الأوّل} الّذي هو السّبب {بلا محذور، بخلافه} أي: الاستصحاب {في الثّاني} الّذي هو المسبّب {ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلّا بنحو محال} إذ التخصيص بجريان استصحاب النّجاسة موقوف على اعتبار الشّارع إيّاه في حال جريان استصحاب طهارة الماء، واعتبار الشّارع إيّاه موقوف على التخصيص - كما تقدّمبيانه سابقاً - .

وقد علّق المصنّف هنا بقوله: «وسرّ ذلك أنّ رفع اليد عن اليقين في مورد السّبب يكون فرداً لخطاب «لا تنقض اليقين» ونقضاً لليقين بالشكّ مطلقاً بلا شكّ، بخلاف رفع اليد عن اليقين في مورد المسبّب، فإنّه إنّما يكون فرداً له إذا لم يكن حكم حرمة النّقض يعمّ النّقض في مورد السّبب، وإلّا لم يكن بفرد له، إذ حينئذٍ يكون من نقض اليقين باليقين، ضرورة أنّه يكون رفع اليد عن نجاسة الثوب - المغسول بماء محكوم بالطهارة شرعاً، باستصحاب طهارته - لليقين بأنّ

ص: 236

فاللّازم الأخذ بالاستصحاب السّببي.

نعم، لو لم يجر هذا الاستصحاب بوجه لكان الاستصحاب المسبّبي جارياً، فإنّه لا محذور فيه حينئذٍ مع وجود أركانه وعموم خطابه.

___________________________________________

كلّ ثوب نجس يغسل بماء كذلك يصير طاهراً شرعاً.

وبالجملة: من الواضح - لمن له أدنى تأمّلٍ - أنّ اللّازم - في كلّ مقامٍ كان للعام فردٌ مطلقٌ، وفردٌ كان فرديّته له معلّقة على عدم شمول حكمه لذاك الفرد المطلق، كما في المقام، أو كان هناك عامّان كان لأحدهما فرد مطلق، وللآخر فردٌ كانت فرديّته معلّقة على عدم شمول حكم ذاك العامّ لفرده المطلق، كما هو الحال في الطّرق في مورد الاستصحاب - هو الالتزام بشمول حكم العامّ للفرد المطلق، حيث لا مخصّص له، ومعه لا يكون فرد آخر يعمّه أو لا يعمّه، ولا مجال لأن يلتزم بعدم شمول حكم العامّ للفرد المطلق، ليشمل حكمه لهذا الفرد، فإنّه يستلزم التخصيص بلا وجه، أو بوجه دائر، كما لا يخفى على ذوي البصائر»(1)،

انتهى.

{فاللّازم الأخذ بالاستصحاب السّببي} وهواستصحاب طهارة الماء ليحكم بطهارة الثوب المغسول به.

{نعم، لو لم يجر هذا الاستصحاب} السّببي {بوجه} أصلاً، كما لو كان معارضاً، مثل أنّه كان هناك ماءان طاهران ثمّ تنجّس أحدهما إجمالاً، فإنّه لا يجري استصحاب الطّهارة في أحد الماءين، وحينئذٍ لو غسل ثوب بأحدهما كان استصحاب النّجاسة - في المسبّب - محكماً، إذ لا أصل في الماء حاكم عليه {لكان الاستصحاب المسبّبي جارياً، فإنّه لا محذور فيه حينئذٍ} أي: حين لم يجر الاستصحاب السّببي {مع وجود أركانه} أي: أركان الاستصحاب المسبّبي {وعموم خطابه} أي: خطاب «لا تنقض» للمسبّبي.

ص: 237


1- راجع كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 5: 20.

وإن لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار للآخر، فالأظهر جريانهما في ما لم يلزم منه محذور المخالفة القطعيّة للتكليف الفعلي المعلوم إجمالاً؛

___________________________________________

وإلى هنا قد بيّن قسمين من أقسام التعارض الأربعة، وهما: التزاحم بين الاستصحابين، والتعارض إذا كان بينهما سببيّة ومسببيّة {وإن لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار للأُخر} بأن كان هناك استصحابان متعارضان بدون سببيّة بينهما {فالأظهر جريانهما في ما لم يلزم منه} أي: من جريانهما {محذور المخالفة القطعيّة للتكليف الفعلي المعلوم إجمالاً} كما لو دار الأمر بين الفعل والترك، فإنّه يجوز استصحاب عدم الحرمة واستصحاب عدم الوجوب، وبين هذين الاستصحابين تعارض لوضوح أنّ الشّيء المردّد في الواقع إمّا واجب أو حرام، لكنّه حيث لميلزم مخالفة عمليّة من إجراء هذين الاستصحابين، إذ المكلّف لا يخرج عن كونه فاعلاً أو تاركاً - بالاضطرار - لم يكن بأس في إجرائهما، لكنّه ربّما يقال بعدم جواز إجراء الاستصحابين لأُمور ثلاثة:

الأوّل: لزوم المخالفة الالتزاميّة، إذ لازم جريانهما جواز الالتزام بكونه ليس بحرام ولا بواجب، والمخالفة الالتزاميّة لا تجوز.

والجواب: أنّه لا دليل لنا على لزوم الموافقة الالتزاميّة في الواجبات وحرمة المخالفة الالتزاميّة في التكاليف، وإلّا لزم أن يكون لكلّ واجب ثوابان الموافقة العمليّة والموافقة الالتزاميّة، وكذا لكلّ فعل محرّم عقابان عقاب المخالفة العمليّة وعقاب المخالفة الالتزاميّة، وهو خلاف البديهة.

الثّاني: أنّ جريان الاستصحابين متناقض للعلم، إذ علمنا الإجمالي بأنّ هذا حرام أو واجب مناقض لاستصحاب عدم الحرمة وعدم الوجوب، ولا يمكن التعبّد بما يعلم خلافه.

الثّالث: أنّه يلزم من شمول الدليل للاستصحابين التناقض في أطراف الدليل،

ص: 238

لوجود المقتضي إثباتاً، وفقد المانع عقلاً:

أمّا وجود المقتضي: فلإطلاق الخطاب وشموله للاستصحاب في أطراف المعلوم بالإجمال؛ فإنّ قوله(علیه السلام) - في ذيل بعض أخبار الباب - : «ولكن تنقض اليقين باليقين»(1)

لو سُلّم أنّه يمنع عن شمول قوله(علیه السلام) - في صدره - : «لا ينقض اليقين بالشكّ» لليقين والشّكّ في أطرافه؛ للزوم المناقضة في مدلوله؛

___________________________________________

إذ قوله(علیه السلام): «لا ينقض اليقين بالشكّ»(2) مقتضاه عدم نقض عدم الحرمة وعدم الوجوب المعلومين بالشكّ فيها، وقوله(علیه السلام) في ذيل الحديث: «ولكن ينقضه بيقين آخر» موجب للنقض وعدم استصحابهما، إذ قد علم وتيقّن بخلاف الحالة السّابقة إجمالاً.

والجواب: أنّ كلّ أحاديث الاستصحاب ليست مذيّلة بهذا الذيل، فما له هذا الذيل لا نقول بشموله للمقام، أمّا ما ليس له ذيل فلا مانع عن شموله للمقام.

فكلّ استصحابين متعارضين لم يلزم منهما مخالفة عمليّة لا بأس بإجرائهما {لوجود المقتضي إثباتاً} أي: في عالم الدليل واللفظ {وفقد المانع عقلاً} وشرعاً: {أمّا وجود المقتضي فلإطلاق الخطاب} أي: خطاب «لا تنقض» {وشموله} أي: الخطاب {للاستصحاب في أطراف المعلوم بالإجمال} الّذي علم إجمالاً بأنّه إمّا واجب أو حرام.

{فإنّ قوله(علیه السلام) في ذيل بعض أخبار الباب: «ولكن تنقض اليقين باليقين» لو سلّم أنّه} أي: هذا الذيل {يمنع عن شمول قوله(علیه السلام) في صدره} أي: صدر ذلك البعض من الأخبار {«لا ينقض اليقين بالشكّ» لليقين والشّكّ في أطرافه} أي: في أطراف المعلوم إجمالاً {للزوم المناقضة في مدلوله} أي: مدلول ذلك الخبر، لما تقدّم في

ص: 239


1- وسائل الشيعة 2: 356، وفيه: «وإنما تنقضه بيقين آخر».
2- تهذيب الأحكام 1: 8.

ضرورة المناقضة بين السّلب الكلّي والإيجاب الجزئي، إلّا أنّه لا يمنع عن عموم النّهي في سائر الأخبار - ممّا ليس فيهالذّيل -

___________________________________________

الإشكال الثّالث من أنّ الصّدر يقتضي الاستصحاب والذيل يقتضي عدم الاستصحاب.

{ضرورة المناقضة بين السّلب الكلّي} الّذي اقتضاه الاستصحابان، فإنّهما يقتضيان سلب التكليف إطلاقاً {والإيجاب الجزئي} الّذي اقتضاه العلم بوجود أحد الحكمين، والسّلب الكلّي مقتضى الصّدر والإيجاب الجزئي مقتضى الذيل.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال ليس مختصّاً بهذا المقام - أي: دوران الأمر بين المحذورين - بل هو جارٍ في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً.

فمثلاً: لا يجري الاستصحاب في الإناءين الطّاهرين - سابقاً - اللّذين علم بنجاسة أحدهما، فشمول «لا تنقض اليقين» لكلّ طرفٍ مناقضٌ لشمول «ولكن انقضه» للمقام، حيث علم إجمالاً بنجاسة أحدهما وإذا لزم من شمول «لا تنقض» للأطراف المناقضة في مدلول الحديث وجب القول بعدم الشّمول لئلّا يلزم التناقض المحال، وإنّما قال: «لو سلم» لأنّ المصنّف لا يسلّم المناقضة بينهما لما ذكره في الحاشية من أنّ الذيل ليس وارداً في مقام البيان، وحينئذٍ لا يستفاد منه الإطلاق بالنسبة إلى العلم الإجمالي؛ لأنّ لفظ اليقين من المطلقات بخلاف الصّدر فإنّه في مقام البيان فيستفاد منه الشّمول لكلّ يقين، ولو فرض العلم الإجمالي على خلافه، انتهى.

وكيف كان فلو سلّمنا عدم شمول هذا الخبر لأطراف العلم الإجمالي للزوم المناقضة {إلّا أنّه لا يمنع عن عموم النّهي} في «لا تنقض» {في سائر الأخبار} الواردة لإفادة الاستصحاب {ممّا ليس فيه الذيل} إذ كلّ أخبار الباب ليست مذيّلة

ص: 240

وشموله لما في أطرافه؛ فإنّ إجمال ذاك الخطاب لذلك لا يكاد يسري إلى غيره ممّا ليس فيه ذلك.

وأمّا فقد المانع: فلأجل أنّ جريان الاستصحاب في الأطراف لا يوجب إلّا المخالفة الالتزاميّة، وهو ليس بمحذور، لا شرعاً ولا عقلاً.

ومنه قد انقدح: عدم جريانه في

___________________________________________

بهذا الذيل {و} عن {شموله} أي: شمول النّهي {لما في أطرافه} أي: أطراف العلم الإجمالي {فإنّ إجمال ذاك الخطاب} المذيّل {لذلك} الّذي ذكرناه من لزومه المناقضة {لا يكاد يسري إلى غيره} من سائر أحاديث الاستصحاب {ممّا ليس فيه ذلك} الذيل.

{وأمّا فقد المانع} لجريان الاستصحاب في أطراف المعلوم بالإجمال إذا لم يلزم مخالفة قطعيّة {فلأجل أنّ جريان الاستصحاب في الأطراف} للعلم {لا يوجب إلّا المخالفة الالتزاميّة} لأنّ لازم عدم وجوبه وعدم حرمته الالتزام بأنّه مباح، وهو مخالف للعلم إجمالاً، بأنّه إمّا واجب وإمّا حرام.

{وهو} أي: الالتزام بما هو مخالف للعلم، وبعبارة أُخرى: المخالفة الالتزاميّة {ليس بمحذور لا شرعاً ولا عقلاً} إذ المخالفة العمليّة فيها المحذور دون الالتزاميّة، لما عرفت.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا في القسم الثّالث من أقسام تعارض الاستصحابين - وهو ما لم يلزم منه مخالفة عمليّة - {قد انقدح عدم جريانه} أي: الاستصحاب {في} القسم الرّابع الّذي يلزم منه مخالفة عمليّة، كما لو علمسابقاً بطهارة الإناءين ثمّ علم بنجاسة أحدهما، فإنّه لا يجري الاستصحاب في أحدهما لاستلزامه المخالفة الاحتماليّة، ولا في كليهما لاستلزامه المخالفة القطعيّة.

وقد سبق في مبحث العلم الإجمالي من عدم جواز المخالفة العمليّة الاحتماليّة

ص: 241

أطراف العلم بالتكليف فعلاً أصلاً، ولو في بعضها؛ لوجوب الموافقة القطعيّة له عقلاً، ففي جريانه لا محالة يكون محذور المخالفة القطعيّة أو الاحتماليّة، كما لا يخفى.

تذنيب لا يخفى: أنّ مثل قاعدة التجاوز في حال الاشتغال بالعمل،

___________________________________________

والمخالفة العمليّة القطعيّة، فلا يجري الاستصحاب في {أطراف العلم بالتكليف فعلاً أصلاً} أي: ما علمنا بتكليف فعليّ فيه {ولو في بعضها} أي: بعض الأطراف {لوجوب الموافقة القطعيّة له} أي: للعلم بالتكليف {عقلاً} لإلزام العقل بإطاعة المولى الّتي لا تتحقّق إلّا بالموافقة القطعيّة {ففي جريانه} أي: الاستصحاب {لا محالة يكون محذور المخالفة القطعيّة} إذا جرى في جميع الأطراف {أو الاحتماليّة} إذا جرى في بعضها {كما لا يخفى}.

فتحقّق أنّ في قسم من الأقسام الأربعة يجري الاستصحاب في كليهما - وهو صورة دوران الأمر بين المحذورين - وفي قسم لا يجري في كليهما - وهو صورة العلم بتكليف فعليّ - وفي قسم يجري في أحدهما - وهو السّببي والمسبّبي - وفي قسم يتخيّر بينهما - وهو صورة التزاحم - .

[تذنيب النسبة بين الاستصحاب والقواعد]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، تذنيب{تذنيب} في بيان النّسبة بين الاستصحاب وبين قاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصّحّة والقرعة وما أشبهها.

{لا يخفى أنّ مثل قاعدة التجاوز في حال الاشتغال بالعمل} وهي قاعدة تقتضي بأن نحكم بإتيان الشّيء المشكوك إذا جاوزناه إلى غيره، كما أنّه لو شكّ في القراءة بعد الدخول في الرّكوع، أو شكّ في الرّكوع بعد الدخول في السّجود، وهكذا المستفادة من عدّة روايات، منها قوله(علیه السلام): «إذا خرجت من شيء ثمّ

ص: 242

وقاعدة الفراغ بعد الفراغ عنه، وأصالة صحّة عمل الغير... إلى غير ذلك من القواعد المقرّرة في الشّبهات الموضوعيّة - إلّا القرعة - تكون مقدّمة على استصحاباتها المقتضية لفساد ما شكّ فيه من الموضوعات؛ لتخصيص دليله بأدلّتها.

___________________________________________

دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء»(1)، وقوله(علیه السلام): «إنّما الشّكّ إذا كنت في شيء لم تجزه»(2).

{وقاعدة الفراغ بعد الفراغ عنه} أي: عن العمل، كما لو شكّ في أنّه صلّى ثلاثاً أم أربعاً بعد الخروج من الصّلاة، أو أتى بالغسل صحيحاً أو فاسداً بعد الفراغ منه، وهكذا المستفاد من قوله(علیه السلام): «كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه»(3).

{وأصالة صحّة عمل الغير} كما لو شكّ في أنّ ذبح هذاالشّخص كان صحيحاً أم لا؟ وغسله للميّت كان صحيحاً أم لا؟ وهكذا المستفادة من قوله(علیه السلام): «ضع أمر أخيك على أحسنه»(4) {إلى غير ذلك من القواعد المقرّرة في الشّبهات الموضوعيّة} كقاعدة اليد، وقاعدة السّوق للمسلمين، وقاعدة أرض المسلمين وغيرها {إلّا القرعة} الّتي يأتي الكلام حولها {تكون مقدّمة على استصحاباتها} فاستصحاب عدم الإتيان بالقراءة، وعدم الإتيان بالركعة الرّابعة، وعدم اجتماع شرائط الذبح، وعدم كون هذا الشّيء ملكاً لذي اليد وهكذا لا يجري، بل تجري القواعد المذكورة، فإنّ الاستصحابات {المقتضية لفساد ما شكّ فيه من الموضوعات} أو لوجوب ترتيب أثرٍ عليها لا تجري في موارد القواعد المذكورة {لتخصيص دليله} أي: دليل الاستصحاب {بأدلّتها} أي: أدلّة هذه القواعد.

ص: 243


1- تهذيب الأحكام 2: 352.
2- تهذيب الأحكام 1: 101.
3- تهذيب الأحكام 2: 344.
4- وسائل الشيعة 12: 302.

وكون النّسبة بينه وبين بعضها عموماً من وجه، لا يمنعُ عن تخصيصه بها بعد الإجماع على عدم التفصيل بين مواردها، مع لزوم قلّة الموارد لها

___________________________________________

فمثلاً: قاعدة التجاوز تحكم بإتيان ما شكّ فيه والاستصحاب يحكم بالعدم، ومن المعلوم أنّ الاستصحاب أعمّ؛ لأنّه يجري في كلّ مورد، سواء كان من موارد التجاوز أم لا، بخلاف التجاوز فإنّ لها موارد خاصّة، ومن المعلوم أنّ الخاصّ مقدّم على العام.

{و} إن قلت: هذا صحيح بالنسبة إلى القواعد الّتي هي أخصّ من الاستصحاب، لكنّه لا يصحّ بالنسبة إلى ما تكون النّسبة بينها وبين الاستصحابعموماً من وجه كأصل الصّحّة، فإنّ بعض موارد الاستصحاب ليس مورد أصل الصّحّة، كاستصحاب عدم البلوغ، وبعض موارد الاستصحاب مورد أصل الصّحّة، كاستصحاب عدم إتيان الأجير بما يخلّ بالصلاة أو بالحجّ في ما شكّ في أنّه هل جاء بشيء زائد مفسد أم لا؟ وبعض موارد أصالة الصّحّة ليس مورداً للاستصحاب، كما لو شكّ في أنّ المخلّ الّذي وقع منه في حال الصّلاة هل هو مبطل كنقص الرّكوع أم لا كنقص القراءة؟ فإنّ أصالة الصّحّة حاكمة بصحّة الصّلاة مع عدم جريان الاستصحاب للتعارض - فتأمّل - فلم تقدّم على الاستصحاب؟!

قلت: {كون النّسبة بينه} أي: بين الاستصحاب {وبين بعضها عموماً من وجه} كالمثال {لا يمنع عن تخصيصه} أي: تخصيص الاستصحاب {بها} أي: بتلك القاعدة {بعد الإجماع على عدم التفصيل بين مواردها} فإنّ الإجماع قام على أنّ هذه الأصول مقدّمة على الاستصحاب، من غير فصل بين ما كان منها أخصّ مطلقاً من الاستصحاب، وما كان منها أخصّ من وجه من الاستصحاب.

{مع} أنّ لنا أن نجيب بجواب آخر، وهو {لزوم قلّة الموارد لها} أي: لهذه

ص: 244

جدّاً، لو قيل بتخصيصها بدليلها؛ إذ قلّ مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها، كما لا يخفى.

وأمّا القرعة: فالاستصحاب في موردها يقدّم عليها؛ لأخصيّة دليله من دليلها؛ لاعتبار سبق الحالة السّابقة فيه دونها.

واختصاصُها بغير الأحكام إجماعاً، لا يوجب الخصوصيّة في دليلها بعد عموم لفظهالها،

___________________________________________

الأصول {جدّاً لو قيل بتخصيصها بدليلها، إذ قلّ مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها} فيبعد أن يكون الشّارع أطلق القاعدة لتلك الموارد القليلة جدّاً {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

هذا كلّه في النّسبة بين الاستصحاب وبين القواعد المذكورة {وأمّا القرعة} بأن كان هناك أمر مشتبه كان مقتضى الاستصحاب فيه شيئاً {ف-} هل يستصحب من دون إقراع أو يقرع ولا يستصحب؟ لا إشكال في أنّ {الاستصحاب في موردها} أي: مورد القرعة {يقدّم عليها لأخصيّة دليله} أي: دليل الاستصحاب {من دليلها لاعتبار سبق الحالة السّابقة فيه} أي: في الاستصحاب {دونها} أي: دون القرعة.

{و} إن قلت: بينهما عموم من وجه؛ لأنّ القرعة أخصّ من حيث جريانها في الموضوعات فقط، وأعمّ من حيث وجود الحالة السّابقة لها أم لا، والاستصحاب بالعكس، فهو أعمّ من حيث الأحكام والموضوعات، وأخصّ من حيث لزوم الحالة السّابقة له، ففي الموضوع مع الحالة السّابقة يجتمعان، وتختصّ القرعة بالموضوع ممّا ليس له حالة سابقة، ويختصّ الاستصحاب بالحكم الّذي له حالة سابقة.

قلت: {اختصاصها} أي: القرعة {بغير الأحكام إجماعاً} فلا تجري إلّا في الموضوعات {لا يوجب الخصوصيّة في دليلها} أي: دليل القرعة حتّى يكون أخصّ من دليل الاستصحاب {بعدم عموم لفظها} أي: لفظ القرعة {لها} أي: للأحكام.

ص: 245

هذا.

مضافاً إلى وهن دليلها بكثرة تخصيصه،حتّى صار العمل به في مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل المعظم - كما قيل(1)

- وقوّة دليله بقلّة تخصيصه بخصوص دليل.

لا يقال: كيف يجوز تخصيص دليلها بدليله؟ وقد كان دليلها رافعاً لموضوع دليله، لا لحكمه،

___________________________________________

والحاصل: أنّ كلّاً من دليل القرعة ودليل الاستصحاب شامل للأحكام والموضوعات إلّا أنّه خصّص دليل القرعة من الخارج، وهذا لا يوجب انقلاب النّسبة كما يأتي - إن شاء اللّه تعالى - من أنّ النّسبة إنّما تلاحظ بالنّظر إلى اللفظ المجرّد، لا بملاحظة تخصيصاته الخارجيّة.

{هذا مضافاً إلى} أنّ القرعة لا تتمكّن من معارضة الاستصحاب، ل- {وهن دليلها بكثرة تخصيصه} حتّى لم يبق لها ظهور قوي يعارض ظهور دليل الاستصحاب {حتّى صار العمل به} أي: بدليل القرعة {في مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل المعظم} من الأصحاب بها {كما قيل} بل هو المشهور وخاصّة بين المتأخّرين، فلا يعملون بالقرعة في كلّ مورد مشتبه {وقوّة دليله} أي: دليل الاستصحاب {ب-} سبب {قلّة تخصيصه بخصوص دليل} أي: إنّ الاستصحاب لم يخصّص إلّا بأدلّة قليلة، كدليل اليد والصّحّة والفراغ والتجاوز ونحوها.

{لا يقال}: لا مجال لدليل الاستصحاب مع وجود القرعة، إذ القرعة حجّة ومهما وجدت الحجّة لا يكون من نقض اليقين بالشكّ، بل من نقض اليقين باليقين، كسائر الأمارات الّتي تقدّم على الاستصحاب، ف- {كيف يجوز تخصيص دليلها} أي: دليل القرعة {بدليله} أي:بدليل الاستصحاب {و} الحال أنّه {قد كان دليلها رافعاً لموضوع دليله لا لحكمه} فإنّ القرعة دليل لا يبقى معه شكّ، لا أنّ

ص: 246


1- الفصول الغرويّة: 362.

وموجباً لكون اليقين باليقين بالحجّة على خلافه، كما هو الحال بينه وبين أدلّة سائر الأمارات، فيكون - هاهنا أيضاً - من دوران الأمر بين التخصيص - بلا وجه غير دائر - والتخصّص.

فإنّه يقال: ليس الأمر كذلك؛ فإنّ المشكوك ممّا كانت له حالة سابقة، وإن كان من المشكل والمجهول والمشتبه(1)

- بعنوانه الواقعي -

___________________________________________

الشّكّ باقٍ ونريد تخصيص دليل الاستصحاب به {وموجباً} عطف على «رافعاً» {لكون} نقض {اليقين} السّابق {باليقين بالحجّة} الّتي هي القرعة {على خلافه} أي: خلاف اليقين السّابق {كما هو الحال بينه} أي: بين دليل الاستصحاب {وبين أدلّة سائر الأمارات} الّتي ترفع موضوع الاستصحاب من رأس {فيكون هاهنا أيضاً} كسائر الأمارات {من دوران الأمر بين التخصيص بلا وجه دائر} إذا قدّمنا الاستصحاب {والتخصّص} إذا قدّمنا القرعة، وذلك بعين التقرير الّذي ذكر في وجه تقديم الأمارات على الاستصحاب، فإنّ بعض أدلّة القرعة دالّة على أنّها أمارة كقوله(علیه

السلام): «ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه ثمّ اقترعوا إلّا خرج سهمالمحقّ»(2).

{فإنّه يقال}: الأمر بالعكس، فإنّ دليل الاستصحاب رافع لموضوع دليل القرعة، إذ دليل القرعة يقول: إنّها لكلّ أمر مشكل غير معلوم الحكم، ودليل الاستصحاب يقول: إنّ المورد غير مشكل، وحكمه معلوم، وهو الأخذ بالحالة السّابقة، ف- {ليس الأمر كذلك} الّذي ذكرتم من أنّ دليل القرعة يرفع موضوع الاستصحاب {فإنّ المشكوك ممّا كانت له حالة سابقة} كالماء المشكوك طهارته الّذي كان سابقاً طاهراً {وإن كان من المشكل والمجهول والمشتبه - بعنوانه الواقعي -}

ص: 247


1- تهذيب الأحكام 9: 258 «مشكوك فيه»؛ وسائل الشيعة 26: 280 «المشتبه»؛ مستدرك الوسائل 4: 80 «المجهول» و 17: 374 «الملتبس»؛ هداية الأمّة إلى أحكام الأئمة 8: 348 «المشكل».
2- تهذيب الأحكام 6: 238؛ وسائل الشيعة 27: 257.

إلّا أنّه ليس منها بعنوان ما طرأ عليه من نقض اليقين بالشكّ، والظاهرُ من دليل القرعة أن يكون منها بقول مطلق، لا في الجملة، فدليل الاستصحاب الدالّ على حرمة النّقض - الصّادق عليه حقيقة - ، رافع لموضوعه أيضاً، فافهم.

فلا بأس برفع اليد عن دليلها عند دوران الأمر بينه وبين رفع اليد عن دليله؛ لوهن عمومها وقوّة عمومه، كما أشرنا إليه آنفاً.

والحمد للّه أوّلاً وآخراً، وصلّى اللّه على محمّد وآله باطناً وظاهراً.

___________________________________________

إذ لا نعلم أنّه طاهر واقعاً أو نجس {إلّا أنّه ليس منها} أي: من هذه العناوين الثلاثة {بعنوان ما طرأ عليه من نقض اليقين بالشكّ} فإنّ هذا العنوان الطّارئ يخرجه عن المجهول؛ لأنّهيحكم عليه بأنّه كحالته السّابقة، فهو طاهر ظاهراً.

{والظاهر من دليل القرعة} الحاكم بأنّها لكلّ مجهول {أن يكون} الشّيء {منها} أي: من المجهول والمشكل والمشتبه {بقول مطلق} ظاهراً وواقعاً {لا} واقعاً فقط {في الجملة} لأنّه الظاهر من إطلاق دليلها.

{فدليل الاستصحاب الدالّ على حرمة النّقض الصّادق عليه} أي: على هذا المورد المشتبه {حقيقةً} قيد للصادق {رافع لموضوعه} أي: موضوع دليل القرعة {أيضاً} كما يرفع موضوعه سائر أدلّة القواعد والأمارات، مع أنّ تلك القواعد أيضاً ظاهريّة ولا ترفع الجهل بالواقع، فكما أنّه لو شكّ في شيء كانت قاعدة اليد جارية لتقدّم هذه القاعدة على القرعة، مع أنّها قاعدة ظاهريّة، كذلك يقدّم الاستصحاب عليها {فافهم، فلا بأس برفع اليد عن دليلها عند دوران الأمر بينه} أي: بين رفع اليد عن دليلها {وبين رفع اليد عن دليله} أي: دليل الاستصحاب {لوهن عمومها} أي: عموم القرعة {وقوّة عمومه} أي: عموم الاستصحاب {كما أشرنا إليه آنفاً} قبل سطر.

{والحمد للّه أوّلاً وآخراً، وصلّى اللّه على محمّد وآله باطناً وظاهراً} سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 248

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات

اشارة

ص: 249

ص: 250

بسم اللّه الرحمن الرحيم

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات

فصل: التّعارض هو: «تنافي الدليلين أو الأدلّة - بحسب الدلالة ومقام الإثبات - على وجه التناقض أو التضادّ حقيقة، أو عرضاً، بأن عُلم بكذب أحدهما إجمالاً، مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً».

___________________________________________

{بسم اللّه الرّحمن الرّحيم}

[المقصد الثّامن في تعارض الأدلّة والأمارات]

{المقصد الثّامن} من مقاصد الكتاب {في تعارض الأدلّة والأمارات}.

[فصل ضابط التعارض]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، ضابط التعارض

{فصل: التعارض} في اصطلاح الأصوليّين {هو «تنافي الدليلين أو الأدلّة} كما لو وقع التنافي بين ثلاثة أدلّةٍ قال أحدها بالوجوب، والآخر بالتحريم، والثّالث بالإباحة {بحسب الدلالة ومقام الإثبات} لا في مقام الثبوت والواقع، إذ مضافاً إلى أنّه لا يقع هناك تنافٍ أنّ الكلام الآن في مقتضيات الأدلّة والألفاظ {على وجه التناقض} كما دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على عدم الوجوب {أو التضاد} كما لو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على التحريم {حقيقةً} كالأمثلة المتقدّمة، فإنّه لا يعقل اجتماع الوجوب مع اللّاوجوب أومع التحريم {أو عرضاً} أي: تنافياً عرضيّاً {بأن علم بكذب أحدهما إجمالاً مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً»} كما لو دلّ دليل على أنّه لا يملك الأب، ودلّ دليل آخر على أنّه يصحّ

ص: 251

وعليه، فلا تعارض بينهما بمجرّد تنافي مدلولهما، إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة، بأن يكون أحدهما قد سيق ناظراً إلى بيان كميّة ما أُريد من الآخر، مقدّماً كان أو مؤخّراً.

أو كانا

___________________________________________

عتق الأب، ودلّ دليل ثالث على أنّه لا عتق إلّا في ملك، فإنّ الدليلين الأوّلين ليس بينهما تنافٍ أصلاً.

أمّا حيث علمنا بأنّه لا يصحّ العتق إلّا في ملك كان اللّازم كذب أحدهما: إمّا صحّة عتق الأب، وإمّا إنّه لا يملك الأب، وكذا إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعة وآخر على وجوب الظهر يومها، فإنّه لا تنافي بينهما، أمّا حيث علمنا بأنّه لا تشرع صلاتان في يوم واحد وقع التنافي بين الدليلين.

{وعليه} أي: بناءً على ما ذكرنا من كون التعارض هو التنافي تناقضاً أو تضادّاً {فلا تعارض بينهما} أي: بين الدليلين {بمجرّد تنافي مدلولهما} بدواً {إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة} وذلك {بأن يكون أحدهما قد سيق ناظراً إلى بيان كميّة ما أُريد من الآخر} كما لو قال: «إذا شككت فابن على الأكثر»(1) ثمّ قال: (لا شكّ لكثير الشّكّ)(2) فإنّ الثّاني حاكم على الأوّل، وقدسيق ناظراً إلى كميّة ذاك؛ لأنّ الأوّل يشمل كلّ شكّ، فالثّاني يخرج بعض أقسام الشّكّ عن تحته، سواء {مقدّماً كان} الحاكم {أو مؤخّراً} إذ الحاكم ما له صلاحيّة النّظر والتفسير وإن أتى المنظور إليه والمفسّر بعداً، خلافاً لما يظهر من الشّيخ(رحمة الله) من اعتبار تقدّم المحكوم عليه على الحاكم.

{أو كانا} عطف على قوله: «إذا كان» أي: كان المتنافيان - بدواً -

ص: 252


1- الفصول المهمة في أصول الأئمة 2: 115.
2- راجع وسائل الشيعة 8: 227.

على نحو إذا عُرِضا على العرف وفّق بينهما بالتصرّف في خصوص أحدهما، كما هو مطّرد في مثل الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوليّة، مع مثل الأدلّة النّافية للعسر والحرج والضّرر والإكراه والاضطرار، ممّا يتكفّل لأحكامها بعناوينها الثانويّة حيث يقدّم في مثلهما الأدلّة النّافية ولا تلاحظ النّسبة بينهما أصلاً، ويتفق في غيرهما، كما لا يخفى.

___________________________________________

{على نحو إذا عُرِضا على العرف وفّق بينهما} بأحد نحوين: إمّا {بالتصرّف في خصوص أحدهما، كما هو} أي: التصرّف في أحدهما {مطّرد في مثل الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوليّة} نحو (الصّلاة الكاملة واجبة، العقد لازم، الخمر حرام) {مع مثل الأدلّة النّافية للعسر والحرج والضّرر والإكراه والاضطرار} والخطأ والنّسيان {ممّا يتكفّل لأحكامها} أي: أحكام الموضوعات {بعناوينها الثانويّة} أي: بعنوان كونها عسرة أو مضطرّاً إليها، فالصلاة الكاملة إذا صارت عسرة، والعقد إذا كان ضرريّاً، والخمر إذا صارت مضطرّاً إليها، لا تجب ولا يلزم ولا تحرم {حيث يقدّمفي مثلهما} أي: مثل هذين المتنافيين، أي: الأدلّة المتكفّلة للعناوين الأوّليّة والأدلّة المتكفّلة للعناوين الثانويّة {الأدلّة النّافية} للتكليف أو للوضع {ولا تلاحظ النّسبة بينهما أصلاً} فلا يقال: إنّ بين حرمة الضّرر وبين الضّرر عموماً من وجه، فاللّازم ملاحظة الترجيح بينهما في مورد الاجتماع.

{ويتّفق} بين الدليلين المتنافيين ظاهراً {في غيرهما} أي:غير المتكفّلة للأحكام بعناوينها الأوليّة وعناوينها الثانويّة {كما لا يخفى} فيقدّم الخاصّ على العامّ في نحو (أكرم العلماء ولا تكرم زيداً)، والمقيّد على المطلق في (أعتق رقبة ولا تكون الرّقبة كافرة)، والمبيّن على المجمل في {فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا}(1) و{أَنَّ

ص: 253


1- سورة المائدة، الآية: 38.

أو بالتصرّف فيهما، فيكون مجموعهما قرينة على التصرّف فيهما، أو في أحدهما المعيّن لو كان الآخر أظهر.

ولذلك تقدّم الأمارات المعتبرة على الأصول الشّرعيّة؛ فإنّه لا يكاد يتحيّر أهل العرف في تقديمها عليها

___________________________________________

ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ}(1)، والنّصّ على الظاهر في (اغتسل للجمعة) و(لا بأس بترك غسل الجمعة) وهكذا.

{أو بالتصرّف فيهما} عطف على قوله: «بالتصرّف في خصوص»، أي: يتصرّف في الدليلين الظاهر تنافيهما {فيكون مجموعهما قرينة على التصرّف فيهما} كما لو قال: (افعل) ثمّ قال: (لا تفعل)، فيحمل الأوّل على الاستحباب والثّاني على نفيالإلزام، أو كما لو قال: «ثمن العذرة سحت»(2) وقال: «لا بأس ببيع العذرة»(3) حيث يحمل الأوّل على عذرة الإنسان، والثّاني على عذرة غيره.

{أو} بالتصرّف {في أحدهما المعيّن لو كان الآخر أظهر} نحو (أكرم العلماء) و(لا يحبّ اللّه الفاسق) فإنّه وإن كان بينهما عموم من وجه إلّا أنّ الثّاني أظهر في مفاده من الأوّل فيتصرّف في الأوّل بقرينة الثّاني.

وقد يقال: إنّ هذا المثال ونحوه إنّما هو لقوله: «ويتّفق في غيرهما» ومثال الخاص والعامّ... الخ، إنّما هو لقوله: «أو في أحدهما»، ولا يبعد أن يكون هذا أقرب إلى ظاهر اللفظ {ولذلك} الجمع العرفي {تقدّم الأمارات المعتبرة على الأصول الشّرعيّة} فتقدّم الأخبار على البراءة والاحتياط والتخيير مثلاً {فإنّه لا يكاد يتحيّر أهل العرف في تقديمها} أي: الأمارات {عليها} أي: على الأصول

ص: 254


1- سورة الجن، الآية: 18.
2- تهذيب الأحكام 6: 372، وفيه: «ثمن العذرة من السحت».
3- تهذيب الأحكام 6: 372.

بعد ملاحظتهما، حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلاً. بخلاف العكس، فإنّه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجه، أو بوجه دائرٍ، كما أشرنا إليه.

وليس وجه تقديمها حكومتها على أدلّتها؛ لعدم كونها ناظرة إلى أدلّتها بوجه.

___________________________________________

{بعد ملاحظتهما} وأنّ الخبر الواحد حاكٍ عن الواقع، والبراءة إنّما تجرى في زمان الجهل بالواقع {حيث لا يلزم منه} أي: من تقديمالأمارة على الأصل {محذور تخصيص أصلاً} بل هو عدم الحكم بالبراءة، مثلاً، لعدم الموضوع لها الّذي هو الجهل بالواقع {بخلاف العكس} الّذي هو تقديم الأصل على الأمارة {فإنّه يلزم منه} أحد {محذور} ين:

{التخصيص بلا وجه} بأن نقول: دليل الخبر القائل بأنّ: (كلّ خبر حجّة) مخصّص بدليل الأصل القائل: «رفع ما لا يعلمون»(1).

{أو} التّخصيص {بوجه دائر} إذ يتوقّف تخصيص الأمارات بالأصول على اعتبار الشّارع الأصول مطلقاً حتّى في مورد الأمارات، واعتبار الشّارع الأصول مطلقاً يتوقّف على تخصيص الأمارات بها ولا يلزم من العكس ذلك، إذ تقديم الأمارة على الأصل لوجود موضوع الأمارة دون الأصل، إذ مع وجود الأمارة لا جهل بالواقع حتّى يتحقّق موضوع الأصل {كما أشرنا إليه} في أواخر الاستصحاب.

{وليس وجه تقديمها} أي: الأمارات على الأصول {حكومتها} أي: حكومة الأمارات {على أدلّتها} أي: أدلّة الأصول؛ لأنّ الشّرط في الحكومة أن يكون الحاكم ناظراً إلى دليل المحكوم، وليس هنا كذلك {لعدم كونها} أي: الأمارات {ناظرة إلى أدلّتها بوجه} فإنّ (صدّق العادل) الّذي هو دليل الأمارة ليس بناظر إلى «رفع ما لا يعلمون» الّذي هو دليل الأصل.

ص: 255


1- الخصال 2: 417.

وتعرّضها لبيان حكم موردها لا يوجب كونها ناظرة إلى أدلّتها وشارحة لها، وإلّا كانت أدلّتها أيضاً دالّة - ولو بالالتزام - على أنّ حكم مورد الاجتماع فعلاً هو مقتضى الأصل لا الأمارة، وهومستلزم عقلاً نفي ما هو قضيّة الأمارة، بل ليس مقتضى حجيّتها إلّا نفي ما قضيّته عقلاً من دون دلالة عليه لفظاً؛ ضرورة أنّ نفس الأمارة لا دلالة له إلّا على الحكم الواقعي،

___________________________________________

{و} إن قلت: كيف لا تكون أدلّة الأمارات ناظرة إلى الأصول والحال أنّ الأمارات طاردة للأصل؟

قلت: إنّ كلّ دليلين متنافيين لا بدّ وأن يكون لازم كلّ نفي الآخر، وليس ذلك من النّظر في شيء وإلّا لزم القول بحكومة الأصول على الأمارات أيضاً؛ لأنّ الأصول أيضاً لازمها نفي الأمارة، ف- {تعرّضها} أي: الأمارات {لبيان حكم موردها} أي: الأصول {لا يوجب كونها} أي: الأمارات {ناظرة إلى أدلّتها} أي: الأصول {وشارحة لها، وإلّا كانت أدلّتها} أي: الأصول {أيضاً دالّة - ولو بالالتزام - على أنّ حكم مورد الاجتماع} بين دليلي الأصل والأمارة {فعلاً هو مقتضى الأصل لا الأمارة، وهو} أي: كون مورد الاجتماع مقتضى الأصل {مستلزم عقلاً نفي ما هو قضيّة الأمارة} لأنّه لو قيل بمقتضى الأصل وأنّ المشكوك - مثلاً - حلال كان لازمه طرد الأمارة القائلة بأنّه حرام - مثلاً - .

{بل ليس مقتضى حجيّتها} أي: حجيّة الأمارة {إلّا نفي ما قضيّته} أي: نفي الحكم الّذي هو قضيّة الأصل {عقلاً} لأنّه لا يجتمع هذا وذاك {من دون دلالة} للأمارة {عليه} أي: على نفي مقتضى الأصل {لفظاً} حتّى يكون دليلها ناظراً إلى أدلّة الأصول ويكون حاكماً عليها، وذلك ل- {ضرورة أنّ نفس الأمارة لا دلالةله إلّا على الحكم الواقعي} فخبر الواحد القائم على حرمة الغراب - مثلاً - لا دلالة له إلّا على التحريم الواقعي.

ص: 256

وقضيّة حجيّتها ليست إلّا لزوم العمل على وفقها شرعاً، المنافي عقلاً للزوم العمل على خلافه، وهو قضيّة الأصل، هذا.

مع احتمال أن يقال: إنّه ليس قضيّة الحجيّة شرعاً إلّا لزوم العمل على وفق الحجّة عقلاً، وتنجّز الواقع مع المصادفة، وعدم تنجّزه في صورة المخالفة.

___________________________________________

{وقضيّة حجيّتها} أي: حجيّة هذه الأمارة {ليست إلّا لزوم العمل على وفقها شرعاً} بالاجتناب عن لحم الغراب {المنافي عقلاً للزوم العمل على خلافه} فلا يعمل على خلاف التحريم {وهو} أي: الخلاف {قضيّة الأصل} لأنّ الأصل يقول: «كلّ شيء لك حلال».

فتحصّل أنّه لا نظر للأمارة إلى الأصل، وإنّما لازمها نفي الأصل، وليس هذا بحكومة اصطلاحيّة، فالقول بحكومة الأمارات على الأصول لا وجه له.

{هذا} كلّه تقريب عدم الحكومة بناءً على أن يكون جعل الأمارات جعلاً للأحكام في مؤدّياتها - كما هو المشهور - {مع احتمال أن يقال: إنّه} ليس معنى جعل الأمارة جعل الحكم الظاهري في مؤدّاها، بل معنى الجعل ليس إلّا جعل الحجيّة، بمعنى أنّ الشّارع جعل خبر الواحد منجّزاً لدى الإصابة ومعذّراً لدى الخطأ بدون إنشاء حكم في مؤدّاه أصلاً - كما اختاره المصنّف -، وعلى هذا فعدم حكومة الأمارة على الأصل أوضح، إذ ليس معنى الجعل إلّا إعطاء الحجيّة.

ومن المعلوم أنّ معنى «هذا منجّز ومعذّر» ليس ناظراً إلى «رفع ما لايعلمون» ف- {ليس قضيّة الحجيّة} للأمارة {شرعاً إلّا لزوم العمل على وفق الحجّة عقلاً} وأنّ العقل يرى التنجيز والإعذار لدى إعطاء الشّارع الحجيّة لشيء {و} أنّه ليس إلّا {تنجّز الواقع مع المصادفة} للواقع {وعدم تنجّزه في صورة المخالفة} وأين هذا المعنى من الحكومة والنّظر إلى الأصول كما قيل؟

ص: 257

وكيف كان، ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبّداً كي يختلف الحال، ويكون مفاده في الأمارة نفي حكم الأصل، حيث إنّه حكم الاحتمال؛ بخلاف مفاده فيه؛ لأجل أنّ الحكم الواقعي ليس حكم احتمال خلافه، كيف؟ وهو حكم الشّكّ فيه واحتماله. فافهم وتأمّل جيّداً.

___________________________________________

{وكيف كان} معنى جعل الأمارة جعل الحكم أو جعل الحجيّة ف- {ليس مفاد دليل الاعتبار} كما ذكره الشّيخ(رحمة الله)(1) - في بيان حكومة الأمارة على الأصل - بما حاصله: أنّ معنى (صدّق العادل) الغ احتمال الخلاف، فيكون ناظراً إلى الخلاف الّذي يذكره الأصل.

مثلاً: لو قام خبر الواحد على حرمة شرب التتن كان معناه الغ احتمال الحليّة، والحليّة هي مفاد الأصل القائل بأنّ: «كلّ شيء لك حلال» لكنّه غير تامّ، إذ ليس مفاد (صدّق) {هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبّداً كي يختلف الحال} في مفاد الأمارة ومفاد الأصل {ويكون مفاده} أي: مفاد دليل الاعتبار {في الأمارة نفيحكم الأصل، حيث إنّه} أي: حكم الأصل {حكم الاحتمال} الّذي قال دليل الأمارة (الغه) {بخلاف مفاده} أي: مفاد دليل الاعتبار {فيه} أي: في الأصل، فمعنى «رفع ما لا يعلمون» ليس (الغ احتمال الخلاف) فيقال: إنّ الحكم المستفاد من دليل الأمارة احتمال الخلاف أيضاً {لأجل أنّ الحكم الواقعي} الّذي هو مفاد الأمارة {ليس حكم احتمال خلافه} أي: خلاف الأصل.

و{كيف} يكون الحكم الواقعي حكم احتمال خلاف الأصل {وهو} أي: حكم الأصل {حكم الشّكّ فيه} أي: في الحكم الواقعي {واحتماله} أي: احتمال الحكم الواقعي {فافهم وتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك الأمر.

ص: 258


1- فرائد الأصول 3: 315.

فانقدح بذلك: أنّه لا يكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الأصل والأمارة إلّا بما أشرنا سابقاً وآنفاً، فلا تغفل. هذا.

ولا تعارض أيضاً إذا كان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر، كما في الظاهر مع النّصّ أو الأظهر، مثل العام والخاص والمطلق والمقيّد، أو مثلهما ممّا كان أحدهما نصّاً أو أظهر؛ حيث إنّ بناء العرف على كون النّصّ أو الأظهر قرينة على التصرّف في الآخر.

وبالجملة: الأدلّة في هذه الصّور

___________________________________________

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من الجمع العرفي - لا الحكومة - {أنّه لا يكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الأصل والأمارة إلّا بما أشرنا سابقاً وآنفاً} من أنّ العرف يرى ذلك وأنّه لو خصّصتالأمارة بالأصل لكان تخصيصاً بلا وجه أو بوجه دائر {فلا تغفل}.

{هذا و} قد تبيّن سابقاً أيضاً أنّه {لا تعارض أيضاً} كما لا تعارض بين الأصل والأمارة {إذا كان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر كما في الظاهر مع النّصّ} فإنّ النّصّ قرينة على التصرّف في الظاهر، مثل «زر الحسين(علیه السلام)»(1)

و(لا بأس بترك الزيارة) {أو} الظاهر مع {الأظهر} نحو (رأيت أسداً يرمي) حيث إنّ (يرمي) أظهر في مفاده الّذي هو رمي السّهم من رمي الحجارة الملائم مع الحيوان المفترس، من ظهور الأسد في معناه الّذي هو الحيوان المفترس {مثل العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد} فالخاص والمقيّد نصّان غالباً، فيرفع بهما ظهور العام والمطلق {أو مثلهما ممّا كان أحدهما نصّاً أو أظهر، حيث إنّ بناء العرف على كون النّصّ أو الأظهر قرينة على التصرّف في الآخر} الّذي هو الظاهر.

{وبالجملة الأدلّة في هذه الصّور} الّتي بينها حكومة أو جمع عرفيّ أو ما

ص: 259


1- وسائل الشيعة 14: 441.

- وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها - إلّا أنّها غير متعارضة؛ لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الإثبات، بحيث تبقى أبناء المحاورة متحيّرة، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها، يتصرّف في الجميع أو في البعض عرفاً، بما ترتفع به المنافاة الّتي تكون في البين.

___________________________________________

أشبههما {- وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها - إلّا أنّها غير متعارضة، لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الإثبات} واللفظ {بحيث تبقى أبناء المحاورة متحيّرة} لا يدرون أيّها المقدّم وأيّها المؤخّر {بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرّف في الجميع} كما في مثال (افعل) و(لا تفعل) {أو في البعض} كما في مثال (اغتسل) و(لا بأس بترك الغسل) {عرفاً بما ترتفع به المنافاة الّتي تكون في البين} بدواً.

ثمّ إنّ الحديث لا بدّ أن يكمل فيه أُمور ثلاثة حتّى يحكم به:

الأوّل: السّند، بأن يكون حجّة معتبرة عند الشّارع، ولا فرق في الحجّة بين القطعيّة والظنيّة.

الثّاني: الدلالة، بأن يكون للفظ ظهور في المعنى عرفاً، فلا يكون مجمولاً.

الثّالث: جهة الصّدور، بأن يكون صدور الحديث لبيان الحكم الواقعي لا للتقيّة ونحوها. فإذا تمّت هذه الجهات الثلاث أُخذ بالحديث.

ثمّ لدى التعارض لا بدّ وأن يقدّم الأمر الثّالث على الأمر الثّاني والأمر الأوّل، فإذا كان هناك حديثان: أحدهما قطعيّ السّند، منصوص الدلالة، والآخر ظنّيّ السّند، ظاهر الدلالة، لكن كان القطعي للتقيّة والظنّي لبيان الحكم الواقعي، قدّم هذا على ذاك؛ لأنّه حجّة صدر لبيان الحكم الواقعي، والأوّل - وإن كان أقوى سنداً ودلالة - لكنّه ليس لبيان الحكم الواقعي حتّى يؤخذ به، كما أنّه لا بدّ أن يقدّم الأمر الثّاني على الأمر الأوّل حال التعارض، فإذا كان هناك حديثان:

ص: 260

ولا فرق فيها بين أن يكون السّند فيها قطعيّاً، أو ظنيّاً، أو مختلفاً، فيقدّمالنّصّ أو الأظهر - وإن كان بحسب السّند ظنيّاً - على الظاهر، ولو كان بحسبه قطعيّاً.

وإنّما يكون التعارض في غير هذه الصّور، ممّا كان التنافي فيه بين الأدلّة بحسب الدلالة ومرحلة الإثبات.

وإنّما يكون التعارض بحسب السّند، في ما إذا كان كلّ واحد منها قطعيّاً دلالة وجهة، أو ظنيّاً

___________________________________________

أحدهما قطعيّ السّند، ظاهر الدلالة، والآخر ظنّيّ السّند، نصّ الدلالة، جمع بينهما بحمل الظاهر على النّصّ وإن كان سند الظاهر قطعيّاً وسند النّصّ ظنيّاً، وذلك لأنّ المعيار - بعد حجيّة كليهما - الأقوى دلالة، والنّصّ أقوى دلالة.

{و} على هذا ف- {لا فرق فيها} أي: في الصّور الّتي حكمنا بالجمع بحمل الظاهر على الأظهر أو النّصّ {بين أن يكون السّند فيها} أي: في المتعارضات {قطعيّاً أو ظنيّاً} ظنّاً معتبراً {أو مختلفاً} بعضها ظنّيّ وبعضها قطعيّ {فيقدّم النّصّ أو الأظهر - وإن كان بحسب السّند ظنيّاً - على الظاهر ولو كان} الظاهر {بحسبه} أي: بحسب السّند {قطعيّاً} وذلك لأنّه ليس تعارض بحسب السّند حتّى يقدّم الأقوى سنداً {وإنّما يكون التعارض في غير هذه الصّور} أي: غير الصّور الّتي فيها جمع عرفي {ممّا كان التنافي فيه} الضّمير عائد إلى «ما» {بين الأدلّة بحسب الدلالة ومرحلة الإثبات} كما لو قال أحدهما: (يحرم بيع الميتة) وقال الآخر: (يجوز) ممّا ليس لهما جمع عرفي.

