الوصول الی کفایة الاصول المجلد 4

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السید محمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: کفایة الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: الوصول الی کفایة الاصول المجلد 4/ السید محمد الحسیني الشیرازي ؛ [برای] الشجرةالطیبه.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.= 1399.

مواصفات المظهر: 5ج.

ISBN : دوره:9789642045242 ؛ ج.2:9789642045228 ؛ ج.2:9789642045235 ؛ ج.3:9789642045259 ؛ ج.4:9789642045266 ؛ ج.5:9789642045273

حالة الاستماع: فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : هذا كتاب وصفي برکفایة الاصول، آخوند خراساني است.

موضوع : آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایة الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

موضوع :أصول الفقه الشيعي -- قرن 14

Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

المعرف المضاف: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

المعرف المضاف: الشجرةالطیبه (قم)

ترتيب الكونجرس: BP159/8

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6131319

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمة الله)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة:السابعة والأربعون، الأولى

للناشر - 1441ه- .ق

-------------------

شابك (الدورة): 2-204524-964-978

شابك (المجلد الرابع): 6-204526-964-978

-------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم قم

المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

وبعد:

فهذا هو الجزء الرّابع من الوصول في شرح كفاية الأصول للمحقّق آية اللّه الخراساني+ كتبته للإيضاح، واللّه أسأل التوفيق والتمام والثّواب، إنّه وليّ ذلك، وهوالمستعان.

كربلاء المقدّسة

محمّد بن المهدي

ص: 3

ص: 4

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة خبر الواحد، الآيات

اشارة

فصل: المشهور بين الأصحاب: حجيّة خبر الواحد في الجملة بالخصوص.

ولا يخفى: أنّ هذه المسألة من أهمّ المسائل الأصوليّة. وقد عرفت في أوّل الكتاب:

___________________________________________

[فصل حجيّة خبر الواحد]

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، حجيّة خبر الواحد

{فصل} في حجيّة خبر الواحد {المشهور بين الأصحاب} قديماً وحديثاً {حجيّة خبر الواحد} والمراد به ما ليس بمتواتر وإن تعدّدت رواته، وإنّما يُسمّى خبر الواحد لغلبة ذلك فيه وإلّا فالمتعدّد الّذي لم يصل إلى حدّ التواتر أيضاً يقع فيه الكلام، كما لا يخفى {في الجملة} أي: بشرط أن يكون الرّاوي عدلاً أو ثقة ولم يكن موهوناً بإعراض الأصحاب مثلاً، وهكذا {بالخصوص} أي: من جهة أدلّة خاصّة تدلّ على حجيّته لا من باب حجيّة مطلق الظّنّ من حيث الانسداد.

{ولا يخفى أنّ هذه المسألة} أي: حجيّة خبر الواحد {من أهمّ المسائل الأصوليّة} إذ على الخبر الواحد يدور رحى الفقه {وقد عرفت في أوّل الكتاب} في المجلّد الأوّل أنّ هنا إشكالين:

الأوّل: أنّه كيف يمكن جعل هذه المسألة من مسائل علم الأصول والحال أنّ التكلّم في هذه ليس عن أمر عارض للأدلّة الأربعة بل عن دليليّة الدليل، والبحث عن دليليّة الدليل ليس بحثاً عن عوارض الدليل، كما لا يخفى.الثّاني: أنّه كيف يمكن جعل البحث عن حجيّة الخبر الواحد من المسائل الأصوليّة، والحال أنّ موضوع المسألة يلزم أن يكون من صغريات موضوع العلم وليس الخبر الواحد من صغريات موضوع الأصول؟

ص: 5

أنّ الملاك في الأصوليّة صحّة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط، ولو لم يكن البحث فيها عن الأدلّة الأربعة، وإن اشتهر في ألسنة الفحول(1): كونُ الموضوع في علم الأصول هي الأدلّة.

___________________________________________

بيان ذلك: أنّ موضوع علم الأصول على المشهور هو الأدلّة الأربعة: الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل، والخبر الواحد ليس كتاباً وإجماعاً وعقلاً، كما هو واضح، ولا سنّةً؛ لأنّ السّنّة عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره، والخبر الواحد حاكٍ للسنّة وليس هو السّنّة بذاتها.

وقد أجاب عن هذين الإشكالين كلّ من المصنّف والشّيخ وصاحب الفصول وبعض آخر:

أمّا ذلك البعض فقد التزم بالاستطراد في ذكر هذه المسألة في الأصول، ولا يخفى ما فيه، إذ لو كان مثل هذه المسألة استطراداً لم يبق للأُصول شيء يعتدّ به، بالإضافة إلى أنّه لا وجه للاستطراد بعد إمكان جعلها من الأصول.

وأمّا المصنّف(رحمة الله) فقد أجاب ب- {أنّ الملاك في} المسألة {الأصوليّة صحّة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط} للأحكام الشّرعيّة {ولو لم يكن البحث فيها عن الأدلّة الأربعة} ومن المعلوم أنّ نتيجة البحث عن حجيّة الخبر الواحد تقع في طريق الاستنباط؛ لأنّ استنباط كثير منالأحكام يتوقّف على الحجيّة واللّاحجّيّة للخبر، وقد تقدّم سابقاً أنّه لا دليل لكون موضوع الأصول الأدلّة الأربعة {وإن اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الأصول هي الأدلّة} الأربعة.

والحاصل: أنّ موضوع علم الأصول عند المصنّف هو الجامع لمسائله الّتي تشترك في كون نتائجها تقع في طريق الاستنباط، سواء كان من الأدلّة الأربعة أو من غيرها، فلا يرد عليه لزوم خروج مسألة حجيّة خبر الواحد عن مسائل الأصول.

ص: 6


1- قوانين الأصول 1: 9؛ الفصول الغرويّة: 11.

وعليه لا يكاد يفيد في ذلك - أي: في كون هذه المسألة أُصوليّة - تجشّم دعوى: أنّ البحث عن دليليّة الدليل بحث عن أحوال الدليل ضرورة أنّ البحث في المسألة ليس عن دليليّة الأدلّة، بل عن حجيّة الخبر الحاكي عنها.

كما لا يكاد يفيد عليه

___________________________________________

وحيث ذكر المصنّف(رحمة الله) جوابه عن الإشكال شرع في إبطال جواب صاحب الفصول(1)

بقوله: {وعليه} أي: بناءً على كون موضوع الأصول الأدلّة الأربعة {لا يكاد يفيد في ذلك، أي: في كون هذه المسألة} من المسائل ال-{أُصوليّة} ما ارتكبه في الأصول من {تجشّم دعوى أنّ البحث عن دليليّة الدليل بحث عن أحوال الدليل}.

وحاصل جواب الفصول عن الإشكال: أنّ موضوع علم الأصول ليس هي الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة، بل البحث في هذا العلم عن ذات الأدلّة الأربعة حتّىيكون البحثُ عن دليليّة هذه الأدلّة والبحثُ عن عوارض هذه الأدلّة - بعد إثبات دليليّتها - كلاهما بحثاً عن موضوع العلم، لكن هذا التجشّم يرد عليه:

أوّلاً: أنّه خلاف ظاهر كلام العلماء حيث يجعلون الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة - لا بما هي هي - موضوع الأصول.

وثانياً: أنّه جواب عن أحد الإشكالين - وهو الإشكال الأوّل - ويبقى الإشكال الثّاني بحاله {ضرورة أنّ البحث في المسألة ليس عن دليليّة الأدلّة} الأربعة {بل عن حجيّة الخبر الحاكي عنها} والحاكي الّذي هو الخبر مورد البحث والمحكي الّذي هو قول المعصوم وفعله وتقريره موضوع علم الأصول.

وحيث فرغ عن جواب الفصول وعن الإشكال عليه أشار إلى جواب الشّيخ - رحمة اللّه عليه -(2)

عن الإشكال بقوله: {كما لا يكاد يفيد عليه} - أي: بناءً على

ص: 7


1- الفصول الغرويّة: 12.
2- فرائد الأصول 1: 238.

تجشّم دعوى: أنّ مرجع هذه المسألة إلى أنّ السّنّة - وهي قول الحجّة أو فعله أو تقريره - هل تثبت بالخبر الواحد، أو لا تثبت إلّا بما يفيد القطع، من التواتر أو القرينة؟ فإنّ التعبّد بثبوتها مع الشّكّ فيها - لدى الإخبار بها - ليس من عوارضها، بل من عوارض مشكوكها، كما لا يخفى.

مع أنّه

___________________________________________

أنّ موضوع الأصول الأدلّة الأربعة - ما ذكره الشّيخ من {تجشّم دعوى أنّ مرجع هذه المسألة إلى أنّ السّنّة - وهي قول الحجّة أو فعله أو تقريره - هل تثبتبالخبر الواحد أو لا تثبت إلّا بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة} وعلى هذا فيكون موضوع هذه المسألة السّنّة بما هي دليل، فلا يرد أحد الإشكالين المتقدّمين، إذ البحث حينئذٍ عن عوارض الدليل الّذي هو السّنّة.

لكن هذا الجواب أيضاً غير تامّ {ف-} إنّه يرد أوّلاً {أنّ} قولنا: «هل السّنّة تثبت بخبر الواحد أم لا؟» ليس المراد بالثبوت الثبوت الواقعي، بل المراد الثبوت التعبّدي الرّاجع إلى وجوب العمل وترتيب آثار الواقع، ومن المعلوم أنّ هذا المعنى من الثبوت ليس من عوارض السّنّة، إذ لا إشكال في وجوب العمل بالسنّة الواقعيّة، بل هو من عوارض السّنّة المشكوكة الّتي هي الخبر الواحد، إذ {التعبّد بثبوتها} أي: ثبوت السّنّة {مع الشّكّ فيها} أي: في السّنّة {لدى الإخبار بها} أي: بالسنّة {ليس من عوارضها، بل من عوارض مشكوكها} الّذي هو الخبر، فرجع الكلام حول الخبر - الّذي هو ليس من الأدلّة الأربعة في شيء - {كما لا يخفى} على من تأمّل.

{مع أنّه} يرد على كلام الشّيخ(رحمة الله) ثانياً أنّ المبحوث عنه ليس هو الثبوت، بل هو الحجيّة، فإنّا نقول: هل خبر الواحد حجّة أم لا؟ ومن لوازم الحجيّة الثبوت المذكور في كلامكم والملاك الّذي تعدّ به المسألة من مسائل العلم كون نفس

ص: 8

لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجيّة الخبر، والمبحوث عنه في المسائل إنّما هو الملاك في أنّها من المباحث أو من غيره، لا ما هو لازمه، كما هو واضح.

وكيف كان، فالمحكيّ عن السّيّد والقاضيوابن زهرة والطّبرسي وابن إدريس(1)

عدم حجيّة الخبر، واستدلّ: بالآيات النّاهية عن اتّباع غير العلم.

___________________________________________

المبحوث عنه من عوارض الموضوع، لا أن يكون لازمه من العوارض.

والحاصل: أنّ الثبوت {لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجّيّة الخبر} بيان «لما يبحث» {والمبحوث عنه في المسائل إنّما هو الملاك في أنّها} أي: المسائل {من المباحث أو من غيره لا ما هو لازمه} كما ذكره الشّيخ(رحمة الله) {كما هو واضح}.

ولا يخفى أنّ أُسلوب جواب المصنّف في هذا المقام مختلف عن أُسلوب جوابه عن هذا الإشكال في أوّل الكتاب، فراجع.

[أدلة القول بعدم حجيّة الخبر الواحد]

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة عدم حجيّة خبر الواحد

{وكيف كان} الأمر سواء كانت مسألة حجيّة الخبر الواحد من المسائل الأصوليّة أم لا فقد وقع الخلاف في حجيّته {فالمحكي عن السّيّد} المرتضى {والقاضي} ابن البرّاج {وابن زهرة والطّبرسي وابن إدريس} وبعض آخر {عدم حجيّة الخبر} فلا يصحّ الاستناد إليه في استفادة الحكم الشّرعيّ {واستدلّ ب-} الأدلة الأربعة الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل:

أمّا العقل فواضح، إذ الأصل عدم حجيّة مشكوك الحجيّة، فإنّ العقل يقبّحالاستناد إلى ما لم يجعله المولى حجّة بعنوان أنّه من المولى.

وأمّا الكتاب فيدلّ عليه {الآيات النّاهية عن اتّباع غير العلم} كقوله - تعالى - :

ص: 9


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 528؛ المهذّب 2: 598؛ غنية النزوع: 329؛ مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 199؛ السرائر 1: 48.

والرّوايات الدالّة على ردّ ما لم يعلم أنّه قولهم^، - أو لم يكن عليه شاهد من كتاب اللّه أو شاهدان،

___________________________________________

{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1)، وقوله: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(2)، وقوله: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ}(3)، وقوله: {بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ}(4)، وقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ}(5)، وقوله: {وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ}(6)، وقوله: {أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(7)، إلى غيرها.

{و} أمّا السّنّة يدلّ عليه طوائف من {الرّوايات} مثل الرّواية {الدالّة على ردّ ما لم يعلم أنّه قولهم^} كرواية محمّد بن عيسى قال: أقرأني داود ابن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثّالث(علیه السلام) وجوابه بخطّه(علیه السلام) فكتب: نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك^ أجمعين قد اختلفوا علينا فيه فكيف العمل بهعلى اختلافه؟ فكتب(علیه السلام) بخطّه وقرأته: «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموه فردّوه إلينا»(8).

{أو} الرّواية الدالّة على ردّ ما {لم يكن عليه شاهد من كتاب اللّه أو شاهدان} كقوله(علیه السلام): «إذا جاءكم حديث عنّا، فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللّه، فخذوا به وإلّا فقفوا عنده، ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم»(9).

ص: 10


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة يونس، الآية: 36.
3- سورة النحل، الآية: 116.
4- سورة الحج، الآية: 8؛ سورة لقمان، الآية: 20.
5- سورة الأنعام، الآية: 116؛ سورة يونس، الآية: 66.
6- سورة الزخرف، الآية: 23-23.
7- سورة الحجرات، الآية: 6.
8- بصائر الدرجات: 525.
9- الكافي 2: 222.

أو لم يكن موافقاً للقرآن - ، إليهم؛ أو على بطلان ما لا يصدّقه كتاب اللّه؛ أو على أنّ ما لا يوافق كتاب اللّه زخرف؛ أو على النّهي عن قبول حديث إلّا ما وافق الكتاب أو السّنّة إلى غير ذلك.

والإجماعِ المحكي عن السّيّد في مواضع من كلامه(1)،

___________________________________________

{أو} الرّواية الدالّة على ردّ ما {لم يكن موافقاً للقرآن، إليهم} كقول أبي جعفر(علیه السلام): «ما جاءكم عنّا فإن وجدتموه موافقاً للقرآن فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمر عندكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح من ذلك ما شرح لنا»(2).

{أو} الرّواية الدالّة {على بطلان ما لا يصدقه كتاب اللّه} كقوله(علیه السلام): «ما جاءكم من حديث لا يصدّقه كتاب اللّه فهو باطل»(3).{أو} الرّواية الدالّة {على أنّ ما لا يوافق كتاب اللّه زخرف} كقول الصّادق(علیه السلام): «كل شيء مردود إلى كتاب اللّه والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف»(4).

{أو} الرّواية الدالّة {على النّهي عن قبول حديث إلّا ما وافق الكتاب أو السّنّة} كالمروي عن أبي عبداللّه(علیه السلام): «لا تقبلوا علينا حديثاً إلّا ما وافق الكتاب والسّنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة»(5) {إلى غير ذلك} من الأخبار الكثيرة الواردة بهذه المضامين.

{و} أمّا {الإجماع} ف- {المحكي عن السّيّد} المرتضى(رحمة الله) {في مواضع من كلامه}

ص: 11


1- رسائل الشريف المرتضى 3: 309؛ فرائد الأصول 1: 246.
2- وسائل الشيعة 27: 120.
3- تفسير العيّاشي 1: 9؛ المحاسن 1: 221 وفيهما: «ما أتاكم عنّا من حديث...».
4- الكافي 1: 69.
5- رجال الكشّي 2: 489؛ بحار الأنوار 2: 250.

بل حكي عنه أنّه جعل بمنزلة القياس، في كون تركه معروفاً من مذهب الشّيعة.

والجواب: أمّا عن الآيات: فبأنّ الظّاهر منها - أو المتيقّن من إطلاقها - هو: اتّباع غير العلم في الأصول الاعتقاديّة، لا ما يعمّ الفروع الشّرعيّة،

___________________________________________

دعواه صريحاً {بل حكي عنه أنّه جعله بمنزلة القياس في كون تركه معروفاً من مذهب الشّيعة} فإذا قامت الأدلّة الأربعة على حرمة العمل بالخبر الواحد لم يجز الاستناد إليه في استنباط الأحكام الشّرعيّة، وكأنّ الشّيخ(رحمة الله) والمصنّف لم يذكرا دليل العقل؛ لأنّهما نقلا أدلّة القائلين بالمنع ولم يكن فيها ذلك.

{والجواب} أمّا عن دليل العقل فبأنّه ليس استناداً إلى المولى بدوندليل، بل بناء العقلاء كافّة في الاعتماد على خبر الثقة كافٍ في الحجيّة ويكون من الاستناد بالدليل، و{أمّا عن الآيات فبأنّ الظّاهر} المنصرف {منها أو المتيقّن من إطلاقها} بناءً على عدم ظهورها في ما ذكر {هو اتّباع غير العلم في الأصول الاعتقاديّة لا ما يعمّ الفروع الشّرعيّة} فإنّ قوله - تعالى - في سورة النّجم: {إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ تَسۡمِيَةَ ٱلۡأُنثَىٰ * وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ}(1) ظاهر في الأصول، إلّا أنّ الإنصاف أنّ بعض الآيات لا وجه للقول بذلك فيها، بل إطلاقها يشمل جميع أقسام الظّنّ، فإنّ قوله: {وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡٔٗا}(2) له إطلاق قويّ في الشّمول، كما أنّ قوله - تعالى - : {وَلَا تَقۡفُ مَ-ا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَ-رَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا}(3) كذلك، بل استدلال الإمام(علیه السلام) بهذه الآية على حرمة استماع الغناء ممّا يؤيّد الإطلاق.

ص: 12


1- سورة النجم، الآية: 27-28.
2- سورة النجم، الآية: 28.
3- سورة الإسراء، الآية: 36.

ولو سلم عمومُها لها فهي مخصّصة بالأدلّة الآتية على اعتبار الأخبار.

وأمّا عن الرّوايات: فبأنّ الاستدلال بها خال عن السّداد؛ فإنّها أخبار آحاد.

___________________________________________

لكن الإنصاف أنّ مثل العمل بخبر الواحد الجامع للشرائط لا يعدّ من اتّباع غير العلم فهو خارج موضوعاً، ألا ترى أنّ المولى لو قال لعبده: (لا تعملبأوامري حتّى تعلم بها) ثمّ أخبره الثقة بأنّه قال كذا، لم يكن عند العقلاء معذوراً لو ترك الأمر معتذراً بأنّه لا يعلم وقد نهاه المولى عن اتّباع غير العلم.

{ولو سلم عمومها} أي: عموم الآيات {لها} أي: للفروع الشّرعيّة {فهي مخصّصة بالأدلّة الآتية} الدالّة {على اعتبار الأخبار} من الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل.

{وأمّا} الجواب {عن الرّوايات} المتقدّمة الّتي قد ذكر المانعون دلالتها على عدم حجيّة الأخبار {فبأنّ الاستدلال بها خالٍ عن السّداد، فإنّها أخبار آحاد} فإنّها ليست حجّة لا عندنا ولا عند الخصم: أمّا عندنا فلأنّا نرى حجيّة الخبر الواحد وأمّا عند الخصم فبأنّه لا يرى حجيّة الخبر الواحد، فكيف يستدلّ بالخبر الواحد لإثبات كلامه؟

إن قلت: يصحّ استلال الخصم بها جدلاً فيقول إنّكم ترون حجيّة الخبر الواحد فهذا حجّة، وإذا ثبت حجيّة هذا الخبر اقتضى ذلك عدم حجيّة سائر الأخبار الواردة في مختلف أبواب الفقه.

قلت: ما يلزم من وجوده عدمه باطل، ولو ثبت حجيّة هذه الأخبار لزم عدم حجيّتها، فالأخبار المانعة لا يمكن العمل بها سواء قلنا بحجيّة الخبر أم بعدم حجيّته، إذ لو كان الخبر الواحد حجّة لم تكن هذه الأخبار المانعة بحجّة، ولو لم يكن الخبر الواحد حجّة كانت هذه الأخبار المانعة غير حجّة؛ لأنّها أخبار آحاد، فتأمّل.

ص: 13

لا يقال: إنّها وإن لم تكن متواترة لفظاً ولا معنى، إلّا أنّها متواترة إجمالاً؛ للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة.

___________________________________________

{لا يقال}: إنّ الأخبار المانعة ليست من الخبر الواحد حتّى يلزمالإشكال المتقدّم، ف- {إنّها وإن لم تكن متواترة لفظاً ولا معنى إلّا أنّها متواترة إجمالاً}.

والفرق بين هذه الأقسام: أنّ التواتر اللفظي هو: إخبار جماعة يفيد قولهم العلم بلفظ واحد، كإخبار جماعة كثيرة أنّ الرّسول(صلی الله علیه و آله) قال يوم الغدير: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه».

والتواتر المعنوي هو: إخبار جماعة يفيد قولهم العلم بألفاظ مختلفة ممّا يؤدّي إلى معنى واحد، كما لو أخبر أحدهم بأنّه رأى زيداً يقتل أسداً والثّاني بأنّه رآه يصارع نمراً والثّالث بأنّه رآه يحارب فئة وهكذا، فهؤلاء وإن لم يتّفقوا في اللفظ والواقعة إلّا أنّهم متّفقون جميعاً على أنّه شجاع، وهو المعنى المتحصّل عن جميع هذه الإخبارات الآحاديّة.

والتواتر الإجمالي هو: إخبار جماعة بأخبار متعدّدة نعلم إجمالاً بصحّة أحدها وهذا يوجب العلم بالمعنى الأخصّ من الجميع، كما لو قال أحدهم: (جاء زيد راكباً فرساً) وقال الآخر: (جاء زيد مع عمرو) وقال الثّالث: (جاء زيد يوم الجمعة) وهكذا علمنا بمجيء زيد وهو المعنى المتّفق عليه، فإنّ صدق أحد المخبرين في الجملة كافٍ لإثبات ذلك وإن لم يثبت سائر الخصوصيّات.

والأخبار الواردة الدالّة على عدم حجيّة الخبر الواحد كذلك - أي متواترة إجمالاً - {للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة} وهذا العلم حاصل من جهة كثرة هذه الأخبار، وانتشارها في كتب الحديث وتمسّك الفقهاء بها قديماً وحديثاً ومطابقة مضمون بعضها لما هو ضروريّ، كعدم حجيّة الخبر المخالف للقرآن وما أشبه.

ص: 14

فإنّه يقال: إنّها وإن كانت كذلك، إلّا أنّها لا تفيد إلّا في ما توافقت عليه، وهو غير مفيد في إثبات السّلب كليّاً، - كما هو محلّ الكلام، ومحلّ النّقض والإبرام - ،وإنّما تفيد عدم حجيّة الخبر المخالف للكتاب والسّنّة، والالتزامُ به ليس بضائر، بل لا محيص عنه في مقام المعارضة.

___________________________________________

{فإنّه يقال}: في جواب الأخبار الدالّة على عدم حجيّة الخبر الواحد {إِنّها} أي: تلك الأخبار المانعة {وإن كانت كذلك} أي: متواترة إجمالاً {إلّا أنّها لا تفيد} المنع عن حجيّة مطلق الخبر الواحد الّذي كان مراد السّيّد ومن تبعه {إلّا في ما توافقت} تلك الأخبار {عليه} لما عرفت من أنّه مقتضى التواتر الإجمالي {وهو غير مفيد في إثبات السّلب كليّاً} أي: عدم حجيّة الأخبار مطلقاً {كما هو محلّ الكلام} بيننا وبين السّيّد ومن تبعه {ومحلّ النّقض والإبرام}.

والحاصل: أنّ الأخبار المانعة لا يفيد عدم حجيّة الخبر الواحد بقول مطلق {وإنّما تفيد عدم حجيّة الخبر المخالف للكتاب والسّنّة} لأنّه الأمر الجامع بين تلك الأخبار المانعة، فأيّ منها كان صادراً من المعصوم كان دليلاً على ذلك، لما عرفت من مقتضى التواتر الإجمالي {والالتزام به} أي: بكون الخبر المخالف للكتاب والسّنّة ليس بحجّة {ليس بضائر} بالنسبة إلى من يدّعي حجيّة الخبر الواحد، إذ المدّعي لا يريد حجيّة مطلق الأخبار حتّى المخالفة منها للكتاب والسّنّة وإنّما يريد إثبات الحجيّة في الجملة، وذلك ممّا لا ينافيه أخبار المانعين {بل لا محيص عنه} أي: عن الالتزام بعدم حجيّة الخبر المخالف للكتاب والسّنّة {في مقام المعارضة} أي: معارضة ذلك الخبر للكتاب والسّنّة على نحو تعارض التباين، وإن كان في غير تعارض التباين يمكن التزام حجيّة الخبر المخالف لهما.ولا يخفى أنّ عبارة المصنّف(رحمة الله) تحتمل معنيين، توضيحه: أنّ الأخبار المانعة الّتي تقول بعدم حجيّة الخبر المخالف للكتاب والسّنّة يمكن أن تريد بالمخالفة

ص: 15

وأمّا عن الإجماع: فبأنّ المحصّل منه غير حاصل، والمنقول منه للاستدلال به غير قابل،

___________________________________________

مخالفة العموم والخصوص - بأن كان الكتاب عامّاً والخبر المخالف خاصّاً - ويمكن أن تريد مخالفة التباين، ويمكن أن تريد المخالفة مطلقاً، وأيّ الأُمور كان مراداً لا تضرّ الأخبار المانعة؛ لأنّ في الأخبار طائفة كبيرة جدّاً ليست مخالفة للكتاب والسّنّة إطلاقاً لا عموماً ولا خصوصاً ولا تبايناً.

فالأخبار المانعة لا تفيد عدم حجيّة الخبر الواحد مطلقاً، كما هو مراد المانعين وإنّما تفيد عدم حجيّة المخالف تبايناً أو المخالف عموماً وخصوصاً أو المخالف مطلقاً، ولا بأس بالالتزام بذلك بأيّ المعاني كان.

فمراد المصنّف(رحمة الله) بقوله: «المخالف للكتاب» إن كان المخالف مطلقاً أعمّ من التبايني والعمومي كان قوله: «بل لا محيص» ترقّياً بالنسبة إلى المخالف التبايني، وإن كان المخالف العمومي والخصوصي كان قوله: «بل لا محيص» ترقّياً بالنسبة إلى الأخبار المتعارضة، بمعنى أنّ الخبر المخالف للكتاب عموماً وخصوصاً ليس بحجّة، خصوصاً إذا كانت الأخبار متعارضة، وكان أحد المتعارضين مخالفاً للكتاب بطور العموم والخصوص.

ولا يمكن أن يريد المصنّف(رحمة الله) بقوله: «المخالف للكتاب» المخالفة التباينيّة؛ لأنّه لا يبقى مجال للترقّي، كما لا يخفى.

{وأمّا} الجواب {عن الإجماع} الّذي ادّعاه السّيّد على عدم حجيّة الخبرالواحد {فبأنّ المحصّل منه غير حاصل} إذنحن لم نحصل على الإجماع، بل وجدنا الخلاف الكبير، وعلى فرض تحصيل الإجماع ليس بحجّة؛ لأنّه محتمل الاستناد.

وقد عرفت في بحث الإجماع أنّ محتمل الاستناد منه لا يمكن الاعتماد عليه {والمنقول منه للاستدلال به غير قابل} لما عرفت في مبحث الإجماع أنّ الإجماع

ص: 16

خصوصاً في المسألة، كما يظهر وجهه للمتأمّل،

___________________________________________

المنقول لم يقم دليل على حجيّته، مضافاً إلى أنّ السّيّد شخص واحد نقل الإجماع وخبر الواحد باعتراف السّيّد بنفسه ليس حجّة {خصوصاً في} هذه {المسألة} لعلّ وجه الخصوصيّة ما ذكرنا من أنّه خبر واحد ينقل الإجماع، والخبر الواحد ليس بحجّة عند ناقله {كما يظهر وجهه للمتأمّل}.

فإنّه يقال للسيّد: هل يجوز لنا الأخذ بالخبر الواحد؟ فيقول: لا، فنقول: ولذا لا نتمكّن من الأخذ بقولك الّذي تنقل الإجماع؛ لأنّه خبر واحد، لكن للسيّد أن يقول: أنتم تقولون بحجيّة الخبر الواحد فخذوا بخبري؛ لأنّه من الخبر الواحد الّذي هو حجّة عندكم.

ولا يخفى أنّ الحقّ مع المجيب لا مع السّيّد في هذا البحث؛ لأنّ حجيّة قول السّيّد الّذي هو خبر واحد يلزم من وجوده عدمه، وما يلزم من وجوده عدمه محال تكويناً ومحال حجّة.

وقد يشبه هذا البحث ما يقال: إنّ أحد الفلاسفة كان يأخذ أجراً كبيراً لأن يعلّم تلاميذه الجدل حتّى يغلبوا على كلّ مجادل محقّاً كان أم مبطلاً، ولمّا تعلّم منه بعض تلاميذه وأكمل، أراد الفيلسوف أن يأخذ منه الأجر، قال التلميذ: إنّي أُجادلك على عدم استحقاقك للأجر، فإن غلبت عليك كنت أثبتُّ عدماستحقاقك بالدليل، وإن غلبت علَيّ كنت لا تستحقّ الأخذ لعدم تعليمي حسب الشّرط الّذي هو أن لا يغلبني أحد.

قال الفيلسوف: إنّي أُجادلك على الاستحقاق، فإن غلبتك كنت مستحقّاً للأخذ لما أقمت من الحجّة على الاستحقاق، وإن غلبتني كنت مستحقّاً للأخذ لما وفّيت من الشّرط، وهو تعليمك بحيث لا يغلبك أحد.

أقول: لكن مقتضى القاعدة استحقاق الأُستاذ لو غلبه التلميذ في الجدل

ص: 17

مع أنّه معارضٌ بمثله، وموهونٌ بذهاب المشهور إلى خلافه.

وقد استدلّ للمشهور بالأدلّة الأربعة:

فصل: في الآيات الّتي استدلّ بها: فمنها: آية النّبأ، قال اللّه - تبارك وتعالى - : {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ}(1).

___________________________________________

- لوفاء الأُستاذ بالشرط - وعدم استحقاق الأُستاذ لو غلب على التلميذ - لعدم وفائه بالشرط - كما هو ظاهر.

{مع أنّه} أي: الإجماع الّذي ادّعاه السّيّد {معارض بمثله} لدعوى جماعة منهم الشّيخ الإجماع على حجيّة الخبر الواحد {وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه} وكيف يستقيم إجماع يخالفه المشهور؟

[أدلة حجيّة خبر الواحد]

وحيث أتممنا الكلام في أدلّة القائلين بعدم حجيّة الخبر الواحد والجواب عنها، فلنشرع في أدلّة المشهور القائلين بالحجيّة: {وقد استدلّ للمشهور} القائلين بالحجيّة {بالأدلّة الأربعة} الكتابوالسّنّة والإجماع والعقل.

[فصل الآيات التي يستدل بها على حجيّة خبر الواحد ومناقشتها]

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة خبر الواحد، الآيات

{فصل: في الآيات الّتي استدلّ بها} على حجيّة خبر الواحد.

[الاستدلال بآية النبأ]

{فمنها: آية النّبأ} وسمّيت آية النّبأ لاشتمالها على كلمة (النّبأ)، وهذا هو السّبب في تسمية غالب الآيات والسّور بأسامي خاصّة.

{قال اللّه - تبارك وتعالى - :} {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ} أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ}(2).

ص: 18


1- سورة الحجرات، الآية: 6.
2- سورة الحجرات، الآية: 6.

ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوهٍ،

___________________________________________

قال في مجمع البيان: «نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في صدقات بني المصطلق، فخرجوا يتلقّونه فرحاً به، وكانت بينهم عداوة في الجاهليّة، فظنّ أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقال: إنّهم منعوا صدقاتهم وكان الأمر بخلافه، فغضب النّبيّ(صلی الله علیه و آله) وهمّ أن يغزوهم، فنزلت الآية»(1).

ولا يخفى أنّ ما ظهر عند بعض الأصحاب من غضب النّبيّ(صلی الله علیه و آله) وهمّه بغزوهم لعلّه كان خلاف الواقع، بأن كان غضب النّبيّ(صلی الله علیه و آله) على الوليد لكنّهم لم يعرفوا مصبّه، كما أنّ الهمّ لعلّهم فهموه من مثل قوله:(لو صدق الأمر لغزوتهم) أو ما أشبه ممّا ليس بهمّ حقيقيّ وإنّما همّ تعليقي، وقد أنزل اللّه الآية فاضحة له وإعلاماً للمؤمنين، كما يشهد بذلك كون الخطاب لهم، ولعلّهم وجدوا على بني المصطلق وأحبّوا غزوهم.

ويشهد لهذا الاحتمال سياق الآية الّذي هو في مقام ردع المؤمنين عن الأعمال غير الصّالحة مع وجود النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، إذ قبل هذه الآية قوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ * وَلَوۡ أَنَّهُمۡ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخۡرُجَ إِلَيۡهِمۡ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ}(2)، وبعدها قوله - تعالى - : {وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ يُطِيعُكُمۡ فِي كَثِيرٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ}(3)، ممّا تدلّ على أنّهم أرادوا الغزو أو ما أشبه.

{ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه} ذكرها المشكيني(رحمة الله) خمسة - من غير

ص: 19


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 198.
2- سورة الحجرات، الآية: 4-5.
3- سورة الحجرات، الآية: 7.

أظهرها: أنّه من جهة مفهوم الشّرط، وأنّ تعليق الحكم - بإيجاب التبيّن عن النّبأ الّذي جيء به - على كون الجائي به الفاسق، يقتضي انتفاءه عند انتفائه.

___________________________________________

جهة مفهوم الشّرط - وهي: مفهوم الوصف، ودلالة الإيماء، وظهور التبيين في الرّجحان المطلق، فيدلّ على حجيّة كلّ خبر مفيد للظنّ الفعلي، وظهور تعليل عدم شيء في وجود الشّيء الأوّل بعدم الثّاني، وظهور الآية في الرّدع عن كلّ خبر غير حجّة، وحيث اقتصرت على خبر الفاسق دلّت على حجيّة خبرالعادل، والتفصيل توضيحاً وردّاً موكول إلى محلّه(1) {أظهرها أنّه من جهة مفهوم الشّرط}.

ثمّ إنّه من الممكن أن يجعل الموضوع في القضيّة الشّرطيّة المستفادة من الآية (مجيء الفاسق بالنبأ) حتّى تكون القضيّة هكذا (مجيء الفاسق بالنبأ موجب للتبيّن)، ويمكن أن يكون الموضوع (النّبأ) حتّى تكون القضيّة هكذا (النّبأ إن جاء به الفاسق يجب التبيّن عنه)، لكن إذا جعل المستفاد على الطّريقة الأُولى لا مفهوم للقضيّة، إذ عند انتفاء مجيء الفاسق لا موضوع، ويكون حال القضيّة حينئذٍ حال قولنا: (إن رُزِقتَ ولداً فاختنه) حيث لا موضوع للاختتان إن لم يُرزَق ولداً، ولذا جعل المصنّف المستفاد من الآية الطّريقة الثّانية.

{و} يستفاد حينئذٍ المفهوم ل- {أنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النّبأ الّذي جيء به} أي: بذلك النّبأ {على كون الجائي به الفاسق} «على» متعلّق بقوله: «تعليق» {يقتضي} هذا التعليق {انتفاءه} أي: انتفاء إيجاب التبيّن {عند انتفائه} أي: انتفاء كون الجائي به الفاسق.

والحاصل: أنّ الآية تقول: (النّبأ إذا جاء به الفاسق يلزم التبيّن عنه) ومفهومه: أنّ النّبأ إذا لم يجئ به الفاسق لم يلزم التبيّن عنه، وهذا هو المطلوب، إذ يستفاد

ص: 20


1- راجع كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 281.

ولا يخفى: أنّه على هذا التقرير لا يرد: أنّ الشّرط في القضيّة لبيان تحقّق الموضوع، فلا مفهوم له، أو مفهومه السّالبة بانتفاء الموضوع، فافهم.

___________________________________________

منها حجيّة خبر الواحد إذا كان المخبر عادلاً، ويكون المفهوم في هذه الآية مثلالمفهوم في قولنا: (زيد إن جاءك فأكرمه) الّذي يستفاد منه عدم وجوب الإكرام عند عدم المجيء.

{ولا يخفى أنّه على هذا التقرير} الّذي ذكرنا من جعل الموضوع هو (النّبأ) المطلق لا (نبأ الفاسق) {لا يرد} ما ذكره الشّيخ من {أنّ الشّرط في القضيّة} وهو (إن جائكم فاسق) {لبيان تحقّق الموضوع} مثل قوله: (إن رزقت ولداً فاختنه) أو (إن تزوّجت أقم بحقوقها) {فلا مفهوم له} إن جعلنا الشّرط داخلاً في الموضوع حتّى يكون هكذا (مجيء الفاسق بالنبأ موجب للتبيّن) {أو مفهومه السّالبة بانتفاء الموضوع} إن جعلنا الشّرط خارجاً عن الموضوع حتّى يكون هكذا: (نبأ الفاسق إن جيء به يجب التبيّن عنه).

والفرق واضح، فإنّ الأوّل من قبيل (زيد قائم) الّذي لا مفهوم له، والثّاني من قبيل (إنّ الولد إن رزقته فاختنه) الّذي مفهومه إن لم ترزقه فلا تختنه، ولكن عدم الاختتان حينئذٍ لعدم الموضوع الّذي هو الولد {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّه لو أمكن تصوير الآية الكريمة على صورتين فلا معنى لما ذكره المصنّف من جعل الموضوع هو النّبأ حتّى يكون للآية مفهوم، ولذا قال السّيّد الحكيم: «لم يتقدّم منه إلّا تصوير التقرير بلا تعرّض لإثباته، وبيان ما يوجب كونه ظاهر الآية»(1)،

انتهى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ قوله: «بنبأ» نكرة لا وجه لتخصيصها بنبأ الفاسق بعد ما كان الشّرط ظاهراً في أنّه شرط لشيء، ومجرّد وجود مثل: (إن رزقت ولداً) ممّا

ص: 21


1- حقائق الأصول 2: 116.

نعم، لو كان الشّرط هو نفس تحقّقالنّبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضيّة الشّرطيّة مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.

مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ القضيّة ولو كانت مسوقة لذلك، إلّا أنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النّبأ الّذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاءَ وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبّر.

___________________________________________

صيغ لتحقيق الموضوع لا يوجب الخروج عن ظاهر الشّرط في سائر الأماكن المحتمل للأمرين.

{نعم، لو كان الشّرط هو نفس تحقّق النّبأ ومجيء الفاسق به} حتّى يكون حاصل مفاد الشّرطيّة: إذا تحقّق نبأ الفاسق فتبيّنوا {كانت القضيّة الشّرطيّة} المذكورة في قوله - تعالى - : {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ} {مسوقة لبيان تحقّق الموضوع} ويكون حال الشّرط في الآية حاله في قولك: (إن رزقت ولداً) و(إن تزوّجت امرأة)، فلا مفهوم للمقام، ولا تكون الآية على هذا مفيدة لحجيّة خبر الواحد العادل.

{مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ القضيّة ولو كانت مسوقة لذلك} أي: لتحقّق الموضوع كما يقول الشّيخ {إلّا أنّها} مع ذلك تفيد حجيّة خبر العادل بالمفهوم، ببيان أنّ الموضوع لو كان منحصراً فيه أفاد سلب المحمول عن سائر المواضيع، فلو قلنا: (أولاد الصّدّيقة الطّاهرة^ هم المعصومون) أفاد العلّيّة المستفادة من الكلام سلب العصمة عن سائر أولاد النّاس، وهنا كذلك فإنّ القضيّة الشّرطيّة في قوله - تعالى - : {إِن جَآءَكُمۡ} {ظاهرة في انحصار موضوع وجوبالتبيّن في النّبأ الّذي جاء به الفاسق} ومعنى ذلك أنّه ليس مجال للتبيين إذا انتفى هذا الموضوع {فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر} الّذي هو نبأ العادل {فتدبّر} لعلّه إشارة إلى أنّه لا وجه لادّعاء الانحصار، فالآية ليست في هذا المقام وإنّما في مقام التبيّن لدى خبر الفاسق الّذي هو مورد نزول الآية، واستفادة

ص: 22

ولكنّه يشكل: بأنّه ليس له هاهنا مفهوم، ولو سلم أنّ أمثالها ظاهرة في المفهوم؛

___________________________________________

المفهوم منها على هذا التقريب تكون كاستفادة أنّه ليس في إبل المعلوفة زكاة من قوله: (في الغنم السّائمة زكاة).

هذا تمام الكلام في الإشكال الأوّل على دلالة الآية على المفهوم، وكان حاصله أنّ الشّرط لتحقّق الموضوع فلا مفهوم له {و} هنا إشكال ثانٍ ذكره شيخنا المرتضى(1)

تبعاً للعدّة(2)

والذريعة(3)

والغنية(4)

ومجمع البيان(5)

والمعارج(6)

وغيرها، وهو أنّه لو سلّمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل غير المفيد للعلم لكن نقول: إنّ مقتضى عموم التعليل - في قوله: {أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ}(7) -وجوب التبيّن في كلّ خبر لا يؤمن الوقوع في النّدم من العمل به إن كان المخبر عادلاً، فيقع التعارض بين عموم التعليل المفيد لوجوب التبيّن عند كلّ خبر لا يؤمن الوقوع في الخطأ، وبين المفهوم الّذي يفيد عدم لزوم التبيّن عند خبر العادل، لكن اللّازم تقديم العلّة؛ لأنّها حاكمة على المعلّل، ولذا لو قال المولى: (صلّ خلف العلماء؛ لأنّهم عدول) أفادت العلّة عدم جواز الصّلاة خلف الفاسق العالم وإن كان عموم العلماء يشمله.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {لكنّه يشكل} استفادة حجيّة خبر العادل من الآية {بأنّه ليس له هاهنا مفهوم، ولو سلم أنّ أمثالها ظاهرة في المفهوم} وذلك

ص: 23


1- فرائد الأصول 1: 258.
2- العدة في أصول الفقه 1: 113.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 56.
4- غنية النزوع: 475.
5- مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 199.
6- معارج الأصول: 208.
7- سورة الحجرات، الآية: 6.

لأنّ التعليل بإصابة القوم بالجهالة - المشترك بين المفهوم والمنطوق - يكون قرينة على أنّه ليس لها مفهوم.

ولا يخفى: أنّ الإشكال إنّما يبتنى على كون الجهالة بمعنى عدم العلم، مع أنّ دعوى أنّها بمعنى السّفاهة، وفعلِ ما لا ينبغي صدوره من العاقل غيرُ بعيدةٍ.

___________________________________________

{لأنّ التعليل} المذكور في الآية {بإصابة القوم بالجهالة} لدى عدم التبيّن {المشترك بين المفهوم والمنطوق} إذ خبر العادل أيضاً محتمل للخطأ، فإنّ العادل ولو لم يتعمّد الكذب إلّا أنّه محلّ السّهو والنّسيان {يكون} هذا التعليل {قرينة على أنّه ليس لها مفهوم} إذ بعد التعارض وتقديم التعليل لا يبقى للمفهوم مجال.

{ولا يخفى} أنّ الجهالة لها معنيان:الأوّل: عدم العلم، كما تقتضي ذلك مادّه اللفظ، مشتقّة من الجهل الّذي هو خلاف العلم.

الثّاني: السّفاهة الّتي هي فعل ما لا ينبغي من العقلاء، وهذا هو المنصرف من لفظة الجهالة، كقوله - تعالى - : {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ}(1).

إذا عرفت ذلك قلنا: {إنّ الإشكال} المذكور وهو كون العلّة في الآية - وهي {أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(2) - شاملة لخبر العادل كما تشمل خبر الفاسق {إنّما يبتنى على كون الجهالة بمعنى عدم العلم} إذ لا فرق بين خبر العادل وخبر الفاسق في أنّ المخبر به لا يعلم الواقع {مع أنّ} المحتمل أن لا تكون الجهالة بمعنى عدم العلم، بل تكون بمعنى السّفاهة، فتكون مفاد الآية: تفحّصوا عن خبر الفاسق لئلّا تعملوا عملاً سفاهيّاً، فإنّ {دعوى أنّها} أي: الجهالة {بمعنى السّفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة} وحينئذٍ لا يرد الإشكال على المفهوم،

ص: 24


1- سورة النحل، الآية: 119.
2- سورة الحجرات، الآية: 6.

ثمّ إنّه لو سلّم تماميّة دلالةِ الآية على حجيّة خبر العدل، ربّما أُشكل شمولُ مثلها

___________________________________________

إذ الإقدام على خبر الفاسق جهالة وسفاهة لا الإقدام على خبر العادل، فتكون الآية بمعنى: لا تتّبعوا خبر الفاسق لأنّ اتّباعه سفاهة، أمّا خبر العادل فلا بأس باتّباعه؛ لأنّه ليس سفاهة.

لكن ربّما يورد على هذا بأمرين:الأوّل: أنّ كون الجهالة بمعنى السّفاهة خلاف معناه اللغوي.

والجواب: أنّ هذا المعنى هو المنصرف من لفظ (الجهالة) ولو بمعونة الهيئة، ولا منافاة بين أن تكون للهيئة مفاداً وبين أن تكون للمادّة مفاداً، ويكون المنصرف من أحدهما غير المنصرف من الآخر.

الثّاني: أنّه لا يمكن أن يكون لفظ (الجهالة) في الآية بمعنى السّفاهة؛ لأنّ الآية وردت ردعاً للنبيّ(صلی الله علیه و آله) وأصحابه الّذين عزموا غزو أُولئك، ومن المعلوم أنّ النّبيّ وأصحابه لا يعزمون عملاً سفهائيّاً حتّى يردعهم اللّه - تعالى - فلا بدّ أن تكون الآية بمعنى عدم العلم.

والجواب: أنّ إقدامهم للغزو لم يكن سفاهيّاً؛ لأنّهم - حسب الظّاهر - لم يكونوا يعلمون فسق الوليد المخبر للخبر، فنبّههم اللّه - تعالى - بأنّه من موارد كون الإقدام على وجه السّفاهة، وذلك مثل أن تريد عملاً لما سمعت من صوت من وراء جدار، ثمّ قال لك شخص: (لا تعمل هذا العمل السّفهائي فإنّ النّاطق كان مسجّلة لا إنساناً).

{ثمّ إنّه لو سلّم تماميّة دلالة الآية على حجيّة خبر العدل} فإنّها إنّما تشمل الأخبار بلا واسطة، كما لو أخبر زرارة بأنّ الصّادق(علیه السلام) قال كذا، أمّا الأخبار المشتملة على واسطة - كما لو أخبر محمّد بن مسلم بأنّ زرارة روى عن الصّادق(علیه السلام) كذا - فلا تشملها الآية، فإنّه {ربّما أشكل شمول مثلها} أي: مثل آية

ص: 25

للروايات الحاكية لقول الإمام(علیه السلام) بواسطة أو وسائط؛

___________________________________________

النّبأ من كلّ ما دلّ على حجيّة خبر العادل {للروايات الحاكيةلقول الإمام(علیه السلام) بواسطة أو وسائط} كما لو روى زيد عن عمرو عن بكر عن خالد عن الإمام(علیه السلام).

وحاصل الإشكال: أنّه لو أخبر الصّدوق عن الصّفّار عن العسكري(علیه السلام) بوجوب نفقة الزوجة لم يكن قول الصّدوق مشمولاً لآية النّبأ؛ لأنّه خبر مع الواسطة، وذلك لأنّ (صدّق العادل) - المستفاد من الآية - لا يشمل الخبر مع الواسطة. بيانه: أنّ (صدّق العادل) يشمل خبر العادل الّذي يكون ذا أثر، فإنّ وجوب التصديق بملاحظة ترتيب الأثر، وإلّا فلو أخبر العادل بأنّ النّهر الفلاني عرضه خمسة أذرع لم يكن معنى لوجوب تصديقه فلا يشمل (صدّق العادل) خبر الصّدوق؛ لأنّه لا أثر لخبر الصّدوق.

إن قلت: أثره ثبوت خبر الصّفّار.

قلت: لا يمكن أن يكون ذلك أثره، إذ يشترط أن يكون الخبر ذا أثر قبل وجود (صدق العادل) حتّى يكون (صدق العادل) وارداً على الخبر ذي الأثر، وخبر الصّدوق لا أثر له قبل وجود (صدق العادل)، إذ أثر خبر الصّدوق أنّ الصّفّار أخبره بذلك، وهذا لا أثر له إلّا بعد أن يلحق به (صدّق العادل) حتّى يكون الصّفّار صادقاً في إخباره عن العسكري، ولا يمكن أن يكون (صدّق العادل) في مرتبة الحكم لخبر الصّدوق وفي مرتبة الموضوع له.

وهذا الإشكال بعينه يرد في ما لو أخبرنا رجل عادل بأنّ زيداً الرّاوي عادل، فإنّ (صدّق العادل) يقول: (صدّق الرّجل حتّى يثبت أنّ زيداً عادل) لكن كون زيد عادلاً لا أثر له إلّا لحوق (صدّق العادل) به ليثبت الخبر الّذي يرويه زيد، وحينئذٍ يكون (صدّق العادل) في مرتبة الحكم لإخبار الرّجل وفي مرتبة الموضوع له. ومن المستحيل أن يكون شيء واحد في مرتبة الحكم وفي مرتبة

ص: 26

فإنّه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق -الّذي ليس إلّا بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من الأثر الشّرعي - بلحاظ نفس هذا الوجوب، في ما كان المخبر به خبرَ العدل أو عدالة المخبر؟ لأنّه وإن كان أثراً شرعيّاً لهما، إلّا أنّه بنفس الحكم - في مثل الآية - بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض.

___________________________________________

الموضوع؛ لأنّه بما هو حكم متأخّر وبما هو موضوع متقدّم، ولا يمكن أن يكون شيء متأخّراً ومتقدّماً في زمان واحد.

إذا ظهر لديك الإشكال نقول: إنّ المصنّف أشار إلى هذا الإشكال بقوله: {فإنّه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق - الّذي ليس إلّا بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من الأثر الشّرعي - بلحاظ نفس هذا الوجوب} حتّى يكون الموضوع لوجوب التصديق هو نفس وجوب التصديق، فإنّ أثر إخبار الصّدوق بأنّ الصّفّار أخبره ليس إلّا وجوب تصديق الصّفّار، فوجوب التصديق مقدّم على إخبار الصّدوق - لأنّه أثر إخبار الصّدوق - ومؤخّر عن إخباره؛ لأنّه حكم لإخبار الصّدوق {في ما كان المخبر به} بصيغة المفعول {خبر العدل} بأن قال الصّدوق: (أخبرني الصّفّار) {أو عدالة المخبر} بأن قال الصّدوق: (الصّفّار عادل) {لأنّه} أي: وجوب التصديق {وإن كان أثراً شرعيّاً لهما} أي: لخبر العدل أو لعدالة المخبر {إلّا أنّه} أي: إنّ هذا الأثر- الّذي هو صدق العادل الملحق بخبر الصّفّار - بعد ثبوت عدالته بعد ثبوت إخباره {بنفس الحكم} بصدق العادل {في مثل الآية} الواردة في نبأ الوليد وغيرها من كلّ ما دلّ على حجيّة خبر العادل، فإنّ الحكم {بوجوب تصديق خبر العدل} لا يكون حكماً لخبر العدل متأخّراً عنهوموضوعاً متقدّماً {حسب الفرض} الّذي ذكرنا من أنّه لا أثر للمخبر إلّا وجوب تصديقه، فلو كان الصّدوق أخبر بوجوب النّفقة قلنا: (خبر الصّدوق الّذي أثره وجوب النّفقة صدقه) أمّا لو أخبر الصّدوق بأنّ الصّفّار أخبره بكذا صار الحاصل: خبر

ص: 27

نعم، لو أنشأ هذا الحكم ثانياً، فلا بأس في أن يكون بلحاظه أيضاً؛ حيث إنّه صار أثراً بجعل آخر، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع، بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلّا جعل واحد، فتدبّر.

___________________________________________

الصّدوق الّذي أثره صدق الصّفّار صدقه، ف- (صدّق) صار في مرتبة الحكم وفي مرتبة الموضوع، وهذا مستحيل.

{نعم، لو أنشأ هذا الحكم} الّذي هو وجوب التصديق {ثانياً} كأن قال: (صدّق العادل) ثمّ قال: (وصدّق العادل مرّة ثانية) {فلا بأس في} أن يكون كلّ واحد من الحكم والأثر تصديق العادل؛ لأنّه أنشأ (صدّق) أوّلاً فجعله أثراً لخبر الصّدوق، ثمّ أنشأه ثانياً وجعله حكماً على خبر الصّدوق، فجاز {أن يكون} الأثر {بلحاظه} أي: بلحاظ وجوب التصديق {أيضاً} كما كان الحكم هو وجوب التصديق {حيث إنّه} أي: وجوب التصديق {صار} حكماً بجعل، وصار {أثراً بجعل آخر} إذ المفروض أنّه أنشأه مرّتين {فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع} الّذي هو بديهيّ الاستحالة {بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلّا جعل واحد} الّذي لا يمكن أن يكون في مرتبة الحكم والموضوع معاً {فتدبّر} جيّداً حتّى لا تتوهّم أنّه يحتاج كلّ واسطة إلى جعل، وذلك لأنّ جعلين كافٍ في الخبر مع الواسطة ولو كان هناك أكثر منواسطتين، إذ جميع تلك الوسائط تنحلّ إلى حكم وموضوع، فأحد الجعلين يقوم مقام الموضوع والجعل الثّاني يقوم مقام الحكم، فلا حاجة إلى أكثر من إنشائين.

وقد يقرّر الإشكال المذكور على وجه آخر، كما فصّل في الشّروح والحواشي، لكن حيث كان بيانه خارجاً عن شرح اللفظ، وكان سبباً لتشويش المبتدي، آثرنا تركه.

وقد تبيّن أنّ المتحصّل من الإشكال أنّ أدلّة حجيّة خبر الواحد إنّما تشمل ما

ص: 28

ويمكن الذبّ عن الإشكال: بأنّه إنّما يلزم إذا لم يكن القضيّة طبيعيّة، والحكمُ فيها بلحاظ طبيعة الأثر، بل بلحاظ أفراده، وإلّا

___________________________________________

إذا كان الخبر بدون واسطة، وكان المخبر به حكماً شرعيّاً، كما لو أخبرنا زرارة أنّ الإمام(علیه السلام) قال كذا، أمّا لو كان الخبر مع الواسطة، كما لو أخبرنا الصّدوق أنّ الصّفّار أخبره عن العسكري(علیه السلام) بكذا، أو كان المخبر به عدالة الرّاوي، كما لو أخبر الصّدوق أنّ الصّفّار عادل، فلا تشملهما أدلّة حجيّة خبر الواحد.

{ويمكن الذبّ عن الإشكال} بأن نقول: إنّ أدلّة حجيّة الخبر تشمل الخبر ذي الوسائط وتشمل الإخبار بالعدالة كما تشمل الخبر بدون الوسائط والخبر بالحكم، وذلك {ب-} أحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ القضيّة على قسمين:

الأوّل: القضيّة الخارجيّة نحو (زيد قائم)، ومن المعلوم أنّه لا يمكن أن يؤخذ ما في مرتبة (زيد) الموضوع في مرتبة (قائم) الحكم.

الثّاني: القضيّة الطّبيعيّة نحو (كلّ خبري صادق)، فإنّ الحكم بالصدق ليسعلى أثر الخبر الخارجي حتّى يلزم وجود تلك الأخبار مقدّمة على هذه الجملة - أي: (كلّ خبري صادق) - وإنّما يكون الحكم بالصدق على طبيعة الخبر الصّادر من المتكلّم، ومن المعلوم أنّ طبيعة الخبر تشمل جميع أخباره الّتي منها هذا الخبر الّذي هو (كلّ خبري صادق)، فهذا الخبر أيضاً من مصاديق (كلّ خبري) وما نحن فيه من هذا القبيل ف- {إنّه إنّما يلزم} الإشكال المتقدّم {إذا لم يكن القضيّة طبيعيّة} بأن كانت خارجيّة، فإنّه لا يمكن حينئذٍ أن يكون صدق العادل أثراً وأن يكون حكماً.

{و} إذا لم تكن القضيّة طبيعيّة بأن لم يكن {الحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر، بل} كان {بلحاظ أفراده} ورد الإشكال المتقدّم {وإلّا} يكن كذلك، بأن كانت

ص: 29

فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه، سراية حكم الطّبيعيّة إلى أفراده، بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع، هذا.

مضافاً إلى القطع بتحقّق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر، - أي: وجوب التصديق -

___________________________________________

القضيّة طبيعيّة بأن كان مفاد (صدق العادل) تصديق كلّ خبر ذي أثر في الجملة ولو كان الأثر ناشئاً من نفس صدق العادل {فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية حكم الطّبيعيّة إلى أفراده بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع} والسّرّ أنّ الطّبيعي بهذا المعنى لا مرتبة له حتّى يكون التأخّر الرّتبي في بعض أفراده ينافي التقدّم الرّتبي في بعض أفراده الأُخر، فكأنّه خارج عن عالم الرّتب، كما أنّ الشّيء الّذي لا زمان له خارج عن محيط الزمان، فلا يصحّ أن يقال: إنّه مقدّم على الشّيء الفلاني ومؤخّر عن الشّيء الفلاني، إذالتقدّم والتأخّر إنّما يصحّان في الموضوع القابل.

وإن شئت قلت: إنّ الرّتبة أمر اعتباريّ له صقع خاصّ في الاعتبار ولم يعتبر لمثل (كلّ خبري صادق) و(صدق العادل) وأشباههما رتبة حتّى لا يشمل (كلّ خبري...) لنفسه وحتّى يستحيل أن يكون (صدق...) أثراً وحكماً في آن واحد.

{هذا} تمام الكلام في الجواب الأوّل عن الإشكال {مضافاً إلى} الجواب الثّاني، وهو أنّا نعلم أنّ صدق العادل لا يمكن أن يكون أثراً وحكماً في ظرف واحد للاستحالة المذكورة، لكن حصول {القطع بتحقّق ما هو المناط} كافٍ في شموله للإخبار بالواسطة، كما أنّ القطع بأنّه ليس خصوصيّة لسائر أخبار القائل: (كلّ خبري صادق) كافٍ في القول بأنّ خبر هذا أيضاً صادق، ففي ما نحن فيه نقطع بتحقّق ما هو المناط {في سائر الآثار} المترتّبة على الإخبار بلا واسطة {في هذا الأثر} الخاصّ {أي: وجوب التصديق} فكما أنّ كون الخبر ذا أثر عمليّ كافٍ

ص: 30

بعد تحقّقه بهذا الخطاب، وإن كان لا يمكن أن يكون ملحوظاً لأجل المحذور.

وإلى عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الآثار، في وجوب الترتيب لدى الإخبار بموضوع صار أثرُه الشّرعي وجوب التصديق، وهو خبر العدل، ولو بنفس الحكم في الآية، فافهم.

ولا يخفى:

___________________________________________

في وجوب تصديقه - بسبب شمول صدق العادل له - كذلك كون أثر الخبر تصديق العادل كافٍ في وجوب تصديقه - بسب بشمول مناط صدق العادل له - {بعد تحقّقه} أي: تحقّق ذلك الأثر {بهذا الخطاب} أي: بخطاب (صدّق العادل) فإذا تحقّق أثر التصديق في خبر ذي الواسطة كان مناط(صدّق العادل) شاملاً له.

{وإن كان لا يمكن أن يكون} هذا الأثر النّاشئ من نفس (صدّق العادل) {ملحوظاً} عند التكلّم ب- (صدّق العادل) {لأجل المحذور} المذكور، وهو لزوم اتحاد مرتبة الحكم والموضوع.

{و} هذا تمام الكلام في الجواب الثّاني، مضافاً {إلى} الجواب الثّالث، وهو {عدم القول بالفصل} فلو سلّمنا أنّ (صدّق العادل) لا يشمل الأثر النّاشئ من نفسه، وسلّمنا أنّه لا قطع بالمناط نقول: لا قول بالفصل {بينه} أي: بين هذا الأثر النّاشئ من صدّق العادل {وبين سائر الآثار في وجوب الترتيب} أي: ترتيب هذا الأثر {لدى الإخبار بموضوع صار أثره الشّرعي وجوب التصديق، وهو} أي: ذلك الموضوع {خبر العدل} فيجب ترتيب الأثر على خبر الصّدوق إذا أخبر بموضوع هو خبر الصّفّار؛ لأنّه ذو أثر شرعيّ {ولو} كان ذلك الأثر الشّرعي {بنفس الحكم} بوجوب التصديق {في الآية} المباركة النّازلة بشأن الوليد {فافهم} فإنّ المقام دقيق {و} إن كان الخارج واضحاً، حتّى أنّ مثل هذه الشّبهة تعدّ في مقابل البديهة، كما {لا يخفى}.

ص: 31

أنّه لا مجال - بعد اندفاع الإشكال بذلك - للإشكال في خصوص الوسائط من الأخبار - كخبر الصّفّار المحكي بخبر المفيد مثلاً - بأنّه لا يكاد يكون خبراً تعبّداً إلّا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشّامل للمفيد، فكيف يكون هذا الحكم - المُحَقِّق لخبر الصّفّار تعبّداً مثلاً - حكماً له أيضاً؟

___________________________________________

ثمّ {إنّه لا مجال بعد اندفاع الإشكال} المتقدّمالّذي كان يقول: يلزم أن يكون الخبر ذا أثر مع قطع النّظر عن (صدّق العادل) فكيف يمكن أن يكون صدق العادل أثراً وحكماً {بذلك} الجواب الّذي ذكرنا من أنّ قضيّة (صدّق العادل) طبيعيّة أو نقطع بالملاك أو لا قول بالفصل، فإنّه بعد هذه الأجوبة {للإشكال في خصوص الوسائط من الأخبار} وذلك {كخبر الصّفّار المحكّي بخبر المفيد مثلاً} في ما لو حكى لنا المفيد عن الصّفّار عن الإمام خبراً {بأنّه} كيف يمكن شمول (صدق العادل) للوسائط، إذ كون الصّفّار أخبر بهذا الخبر لم يثبت عندنا وجداناً، وإنّما (صدّق العادل) المنصب على كلام الصّدوق هو الّذي أثبت لنا أنّ الصّفّار قال كذا، فقول الصّفّار إنّما ثبت ب- (صدق العادل)، ولازمه تقدّم (صدق العادل) على قول الصّفّار؛ لأنّ (صدّق) علّة كونه تعبّديّاً، فكيف يمكن أن يكون (صدّق) حكماً لقول الصّفّار.

وإن شئت قلت: إنّ (صدّق) علّة قول الصّفّار فمقدّم عليه، فلا يمكن أن يكون (صدّق) حكماً له ومؤخّراً عنه، فلا يمكن أن يكون بإنشاء واحد إيجاد الموضوع تعبّداً والحكم عليه بوجوب التصديق، إذ {لا يكاد يكون} قول الصّفّار {خبراً تعبّداً إلّا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشّامل للمفيد} فإنّ (صدّق العادل) المتوجّه إلى المفيد هو الّذي أثبت قول الصّفّار {فكيف يكون هذا الحكم المُحَقِّق} على صيغة الفاعل {لخبر الصّفّار تعبّداً مثلاً حكماً له أيضاً} أي: لخبر الصّفّار حتّى نثبت ب- (صدّق العادل) أنّ الصّفّار صادق في ما يرويه عن الإمام(علیه السلام)؟

ص: 32

وذلك لأنّه إذا كان خبر العادل ذا أثر شرعيّ حقيقة - بحكم الآية - وجب ترتيب أثره عليه، عند إخبار العدل به،كسائر ذوات الآثار من الموضوعات؛ لما عرفت من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر بنحو القضيّة الطّبيعيّة،

___________________________________________

ولا يخفى الفرق بين هذا الإشكال والإشكال السّابق، فإنّ الإشكال السّابق كان يقول: الخبر يلزم أن يكون ذا أثر حتّى يشمل (صدّق) ففي الأخبار ذات الوسائط لا يمكن أن يكون (صدّق) أثراً وحكماً، وهذا الإشكال يقول: إنّ الخبر يلزم أن يكون أوّلاً حتّى يحكم عليه ب- (صدّق)، فإذا كان (صدّق) موجداً للخبر تعبّداً، فلا يمكن أن يكون حكماً لهذا الخبر الّذي أوجده.

لكن من جواب الإشكال الأوّل يتبيّن جواب هذا الإشكال أيضاً {وذلك لأنّه إذا كان خبر العادل ذا أثر شرعيّ حقيقة بحكم الآية} الظّرف متعلّق بما بعده، أي: قوله: {وجب} الخ، يعني: أنّ خبر العادل إذا كان ذا أثر شرعيّ وجب بحكم الآية، أي: قوله - تعالى - : {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ} الآية(1) {ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به} فإذا ثبت خبر الصّفّار - بحكم (صدّق) المتوجّه إلى خبر المفيد - صار خبر الصّفّار من أفراد الخبر ذي الأثر، وحينئذٍ يتوجّه إليه (صدّق) لما عرفت من أنّ (صدّق العادل) على نحو القضيّة الطّبيعيّة، فحيثما ثبت هذه الطّبيعة ولو بواسطة نفس (صدّق) توجّه الحكم إليها {كسائر ذوات الآثار من الموضوعات} فكما يشمل (صدّق) خبر زرارة بوجوب النّفقة، وخبر ابن مسلم باستحباب غسل الجمعة، وخبر بريد بكراهة نوم بين الطّلوعين، كذلك يشمل خبر الصّفّار - الّذي صار بنفسه خبراً تعبّداً بحكم (صدق) - لأنّ خبر الصّفّار أيضاً من الأخبار ذوات الأثر {لما عرفت من شمول مثل الآية للخبرالحاكي للخبر} كخبر المفيد الحاكي لخبر الصّفّار {بنحو القضيّة الطّبيعيّة} متعلّق ب- «شمول».

ص: 33


1- سورة الحجرات، الآية: 6.

أو لشمول الحكم فيها له مناطاً، وإن لم يشمله لفظاً، أو لعدم القول بالفصل، فتأمّل جيّداً.

ومنها: آية النّفر، قال اللّه - تبارك وتعالى - : {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ} الآية(1).

___________________________________________

هذا تمام الكلام في الجواب الأوّل من الإشكال {أو} نجيب بالجواب الثّاني وهو أنّ المناط الّذي كان في الخبر بلا واسطة موجود في الخبر ذي الوسائط {لشمول الحكم فيها} أي: في الآية {له} أي: للخبر ذي الوسائط {مناطاً وإن لم يشمله لفظاً} لما تقدّم من أنّه لا يمكن أن يكون موجوداً للموضوع وحكماً له في حال واحد {أو} نجيب بالجواب الثّالث بأنّه لا فرق بين الخبر بدون الواسطة والخبر مع الواسطة {لعدم القول بالفصل} فمن قال بحجيّة أحدهما قال بحجيّة الآخر، فالتفكيك بينهما بأن يكون الخبر بدون الواسطة حجّة والخبر مع الواسطة ليس حجّة خرق للإجماع المركّب {فتأمل جيّداً}.

[الاستدلال بآية النفر]

{ومنها} أي: من الآيات الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر الواحد {آية النّفر} سمّيت به لوجود كلمة (النّفر) فيها {قال اللّه - تبارك وتعالى -} في سورة البراءة: {وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡطَآئِفَةٞ} وتمام {الآية}: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}(2)، وقد فسّرت الآية الكريمة بثلاث تفاسير:

الأوّل: أنّ جماعة من كلّ قبيلة يخرجون إلى الغزو ويبقى الباقون عند النّبيّ(صلی الله علیه و آله) ليتعلّموا منه، فإذا رجع الغزاة علّمهم القاعدون ما نزل على النّبيّ(صلی الله علیه و آله)

ص: 34


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة التوبة، الآية:122.

وربّما يستدلّ بها من وجوه:

أحدُها: أنّ كلمة (لعلّ) وإن كانت مستعملة - على التحقيق - في معناه الحقيقي - وهو الترجّي الإيقاعي الإنشائي - ،

___________________________________________

إبّان غيابهم عن المدينة.

الثّاني: أنّ المراد تفقة النّافرين، وذلك بتبصّرهم آيات اللّه تعالى من الظّهور على المشركين ونصرة المؤمنين ثمّ يخبروا قومهم الكافرين، لعلّ القوم يؤمنون بالإسلام.

الثّالث: أن يأتي من البلاد إلى النّبيّ(صلی الله علیه و آله) جماعة من كلّ قبيلة ليتعلّموا العلم ثمّ يرجعون إلى بلادهم منذرين قومهم بما تعلّموا.

أقول: ولا يخفى أنّ الآية تحتمل أكثر من هذه الوجوه الّتي فسّرت بها.

{وربّما يستدلّ بها} لحجيّة الخبر الواحد {من وجوه} ثلاثة:

{أحدها: أنّ كلمة (لعلّ)} الواردة في آخر الآية في قوله: {لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} إنّما تكون لإنشاء الترجّي، وإنشاء الترجّي قد يكونبداعي الرّجاء الحقيقي، وقد يكون بداعي إفادة المطلوب، لما تقدّم في المجلّد الأوّل أنّ أمثال هذه الأُمور إنّما تنشأ بها مضامينها، والداعي إلى الإنشاء إمّا إفادة معانيها لقيام معانيها الحقيقيّة بالنفس، وإمّا إظهار بعض الأُمور الأُخر كصيغة الأمر الّتي تنشأ لإظهار الطّلب، فقد يكون الداعي إلى هذا الإظهار الطّلب الحقيقي وقد يكون الداعي السّخريّة والامتحان وهكذا.

وعلى هذا فاستعمال (لعلّ) في إنشاء الترجّي استعمال في الموضوع له ولو كان المراد بها إفادة المطلوبيّة، لا كما زعمه البعض بأنّها لو لم تُستعمل في الترجّي الحقيقي تكون مجازاً، فهذه الكلمة {وإن كانت مستعملة على التحقيق في معناه الحقيقي - وهو الترجّي الإيقاعي الإنشائي -} أي: إنشاء إيقاع الرّجاء

ص: 35

إلّا أنّ الداعي إليه - حيث يستحيل في حقّه تعالى أن يكون هو الترجّي الحقيقي - كان هو محبوبيّة التحذّر عند الإنذار، وإذا ثبت محبوبيّته ثبت وجوبه شرعاً؛ لعدم الفصل، وعقلاً؛ لوجوبه مع وجود ما يقتضيه، وعدم حسنه - بل عدم إمكانه - بدونه.

ثانيها:

___________________________________________

{إلّا أنّ الداعي إليه حيث يستحيل في حقّه تعالى أن يكون هو الترجّي الحقيقي} لاعتبار جهل المترجّي بوقوع المرجوّ، واللّه سبحانه عالم بالعواقب.

{كان هو} أي: الداعي {محبوبيّة التحذّر عند الإنذار} وبهذه المقدّمة ثبت أنّ التحذّر عقيب الإنذار محبوب، وبالمقدّمة الثّانية يثبت أنّ معنى المحبوبيّة وجوب الحذر، فهاتان المقدّمتان تفيدان وجوبقبول القوم خبر المنذرين، ولا يكون ذلك إلّا إذاكان خبر الواحد حجّة، إذ لولا الحجيّة لم يجب قبول خبر المنذرين.

{و} على كلّ {إذا ثبت محبوبيّته} أي: محبوبيّة التحذّر {ثبت وجوبه} أي: التحذّر {شرعاً، لعدم الفصل} بين المحبوبيّة والوجوب عند العلماء، فكلّ من قال بمحبوبيّة التحذّر أوجبه؛ لأنّه يرى حجيّة خبر الواحد، وكلّ من لا يقول بوجوب التحذّر لا يقول بمحبوبيّته؛ لأنّه لا يرى حجيّة خبر الواحد، لكن الآية تقول بمحبوبيّته، فاللّازم القول بوجوبه {وعقلاً} عطف على قوله: «شرعاً» {لوجوبه مع وجود ما يقتضيه} أي: إنّ المقتضي للحذر لو كان موجوداً - بأن كان هناك ما يكره - وجب التحذّر {وعدم حسنه} أي: التحذّر {بل عدم إمكانه بدونه} أي: بدون وجود المقتضي؛ لأنّه إذا كان المكروه مأموناً لا معنى للحذر فلا وجه لحسنه.

{ثانيها} أي: ثاني تلك الوجوه الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر الواحد من الآية الكريمة: أنّ النّفر واجب؛ لأنّه وقع عقيب التّخصيص، والإنذار واجب؛ لأنّه غاية للنفر الواجب، والتحذّر واجب؛ لأنّه غاية للإنذار الواجب، ولا يكون التحذّر واجباً إلّا إذا كان خبر الواحد حجّة.

ص: 36

أنّه لمّا وجب الإنذار؛ - لكونه غايةً للنفر الواجب، كما هو قضيّة كلمة (لولا) التحضيضيّة - وجب التحذّر، وإلّا لغا وجوبه.

ثالثها: أنّه جعل غاية للإنذار الواجب، وغايةُ الواجب واجبة. ويشكل الوجه الأوّل:

___________________________________________

والحاصل: {أنّه لمّا وجب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب} واستدلّ لكون الإنذار واجباً بقوله: {كما هوقضيّة} أي: مقتضى {كلمة (لولا) التحضيضيّة} فإنّ (لولا) إذا دخلت على المضارع أفادت طلب الفعل والحثّ عليه وإذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ على ترك الفعل، كما ذكره النُّحاة واللغويّون {وجب التحذّر} مرتبط بقوله: «لمّا وجب الإنذار» {وإلّا} يجب التحذّر كان وجوب الإنذار عبثاً و{لغا وجوبه}.

إذ لا بدّ للإيجاب من غرض في نفسه أو في متعلّقه والإنذار لا غرض فى نفسه، كما هو واضح، فإذا لم يجب التحذّر عند الإنذار لم يكن غرض في متعلّقه أيضاً فيكون لغواً، ويكون مثل أن يقول المولى بعده: (آمُرُ فلاناً) فيسأل العبد: هل في نفس الأمر فائدة؟ فيقول: لا، ثمّ يسأل هل يجب أو يستحبّ على المأمور شيء؟ فيقول: لا، فإنّه حينئذٍ يكون قد أمر بشيء لغو وذلك لا يصدر من الحكيم.

{ثالثها} - أي: الثّالث من الوجوه الّتي استدلّ بها لدلالة آية النّفر على حجيّة خبر العادل - : {أنّه} أي: الحذر {جعل غاية للإنذار الواجب} فإنّه قال - سبحانه - : {وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}(1) {وغاية الواجب واجبة} إذ المغيّى لا يجب إلّا إذا كانت غايته واجبة فإنّه يترشّح الحكم من الغاية إلى المغيّى، فإنّه لا يعقل أن يقول المولى: (جئ بالماء لسقي البستان ثمّ إن شئت سقيته أو لم تسقه) ولا يخفى أنّ هذا الوجه قريب من الوجه الثّاني.

{و} لكن هذه الوجوه الثلاثة كلّها مخدوشة، إذ {يشكل الوجه الأوّل} الّذي

ص: 37


1- سورة التوبة، الآية: 122.

بأنّ التحذّر لرجاء إدراك الواقع، وعدمِ الوقوع في محذور مخالفته - من فوت المصلحة، أو الوقوع في المفسدة - ،حسن، وليس بواجب في ما لم يكن هناك حجّة على التكليف، ولم يثبت هاهنا عدم الفصل، غايته عدم القول بالفصل.

___________________________________________

كان يقول الحذر محبوب فهو واجب؛ لأنّه لا معنى لحسن الحذر {بأنّ التحذّر} يمكن أن يكون حسناً وليس بواجب، فإنّه {لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته} وقوله: {من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة} بيان لمحذور المخالفة، فإنّ الواقع إذا كان واجباً ثمّ لم يحذر المأمور فاتت منه تلك المصلحة الموجودة في المأمور به، وإذا كان الواقع حراماً ثمّ لم يحذر المنهيّ وقع في تلك المفسدة الموجودة في المنهيّ عنه.