والحاصل: أنّك قد عرفت أنّ بعض الصّور لا تعارض فيه لا من حيث الدلالةولا من حيث السّند، وإنّ بعض الصّور فيه تعارض من حيث الدلالة {وإنّما يكون التعارض بحسب السند في ما إذا كان كلّ واحد منها قطعيّاً دلالة} بأن كانا نصّين {وجهة} بأن صدرا لبيان الحكم الواقعي لا للتقيّة {أو ظنيّاً} دلالةً وجهةً،

ص: 261

في ما إذا لم يمكن التوفيق بينها، بالتصرّف في البعض أو الكلّ، فإنّه حينئذٍ لا معنى للتعبّد بالسند في الكلّ؛ إمّا للعلم بكذب أحدهما، أو لأجل أنّه لا معنى للتعبّد بصدورها مع إجمالها، فيقع التعارض بين أدلّة السّند حينئذٍ، كما لا يخفى.

___________________________________________

ظنّاً معتبراً {في ما إذا لم يمكن التوفيق بينها} أي: بين هذه المتعارضات {بالتصرّف في البعض أو الكلّ، فإنّه حينئذٍ} يقع التعارض {لا معنى للتعبّد بالسند في الكلّ إمّا للعلم بكذب أحدهما} إذ لا يمكن أن يصدر حكمان واقعيّان متعارضان من الإمام(علیه السلام)، فلا بدّ وأن يكون أحد السّندين خطاءً. وقوله: «إمّا للعلم» راجع إلى صورة كون كلّ واحد منهما قطعيّاً.

ولا يقال: كيف يجمع بين قطعيّة السّند والدلالة والعلم بالكذب؟

لأنّا نقول: المراد من قطعيّة السّند والدلالة كون كلّ واحد في نفسه كذلك، كما لو أخبر بكلّ واحد من الخبرين أُناس متواترون، بحيث لو كان هذا الخبر وحده لكان قطعيّاً.

والحاصل: أنّ المراد بالقطعيّة القطعيّة الشّأنيّة لا القطعيّة الفعليّة.{أو لأجل أنّه لا معنى للتعبّد بصدورها} أي: لا معنى لأن يعبّدنا الشّارع بأنّ هذه الأخبار كلّها حجّة وصادرة {مع إجمالها} النّاشئ من تعارضها.

وقوله: «أو لأجل» راجع إلى صورة كون كلّ واحد منهما ظنيّاً، إذ في صورة الظنيّة لا بدّ وأن يعبّدنا الشّارع بها لعدم حجيّتها في نفسها، فإذا كانا ظنّيي السّند - سواء كانا قطعيي الدلالة أو ظنّييها - لا يمكن الاعتماد عليهما معاً {فيقع التعارض بين أدلّة السّند حينئذٍ} فيعارض أصالة حجيّة هذا - سنداً - أصالة حجيّة ذاك - سنداً - {كما لا يخفى} إذ لا يمكن حجيّة كليهما، فيأتي دور المرجّحات أو التخيير.

ص: 262

فصل: التعارض وإن كان لا يوجب إلّا سقوط أحد المتعارضين عن الحجيّة رأساً؛ - حيث لا يوجب إلّا العلم بكذب أحدهما، فلا يكون هناك مانع عن حجيّة الآخر - ، إلّا أنّه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعاً، - فإنّه لم يعلم كذبه إلّا كذلك، واحتمال كون كلّ منهما كاذباً - ،

___________________________________________

[فصل مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين

{فصل} في بيان أنّ التعارض موجب للتساقط أو لا؟ فنقول: قد اختلفوا في كون الأخبار حجّة من باب الطّريقيّة - بمعنى أنّه لا مصلحة في نفس الخبر وإنّما المصلحة في المؤدّى والواقع - أو أنّها حجّة من باب السّببيّة والموضوعيّة وأنّ المصلحة في نفس الخبر سواء طابق الواقع أم لا، وعلى فرض كونها حجّة من باب السّببيّة فهل أنّها حجّة مطلقاً سواء علمنا بكونها مخالفة للواقع أم لا، أم أنّها حجّة في صورة عدم علمنا بكونها مخالفة للواقع؟ فالاحتمالات ثلاثة.

إذا عرفت ذلك قلنا: إذا تعارض خبران فعلى القول بالطريقيّة لا بدّ من القولبسقوطهما للعلم الإجمالي بكذب أحدهما. نعم، يمكن نفي الثّالث بهما، فلو دلّ أحدهما على الحرمة لصلاة الجمعة والآخر على الوجوب نفيا الاستحباب؛ لأنّ الحجّة المجهولة بينهما نافية له، وعلى القول بالسببيّة المطلقة يكون الأمر من باب التزاحم ويأتي دور مرجّحات المتزاحمين من الأهميّة ونحوها، وعلى القول بالسببيّة في الجملة يتساقطان أيضاً. هذا خلاصة البحث.

إذا عرفت ذلك نقول: {التعارض وإن كان لا يوجب إلّا سقوط أحد المتعارضين عن الحجيّة رأساً} لا سقوط كليهما {- حيث لا يوجب} التعارض {إلّا العلم بكذب أحدهما، فلا يكون هناك مانع عن حجيّة الآخر - إلّا أنّه} أي: السّاقط عن الحجيّة {حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعاً، فإنّه لم يعلم كذبه إلّا كذلك} أي: مجملاً بينهما {واحتمال كون كلّ منهما كاذباً} كما هو مقتضى الاشتباه، وهذا عطف على

ص: 263

لم يكن واحد منهما بحجّة في خصوص مؤدّاه؛ لعدم التعيين في الحجّة أصلاً، كما لا يخفى.

نعم، يكون نفي الثّالث بأحدهما؛ لبقائه على الحجيّة وصلاحيّته - على ما هو عليه من عدم التعيّن - لذلك، لا بهما. هذا بناءً على حجيّة الأمارات من باب الطّريقيّة - كما هو كذلك - ؛ حيث لا يكاد يكون حجّة طريقاً إلّا ما احتمل إصابته،

___________________________________________

«لم يعلم» من عطف الجملة الاسميّة على الجملة الفعليّة {لم يكن واحد منهما بحجّة} هذا خبر قوله: «إلّا أنّه»، فإنّ كلّ واحد منهمايسقط عن الحجيّة {في خصوص مؤدّاه} ومعناه {لعدم التعيين في الحجّة أصلاً} فلا يمكن القول بالوجوب ولا القول بالحرمة - في مثال الجمعة - {كما لا يخفى}.

{نعم، يكون نفي} الحكم {الثّالث} كالاستحباب للجهل {بأحدهما} لأنّه سواء كان واجباً أو حراماً لم يكن بمستحبّ {لبقائه} أي: بقاء ذلك الواحد المردّد المجهول {على الحجيّة وصلاحيّته على ما هو عليه من عدم التعيّن لذلك} أي: إنّ الواحد الّذي هو حجّة واقعاً على ما هو عليه من عدم كونه معيّناً صالح لنفي الثّالث، إذ سواء كان التحريم واقعاً أو الإيجاب لم يكن مجال للاستحباب {لا بهما} عطف على «بأحدهما» مقابل القائل بأنّ نفي الثّالث بهما، بتقريب أنّ كلّ خبر له جهتان: إثبات نفيه، ونفي ما عداه، والمتعارضان إنّما يتعارضان في الجهة الأُولى، أمّا بالنسبة إلى نفي ما عداه ففي كلّ منهما صلاحيّة ذلك بالنسبة إلى الحكم الثّالث، فتدبّر.

و{هذا} الّذي ذكرناه من تساقط المتعارضين {بناءً على حجيّة الأمارات من باب الطّريقيّة} وأنّ المصلحة في المؤدّى فقط {كما هو كذلك} إذ أدلّة اعتبارها لم تدلّ على أكثر من ذلك {حيث لا يكاد يكون حجّة طريقاً إلّا ما احتمل إصابته} احتمالاً محضاً بدون معارضة، وإنّما قيّدنا بذلك لأنّ في كلّ من

ص: 264

فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما مانعاً عن حجيّته.

وأمّا بناءً على حجيّتها من باب السّببيّة، فكذلك لو كان الحجّة هو خصوص ما لم يعلم كذبه، بأن لا يكون المقتضي للسببيّة فيهاإلّا فيه، كما هو المتيقّن من دليل اعتبار غير السّند منها،

___________________________________________

المتعارضين أيضاً يحتمل الإصابة {فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما مانعاً عن حجيّته} أي: حجيّة كلّ واحد منهما.

{وأمّا بناءً على حجيّتها} أي: حجيّة الأمارات {من باب السّببيّة} وأنّ في نفس الأمارة مصلحة طابقت الواقع أو لم تطابق، سواء كانت مصلحة سلوكيّةً، كما لا بأس به عند العدليّة، أو مصلحة حكميّة، كما عند غيرهم {فكذلك} يتساقطان لدى التعارض {لو كان الحجّة هو خصوص ما لم يعلم كذبه} فكلّ خبر لم يعلم كذبه يكون سبباً للمصلحة، بأن لا يعلم إجمالاً بكذبه أو كذب معارضه {بأن لا يكون المقتضي للسببيّة فيها} أي: في الأمارات {إلّا فيه} أي: في ما لم يعلم كذبه، وذلك لأنّ دليل حجيّة الظهور ودليل كون الصّدور لبيان الواقع لا للتقيّة ونحوها - وهو بناء العقلاء - إنّما يدلّ على حجيّة ظهور، وواقعيّة صدور، لم يعلم بكذبه لا تفصيلاً ولا إجمالاً.

فلو علم بأنّ أحد الظهورين أو أحد الصّدورين كاذب لم يكن هناك بناء من العقلاء على الأخذ به، وكذلك بالنسبة إلى السّند، فإنّ دليل حجيّة السّند إمّا بناء العقلاء وإمّا الآيات والأخبار، وعلى كلا التقديرين لا يشمل ما علم إجمالاً أو تفصيلاً كذبه، فما ذكره الشّيخ(رحمة الله)(1) من إطلاق القول بأنّه على السّببيّة لا يتساقط المتعارضان ويكونان بحكم المتزاحمين، ليس في محلّه.

{كما هو المتيقّن} أي: كون الحجّة ما لم يعلم كذبه لا تفصيلاً ولا إجمالاً، المتيقّن {من دليل اعتبار غير السّندمنها} أي: من جهات الأمارات، وهي الدلالة

ص: 265


1- فرائد الأصول 4: 37.

وهو بناء العقلاء على أصالتَي الظهور والصّدور، لا للتقيّة ونحوها؛ وكذا السّند، لو كان دليل اعتباره هو بناؤهم أيضاً، وظهورُه فيه لو كان هو الآيات والأخبار؛ ضرورة ظهورها فيه، لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظنّ منه أو الاطمئنان.

وأمّا لو كان المقتضي للحجيّة في كلّ واحد من المتعارضين،

___________________________________________

والجهة والسّند، فما دلّ على اعتبار الدلالة والجهة مقيّد بما إذا لم يعلم بكذبه، فلو علم بالخدشة في أحد الظهورين أو بالصدور تقيّة في أحد الخبرين لم يدلّ دليل الاعتبار {وهو بناء العقلاء على أصالتي الظهور والصّدور لا للتقيّة ونحوها} على الحجيّة.

{وكذا السّند} إنّما دلّ اعتباره على الاعتبار ما لم يعلم بكذبه تفصيلاً أو إجمالاً {لو كان دليل اعتباره} الّذي هو دليل حجيّة الخبر الواحد {هو بناؤهم} أي: بناء العقلاء {أيضاً} كما هو دليل اعتبار الظهور والصّدور لا للتقيّة {وظهوره} أي: ظهور دليل اعتبار السّند {فيه} أي: في خصوص ما لم يعلم كذبه لا تفصيلاً ولا إجمالاً {لو كان هو} أي: دليل اعتبار السّند {الآيات والأخبار} فإنّ قوله - تعالى - : {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ}(1)، وقوله(علیه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنّا ثقاتنا»(2)، وغيرهما ظاهرة في ما لم يعلم كذب نبأ العادل ورواية الثقة.

{ضرورة ظهورها} أي: الآيات والأخبار {فيه} أي: في خصوصما لم يعلم كذبه {لو لم نقل بظهورها} أي: ظهور الآيات والأخبار {في خصوص ما إذا حصل الظنّ منه} بأن يكون الخبر المظنون الصّدور حجّة {أو الاطمئنان} بأن يكون الخبر المطمئن إليه حجّة.

{وأمّا لو كان المقتضي للحجيّة في كلّ واحد من المتعارضين} بناءً على السّببيّة

ص: 266


1- سورة الحجرات، الآية: 6.
2- وسائل الشيعة 27: 150.

لكان التعارض من تزاحم الواجبين، في ما إذا كانا مؤدّيين إلى وجوب الضّدّين، أو لزوم المتناقضين، لا في ما إذا كان مؤدّى أحدهما حكماً غير إلزامي، فإنّه حينئذٍ لا يزاحم الآخر؛ ضرورة عدم صلاحيّة ما لا اقتضاء فيه أن يزاحَم به ما فيه الاقتضاء.

إلّا أن يقال: بأنّ

___________________________________________

المطلقة فحال الخبر حال الغريق، فكما يجب إنقاذ الغريق مطلقاً كذلك يجب العمل بالخبر مطلقاً، ولو علمنا بكذب أحدهما {لكان التعارض} بينهما {من} باب {تزاحم الواجبين} فيجب العمل بأحدهما على سبيل البدل في ما لا أهميّة في البين {في ما إذا كانا} أي: الخبران {مؤدّيين إلى وجوب الضّدّين} كما لو قال أحدهما بلزوم كونه في عرفات يوم عرفة، وقال الآخر بلزوم كونه في حرم الحسين(علیه السلام) {أو لزوم المتناقضين} كما لو قال أحدهما بوجوب كونه في عرفات، وقال الآخر بوجوب عدم كونه في عرفات، و{لا} يكونان من باب التزاحم {في ما إذا كان مؤدّى أحدهما حكماً غير إلزامي} كما لو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر علىالاستحباب {فإنّه} أي: غير الإلزامي {حينئذٍ لا يزاحم الآخر} بل يقدّم الاقتضائي، ولذا لا شبهة في تقدّم حكم الحرمة على الاستحباب لو تعارضا في ما لو التمس المسلم محرّماً من آخر، فإنّ إجابة دعوة المسلم مستحبّة والفعل حرام - فرضاً - فيقدّم التحريم على الاستحباب.

{ضرورة عدم صلاحيّة ما لا اقتضاء فيه} بمعنى أنّه ليس فيه اقتضاء إلزام وإن كان فيه اقتضاء ندب وكره {أن يزاحم به} الضّمير يرجع إلى «ما» {ما فيه الاقتضاء} وكذا كلّ متزاحمين كان أحدهما إلزاماً والآخر غير إلزام.

{إلّا أن يقال: بأنّ} الاستحباب - مثلاً - وإن كان غير اقتضائي في نفسه إلّا أنّ مقتضى القول بالسببيّة أن يكون الاستحباب اقتضائيّاً أيضاً؛ لأنّ قيام الأمارة على الاستحباب - بناءً على السّببيّة - يجعل المصلحة في الاستحباب، فيكون حال

ص: 267

قضيّة اعتبار دليل غير الإلزامي أن يكون عن اقتضاء، فيزاحَم به حينئذٍ ما يقتضي الإلزامي، ويحكم فعلاً بغير الإلزامي، ولا يزاحم بمقتضاه ما يقتضي غير الإلزامي؛ لكفاية عدم تماميّة علّة الإلزامي في الحكم بغيره.

نعم،

___________________________________________

المتعارضين للذين قام عليهما الدّليل حال ما لو قال المولى هذا مستحبّ وقال هذا واجب، فكما أنّه لا يمكن إعمال قاعدة - الاقتضائي واللّااقتضائي - في كلامه كذلك في المقام، بل لا بدّ من معاملة المتزاحمين، فإنّ {قضيّة اعتبار} الشّارع {دليل غير الإلزامي أن يكون عن اقتضاء} فكما أنّ معنى (هذا واجب): أنّه ليس بمستحبّ كذلكمعنى (هذا مستحبّ): أنّه ليس بواجب {فيزاحم به} أي: بهذا اللّااقتضائي {حينئذٍ ما يقتضي الإلزامي} فكلاهما اقتضائي.

وإذا تحقّق هذا يقدّم غير الإلزامي {ويحكم فعلاً بغير الإلزامي ولا يزاحم بمقتضاه} أي: بمقتضى الإلزامي {ما يقتضي غير الإلزامي} أي: لا يزاحم مقتضى الوجوب مقتضى الاستحباب {لكفاية عدم تماميّة علّة الإلزامي} إذ لو كانت علّته تامّة لما كان مجال للاستحباب، فتزاحم الاستحباب له دليل على عدم تماميّة علّته {في الحكم بغيره} أي: بغير الإلزامي.

{نعم} ما ذكرناه من التفصيل في باب التعارض - من أنّه بناءً على الطّريقيّة يوجب التساقط وبناءً على السّببيّة قد يوجب التساقط وقد يوجب التزاحم ممّا يقتضي الأخذ بأحدهما تخييراً - إنّما هو بالنسبة إلى الموافقة العمليّة، وأمّا بالنسبة إلى الموافقة الالتزاميّة - لو قلنا بوجوبها وأنّ لكلّ حكم موافقتين العمليّة والالتزاميّة - لم يكن فرق بين الطّريقيّة والموضوعيّة في وجوب الالتزام؛ لأنّه يمكن الالتزام بأحدهما تخييراً وإن لم يكن الإنسان يعلم الحكم بعينه. نعم، لو قلنا بأنّ الموافقة الالتزاميّة إنّما تجب إذا كان الحكم معلوماً لم تجب أيضاً في

ص: 268

يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقاً، لو كان قضيّة الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام بما يؤدّي إليه من الأحكام، لا مجرّد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به.

وكونهما من تزاحم الواجبين حينئذٍ وإن كان واضحاً؛ - ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الأحكام - ، إلّاأنّه لا دليل - نقلاً ولا عقلاً - على الموافقة الالتزاميّة للأحكام الواقعيّة، فضلاً عن الظاهريّة، كما مرّ تحقيقه.

وحكم التعارض - بناءً على السّببيّة - في ما كان من باب التزاحم - هو التخيير،

___________________________________________

صورة التعارض.

والحاصل: أنّه {يكون} الخبران المتعارضان في {باب التعارض من باب التزاحم مطلقاً} ولو على الطّريقيّة {لو كان قضيّة الاعتبار} أي: مقتضى الاعتبار الأمارة {هو لزوم البناء} القلبي {والالتزام بما يؤدّي إليه} الأمارة {من الأحكام لا مجرّد العمل على وفقه} أي: وفق مؤدّى الأمارة {بلا لزوم الالتزام به} وذلك لأنّ دليل الالتزام قاض بأن نلتزم بهما إذا أمكن وإذا لم يمكن - للتعارض - اقتضى التخيير بينهما.

{و} لكن يقع الكلام في أنّه لا دليل على وجوب الموافقة الالتزاميّة، ف- {كونهما من تزاحم الواجبين حينئذٍ} أي: حين قلنا بلزوم الالتزام {وإن كان واضحاً}.

{ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين} متخالفين {في موضوع واحد من الأحكام} بيان قوله: «بحكمين» {إلّا أنّه لا دليل نقلاً ولا عقلاً على} وجوب {الموافقة الالتزاميّة للأحكام الواقعيّة} بأن علمنا بالحكم قطعاً {فضلاً عن} الأحكام {الظاهريّة} الّتي قامت الأمارة عليها {كما مرّ تحقيقه} في أوّل الكتاب.

{وحكم التعارض - بناءً على السّببيّة} وأنّالأمارات فيها المصلحة سواء طابقت الواقع أم لا {في ما كان من باب التزاحم} وهذا القيد لإخراج السّببيّة في ما إذا كان من باب التعارض، لما تقدّم من تقسيم السّببيّة إلى قسمين - {هو التخيير} بين

ص: 269

لو لم يكن أحدهما معلومَ الأهميّة أو محتملَها في الجملة، - حسب ما فصّلناه في مسألة الضّدّ - ، وإلّا فالتعيين.

وفي ما لم يكن من باب التزاحم هو لزوم الأخذ بما دلّ على الحكم الإلزامي، لو لم يكن في الآخر مقتضياً لغير الإلزامي، وإلّا فلا بأس بأخذه والعمل عليه؛ لما أشرنا إليه - من وجهه - آنفاً، فتأمّل.

هذا هو قضيّة القاعدة في تعارض الأمارات، لا الجمع بينها

___________________________________________

المتعارضين، فإن شاء أخذ بهذا وإن شاء أخذ بذاك {لو لم يكن أحدهما معلوم الأهميّة أو محتملها} إذ لو كان أحدهما كذلك قدّم على الآخر، كما لو غرق نبيّ ومسلم أو غرق اثنان يحتمل أن يكون أحدهما نبيّاً {في الجملة حسب ما فصّلناه في مسألة الضّدّ} في الجلد الأوّل.

{وإلّا} بأن عرفت الأهميّة أو احتملت {فالتعيين} لدوران الأمر حينئذٍ بين التعيين والتخيير، والأوّل مقدّم؛ لأنّه موجب للبراءة قطعاً بخلاف الثّاني {وفي ما لم يكن} التعارض {من باب التزاحم} فحكمه {هو لزوم الأخذ بما دلّ على الحكم الإلزامي لو لم يكن في الآخر مقتضياً لغير الإلزامي} فلو تعارض ما دلّ على الوجوب أو الحرمة بما دلّ على الأحكام الثلاثة الأُخر قدّم ما دلّ على الإلزام؛ لأنّه عن اقتضاء والآخر ليس عن اقتضاء،والحكم الاقتضائي مقدّم على اللّااقتضائي.

لكنّه إذا لم يكن ما دلّ على الأحكام الثلاثة عن اقتضاء {وإلّا فلا بأس بأخذه والعمل عليه لما أشرنا إليه من وجهه آنفاً} وأنّه إذا كان عن اقتضاء قابل الحكم الإلزامي وجاز الأخذ بأيّهما شاء {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّه دائماً يكون الحكم غير الإلزامي عن اقتضاء، فلا وجه للتفصيل.

و{هذا} الّذي ذكرناه من كون القاعدة أحياناً تقديم أحد المتعارضين على الآخر وأحياناً التخيير بينهما {هو قضيّة القاعدة في تعارض الأمارات لا الجمع بينها}

ص: 270

بالتصرّف في أحد المتعارضين أو في كليهما، كما هو قضيّة ما يترائى ممّا قيل(1)

من «أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطّرح»؛ إذ لا دليل عليه في ما لا يساعد عليه العرف، ممّا كان المجموع أو أحدهما قرينة عرفيّة على التصرّف في أحدهما بعينه أو فيهما، كما عرفته في الصّور السّابقة.

مع أنّ في الجمع كذلك أيضاً طرحاً للأمارة أو الأمارتين؛

___________________________________________

أي: بين الأمارات {بالتصرّف في أحد المتعارضين أو في كليهما} كما لو قال: (هذا واجب، وهذا مستحبّ) نتصرّف في الأوّل بتأكّد الاستحباب، أو قال: (هذا واجب، وهذا حرام) نتصرّف في كليهما بحمل أحدهما على القادر والآخر على العاجز - مثلاً - {كما هو} أي: الجمع {قضيّة ما يترائى ممّا قيل من أنّ«الجمع مهما أمكن أولى من الطّرح»} بحمل الإمكان على الإمكان العقلي، لا الإمكان العرفي الّذي هو الجمع بين الظاهر والنّصّ والمطلق والمقيّد وأشباههما.

والحاصل: أنّ مراد القائل لو كان هو الجمع الاعتباطي، ورد عليه أنّ مثل هذا الجمع لا دليل عليه عقلاً ولا شرعاً، وإن أراد الجمع في ما كان العرف يرى الجمع، فلا يرتبط كلامه بما نحن فيه الّذي هو المتعارضان {إذ لا دليل عليه في ما لا يساعد عليه العرف ممّا} أي: الجمع العرفي الّذي يساعد عليه العرف هو ما {كان المجموع} أي: المتعارضين {أو أحدهما قرينة عرفيّة على التصرّف في أحدهما بعينه أو فيهما} معاً {كما عرفته في الصّور السّابقة} من الجمع بين (اغتسل للجمعة) و(لا بأس بترك غسل الجمعة) و(افعل) و(لا تفعل) {مع أنّ في الجمع كذلك} اعتباطاً بدون فهم عرفي {أيضاً طرحاً للأمارة} في ما لو تصرّف في أحدهما {أو الأمارتين} في ما لو تصرّف فيهما معاً، فلا وجه لكونه أولى من الطّرح.

وهذا بخلاف ما كان له جمع عرفي فإنّ الظهور في الأضعف لا حجيّة له،

ص: 271


1- غوالي اللئالي 4: 136.

ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه.

وقد عرفت: أنّ التعارض بين الظهورين في ما كان سنداهما قطعيّين، وفي السّندين إذا كانا ظنيّين.

وقد عرفت: أنّ قضيّة التعارض إنّما هو سقوط المتعارضين في خصوص كلّ ما يؤدّيان إليه من الحكمين، لا لبقائهما على الحجيّة بما يتصرّف فيهما أو في أحدهما، أو بقاء سنديهما عليها كذلك،

___________________________________________

لعدم بناء العقلاء على الأخذ به، فليس عدم العمل به طرحاً له.

وهذا بخلاف الجمع الاعتباطي، إذ الظهور في كلّ واحد منهما معتبر، فالجمع طرح لهذا الظهور.

{ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه} أي: مع الجمع فقاعدة «الجمع مهما أمكن» ليس في المتعارضين أصلاً {وقد عرفت أنّ التعارض بين الظهورين في ما كان سنداهما قطعيّين} فيلزم الأخذ بأحدهما أو بهما تخييراً {وفي السّندين إذا كانا ظنيّين} وإنّما كان التعارض بين السّندين هنا دون القطعيّين، إذ السّند القطعي لا يمكن طرحه بالتعارض بخلاف السّند الظنّي على التفصيل المتقدّم.

{وقد عرفت أنّ قضيّة التعارض إنّما هو سقوط المتعارضين في خصوص كلّ ما يؤدّيان إليه من الحكمين} فإذا قام أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة لم نقل بأحدهما، وإن كانا حجّة بالنسبة إلى نفي الحكم الثّالث الّذي هو الاستحباب مثلاً {لا لبقائهما على الحجيّة بما يتصرّف فيهما} بإلغاء ظاهر كلّ واحد منهما {أو في أحدهما} بإلغاء ظاهره فقط، عملاً بمقتضى «الجمع مهما أمكن أولى» {أو بقاء سنديهما} عطف على قوله: «بقائهما» أي: ولا بقاء سنديهما {عليها} أي: على الحجيّة {كذلك} أي: كما يبقى سنداهما في صورة

ص: 272

بلا دليل يساعد عليه من عقل أو نقل.

فلا يبعد أن يكون المراد، من إمكان الجمع هو: إمكانه عرفاً. ولا ينافيهالحكم بأنّه أولى مع لزومه حينئذٍ وتعيّنه؛ فإنّ أولويّته من قبيل الأولويّة في أُولي الأرحام،

___________________________________________

التصرّف في الدلالة {بلا دليل يساعد عليه من عقل أو نقل}.

والحاصل: إنّ المحتملات ثلاثة:

الأوّل: أن يسقطا بالنسبة إلى المدلول المطابقي ويبقيا بالنسبة إلى نفي الحكم الثّالث، كما هو مختار المصنّف.

الثّاني: أن يبقيا سنداً ودلالة ويتصرّف فيهما أو في أحدهما كما يتصرّف في سائر أقسام الجمع العرفي، وقد عرفت أنّه غير تامّ.

الثّالث: أن يبقى سنداهما على الحجيّة وتلغى دلالتهما بالمرّة بالنسبة إلى المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي، وهذا غير صحيح، إذ لا معنى للتعبّد بالسند بدون الدلالة أصلاً، فإنّه لغو، كما لا يخفى.

{فلا يبعد أن يكون المراد من إمكان الجمع} في القضيّة المدّعى عليها الإجماع من أنّ «الجمع مهما أمكن أولى من الطّرح» {هو إمكانه عرفاً} من أقسام الجمع بين المطلق والمقيّد والعامّ والخاصّ والظاهر والأظهر وغيرها.

{و} إن قلت: فما معنى «إنّه أولى» مع أنّ هذا النّحو من الجمع واجب؟

قلت: {لا ينافيه الحكم بأنّه أولى مع لزومه} أي: لزوم هذا الجمع {حينئذٍ} أي: حين كان مفهوماً لدى العرف {وتعيّنه} عطف على «لزومه» {فإنّ أولويّته} تعيّنيّة لا على نحو الأفضليّة، فهي {من قبيل الأولويّة في} آية{أُولي الأرحام} حيث قال سبحانه: {وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ}(1)، والمراد

ص: 273


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

وعليه لا إشكال فيه ولا كلام.

فصل: لا يخفى أنّ ما ذكر من قضيّة التعارض بين الأمارات، إنّما هو بملاحظة القاعدة في تعارضها، وإلّا فربّما يُدّعى الإجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في الأخبار، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من الأخيار.

ولا يخفى: أنّ اللّازم في ما إذا لم تنهض حجّة على التعيين أو التخيير بينهما، هو الاقتصار على الرّاجح منهما؛ للقطع بحجيّته - تخييراً أو تعييناً - بخلاف الآخر؛ لعدم القطع بحجيّته،

___________________________________________

الأولويّة التعيّنيّة {وعليه} أي: بناءً على أن يراد الأولى تعيّناً {لا إشكال فيه ولا كلام} واللّه العالم.

[فصل مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين

{فصل} في بيان القاعدة الثانويّة في باب تعارض الأخبار.

{لا يخفى أنّ ما ذكر} في المبحث السّابق {من قضيّة التعارض بين الأمارات} وأنّ الأصل السّقوط {إنّما هو بملاحظة القاعدة} الأوّليّة {في تعارضها وإلّا ف-} بملاحظة القاعدة الثانويّة {ربّما يدّعى الإجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في} باب {الأخبار، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من} علمائنا{الأخيار}.

{ولا يخفى أنّ اللّازم} بناءً على عدم السّقوط {في ما إذا لم تنهض حجّة على التعيين} لأحد الخبرين {أو التخيير بينهما هو الاقتصار على الرّاجح منهما} فإذا علمنا بأنّه لا تساقط في المتعارضين ولم نعلم بأنّه هل أحدهما حجّة تعييناً أم كلاهما تخييراً، كان اللّازم الأخذ بذي المرجّح منهما {للقطع بحجيّته تخييراً أو تعييناً} فإنّ ذا المرجّح حجّة قطعاً سواء كان وحده حجّة أم كان كلاهما حجّة {بخلاف الآخر} الفاقد للمرجّح {لعدم القطع بحجيّته} لاحتمال حجيّة ذي المرجّح فقط

ص: 274

والأصل عدم حجيّة ما لم يقطع بحجيّته، بل ربّما ادّعي الإجماع أيضاً على حجيّة خصوص الرّاجح.

واستدلّ عليه بوجوه أُخر، أحسنُها الأخبار.

وهي على طوائف:

منها: ما دلّ على التخيير على الإطلاق.

كخبر الحسن بن الجهم، عن الرِّضا(علیه

السلام)، قلت: يجيئنا الرّجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين، ولا يُعلم أيّهما الحقّ؟ قال: «فإذا لم يُعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(1).

___________________________________________

{والأصل عدم حجيّة ما لم يقطع بحجيّته} لأنّ الحجيّة أمر حادث، فإذا شكّ فيه كان الأصل عدمه، ولذا يقولون: إنّ الشّكّ في الحجيّة هو موضوع عدم الحجيّة.والحاصل: أنّ الأصل في الدوران بين التعيين والتخيير في الحجيّة هو التعيين، فإذا علمت بأنّ هاهنا حجّة وشككت بأنّ الحجّة هل هو قول زيد قطعاً، أو واحد من قول زيد وعمرو، كان الأخذ بقول زيد جائزاً قطعاً؛ لأنّه حجّة على كلّ تقدير، بخلاف قول عمرو لاحتمال أن يكون قول زيد فقط حجّة، فيشكّ في حجيّة قول عمرو والأصل عدمها.

{بل ربّما ادّعي الإجماع أيضاً على حجيّة خصوص الرّاجح} من الخبرين {واستدلّ عليه بوجوه أُخر} يأتي التعرّض لبعضها {أحسنها الأخبار، وهي} أي: الأخبار الواردة في مقام التعارض مطلقاً سواء منها ما دلّ على الترجيح أو على غيره {على طوائف} ذكر المصنّف(رحمة الله) أربعة منها.

{منها: ما دلّ على التخيير على الإطلاق} بدون تقييد بفقد المرجّحات {كخبر الحسن بن الجهم، عن الرّضا(علیه السلام) قلت: يجيئنا الرّجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا يعلم أيّهما الحقّ؟ قال: «فإذا لم يعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»}.

ص: 275


1- وسائل الشيعة 27: 121، مع اختلاف يسير.

وخبر الحارث بن المغيرة، عن أبي عبداللّه(علیه السلام): «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة، فموسّع عليك حتّى ترى القائم فتردّ عليه»(1).

ومكاتبة عبداللّه بن محمّد إلى أبي الحسن(علیه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبداللّه(علیه السلام) في ركعتيالفجر، فروى بعضهم: صلّ في المحمل، وروى بعضهم: لا تصلّها إلّا في الأرض، فوقّع(علیه السلام): «موسّع عليك بأيّة عملت»(2).

ومكاتبة الحميري إلى الحجّة(علیه السلام)... إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان... إلى أن قال(علیه

السلام): «وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(3) إلى غير ذلك من الإطلاقات.

___________________________________________

{وخبر الحارث بن المغيرة، عن أبي عبداللّه(علیه السلام): «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم فتردّ عليه»} والمراد بالقائم الإمام الحاضر لا المهدي الموعود - عليه الصّلاة والسّلام - فقط {ومكاتبة عبداللّه بن محمّد إلى أبي الحسن(علیه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبداللّه(علیه السلام) في ركعتي الفجر فروى بعضهم صلّ في المحمل وروى بعضهم لا تصلّها إلّا في الأرض؟ فوقّع(علیه السلام): «موسّع عليك بأيّه عملت»}.

هذا بناءً على أنّه سُئل عن المسألة الأصوليّة والإمام أجاب عن ذلك، أمّا بناءً على أنّه تخيير في المسألة الفرعيّة فلا دلالة فيه على المقام {ومكاتبة الحميري إلى الحجّة(علیه السلام)... إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان... إلى أنقال(علیه السلام) «وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً» إلى غير ذلك من الإطلاقات} كخبر الكافي: «بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم»(4).

ص: 276


1- وسائل الشيعة 27: 122.
2- وسائل الشيعة 27: 122.
3- وسائل الشيعة 27: 121.
4- الكافي 1: 66.

ومنها: ما دلّ على التوقّف مطلقاً.

ومنها: ما دلّ على ما هو الحائط منها.

ومنها: ما دلّ على الترجيح بمزايا مخصوصه ومرجّحات منصوصة - من مخالفة القوم، وموافقة الكتاب والسّنّة، والأعدليّة، والأصدقيّة، والأفقهيّة، والأورعيّة، والأوثقيّة، والشّهرة - ، على اختلافها في الاقتصار على بعضها، وفي الترتيب بينها.

___________________________________________

{ومنها: ما دلّ على التوقّف مطلقاً} كخبر سماعة، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قلت: يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه؟ قال(علیه السلام): «لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأله». قلت: لا بدّ أن نعمل بواحد منهما؟ قال: «خذ بما فيه خلاف العامّة»(1).

ومكاتبة محمّد بن عليّ بن عيسى إلى عليّ بن محمّد(علیه السلام)، يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك^، قد اختلف علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه؟ أو الرّدّ إليك في ما اختلف فيه؟ فكتب(علیه السلام): «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردّوه إلينا»(2).

{ومنها: ما دلّ على} الأخذ ب- {ما هو الحائطمنها} قال في الحقائق: «لم أجد في ما يحضرني ما دلّ على الاحتياط مطلقاً، غير ما دلّ على التوقّف. نعم، في مرفوعة زرارة(3)

ذكر الاحتياط بعد عدم المرجّح»(4).

{ومنها: ما دلّ على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجّحات منصوصة من مخالفة القوم وموافقة الكتاب والسّنّة والأعدليّة والأصدقيّة والأفقهيّة والأورعيّة والأوثقيّة والشّهرة على اختلافها} أي: اختلاف الرّوايات {في الاقتصار على بعضها وفي الترتيب بينها}

ص: 277


1- الاحتجاج 2: 358؛ وسائل الشيعة 27: 122.
2- وسائل الشيعة 27: 302.
3- بحار الأنوار 2: 245؛ عن غوالي اللئالي 4: 133.
4- حقائق الأصول 2: 565.

___________________________________________

فبعضها قدّم صفة على صفة وبعضها عكس، وإليك جملة منها ذكرها في الوسائل، وإن كانت أكثر كما يجدها المتتبّع في المستدرك(1) وغيرها.

فعن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبداللّه(علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السّلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال(علیه السلام): «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً؛ لأنّه أخذ بحكم الطّاغوت، وإنّما أمر اللّه أن يكفر به». قال اللّه - تعالى - : {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ}(2).

قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران إلى من كان منكم من قد روى حديثناونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ وعلينا قد ردّ، والرّادّ علينا كالرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشّرك باللّه».

قلت: فإن كان كلّ رجل يختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا النّاظرين في حقّهما فاختلفا في ما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».

قلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما، ويترك الشّاذّ الّذي ليس بمشهور عند

ص: 278


1- مستدرك الوسائل 17: 302.
2- سورة النساء، الآية: 60.

___________________________________________

أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الأُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيتجنّب، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى اللّه». قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشّبهات نجى من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات، وهلك من حيث لا يعلم».

قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: «ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسّنّة وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسّنّة ووافق العامّة».

قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسّنّة فوجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال: «ما خالف العامّة ففيه الرّشاد».فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: «ينظر إلى ما هم أميل إليه من حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر».

قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال: «إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشّبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).

وعن ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي عن العلّامة مرفوعاً إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال(علیه السلام): «يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشّاذّ النّادر».

فقلت: يا سيّدي إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال: «خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك».

ص: 279


1- الكافي 1: 67؛ تهذيب الأحكام 6: 301؛ الاحتجاج 2: 356؛ وسائل الشيعة 27: 136.

___________________________________________

فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان؟ فقال: «انظر ما وافق منهما العامّة فاتركه، وخذ بما خالف فإنّ الحقّ في ما خالفهم».

قلت: ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال: «إذن فخذ بما فيه من الحائطة لدينك واترك الآخر».

قلت: فإنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال: «إذن تتخيّر أحدهما وتأخذ به ودع الآخر»(1).

وعن الصّدوق عن الرّضا(علیه

السلام) في حديث طويل قال فيه: «فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فاعرضوهما على كتاب اللّه، فما كان في كتاب اللّه موجوداً حلالاً أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوهماعلى سنن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فما كان في السّنّة موجوداً منهيّاً عنه نهي حرام أو مأموراً به عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي النّبيّ(صلی الله علیه و آله) وأمره، وما كان في السّنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر خلافه فذلك رخصة في ما عافه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أو كرهه ولم يحرّمه، وذلك الّذي يسع الأخذ بهما جمعاً أو بأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والرّدّ إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا»(2).

وعن القطب الرّاوندي، عن الصّادق(علیه السلام): «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فردّوه، وإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق

ص: 280


1- بحار الأنوار 2: 245؛ عن غوالي اللئالي 4: 133.
2- عيون أخبار الرّضا(علیه السلام) 2: 20؛ وسائل الشيعة 27: 113.

___________________________________________

أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(1).

وعن الحسين ابن السّري قال: قال أبو عبداللّه(علیه السلام): «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم»(2).

وعن الحسن بن الجهم في حديث قلت له - يعني العبد الصّالح(علیه السلام) - : يروى عن أبي عبداللّه شيء ويروى عنه أيضاً خلاف ذلك فبأيّهمانأخذ؟ قال: «خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه»(3).

وعن محمّد بن عبداللّه قال: قلت للرضا(علیه السلام): كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال: «إذا ود عليكم خبران مختلفان فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه، وانظروا ما يوافق أخبارهم فدعوه»(4).

وعن المعلّى بن الخنيس قال: قلت لأبي عبداللّه(علیه السلام): إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ قال: «خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله». قال: ثمّ قال أبو عبداللّه(علیه السلام): «إنّا واللّه لا ندخلكم إلّا في ما وسعكم»(5).

وعن الحسين بن المختار، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه، فبأيّهما كنت تأخذ»؟ قال: كنت آخذ بالأخير. فقال: «رحمك اللّه - تعالى - »(6).

ص: 281


1- وسائل الشيعة 27: 118.
2- وسائل الشيعة 27: 118.
3- وسائل الشيعة 27: 118.
4- وسائل الشيعة 27: 119، وفيه: «فذروه».
5- الكافي 1: 67؛ وسائل الشيعة 27: 109.
6- الكافي 1: 67؛ وسائل الشيعة 27: 109.

ولأجل اختلاف الأخبار، اختلفت الأنظار:

فمنهم من أوجب الترجيح بها، مقيّدين بأخباره إطلاقات

___________________________________________

وعن أبي عمرو الكناني، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «يا أبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئت بعد ذلك تسألني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك، بأيّهما كنت تأخذ؟» قلت: بأحدثهما وأدع الآخر.

قال: «قد أصبت يا أبا عمرو، أبى اللّه إلّا أن يعبد سرّاً، أما واللّه لأن فعلتم ذلكإنّه لخير لي ولكم، أبى اللّه لنا ولكم في دينه إلّا التقيّة»(1).

وعن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبداللّه(علیه السلام): ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لا يتّهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال: «إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن»(2).

وعن أبي حيّون مولى الرّضا(علیه السلام): «أنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا»(3).

وعن داود بن فرقد، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب»(4).

{ولأجل اختلاف الأخبار} كما رأيت {اختلفت الأنظار: فمنهم من أوجب الترجيح بها} أي: بالمرجّحات {مقيّدين بأخباره} أي: أخبار الترجيح {إطلاقات}

ص: 282


1- الكافي 2: 218؛ وسائل الشيعة 27: 112.
2- الكافي 1: 64؛ وسائل الشيعة 27: 108.
3- وسائل الشيعة 27: 115.
4- وسائل الشيعة 27: 117.

التخيير.

وهم بين من اقتصر على الترجيح بها، ومن تعدّى منها إلى سائر المزايا، الموجبة لأقوائيّة ذي المزيّة وأقربيّته - كما صار إليه شيخنا العلّامة أعلى اللّه مقامه(1) - ، أو المفيدة للظنّ، كما ربّمايظهر من غيره(2).

فالتحقيق أن يقال: إنّ أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار هو المقبولة والمرفوعة، مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة جدّاً.

___________________________________________

أخبار {التخيير} المتقدّمة {وهم بين من اقتصر على الترجيح} أي: بالمرجّحات المنصوصة {ومن تعدّى منها إلى سائر المزايا الموجبة لأقوائيّة ذي المزيّة وأقربيّته} إلى الواقع سواء أوجب الظنّ أو لم يوجب {كما صار إليه شيخنا العلّامة} المرتضى {أعلى اللّه مقامه} فإنّه بعد ما ذكر خبري أبي حيّون وابن فرقد قال: «وفي هاتين الرّوايتين الأخيرتين دلالة على وجوب الترجيح بحسب قوّة الدلالة»(3)، {أو المفيدة للظنّ} فكلّ مزيّة أفادت الظنّ توجب الترجيح سواء أفادت قوّة الدلالة أم لا {كما ربّما يظهر من غيره} أي: غير الشّيخ المرتضى(رحمة الله).

ولكن حيث إنّ الأخبار مضطربة {فالتحقيق أن يقال: إنّ أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار هو المقبولة} لعمر بن حنظلة، وإنّما سمّيت مقبولة لأنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول {والمرفوعة} المتقدّمة عن العلّامة، وسمّيت مرفوعة لأنّ الوسائط بين العلّامة وبين زرارة ساقطة {مع اختلافهما} في المرجّحات {وضعف سند المرفوعة جدّاً} لأنّها بالإضافة إلى الرّفع إنّما رويت عن الغوالي الّذي رُمِيَ بالضّعف.

ص: 283


1- فرائد الأصول 4: 75-78.
2- قوانين الأصول 2: 299؛ مفاتيح الأصول: 688.
3- فرائد الأصول 4: 68.

والاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال؛ لقوّة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة، لرفع المنازعة وفصل الخصومة، كما هو موردهما، ولا وجه للتعدّي منه إلى غيره، كما لا يخفى.

ولا وجه لدعوى تنقيح المناط، مع ملاحظة أنّ رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين، وتعارض ما استند إليه من الرّوايتين، لا يكاد يكون إلّا بالترجيح، ولذا

___________________________________________

{والاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى} مقابل مقام الحكومة {لا يخلو عن إشكال لقوّة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة} بين المتخاصمين {كما هو موردهما} أي: مورد المقبولة والمرفوعة، لكن لا يخفى أنّ المرفوعة ليست في مقام التنازع والخصومة.

والحاصل: أنّ الكلام الآن في باب الترجيح فى مقام الفتوى والمقبولة متعرّضة للترجيح في مقام الخصومة، فلا ربط لها بالمقام.

{و} إن قلت: نتعدّى من مقام الخصومة إلى مقام الفتوى.

قلت: {لا وجه للتعدّي منه} أي: مورد المقبولة {إلى غيره} الّذي هو مقام الفتوى {كما لا يخفى}.

{و} إن قلت: إنّ المناط في بابي الفتوى والمنازعة واحد، إذ هو الوصول إلى الواقع، فكلّما ورد ترجيح للمنازعة يصلح ترجيحاً للفتوى.

قلت: {لا وجه لدعوى تنقيح المناط مع ملاحظة} الفرق بين المقامين ف- {إنّ رفع الخصومةبالحكومة في صورة تعارض الحكمين وتعارض ما استند إليه من الرّوايتين} بيان «ما» {لا يكاد يكون إلّا بالترجيح} إذ التخيير لا يفصل الأمر، إذ يختار كلّ خصم ما ينفعه من التخيير.

{ولذا} أي: حيث يحتاج إلى الترجيح لفصل الخصومة ولا يكاد يمكن

ص: 284

أمر(علیه السلام) بإرجاء الواقعة إلى لقائه(علیه السلام) في صورة تساويهما في ما ذكر من المزايا، بخلاف مقام الفتوى.

ومجرّد مناسبة الترجيح لمقامها أيضاً، لا يوجب ظهور الرّواية في وجوبه مطلقاً، ولو في غير مورد الحكومة، كما لا يخفى.

وإن أبيت إلّا عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين، فلا مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا - ممّا لا يتمكّن من لقاء الإمام(علیه السلام) - بهما؛ لقصور المرفوعة سنداً،

___________________________________________

التخيير {أمر} الإمام {(علیه السلام) بإرجاء الواقعة إلى لقائه(علیه السلام) في صورة تساويهما في ما ذكر} (علیه السلام) {من المزايا} وذلك {بخلاف مقام الفتوى} إذ يمكن فيه التخيير، ولذا خيّر(علیه السلام) في غير واحد من الأخبار.

{ومجرّد مناسبة الترجيح} بالمرجّحات {لمقامها} أي: مقام الفتوى {أيضاً} كما هو مناسبة لمقام المنازعة {لا يوجب ظهور الرّواية} المقبولة {في وجوبه} أي: وجوب الترجيح {مطلقاً ولو في غير موردالحكومة، كما لا يخفى} وإن قلنا بالمرجّحات في تعارض الخبرين، فإنّما نقول بها استحباباً لهذه المناسبات لا إيجاباً، كما هو رأي القائل بلزوم الترجيح.

{وإن أبيت إلّا عن ظهورهما} أي: المقبولة والمرفوعة {في الترجيح في كلا المقامين} لأنّ المرفوعة مطلقة ليس فيها دليل على كونها في مقام الخصومة، والمقبولة - وإن كانت ابتداءً في مقام الخصومة - إلّا أنّها أخيراً انتقلت إلى الترجيح بين الرّوايات بما هو أعمّ من الحكم وفصل الخصومة، فإنّ في علّة الترجيح - «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» - ممّا لا يمكن اختصاصه بمقام الخصومة.

{فلا مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا ممّا لا يتمكّن} الشّخص {من لقاء الإمام(علیه السلام) بهما} أي: بالمقبولة والمرفوعة {لقصور المرفوعة سنداً} فلا حجيّة

ص: 285

وقصور المقبولة دلالة؛ لاختصاصها بزمان التمكّن من لقائه(علیه السلام)، ولذا ما أرجع إلى التخيير بعد فقد الترجيح.

مع أنّ تقييد الإطلاقات الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين - بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين، مع ندرة كونهما متساويين جدّاً -

___________________________________________

فيها حتّى يمكن التقييد بها {وقصور المقبولة دلالة لاختصاصها بزمان التمكّن من لقائه(علیه السلام)} لأنّه قال في آخرها: «فأرجه حتّى تلقى إمامك» فهي حاكمة بالمرجّحات فيظرف إمكان رؤية الإمام حتّى إذا لم يكن مرجّح صبر المكلّف إلى لقاء الإمام حتّى يأخذ منه الحكم {ولذا ما أرجع} الإمام(علیه السلام) {إلى التخيير بعد فقد الترجيح}.

ومن المعلوم أنّ مع تخالف المطلق والمقيّد لا يقيّد الإطلاق، فلو قال أحد الدليلين: (أكرم العلماء) وقال الآخر: (لا تكرم زيداً العالم، أمام أبيه) لم يقيّد هذا المقيّد إطلاق (أكرم العلماء) بحيث يحكم بأنّه لا يجب إكرام زيداً مطلقاً، إذ المقيّد مقيّد في ظرف خاصّ لا مطلقاً حتّى يصلح لتقييد المطلق، وهنا من هذا القبيل؛ لأنّ أحد الدليلين قال: في صورة التعارض بين الخبرين أنت مخيّر، وقال الدليل الآخر: في صورة التعارض رجح وإلّا فاسأل من الإمام، فإنّ الترجيح بقرينة الذيل خاصّ بزمان وجود الإمام، فلا يمكن أن يحكم به حتّى في زمان غيبته، فتدبّر.

{مع أنّ تقييد الإطلاقات} لأخبار التخيير {الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين} حيث سألوا عن المتعارضين، فأجاب الإمام بكونه مخيّراً بأيّهما أخذ {بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين} فلم يقل الإمام في الجواب: إن كانا متعادلين فتخيّر، وإن كان أحدهما أرجح فخذ الأرجح {- مع ندرة كونهما متساويين جدّاً} حتّى يكون الجواب بملاحظة الأفراد الغالبة وهي

ص: 286

بعيد قطعاً، بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص لوجب حملها عليه، أو على ما لا ينافيها من الحمل على الاستحباب - كما فعله بعض الأصحاب(1)

- . ويشهد به الاختلاف الكثير بين ما دلّعلى الترجيح من الأخبار.

ومنه قد انقدح حال سائر أخباره.

___________________________________________

حالة التعادل - {بعيد قطعاً} خبر قوله: «مع أنّ تقييد» {بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص} بزمان حضور الإمام، بأن كانت المقبولة لبيان حكم المتعارضين مطلقاً، سواء زمان الحضور أم زمان الغيبة {لوجب حملها} أي: المقبولة {عليه} أي: على زمان الحضور {أو} الحمل {على ما لا ينافيها} أي: لا ينافي أخبار التخيير {من الحمل على الاستحباب} حتّى يلزم حمل أخبار التخيير على النّادر.

والحاصل: أنّ الأمر دائر بين أن نقول بأنّ أخبار التخيير خاصّة بما لم يكن ترجيح حتّى يبقى ظهور المقبولة على حاله، وهذا موجب لحمل هذه الأخبار على صورة نادرة، وبين أن نقول بأنّ المقبولة محمولة على صورة زمان وجود الإمام، أو نقول بإطلاقها ولكن نقول باستحباب المرجّحات، وهذا الحمل الثّاني أهون حتّى في ما إذا لم يكن في نفس المقبولة قرينة على التصرّف.

كيف وقد عرفت أنّ نفس المقبولة مشتملة على قرينة كونها فى زمان الإمام(علیه السلام) لا مطلقاً {كما فعله بعض الأصحاب، ويشهد به} أي: بالحمل على الاستحباب {الاختلاف الكثير بين ما دلّ على الترجيح من الأخبار} فإنّ الاختلاف يلائم الاستحباب لا الوجوب، إذ لو كان الترجيح واجباً لم يعقل هذا الاختلاف الكثير بين المرجّحات.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا في المقبولة والمرفوعة {قد انقدح حال سائر أخباره}

ص: 287


1- نسبه في فرائد الأصول 4: 55 إلى السيد الصدر.