ولا يخفى أنّ التحذّر واجب إذا كان هناك حجّة على التكليف و{حسن وليس بواجب في ما لم يكن هناك حجّة على التكليف} فإذا كانت الشّبهة مثلاً طرفاً للعلم الإجمالي وجب التحذّر لوجود الحجّة على التكليف الّذي هو العلم الإجمالي وأمّا إذا كانت الشّبهة بدويّة فإنّ التحذّر حسن وليس بواجب؛ لأنّه لم يقم حجّة على التكليف. إذن فمن الممكن حسن التحذّر وعدم وجوبه، فلا يستفاد من مادّة التحذّر الموجودة في الآية الكريمة أنّ الحذر واجب حتّى يستدلّ بذلك لحجيّة خبر الواحد؛ لأنّه إذا لم يكن الخبر حجّة لم يجب التحذّر.

{و} إن قلت: قد مرّ في الوجه الأوّل أنّه لا فصل شرعاً بين محبوبيّة التحذّر وبين وجوبه، وإذا ثبت بالآية محبوبيّته ثبت وجوبه للإجماع.

قلت: {لم يثبت هاهنا} في مقام التحذّر {عدم الفصل} ليكون إجماعاً فإنّ العلماء لم يجمعوا على أنّه لا فصل {غايته عدم القول بالفصل} أي: كلّ من قال بالحسن قال بالوجوب ومنلم يقل بالوجوب لم يقل بالحسن، وهذا لا يكفي في إثبات الإجماع، مضافاً إلى أنّ المحصّل من الإجماع غير حاصل والمنقول غير

ص: 38

والوجه الثّاني والثّالث: بعدم انحصار فائدة الإنذار بالتحذّر تعبّداً؛ لعدم إطلاقٍ يقتضي وجوبه على الإطلاق؛ ضرورة أنّ الآية مسوقة لبيان وجوب النّفر، لا لبيان غايتيّة التحذّر، ولعلّ وجوبه كان مشروطاً بما إذا أفاد العلم، لو لم نقل بكونه مشروطاً به؛ فإنّ النّفر إنّما يكون لأجل التفقّه وتعلّمِ معالم الدين، ومعرفةِ ما جاء به سيّد المرسلين، كي ينذروا بها المتخلّفين

___________________________________________

تامّ، وإلى أنّه محتمل الاستناد وليس بحجّة، ولا يخفى أنّ الإشكال الآتي في الوجهين الثّاني والثّالث يأتي في هذا الوجه أيضاً.

{و} يشكل {الوجه الثّاني والثّالث} القائلان بأنّ التحذّر واجب؛ لأنّه غاية للإنذار الواجب {بعدم انحصار فائدة الإنذار بالتحذّر تعبّداً} حتّى أنّه بمجرّد قيام خبر المنذر وجب التحذّر تعبّداً ولو لم يحصل للمنذَر - بالفتح - العلم {لعدم إطلاق} في الآية {يقتضي وجوبه} أي: وجوب التحذّر {على الإطلاق} سواء حصل العلم أم لم يحصل.

{ضرورة أنّ الآية مسوقة لبيان وجوب النّفر لا لبيان غايتيّة التحذّر} حتّى يكون لها إطلاق من جهة الغايتيّة، كي يستفاد منها أنّ التحذّر واجب مطلقاً إذا حصل الإنذار {ولعلّ وجوبه} أي: التحذّر {كان مشروطاً بما إذا أفاد العلم} فالحذر واجب عقيب الإنذار في الجملة {لولم نقل بكونه} أي: الحذر {مشروطاً به} أي: بالعلم مع انّ مقتضى ظاهر الآية الحذر عند العلم، إذ لا يصدق الحذر إلّا إذا علم الإنسان بالمنذر به.

ألا ترى أنه لو أخبرك طفل بأنّ الشّيء الفلاني مضرّ لم يكن تركك له حذراً عرفاً، بل سفهاً، وإنّما يصدق الحذر في ما كان العقلاء يحذرون فيه ولا يكون ذلك إلّا بحصول العلم أو ما أشبهه {فإنّ النّفر إنّما يكون لأجل التفقّه وتعلّم معالم الدين و} تحصيل {معرفة ما جاء به سيّد المرسلين كي ينذروا بها المتخلّفين} إذا كان

ص: 39

أو النّافرين - على الوجهين في تفسير الآية - ، لكي يحذروا إذا أُنذروا بها، وقضيّتهُ إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أنّ الإنذار بها، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه أشكل أيضاً: بأنّ الآية لو سلّم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً، فلا دلالة لها على حجيّة الخبر بما هو خبر؛

___________________________________________

المراد أنّ النّافر الّذي رأى آيات اللّه في الجهاد ينذر المتخلّف {أو} ينذروا بها {النّافرين} إذا كان المراد أنّ المتخلّف عند النّبيّ(صلی الله علیه و آله) الّذي تعلّم المسائل عند غياب النّافر ينذر النّافر حين رجوعه من الجهاد {على الوجهين في تفسير الآية} كما عرفت في أوّل الآية {لكي يحذروا إذا أُنذروا بها} أي: بمعالم الدين، وإنّما كان تعليم معالم الدين إنذاراً وقبولها حذراً؛ لأنّ من لم يعمل بها استحقّ العقاب {وقضيّته} أي: مقتضى كون الحذر عقيب الإنذار بالمعالم {إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أنّ الإنذار بها}أي: بمعالم الدين، إذ لولا الإحراز لم يعلم الشّخص أنّ الإنذار إنّما هو بالمعالم حتّى يجب الحذر، فيكون حاله حال ما إذا قال: (إذا جاء زيد فأكرمه) فإنّ مقتضى ذلك إحراز مجيء زيد في وجوب إكرامه، إذ لولا الإحراز لم تتحقّق الشّرطيّة الّتي هي مقدّمة للحكم، وهذا وجه ثان لاشتراط الإحراز في الموضوع {كما لا يخفى} وإن كان ربّما يخدش فيه أنّه لا يحتاج إلى الإحراز، بل يكفي صدق الإنذار الحاصل بما يعتني بمثله العقلاء وإن لم يحرز الشّخص إحرازاً وجدانيّاً.

{ثمّ إنّه أشكل أيضاً} في دلالة آية الإنذار على حجيّة خبر الواحد مطلقاً {بأنّ الآية لو سلّم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً} سواء حصل العلم أم لم يحصل من الإنذار {فلا دلالة لها على حجيّة الخبر بما هو خبر} خالٍ عن الإنذار والتخويف، إذ الآية تقول بحجيّة خبر المنذر وليس ذلك إلّا إذا قارن الخبر مع الإنذار، كأن يقول: (من لم يصلّ كان جزاؤه جهنّم)، ومن المعلوم أنّ كلّ خبر مرويّ عن

ص: 40

حيث إنّه ليس شأن الرّاوي إلّا الإخبار بما تحمّله، لا التخويف والإنذار، وإنّما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلّد.

قلت: لا يذهب عليك أنّه ليس حال الرّواة في الصّدر الأوّل - في نقل ما تحمّلوا من النّبيّ - صلّى اللّه عليه وعلى أهل بيته الكرام أو الإمام(علیه السلام) من الأحكام إلى الأنام - إلّا كحال نقلة الفتاوى إلى العوامّ، ولا شبهة في أنّه يصحّ منهم التخويفُ في مقام الإبلاغ والإنذار، والتحذير بالبلاغ، فكذا من الرّواة،

___________________________________________

الرّسول والأئمّة^ ليس كذلك {حيث إنّه ليس شأن الرّاوي إلّا الإخبار بما تحمّله} من النّبيّ(صلی

الله علیه و آله) أو الإمام(علیه السلام) {لا التخويف والإنذار} والآية تضمّنت حجيّة الخبر المشتمل عليهما ولا يكونان في كلّ خبر {وإنّما هو شأن المرشد} الواعظ {أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلّد} بل ليس شأن كلّ مجتهد، كما لا يخفى.

{قلت}: من المسلّم أنّ الآية إنّما تدلّ على وجوب قبول الخبر المقترن بالتحذير والتخويف، لكن لا نسلّم أنّ الإخبار لم تكن مقرونة بذلك، بل بالعكس، إذ {لا يذهب عليك أنّه ليس حال الرّواة في الصّدر الأوّل في نقل ما تحمّلوا من النّبيّ - صلّى اللّه عليه وعلى أهل بيته الكرام - أو} ما تحمّلوا من {الإمام(علیه السلام) من الأحكام} بيان «ما تحمّلوا» {إلى الأنام} متعلّق بقوله: «نقل» {إلّا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام} في الحال الحاضر.

وقد كان لحن الرّوايات في زمن الرّسول(صلی الله علیه و آله) كلحن الآيات الّتي لا تخلو من التحذير والإنذار غالباً، وإذا جعل الإنذار في الآية الكريمة عقيب التفقّه فقال: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ} ممّا دلّ على أنّ الإنذار إنّما هو بما تفقّه.

{ولا شبهة في أنّه يصحّ منهم} أي: من نقلة الفتاوى {التخويف في مقام الإبلاغ والإنذار، و} في مقام {التحذير بالبلاغ} وإذا ثبت ذلك بالنسبة إلى النّقلة {فكذا} يصحّ {من الرّواة} لما عرفت من استوائهما في الجملة، منتهى الأمر أنّالرّواة ينقلون

ص: 41

فالآية لو فُرض دلالتها على حجيّة نقل الرّاوي إذا كان مع التخويف، كان نقله حجّة بدونه أيضاً؛ لعدم الفصل بينهما جزماً، فافهم.

ومنها: آية الكتمان

___________________________________________

عن النّبيّ والإمام والنّقلة ينقلون عن المجتهدين، وعلى هذا تفيد آية الإنذار وجوب الحذر عند التحذير بنقل الخبر المشتمل على الوعظ والتخويف {فالآية لو فرض دلالتها على حجيّة نقل الرّاوي إذا كان مع التخويف كان نقله حجّة بدونه أيضاً} وذلك {لعدم الفصل بينهما} أي: بين الخبر مع التخويف وبين الخبر بدونه {جزماً}.

لكن ذكر الشّيخ ما حاصله: أنّ الآية تدلّ على وجوب الحذر عقيب الإنذار، والإنذار هو الإبلاغ بقصد التخويف، والتخويف إنّما يكون بإعمال النّظر الّذي هو من وظيفة المجتهد، فمفاد الآية حجيّة فتوى المفتي بالنسبة إلى مقلّديه.

ولعلّ قول المصنّف {فافهم} إشارة إلى ذلك، لكن لا يخفى ما فيه، إذ التخويف ليس بإعمال النّظر وإن كان من أحد أفراده، فالرواة الّذين رووا الأخبار المقترنة بالتحذير كانوا بذلك محذّرين وإن لم يكونوا مجتهدين، بالإضافة إلى أنّ وقت نزول الآية كان غالب الرّواة كالنقلة لا كالمجتهدين.

ثمّ إنّه يمكن أن يجاب عن أصل الإشكال بأنّ معنى إنذار القوم ليس نقل الأخبار المشتملة على التخويف، بل نقل الأحكام المشتمل على الإنذار، إذ الأحكام حدود للّه - تعالى - ومن يتعدّ حدوده فإنّ له نار جهنّم، ويقرب ذلك - بالإضافة إلى أنّ ذلك هو السّابق من الآية إلى الذهن عرفاً - تعقيب التفقّه بذلك ممّا يبيّن أنّ الإنذار إنّما هو بمطلق ما تفقّه، ومن المعلوم أنّ ما يتفقّه الإنسان فيه يكون علىقسمين: قسم مقترن بالإنذار، وقسم خالٍ عنه.

[الاستدلال بآية الكتمان]

{ومنها} أي: من الآيات الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر العادل {آية الكتمان}

ص: 42

{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا}(1) الآية.

وتقريب الاستدلال بها: أنّ حرمة الكتمان تستلزم القبول عقلاً؛ للزوم لغويّته بدونه.

ولا يخفى: أنّه لو سلّمت هذه الملازمة

___________________________________________

وسمّيت به لاشتمالها على مادّته، وهي قوله - تعالى - : {{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا} مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ}(2)، فإنّ {الآية} دلّت على حرمة كتمان ما يعلم من أُمور الدين.

{وتقريب الاستدلال بها} لحجيّة خبر الواحد {أنّ حرمة الكتمان} المستفادة من الآية بمعونة لعنة اللّه ولعنة اللّاعنين {تستلزم القبول} من السّامع {عقلاً} بدلالة الاقتضاء، وذلك {للزوم لغويّته} أي: لغويّة وجوب الإظهار المستفاد من حرمة الكتمان {بدونه} أي: بدون قبول السّامع، فإنّه إنّما أمر بالإظهار ليقبل السّامع وإلّا فما فائدة الإظهار المأمور به؟!

{و} الشّيخ أورد على هذه الآية بما لفظه: «ويرد عليها ما ذكرنا عليها من الإيرادين الأوّلين في آية النّفر، من سكوتها وعدم التعرّض فيها لوجوب القبولوإن لم يحصل العلم عقيب الإظهار، أو اختصاص وجوب القبول المستفاد منها بالأمر الّذي يحرم كتمانه ويجب إظهاره، فإنّ من أمر غيره بإظهار الحقّ للناس ليس مقصوده إلّا عمل النّاس بالحقّ، ولا يريد بمثل هذا الخطاب تأسيس حجيّة قول المظهر تعبّداً»(3).

لكن {لا يخفى أنّه لو سلّمت هذه الملازمة} العقليّة بين حرمة الكتمان ولزوم

ص: 43


1- سورة البقرة، الآية: 159.
2- سورة البقرة، الآية: 159.
3- فرائد الأصول 1: 287.

لا مجالَ للإيراد على هذه الآية بما أُورد على آية النّفر من دعوى الإهمال، أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم؛ فإنّها تنافيهما، كما لا يخفى.

لكنّها ممنوعة؛ فإنّ اللغويّة غير لازمة؛ لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبّداً، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحقّ بسبب كثرةَ من أنشأه وبيّنه، لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة، بل كان له عليهم الحجّة البالغة.

___________________________________________

القبول {لا مجال للإيراد على هذه الآية بما أورد} هُ الشيخ(رحمة الله) {على آية النّفر من دعوى الإهمال} وأنّ الآية ليست في صدد القبول وإنّما في صدد حرمة الكتمان في الجملة {أو} دعوى {استظهار الاختصاص} لوجوب القبول {بما إذا أفاد} الإظهار {العلم}.

فالآية ظاهرة في وجوب قبول قول من أظهر الحقّ إذا علمنا بأنّه الحقّ ولم يكن الحقّ مشكوكاً فيه بعد إظهاره {فإنّها} أي: الملازمة الّتي ذكرناها بين الإظهار وبين وجوب القبول {تنافيهما} أي: تنافي هذين الإشكالين{كما لا يخفى} على من تأمّل.

{لكنّها} أي: الملازمة الّتي هي قوام دلالة الآية {ممنوعة} إذ ما ذكر من تقريب الدلالة - من أنّه لولا لزوم القبول كان وجوب الإظهار لغواً - غير تامّ {فإنّ اللغويّة غير لازمة} وإن لم يجب القبول {لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبّداً} بمجرّد الإظهار {وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحقّ بسبب كثرة من أنشأه وبيّنه} إذ الحقّ يعرفه عدد كثير من النّاس، فإذا بيّنه الكلّ وضح الحقّ وعلم به السّامع.

والحاصل: أنّه يجب الإظهار حتّى يوضح الحقّ ويعرفه النّاس {لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة، بل كان له عليهم الحجّة البالغة} وهذا غير قبول خبر الواحد، كما لا يخفى.

ص: 44

ومنها: آية السّؤال عن أهل الذكر: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(1).

___________________________________________

[الاستدلال بآية السؤال]

{ومنها} أي: من الآيات الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر الواحد {آية السّؤال عن أهل الذكر} وهي قوله - تعالى - : {{فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}} وتقريب الاستدلال بها: أنّ أهل الذكر عامّ يشمل كلّ عالم والرّاوي من أهل العلم، ووجوب السّؤال يستلزم وجوب قبول الجواب وإلّا لغا وجوب السّؤال، وإذا وجب قبول الجواب وجبقبول كلّ ما يصحّ أن يسأل عنه وإن قاله بدون السّؤال، لوضوح عدم دخل السّؤال في وجوب القبول، فإذا روى الرّاوي روايات عن الإمام وجب قبولها بمقتضى الآية.

وبهذا تبيّن أنّ الإشكال في دلالة الآية - بأنّ تفسيرها في أهل الكتاب؛ لأنّها كما في سورة النّحل {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ * بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ}(2) وفي سورة الأنبياء {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(3) بمعنى السّؤال عن أهل الكتاب عن صدق هذه المقالة، وتأويلها في الأئمّة الطّاهرين^ فهم المراد من أهل الذكر كما في عدّة أحاديث، فلا ربط للآية بمطلق أهل الذكر حتّى تشمل الرّواة - ليس في محلّه، إذ المورد غير مخصّص بعد فهم عدم الخصوصيّة وإنّما هو شيء ارتكازيّ أُحيل عليه، ولذا لا تنافي بين التأويل والتفسير وإن كان الأئمّة^ من أظهر المصاديق.

وقد حقّق في محلّه أنّ تفسير الآيات بما هو خارج عن ظواهرها لدى الدقّة

ص: 45


1- سورة النحل، الآية: 43.
2- سورة النحل، الآية: 43-44.
3- سورة الأنبياء، الآية: 7.

وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان.

وفيه: أنّ الظّاهر منها إيجاب السّؤال لتحصيل العلم، لا للتعبّد بالجواب.

___________________________________________

ليس إلّا بيان بعض المصاديق أو المصاديق البارزة أو ذكر الأشباه، كتأويل فرعونوهامان بالأوّل والثّاني(1).

{و} كيف كان، فقد عرفت {تقريب الاستدلال بها} وأنّها مثل {ما في آية الكتمان} المتقدّمة وإن كانت بحاجة إلى مقدّمات أكثر.

{و} مع ذلك {فيه أنّ الظّاهر منها إيجاب السّؤال لتحصيل العلم لا للتعبّد بالجواب} سواء حصل العلم أم لا، فإنّه - تعالى - قال: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(2)، فتعليق السّؤال على عدم العلم يدلّ بالدلالة العرفيّة على كونه لأجل حصول العلم، ولا شكّ في أنّه إذا حصل العلم من السّؤال أو من الرّواية المجرّدة كان حجّة وليس ذلك ممّا نحن فيه الّذي هو حجيّة خبر العادل مطلقاً.

أقول: لكن فيه أنّ الظّاهر من هذه العبارة كون الجواب من أهل الذكر كافٍ في إعطاء الواقع للسير على وفقه، حتّى أنّه لو لم يسر معتذراً - بأنّه لم يحصل له العلم - عُدّ مخالفاً.

ألا ترى أنّ المولى لو قال لعبده: (سر إلى النّجف وإن لم تعلم طريقه فاسأل عن السّائقين) ثمّ لم يذهب العبد معتذراً بأنّه لم يحصل له العلم من قولهم كان مخالفاً وحسن عقابه، ولو كان المعيار حصول العلم القطعي لم يكن وجه لتخصيص أهل الذكر بالسؤال إلّا غلبة كونهم علماء بالجواب، وهو خلاف الظّاهر.

ص: 46


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 254.
2- سورة النحل، الآية: 43.

وقد أُورد عليها(1):

بأنّه لو سلّم دلالتها على التعبّد بما أجاب أهل الذكر، فلا دلالة لها على التعبّد بما يروي الرّاوي؛ فإنّه بما هو راوٍ لا يكون من أهل الذكر والعلم، فالمناسب إنّما هو الاستدلال بها على حجيّة الفتوى، لا الرّواية.

وفيه: أنّ كثيراً من الرّواة يصدق عليهم أنّهم أهل الذكر والاطّلاع على رأي الإمام(علیه السلام)، كزرارة ومحمّد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السّؤال عنهم، أنّه السّؤال عن أهل الذكر والعلم، و

___________________________________________

{وقد أُورد عليها ب-} ما ذكره الشّيخ في الرّسائل من {أنّه لو سلّم دلالتها على التعبّد بما أجاب أهل الذكر فلا دلالة لها على التعبّد بما يروي الرّاوي، فإنّه بما هو راوٍ لا يكون من أهل الذكر والعلم} فإنّه يصحّ سلب هذا العنوان عن مطلق من أحسّ شيئاً بسمعه وبصره، إذ ليس كلّ من يرى موضوعاً أو يسمع كلاماً يقال له أهل الذكر حتّى تشمل الآية كلّ راو وإن روى حديثاً واحداً {فالمناسب إنّما هو الاستدلال بها على حجيّة الفتوى} ولذا تمسّك بها جماعة على وجوب التقليد على العامي {لا} الاستدلال بها على حجيّة {الرّواية} الّتي جاء بها العدل.

{وفيه}: مضافاً إلى عدم الخصوصيّة فإنّ المفهوم من الآية حجيّة قول من يعلم شيئاً بالنسبة إلى من لا يعلم ولو كان معلومه شيئاً واحداً، ولو كان هناك انصراف فهو بدويّ يزول بأدنى تأمّل {إنّ كثيراً من الرّواةيصدق عليهم أنّهم أهل الذكر والاطّلاع على رأي الإمام(علیه السلام) كزرارة ومحمّد بن مسلم ومثلهما، و} على هذا {يصدق على السّؤال عنهم أنّه السّؤال عن أهل الذكر والعلم}.

{و} إن قلت: هب أنّ سؤال الجهال عن مثل زرارة يعدّ سؤالاً عن أهل الذكر، أمّا سؤال مثل محمّد بن مسلم عن زرارة أو العكس ممّا يكون السّائل هو من العلماء لا يكون مشمولاً للآية لظهورها في سؤال الجهّال عن أهل الذكر لا سؤال

ص: 47


1- فرائد الأصول 1: 290.

لو كان السّائل من أضرابهم.

فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب - بمقتضى هذه الآية - ، وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقاً؛ لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين المبتدئ والمسبوق بالسؤال، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم، ممّن لا يكون من أهل الذكر، وإنّما يروي ما سمعه أو رآه، فافهم.

___________________________________________

العلماء منهم وبذلك تسقط جملة كبيرة من الرّواة عن كونها مشمولة للآية، إذ الرّواة كثير منهم علماء يسأل بعضهم من بعض ويروي بعضهم عن بعض.

قلت: لا خصوصيّة في سؤال الجهّال، فإنّ المعيار كون المسؤول عنه أهل الذكر فقوله حجّة {لو كان السّائل من أضرابهم} ولو ادّعى الانصراف فهو بدويّ، كما لا يخفى.

وعلى هذا {فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية} المباركة {وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول} وإنّما قيّدناه بالعدول لما يستفاد من آية النّبأ {مطلقاً} سواء كان الرّاوي من يعدّ من أهلالعلم كزرارة أم غيره {لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين المبتدئ} بالرواية، كما هو الغالب {والمسبوق بالسؤال ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممّن لا يكون من أهل الذكر وإنّما يروي ما سمعه أو رآه} ولو كان خبراً واحداً، ولا بين كون مدركه الحواسّ الظّاهرة أو الحواسّ الباطنة. ولا ينافي شمول الآية للرواية شمولها للفتوى أيضاً فإنّ ذلك أيضاً، من السّؤال عن أهل الذكر.

والحاصل: أنّ الآية عامّة تشمل جميع أنواع أخبار المطّلع، سواء كان أهل كتاب أم نبيّ أم إمام، وسواء كان راوياً أو مفتياً، وسواء كان في الأصول أو الفروع، - وإنّما نقول بوجوب العلم في الأصول لدليل آخر - وسواء كان علمه حاصلاً من الحواسّ الظّاهرة أو الباطنة وكلّ تقييد في الآية يحتاج إلى دليل {فافهم} لعلّه إشارة

ص: 48

ومنها: آية الأُذُن {وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}(1). فانّه - تبارك وتعالى - مدح نبيَّه بأنّه يصدّق المؤمنين، وقرنه بتصديقه - تعالى - .

وفيه: أوّلاً: أنّه إنّما مدحه بأنّه أُذُن، وهو سريع القطع، لا الآخذ بقول الغير تعبّداً.

___________________________________________

إلى أنّ الآية ليست في صدد القبول إطلاقاً، وإنّما هي إرشاد إلى طريقة عقلائيّة في السّؤال عن أهل العلم، فلا تعبّد شرعيّ في المقام لقبول قول الرّاوي مطلقاً.

[الاستدلال بآية الاُذُن]

{ومنها} أي: من الآيات الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر العادل {آية الأُذُن} بضمّتين على وزن (عنق)، وهو قوله - تعالى - : {{وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}} وجه النّزول - كما عن القمّي في تفسيره - أنّه نمّ منافق على النّبيّ(صلی الله علیه و آله) فأخبره اللّه ذلك، فأحضره النّبيّ(صلی الله علیه و آله) وسأله، فحلف أنّه لم يكن شيء ممّا ينمّ عليه، فقبل منه النّبي، فأخذ هذا الرّجل بعد ذلك يطعن على النّبيّ(صلی الله علیه و آله) ويقول: إنّه يقبل كلّ ما يسمع، أخبره اللّه أنّي أنمّ عليه وأنقل أخباره فقبل، فأخبرته أنّي لم أفعل فقبل، فردّه اللّه - تعالى - بقوله لنبيّه(صلی الله علیه و آله): «قل أُذن خير لكم»(2)، {فإنّه - تبارك وتعالى - مدح نبيّه بأنّه يصدّق المؤمنين وقرنه بتصديقه تعالى} فيكون تصديق الإنسان للمؤمنين قريناً لتصديقه للّه - تعالى - حسناً وإذا كان حسناً كان واجباً، كما أنّ تصديق اللّه واجب، وهذا يدلّ على وجوب قبول خبره فتدلّ على حجيّة خبر العادل.

{وفيه: أوّلاً: أنّه} سبحانه {إنّما مدحه بأنّه أُذن} بالضمّتين {وهو سريع القطع، لا الآخذ بقول الغير تعبّداً}.

ص: 49


1- سورة التوبة، الآية: 61.
2- تفسير القمي 1: 300.

وثانياً: أنّه إنّما المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص الآثار الّتي تنفعهم ولا تضرّ غيرَهم، لا التصديق بترتيب جميع الآثار، كما هو المطلوب في باب حجيّة الخبر.

ويظهر ذلك

___________________________________________

ولا يخفى أنّ هذا الجواب في غير محلّه، فإنّ النّبيّ(صلی الله علیه و آله) لم يكن سريع القطع من الأشياء الموهومة، بل بالعكس، إنّه(صلی الله علیه و آله) كان فطناً كيساً ملتفتاً ممّا ينافي سرعة القطع وخصوصاً في مورد الآية لم يكن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) قاطعاً بقول النّمّام، كيف وقد أخبره - سبحانه - بأنّه ينمّ عليه. ومن المحتمل أن يكون مراد المصنّف ما ذكره المشكيني(رحمة الله) من أنّ المدح له(صلی الله علیه و آله) إنّما كان على إبرازه نفسه الشّريفة بمنزلة السّريع القطع(1).

{وثانياً: أنّه إنّما المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص الآثار الّتي تنفعهم ولا تضرّ غيرهم} فإنّ التصديق قد يراد به التصديق الوجداني المصاحب للقطع الحاصل للنفس.

وقد يراد به ترتيب جميع الآثار وإن لم يحصل قطع الوجدان.

وقد يراد به ترتيب الآثار النّافعة للمخبر فقط، فإذا شهد إنسان بأنّ زيداً نمّ عليك، فقد يحصل لك العلم بالنميمة، وقد ترتّب الآثار عليها بأن تجانب زيداً، وقد ترتّب بعض الآثار بالتصديق الصّوري لذلك الإنسان المخبر.

وليس المراد عن الآية القطع، لأنّه خلاف ظاهرها، كما ليس المراد منها ترتيب جميع الآثار، كيف ويلزم من ذلك الذمّ؟! إذ تصديق الإنسان لكلّ مخبر يوجب الهرج والمرج، فلا بدّ وأن يراد بها من التصديق ترتيب الآثار الّتي تنفع المخبر ولا تضرّ غيره.

وعلى هذا، ف- {لا} يمكن أن يكون المراد {التصديق بترتيب جميع الآثار، كما هو المطلوب في بابحجيّة الخبر} الواحد {ويظهر ذلك} الّذي قلنا من أنّه ليس

ص: 50


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 323.

من تصديقه للنمّام بأنّه ما نمّه، وتصديقه للّه - تعالى - بأنّه نمّه، كما هو المراد من التصديق في قوله: «فصدّقه وكذّبهم» حيث قال - على ما في الخبر - : «يا أبا محمّد، كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولاً، وقال: لم أقله، فصدّقه وكذّبهم»(1)،

___________________________________________

المراد ترتيب جميع الآثار {من تصديقه} (صلی الله علیه و آله) {للنمّام بأنّه ما نمّه، وتصديقه للّه - تعالى - بأنّه نمّه} فالجمع بين التصديقين المتناقضين ليس إلّا بأن يكون المراد ترتيب الآثار النّافعة لكلّ من الخبرين، فقد صدّق الرّسول اللّه - سبحانه - كما صدّق النّمّام بمعنى أنّه لم يعاقبه على نميمته، وليس تصديقه للّه - سبحانه - كتصديقه للنمّام، كما لا يخفى، بل بينهما بون شاسع، إذ التصديق للنمّام كان في مجرّد عدم عقابه وترتيب آثار الصّدق النّافعة بالنسبة إلى النّمّام على إخباره.

{كما} أنّ هذا المعنى للتصديق - أعني: ترتيب خصوص الآثار الّتي تنفع المخبر ولا تضرّ غيره - {هو المراد من التصديق في قوله} أي: الصّادق(علیه السلام) {«فصدّقه وكذّبهم»، حيث قال} الإمام {على ما في الخبر} المروي {«يا أبا محمّد، كذّب سمعك وبصرك عن أخيك} يعني إذا رأيت منه شيئاً أو سمعت منه كلاماً وكان ترتيب الأثر على ذلك الشّيء ممّا يضرّ الأخ فكذّب السّمع والبصر، يعني لا ترتّب الأثر عليهما وعامله وكأنّك لم تسمع منهشيئاً ولم تشاهد منه قبيحاً {فإن شهد عندك خمسون قسامة} القسامة هم الجماعة الّذين يحلفون خمسين حلفاً على الدم في باب القتيل المجهول قاتله، وربّما كانوا خمسين شخصاً وربّما أقلّ من ذلك، فالمراد بخمسين قسامة إمّا على البدل - أي: إنّ القسامة بدل خمسين - فيكون المراد لو شهد عندك خمسون شخصاً، وأمّا على الإضافة فيكون المراد بخمسين قسامة ألفي وخمسمائة شخص، ولا يبعد ذلك لأجل المبالغة {أنّه قال قولاً وقال} هو: {لم أقله، فصدّقه وكذّبهم»} فإنّه ليس المراد تصديقه بترتيب

ص: 51


1- الكافي 8: 147، مع اختلاف يسير.

فيكون مراده تصديقه بما ينفعه ولا يضرّهم، وتكذيبَهم في ما يضرّه ولا ينفعهم، وإلّا فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين؟

وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصّة إسماعيل، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

جميع آثار الصّدق عليه {فيكون مراده تصديقه بما ينفعه} فإذا قال: لم أشتم، وقالوا: شتمك، صدّق بأن لم يرتّب الأثر على شتمه {ولا يضرّهم} إذ لو ضرّهم لم يكن ضررهم أولى من ضرره {وتكذيبهم في ما يضرّه ولا ينفعهم، وإلّا} يكن المراد من التصديق والتكذيب ما ذكرنا {فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين} نفراً أو خمسين قسامة؟

{وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصّة إسماعيل} ابن الإمام الصّادق(علیه السلام)، فإنّه روى الكليني في فروع الكافي في الصّحيح أنّه كان لإسماعيل ابن أبي عبداللّه دنانير، وأراد رجل من قريش أن يخرج بها إلى اليمن، فقال له أبو عبداللّه(علیه السلام): «يا بني، أمابلغك أنّه يشرب الخمر؟» ... قال: سمعت النّاس يقولون. فقال: «يا بني، إنّ اللّه - عزّ وجلّ - يقول: {يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}(1) يقول يصدّق اللّه ويصدّق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم»(2).

فإنّه ليس المراد بتصديقهم في المقام ترتيب آثار شرب الخمر على الرّجل، بل المراد عدم ائتمانه، فليس المراد ترتيب الأثر الضّارّ، بل ترتيب أثر ينفعه ولا يضرّ غيره {فتأمّل جيّداً} حتّى لا تقول: إنّ الرّواية تؤيّد ظاهر الآية من ترتيب جميع الآثار على قول المؤمنين فتدلّ على حجيّة خبر الواحد.

لكن الإنصاف أنّ الآية لها دلالة على ذلك، والأخبار سواء دلّت أم لم تدلّ لا

ص: 52


1- سورة التوبة، الآية: 61.
2- الكافي 5: 299. ولا يخفى أنّ بين الجملتين «إنّه يشرب الخمر» و«قال: سمعت النّاس» حذف أكثر من خمسة أسطر.

فصل: في الأخبار الّتي دلّت على اعتبار أخبار الآحاد، وهي وإن كانت طوائف كثيرة - كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها - إلّا أنّه يشكل الاستدلالُ بها على حجيّة الأخبار الآحاد: بأنّها أخبار آحاد؛ فإنّها غير متّفقة على لفظٍ ولا على معنىً،

___________________________________________

حاجة إليها، فإنّ التصديق للمؤمنين لا يكون إلّا بقبول أقوالهم. أمّا قصّة احتياج ترتيب الأثر في بعض المواضع إلى شرائط خاصّة - كالتعدّد ونحوه - فذلك بأمر خارج.

[فصل الأخبار التي يستدل على حجيّة خبر الواحد]

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة خبر الواحد، الأخبار

{فصل في الأخبار الّتي دلّت على اعتبارأخبار الآحاد} وقد ذكر جملة منها الشّيخ في الرّسائل ممّا لا حاجة لنا إلى بيانها هنا {وهي وإن كانت طوائف كثيرة} ممّا دلّ على حجيّة خبر العادل، أو الثقة، أو الثقة العادل، أو الشّيعي، أو ما أشبه {كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها إلّا أنّه يشكل الاستدلال بها على حجيّة الأخبار الآحاد ب-} سبب {أنّها} أي: الأخبار الدالّة على الحجيّة {أخبار آحاد} فيلزم من الاستدلال بها إثبات الشّيء بنفسه.

وإن شئت قلت: إنّ الكلام في حجيّة خبر الواحد، فكيف يمكن الاستناد في الحجيّة إلى الخبر الواحد؟

وإن قلت: إنّ الأخبار الدالّة على حجيّة خبر الواحد قطعيّة؛ لأنّها متواترة، وبالخبر القطعي يمكن إثبات الحجيّة لسائر الأخبار الّتي ليست مقطوعة لكونها خبر الواحد.

قلت: ليس الأمر كذلك {فإنّها} أي: الأخبار الدالّة على الحجيّة {غير متّفقة على لفظٍ} واحدٍ، كأن تتّفق الجميع على لفظة (خبر العادل حجّة) {ولا} متّفقة {على معنىً} واحدٍ، كأن تختلف الألفاظ لكن كلّها تدلّ على معنىً واحدٍ. وقد مثّلوا للمتواتر معنىً بشجاعة الإمام أميرالمؤمنين(علیه السلام)، حيث وردت روايات

ص: 53

فتكون متواترة لفظاً أو معنىً.

ولكنّه مندفع: بأنّها وإن كانت كذلك، إلّا أنّها متواترة إجمالاً؛ ضرورة أنّه يعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم^، وقضيّتهُ وإن كان حجيّة خبر دلّ على حجيّته أخصّها مضموناً، إلّا أنّه يتعدّى عنه

___________________________________________

متواترة دالّة على أنّه(علیه السلام) هزم الجيوش الكافرة في حروب متعدّدة، فتدلّالجميع على أنّه(علیه السلام) كان شجاعاً، وإن لم ترد أخبار متواترة على الشَّجَاعة بهذه اللفظة.

وعلى أيّ، فليست الأخبار الدالّة على الحجيّة متّفقة لفظاً أو معنى {فتكون متواترة لفظاً أو معنى} وعليه فلا يمكن إثبات حجيّة الخبر الواحد بها.

هذا ملخّص الإشكال الّذي أورده(رحمة الله) على الاستدلال لحجيّة الخبر الواحد بالأخبار {ولكنّه مندفع بأنّها} أي: الأخبار الدالّة على الحجيّة {وإن كانت كذلك} غير متواترة لفظاً أو معنىً {إلّا أنّها متواترة إجمالاً} والتواتر الإجمالي: عبارة عن ورود أخبار نعلم أنّ واحداً منها حجّة قطعاً، كما لو أخبر جماعة بأمرٍ وعلمنا بأنّ واحداً من المخبرين صادق، فإنّه يثبت ذلك الأمر وإن لم يكن المخبرون متّفقين على لفظٍ واحدٍ ولا على معنىً جامعٍ.

ولا يخفى أنّ تسمية مثل هذا النّوع بالتواتر الإجمالي إنّما هي بعلاقة التّشبيه وإلّا فليس تواتراً.

وعلى أيّ حال فالتواتر الإجمالي في باب الأخبار الدالّة على حجيّة خبر الواحد موجود، {ضرورة أنّه يعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم^} وكيف لا يعلم وهي كثيرة جدّاً حتّى أنّ من لا يحصل له العلم منها يجب عليه أن لا يحصل له العلم بأيّ شيء من التواريخ الماضية إطلاقاً؟ {وقضيّته} أي: مقتضى مثل هذا التواتر الإجمالي {وإن كان حجيّة خبر دلّ على حجيّته} أي حجيّة ذلك الخبر {أخصّها مضموناً} فاعل «دلّ» {إلّا أنّه يتعدّى عنه} إلى غيره.

ص: 54

في ما إذا كان بينها ما كان بهذهالخصوصيّة، وقد دلّ على حجيّة ما كان أعمّ، فافهم.

فصل: في الإجماع على حجيّة الخبر وتقريره من وجوه:

أحدها: دعوى الإجماع من تتبّع فتاوى الأصحاب على الحجيّة، من زماننا إلى زمان الشّيخ،

___________________________________________

وحاصل الإشكال والجواب: أنّه لو ثبت التواتر الإجمالي في الأخبار الدالّة على الحجيّة لم يكن ينفع حجيّة الخبر الواحد، فإنّه لو علمنا أنّ واحداً من هذه الأخبار حجّة لزم الأخذ بأخصّها؛ لأنّه المتيقّن، وأخصّ الأخبار الدالّة على الحجيّة هي خبر العدل الثقة الشّيعي، ومن المعلوم أنّ مثل هذا الخبر نادر جدّاً، فلا يثبت حجيّة كلّ خبر موثّق كما هو المطلوب.

والجواب: أوّلاً - أنّه لا قول بالفصل، فمن قال بحجيّة الخبر في الجملة قال بها مطلقاً، فإذا ثبتت الحجيّة في الجملة ثبت المطلوب.

وثانياً - أنّه حين ثبتت حجيّة الخبر العدل الثقة الشّيعي كان ذلك كافياً لحجيّة خبر كلّ ثقة، إذ ورد بعض الأخبار الجامع للشرائط دالّاً على حجيّة كلّ خبر ثقة، فيتعدّى عنه {في ما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصيّة} أي: الجامعيّة للشرائط {وقد دلّ} ما كان جامعاً للشرائط {على حجيّة ما كان أعمّ} فهو إثبات حجيّة الخبر الواحد بالأخبار، لكن لا ابتداءً بل بالواسطة {فافهم} لعلّه إشارة إلى عدم الحاجة لإثبات حجيّة خبر الثقة إلى هذا الدوران واللّف، فإنّ الأخبار الدالّة على حجيّة خبر الثقة متواترة معنىً لو لم تكن لفظاً، فإنّها كثيرة جدّاً.

[فصل الإجماع على حجيّة خبر الواحد]

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة خبر الواحد، الإجماع

{فصل في الإجماع على حجيّة الخبر} الواحد{وتقريره من وجوه} ثلاثة:

{أحدها: دعوى الإجماع} المحصّل، الحاصل {من تتبّع فتاوى الأصحاب على الحجيّة من زماننا إلى زمان الشّيخ} فإنّ من تتبّع فتاوى الفقهاء رأى أنّهم أفتوا بحجيّة

ص: 55

فيكشف رضاه(علیه السلام) بذلك، ويُقطع به، أو من تتبّع الإجماعات المنقولة على الحجيّة(1).

ولا يخفى مجازفة هذه الدّعوى؛ لاختلاف الفتاوى في ما أخذ في اعتباره من الخصوصيّات، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضائه(علیه السلام) من تتبّعها؛ وهكذا حال تتبّع الإجماعات المنقولة.

___________________________________________

أخبار الآحاد {فيكشف} هذا التتبّع عن {رضاه(علیه السلام) بذلك} أي: بحجيّة الخبر الواحد {ويقطع به} من باب الحدس، لما عرفت من عدم حجيّة الإجماع من باب اللطف، وعدم وجود الإجماع الدّخولي. نعم، يحتمل الإجماع التشرّفي، فإنّ أمثال بحر العلوم+ إذا أفتوا بحجيّة أخبار الآحاد كشف ذلك عن رضاه(علیه السلام) وإلّا لزم الرّدع، فتأمّل {أو} يقرّر دعوى الإجماع التتبّعي بأنّا نكشف رضا الإمام(علیه السلام) {من تتبّع الإجماعات المنقولة على الحجيّة} فإنّ كثيراً من الفقهاء ادّعى الإجماع على حجيّة خبر الواحد، فإنّ من دعواهم الإجماع نكشف وجود الإجماع الكاشف عن رضاه(علیه السلام).{ولا يخفى مجازفة هذه الدعوى} أي: دعوى الحجيّة من باب التتبّع للفتاوى أو للإجماعات، وذلك {لاختلاف الفتاوى في ما أخذ في اعتباره} أي: اعتبار الخبر الواحد {من الخصوصيّات} فبعضهم اعتبر خبر الثقة وبعضهم اعتبر خبر العادل وهكذا {ومعه} أي: مع الاختلاف ليس هناك فتوى واحدة حتّى نستكشف منها رأي الإمام(علیه السلام)، إذ {لا مجال لتحصيل القطع برضائه(علیه السلام) من تتبّعها} إذ الإجماع كاشف، لا الفتاوى المختلفة {وهكذا حال تتبّع الإجماعات المنقولة} فإنّ مُدَّعِيَ الإجماع ادّعوه على أشياء مختلفة لا على شيء واحد حتّى يكشف ذلك عن رضا الإمام(علیه السلام).

ص: 56


1- فرائد الأصول 1: 311.

اللّهمّ إلّا أن يدّعى تواطؤها على الحجيّة في الجملة، وإنّما الاختلاف في الخصوصيّات المعتبرة فيها، ولكن دون إثباته خرط القتاد.

ثانيها: دعوى اتفاق العلماء عملاً - بل

___________________________________________

{اللّهمّ إلّا أن يدّعى تواطؤها} أي: تواطؤ الإجماعات والفتاوى {على الحجيّة في الجملة} فإنّ جميعها متّفقة على حجيّة خبر الواحد {وإنّما الاختلاف في الخصوصيّات المعتبرة فيها} ومثل هذا الاختلاف غير ضارّ بعد الاتفاق على أصل المطلب {ولكن دون إثباته خرط القتاد} إذ الاختلاف هنا لا يكشف عن وجود جامع واحد، فإنّ القائل بالأعمّ لم يعلم قوله بالأخصّ على تقدير بطلان الأعمّ، إذ لعلّه يقول بالنفي على تقدير بطلان الأعمّ. لكن الإنصاف أنّه لو قلنا بحجيّة الإجماع الحدسي كان ذلكمن أظهر مقامات الإجماعات.

نعم، يرد عليه ما في حجيّة الإجماع بقول مطلق بالإضافة إلى أنّ الإجماع هنا محتمل الاستناد لاحتمال كون المدرك هو الأدلّة الثلاثة الأُخر من الكتاب والسّنّة والعقل، وقد تقرّر في محلّه أنّ الإجماع المحتمل الاستناد غير حجّة.

ه--ذا وربّما يورد على تقرير الإجماع بالوجه الثّاني - وهو تتبّع الإجماعات المنقولة - : بأنّ الّذي ظفرنا عليه من الإجماعات المدّعاة ليس إلّا في كلام الشّيخ(1)

وابن طاووس(2)

والعلّامة(3)

والمجلسي(4)

قدس سرهم، ومن المعلوم أنّ هذا المقدار غير كاف بعد مخالفة مثل السّيّد المرتضى وغيره(5)،

فتأمّل.

{ثانيها} أي: الثّاني من وجوه تقرير الإجماع {دعوى اتفاق العلماء عملاً، بل}

ص: 57


1- العدة في أصول الفقه 1: 126.
2- فرج المهموم: 42.
3- نهاية الوصول 3: 403.
4- بحار الأنوار 2: 245.
5- راجع فرائد الأصول 1: 311-350.

كافّة المسلمين - على العمل بالخبر الواحد في أُمورهم الشّرعيّة، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من النّاقلين لها.

وفيه - مضافاً إلى ما عرفت ممّا يرد على الوجه الأوّل - أنّه لو سلّم اتفاقهم على ذلك، لم يُحرز أنّهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتديّون بهذا الدين، أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين،

___________________________________________

دعوى اتّفاق {كافّة المسلمين على العمل بالخبر الواحد في أُمورهم الشّرعيّة} أمّا اتّفاق العلماء فإنّا لانزال نراهم يأخذون بالخبر الواحد لاستنباط الحكم الشّرعي في دروسهم ورسائلهم وكتبهم العلميّة لا يستثنى عن ذلك أحد منهم، حتّى أنّ أحداً لو لم يرد ذلك يلزم عليه ترك الاستنباط أو دعوى بعيدة، وهي قطعيّة الأخبار الآحاد الواردة في الكتب الأربعة وأمّا اتّفاق كافّة المسلمين ف- {كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من النّاقلين لها} فإنّ جميع المسلمين يأخذون فتاوى مجتهديهم عن النّاقلين، ومن المعلوم أنّ النّاقل ليس إلّا واحداً، ومن لم يعتمد على النّاقل الموثّق يُعدّ وسواسيّاً.

{وفيه: مضافاً إلى ما عرفت ممّا يرد على الوجه الأوّل} من اختلاف وجه عمل الفقهاء بأخبار الآحاد، فبعضهم يعملون لوجود القرائن، وبعضهم يعملون؛ لأنّ أخبار الآحاد عندهم قطعيّة الصّدور، وبعضهم يعملون؛ لأنّهم يرون الحجّيّة، وبعضهم يعملون من باب الظّنّ الانسدادي، ومع مثل هذا الاختلاف في وجه العمل كيف يمكن أن يقال بأنّ إجماعهم على العمل كاشف عن رأي الإمام بالحجيّة كما هو المطلوب {أنّه لو سلم اتفاقهم على ذلك} العمل بما هو خبر واحد لم يفد أيضاً إجماعاً كاشفاً، إذ {لم يحرز أنّهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتديّنون بهذا الدين أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين} كما نشاهد من عمل غير المسلمين بأخبار الآحاد، فلا يكون ذلك إجماعاً عمليّاً حتّى يكشف عن

ص: 58

كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الأُمور الدينيّة من الأُمور العادية.

فيرجع إلى ثالث الوجوه.

وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرِهم على العمل بخبر الثقة، واستمرّت إلى زماننا، ولم يردع عنه نبيّولا وصيّ نبيّ؛ ضرورة أنّه لو كان لاشتهر وبان، ومن الواضح أنّه

___________________________________________

رضا الإمام بذلك.

وإن شئت قلت: إنّ الإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجّة وهذا محتمل الاستناد إلى العقل فلا حجيّة له، والظّاهر أنّ عمل العلماء وسائر النّاس بخبر الواحد ليس بما هم متديّنون وإنّما بما هم عقلاء {كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الأُمور الدينيّة من الأُمور العادية ف-} هذا ليس من الإجماع الّذي هو اتّفاق الفقهاء الكاشف عن رضا الإمام، وإنّما {يرجع إلى ثالث الوجوه} الّتي ذكروها تقريراً للإجماع على حجيّة خبر الواحد {وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة} لوضوح أنّ مدار الدنيا كلّها على ذلك وشذّ من لا يعمل به، بل نرى العقلاء أنّهم يعتمدون في أعزّ أشيائهم وهي نفوسهم على الثقة، فيركبون الطّائرة الّتي يقودها ثقة عارف، مع أنّه لو قصر لسقطت وهلكوا، فإذا عملوا على طبق نظر الثقة في مثل نفوسهم فكيف لا يعملون بخبره في سائر شؤونهم؟!

ومن المعلوم أنّ الأمرين - أي: الاعتماد على الثقة في خبره والاعتماد عليه في سائر أعماله - من وادٍ واحدٍ {واستمرّت} هذه السّيرة {إلى زماننا} منذ بدء الإنسان {ولم يردع عنه نبيّ ولا وصيّ نبيّ} ممّن وصلت إلينا أخبارهم وآثارهم.

وإنّما نقول بعدم الرّدع ل- {ضرورة أنّه لو كان} ردع {لاشتهر وبان} خصوصاً في مثال هذا الأمر العظيم الّذي يتوقّف عليه مجرى الحياة {ومن الواضح أنّه} أي:

ص: 59

يكشف عن رضا الشّارع به في الشّرعيّات أيضاً.

إن قلت: يكفي في الرّدع: الآيات النّاهية والرّوايات المانعة عن اتّباع غير العلم، وناهيك قولُهُ تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1)، وقولُهُ تعالى: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(2).

___________________________________________

مثل هذا الإجماع العقلائي {يكشف عن رضا الشّارع به في الشّرعيّات أيضاً} كما هو كاشف عن رضاه في غير الشّرعيّات.

وقد تبيّن أنّ هذا النّحو من تقرير الإجماع يتوقّف على مقدّمات أربعة:

الأُولى: عملهم بخبر الثقة.

الثّانية: عدم ردع الشّارع عنه.

الثّالثة: وجود المقتضي للردع على تقدير عدم الحجيّة.

الرّابعة: عدم المانع عن الرّدع.

ولا يخفى أنّ تسمية هذا الدليل إجماعاً إنّما هو بملاحظة بناء المسلمين عملاً كما أنّ تسميته سيرة بملاحظة كونه دأب العقلاء.

{إن قلت: يكفي في الرّدع الآيات النّاهية} عن اتّباع غير العلم، فإنّها كافية في الرّدع عن سيرة العقلاء ككفايتها في الرّدع عن العمل بمطلق الظّنّ أو القياس، وإن كانت سيرة العقلاء على العمل بهما في الجملة {و} كذلك يمكن أن يكون رادعاً {الرّوايات المانعة عن اتّباع غير العلم}ومن المعلوم أنّ خبر الواحد لا يفيد علماً {وناهيك} أي: يكفيك في الرّدع {قوله - تعالى - : {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}} فإنّه نهي صريح عن اتّباع ما ليس بعلم {وقوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}} ومن المعلوم أنّ الغالب إفادة الخبر للظنّ، ومن الرّوايات قوله:

ص: 60


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة يونس، الآية: 36.

قلت: لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك؛ فإنّه - مضافاً إلى أنّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظّنّ في أُصول الدين، ولو سلّم فإنّما المتيقّن، لولا أنّه المنصرف إليه إطلاقُها، هو خصوص الظّنّ الّذي لم يقم على اعتباره حجّة -

___________________________________________

«ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم»(1).

{قلت}: يمكن الجواب عن هذا الإشكال بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّه {لا يكاد يكفي تلك الآيات} والرّوايات {في ذلك} الرّدع عن السّيرة {فإنّه مضافاً إلى أنّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظّنّ في أُصول الدين} لأنّ موردها ردع المشركين واليهود والنّصارى عن العمل على تقليد آبائهم الّذي ليس مستنداً إلى العلم وإنّما كانت إرشاديّة؛ لأنّ العقل مستقلّ بعدم جواز العمل بالظنّ في أُصول الدين، إذ لمّا كانت الأديان والمذاهب كثيرة ومختلفة - ولو فرض عدم كثرتها كانت المحتملات العقليّة كثيرة مختلفة - فالعقل يلزم بالأخذ بالمتيقّن المعلوم دفعاً للعقاب المحتمل على تقدير غيره ودفع العقاب المحتمل لازم عقلاً، كما لا يخفى.

الثّاني: {ولو سلّم} أنّ الآيات الرّادعة والرّوايات النّاهية ليستمختصّة بأُصول الدين، بل عامّة تشمل فروع الدين حتّى تشمل ما نحن فيه أيضاً الّذي هو العمل بخبر الواحد في فروع الدين {ف-} نقول {إنّما المتيقّن لولا أنّه المنصرف إليه إطلاقها هو خصوص الظّنّ الّذي لم يقم على اعتباره حجّة} إذ لو قام على اعتباره حجّة كان خروجاً عن كونه ما ليس للإنسان به علم وقد تقرّر سابقاً أنّ خبر الثقة ممّا قام على اعتباره حجّة، وهي تلك الأدلّة الأربعة الّتي قامت على حجيّته، فإنّ مقتضى الجمع بين كلامي المولى (لا تتّبع غير العلم) و(اسمع كلام فلان) أنّه يريد بغير العلم كلّما لا يورث العلم باستثناء كلام فلان المأمور باستماعه.

ص: 61


1- الكافي 7: 407.

لا يكاد يكون الرّدع بها إلّا على وجه دائر؛ وذلك لأنّ الرّدع بها يتوقّف على عدم تخصيص عمومها، أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وهو يتوقّف على الرّدع عنها بها، وإلّا لكانت مخصّصة أو مقيّدة لها، كما لا يخفى.

___________________________________________

لا يقال: إنّ التعليل في قوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ} غير قابل للاستثناء.

لأنّا نقول: مقتضى الجمع بين الكلامين أنّ الظّنّ الّذي لا يستند إلى دليل لا يغني، أمّا المستند فلا بأس بإغنائه، كما أنّه كذلك في الخارج فإنّ العقلاء لا يرون للظنّ الاعتباطي أثراً مع أنّهم يعملون بخبر الثقة، فتأمّل.

الثّالث: أنّه {لا يكاد يكون الرّدع بها} أي: بالآيات عن السّيرة العقلائيّة {إلّا على وجه دائر} يعني لو كانت الآيات رادعة عن السّيرة لزم الدور {وذلك لأنّ الرّدع بها} أي: بالآيات {يتوقّف على عدم تخصيص عمومها أو تقييدإطلاقها بالسيرة} العقلائيّة {على اعتبار خبر الثقة} فإنّ الآيات لو كانت مخصّصة أو مقيَّدة - بالفتح - بالسيرة لم تكن مخصّصة، ولا مقيِّدة - بالكسر - لها، والحاصل لزوم بقاء عموم الآيات وإطلاقها حتّى تكون صالحة للردع عن السّيرة {وهو} أي: عدم تخصيص عمومها وتقييد إطلاقها {يتوقّف على الرّدع عنها} أي: عن السّيرة {بها} أي: بالآيات {وإلّا} تكن الآيات رادعة {لكانت} السّيرة {مخصّصة أو مقيّدة} بالكسر {لها} أي: للآيات {كما لا يخفى}.

والحاصل: أنّ كون الآيات رادعة متوقّفة على بقاء عمومها وبقاء عمومها متوقّف على كونها رادعة، أو تقول رادعيّة الآيات متوقّفة على عدم تخصيص السّيرة لها وعدم تخصيص السّيرة لها متوقّفة على رادعيّتها.

أقول: لكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال في غير محلّه، إذ لو كانت الآيات أظهر بالنسبة إلى السّيرة كانت رادعة، وكونها رادعة تلازم عدم تخصيصها، لا أنّ أحدهما

ص: 62

لا يقال: على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً إلّا على وجه دائر؛ فإنّ اعتباره بها يتوقّف على عدم الرّدع بها عنها، وهو يتوقّف على تخصيصها بها، وهو يتوقّف على عدم الرّدع بها عنها.

فإنّه يقال: إنّما يكفي في حجيّته

___________________________________________

متوقّف على الآخر، ويقرب ذلك بأنّ السّيرة كانت موجودة إلى زمان نزول الآية، فلمّا نزلت الآية وكانت أظهر من السّيرة لم تصلح السّيرة لتخصيصها، وإنّما كانت الآيات بسبب أظهريّتها مخصّصة للسيرة.

{لا يقال}: ما ذكرتم من الدور المتقدّم آتٍ في ما لو أردتم الاستناد فيحجيّة الخبر الواحد إلى السّيرة، و{على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً إلّا على وجه دائر} وحيث إنّ الدور محال، فالاستناد إلى السّيرة في حجيّة الخبر الواحد غير تامّ {فإنّ اعتباره} أي: الخبر {بها} أي: بالسيرة {يتوقّف على عدم الرّدع بها} أي: بالعمومات {عنها} أي: عن السّيرة {وهو} أي: الرّدع بالعمومات عن السّيرة {يتوقّف على تخصيصها} أي: العمومات {بها} أي: بالسيرة {وهو} أي: تخصيص العمومات بالسيرة {يتوقّف على عدم الرّدع بها} أي: بالعمومات {عنها} أي: عن السّيرة.

وإن شئت قلت: حجيّة الخبر بالسيرة متوقّفة على عدم كون السّيرة مردوعة، وعدم كون السّيرة مردوعة متوقّف على كون السّيرة تخصّص العمومات، وكون السّيرة تخصّص العمومات متوقّف على عدم كون السّيرة مردوعة.

{فإنّه يقال}: صحيح أنّ حجيّة الخبر متوقّفة على حجيّة السّيرة لكن حجيّة السّيرة لا تتوقّف على عدم كونها مردوعة، وإنّما تتوقّف على عدم علمنا بالردع وهو حاصل بنفسه من دون توقّف على شيء، فالسيرة كانت ولم نعلم بمردوعيّتها.

وحيث ثبت أنّ الآيات لا تصلح رادعة - للزوم كونها رادعة للسيرةِ الدّورَ، كم-ا تقدّم - بقيت السّيرة حجّة، وإلى هذا أشار بقوله: {إنّما يكفي في حجيّته} أي:

ص: 63

بها عدمُ ثبوت الرّدع عنها؛ لعدم نهوض ما يصلح لردعها، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك، كما لا يخفى؛ ضرورة أنّ ما جرت عليه السّيرة المستمرّة في مقام الإطاعة والمعصية، - وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة، وعدم استحقاقها معالموافقة، ولو في صورة المخالفة للواقع - ، يكون عقلاً في الشّرع متّبعاً، ما لم ينهض دليل على المنع عن اتّباعه

___________________________________________

الخبر {بها} أي: بالسيرة {عدم ثبوت الرّدع عنها} أي: عن السّيرة {لعدم نهوض ما يصلح لردعها} أي: ردع السّيرة {كما يكفي في تخصيصها} أي: السّيرة {لها} أي: للعمومات {ذلك} أي: عدم ثبوت كون السّيرة مردوعة، فإذا لم يثبت كون السّيرة مردوعة أفادت أمرين:

الأوّل: حجيّة الخبر.

الثّاني: تخصيص عموم الآيات {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

وقد بيّن المصنّف ذلك - أي: كفاية عدم ثبوت الرّدع في الأخذ بالسيرة - بأنّ السّيرة المستمرّة العقلائيّة حجّة شرعاً مادام لم يثبت عنها الرّدع، كما في مقام الإطاعة والمعصية والعقاب وما أشبه، فإنّ سيرة العقلاء كلّما حكمت به كان شرعاً أيضاً كذلك، فإذا لم يثبت الرّدع فليكن مقامنا - الّذي هو حجيّة الخبر بالسيرة - أيضاً كذلك، فيكون الخبر حجّة للسيرة مادام لم يثبت ردع الشّارع عن السّيرة.

{ضرورة أنّ ما جرت عليه السّيرة المستمرّة} عند العقلاء {في مقام الإطاعة والمعصية، وفي} مقام {استحقاق العقوبة بالمخالفة وعدم استحقاقها مع الموافقة} للأمر {ولو في صورة المخالفة للواقع} بأن كان صدور الأمر لعلّة مع أنّه كان مخالفاً للواقعي الأولى {يكون عقلاً في الشّرع متّبعاً} خبر قوله: «ضرورة أنّ ما جرت» يعني: أنّ العقل يحكم بأنّ ما جرت عليه السّيرة يكون متّبعاً في الأحكام الشّرعيّة {ما لم ينهضدليل على المنع عن اتّباعه} أي: اتّباع ما جرت عليه السّيرة

ص: 64

في الشّرعيّات، فافهم وتأمّل.

فصل: في الوجوه العقليّة الّتي أُقيمت على حجيّة خبر الواحد

أحدها: أنّه يعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار، من الأئمّة الأطهار بمقدار وافٍ بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لانحلّ علمُنَا الإجمالي - بثبوت التكاليف بين الرّوايات وسائر الأمارات -

___________________________________________

{في الشّرعيّات} فإذا كانت هناك سيرة ولم ينهض دليل شرعيّ على المنع عنها أخذ بها في الشّرعيّات؛ لأنّ الشّارع لو لم يردّها لمنع عنها، فعدم المنع عنها كافٍ في الأخذ بمقتضاها {فافهم وتأمّل} حتّى لا يشتبه عليك الأمر فتقول: فماذا يصنع الشّارع إذا أراد الرّدع عن السّيرة، وهل يمكن أن يقول في مقام الرّدع عنها بأصرح من الآيات والرّوايات النّاهية عن العمل بغير العلم، حتّى نحتاج إلى الإجابة بأنّ الرّدع لا يكون بمثل هذه العمومات وإنّما يكون بمثل ما ردع عن القياس؟! فلو أراد الشّارع الرّدع لزم أن تكون أدلّة الرّدع نصّاً كأن يقول: لا تعملوا بالخبر الواحد، أو تكون أظهر من السّيرة.

[فصل في الوجوه العقليّة التي أُقيمت على حجيّة خبر الواحد]

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة خبر الواحد، العقل

{فصل: في الوجوه العقليّة الّتي أُقيمت على حجيّة خبر الواحد} وهي على ما ذكره المصنّف(رحمة الله) هنا ثلاثة:

{أحدها: أنّه يعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار، من الأئمّةالأطهار} لبداهة أنّ هذه الأخبار ليست من وضع واضع وجعل جاعل بعد هذا الاهتمام الشّديد من أرباب الحديث وصحّته ومقابلته وأخذ الإجازة له، وتلك الكميّة الواردة الموجودة ليست قليلة، وإنّما هي {بمقدار وافٍ بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار} الصّادر قطعاً {لانحلّ علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الرّوايات وسائر الأمارات} فإنّا نعلم إجمالاً أنّ بين الرّوايات وبين سائر

ص: 65

إلى العلم التفصيلي بالتكاليف، في مضامين الأخبار الصّادرة المعلومة تفصيلاً، والشّكّ البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة.

ولازم ذلك: لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة، وجوازُ العمل على طبق النّافي منها، في ما إذا لم يكن في المسألة

___________________________________________

الأمارات - كالإجماعات والشّهرات والأدلّة العقليّة والأصول العمليّة - تكاليف كثيرة، فإذا حصلنا على المقدار المقطوع الصّدور من الرّوايات انحلّ ذلك العلم الإجمالي {إلى} شيئين:

الأوّل: {العلم التفصيلي بالتكاليف} الموجودة {في مضامين الأخبار الصّادرة} عن الأئمّة^ {المعلومة تفصيلاً}.

{و} الثّاني: {الشّكّ البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة، و} من المعلوم أنّ {لازم ذلك} العلم الإجمالي بثبوت التكاليف {لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة}للتكاليف، كالتي تقول بحرمة الخمر والزنا ووجوب الصّلاة والصّيام إلى غير ذلك من الأحكام التكليفيّة.

وإنّما خصّصنا لزوم العمل بالأخبار المثبتة لأنّ الأخبار على قسمين: [1] مثبتة كما ذكر [2] ونافية كالتي تقول بعدم لزوم الدعاء عند رؤية الهلال وعدم وجوب زيارة الحسين(علیه السلام) وعدم حرمة قتل الحيوان غير المؤذي مثلاً، ومن المعلوم أنّ العلم الإجمالي بوجود تكاليف إنّما يلزم الاحتياط بالنسبة إلى الأخبار المثبتة للتكليف، أمّا بالنسبة إلى الأخبار النّافية فلا شأن له بها لعدم تعلّقه بالتكليف.

{و} ليس معنى ذلك حرمة العمل على طبق النّافي، بل القاعدة تقتضي {جواز العمل على طبق النّافي منها} أي: من الأخبار {في ما إذا لم يكن في المسألة} دليل آخر يثبت التكليف، وذلك لضرورة أنّه لو لم يكن هناك دليل إطلاقاً على

ص: 66

أصل مثبت له، من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب، بناءً على جريانه في أطراف ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السّابقة في بعضها، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه، وإلاّ

___________________________________________

حَظْرِ شيء أو وجوب شيء لا مانع من العمل على طبق الخبر النّافي للتكليف؛ لأنّه ليس خلاف العلم الإجمالي ولا خلاف دليل معتبر.

نعم، لا يجوز العمل على طبق الخبر النّافي في ما لو كان في مورده {أصل مثبت له} أي: للتكليف {من قاعدة الاشتغال} كما لو كان علم إجماليّ بالتكليف طرفه مورد لهذا الخبر النّافي {أو} من {الاستصحاب} المثبت للتكليف {بناءً على جريانه} أي:الاستصحاب {في أطراف ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السّابقة في بعضها أو} علم ب- {قيام أمارة معتبرة على انتقاضها} أي: الحالة السّابقة {فيه} أي: في بعض الأطراف.

والحاصل: أنّ الخبر النّافي لا يجوز العمل به، إذا كان هناك دليل مثبت للتكليف سواء كان الدليل الاحتياط أو الاستصحاب، لكن الاستصحاب إنّما ينافي الخبر لو قلنا بجريانه في أطراف العلم الإجمالي الّذي انتقض الحالة السّابقة في بعض أطرافه أو قام دليل معتبر على الانتقاض، فإنّه في هذا الحال يكون اللّازم اتّباع الاستصحاب ولا يجوز العمل بالخبر النّافي.

وإنّما قلنا: «بناءً على جريانه» الخ، تنبيهاً إلى أنّه لا مانع من العمل بالخبر النّافي لو لم نقل بجريان الاستصحاب في طرف العلم الإجمالي المنقوض بعض أطرافه، فإنّ بعضهم ذهب إلى أنّ العلم الإجمالي مطلقاً - ولو علم انتقاض بعض أطرافه أو قامت أمارة على انتقاضه - يمنع عن جريان الاستصحاب في جميع الأطراف، وذلك من جهة لزوم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب وذيله.

فتحصّل: أنّه لو قلنا بجريان الاستصحاب كان المانع عن العمل بالخبر النّافي أحد أمرين: الاشتغال أو الاستصحاب {وإلّا} نبني على ذلك، بل قلنا بعدم جريان

ص: 67

لاختصّ عدمُ جواز العمل على وفق النّافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.

وفيه: أنّه لا يكاد ينهض على حجيّة الخبر، بحيث يقدّم تخصيصاً أو تقييداً أو ترجيحاً على غيره، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم، وإن كان يسلم عمّا أُورد عليه: من أنّ لازمه الاحتياط في سائر الأمارات، لا

___________________________________________

الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً {لاختصّ عدم جواز العمل على وفق} الخبر {النّافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال}.

هذا تمام الكلام في الدليل العقلي الأوّل على حجيّة خبر الواحد، وحاصله العمل بالخبر من باب العلم الإجمالي بأحكام في الأخبار الواردة.

{وفيه أنّه} أي: هذا الدليل العقلي لا يفيد حجيّة الخبر بما هو خبر، بل هو عمل بالاحتياط، فلا ينفع في ما نحن بصدده من حجيّة الخبر استقلالاً حتّى يقيّد به المطلق ويخصّص به العام، إذ {لا يكاد ينهض} هذا الدليل العقلي {على حجيّة الخبر بحيث يُقدّم} الخبر - بصيغة المجهول - {تخصيصاً} للعام {أو تقييداً} للمطلق {أو ترجيحاً على غيره} في مقام التعارض {من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم} بيان للمقدّم عليه على طريق اللفّ والنّشر المرتّب، فإنّ الشّيء الّذي هو طرف الاحتياط ليس من الظّهور والقوّة بقدر يقاوم الإطلاق والعموم وما يعارضه من المفهوم ونحوه.

ثمّ إنّ الشّيخ المرتضى أشكل على هذا الدليل العقلي بأنّ لازمه الاحتياط في جميع الأخبار والأمارات لا خصوص الأخبار، إذ العلم الإجمالي بوجود أحكام في ما بأيدينا لا يختصّ بالأخبار، بل العلم الإجمالي كما هو حاصل بالنسبة إلى الأخبار كذلك هو حاصل بالنسبة إلى مطلق الأمارات الّتي منها الأخبار.

لكن المصنّف بالتقريب الّذي ذكره للدليل سدّ منفذ هذا الإشكال، فالدليل العقلي المذكور {وإن كان} يرد عليه الإشكال المتقدّم لكنّه {يسلم عمّا أورد} الشّيخ(رحمة الله) {عليه من أنّ لازمه الاحتياط في سائر الأمارات، لا} الاحتياط

ص: 68

في خصوص الرّوايات؛ لما عرفت من انحلال العلم الإجمالي بينهما بما علم بينالأخبار بالخصوص ولو بالإجمال، فتأمّل جيّداً.

ثانيها: ما ذكره الوافية مستدلّاً على حجيّة الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة - كالكتب الأربعة -

___________________________________________

{في خصوص الرّوايات} كما هو مفروض الكلام، وإنّما قلنا بأنّه يسلم عن إيراد الشّيخ {لما عرفت من انحلال العلم الإجمالي} القائم على وجود أحكام {بينهما} أي: بين الأمارات والأخبار {بما علم بين الأخبار بالخصوص} فإنّا قرّرنا في الدليل أنّه لو فرض تبيّن الأحكام الموجودة في الأخبار انحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيليّ وإلى شكّ بدويّ، ومثل هذا يوجب عدم كون سائر الأمارات طرفاً للعلم الإجمالي، إذ لو كان طرفاً له لزم عدم الانحلال بحصول أحكام قطعيّة من بين الأخبار فقط.

وحيثما كان هناك علمان إجماليّان أحدهما أكبر من الآخر وكان بحيث لو وجد المعلوم في الأصغر ارتفع العلم لم يكن سائر الأطراف الّتي هي خارجة بالأكبريّة طرفاً للعلم الإجمالي، بمعنى أنّ العلم الإجمالي الأكبر ينحلّ إلى العلم الإجمالي الأصغر، فلو علمت بأنّي مدين إلى جمع من أهالي كربلاء ثمّ علمت بأنّه لو أرضيت جميع من في سوق القبلة - مثلاً - لم يكن لي علم بكوني مديناً إلى أحد، انحلّ العلم الإجمالي بالنسبة إلى جميع الأهالي إلى علم إجماليّ بالنسبة إلى أهالي السّوق، وهنا كذلك فإنّ العلم الحاصل بأنّ الأخبار {ولو بالإجمال} موجب لانحلال العلم الإجمالي بالأصغر {فتأمّل جيّداً} وفي المقام تفصيل من شاءه راجع المطوّلات.

{ثانيها} أي: الثّاني من الوجوه العقليّة الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر الواحد {ما ذكره} في كتاب {الوافية مستدلّاً علىحجيّة الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة} [1] الكافي [2] ومن لا يحضره الفقيه [3]

ص: 69

مع عمل جَمع به من غير ردّ ظاهر.

وهو: «أنّا نقطع ببقاء التكليف(1) إلى يوم القيامة، سيّما بالأصول الضّروريّة، كالصلاة والزكاة والصّوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها،

مع أنّ جُلّ أجزائها وشرائطها وموانعها، إنّما يثبت بالخبر غير القطعيّ، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأُمور عن كونها هذه الأُمور، عند ترك العمل بالخبر الواحد، ومن أنكر فإنّما ينكره باللسان، {وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ}»(2)(3)،

انتهى.

___________________________________________

والتهذيب [4] والاستبصار {مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر} مستند إلى وجه قويّ {وهو} مركّب من ثلاث مقدّمات: العلم بحدوث التكليف، والعلم ببقائه، والعلم بأنّ الغالب منه موجود في هذه الكتب، ف- {«إنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة سيّما بالأصول} أي: الأُمّهات الفرعيّة من التكاليف {الضّروريّة كالصلاة والزكاة والصّوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها} من رؤوس الأحكام المدرجة في كتب الفقهاء.{مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها} كالركوع والطّهارة والحدث بالنسبة إلى الصّلاة {إنّما يثبت بالخبر غير القطعي بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأُمور عن كونها هذه الأُمور عند ترك العمل بالخبر الواحد} والاكتفاء بالقطعيّات الثابتة من الأجزاء والشّرائط والموانع {ومن أنكر} هذه المقدّمة الثّالثة وقال بأنّ الاكتفاء بالقطعي لا يوجب خروج هذه الحقائق عن حقائقها {فإنّما ينكره باللسان {وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ}»} أو يجهل موازين الفقه {انتهى} دليل الوافية.

ص: 70


1- في الوافية: «التكاليف».
2- سورة النحل، الآية: 106.
3- الوافية في أصول الفقه: 159.

وأُورد عليه(1):

أوّلاً: بأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشّرائط بين جميع الأخبار لا خصوص الأخبار، المشروطة بما ذكره، فاللّازم حينئذٍ؛ إمّا الاحتياط، أو العمل بكلّ ما دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته.

قلت: يمكن أن يقال:

___________________________________________

{وأُورد عليه} والمورد الشّيخ في الرّسائل {أوّلاً: بأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشّرائط} والموانع {بين جميع الأخبار} الّتي بأيدينا {لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره} من كونها في الكتب المعتمدة مع عمل جمع وعدم ردّ ظاهر {فاللّازم حينئذٍ} أي: حين العلم الإجمالي بوجود الأجزاء ونحوها في تمام الأخبار {إمّاالاحتياط} في جميع الأخبار - لا خصوص قسم منها كما ذكره - {أو العمل بكلّ ما دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته} من الأخبار في ما لو تعذّر العمل بكلّ الأخبار الدالّة، فيؤخذ ببعضها المظنون، وكأنّ هذه العبارة من المصنّف اختصار لعبارة الشّيخ في الرّسائل حيث قال: «فاللّازم حينئذٍ إمّا الاحتياط أو العمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته، وإمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة أو الشّرطيّة»(2)،

انتهى.

والمراد به كما في الحقائق(3)

أنّ العلم الإجمالي بموافقة جملة من الأخبار الدالّة على الجزئيّة ونحوها يوجب الاحتياط بالعمل بكلّ خبر دلّ على ذلك، ومع تعذّره أو لزوم الحرج ينتقل إلى الظّنّ بالصدور.

{قلت: يمكن أن يقال} أنّ إشكال الشّيخ على الوافية غير وارد، إذ العلم الإجمالي الوسيع الأطراف ينحلّ إلى علم إجماليّ تنحصر أطرافه بين الأخبار

ص: 71


1- فرائد الأصول 1: 361.
2- فرائد الأصول 1: 361.
3- حقائق الأصول 2: 144.

إنّ العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار، إلّا أنّ العلم بوجود الأخبار الصّادرة عنهم^ بقدر الكفاية بين تلك الطّائفة، أو العلم باعتبار الطّائفة كذلك بينها، يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي، وصيرورة غيره خارجاً عن طرف العلم - كما مرّت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأوّل - .

___________________________________________

الموجودة في الكتب المعتمدة، وذلك يوجب عدم لزوم العمل احتياطاً بأكثر منالأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة، ف- {إنّ العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار} الّتي في الكتب المعتمدة وغيرها {إلّا أنّ العلم بوجود الأخبار الصّادرة عنهم^ بقدر الكفاية، بين تلك الطّائفة} الموجودة في الكتب المعتمدة الّتي عمل بها جمع من غير ردّ ظاهر {أو العلم باعتبار الطّائفة} من الأخبار {كذلك} أي: بقدر الكفاية {بينها} أي: بين تلك الكتب المعتمدة {يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي} الواسع النّطاق الّذي كان أطرافه جميع الأخبار الواردة في الكتب المعتمدة وغيرها.

والظّاهر عدم الفرق بين العلم بوجود الأخبار والعلم باعتبارها، فالترديد في كلام المصنّف لفظيّ، فإنّه لا يتفاوت الواقع العملي بين أن نقول علمنا بوجود خبر صادر عن الإمام في غسل الجمعة، أو نقول علمنا باعتبار خبر ورد في غسل الجمعة، وإن كان بين العلم بالصدور وبين العلم بالاعتبار - في نفسهما - عموم من وجه؛ لأنّ ما علم صدوره يمكن عدم اعتباره، كما أنّ ما علم اعتباره يمكن عدم صدوره.

وعلى أيّ حال، فإنّ العلم بوجود أخبار بقدر الكفاية في الكتب المعتمدة موجب، لانحلال العلم الإجمالي الّذي كان يشمل هذه الأخبار وغيرها {وصيرورة غيره} أي: غير ما في الكتب المعتمدة {خارجاً عن طرف العلم} على نحو الشّبهة البدويّة {كما مرّت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأوّل} فراجع.