مع أنّ في كون أخبار موافقة الكتاب،أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظراً، وجهه: قوّة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجّة؛ بشهادة ما ورد: في أنّه زخرف، وباطل، وليس بشيء، أو أنّه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار. وكذا الخبر الموافق للقوم؛ ضرورة أنّ أصالة عدم صدوره تقيّةً - بملاحظة الخبر المخالف لهم، مع الوثوق بصدوره لولا القطع به - غير جارية؛ للوثوق حينئذٍ بصدوره كذلك.

___________________________________________

أي: أخبار الترجيح ممّا تقدّم جملة منها {مع أنّ في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب} وأنّ هذين من المرجّحات {نظراً} واضحاً {وجهه قوّة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجّة} فهذه الأخبار المشتملة على إسقاط ما يخالف الكتاب والأخذ بما وافقه إنّما هي لتمييز الحجّة عن اللّاحجّة لا أنّها لتمييز الرّاجح من المرجوح {بشهادة ما ورد في أنّه} أي: الخبر المخالف للكتاب {زخرف وباطل، وليس بشيء، أو أنّه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار} ممّا يدلّ على أنّ المخالف ليس بحجّة إطلاقاً لا أنّه حجّة وإنّ غيره يقدّم عليه، كما هو المستفاد من القائلين بالترجيح {وكذا الخبر الموافق للقوم} ليس بحجّة أصلاً لا أنّه حجّة وأنّ غيره يقدّم عليه {ضرورة أنّ أصالة عدم صدوره تقيّة} الّتي تصحّح جهة الصّدور لا تجري مع موافقة القوم، فإنّه يعتبر في الخبر السّند والدلالة والجهة، فإذا سقطت الجهة لموافقته للقوم لم يكن الخبر حجّة في نفسه، فلو ورد خبران أحدهما يقول بإباحة استعمال الميتة الموافقة للعامّة والآخريقول بحرمتها المخالفة للعامّة، فأصالة عدم صدور الأوّل {بملاحظة الخبر} الثّاني {المخالف لهم} القائل بالحرمة {مع الوثوق بصدوره} أي: بصدور المخالف لهم {لولا القطع به} أي: بالصدور {غير جارية} خبر قوله: «فأصالة» {للوثوق حينئذٍ} أي: حين وجود الخبر المخالف لهم {بصدوره} أي: صدور الخبر الموافق {كذلك} أي: تقيّة.

ص: 288

وكذا الصّدور أو الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهوناً، بحيث لا يعمّه أدلّة اعتبار السّند، ولا الظهور، كما لا يخفى.

فتكون هذه الأخبار في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة لا ترجيح الحجّة على الحجّة، فافهم.

___________________________________________

وإنّما تختلّ الجهة في الخبر الموافق للعامّة إذا كان هناك خبر مخالف، وإلّا فمجرّد الموافقة لهم لا توجب إسقاط أصالة عدم الصّدور إلّا لبيان الحكم الواقعي.

{وكذا} تختلّ أصالة الظهور أو أصالة الصّدور بالنسبة إلى الخبر الّذي يخالف الكتاب، إذ الخبر إذا صار مخالفاً للكتاب لم يجر العقلاء أصالة الظهور أو أصالة الصّدور، فلا يكون ظاهره معتمداً عليه، ولذا يسقط عن الحجيّة؛ لأنّهم إذا رأوه مخالفاً علموا بأنّه إمّا أن لم يصدر وأنّ سنده مختلّ، وإمّا أن صدر ولكن لم يرد ظاهره فدلالته مختلّة، ف- {الصّدور أو الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهوناً} على سبيل منع الخلوّ {بحيث لا يعمّه أدلّة اعتبار السّند ولا الظهور، كما لا يخفى}.

لكن لا يخفى أنّ هذا الوهن إنّما هو في ما إذا كان هناك خبر موافق للكتاب،أمّا إذا لم يكن فظهور الخبر المخالف وصدوره لم يكونا موهومين، إذا لم يكن الخبر مخالفاً بنحو المباينة.

والحاصل: أنّ الخبر الموافق للعامّة والمخالف للكتاب - غير المخالف المباين - إن لم يبتليا بالمعارض اعتبر العقلاء جهاتهما الثلاث - السّند والدلالة والجهة - أمّا إذا ابتليا بالمعارض سبّب المعارض عدم الوثوق بجهاتهما فيسقطان عن الحجيّة {فتكون هذه الأخبار} الدالّة على ترجيح الموافقة للكتاب والمخالفة للعامّة {في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة} فالموافق للعامّة ليس بحجّة وكذا المخالف للكتاب {لا ترجيح الحجّة على الحجّة} أي: إنّ كلا المتعارضين حجّة لكن المخالف للعامّة والموافق للكتاب أرجح {فافهم} لعلّه

ص: 289

وإن أبيت عن ذلك، فلا محيص عن حملها - توفيقاً بينها وبين الإطلاقات - إمّا على ذلك، أو على الاستحباب، كما أشرنا إليه آنفاً، هذا.

ثمّ إنّه لولا التوفيق بذلك للزم التقييد أيضاً في أخبار المرجّحات، وهي آبية عنه،

___________________________________________

إشارة إلى أنّ المخالفة للكتاب والموافقة للعامّة إن أسقطا الخبر عن الحجيّة كان اللّازم القول بذلك حتّى في صورة عدم معارضتهما بشيء، وإن لم يسقطا الخبر عن الحجيّة كان اللّازم القول بأنّ المخالفة للعامّة والموافقة للكتاب من المرجّحات لا ممّا يميّز الحجّة عن اللّاحجّة، فالتفكيك بكونهما غير مسقطين في صورة الانفراد ومسقطين في صورة التعارض لا وجه له.

{وإن أبيت عن ذلك} الّذي ذكرنا من كون المخالفة للكتاب والموافقة للعامّة تسقطان عن الحجيّة لا أنّهما ترجّحان المعارض، وقلت بلإنّهما مرجّحان لا مسقطان {فلا محيص عن حملها} أي: حمل الأخبار المشتملة على الموافقة للكتاب والمخالفة للعامّة {- توفيقاً بينها} أي: بين هذه الأخبار {وبين الإطلاقات -} الدالّة على التخيير {إمّا على ذلك} الّذي ذكرنا من كونها تمييزاً للحجّة عن اللّاحجّة {أو على الاستحباب} حتّى تبقى الإطلاقات سليمة {كما أشرنا إليه آنفاً} واستبعدنا أن يكون الإمام(علیه السلام) قد أطلق التخيير في هذه الأخبار، مع كون التخييير منزلته بعد اليأس عن المرجّحات.

{هذا ثمّ إنّه لولا التوفيق بذلك} الّذي ذكرنا - من الحمل على الاستحباب، أو كونها لتمييز الحجّة عن اللّاحجّة - لزم أن نقول: إنّ الخبرين إذا كانا مخالفين للكتاب - كما لو دلّ الكتاب على الحرمة ودلّا على الاستحباب والوجوب - كانا حجّة من هذه النّاحية، وذلك ممّا لا يمكن، فإن لم نقل بالتوفيق على نحو ما ذكرنا {للزم التقييد أيضاً} كما تقيّد أخبار التخيير {في أخبار المرجّحات وهي آبية عنه} أي: عن التقييد.

ص: 290

كيف يمكن تقييد مثل: «ما خالف قول ربّنا لم أقله» أو: «زخرف أو باطل»؟! كما لا يخفى.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ إطلاقات التخيير محكمّة، وليس في الأخبار ما يصلح لتقييدها.

نعم، قد استدلّ على تقييدها - ووجوب الترجيح في المتفاضلين - بوجوه أُخر:

منها: دعوى الإجماع على الأخذ بأقوى الدليلين(1).وفيه: أنّ دعوى الإجماع - مع مصير مثل الكليني إلى التخيير، وهو في عهد الغيبة الصّغرى، ويخالط النّوّاب والسّفراء، قال في ديباجة الكافي: «ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير»(2)

- مجازفة.

___________________________________________

و{كيف يمكن تقييد مثل «ما خالف قول ربّنا لم أقله» أو «زخرف» أو «باطل» كما لا يخفى} هذا تمام الكلام في باب أنّه مع التعارض هل يرجع إلى المرجّحات أو يخيّر بين المتعارضين ابتداءً.

{فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ إطلاقات التخيير محكمّة وليس في الأخبار} الّتي ادّعي دلالتها على الترجيح وأنّ التخيير إنّما هو بعد اليأس عن المرجّحات {ما يصلح لتقييدها} بعدم المرجّحات.

{نعم، قد استدلّ على تقييدها ووجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه أُخر: }

{منها: دعوى الإجماع على الأخذ بأقوى الدليلين} والأقوى هو الأرجح.

{وفيه أنّ دعوى الإجماع} مضافاً إلى أنّه محتمل الاستناد ومثله ليس بحجّة، كما سبق في مبحث الإجماع {مع مصير مثل الكليني إلى التخييير، وهو في عهد الغيبة الصّغرى ويخالط النّوّاب والسّفراء} فإنّه {قال في ديباجة الكافي: «ولا نجد شيئاًأوسع ولا أحوط من التخيير»} انتهى {مجازفة} خبر قوله: «إنّ دعوى».

ثمّ إنّ قول الكليني: «أوسع» واضح، إذ التخيير أوسع من الترجيح، وأمّا قوله:

ص: 291


1- فرائد الأصول 4: 48.
2- الكافي 1: 9.

ومنها: أنّه لو لم يجب ترجيح ذي المزيّة لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح، وهو قبيح عقلاً، بل ممتنع قطعاً(1).

وفيه: أنّه إنّما يجب الترجيح لو كانت المزيّة موجبة لتأكّد ملاك الحجيّة في نظر الشّارع؛

___________________________________________

«أحوط» فلعلّ وجهه أنّ في العمل بأحدهما إعراضاً عن الآخر وهو خلاف الاحتياط في خبر اشتمل على شرائط الحجيّة.

{ومنها: أنّه لو لم يجب ترجيح ذي المزيّة لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح} فإنّ مقابل الرّاجح مرجوح، فإذا لم يلزم الأخذ بالراجح جاز الأخذ بالمرجوح، ومع الأخذ به ترجيح للمرجوح على الرّاجح {وهو} أي: الترجيح {قبيح عقلاً، بل ممتنع قطعاً} لأنّ الترجيح مستلزم للترجيح بلا مرجّح وذلك ممتنع.

والفرق بين الترجيح بغير مرجّح والترجّح بغير مرجّح: أنّ الأوّل مستند إلى الفاعل، وذلك قبيح، بخلاف الثّاني فإنّه ترجّح تلقائي، وذلك ممتنع؛ لأنّ ارتفاع أحد طرفي المتساويين بدون علّة، معناه: وجود المعلول بدون علّة، وذلك محال، كما لا يخفى.

{وفيه} أنّ المرجّح قد يرجّح جهة الحكم ومناطه وقد لا يرجّح ذلك.مثلاً: لو كان مناط حجيّة الخبر إفادته الظنّ فالمرجّح قد يوجب تقوية الظنّ فيصلح أن يكون مرجّحاً ومعيّناً، وقد لا يوجب ذلك - بل الظنّ في ذي المرجّح كالظنّ في غيره - وحينئذٍ فحيث لا نعلم نحن مناط الحجيّة لا نعلم أنّ هذه المرجّحات المذكورة تقوي المناط أم لا، فلا نعلم الترجيح فلا يمكن الترجيح بالمذكورات ف- {إنّه إنّما يجب الترجيح} بالمرجّح {لو كانت المزيّة موجبة لتأكّد ملاك الحجيّة في نظر الشّارع} الجار متعلّق ب- «ملاك».

ص: 292


1- مفاتيح الأصول: 687.

ضرورة إمكان أن تكون تلك المزيّة بالإضافة إلى ملاكها، من قبيل الحجر في جنب الإنسان، وكان الترجيح بها بلا مرجّح، وهو قبيح، كما هو واضح، هذا.

مضافاً إلى ما هو في الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع، من أنّ الترجيح بلا مرجّح في الأفعال الاختياريّة - ومنها الأحكام الشّرعيّة - لا يكون إلّا قبيحاً، ولا يستحيل وقوعه إلّا على الحكيم - تعالى - ، وإلّا فهو بمكان من الإمكان؛ لكفاية إرادة

___________________________________________

{ضرورة إمكان أن تكون تلك المزيّة بالإضافة إلى ملاكها} أي: ملاك الحجيّة {من قبيل الحجر في جنب الإنسان} الّذي لا يكون موجباً لزيادة إنسانيّته {و} حين احتملنا ذلك وأنّ المرجّح - الموهوم - لا يزيد ملاكاً {كان الترجيح بها} أي: بهذه المزيّة {بلا مرجّح} وسبب {وهو قبيح، كما هو واضح} فقد أصبح دليل المستدلّ - على الترجيح - دليلاً على عكسه وأنّه لا ترجيح.{هذا} هو الجواب عن هذا القائل {مضافاً إلى ما هو} أي: إلى الإشكال {في الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع} حيث إنّ المستدلّ قال: وهو

قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً {من أنّ} بيان «ما» يعني: أنّ هذا الإضراب فيه إشكال واضح، فإنّ الترجيح بلا مرجّح إنّما هو في الأفعال الاختياريّة، والترجّح بلا مرجّح بالنسبة إلى المعلول الّذي يكون بلا علّة، والمقام من قبيل الأوّل لا الثّاني، وهما لا يجتمعان في مكان فكيف يضرب عن أحدهما إلى الآخر؟!

فإنّ {الترجيح بلا مرجّح في الأفعال الاختياريّة - ومنها الأحكام الشّرعيّة - لا يكون إلّا قبيحاً} فإنّ الأحكام الشّرعيّة إنّما هي أوامر ونواهي من الشّارع {ولا يستحيل وقوعه} أي: القبيح {إلّا على الحكيم - تعالى -} إذ القبح ناشئ إمّا من خبث أو جهل أو عجز، واللّه - سبحانه - منزّه عن الجميع {وإلّا فهو} أي: القبيح {بمكان من الإمكان} الذاتي ولذا يصدر من غيره {لكفاية إرادة} الشّخص

ص: 293

المختار علّة لفعله، وإنّما الممتنع هو وجود الممكن بلا علّة، فلا استحالة في ترجيحه - تعالى - للمرجوح، إلّا من باب امتناع صدوره منه - تعالى - ، وأمّا غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح ممّا باختياره.

وبالجملة: الترجيح بلا مرجّح بمعنى: بلا علّة محال، وبمعنى: بلا داع عقلائي قبيح ليس بمحال، فلا تشتبه.ومنها: غير ذلك(1)

ممّا لا يكاد يفيد الظنّ، فالصفح عنه أولى وأحسن.

___________________________________________

{المختار علّة لفعله} أي: فعل القبيح، وقوله: «لكفاية» علّة لقوله: «بمكان من الإمكان» {وإنّما الممتنع هو وجود الممكن بلا علّة} وهو الترجّح بلا مرجّح {فلا استحالة} ذاتيّة {في ترجيحه - تعالى - للمرجوح إلّا من باب امتناع صدوره منه - تعالى -} لأنّه لا يفعل قبيحاً، كما تقرّر في علم الكلام {وأمّا غيره} أي: غير اللّه سبحانه {فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح ممّا} يكون {باختياره} أي: اختيار ذلك الغير.

{وبالجملة الترجيح بلا مرجّح بمعنى} الوجود {بلا علّة محال، وبمعنى بلا داعٍ عقلائي} الّذي هو الترجيح بلا مرجّح {قبيح، ليس بمحال، فلا تشتبه} بينهما.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مراد المستدلّ استحالته في حقّ اللّه - سبحانه - إذ الكلام في الأحكام الشّرعيّة الّتي مصدرها اللّه - تعالى - أو يقرّب بأنّ مرجع الترجيح بلا مرجّح إلى الترجّح بلا مرجّح، كما قرّرناه في دليل المستدل.

{ومنها غير ذلك} من الوجوه الّتي ذكروها للترجيح {ممّا لا يكاد يفيد الظنّ} بالترجيح فكيف بالإلزام {فالصفح عنه أولى وأحسن} وقد ذكر بعضها المشكيني وغيره(2)، فراجع.

ص: 294


1- راجع فرائد الأصول 4: 53.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 5: 185؛ فرائد الأصول 4: 53-54؛ مفاتيح الأصول: 687.

ثمّ إنّه لا إشكال في الإفتاء بما اختاره من الخبرين، في عمل نفسه وعمل مقلّديه.

ولا وجه للإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعيّة؛ لعدم الدليل عليه فيها.

نعم،

___________________________________________

{ثمّ إنّه} بقي في المقام أمران:

الأوّل: أنّ المجتهد إذا ظفر بالمتعارضين وتخيّر بينهما إمّا ابتداءً، كما هو خيرة المصنّف، أو بعد العجز عن المرجّح، كما نسب إلى المشهور، فهل له التخيير في المسألة الفرعيّة أو لا، بل ينحصر التخيير بالمسألة الأصوليّة؟ فمثلاً: إذا ورد خبران أحدهما يقول: (لا تشرب التبغ) والآخر يقول: (لا بأس بشرب التّبغ) فالتخيير في المسألة الفرعيّة معناه: أنّه مخيّر بين الشّرب وتركه، ويكون حال التّبغ حال الماء في أنّه يجوز أن يشربه ويجوز أن لا يشربه، والتخيير في المسألة الأصوليّة معناه: أنّ في المقام حجّتين يجوز أن يأخذ بأحدهما، فإذا أخذ ب- (لا تشرب) كان التبغ محرّماً عليه حتّى أنّه لا يجوز شربه، وإذا أخذ ب- (لا بأس) كان التبغ مباحاً، حتّى أنّه يجوز شربه وتركه.

ثمّ هل يجوز له أن يفتي بالتخيير أو ليس له إلّا أن يفتي بما أخذه حجّة لنفسه؟ المصنّف على أنّه {لا إشكال في الإفتاء بما اختاره من الخبرين في عمل نفسه وعمل مقلّديه} فإذا اختار خبر التحريم أفتى بالحرمة وعمل هو في نفسه بمقتضى التحريم {ولا وجه للإفتاء بالتخيير} بأن يقول: أيّها المقلّدون أنتم مخيّرون في جعل التبغ لأنفسكم محرّماً وفي جعله مباحاً {في المسألة الفرعيّة لعدم الدليل عليه} أي: على التخيير{فيها} أي: في المسألة الفرعيّة، إذ ما دلّ على التخيير إنّما دلّ على التخيير في المسألة الأصوليّة بأخذ أحد الحجّتين والعمل على طبقه.

{نعم} إذا صار رأي المجتهد أنّه مخيّر بين الحجّتين جاز له أن يفتي بذلك بأن يقول: أيّها المقلّدون هنا خبران يتخيّر كلّ واحد منكم أن يأخذ بأحدهما حتّى

ص: 295

له الإفتاء به في المسألة الأصوليّة، فلا بأس حينئذٍ باختيار المقلّد غيرَ ما اختاره المفتي، فيعمل بما يفهم منه، بصريحه أو بظهوره الّذي لا شبهة فيه.

وهل التخيير بدويّ أو استمراريّ؟

قضيّة الاستصحاب - لو لم نقل بأنّه قضيّة الإطلاقات أيضاً - كونُه استمراريّاً.

وتوهّم(1)

«أنّ المتحيّر

___________________________________________

يجوز للمقلّد أن يأخذ بالخبر الدالّ على الإباحة وإن أخذ مجتهده بالخبر الدالّ على التحريم، ف- {له الإفتاء به} أي: بالتخيير {في المسألة الأصوليّة، فلا بأس حينئذٍ} أي: حين إفتاء المجتهد بأنّهم مخيّرون بين الأخذ بأحد الخبرين {باختيار المقلّد غير ما اختاره المفتي، فيعمل بما يفهم منه} أي: من الخبر الّذي اختاره هو بنفسه {بصريحه أو بظهوره الّذي لا شبهة فيه} ولو قلّد المجتهد في المسألة الفرعيّة لم يكن له إلّا الأخذ بما اختاره المجتهد، كما لا يخفى.

الثّاني: {وهل التخيير} في الأخذ بأحد الخبرين {بدويّ} حتّى أنّ المجتهد أو المقلّد لو أخذ بما دلّ على التحريم لم يجز له أن يأخذ في مرتبة أُخرى بما يدلّ على الإباحة {أو استمراريّ} ففي كلّ مرّة يجوزله أن يأخذ بالتحريم وأن يأخذ بالإباحة {قضيّة الاستصحاب} القائل بأنّ الشّخص استمرار حاله حال الشّخص في الابتداء {- لو لم نقل بأنّه} أي: ما سيجيء من التخيير الاستمراري {قضيّة الإطلاقات} الدالّة على التخيير الحاكمة بأنّه مستمرّ {أيضاً - كونه} أي: التخيير {استمراريّاً} لا بدويّاً فقط.

{وتوهّم «أنّ المتحيّر} هو موضوع الحكم بالتخيير، فإذا أخذ الشّخص بأحد الخبرين ذهب تحيّره فلا موضوع للإطلاق ولا بقاء لموضوع الاستصحاب، وحينئذٍ يجب أن يكون التخيير بدويّاً لا استمراريّاً، إذ المتحيّر

ص: 296


1- فرائد الأصول 4: 43.

كان محكوماً بالتخيير، ولا تحيّر له بعد الاختيار، فلا يكون الإطلاق ولا الاستصحاب مقتضياً للاستمرار، لاختلاف الموضوع فيهما».

فاسد؛ فإنّ التحيّر بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله، وبمعنى آخر لم يقع في خطابٍ موضوعاً للتخيير أصلاً، كما لا يخفى.

فصل: هل على القول بالترجيح يُقتصر فيه على المرجّحات المخصوصة المنصوصة، أو يتعدّى إلى غيرها؟

قيل:

___________________________________________

{كان محكوماً بالتخيير ولا تحيّر له} أي: للشخص {بعد الاختيار} لأحد الخبرين {فلا يكون الإطلاق} إذ بذهاب موضوع المطلق يذهب حكمه {ولا الاستصحاب} لما سبق في مبحث الاستصحاب من لزوم بقاء الموضوع.

فلا يكون في المقام دليل {مقتضياً للاستمرار لاختلافالموضوع فيهما»} أي: في الإطلاقات والاستصحاب {فاسِدٌ} خبر قوله: «وتوهّم» {فإنّ التحيّر بمعنى تعارض الخبرين باقٍ على حاله} فموضوع المطلق باقٍ، ولو فرض أنّه لا إطلاق فالاستصحاب حاكم بالبقاء لبقاء موضوعه {وبمعنى آخر} كما لو قلنا بأنّ المراد من المتحيّر الّذي لم يعمل إلى الآن - وهو مرتفع بعد العمل بأحدهما - {لم يقع في خطاب موضوعاً للتخيير أصلاً} حتّى نقول بزوال الموضوع بسبب العمل ولو مرّة واحدة {كما لا يخفى} واللّه العالم.

[فصل في المرجحات غير المنصوصة]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، المرجحات غير المنصوصة

{فصل} في التعدّي عن المرجّحات المنصوصة {هل على القول بالترجيح} وأنّه يلاحظ المرجّحات، فإذا فقدت يخيّر بين الخبرين {يقتصر فيه} أي: في الترجيح {على المرجّحات المخصوصة المنصوصة أو يتعدّى إلى غيرها} من كلّ ما يوجب أقوائيّة أحد الخبرين وإن لم ينصّ عليه؟ {قيل} والقائل الشّيخ

ص: 297

بالتعدّي؛ لما في الترجيح بمثل الأصدقيّة والأوثقيّة ونحوهما، ممّا فيه من الدلالة على أنّ المناط في الترجيح بها، هو كونها موجبة للأقربيّة إلى الواقع.

ولما في التعليل ب- : «أنّ المشهور ممّا لا ريب فيه» من استظهار أنّ العلّة هو: عدم الرّيب فيه، بالإضافة إلى الخبر الآخر، ولو كان فيه ألف ريب.

ولما في التعليل بأنّ الرّشد في خلافهم.

ولا يخفى ما في الاستدلال بها:

أمّا الأوّل: فإنّ جعل خصوص شيءٍ فيه جهةالإراءة

___________________________________________

المرتضى(رحمة الله) ونسبه إلى المجتهدين(1)

{بالتعدّي ل-} وجوه:

الأوّل: {ما في الترجيح بمثل الأصدقيّة والأوثقيّة ونحوهما} كالأفقهيّة {ممّا فيه من الدلالة على أنّ المناط في الترجيح بها} أي: بهذه الصّفات {هو كونها موجبة للأقربيّة إلى الواقع} فكلّ شيء يوجب الأقربيّة يكون مرجّحاً وإن لم ينصّ عليه.

{و} الثّاني {لما في التعليل ب-«أنّ المشهور ممّا لا ريب فيه» من استظهار أنّ العلّة} في الترجيح بالشهرة {هو عدم الرّيب} النّسبي {فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر ولو كان فيه ألف ريب} فكلّ ما هو يوجب أن يكون الخبر أقلّ ريباً من معارضه يرجّح الخبر وإن لم يكن منصوصاً.

{و} الثّالث {لما في التعليل بأنّ الرّشد في خلافهم} أي: خلاف العامّة، ممّا يدلّ على أنّ ما يحتمل أن يكون الرّشد فيه مقدّم على ما لا يحتمل ذلك، وإن كان السّبب لاحتمال الرّشد غير منصوص عليه.

{ولا يخفى ما في الاستدلال بها} أي: بهذه الوجوه:

{أمّا الأوّل: فإنّ جعل خصوص شيء فيه جهة الإراءة} للواقع

ص: 298


1- فرائد الأصول 4: 294.

والطّريقيّة حجّةً أو مرجّحاً، لا دلالة فيه على أنّ الملاك فيه بتمامه جهة إراءته،بل لا إشعار فيه، كما لا يخفى؛ لاحتمال دخل خصوصيّته في مرجّحيّته أو حجيّته، لاسيّما قد ذكر فيها ما لا يحتمل الترجيح به إلّا تعبّداً، فافهم.

وأمّا الثّاني: ف-

___________________________________________

{والطّريقيّة حجّة أو مرجّحاً} كما جعل الأصدقيّة في المقام مرجّحاً {لا دلالة فيه} أي: في هذا الجعل {على أنّ الملاك فيه بتمامه} هو {جهة إراءته، بل لا إشعار فيه، كما لا يخفى} فلا يتعدّى إلى كلّ شيء له جهة الإراءة {لاحتمال دخل خصوصيّته} أي: خصوصيّة المجعول {في مرجّحيّته أو حجيّته}.

نعم، يفيد الظنّ ولكن الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، فإذا جعل المولى خبر الواحد حجّة لا يدلّ ذلك على أنّ كلّ شيء مظنون مطابقته للواقع حجّة وإن كان أقوى من الخبر في إراءة الواقع، إذ لم يعلم أنّ الملاك في الحجيّة هو إراءة الواقع فقط {لاسيّما قد ذكر فيها} أي: في المرجّحات {ما لا يحتمل الترجيح به إلّا تعبّداً} كالأورعيّة، فإنّها لا تكشف عن الواقع إطلاقاً، فهي قرينة على عدم كون الملاك الأقربيّة إلى الواقع {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ جميع المرجّحات المذكورة حتّى الأورعيّة ممّا توجب الأقربية إلى الواقع في الجملة.

{وأمّا الثّاني ف-} نقول: قد تكون الشّهرة موجبة للأقربيّة وقد تكون موجبة للاطمئنان، فإذا كان المراد بالشهرة الأوّل كان دليلاً للقائل بالتعدّي، لكن الظاهر الثّاني، إذ الشّهرة في زمان الأئمّة كانت موجبة للاطمئنان.

وعليه فلا دلالة في الرّواية على أنّ كلّ ما يوجب الأقربيّة يكون مرجّحاً، بل تدلّ على أنّ كلّ شيء يوجب الاطمئنان يكون مرجّحاً، ولا بأس بمثل هذاالتعدّي، لكن مراد القائل بالتعدّي غير هذا، فإنّه يتعدّى إلى كلّ شيء يوجب

ص: 299

لتوقّفه على عدم كون الرّواية المشهورة في نفسها ممّا لا ريب فيها، مع أنّ الشّهرة في الصّدر الأوّل بين الرّواة وأصحاب الأئمّة^ موجبة لكون الرّواية ممّا يطمأنّ بصدورها، بحيث يصحّ أن يقال - عرفاً - : «إنّها ممّا لا ريب فيها» كما لا يخفى.

ولا بأس بالتعدّي منه إلى مثله، ممّا يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور، لا إلى كلّ مزيّة ولو لم توجب إلّا أقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع، من المعارض الفاقد لها.

وأمّا الثّالث: فلاحتمال أن يكون الرّشد في نفس المخالفة؛ لحسنها.

___________________________________________

الأقربيّة، فكون هذا التعليل موجباً للتعدّي ليس تامّاً مطلقاً {لتوقّفه على عدم كون الرّواية المشهورة في نفسها ممّا لا ريب فيها} بأن يكون «لا ريب» إضافيّاً حتّى يقال: بكلّ مرجّح إضافي، لا أن يكون «لا ريب» حقيقيّاً {مع} أنّه حقيقي.

ف- {إنّ الشّهرة في الصّدر الأوّل بين الرّواة وأصحاب الأئمّة^} كانت {موجبة لكون الرّواية ممّا يطمأنّ بصدورها، بحيث يصحّ أن يقال - عرفاً - «إنّها ممّا لا ريب فيها»} وإن كان فيها ريب دقّيّ عقليّ {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ولا بأس بالتعدّي منه} أي: من هذا المرجّح - الّذي هو الشّهرة - الموجب لوصف الرّواية بأنّها «لا ريب فيها» {إلى مثلهممّا يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور} فإذا كان خبران متعارضان أحدهما مطمئنّ بصدوره والآخر غير مطمئنّ إليه قدّم الأوّل {لا} التعدّي {إلى كلّ مزيّة ولو لم توجب إلّا أقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع من} الخبر {المعارض} له {الفاقد لها} أي: للأقربيّة.

{وأمّا الثّالث فلاحتمال أن يكون} وجه جعل الرّشد في خلافهم أنّ نفس المخالفة مرغوبة ولو لم توجب المخالفة الأقربيّة، بأن يكون في نفس المخالفة جهة رجحان، فإنّ نفس التشبّه بقوم منحرف - ولو في الأُمور المباحة - مرغوب عنه شرعاً، ف- {الرّشد في نفس المخالفة لحسنها} أي: حسن نفس المخالفة.

ص: 300

ولو سُلم أنّه لغلبة الحقّ في طرف الخبر المخالف، فلا شبهة في حصول الوثوق بأنّ الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدوراً، أو جهةً، ولا بأس بالتعدّي منه إلى مثله، كما مرّ آنفاً.

ومنه انقدح حال ما إذا كان التعليل لأجل انفتاح باب التقيّة فيه؛ ضرورة كمال الوثوق بصدوره كذلك، مع الوثوق بصدورهما - لولا القطع به -

___________________________________________

{ولو} قيل بأنّه ليس كذلك و{سلّم أنّه} أي: جعل المخالفة مرجّحة {لغلبة الحقّ في طرف الخبر المخالف} لهم {ف-} نقول: إنّه ليس لمجرّد الأقربيّة، بل لكونه موجباً للاطمئنان، ولا بأس بالتعدّي إلى كلّ ما يوجب الاطمئنان، إذ {لا شبهة في حصول الوثوق بأنّ الخبر الموافق} للعامّة {المعارضبالمخالف} لهم {لا يخلو من الخلل صدوراً أو جهة} فهو إمّا غير صادر عن الأئمّة^ أو صادر لأجل التقيّة لا لبيان الحكم الواقعي {ولا بأس بالتعدّي منه إلى مثله} من كلّ ما يوجب وثوقاً بأنّ المعارض فيه خلل سنداً أو جهة {كما مرّ آنفاً} في الجواب الثّاني.

{ومنه} أي: من الجواب الّذي ذكرناه في قولنا: «ولو سلّم» {انقدح حال ما إذا كان التعليل} بقوله(علیه السلام): «لأنّ الرّشد في خلافهم» {لأجل انفتاح باب التقيّة فيه} أي: في الخبر الموافق للعامّة.

والفرق بين هذا وسابقه أنّ «لو سلّم» كأن يقول: المرجّح كون الحقّ في طرف المخالف غالباً، وهذا يقول: إنّ الموافق يحتمل فيه ما لا يحتمل في المخالف، فتقديم المخالف إمّا لأجل أنّه أقرب، وإمّا لأجل أنّ معارضه محتمل الخلل.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) علّل وجه احتمال الخبر الموافق للتقيّة بقوله: {ضرورة كمال الوثوق بصدوره} أي: الموافق {كذلك} أي: تقيّة {مع الوثوق بصدورهما} أي: إذا وثقنا بصدور الخبرين نثق بأنّ الموافق صادر تقيّة {لولا القطع به} أي: بالصدور

ص: 301

في الصّدر الأوّل؛ لقلّة الوسائط ومعرفتها، هذا.

مع ما في عدم بيان الإمام(علیه السلام) للكليّة، كي لا يحتاج السّائل إلى إعادة السّؤال مراراً، وما في أمره(علیه السلام) ب-الإرج-اء - بعد فرض التساوي ف-ي ما ذكره من المزاي--ا المنصوصة -

___________________________________________

تقيّة {في الصّدر الأوّل} في زمان الأئمّة^ {لقلّة الوسائط ومعرفتها} فإذا كان هناك واسطتان للخبرين - زرارة، عن محمّد بن مسلم، عن الإمام(علیه السلام) - كان كلاهما موثوق الصّدور، فيوثق بكون الموافق للعامّة صادراً عن تقيّة، وهذا بخلاف زماننا ممّا كثرت الوسائط ولا نعرف كثيراً منهم ممّا يوجب أن لا نثق بصدور كثير من الأخبار.

والحاصل: أنّ الخبر الموافق في ذاك الزّمان كان موثوقاً بأنّه صادر عن تقيّة، فحيث يحتمل هذا في الموافق كان سبباً للأخذ بالمخالف.

ووجه الانقداح في قوله: «انقدح» أنّه إذا كان وجه الأخذ بالمخالف انفتاح باب التقيّة في الموافق لم يكن وجه للتعدّي منه إلى كلّ مزيّة. نعم، له وجه في التعدّي إلى كلّ ما يوجب الوثوق بخلل في الخبر، وهذا ليس مقصد القائل بالتعدّي.

{هذا} تمام الجواب عن الوجوه الّتي ذكروها للتعدّي إلى كلّ مزيّة، مضافاً إلى أنّه لو كان المرجّح كلّ مزيّة لبيّن الإمام(علیه السلام) قاعدة كليّة لذلك. مثلاً: قال: (كلّما يوجب القرب إلى الواقع) فحيث لم يبيّن كشف ذلك عن خصوصيّة هذه المرجّحات المنصوصة دون كلّ مزيّة.

و إلى هذا أشار بقوله: {مع ما في عدم بيان الإمام(علیه السلام) للكليّة} وأنّ كلّ مزيّة توجب الترجيح {كي لا يحتاج السّائل إلى إعادة السّؤال مراراً} كما في المقبولة والمرفوعة {وما في أمره(علیه السلام) بالإرجاء بعد فرض التساوي في ما ذكره من المزايا المنصوصة} حيث لو كانت مزايا أُخر لم تصل النّوبة إلى الإرجاء، بل صارت النّوبة

ص: 302

من الظهور في أنّ المدار في الترجيحعلى المزايا المخصوصة، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه بناءً على التعدّي، حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظنّ بذي المزيّة، ولا أقربيّته - كبعض صفات الرّاوي، مثل الأورعيّة أو الأفقهيّة، إذا كان موجِبهما ممّا لا يوجب الظنّ أو الأقربيّة، كالتورّع من الشّبهات، والجهد في العبادات، وكثرة التتبّع في المسائل الفقهيّة، أو المهارة في القواعد الأصوليّة - فلا وجه للاقتصار على التعدّي إلى خصوص ما يوجب الظنّ أو الأقربيّة، بل

___________________________________________

إلى تلك المزايا {من الظهور} بيان «ما» {في أنّ المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة} فقط {كما لا يخفى} دون غيرها.

{ثمّ إنّه بناءً على التعدّي} عن المرجّحات المنصوصة فلا وجه للتعدّي إلى كلّ ما يوجب الأقربيّة فقط، بل اللّازم التعدّي إلى كلّ مزيّة ولو لم توجب أقربيّة، إذ المرجّحات المنصوصة على قسمين: قسم يرجّح به بمناط الأقربيّة كالأصدقيّة، وقسم يرجّح به لا بهذا المناط كالأورعيّة.

فإذا قلنا بالتعدّي لزم القول بالتعدّي عنهما معاً لا عن القسم الأوّل خاصّة، ف- {حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظنّ بذي المزيّة} أي: الخبر الحاوي لها {ولا أقربيّته} إلى الواقع {كبعض صفات الرّاوي - مثل الأورعيّة أو الأفقهيّة - إذا كان موجبهما} أي: ما يوجب الأورعيّة والأفقهيّة {ممّا لا يوجب الظنّ} بالواقع {أو الأقربيّة} إليه {كالتورّع من الشّبهات} فإنّه غير موجب لأنْ نظنّ بخبره أكثر من ظنّنا بخبر غيره، كما لا يوجب أقربيّة خبره إلى الواقع {والجهد في العبادات} بإتيان النّوافل وسائرالمستحبّات {وكثرة التتبّع في المسائل الفقهيّة} ممّا لا يرتبط بعالم الرّواية {أو المهارة في القواعد الأصوليّة}.

وقوله: «كالتورّع» الخ مرتبط بقوله: «مثل الأورعيّة»، وقوله: «كثرة» الخ مرتبط بقوله: «الأفقهيّة»، وقوله: «وحيث» مرتبط بقوله: {فلا وجه للاقتصار على التعدّي إلى خصوص ما يوجب الظنّ أو الأقربيّة} إلى الواقع {بل} يلزم التعدّي

ص: 303

إلى كلّ مزيّة، ولو لم تكن بموجبة لأحدهما، كما لا يخفى.

وتوهّم: «أنّ ما يوجب الظنّ بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجّح، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجيّة؛ للظنّ بكذبه حينئذٍ».

فاسد؛ فإنّ الظنّ بالكذب لا يضرّ بحجيّة ما اعتبر من باب الظنّ نوعاً، وإنّما يضرّ في ما أُخذ في اعتباره عدم الظنّ بخلافه، ولم يؤخذ في اعتبار الأخبار - صدوراً ولا ظهوراً ولا جهةً -

___________________________________________

{إلى كلّ مزيّة ولو لم تكن بموجبة لأحدهما} كالشهرة في الفتوى وإعراض بعض الأصحاب القدماء وأشباه ذلك {كما لا يخفى}.

{و} إن قلت: كيف ذكرتم أنّ الظنّ بصدق أحد الخبرين من المرجّحات والحال أنّه من المعيّنات، إذ بقيام الظنّ على صدق خبر يظنّ بكذب الخبر المعارض له، فيسقط ذاك عن الحجيّة رأساً ويكون المظنون حجّة فقط، فليس الباب من الترجيح - كما ذكرتم - بل من تمييز الحجّة عن اللّاحجّة.

قلت: {توهّم «أنّ ما يوجب الظنّ بصدق أحدالخبرين لا يكون بمرجّح} للخبر المظنون {بل موجب لسقوط الآخر عن الحجيّة للظنّ بكذبه حينئذٍ»} أي: حين ظنّ بصدق مخالفه، فإذا ظنّ بصدق الدليل القائل بحليّة التبغ فقد ظنّ بكذب الدليل القائل بحرمته {فاسد} إذ الظنّ المعتبر في الأخبار هو الظنّ النّوعي، وهو حاصل في الخبر بمجرّد كونه خبراً، سواء ظنّ - شخصيّاً - بصدقه أو كذبه أم شكّ فيه {فإنّ الظنّ بالكذب لا يضرّ بحجيّة ما اعتبر من باب الظنّ نوعاً} فكلا الخبرين حجّة ويكون الظنّ مرجّحاً لأحدهما لا مسقطاً للآخر عن الحجيّة {وإنّما يضرّ} الظنّ بالكذب ويسقط الخبر عن الحجيّة {في ما أُخذ في اعتباره عدم الظنّ بخلافه} بأن يكون منوطاً بالظنّ الشّخصي {ولم يؤخذ في اعتبار الأخبار صدوراً} أي: سنداً {ولا ظهوراً} أي: دلالة {ولا جهة} أي: كونها صادرة لبيان الحكم

ص: 304

ذلك، هذا.

مضافاً إلى اختصاص حصول الظنّ بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدوراً، وإلّا فلا يوجب الظنّ بصدور أحدهما؛ لإمكان صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما، أو إرادته تقيّة، كما لا يخفى.

نعم،

___________________________________________

الواقعي لا للتقيّة ونحوها {ذلك} أي: اشتراط عدم الظنّ بالخلاف، فالسند والدلالة والجهة كلّها مستندة إلى بناء العقلاء وهم لا يشترطون عدم الظنّ بالخلاف.

{هذا مضافاً إلى} أنّ الظنّ بأحد الخبرين لا يستلزم الظنّبكذب الآخر لاحتمال صدورهما معاً، وكون ظاهر أحدهما غير مراد، لا أن يكون الآخر مكذوباً من أصله حتّى يكون الظنّ من باب تمييز الحجّة عن اللّاحجّة، ل- {اختصاص حصول الظنّ بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدوراً} بأن علم بأنّ أحدهما لم يصدر إطلاقاً {وإلّا} فلو لم يكن له هذا العلم {فلا يوجب الظنّ بصدور أحدهما} الظنّ بكذب الآخر {لإمكان صدورهما} معاً {مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما أو إرادته} أي: الظهور {تقيّة} لا لبيان الحكم الواقعي {كما لا يخفى}.

{نعم} لو كانت الدلالة وجهة الصّدور في كليهما قطعيّاً كان اللّازم من الظنّ بصدق أحدهما كذب الآخر.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّه لا وجه للتعدّي إلى خصوص ما أوجب القرب إلى الواقع، بل اللّازم التعدّي إلى كلّ مزيّة؛ لأنّ في الأخبار ذكرت بعض المزايا الّتي لا توجب أقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع إنّما هو في ما إذا كان مناط التعدّي الأخبار أو تنقيح المناط.

ص: 305

لو كان وجه التعدّي اندراجَ ذي المزيّة في أقوى الدليلين، لوجب الاقتصار على ما يوجب القوّة في دليليّته، وفي جهة إثباته وطريقيّته، من دون التعدّي إلى ما لا يوجب ذلك، وإن كان موجباً لقوّة مضمون ذيه ثبوتاً، كالشهرة الفتوائيّة أو الأولويّة الظنيّة ونحوهما؛ فإنّ المنساق من قاعدة: «أقوى الدليلين» - أو المتيقّن منها - ، إنّما هو الأقوى دلالة، كما لا يخفى، فافهم.

فصل: قد عرفت سابقاً أنّه لا تعارض فيموارد الجمع والتوفيق العرفي، ولا يعمّها

___________________________________________

وأمّا {لو كان وجه التعدّي اندراج ذي المزيّة في أقوى الدليلين} الّذي ادّعي عليه {لوجب الاقتصار على ما يوجب القوّة في دليليّته وفي جهة إثباته وطريقيّته} بأن تكون دلالة أحدهما أقوى من دلالة الآخر فكلّ ما أوجب ذلك كان مرجّحاً {من دون التعدّي إلى ما لا يوجب ذلك، وإن كان موجباً لقوّة مضمون ذيه ثبوتاً كالشهرة الفتوائيّة} الّتي لا توجب قوّة الدلالة وإنّما توجب قوّة المضمون {أو الأولويّة الظنيّة ونحوهما} ممّا لا يقوّي الدلالة {فإنّ المنساق من قاعدة «أقوى الدليلين»} الّتي هي مصبّ الإجماع في باب الترجيح {أو المتيقّن منها} أي: من تلك القاعدة {إنّما هو الأقوى دلالة، كما لا يخفى، فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ الظاهر من «أقوى الدليلين» الأعمّ من المرجّحات الدلاليّة أو غيرها لا خصوص المرجّحات الموجبة لقوّة الدلالة.

[فصل الكلام في شمول أخبار العلاج لموارد الجمع العرفي]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، الكلام في شمول أخبار العلاج ...

{فصل} في أنّ أخبار العلاج هل تعمّ موارد الجمع العرفي أيضاً أم هي خاصّة بما لا يمكن الجمع العرفي فيه؟ {قد عرفت سابقاً أنّه لا تعارض} حقيقة وبنظر العرف {في موارد الجمع والتوفيق العرفي} كالنّصّ والظاهر أو الأظهر والظاهر ممّا يرى العرف جمعاً بينهما {ولا يعمّها} أي: لا يعمّ تلك الموارد

ص: 306

ما يقتضيه الأصل في المتعارضين، من سقوط أحدهما رأساً، وسقوط كلّ منهما، في خصوص مضمونه كما إذا لم يكونا فيالبين؛ فهل التخيير أو الترجيح يختصّ أيضاً بغير مواردها أو يعمّها؟

___________________________________________

{ما يقتضيه الأصل في المتعارضين} فإنّ الأصل في المتعارضين - كما عرفت - سقوطهما عن الحجيّة بالنسبة إلى مفاد كلّ واحد منهما، فلا يمكن الأخذ بما دلّ على الوجوب ولا بما دلّ على التحريم، وإن أمكن الأخذ بما لازم الأمرين من نفي الثّالث كالاستحباب مثلاً، لعدم التعارض بينهما في نفي الثّالث.

وقوله: {من سقوط أحدهما رأساً} بيان قوله: «ما يقتضيه» أي: إنّ الأصل يقتضي سقوط أمر المتعارضين إطلاقاً في مفهومه وفي لازمه، إذ التعارض يدلّ على عدم ورود أحدهما قطعاً {وسقوط كلّ منهما في خصوص مضمونه} المطابقي مقابل الالتزامي، كما عرفت {كما إذا لم يكونا في البين} تشبيه لقوله: «وسقوط».

والحاصل: أنّ أصالة السّقوط لا تشمل الموارد الّتي بينها جمع عرفي، فليس الأصل في (أكرم كلّ عالم) و(لا تكرم زيداً) سقوطهما، وإنّما الأصل الجمع بينهما بحمل الظاهر - وهو العام - على النّصّ - وهو الخاص - {فهل التخيير} في مورد التساوي {أو الترجيح} في مورد الرّجحان {يختصّ أيضاً} كالأصل {بغير مواردها} أي: موارد الجمع العرفي {أو يعمّها} أي: يعمّ كلّ من التخيير والترجيح موارد الجمع العرفي، فهل ما في الرّوايات من التخيير والترجيح جار في موارد الجمع العرفي حتّى أنّه لا يصحّ الجمع العرفي، بل اللّازم إعمال قواعد المرجّحات في العام والخاص والمطلق والمقيّد ونحوهما، أم حال الرّوايات حال الأصل لا تشمل موارد الجمع؟

وإن شئت قلت: إنّ العقلاء يرون التساقط في المتعارضين ويرون الجمع فيالظاهر والأظهر، فهل الرّوايات كذلك، أم أنّ ما دلّ من إعمال قواعد التعادل

ص: 307

قولان:

أوّلهما المشهور(1)،

وقصارى ما يقال في وجهه: أنّ الظاهر من الأخبار العلاجيّة - سؤالاً وجواباً - هو التخيير أو الترجيح في موارد التحيّر، ممّا لا يكاد يستفاد المراد هناك عرفاً، لا في ما يستفاد ولو بالتوفيق، فإنّه من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.

ويشكل: بأنّ

___________________________________________

والترجيح جار في كلّ متعارض، وإن كان من قبيل الظاهر والأظهر؟ {قولان} للأصحاب {أوّلهما} أي: اختصاص قواعد التعادل والترجيح بغير موارد الجمع العرفي {المشهور}.

{وقصارى ما يقال في وجهه} أي: وجه عدم شمول القواعد لموارد الجمع العرفي: {أنّ الظاهر من الأخبار العلاجيّة سؤالاً وجواباً} أي: سؤال الرّواة عمّا إذا ورد خبران متعارضان، وجواب الأئمّة^ عن ذلك بالعلاج ترجيحاً أو تخييراً {هو التخيير أو الترجيح في موارد التحيّر} العرفي، كما لو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على التحريم {ممّا لا يكاد يستفاد المراد هناك عرفاً لا في ما يستفاد} المراد {ولو بالتوفيق} العرفي كالظاهر والنّصّ والأظهر والظاهر.

{فإنّه} أي: الجمع {من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة} فقول الإمام والسّائل منصرف عن مواردالجمع العرفي، فإذا سأل السّائل عن المتعارضين يريد بذلك ما لا يمكن الجمع بينهما، وإذا أجاب الإمام كان جواباً لمورد السّؤال، فلا يشمل السّؤال والجواب لما يمكن الجمع بينهما عرفاً.

{ويشكل} هذا القول المشهور {بأنّ} الأسئلة وأجوبة الإمام مطلقة فتشمل مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم زيداً) أيضاً كما تشمل مثل: (أكرم زيداً) و(لا

ص: 308


1- راجع فرائد الأصول 4: 82.

مساعدة العرف على الجمع والتوفيق، وارتكازه في أذهانهم على وجه وثيق، لا يوجب اختصاص السّؤالات بغير موارد الجمع؛ لصحّة السّؤال بملاحظة التحيّر في الحال، لأجل ما يترائى من المعارضة، وإن كان يزول عرفاً بحسب المآل، أو للتحيّر في الحكم واقعاً، وإن لم يتحيّر فيه ظاهراً، وهو كافٍ في صحّته قطعاً.

___________________________________________

تكرم زيداً) لأنّه بالنسبة إلى زيد يشمل قوله: (هذا يأمرنا وهذا ينهانا) منتهى الأمران: الأمر في (أكرم العلماء) بالعموم وفي (أكرم زيداً) بالخصوص، ف- {مساعدة العرف على الجمع والتوفيق} في موارد النّصّ والظاهر، والظاهر والأظهر {وارتكازه} أي: الجمع والتوفيق {في أذهانهم على وجه وثيق} حتّى أنّهم بمجرّد ورودهما يجمعون بينهما بلا توقّف أصلاً {لا يوجب اختصاص السّؤالات} من السّائلين {بغير موارد الجمع} العرفي.

إن قلت: كيف والحال أنّ ظاهر الأسئلة مورد التحيّر ولا تحيّر في موارد الجمع.

قلت: ليس كذلك {لصحّة السّؤال بملاحظة التحيّرفي الحال} يعني: أنّ السّائل إذا سأل عن توارد أمر ونهي متحيّر حين السّؤال عمّاذا يعمل، وإن كان إذا رأى (أكرم العلماء) و(لا تكرم زيداً) ساقه ذهنه العرفي إلى الجمع ولم يتحيّر، فإنّ التحيّر عند السّؤال عن الإمام موجود {لأجل ما يترائى من المعارضة وإن كان يزول عرفاً بحسب المآل} حين يرى الظاهر والأظهر الورادين {أو} إنّ التحيّر موجود - لا بدواً فقط، بل استمراراً - {ل-} أجل {التحيّر في الحكم} الواقعي، فإنّه لا يعلم في باب العام والخاصّ حكم زيد {واقعاً وإن لم يتحيّر فيه} أي: في الحكم {ظاهراً} للجمع العرفي {وهو كافٍ} أي: وجود التحيّر البدوي أو التحيّر في الحكم الواقعي كاف {في صحّته} أي: صحّة السّؤال عن موارد الجمع العرفي {قطعاً} فتكون الأدلّة شاملة لما لا يمكن الجمع بينهما ولما يمكن الجمع

ص: 309

مع إمكان أن يكون لاحتمال الرّدع شرعاً عن هذه الطّريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة، وجلّ العناوين المأخوذة في الأسئلة - لولا كلّها - يعمّها، كما لا يخفى.

ودعوى: «أنّ المتيقّن منها غيرها» مجازفة، غايته أنّه كان كذلك خارجاً، لا بحسب مقام التخاطب.

___________________________________________

بينهما، ويجب إعمال قواعد الترجيح والتخيير في (أكرم العلماء) و (لا تكرم زيداً) كما يجب إعمالها في (أكرم زيداً) و(لا تكرم زيداً) {مع إمكان أن يكون} السّؤال والجواب {لاحتمال الرّدع شرعاً عن هذه الطّريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة} فالسائلون كانوا يحتملون أنّ الشّريعة لا ترضى بالجمعالعرفي، ولذا كانوا يسألون سؤالاً مطلقاً، والإمام كان يجيب جواباً مطلقاً دلالة على أنّ الشّارع لا يرضى بالجمع العرفي.

{و} إن قلت: هذا تابع لكون الأسئلة والأجوبة مطلقة.

قلت: هي كذلك؛ لأنّ {جلّ العناوين المأخوذة في الأسئلة لولا كلّها يعمّها} أي: يعمّ موارد الجمع العرفي {كما لا يخفى} لمن نظر إليها كقوله: «بحديثين مختلفين»، وقوله: «إذا سمعت من أصحابك الحديث»، وقوله: «في ذلك حديثان»، إلى غير ذلك ممّا تقدّم.

{و} إن قلت: سلّمنا أنّ الرّوايات مطلقة سؤالاً وجواباً إلّا أنّ المتيقّن منها ما لا يمكن الجمع العرفي فيها.

قلت: {دعوى «أنّ المتيقّن منها} أي: من الأسئلة والأجوبة في الرّوايات {غيرها»} أي: غير موارد الجمع العرفي {مجازفة} إذ لا متيقّن في المقام {غايته} أي: غاية الأمر {أنّه كان كذلك خارجاً} أي: أنّ المتيقّن في الخارج كذلك {لا بحسب مقام التخاطب} والقدر المتيقّن المضرّ بالإطلاق والعموم هو القدر المتيقّن في مقام التخاطب، حيث يوجب تضييقاً في الكلام، أمّا المتيقّن

ص: 310

وبذلك ينقدح وجه القول الثّاني.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ التوفيق في مثل الخاصّ والعامّ، والمقيّد والمطلق، كان عليه السّيرة القطعيّة من لدن زمان الأئمّة^ وهي كاشفة - إجمالاً - عمّا يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفي، لولا دعوى اختصاصها به، وأنّها -سؤالاً وجواباً - بصدد الاستعلاج والعلاج في موارد التحيّر والاحتياج، أو دعوى الإجمال،

___________________________________________

الخارجي فلا يخلو منه عموم أو إطلاق وذلك لا يضرّ بهما.

{وبذلك} الّذي ذكرنا من وجه عموم الأدلّة سؤالاً وجواباً لمورد الجمع العرفي {ينقدح وجه القول الثّاني} الّذي هو خلاف قول المشهور من لزوم إعمال قواعد الترجيح حتّى في موارد الجمع العرفي.

{اللّهمّ إلّا أن يقال} في تقوية قول المشهور: {إنّ التوفيق في مثل الخاصّ والعامّ والمقيّد والمطلق كان عليه السّيرة القطعيّة من لدن زمان الأئمّة^} كما يظهر ذلك لمن راجع كلام الإمام أميرالمؤمنين(علیه السلام) حيث يقول: «إنّ في القرآن مطلقاً ومقيّداً وعامّاً وخاصّاً»(1)،

وما يفهم منه ومن غيره من كون العام يحمل على الخاصّ والمطلق يحمل على المقيّد {وهي} أي: السّيرة {كاشفة إجمالاً عمّا يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفي} فهي كالقرينة العقليّة القطعيّة الموجبة لكون مصبّ أخبار العلاج ما لا يمكن الجمع العرفي فيه {لولا دعوى اختصاصها} أي: اختصاص أخبار العلاج {به} أي: بغير موارد الجمع العرفي {وأنّها} أي: أخبار العلاج {سؤالاً وجواباً بصدد الاستعلاج} أي: طلب العلاج في الأسئلة {والعلاج} في الأجوبة {في موارد التحيّر والاحتياج، أو دعوىالإجمال}

ص: 311


1- لم نعثر على الرواية. نعم، ورد عن سليم بن قيس الهلالي - في حديث طويل - : «... فما نزلت على رسول اللّه|، آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عَليّ، فكتبتها بخطي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ...» الكافي 1: 62؛ وسائل الشيعة 27: 206-208.

وتساوي احتمال العموم مع احتمال الاختصاص.

ولا ينافيها مجرّد صحّة السّؤال لما لا ينافي العموم ما لم يكن هناك ظهور أنّه لذلك.

فلم يثبت بأخبار العلاج ردع عمّا عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء، من التوفيق، وحمل الظاهر على الأظهر، والتصرّف في ما يكون صدورهما قرينة عليه، فتأمّل.

___________________________________________

في الأخبار العلاجيّة، وأنّها هل تشمل موارد الجمع العرفي أم لا؟ {وتساوي احتمال العموم} في أخبار العلاج {مع احتمال الاختصاص} بمورد لا يمكن الجمع العرفي.

وإذا كانت أخبار العلاج محتملة للأمرين كان القدر المتيقّن منها مورد عدم إمكان الجمع العرفي، فلا تشمل مورد إمكان الجمع، ويكون المرجع في مورد الظاهر والأظهر العرف الّذي يرى الجمع بينهما، فلا يعمل قواعد التعادل والتراجيح هناك.

{ولا ينافيها} أي: لا ينافي دعوى الإجمال {مجرّد صحّة السّؤال لما لا ينافي العموم} فلا يمكن أن يقال: إنّ الأخبار محتملة للعموم فيؤخذ بالعموم، إذ {ما لم يكن هناك ظهور} في السّؤال والجواب {أنّه} أي: السّؤال {لذلك} العموم لم يمكن التمسّك بالعموم بعد ما عرفت من الإجمال {فلم يثبت بأخبار العلاج ردع} من الشّرع {عمّا عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء من التوفيق وحملالظاهر على الأظهر} والظاهر على النّصّ {والتصرّف في ما} أي: في الظاهر الّذي {يكون صدورهما} أي: المتنافيين {قرينة عليه} أي: على التصرّف فيه {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّ الأخبار شاملة لمورد الجمع، إلّا أنّ الإجماع أو السّيرة مخصّصة، لا أنّ الأخبار لا تشمله، وفرق بين التخصيص والتخصّص، كما لا يخفى.

ص: 312

فصل: قد عرفت حكم تعارض الظاهر والأظهر، وحمل الأوّل على الآخر، فلا إشكال في ما إذا ظهر أنّ أيّهما ظاهر وأيّهما أظهر.

وقد ذكر في ما اشتبه الحال لتمييز ذلك ما لا عبرة به أصلاً، فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها وبيان ضعفها:

منها: ما قيل(1) في ترجيح ظهور العموم على الإطلاق، وتقديم التقييد على التّخصيص - في ما دار الأمر بينهما - من: «كون ظهور العام في العموم تنجيزيّاً،

___________________________________________

[فصل المرجحات النوعية]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، المرجحات النوعية

{فصل} في بيان المرجّحات الّتي ذكروها لتقديم بعض الظواهر على بعض:

{قد عرفت حكم تعارض الظاهر والأظهر وحمل الأوّل على الآخر} نحو (أكرم العلماء) الّذي هو ظاهر في إكرام زيد العالم، و(لا تكرم زيداً) الّذي هو أظهر في عدم إكرامه {فلا إشكال في ما إذا ظهر أنّ أيّهما ظاهر وأيّهما أظهر} بأنّ فهم العرف ذلك {وقد ذكر في مااشتبه الحال لتمييز ذلك ما لا عبرة به أصلاً، فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها وبيان ضعفها} وأنّها لا تصلح لترجيح أحد الظاهرين على الآخر.

{منها: ما قيل في ترجيح ظهور العموم على الإطلاق} كما لو قال: (أكرم العالم ولا تكرم الفسّاق) بأن دار أمر زيد العالم الفاسق بين وجوب الإكرام لإدراجه في المطلق الّذي هو العالم، وبين حرمته لإدراجه في العام الّذي هو الفسّاق، فإنّه قيل بتقديم العموم وأنّه يحرم إكرامه {وتقديم التقييد} للمطلق الّذي هو العالم - مثلاً - {على التخصيص} للعام الّذي هو الفسّاق {في ما دار الأمر بينهما، من «كون} بيان «ما قيل» {ظهور العام في العموم تنجيزيّاً} لأنّه موضوع له فليس معلّقاً على

ص: 313


1- فرائد الأصول 4: 97-98.

بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق، فإنّه معلّق على عدم البيان، والعام يصلح بياناً، فتقديم العام حينئذٍ لعدم تماميّة مقتضي الإطلاق معه، بخلاف العكس، فإنّه موجب لتخصيصه بلا وجه إلّا على نحو دائر»؛ ومن: «أنّ التقييد أغلبُ من التّخصيص».

وفيه: أنّ عدم البيان - الّذي هو جزء المقتضي في مقدّمات الحكمة - إنّما هو عدم البيان في مقام التخاطب.

___________________________________________

شيء {بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق، فإنّه} تعليقيّ، إذ هو {معلّق على عدم البيان} الّذي هو من مقدّمات الحكمة {والعام يصلح بياناً} فإنّ ظهور العالم في كلّ عالم مقيّد بعد بيان على خلافه، والفسّاق ما كان شاملاً لزيد بالوضع يصلحأن يكون بياناً لإخراج بعض أفراد العالم من تحته.

{فتقديم العام حينئذٍ لعدم تماميّة مقتضى الإطلاق} الّذي هو مقدّمات الحكمة {معه} أي: مع وجود العام {بخلاف العكس} في ما لو قيل بتقديم المطلق على العام وإدراج زيد الجامع للوصفين في (أكرم العالم) بأن يجب إكرامه {فإنّه موجب لتخصيصه} أي: العام {بلا وجه إلّا على نحو دائر»} فإنّ تقييد المطلق للعام متوقّف على تماميّة الإطلاق، وتماميّة الإطلاق متوقّف على تقييده للعام - إذ لو لم يقيّد العام كان العام مقدّماً عليه - .

{ومن «أنّ التقييد أغلب من التخصيص»} وهذا وجهٌ ثانٍ لتقديم التقييد على التخصيص، عطف على قوله: «من كون». ومن المعلوم أنّ الظنّ يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب، فإذا دار الأمر بينهما قدّم ما هو الأغلب في الكلام.

{وفيه} أنّ عدم البيان وإن كان من مقدّمات الحكمة لكن العام لا يصلح أن يكون قيداً للمطلق - إذا كان منفصلاً عنه - وحينئذٍ فالإطلاق منعقد بسبب تماميّة مقدّماته والعموم تامّ فيقع التعارض بينهما، ف- {إنّ عدم البيان - الّذي هو جزء المقتضي} للإطلاق {في} باب {مقدّمات الحكمة - إنّما هو عدم البيان في مقام التخاطب} بأن

ص: 314

لا إلى الأبد.

وأغلبيّة التقييد مع كثرة التخصيص - بمثابةٍ قد قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» - غير مفيد؛ ولا بدّ في كلّ قضيّة من ملاحظة خصوصيّاتها الموجبة لأظهريّة أحدهما من الآخر، فتدبّر.ومنها: ما قيل(1)

في ما إذا دار بين التخصيص والنّسخ - كما إذا ورد عامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ،

___________________________________________

يكون المطلق عارياً عن قرينة على خلافه {لا إلى الأبد} وإلّا انعقد الإطلاق واحتاج في التقديم عليه إلى الأظهريّة.

{و} أمّا الاستدلال الثّاني وهو {أغلبيّة التقييد} ففيه أنّه {مع كثرة التخصيص - بمثابة قد قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خُصّ»} ممّا يظهر منه كثرة هائلة في باب التخصيص - {غير مفيد} لتقديم التقييد للمطلق على تخصيص العام.

{و} على هذا ف- {لا بدّ في كلّ قضيّة} تعارض فيها الإطلاق والعموم {من ملاحظة خصوصيّاتها الموجبة لأظهريّة أحدهما من الآخر} كما لو كان أحدهما معلّلاً، بأن قال: (أكرم العالم) لأنّه يحمل ما هو نور، ثمّ قال: (لا تكرم الفسّاق) أو انعكس بأن قال: (أكرم العالم ولا تكرم الفسّاق، فإنّهم بعيدون عن رحمة اللّه ورضوانه) وهكذا {فتدبّر} لعلّه إشارة إلى أنّ الأظهر عند العرف هو العام لا المطلق، وإن لم نقل بذينك الدليلين.

ثمّ إنّه إن بقي التعارض ولم يكن أظهر في البين فهل يجري التعارض هنا فيؤخذ بالمرجّحات أو يتساقطان ويرجع إلى الأصل؟ فيه تفصيل.

{ومنها} أي: من الموارد الّتي اشتبه في كون أيّ الدليلين أظهر {ما قيل في ما إذا دار} الأمر {بين التخصيص والنّسخ، كما إذا ورد عامّ بعد حضور وقتالعمل بالخاصّ}

ص: 315


1- فرائد الأصول 4: 93-94.

حيث يدور بين أن يكون الخاصّ مخصّصاً، أو يكون العامّ ناسخاً؛ أو ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصّصاً للعام، أو ناسخاً له ورافعاً لاستمراره ودوامه - في وجه تقديم التخصيص على النّسخ من: «غلبة التّخصيص وندرة النّسخ».

ولا يخفى: أنّ دلالة الخاصّ أو العامّ على الدوام والاستمرار إنّما هو بالإطلاق، لا بالوضع،

___________________________________________

كما لو أمر بإكرام زيد ثمّ بعد شهر قال: (لا تكرم الفسّاق) {حيث يدور بين أن يكون الخاصّ} المقدّم {مخصّصاً} للعام المؤخّر فيجب إكرام زيد مستمرّاً {أو يكون العام ناسخاً} للخاص المقدّم فيحرم إكرام زيد.

وإنّما قيّد ورود العام بكونه بعد حضور وقت العمل لأنّه لو ورد قبل وقت العمل كان العام مخصّصاً بالخاصّ قطعاً؛ لأنّه لا يمكن النّسخ إلّا بعد حضور وقت العمل {أو ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام} كما لو قال: (أكرم العلماء) وبعد شهر قال: (لا تكرم زيداً) {حيث يدور} الأمر {بين أن يكون الخاصّ مخصّصاً للعام} فيحرم إكرام زيد من أوّل الأمر {أو ناسخاً له} أي: للعام {ورافعاً لاستمراره ودوامه} حتّى يحرم الإكرام من الآن.

والنّتيجة تظهر في الآثار، فلو كان للإكرام قضاء إذا لم يؤدّه أو كفّارة لتركه لا يجبان على الأوّل لأنّه كشف عن عدم الوجوب من أوّل الأمر، ويجبان على الثّاني؛ لأنّه كان واجباً سابقاً وإنّما نسخ من الآن، ف- {في} مثل هذا الدوران وجهان:[1] {وجه} التعارض والتساقط والرّجوع إلى الأصل. [2] ووجه {تقديم التخصيص على النّسخ} وذلك {من} جهة {«غلبة التخصيص وندرة النّسخ»} والظنّ يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب.

{و} لكن {لا يخفى} ما فيه، ف- {إنّ دلالة الخاصّ أو العامّ على الدوام والاستمرار إنّما هو بالإطلاق} ومقدّمات الحكمة {لا بالوضع} إذ استمرار الحكم ليس شيئاً

ص: 316

فعلى الوجه العقلي في تقديم التقييد على التخصيص، كان اللّازم في هذا الدوران تقديم النّسخ على التخصيص أيضاً.

وأنّ غلبة التخصيص إنّما توجب أقوائيّة ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العامّ في العموم، إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة، بمثابةٍ تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام، وإلّا فهي وإن كانت مفيدة للظنّ بالتخصيص، إلّا أنّها غير موجبة لها، كما لا يخفى.

___________________________________________

مستفاداً من اللفظ، وإنّما تماميّة مقدّمات الحكمة تفيده {فعلى الوجه العقلي} المذكور سابقاً {في تقديم} العام على المطلق و{التقييد على التخصيص كان اللّازم في هذا الدوران تقديم النّسخ على التخصيص أيضاً} إذ الإطلاق أفاد دوام الأوقات، والعام أفاد عموم الإطلاق، فإذا دار الأمر بين أن ينسخ إكرام زيد - أي: يقيّد إطلاقه الزماني - ب- (أكرم العلماء)، وبين أن يخصّص العلماء بإطلاق (أكرم زيداً) كان التقييد مقدّماً.{و} أمّا ما ذكر من غلبة التخصيص على النّسخ وأنّها توجب تقديم ذاك ففيه {أنّ غلبة التخصيص} لا توجب تقوية الظهور مطلقاً، والظهور معيار التفاهم لا الوجوه العقليّة، فإنّ الغلبة {إنّما توجب أقوائيّة ظهور الكلام في الاستمرار والدوام} حتّى يخصّص العام {من ظهور العام في العموم} حتّى ينسخ الخاصّ {إذا كانت} الغلبة {مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام} حتّى إذا أُلْقِيَ خاصّ وعامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ على العرف لم يشكّ في أظهريّة الثّاني على الأوّل - فإنّ الأظهريّة معيار التقديم - {وإلّا} تكن الغلبة من القرائن {فهي وإن كانت مفيدة للظنّ بالتخصيص} للعام {إلّا أنّها} أي: الغلبة {غير موجبة لها} أي: للإفادة {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

ص: 317

ثمّ إنّه بناءً على اعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص - لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة - يُشكل الأمر في تخصيص الكتاب أو السّنّة بالخصوصات الصّادرة عن الأئمّة^؛ فإنّها صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتها، والتزام نسخها بها - ولو قيل بجواز نسخهما بالرواية عنهم - كما ترى.

___________________________________________

{ثمّ} إنّه اشتهر بلزوم صدور التخصيص قبل حضور وقت العمل بالعام، وإنّه إذا صدر بعد حضور وقت العمل كان ناسخاً، واشتهر أيضاً أنّ الخصوصات الصّادرة عن الأئمّة^ بعد حضور وقت العمل بعمومات الكتاب والسّنّة لا تكون ناسخة، بل هي مخصّصة، فكيف يمكن الجمع بين هذين الأمرين؟والجواب: الإشكال في القاعدة الأُولى، فإنّا لا نسلّم أنّ الخاصّ إذا صدر بعد وقت العمل بالعام يكون ناسخاً لا محالة، بل نقول: إنّ الخاصّ على قسمين: الأوّل: أن يكون ناسخاً، والثّاني: أن يكون مخصّصاً، ويكون صدوره بعد حضور وقت العمل لمصلحة، كما لو أراد المولى من أوّل الأمر إكرام العلماء غير زيد وقال: (أكرم العلماء) وأخفى استثناء زيد لمصلحة، فإنّه إذا أظهره لا يكون ناسخاً وإنّما يكون مخصّصاً أخفى إلى الحال لمصلحة.

وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى الإشكال بقوله: {إنّه بناءً على اعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص} أي: في كون الخاصّ مخصّصاً - لا ناسخاً - {لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة} إذ وقت العمل هو وقت الحاجة {يشكل الأمر في تخصيص الكتاب أو السّنّة} العامّة الواردة في زمان الرّسول(صلی

الله علیه و آله) مثلاً {بالخصوصات الصّادرة عن الأئمّة^ فإنّها} أي: الخصوصات {صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتها} أي: عمومات تلك الخصوصات {والتزام نسخها} أي: العمومات {بها} أي: بالخصوصات {- ولو قيل بجواز نسخهما} أي: عمومات الكتاب والسّنّة {بالرواية عنهم - كما ترى} فإنّ الجواز المستفاد من قوله(علیه

السلام): «الحديث ينسخ كما

ص: 318

فلا محيص في حلّه من أن يقال: إنّ اعتبار ذلك حيث كان لأجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة - وكان من الواضح أنّ ذلك في ما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء الخصوصات، أو مفسدة في إبدائها، كإخفاء غير واحد من التكاليف في الصّدرالأوّل - ، لم يكن بأس بتخصيص عموماتها بها، واستكشاف أنّ موردها

___________________________________________

ينسخ القرآن»(1)

غير الفعليّة والخارجيّة، وقد اشتهر عند الفقهاء انقطاع النّسخ بانقطاع الوحي، فالقول بهذا القدر الهائل من النّسخ من أبعد الأشياء.

{فلا محيص في حلّه} أي: حلّ هذا الإشكال {من أن يقال: إنّ اعتبار ذلك} أي: اعتبار اشتراط عدم حضور وقت العمل في التخصيص {حيث كان لأجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة} إذ وقت الحاجة وقت تعلّق غرض الحكيم بمراده، فتأخير بيان مراده عن ذلك الوقت نقض للغرض وهو قبيح.

{وكان من الواضح أنّ ذلك} القبح {في ما إذا لم يكن هناك مصلحة} للمولى {في إخفاء الخصوصات أو} لم يكن {مفسدة في إبدائها} أي: الخصوصات، كما لو قال: (أكرم العلماء) وكانت مصلحة إخفاء (لا تكرم زيداً) أنّه يحضر لمحاربة الأعداء إذا لم يعلم باستثنائه، أو كانت مفسدة إظهار الاستثناء أنّه يوقع فتنة بين المسلمين وهم الآن ضعاف لا يتمكّنون من صدّه وإن قووا بعد ذلك حين الإظهار فلا يحتاجون إلى معاونته ولا يضرّهم كيده {كإخفاء غير واحد من التكاليف في الصّدر الأوّل} حيث كان الرّسول(صلی الله علیه و آله) يكتفي منهم بإظهار الشّهادتين فقط مع معلوميّة أنّ جميع التكاليف كانت مرادة للّه - تعالى - {لم يكن بأس} خبر قوله: «إنّ اعتبار ذلك حيث كان» {بتخصيص عموماتها} أي: عمومات الشّريعة المستفادة من الكتاب والسّنّة {بها} أي: بالخصوصات الواردة بعد حضور وقت العمل {واستكشاف أنّ موردها} أي:مورد الخصوصات

ص: 319


1- الكافي 1: 65.

كان خارجاً عن حكم العام واقعاً، وإن كان داخلاً فيه ظاهراً.

ولأجله لا بأس بالالتزام بالنسخ، بمعنى رفع اليد بها عن ظهور تلك العمومات - بإطلاقها - في الاستمرار والدوام أيضاً، فتفطّن.

فصل:

___________________________________________

{كان خارجاً عن حكم العام واقعاً} وفي نفس الأمر، فزيد كان مستثنى عن (أكرم العلماء) من أوّل الأمر {وإن كان داخلاً فيه} أي: في العام {ظاهراً}.

{ولأجله} أي: لأجل كون المصلحة في تأخير البيان {لا بأس بالالتزام بالنسخ} في هذه الخصوصات، لكن لا بمعنى أنّ إكرام زيد - مثلاً - كان مراداً واقعيّاً للّه - تعالى - ثمّ نسخ، بل {بمعنى رفع اليد بها} أي: بسبب هذه الخصوصات {عن ظهور تلك العمومات ب-} سبب {إطلاقها في الاستمرار والدوام أيضاً} كما أجزنا التخصيص بعد حضور وقت العمل.

والحاصل: أقول: إنّ هذه الخصوصات إمّا تخصيصات أُخفيت لمصلحة وإمّا نواسخ، بمعنى اقتضاء المصلحة الثانويّة كونها داخلة في حكم العام ظاهراً إلى أن يأتي دور إبدائها.

والفرق بين هذا النّسخ والنّسخ المصطلح أنّ هذا كان محكوماً بالحكم السّابق لمصلحة ثانويّة، وذاك كان محكوماً بالحكم السّابق لمصلحة ذاتيّة {فتفطّن} واللّه العالم.

ثمّ لا يخفى أنّ بناء الفقهاء على كون الخصوصات مخصّصات مطلقاً - علمتاريخها أم جهل، أم اختلف، كان العام مقدّماً أم مقارناً أم مؤخّراً - كما لا يخفى على من له إلمام بالفقه.

[فصل عدم انقلاب النسبة]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، عدم انقلاب النسبة

{فصل} قد يكون في المقام عامّ وخاصّ فلا إشكال في تقديم الخاصّ على

ص: 320

لا إشكال في تعيين الأظهر - لو كان في البين - إذا كان التعارض بين الاثنين. وأمّا إذا كان بين الزائد عليهما فتعيّنه ربّما لا يخلو عن خفاء.

ولذا وقع بعض الأعلام(1)

في اشتباه وخطأ، حيث توهّم: أنّه إذا كان هناك عامّ وخصوصات، وقد خصّص

___________________________________________

العامّ - وهكذا المطلق والمقيّد - ، وقد يكون عامّان من وجه فلا إشكال في تنازعهما في مورد الاجتماع، وقد يكون في المقام ثلاثة أدلّة كما لو ورد (أكرم العلماء) وورد (لا تكرم فسّاق العلماء) وورد (لا تكرم النّحويّين)، وهنا يكون دليل أعمّ مطلقاً وهو (أكرم) ودليلان أخصّ مطلقاً وهما (لا تكرم) و(لا تكرم)، واللّازم أن يقدّما على العام، فيحرم إكرام الفسّاق ويحرم إكرام النّحويّين، وقد وقع اشتباه لبعض الأعلام حيث توهّم انقلاب النّسبة بأن يخصّص (أكرم العلماء) أوّلاً ب- (لا تكرم الفسّاق) مثلاً، وحينئذٍ تكون النّسبة بين (أكرم العلماء غير الفسّاق) وبين (لا تكرم النُّحاة) عموماً من وجه؛ لأنّهما يجتمعان في النحوي العادل ويختصّ الأوّل بالفقيه العادل والثّاني بالنحوي الفاسق.

وهذا الاشتباه ممّا لا وجه له، إذ لماذا لا يقدّم أحد التخصيصين على التخصيص الآخر حتّى يوجب هذا الانقلاب ويقع التعارض في مادّة الاجتماع؟

وقد انعقد هذا الفصل لدفع هذا التوهّم فنقول: {لا إشكال فيتعيين الأظهر لو كان} الأظهر {في البين} في ما {إذا كان التعارض بين الاثنين} أي: دليلين فقط.

{وأمّا إذا كان} التعارض {بين الزائد عليهما} أي: على الدليلين {فتعيّنه} أي: الأظهر {ربّما لا يخلو عن خفاء، ولذا وقع بعض الأعلام} وهو النّراقي(قدس

سره) {في اشتباه وخطأ} وفرّع على ذلك فروعاً {حيث توهّم أنّه إذا كان هناك عامّ} ك- (أكرم العلماء) {وخصوصات} نحو (لا تكرم فسّاقهم) و(لا تكرم النّحويّين) {وقد خصّص} العام

ص: 321


1- عوائد الأيام: 349.

ببعضها، كان اللّازم ملاحظة النّسبة بينه وبين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به، فربّما تنقلب النّسبة إلى عموم وخصوص من وجه، فلا بدّ من رعاية هذه النّسبة، وتقديم الرّاجح منه ومنها، أو التخيير بينه وبينها لو لم يكن هناك راجح، لا تقديمها عليه، إلّا إذا كانت النّسبة بعده على حالها.

وفيه: أنّ النّسبة إنّما هي بملاحظة الظهورات،

___________________________________________

{ببعضها} نحو (لا تكرم الفسّاق) {كان اللّازم ملاحظة النّسبة بينه} أي: العام {وبين سائر الخصوصات} نحو (لا تكرم النُّحاة) {بعد تخصيصه} أي: العام {به} أي: ببعضها، وهو الخاصّ الأوّل {فربّما تنقلب النّسبة} الّتي كانت بين العام والخاصّ الثّاني {إلى عموم وخصوص من وجه} بعد ما كانت عموماً وخصوصاً مطلقاً {فلا بدّ من رعاية هذهالنّسبة وتقديم الرّاجح منه} أي: من العام {ومنها} أي: الخصوصات الباقية في مثل: (النّحوي العادل) الّذي هو مورد الاجتماع بعد الانقلاب وهل أنّه يجب إكرامه أم يحرم {أو التخيير بينه وبينها لو لم يكن هناك راجح} خارجيّ يوجب إلحاق المجمع بأحد الطّرفين {لا تقديمها} أي: الخصوصات الباقية {عليه} أي: على العام {إلّا إذا كانت النّسبة بعده} أي: بعد التخصيص الأوّل {على حالها} السّابق من كونها عموماً وخصوصاً مطلقاً، كما لو لم يكن في النّحاة عدول أصلاً حتّى لا يبقى مورداً للاجتماع، بل كان النُّحاة أخصّ مطلقاً عن العلماء حتّى بعد إخراج الفسّاق منه.

{وفيه} أنّ ظهور العام في العموم باقٍ وإن خرج عنه بعض الأفراد بمخصّص فقوله: (أكرم) فيه ظهور بالنسبة إلى كلّ عام وإن علمنا بخروج الفسّاق، وهذا الظهور أعمّ من ظهور النّحويّين فهو أخصّ مطلقاً ف- {إنّ النّسبة إنّما هي بملاحظة الظهورات} لا بملاحظة المرادات حتّى يقال: بأنّ المراد من (العلماء) العلماء

ص: 322

وتخصيص العام بمخصّص منفصل - ولو كان قطعيّاً - لا ينثلم به ظهوره، وإن انثلم به حجيّته، ولذلك يكون بعد التّخصيص حجّةً في الباقي؛ لأصالة عمومه بالنسبة إليه.

لا يقال: إنّ العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملاً في العموم قطعاً، فكيف يكون ظاهراً فيه؟

فإنّه يقال: إنّ المعلوم عدم إرادة العموم، لا عدم استعماله فيه

___________________________________________

العدول ونسبته إلى النّحويّين عموم من وجه {وتخصيص العام بمخصّص منفصل - ولو كان قطعيّاً -} أي: ذلك المخصّص {لا ينثلم به} أي: بهذا المخصّص {ظهوره} أي: ظهور العام في العموم {وإن انثلم به} أي: بالمخصّص {حجيّته} أي: حجيّة العام فهو ظاهر في العموم غير حجّة فيه.

{ولذلك} الظهور الموجود له - وإن خصّص - {يكون بعد التخصيص حجّة في الباقي} من الأفراد المشكوكة وغيرها، ولو انثلم ظهور العام بسبب التخصيص لم يبق له حجّة أصلاً، إذ ما لا ظاهر له لا حجيّة له، فهو حجّة في الباقي {لأصالة عمومه} أي: عموم العام {بالنسبة إليه} أي: إلى الباقي.

{لا يقال}: المراد من العلماء في (أكرم العلماء) هو العدول فقط - بعد تخصيصه بقوله: (لا تكرم الفسّاق) - والنّسبة بين العلماء العدول وبين النّحويّين عموم من وجه ف- {إنّ العامّ بعد تخصيصه ب-} المخصّص {القطعي لا يكون مستعملاً في العموم قطعاً} إذ المراد منه ليس عامّاً {فكيف يكون} العامّ {ظاهراً فيه} أي: في العموم الّذي غير مستعمل فيه؟

{فإنّه يقال: إنّ المعلوم عدم إرادة العموم لا عدم استعماله فيه} أي: في العموم، وفرق بين الإرادة والاستعمال، فالعام مستعمل في العموم ولذا يصحّ تخصيصه ولو كان غير مستعمل في العموم لم يصحّ تخصيصه، فإذا قال المولى: (أكرم العلماء) فقد أراد بالإرادة الاستعماليّة كلّ عالم، وهذه الإرادة الاستعماليّة باقية

ص: 323

لإفادة القاعدة الكليّة، فيعملبعمومها ما لم يعلم بتخصيصها، وإلّا لم يكن وجه في حجيّته في تمام الباقي؛ لجواز استعماله حينئذٍ فيه وفي غيره من المراتب الّتي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص.

وأصالة عدم مخصّص آخر لا يوجب انعقاد ظهور له، لا فيه ولا في غيره من المراتب؛ لعدم الوضع

___________________________________________

حتّى بعد التخصيص، وإنّما يستعمل اللفظ في العموم وإن لم يرد جميع الأفراد {لإفادة القاعدة الكليّة} وأنّ الحكم عامّ إلّا ما أُخرج {فيعمل بعمومها} أي: بعموم هذه القاعدة {ما لم يعلم بتخصيصها} فإذا علم بالتخصيص خرج عن المراد لا عن ظاهر اللفظ حتّى ينثلم الظهور.

{وإلّا} فلو انثلم الظهور بسبب التخصيص {لم يكن وجه في حجيّته} أي: العام {في تمام الباقي} إذا كان للفظ ظهور واحد وقد انثلم، فأيّ ظهور له في ما بقي من الأفراد؟ {لجواز استعماله} أي: العام {حينئذٍ} أي: حين انثلام الظهور بسبب التخصيص {فيه} أي: في تمام الباقي {وفي غيره من المراتب الّتي يجوز أن ينتهي} العام {إليها} لدى {التخصيص} فمثلاً يجوز أن يخصّص العام الّذي له ألف فرد إلى أن يبقى ربعه، أمّا أن يخصّص إلى أن يبقى ثلاثة أفراد فهو مستهجن، فإذا انثلم الظهور كان من المحتمل بقاء الرّبع والنّصف وثلاثة أرباع وهكذا، فيسقط عن الحجيّة في تمام الباقي.

{و} إن قلت: إنّا نقول بعدم الظهور في تمام الباقي لكن إنّما نعيّنه بأصالة عدم التخصيص، إذ كلّ إخراج يحتاج إلى تخصيص جديد، فالأصل عدمه.قلت: {أصالة عدم مخصّص آخر لا يوجب انعقاد ظهور له} أي: للعام {لا فيه} أي: في تمام الباقي {ولا في غيره من المراتب} فبأيّ ملاك يقال: إنّ اللّازم إكرام عالم ولو عالم واحد، إذ لا ظهور يتمسّك به {لعدم الوضع} للعام المخصّص

ص: 324

ولا القرينة المعيّنة لمرتبة منها، كما لا يخفى؛ لجواز إرادتها وعدم نصب قرينة عليها.

نعم، ربّما يكون عدم نُصب قرينة مع كون العام في مقام البيان قرينةً على إرادة التمام، وهو غير ظهور العام فيه في كلّ مقام.

فانقدح بذلك: أنّه لا بدّ من تخصيص العام بكلّ واحد من الخصوصات مطلقاً، ولو كان بعضها مقدّماً أو قطعيّاً، ما لم يلزم منه

___________________________________________

لمرتبة من المراتب {ولا القرينة المعيّنة لمرتبة منها} أي: من المراتب {كما لا يخفى} فيبقى اللفظ مجملاً لا يستدلّ به على شيء {لجواز إرادتها} أي: مرتبة من المراتب {وعدم نصب قرينة عليها} أي: على تلك المرتبة المرادة.

{نعم} إن تمّت مقدّمات الحكمة انعقد للعام ظهور إطلاقي، ف- {ربّما يكون عدم نصب قرينة} على المراد {مع كون العام في مقام البيان} وعدم قدر متيقّن في البين {قرينة على إرادة التمام} أي: تمام الباقي.

{وهو} أي: هذا الّذي ذكر من انعقاد الإطلاق في بعض المواضع {غير ظهور العام فيه} أي: في تمام الباقي {في كلّ مقام}سواء انعقد الإطلاق بتماميّة مقدّمات الحكمة أم لم ينعقد.

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من عدم انقلاب النّسبة، وإنّما النّسبة بعد التخصيص بين العام وبين مخصّص ثان كالنسبة قبل التخصيص {أنّه لا بدّ من تخصيص العام بكلّ واحد من الخصوصات مطلقاً} وأراد بالإطلاق ما بيّنه بقوله: {ولو كان بعضها} أي: الخصوصات {مقدّماً} على بعضها الآخر من جهة الدلالة أو من جهة الزمان، بأن قال: (يوم الجمعة أكرم العلماء) وقال يوم السّبت: (لا تكرم الفسّاق) ويوم الأحد (لا تكرم النُّحاة) لما عرفت من أنّ ظهور العام لا ينثلم مطلقاً {أو قطعيّاً} سنداً أو دلالة.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تقدّم الخصوصات مطلقاً إنّما هو {ما لم يلزم منه} أي: من

ص: 325

محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفاً، ولو لم تكن مستوعبة لأفراده، فضلاً عمّا إذا كانت مستوعبة لها، فلا بدّ حينئذٍ من معاملة التباين بينه وبين مجموعها، ومن ملاحظة الترجيح بينهما وعدمه.

فلو رُجّح جانبها، أو اختير - في ما لم يكن هناك ترجيح - فلا مجال للعمل به أصلاً.

___________________________________________

تقدّم الخصوصات {محذور} بأن كانت الخصوصات مستوعبة للعام، كما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم فسّاقهم) وقال: (لا تكرم عدولهم) أو لا يبقى بعد الخصوصات إلّا أفراد قليلة يستهجن استعمال العام وإرادة هذه الأفراد القليلة، كما لو كان هناك ألف عالم تسعمائة منهم نحاة وخمسون منهم صرفيّون فقال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم النُّحاة) وقال: (لا تكرم الصّرفيّين) حتّى أنّه لم يبق ل- (أَكْرِمْ) إلّا خمسين، فإنّه مستهجن استعمال العلماء في خمسينفقط، فلو استلزم من إعمال جميع الخصوصات محذور {انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفاً} كما عرفت في المثال الثّاني.

{ولو لم تكن} الخصوصات {مستوعبة لأفراده} أي: العام {فضلاً عمّا إذا كانت مستوعبة لها} أي: لأفراد العام {فلا بدّ حينئذٍ من معاملة التباين بينه} أي: بين العام {وبين مجموعها} أي: مجموع الخصوصات، فهي كلّها في طرف والعام في طرف آخر.

{و} لا بدّ {من ملاحظة الترجيح بينهما} بين العامّ وبين الخصوصات {وعدمه} أي: عدم الترجيح {فلو رجّح جانبها} أي: الخصوصات {أو اختير} جانب الخصوصات إذا وصلت النّوبة إلى قوله(علیه السلام): «إذن فتخيّر»(1)

{في ما لم يكن هناك ترجيح فلا مجال للعمل به} أي: بالعام {أصلاً} حتّى بالنسبة إلى تلك

ص: 326


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 255.

بخلاف ما لو رجّح طرفه، أو قدّم تخييراً، فلا يطرح منها إلّا خصوص ما لا يلزم - مع طرحه - المحذور من التخصيص بغيره؛ فإنّ التباين إنّما كان بينه وبين مجموعها، لا جميعها، وحينئذٍ فربّما يقع التعارض بين الخصوصات، فيخصّص ببعضها ترجيحاً أو تخييراً، فلا تغفل.

___________________________________________

الأفراد القلائل في ما لم تكن الخصوصات مستوعبة، وذلك لأنّ العام سقط عن الحجيّة رأساً فلا يعمل به أصلاً {بخلاف ما لو رجّح طرفه} أي:العام {أو قدّم} العام {تخييراً} إذا وصلت النّوبة إلى التخيير {فلا يطرح منها} أي: من الخصوصات {إلّا} بعضها، ففي المثال الثّاني يطرح فقط (لا تكرم النُّحاة)، إذ بإعماله يستلزم التخصيص المستهجن، أمّا (لا تكرم الصّرفيّين) فلا يطرح، بل يعمل في العام ويخصّصه إذ لا يلزم من تخصيص العام به استهجان أبداً.

نعم، لو كانت الخصوصات على حدّ سواء - كما لو خصّص بعشرة تخصيصات كلّ تخصيص حاو على مائة أو على تسعين - لم يبق بعض التخصيصات أولى بالطرح من بعضها الآخر، فيطرح {خصوص ما لا يلزم مع طرحه المحذور من التخصيص بغيره} أي: يطرح مثلاً: (النُّحاة) الّذي لا يلزم من طرحه وتخصيص العام بغيره الّذي هو (الصّرفيّون) المحذور المتقدّم من الاستهجان أو الاستغراق.

وإنّما نقول بطرح بعض الخصوصات دون جميعها {فإنّ التباين إنّما كان بينه} أي: بين العام {وبين مجموعها} أي: مجموع الخصوصات {لا جميعها} أي: كلّ واحد واحد منها، فمجموعها لا يمكن أمّا بعضها فيمكن {وحينئذٍ} أي: حين كون التباين بين العام وبين المجموع {فربّما يقع التعارض بين الخصوصات} وأنّ أيّها تخصّص العام في ما كانت متساويات لا كمثل (النُّحاة) و(الصّرفيّين) في المثال {فيخصّص} العام {ببعضها ترجيحاً} على بعضها الأُخر لكونه قطعيّاً أو مشهوراً {أو تخييراً} بينها لتساويها {فلا تغفل}.

ص: 327

هذا في ما كانت النّسبة بين المتعارضات متّحدة.

وقد ظهر منه حالُها في ما كانت النّسبة بينها متعدّدة، كما إذا ورد هناك عامان من وجه، مع ما هو أخصّ مطلقاً من أحدهما،وأنّه لا بدّ من تقديم الخاصّ على العام، ومعاملة العموم من وجه بين العامّين، من الترجيح أو التخيير بينهما، وإن انقلبت النّسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما؛

___________________________________________

لكن لا يخفى أنّ هذا الكلام بطوله متوقّف على فهم العرف، وإلّا فالوجوه العقليّة لا تصلح مرجّحات للأدلّة اللفظيّة.

{هذا} تمام الكلام {في ما كانت النّسبة بين المتعارضات متّحدة} كما لو كان أدلّة ثلاثة بين الجميع عموم مطلق، كما عرفت في المثال السّابق الّذي كان عام واحد وخصوصان.

{وقد ظهر منه} أي: من الكلام في النّسبة المتحدة وإنّه لا تنقلب النّسبة {حالها} أي: حال النّسبة {في ما كانت النّسبة بينها} أي: بين المتعارضات {متعدّدة} كما لو كانت النّسبة بين بعضها مع بعض العموم المطلق وبين بعضها مع بعض العموم من وجه {كما إذا ورد هناك عامان من وجه} نحو (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق) {مع ما هو أخصّ مطلقاً من أحدهما} نحو (لا تكرم النُّحاة من العلماء) الّذي هو أخصّ مطلقاً من (أكرم العلماء) {وأنّه لا بدّ من تقديم الخاصّ على العامّ} فيخصّص (أكرم العلماء) ب- (لا تكرم النُّحاة) {ومعاملة العموم من وجه بين العامّين} أي: أكرم العلماء، ولا تكرم الفسّاق.

ففي مورد الاجتماع وهو الصّرفي الفاسق - مثلاً - يعامل بمقتضى القاعدة {من الترجيح أو التخيير بينهما} إذا لم يكن مرجّح لأحدهما على الآخر {وإن انقلبت النّسبة بينهما} أي: بين العامّين من وجه {إلى العموم المطلقبعد تخصيص أحدهما} كما لو كان الباقي تحت (أكرم العلماء) - بعد إخراج النُّحاة - أخصّ

ص: 328

لما عرفت من أنّه لا وجه إلّا لملاحظة النّسبة قبل العلاج.

نعم، لو لم يكن الباقي تحته بعد تخصيصه إلّا ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص، أو كان بعيداً جدّاً، لقدّم على العامّ الآخر، لا لانقلاب النّسبة بينهما، بل لكونه كالنصّ فيه، فيقدّم على الآخر الظاهر فيه بعمومه، كما لا يخفى.

___________________________________________

مطلقاً من (لا تكرم الفسّاق) لأنّ الباقي كانوا فسقة {لما عرفت من أنّه لا وجه إلّا لملاحظة النّسبة قبل العلاج} إذ المعيار الظهور وهو باقٍ، فلا تنقلب نسبة العامّين من وجه إلى عموم وخصوص مطلق.

{نعم} لو بقي تحت (أكرم العلماء) - بعد إخراج النُّحاة - عشرة أفراد ممّا لا يجوز أن يخصّص بعد ذلك لأنّه مستهجن، أو بقي خمسون - مثلاً - ممّا يبعد تجاوز التخصيص عنه كان هذا العامّ مقدّماً على العامّ الآخر ولا تلاحظ النّسبة بينهما.

ف- {لو لم يكن الباقي تحته} أي: تحت (أكرم العلماء) {بعد تخصيصه} ب- (لا تكرم النُّحاة) {إلّا ما} أي: أفراد {لا يجوز} ولا يصحّ {أن يجوز عنه} أي: يتعدّى هذا الباقي {التخصيص} فلا يحتمل تخصيصاً آخر لقلّة الأفراد الباقية {أو كان} التّخصيص {بعيداً جدّاً} وإن جاز {لقدّم} هذا العامّ المخصّص {على العام الآخر} الباقي سليماً {لا لانقلاب النّسبةبينهما} بأن يقال: إنّ هذا العامّ المخصّص صار أخصّ من العامّ الآخر الّذي كان بينهما عموم من وجه {بل لكونه} أي: العامّ المخصّص {كالنصّ فيه} أي: في الأفراد الباقية تحته، وضمير «فيه» يعود إلى «ما» {فيقدّم على} العامّ {الآخر الظاهر فيه} أي: في الأفراد الباقية {بعمومه} أي: إنّ العامّ السّالم عن التخصيص ظاهر في العشرة أو الخمسين مثلاً، والعامّ المخصّص نصّ فيه فيقدّم النّصّ على الظاهر {كما لا يخفى} فتأمّل.

ص: 329

فصل لا يخفى: أنّ المزايا المرجّحة لأحد المتعارضين، الموجبة للأخذ به وطرح الآخر - بناءً على وجوب الترجيح - وإن كانت على أنحاء مختلفة، ومواردها متعدّدة - من راوي الخبر، ونفسِهِ، ووجه صدوره، ومتنه، ومضمونه، مثل الوثاقة، والفقاهة، والشّهرة، ومخالفة العامّة، والفصاحة، وموافقة الكتاب، والموافقة لفتوى الأصحاب إلى غير ذلك ممّا يوجب مزيّة في طرف من أطرافه، خصوصاً

___________________________________________

[فصل رجوع جميع المرجحات إلى المرجح الصدوري وعدم الترتيب بينها]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، رجوع جميع المرجحات إلى المرجح ...

{فصل} في بيان أنّ المرجّحات إنّما توجب ترجيح أحد السّندين وحجيّته فعلاً وإن كانت المرجّحات في غير السّند ابتداءً، وذلك لأنّ الشّارع إذا رجّح أحد الخبرين لجهة من الجهات لا معنى بعد ذلك؛ لأن يعبّدنا بسند الخبر المرجوح الّتي لا ثمرة عمليّة مترتّبة عليه.

{لا يخفى أنّ المزايا المرجّحة لأحد المتعارضين الموجبة للأخذ به} أي: بذي المزيّة{وطرح الآخر} الفاقد لها {- بناءً على وجوب الترجيح -} الّذي هو مبنى المشهور {وإن كانت} تلك المرجّحات {على أنحاء مختلفة ومواردها متعدّدة} فبعضها مرتبط بالسند، وبعضها بالجهة، وبعضها بالمضمون، وبعضها بالمتن {من} مرجّحات {راوي الخبر} بأن يكون أحد الرّاويين أوثق من الآخر {و} مرجّحات {نفسه} أي: نفس الخبر، كأن يكون هذا الخبر مشهوراً في كتب الحديث لا نادراً {ووجه صدوره} كأن يكون مخالفاً للعامّة صادراً لبيان الحكم الواقعي {ومتنه} كأن يكون فصيحاً لا كمعارضه ممّا لا فصاحة فيه {ومضمونه} كأن تكون الشّهرة الفتوائيّة موافقة له {مثل الوثاقة والفقاهة} للسند {والشّهرة} الخبريّة لنفسه {ومخالفه العامّة} لوجه الصّدور {والفصاحة} لمتنه {وموافقة الكتاب والموافقة لفتوى الأصحاب} لمضمونه {إلى غير ذلك ممّا يوجب مزيّة في طرف من أطرافه} الخمسة {خصوصاً}ما

ص: 330

لو قيل بالتعدّي من المزايا المنصوصة - ، إلّا أنّها موجبة لتقديم أحد السّندين وترجيحه وطرح الآخر؛ فإنّ أخبار العلاج دلّت على تقديم رواية ذات مزيّة في أحد أطرافها ونواحيها.

فجميع هذه من مرجّحات السّند، حتّى موافقة الخبر للتقيّة؛ فإنّها أيضاً ممّا يوجب ترجيح أحد السّندين وحجيّته فعلاً، وطرح الآخر رأساً.

و

___________________________________________

ما {لو قيل بالتعدّي من المزايا المنصوصة}إلى غيرها ممّا يسبّب كثرة المزايا والمرجّحات.

{إلّا أنّها} جميعها {موجبة لتقديم أحد السّندين وترجيحه وطرح الآخر} فإذا كان أحد الخبرين أفصح دلالة وقلنا بتقديم الأفصح كان معنى ذلك الأخذ بسند الأفصح وطرح سند معارضه وهكذا {فإنّ أخبار العلاج دلّت على تقديم رواية ذات مزيّة في أحد أطرافها ونواحيها} فالرواية مقدّمة على تلك الأُخرى، وهذا معناه تقديم السّند.

{فجميع هذه} المرجّحات {من مرجّحات السّند حتّى موافقة الخبر للتقيّة} الّتي ترتبط بالجهة الخارجة عن السّند والدلالة إطلاقاً {فإنّها أيضاً ممّا يوجب ترجيح أحد السّندين وحجيّته فعلاً وطرح الآخر رأساً} إذ لا معنى للتعبّد بسند لا ثمرة له عملاً، فإنّ التعبّد ليس إلّا بلحاظ العمل، فإذا لم يكن للمرجوح عمل لم يكن بالنسبة إليه تعبّد.

{و} إن قلت: لو كان هناك خبران مقطوع صدورهما وكان أحدهما أرجح دلالة أو جهة مثلاً، فإنّه لم يوجب سقوط سند الآخر - لفرض كونه مقطوعاً - فإنّه وإن لم يعمل به لكنّه لا يطرح فليكن الخبران الحجّتان غير المقطوعين كذلك فلم يطرح سند المرجوح؟

ص: 331

كونها في مقطوعي الصّدور متمحّضة في ترجيح الجهة، لا يوجبُ كونها كذلك في غيرهما؛ ضرورة أنّه لا بمعنى للتعبّد بسند ما يتعيّن حمله على التقيّة، فكيف يقاس على ما لا تعبّد فيه؛ للقطع بصدوره؟

ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات، لو قيل بالتعدّي وإناطة الترجيح بالظنّ، أو بالأقربيّة إلى الواقع؛ ضرورة أنّ قضيّة ذلك تقديم الخبرالّذي ظُنّ صدقُه، أو كان أقرب إلى الواقع منهما، والتخييرُ بينهما إذا تساويا، فلا وجه لإتعاب النّفس في بيان أنّ أيّها يقدّم أو يؤخّر، إلّا

___________________________________________

قلت: {كونها} أي: المرجّحات {في مقطوعي الصّدور متمحّضة في ترجيح الجهة} بحيث لا تتعدّى إلى السّند {لا يوجب كونها} أي: المرجّحات {كذلك} متمحّضة في ترجيح الجهة {في غيرهما} أي: غير المقطوعين {ضرورة} أنّ هناك القطع بالسند باقٍ وإن سقطت الدلالة وليس كذلك في غير المقطوع ف-{إنّه لا معنى للتعبّد بسند ما يتعيّن حمله على التقيّة} أو نحو ذلك {فكيف يقاس} ما يكون التعبّد بسنده {على ما لا تعبّد فيه للقطع بصدوره} فإنّه قياس مع الفارق.

{ثمّ} إنّا قد نقتصر على المرجّحات المنصوصة وقد نتعدّى عنها، فعلى الأوّل لا بدّ من الترتيب بينهما كما ذكر في الرّوايات، أمّا على الثّاني ف- {إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات} كأن نقدّم مرجّحات السّند على مرجّحات الدلالة وهكذا {لو قيل بالتعدّي} عن المنصوصة {وإناطة الترجيح بالظنّ} فكلّ مظنون الصّدور أرجح {أو بالأقربيّة إلى الواقع} فكلّ أقرب إلى الواقع أرجح {ضرورة أنّ قضيّة ذلك} التعدّي وكون المناط الظنّ أو الأقربيّة {تقديم الخبر الّذي ظنّ صدقه أو كان أقرب إلى الواقع منهما} أي: من الخبرين {والتخيير بينهما إذا تساويا} فلم يكن أحدهما مظنوناً أو أقرب بحسب المرجّحات {فلا وجه لإتعاب النّفس}كما صدر عن بعض الأعاظم {في بيان أنّ أيّها} أي: المرجّحات {يقدّم أو يؤخّر إلّا} إذا أُريد بذلك

ص: 332

تعيين أن أيّها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر.

وأمّا لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فله وجه؛ لما يترائى من ذكرها مرتّباً في المقبولة والمرفوعة.

مع إمكان أن يقال: إنّ الظاهر كونهما - كسائر أخبار الترجيح - بصدد بيان أنّ هذا مرجّح وذاك مرجّح، ولذا اقتصر في غير واحد منها على ذكر مرجّح واحد، وإلّا لزم تقييد جميعها - على كثرتها - بما في المقبولة، وهو بعيدٌ جدّاً.

___________________________________________

{تعيين أنّ أيّها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر} كما لو كان أحد الخبرين أرجح جهة والآخر أرجح متناً فهل تقدّم الجهة أو المتن، من باب أنّ أيّها يتّصف حينئذٍ بالأقربيّة إلى الواقع أو بكونه موجباً للظنّ، فالنزاع في الصّغرى لا في الكبرى.