ص: 72

اللّهمّ إلّا أن يُمنع عن ذلك، وادُّعِيَ عدم الكفاية في ما علم بصدوره أو باعتباره، من تلك الطّائفة أو ادّعي العلم بصدور أخبار أُخر بين غيرها،فتأمّل.

وثانياً: بأنّ قضيّته إنّما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئيّة أو الشّرطيّة، دون الأخبار النّافية لهما.

والأولى أن يورد عليه: بأنّ قضيّته إنّما هو الاحتياط بالأخبار المثبتة، في ما لم تقم حجّة معتبرة على نفيهما، من عموم دليل أو إطلاقه،

___________________________________________

{اللّهمّ إلّا أن} يقرب إيراد الشّيخ على الوافية بأن {يمنع عن ذلك} الانحلال {وادّعي عدم الكفاية} بالمعلوم إجمالاً {في ما علم بصدوره، أو} علم {باعتباره من تلك الطّائفة} الواردة في الكتب المعتمدة {أو ادُّعِيَ العلم} الإجمالي {بصدور أخبار أُخر بين غيرها} أي: غير تلك الطّائفة المدرجة في الكتب المعتمدة {فتأمّل} بأنّه لا وجه لهذه الدعوى، فإنّا إذا راجعنا وجداننا لم نجد علماً إجماليّاً لا ينحلّ بما في الكتب المعتمدة.

{و} أورد الشّيخ(رحمة الله) على الدليل الثّاني الّذي ذكره الوافية لحجيّة الخبر الواحد {ثانياً: بأنّ قضيّته} أي: مقتضى هذا الدليل الّذي يقول حجيّة الخبر مبتنياً على علمنا بأجزاء وشرائط وموانع {إنّما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئيّة أو الشّرطيّة دون الأخبار النّافية لهما} إذ الدليل أوجب العمل بالأخبار؛ لأنّه لو لم يعمل بها لزم خروج الحقائق الثابتة شرعاً - كالصلاة والصّيام - عن كونها تلك الحقائق، ومن المعلوم أنّ الأخبار النّافية ليست كذلك.

{والأولى أن يورد عليه} بما تقدّم في الجواب السّابق {بأنّ قضيّته} أي: مقتضى هذا الدليل {إنّما هوالاحتياط بالأخبار المثبتة} للتكاليف، فيكون العمل بالأخبار المثبتة من باب الاحتياط، وهو في الحقيقة عمل بالاحتياط لا بالأخبار، وعليه فيكون هذا العمل الاحتياطي {في ما لم تقم حجّة معتبرة على نفيهما من عموم دليل أو إطلاقه} قال في الحقائق: «إذ مع قيام الحجّة المعتبرة

ص: 73

لا الحجيّة بحيث يخصّص أو يقيّد بالمثبت منها، أو يعمل بالنافي في قبال حجّة على الثبوت ولو كان أصلاً، كما لا يخفى.

ثالثها: ما أفاده بعض المحقّقين(1) بما ملخّصه: أنّا نعلم بكوننا مكلّفين بالرجوع إلى الكتاب والسّنّة إلى يوم القيامة، فإن تمكّنّا من الرّجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه، فلا بدّ من الرّجوع إليهما كذلك، وإلّا فلا محيص عن الرّجوع على نحو يحصل الظّنّ به

___________________________________________

على نفي التكليف لا تجري أصالة الاحتياط في العمل بالخبر المثبت له، كما لو قامت البيّنة على طهارة أحد أطراف الشّبهة المحصورة. ثمّ إنّ هذا التقييد في كلام المصنّف هو الفارق بينه وبين إيراد شيخه(رحمة الله)»(2)، انتهى {لا الحجّيّة بحيث يخصّص أو يقيّد بالمثبت منها أو يعمل بالنافي في قبال حجّة على الثبوت، ولو كان} تلك الحجّة {أصلاً} فإنّ الأصل مقدّم عليه، وحاصل كلام المصنّف أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى {كما لا يخفى}.

{ثالثها}: أي: الثّالث من الوجوه العقليّة الّتي أُقيمت على حجيّة خبرالواحد {ما أفاده بعض المحقّقين} وهو الشّيخ محمّد تقي في حاشيته على المعالم {بما ملخّصه: أنّا نعلم بكوننا مكلّفين بالرّجوع إلى الكتاب والسّنّة إلى يوم القيامة، فإن تمكّنّا من الرّجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه} أي: ما بحكم العلم - وهو الّذي قام عليه دليل معتبر - وبعبارة أُخرى العلم أو العلمي.

{فلا بدّ من الرّجوع إليهما كذلك} أي: بالعلم أو العلمي، أمّا الأوّل؛ فلأنّه طريق ذاتيّ، وأمّا الثّاني؛ فلأنّه يرجع إليه {وإلّا} نتمكّن من الرّجوع إلى الكتاب والسّنّة بنحو العلم أو العلمي {فلا محيص عن الرّجوع على نحو يحصل الظّنّ به} أي:

ص: 74


1- هداية المسترشدين 3: 373.
2- حقائق الأصول 2: 145.

في الخروج عن عهدة هذا التكليف، فلو لم يتمكّن من القطع بالصدور أو الاعتبار، فلا بدّ من التنزّل إلى الظّنّ بأحدهما.

وفيه: أنّ قضيّة بقاء التكليف فعلاً بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنّة - كما صرّح بأنّها المراد منها في ذيل كلامه، زيد في علوّ مقامه - إنّما هي الاقتصار في الرّجوع إلى الأخبار المتيقّن الاعتبار، فإن وفى،

___________________________________________

بالحكم {في الخروج عن عهدة هذا التكليف} لأنّ الظّنّ هو الطّريق العقلائي لدى انسداد باب العلم والعلمي {فلو لم يتمكّن} الإنسان في باب الرّجوع إلى الكتاب والسّنّة {من القطع بالصدور أو الاعتبار فلا بدّ من التنزّل إلى الظّنّ بأحدهما} ومن المعلوم أنّ الأخبار تفيد الظّنّ فلا بدّ من الرّجوع إليها لدى انسداد بابي العلم والعلمي.{وفيه} أنّا نتسائل هل المراد من السّنّة في قول هذا المحقّق قول المعصوم وفعله وتقريره أو المراد الحاكي عن هذه الثلاثة قطعاً، أو المراد مطلق الخبر الحاكي للسنّة ولو لم يعلم المطابقة حتّى تكون السّنّة من كلامه يراد بها الأخبار الموجودة بأيدينا، فإن كان المراد المعنى الأوّل فإنّه لا يرتبط بالخبر الواحد إطلاقاً، وإن كان المراد الثّاني فهو بمعزل عمّا نحن فيه لفرض أنّا لا نعلم أنّ هذه الأخبار الموجودة حاكية قطعيّة عن السّنّة الواقعيّة، وإن كان المراد الثّالث - كما هو الظّاهر من كلامه - ففيه {أنّ قضيّة} أي: مقتضى {بقاء التكليف فعلاً بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنّة - كما صرّح} المحقّق المذكور {بأنّها} أي: هذه الأخبار هي {المراد منها} أي: من السّنّة {في ذيل كلامه، زيد في علوّ مقامه - إنّما هي الاقتصار في الرّجوع إلى الأخبار المتيقّن الاعتبار} الّذي نقطع بصدوره عن المعصوم أو ما بحكم القطع.

{فإن وفى} هذا المقدار المتيقّن الاعتبار بعلمنا الّذي مفاده وجوب الرّجوع

ص: 75

وإلّا أُضيف إليه الرّجوعُ إلى ما هو المتيقّن اعتباره بالإضافة، لو كان، وإلّا فالاحتياط بنحو عرفت، لا الرّجوع إلى ما ظنّ اعتباره؛ وذلك للتمكّن من الرّجوع علماً - تفصيلاً أو إجمالاً - ، فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظنّ اعتباره، هذا.

مع أنّ مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السّنّة بذاك المعنى - في ما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار

___________________________________________

إلى السّنّة فهو {وإلّا} يف هذا المقدار بعلمنا {أُضيف إليه} أي: ذلك المقدار المتيقّن الاعتبار {الرّجوع إلى} جملة أُخرى من الأخبار من {ما هو المتيقّن اعتباره بالإضافة} كالأخبار الّتي أسنادها صحيحة أو موثّقة وإن لم نقطع بصدورها، فإنّها متيقّنة الاعتبار بالنسبة إلى الأخبار الضّعاف، وإن لم تكن بمثابة القسم الأوّل المقطوع الصّدور، وهذا إنّما هو في ما {لو كان} متيقّن الاعتبار في الرّتبة الأُولى أو الثّانية {وإلّا} يكن متيقّن الاعتبار مطلقاً أو في المرتبة الثّانية أو لم يف المتيقّن من الاعتبارين بمقدار علمنا الّذي يقول بوجوب الرّجوع إلى السّنّة.

{ف-} المرجع {الاحتياط} في ما بأيدينا من الأخبار {بنحو عرفت} سابقاً، وذلك لأنّ العقل يوجب العمل بما هو المتيقّن من كلام المولى حتّى يصحّ الاستناد إليه، فإن لم يقدر فالعقل يلزم الاحتياط {لا الرّجوع إلى ما ظنّ اعتباره} فإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئاً {وذلك للتمكّن من الرّجوع علماً تفصيلاً} أنّه في القدر المتيقّن {أو إجمالاً} إذا لم يف وآل الأمر إلى الاحتياط {فلا وجه معه} أي: مع إمكان الرّجوع كذلك {من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظنّ اعتباره}.

{هذا} كلّه في ما لو أراد المحقّق المذكور من السّنّة الواجبة الرّجوع إليها الأخبار الحاكية للسنّة لا في الكتب {مع أنّ مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السّنّة بذاك المعنى} وهو الأخبار الحاكية مطلقاً {في ما لم يعلم بالصدور} أي: بصدورها عن المعصوم {ولا بالاعتبار} بأن لم يقم دليل قطعيّ

ص: 76

بالخصوص - واسع.وأمّا الإيراد عليه(1):

برجوعه، إمّا إلى دليل الانسداد، لو كان ملاكه دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعيّة، وإمّا إلى الدليل الأوّل لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار.

ففيه: أنّ ملاكه

___________________________________________

على اعتبارها {بالخصوص} متعلّق «بالاعتبار»، أي: لم يعلم اعتبارها بالخصوص مقابل اعتبارها بدليل الانسداد الأقلّ {واسع} خبر «أنّ مجال»، فإنّه لم يقم دليل على العمل بهذه الأخبار الموجودة في الكتب، وإنّما قام الدليل على وجوب العمل بالسنّة، وحيث إنّ مفروض الكلام عدم علمنا بأنّ هذه الأخبار حاكية للسنّة، فلا ربط لأحد المقامين بالآخر.

{وأمّا الإيراد عليه} أي: على دليل المحقّق صاحب الحاشية بما ذكره الشّيخ رضي اللّه عنه في الرّسائل بأنّ هذا الدليل إمّا أن يكون دليل الانسداد الآتي، وإمّا أن يكون دليل العقل المذكور في أوّل الأدلّة العقليّة.

وقد أُجيب عن الثّاني كما يجاب عن الأوّل فليس هذا دليل مستقلّ يحتاج إلى الغاية، والجواب عن ذلك {برجوعه إِمّا إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعيّة} كما سيأتي تفصيله {وإِمّا إلى الدليل} العقلي {الأوّل لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار}.

والحاصل: أنّ مبنى هذا الدليل إن كان هو أنّا نعلم بالأحكام الواقعيّة فيجبامتثالها، فهذا راجع إلى دليل الانسداد، وإن كان هو أنّا نعلم بصدور أخبار كثيرة عن الأئمّة فيجب العمل بها، فهذا راجع إلى الدليل العقلي الأوّل، وعلى كلا التقديرين ليس هو دليل مستقلّ {ففيه: أنّ ملاكه} ليس أحد الأمرين ليرجع إلى

ص: 77


1- فرائد الأصول 1: 363.

إنّما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الرّوايات - في الجملة - إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه، تعرف حقيقة مرامه.

فصل: في الوجوه الّتي أقاموها على حجيّة الظّنّ وهي أربعة:

الأوّل: أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر، ودفعُ الضّرر المظنون لازم.

___________________________________________

أحد الدليلين، بل ملاكه {إنّما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الرّوايات} فإنّا نعلم أنّا مكلّفون بالرجوع إلى هذه الرّوايات الّتي بأيدينا {في الجملة} وهذا التكليف مستمرّ {إلى يوم القيامة} ومن المعلوم أنّ هذا العلم شيء ثالث فليس علماً بالأحكام الواقعيّة وليس علماً بصدور أخبار كثيرة، بل يمكن أن يجعل هذا العلم في المرتبة الثّالثة بأن نقول: إنّا نعلم بتكاليف واقعيّة ونعلم أنّ هذه التكاليف الواقعيّة بيّنت في الكتاب والأخبار الصّادرة، ونعلم بأنّا مكلّفون بالرجوع إلى ما بأيدينا من الأخبار.

{فراجع تمام كلامه تعريف حقيقة مرامه} لكي يتّضح لك الفرق بين دليل الانسداد والدليل العقلي الأوّل والدليل العقلي الثّالث.

[فصل أدلة حجيّة مطلق الظّنّ]

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة مطلق الظّنّ{فصل: في الوجوه الّتي أقاموها على حجيّة الظّنّ} المطلق {وهي أربعة} على ما ذكرها المصنّف هنا:

[الدليل الأوّل]

{الأوّل: أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر} فإذا ظنّ المجتهد بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال فخالف ظنّاً بالضرر المتوجّه إليه من ناحية ترك الواجب، وكذلك إذا ظنّ بحرمة الأفيون فخالف ظنّاً بالضرر المتوجّه إلى من ناحية فعل الحرام {ودفع الضّرر المظنون لازم} بحكم العقل.

ص: 78

أمّا الصّغرى: فلأنّ الظّنّ بوجوب شيء أو حرمته، يلازم الظّنّ بالعقوبة على مخالفته، أو الظّنّ بالمفسدة فيها، بناءً على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأمّا الكبرى: فلاستقلال العقل بدفع الضّرر المظنون، ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح؛

___________________________________________

{أمّا الصّغرى} وهي أنّ مخالفة المظنون مظنّة الضّرر {فلأنّ الظّنّ بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظّنّ بالعقوبة على مخالفته} فإنّه كما يلازم العقاب القطعي المخالفة القطعيّة كذلك يلازم العقاب المظنون المخالفة المظنونة {أو الظّنّ بالمفسدة فيها} أي: في المخالفة والمفسدة أمر غير العقاب، فإنّ مفسدة الخمر الإسكار وهو غير العقاب المترتّب على شربه، فيكون الظّنّ بوجوب شيء أو حرمته يلازم مخالفة أمرين: الظّنّ بالعقاب والظّنّ بالمفسدة، ولكن الظّنّ بالعقاب متّفق عليه بين الجميع.وأمّا الظّنّ بالمفسدة فإنّما هو {بناءً على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد} كما هو مبنى العدليّة من الشّيعة والمعتزلة.

أمّا على مبنى الأشاعرة المنكرين لذلك فلا تلازم بين الظّنّ بالحكم وبين الظّنّ بالمفسدة على تقدير المخالفة، وكذلك على مبنى بعض العلماء الّذين ذهبوا إلى كفاية كون المصلحة في الأوامر والنّواهي بنفسها وإن لم تكن في متعلّقاتها كذلك.

{وأمّا الكبرى} وهي أنّ دفع الضّرر المظنون واجب {فلاستقلال العقل بدفع الضّرر المظنون} بل ربّما يقال: إنّه من الفطريّات، فإذا أدرك الإنسان الظّنّ بالضرر سعى في الخلاص منه والفرار.

ولا يخفى أنّه لا تنافي بين أن يكون من مستقلّات العقل ومن الأُمور الفطريّة، كما أنّ العقل مستقلّ بهذا الحكم.

{ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح} العقليّين فإنّه قد اختلفت العدليّة والأشاعرة

ص: 79

لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما، بل يكون التزامه بدفع الضّرر المظنون، بل المحتمل بما هو كذلك، ولو لم يستقلّ العقل بالتحسين والتقبيح، مثل الالتزام بفعل ما استقلّ بحسنه - إذا قيل باستقلاله - ،

___________________________________________

في أنّه هل للعقل التحسين والتقبيح أم لا، بل ذانك خاصّان بالشرع؟ فالعدليّة ذهبوا إلى الأوّل، والأشاعرة ذهبوا إلى الثّاني، وهذا المبحث لا يرتبط بما نحن فيه، إذ رفع الضّرر المظنون واجب عقلاً ولو سلكنا مسلك الأشاعرة {لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه} أي: حكم العقل بدفع الضّرر{بهما} أي: بالتحسين والتقبيح، فإنّ العقل وإن لم يدرك الحسن والقبح يدرك لزوم الفرار من الضّرر كما يدرك لزوم جلب النّفع {بل يكون التزامه بدفع الضّرر المظنون، بل المحتمل} احتمالاً عقلائيّاً، فإنّ العقلاء يجتنبون عن أواني عشرة إذا كان فيها إناء مسموم، مع أنّ المعلوم أنّ كون السّمّ في هذا الإناء المعيّن احتمالاً في عشرة، يعني أنّ احتمال كونه مسموماً واحد واحتمال كونه غير مسموم تسعة، ومع ذلك نرى العقلاء يعتنون بهذا الاحتمال.

نعم، الاحتمال الّذي لا يعتني به العقلاء، كما لو انقلبت سيّارة في ضمن السّيّارات الّتي تذهب إلى بغداد في كلّ أُسبوع لا يوجب العقل الفرار منه، ولذا نراهم يسافرون وإن كان الضّرر محتملاً، وبهذا عرفت أنّ في مورد الضّرر يعتنى باحتماله القريب ولو كان وهماً وغيره ظنّاً، كما في مثال الإناء المسموم، وهذا الاعتناء من العقلاء باحتمال الضّرر إنّما هو {بما هو كذلك} أي: احتمال للضرر أو ظنّ له.

{ولو لم يستقلّ العقل بالتحسين والتقبيح} فإنّ باب احتمال الضّرر باب، وباب التحسين والتقبيح باب آخر، والتزام العقل بدفع الضّرر ولو لم يستقلّ

بالتحسين والتقبيح إنّما هو {مثل الالتزام} من العقل {بفعل ما استقلّ بحسنه إذا قيل باستقلاله} بالحسن، فكلّما كان حسناً أمر العقل بفعله وكلّما كان محتمل

ص: 80

ولذا أطبق العقلاء عليه، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح، فتدبّر جيّداً.

والصّواب في الجواب هو: منع الصّغرى:

___________________________________________

الضّرر أمر العقل باجتنابه - سواء قيل بالتحسين والتقبيح العقلي أم لا -{ولذا أطبق العقلاء عليه} أي: على وجوب دفع الضّرر المحتمل {مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح، فتدبّر جيّداً} فإنّ الحقّ أنّهما ضروريّان، وإنّ من أنكرهما إنّما هو لشبهة، فإنّ العقلاء لا يكادون يشكون في أنّ من قتل صديقاً له بلا أيّ جرمٍ فعل قبيحاً، ومن ألقى الثعابين السّامّة على أطفال أبرياء لتنهش لحومهم فعل قبيحاً - سواء كان هناك شرع أم لم يكن - وللكلام تفصيل طويل مذكور في كتب الكلام، وقد ذكرنا بعض الاستدلال في القول السّديد(1)،

فليراجع.

{و} قد أُجيب عن هذا الدليل بمنع الكبرى كما عن الحاجبي(2)، قال: إنّ هذا الدليل مبنيّ على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين، وتلك القاعدة ممنوعة، لكن حيث قد عرفت عدم ابتناء هذا الدليل على تلك القاعدة لم يصحّ هذا الجواب، وعلى هذا ف- {الصّواب في الجواب هو منع الصّغرى} أي: قوله في مخالفة ما ظنّه من الحكم مظنّة للضرر، بأن نسأل هل المراد بالضرر المظنون الضّرر الأُخروي، أي: العقاب أو الضّرر الدنيوي، أي: المفسدة كالسكر في الخمر؟ فإن كان المراد الضّرر الأُخروي فنقطع بعدم الضّرر؛ لأنّه من العقاب بلا بيان، وقد رفع ما لا يعلمون، وإن كان المراد الضّرر الدنيوي ففيه أنّ الحكم لا يلازم الضّرر الدنيوي الشّخصي، ففي بعض الأحكام الواجبة أضرار شخصيّة كالزكاة، وفي بعض الأحكام المحرّمة منافع شخصيّة كالقمار بالنسبة إلى الرّابح والرّبا بالنسبة

ص: 81


1- القول السديد: 290.
2- شرح مختصر الأصول 1: 163.

أمّا العقوبة: فلضرورة عدم الملازمة بين الظّنّ بالتكليف والظّنّ بالعقوبة علىمخالفته، لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته، وإنّما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها، لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها. ومجرّد الظّنّ به - بدون دليل على اعتباره - لا يتنجّز به، كي يكون مخالفته عصيانه.

إلّا أن يقال: إنّ العقل وإن لم يستقلّ بتنجّزه، بمجرّده بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته، إلّا أنّه

___________________________________________

إلى الآخذ، إذن فالظنّ بالحكم لا يلازم الظّنّ بالضرر.

{أمّا العقوبة} الّتي هي الضّرر الأُخروي {فلضرورة عدم الملازمة بين الظّنّ بالتكليف والظّنّ بالعقوبة على مخالفته} وذلك {لعدم الملازمة بينه} أي: بين التكليف الواقعي {و} بين {العقوبة على مخالفته} إذ ليس كلّ تكليف واقعيّ يستلزم العقاب لو خولف {وإنّما الملازمة بين خصوص معصيته} أي: معصية ذلك التكليف {واستحقاق العقوبة عليها لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها} أي: بنفس المخالفة، فإذا لم يكن تلازم بين المخالفة وبين العقوبة لم يكن تلازم بين الظّنّ بالحكم والظّنّ بالعقوبة.

{و} بهذا تبيّن أنّ {مجرّد الظّنّ به} أي: بالتكليف {بدون دليل على اعتبار لا يتنجّز به} أي: بذلك الظّنّ التكليف {كي يكون مخالفته} أي: مخالفة ذلك الظّنّ {عصيانه} أي: عصيان ذلك التكليف حتّى يوجب العقوبة ويصحّ دعوى التلازم بين الظّنّ بالتكليف والظّنّ بالعقاب {إلّا أن يقال} صحيح أنّالظّنّ بالتكليف لا يوجب الظّنّ بالعقوبة ف- {إنّ العقل وإن لم يستقلّ بتنجّزه} أي: تنجّز التكليف {بمجرّده} أي: مجرّد الظّنّ {بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته} أي: مخالفة ذلك المظنون {إلّا أنّه} يكون التكليف حين الظّنّ محتملاً فيكون العقاب

ص: 82

لا يستقلّ أيضاً بعدم استحقاقها معه، فيحتمل العقوبة حينئذٍ على المخالفة.

ودعوى استقلاله بدفع الضّرر المشكوك - كالمظنون - قريبة جدّاً، لاسيّما إذا كان هو العقوبة الأُخرويّة، كما لا يخفى.

وأمّا المفسدة: فلأنّها - وإن كان الظّنّ بالتكليف يوجب الظّنّ بالوقوع فيها لو خالفه، إلّا أنّها ليست بضرر على كلّ حال؛

___________________________________________

محتملاً، ودفع العقاب المحتمل كدفع العقاب المظنون واجب، فإنّ العقل وإن لم يستقلّ بتنجّز التكليف لكنّه {لا يستقلّ أيضاً بعدم استحقاقها} أي: العقوبة {معه} أي: مع الظّنّ بالتكليف {فيحتمل العقوبة حينئذٍ} أي: حين الظّنّ بالتكليف {على المخالفة} لذلك التكليف المظنون.

{ودعوى استقلاله} أي: العقل {بدفع الضّرر المشكوك ك-} استقلاله بدفع الضّرر {المظنون قريبة جدّاً لاسيّما إذا كان} الضّرر {هو العقوبة الأُخرويّة} الّتي لا تتحمّل إطلاقاً {كما لا يخفى} اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّه لا احتمال للعقاب وإن ظنّ الشّخص بالتكليف؛ لأنّ أدلّة البراءة كقبحالعقاب بلا بيان، و«رفع ما لا يعلمون»(1) و«ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(2)،

إلى غيرها، كافية في التأمين، وإن كان الإنسان ظنّ بالتكليف فإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.

{وأمّا} إن كان المراد من الضّرر المذكور في الصّغرى القائلة بأنّ في مخالفة الحكم المظنون مظنّة للضرر: {المفسدة} الدنيويّة {ف-} فيه أنّه غير تامّ {لأنّها} أي: المفسدة {وإن كان الظّنّ بالتكليف يوجب الظّنّ بالوقوع فيها لو خالفه} أي: خالف ذلك التكليف المظنون {إلّا أنّها ليست بضرر على كلّ حال} سواء كانت شخصيّة تعود إلى شخص المخالف أو تعود إلى غيره.

ص: 83


1- الخصال 2: 417.
2- التوحيد: 413؛ الكافي 1: 164.

ضرورة أنّ كلّما يوجب قبح الفعل من المفاسد، لا يلزم أن يكون من الضّرر على فاعله، بل ربّما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل، بحيث يذمّ عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلاً، كما لا يخفى.

وأمّا تفويت المصلحة، فلا شبهة في أنّه ليس فيه مضرّة، بل ربّما يكون في استيفائها المضرّة، كما في الإحسان بالمال،

___________________________________________

{ضرورة أنّ كلّما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من} أجل {الضّرر على فاعله} فإنّ الأحكام التحريميّة إنّما وضعت للأضرار الكامنة فيها ولا تختصّ الأضرار بأشخاص الفاعلين، فكثير من الأحكام أضرارها نوعيّة تعودإلى النّوع ولذا حرمت، بل ربّما كانت الأحكام الضّرريّة على النّوع ذات منافع على نفس الفاعل.

فإنّ في ترك الزكاة وأكل الرّبا والسّرقة منافع ماديّة للمرتكب {بل ربّما} لا يكون هناك ضرر أصلاً لا على الفاعل ولا على النّوع، بل الحرام {يوجب حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذمّ عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلاً} ولا على غيره، فإنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ولا دليل على أنّ المفسدة تجب أن تكون ضرراً {كما لا يخفى} على من تأمّل.

هذا كلّه في من فعل مظنون الحرمة {وأمّا} من ترك مظنون الوجوب حيث إنّ ترك الواجب موجب للضرر؛ لأنّه {تفويت المصلحة، ف-} فيه ما تقدّم في ارتكاب مظنون الحرمة، إذ {لا شبهة في أنّه ليس فيه مضرّة} شخصيّة دائماً {بل ربّما يكون في استيفائها} أي: استيفاء تلك المصلحة {المضرّة} على الفاعل {كما في الإحسان بالمال} في باب الزكاة والخمس والصّدقات وما أشبه.

نعم، لو أُريد بالمضرّة الأعمّ من الشّخصيّة والنّوعيّة، وقيل بأنّ في هذه الموارد وإن لم تكن مضرّة شخصيّة إلّا أنّ فيها مضرّات نوعيّة، ففيه منع الكبرى وأنّه ليس

ص: 84

هذا.

مع منع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها، بل إنّما هي تابعة لمصالح فيها، كما حقّقناه في بعض فوائدنا(1).وبالجملة: ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة - اللّتان في الأفعال، وأُنيط بهما الأحكام - بمضرّة.

___________________________________________

يحكم العقل بوجوب دفع الضّرر النّوعي المظنون.

{هذا مع} أنّ لنا أن نجيب بجواب آخر، وهو {منع كون الأحكام} دائماً {تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها} فإنّه لا دليل على أنّ متعلّق الحكم الإيجابي يلزم أن يكون ذا مصلحة، وأنّ متعلّق الحكم الزجري يجب أن يكون ذا مفسدة، فإنّ الدليل إنّما دلّ على أنّ الأحكام ليست اعتباطيّة ولم يدلّ على أكثر من هذا، وليس خروجها عن الاعتباطيّة بكون متعلّقاتها ذات مصالح ومفاسد {بل إنّما هي} أي: الأحكام {تابعة لمصالح فيها} فيكفي أن يكون نفس الإيجاب أو التحريم ذا مصلحة {كما حقّقناه في بعض فوائدنا} وعليه فلا مضرّة أصلاً لا نوعيّة ولا شخصيّة، فتحقّق أنّ النّهي يمكن أن يكون لمفسدة في المنهيّ عنه، كما يمكن أن يكون لحزازة فيه أو لمصلحة في نفس النّهي بلا ضرر وحزازة في المتعلّق.

وعليه فلا يمكن أن يقال بالتلازم بين الظّنّ بالنهي والظّنّ بالمفسدة، كيف والقطع بالنهي لا يلزم القطع بالمفسدة؟!

{وبالجملة: ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة - اللّتان في الأفعال} المفسدة في الحرام والمنفعة الفائتة في ترك الواجب {وأُنيط بهما الأحكام -} حتّى أنّه لا وجوب بدون مصلحة ولا حرمة بدون مفسدة {بمضرّة} خبر قوله: «ليست»

ص: 85


1- درر الفوائد: 130.

وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة، أو حُسن ما فيه المصلحة من الأفعال - على القول باستقلاله بذلك - هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله، أو نفع عائد إليه.

ولعمري هذا أوضح من أن يخفى، فلا مجال لقاعدة رفع الضّرر المظنون هاهنا أصلاً.

ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة، أو ترك ما فيه احتمال المصلحة،

___________________________________________

{وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة} من النّواهي {أو حسن ما فيه المصلحة من الأفعال} المأمور بها - {على القول باستقلاله} أي: العقل {بذلك} أي: بالقبح والحسن {هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه} بل المناط هو كونه ذا ضرر في الجملة، ولو كان نوعيّاً، أو نفع في الجملة، ولو كان غير شخصيّ، ومجرّد ذلك لا يوجب التلازم بين الظّنّ بالتكليف والظّنّ بالضرر أو النّفع.

{ولعمري هذا أوضح من أن يخفى، فلا مجال لقاعدة رفع الضّرر المظنون هاهنا أصلاً} حتّى يقال: إنّ الظّنّ بالتكليف ظنّ بالضرر في فعله أو تركه.

{و} إن قلت: إنّ الضّرر يحتمل أن يكون نوعيّاً ويحتمل أن يكون شخصيّاً، وكما أنّ العقل يستقلّ بدفع الضّرر المظنون كذلك يستقلّ بدفع الضّرر المحتمل، وفي فعل ما ظنّ حرمته وترك ما ظنّ وجوبه احتمال للضرر لإمكان أن يكون الضّرر شخصيّاً، فإذا فعله الإنسان أو تركه كان محتملاً لتوجّه ضررشخصيّ إليه، وهنا يأتي دور العقل ليقول دفع الضّرر المحتمل واجب.

قلت: {لا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة} وما عن شيخ الطّائفة(رحمة الله)(1) - من الإقدام على ما لا يؤمن فيه المفسدة كالإقدام على ما علم فيه المفسدة قبيح - ليس تامّاً، ولذا نرى العقلاء يقدمون على مثل تلك المحتملات.

ص: 86


1- العدّة في أصول الفقه 2: 742.

فافهم.

الثّاني: أنّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح، وهو قبيح.

___________________________________________

لا يقال: إنّ إقدامهم في محتمل المفسدة إنّما هو لما يقابله من احتمال النّفع الّذي يساويه أو يكون أكثر، وهو السّرّ في ركوبهم البحر مع كثرة احتمال الغرق خصوصاً في الأزمنة السّابقة الّتي كانت المراكب شراعيّة، فليس الإقدام لأجل عدم اعتنائهم بمحتمل المفسدة وإنّما هي لترجيح جانب المصلحة، ويتخلّص في أنّهم لا يقدمون على محتمل المفسدة بدون المقابل.

لأنّا نقول: هذا - وإن كان كذلك - إلّا أنّ في المقام أيضاً يقابل احتمال الفساد مصلحة التسهيل، فإنّ العقلاء يهتمّون بمصلحة التسهيل أكثر من اهتمامهم باجتنابهم محتمل المفسدة، إذ لو لزم الاجتناب عن كلّ ما احتمل فيه الفساد لزم العسر العقلي، وذلك مرغوب عنه عند العقلاء {فافهم} بأنّ الموارد مختلفة لديهم، فلا يصحّ إطلاق القول بأنّهم يقتحمون محتمل الفساد، كما لا يصحّ إطلاق القول بأنّهم يجتنبون عنه، بل لو كانت المفسدة المحتملة كبيرة لا يقدمون في الغالب، كما لو كان هناك مرض أو تلف نفس أو ذهاب جميع المال أو ماأشبه، بخلاف ما لو كانت صغيرة كاحتمال ذهاب شيء يسير من المال أو حمّى يوم أو ما أشبه ذلك، فإطلاق القول في كلّ من الجانبين غير تامّ.

[الدليل الثّاني]

{الثّاني} من الوجوه العقليّة الّتي أقاموها على حجيّة مطلق الظّنّ {أنّه} لو ظنّ الفقيه بالحكم - كما لو ظنّ بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال - كان طرف الظّنّ وهماً، فإنّ عدم الوجوب في المثال وهم ف- {لو لم يؤخذ بالظنّ} وأخذ بالوهم {لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح وهو قبيح} فاللّازم الأخذ بالظنّ.

ص: 87

وفيه: أنّه لا يكاد يلزم منه ذلك، إلّا في ما إذا كان الأخذ بالظنّ أو بطرفه لازماً، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلاً، أو عدم وجوبه شرعاً، ليدور الأمر بين ترجيحه أو ترجيح طرفه، ولا يكاد يدور الأمر بينهما إلّا بمقدّمات دليل الانسداد،

___________________________________________

{وفيه} أوّلاً: أنّا لا نسلّم الكبرى الّتي هي قولكم: «إنّ ترجيح المرجوح على الرّاجح قبيح»، إذ فيه أوّلاً أنّه ليس قبيحاً مطلقاً، بل إنّما هو في ما لو لم يكن في طرف الوهم جهة رجحان، ومصلحة التّسهيل في اختيار كلّ من الرّاجح والمرجوح مهمّة جدّاً، فلا قبح في الأخذ بالوهم في قبال الظّنّ.

وثانياً: أنّ القبح ليس بالحدّ الملزم، ألا ترى أنّه لو ظنّ أنّ البضاعة في هذا الدكّان أجود ثمّ لم يشتر اعتباطاً واشترى من محلّ كان فيه وهم الجودة لم يكن ملوماً عند العقلاء، ولو سلّمنا الكبرى لا نسلّم بالملازمة بين عدم الأخذ بالظنّ وبين لزوم ترجيح المرجوح على الرّاجح، ف- {إنّه لا يكاد يلزم منه} أي: من عدم الأخذ بالظنّ {ذلك} أي: ترجيح المرجوح على الرّاجح {إلّا في ما إذا} ثمّ هناك أمران:الأوّل: {كان الأخذ بالظنّ أو بطرفه} الّذي هو الوهم {لازماً} إذ لو لم يلزم الأخذ بأحدهما لم يكن مجال للدوران حتّى يحتم العقل الظّنّ ترجيحاً على الوهم.

الثّاني: {مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلاً} كما لو حلف بأن يكون يوم عرفة في كربلاء أو في مكّة وكان يظنّ أنّ الحلف للأوّل فإنّه لا يمكن الجمع بين الأمر عقلاً {أو عدم وجوبه} أي: الجمع {شرعاً} كما لو دلّ الدليل على أنّه لا يجب في اليوم أكثر من صلاة ثمّ شكّ في أنّه هل تجب الصّلاة قصراً أو تماماً وظنّ بالأوّل {ليدور الأمر بين ترجيحه} أي: الظّنّ {أو ترجيح طرفه} الّذي هو الوهم، فإنّه لو أمكن الجمع لم يلزم أحد الأمرين حتّى يلزم ترجيح المرجوح على الرّاجح.

{و} لكن لا يتمّ الأمران، أي: {لا يكاد} يلزم الأخذ بالظنّ أو طرفه، ولا {يدور الأمر بينهما إلّا بمقدّمات دليل الانسداد} الّتي هي علمنا ببقاء التكليف

ص: 88

وإلّا كان اللّازم هو الرّجوع إلى العلم، أو العلمي، أو الاحتياط، أو البراءة، أو غيرهما، على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلاف المقدّمات، على ما ستطّلع على حقيقة الحال.

الثّالث: ما عن السّيّد الطّباطبائي+(1): من: أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات،

___________________________________________

وعدم وجود العلم والعلمي بقدر الكافي بمعظم الأحكام، ولزوم العسر والحرجمن الرّجوع إلى الاحتياط، ولزوم الخروج من الدين على تقدير الرّجوع إلى البراءة، فإذا تمّت هذه المقدّمات كان اللّازم الرّجوع إلى الظّنّ أو الوهم.

وبهذا تحقّق أنّ هذا الدليل الثّاني ليس دليلاً مستقلّاً وإنّما هو تقرير لجزء من دليل الانسداد الآتي {وإلّا} تتمّ مقدّمات الانسداد لم يكن الأمر دائراً بين الظّنّ والوهم، بل {كان اللّازم هو} عدم أيّ تكليف لو لم تتمّ المقدّمة الأُولى أو {الرّجوع إلى العلم أو العلمي} لو لم تتمّ المقدّمة الثّانية {أو} الرّجوع إلى {الاحتياط} لو لم تتمّ المقدّمة الثّالثة {أو} الرّجوع إلى {البراءة} لو لم تتمّ المقدّمة الرّابعة {أو غيرهما} من الرّجوع إلى فتوى الفقيه أو التبعيض {على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلاف المقدّمات} فإنّ بعضها تتمّ بالنسبة إلى بعض ولا تتمّ بالنسبة إلى بعض أُخرى {على ما ستطّلع على حقيقة الحال} وتفصيل ذلك في الرّابع من الوجوه - إن شاء اللّه تعالى - .

[الدليل الثّالث]

{الثّالث} من الوجوه العقليّة الّتي أقاموها على حجيّة مطلق الظّنّ {ما عن السّيّد} مهدي بحر العلوم {الطّباطبائي+: من أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات} أي: المظنونات والمشكوكات والموهومات

ص: 89


1- حكاه عنه في فرائد الأصول 1: 382.

ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك، لكن مقتضى قاعدة نفي الحرج، عدم وجوب ذلك كلّه؛ لأنّه عسر أكيد وحرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج: العمل بالاحتياط في المظنونات، دون المشكوكاتوالموهومات؛ لأنّ الجمع على غير هذا الوجه - بإخراج بعض المظنونات، وإدخال بعض المشكوكات والموهومات - باطل إجماعاً.

___________________________________________

{ومقتضى ذلك} العلم الإجمالي بوجود الأحكام الكثيرة في المشتبهات {وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً وترك ما يحتمل الحرمة كذلك} أي: موهوماً؛ لأنّه مقتضى العلم الإجمالي {لكن مقتضى قاعدة نفي الحرج} كقوله - تعالى - : {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ}(1)، {عدم وجوب ذلك كلّه} أي: عدم وجوب الإتيان بجميع الأطراف المظنونة والمشكوكة والموهومة {لأنّه عسر أكيد وحرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط} في أطراف العلم الإجمالي {وانتفاء الحرج} المستلزم من العمل بجميع الأطراف {العمل بالاحتياط في المظنونات} ظنّاً بالوجوب أو الحرمة {دون المشكوكات والموهومات؛ لأنّ} العكس ترجيح المرجوح على الرّاجح و{الجمع على غير هذا الوجه - بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات - باطل إجماعاً}.

ولا يخفى أنّه لا يرد أنّ المشكوك لا يمكن جمعه مع المظنون والموهوم؛ لأنّ الجمع بالنسبة إلى المتعلّقات المختلفة ممكن، كأن يشكّ في حلّيّة التتن وحرمته ويظنّ وجوب الدعاء عند رؤية الهلال. نعم، بالنسبة إلى متعلّق واحد محال إلّا بالنسبة إلى أفراد متعدّدة أو أزمان مختلفة.

ص: 90


1- سورة الحج، الآية: 78.

ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد؛ فإنّه بعضُ مقدّمات دليل الانسداد ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدّماته، ومعه لا يكون دليلاً آخر بل ذاك الدليل.

الرّابع: دليل الانسداد، وهو مؤلّف من مقدّمات، يستقلّ العقل مع تحقّقها بكفاية الإطاعة الظّنيّة - حكومة أو كشفاً، على ما تعرف - ، ولا يكاد يستقلّ بها بدونها.

وهي خمسة:

___________________________________________

{ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد، فإنّه بعض مقدّمات دليل الانسداد ولا يكاد ينتج} هذا البعض {بدون سائر مقدّماته، ومعه} أي: مع ضمّ سائر المقدّمات {لا يكون} هذا الدليل {دليلاً آخر، بل} يكون هذا {ذاك الدليل} أي: دليل الانسداد.

[الدليل الرّابع]

{الرّابع} من الوجوه العقليّة الّتي أقاموها لحجيّة الظّنّ المطلق {دليل الانسداد} وسمّي بهذا الاسم أخذاً من مقدّمته الثّانية الّتي هي عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام {وهو مؤلّف من مقدّمات} خمس على ما ذكرها المصنّف {يستقلّ العقل مع تحقّقها} أي: تحقّق تلك المقدّمات وثبوتها {بكفاية الإطاعة الظّنيّة} في مقام امتثال أوامر الشّرع.

ثمّ إنّه قد يقال: إنّ نتيجة مقدّمات الانسداد كون العقل يحكم {حكومة} بكون الظّنّ حجّة من غير مدخليّة للشرع، فكما يحكم العقل بحجيّة القطع في حال الانفتاح كذلك يحكم بحجيّة الظّنّ في حال الانسداد.

وقد يقال: إنّ النّتيجة كون العقل يكشف أنّ الشّارع جعل الظّنّ حجّة في هذا الظّرف، وهذا ما أشار إليه بقوله: {أو كشفاً} وتفترق النّتيجة على تقديرالحكومة من النّتيجة على تقدير الكشف {على ما تعرف} إن شاء اللّه - تعالى - {ولا يكاد يستقلّ} العقل {بها} أي: بكفاية الإطاعة الظّنيّة {بدونها} أي: بدون المقدّمات المذكورة {وهي خمسة} على ما ذكرها المصنّف وإن أسقط عنها المقدّمة الأُولى

ص: 91

أوّلها: أنّه يعلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعليّة في الشّريعة.

ثانيها: أنّه قد انسدّ علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها.

ثالثها: أنّه لا يجوز لنا إهمالها، وعدم التعرّض لامتثالها أصلاً.

رابعها: أنّه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا، بل لا يجوز في الجملة، كما لا يجوز الرّجوع إلى الأصل في المسألة، من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط، ولا إلى فتوى العالم بحكمها.

___________________________________________

في الرّسائل لبداهتها:

{أوّلها: أنّه يعلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعليّة في الشّريعة} والمراد بهذه المقدّمة الثبوت في الجملة لا الثبوت علينا، حتّى لا تكون مع المقدّمة الثّالثة وهي عدم جواز إهمالها تكراراً.

{ثانيها: أنّه قد انسدّ علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها} بأن لم نعلم تلك الأحكام ولا قام عليها دليل معتبر ينتهي إلى العلم، كأن نعلم أنّ قول زرارة حجّة ثمّ يخبرنا زرارة بشيء، فإنّ خبر زرارة علميّ وليس بعلم - أي: منسوب إلى العلم - .

{ثالثها: أنّه لا يجوز لنا إهمالها} أي: ترك تلك الأحكام الّتي انسدّ باب العلم والعلمي إليها {وعدم التعرّضلامتثالها أصلاً} فإنّ في ذلك لزوم الخروج عن الدين.

{رابعها: أنّه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا} الإجمالي {بل لا يجوز في الجملة} إلى حدّ الاختلال بالنظام والهرج والمرج {كما لا يجوز} في مورد تلك الأحكام {الرّجوع إلى الأصل} العملي {في المسألة من استصحاب} في ما كان له حالة سابقة {وتخيير} في مورد دوران الأمر بين المحذورين {وبراءة} في مورد الشّكّ الابتدائي {واحتياط} في أطراف العلم الإجمالي {ولا} يجوز لنا الرّجوع في المسألة {إلى فتوى العالم بحكمها} سواء كان انسداديّاً أم انفتاحيّاً.

ص: 92

خامسها: أنّه كان ترجيح المرجوحات على الرّاجح قبيحاً.

فيستقلّ العقل حينئذٍ بلزوم الإطاعة الظّنيّة لتلك التكاليف المعلومة، وإلّا لزم - بعد انسداد باب العلم والعلمي بها - : إمّا إهمالها، وإمّا لزوم الاحتياط في أطرافها، وإمّا الرّجوع إلى الأصل الجاري في كلّ مسألة، - مع قطع النّظر عن العلم بها - أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالإطاعة الشّكيّة أو الوهميّة مع التمكّن من الظّنيّة.

والفرض بطلان كلّ واحد منها:

___________________________________________

{خامسها: أنّه كان ترجيح المرجوح على الرّاجح قبيحاً} لا يأمر به شرع ولا يحكم به عقل {فيستقلّ العقل حينئذٍ} أي: حين تمام المقدّمات {بلزوم الإطاعةالظّنيّة لتلك التكاليف المعلومة، وإلّا} تجب الإطاعة الظّنيّة حينئذٍ {لزم - بعد انسداد باب العلم والعلمي بها - إمّا إهمالها} وهو مستلزم للخروج عن الدين {وإمّا لزوم الاحتياط في أطرافها} وهو مستلزم للعسر والحرج والاختلال للنظام {وإمّا الرّجوع إلى الأصل الجاري في كلّ مسألة مع قطع النّظر عن العلم} الإجمالي العام {بها} والعلم الإجمالي مانع عن ذلك عقلاً ونقلاً {أو التقليد فيها} وذلك لا يجوز للمجتهد {أو الاكتفاء بالإطاعة الشّكّيّة أو الوهميّة مع التمكّن من} الإطاعة {الظّنيّة} وهو ترجيح للمرجوح على الرّاجح {والفرض بطلان كلّ واحد منها} كما عرفت، فلا محيص عن الإطاعة الظّنيّة. هذا مجمل دليل الانسداد المقتضي لحجيّة الظّنّ في الجملة.

ثمّ لا يخفى أنّه فرق بين الاحتياط العام في جميع أطراف المسائل والبراءة العامّة في الجميع، وبين الاحتياط الخاصّ والبراءة الخاصّة في خصوص المسألة المبتلى بها.

مثلاً قد نقول: إنّ كلّ مشكوك ومظنون وموهوم يجب العمل به أو يجري البراءة عنه، وقد نقول: إنّه لو شكّ في أنّ التّبغ حرام أم لا نجري الاستصحاب لو

ص: 93

أمّا المقدّمة الأُولى: فهي وإن كانت بديهيّة، إلّا أنّه قد عرفت انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصّادرة عن الأئمّة الطّاهرين^، الّتي تكون في ما بأيدينا، من الرّوايات في الكتب المعتبرة، ومعه لا موجب للاحتياط إلّا فيخصوص ما في الرّوايات، و

___________________________________________

كانت له حالة سابقة أو نحتاط بعدم الاستعمال، أو نجري البراءة فنقول بحليّته، ولذا جعل المصنّف الاحتياط الخاصّ شقّاً للاحتياط العام في الرّابعة من المقدّمات.

إذا عرفت حال المقدّمات في الجملة فلنشرع في تفصيل ذلك، وهو أنّه هل تحقّقت هذه المقدّمات حتّى تنتج حجيّة الظّنّ المطلق أم لا؟ فنقول:

{أمّا المقدّمة الأُولى} وهي علمنا الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في الشّريعة {فهي وإن كانت بديهيّة} لا تحتاج إلى الاستدلال {إلّا أنّه قد عرفت} في الدليل الأوّل من الأدلّة العقليّة {انحلال العلم الإجمالي} إلى يقين تفصيلي {بما في الأخبار الصّادرة عن الأئمّة الطّاهرين^ الّتي تكون في ما بأيدينا من الرّوايات في الكتب المعتبرة} وإلى شكّ بدويّ في ما غير الأخبار {ومعه} أي: مع هذا الانحلال {لا موجب للاحتياط إلّا في خصوص ما في الرّوايات} إذ العلم الإجمالي المنحلّ يقتضي العمل بما في الرّوايات، ولو لم نميّز الصّحيح منها عن السّقيم حتّى ينحلّ العلم الإجمالي نهائيّاً يلزم الاحتياط في تمام أطراف العلم المتعلّق بخصوص الرّوايات.

{و} إن قلت: إنّ هذا الانحلال غير مفيد، فإنّ المانع الّذي كان من العمل بالاحتياط في أطراف العلم الإجمالي الكبير آتٍ في العمل بالاحتياط في أطراف العلم الإجمالي الصّغير الّذي تعلّق بالروايات. هذا مضافاً إلى الإجماع على عدم الاحتياط.

ص: 94

هو غير مستلزم للعسر، فضلاً عمّا يوجبالاختلال، ولا إجماع على عدم وجوبه، ولو سلم الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال.

وأمّا المقدّمة الثّانية: أمّا بالنسبة إلى العلم: فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بيّنة وجدانيّة، يَعرف الانسدادَ كلّ من تعرّض للاستنباط والاجتهاد.

___________________________________________

قلت: ليس كذلك؛ لأنّ المانع في العلم الإجمالي الكبير هو العسر والاختلال {هو} أي: الاحتياط في أطراف الرّوايات {غير مستلزم للعسر فضلاً عمّا يوجب الاختلال} لبداهة أنّ الرّوايات منحصرة، فالعمل بها لا يلزم اختلالاً أو عسراً {ولا إجماع على عدم وجوبه} فإنّ كثيراً من الفقهاء لم يتعرّضوا لهذه المسألة أصلاً فكيف يمكن دعوى الإجماع؟! {ولو سلم الإجماع على عدم وجوبه} أي: الاحتياط {لو لم يكن هناك انحلال} بل بقي العلم الإجمالي الوسيع بحاله.

هذا مضافاً إلى الإجماع لو كان فهو محتمل الاستناد، وقد تقرّر في مبحث الإجماع أنّ محتمل الاستناد منه غير حجّة، وعلى هذا فلا يبقى مجال للعمل بالظنّ فيسقط دليل الانسداد، كما لا يخفى.

بل يمكن أن يقال: إنّ العلم الإجمالي يمكن تقليصه إلى خصوص الأخبار المعتبرة، فإنّ الإنصاف أنّه لا علم لنا فوق ذلك، ومن البديهي أنّ الاحتياط في هذه الطّائفة من الأخبار لا يستلزم عسراً إطلاقاً وإن احتمل لزومه في الاحتياط في جميع الأخبار، فإن ضمّ القطعيّات من الأحكام إلى هذه الأخبار المعتبرة كافية في انحلال العلم الإجمالي بلا شبهة.

{وأمّا المقدّمة الثّانية} وهي انسداد باب العلموالعلمي إلى كثير من الأحكام {أمّا بالنسبة إلى العلم فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا} البعيدة عن عصر صدور الرّوايات {بيّنة وجدانيّة يعرف الانسداد كلّ من تعرّض للاستنباط والاجتهاد} وإن جهل ذلك غير ذلك بل ظنّ الأحكام كلّها معلومة.

ص: 95

وأمّا بالنسبة إلى العلمي: فالظاهر أنّها غير ثابتة؛ لما عرفت من نهوض الأدلّة على حجيّة خبر يوثق بصدقه، وهو - بحمد اللّه - وافٍ بمعظم الفقه، لاسيّما بضميمة ما علم تفصيلاً منها، كما لا يخفى.

وأمّا الثّالثة: فهي قطعيّة،

___________________________________________

{وأمّا بالنسبة إلى العلمي} أي: انسداد باب العلمي {فالظاهر أنّها} أي: هذه المقدّمة {غير ثابتة} بل لدينا قدر الكفاية من الأدلّة المعتبرة {لما عرفت} في مبحث الخبر الواحد {من نهوض الأدلّة} العقليّة والنّقليّة {على حجيّة خبر يوثق بصدقه، وهو - بحمد اللّه - وافٍ بمعظم الفقه} وفي البقيّة لو جرت البراءة أو الاحتياط أو ما أشبه لا يلزم محذور أصلا {لاسيّما بضميمة ما علم تفصيلاً منها} أي: من الأخبار القطعيّة والضّرورات والإجماعات ونحوها {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل، إذن فالمقدّمة الثّانية أيضاً غير ثابتة، فلا تثبت حجيّة الظّنّ المطلق.

{وأمّا} المقدّمة {الثّالثة} وهي عدم جواز إهمال تلك الأحكام المعلومة إجمالاً {فهي قطعيّة} لأنّ من ضروريّات الشّرع أنّ الشّارع أراد الأحكام ولم يرض بإهمالها وتركها.

ثمّ إنّه اختلف في باب العلم الإجمالي فبعض قالوا بعدم كونه منجّزاً مطلقاً،فيجوز ارتكاب جميع الأطراف، وبعض قالوا بجواز ارتكاب ما عدى المقدار المعلوم إجمالاً، فلو اشتبه إناء حرام في عشرة أواني قال الأوّلون بجواز ارتكاب جميع تلك الأواني تدريجاً، وقال الآخرون بجواز ارتكاب تسعة منها، والمشهور قالوا بعدم جواز ارتكاب أيّ واحد منها إلّا إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء أو مضطرّاً إليه، فيجوز ارتكابه.

إذا عرفت هذا قلنا: لا تتوقّف المقدّمة الثّالثة المذكورة على أن نذهب إلى مقالة المشهور في تنجيز العلم الإجمالي إلّا بالنسبة إلى جميع الأطراف، بل عدم

ص: 96

ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً مطلقاً، أو في ما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه، كما في المقام، حسب ما يأتي؛ وذلك لأنّ إهمال معظم الأحكام، وعدمَ الاجتناب كثيراً عن الحرام، ممّا يقطع بأنّه مرغوب عنه شرعاً، وممّا يلزم تركه إجماعاً.

إن قلت: إذا لم يكن العلمُ بها منجّزاً لها؛

___________________________________________

جواز إهمال تلك الأحكام قطعيّة ضروريّة {ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً مطلقاً} بل يجوز ارتكاب جميع أطرافه أو بعضه سواء في حال الاضطرار أم لا {أو} لم نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً {في ما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه} للاضطرار ونحوه {كما في المقام} حيث يجب الاقتحام حتّى لا يختلّ النّظام {حسب ما يأتي} في تنبيهات العلم الإجمالي بأنّ الدليل إذا قام على جواز الإقدام في بعض أطرافه لم يجب الاحتياط عقلاً في الباقي؛ لأنّه إذا جاز بعض الأطراف كان التكليف بالنسبة إلىالباقي مشكوكاً، ومع الشّكّ لا يكون تكليف، إذ يكون ذلك من العقاب بلا بيان.

{وذلك} الّذي ذكرنا - من كون المقدّمة الثّالثة قطعيّة وإن لم نقل بتنجيز العلم الإجمالي - {لأنّ إهمال معظم الأحكام} بترك واجبات كثيرة {وعدم الاجتناب كثيراً عن الحرام ممّا يقطع بأنّه مرغوب عنه شرعاً وممّا يلزم تركه إجماعاً} بل ضرورة وبعد هذا الإجماع والضّرورة لا مجال للقول بأنّه لا محذور في ترك العمل بتلك الأحكام بعد عدم لزومه الكفر، فإنّ مخالفة الضّروري من الدين كفر مضافاً إلى أنّ المحذور ليس الكفر فقط.

{إن قلت}: قوام هذه المقدّمة العلم الإجمالي؛ لأنّه هو الّذي يمنع من إهمال تلك الأحكام، وحيث ثبت عدم تنجيز العلم الإجمالي لا يبقى مجال لهذه المقدّمة الثّالثة، فإنّه {إذا لم يكن العلم بها} أي: بتلك الأحكام {منجّزاً لها} بحيث

ص: 97

- للزوم الاقتحام في بعض الأطراف، كما أُشير إليه - فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذٍ - على تقدير المصادفة - إلّا عقاباً بلا بيان، والمؤاخذةُ عليها إلّا مؤاخذة بلا برهان؟

قلت: هذا إنّما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط، وقد علم به بنحو اللمّ؛ حيث عُلم اهتمام الشّارع بمراعاة تكاليفه، بحيث ينافيه عدمُ إيجابه الاحتياطَ الموجَب للزوم المراعاة،

___________________________________________

يجب موافقتها {للزوم الاقتحام في بعض الأطراف} المعلومة إجمالاً - وهذا علّة لعدم التنجيز - {كما أُشير إليه} بأنّه مهما جاز الاقتحام في بعض الأطراف لم يكن العلم منجّزاً {فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطرافحينئذٍ} أي: حين جاز الاقتحام في البعض {على تقدير المصادفة} لتلك الأطراف الباقية {إلّا عقاباً بلا بيان، والمؤاخذة عليها إلّا مؤاخذة بلا برهان؟} فإذا سقط العلم الإجمالي عن التنجيز ولم يكن هناك دليل على التكليف غيره لم يكن بأس بارتكاب جميع الأطراف، أمّا بعضها فلعدم تنجّزها للزوم الاختلال، وأمّا الباقي فلأنّ العلم بالنسبة إليه ينقلب شكّاً ولا يجب متابعة الشّكّ.

{قلت: هذا} الّذي ذكرتم من عدم تنجيز العلم الإجمالي لو جاز الاقتحام في بعض الأطراف {إنّما يلزم لو لم يعلم} من دليل خارج {بإيجاب الاحتياط} مطلقاً ولو جاز الاقتحام في بعض الأطراف {وقد علم به} أي: بإيجاب الاحتياط في مقامنا هذا من دليلين:

الأوّل: {بنحو اللمّ} أي: استكشاف المعلول من العلّة {حيث علم اهتمام الشّارع بمراعاة تكاليفه} وهذا الاهتمام المعلوم علّة للاحتياط، فالاحتياط معلوم وهو مكشوف عن العلم بعلّته فقد اهتمّ الشّارع بالأحكام {بحيث ينافيه} أي: ينافي هذا الاهتمام {عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة} للتكاليف

ص: 98

ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات.

مع صحّة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال، وأنّه مرغوب عنه شرعاً قطعاً، وأمّا مع استكشافه فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذٍ بلا بيان وبلا برهان، كما حقّقناه في البحث وغيره.

وأمّا المقدّمة الرّابعة: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التامّ بلا كلام، فيما يوجب عسره اختلالَ النّظام.

وأمّا في ما لا يوجب فمحلّ نظر، بل مَنعٍ؛

___________________________________________

{ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات} والحاصل: أنّه لا ينافي عدم التنجيز مطلقاً مع ما ذكرنا هنا من التنجيز؛ لأنّه لدليل خارجيّ وهو علمنا باهتمام الشّارع بأحكامه.

الثّاني: ما أشار إليه بقوله: {مع صحّة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال} أي: حال جواز ارتكاب بعض الأطراف للاضطرار ونحوه {وأنّه مرغوب عنه شرعاً قطعاً} إذ نستكشف من هذا الإجماع أنّ الشّارع لا يرضى بترك سائر الأطراف {وأمّا مع استكشافه فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذٍ} أي: حين الاستكشاف {بلا بيان وبلا برهان، كما حقّقناه في البحث وغيره} وبهذا كلّه تبيّن تماميّة المقدّمة الثّالثة، فمن ناحيتها لا يرد إشكال على دليل الانسداد.

{وأمّا المقدّمة الرّابعة} وهي عدم وجوب الاحتياط أو جوازه وعدم جواز الرّجوع إلى الأصول العمليّة {فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التامّ} في جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات {بلا كلام في ما يوجب} مقدار {عسره} أي: عسر ذلك الاحتياط {اختلال النّظام} فإنّ الأدلّة الأربعة دلّت على عدم جواز اختلال النّظام {وأمّا} الاحتياط {في ما لا يوجب} اختلالاً وإنّما يسبّب عسراً {فمحلّ نظر، بل منع}.

ص: 99

___________________________________________

توضيحه: أنّه قد اختلف في أدلّة الضّرر والحرج إلى ثلاثة أقوال:

الأوّل: ما اختاره شيخنا المرتضى من أنّ المراد من «لا حرج» عدم جعل الحكم الحرجي.

الثّاني: ما اختاره المصنّف من أنّ المراد من «لا حرج» أنّ الموضوع المستلزم للحرج غير مجعول، ويظهر الفرق في أنّه لو لم يكن موضوع حرجيّ بنفسه لكنّه صار مجهولاً وأوجب الاحتياط في أطرافه الحرج، كان الاحتياط على مذاق الشّيخ غير مجعول؛ لأنّه قال بعدم جعل حكم حرجي، وذلك بخلاف المصنّف، فإنّه يرى وجوب الاحتياط؛ لأنّ الموضوع المجهول ليس في نفسه حرجيّاً وإنّما أوجب الجهل به الاحتياط وهذا الكلام يجري بعينه بالنسبة إلى أدلّة الضّرر، فلو كان الموضوع ضرريّاً - كما لو كان الماء مضرّاً كان الوضوء مرفوعاً على كلا القولين، أم لو لم يكن الماء مضرّاً وإنّما اشتبه الماء المطلق بالمضاف بحيث كان تعدّد الوضوء ضرراً - فعلى مبنى الشّيخ لا يجب الوضوء؛ لأنّ الشّارع لم يجعل حكماً يتولّد منه الضّرر ولو بواسطة خارجيّة كالجهل في المقام، وعلى مبنى المصنّف يجب الوضوء؛ لأنّ الوضوء بالماء المطلق ليس ضرريّاً فهو مجعول شرعاً، وتوليد الضّرر من الجهل ليس مرتبطاً بالشارع حتّى يرفع حكمه.

الثّالث: ما اختاره غير واحد من التفصيل بين الضّرر والحرج، بأنّ ظاهر أدلّة العسر ما اختاره الشّيخ وظاهر أدلّة الضّرر ما اختاره المصنّف.

لكن الإنصاف أنّ الأظهر مقالة الشّيخ، فإنّ المستفاد من الأدلّة في البابين هو عدم إيجاب الشّارع ما يسبّب ضرراً أو حرجاً على المكلّف ولو كان بواسطة، فإنّه من الإيقاع في الضّرر والحرج.

ألا ترى أنّ المولى لو قال لعبده: (لست أُريد منك ما يشقّ عليك) ثمّ كلّفه

ص: 100

لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج علىقاعدة الاحتياط؛ وذلك لما حقّقناه في معنى ما دلّ على نفي الضّرر والعسر، من أنّ التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف، أو الوضع - المتعلّقين بما يعمّهما - ، هو: نفيهما عنهما

___________________________________________

بتكليف أورث المشقّة إمّا بنفسه - كما لو كلّفه السّير فرسخين مشياً - وإمّا بواسطة - كما لو كلّفه الإتيان بإناء ماء - لكنّه اشتبه في ما هاهنا وما على رأس فرسخين ممّا يستلزم المشي لم ير العرف فرقاً بين الأمرين، فإنّ المشقّة في الصّورة الثّانية لم تكن على العبد لو لم يأمره المولى بإتيان الماء خصوصاً، وأنّ الحكم بالرفع امتناني فلا يفرق فيه الأمران.

وكيف كان، فعلى ما اختاره المصنّف من استظهار كون قاعدتي الحرج والضّرر إنّما هما بالنسبة إلى ما كان نفس الموضوع حرجيّاً أو ضرريّاً، فعدم وجوب الاحتياط في الأطراف - ممّا لا يبلغ الإخلال - محلّ نظر، بل منع {لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط} وإن كانت القاعدة حاكمة على الأدلّة الأوّليّة، فالوضوء إذا صار عسراً كان مرفوعاً بالقاعدة، أمّا الوضوء إذا لم يكن ضرريّاً وإنّما توجّه الضّرر من تكراره في صورة الجهل بالماء في البين، فإنّ قاعدة الضّرر لا ترفع وجوب مثل هذا الوضوء.

{وذلك لما حقّقناه في معنى ما دلّ على نفي الضّرر، و} نفي {العسر، من أنّ التوفيق بين دليلهما} أي: دليل الضّرر والعسر {ودليل التكليف أو الوضع} كدليل الوضوء أو دليل انعقاد البيع {المتعلّقين بما يعمّهما} أي: يعمّ الضّرر والعسر، فإنّ دليل الوضوء ودليل انعقاد البيع يقول: (توضّأ) وينعقد البيع سواء كان ضرريّاً أم لا، ودليل نفي الضّرروالعسر يقول: (لا ضرر ولا عسر) سواء كان في الوضوء أو البيع أو غيرهما، فالتوفيق بين هاتين الطّائفتين من الأدلّة {هو نفيهما} أي: نفي التكليف والوضع فلا وضوء ولا انعقاد للبيع {عنهما} أي: عن الضّرر والعسر،

ص: 101

بلسان نفيهما، فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل؛ لعدم العسر في متعلّق التكليف، وإنّما هو في الجمع بين محتملاته احتياطاً.

نعم، لو كان معناه نفيَ الحكم النّاشئ من قِبَله العسر - كما قيل(1)

- لكانت قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط؛ لأنّ العسر حينئذٍ يكون من قبل التكاليف المجهولة، فتكون منفية بنفيه.

___________________________________________

أي: لا تكليف ولا وضع في مورد الضّرر والعسر {بلسان نفيهما} أي: نفي الضّرر والعسر، فقد نفى الشّارع التكليف والوضع ولكن بلسان أنّه لا ضرر ولا عسر، فلم يقل: لا وضوء ولا انعقاد للبيع، بل قال: لا ضرر ولا عسر.

والحاصل: أنّه من قبيل نفي الحكم ولكن بلسان نفي الموضوع {فلا يكون له} أي: لدليل نفي الضّرر والعسر {حكومة على الاحتياط العسر إذا كان} هذا العسر {بحكم العقل} كما في ما نحن فيه، فإنّ التكاليف الأوّليّة الشّرعيّة ليست عسرة وإنّما نشأ العسر عن اشتباه تلك التكاليف في المظنونات والموهومات والمشكوكات فلا رفع {لعدم العسر في متعلّق التكليف، وإنّما هو} أي: العسر {في الجمع بين محتملاته احتياطاً} وذلك ممّا لا يرتبط بالمولى.{نعم، لو كان معناه} أي: معنى ما دلّ على نفي الضّرر والعسر {نفي الحكم النّاشئ من قبله العسر - كما قيل -} والقائل هو شيخنا المرتضى(رحمة الله) كما تقدّم، فلا تكليف عسري في الشّرع سواء كان عسراً أو صار سبباً للعسر {لكانت قاعدة نفيه} أي: نفي الضّرر والعسر {محكمة على قاعدة الاحتياط} كما أنّها محكمة على الأدلّة الأوّليّة {لأنّ العسر حينئذٍ} أي: حين لزوم الاحتياط {يكون من قبل التكاليف المجهولة فتكون} أي: التكاليف المجهولة {منفيّة بنفيه} أي: بنفي العسر، فقوله: (لا عسر) بمنزلة أن يقول: (لا تكاليف مجهولة).

ص: 102


1- فرائد الأصول 2: 460.

ولا يخفى: أنّه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف، بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لا بدّ من دعوى وجوبه شرعاً، كما أشرنا إليه في بيان المقدّمة الثّالثة، فافهم وتأمّل جيّداً.

و

___________________________________________

{و} حيث إنّ الشّيخ(رحمة الله) قال ببطلان الاحتياط التامّ - لكونه عسراً ومع ذلك قال بتأثير العلم الإجمالي في الباقي - أورد عليه المصنّف: بأنّه لو جاز ارتكاب بعض الأطراف لم يكن وجه للاحتياط في الباقي، إذ العلم الإجمالي ارتفع ولا دليل غيره، فإنّه {لا يخفى أنّه على هذا} الّذي ذكره الشّيخ من حكومة أدلّة الحرج على الاحتياط {لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها} أي: تمام الأطراف، وإنّما رفع اليد، لما تقدّم من لزوم العسروالحرج {بل لا بدّ من دعوى وجوبه} أي: الاحتياط في الباقي {شرعاً} من باب أنّ الشّارع لا يرضى بإهمال أحكامه، أو من جهة قيام الإجماع على ذلك لا من جهة العلم الإجمالي {كما أشرنا إليه في بيان المقدّمة الثّالثة، فافهم وتأمّل جيّداً}.

لكن ربّما يقال: إنّ الإشكال ليس وارداً على الشّيخ، بتقريب أنّه هل تنافي فعليّة الأحكام الواقعيّة مع الإذن في ارتكاب بعض الأطراف أم لا تنافي، فإن نافت بحيث إنّ الإذن في بعض الأطراف يكشف عن عدم الفعليّة لم يكن الإجماع منتجاً في إثبات الفعليّة، وكذا غير الإجماع من سائر الأدلّة، إذ كيف يمكن إثبات المنافي بالإجماع أو نحوه، وإن لم تكن فعليّة الأحكام منافية مع الإذن لم يكن الإذن في بعض الأطراف للعسر كاشفاً عن عدم الفعليّة ولم نحتج في إثباتها إلى دليل آخر، فتأمّل.

{و} حيث فرغنا من الجزء الأوّل من المقدّمة الرّابعة القائلة بعدم جواز الاحتياط

ص: 103

أمّا الرّجوع إلى الأصول؛ فبالنسبة للأُصول المثبتة - من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف - فلا مانع عن إجرائها عقلاً مع حكم العقل وعموم النّقل، هذا.

___________________________________________

في الأطراف ولا الرّجوع إلى الأصول، نشرع في الجزء الثّاني وهو عدم الرّجوع إلى الأصول العمليّة في أطراف العلم الإجمالي، فنقول: {أمّا الرّجوع إلى الأصول} العمليّه من براءة واحتياط واستصحاب {فبالنسبة للأُصول المثبتة} للتكليف {من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف، فلا مانع عن إجرائها} أي: تلك الأصول {عقلاً مع حكم العقلوعموم النّقل} ولا تصل النّبوة إلى الظّنّ، كيف ومرتبة الظّنّ متأخّرة عن مرتبة العلم والعلمي والأصول بين علم وعلمي؟

{هذا} ولكن قد يقال: إنّه لا يجوز إجراء الاستصحاب المثبت للتكليف في المقام؛ لأنّ ذلك موجب للتناقض. بيان ذلك: أنّه لا يجوز إجراء الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً لاستلزامه التناقض، فلو تنجّس أحد الإناءين الطّاهرين مردّداً بينهما لم يجز إجراء استصحاب الطّهارة، إذ جريان الاستصحاب في الطّرفين مستلزم للمناقضة مع ذلك العلم الإجمالي، فإنّ مقتضى الاستصحاب طهارتهما ومقتضى العلم نجاسة أحدهما، وذلك تناقض ظاهر، بالإضافة إلى أنّ شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي مستلزم للتناقض في أطراف دليل الاستصحاب الّذي هو قوله(علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقضه بيقين مثله» فإنّ «لا تنقض» يقول: أحكم بطهارة الأطراف حتّى لا تنقض علمك السّابق بالطهارة بسبب شكّك اللّاحق، إذ كلّ واحد من الإناءين معلوم الطّهارة سابقاً مشكوك النّجاسة فعلاً، وقوله: «ولكن تنقضه» يقول: انقض الطّهارة السّابقة لعلمك الإجمالي بنجاسة أحدهما فلو شمل دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي لزم التناقض في أطراف الدليل، ولذا لا يجوز إجراء الاستصحاب في أطراف المقام ممّا علمنا بوجود أحكام في المظنونات

ص: 104

ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي؛ لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله؛ بداهةَ تناقض حرمة النّقض في كلّ منها - بمقتضى: «لا تنقض» -

___________________________________________

والمشكوكات والموهومات، فلو شككنا في غنم شرب لبن كلب أنّه حلال أمحرام، لا يجوز إجراء استصحاب الحليّة؛ لأنّه ينافي العلم الإجمالي بوجود أحكام أوّلاً، وموجب للتناقض في أطراف الدليل - أي: «لا تنقض» - المقتضي للاستصحاب و«انقض» المقتضي لعدم الاستصحاب ثانياً.

أقول: لا يخفى أنّ هذا مثال للأصل النّافي للتكليف لا المثبت إلّا على بعض التقادير، فتأمّل.

هذا ولكن مع ذلك لا مانع من إجراء استصحاب النّافي في المقام، ولا يوجب ذلك تناقضاً أصلاً وإن قلنا به في سائر المقامات، وذلك لما سيأتي من عدم شكّ المجتهد في حال استنباط هذه المسألة، مثلاً، في سائر المسائل، بل هي مغفول عنها، فيكون الشّكّ في هذه المسألة - وهي من أطراف العلم الإجمالي - كالشكّ في الشّبهة البدويّة، فيجوز إجراء الاستصحاب فيها بلا محذور التناقض أصلاً.

والمتحصّل أنّ الاستصحاب يجري في المقام {ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي} في سائر المقامات، وإنّما لا يجري الاستصحاب في أطراف العلم في سائر المقامات {لاستلزام شمول دليله} أي: دليل الاستصحاب {لها} أي: لأطراف العلم الإجمالي {التناقض في مدلوله} أي: مدلول دليل الاستصحاب الّذي هو قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقضه بيقين مثله».

وإنّما يلزم التناقض ل- {بداهة تناقض حرمة النّقض في كلّ منها} أي: من أطراف العلم الإجمالي {بمقتضى «لا تنقض»} متعلّق بقوله: «حرمة» أي: يحرم النّقض

ص: 105

لوجوبه في البعض، كما هو قضيّة: «ولكن تنقضه بيقين آخر».

وذلك لأنّه إنّما يلزم في ما إذا كان الشّكّ في أطرافه فعليّاً، وأمّا إذا لم يكن كذلك،بل لم يكن الشّكّ فعلاً إلّا في بعض أطرافه، وكان بعض أطرافه الأُخر غير ملتفتٍ إليه فعلاً أصلاً - كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام، كما لا يخفى - فلا يكاد يلزم ذلك؛

___________________________________________

لقوله(علیه السلام): «لا تنقض» {لوجوبه} أي: وجوب النّقض متعلّق بقوله: «تناقض» أي: تناقض حرمة النقض لوجوب النّقض {في البعض} أي: بعض الأطراف {كما هو} أي: النّقض {قضيّة} أي: مقتضى قوله(علیه السلام) {«ولكن تنقضه بيقين آخر»}.

هذا كلّه وجه الإشكال في عدم جريان الاستصحاب في بعض الأطراف لو قلنا بانسداد باب العلم والعلمي.

{و} لكن هذا الإشكال لا يرد في ما نحن فيه فيجوز إجراء الاستصحاب في المسائل في باب الانسداد، و{ذلك لأنّه إنّما يلزم} التناقض {في ما إذا كان الشّكّ في أطرافه} أي: في أطراف المعلوم بالإجمال {فعليّاً} كما لو كان شاكّاً أنّ هذا الإناء نجس أم ذاك {وأمّا إذا لم يكن كذلك} بأن لم يكن الشّكّ فعليّاً {بل} كان بعض الأطراف مذهولاً عنه و{لم يكن الشّكّ فعلاً إلّا في بعض أطرافه} فقط {وكان بعض أطرافه الأُخر غير ملتفت إليه فعلاً أصلاً، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام، كما لا يخفى} فإنّه إذا توجّه إلى استنباط حكم غفل عن سائر المسائل، وإذا كان غافلاً عنها لم تكن تلك المسائل مجرى للأصل لأنّ الأصل إنّما هو يجري بالنسبة إلى الشّاكّ ومع الغفلة لا يكون شكّ، وإذا لم يلتفت إلّا إلى تلك المسألة الّتي يريد استنباطها لم يلزم من إجراء الأصل تناقض، إذ جريان الأصول فيجميع الأطراف يناقض العلم لا في بعضها، فإنّ الحكم بطهارة هذا الإناء لا يناقض العلم الإجمالي بالنجاسة وإنّما النّاقض للعلم جريان أصل الطّهارة في الإنائين {فلا يكاد يلزم ذلك} الّذي ذكر من التناقض، وهذا جواب

ص: 106

فإنّ قضيّة: «لا تنقض» ليس حينئذٍ إلّا حرمة النّقض في خصوص الطّرف المشكوك، وليس فيه علم بالانتقاض، كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له، فافهم.