هذا في ما لو قيل بالتعدّي وعدم الخصوصيّة للمزايا المذكورة في الرّوايات {وأمّا لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة} في الأخبار {فله} أي: للترتيب بين المرجّحات {وجه لما يترائى من ذكرها} أي: المرجّحات {مرتّباً} بعضها على بعض {في المقبولة} لابن حنظلة {والمرفوعة} للعلّامة(رحمة الله).

{مع إمكان أن يقال} بعدم الترتيب بين المرجّحات ولو اقتصرنا على المزايا المذكورة في الأخبار، ف- {إنّ الظاهر كونهما}أي: المقبولة والمرفوعة {كسائر أخبار الترجيح بصدد بيان أنّ هذا مرجّح وذاك مرجّح} من دون قصد إفادة الترتيب بينها.

{ولذا اقتصر في غير واحد منها} أي: من الأخبار {على ذكر مرجّح واحد} فقط {وإلّا} فلو كان ترتيب بين المرجّحات {لزم تقييد جميعها} أي: جميع تلك الأخبار المقتصرة على ذكر مرجّح واحد {على كثرتها بما في المقبولة} بأن يقال: إنّ المذكور في هذا الخبر - مثلاً - مقيّد بعدم مرجّح سابق عليه ممّا ذكر في المقبولة سابقاً {وهو بعيد جدّاً} إذ مثل هذه التقييدات الكثيرة خلاف الظواهر

ص: 333

وعليه فمتى وجد في أحدهما مرجّح، وفي الآخرُ آخر منها، كان المرجع هو إطلاقات التخيير، ولا كذلك على الأوّل، بل لا بدّ من ملاحظة الترتيب، إلّا إذا كانا في عرض واحد.

وقد انقدح بذلك: أنّ حال المرجّح الجهتي

___________________________________________

الّتي حجيّتها منوطة ببناء العقلاء.

ألا ترى أنّه لو سأل شخص المولى عمّا يتصدّق فقال له: ديناراً، وسأل آخر وثالث ورابع فأجابهم مثل هذا الجواب، ثمّ سأل آخر فقال له: درهماً، فإن لم يكن عندك فربع دينار، فإن لم يكن عندك فثوب، لم ير العرف أنّ تلك على وجه الجواز، لا أنّها تقيّد تلك الأقوال المطلقة بإعطاء دينار.

{وعليه} أي: على هذا الّذي ذكرنا من عدم الترتيب بين المرجّحات {فمتى وجد في أحدهما مرجّح وفي الآخر} مرجّح {آخر منها} أي: من المرجّحات، كما لو كان أحدهما مشهوراً والآخرمخالفاً للعامّة {كان المرجع هو إطلاقات التخيير} إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر {ولا كذلك} أي: لا يكون المرجع التخيير {على الأوّل} أي: بناءً على لزوم الترتيب بين المرجّحات {بل لا بدّ من ملاحظة الترتيب}.

فإذا كانت المخالفة للعامّة مقدّمة على الشّهرة - مثلاً - كان الخبر المخالف أرجح ويترك الآخر؛ لأنّ المخالف فيه رجحان في هذه المرتبة ولم تصل النّوبة إلى الترجيح بالشهرة حتّى يعارض الخبر ذو الشّهرة للخبر المخالف للعامّة {إلّا إذا كانا في عرض واحد} بأن جعلا في المرجّحات في مرتبة واحدة، كما لو كان أحد الرّاويين أعدل والآخر أفقه ممّا ذكرا في مرتبة واحدة في مقبولة ابن حنظلة مثلاً.

{وقد انقدح بذلك} الّذي: ذكرنا من أنّه لا ترتيب بين المرجّحات {أنّ حال المرجّح الجهتي} المرتبط بجهة الصّدور - أعني: كون الحكم صادراً لبيان الواقع

ص: 334

حال سائر المرجّحات، في أنّه لا بدّ في صورة مزاحمته مع بعضها، من ملاحظة أنّ أيّهما فعلاً موجب للظنّ بصدق ذيه بمضمونه، أو الأقربيّة كذلك إلى الواقع، فيوجب ترجيحه وطرح الآخر؛ أو أنّه لا مزيّة لأحدهما على الآخر، كما إذا كان الخبر الموافق للتقيّة - بما له من المزيّة - مساوياً للخبر المخالف لها بحسب المناطين، فلا بدّ حينئذٍ من التخيير بين الخبرين.

فلا وجه لتقديمه على غيره، كما عنالوحيد البهبهاني(قدس سره)(1) وبالغ فيه بعض أعاظم المعاصرين

___________________________________________

لا للتقيّة - {حال سائر المرجّحات في أنّه لا بدّ في صورة مزاحمته} أي: مزاحمة هذا المرجّح {مع بعضها} كما لو كان أحدهما مخالفاً للعامّة والآخر موافقاً للشهرة {من ملاحظة أنّ أيّهما فعلاً موجب للظنّ بصدق ذيه بمضمونه أو} أيّهما يوجب {الأقربيّة كذلك} أي: لذيه {إلى الواقع فيوجب} المرجّح الموجب للظنّ بالصدق أو القرب إلى الواقع {ترجيحه وطرح الآخر} في مقام العمل {أو أنّه لا مزيّة لأحدهما على الآخر، كما إذا كان الخبر الموافق للتقيّة بما له من المزيّة مساوياً للخبر المخالف لها} أي: للتقيّة {بحسب المناطين} أي: الظنّ بالصدق والأقربيّة إلى الواقع، بأن كانا في مرتبة واحدة من احتمال الصّدق أو القرب إلى الواقع {فلا بدّ حينئذٍ من التخيير بين الخبرين، فلا وجه لتقديمه} أي: تقديم الخبر المشتمل على المرجّح الجهتي بأن كان مخالفاً للعامّة {على غيره} الموافق لهم المشتمل على مرجّح آخر كموافقة الشّهرة {كما عن الوحيد البهبهاني} الآقا باقر {(قدس سره)} لما عرفت من أنّ أحد المرجّحين لو صار سبباً للأقربيّة أو الظنّ بالصدق قدّم ذوه وإلّا تخيّر بينهما {وبالغ فيه} أي: في تقديم ذي المرجّح الجهتي {بعض أعاظم المعاصرين} الشّيخ حبيب

ص: 335


1- الفوائد الحائرية: 219.

- أعلى اللّه درجته(1)

- .

ولا لتقديم غيرها عليه، كما يظهر من شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - ، قال: «أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصّدور - بأن كان الأرجح صدوراً موافقاً للعامّة - فالظاهر تقديمه على غيره، وإن كان مخالفاً للعامّة، بناءً على تعليل الترجيح بمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق؛ لأنّ هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعاً كما في المتواترين، أو تعبّداً كما في الخبرين، بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما، وترك التعبّد بصدور الآخر،

___________________________________________

اللّه الرّشتي تلميذ الشّيخ المرتضى {أعلى اللّه درجته}.

{و} كما لا وجه لتقديم المرجّح الجهتي على غيره كذلك {لا} وجه {لتقديم غيرها} وهي المرجّحات الصّدوريّة {عليه} أي: على المرجّح الجهتي {كما يظهر من شيخنا} المرتضى {العلّامة أعلى اللّه مقامه} حيث {قال: «أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصّدور} بأن كان أحد الخبرين أوثق راوياً والآخر مخالفاً للعامّة {بأن كان الأرجح صدوراً موافقاً للعامّة} والمخالف للعامّة أضعف صدوراً {فالظاهر تقديمه} أي: الأرجح صدوراً {على غيره وإن كان} ذلك الغير {مخالفاً للعامّة بناءً على تعليل} الأخبار {الترجيحبمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق} لهم، لا أنّه ترجيح تعبّديّ محض {لأنّ هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض} الفراغ عن سنديهما بأن علمنا {صدورهما قطعاً كما في المتواترين أو} علمنا ذلك {تعبّداً كما في الخبرين} المشمولين لأدلّة الحجيّة {بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما وترك التعبّد بصدور الآخر} فلا يمكن أخذ سند أحدهما وطرح سند الآخر، يعني أنّ الشّارع إنّما جعل المخالفة للعامّة

ص: 336


1- بدائع الأفكار: 434.

وفي ما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصّدور.

إن قلت: إنّ الأصل في الخبرين: الصّدور، فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكمَ بصدور الموافق تقيّة، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما، فيكون هذا المرجّح - نظير الترجيح بحسب الدلالة - مقدّماً على الترجيح بحسب الصّدور.

___________________________________________

مرجّحاً بعد أن يكون سنداهما معتبراً حتّى لا يمكن الأخذ بأحد السّندين، إذ لو أمكن الأخذ بأحد السّندين دون الآخر لم تصل النّوبة إلى الأخذ بالمرجّحات الجهتيّة، فإنّ المرجّح الجهتي فرع الفراغ عن تماميّة السّند، فإذا أمكن في مقام جعل الترجيح في مقام السّند لم تصل النّوبة إلى مخالفة العامّة وموافقتهم.

{وفي ما نحن فيه} وهو الّذي كان سند أحدهما أقوى من سند الآخر، وإن كان الآخر الضّعيف السّند مخالفاً للعامّة {يمكن ذلك} الترجيح الصّدوري {بمقتضى أدلّة الترجيح من حيثالصّدور} فلا تصل النّوبة إلى المرجّح الجهتي.

{إن قلت}: لا بدّ من الترجيح بالجهة إذ الصّدور في الخبرين مسلّم، ف- {إنّ الأصل في الخبرين الصّدور} بعد تماميّة الحجيّة بالنسبة إليهما {فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك} التعبّد {الحكم بصدور الموافق} للعامّة {تقيّة} إذ لمّا فرغنا عن أصل الصّدور وصلت النّوبة إلى جهة الصّدور، فالمخالف أرجح من الموافق {كما يقتضي ذلك} التعبّد بالصدور {الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما} دلالة بأن كان بينهما نصّ وظاهر أو ظاهر وأظهر، فكما أنّ الجمع الدلالي مقدّم على ملاحظة الترجيح بين السّندين كذلك المرجّح الجهتي {فيكون هذا المرجّح} الجهتي {نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّماً على الترجيح بحسب الصّدور} ولذا كان اللّازم ملاحظة الترجيح بحسب الجهة أوّلاً، فإن لم يكن ثمّة ترجيح كان اللّازم الترجيح بحسب الصّدور.

ص: 337

قلت: لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة؛ لأنّه إلغاء لأحدهما في الحقيقة»(1).

وقال - بعد جملة من الكلام - : «فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من حيث الصّدور، إمّا علماً كما في المتواترين، أو تعبّداً كما في المتكافئين من الأخبار. وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح فيه؛ لأنّ جهة الصّدور فرع على أصلالصّدور»(2).

___________________________________________

{قلت: لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة؛ لأنّه} أي: الحمل على التقيّة {إلغاء لأحدهما} الموافق للعامّة {في الحقيقة»} إذ لا معنى لأن يقول الشّارع: تعبّد بأنّ هذا الخبر الموافق للعامّة، صادرٌ لكنّه لا تعمل به، فإنّ التعبّد ليس إلّا بملاحظة العمل، فإذا لم يكن في البين عمل لم يكن وجه للتعبّد.

وعلى هذا فاللّازم تقديم المرجّح الصّدوري على المرجّح الجهتي، فإذا كان أحدهما أرجح صدوراً عمل به، وإذا تساويا من هذا الحيث رجعنا إلى المرجّح الجهتي.

{وقال} الشّيخ {بعد جملة من الكلام: «فمورد هذا الترجيح} الجهتي {تساوي الخبرين من حيث الصّدور إمّا علماً} بأن علمنا أنّ كلا الخبرين صادران {كما في المتواترين أو تعبّداً كما في المتكافئين من الأخبار} بحيث لا يكون لأحدهما مزيّة على الآخر {وأمّا ما} أي: المقام الّذي كان فيه الخبر ذو المرجّح الصّدوري، بأن كان أحدهما أوثق مثلاً الّذي {وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح} الجهتي {فيه} بل اللّازم تقديم الأرجح صدوراً على غيره {لأنّ جهة الصّدور فرع على أصل الصّدور»} فمع الأصل لا مجال للفرع

ص: 338


1- فرائد الأصول 4: 136-137.
2- فرائد الأصول 4: 137-138.

انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علوّ مقامه.وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت - أنّ حديث فرعيّة جهة الصّدور على أصله، إنّما يفيد إذا لم يكن المرجّح الجهتي من مرجّحات أصل الصّدور، بل من مرجّحاتها. وأمّا إذا كان من مرجّحاته - بأحد المناطين - ، فأيّ فرق بينه وبين سائر المرجّحات؟ ولم يقم دليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبّد بصدور الرّاجح منهما من حيث غير الجهة، مع كون الآخر راجحاً بحسبها، بل هو أوّل الكلام، كما لا يخفى.

فلا محيص

___________________________________________

{انتهى موضع الحاجة من كلامه} أي: كلام الشّيخ(رحمة الله) {زيد في علوّ مقامه}.

هذا {و} لكن {فيه مضافاً إلى ما عرفت} من عدم الدليل على تقديم بعض المرجّحات على بعض بل كلّها في مرتبة واحدة {إنّ حديث فرعيّة جهة الصّدور على أصله} أي: أصل الصّدور {إنّما يفيد إذا لم يكن المرجّح الجهتي من مرجّحات أصل الصّدور} بأن لم تكن رتبته في رتبة الأوثقيّة - مثلاً - {بل من مرجّحاتها} أي: مرجّحات الجهة الّتي هي مرتبة أُخرى غير أصل الصّدور.

{وأمّا إذا كان} المرجّح الجهتي {من مرجّحاته} أي: مرجّحات أصل الصّدور {بأحد المناطين} بمناط الأقربيّة إلى الواقع أو الظنّ بالصدق {فأيّ فرق بينه} أي: بين المرجّح الجهتي {وبين سائر المرجّحات} الصّدوري وغيره، فكلّ مرجّح أوجب كون ذيه أقرب إلى الواقع أو كونه مظنوناً كان سبباً لتقديم ذيه على غيره سواء كان مركز المرجّح الجهة أو الصّدور أو المتن أو غيرها كما تقدّم {ولم يقمدليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبّد بصدور الرّاجح منهما من حيث غير الجهة} أي: من حيث الصّدور {مع كون الآخر راجحاً بحسبها} أي: بحسب الجهة {بل هو أوّل الكلام، كما لا يخفى} فلا يمكن أن يجعل المدّعى دليلاً.

{ف-} تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه {لا محيص} عن أحد أمرين:

ص: 339

من ملاحظة الرّاجح من المرجّحين بحسب أحد المناطين، أو من دلالة أخبار العلاج على الترجيح بينهما مع المزاحمة، ومع عدم الدلالة - ولو لعدم التعرّض لهذه الصّورة - فالمحكّم هو إطلاق التخيير، فلا تغفل.

___________________________________________

الأوّل: الترجيح بمناط الأقربيّة إلى الواقع أو الظنّ، أو الترجيح بما إذا قدّم بعض المرجّحات على بعض - في الأخبار - لا الترجيح بحب السّند أو الجهة أو غيرهما وتقديم بعضها على بعض لتلك الوجوه الاعتباريّة.

الثّاني: التخيير مطلقاً إذا لم يكن هناك دليل على الترجيح أصلاً - كما اخترنا - أو كان دليل على الترجيح لكن لم يتحقّق مرجّح في أحد الخبرين، فلا بد {من ملاحظة الرّاجح من المرجّحين} الواقع كلّ واحد منهما في أحد الخبرين المتعارضين {بحسب أحد المناطين} الأقربيّة إلى الواقع أو الظنّ {أو من دلالة أخبار العلاج على الترجيح بينهما مع المزاحمة} بين المرجّحات لو لم نقل بأحد المناطين {ومع عدم الدلالة} لأخبار العلاج {ولو لعدم التعرّض لهذه الصّورة} كصورة معارضة الجهة بالصدور {فالمحكّم هو إطلاق التخيير} ويخيّر بينالخبرين {فلا تغفل} هذا تمام الكلام مع الشّيخ(رحمة الله).

وقد تحقّق أنّ الشّيخ يقدّم المرجّح الصّدوري وتلميذه يقدّم المرجّح الجهتي والمصنّف قائل بالتخيير، وعلى فرض الترجيح يقول بما فيه مناط الأقربيّة أو الظنّ.

ثمّ إنّ الشّيخ(رحمة الله) لمّا ذكر أنّه لا يعقل التعبّد بصدور الخبرين المختلفي السّند إذا حمل أحدهما على التقيّة، بل اللّازم أوّلاً ملاحظة الترجيح بين السّندين، أورد عليه الشّيخ حبيب اللّه الرّشتي بأنّه لو لم يعقل التعبّد بصدورهما في المختلفين سنداً مع حمل أحدهما على التقيّة لكان اللّازم أن لا يعقل التعبّد بصدورهما في

ص: 340

وقد أورد بعض تلاميذه(1)

عليه: بانتقاضه بالمتكافئين من حيث الصّدور؛ فإنّه لو لم يعقل التعبّد بصدور المتخالفين من حيث الصّدور، مع حمل أحدهما على التقيّة، لم يعقل التعبّد بصدورهما مع حمل أحدهما عليها، لأنّه إلغاء لأحدهما أيضاً في الحقيقة.

___________________________________________

المتساويين سنداً مع حمل أحدهما على التقيّة، فكيف يجوّز الشّيخ المرجّح الجهتي بعد تكافؤ السّندين؟

وإن شئت قلت: إن أمكن التعبّد بالسندين جاز ذلك حتّى في المختلفين، وإن لم يمكن لم يجز حتّى في المتساويين فما الفرق؟

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: {وقد أورد بعض تلاميذه} وهو الرّشتي {عليه} أي: على الشّيخ {بانتقاضه} أي: انتقاض كلامالشّيخ في مختلفي السّند {بالمتكافئين} سنداً {من حيث الصّدور، فإنّه لو لم يعقل التعبّد بصدور المتخالفين من حيث الصّدور} بأن كان أحدهما أرجح من الآخر من حيث الصّدور - كما لو كان أحدهما أوثق - {مع حمل أحدهما على التقيّة} لأنّه لا معنى للقول بأنّك تعبّد بهذا السّند ولا تعمل بمضمونه {لم يعقل التعبّد بصدورهما} أي: صدور المتكافئين {مع حمل أحدهما} أي: الخبرين {عليها} أي: على التقيّة {لأنّه إلغاء لأحدهما أيضاً في الحقيقة} كإلغاء أحدهما في صورة عدم التكافؤ.

وإن شئت قلت: نسأل من الشّيخ ماذا تصنع بالمتكافئين مع موافقة أحدهما للعامّة؟ فلا بدّ أن يكون الجواب أنّه لا ترجيح من حيث الصّدور ويتعبّد بهما لكن يحمل الموافق على التقيّة، فنقول: فافعلوا مثل هذا في المختلفين سنداً فتعبّدوا بصدورهما واحملوا الموافق على التقيّة، ولم قلتم أنّه لا يعقل التعبّد بسند يحمل على التقيّة؟

ص: 341


1- بدائع الأفكار: 457.

وفيه ما لا يخفى من الغفلة وحِسبانِ أنّه التزم - في مورد الترجيح بحسب الجهة - باعتبار تساويهما من حيث الصّدور، إمّا للعلم بصدورهما، وإمّا للتعبّد به فعلاً، مع بداهة أنّ غرضه - من التساوي من حيث الصّدور تعبّداً - : تساويهما بحسب دليل التعبّد بالصدور قطعاً؛ ضرورة أنّ دليل حجيّة الخبر لا يقتضي التعبّد فعلاً بالمتعارضين، بل ولا بأحدهما، وقضيّة دليل العلاج ليس إلّا العبّد بأحدهما تخييراً أو ترجيحاً.

___________________________________________

{وفيه ما لا يخفى} إذ الشّيخ لا يقول بأنّ المتكافئين كلاهماحجّة ثمّ يحمل أحدهما على التقيّة، بل يقول الشّيخ بأنّ إعمال المرجّح الجهتي إنّما هو في ما إذا تساوى الخبران من حيث شمول دليل التعبّد لهما.

وبهذا يظهر ما في إشكال الرّشتي {من الغفلة وحسبان أنّه} أي: الشّيخ {التزم - في مورد الترجيح بحسب الجهة} الّذي هو في صورة التكافؤ سنداً - {باعتبار تساويهما من حيث الصّدور إمّا للعلم بصدورهما} للتواتر ونحوه {وإمّا للتعبّد به} أي: بصدورهما {فعلاً} فيرى الشّيخ أنّهما حجّة لكن يجب حمل الموافق للعامّة على التقيّة.

{مع بداهة أنّ غرضه} أي: الشّيخ(رحمة الله) {- من التساوي من حيث الصّدور تعبّداً -} ليس التعبديّة الفعليّة بل {تساويهما بحسب دليل التعبّد بالصدور قطعاً} قوله: «قطعاً» متعلّق بقوله: «غرضه» أي: إنّ غرض الشّيخ هذا قطعاً لا الحجيّة الفعليّة {ضرورة أنّ دليل حجيّة الخبر لا يقتضي التعبّد فعلاً بالمتعارضين، بل ولا بأحدهما} لما عرفت سابقاً من أنّ مقتضى الدليل الأوّلي سقوط كلا المتعارضين، وإنّما نقول باختيار أحدهما لدليل ثانوي هو أخبار الترجيح والتخيير {وقضيّة دليل العلاج ليس إلّا التعبّد بأحدهما} أي: أحد الخبرين {تخييراً أو ترجيحاً} فكيف يقول الشّيخ بأنّ كليهما حجّة فعليّة كما توهّمه المحقّق الرّشتي؟

ص: 342

والعجب كلّ العجب أنّه(رحمة الله) لم يكتفِ بما أورده من النّقض، حتّى ادّعى استحالةَ تقديم الترجيح بغير هذا المرجّح علىالترجيح به، وبَرهنَ عليه بما حاصله: «امتناعُ التعبّد بصدور الموافق؛ لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله، وبين صدوره تقيّة، ولا يعقل التعبّد به على التقديرين بداهةً، كما أنّه لا يعقل التعبّد بالقطعي الصّدور الموافق، بل الأمرُ في الظنّي الصّدور أهون؛ لاحتمال عدم صدوره، بخلافه».

___________________________________________

{والعجب كلّ العجب أنّه} أي: الرّشتي {(رحمة الله) لم يكتف بما أورده من النّقض} على الشّيخ بصورة تساوي الخبرين سنداً {حتّى} زاد الإشكال على الشّيخ القائل بملاحظة المرجّحات السّنديّة قبل المرجّحات الجهتيّة و{ادّعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجّح} الجهتي {على الترجيح به} فما ذكره الشّيخ من تقديم الأقوى سنداً على الأضعف المخالف للعامّة محال عقلاً {وبرهن} الرّشتي {عليه} أي: على كون ذلك محالاً {بما حاصله: «امتناع التعبّد بصدور} الخبر {الموافق} للعامّة {لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله وبين صدوره تقيّة} فلا يمكن التعبّد بما لا سند له أو لا جهة واقعيّة لصدوره {ولا يعقل التعبّد به على التقديرين بداهة} إذ لا فائدة في التعبّد بمثل ذلك {كما أنّه لا يعقل التعبّد بالقطعي الصّدور الموافق} للعامّة؛ لأنّه صادر تقيّة فلا معنى للتعبّد به، والتعبّد به مستلزم لطرح المخالف الّذي هو حكم اللّه - تعالى - {بل الأمر في الظنّي الصّدور أهون} فطرحه لا مانعفيه {لاحتمال عدم صدوره} أي: الظنّي {بخلافه»} أي: بخلاف القطعي الصّدور.

والحاصل: أنّه لا يمكن التعبّد بالحكم الصّادر تقيّة سواء كان قطعيّ الصّدور أو ظنيّة. نعم، في ظنّي الصّدور دائرة احتمال الخلل أوسع لاحتمال الخلل في كلّ من السّند والجهة بخلاف القطعي المنحصر خلله في جهته.

ص: 343

ثمّ قال: «فاحتمال تقديم المرجّحات السّنديّة على مخالفة العامّة، - مع نصّ الإمام(علیه السلام) على طرح موافقهم(1) - ، من العجائب والغرائب الّتي لم يُعهد صدورها(2) من ذي مُسكة، فضلاً عمّن هو تالي العصمة علماً وعملاً». ثمّ قال: «وليت شعري أنّ هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه؟ مع أنّه في جودة النّظر يأتي بما يقرب من شقّ القمر»(3).

وأنت خبير بوضوح فساد برهانه؛ ضرورة عدم دوران أمر الموافق بين الصّدور تقيّةً، وعدم الصّدور رأساً؛ لاحتمال صدوره لبيان حكم اللّه واقعاً، وعدم صدور المخالف المعارض له أصلاً،

___________________________________________

{ثمّ قال} الرّشتي(رحمة الله): {«فاحتمال تقديم المرجّحات السّنديّة على مخالفة العامّة} بأن يؤخذ بالخبر الأقوى سنداً وإن كان موافقاً للعامّة، ويترك الأضعف المخالف لهم - كما يقوله الشّيخ - {مع نصّ الإمام(علیه السلام) على طرحموافقهم} أي: طرح الخبر الموافق لهم {من العجائب والغرائب الّتي لم يعهد صدورها من ذي مسكة} يتمكّن من إمساك قلمه ولسانه لئلّا يجريان كما يشاءآن، بل يجريان كما يشاء العقل {فضلاً عمّن هو تالي} أهل بيت {العصمة علماً وعملاً»} كالشيخ المرتضى(رحمة الله).

{ثمّ قال} الرّشتي(رحمة الله): {«وليت شعري إنّ هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه مع أنّه في جودة النّظر يأتي بما يقرب من شقّ القمر»} انتهى.

{وأنت خبير بوضوح فساد برهانه، ضرورة عدم دوران أمر الموافق} للعامّة {بين الصّدور تقيّة وعدم الصّدور رأساً} كما ذكره الرّشتي {لاحتمال صدوره لبيان حكم اللّه واقعاً وعدم صدور المخالف} للعامّة {المعارض له} أي: للموافق لهم {أصلاً} أو

ص: 344


1- في المصدر: «ما يوافقهم».
2- في المصدر: «صدوره».
3- بدائع الأفكار: 457.

ولا يكاد يحتاجُ في التعبّد إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك بداهةً.

وإنّما دار احتمال الموافق بين الاثنين، إذا كان المخالف قطعيّاً صدوراً وجهةً ودلالةً؛ ضرورة دوران معارضته حينئذٍ بين عدم صدوره وصدوره تقيّة، وفي غير هذه الصّورة كان دوران أمره بين الثلاثة لا محالة؛ لاحتمال صدوره لبيان الحكم الواقعي حينئذٍ أيضاً.

ومنه قد انقدح إمكان التعبّد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي أيضاً،

___________________________________________

صدوره لغرض آخر غير ما يظهر من ظاهره {ولا يكاد يحتاج في التعبّد} بالخبر {إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك} أي: حكم اللّه الواقعي {بداهة} فكلّ من الخبرين محتمل الصّدور ويكون لهما في أنفسهما صلاحيّة شمول أدلّة الحجيّة والتعبّد له، ولذا يصحّ الترجيح بينهما من جهة الصّدور، كما صنعه الشّيح(رحمة الله).

{وإنّما دار} أي: يدور {احتمال} الخبر {الموافق} للعامّة {بين الاثنين} عدم الصّدور رأساً أو الصّدور تقيّة {إذا كان} الخبر {المخالف} للعامّة {قطعيّاً صدوراً وجهة ودلالة} بأن علمنا أنّه صدر عن الإمام لبيان الحكم الواقعي وكانت دلالته واضحة {ضرورة دوران معارضته حينئذٍ} الّذي هو الخبر الموافق للعامّة {بين عدم صدوره وصدوره تقيّة، وفي غير هذه الصّورة} بأن لم يكن جميع أطرافه قطعيّاً {كان دوران أمره} أي: الموافق للعامّة {بين الثلاثة} عدم الصّدور، والصّدور تقيّة، والصّدور لبيان الحكم الواقعي.

لكن هذا إذا كان جميع أطرافه غير قطعيّ، أمّا لو كان صدوره قطعيّاً كان دوران أمره بين اثنين وهكذا {لا محالة لاحتمال صدوره لبيان الحكم الواقعي حينئذٍ أيضاً}.

{ومنه قد انقدح إمكان التعبّد بصدور} الخبر {الموافق} للعامّة {القطعي لبيان الحكم الواقعي أيضاً} بأن يكون الخبر المخالف للعامّة لبيان بعض المصالح

ص: 345

وإنّما لم يمكن التعبّد بصدوره لذلكإذا كان معارضه المخالف قطعيّاً بحسب السّند والدلالة، لتعيين حمله على التقيّة حينئذٍ لا محالة.

ولعمري إنّ ما ذكرنا أوضح من أن يخفى على مثله، إلّا أنّ الخطأ والنّسيان كالطبيعة الثّانية للإنسان، عصمنا اللّه من زلل الأقدام والأقلام في كلّ ورطة ومقام.

ثمّ إنّ هذا كلّه إنّما هو بملاحظة أنّ هذا المرجّح مرجّح من حيث الجهة، وأمّا بما هو موجب لأقوائيّة دلالة ذيه من معارضه

___________________________________________

{وإنّما لم يمكن التعبّد بصدوره} أي: صدور الموافق للعامّة {لذلك} أي: لبيان الحكم الواقعي {إذا كان معارضه المخالف} للعامّة {قطعيّاً بحسب السّند والدلالة لتعيين حمله على التقيّة حينئذٍ لا محالة} ولا يخفى أنّ للكلام تفصيلاً أضربنا عنه؛ لأنّه خارج عن وضع الشّرح.

{ولعمري إنّ ما ذكرنا أوضح من أن يخفى على مثله} أي: المحقّق الرّشتي(رحمة الله) {إلّا أنّ الخطأ والنّسيان كالطبيعة الثّانية للإنسان، عصمنا اللّه من زلل الأقدام والأقلام في كلّ ورطة ومقام} وهو العاصم.

{ثمّ إنّ هذا كلّه} الّذي أرجعنا فيه المرجّح الجهتي إلى السّند {إنّما هو بملاحظة أنّ هذا المرجّح} الجهتي - الّذي هو مخالفة العامّة - {مرجّح من حيث الجهة} بلا ارتباط له بالدلالة أصلاً، ولذا يكون هذا المرجّح في عرض سائر المرجّحات.

{وأمّا} لو قلنا بأنّ كون الخبر موافقاً للعامّة يسبّب ضعف دلالته لاحتمال التَّوْرِيَة فيه ممّا يستلزم قوّة دلالة الخبر المعارض له، فيكون هذا المرجّح فيعداد الأظهريّة والمنصوصيّة ولا تصل النّوبة إلى المرجّحات، فإنّ الجمع الدلالي مانع عن التعارض حتّى يأتي دور الترجيح، فكون الخبر خلاف العامّة {بما هو موجب لأقوائيّة دلالة ذيه} أي: الخبر المخالف {من معارضه} الّذي هو

ص: 346

- لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه التقيّة، دونه - فهو مقدّم على جميع مرجّحات الصّدور، بناءً على ما هو المشهور من تقدّم التوفيق - بحمل الظاهر على الأظهر - على الترجيح بها.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ باب احتمال التورية وإن كان مفتوحاً في ما احتمل فيه التقيّة، إلّا أنّه حيث كان بالتأمّل والنّظر، لم يوجب أن يكون معارُضه أظهر، بحيث يكون قرينة على التصرّف عرفاً في الآخر، فتدبّر.

___________________________________________

الخبر الموافق {لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه} أي: المعارض {التقيّة دونه} أي: دون ذي المرجّح {فهو مقدّم على جميع مرجّحات الصّدور بناءً على ما هو المشهور} المنصور {من تقدّم التوفيق بحمل الظاهر على الأظهر على الترجيح بها} أي: الترجيح بالمرجّحات لدى التعارض.

{اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ} احتمال خلاف الظاهر في الخبر الموافق للعامّة لا يوجب جعل معارضه أظهر حتّى يسبّب دخول الخبرين في ما له جمع دلالي، فإنّ {باب احتمال التورية وإن كان مفتوحاً في ما احتمل فيه التقيّة} ممّايقلّل اعتماد الإنسان على ظهوره {إلّا أنّه} أي: هذا الاحتمال {حيث كان بالتأمّل والنّظر لم يوجب أن يكون معارضه} المخالف للعامّة {أظهر بحيث يكون} المخالف {قرينة على التصرّف عرفاً في الآخر} الّذي هو الموافق، فلو قال: (صلّ أوّل غروب الشّمس) - ممّا يوافق العامّة - وقال: (صلّ بعد الغروب بربع ساعة ولا تصلّ إلّا أوّل المغرب) لا يكون الثّاني قرينة على أن يراد ب- الأوّل الإتيان بصلاة النّافلة مثلاً، فإنّه بعيد عن متفاهم العرف {فتدبّر} لعلّه إشارة إلى ردّ «اللّهمّ إلّا أن يقال»، ووجهه أنّ الظهور متّبع عند العقلاء إذا لم يكن في المقام شيء صارف له - ولو احتمال التورية والتقيّة إذا كان احتمالاً عقلائيّاً - فكون المخالف أظهر في مفاده لا بأس بالقول به، واللّه العالم.

ص: 347

فصل: موافقة الخبر لما يوجب الظنّ بمضمونه - ولو نوعاً - من المرجّحات في الجملة - بناءً على لزوم الترجيح - لو قيل بالتعدّي عن المرجّحات المنصوصة، أو قيل بدخوله في القاعدة المجمع عليها - كما ادّعي - وهي: لزوم العمل بأقوى الدليلين.

وقد عرفت: أنّ التعدّي محلّ نظر، بل منع؛ وأنّ الظاهر من القاعدة هو ما كان الأقوائيّة من حيث الدليليّة والكشفيّة.

___________________________________________

[فصل المرجحات الخارجية]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، المرجحات الخارجية

{فصل} في أنّ ما لم يذكر كونه مرجّحاً - في الأخبار - هل يكون مرجّحاً أم لا؟ نقول: {موافقة الخبر لما يوجب الظنّ بمضمونه - ولو نوعاً -} أي: ظنّاً نوعيّاً وإن لم يورث الظنّ في هذا المقام {من المرجّحات في الجملة} أي: {بناءً على} أحد أمرين:الأوّل: تماميّة مقدّمتين:

الأُولى: {لزوم الترجيح} بخلاف ما لو قلنا بالتخيير مطلقاً، فإنّه لم يكن ترجيح.

الثّانية: {لو قيل بالتعدّي عن المرجّحات المنصوصة} بخلاف ما لو لم نقل بذلك، فإنّه لا يتعدّى إلى المرجّحات المضمونيّة كالشهرة الفتوائيّة - مثلاً - .

الثّاني: {أو قيل بدخوله} أي: ما له الترجيح - غير المنصوص عليه - {في القاعدة المجمع عليها - كما ادّعي - وهي: لزوم العمل بأقوى الدليلين} فإنّ الخبر الّذي وافقته الشّهرة يكون أقوى من المخالف لها فيدخل في هذه الكبرى الكليّة.

{و} لكن كلا الأمرين لا يستقيمان:

أمّا الأمر الأوّل: فلما {قد عرفت} من {أنّ التعدّي محلّ نظر، بل منع} بالإضافة إلى ما رجّحنا من عدم الترجيح مطلقاً وإنّما الحكم لدى التعارض التخيير.

{و} أمّا الأمر الثّاني: فل- {أنّ الظاهر من القاعدة} أي: قاعدة أقوى الدليلين {هو ما كان الأقوائيّة من حيث الدليليّة والكشفيّة} بأن يكون كشف أحدهما عن

ص: 348

وكونُ مضمون أحدهما مظنوناً - لأجل مساعدة أمارة ظنيّة عليه - لا يوجب قوّة فيه من هذه الحيثيّة، بل هو على ما هو عليه، من القوّة لولا مساعدتها، كما لا يخفى.

ومطابقة أحد الخبرين لها لا يكون لازمُهالظنّ بوجود خلل في الآخر: إمّا من حيث الصّدور، أو من حيث جهته، كيف؟ وقد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجيّة المخالف، لولا معارضة الموافق.

___________________________________________

الواقع أقوى أو سند أحدهما أقوى.

{و} من المعلوم أنّ {كون مضمون أحدهما مظنوناً - لأجل مساعدة أمارة ظنيّة عليه -} أي: على المظنون لكون الشّهرة موافقة له {لا يوجب قوّة فيه من هذه الحيثيّة} أي: حيثيّة التصادق مع أمارة خارجيّة {بل هو على ما هو عليه من القوّة لولا مساعدتها} فكيف ما كان قبل الشّهرة يكون كذلك بعدها {كما لا يخفى}.

{و} إن قلت: وجه الترجيح بالمرجّح المضموني أنّه إذا كان أحد الخبرين موافقاً للشهرة صار ذلك سبباً للظنّ بأنّ الخبر المخالف مشتمل على خلل مسقط لحجيّته، فيكون ضعف المعارض سبباً للأخذ بهذا، لا أنّ المرجّح المضموني يوجد فيه قوّة توجب الأخذ به.

قلت: {مطابقة أحد الخبرين لها} أي: للأمارة الظنيّة كالشهرة {لا يكون لازمه الظنّ بوجود خلل في} الخبر {الآخر} المعارض له {إمّا من حيث الصّدور أو من حيث جهته} بحيث يظنّ أنّ صدور المعارض أو جهته عليل، و{كيف} تكون موافقة الخبر للأمارة الظنيّة موجبة للظنّ بخلل في الآخر {و} الحال أنّه {قد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجيّة المخالف} بأن كان سنده صحيحاً ودلالته صريحة وجهته كاملة، إذ كانت مخالفة للعامّة {لولا معارضة الموافق} أي: إنّشرائط الحجيّة غير جهة المعارضة كاملة في الخبر المخالف للأمارة الظنيّة.

ص: 349

والصّدق واقعاً لا يكاد يعتبر في الحجيّة، كما لا يكاد يضرّ بها الكذبُ كذلك، فافهم.

هذا حال الأمارة غير المعتبرة، لعدم الدليل على اعتبارها.

أمّا ما ليس بمعتبر بالخصوص - لأجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص، كالقياس - : فهو وإن كان كغير المعتبر لعدم الدليل، بحسب ما يقتضي الترجيح به من الأخبار - بناءً على التعدّي - والقاعدة - بناءً على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين - ،

___________________________________________

{و} إن قلت: هذا الخبر المخالف للشهرة يسقط عن الحجيّة لوجه آخر، وهو أنّه يحتمل كذبه، والخبر لا بدّ وأن يكون مقطوع الصّدق حتّى يؤخذ به.

قلت: هذا غير تامّ، بل شرط الحجّيّة احتمال الصّدق وهو موجود في الخبر المخالف للشهرة، ولو كان القطع بالصدق شرطاً لم يمكن الأخذ بأكثر الأخبار، فإنّ {الصّدق واقعاً لا يكاد يعتبر في الحجيّة} إذ لم يدلّ عليه دليل {كما لا يكاد يضرّ بها} أي: بالحجيّة {الكذب كذلك} أي: واقعاً، بل اللّازم أن لا يقطع بالكذب {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ المناط في حجيّة الخبر بناء العقلاء، وليس بنائهم على الأخذ بما يعارض المشهور.

{هذا} كلّه {حال} توافق أحد الخبرين مع {الأمارة غير المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها} كما عرفت من الشّهرة، و{أمّا ما ليس بمعتبر بالخصوص}كما لو تطابق أحد الخبرين مع القياس أو الأولويّة أو الاستحسان {لأجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص كالقياس فهو وإن كان ك-} المرجّح {غير المعتبر} في عدم الأخذ به {لعدم الدليل بحسب ما يقتضي الترجيح به} أي: بغير المعتبر {من الأخبار} فإنّ القياس والشّهرة مشتركان في عدم دليل على الترجيح بها {بناءً على التعدّي} عن المرجّحان المنصوصة إلى غيرها {والقاعدة بناءً على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين}.

ص: 350

إلّا أنّ الأخبار النّاهية عن القياس؛ - و«أنّ السّنّة إذا قيست مُحق الدين»(1)

- مانعةٌ عن الترجيح به؛ ضرورة أنّ استعماله في ترجيح أحد الخبرين، استعمال له في المسألة الشّرعيّة الأصوليّة، وخطرهُ ليس بأقلّ من استعماله في المسألة الفرعيّة.

وتوهّم: «أنّ حال القياس ها هنا ليس في تحقّق الأقوائيّة به، إلّا كحاله في ما ينقّح به موضوع آخر ذو حكم، من دون اعتماد عليه في مسألة أُصوليّة ولا فرعيّة».

___________________________________________

والظاهر السّقط أو التحريف في العبارة، والأجود جعل كلمة «باستثناء» مكان «بحسب» أي: لا دليل بالخصوص باستثناء الأخبار المستفاد منها التعدّي عن القاعدة {إلّا أنّ الأخبار النّاهية عن القياس و«أنّ السّنّة إذا قيست محق الدين»} من الأخبار المتكثّرة {مانعة عن الترجيح به، ضرورة أنّاستعماله} أي: القياس {في ترجيح أحد الخبرين} على الآخر {استعمال له في المسألة الشّرعيّة الأصوليّة، وخطره} أي: خطر استعمال القياس في المسائل الأصوليّة {ليس بأقلّ من استعماله في المسألة الفرعيّة} بل الأوّل أكثر خطراً، إذ تترتّب على المسألة الأصوليّة مسائل فرعيّة كثيرة.

{و} إن قلت: استعمال القياس في مثل هذه المسائل الأصوليّة لا بأس به، فهو مثل استعماله في الموضوعات الخارجيّة ليس إدخالاً له في الدين، فكما إذا رأينا ما يشبه الماء نقيسه على الماء في الأحكام إذا كان الشّبه يوجب الصّدق العرفي، كذلك إذا نقّحنا المسألة الأصوليّة بالقياس وقلنا: إِنّ الأمر بالشيء ينهى عن الضّدّ بالقياس، أو أنّ القياس يوجب أقوائيّة الخبر الموافق له، وهكذا.

قلت: {توهُّمُ «أنّ حال القياس ها هنا} أي: في باب الترجيح {ليس في تحقّق الأقوائيّة به إلّا كحاله في ما ينقّح به موضوع آخر ذو حكم} والأجود تأخير لفظة «ليس» فيقول: «ليس إلّا كحاله» {من دون اعتماد عليه في مسألة أُصوليّة ولا فرعيّة}

ص: 351


1- الكافي 1: 57.

قياس مع الفارق؛ لوضوح الفرق بين المقام والقياس في الموضوعات الخارجيّة الصّرفة؛ فإنّ القياس المعمول فيها ليس في الدين، فيكون إفساده أكثر من إصلاحه.

وهذا بخلاف المعمول في المقام، فإنّه نحو إعمال له في الدين؛ ضرورة أنّه لولاه لَما تعيّن الخبر الموافق له للحجيّة بعد سقوطه عن الحجيّة - بمقتضى أدلّة الاعتبار - والتخيير بينه وبين معارضه - بمقتضى أدلّة العلاج - ، فتأمّل جيّداً.وأمّا إذا اعتضد بما كان دليلاً مستقلّاً في نفسه - كالكتاب والسّنّة القطعيّة - : ف-

___________________________________________

فلا مانع منه» {قياس مع الفارق} خبر قوله: «وتوهّم» {لوضوح الفرق بين المقام} الّذي هو ترجيح أحد الخبرين {و} بين {القياس في الموضوعات الخارجيّة الصّرفة، فإنّ القياس المعمول فيها} أي: في الموضوعات {ليس} قياساً {في الدين، فيكون} أي: حتّى يكون {إفساده أكثر من إصلاحه} كما في الخبر.

{وهذا بخلاف} القياس {المعمول في المقام} في باب الترجيح {فإنّه نحو إعمال له في الدين، ضرورة أنّه لولاه} أي: لولا هذا القياس الموافق لأحد الخبرين {لما تعيّن الخبر الموافق له للحجيّة بعد سقوطه عن الحجيّة بمقتضى أدلّة الاعتبار} لما تقدّم من أنّ دليل اعتبار الخبر لا يشمل المتعارضين، فكلا الخبرين ليسا بحجّة والقياس يريد أن يجعل أحدهما حجّة {و} قد كان اللّازم {التخيير بينه} أي: بين الخبر الموافق للقياس {وبين معارضه بمقتضى أدلّة العلاج} القائلة «إذن فتخيّر» {فتأمّل جيّداً} حتّى تدرك ما ذكرناه من أنّ الترجيح بالقياس إدخال له في الدين.

{وأمّا إذا اعتضد} أحد الخبرين المتعارضين {بما كان دليلاً مستقلّاً في نفسه كالكتاب والسّنّة القطعيّة} بأن كان أحد المتعارضين موافقاً للكتاب أو للسنة القطعيّة {ف-} المخالف على قسمين:

الأوّل: المخالف بالمباينة.

ص: 352

المعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته بالمباينة الكليّة، فهذه الصّورة خارجة عن مورد الترجيح؛ لعدم حجيّة الخبر المخالف كذلك من أصله، ولو مع عدم المعارض، فإنّه المتيقّن من الأخبار الدالّة على أنّه: «زخرف» أو «باطل»، أو أنّه: «لم نقله» أو غير ذلك.

وإن كانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق، فقضيّة القاعدة فيها وإن كانت ملاحظةَ المرجّحات بينه

___________________________________________

الثّاني: المخالف بالعموم والخصوص.

أمّا الأوّل: فكما إذا قال الكتاب {لِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ}(1)، وقال الخبر: (يجب الحجّ على كلّ مستطيع)، وقال الخبر الآخر المعارض له: (لا يجب الحجّ على المستطيع)، فإنّه لا شكّ في وجوب إسقاطه حتّى ولو لم يكن له معارض في باب الأخبار.

وأمّا الثّاني: كما لو قال الخبر المعارض - في المثال السّابق - : (لا يجب الحجّ على المرأة المستطيعة)، وقال الخبر الموافق: (يجب الحجّ على المرأة المستطيعة)، فإنّه يخير بينهما وإذا أخذ بالمخالف خصّص به الكتاب.

وبذلك تبيّن أنّ {المعارض المخالف لأحدهما} أي: الكتاب والسّنّة القطعيّة {إن كانت مخالفته بالمباينة الكليّة} كالقسم الأوّل {فهذه الصّورة خارجة عن مورد الترجيح لعدم حجيّة الخبر المخالف} لهما {كذلك} بنحو المباينة {من أصله ولو مع عدم المعارض} له {فإنّه المتيقّن من الأخبارالدالّة على أنّه} أي: المخالف للكتاب {«زخرف» أو «باطل» أو أنّه}(علیه السلام) {«لم نقله» أو غير ذلك} ك-«ضربه بالحائط».

{وإن كانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق} كالقسم الثّاني {فقضيّة القاعدة فيها} أي: في المخالفة بهذا النّوع {وإن كانت ملاحظة المرجّحات بينه} أي: بين

ص: 353


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

وبين الموافق، وتخصيصَ الكتاب به تعييناً أو تخييراً، لو لم يكن الترجيح في الموافق - بناءً على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد - ، إلّا أنّ الأخبار الدالّة على أخذ الموافق من المتعارضين، غير قاصرة عن العموم لهذه الصّورة، لو قيل بأنّها في مقام ترجيح أحدهما، لا تعيين الحجّة عن اللّاحجّة، كما نزّلناها عليه.

ويؤيّده أخبار العرض على الكتاب، الدالّة على عدم حجيّة المخالف من أصله،

___________________________________________

هذا الخبر المخالف {وبين الموافق} للكتاب {وتخصيص الكتاب به} أي: بالمخالف {تعييناً} لو كان المرجّح للمخالف {أو تخييراً} لو لم يكن في أحدهما مرجّح {لو لم يكن الترجيح في الموافق} وإلّا أخذ به {بناءً على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد} متعلّق بقوله: «وتخصيص».

{إلّا} أنّ الظاهر الأخذ بالخبر الموافق للكتاب ولو كان مخالفه أخصّ منالكتاب - كما في المثال الثّاني - ف- {إنّ الأخبار الدالّة على أخذ الموافق} للكتاب {من المتعارضين} أعمّ من كون المخالف مبايناً أو أخصّ مطلقاً؛ لأنّ هذه الأخبار {غير قاصرة عن العموم لهذه الصّورة} أي: صورة أخصيّة المعارض {لو قيل بأنّها} أي: الأخبار الدالّة على أخذ الموافق {في مقام ترجيح أحدهما} على الآخر {لا} في مقام {تعيين الحجّة عن اللّاحجّة كما نزّلناها} أي: نزّلنا أخبار العلاج المرجّحة لموافقة الكتاب {عليه} أي: على كونها في مقام تعيين الحجّة عن اللّاحجّة.

وعلى هذا فالخبر المخالف ولو بنحو الأخصيّة ليس حجّة أصلاً لا أنّه حجّة في نفسه ولكنّه ساقط بالمعارضة.

{ويؤيّده} أي: يؤيّد كون أخبار العلاج المشتملة على موافقة الكتاب في مقام تعيين الحجّة عن اللّاحجّة - لا في مقام الترجيح - {أخبار العرض} لمطلق الأخبار {على الكتاب الدالّة} تلك الأخبار {على عدم حجيّة المخالف من أصله} ولو مع عدم معارض خبري له، وإنّما جعل هذه الأخبار مؤيّدة لتنزيلنا المذكور

ص: 354

فإنّهما تفرغان عن لسان واحد، فلا وجه لحمل المخالفة في أحدهما على خلاف المخالفة في الأُخرى، كما لا يخفى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: نعم، إلّا أنّ دعوى اختصاص هذه الطّائفة بما إذا كانت المخالفة بالمباينة، - بقرينة القطع بصدور المخالف غير المباين عنهم^ كثيراً، وإباء مثل: «ما خالف قول ربّنا لم أقله»، أو: «زخرف»، أو: «باطل»، عن التخصيص - غير بعيدة.

___________________________________________

{فإنّهما} أي: أخبار العرض وأخبار العلاج بموافقة الكتاب {تفرغان عن لسان واحد} ممّا يدلّ على أنّهما في مقام بيان الحجّة واللّاحجّة.

{فلا وجه لحمل المخالفة في أحدهما} كأخبار العلاج {على خلاف المخالفة في الأُخرى} كأخبار العرض، بأن يحمل الأُولى على الترجيح والثّانية على تعيين الحجّة {كما لا يخفى} هذا كلّه لتقريب أنّ المخالف الأخصّ أيضاً يطرح إذا كان له معارض موافق للكتاب.

{اللّهمّ إلّا أن يقال:} كما أنّه لا يطرح الأخصّ مطلقاً إذا كان بدون معارض كذلك لا يطرح إذا كان له معارض، فإنّه {نعم} صحيح أنّ كلتا الطّائفتين من أخبار العرض وأخبار العلاج تفرغان عن لسان واحد {إلّا أنّ دعوى اختصاص هذه الطّائفة} أي: أخبار العلاج المشتملة على مخالفة الكتاب {بما إذا كانت المخالفة بالمباينة - بقرينة القطع بصدور المخالف غير المباين} أي: الأخصّ مطلقاً {عنهم^ كثيراً و} بقرينة {إباء مثل: «ما خالف قول ربّنا لم أقله» أو «زخرف» أو «باطل» عن التخصيص -} بأن يقال: إنّ «ما خالف» وإن كان أعمّ من التباين ومن الأخصّ المطلق، لكنّه خصّص وأُريد به خصوص التباين، فالمخالفة في أخبار العلاج أعمّ وفي أخبار العرض مخصوص بالمباينة {غير بعيدة} خبر قوله: «إلّا أنّ دعوى»، فيكون المراد بالمخالف في أخبار العلاج هو التباين فقط.

ص: 355

وإن كانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه، فالظاهر أنّها كالمخالفة في الصّورة الأُولى، كما لا يخفى.وأمّا الترجيح بمثل الاستصحاب - كما وقع في كلام غير واحد من الأصحاب(1)

- فالظاهر أنّه لأجل اعتباره من باب الظنّ والطّريقيّة عندهم. وأمّا بناءً على اعتباره تعبّداً من باب الأخبار،

___________________________________________

{وإن كانت المخالفة} الموجودة في أحد الخبرين للكتاب {بالعموم والخصوص من وجه} كما لو قال الكتاب {حَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ}(2) وورد خبر بتحريم الرّبا، وورد خبر معارض مخالف قائلاً: (أحلّ كلّ قرض ولو بالربا) حيث إنّه يخالف الكتاب بالعموم من وجه فيجتمعان في القرض الرّبوي ويفترق الأوّل في البيع الرّبوي والثّاني في القرض غير الرّبوي {فالظاهر أنّها كالمخالفة في الصّورة الأُولى} أي: بالتباين، فيقدّم الموافق للكتاب على المخالف له ويكون الكتاب مرجّحاً للموافق فيحرم الرّبا القرضي {كما لا يخفى} وفيه نظر، إذ ليس هذا بأشدّ من الأخصّ مطلقاً، فتأمّل.

{وأمّا الترجيح} لأحد الخبرين {بمثل الاستصحاب} كما لو قال أحد الخبرين بطهارة ماء الزبيب المغلي والآخر بنجاسته، وكان الاستصحاب موافقاً للثاني {كما وقع في كلام غير واحد من الأصحاب} حيث يذكرون الاستصحاب مرجحاً لأحد الخبرين المعارضين {فالظاهر أنّه} أي: أنّ الترجيح به {لأجل اعتباره} أي: الاستصحاب {من باب الظنّ والطّريقيّة عندهم} فهو أمارة كالخبر الواحد، وحينئذٍ يكون في عرض الخبر - لا في طوله كما نحن نذهب إليه - .{وأمّا بناءً على اعتباره} أي: الاستصحاب {تعبّداً من باب الأخبار} الدالّة على

ص: 356


1- الفصول الغروية: 445؛ بحر الفوائد: 66؛ فرائد الأصول 4: 151.
2- سورة البقرة، الآية: 275.

وظيفة للشاكّ - كما هو المختار، كسائر الأصول العمليّة الّتي تكون كذلك عقلاً أو نقلاً - ، فلا وجه للترجيح به أصلاً؛ لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته، ولو بملاحظة دليل اعتباره، كما لا يخفى.

هذا آخر ما أردنا إيراده، والحمد للّه أوّلاً وآخراً وباطناً وظاهراً.

___________________________________________

أنّه «لا ينقض اليقين بالشكّ» {وظيفة للشاكّ - كما هو المختار -} عندنا {كسائر الأصول العمليّة} كالبراءة والاحتياط والتخيير {الّتي تكون كذلك} وظيفة للشاكّ {عقلاً أو نقلاً} أي: قام عليها دليل عقليّ كقبح العقاب بلا بيان أو نقليّ نحو «رفع ما لا يعلمون»(1)

{فلا وجه للترجيح به} أي: بالاستصحاب {أصلاً} لأنّه ليس في عرض الخبر {لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته} أي: موافقة الاستصحاب {ولو بملاحظة دليل اعتباره} وهو «لا تنقض» {كما لا يخفى} فهو كالحجر في جنب الإنسان.

{هذا آخر ما أردنا إيراده} في باب التراجيح {والحمد للّه أوّلاً وآخراً وباطناً وظاهراً} وصلّى اللّه على محمّد وآله الطّاهرين.

ص: 357


1- الخصال 2: 417.

ص: 358

الخاتمة : في الاجتهاد والتقليد

اشارة

ص: 359

ص: 360

أمّا الخاتمة فهي في ما يتعلّق بالاجتهاد والتقليد

فصل: الاجتهادُ لغةً(1):

تحمّل المشقّة.

واصطلاحاً - كما عن الحاجبي(2)

والعلّامة(3)

- : «استفراغُ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشّرعي».

وعن غيرهما: «ملكةٌ يقتدر بها على استنباط الحكم الشّرعي الفرعي من الأصل،

___________________________________________

[خاتمة]

{أمّا الخاتمة} للكتاب {فهي في ما يتعلّق بالاجتهاد والتقليد} وفيها فصول:

[فصل تعريف الاجتهاد]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، تعريف الاجتهاد

{فصل الاجتهاد لغة تحمّل المشقّة} وفي كلام الإمام أميرالمؤمنين(علیه

السلام): «ولا يؤدّي حقّه المجتهدون»(4)،

إذ هو من (الجهد) الّذي هو المشقّة {واصطلاحاً} أُصوليّاً {كما عن الحاجبي والعلّامة} الحلّي(رحمة الله) {«استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشّرعي»} والمراد بالاستفراغ هو المتعارف منه لا المستغرق، كما لا يخفى {وعن غيرهما} تعريفه بأنّه {«ملكة يقتدر بها على استنباط الحكمالشّرعي الفرعي من الأصل} المقرّر، وهو الأصول الأربعة: الكتاب، والسّنّة، والإجماع والعقل.

والفرق بين التعريفين: أنّ الأوّل ناظر إلى مقام الفعليّة والثّاني ناظر إلى مقام

ص: 361


1- كتاب العين 3: 386؛ الصحاح 2: 460؛ معجم مقاييس اللغة 1: 486.
2- شرح مختصر الأصول: 460.
3- مبادئ الوصول: 240.
4- نهج البلاغة، الخطبة الأولى.

فعلاً أو قوّة قريبة».

ولا يخفى: أنّ اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحاً، ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيّته؛ لوضوح أنّهم ليسوا في مقام بيان حدّه أو رسمه، بل إنّما كانوا في مقام شرح اسمه، والإشارة إليه بلفظ آخر، وإن لم يكن مساوياً له بحسب مفهومه، كاللغوي في بيان معاني الألفاظ، بتبديل لفظ بلفظ آخر، ولو كان أخصّ منه مفهوماً أو أعمّ.

ومن هنا انقدح: أنّه لا وقع للإيراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الاطّراد،

___________________________________________

القوّة {فعلاً أو قوّة قريبة»} قيد للاستنباط، وأمّا القوّة البعيدة - أي: الصّلاحيّة الكامنة في كلّ إنسان - فليس ذلك اجتهاداً.

{ولا يخفى أنّ اختلاف عباراتهم في بيان معناه} أي: معنى الاجتهاد {اصطلاحاً ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيّته} بأن يكون كلّ واحد يرى الاجتهاد شيئاً غير ما يراه الآخر {لوضوح أنّهم ليسوا في مقام بيان حدّه أو رسمه} الّذي هو ذكر الفصل أو الخاصّة حتّى يكشف اختلاف ألفاظهم عن اختلاف مقصودهم {بل إنّما كانوا في مقام شرح اسمه} لفظاً {والإشارة إليه} أي: إلى ذلك المعنى الواحد الّذي هو مراد الجميع {بلفظ آخر وإن لم يكن مساوياً بحسب مفهومه} فكانمفهوم الاجتهاد أعمّ وأخصّ من مفهوم تلك التعريفات {كاللغوي في بيان معاني الألفاظ بتبديل لفظ بلفظ آخر} كتعريف (سعدانة) بأنّه نبت، وتعريف (الإنسان) بأنّه حيوان بادي البشرة {ولو كان} المفسِّر {أخصّ منه} من المفسَّر {مفهوماً أو أعمّ} أو كان بينهما عموم من وجه.

{ومن هنا} الّذي ذكرنا أنّ المقصود في تعريفهم للاجتهاد التوضيح في الجملة، وأنّهم في مقام شرح الاسم، لا الحدّ والرّسم {انقدح أنّه لا وقع للإيراد على تعريفاته} أي: تعريفات الاجتهاد {بعدم الانعكاس أو الاطّراد} أي: ليس جامعاً أو مانعاً، وهذا مأخوذ من قولهم: «كلّما صدق الحدّ صدق المحدود

ص: 362

كما هو الحال في تعريف جُلّ الأشياء - لولا الكلّ - ؛ ضرورةَ عدم الإحاطة بها بكُنهها، أو بخواصّها - الموجبةِ لامتيازها عمّا عداها - لغير علّام الغيوب، فافهم.

وكيف كان، فالأولى: تبديل «الظنّ بالحكم» ب- «الحجّة عليه»؛ فإنّ المناط فيه هو تحصيلها قوّة أو فعلاً، لا الظنّ، عند العامّة القائلين بحجيّته مطلقاً، أو بعض الخاصّة

___________________________________________

وكلّما لم يصدق الحدّ لم يصدق المحدود»(1) ولذا سمّي انعكاساً واطّراداً؛ لأنّ إحدى الكلّيّتين عكس الأُخرى، فراجع الشّمسيّة في المنطق(2)

وغيرها {كما هو الحال في تعريف جلّ الأشياء} ممّا يراد شرح اسمه {لولا الكلّ} وإنّما يقتنعون بشرح الاسم ولا يأتون بالفصل أو الخاصّةليكون حدّاً أو رسماً محيطاً بالأفراد مانعاً عن الأغيار؛ لأنّهم لا يعرفون الفصل والخاصّة.

{ضرورة عدم الإحاطة بها} أي: بالأشياء {بكنهها} جنساً وفصلاً {أو بخواصّها الموجبة لامتيازها عمّا عداها لغير علّام الغيوب} كما أشار إليه في الكبرى وغيره.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مراد العلماء بيان الحدّ والرّسم لا شرح الرّسم، ولذا نرى بعضهم يستشكل على بعض بعدم الاطّراد والانعكاس ويفرّون من التعريف السّابق؛ لأنّه مخدوش إلى تعريف جديد، مضافاً إلى أنّ عدم الإحاطة بالحقائق الخارجيّة لا ينافي الإحاطة بالمفاهيم المخترعة.

{وكيف كان، فالأولى تبديل} لفظة {«الظنّ بالحكم»} كما وقع في تعريف العلّامة {ب-«الحجّة عليه»} فيقال: «الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم الشّرعي» {فإنّ المناط فيه} أي: في باب الاجتهاد {هو تحصيلها} أي: تحصيل الحجّة {قوّة أو فعلاً، لا الظنّ حتّى عند العامّة القائلين بحجيّته} أي: حجيّة الظنّ {مطلقاً} في حال الانسداد وغيره {أو} عند {بعض الخاصّة}

ص: 363


1- الحاشية على تهذيب المنطق: 256.
2- شروح الشمسيّة: 43-44 و 135.

القائل بها عند انسداد باب العلم بالأحكام(1)، فإنّه مطلقاً عندهم، أو عند الانسداد عنده من أفراد الحجّة؛ ولذا لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره من أفرادها - من العلم بالحكم أو غيره، ممّا اعتبر من الطّرق التعبّديّة غيرالمفيدة للظنّ ولو نوعاً - اجتهاداً أيضاً.

ومنه انقدح: أنّه لا وجه لتأبّي الأخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى، فإنّه لا محيصَ عنه، كما لا يخفى.

غاية الأمر، له

___________________________________________

كصاحب القوانين {القائل بها} أي: بحجيّة الظنّ {عند انسداد باب العلم بالأحكام}.

وإنّما قلنا أنّ المهمّ تحصيل الحجّة لا الظنّ إذ الظنّ لو كان مستنداً، فإنّه من جهة كونه حجّة لا بما هو هو {فإنّه} أي: الظنّ {مطلقاً عندهم} أي: عند العامّة {أو عند الانسداد عنده} أي: عند بعض الخاصّة {من أفراد الحجّة}.

{ولذا} الّذي ذكرنا من كون المهمّ تحصيل الحجّة - لا الظنّ - أنّ كلّ حجّة ولو لم يكن ظنّاً يكون تحصيلها اجتهاداً، فإنّه {لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره} أي: غير الظنّ {من أفرادها} أي: الحجّة {- من العلم بالحكم أو غيره} أي: غير العلم، وقوله: «من» بيان لقوله: «غيره» {ممّا اعتبر من الطّرق التعبّديّة غير المفيدة للظنّ ولو نوعاً -} أي: الّذي لا يفيد حتّى الظنّ النّوعي {اجتهاداً أيضاً} خبر «كون» وقوله: «ممّا» بيان لقوله: «أو غيره».

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من كون الاجتهاد هو تحصيل الحجّة على الحكم {انقدح أنّه لا وجه لتأبّي الأخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى} وإن كان له وجه إذا تأبّى عن الاجتهاد بمعنى تحصيل الظنّ، فإنّ الظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً {فإنّه} أي: الاجتهاد بمعنى تحصيل الحجّة {لا محيص عنه، كما لايخفى} حتّى الأخباري بنفسه إنّما يحصل الحجّة على الحكم {غاية الأمر له} أي: للأخباري

ص: 364


1- قوانين الأصول 1: 282.

أن ينازع في حجيّة بعض ما يقولُ الأصولي باعتباره، ويمنع عنها، وهو غير ضائر بالاتفاق على صحّة الاجتهاد بذاك المعنى؛ ضرورة أنّه ربّما يقع بين الأخباريّين، كما وقع بينهم وبين الأصوليّين.

فصل: ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزٍ:

فالاجتهادُ المطلق هو: ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعليّة من أمارة معتبرة، أو أصل معتبر عقلاً أو نقلاً،

___________________________________________

{أن ينازع في حجيّة بعض ما يقول الأصولي باعتباره ويمنع عنها} أي: عن تلك الّتي يقول الأصولي بحجيّتها، كأن يمنع حجيّة الاستصحاب أو البراءة أو الشّهرة أو ما أشبهها {وهو} أي: هذا المنع عن بعض الصّغريات {غير ضائر بالاتفاق} بين الأصولي والأخباري {على صحّة الاجتهاد بذاك المعنى} الّذي ذكرناه من كونه تحصيل الحجّة.

{ضرورة أنّه} أي: الاختلاف في بعض الصّغريات {ربّما يقع بين الأخباريّين كما وقع} الخلاف {بينهم وبين الأصوليّين} والقول بأنّه لم يرد لفظ (المجتهد) و(الاجتهاد) في الأخبار وإنّما اللفظ هو الفقيه وما أشبه غير ضائر بعد جواز استعمال الألفاظ وعدم كونها توقيفيّة بالنسبة إلى غير اللّه - سبحانه - فالاستيحاش من اللفظ لا معنى له.

[فصل في الاجتهاد المطلق والمتجزّي]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، الاجتهاد المطلق والمتجزي{فصل} في الاجتهاد المطلق والمتجزّي {ينقسم الاجتهاد إلى مطلق و} إلى {تجز} فالأوّل مجتهد مطلق والثّاني مجتهد متجزّي.

{فالاجتهاد المطلق: هو ما يقتدر} الشّخص {به} أي: بسببه {على استنباط الأحكام الفعليّة} مقابل الأحكام الواقعيّة الّتي لا يتمكّن من معرفتها إلّا الإمام(علیه السلام) {من أمارة معتبرة} كخبر الواحد {أو أصل معتبر عقلاً أو نقلاً}

ص: 365

في الموارد الّتي لم يظفر فيها بها.

والتجزّي هو: ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام.

ثمّ إنّه لا إشكال في إمكان المطلق وحصوله للأعلام.

وعدم التمكّن من الترجيح في المسألة وتعيين حكمها، والتردّدُ منهم في بعض المسائل، إنّما هو بالنسبة إلى حكمها الواقعي، لأجل عدم دليل مساعد في كلّ مسألة عليه، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللّازم، لا لقلّة الاطّلاع أو قصور الباع، وأمّا بالنسبة إلى حكمها الفعلي فلا تردّد لهم أصلاً.

___________________________________________

كالبراءة العقليّة أو النّقليّة {في الموارد} متعلّق بقوله: «أصل» {الّتي لم يظفر فيها} أي: في تلك الموارد {بها} أي: بأمارة معتبرة لوضوح أنّ الأصل بعد الأمارة.

{والتجزّي: هو ما يقتدر} الشّخص {به على استنباط بعض الأحكام} لا جميعها.{ثمّ إنّه لا إشكال في إمكان} الاجتهاد {المطلق وحصوله للأعلام}.

{و} إن قلت: كيف يكون الاجتهاد المطلق حاصلاً لهم ونراهم يتردّدون في بعض المسائل ويحتاطون أو يستشكلون ويخرجون عن المسألة بدون تعيين حكمها؟

قلت: {عدم التمكّن من الترجيح في المسألة و} عدم التمكّن من {تعيين حكمها والتردّد منهم في بعض المسائل} ليس لعدم الاجتهاد المطلق، و{إنّما هو بالنّسبة إلى حكمها} أي: حكم المسألة {الواقعي لأجل عدم دليل مساعد في كلّ مسألة عليه} أي: على الحكم الواقعي {أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه} الضّميران للدليل {بالمقدار اللّازم} فيكون عدم فتواهم احتياطاً منهم وتورّعاً {لا لقلّة الاطّلاع أو قصور الباع، وأمّا بالنسبة إلى حكمها} أي: حكم المسألة {الفعلي} الّذي يقتضيه ظواهر الأمارات والأصول {فلا تردّد لهم أصلاً} فيه، كما لا يخفى.

ص: 366

كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف به.

وأمّا لغيره فكذا لا إشكال فيه، إذا كان المجتهد ممّن كان باب العلم أو العلمي بالأحكام مفتوحاً له، على ما يأتي من الأدلّة على جواز التقليد.

بخلاف ما إذا انسدّ عليه بابُهما، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الإشكال؛ فإنّ رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلىالعالم،

___________________________________________

{كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد} المطلق {لمن اتصف به} لوجوب عمل الإنسان بعلمه شرعاً وعقلاً.

{وأمّا} العمل باجتهاد المجتهد المطلق {لغيره} من سائر المقلّدين فالكلام فيه يقع في مقامين: المجتهد الانفتاحي، والمجتهد الانسدادي {فكذا لا إشكال فيه إذا كان المجتهد ممّن كان باب العلم أو العلمي بالأحكام مفتوحاً له} بأن كان يرى الانفتاح {على ما يأتي من الأدلّة} الدالّة {على جواز التقليد} «فمن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه» {بخلاف ما إذا انسدّ عليه بابهما} أي: باب العلم والعلمي، بأن كان يرى الانسداد {فجواز تقليد الغير عنه} أي: عن هذا المجتهد {في غاية الإشكال} وإن كان الإنصاف أنّه لا إشكال فيه من جهة أنّ المجتهد الانسدادي كالمجتهد الانفتاحي يستنبط الأحكام من الأدلّة مع جميع الخصوصيّات، منتهى الأمر أنّ أحدهما يعتمد على الأدلّة بما هي أدلّة والآخر يعتمد عليها بما أنّها تورث الظنّ، وإنّما الاختلاف بينهما في بعض الصّغريات كالاختلاف بين المجتهدين الانفتاحيّين، وهل يتردّد أحد في شمول أدلّة التقليد لصاحب القوانين كشموله لصاحب الفصول؟!

وكيف كان {ف-} الإشكال في جواز تقليده من جهة {أنّ رجوعه} أي: المقلّد {إليه} أي: إلى الانسدادي {ليس من رجوع الجاهل إلى العالم} الّذي هو ضابط

ص: 367

بل إلى الجاهل، وأدلّة جواز التقليدإنّما دلّت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم، كما لا يخفى.

وقضيّةُ مقدّمات الانسداد ليست إلّا حجيّة الظنّ عليه، لا على غيره.

فلا بدّ في حجيّة اجتهاد مثله على غيره من التماس دليل آخر، غير دليل التقليد، وغير دليل الانسداد الجاري في حقّ المجتهد، من إجماع أو جريان مقدّمات دليل الانسداد في حقّه، بحيث تكون منتجة بحجيّة الظنّ - الثابت حجيّته بمقدّماته - له أيضاً.

___________________________________________

جواز التقليد عقلاً وشرعاً {بل} هو من رجوع الجاهل {إلى الجاهل، وأدلّة جواز التقليد} العقليّة والنّقليّة {إنّما دلّت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم، كما لا يخفى} وفيه أنّه من رجوع الجاهل إلى العالم قطعاً.

{و} إن قلت: مقدّمات الانسداد إنّما دلّت على حجيّة مطلق الظنّ، فهو كما يكون حجّة بالنسبة إلى المجتهد يكون حجّة بالنسبة إلى المقلّد.

قلت: {قضيّة مقدّمات الانسداد ليست إلّا حجيّة الظنّ عليه} أي: على المجتهد الانسدادي {لا على غيره، فلا بدّ في حجيّة اجتهاد مثله على غيره من التماس دليل آخر غير دليل التقليد} لأنّه يقول برجوع الجاهل إلى العالم والانسدادي ليس عالماً {وغير دليل الانسداد الجاري في حقّ المجتهد} لأنّه إنّما يثبت حجيّة اجتهاده لنفسه لا لغيره {من إجماع} بأن يدّعي قيام الإجماع على جواز الرّجوع إلى الانسدادي {أو جريان مقدّمات دليلالانسداد في حقّه} أي: حقّ المقلّد {بحيث تكون} المقدّمات {منتجة بحجيّة الظنّ الثابت حجيّته} للمجتهد {بمقدّماته له} أي: للمقلّد {أيضاً} كأن يقال: إنّ المقلّد يقطع بأنّه مكلّف، وأنّه انسدّ عليه باب العلم والعلمي، وإنّ الاحتياط موجب للعسر والحجر عليه، فلا بدّ وأن يكون قول المجتهد الانسدادي حجّة عليه، وإلّا فلو رجع إلى ظنّ نفسه أو شكّه أو وهمه لكان من ترجيح المرجوح على الرّاجح.

ص: 368

ولا مجال لدعوى الإجماع. ومقدّماتُه كذلك غير جارية في حقّه؛ لعدم انحصار المجتهد به، أو عدم لزوم محذور عقليّ من عمله بالاحتياط، وإن لزم منه العسر، إذا لم يكن له سبيل إلى إثبات عدم وجوبه مع عسره.

نعم، لو جرت المقدّمات كذلك، - بأن انحصر المجتهد، ولزم من الاحتياط المحذور، أو لزم منه العسرُ مع التمكّن

___________________________________________

{و} لكن {لا مجال لدعوى الإجماع} إذ المسألة مستحدثة، بالإضافة إلى أنّ الإجماع لو ادّعي فهو محتمل الاستناد {ومقدّماته} أي: الانسداد {كذلك غير جارية في حقّه} أي: حقّ المقلّد {لعدم انحصار المجتهد به} أي: بالانسدادي، فيرجع إلى مجتهد انفتاحي {أو عدم لزوم محذور عقليّ من عمله بالاحتياط وإن لزم منه العسر}.

إن قلت: الاحتياط العسر غير واجب.

قلت: من الّذي يتمكّن من إثبات عدم وجوبه على المقلّد الجاهل، فإنّ العقل يرى لزوم الاحتياط لامتثال أوامر المولى - كأطراف الشّبهة المقرونة بالعلمالإجمالي - والمقلّد هو بنفسه لا يتمكّن من الاجتهاد حتّى يعرف عدم وجوبه، والمجتهد الانسدادي المفروض عدم حجيّة رأيه بالنسبة إليه.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {إذا لم يكن له} أي: للعامي {سبيل إلى إثبات عدم وجوبه} أي: الاحتياط {مع عسره}.

نعم، إذا استلزم الاحتياط الاختلال بالنظام استقلّ العقل بعدم وجوبه.

{نعم} استدراك عن عدم جريان مقدّمات الانسداد في حقّ العامي {لو جرت المقدّمات كذلك} الّذي ذكرنا {بأن انحصر المجتهد} في الانسدادي ولم يكن هناك مجتهد انفتاحي {ولزم من الاحتياط المحذور} العقلي لاستلزامه اختلال النّظام {أو لزم منه} أي: من الاحتياط {العسر مع التمكّن} أي: تمكّن العامي

ص: 369

من إبطال وجوبه حينئذٍ - كانت منتِجةً لحجيّته في حقّه أيضاً، لكن دونه خَرطُ القتاد.

هذا على تقدير الحكومة.

وأمّا على تقدير الكشف وصحّته، فجواز الرّجوع إليه في غاية الإشكال؛ لعدم مساعدة أدلّة التقليد على جواز الرّجوع إلى من اختصّ حجيّة ظنّه به. وقضيّة مقدّمات الانسداد

___________________________________________

{من إبطال وجوبه} أي: الاحتياط {حينئذٍ} أي: حين الانسداد {كانت} مقدّمات الانسداد الجارية بالنسبة إلى العامي {منتجة لحجيّته} أي: حجيّة قول المجتهد الانسدادي {في حقّه أيضاً}أي: كما هو حجّة بالنسبة إلى المجتهد نفسه {لكن دونه خرط القتاد}.

و{هذا} كلّه {على تقدير} إنتاج مقدّمات الانسداد لدى المجتهد الانسدادي {الحكومة} أي: كان الظنّ حجّة لديه من باب حكومة العقل {وأمّا على تقدير الكشف وصحّته} أي: صحّة الكشف {ف-} ربّما يقال: إنّه لا بأس برجوع العامي إليه، إذ المفروض أنّ المجتهد يعمل حينئذٍ بما جعله الشّارع حجّة.

وأيّ فرق بين من يعمل بخبر الواحد الانفتاحي وبين من يعمل بالظنّ المطلق الّذي جعله الشّارع حجّة الانسدادي؟ ولكن مع ذلك {جواز الرّجوع إليه في غاية الإشكال} إذ أدلّة التقليد منحصرة في الدليل العقلي والإجماع والأخبار والانسداد، أمّا الأوّلان فلا يجريان كما عرفت، وأمّا الأخيران ف-{لعدم مساعدة أدلّة التقليد على جواز الرّجوع إلى من اختصّ حجيّة ظنّه به} أي: بنفسه، إذ مقدّمات الانسداد تجعل الظنّ حجّة بالنسبة إلى من جرت المقدّمات بالنسبة إليه والعامي لم تجر عنده المقدّمات، ولذا يكون الظنّ المطلق حجّة خاصّة للمجتهد، فلا تشمله أدلّة التقليد.

{وقضيّة مقدّمات الانسداد} المنتجة لحجيّة مطلق الظنّ إنّما هي

ص: 370

اختصاص حجيّة الظنّ بمن جرت في حقّه، دون غيره؛ ولو سلم أنّ قضيّتها كونُ الظنّ المطلق معتبراً شرعاً، كالظنون الخاصّة الّتي دلّ الدليل على اعتبارها بالخصوص، فتأمّل.

إن قلت: حجيّة الشّيء شرعاً، مطلقاً، لاتوجب القطع بما أدّى إليه من الحكم ولو ظاهراً،

___________________________________________

{اختصاص حجيّة الظنّ بمن جرت} المقدّمات {في حقّه} الّذي هو المجتهد {دون غيره} الّذي هو العامي {ولو سلم أنّ قضيّتها} أي: المقدّمات {كون الظنّ المطلق معتبراً شرعاً كالظنون الخاصّة} كالخبر الواحد ونحوه {الّتي دلّ الدليل على اعتبارها بالخصوص} إذ الاعتبار شرعاً لا ينافي عدم الحجيّة إلّا بالنسبة إلى من جرت عنده المقدّمات وهو المجتهد فقط، وقوله: «ولو سلم» وصليّة، جواب عن الإشكال المقدّر الّذي أوضحناه بقولنا: «ربّما يقال».

{فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّه على الكشف يكون الظنّ حجّة مطلقاً على الجميع، فلا اختصاص له بالمجتهد.

{إن قلت}: المجتهد على ثلاثة أقسام:

الانسدادي: وقد تبيّن المنع عن الرّجوع إليه.

ومن حصل له العلم: ولا إشكال في الرّجوع إليه.

ومن حصل له العلمي: كعامّة المجتهدين الّذين يعملون بالأمارات والأصول، والرّجوع إلى هؤلاء فيه إشكال؛ لأنّهم لا يعلمون الأحكام الواقعيّة وإنّما قيام الأمارات لديهم يوجب التنجيز والإعذار فقط، ودليل التقليد يقول بجواز الرّجوع إلى العالم لا إلى من قام لديه التنجيز والإعذار، فإنّ {حجيّة الشّيء شرعاً مطلقاً} أي: أيّ قسم من أقسام الحجّة كان - الأمارة أو الأصل أو الطّريق - {لا توجب القطع بما أدّى إليه من الحكم ولو ظاهراً} أي: لا يوجب القطع بالحكم الواقعي ولا

ص: 371

كما مرّ تحقيقه(1)،

وأنّه ليس أثره إلّا تنجّزَ الواقع مع الإصابة، والعذر مع عدمها، فيكون رجوعه إليه - مع انفتاح باب العلمي عليه أيضاً - رجوعاً إلى الجاهل، فضلاً عمّا إذا انسدّ عليه.

قلت: نعم، إلّا أنّه عالم بموارد قيام الحجّة الشّرعيّة على الأحكام، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم.

إن قلت: رجوعه إليه في موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده - الّتي يكون المرجع فيها الأصول العقليّة - ليس إلّا الرّجوع إلى الجاهل.

___________________________________________

الحكم الظاهري {كما مرّ تحقيقه} في أنّه ليس لنا أحكام ظاهريّة {وأنّه ليس أثره} أي: أثر كون الشّيء حجّة {إلّا تنجّز الواقع مع الإصابة والعذر مع عدمها} أي: عدم الإصابة {فيكون رجوعه} أي: العامي {إليه} أي: إلى المجتهد العلمي {مع انفتاح باب العلمي عليه أيضاً} كالانسدادي {رجوعاً إلى الجاهل فضلاً عمّا إذا انسدّ} باب العلمي {عليه}.

{قلت: نعم} صحيح أنّه لا يعلم الواقعيّات {إلّا أنّه عالم بموارد قيام الحجّة الشّرعيّة على الأحكام} فإنّه يعلم أنّ التتن - مثلاً - قامت عليه الحجّة الشّرعيّة الكذائيّة وهكذا {فيكون} تقليده {من} باب {رجوع الجاهل إلى العالم} فتشمله أدلّة التقليد.{إن قلت}: صحيح ما ذكرتم لكنّه بالنسبة إلى ما قامت عليه أمارة شرعيّة أو أصل شرعيّ، لكن {رجوعه} أي: العامي {إليه في موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده} أي: عند المجتهد {الّتي يكون المرجع فيها الأصول العقليّة} كالتخيير العقلي، وقبح العقاب بلا بيان {ليس إلّا الرّجوع إلى الجاهل} فلا تشمله أدلّة التقليد.

ص: 372


1- في أوائل بحث الأمارة، حيث قال: «... والحجيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية...»؛ الوصول إلى كفاية الأصول 3: 363.

قلت: رجوعه إليه فيها إنّما هو لأجل اطّلاعه على عدم الأمارة الشّرعيّة فيها، وهو عاجز عن الاطّلاع على ذلك.

وأمّا تعيين ما هو حكم العقل، وأنّه مع عدمها هو: البراءة أو الاحتياط، فهو إنّما يرجع إليه؛ فالمتّبع ما استقلّ به عقلُه، ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهدهُ، فافهم.

وكذلك لا خلافَ ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق، إذا كان باب العلم أو العلمي له مفتوحاً.

وأمّا إذا انسدّ عليه بابهما: ففيه

___________________________________________

{قلت: رجوعه} أي: العامي {إليه} أي: إلى المجتهد {فيها} أي: في موارد فقد الأمارة {إنّما هو لأجل اطّلاعه} أي: المجتهد {على عدم الأمارة الشّرعيّة فيها} أي: في تلك الموارد {وهو} أي: العامي {عاجز عن الاطّلاع على ذلك}.

فإن قلت: وعلى هذا فلم يأخذ بقول المجتهد بالنسبة إلى الاحتياط أو البراءة في الموارد الّتي لا أمارة فيها؟!قلت: {وأمّا تعيين ما هو حكم العقل وأنّه مع عدمها} أي: عدم الأمارة {هو البراءة أو الاحتياط فهو} أي: العامي {إنّما يرجع إليه} أي: إلى العقل {فالمتّبع ما استقلّ به عقله ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهده} كما لو كان العامي فاضلاً وكانت له مستقلّات عقليّة.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ غالب العوام الّذين لا مستقلّات لهم في مثل هذه المسائل ليس وظيفتهم الرّجوع إلى عقولهم، بل إلى المجتهد لاستقلال العقل بذلك وشمول أدلّة التقليد له.

{وكذلك لا خلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق} مقابل المتجزّي الّذي يأتي الكلام فيه {إذا كان باب العلم أو العلمي له مفتوحاً} بأن كان ممّن يرى الانفتاح {وأمّا إذا انسدّ عليه بابهما ففيه} أي: في نفوذ قضائه

ص: 373

إشكالٌ - على الصّحيح، من تقرير المقدّمات على نحو الحكومة - فإنّ مثله - كما أشرت آنفاً - ليس ممّن يعرف الأحكام، مع أنّ معرفتها معتبرة في الحاكم، كما في المقبولة.

إلّا أن يدّعي عدم القول بالفصل؛ وهو وإن كان غيرَ بعيد، إلّا أنّه ليس بمثابة يكون حجّةً على عدم الفصل.

إلّا أن يقال بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الإجماعات، والضّروريّات من الدين أو المذهب والمتواترات، إذا كانتجملة يعتدّ بها، وإن انسدّ باب العلم بمعظم الفقه، فإنّه يصدق عليه حينئذٍ:

___________________________________________

{إشكال - على الصّحيح من تقرير المقدّمات على نحو الحكومة -} وأنّ العقل يحكم بحجيّة الظنّ لدى الانسداد {فإنّ مثله} أي: المجتهد الانسدادي {- كما أشرت آنفاً - ليس ممّن يعرف الأحكام} الصّادرة عن النّبيّ والأئمّة^ {مع أنّ معرفتها معتبرة في الحاكم، كما في المقبولة} حيث قال: «وعرف أحكامنا».

لكنّك قد عرفت أنّه عالم عارف كالانفتاحي {إلّا أن يدّعي عدم القول بالفصل} إذ لم يفصل أحد بين الحاكم الانفتاحي والانسدادي في نفوذ حكومة الأوّل دون الثّاني {وهو} أي: عدم القول بالفصل {وإن كان غير بعيد إلّا أنّه ليس بمثابة يكون حجّة على عدم الفصل} فإنّ الحجّة هو القول بعدم الفصل - أي: الإجماع - لا عدم القول بالفصل.

{إلّا أن يقال بكفاية انفتاح باب العلم} لدى الانسدادي {في موارد الإجماعات والضّروريّات من الدين أو المذهب} كحرمة قول: «آمين» بعد الحمد، فإنّه من ضروريّ المذهب لا الدين {والمتواترات إذا كانت} هذه الأُمور {جملة يعتدّ بها، وإن انسدّ باب العلم بمعظم الفقه} وإنّما قلنا بكفاية هذا المقدار في نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي {فإنّه يصدق عليه حينئذٍ} أي: حين علم الإجماعات

ص: 374

أنّه ممّن روى حديثهم^ ونظر في حلالهموحرامهم، وعرف أحكامَهُم عرفاً حقيقة.

وأمّا قوله(علیه السلام) في المقبولة: «فإذا حكم بحكمنا» فالمراد: أنّ مثله إذا حَكَم كان بحُكمِهم^ حكم؛ حيث كان منصوباً منهم، كيف؟ وحكمه غالباً يكون في الموضوعات الخارجيّة، وليس مثل ملكيّة دار لزيد، أو زوجيّة امرأة له من احكامهم، فصحّة إسناد حكمه إليهم^ إنّما هو لأجل كونه من المنصوب من قِبَلهم.

وأمّا التجزّي في الاجتهاد ففيه مواضع من الكلام:

___________________________________________

والضّروريّات والمتواترات {أنّه ممّن روى حديثهم^ ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم عرفاً حقيقة} أي: يصدق عرفاً أنّه روى وعرف ونظر حقيقة.

{و} إن قلت: إنّ الحكم الّذي يحكم به حينئذٍ يكون ظنّاً لا أنّه حكمهم^، وقد ورد في المقبولة «بحكمنا».

قلت: {أمّا قوله(علیه السلام) في المقبولة: «فإذا حكم بحكمنا» ف-} ليس المراد منه أنّ الحكم بشخصه صادراً عنهم^، بل {المراد أنّ مثله} أي: مثل هذا الفقيه الجامع للشرائط {إذا حكم كان بحكمهم^ حكم} لا بحكم غيرهم {حيث كان منصوباً منهم} وقاضياً من قبلهم.

و{كيف} يلزم أن يكون شخص الحكم منهم^ {و} الحال أنّ {حكمه غالباً يكون في الموضوعات الخارجيّة} كهذا ملك زيد، وهذه زوجته {وليس مثل ملكيّة دار لزيدٍ أو زوجيّة امرأة له من أحكامهم} وإنّما يكون تطبيقاًلكليّات أحكامهم على هذه الموارد {فصحّة إسناد حكمه إليهم^ إنّما هو لأجل كونه} أي: الحكم صادراً {من المنصوب من قبلهم} كما لا يخفى.

{وأمّا التجزّي في الاجتهاد} بأن يتمكّن من تحصيل بعض الأحكام عن الأدلّة دون بعض {ففيه مواضع من الكلام} يذكر المصنّف(رحمة الله) منها ثلاثة:

ص: 375

الأوّل: في إمكانه؛ وهو وإن كان محلّ الخلاف بين الأعلام(1)،

إلّا أنّه لا ينبغي الارتياب فيه حيث كان أبواب الفقه مختلفةً مدركاً، والمدارك متفاوتة سهولةً وصعوبةً، عقليّةً ونقليّةً، مع اختلاف الأشخاص في الاطّلاع عليها، وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إليها، فربّ شخص كثير الاطّلاع وطويل الباع في مدرك بابٍ؛ بمهارته في النّقليّات أو العقليّات، وليس كذلك في آخر؛ لعدم مهارته فيها وابتنائه عليها. وهذا بالضرورة ربّما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها؛ لسهولة مدركه، أو لمهارة الشّخص فيه مع صعوبته،

___________________________________________

{الأوّل: في إمكانه} أي: أنّ التجزّي هل هو ممكن أم لا؟ بل إمّا يكون الشّخص عاميّاً أو مجتهداً مطلقاً {وهو وإن كان محلّ الخلاف بين الأعلام إلّا أنّه لا ينبغي الارتياب فيه} أي: في إمكانه {حيث كان أبواب الفقه مختلفة مدركاً} فلكلّ باب مدرك وأدلّه خاصّة.

{والمدارك متفاوتة سهولة وصعوبة} فما يكوناستنباطه متوقّفاً على فهم روايات صريحةٍ أسهل ممّا يتوقّف استنباطه على الاستصحاب التعليقي أو استصحاب العدم الأزلي - مثلاً - {عقليّةً ونقلّةً، مع اختلاف الأشخاص في الاطّلاع عليها} أي: على تلك المدارك {وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إليها} أي: إلى المدارك {فربّ شخص كثير الاطّلاع وطويل الباع في مدرك باب} من أبواب الفقه {ب-} سبب {مهارته في النّقليّات أو العقليّات وليس كذلك} مطّلعاً {في} باب {آخر لعدم مهارته فيها} أي: في النّقليّات أو العقليّات {وابتنائه} أي: الباب الآخر {عليها}.

{وهذا} الّذي ذكرنا {بالضرورة ربّما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها} أي: بعض الأبواب {لسهولة مدركه، أو لمهارة الشّخص فيه مع صعوبته}

ص: 376


1- معالم الدين: 238.

مع عدم القدرة على ما ليس كذلك.

بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق - عادة - غير مسبوق بالتجزّي؛ للزوم الطّفرة.

وبساطةُ الملكةُ وعدم قبولها التجزئة، لا تمنعُ من حصولها بالنسبة إلى بعض الأبواب، بحيث يتمكّن بها من الإحاطة بمداركه، كما إذا كانت هناك ملكة الاستنباط في جميعها.

ويقطع بعدم دخل ما في سائرها به أصلاً،

___________________________________________

وإن كان صعباً في نفسه، كما لو كان الباب مبتنياً على العقليّات وكان هذا الشّخص ماهراً فيها {مع عدم القدرة على ما ليسكذلك} بأن كان صعباً أو كان سهلاً لكنّه غير ماهر فيه {بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزّي} إذ الملكات - لغير المعصومين والخارقين - تدريجيّة {للزوم الطّفرة} المحال لو وصل إلى درجة الاجتهاد في آن.

{و} إن قلت: كيف يمكن التجزّي والحال أنّ الاجتهاد ملكة، والملكة بسيطة؛ لأنّها عبارة عن حالة للنفس بها يتمكّن من الاستنباط، فالحالة إمّا حاصلة أو ليست بحاصلة، ولا وسط لها حتّى يمكن التجزّي؟

قلت: {بساطة الملكة وعدم قبولها التجزئة لا تمنع من حصولها} أي: الملكة {بالنسبة إلى بعض الأبواب} فقط، كباب الطّهارة - مثلاً - {بحيث يتمكّن} الشّخص {بها} أي: بواسطة الملكة المرتبطة بذلك الباب {من الإحاطة بمداركه} أي: مدارك ذلك الباب {كما إذا كانت هناك} للشخص {ملكة الاستنباط في جميعها} فكما أنّ المجتهد المطلق يتمكّن من الإحاطة بمدارك باب الطّهارة كذلك المتجزّي العالم بباب الطّهارة فقط يكون متمكّناً من الإحاطة بهذا الباب فقط {ويقطع} هذا المتجزّي {بعدم دخل ما في سائرها} أي: سائر الأبواب {به} أي: بهذا الباب الّذي عرفه {أصلاً} فيعلم بأنّه ليس هناك في كتاب الصّلاة وغيره

ص: 377

أو لا يعتنى باحتماله؛ لأجل الفحص بالمقدار اللّازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله، كما في الملكة المطلقة؛ بداهة أنّه لا يعتبر في استنباط مسألة معها من الاطّلاع فعلاً على مدارك جميع المسائل، كما لا يخفى.

الثّاني: في حجيّة ما يؤدّي إليه علىالمتصف به؛ وهو أيضاً محلّ الخلاف، إلّا أنّ قضيّة أدلّة المدارك: حجيّته؛ لعدم اختصاصها بالمتصف بالاجتهاد المطلق؛

___________________________________________

رواية أو قاعدة ترتبط بباب الطّهارة {أو لا يعتني باحتماله} بأن يكون في سائر الأبواب ما يرتبط بهذا الباب {لأجل الفحص بالمقدار اللّازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله} أي: دخل ما في سائر الأبواب بهذا الباب {كما في الملكة المطلقة} الّتي يعلم صاحبها بأنّ ما في الصّلاة لا يرتبط بما في الطّهارة وهكذا.

{بداهة أنّه لا يعتبر في استنباط مسألة معها} أي: مع الملكة المطلقة {من الاطّلاع فعلاً على مدارك جميع المسائل، كما لا يخفى} فالقولُ بعدم إمكان التجزّي في الاجتهاد مستنداً إلى هذين الوجهين - كون الملكة بسيطة، وكون المستنبط يحتمل أن يكون في سائر الأبواب ما يرتبط بهذا الباب فلا يتمكّن من استخراج الحكم - غيرُ سديدٍ.

{الثّاني: في حجيّة ما يؤدّي إليه} نظره من الحكم وهل أنّ نتائج نظره حجّة {على المتّصف به} أي: بالتجزّي، أي: بالنسبة إلى نفسه {وهو أيضاً محلّ الخلاف} قالوا: لأنّ القدر المتيقّن من حجيّة الآراء إنّما هو بالنسبة إلى المجتهد المطلق {إلّا أنّ قضيّة أدلّة المدارك} كأدلّة حجيّة خبر الواحد الّذي هو دليل حرمة الخمر، ووجوب الصّلاة، واستحباب دعاء الهلال {حجيّته} أي: حجيّة آرائه {لعدم اختصاصها} أي: ادلّة المدارك {بالمتّصف بالاجتهاد المطلق} فقوله(علیه السلام): «لا عذر لأحد من موالينافي التشكيك في ما يرويه عنّا ثقاتنا»(1)

شامل لكلّ من قام عنده

ص: 378


1- وسائل الشيعة 27: 150.

ضرورة أنّ بناء العقلاء على حجيّة الظواهر مطلق، وكذا ما دلّ على حجيّة خبر الواحد، غايته تقييده بما إذا تمكّن من دفع معارضاته، كما هو المفروض.

الثّالث: في جواز رجوع غير المتصف به إليه في كلّ مسألة اجتهد فيها. وهو أيضاً محلّ الإشكال: من أنّه من رجوع الجاهل إلى العالم، فتعمّه أدلّة جواز التقليد. ومن دعوى عدم إطلاق فيها، وعدم إحراز أنّ بناء العقلاء، وسيرة المتشرّعة على الرّجوع إلى مثله أيضاً؛ وستعرفُ - إن شاء اللّه تعالى - ما هو قضيّة الأدلّة.

___________________________________________

الخبر سواء كان مجتهداً مطلقاً أو متجزّياً.

{ضرورة أنّ بناء العقلاء على حجيّة الظواهر مطلق} فيدلّ على جواز الأخذ بالظاهر لكلّ من ثبت لديه ظاهر وإن لم يكن مجتهداً مطلقاً {وكذا ما دلّ على حجيّة خبر الواحد} مطلق لمن قام عنده الخبر {غايته تقييده} أي: دليل حجيّة الظاهر والخبر {بما إذا تمكّن من دفع معارضاته} واستنباط الحكم منه {كما هو المفروض} إذ المفروض أنّ المتجزّي قادر على ذلك.

{الثّالث: في جواز رجوع غير المتصف به} أي: بالاجتهاد - وهو العامي - {إليه} أي: إلى المتجزّي في أخذ الحكم منه{في كلّ مسألة اجتهد فيها} كما هو بديهيّ {وهو أيضاً محلّ الإشكال} وجه الجواز {من أنّه من رجوع الجاهل إلى العالم} لأنّ المتجزّي عالم في هذه المسألة {فتعمّه أدلّة جواز التقليد، و} وجه المنع {من دعوى عدم إطلاق فيها} أي: في أدلّة التقليد {وعدم إحراز أنّ بناء العقلاء وسيرة المتشرّعة على الرّجوع إلى مثله أيضاً} ولكن الإنصاف عموم الأدلّة وإحراز بناء العقلاء وسيرة المتشرّعة، فإنّهم كانوا يسألون عن الرّواة مع أنّهم - جميعهم - لم يكونوا فقهاء في جميع المسائل {وستعرف - إن شاء اللّه تعالى - ما هو قضيّة الأدلّة} وأنّه الإطلاق في الاجتهاد أو كفاية التجزّي.

ص: 379

وأمّا جواز حكومته ونفوذ فصل خصومته فأشكل.

نعم، لا يبعدُ نفوذه في ما إذا عرف جملة معتدّاً بها، واجتهد فيها، بحيث يصحّ أن يقال في حقّه - عرفاً - : إنّه ممّن عرف أحكامهم، كما مرّ في المجتهد المطلق المنسدّ عليه باب العلم والعلمي في معظم الأحكام.

فصل: لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربيّة في الجملة، ولو بأن يقدر على معرفة ما يبتنى عليه الاجتهاد في المسألة بالرجوع إلى ما دوّن فيه.

___________________________________________

{وأمّا جواز حكومته} أي: حكومة المتجزّي {ونفوذفصل خصومته فأشكل} نعم، على مبنى صاحب الجواهر(1)

- وأنّه يجوز حتّى بالنسبة إلى المقلّد العارف بالمسائل - فلا يبعد القول بجوازه، وذلك لصدق الدليل بالنسبة إليه.

{نعم، لا يبعد نفوذه} أي: نفوذ قضائه {في ما إذا عرف جملة معتدّاً بها واجتهد فيها بحيث يصحّ أن يقال في حقّه - عرفاً - : إنّه ممّن عرف أحكامهم} كما في النّصّ {كما مرّ في المجتهد المطلق المنسدّ عليه باب العلم والعلمي في معظم الأحكام} من أنّه إذا صدق عليه أنّه يعرف أحكامهم لما يعرف من الضّروريّات والإجماعات والمتواترات جاز تقليده، فراجع.

[فصل مبادئ الاجتهاد]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، مبادئ الاجتهاد

{فصل} في ذكر العلوم الّتي يحتاج الاجتهاد إليها.

{لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربيّة في الجملة} لا مطلقاً {ولو بأن يقدر على معرفة ما يبتنى عليه الاجتهاد في المسألة بالرجوع إلى ما دوّن فيه} فلا يلزم أن يكون مستحضراً للمسائل العربيّة، أمّا العلوم الضّروريّة فهي اللّغة والنّحو ومقدار قليل من الصَّرْف والبلاغة.

ووجه احتياج الاجتهاد إلى هذه العلوم واضح، إذ لمّا كان الكتاب والسّنّة

ص: 380


1- جواهر الكلام 40: 34.

ومعرفةِ التفسير كذلك.

وعمدة ما يحتاج إليه هو علمُ الأصول؛ ضرورة أنّه ما من مسألة إلّا ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد بُرهَن عليها في الأصول، أو برهن عليها مقدّمةفي نفس المسألة الفرعيّة، كما هو طريقة الأخباري.

وتدوين تلك القواعد المحتاج إليها على حدة لا يوجب كونها بدعةً. وعدمُ تدوينها في زمانهم^ لا يوجب ذلك، وإلّا كان تدوين الفقه والنّحو والصّرف

___________________________________________

باللغة العربيّة وتفسيرها بسائر اللغات لا يفي بالمرادات لدى الاجتهاد كان المريد للاستنباط لا بدّ له من معرفة اللغة ومعرفة اللغة تتوقّف على هذه العلوم.

{و} إلى {معرفة التفسير كذلك} في الجملة، إذ في القرآن الكريم جملة من الآيات المتضمّنة للأحكام، فعدم معرفة تلك موجب لعدم التمكّن من الاجتهاد.

{وعمدة ما يحتاج إليه هو علم الأصول، ضرورة أنّه ما من مسألة إلّا ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في} علم {الأصول، أو برهن عليها مقدّمة في نفس المسألة الفرعيّة، كما هو طريقة الأخباري} حيث يبرهن على المسائل الأصوليّة في نفس الفقه.

{و} ربّما أُشكل على علم الأصول من قبل بعض الأخباريّين بأنّ علم الأصول لم يكن مدوّناً في زمن الأئمّة^، فتدوينه حينئذٍ بدعة لا يجوز؛ لأنّه من محدثات الأُمور، و«شرّ الأمور محدثاتها» كما في الخبر(1).

لكن فيه أنّ {تدوين تلك القواعد المحتاج إليها} في الفقه ككون الأمر للوجوب والنّهي للتحريم وهكذا {على حدة} في علم خاصّ {لا يوجب كونها بدعة} إذ البدعة إدخالما ليس من الدين في الدين، وهذا ليس إدخالاً {وعدم تدوينها في زمانهم^ لا يوجب ذلك} أي: كونه بدعة {وإلّا كان تدوين الفقه والنّحو والصّرف}

ص: 381


1- الكافي 8: 81.

بدعةً.

وبالجملة: لا محيص لأحدٍ في استنباط الأحكام الفرعيّة من أدلّتها، إلّا الرّجوعُ إلى ما بني عليه في المسائل الأصوليّة، وبدونه لا يكاد يتمكّن من استنباط واجتهاد، مجتهداً كان أو أخباريّاً.

نعم، يختلف الاحتياجُ إليها بحسب اختلاف المسائل والأزمنة والأشخاص؛ ضرورة خفّةِ مؤونة الاجتهاد في الصّدر الأوّل، وعدم حاجته

___________________________________________

بل وهذا النّحو من تدوين الحديث - كالخصال والعلل وما أشبههما - {بدعة} وذلك ما لم يقل به أحد.

{وبالجملة لا محيص لأحد في استنباط الأحكام الفرعيّة من أدلّتها} التفصيليّة {إلّا الرّجوع إلى ما بني عليه} من القواعد {في المسائل الأصوليّة} ومن قال لسنا بحاجة إلى ذلك فإنّما يأخذ النّتيجة غير النّاضجة أصلاً مسلّماً يبني عليها المسألة الفقهيّة {وبدونه} أي: بدون الرّجوع إلى المسائل الأصوليّة {لا يكاد يتمكّن} الشّخص {من استنباط واجتهاد} سواء {مجتهداً كان أو أخباريّاً}.

هذا {نعم، يختلف الاحتياج إليها} أي: إلى المسائلالأصوليّة {بحسب اختلاف المسائل والأزمنة والأشخاص} فمسألة تحتاج إلى إعمال قواعد متعدّدة من الأصول، ومسألة لا تحتاج إلّا إلى قاعدة واحدة، وفي زمان يحتاج المجتهد إلى كثرة التعب لكثرة آراء المجتهدين حتّى يتمكّن من استخلاص الحقّ بنظره، وفي زمان ليس كذلك، وبعض الأشخاص لهم من صفاء الذهن ما يكفيهم أقلّ تعب وعناء، بخلاف بعض الأشخاص الآخرين.

{ضرورة خفّة مؤونة الاجتهاد في الصّدر الأوّل} لحضور الإمام(علیه السلام) وعدم جمع الأحكام، فكان مجال البراءة بالنسبة إليهم وسيعاً {وعدم حاجته} أي: المجتهد

ص: 382

إلى كثير ممّا يحتاج إليه في الأزمنة اللّاحقة، ممّا لا يكاد يُحقّق ويُختار عادة إلّا بالرجوع إلى ما دُوّن فيه من الكتب الأصوليّة.

فصل: اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليّات، واختلفت في الشّرعيّات:

فقال أصحابنا بالتخطئة فيها أيضاً، وأنّ له - تبارك وتعالى - في كلّ مسألة حكماً يؤدّي إليه الاجتهاد تارة، وإلى غيره مرّة أُخرى(1).