ومنه قد انقدح: ثبوت حكم العقل وعموم النّقل بالنسبة إلى الأصول النّافية أيضاً،

___________________________________________

قوله: «وأمّا إذا لم يكن كذلك» {فإنّ قضيّة} أي: مقتضى {«لا تنقض» ليس حينئذٍ} أي: حين كون الشّكّ في بعض الأطراف فقط {إلّا حرمة النّقض في خصوص الطّرف المشكوك، وليس فيه} أي: في خصوص هذا الطّرف {علم بالانتقاض} إذ لا يعلم الشّخص انتقاض كلّ طرف عن حالته السّابقة {كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله} أي: شمول الدليل {له} أي: لهذا الطّرف المشكوك {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما ذكره المشكيني(رحمة الله) بقوله: «إنّه يمكن فرض الالتفات للمجتهد في آن واحد إلى مقدار يحصل العلم الإجمالي بالانتقاض فيه، كما إذا سطر جميع موارد الأصول المثبتة في صحيفة ناظراً إليها أو مقداراً منها، بحيث علم إجمالاً بالانتقاض، فلا يتمّ دعوى الكليّة، ولعلّ أمره بالفهم إشارة إليه»(1)، انتهى.

هذا مضافاً إلى أنّ الفقيه لو أجرى الأصل في المسائل تدريجاً علم أخيراًبالانتقاض فكيف يمكن إثبات تلك المسائل في رسالته للرجوع إليها؟! وفي المقام مناقشات أُخر لا مجال لإيرادها.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من عدم لزوم محذور من إجراء الأصول المثبتة في حال الانسداد من غير فرق بين الاحتياط والاستصحاب {قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النّقل بالنسبة إلى الأصول النّافية} للتكليف {أيضاً} فإنّ قوله(علیه السلام): «لا تنقض اليقين» وقوله: «رفع ما لا يعلمون» وحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان، كما يشمل مواضعها في حال الانفتاح كذلك يشمل مواضعها في حال

ص: 107


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 404.

وأنّه لا يلزم محذورُ لزوم التناقض من شمول الدليل لها، لو لم يكن هناك مانع - عقلاً أو شرعاً - من إجرائها، و

___________________________________________

الانسداد، وكما يشمل لا تنقض الإثبات كذلك يشمل النّفي.

وما يتوهّم من كونه مانعاً عن جريان هذه الأصول أحد ثلاثة أُمور:

[1] الإجماع على لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

[2] والعلم الإجمالي الموجب للتّناقض لو أجرينا الأصول النّافية.

[3] أو استكشاف اهتمام الشّارع بتكاليفه بحيث لا يرضى بإجراء الأصول النّافية.

وليس شيء منها مانعاً إذا حصلنا على مقدار كاف من الأحكام من العلم والعلمي والأصول المثبتة.

{و} ممّا تقدّم تعرف {أنّه لا يلزم} من إجراء الأصول النّافية {محذور لزوم التناقض} بين المعلوم بالإجمال وبين الأصول النّافية {من شمول الدليل لها} أي: للأُصول النّافية، فإنّالتناقض إنّما يلزم إذا كان الفقيه في حال إجراء الأصل النّافي في بعض الأطراف ملتفتاً إلى سائر المسائل، أمّا مع الغفلة فلا مانع عن الإجراء، كما عرفت في الأصول المثبتة، ف- {لو لم يكن هناك} في مورد جريان الأصول {مانع عقلاً أو شرعاً من إجرائها} لم يكن بأس بإجرائها من ناحية العلم الإجمالي.

{و} إن قلت: كيف يجوز إجراء الأصول والمانع عنها موجود، فإنّ الدليل يقول: «رفع ما لا يعلمون»، ويقول بقبح العقاب بلا بيان، ومن المعلوم أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف بيان وعلم فكيف تجرون البراءة؟! وهكذا بالنسبة إلى الاستصحاب، فإنّ دليله يقول: «لا تنقض اليقين بالشكّ»، وفي المقام نقض لليقين باليقين، وكذلك بالنسبة إلى الأصل التخيير؟!

ص: 108

لا مانع كذلك لو كانت موارد الأصول المثبتة - بضميمة ما علم تفصيلاً، أو نهض عليه علمي - بمقدار المعلوم إجمالاً، بل بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط، وإن لم يكن بذاك المقدار، ومن الواضح أنّه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.

___________________________________________

قلت: {لا مانع كذلك} أي: عقلاً وشرعاً من إجراء هذه الأصول {لو كانت موارد} ها لا تنافي العلم الإجمالي، إذ المانع إنّما هو العلم فإذا ارتفع لم يبق مانع لا من جهة العلم ولا من جهة استكشاف اهتمام الشّارع الموجب لجعل الاحتياط، وحيث إنّ العلم الإجمالي منحلّ فلا مانع، فإنّ {الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلاً أو نهض عليه} دليل {علمي} تكون {بمقدار المعلوم إجمالاً، بل} لو سلّمنا أنّها لا تفي بمقدار العلمالإجمالي حتّى ينحلّ فلا أقلّ من أنّها {بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط وإن لم يكن بذاك المقدار} الموجب للإنحلال، فلو لم ينحلّ العلم الإجمالي فلا أقلّ من أنّه لو عمل الإنسان بمقدار علمه وعلميّه والأصول المثبتة، لا يبقى مقدار معتدّ به من المشتبهات يوجب العلم باهتمام الشّارع بها حتّى أنّه لا يرضى بإهمالها، فأوجب الاحتياط لدركها حتّى لا يجوز إجراء الأصول النّافية، بل المقدار الباقي قليل جدّاً، فيشمل المشكوكات الباقية أدلّة الأصول الشّاملة للنافية منها فلا مانع من إجراء البراءة والتخيير واستصحاب النّفي.

مثلاً: لو كانت المشكوكات ألفاً، وعلمنا إجمالاً بأنّ ربعها أحكام، ثمّ ظفرنا ببركة العلم والعلمي والأصول المثبتة على مائتين وأربعين منها جاز إجراء الأصول النّافية في بقيّة المشكوكات؛ لأنّ العشرة الباقية ليست من الأهميّة بحيث لا يرضى الشّارع بتركها حتّى يوجب الاحتياط في جميع المشكوكات.

{ومن الواضح أنّه يختلف} هذا الاستكشاف لعدم اهتمام الشّارع بالباقي أو استكشاف اهتمامه {باختلاف الأشخاص والأحوال} فربّما يستكشف شخص

ص: 109

وقد ظهر بذلك: أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف ربّما ينحلّ ببركة جريان الأصول المثبتة وتلك الضّميمة، فلا موجب حينئذٍ للاحتياط عقلاً ولا شرعاً أصلاً، كما لا يخفى.

كما ظهر: أنّه لو لم ينحل العلم الإجمالي بذلك، كان خصوص موارد الأصول النّافية، مطلقاً - ولو من مظنونات عدم التكليف - محلّاً للاحتياط فعلاً - ويرفع اليد عنه فيها كلّاً أو بعضاً،

___________________________________________

دون شخص أو يستكشف في حال دون حال.{وقد ظهر بذلك} الّذي ذكرنا من كفاية المقدار المحصّل من الأحكام بالعلم والعلمي والأصول المثبتة {أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف} في المشكوكات والمظنونات والموهومات {ربّما ينحلّ ببركة جريان الأصول المثبتة وتلك الضّميمة} وهي العلم والعلمي {فلا موجب حينئذٍ} أي: حين الانحلال {للاحتياط عقلاً} لعدم العلم الإجمالي {ولا شرعاً} لعدم استكشاف اهتمام الشّارع {أصلاً، كما لا يخفى، كما ظهر أنّه لو لم ينحلّ العلم الإجمالي بذلك} المقدار المحصّل من العلم والعلمى والأصول المثبتة {كان} اللّازم رفع اليد عن الأصول النّافية فقط بالعمل بالاحتياط في مواردها، لا رفع اليد عن الأصول مطلقاً حتّى مثبتها بالعمل بالاحتياط في جميع موارد الأصول النّافية والمثبتة، كما ذكره الشّيخ(رحمة الله)، فإنّه حينئذٍ يكون {خصوص موارد الأصول النّافية مطلقاً} سواء كان مظنوناً أو مشكوكاً أو موهوماً.

وإلى ذلك أشار بقوله: {ولو من مظنونات عدم التكليف} أي: الموهومات {محلّاً للاحتياط فعلاً، ويرفع اليد عنه} أي: عن الأصل النّافي للتكليف {فيها} أي: في تلك الموارد {كلّاً} فلا يجري الأصل النّافي في جميع المشكوكات والموهومات والمظنونات {أو بعضاً} كأن لا يجري الأصل النّافي في موهومات التكليف.

ص: 110

بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر على ما عرفت - ، لا محتملات التكليف مطلقاً.

وأمّا الرّجوع إلى فتوى العالم: فلا يكاد يجوز؛ ضرورة أنّه لا يجوز إلّا للجاهل، لا للفاضل الّذي يرى خطأ من يدّعي انفتاح باب العلم أوالعلمي، فهل يكون رجوعه

___________________________________________

مثلاً: {بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر} يعني أنّ مقتضى القاعدة حين عدم الانحلال الاحتياط في جميع موارد الأصول النّافية، لكن نرفع اليد عن الاحتياط في بعضها حتّى لا يلزم اختلال للنظام أو عسر وحرج {على ما عرفت} سابقاً من عدم جريان الاحتياط في جميع الأطراف إذا استلزم اختلالاً أو عسراً {لا محتملات التكليف مطلقاً} عطف على قوله: «خصوص موارد الأصول» أي: إنّ الاحتياط يكون في موارد الأصول النّافية فقط لا في جميع موارد احتمال التكليف مطلقاً، سواء كان مجرى للأُصول النّافية أو المثبتة، إذ لا وجه لرفع اليد عن الأصول المثبتة بعد انحلال العلم الإجمالي بالاحتياط في مورد الأصول النّافية بضميمة العلم والعلمي والأصول المثبتة، كما ذهب إليه الشّيخ - رحمة اللّه عليه - .

وبهذا كلّه تحقّق أنّ المقدّمة الرّابعة للانسداد لم تتمّ، إذ الشّقّ الثّاني من المقدّمة كان يقول بعدم جواز الرّجوع إلى الأصول العمليّة ولا إلى فتوى المجتهد حتّى يكون الظّنّ المطلق حجّة، وقد عرفت أنّه يجوز الرّجوع إلى الأصول فلا مجال لحجيّة الظّنّ المطلق. نعم، ذيل الشّقّ الثّاني من المقدّمة - وهو عدم جواز الرّجوع إلى فتوى المجتهد - تامّ.

وإليه أشار بقوله: {وأمّا الرّجوع إلى فتوى العالم} سواء كان انفتاحيّاً أم انسداديّاً {فلا يكاد يجوز، ضرورة أنّه لا يجوز} التقليد {إلّا للجاهل لا للفاضل} من المجتهدين {الّذي يرى خطأ من يدّعي انفتاح باب العلم أو العلمي} أو يرى انسداده ثمّ وصل ظنّه إلى كون الحكم كذا {فهل يكون رجوعه} أي: هذا العالم الانسدادي

ص: 111

إليه بنظره إلّا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل؟

وأمّا المقدّمة الخامسة: فلاستقلال العقل بها، وأنّه لا يجوز التنزّل - بعد عدم التمكّن من الإطاعة العلميّة، أو عدم وجوبها - إلّا إلى الإطاعة الظّنيّة، دون الشّكّيّة أو الوهميّة؛ لبداهة مرجوحيّتهما بالإضافة إليها، وقبحِ ترجيح المرجوح على الرّاجح.

لكنّك عرفت عدم وصول النّوبة إلى الإطاعة الاحتماليّة، مع دوران الأمر بين الظّنيّة والشّكّيّة والوهميّة، من جهة ما أوردناه على المقدّمة الأُولى

___________________________________________

{إليه} أي: إلى مجتهد آخر {بنظره} أي: بنظر هذا العالم الانسدادي {إلّا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل} أو إلى مثله ممّن لا يجوز له تقليده؟

{وأمّا المقدّمة الخامسة} من مقدّمات الانسداد الّتي هي قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح {ف-} هي قطعيّة لا مناقشة فيها {لاستقلال العقل بها} وهذا وإن كان في الأُمور غير المهمّة لا بأس بها فلا ملامة عليها، ولذا نرى العقلا لا يلومون من يترك القرص الأجود إلى القرص الجيّد بدون أيّ سبب، لكنّه في الأُمور المهمّة بالأخصّ مثل الأحكام غير جائز لديهم {وإنّه لا يجوز التنزّل بعد عدم التمكّن من الإطاعة العلميّة أو عدم وجوبها} في ما كان الاحتياط عسراً {إلّا إلى الإطاعة الظّنيّة دون الشّكّيّة أو الوهميّة} فإنّ الظّنّ كاشف في الجملة بخلافهما فهو أرجح منهما {لبداهة مرجوحيّتهما بالإضافة إليها} أي: إلى الإطاعة الظّنيّة {وقبح ترجيحالمرجوح على الرّاجح}.

وهذه المقدّمة وإن كانت في نفسها تامّة {لكنّك عرفت} من مطاوي الإيرادات على المقدّمات {عدم وصول النّوبة إلى الإطاعة الاحتماليّة مع دوران الأمر بين} الإطاعة {الظّنيّة والشّكّية والوهميّة} حتّى توجب المقدّمة الخامسة تقدّم الظّنيّة عليهما فيتحقّق دليل الانسداد القائل بحجيّة الظّنّ مطلقاً، وإنّما قلنا بعدم وصول النّوبة {من جهة ما أوردناه على المقدّمة الأُولى} القائلة بعلمنا إجمالاً

ص: 112

من: انحلال العلم الإجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة، وقضيّتُه الاحتياط بالالتزام عملاً بما فيها من التكاليف، ولا بأس به؛ حيث لا يلزم منه عسر، فضلاً عمّا يوجب اختلال النّظام.

وما أوردناه على المقدّمة الرّابعة من جواز الرّجوع إلى الأصول مطلقاً، ولو كانت نافية؛ لوجود المقتضي وفقد المانع عنه،

___________________________________________

بتكاليف كثيرة {من انحلال العلم الإجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة} فلا علم إجمالي في البين حتّى ينفي عليه سائر المقدّمات {وقضيّته} أي: مقتضى انحلال العلم الإجمالي بما في الكتب انحصار دائرة {الاحتياط} بأخبار الكتب لا بكلّ مشكوك وموهوم ومظنون، وذلك {بالالتزام عملاً بما فيها} أي: في الكتب {من التكاليف} الإيجابيّة والتحريميّة {ولا بأس به} أي: بهذا الاحتياط الضّيّق النّطاق {حيث لا يلزم منه عسر فضلاً عمّا يوجب اختلال النّظام} فإنّ التكاليف الإلزاميّة الموجودة في الكتب الّتي هي محلّ ابتلاء كلّ مكلّف معدودة، منتهى الأمر أنتزيد على التكاليف الانفتاحيّة بمقدار الرّبع أو أقلّ، ومن الواضح أنّ الاحتياط لا يلزم حينئذٍ عسراً أو اختلالاً.

{وما أوردناه} عطف على قوله: «من جهة ما أوردناه على المقدّمة الأُولى» يعني: أنّ المقدّمة الخامسة لا تصل النّوبة إليها من جهة ما أوردناه {على المقدّمة الرّابعة} القائلة بأنّه لا يجب علينا الاحتياط ولا الرّجوع إلى الأصول أو التقليد {من جواز الرّجوع إلى الأصول مطلقاً ولو كانت} تلك الأصول {نافية} للتكليف كالاستصحاب النّافي والبراءة والتخيير {لوجود المقتضي} للرجوع إلى الأصول - وهو عموم أدلّتها للمقام - {وفقد المانع عنه} أي: عن المقتضي؛ لأنّه إمّا الإجماع أو استكشاف الاحتياط من اهتمام الشّارع أو العلم الإجمالي، وقد تقدّم أنّ شيئاً منها لا يصلح للمنع.

ص: 113

لو كان التكليف - في موارد الأصول المثبتة، وما علم منه تفصيلاً، أو نهض عليه دليل معتبر - بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلّا فإلى الأصول المثبتة وحدها.

وحينئذٍ كان خصوص موارد الأصول النّافية محلّاً لحكومة العقل، وترجيح مظنونات التكليف فيها على غيرها، ولو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعاً،

___________________________________________

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الرّجوع إلى الأصول النّافية إنّما هو {لو كان التكليف في موارد الأصول المثبتة} للتكليف {و} في {ما علم منه} أي: من التكليف {تفصيلاً أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلومبالإجمال} فإنّه لو علمنا بقدر علمنا الإجمالي بهذه الأُمور الثلاثة العلم والعلمي والأصول المثبتة جاز الرّجوع إلى الأصول النّافية {وإلّا} يكن هذه الثلاثة بمقدار علمنا الإجمالي، بل بقي العلم الإجمالي لم يجز الرّجوع إلى الأصول النّافية {ف-} يجوز الرّجوع {إلى الأصول المثبتة وحدها} كما تقدّم كلّ ذلك، وتقدّم أيضاً جواز الرّجوع إلى الأصول النّافية لو لم تف الثلاثة بعلمنا الإجمالي ولكن كان الزائد عنه بمقدار لا يستكشف فيه الاحتياط من اهتمام الشّارع {وحينئذٍ} أي: حين لم يجز الرّجوع إلى الأصول النّافية {كان خصوص موارد الأصول النّافية محلّاً لحكومة العقل} بأن تنعقد مقدّمات الانسداد في خصوص هذه الموارد.

{و} حينئذٍ يحكم العقل ب- {ترجيح مظنونات التكليف فيها} أي: في تلك الموارد {على غيرها} أي: غير المظنونات من المشكوكات والموهومات {ولو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعاً} «لو» وصليّة مرتبطة بقوله: «وحينئذٍ كان خصوص موارد الأصول النّافية» الخ، يعني أنّ الرّجوع إلى الظّنّ في موارد الأصول النّافية - بعد عدم جريان الأصل فيها - لا يتوقّف على القول بالعلم الإجمالي العام، بل يحكم فيها الظّنّ بسبب استكشاف وجوب الاحتياط عن اهتمام الشّارع بما بقي من الأحكام - وإن ظفرنا على أغلبها بالعلم والعلمي

ص: 114

بعد عدم وجوب الاحتياط التامّ شرعاً أو عقلاً، على ما عرفت تفصيله.

هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النّظر الدقيق، فافهم وتدبّر جيّداً.

فصل: هل قضيّة المقدّمات - على تقديرسلامتها - هي حجيّة الظّنّ بالواقع، أو بالطريق، أو بهما؟

___________________________________________

والأصول المثبتة - {بعد عدم وجوب الاحتياط التامّ} في جميع أطراف العلم الإجمالي العام {شرعاً} لأدلّة نفي الحرج {أو عقلاً} للزومه اختلال النّظام {على ما عرفت تفصيله}.

و{هذا} الّذي ذكرنا من عدم تماميّة مقدّمات الانسداد فلا يكون الظّنّ حجّة {هو التحقيق على ما يساعد عليه النّظر الدقيق، فافهم وتدبّر جيّداً}.

ثمّ لا يخفى أنّ القائلين بالانسداد لا يخرجون في طرق استدلالاتهم واستنتاجاتهم عن طرق القائلين بالانفتاح، ولذا نرى فتوى الانسدادي والانفتاحي كفتوى الانفتاحيين، فإنّ الانسدادي أيضاً يرجع إلى الأدلّه الأربعة من الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل، لا كما ربّما توهّم من أنّهم يعملون بكلّ ظنّ ولو من طيران الغراب أو جريان الميزاب، لكنّهم حيث لم يتمكّنوا من إثبات حجيّة الأخبار - على ما يذهب إليه الانفتاحي - أُجبروا على القول بحجيّة الظّنّ المطلق ليعملوا بالأخبار من هذا الباب.

[فصل الظّنّ بالطريق والظن بالواقع]

المقصد السّادس: في الأمارات، الظّنّ بالطريق والظن بالواقع

{فصل} في بيان أنّ الظّنّ في حال الانسداد مطلقاً حجّة، سواء كان بالطريق أو الواقع، أو الظّنّ بالطريق حجّة فقط، أو الظّنّ بالواقع حجّة فقط.

{هل قضيّة المقدّمات} الخمس المذكورة {على تقدير سلامتها} من الإيراد {هي حجيّة الظّنّ بالواقع، أو} حجيّة الظّنّ {بالطريق، أو} حجيّة الظّنّ {بهما}؟

فعلى الأوّل: يكون الظّنّ حجّة إذا قام بالواقع، كما لو ظننّا أنّ التبغ حلال،دون

ص: 115

أقوال:

والتحقيق أن يقال: إنّه لا شبهة في أنّ هَمّ العقل في كلّ حال، إنّما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة، من العقوبة على مخالفتها.

كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمّن منها، وفي أنّ كلّ ما كان القطع به مؤمّناً في حال الانفتاح، كان الظّنّ به مؤمّناً حالَ الانسداد جزماً،

___________________________________________

ما لو ظننّا بالطريق، كما لو قام الخبر الّذي هو مظنون بكون التبغ حلالاً.

وعلى الثّاني: لا يكون الظّنّ بحليّة التبغ موجباً للحليّة، بل إنّما يكون الحجيّة للظنّ بالخبر الّذي قام على الحليّة.

وعلى الثّالث: لا يفرق الأمر بين أن يقوم الظّنّ على الحكم أو على الطّريق.

والحاصل: أنّ الأولين يرون أنّ الظّنّ يلزم أن يتعلّق بالأحكام الفرعيّة حتّى يكون حجّة، سواء حصل هذا الظّنّ بالواقع بسبب طريق مظنون أم لا، والآخرين يرون عكس ذلك، وأنّ الظّنّ يلزم أن يتعلّق بالطّرق كالشهرة، وخبر الواحد، والإجماع، ونحوها، سواء ظنّ بالواقع الّذي هو مؤدّى هذه الطّرق أم لا، والقول الثّالث هو حجيّة الظّنّ مطلقاً سواء تعلّق بالحكم الفرعي أو بالطّريق {أقوال}:

الّذي اختاره الشّيخ(رحمة الله)(1) والمصنّف هو القول الثّالث {والتحقيق أن يقال: إنّه لا شبهة في أنّ همّ العقل في كلّ حال} سواء الانفتاح أو الانسداد {إنّما هوتحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة} تفصيلاً أو إجمالاً {من العقوبة على مخالفتها} بيان للتبعة المترتّبة على التكاليف المعلومة {كما لا شبهة في استقلاله} أي: العقل {في تعيين ما هو المؤمّن منها} أي: من تلك التبعة {وفي أنّ كلّ ما كان القطع به مؤمّناً في حال الانفتاح كان الظّنّ به مؤمّناً حال الانسداد جزماً} هذا

ص: 116


1- فرائد الأصول 1: 437.

وأنّ المؤمِّن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلّف به الواقعي بما هو كذلك - لا بما هو معلوم، ومؤدّى الطّريق، ومتعلّقُ العلم، وهو طريقٌ شرعاً وعقلاً - أو بإتيانه الجعلي؛ وذلك لأنّ العقل قد استقلّ بأنّ الإتيان بالمكلّف به الحقيقي بما هو هو - لا بما هو مؤدّى الطّريق - مبرئ للذمّة قطعاً.

___________________________________________

بيان لقوله: «تعيين ما هو المؤمّن» {وأنّ المؤمّن في حال الانفتاح هو القطع} بأحد أمرين:

الأوّل: {بإتيان المكلّف به الواقعي بما هو كذلك} أي: مكلّف به واقعاً {لا بما هو معلوم ومؤدّى الطّريق ومتعلّق العلم}، فإنّ المناط الواقع لا الواقع المقيّد بكونه معلوماً أو مؤدّى الطّريق أو متعلّق - بالفتح - العلم {وهو} أي: العلم {طريق شرعاً وعقلاً} فليس طريقاً مجعولاً - كالأمارات والطّرق - حتّى أنّ الشّارع لو لم يجعله لم يكن طريقاً، فليس له دخل في الموضوع.

وهذه الجملة كتأكيد لما سبق من أنّ المكلّف به هو الواقع فقط لا الواقع بقيد كونه معلوماً.الثّاني: {أو بإتيانه} أي: بإتيان المكلّف به {الجعلي} بأن قامت أمارة أو أصل على الحكم فتعلّق القطع بذلك.

والحاصل: أنّ العقل يحكم بأنّ المؤمّن هو الإتيان بالواقع الحقيقي أو الواقع الجعلي.

{وذلك} الّذي ذكرنا من كون المؤمّن حال الانفتاح هو الإتيان بأحد الأمرين {لأنّ العقل قد استقلّ بأنّ الإتيان بالمكلّف به الحقيقي بما هو هو - لا بما هو مؤدّى الطّريق - مبرئ للذمّة قطعاً}.

فمن يقول بأنّ الأحكام قيّدت بالطرق حتّى أنّها لا تكفي إلّا إذا جاءت عن الطّرق، ليس لكلامه دليل، لما ذكرنا من أنّ العقل يرى وجوب إطاعة المولى

ص: 117

كيف؟ وقد عرفت: أنّ القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثاً وإمضاءً، إثباتاً ونفياً. ولا يخفى: أنّ قضيّة ذلك هو التنزّل إلى الظّنّ بكلّ واحد من الواقع أو الطّريق.

ولا منشأ لتوهّم الاختصاص بالظنّ بالواقع، إلّا توهّم

___________________________________________

بالإتيان بأحكامه، لا الإتيان بأحكامه المقيّدة بطرق خاصّة حتّى نقول بمثل ذلك في حال الانسداد وأنّ المعتبر هو الواقع المظنون بأن يكون المكلّف به هو الواقع بقيد كونه مظنوناً، وسيأتي تفصيل هذا الكلام عند التعرّض لكلام صاحب الحاشية على المعالم.

و{كيف} يكون المكلّف به هو الواقع المقيّد بالطريق {وقد عرفت} في أوّل مبحث القطع من الكتاب {أنّ القطع بنفسه طريق}إلى الأحكام لا جزء موضوع حتّى يكون الواقع بما هو مقطوع مورداً للإطاعة والمعصية، ف- {لا يكاد تناله} أي: القطع الطّريقي {يد الجعل إحداثاً وإمضاءً، إثباتاً ونفياً} بأن يحدث الشّارع الطّريقيّة للقطع، أو يمضي طريقيّته، أو ينفي الطّريقيّة.

{ولا يخفى أنّ قضيّة ذلك} أي: مقتضى كون المؤمّن حال الانفتاح هو القطع بأحد أمرين:

الواقع الحقيقي أو الجعلي {هو التنزّل إلى الظّنّ} في حال الانسداد {بكلّ واحد من الواقع} كأن يظنّ حرمة التبغ {أو الطريق} كأن يظن حجيّة خبر الواحد القائل بحرمة التبغ - وإن لم يظن بحرمة التبغ - {ولا منشأ لتوهّم الاختصاص} أي: اختصاص حجيّة الظّنّ في حال الانسداد {بالظنّ بالواقع} فقط حتّى أنّه لو ظنّ أنّ خبر الواحد - مثلاً - حجّة لم يفد ذلك في العمل بمؤدّاه {إلّا توهّم} أنّ مقدّمات دليل الانسداد إنّما هي بالنسبة إلى الفروع الفقهيّة، لما تقدّم من كون المكلّف به المعلوم إجمالاً هو الأحكام الشّرعيّة، وعليه فالانسداد لا يكون إلّا

ص: 118

أنّه قضيّة اختصاص المقدّمات بالفروع، - لعدم انسداد باب العلم في الأصول، وعدم إلجاء في التنزّل إلى الظّنّ فيها - . والغفلة عن أنّ جريانها في الفروع، موجبٌ لكفاية الظّنّ بالطريق في مقام تحصيل الأمن من عقوبة التكاليف، وإن كان باب العلم في غالب الأصول مفتوحاً، وذلك لعدم التفاوت في نظر العقل - في ذلك - بين الظّنّين.

___________________________________________

بالنسبة إلى الفروع، ويكون الظّنّ بالفرع حجّة، أمّا الأصول - أعني: الطّرق إلى الأحكام، كالإجماع والخبر والشّهرة - فإنّها لمّا لم تجر فيها مقدّمات الانسداد لم يكن الظّنّ حجّة بالنسبة إليها.

والحاصل: {أنّه} أي: اختصاص الحجيّة بالظنّ بالحكم {قضيّة} أي: مقتضى {اختصاص المقدّمات بالفروع لعدم انسداد باب العلم في الأصول} فإنّما نتمكّن من تحصيل العلم والعلمي بالطرق والأمارات، كأن نعلم بانّ الخبر حجّة، أو يقوم على حجيّته دليل معتبر، فلا مجال لجريان مقدّمات الانسداد في هذا الباب، بأن يقال: إنّا نعلم إجمالاً بأنّ في المقام طرقاً ولا يمكن تركها ولا الاحتياط فيها، فاللّازم الأخذ بمظنون الطّريقيّة وترك غيرها من المشكوك والموهوم.

{و} بهذا تبيّن {عدم إلجاء} موجب {في التنزّل إلى الظّنّ فيها} أي: في الأصول.

هذا غاية تقريب دليل من أوجب حجيّة الظّنّ في حال الانسداد بالفروع.

{و} الجواب: أنّ سبب هذا التخصيص هو {الغفلة عن} ما ذكرناه سابقاً، ف- {أنّ جريانها} أي: جريان مقدّمات الانسداد {في الفروع} كما سلّمه الخصم {موجب لكفاية الظّنّ بالطريق في مقام تحصيل الأمن من عقوبة التكاليف، وإن كان باب العلم في غالب الأصول مفتوحاً} بأن لم تجر المقدّمات في هذا الباب {وذلك} الّذي ذكرنا من حجيّة الظّنّ بالطريق - ولو كان باب العلم فيها مفتوحاً - {لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك} أي: في كفاية الظّنّ {بين الظّنّين} الظّنّ

ص: 119

كما أنّ منشأ توهّم الاختصاص بالظنّ بالطريق وجهان:

أحدهما: ما أفاده بعضُ الفحول(1)،

وتبعه في الفصول(2)

___________________________________________

بالطريق أو الظّنّ بالحكم، فإنّ العقل يرى حجيّة الظّنّ في حال انسداد العلم بالأحكام، كما يرى حجيّة القطع في حال الانفتاح، وكما لا فرق في حال الانفتاح بين القطع بالواقع أو الطّريق كذلك لا يفرق في حال الانسداد بين الظّنّ بالواقع أو الطّريق.

هذا تمام الكلام في ردّ من توهّم اختصاص حجيّة الظّنّ الانسدادي بالظنّ بالواقع، وهنا قول بعكس ذلك وهو اختصاص الظّنّ الانسدادي بالظنّ بالطريق، أمّا الظّنّ بالواقع فلا حجيّة فيه، فإذا ظنّ بحرمة التبغ في حال الانسداد لم يجز له العمل على طبقه.

نعم، لو ظنّ بحجيّة الخبر الواحد وقام على حرمة التبغ وجب اتّباعه - سواء ظنّ بالحرمة أم لا - وإليه أشار بقوله: {كما أنّ منشأ توهّم الاختصاص} أي: اختصاص حجيّة الظّنّ في حال الانسداد {بالظنّ بالطريق} فقط {وجهان}:

{أحدهما: ما أفاده بعض الفحول} وهو المحقّق الشّيخ محمّد تقي في حاشيته على المعالم {وتبعه في الفصول} بما حاصله:

أنّا مكلّفون بأحكام واقعيّة، ثمّ إنّ الشّارع جعل طرقاً لتلك الأحكام، فانحلّالعلم الإجمالي بالأحكام الواقعيّة إلى ما في تلك الطّرق، فإذا لم يمكن الاحتياط بما في هذه الطّرق فاللّازم الرّجوع إلى الظّنّ فيها، ولا مجال للرجوع إلى الظّنّ بالواقع لما سبق من انحلال العلم الإجمالي بالواقع إلى ما في الطّرق.

ص: 120


1- حكاه في حقائق الأصول 2: 174؛ عن هداية المسترشدين 3: 360؛ وقيل: أن بعض الفحول هو المحقّق التستري في كشف القناع عن وجوه حجيّة الإجماع: 460.
2- الفصول الغرويّة: 277.

قال فيها:

«إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون - في زماننا هذا - تكليفاً فعليّاً بأحكام فرعيّة كثيرة، لا سبيل لنا - بحكم العيان وشهادة الوجدان - إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق معيّن يقطع من السّمع - بحكم الشّارع - بقيامه، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره،

___________________________________________

{قال فيها: «إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفاً فعليّاً بأحكام فرعيّة كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان} أي: ما نشاهده من اضطراب الأخبار سنداً ودلالة وجهة صدور، وما نشاهده من اختلاف الفقهاء تبعاً لذلك في الأحكام اختلافاً كبيراً {وشهادة الوجدان} فإنّ الوجدان يشهد بأنّ هذا الاضطراب الّذي رافق وقت صدور الأخبار من التقيّة وانحراف بعض الرّواة وكثرة دواعي الأعداء لطمس هذه الآثار بسبب اختفاء الأحكام {إلى تحصيل كثير منها بالقطع} أي: نحصلها تحصيلاً قطعيّاً لا شوب إشكال فيها {ولا بطريق معيّن} كخبر الواحد - مثلاً - بحيث كان هذا الطّريق {يقطع من السّمع} أي: يكون القطع بسبب سماعنا حجيّة هذا الطّريق {بحكم الشّارع بقيامه} أي: قيام ذاك الطّريق {أو قيام طريقه} أي: طريق الطّريق {مقام القطع} والطّريق مثل خبر الواحد، وطريق الطّريق مثل الإجماع في ما لو قام على حجيّة الخبر،يعني انسدّ باب الأحكام علينا؛ لأنّ الحكم يحصل بأحد الطّرق وهي القطع به، والقطع بحجيّة الخبر الواحد القائم على الحكم، والقطع بحجيّة الإجماع الّذي قام على حجيّة الخبر الواحد الّذي قام على الحكم وحيث انتفت هذه الطّرق إلى الحكم كان اللّازم الرّجوع إلى شيء آخر {ولو عند تعذّره} أي: تعذّر القطع بالحكم، يعني ليس طريق مقطوع إلى الحكم، ولو كان ذلك الطّريق طريقاً عند تعذّر القطع بالحكم.

ص: 121

كذلك نقطع بأنّ الشّارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقاً مخصوصاً، وكلّفنا تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة، وحيث إنّه لا سبيل غالباً إلى تعيينها بالقطع، ولا بطريق يقطع من السّمع بقيامه بالخصوص، أو قيامِ طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره، فلا ريب أنّ الوظيفة - في مثل ذلك - بحكم العقل،

___________________________________________

والحاصل: أنّا كما نقطع أنّا مكلّفون بأحكام واقعيّة {كذلك نقطع بأنّ الشّارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقاً مخصوصاً} ابتدائيّاً أو إمضائيّاً؛ لأنّ ذلك ديدن العقلاء، فإنّهم يجعلون لأحكامهم طرقاً لتقوم الحجّة على من قامت عنده، ويكون معذّراً لمن لم تقم عنده. ومن الواضح أنّ الشّارع سيّد العقلاء، وأنّه لا يعدو الطّريقة العقلائيّة {وكلّفنا تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة} ولا تنافي بين قوله: «طريقاً» وقوله: «طرق»، إذ المراد بالأوّل الجنس، كما لا يخفى.

{وحيث إنّه لا سبيل غالباً إلى تعيينها} أي: تعيين تلك الطّرق المجعولة {بالقطع} بأن نقطع بتلك الطّرق وأنّها مجعولة للشارع، كأن نقطع أنّ خبر الواحد حجّة وطريق شرعيّ إلى الأحكام{ولا} إلى تعيينها {بطريق} كالإجماع القائم على حجيّة الخبر {يقطع من السّمع بقيامه بالخصوص} أي: بقيام ذلك الطّريق {أو قيام طريقه} أي: طريق الطّريق {كذلك} أي: بالخصوص {مقام القطع}.

والحاصل: أنّ في المقام حكماً وطريقاً، وليس لنا إلى أحدهما سبيل؛ لأنّ السّبيل القطع أو الطّريق أو الطّريق إلى الطّريق، وهذه الأُمور الثلاثة لم تكن بالنسبة إلى الحكم، ولا بالنسبة إلى الطّريق المجعول {ولو بعد تعذّره} كما تقدّم في الطّريق إلى الحكم {فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك} أي: في مثل هذا المقام الّذي حصل لنا علمان إجماليّان بالأحكام وبالطّرق إليها {بحكم العقل} بعد عدم إمكان الاحتياط، أو عسره، وعدم جواز إهمال الأحكام، وقبح ترجيح

ص: 122

إنّما هو الرّجوع - في تعيين ذلك الطّريق - إلى الظّنّ الفعلي الّذي لا دليل على حجيّته؛ لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه»(1).

وفيه أوّلاً: - بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصّة،

___________________________________________

المرجوح على الرّاجح {إنّما هو الرّجوع في تعيين ذلك الطّريق} الّذي جعله الشّارع إلى حكمه وقد اشتبه عندنا {إلى الظّنّ الفعلي} لا الظّنّ الشّأني {الّذي لا دليل} بالخصوص {على حجيّته} وإنّما يكون دليل الانسداد العام دليلاً على حجيّته{لأنّه} أي: الظّنّ بالطريق {أقرب إلى العلم} بالطريق {وإلى إصابة الواقع} الّذي انحصر في هذه الطّرق المخصوصة بسبب العلم الإجمالي الثّاني {ممّا عداه»} من الوهم والشّكّ، فإذا علمنا أنّ الواقع انحصر في الطّريق المخصوص ولم نظفر بذلك الطّريق - لا علماً ولا علميّاً - كان الأمر في تحصيل ذلك الطّريق المجهول منحصراً بين الأخذ بمظنون الطّريق، أو مشكوكه، أو موهومه، ولا ريب أنّ العقل يحكم بأنّ الظّنّ أقرب.

هذا تمام الوجه الأوّل الّذي استدلّ به صاحب الحاشية والفصول على انحصار نتيجة دليل الانسداد في حجيّة الظّنّ بالطريق، وأنّه يجب في حال الانسداد العمل بالظنّ الّذي قام على الطّريق لا على نفس الواقع.

{وفيه أوّلاً: بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصّة} لإمكان إيكال الشّارع إلى العقلاء - كما هو الغالب في المشرّعين - فإنّهم لا يضعون طرقاً خاصّة لأحكامهم، وإذا كان الأمر موكولاً إلى العقلاء فهم يعملون بالقطع، ثمّ الاطمئنان، ثمّ الظّنّ، ثمّ الاحتمال، ومن المعلوم أنّ مقتضى ذلك حينئذٍ حجيّة الظّنّ بالواقع وينتفي ما أراده المستدلّ من حجيّة الظّنّ بالطريق فقط

ص: 123


1- الفصول الغرويّة: 277، مع اختلاف يسير.

باقية في ما بأيدينا من الطّرق غير العلميّة، وعدمِ وجود المتيقّن بينها أصلاً - أنّ قضيّة ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطّرق المعلومة بالإجمال، لا تعيينها بالظنّ.