___________________________________________

{إلى كثير ممّا يحتاج إليه في الأزمنة اللّاحقة ممّا لا يكاد يحقّق} وينضج {ويختار} أي: يصحّ الاختيار للنتيجة {عادة إلّا بالرجوع إلى ما دوّن فيه من الكتب الأصوليّة}.

ثمّ لا يخفى أنّ الاجتهاد يحتاج إلى مقدار من علم الفلك لتحقيق القبلة، ومقدارمن الحساب لمسائل الإرث، ومقدار من الهندسة لتحديد الأحواض، وما أشبه.

[فصل في التخطئة والتصويب]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، التخطئة والتصويب

{فصل} في التخطئة والتصويب {اتفقت الكلمة} من الشّيعة والسّنّة {على التخطئة في العقليّات} فالأحكام العقليّة - كوجود اللّه، سبحانه، وصفاته والنّبوّة والإمامة والمعاد والأُمور المرتبطة بعالم الآخرة وما أشبه - هي حقائق قد تصل إليها الأفهام فيكون الفكر والنّظر صواباً، وقد لا تصل فتكون الآراء والأفكار المتعلّقة بها خطأً.

وهكذا في سائر الأُمور العقليّة نحو (النّقيضان لا يجتمعان)، والأُمور الخارجيّة نحو (زيد إنسان) {واختلفت في الشّرعيّات} أي: الأحكام الشّرعيّة، مثل أنّ هذا واجب أو حرام، وذاك صحيح أو باطل، وهكذا.

{فقال أصحابنا} الشّيعة {بالتخطئة فيها} أي: في الشّرعيّات {أيضاً} كالعقليّات {وإنّ له - تبارك وتعالى - في كلّ مسألة حكماً} واحداً {يؤدّي إليه الاجتهاد تارةً وإلى غيره مرّة أُخرى} فحكم صلاة الجمعة - مثلاً - الحرمة، فتارة

ص: 383


1- العدّة في أصول الفقه 2: 725؛ قوانين الأصول 1: 449؛ فرائد الأصول 2: 284.

وقال مخالفونا بالتصويب، وأنّ له - تعالى - أحكاماً بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدّي إليه الاجتهاد هو حكمه - تبارك وتعالى(1) - .

ولا يخفى: أنّه لا يكاد يعقل الاجتهاد في حكم المسألة، إلّا إذا كان لها حكم واقعاً، حتّى صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلّته، وتعيينه بحسبها ظاهراً.

فلو كان غرضهم من التصويب هو: الالتزامبإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء - بأن تكون الأحكام المؤدّي إليها الاجتهاداتُ أحكاماً واقعيّة، كما هي ظاهريّة -

___________________________________________

يؤدّي اجتهاد المجتهد إليه وتارة يؤدّي إلى خلافه فيقول بالوجوب أو التخيير.

{وقال مخالفونا} السّنّة {بالتصويب} وأنّ كلّ مجتهد مصيب {وأنّ له - تعالى - أحكاماً بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدّي إليه الاجتهاد} من كلّ مجتهد {هو حكمه، تبارك وتعالى}.

فإن أرادوا أنّ للّه أحكاماً متعدّدة في اللوح المحفوظ فكلّ مجتهد يصيب أحدها فذلك معقول، لكنّه باطل بالأدلّة.

وإن أرادوا أنّ اللّه ليس له حكم أصلاً وإنّما ما يراه المجتهد يكون حكماً للّه سبحانه، فذلك محال؛ لأنّه لو لم يكن له حكم لم يعقل فحص المجتهد عن الحكم.

{ولا يخفى أنّه لا يكاد يعقل الاجتهاد في حكم المسألة إلّا إذا كان لها حكم واقعاً} قبل اجتهاد المجتهد {حتّى صار المجتهد بصدد استنباطه} أي: ذلك الحكم الواقعي {من أدلّته و} بصدد {تعيينه} أي: تعيين ذلك الواقع {بحسبها} أي: بحسب الأدلّة {ظاهراً} أي: تعييناً ظاهريّاً.

{فلو كان غرضهم من التصويب هو الالتزام بإنشاء أحكام} متعدّدة {في الواقع بعدد الآراء} فتكون صلاة الجمعة - مثلاً - واقعاً واجبة ومحرّمة ومخيّرة ومستحبّة ومكروهة {بأن تكون الأحكام المؤدّي إليها الاجتهادات أحكاماً واقعيّة كما هي ظاهريّة}

ص: 384


1- إرشاد الفحول: 261.

فهو وإن كان خطأ من جهة تواتر الأخبار، وإجماع أصحابنا الأخيار على أنّ له - تبارك وتعالى - في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه الكلّ، إلّا أنّه غير محال.

ولو كان غرضهم منه: الالتزامَ بإنشاء الأحكام على وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد، فهو ممّا لا يكاد يعقل، فكيف يتفحّص عمّا لا يكون له عين ولا أثر؟ أو يُستظهر من الآية أو الخبر؟

إلّا أن يراد: التصويب بالنسبة إلى الحكم الفعلي، وأنّ المجتهد

___________________________________________

حسب الاجتهادات {فهو وإن كان خطأ من جهة تواتر الأخبار وإجماع أصحابنا الأخيار على أنّ له - تبارك وتعالى - في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه الكلّ} العالم والجاهل والمستنبط وغيره {إلّا أنّه غير محال} لأنّه لا يلزم منه اجتماع أو ارتفاع للنقيضين أو اجتماع للضدّين أو ما أشبه.

{ولو كان غرضهم منه} أي: من التصويب {الالتزام بإنشاء الأحكام على وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد} فاللوح المحفوظ لا حكم فيه إطلاقاً، فإذا اجتهد زيد وأدّى نظره إلى أنّ صلاة الجمعة واجبة ثبتت في اللوح وجوبها.

وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام {فهو ممّا لا يكاد يعقل فكيف يتفحّص} الشّخص {عمّا لا يكون له عين ولا أثر} في الواقع {أو يستظهر} المسألة {من الآية أو الخبر} فهو فحص عن معدوم؟{إلّا أن يراد} أنّ الحكم له مرتبتان: الإنشاء وهو الثابت واقعاً، والفعليّة ولا يكون ذلك إلّا إذا وصل إلى الحكم الإنشائي رأي المجتهد، فليس في الواقع أحكام فعليّة، وبوصول رأي المجتهد إلى ما في الواقع يصل الحكم إلى الفعليّة.

ف- {التصويب} إنّما يكون {بالنسبة إلى الحكم الفعلي وأنّ المجتهد} إنما يتفحّص عن ذلك الإنشائي، فإذا وصل إليه صار فعليّاً وإذا لم يصل إليه ورأى غيره أنشأ ذلك الغير.

ص: 385

وإن كان يتفحّص عمّا هو الحكم واقعاً وإنشاءً، إلّا أنّ ما أدّى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي حقيقة، وهو ممّا يختلف باختلاف الآراء ضرورةً، ولا يشترك فيه الجاهل والعالم بداهةً، وما يشتركان فيه ليس بحكم حقيقةً، بل إنشاءً، فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى، بل لا محيص عنه في الجملة، بناءً على اعتبار الأخبار من باب السّببيّة والموضوعيّة، كما لا يخفى.

___________________________________________

فمثلاً: كان التتن في الواقع حراماً إنشائيّاً، فإذا وصل المجتهد إليه صار حراماً فعليّاً وإذا تمخّض اجتهاده عن الحليّة أنشأ اللّه - سبحانه - حليّة في الواقع للتتن بالنسبة إلى هذا المجتهد، وإن كان الحكم الواقعي الأوّلي للتتن وهو الحرمة على حاله، فالمجتهد {وإن كان يتفحّص عمّا هو الحكم واقعاً وإنشاءً إلّا أنّ ما أدّى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي حقيقة} سواء طابق الواقع الأوّلي أم لم يطابقه.

{وهو} أي: ما أدّى إليه اجتهاد المجتهد {ممّا يختلفباختلاف الآراء ضرورة} كما نرى من اختلاف المجتهدين {ولا يشترك فيه الجاهل والعالم بداهة} لأنّ المفروض أنّ المخالف للواقع إنّما هو حكم من وصل اجتهاده إلى ذلك لا بالنسبة إلى كلّ أحد {وما يشتركان فيه} أي: الجاهل والعالم، ومصداق «ما» الحكم الإنشائي الّذي يتفحّص عنه المجتهد {ليس بحكم حقيقة} فعلاً {بل} هو حكم {إنشاءً} فقط {فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى، بل لا محيص عنه في الجملة} وإن كان خلاف تصريحات المصوّبة.

وإنّما قلنا إنّه لا محيص عنه {بناءً على اعتبار الأخبار من باب السّببيّة والموضوعيّة} بأنّ الخبر موجب للمصلحة سواء كان مصادفاً للواقع أم مخالفاً له، فإنّه لا يتصوّر الصّلاح في الخبر بذاته إلّا بنحو التصويب وأن يكون للخبر صلاح كما يكون للواقع صلاح {كما لا يخفى} فإذا قامت أمارة على شيء خلاف الواقع كان هناك حكمان: واقعيّ إنشائي، وظاهريّ فعلي.

ص: 386

وربّما يشير إليه ما اشتهرت بيننا: «أنّ ظنيّة الطّريق لا تنافي قطعيّة الحكم».

نعم، بناءً على اعتبارها من باب الطّريقيّة - كما هو كذلك - فمؤدّيات الطّرق والأمارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقيّة نفسيّة، ولو قيل بكونها أحكاماً طريقيّة.

___________________________________________

{وربّما يشير إليه} أي: إلى هذا المعنى من التصويب والالتزام بالحكم الظاهري {ما اشتهرت بيننا} نحن الخاصّةونقل عن العلّامة(رحمة الله)(1) من {«أنّ ظنيّة الطّريق لا تنافي قطعيّة الحكم»} فالطريق وإن كان ظنّيّ السّند أو الدلالة إلّا أنّ الحكم المستفاد منه قطعيّ؛ لأنّا نقطع بأنّه الحكم الظاهري لنا، فالمراد قطعيّة الحكم الظاهري لا قطعيّة الحكم الواقعي.

{نعم} في جعل الطّريق احتمالان آخران:

الأوّل: المصلحة السّلوكيّة، فلو قام خبر زرارة على حكم وكان مخالفاً للواقع أُعطي العامل مصلحة لسلوكه هذا الطّريق، كما احتمله الشّيخ المرتضى.

الثّاني: التنجيز والإعذار فقط، بأن لا مصلحة إلّا للواقع، فإذا أدركه الشّخص بواسطة الأمارة تنجز عليه، وإذا أخطأت الأمارة كان معذوراً.

فهذان الاحتمالان مع احتمالي: جعل الحكم الواقعي - الّذي هو التصويب - وجعل الحكم الظاهري كما عن العلّامة، تكون أربعة بالنسبة إلى جعل الأمارات والطّرق: الحكم الواقعي، الحكم الظاهري، المصلحة السّلوكيّة، التنجيز والإعذار.

ف- {بناءً على اعتبارها} أي: الأخبار {من باب الطّريقيّة - كما هو كذلك -} إذ لا دليل لنا على التصويب ولا على الحكم الظاهري {فمؤدّيات الطّرق والأمارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقيّة نفسيّة} كسائر الأحكام الواقعيّة {ولو قيل بكونها أحكاماً طريقيّة} بأنّ قيام الأمارة موجب لجعل حكم طريقيّ غيريّ لا حكم نفسيّ واقعي.

ص: 387


1- تهذيب الأصول: 47.

وقد مرّ غير مرّة(1):

إمكان منع كونهاأحكاماً كذلك أيضاً، وإنّ قضيّة حجيّتها ليست إلّا بتنجّز مؤدّياتها عند إصابتها، والعذرُ عند خطائها، فلا يكون حكمٌ أصلاً إلّا الحكم الواقعي، فيصير منجّزاً في ما قام عليه حجّةٌ من علم أو طريق معتبر، ويكون غيرَ منجّز - بل غير فعليّ - في ما لم تكن هناك حجّة مصيبة، فتأمّل جيّداً.

فصل: إذا اضمحلّ الاجتهاد السّابق - بتبدّل الرّأي - الأوّل بالآخر،

___________________________________________

{و} لكن {قد مرّ غير مرّة إمكان منع كونها} أي: الأمارات والطّرق {أحكاماً كذلك} أي: أحكاماً طريقيّة غيريّة {أيضاً} كما نمنع كونها أحكاماً واقعيّة أو أحكاماً ظاهريّة {وإنّ قضيّة حجيّتها} أي: الأمارات والطّرق {ليست إلّا بتنجّز مؤدّياتها عند إصابتها} للواقع {والعذر عند خطأها} بأن خالفت الواقع {فلا يكون حكم أصلاً إلّا الحكم الواقعي} المشترك فيه الكلّ {فيصير منجّزاً في ما قام عليه حجّة من علم أو طريق معتبر} «من» بيان «حجّة» {ويكون غير منجّز - بل غير فعليّ - في ما لم تكن هناك حجّة مصيبة} للواقع {فتأمّل جيّداً} فتحقّق أنّ الأقوى هو التخطئة، بمعنى عدم الحكم رأساً لا واقعاً ولا ظاهراً ولا طريقيّاً في ما إذا خالف الاجتهاد الواقع، واللّه العالم.

[فصل تبدل رأي المجتهد]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، تبدل رأي المجتهد{فصل} في بيان وجوب القضاء والإعادة وما أشبههما بالنسبة إلى الأعمال السّابقة إذا تبدّل الاجتهاد إلى اجتهاد ثان.

{إذا اضمحلّ الاجتهاد السّابق بتبدّل الرّأي الأوّل بالآخر} كما لو كان نظر المجتهد وجوب صلاة القصر لمن سافر من محلّ إقامته إلى ما دون المسافة ثمّ

ص: 388


1- مرّ في أوّل بحث الأمارات (3: 363)، حيث قال: «والحجيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية...». وفي ثاني تنبيهات الاستصحاب (5: 104)، حيث قال: «أنّ قضية حجيّة الأمارة ليست إلا تنجّز التكاليف مع الإصابة، والعذر مع المخالفة».

أو بزواله بدونه - ، فلا شبهة في عدم العبرة به في الأعمال اللّاحقة، ولزوم اتّباع الاجتهاد اللّاحق مطلقاً، أو الاحتياط فيها.

وأمّا الأعمال السّابقة الواقعة على وِفقه، المختلُّ فيها ما اعتبر في صحّتها بحسب هذا الاجتهاد:

فلا بدّ من معاملة البطلان معها،

___________________________________________

تبدّل رأيه إلى التمام وقد صلّى هو أو مقلّده على حسب رأيه الأوّلِ صلواتٍ {أو بزواله} أي: الرّأي الأوّل {بدونه} أي: بدون أن يحدث له رأي، كما لو شكّ في صحّة رأيه السّابق ولم يرتأ بعد رأياً آخر.

ومثلهما من بعض الجهات في ما لو تبدّل ذو الرّأي، بأن كان يقلّد زيداً ثمّ قلّد عمراً كانا مختلفي الرّأي {فلا شبهة في عدم العبرة به} أي: برأيه السّابق {في الأعمال اللّاحقة ولزوم اتّباع الاجتهاد اللّاحق مطلقاً} في جميع الأحكام والموضوعات {أو الاحتياط فيها} بما تيقّن معه من إدراك الواقع أو درك العمل على طبق حجّة معتبرة - كالاحتياط بين رأي المجتهدين - .

{وأمّا الأعمال السّابقة الواقعة على وفقه} أي: وفْق الاجتهاد السّابق {المختلّ فيها} أي: في تلكالأعمال {ما اعتبر في صحّتها} من الأجزاء والشّرائط {بحسب هذا الاجتهاد} متعلّق بقوله: «المختلّ»، كما لو صلّى وصام وذبح واستعمل الطّهارة وباع وتزوّج ثمّ تبدّل رأي المجتهد إلى وجوب السّورة في الصّلاة، وإبطال الارتماس للصوم، واشتراط الذبيحة بكون الذابح مسلماً، وكون عرق الجنب من الحرام نجساً ولزوم العربيّة في العقد، ونشر عشرة رضعات الحرمة، وقد صلّى بلا سورة وارتمس في الصّوم وذبح له النّصراني واستعمل ألبسة أجنب فيها وباع بالفارسي وامرأته رضيعته بالعشر {فلا بدّ من معاملة البطلان معها} أي:

ص: 389

في ما لم ينهض دليلٌ على صحّة العمل في ما إذا اختلّ فيه لعذر، كما نهض في الصّلاة وغيرها مثل: «لا تعاد»(1)

وحديث الرّفع(2)، بل الإجماع على الإجزاء في العبادات على ما ادّعي(3).

وذلك في ما كان بحسب الاجتهاد الأوّل قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحلّ، واضح؛ بداهة أنّه لا حكم معه شرعاً، غايته المعذوريّة في المخالفة عقلاً.

وكذلك في ما كان هناك طريق معتبر شرعاً عليه

___________________________________________

مع الأعمال السّابقة {في ما لم ينهض دليل على صحّة العمل في ما إذا اختلّ فيه لعذر} يعني أنّ جميع أعماله السّابقة محكومة بالبطلان إلّا إذا دلّ الدليل على صحّتها العذريّة، فاللّازمترتيب الآثار من القضاء والكفّارة والضّمان وعدم الإرث - مثلاً - على تلك الأعمال، فلو ماتت زوجته الرّضيعة وورث منها كان ضامناً لذويها وهكذا.

نعم، لو دلّ دليل ثانوي على الصّحّة في حال العذر لم يجب ترتيب الأثر {كما نهض في الصّلاة وغيرها مثل} حديث {«لا تعاد» وحديث الرّفع} بناءً على أنّه يرفع الجزئيّة والشّرطيّة وسائر الأحكام الوضعيّة في حال الجهل {بل الإجماع على الإجزاء في العبادات على ما ادّعي} فلا يلزم إعادة عبادة أو قضائها أو كفّارة ما يجب الكفّارة في الاختلال بالنسبة إليه كبعض كفّارات الحجّ.

{وذلك} الّذي ذكرنا من لزوم ترتيب الأثر على البطلان {في ما كان بحسب الاجتهاد الأوّل قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحلّ واضح، بداهة أنّه لا حكم معه} أي: مع القطع {شرعاً، غايته المعذوريّة في المخالفة عقلاً} إذ القطع حجّة عقلاً كما تقدّم {وكذلك في ما كان هناك طريق معتبر شرعاً عليه} أي: على الحكم

ص: 390


1- الخصال: 284؛ وسائل الشيعة 1: 371.
2- التوحيد: 353؛ وسائل الشيعة 15: 369.
3- راجع مطارح الأنظار 1: 169.

بحسبه، وقد ظهر خلافه، - بالظفر بالمقيّد، أو المخصِّص، أو قرينة المجاز، أو المعارِض - ، بناءً على ما هو التحقيق من اعتبار الأمارات من باب الطّريقيّة، قيل بأنّ قضيّة اعتبارها إنشاء أحكام طريقيّة، أم لا، على ما مرّ منّا غير مرّة، من غير فرق بين تعلّقه بالأحكام، أو بمتعلّقاتها؛ ضرورة أنّ كيفيّة اعتبارها فيهما على نهج واحد.

___________________________________________

السّابق {بحسبه} أي: بحسب اجتهاده الأوّل، بأن قام لديه دليل على عدموجوب العربيّة في العقد ثمّ اجتهد ثانياً فصار رأيه وجوبها {وقد ظهر خلافه} بحسب الاجتهاد الثّاني {بالظفر بالمقيّد أو المخصّص أو قرينة المجاز أو المعارض} الأقوى بعد ما أفتى بالمطلق والعام والمعنى الحقيقي والمعارض الأضعف مثلاً.

وإنّما يكون حال الأمارة حال القطع {بناءً على ما هو التحقيق من اعتبار الأمارات من باب الطّريقيّة} لا السّببيّة والموضوعيّة سواء {قيل بأنّ قضيّة اعتبارها} أي: الأمارات {إنشاء أحكام طريقيّة} مقابل الأحكام النّفسيّة الواقعيّة والأحكام الظاهريّة {أم لا} ليس هناك حكم أصلاً، بل تنجيز وإعذار فقط {على ما مرّ منّا غير مرّة} من كون الأمارات والطّرق توجب التنجيز والإعذار فقط {من غير فرق بين تعلّقه} أي: الاجتهاد الثّاني المخالف للاجتهاد الأوّل {بالأحكام} كما لو رأى وجوب الدعاء سابقاً ثمّ رأى عدم وجوبه {أو بمتعلّقاتها} كما لو رأى سابقاً أنّ الصّلاة جزؤها السّورة، أو أنّ العقد يقوم طرفاه بشخص واحد أو أنّ الطّلاق يكفي فيه العدالة الظاهريّة.

وإنّما قلنا بعدم الفرق بين الأحكام ومتعلّقاتها ل- {ضرورة أنّ كيفيّة اعتبارها} أي: الأمارات والطّرق {فيهما} أي: في الأحكام ومتعلّقاتها {على نهج واحد} وكيفيّة متساويّة.

ثمّ إنّ صاحب الفصول فصّل بين المتعلّق والحكم، فقال بالبطلان بالنسبة إلى الحكم وبالصحّة بالنسبة إلى المتعلّق.

ص: 391

ولم يُعلم وجه للتفصيل بينهما

___________________________________________

فمثلاً: إذا كان يرى أنّ العقد لا يحتاج إلى تقدّم الإيجاب على القبول وعقد،ثمّ اجتهد إنّه يحتاج إلى ذلك فإنّ عقده السّابق صحيح ويترتّب عليه الآثار ولو بعد الاجتهاد الثّاني، بخلاف ما لو كان نظره أنّ صلاة الجمعة واجبة وصلّى ثمّ تبيّن لديه باجتهاده الثّاني أنّ صلاة الظهر واجبة فإنّه يلزم عليه قضاء تلك الصّلوات الّتي لم يصلّها.

واستدلّ لذلك بأدلّة أربعة:

الأوّل: أنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين، والظاهر أنّ المراد بذلك أنّ الموضوعات - أي: متعلّقات الأحكام - لا تغيّر فيها ولا تبدّل بخلاف الأحكام، فالعقد - مثلاً - أمر خارجيّ إمّا يشترط تقدّم الإيجاب فيه على القبول أم لا، أمّا أن يكون في وقت كذا لا في وقت كذا فغير ممكن، بخلاف الأحكام فإنّه من الممكن أن يكون الحكم في وقت على خلاف الحكم في وقت آخر.

الثّاني: لزوم العسر والحرج، فإنّه إذا قيل له: (اقض جميع صلواتك، وأعد جميع عقودك، وإيقاعاتك) فهو حرج شديد جدّاً، بل هرج ومرج مخلّ بالنظام، لكن الفصول لم يذكر الهرج والمرج.

الثّالث: ارتفاع الوثوق في العمل لو لم يكن مجزياً، فإنّ كلّ عاقدٍ ومصلٍّ ومن أشبههما لا يعتمد بأعماله حينئذٍ، إذ من المحتمل أن يرى هو أو مجتهد، بطلان عمله بعد زمان، ولم يذكره المصنّف(رحمة الله).

الرّابع: استصحاب آثار الواقعة، فإنّ التصرّف في هذا المال المشترى بالعقد المقدّم القبول كان جائزاً إلى حين تبدّل الاجتهاد، فإن شككنا في الحرمة بعد ذلك كان الأصل بقاء الجواز، ولم يذكره المصنّف(رحمة الله) أيضاً.

{و} كيف كان {لم يعلم وجه للتفصيل بينهما} أي: بين الأحكام وبين

ص: 392

- كما في الفصول(1)

- وأنّ المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادَين، بخلاف الأحكام، إلّا حِسبان أنّ الأحكام قابلة التغيير والتبدّل، بخلاف المتعلّقات والموضوعات.

وأنت خبيرُ بأنّ الواقع واحد فيهما، وقد عُيّن أوّلاً بما ظهر خطأه ثانياً.

___________________________________________

متعلّقاتها {كما في الفصول} حيث فصّل بينهما {و} قال: {إنّ المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادين} فإنّ للموضوعات في الخارج واقعاً محفوظاً لا يتبدّل بتبدّل اجتهاد المجتهد {بخلاف الأحكام} فإنّها تابعة للجعل وهو قابل للتغيير والتبديل {إلّا حسبان أنّ الأحكام قابلة للتغيير والتبدّل بخلاف المتعلّقات والموضوعات} كالشرطيّة والجزئيّة وسائر مباحث العبادات والعقود والإيقاعات. وقوله: «إلّا» استثناء من قوله: «لم يعلم».

{وأنت خبير بأنّ} هذا الوجه غير تامّ، فإنّ الواقع واحد في كلّ واحد من الأحكام والموضوعات، فكما أنّ الواقع كون الإيجاب مقدّماً على القبول في باب الموضوعات كذلك الواقع كون صلاة الظهر واجبة - مثلاً - فكما لا تغيير في الموضوع كذلك لا تغيير في الحكم.

هذا بالنسبة إلى الخارج، وأمّا بالنسبة إلى الإمكان العقلي فكلاهما يمكن فيهما التغيّر والتبدّل، فمن الممكن أن يجعل الشّارع العقد النّافذ هو ما قدّم إيجابه على قبوله - إلى مدّة - ثمّ يجعل خلاف ذلك، وأنّ العقد النّافذ لديه هو ما قدّم قبوله مثلاً، ف- {الواقع واحد فيهما} في المتعلّقات والأحكام - على حدّ سواء - {وقد عيّن أوّلاً} بالاجتهاد الأوّل{بما} أي: على نحو {ظهر خطأه ثانياً} بالاجتهاد الثّاني، فبالاجتهاد الثّاني ظهر خطأ جواز تقديم القبول على الإيجاب، كما ظهر خطأ وجوب الجمعة تعييناً - مثلاً - .

ص: 393


1- الفصول الغرويّة: 409.

ولزومُ العسر والحرج والهرج والمرج، المخلّ بالنظام، والموجب للمخاصمة بين الأنام - لو قيل بعدم صحّة العقود والإيقاعات والعبادات الواقعةِ على طبق الاجتهاد الأوّل، الفاسدة بحسب الاجتهاد الثّاني، ووجوب العمل على طبق الثّاني: من عدم ترتيب الأثر على المعاملة، وإعادة العبادة - لا يكونُ إلّا أحياناً، وأدلّة نفي العسر لا تنفي إلّا خصوصَ ما لزم منه العسر فعلاً.

مع عدم اختصاص ذلك

___________________________________________

{و} إلّا حسبان {لزوم العسر والحرج} من بطلان العقود والإيقاعات والصّلوات وسائر العبادات، وأيّ عسر أعظم من أن يقال للشخص: أعِدْ جميع أعمالك الّتي عملت بها طيلة ثلاثين سنة؟ {و} إلّا حسبان لزوم {الهرج والمرج المخلّ بالنظام} فإنّ تبدّل الاجتهاد يوجب انتقال جميع المبيعات إلى أصحابها الأوّلين، فهذا يأخذ أمواله من مختلف المشترين وبالعكس وهكذا، ويجب على النّاس أجمعين أن يفرغوا أوقاتهم لإعادة الصّلوات ونحوها {والموجب للمخاصمة بين الأنام} هذا يقول: هذا مالي، وذاك يقول: ليس مالك، وهكذا {لو قيل بعدم صحّه العقود والإيقاعات والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأوّل، الفاسدة} تلك الأُمور {بحسب الاجتهاد الثّاني}.{و} أنت خبير بأنّ {وجوب العمل على طبق الثّاني} عطف على قوله سابقاً: «وأنت خبير بأنّ الواقع واحد» {من عدم ترتيب الأثر على المعاملة، و} من {إعادة العبادة لا يكون إلّا أحياناً} إذ قليلاً ما يتغيّر رأي المجتهد بحيث يلزم بطلان العقد السّابق أو العبادة السّابقة، كما نرى في تغيّر فتاوى المجتهدين، فإنّه ليس بحيث يلزم كلّ هذه المحاذير المذكورة {وأدلّة نفس العسر} والحرج {لا تنفي إلّا خصوص ما لزم منه العسر فعلاً} إذ العسر شخصيّ فيقدّر بقدره وليس نوعيّاً حتّى يكون الشّارع قد رفعه، كما في السِّواك ونحوه {مع عدم اختصاص ذلك} العسر

ص: 394

بالمتعلّقات، ولزومِ العسر في الأحكام كذلك أيضاً، لو قيل بلزوم ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد الثّاني في الأعمال السّابقة.

وباب الهرج والمرج ينسدّ بالحكومة وفصل الخصومة.

وبالجملة: لا يكون التفاوت بين الأحكام ومتعلّقاتها - بتحمل الاجتهادين وعدمِ التحمّل - بيّناً ولا مبيّناً، بما يرجع إلى محصّلٍ في كلامه - زيد في علوّ مقامه - فراجع وتأمّل.

___________________________________________

{بالمتعلّقات} فقط كما خصّصه الفصول.

{ولزوم العسر في الأحكام كذلك} كالعسر اللّازم في المتعلّقات {أيضاً} فأيّ فرق بينهما حتّى قال بعدم الإعادة بالنسبة إلى المتعلّقات دون الأحكام، فإنّه {لو قيل بلزوم ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد الثّاني في الأعمالالسّابقة} لزم العسر بالنسبة إلى تبدّل رأي المجتهد في الأحكام كما يلزم بالنسبة إلى تبدّل رأي المجتهد في الموضوعات.

{وباب الهرج والمرج ينسدّ بالحكومة} أي: القضاء، فإنّ الحكومة الإسلاميّة تمنع من الهرج والمرج {و} ذلك يكون ب- {فصل الخصومة} بين النّاس، فلا يلزم اختلال النّظام.

{وبالجملة لا يكون التفاوت بين الأحكام ومتعلّقاتها} كما ذكره الفصول واستدلّ عليه {بتحمّل الاجتهادين} في الأوّل {وعدم التحمّل} في الثّاني {بيّناً} واضحاً {ولا مبيّناً} فإنّه لم يبيّن المراد منه في الفصول، وكأنّه إشارة إلى ما ذكره العلّامة الرّشتي قال: «ذكر أُستاذنا العلّامة الآشتياني(قدس سره) في مجلس بحثه أنّه قال الشّيخ الأنصاري(رحمة الله): قد أرسلت الفصول إلى صاحبه بتوسّط الحاج الميرزا السّيّد علي التستري لاستفادة المراد من هذا العنوان فلم يحصل من بيانه ما يرفع الإجمال»(1) {بما يرجع إلى محصّل في كلامه، زيد في علوّ مقامه، فراجع وتأمّل}.

ص: 395


1- شرح كفاية الأصول 2: 357؛ وراجع الرسائل التسع: 106؛ نهاية الدراية 6: 393.

وأمّا بناءً على اعتبارها من باب السّببيّة والموضوعيّة: فلا محيصَ عن القول بصحّة العمل على طبق الاجتهاد الأوّل، عبادة كان أو معاملة، وكونِ مؤدّاه - ما لم يضمحلّ - حكماً حقيقة. وكذلك الحال إذا كان بحسب الاجتهاد الأوّل مجرى الاستصحاب أو البراءة النّقليّة، وقد ظفر في الاجتهاد الثّاني بدليل على الخلاف، فإنّه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال، وقد مرّ في مبحث الإجزاء تحقيق المقال،فراجع هناك(1).

___________________________________________

هذا كلّه بناءً على اعتبار الأمارات من باب الطّريقيّة {وأمّا بناءً على اعتبارها من باب السّببيّة والموضوعيّة} وأنّ في نفس الأمارة مصلحة؛ لأنّها تنشئ الأحكام {فلا محيص عن القول بصحّة العمل على طبق الاجتهاد الأوّل} مطلقاً سواء {عبادة كان أو معاملة} بمعناها الأعمّ الشّامل للعقود والإيقاعات وغيرهما من سائر الأُمور الشّرعيّة {و} عن القول ب- {كون مؤدّاه} أي: مؤدّى الطّريق {- ما لم يضمحلّ - حكماً حقيقة} ويكون تبدّل الاجتهاد من باب تبدّل الأحكام، كما يتبدّل حكم المسافر والحاضر.

{وكذلك الحال إذا} لم يكن الاجتهاد الأوّل مستنداً إلى الأمارة، بل {كان بحسب الاجتهاد الأوّل مجرى الاستصحاب أو البراءة النّقليّة} أي: كان مجرى الأصول {وقد ظفر في الاجتهاد الثّاني بدليل على الخلاف، فإنّه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال} بناءً على السّببيّة ويكون الكلام فيه - بناءً على الطّريقيّة - كما مرّ من الخلاف والتفصيل {وقد مرّ في مبحث الإجزاء تحقيق المقال، فراجع هناك}.

وذكر العلّامة المشكيني(رحمة الله) أنّ بين ذلك المبحث وهذا المبحث عموماً من وجه(2)،

كما أنّ الرّشتي جعل هذه المسألة أعمّ مطلقاً من تلك(3)،وبعضهم

ص: 396


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 492 وما بعدها.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 412.
3- شرح كفاية الأصول 2: 357.

فصل: في التقليد. وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات، أو للالتزام به في الاعتقاديّات تعبّداً، بلا مطالبة دليل على رأيه(1).

ولا يخفى: أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل؛ ضرورة سبقه عليه، وإلّا كان بلا تقليد، فافهم.

___________________________________________

عكس فجعل تلك أعمّ مطلقاً من هذه، فراجع.

[فصل في التقليد]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، التقليد

{فصل: في التقليد} وحيث ذكرنا طرفاً منه في الفقه، فلا داعي إلى الإطالة ومناقشة آراء المصنّف، فنجري عادة الشّرح في هذا الفصل أيضاً من توضيح المراد.

{وهو} عند المصنّف^ {أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات} فليس التقليد عملاً ملوّناً بكونه بلون اتّباع الغير {أو للالتزام به في الاعتقاديّات} ويكون الأخذ {تعبّداً بلا مطالبة دليل على رأيه} وهذا المعنى ليس اصطلاحيّاً بحتاً بل هو المعنى اللغوي بتطوير يناسب المقام.

{ولا يخفى أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل} بأن يقال: «التقليد هو العمل بقول الغير» كما نقل ذلك عن صاحب المعالم(2)

وغيره {ضرورة سبقه} أي: التقليد {عليه} أي: على العمل {وإلّا} فلو لم يكن التقليد سابقاً على العمل {كان} العمل {بلاتقليد} وإذا كان التقليد سابقاً على العمل فكيف يكون هو العمل {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ التقليد كون العمل وليس سابقاً عليه، فالعمل المستند فيه إلى الغير يسمّى تقليداً، كما تسمّى الحركات الّتي تحكي حركات الغير تقليداً له - إذا صدر عن استناد - وقد اخترنا هذا المعنى في شرح العروة.

ص: 397


1- معارج الأصول: 200؛ الفصول الغرويّة: 411.
2- معالم الدين: 242.

ثمّ إنّه لا يذهب عليك: أنّ جواز التقليد، ورجوع الجاهل إلى العالم - في الجملة - يكونُ بديهيّاً جبلّيّاً فطريّاً، لا يحتاج إلى دليل، وإلّا لزم سدُّ باب العلم به على العاميّ مطلقاً غالباً؛ لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتاباً وسنّة، ولا يجوز التقليد فيه وإلّا لدار أو تسلسل،

___________________________________________

{ثمّ إنّه لا يذهب عليك} أنّ جواز التقليد بهذا المعنى قد استدلّ عليه بالأربعة: الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل، لكن المصنّف أشكل في ذلك وأرجع أمر الجواز إلى الفطرة، لمناقشات في غيرها وإن كان نقاشه في ما عدا الإجماع لا يخلو من نظر.

وكيف كان ف- {إنّ جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة} مع قطع النّظر عن تفاصيله وخصوصيّاته، ككون المرجع لا بدّ أن يكون عادلاً أو نحوه {يكون بديهيّاً} غير محتاج إلى إقامة البرهان {جبلّيّاً فطريّاً} فبالجبلّة والفطرة يعرف الإنسان لزوم رجوع الجاهل إلى العالم {لا يحتاج إلى دليل، وإلّا} فلو احتاج جواز التقليد إلى دليل {لزم سدّ باب العلم به} أي: بجوازه {على العاميّ مطلقاً غالباً} مقابل غير الغالب وهو في ما كان العاميّ له حظّ من المعرفة ويتمكّن من إقامة الأدلّة على جواز التقليد.وإنّما قلنا بلزوم سدّ بابه غالباً عليه {لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه} أي: على الجواز {كتاباً وسنّة، ولا يجوز التقليد فيه} أي: في جواز التقليد {وإلّا لدار أو تسلسل} فإنّا إذا فرضنا جميع المسائل الّتي منها جواز التقليد كتلة واحدة واستدللنا على جواز التقليد فيها بمسألة جواز التقليد لزم الدور، وإن فرضنا سائر المسائل - غير مسألة جواز التقليد - كتلة واحدة واستدللنا لجواز التقليد فيها بمسألة جواز التقليد انتقل الكلام إلى مسألة جواز التقليد وأنّها من أين يجوز، وهكذا حتّى يتسلسل.

ص: 398

بل هذه هي العمدة في أدلّته.

وأغلب ما عداه قابل للمناقشة:

لبعد تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة، ممّا يمكن أن يكون القول فيه لأجل كونه من الأُمور الفطريّة الارتكازيّة. والمنقول منه غير حجّة في مثلها - ولو قيل بحجيّتها في غيرها - لوهنه بذلك.

ومنه قد انقدح: إمكانُ القدح في دعوى كونه من ضروريّات الدين؛ لاحتمال أن يكون من ضروريّات العقل وفطريّاته، لا من ضروريّاته.

___________________________________________

وإن شئت قلت: جواز التقليد في المسائل إمّا مستند إلى الفطرة وإمّا مستند إلى الأدلّة وإمّا مستند إلى التقليد، لكن الثّالث مستلزم للمحذور - إذ جواز التقليد أوّل الكلام - والمفروض أنّ العاميّ عاجز من إقامة الأدلّة فلم يبق إلّا الفطرة.

{بل هذه} أي: الفطرة {هي العمدة في أدلّته} أي: أدلّة جواز التقليد {وأغلب ما عداه قابل للمناقشة}: أمّا الإجماع ف- {لبعد تحصيل الإجماع في مثل هذهالمسألة ممّا يمكن أن يكون القول فيه} بالجواز {لأجل كونه من الأُمور الفطريّة الارتكازيّة} في أذهان العقلاء، فالإجماع على تقدير تحصيلنا له وأنّ نزاع الأخباري ليس في التقليد بهذا المعنى لم يكن حجّة؛ لأنّه محتمل الاستناد والإجماع المحتمل الاستناد ليس حجّة، كما تقرّر في موضعه.

{والمنقول منه} أي: من الإجماع {غير حجّة في مثلها} أي: مثل هذه المسألة {ولو قيل بحجيّتها} أي: حجيّة الإجماعات المنقولة {في غيرها} أي: غير هذه المسألة {لوهنه} أي: الإجماع المنقول {بذلك} أي: باحتماله الاستناد.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من كونه من الارتكازيّات {قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريّات الدين} وذلك الانقداح {لاحتمال أن يكون من ضروريّات العقل وفطريّاته لا من ضروريّاته} أي: لا من ضروريّات الدين

ص: 399

وكذا القدح في دعوى سيرة المتديّنين.

وأمّا الآيات: فلعدم دلالة آية النّفر والسّؤال على جوازه؛ لقوّة احتمال أن يكون الإرجاعُ لتحصيل العلم، لا الأخذ تعبّداً.

مع أنّ المسؤول - في آية السّؤال - هم أهل الكتاب، كما هو ظاهرها، أو أهل بيت العصمة الأطهار، كما فسّر به في الأخبار.

___________________________________________

{وكذا} انقدح {القدح في دعوى سيرةالمتديّنين} على التقليد والسّيرة حجّة لاتصالها بزمان المعصوم ولم يردع عنها فيكون تقريراً منه(علیه السلام).

{وأمّا} الاستدلال ب- {الآيات} على جواز التقليد {ف-} فيه مناقشة {لعدم دلالة آية النّفر} وهي قوله - تعالى - : {وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}(1)، حيث استدلّ بها على أنّ أخذ الباقين من النّافرين تقليد منهم لأُولئك وقد أجازه - سبحانه - {و} آية {السّؤال} وهي قوله - تعالى - : {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(2)، فإنّ السّؤال لو كان لغير الأخذ والقبول كان لغواً، وإذا كان القبول إِثر السّؤال جائزاً كان تقليداً {على جوازه} أي: جواز التقليد {لقوّة احتمال أن يكون الإرجاع لتحصيل العلم} ويدلّ عليه قوله: {إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} {لا الأخذ تعبّداً} فهو على غرار (فاسأل إن كنت لا تعلم) إذ ليس معناه: اقبل تعبّداً، بل معناه: حتّى تتعلّم.

{مع أنّ} الآية الثّانية بتفسيرها وتأويلها خارجة عمّا نحن فيه، فإنّ {المسؤول - في آية السّؤال - هم أهل الكتاب - كما هو ظاهرها} أي: ظاهر الآية بمناسبة ما قبلها وما بعدها {أو أهل بيت العصمة} والطّهارة {الأطهار، كما فسّر} أهل الذكر {به} أي: بأهل البيت {في الأخبار} وإن كان يرد عليه أنّ ذلك لا ينافي عمومها.

ص: 400


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة النحل، الآية: 43.

نعم، لا بأس بدلالة الأخبار عليهبالمطابقة أو الملازمة؛ حيث دلّ بعضها على وجوب اتّباع قول العلماء، وبعضها على أنّ للعوام تقليد العلماء، وبعضها على جواز الإفتاء مفهوماً - مثل ما دلّ على المنع عن الفتوى بغير علم - ،

___________________________________________

{نعم، لا بأس بدلالة الأخبار عليه} أي: على جواز التقليد {بالمطابقة أو الملازمة}.

قال المشكيني(رحمة الله): «الأوّل: في الطّائفتين الأوليين والثّاني: في الطّائفتين الأخيرتين، إذ المفهوم في أُولاهما والمنطوق في الأُخرى جواز الإفتاء، وهو ملازم عرفاً مع حجيّة قوله في حقّه وجواز رجوعه إليه»(1)،

انتهى.

{حيث دلّ بعضها على وجوب اتّباع قول العلماء} كقوله(علیه السلام) لشعيب العقرقوفي: «عليك بالأسدي» يعني أبا بصير(2)،

وقول الرّضا(علیه السلام) لعليّ بن المسيّب - لمّا قال له: شقّتي بعيدة، ولست أصل إليك كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ - «من زكريّا ابن آدم القمّي المأمون على الدين والدنيا»(3)،

إلى غير ذلك.

{و} دلّ {بعضها على أنّ للعوام تقليد العلماء} كقوله(علیه السلام): «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه»(4) {وبعضها على جواز الإفتاء مفهوماً، مثل ما دلّ على المنع عن الفتوى بغير علم} كقوله(علیه السلام): «منأفتى النّاس بغير علم لعنته ملائكة السّماوات والأرض»(5)

ممّا يدلّ على جواز الفتوى مع العلم.

ص: 401


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 5: 321.
2- رجال الكشّي 1: 400؛ وسائل الشيعة 27: 142.
3- رجال الكشّي 2: 858؛ وسائل الشيعة 27: 146.
4- تفسير الإمام الحسن العسكري(علیه السلام): 300؛ وسائل الشيعة 27: 131.
5- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 46؛ وسائل الشيعة 27: 190.

أو منطوقاً - مثل ما دلّ على إظهاره(علیه السلام) المحبّة لأن يرى في أصحابه من يفتي النّاس بالحلال والحرام - .

لا يقال: إنّ مجرّد إظهار الفتوى للغير لا يدلّ على جواز أخذه واتّباعه.

فإنّه يقال: إنّ الملازمة العرفيّة بين جواز الإفتاء وجواز اتّباعه واضحة، وهذا غير وجوب إظهار الحقّ والواقع؛ حيث لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبّداً، فافهم وتأمّل.

وهذه الأخبار على اختلاف مضامينها وتعدّد أسانيدها؛

___________________________________________

ومن المعلوم أنّ جواز الإفتاء يلازم جواز التقليد وإلّا لكان لغواً {أو} دلّ على جواز الإفتاء {منطوقاً، مثل ما دلّ على إظهاره(علیه السلام) المحبّة لأن يرى في أصحابه من يفتي النّاس بالحلال والحرام} كقوله(علیه السلام) لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وافت النّاس، فإنّي أُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك»(1).

{لا يقال: إنّ مجرّد إظهار الفتوى للغير لا يدلّ على جواز أخذه واتّباعه} فلعلّه لئلّا يكون كاتماً للحقّ؛ ولأن يحصل العلم لذلك الغير بالاطمئنان إلى المفتي أو من تعدّدمن يقول له الحكم أو نحو ذلك.

{فإنّه يقال}: إنّه وإن تكن ملازمة عقليّة إلّا {أنّ الملازمة العرفيّة} الّتي تستفاد من اللفظ حتّى تكون من الظواهر {بين جواز الإفتاء وجواز اتّباعه} للمستفتي {واضحة، وهذا غير وجوب إظهار الحقّ والواقع} وحرمة كتمانه {حيث لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبّداً} إذ إظهار الحقّ إنّما هو لمصلحة ظهوره، بخلاف الإفتاء فإنّه ليس لمصلحة ظهور الفتوى وإنّما لمصلحة الأخذ {فافهم وتأمّل} جيّداً.

{وهذه الأخبار على اختلاف مضامينها وتعدّد أسانيدها} وكثرتها كما يجدها

ص: 402


1- رجال النجاشي: 10؛ مستدرك الوسائل 17: 315.

لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها، فيكون دليلاً قاطعاً على جواز التقليد، وإن لم يكن كلّ واحد منها بحجّة، فيكون مخصّصاً لما دلّ على عدم جواز اتّباع غير العلم، والذمّ على التقليد، من الآيات والرّوايات، قال اللّه - تبارك وتعالى - : {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1)، وقوله - تعالى - : {إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ}(2).

___________________________________________

المتتبّع في الوسائل والمستدرك وذكرنا جملة منها في الفقه(3) {لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها، فيكون دليلاً قاطعاً على جواز التقليد وإن لم يكن كلّواحد منها بحجّة} ولا منافاة بين عدم حجيّة كلّ واحد وحجيّة الجميع كما في الخبر المتواتر، مضافاً إلى عدم المنافاة بين القطع بصدور البعض وعدم حجيّة كلّ واحد للجهل التفصيلي بحجيّة كلّ واحد، فلا تهافت في الكلام، كما ربّما يتوهّم.

هذا مع أنّ بعض تلك الأخبار مشتملة على شرائط الحجيّة، وإذا ثبت كون بعض هذه الأخبار حجّة {فيكون مخصّصاً لما دلّ على جواز اتّباع غير العلم والذمّ على التقليد من الآيات والرّوايات} مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنّ الآيات والرّوايات لا تشمل إطلاقاً مورد التقليد، فإنّ العرف يرى عدم المنافاة بينهما، إذ الرّجوع إلى أهل الخبرة لا يسمّى عملاً بغير علم ولا تقليداً مذموماً كما هو المنصرف من التقليد المنهيّ عنه.

ألا ترى أنّ المولى إذا نهى عبده عن العمل في الدار بغير علم ثمّ أمره ببناء غرفة فيها، فجاء العبد بأحد الخبراء في فنّ البناء وبنى الغرفة لم يكن في نظر العقلاء ملوماً ومشمولاً للنهي، فما {قال اللّه - تبارك وتعالى - : {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ} وقوله - تعالى - : {إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ}}

ص: 403


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة الزخرف، الآية: 23.
3- وسائل الشيعة 27: 136؛ مستدرك الوسائل 17: 311؛ موسوعة الفقه 1: 38.

مع احتمال أنّ الذمّ إنّما كان على تقليدهم للجاهل، أو في الأصول الاعتقاديّة الّتي لا بدّ فيها من اليقين.

وأمّا قياس المسائل الفرعيّة على الأصول الاعتقاديّة - في أنّه كما لا يجوز التقليد فيها مع الغموض فيها؛ كذلك لا يجوز فيها بالطريق الأولى؛ لسهولتها - فباطل.

مع أنّه مع الفارق؛ ضرورة أنّ الأصول الاعتقاديّة مسائل معدودة، بخلافها، فإنّها ممّا لا تعدّ ولا تحصى، ولا يكاد يتيسّر منالاجتهاد فيها - فعلاً - طولَ العمر إلّا للأوحديّ في كليّاتها، كما لا يخفى.

___________________________________________

مخصّص بأدلّة التقليد أو غير مشمول له أصلاً {مع احتمال أنّ الذمّ إنّما كان على تقليدهم للجاهل} أو على تقليدهم لمن كانوا يعرفون منه التعصّب والرّشوة وعدم المبالاة بالحقّ، ممّن دلّ العقل على عدم جواز قبول قوله، كما ألمح إلى ذلك الخبر حيث سأل الرّاوي عن الفرق بين تقليد اليهود لعلمائهم وتقليدنا لعلمائنا {أو} أنّ الذمّ إنّما كان على تقليدهم {في الأصول الاعتقاديّة الّتي لا بدّ فيها من اليقين} كما يدلّ على ذلك سياق بعض الآيات والرّوايات.

{وأمّا قياس المسائل الفرعيّة على الأصول الاعتقاديّة في أنّه كما لا يجوز التقليد فيها} أي: في الأصول الاعتقاديّة {مع الغموض فيها} وصعوبة تحصيلها عن دليل وبرهان {كذلك لا يجوز} التقليد {فيها} أي: في المسائل الفرعيّة {بالطريق الأولى لسهولتها} ويسر تحصيلها {فباطل} إذ ليس من مذهبنا القياس {مع أنّه مع الفارق، ضرورة أنّ الأصول الاعتقاديّة مسائل معدودة} فيمكن تحصيل اليقين فيها ولو مع صعوبتها {بخلافها} أي: المسائل الفرعيّة {فإنّها ممّا لا تعدّ ولا تحصى، ولا يكاد يتيسّر من الاجتهاد فيها - فعلاً - طول العمر إلّا للأوحديّ في كليّاتها} ورؤوسها {كما لا يخفى} فكيف يمكن الأمر باجتهاد كلّ أحد فيها؟ مضافاً إلى عدم تسليم أسهليّة الفروع من الأصول، فإنّ براهين الأصول الاعتقاديّة متيسّرة جدّاً. نعم،

ص: 404

فصل: إذا علم المقلّد اختلاف الأحياء في الفتوى، مع اختلافهم في العلم والفقاهة، فلا بدّ من الرّجوع إلى الأفضل إذا احتمل تعيّنه؛ للقطع بحجيّته، والشّكّ في حجيّة غيره، ولا وجه لرجوعه إلى الغير في تقليده إلّا على نحو دائر.

نعم، لا بأس برجوعه إليه إذا استقلّ عقله بالتساوي، وجواز الرّجوع إليه

___________________________________________

المناقشات في كلّ برهان حالها كحال المناقشة في أدلّة الفروع.

[فصل تقليد الأعلم]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، تقليد الأعلم

{فصل} في تقليد الأعلم، ونتكلّم تارةً حول العامي المحض، وتارةً حول الفاضل، فنقول: {إذا علم المقلّد اختلاف الأحياء في الفتوى} كما لو علم بأنّ أحد المجتهدين يوجب دعاء الرّؤية والآخر يقول باستحبابه {مع} علمه ب- {اختلافهم في العلم والفقاهة} وأنّ بعضهم أفضل من بعض {فلا بدّ} له {من الرّجوع إلى الأفضل} الأعلم منهم {إذا احتمل تعيّنه} من بينهم.

وإنّما يحكم عقله بتعيّنه {للقطع بحجيّته} أي: الأفضل {والشّكّ في حجيّة غيره} إذ يستقلّ عقله بأنّه لو قلّد الأفضل برئت ذمّته، ولو لم يقلّده - بأن قلّد المفضول - يشكّ في براءة الذمّة، فالعقل يلزمه بتقليد الأفضل دفعاً للضرر المحتمل وأمناً عن العقاب {ولا وجه لرجوعه إلى الغير} أي: غير الأفضل {في تقليده} بأن يسأل عن غير الأفضل بأنّه يجوز تقليدك أم لا، فإن أجاز قلّده {إلّا على نحو دائر} إذ تقليد غير الأفضل في جميع المسائل - الّتي منها مسألة التقليد - متوقّف على تقليد غير الأفضل، فجواز تقليد غير الأفضل توقّف على جواز تقليده.وإن شئت قلت: حجيّة قول المفضول متوقّفة على جواز تقليده، وجواز تقليده متوقّف على حجيّة قوله.

{نعم، لا بأس برجوعه} أي: المقلّد {إليه} أي: المفضول {إذا استقلّ عقله بالتساوي} بين الفاضل والمفضول في جواز التقليد {وجواز الرّجوع إليه} أي:

ص: 405

أيضاً، أو جوّز له الأفضل بعد رجوعه إليه.

هذا حال العاجز عن الاجتهاد، في تعيين ما هو قضيّة الأدلّة في هذه المسألة.

وأمّا غيره: فقد اختلفوا في جواز تقديم المفضول وعدم جوازه:

ذهب بعضهم(1) إلى الجواز. والمعروف بين الأصحاب - على ما قيل(2) - عدمه(3)،

وهو الأقوى؛ للأصل، وعدم دليل على خلافه.

و

___________________________________________

المفضول {أيضاً} كما يجوز الرّجوع إلى الفاضل {أو جوّز له الأفضل} تقليد المفضول {بعد رجوعه إليه} أي: الأفضل واستعلام الحال منه.

{هذا حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضيّة الأدلّة في هذه المسألة} أي: مسألة تقليد الفاضل أو المفضول {وأمّا غيره} أي: غير المقلّد {فقد اختلفوا في جواز تقديم المفضول} أي: جواز تقليدهمع وجود الأفضل {وعدم جوازه ذهب بعضهم} وهم جماعة من الفقهاء والأصوليّين ولا أستبعده كما شرحناه في الفقه(4) {إلى الجواز، والمعروف بين الأصحاب - على ما قيل - عدمه} فلا يجوز تقليد المفضول {وهو الأقوى} عند المصنّف {للأصل} إذ الشّكّ في الحجيّة موضوع عدم الحجيّة، فالاشتغال محكم {وعدم دليل على خلافه} أي: خلاف الأصل عدا ما يذكر من وجوه أربعة للمجوّزين {و} هي إطلاق الأدلّة فإنّها لم تقيّد الجواز بالأعلم، بل قال مثلاً: «من كان من الفقهاء» و«أهل الذكر» والسّيرة المستمرّة لدى المتشرّعة حيث يقلّدون كلّاً من الفاضل والمفضول، وأنّ وجوب تقليد

ص: 406


1- الفصول الغرويّة: 424.
2- مطارح الأنظار 2: 525.
3- راجع الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 801؛ معالم الدين: 246.
4- موسوعة الفقه 1: 126.

لا إطلاق في أدلّة التقليد - بعد الغضّ عن نهوضها على مشروعيّة أصله - ؛ لوضوح أنّها إنّما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم، لا في كلّ حال، من غير تعرّض أصلاً لصورة معارضته بقول الفاضل، كما هو شأن سائر الطّرق والأمارات، على ما لا يخفى.

ودعوى السّيرة على الأخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى، من دون فحص عن أعلميّته، مع العلم بأعلميّة أحدهما، ممنوعة.

ولا عسر في تقليد الأعلم، لا عليه؛

___________________________________________

الأعلم عسر على الأعلم وعلى المقلّدين ولا عسر في الشّريعة، وأنّ تشخيص الأعلم مشكل، فإيجاب تقليده إلقاء النّاس في الحرج.

لكن في هذه الأدلّة مناقشات، إذ {لا إطلاق في أدلّةالتقليد - بعد الغضّ عن نهوضها} أي: الأدلّة {على مشروعيّة أصله -} إذ قد تقدّمت المناقشة في دلالة الآيات، وقد نوقش في الرّوايات أيضاً بضعف السّند أو الدلالة.

وإنّما قلنا بعدم الإطلاق فيها {لوضوح أنّها إنّما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم لا} أنّها بصدد الإطلاق وأنّه يجوز الأخذ بقوله {في كلّ حال} ليرجع في كلّ شكّ إليه {من غير تعرّض أصلاً لصورة معارضته} أي: قول المفضول {بقول الفاضل، كما هو شأن سائر الطّرق والأمارات} الّتي لا تعرّض لها بصورة التعارض. وإنّما تثبت أصل حجيّة الأمارة أو الطّريق {على ما لا يخفى} ولذا احتجنا إلى العلاج في صورة التعارض.

{ودعوى السّيرة على الأخذ بفتوى أحد المخالفين} بصيغة التثنية {في الفتوى من دون فحص عن أعلميّته، مع العلم بأعلميّة أحدهما ممنوعة} بل الأخذ إنّما يكون إذا لم يعلم بوجود أعلم في البين، بل ربّما يدّعى وجود السّيرة بالعكس وأنّهم يفحصون عن الأعلم.

{ولا عسر في تقليد الأعلم لا عليه} أي: على الأعلم، فإنّه توهّم أنّه إذا أراد

ص: 407

لأخذ فتاواه من رسائله وكتبه، ولا لمقلّديه؛ لذلك أيضاً.

وليس تشخيص الأعلميّة بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد.

مع أنّ قضيّة نفي العسر: الاقتصارُ على موضع العسر، فيجب في ما لا يلزم منهعسر، فتأمّل جيّداً.

وقد استدلّ للمنع أيضاً بوجوه:

أحدها: نقل الإجماع على تعيين تقليد الأفضل.

___________________________________________

جميع النّاس أخذ المسائل منه استغرقت أوقاته وهو عسر عليه، فالمنّة تقتضي عدم توجيه الشّارع النّاس جميعاً إليه {لأخذ فتاواه من رسائله وكتبه} فلا يرجع إليه في كلّ مسألة {ولا لمقلّديه} حيث توهّم أنّه لو وجب على جميع النّاس الأخذ منه وجب السّفر إلى بلد الأعلم وذلك حرج {لذلك أيضاً} إذ يأخذون فتاواه من رسائله كما هو المتعارف.

{وليس تشخيص الأعلميّة بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد} فكما يجب تشخيص المجتهد يجب تشخيص الأعلم ولا عسر فيه {مع} أنّه لو سلّم العسر على المجتهد أو المقلّد أو في تشخيص الأعلم لم يقتض ذلك عدم وجوب تقليد الأعلم مطلقاً، بل {إنّ قضيّة نفي العسر} والحرج {الاقتصار على موضع العسر} إذ هو شخصيّ لا نوعيّ {فيجب} تقليد الأعلم {في ما لا يلزم منه عسر} ويجوز تقليد غيره في ما يلزم منه العسر {فتأمّل جيّداً} وراجع الفقه(1) حتّى تعرف الجواب عن هذه المناقشات.

{وقد استدلّ للمنع} عن تقليد المفضول {أيضاً بوجوه} أُخر:

{أحدها: نقل الإجماع على تعيين تقليدالأفضل} فلا يجوز تقليد المفضول.

ص: 408


1- موسوعة الفقه 1: 131.

ثانيها: الأخبار الدالّة على ترجيحه مع المعارضة، كما في المقبولة وغيرها، أو على اختياره بين النّاس، كما دلّ عليه المنقول عن أميرالمؤمنين(علیه السلام): «اختر للحكم بين النّاس أفضلَ رعيّتك»(1).

ثالثها: أنّ قول الأفضل أقرب من غيره جزماً، فيجب الأخذ به عند المعارضة عقلاً.

ولا يخفى ضعفها:

أمّا الأوّل: فلقوّة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين للكلّ - أو الجلّ - هو الأصل،

___________________________________________

{ثانيها: الأخبار الدالّة على ترجيحه} أي: الأفضل {مع المعارضة} مع غيره {كما في المقبولة وغيرها} حيث قال(علیه السلام): «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما»(2)،

وفي خبر داود: «ينظر إلى أفقههما»(3)، وفي خبر موسى: «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما»(4) {أو على اختياره بين النّاس} للقضاء {كما دلّ عليه المنقول عن أميرالمؤمنين(علیه السلام)} في عهده الطّويل إلى مالك الأشتر {«اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك»} وباب القضاء والفتوى واحد، كما أنّ باب الرّواية والإفتاء واحد.{ثالثها: أنّ قول الأفضل أقرب من غير جزماً} إلى الواقع {فيجب الأخذ به عند المعارضة عقلاً} إذ ملاك الحجيّة فيه أقوى.

{ولا يخفى ضعفها} أي: ضعف هذه الوجوه الثلاثة:

{أمّا الأوّل} أي: الإجماع {فلقوّة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين} للأفضل {للكلّ أو الجلّ} الجار متعلّق ب- «القول» {هو الأصل} أي: أصالة

ص: 409


1- نهج البلاغة، الكتاب: 53.
2- الكافي 1: 68.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 8.
4- تهذيب الأحكام 6: 301.

فلا مجال لتحصيل الإجماع مع الظفر بالاتفاق، فيكون نقله موهوناً؛ مع عدم حجيّة نقله ولو مع عدم وهنه.

وأمّا الثّاني: فلأنّ الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة - لأجل رفع الخصومة الّتي لا تكاد ترتفع إلّا به - لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى، كما لا يخفى.

وأمّا الثّالث: ممنوع، صغرى وكبرى:

أمّا الصّغرى: فلأجل أنّ فتوى غير الأفضل ربّما يكونُ أقرب من فتواه؛ لموافقته لفتوى من هو أفضل منه، ممّن مات.

___________________________________________

الاشتغال الّتي ذكرناها سابقاً {فلا مجال لتحصيل الإجماع} الّذي هو حجّة حتّى {مع الظفر بالاتفاق} من الكلّ، وحيث كان الإجماع محتمل الاستناد {فيكون نقله موهوناً} من هذه الجهة ولو قلنا بحجيّة الإجماع المنقول، فكيف {مع عدم حجيّة نقله} أصلاً {ولو مع عدم وهنه} بكونه محتمل الاستناد مضافاً إلى مخالفة غير واحد، فكيف يمكن دعوى الإجماع؟!{وأمّا الثّاني} وهي الأخبار الدالّة على الترجيح {فلأنّ الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة} وفصل المنازعات {لأجل رفع الخصومة الّتي لا تكاد ترتفع إلّا به} أي: بالترجيح {لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى} فلا مجال لاستفادة الملاك والمناط {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{وأمّا الثّالث} وهو كون قول الأفضل أقرب فيجب الأخذ به، فهو {ممنوع صغرى وكبرى: أمّا الصّغرى} وهي أنّ قول الأفضل أقرب {فلأجل أنّ فتوى غير الأفضل ربّما يكون أقرب من فتواه} أي: فتوى الأفضل {لموافقته} أي: فتوى المفضول {لفتوى من هو أفضل منه} أي: من الأفضل {ممّن مات} كما لو كان فتوى المفضول مطابقاً لفتوى الشّيخ المرتضى(رحمة الله).

ص: 410

ولا يُصغى إلى: أنّ فتوى الأفضل أقربُ في نفسه؛ فإنّه لو سلّم أنّه كذلك، إلّا أنّه ليس بصغرى لما ادّعي عقلاً من الكبرى؛ بداهة أنّ العقل لا يرى تفاوتاً بين أن يكون الأقربيّة في الأمارة لنفسها، أو لأجل موافقتها لأمارة أُخرى، كما لا يخفى.

وأمّا الكبرى: فلأنّ ملاك حجيّة الغير تعبّداً - ولو على نحو الطّريقيّة - لم يعلم أنّه القرب إلى الواقع،

___________________________________________

{و} إن قلت: هذا الإيراد غير وارد، إذ مرادنا أنّ فتوى الأفضل أقرب في نفسه من غير نظر إلى جهة خارجيّة.قلت: {لا يصغى إلى أنّ فتوى الأفضل أقرب في نفسه، فإنّه لو سلّم أنّه كذلك} ولم يناقش بأنّه حيث كان باب الواقع منسدّاً كانت الأقربيّة بالنسبة إلى ما يستفاد من الرّوايات ونحوها لا بالنسبة إلى الواقع {إلّا أنّه ليس بصغرى لما ادّعي عقلاً من الكبرى} الّتي هي وجوب الأخذ بملاك الأقربيّة.

{بداهة أنّ العقل} لا يعتبر الأقرب في نفسه، بل يعتبر الأقرب من جميع الحيثيّات الداخليّة والخارجيّة، إذ {لا يرى تفاوتاً بين أن يكون الأقربيّة في الأمارة لنفسها أو لأجل موافقتها لأمارة أُخرى} كفتوى المفضول الّذي هو موافق لفتوى أفضل ميّت {كما لا يخفى}.

وعلى هذا فلو كان الملاك الأقربيّة إلى الواقع يجب أن يلاحظ الأفضل بقول مطلق من الأحياء والأموات، وينظر أيّ الفتويين مطابق له فيؤخذ به، سواء كان للأفضل أو المفضول الحيّين.

{وأمّا الكبرى} وهو وجوب الأخذ بقول الأقرب إلى الواقع {فلأنّ ملاك حجيّة قول الغير} أي: المجتهد {تعبّداً - ولو على نحو الطّريقيّة - لم يعلم أنّه القرب إلى الواقع} حتّى يلزم الأخذ بالأقرب، وإنّما قال: «ولو» لأنّه لو كانت الحجيّة من باب السّببيّة لم يكن الملاك القرب، إذ لا يلاحظ فيه الواقع وإنّما يلاحظ نفس

ص: 411

فلعلّه يكون ما هو في الأفضل وغيره سيّان، ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلاً.

نعم، لو كان تمام الملاك هو القرب، - كما إذا كان حجّة بنظر العقل - لتعيّن الأقربُ قطعاً، فافهم.فصل: اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي:

والمعروف بين الأصحاب: الاشتراط.

وبين العامّة: عدمه، وهو خيرة الأخباريّين وبعض المجتهدين من أصحابنا(1).

وربّما نُقل تفاصيل، منها: التفصيل بين

___________________________________________

السّبب {فلعلّه} أي: الملاك {يكون ما} أي: شيء {هو في الأفضل و} في {غيره سيّان ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلاً} فلعلّه كون الأخذ من تلاميذ الأئمّة^ مناطاً، كما ورد «من فسّر القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ»(2).

{نعم، لو كان تمام الملاك هو القرب} إلى الواقع {كما إذا كان حجّة بنظر العقل} الّذي لا يرى الحجيّة في شيء إلّا لمصلحة إدراك الواقع {لتعيّن الأقرب قطعاً} لكن أنّى لنا بإثبات هذا الملاك {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ ما يستفاد من أخبار التعارض هو كون الملاك، ذلك لأنّها ذكرت مرجّحات مقربة إلى الواقع - غالباً - .

[فصل تقليد الميت]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، تقليد الميت

{فصل} في اشتراط حياة المفتي {اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي} وأنّه هل يجوز تقليد الميّت أم لا؟

على أقوال {والمعروف بين الأصحاب الاشتراط} مطلقاً {وبين العامّة عدمه} مطلقاً {وهو} أي: عدم الاشتراط{خيرة الأخباريّين وبعض المجتهدين} كالميرزا القمّي صاحب القوانين {من أصحابنا. وربّما نقل تفاصيل: منها التفصيل بين}

ص: 412


1- الفوائد المدنيّة: 149؛ الأصول الأصليّة: 150؛ قوانين الأصول 1: 270.
2- وسائل الشيعة 27: 205.

البدوي فيشترط الحياة، والاستمراري فلا يشترط(1).

والمختار: ما هو المعروف بين الأصحاب؛ للشكّ في جواز تقليد الميّت، والأصل عدم جوازه.

ولا مخرج عن هذا الأصل إلّا ما استدلّ به المجوّز على الجواز من وجوه ضعيفة:

منها: استصحاب جواز تقليده في حال حياته(2).

___________________________________________

التقليد {البدوي} كما لو لم يقلّد هذا الشّخص {فيشترط الحياة} فلا يجوز تقليد الميّت ابتداءً {و} بين التقليد {الاستمراري} بأن قلّد شخصاً ثمّ مات فيجوز البقاء على تقليده {فلا يشترط} الحياة، ومنها التفصيل بين وجود المجتهد الحيّ فلا يجوز تقليد الميّت، وبين عدمه فيجوز، ومنها التفصيل بين كون المجتهد مفتياً طبق مضامين الأخبار كالصدوقين فيجوز، وبين غيره فلا يجوز، ومنها غير ذلك.

{والمختار} عند المصنّف {ما هو المعروف بين الأصحاب} من عدم الجواز مطلقاً، وإن كنّا لم نستبعد مقالة صاحب القوانين في الفقه. وإنّما اختار المصنّف العدم مطلقاً {للشكّ في جواز تقليد الميّت والأصل عدم جوازه} لأنّ الشّكّ في الحجيّة موضوع عدم الحجيّة، كما عرفت مراراً {ولا مخرج عن هذاالأصل إلّا ما استدلّ به المجوّز على الجواز من وجوه ضعيفة} ذكر المصنّف(رحمة الله) منها أربعة: الاستصحاب، والإطلاقات، والسّيرة، ودليل الانسداد. والتأمّل قاضٍ بصحّة الثلاثة الأُوَل وإن ناقش فيها المصنّف.

وكيف كان، ف- {منها استصحاب جواز تقليده في حال حياته} فكما جاز في ذلك الوقت جاز بعد موته.

ص: 413


1- الفصول الغرويّة: 422.
2- مفاتيح الأصول: 624.

ولا يذهب عليك: أنّه لا مجال له، لعدم بقاء موضوعه عرفاً؛ لعدم بقاء الرّأي معه، فإنّه متقوّمٌ بالحياة بنظر العرف - وإن لم يكن كذلك واقعاً - ؛ حيث إنّ الموت عند أهله موجب لانعدام الميّت ورأيه.

ولا ينافي ذلك صحّة استصحاب بعض أحكام حال حياته، كطهارته ونجاسته، وجواز نظر زوجته إليه؛ فإنّ ذلك إنّما يكون في ما لا يتقوّم بحياته عرفاً، بحسبان بقائه ببدنه الباقي بعد موته،

___________________________________________

{ولا يذهب عليك أنّه لا مجال له} أي: لهذا الاستصحاب {لعدم بقاء موضوعه} أي: موضوع جواز التقليد {عرفاً لعدم بقاء الرّأي معه} أي: مع الموت {فإنّه} أي: الرّأي {متقوّم بالحياة بنظر العرف وإن لم يكن} الرّأي {كذلك} متقوّماً بالحياة {واقعاً} ودقّة، وإنّما يرى العرف انعدام الموضوع {حيث إنّ الموت عند أهله} أي: أهل العرف {موجب لانعدام الميّت ورأيه} كليهما.{و} إن قلت: لو كان الموضوع غير باق بعد الموت فكيف يستصحب بعض أحوال الميّت الّتي كانت في حال الحياة؟

قلت: {لا ينافي ذلك} الّذي ذكرنا من انعدام الموضوع بالنسبة إلى جواز التقليد {صحّة استصحاب بعض أحكام حال حياته كطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه} وجواز نظره إلى زوجته الميتة ونحوها {فإنّ ذلك} الاستصحاب {إنّما يكون في ما} أي: في موضوع {لا يتقوّم بحياته عرفاً} فيرى العرف بقاء الموضوع ولو بعد الموت {بحسبان بقائه} أي: الميّت {ببدنه الباقي بعد موته} فقسم من الأحكام قد رُتّبَ على موضوع بحيث يرى العرف ذهاب ذلك الموضوع بالموت، وقسم من الأحكام قد رتبت على موضوع بحيث يرى العرف بقاءه.

فالشهادة لدى الطّلاق وجواز الوطي للزوجين وأشباههما مرتّبة على الموضوع الزائل وإن كان روحه تشهد الطّلاق وجسمه الممكن من الاستمتاع به باقٍ.

ص: 414

وإن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه واقعاً.

وبقاءُ الرّأي لا بدّ منه في جواز التقليد قطعاً، ولذا لا يجوز التقليد في ما إذا تبدّل الرّأي، أو ارتفع لمرض أو هرم إجماعاً.

وبالجملة: يكون انتفاء الرّأي بالموت - بنظر العرف - بانعدام موضوعه، ويكون حشره في القيامة إنّما هو من باب إعادة المعدوم، وإن لم يكن كذلك حقيقة؛ لبقاء موضوعه، وهو النّفس النّاطقة الباقية حال الموت لتجرّده.

___________________________________________

وجواز النّظر والطّهارة في المسلم والنّجاسة في الكافر قد رتبت على الموضوع الباقي {وإن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه} أي: عروض هذا الحكم المراد استصحابه {واقعاً} وفي الحقيقة، لكن هذا الاحتمال غير ضائر بعد بقاء الموضوع العرفي.

{و} إذ قد عرفت زوال الرّأي الّذي هو موضوع جواز التقليد عرفت عدم جواز تقليده؛ لأنّ {بقاء الرّأي لا بدّ منه في جواز التقليد قطعاً، ولذا لا يجوز التقليد في ما إذا تبدّل الرّأي أو ارتفع لمرض أو هرم إجماعاً} وإن كان في المقيس عليه مناقشة، وهي أنّ تبدّل الرّأي من وادٍ آخر؛ لأنّ معناه ظهور خطأ الرّأي الأوّل، وارتفاعه لمرض أو هرم أوّل الكلام في كونه سبباً لارتفاع جواز التقليد، إذ الإجماع محصّله غير حاصل ومنقوله غير ناتج.

{وبالجملة يكون انتفاء الرّأي بالموت بنظر العرف ب-} سبب {انعدام موضوعه} وإن كان الرّأي باق حقيقة وواقعاً {ويكون حشره} أي: المجتهد {في القيامة} مع رأيه {إنّما هو من باب إعادة المعدوم} بنظرهم {وإن لم يكن كذلك حقيقة} ودقّة {لبقاء موضوعه} أي: موضوع الرّأى المتقوّم به {وهو النّفس النّاطقة الباقية حال الموت لتجرّده} وإن كان في تجرّد النّفس نظر بيّن، إذ لا دليل عليه لكن بقاؤها لا

ص: 415

وقد عرفت في باب الاستصحاب: أنّ المدار في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف، فلا يجدي بقاء النّفس عقلاً في صحّةالاستصحاب مع عدم مساعدة العرف عليه، وحِسبانِ أهله أنّها غير باقية، وإنّما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها، فتأمّل جيّداً.

لا يقال: نعم، الاعتقاد والرّأي وإن كان يزول بالموت - لانعدام موضوعه - إلّا أنّ حدوثه في حال حياته، كافٍ في جواز تقليده في حال موته، كما هو الحال في الرّواية.

___________________________________________

إشكال فيه، قال - سبحانه - : {وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ}(1)، وقال عليّ(علیه السلام): «خلقنا وإيّاكم للبقاء لا للفناء»(2).

{وقد عرفت في باب الاستصحاب أنّ المدار في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف} وقد عرفت أنّهم لا يرون بقاء الموضوع في محلّ الكلام، لكن فيه إشكالاً حيث يرى العرف ذلك، بل لو قيل للعرف أنّ المجتهد بموته ليس رأيه حجّة؛ لأنّه فنى، يتعجّب من ذلك ولا يرى للموت دخلاً في رأيه {فلا يجدي بقاء النّفس} النّاطقة الّتي هي موضوع الرّأي {عقلاً في صحّة الاستصحاب} لجواز التقليد {مع عدم مساعدة العرف عليه} أي: على البقاء {وحسبان أهله} أي: أهل العرف {أنّها} أي: النّفس {غير باقية وإنّما تعاد يوم القيامة} بقدرة اللّه - سبحانه - {بعد انعدامها، فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك الأمر.

{لا يقال: نعم الاعتقاد والرّأي وإن كان}كلّ واحد منهما {يزول بالموت} بنظر العرف فلا مجال للاستصحاب من هذه الجهة {لانعدام موضوعه إلّا أنّ حدوثه} أي: حدوث الرّأي {في حال حياته كاف في جواز تقليده في حال موته، كما هو الحال في الرّواية} فإنّ صدور الرّواية في آنٍ كافٍ في جواز العمل به ولو بعد موت الرّاوي.

ص: 416


1- سورة المؤمنون، الآية: 100.
2- الأمالي (للشيخ الطوسي): 216؛ بحار الأنوار 74: 403.

فإنّه يقال: لا شبهة في أنّه لا بدّ في جوازه من بقاء الرّأي والاعتقاد، ولذا لو زال بجنون وتبدّل ونحوهما لما جاز قطعاً، كما أُشير إليه آنفاً.

هذا بالنسبة إلى التقليد الابتدائي.

وأمّا الاستمراري: فربّما يقال بأنّه قضيّة استصحاب الأحكام الّتي قلّده فيها؛ فإنّ رأيه وإن كان مناطاً لعروضها وحدوثها، إلّا أنّه عرفاً من أسباب العروض، لا من مقوّمات الموضوع والمعروض.

___________________________________________

{فإنّه يقال: لا شبهة في أنّه لا بدّ في جوازه} أي: التقليد {من بقاء الرّأي والاعتقاد، ولذا لو زال بجنون وتبدّل ونحوهما} كالهرم {لما جاز} البقاء {قطعاً كما أُشير إليه آنفاً} وذلك بخلاف الرّواية، فإنّها غير متقوّمة بالرأي، ولذا لو جنّ الرّاوي أو خرج عن العدالة لم يضرّ ذلك بروايته، فقياس التقليد على أخذ الرّواية مع الفارق.

{هذا} كلّه {بالنسبة إلى التقليد الابتدائي} كأن يقلّد شخص الشّيخ المرتضى(رحمة الله) فعلاً {وأمّا} التقليد{الاستمراري} بأن كان مقلّداً لمجتهد ثمّ مات ذلك المجتهد، فهل يجوز البقاء على تقليده أم لا؟ {فربّما يقال: بأنّه} أي: جواز البقاء {قضيّة استصحاب الأحكام الّتي قلّده فيها} فكان سابقاً الغسالة في حقّه نجساً وصلاة الجمعة واجبة - مثلاً - فإذا مات وشكّ في أنّه هل بقيت تلك الأحكام أم لا استصحبها {فإنّ رأيه} أي: المجتهد {وإن كان مناطاً لعروضها} أي: عروض تلك الأحكام {وحدوثها} على موضوعاتها، إذ رأي المجتهد سبب لعروض النّجاسة على الغسالة والوجوب على صلاة الجمعة {إلّا أنّه} أي: الرّأي {عرفاً من أسباب العروض لا من مقوّمات الموضوع والمعروض} كالتغيّر الّذي هو من أسباب عروض النّجاسة على الماء لا من مقوّماتها حتّى تزول بزواله.

ص: 417

ولكنّه لا يخفى: أنّه لا يقين بالحكم شرعاً سابقاً؛ فإنّ جواز التقليد إن كان بحكم العقل وقضيّةِ الفطرة - كما عرفت - فواضحٌ؛ فإنّه لا يقتضي أزيد من تنجّز ما أصابه من التكليف، والعذر في ما أخطأ، وهو واضح.

وإن كان بالنقل، فكذلك، على ما هو التحقيق: من أنّ قضيّة الحجيّة شرعاً ليست إلّا ذلك، لا إنشاء أحكام شرعيّة على طبق مؤدّاها، فلا مجال لاستصحاب ما قلّده؛ لعدم القطع به سابقاً،

___________________________________________

{ولكنّه لا يخفى} أنّ هذا الاستصحاب مبنيّ على أن يكون سابقاً حكم، بأن تكون نجاسة ووجوب - مثلاً - لكن ذلك غير مسلّم، إذ قول المجتهد لا يوجب إلّا التنجيز والإعذار، فإنّا لا نعلم بالأحكام الواقعيّة وقد سبق أنّه لاحكم ظاهريّ لنا فلا حكم سابقاً حتّى يستصحب، ف- {إنّه لا يقين بالحكم شرعاً} أي: بالحكم الشّرعي {سابقاً} في حال حياته حتّى يستصحب {فإنّ جواز التقليد إن كان بحكم العقل} ولزوم رجوع الجاهل إلى العالم {وقضيّة الفطرة، كما} سبق و{عرفت} أنّه عمدة الدليل {فواضح} أنّه لا يقين بالحكم سابقاً {فإنّه} أي: العقل {لا يقتضي أزيد من تنجّز ما أصابه} المجتهد {من التكليف والعذر في ما أخطأ} فإنّ العقل لا يقول بأنّ مقالة المجتهد هي الحكم الواقعي، وإنّما يقول: بأنّك معذور إن أخطأ ومنجز عليك إن أصاب {وهو واضح} لا مرية فيه.

{وإن كان} جواز التقليد {بالنقل} وبالآيات والأخبار {فكذلك} لا حكم في البين وإنّما هو تنجيز وإعذار {على ما هو التحقيق من أنّ قضيّة الحجيّة شرعاً} لأيّ شيء سواء كان خبراً أو إجماعاً أو فتوى أو غيرها {ليست إلّا ذلك} التنجيز والإعذار {لا إنشاء أحكام شرعيّة على طبق مؤدّاها} أي: مؤدّى الحجّة.

وعلى هذا {فلا مجال لاستصحاب ما قلّده} من الأحكام الشّرعيّة التكليفيّة والوضعيّة {لعدم القطع به} أي: بالحكم {سابقاً} حتّى يستصحب لاحقاً

ص: 418

إلّا على ما تكلّفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب، فراجع.

ولا دليل على حجيّة رأيه السّابق في اللّاحق.

وأمّا بناءً على ما هو المعروف بينهم -من كون قضيّة الحجيّة الشّرعيّة: جعلُ مثل ما أدّت إليه من الأحكام الواقعيّة التكليفيّة، أو الوضعيّة شرعاً في الظاهر - فلاستصحاب ما قلّده من الأحكام وإن كان مجال، بدعوى: بقاء الموضوع عرفاً؛ لأجل كون الرّأي عند أهل العرف من أسباب العروض، لا من مقوّمات المعروض.

___________________________________________

{إلّا على ما تكلّفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب} وهو التنبيه الثّاني {فراجع} فإنّه أشكل هناك بأنّ مؤدّى الأمارة والطّريق ليس حكماً فكيف يستصحب إذا شكّ؟

وأجاب بأنّ الاستصحاب في الحقيقة إثبات للملازمة الشّرعيّة بين الثبوت والبقاء، فيستصحب الحكم على تقدير ثبوته، فعند موت المجتهد يستصحب الحكم الّذي كان مؤدّى الفتوى على تقدير ثبوت الحكم ويرتّب عليه ما له من الأثر.

{و} لكن {لا دليل على حجيّة رأيه السّابق في اللّاحق} إذ حجيّته كانت حين وجوده، فإذا انعدم الرّأي - حسب النّظر العرفي - فلا يبقى مجال للاستصحاب.

هذا كلّه بناءً على ما رأيناه من أنّ معنى الحجيّة ليس إلّا جعل التنجيز والإعذار {وأمّا بناءً على ما هو المعروف بينهم من كون قضيّة الحجيّة الشّرعيّة} إنشاء أحكام ظاهريّة ب- {جعل مثل ما أدّت} الأمارة والطّريق {إليه من الأحكام الواقعيّة التكليفيّة أو الوضعيّة} فإذا أدّت الأمارة إلى وجوب الجمعة وإلى نجاسة العصير كان معنى ذلك جعل وجوب ونجاسة لهما {شرعاً في الظاهر} سواء طابق الواقع أم لا {فلاستصحاب ما قلّده من الأحكاموإن كان مجال} لوجود الحكم الظاهري المجعول سابقاً، فيستصحب حال الشّكّ لاحقاً {بدعوى بقاء الموضوع عرفاً، لأجل كون الرّأي عند أهل العرف من أسباب العروض} أي: عروض الوجوب للجمعة والنّجاسة للعصير - مثلاً - {لا من مقوّمات المعروض}.

ص: 419

إلّا أنّ الإنصاف: عدمُ كون الدعوى خاليةً عن الجزاف؛ فإنّه من المحتمل - لولا المقطوع - أنّ الأحكام التقليديّة عندهم أيضاً ليست أحكاماً لموضوعاتها بقول مطلق، بحيث عدّ من ارتفاع الحكم - عندهم - من موضوعه، بسبب تبدّل الرّأي ونحوه، بل إنّما كانت أحكاماً لها بحسب رأيه، بحيث عدّ من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه - عند التبدّل - ، ومجرّدُ احتمال ذلك يكفي في عدم صحّة استصحابها؛ لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

{إلّا أنّ الإنصاف عدم كون الدعوى خالية عن الجزاف} فإنّا لا نسلّم كون العرف يرى بقاء الموضوع {فإنّه من المحتمل - لولا المقطوع - أنّ الأحكام التقليديّة} أي: الّتي يجب التقليد فيها {عندهم} أي: عند أهل العرف {أيضاً} كما هو محتمل واقعاً {ليست أحكاماً لموضوعاتها بقول مطلق} بأن تكون النّجاسة للعصير والوجوب للصلاة مطلقاً، سواء كان هناك رأي المجتهد أم لا {بحيث} لو زال الحكم بالموت {عدّ من ارتفاع الحكم - عندهم - من موضوعه بسبب تبدّل الرّأي ونحوه} كزوالهبجنون أو هرم أو مرض {بل إنّما كانت} الأحكام {أحكاماً لها} أي: للموضوعات {بحسب رأيه بحيث عدّ من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدّل}.

والحاصل: أنّ من المحتمل كون العرف يرى أنّ زوال الحكم بالموت زوالاً بسبب زوال الموضوع لا زوالاً مع بقاء الموضوع {ومجرّد احتمال ذلك} أي: احتمال عدم بقاء الموضوع العرفي {يكفي في عدم صحّة استصحابها} أي: استصحاب الأحكام السّابقة للمجتهد الميّت {لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً} في صحّة الاستصحاب {فتأمّل جيّداً} حتّى لا تقول: إنّ الموضوع العرفي باقٍ وإنّ الرّأي كان بنظرهم من قبيل الواسطة في العروض، كما يرون بقاء الأحكام بعد موت الرّواة.

ص: 420

هذا كلّه، مع إمكان دعوى: أنّه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرّأي - بسبب الهرم أو المرض - إجماعاً، لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعاً، فتأمّل.

ومنها: إطلاق الآيات الدالّة على جواز التقليد.

وفيه: - مضافاً إلى ما أشرنا إليه من عدم دلالتها عليه - منعُ إطلاقها على تقدير دلالتها، وإنّما هو مسوق لبيان أصل تشريعه، كما لا يخفى.

ومنه انقدح حال إطلاق ما دلّ من الرّوايات على التقليد،

___________________________________________

{هذا كلّه} لبيان عدم جواز البقاء على التقليد استمراراً {معإمكان دعوى} دليل آخر لعدم جواز البقاء، ف- {إنّه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرّأي بسبب الهرم أو المرض} أو الجنون {إجماعاً لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعاً} إذ هناك الحياة باقية والنّفس النّاطقة على حالها بنظر العرف، وفي حال الموت لا حياة ولا نفس ناطقة {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى عدم صحّة القياس لوجود الفارق الّذي هو الإجماع أوّلاً، وأنّ الرّأي قد زال هناك قطعاً بخلافه هنا، فإنّه لا يعلم بزوال الرّأي عن النّفس النّاطقة ثانياً.

{ومنها} أي: من الأدلّة الّتي استمسك بها القائل بجواز تقليد الميّت {إطلاق الآيات} والأخبار {الدالّة على جواز التقليد} فيشمل حال الموت كما يشمل حال الحياة.

{وفيه مضافاً إلى ما أشرنا إليه} سابقاً {من عدم دلالتها} أي: الآيات {عليه} أي: على أصل التقليد، لما عرفت من المناقشات فيها {منع إطلاقها على تقدير دلالتها وإنّما هو} أي: الكلام {مسوق لبيان أصل تشريعه} أي: تشريع التقليد والإطلاق لها {كما لا يخفى}.

{ومنه انقدح حال إطلاق ما دلّ من الرّوايات على التقليد} فإنّها وإن كانت دالّة،

ص: 421

مع إمكان دعوى الانسباق إلى حال الحياة فيها.

ومنها: دعوى أنّه لا دليل على التقليد إلّا دليل الانسداد، وقضيّته جواز تقليد الميّت كالحيّ، بلا تفاوت بينهما أصلاً، كمالا يخفى(1).

وفيه: أنّه لا يكاد تصلُ النّوبة إليه؛ لما عرفت من دليل العقل والنّقل عليه.

___________________________________________

كما اخترنا، لكنّها لا إطلاق لها {مع إمكان دعوى الانسباق إلى حال الحياة فيها} لأنّه قال: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ}(2)، وقال: {وَلِيُنذِرُواْ}(3)، وقال: «انظروا إلى رجل منكم»(4)،

وهكذا، والكلّ لا يصدق بعد الموت.

لكن فيه أنّ الانسباق لو كان فهو بدويّ لا يعتني به العرف، كما يقال مثل ذلك في باب الرّواية.

{ومنها:} أي: من أدلّة القائل بجواز التقليد للميّت {دعوى أنّه لا دليل على التقليد إلّا دليل الانسداد} لأنّ الآيات والرّوايات وبناء العقلاء لا دلالة لها على ذلك، فينسدّ باب العلم بالأحكام على العاميّ فلا بدّ من التقليد {وقضيّته} أي: مقتضى دليل الانسداد {جواز تقليد الميّت كالحيّ بلا تفاوت بينهما أصلاً، كما لا يخفى} إذ المناط هو الظنّ النّوعي وهو حاصل منهما على حدّ سواء.

{وفيه: أنّه} غير تامّ، إذ الأدلّة الاجتهاديّة موجودة لجواز التقليد كما عرفت سابقاً، ف- {لا يكاد تصل النّوبة إليه} أي: إلىالانسداد {لما عرفت من دليل العقل والنّقل عليه} أي: على جواز التقليد.

ص: 422


1- قوانين الأصول 2: 266.
2- سورة النحل، الآية: 43.
3- سورة التوبة، الآية: 122.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 2؛ الكافي 7: 412.

ومنها: دعوى السّيرة على البقاء؛ فإنّ المعلومَ من أصحاب الأئمّة^ عدمُ رجوعهم عمّا أخذوه تقليداً بعد موت المفتي(1).

وفيه: منعُ السّيرة في ما هو محلّ الكلام. وأصحابُهم^ إنّما لم يرجعوا عمّا أخذوه من الأحكام، لأجل أنّهم غالباً إنّما كانوا يأخذونها ممّن ينقلها عنهم^ بلا واسطة أحد، أو معها من دون دخل رأي النّاقل فيه أصلاً، وهو ليس بتقليد، كما لا يخفى، ولم يعلم إلى الآن حالُ من تعبّد بقول غيره ورأيه، أنّه كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته.

___________________________________________

{ومنها:} أي: من أدلّة جواز تقليد الميّت {دعوى السّيرة على البقاء} على تقليد الميّت {فإنّ المعلوم من أصحاب الأئمّة^ عدم رجوعهم عمّا أخذوه تقليداً بعد موت المفتي} والسّيرة حجّة لما تتضمّنها من تقرير المعصوم.

{وفيه: منع السّيرة في ما هو محلّ الكلام} من التقليد الّذي هو أخذ فتوى الغير تعبّداً ممّا لرأيه دخل في الاستنباط {وأصحابهم^ إنّما لم يرجعوا عمّاأخذوه من الأحكام} بعد موت الوسائط {لأجل أنّهم غالباً إنّما كانوا يأخذونها ممّن ينقلها عنهم^ بلا واسطة أحد أو معها} أي: مع الواسطة {من دون دخل رأي النّاقل فيه أصلاً} فإنّه كان نقل رواية {وهو ليس بتقليد، كما لا يخفى}.

{و} إن قلت: قد كان فيهم من يفتي كما قال(علیه السلام) لأبان: «أفت النّاس»(2) قلت: {لم يعلم إلى الآن حال من تعبّد بقول غيره ورأيه} هل {أنّه كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته} وهل أنّ الإمام كان قد قرّره على تقدير عدم رجوعه، وإن كان الظاهر صحّة دعوى السّيرة؛ لأنّها أمر طبيعي.

ص: 423


1- راجع مطارح الأنظار 2: 629.
2- مستدرك الوسائل 17: 315.

ومنها: غير ذلك ممّا لا يليق بأن يسطر أو يذكر.

___________________________________________

{ومنها: غير ذلك} مثل أنّ أنبياء بني إسرائيل كان يجوز العمل بقولهم بعد موتهم فكذلك العلماء لعموم قوله(علیه السلام): «علماء أُمّتي كأنبياء بني إسرائيل»(1)، ومفهوم قوله(علیه السلام): «ذروا ما رأوا»(2)،

حيث دلّ على جواز الأخذ برأي من لم ينحرف مطلقاً، وأنّ الرّجوع إلى تقليد الحيّ موجب للعسر لاحتياجه إلى تعلّم المسائل من جديد مع قطع النّظر عن لزوم الإعادة والقضاء في بعض عباداته ومعاملاته، إلى غيرها {ممّا لا يليق بأن يسطر أو يذكر} لوهنها وضعفها.وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الشّرح.

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

وقد تمّ بيد شارحه

محمّد بن المهدي الحسيني الشيرازي

ص: 424


1- بحار الأنوار 2: 22.
2- وسائل الشيعة 27: 142.

فهرست المحتويات

فهرست المحتويات

فصل: في الاستصحاب... 5

تعريف الاستصحاب.... 5

الاستصحاب مسألة أصوليّة..... 8

اعتبار اتّحاد القضية المشكوكة والمتيقنة...... 10

لا فرق في استصحاب الحكم الشرعي بين المستند إلى النقل أو العقل..... 15

حجيّة الاستصحاب مطلقاً والأدلة عليها..... 20

الوجه الأوّل: بناء العقلاء.... 20

الوجه الثّاني: الاستصحاب يفيد الظن بالبقاء.... 23

الوجه الثّالث: الإجماع...... 24

الوجه الرّابع: الأخبار المستفيضة..... 25

صحيحة زرارة الأولى...... 25

تقريب الاستدلال بالرواية..... 27

عدم اختصاص الصحيحة بالوضوء... 29

عدم اختصاص الصحيحة بالشك في الرافع...... 32

الاستدلال على اختصاص الأخبار بالشك في الرافع..... 35

عموم الرواية لاستصحاب الموضوع والحكم..... 43

صحيحة زرارة الثّانية... 44

تقريب الاستدلال بالرواية..... 46

صحيحة زرارة الثّالثة... 57

تقريب الاستدلال بالرواية..... 58

رواية محمد بن مسلم...... 62

ص: 425

تقريب الاستدلال بالرواية..... 63

الفرق بين قاعدة اليقين والاستصحاب.... 63

مكاتبة القاساني... 64

تقريب الاستدلال بالمكاتبة... 65

أخبار الحلية والطهارة..... 66

تقريب دلالة الروايات..... 67

الأحكام الوضعية...... 73

النزاع في أن الوضع محصور في أمور مخصوصة أم لا؟..... 75

هل الحكم الوضعي مجعول مستقلاً كالتكليف أم لا؟... 77

أقسام الحكم الوضعي..... 77

ما لا يقبل التشريع أصلاً...... 79

ما يقبل التشريع تبعاً للتكليف..... 85

ما يقبل التشريع أصالةً وتبعاً... 88

وهم ودفع...... 91

حكم الاستصحاب بالنسبة إلى أقسام الحكم الوضعي... 95

تنبيهات الاستصحاب... 98

التنبيه الأوّل: اعتبار فعلية الشك واليقين...... 98

التنبيه الثّاني: دفع الإشكال عن الاستصحاب في مؤدى الأمارات... 101

التنبيه الثّالث: استصحاب الكلي... 106

القسم الأول...... 108

القسم الثاني...... 108

القسم الثالث..... 112

التنبيه الرّابع: الاستصحاب في التدريجيّات.... 117

أقسام الأمور التدريجيّة...... 120

الزمان والزمانيّات.... 120

الفعل المقيد بالزمان وحكم أقسام الشك فيه... 123

ص: 426

إزاحة وهم..... 131

التنبيه الخامس: الاستصحاب التعليقي..... 133

الإشكال بعدم المقتضي..... 135

الإشكال بوجود المانع... 137

التنبيه السّادس: استصحاب الشرائع السابقة.... 140

التنبيه السّابع: الأصل المثبت...... 150

الفرق بين الطرق والأمارات..... 153

عدم حجية الأصل المثبت... 155

موارد الاستثناء... 156

حجية مثبتات الأمارات...... 159

التنبيه الثّامن: دفع توهم مثبتية الأصل في موارد ثلاثة... 161

المورد الأوّل: استصحاب الفرد لترتيب أثر الطبيعي عليه... 162

المورد الثّاني: استصحاب الشرط والمانع لترتيب الشرطيّة والمانعيّة... 164

المورد الثّالث: استصحاب نفي التكليف لترتيب آثاره...... 166

التنبيه التّاسع: ترتّب بعض الآثار العقليّة والعاديّة على الأصل... 168

التنبيه العاشر: اعتبار ترتّب الأثر على المستصحب بقاءً لا حدوثاً... 171

التنبيه الحادي عشر: أصالة تأخّر الحادث...... 173

الشك في تقدّم الحادث وتأخّره بالإضافة إلى أجزاء الزمان..... 174

الشك في تقدّم الحادث وتأخّره بالإضافة إلى حادث آخر...... 177

الكلام في مجهولي التاريخ وأقسامه..... 177

الكلام في ما لو كان أحدهما معلوم التاريخ وبيان أقسامه... 187

الكلام في تعاقب الحالتين المتضادّتين...... 191

التنبيه الثّاني عشر: استصحاب الأمور الاعتقادية.... 192

ما كان الواجب فيه الاعتقاد فقط..... 193

ما كان الواجب فيه المعرفة واليقين...... 194

لا مجال لاستصحاب النبوة...... 197

ص: 427

لا مجال لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى(علیه السلام)... 200

التنبيه الثّالث عشر: استصحاب حكم الخاص...... 202

أقسام العام والخاص بملاحظة الزمان... 204

ما لو كان الزمان ظرفاً لحكم العام والخاص.... 205

ما لو كان الزمان قيداً للموضوع في العام والخاص..... 207

ما لو كان الزمان ظرفاً للعام وقيداً للخاص...... 208

ما لو كان الزمان قيداً للعام وظرفاً للخاص...... 208

التنبيه الرّابع عشر: جريان الاستصحاب مع الظن بالخلاف..... 209

المقصود من الشك في الأخبار..... 209

تتمّة للاستصحاب..... 214

المقام الأوّل: اعتبار بقاء الموضوع..... 215

هل العبرة في الاتحاد بنظر العرف أو الدليل أو العقل؟..... 217

تحقيق المسألة هي العبرة بنظر العرف...... 222

المقام الثّاني: اعتبار عدم جريان الأمارة في مورد الاستصحاب..... 223

تقدّم الأمارة على الاستصحاب بالورود لا بالحكومة... 225

خاتمة: تعارض الاستصحابين..... 230

تقدّم الاستصحاب على الأصول العمليّة بالورود.... 231

تعارض الاستصحابين وصوره... 233

استصحاب المتضادّين في زمان الامتثال... 233

استصحاب السبب والمسبب.... 235

استصحاب العرضيّين مع العلم بانتقاض أحدهما...... 238

تذنيب: النسبة بين الاستصحاب والقواعد...... 242

تقديم بعض القواعد على الاستصحاب..... 242

تقديم الاستصحاب على القرعة.... 245

ص: 428

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات... 249

فصل: ضابط التعارض..... 251

تعريف التعارض..... 251

خروج موارد الجمع الدلالي عن التعارض...... 252

1- الحكومة..... 252

2- التوفيق العرفي... 253

تقدّم الأمارات على الأصول الشرعيّة بالورود لا بالحكومة..... 254

3- حمل الظاهر على الأظهر... 259

فصل: مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين...... 263

الأصل الأوّلي بناءً على الطريقيّة هي التساقط... 263

نفي الثالث بأحد المتعارضين... 264

الأصل الأولي بناءً على السببية...... 265

الإشكال على قاعدة «أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح»...... 270

توجيه القاعدة.... 273

فصل: مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين..... 274

الأصل هو عدم سقوط كلا المتعارضين ولزوم الأخذ بأحدهما..... 274

لزوم الأخذ بالراجح في دوران الحجيّة بين التعيين والتخيير.... 274

الاستدلال بالأخبار على عدم سقوط المتعارضين ولزوم الأخذ بأحدهما... 275

الاختلاف في وجوب الترجيح ولزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة...... 282

قصور المقبولة والمرفوعة عن إفادة وجوب الترجيح.... 283

قصور سائر أخبار الترجيح عن إفادة الوجوب... 287

أدلة أخرى على وجوب الترجيح..... 291

آثار القول بالتخيير... 294

التخيير استمراريّ.... 296

فصل: في المرجحات غير المنصوصة...... 297

ص: 429

وجوه القول بالتعدّي..... 297

بعض القرائن الدالة على لزوم الاقتصار..... 302

التعدّي إلى كل مزيّة ولو لم توجب الظن أو الأقربيّة.... 303

الإشكال على القول بالتعدّي من باب الظن الفعلي..... 304

فصل: الكلام في شمول أخبار العلاج لموارد الجمع العرفي.... 306

وجه القول بعدم الشمول..... 308

وجه آخر في إثبات القول بعدم الشمول...... 311

فصل: المرجحات النوعية..... 313

ترجيح العموم على الإطلاق..... 313

ترجيح التخصيص على النسخ...... 315

فصل: عدم انقلاب النسبة..... 320

التعارض بين أكثر من دليلين مع اتحاد النسبة... 321

التحقيق عدم انقلاب النسبة..... 325

التعارض بين أكثر من دليلين مع تعدد النسبة... 328

فصل: رجوع جميع المرجحات إلى المرجح الصدوري وعدم الترتيب بينها..... 330

المزايا المرجحة كلها من مرجحات السند..... 330

لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات.... 332

لا وجه لتقديم المرجح الجهتي على سائر المرجحات.... 334

تقديم مخالفة العامة على المرجحات الصدورية بسبب أقوائية الدلالة.... 346

فصل: المرجحات الخارجية... 348

1- الترجيح بالظن غير المعتبر...... 348

2- الترجيح بالقياس.... 350

3- ترجيح موافق الكتاب أو السنة القطعية على مخالفهما..... 352

الصورة الأولى: المخالفة بالمباينة... 353

الصورة الثّانية: المخالفة بالعموم والخصوص المطلق...... 353

الصورة الثّالثة: المخالفة بالعموم من وجه...... 356

ص: 430

4- الترجيح بالأصول العمليّة... 356

الخاتمة في الاجتهاد والتقليد

الخاتمة: في الاجتهاد والتقليد..... 359

فصل: تعريف الاجتهاد.... 361

الاجتهاد لغةً واصطلاحاً...... 361

تعاريف الاجتهاد ليست حقيقيةً..... 362

فصل: في الاجتهاد المطلق والمتجزّي..... 365

تعريف الاجتهاد المطلق والمتجزّي.... 365

أحكام الاجتهاد المطلق... 366

1- إمكان وقوعه..... 366

2- جواز عمل المجتهد المطلق باجتهاده...... 367

3- جواز تقليد المجتهد المطلق الانفتاحي.... 367

4- الإشكال في تقليد المجتهد الانسدادي على تقدير الحكومة...... 367

5- نفوذ قضاء المجتهد المطلق الانفتاحي..... 373

أحكام التجزّي في الاجتهاد... 375

1- إمكانه وقوعاً..... 376

وجهان لامتناع التجزّي في الاجتهاد.... 377

2- حجية رأي المتجزّي في حق نفسه...... 378

3- رجوع المقلّد إلى المتجزّي..... 379

4- قضاء المتجزّي...... 380

فصل: مبادئ الاجتهاد..... 380

احتياج الاجتهاد إلى معرفة علوم العربيّة والتفسير والأصول.... 380

اختلاف الاحتياج إلى الأصول حسب اختلاف الأزمنة وغيرها..... 382

فصل: في التخطئة والتصويب..... 383

اتفاق الإمامية على التخطئة في الشرعيّات..... 383

ص: 431

قول المخالفين بالتصويب... 384

الوجوه المحتملة في معنى التصويب... 384

فصل: تبدل رأي المجتهد...... 388

عدم جواز الرجوع إلى الاجتهاد السابق في الأعمال اللاحقة... 388

بطلان حكم الأعمال السابقة المبتنية على القطع أو الأمارة بناءً على الطريقية..... 389

عدم الفرق في البطلان بين تعلّق الاجتهاد أو بمتعلقاتها.... 391

صحة الأعمال السابقة بناءً على اعتبار الأمارات من باب السببيّة... 396

إذا كان الاجتهاد مستنداً إلى الأصول العمليّة وقد ظفر بدليلٍ على الخلاف.... 396

فصل: في التقليد...... 397

تعريف التقليد... 397

أدلة جواز التقليد..... 398

تمامية دلالة الأخبار على جواز التقليد...... 401

أدلة المنع عن التقليد.... 403

فصل: تقليد الأعلم.... 405

وظيفة العامي في مسألة تقليد الأعلم... 405

أدلة جواز تقليد غير الأعلم...... 406

سائر أدلة وجوب تقليد الأعلم... 408

فصل: تقليد الميت.... 412

أدلة عدم جواز تقليد الميّت...... 413

أدلة جواز تقليد الميّت... 413

1- الاستصحاب..... 413

2- إطلاق الأدلة اللفظيّة..... 421

3- دليل الانسداد.... 422

4- سيرة المتشرعة... 422

فهرست المحتويات... 425

ص: 432

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.