لا يقال: الفرض هو عدم وجوب الاحتياط، بل عدم جوازه.

لأنّ الفرض

___________________________________________

{باقية في ما بأيدينا من الطّرق غير العلميّة} إذ ذاك غير مسلّم، فإنّ من المحتمل أنّ الشّارع نصب طريقاً خاصّاً، ولكن ليس ذلك الطّريق بأيدينا في الحال الحاضر، كما لو كان المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعلي مع كون راويه إماميّاً عادلاً ضابطاً مزكّى رواته بعدلين، ولا ريب أنّ مثل هذا الطّريق نادر جدّاً في هذا الزمان، فالطريق المجعول ليس بباقٍ حتّى يجب الأخذ به علماً أو ظنّاً، وحينئذٍ فالتكليف الرّجوع إلى الواقع ظنّاً - حيث تعذّر العلم - ولا يثبت ما أراده المستدلّ من حجيّة الظّنّ بالطريق فقط {وعدم وجود المتيقّن بينها} أي: بين الطّرق المحتملة {أصلاً} لأنّه إذا كان طريق متيقّن كافٍ - كالخبر الواحد - لم تصل النّوبة إلى الظّنّ بالطريق {أنّ قضيّة ذلك} أي: مقتضى ذلك الّذي ذكره المستدلّ من العلم بنصب طرق مجهولة بين ما بأيدينا من الطّرق {هو الاحتياط في أطراف هذه الطّرق المعلومة بالإجمال، لا تعيينها بالظنّ} لأنّه مقتضى العلم الإجمالي.

{لا يقال}: ما ذكرتم من لزوم الاحتياط في أطراف الأمارات خلاف {الفرض} إذ المفروض {هو عدم وجوب الاحتياط} للزومه العسر {بل عدم جوازه} للزوم اختلال النّظام، فإنّه على هذا الفرض تصل النّوبة إلى حجيّة الظّنّ، ويقع الاختلاف في أنّ الظّنّ حينئذٍ هل هو حجّة بالنسبة إلى الواقع، أو الطّريق، أو كليهما، فقولكم بالاحتياط خلاف الفرض، ومعناه عدم تسليم تماميّة مقدّمات الانسداد.

{لأنّ-}-ا نقول: ليس ما ذكرناه خلاف {الفرض} فإنّ المفروض في مقدّمات

ص: 124

إنّما هو عدم وجوب الاحتياط التامّ فيأطراف الأحكام، ممّا يوجب العسر المخلّ بالنظام، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطّرق؛ فإنّ قضيّة هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها، والرّجوعُ إلى الأصل فيها ولو كان نافياً للتكليف.

وكذا في ما إذا نهض الكلّ على نفيه.

وكذا في ما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فيه - نفياً وإثباتاً - ، مع ثبوت المرجّح للنافي، بل مع عدم رجحان المثبت

___________________________________________

الانسداد {إنّما هو عدم وجوب الاحتياط التامّ في أطراف الأحكام ممّا يوجب العسر المخلّ بالنظام} و{لا} يكون المفروض في مقدّمات الانسداد عدم وجوب {الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطّرق} كأن نحتاط باتّباع كلّ خبر وشهرة وإجماع وسيرة مثلاً، فإنّ مثل هذا الاحتياط لا يوجب عسراً ولا إخلالاً. وهذا الاحتياط الصّغير لا يوجب الاحتياط الكبير {فإنّ قضيّة هذا الاحتياط} الصّغير {هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها} أي: موارد هذه الطّرق الّتي بأيدينا {والرّجوع إلى الأصل فيها} أي: في تلك الموارد {ولو كان} الأصل {نافياً للتكليف} لأنّه لا مانع حينئذٍ من جريان الأصل، فإنّ المانع كان هو العلم الإجمالي والمفروض أنّه انحلّ بما بين الطّرق فقط.

{وكذا} جواز رفع اليد عن التكليف {في ما إذا نهض الكلّ} أي: كلّ الطّرق الّتي يجب الاحتياط فيها {على نفيه} أي: نفي ذلك التكليف المحتمل.

{وكذا} جواز رفع اليد عن التكليف {في ما إذا تعارضفردان من بعض الأطراف} أي: فردان من الطّريق الّذي هو طرف للعلم الإجمالي، كما لو تعارض خبران في وجوب شيء وعدم وجوبه {فيه} أي: في التكليف، فقال أحدهما: إنّ دعاء رؤية الهلال واجب، وقال الآخر: ليس بواجب {نفياً وإثباتاً} للتكليف {مع ثبوت المرجّح للنافي} بأن كان الخبر النّافي مخالفاً للعامّة مثلاً {بل مع عدم رجحان المثبت}

ص: 125

في خصوص الخبر منها، ومطلقاً في غيره، بناءً على عدم ثبوت الترجيح - على تقدير الاعتبار - في غير الأخبار. وكذا لو تعارض اثنان منها في الوجوب والتحريم، فإنّ المرجع - في جميع ما ذكر من موارد التعارض - هو الأصل الجاري فيها

___________________________________________

بأن كانا متساويين من حيث السّند والدلالة والجهة، فإنّه يؤخذ بالنافي في الصّورتين، أمّا مع رجحان النّافي فلأنّه أرجح، وأمّا مع التساوي فلأنّه كان الأخذ بالنافي جائزاً لو كان الخبر حجّة بالخصوص، فكيف بما لو كان طرفاً للعلم.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا من جواز رفع اليد عن التكليف في صورتي رجحان النّافي أو التساوي بينه وبين المثبت إنّما هو {في خصوص الخبر منها} أي: من الطّرق الّتي كانت طرفاً للعلم الإجمالي {و} لكنّه يجوز رفع اليد عن التكليف {مطلقاً} في الصّور الثلاثة: رجحان النّافي ورجحان المثبت والتساوي {في غيره} أي: غير الخبرين، كما لو قامت شهرتان إحداهما على نفي التكليف والأُخرى على إثباته، فإنّه يجوز الأخذ بالنافي ولو كانت الشّهرة المثبتة أرجح {بناءً على عدم ثبوت الترجيح - على تقدير الاعتبار -} أي: اعتبار هذا الطّريق الّذي وقع الآن طرفاً للعلم الإجمالي {في غير الأخبار}يعني أنّ الشّهرة - مثلاً - لو كانت طريقاً مقطوعاً، ثمّ تعارضت شهرتان، لم يعمل هناك المرجّحات فكيف بما إذا كانت طريقاً محتملاً.

وذلك لأنّه لا دليل على إعمال المرجّحات في غير باب الأخبار، فإذا تعارض طريقان كان مقتضى القاعدة جواز الأخذ بالنّافي منهما.

{وكذا} جواز رفع اليد عن التكليف في ما {لو تعارض اثنان منها} أي: من الطّرق {في الوجوب والتحريم} بأن كانا مثبتين بخلاف الصّورة السّابقة الّتي كان أحدهما نافياً فيها، فإنّه لا يجب الاحتياط في هذه الصّورة لعدم إمكانه، فيكون المرجع إلى عدم التكليف {فإنّ المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الأصل الجاري فيها}

ص: 126

ولو كان نافياً؛ لعدم نهوض طريق معتبر، ولا ما هو من أطراف العلم به، على خلافه، فافهم.

وكذا كلّ مورد لم يجرِ فيه الأصل المثبت؛ للعلم بانتقاض الحالة السّابقة فيه إجمالاً، بسبب العلم به أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه، بناءً على عدم جريانه

___________________________________________

أي: في تلك الموارد {ولو كان} الأصل {نافياً لعدم نهوض طريق معتبر، ولا} نهوض {ما هو من أطراف العلم به} أي: بالتكليف {على خلافه} أي: على خلاف هذا الأصل الجاري.

والحاصل: أنّ إجراء الاحتياط في الطّرق الّتي وقعت أطرافاً للعلم الإجمالي بحجيّة بعض الطّرق ليس بمنزلة الاحتياط في محتملات التكليف الّتي كانت أطرافاً للعلم الإجمالي بالتكليف، فإنّ دائرة الاحتياط الأوّل أصغر بكثير من دائرةالاحتياط الثّاني، فاستلزام الاحتياط في محتملات التكليف عسراً أو اختلالاً لا يوجب أن يكون الاحتياط في محتملات الطّريق كذلك، بل المسلّم أنّ في كثير ممّا كان مقتضى القاعدة الاحتياط - حسب العلم الإجمالي بمحتملات التكليف - لا يجب الاحتياط - حسب العلم الإجمالي بمحتملات الطّريق - كما تقدّم {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ عدم وجوب الاحتياط في المورد الأخير - وهو مورد تعارض الدليلين في الوجوب والحرمة - ليس خاصّاً بصورة لزوم الاحتياط في أطراف الطّرق، بل إنّه شامل لمورد وجوب الاحتياط في أطراف محتمل التكليف أيضاً، فلا وجه لجعله من هذه الموارد.

{وكذا} جواز رفع اليد عن التكليف في {كلّ مورد لم يجر فيه الأصل المثبت} للتكليف، كما لو قام الاستصحاب على الحرمة ولكن علمنا بانتقاض الحالة السّابقة في بعض أطراف العلم، فإنّ الاستصحاب حينئذٍ لا يثبت التكليف {للعلم بانتقاض الحالة السّابقة فيه إجمالاً بسبب العلم به} أي: بالانتقاض {أو بقيام أمارة معتبرة عليه} أي: على الانتقاض {في بعض أطرافه بناءً على عدم جريانه} أي:

ص: 127

بذلك.

وثانياً: لو سلّم أنّ قضيّته لزوم التنزّل إلى الظّنّ، فتوهّم: «أنّ الوظيفة حينئذٍ هو خصوص الظّنّ بالطريق» فاسدٌ قطعاً؛

___________________________________________

الأصل {بذلك} العلم.

ولكن لا يخفى أنّه بعد ذلك كلّه لا يمكن الجزم برفع الحرج والاختلال، فإنّ الموارد الّتي لا يجري فيها الاحتياط ممّا ذكره المصنّف ليس بحدّ يكفي لرفعالعسر أو الاختلال.

ثمّ إنّه حيث فرغنا من الإشكال الأوّل على صاحب الحاشية القائل بحجيّة الظّنّ بالطريق فقط في حال الانسداد، نقول: لو سلّمنا أنّ مقتضى دليلكم ليس هو الاحتياط في الطّرق المحتملة - كما ذكرنا في الجواب الأوّل - بل هو التنزّل إلى الظّنّ فلا وجه لكون الحجّة هو الظّنّ بالطريق فقط، بل الحجّة لدى الانسداد هو الظّنّ بالطريق أو بالواقع.

وإليه أشار بقوله: {وثانياً} نقول: {لو سلّم أنّ قضيّته} أي: مقتضى دليلكم {لزوم التنزّل إلى الظّنّ} لا الاحتياط في الطّرق المحتملة {فتوهّم: «أنّ الوظيفة حينئذٍ} أي: حين حجيّة الظّنّ {هو خصوص الظّنّ بالطريق»} ولا حجيّة في الظّنّ بالحكم {فاسد قطعاً} إذ نصب الطّريق لم يوجب سقوط الواقع عن التنجّز، حتّى أنّه لو علمنا بالواقع من غير هذه الطّرق لم يجب علينا العمل به، وإذن فالواقع محفوظ في مرتبته بحيث لو علم به لتنجّز.

وإذا كان الواقع محفوظاً كان الظّنّ على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الظّنّ بالطريق، بأن يظنّ بالخبر الّذي يقول بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال.

الثّاني: الظّنّ بالواقع، بأن يظنّ بأنّ الدعاء واجب وإن لم يظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر.

ص: 128

وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع، من الظّنّ بكونه مؤدّى طريق معتبر - من دون الظّنّ بحجيّة طريق أصلاً - ومن الظّنّ بالواقع، كما لا يخفى.

لا يقال: إنّما لا يكون أقرب من الظّنّ بالواقع، إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤدّيات الطّرق ولو بنحو التقييد.

___________________________________________

الثّالث: الظّنّ بالواقع مع الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر، وهذه الثلاثة كلّها حجّة لدى الانسداد، لا الظّنّ بالطريق فقط.

{وذلك لعدم كونه} أي: الظّنّ بالطريق {أقرب إلى العلم وإصابة الواقع من} الظّنّين الآخرين، أي: من {الظّنّ بكونه مؤدّى طريق معتبر - من دون الظّنّ بحجيّة طريق أصلاً -} كأن لم يظنّ بكون الشّهرة والخبر والإجماع والسّيرة حجّة ومع ذلك ظنّ بكون وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مؤدّى طريق معتبر {ومن الظّنّ بالواقع} كأن ظنّ بوجوب الدعاء {كما لا يخفى} وحينئذٍ فلا وجه لاختصاص الحجيّة بالظنّ بالطريق وأنّه لا يوجب اتّباع القسمين الآخرين من الظّنّ، فإنّ الظّنّ حينئذٍ حاله حال العلم في زمان الانفتاح، فكما أنّه لا فرق بين العلم بالحكم، وبين العلم بالطريق المؤدّي إلى الحكم، وبين العلم بكون هذا الحكم مؤدّى طريق معتبر مجعول، كذلك الظّنّ في حال الانسداد حجّة بالنسبة إلى الثلاثة.

{لا يقال}: لندع انحلال العلم الإجمالي بالأحكام إلى العلم بكونها في مؤدّيات الطّرق، لكن نقول: ما ذكرتم من كون الظّنّ بالطريق ليس أقرب من الظّنّ بالواقع - فاللّازم كون الظّنّ بالواقع أيضاً حجّة كالظنّ بالطريق - ليس بتامّ، إذ الواقع غير مفيد بعد صرف التكليف منه إلى مؤدّيات الطّرق، فإنّه {إنّما لا يكون} الظّنّ بالطريق {أقرب من الظّنّ بالواقع إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه} أي: عن الواقع {إلى مؤدّيات الطّرق ولو بنحو التقييد} للواقع بكونه لا بدّ وأن يكون مؤدّى الطّريق، أمّا بعد تقييد الواقع بكونه مؤدّى الطّريق فلا ينفع الظّنّ بالواقع إذا لم

ص: 129

فإنّ الالتزام به بعيد؛ إذ الصّرف لو لم يكن تصويباً محالاً، فلا أقلّ من كونه مجمعاً على بطلانه؛

___________________________________________

يكن عن الطّريق، لفرض كون الواقع ساقطاً عن التكليف الفعلي.

{ف-} إنّه يقال: {إنّ الالتزام به} أي: بتقييد الأحكام بكونها مؤدّيات الطّرق، حتّى أنّه لو علم بالحكم من دون الطّريق لا يكون فعليّاً {بعيد} جدّاً {إذ الصّرف} للأحكام الواقعيّة إلى مؤدّيات الطّرق {لو لم يكن تصويباً محالاً} وجه كونه تصويباً أنّه يلزم منه عدم اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، إذ الجاهل لم يقم عنده الطّريق فلا يكون مكلّفاً.

ولا يخفى أنّ التصويب على قسمين: [1] تصويب محال [2] وتصويب غير محال.

أمّا الأوّل: فهو أن يكون الحكم بجميع مراتبه - الاقتضائي والإنشائي والفعلي - مقيّداً بالطريق وهذا محال؛ لأنّ الحكم يتوقّف على الطّريق والطّريق يتوقّف على الحكم، إذ حيث كان الحكم مقيّداً بالطريق - حتّى أنّه لا حكم حيث لا طريق - كان الحكم متوقّفاً على الطّريق، وحيث كان الطّريق طريقاً إلى الحكم وهو بعده رتبة كان الطّريق متوقّفاً على الحكم، وهو توقّف الشّيء على نفسه وذلك بديهي الاستحالة.

وأمّا الثّاني: فهو أن يكون الحكم ببعض مراتبه - كالفعليّة - متوقّفاً على الطّريق ومقيّداً به، كأن يكون الحكم الاقتضائي والإنشائي مقرّراً مجعولاً، وإنّما وصوله إلى مرتبة الفعليّة يتوقّف على قيام الطّريق، فيكون الحكم بحيث لو قام عليه الطّريق وصل إلى الفعليّة والتنجّز، وهذا القسم الثّاني تصويب ولكنّه ليس بمحال، وحينئذٍ نقول: ما ذكره صاحب الفصول من تقييد الأحكام بمؤدّياتالطّرق لو لم يكن تصويباً محالاً {فلا أقلّ من كونه مجمعاً على بطلانه} عندنا، لما

ص: 130

ضرورة أنّ القطع بالواقع يُجدي في الإجزاء بما هو واقع، لا بما هو مؤدّى طريق القطع، كما عرفت.

ومن هنا انقدح: أنّ التقييد أيضاً غير سديد، مع أنّ الالتزام بذلك غير مفيد؛

___________________________________________

تقرّر بالنصّ والإجماع من أنّ للّه في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل، وأنّ المقصّر من الجهّال معاقب على الحكم {ضرورة} هذا بيان لوجه البُعد أو لوجه الإجماع على بطلان هذا القسم من التصويب، ف- {أنّ القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع لا بما هو مؤدّى طريق القطع} وتوضيحه: أنّه لا شكّ في أنّ القطع بالواقع موجب لترتيب آثار الواقع مع أنّ القطع ليس طريقاً مجعولاً ولو كانت الأحكام مقيّدة بمؤدّيات الطّرق يلزم عدم صحّة ترتيب الأثر على الواقع المقطوع به، إذ لم يؤدّ الطّريق إلى ذلك الواقع والقطع ليس طريقاً مجعولاً، كما لا يخفى، ولا يلاحظ طريقيّته في ترتيب الآثار {كما عرفت} سابقاً في أوائل هذا الفصل.

{ومن هنا} أي: ممّا ذكرنا من عدم صرف الواقع إلى مؤدّيات الأمارات {انقدح أنّ التقييد} للواقع بمؤدّيات الأمارات {أيضاً} كالصرف {غير سديد}.

والفرق بين الصّرف والتقييد: أنّ الصّرف عبارة عن الانقلاب وأن لا واقع إلّا مؤدّيات الأمارات، فهو في الحقيقة اضمحلال للواقع، والتقييد عبارة عن تقيّد الواقع بالأمارة حتّى أنّه لا حكم للواقع إلّا إذا أدّت إليه الأمارة مع بقاء الواقع على ما هو واقع.ووجه كونه غير سديد، أنّ النّصّ والإجماع كما يمنعان عن الصّرف يمنعان عن التّقييد، فإنّهما قاما على أنّ للواقع حكماً أدّت إليه الأمارة أم لا، علمه الإنسان أم لا، وهذا كما ينافي الصّرف ينافي التّقييد، كما لا يخفى.

{مع أنّ الالتزام بذلك} أي: بالتقييد {غير مفيد} لما ادّعاه صاحب الفصول من

ص: 131

فإنّ الظّنّ بالواقع - في ما ابتلى به من التكاليف - لا يكاد ينفكّ عن الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر.

والظّنّ بالطريق - ما لم يظنّ بإصابة الواقع - غير مجدٍ بناءً على التقييد؛ لعدم استلزامه الظّنّ بالواقع المقيّد به بدونه،

___________________________________________

حجيّة الظّنّ بالطريق فقط {ف-} إنّا وإن التزمنا بالتقييد للأحكام بقيام الأمارة عليها نقول بحجيّة الظّنّ القائم على الواقع، ل- {أنّ الظّنّ بالواقع - في ما ابتلي به} المكلّف {من التكاليف - لا يكاد ينفكّ عن الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر} فكلّما ظنّ المكلّف بالواقع الّذي هو تكليفه ظنّ بأنّه مؤدّى الطّريق، إذ لو لم يكن مؤدّى الطّريق لم يكن تكليفه، والفرض أنّه ظنّ بكونه تكليفه.

ومن التقرير الّذي ذكرنا لبيان الملازمة بين الظّنّ بالواقع والظّنّ بالطريق تعرف أنّه لا مجال للإيراد على المصنّف بأنّه لا تلازم بين الظّنّين، لإمكان أن يظنّ الإنسان بأنّ المشي الخاصّ واقع ولا يظنّ بأنّه قام عليه الطّريق. وهذا هو وجه تقييد المصنّف بقوله: «في ما ابتلي به من التكاليف».

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) عكس على صاحب الفصول دعواه، فإنّه اعتبر الظّنّ بالطريق دون الظّنّ بالواقع، والمصنّف عكس فاعتبر الظّنّ بالواقع؛ لأنّهيلازم الظّنّ بالطريق ولم يعتبر الظّنّ بالطريق - جدلاً - .

{و} ذلك لأنّ {الظّنّ بالطريق ما لم يظنّ بإصابة الواقع غير مجدٍ بناءً على} ما ذكره الفصول من {التقييد} للأحكام الواقعيّة بالطريق، وذلك {لعدم استلزامه} أي: استلزام الظّنّ بالطريق {الظّنّ بالواقع المقيّد} ذلك الواقع {به} أي: بالطريق {بدونه} أي: بدون الظّنّ بالواقع.

والحاصل: حيث كان للمكلّف به جزءان - الواقع والطّريق - لزم الظّنّ بهما حتّى يصحّ العمل، فلو ظنّ بالطريق ولم يظنّ بالواقع لا يكفي لعدم الظنّ بالقيد

ص: 132

هذا.

مع عدم مساعدة نصب الطّريق على الصّرف، ولا على التقييد. غايته أنّ العلم الإجمالي بنصب طرق وافية؛ يوجب انحلالَ العلم بالتكاليف الواقعيّة إلى العلم بما هو مضامين الطّرق المنصوبة من التكاليف الفعليّة، و

___________________________________________

والمقيّد معاً اللّذين كانا معيار التكليف.

{هذا} تمام الكلام في عالم الثبوت بالنسبة إلى تقييد الأحكام الواقعيّة بالطرق والأمارات {مع} أنّ في عالم الإثبات لا دليل على هذا التقييد، ل- {عدم مساعدة نصب الطّريق} بأدلّتها كقوله: {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ}(1)، وقوله: «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويهعنا ثقاتنا»(2)،

وغيرهما من سائر الأدلّة {على الصّرف} للأحكام الواقعيّة بمؤدّيات الطّرق، حتّى أنّه لا حكم واقعيّ في غيرها {ولا على التقييد} للأحكام الواقعيّة بها، حتّى أنّ الحكم الواقعي لا يكون فعليّاً ما لم يصل بواسطة الطّرق، وقد تقدّم الفرق بين الصّرف والتقييد.

والحاصل: أنّ لسان جعل الطّريق مثل: (صدّق العادل) جعل المحرز للواقع لا المقيّد والصّارف له {غايته} أي: غاية الأمر {أنّ العلم الإجمالي بنصب طرق وافية} بالأحكام الواقعيّة {يوجب انحلال العلم} الإجمالي {بالتكاليف الواقعيّة} الّذي كان مقتضاه الاحتياط في جميع المشكوكات والمظنونات والموهومات {إلى العلم} الإجمالي {بما هو مضامين الطّرق المنصوبة} فلا يجب الاحتياط في ما عداها {من التكاليف الفعليّة} متعلّق بقوله: «مضامين» أمّا لو كان مضمون الطّريق تكليفاً اقتضائيّاً أو إنشائيّاً فليس ذلك طرفاً للعلم الإجمالي، كما لا يخفى.

{و} إن قلت: هَبْ أنّا لا نقول بالصّرف ولا بالتقييد لكن انحلال العلم الإجمالي

ص: 133


1- سورة الحجرات، الآية: 6.
2- وسائل الشيعة 27: 150.

الانحلال وإن كان يوجب عدم تنجّز ما لم يؤدّ إليه الطّريق من التكاليف الواقعيّة، إلّا أنّه إذا كان رعايةُ العلم بالنصب لازماً،

___________________________________________

العام بالأحكام - في الموهومات والمظنونات والمشكوكات - إلى العلم الإجمالي الخاص في مؤدّيات الطّرق والأمارات كاف في كون الظّنّ بالطريق حجّة، إذ الظّنّ بالواقع الّذي هو خارج عن الطّريق غير لازم العمل بمقتضى الانحلال.قلت: {الانحلال وإن كان يوجب عدم تنجّز ما لم يؤدّ إليه الطّريق من التكاليف الواقعيّة} لأنّه شكّ بدويّ والأصل البراءة عن العمل به {إلّا أنّه} أي: عدم تنجّز ما لم يؤدّ إليه الطّريق إنّما يكون {إذا كان رعاية العلم بالنصب لازماً} يعني أنّ هذا العلم الإجمالي الصّغير الّذي هو منحصر في مؤدّيات الأمارات والطّرق غير لازم المراعاة فلا يجب علينا العمل على طبق هذا العلم الإجمالي، وإذا لم يجب مراعاة هذا العلم الإجمالي الصّغير وعلمنا بأنّ لنا تكاليف وجب الرّجوع إلى الظّنّ بمطلق الحكم، فيكون الظّنّ بالحكم - سواء كان في دائرة العلم الإجمالي الصّغير أو دائرة العلم الإجمالي الكبير - لازم الاتّباع، ولا اختصاص لحجيّة الظّنّ بكونه متعلّقاً بالأمارة والطّريق.

أمّا أنّ رعاية هذا العلم الإجمالي الصّغير غير لازم فلأنّ الاحتياط في جميع الأمارات والطّرق يوجب العسر فلا يجب أو الاختلال فلا يجوز، والاحتياط في بعض الأمارات والطّرق غير لازم، لما تقدّم من أنّ العلم الإجمالي إذا لم يجب أو لم يجز العمل في بعض أطرافه لم يجب العمل في البعض الآخر.

وأمّا أنّه إذا لم يجب أو لم يجز مراعاة العلم الإجمالي الصّغير كان اللّازم اتّباع الظّنّ في دائرة العلم الإجمالي الكبير؛ فلأنّه حيث لم يلزم مراعاة العلم الإجمالي الصّغير وعلمنا أنّ الشّارع لم يرفع اليد عن تكاليفه لاهتمامه بها ولم يحصل لنا القطع بالتكاليف قام الظّنّ مقام القطع، وتنتج هذه المقدّمات حجيّة

ص: 134

والفرضُ عدمُ اللزوم، بل عدم الجواز.

وعليه يكون التكاليف الواقعيّة كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب، في كفاية الظّنّ بها حال انسداد باب العلم، كما لا يخفى.

ولا بدّ حينئذٍ من عناية أُخرى في لزومرعاية الواقعيّات

___________________________________________

الظّنّ مطلقاً بالواقع أو الطّريق، ولا يثبت كلام الفصول القائل بحجيّة الظّنّ بالطريق فقط.

فتحصّل: أنّ انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى دائرة الأمارات غير مفيد لدعوى الفصول، وإلى ما تقدّم شرحه أشار المصنّف بقوله: {والفرض عدم اللزوم} أي: عدم لزوم مراعاة العلم الإجمالي الصّغير للزومه العسر {بل عدم الجواز} للزومه الاختلال، ولا يتبعّض الاحتياط في أطراف هذا العلم؛ لأنّه إذا سقط بعض الأطراف لم ينجّز العلم بعض الأطراف الأُخر.

{وعليه} أي: على هذا الّذي ذكرنا من عدم لزوم مراعاة العلم الإجمالي في أطراف الأمارات والطّرق {يكون التكاليف الواقعيّة، كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب} للطرق والأمارات أصلاً حتّى يجب الاحتياط كلّاً أو بعضاً، ويكون حال أطراف العلم الإجمالي الصّغير كأطراف العلم الإجمالي الكبير {في كفاية الظّنّ بها حال انسداد باب العلم، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ولا بدّ حينئذٍ} أي: حين عدم وجوب الاحتياط أو عدم جوازه في أطراف العلم الإجمالي الصّغير {من عناية أُخرى في لزوم رعاية الواقعيّات} لأنّ العلم الإجمالي الكبير انحلّ إلى العلم الإجمالي الصّغير، والعلم الإجمالي الصّغير لم يجب أو لم يجز العمل به كلّاً ولا بعضاً.

وحيث علمنا بعدم جواز إهمال الواقعيّات لزم التماس دليل آخر لتنجيزالواقعيّات علينا، والدليل الآخر هو ما ذكرناه سابقاً - في المقدّمة الرّابعة - من أنّ

ص: 135

بنحو من الإطاعة، وعدمِ إهمالها رأساً، كما أشرنا إليها. ولا شبهة في أنّ الظّنّ بالواقع لو لم يكن أولى حينئذٍ

___________________________________________

المنجّز هو العلم باهتمام الشّارع بتكاليفه بحيث لا يرضى بإهمالها، فيجب رعاية الواقعيّات {بنحو من الإطاعة وعدم إهمالها رأساً، كما أشرنا إليها} سابقاً في المقدّمة الثّالثة(1).

وقد علّق المصنّف هنا على قوله: «من عناية أُخرى» بما يوضح الموجب لتنجيز الأحكام بعد سقوط العلمين الإجماليّين - كما أشرنا إليه سابقاً في المقدّمة الرّابعة - وهذا لفظ التعليق: «وهي إيجاب الاحتياط في الجملة المستكشف بنحو اللمّ، من عدم الإهمال في حال الانسداد قطعاً إجماعاً، بل ضرورة، وهو يقتضي التنزّل إلى الظّنّ بالواقع حقيقة أو تعبّداً، إذا كان استكشافه في التكاليف المعلومة إجمالاً، لما عرفت من وجوب التنزّل عن القطع - بكلّ ما يجب تحصيل القطع به في حال الانفتاح - إلى الظّنّ به في هذا الحال، وإلى الظّنّ بخصوص الواقعيّات الّتي تكون مؤدّيات الطّرق المعتبرة، أو بمطلق المؤدّيات لو كان استكشافه في خصوصها أو في مطلقها، فلا يكاد أن تصل النّوبة إلى الظّنّ بالطريق بما هو كذلك وإن كان يكفي، لكونه مستلزماً للظنّ بكون مؤدّاه مؤدّى طريق معتبر، كما يكفي بكونه كذلك، ولو لم يكن ظنّ باعتبار طريق أصلاً، كما لا يخفى.

وأنت خبير بأنّه لا وجه لاحتمال ذلك، وإنّما المتيقّن هو لزوم رعاية الواقعيّات في كلّ حال، بعد لزوم رعاية الطّرق المعلومة بالإجمال بين أطراف كثيرة،فافهم»(2)،

انتهى التعليق.

{ولا شبهة في أنّ الظّنّ بالواقع لو لم يكن أولى حينئذٍ} أي: حين لم يكن العلم

ص: 136


1- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 96-99.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 433.

- لكونه أقرب في التوسّل به إلى ما به الاهتمام، من فعل الواجب وترك الحرام - من الظّنّ بالطريق، فلا أقلّ من كونه مساوياً في ما يهمّ العقل، من تحصيل الأمن من العقوبة في كلّ حال، هذا.

مع ما عرفت من أنّه عادة يلازم الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق، وهو - بلا شبهة - يكفي ولو لم يكن هناك ظنّ بالطريق، فافهم فإنّه دقيق.

___________________________________________

الإجمالي الصّغير منجّزاً، بل كان اهتمام الشّارع بالأحكام سبباً للعمل بالظنّ في أطراف العلم الإجمالي الكبير {لكونه} أي: لكون الظّنّ بالواقع {أقرب في التوسّل به} أي: بهذا الظّنّ بالواقع {إلى ما به الاهتمام} أي: اهتمام الشّارع {من فعل الواجب وترك الحرام} بيان ل- «ما به الاهتمام» {من الظّنّ بالطريق} متعلّق بقوله: «أولى» أي: إنّ الظّنّ بالواقع لو لم يكن أولى من الظّنّ بالطريق {فلا أقلّ من كونه} أي: الظّنّ بالواقع {مساوياً} للظنّ بالطريق {في ما يهمّ العقل من تحصيل الأمن من العقوبة في كلّ حال}.

وبهذا كلّه تحقّق أن ليس نتيجة دليل الانسداد حجيّة الظّنّ بالطريق فقط، بل لا فرق بين الظّنّ بالواقع أو الظّنّ بالطريق.{هذا} تمام تقريب ذلك وردّ صاحب الفصول القائل بحجيّة الظّنّ بالطريق فقط {مع ما عرفت من أنّه} لو بنينا على حجيّة الظّنّ بالطريق فقط فلازم ذلك حجيّة الظّنّ بالواقع أيضاً، لما تقدّم من أنّ الظّنّ بالواقع {عادة يلازم الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق} لأنّ الواقع المكلّف به فعلاً لا بدّ وأن يكون مؤدّى طريق معتبر وإن لم نعلم ذاك الطّريق بعينه {وهو} أي: الظّن بكون هذا الواقع المظنون مؤدّى طريق معتبر {بلا شبهة يكفي} في مقام الامتثال حتّى على مبنى الفصول {ولو لم يكن هناك ظنّ بالطريق} الّذي يكون هذا الواقع المظنون مؤدّاه {فافهم فإنّه دقيق}. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل من الوجهين اللّذين استدلّ بهما صاحب الحاشية

ص: 137

ثانيهما: ما اختصّ به بعض المحقّقين، قال: «لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشّرعيّة، ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشّرعيّة، وأنّ الواجب علينا أوّلاً هو: تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به، وسقوط تكليفنا عنّا، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

___________________________________________

والفصول لكون نتيجة دليل الانسداد حجيّة الظّنّ بالطريق فقط.

{ثانيهما} أي: ثاني ذينك الوجهين {ما اختصّ به بعض المحقّقين} وهو صاحب الحاشية بما حاصله: أنّ الظّنّ بالطريق يوجب فراغ الذمّة - سواء كان الطّريق مطابقاً للواقع أم لا - أمّا الظّنّ بالواقع فلا يوجب فراغها.

{قال: «لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكامالشّرعيّة ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشّرعيّة} وإن انسدّ علينا باب العلم والعلمي {و} لا شكّ {أنّ الواجب علينا أوّلاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف} اسم فاعل، أي: إنّ الواجب المهمّ لدى العقل إحراز حكم المولى بفراغ الذمّة بعد اشتغالها بالتكليف الواقعي الّذي أمر به المولى {بأن يقطع} بالمجهول {معه} أي: مع الإتيان بالمكلّف به، ومرجع الضّمير مفهوم من الكلام، والظّاهر أنّه لا مرجع له في اللفظ - {بحكمه} أي: حكم المولى {بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به و} ب- {سقوط تكليفنا عنّا} وهذا القطع بحكم الشّارع بالفراغ إنّما يكون بالعمل على طبق الطّريق المنصوب من قبل الشّارع، وذلك لأنّ نصب الشّارع للطريق ملزوم لحكمه بفراغ المكلّف العامل على طبقه عن الواقع الّذي نصب لأجله الطّريق {سواء حصل العلم معه} أي: مع العلم بتفريغ الذمّة {بأداء الواقع أو لا، حسب ما مرّ} في الوجه الأوّل {تفصيل القول فيه} وإن نصب الطّرق معناه تقيّد الأحكام الواقعيّة بها، فيكون المهمّ لدى العقل الإتيان على طبق الطّريق فحسب.

ص: 138

فحينئذٍ نقول: إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمّتنا في حكم الشّارع، فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسدّ علينا سبيل العلم، كان الواجب علينا تحصيل الظّنّ بالبراءة في حكمه؛ إذ هو الأقرب إلى العلم به، فيتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل - بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف - دون ما يحصل معه الظّنّ بأداء الواقع، كما يدّعيه القائل بأصالة حجيّةالظّنّ»(1). انتهى موضع الحاجة من كلامه - زيد في علوّ مقامه - .

وفيه: أوّلاً: أنّ الحاكم - على الاستقلال - في باب تفريغ الذمّة

___________________________________________

{فحينئذٍ} إذا تمّت المقدّمات الثلاث - وهي: القطع بثبوت الأحكام، وكون المهمّ إحراز فراغ الذمّة، وأن جعل الطّريق ملزوم لفراغ الذّمّة، بخلاف جعل الواقع، فإنّه ليس ملزوماً لفراغ الذمّة؛ لأنّ الحكم بالفراغ في صورة إتيان الواقع معلول للقطع بالواقع، لا لنفس الواقع - {نقول: إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمّتنا في} باب {حكم الشّارع، فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة} عن ذلك الاشتغال اليقيني {به} أي: بذلك العلم {وإن انسدّ علينا سبيل العلم} بالبراءة {كان الواجب علينا تحصيل الظّنّ بالبراءة في حكمه} أي: حكم الشّارع {إذ هو} أي: الظّنّ {الأقرب إلى العلم به} أي: بالفراغ {فيتعيّن الأخذ به} أي: بالظنّ بالطريق {عند التنزّل من العلم} بسبب الانسداد {في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف} الجار متعلّق بقوله: «إذ هو الأقرب» {دون ما يحصل معه الظّنّ بأداء الواقع} الظّرف متعلّق بقوله: «الأخذ به» {كما يدّعيه القائل بأصالة حجيّة الظّنّ»} حيث يرى أنّ الظّنّ بالواقع أقرب {انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه}.{و} أنت خبير بما فيه، إذ {فيه أوّلاً: أنّ الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمّة}

ص: 139


1- هداية المسترشدين 3: 351، مع اختلاف يسير.

- بالإطاعة والامتثال - إنّما هو العقل، وليس للشارع في هذا الباب حكم مولويّ يتبعه حكم العقل، ولو حكم في هذا الباب كان يتبع حكمه إرشاداً إليه، وقد عرفت استقلاله بكون الواقع - بما هو - مفرغ، وأنّ القطع به حقيقةً أو تعبّداً مؤمّن جزماً، وأنّ المؤمّن في حال الانسداد هو الظّنّ بما كان القطع به مؤمّناً حال الانفتاح، فيكون الظّنّ بالواقع أيضاً مؤمّناً حال الانسداد.

___________________________________________

من الحكم الشّرعي {بالإطاعة والامتثال} للمولى {إنّما هو العقل وليس للشارع في هذا الباب} أي: باب تفريغ الذمّة {حكم مولويّ} حتّى {يتبعه حكم العقل} ويكون اللّازم حينئذٍ إفراغ الذّمّة شرعاً، حتّى يقال بأنّ الإفراغ الشّرعي إنّما يكون بمتابعة الطّريق {ولو حكم} الشّارع {في هذا الباب كان يتبع حكمه} أي: يتبع حكم العقل {إرشاداً إليه} أي: إلى حكم العقل، كما لو حكم في باب الإطاعة والمعصية.

{و} إذ تحقّق أنّ الحاكم هو العقل فالعقل لا يرى تفاوتاً بين الظّنّ بالطريق والظّنّ بالحكم، لما {قد عرفت استقلاله} أي: العقل {بكون الواقع بما هو} لا بما هو مؤدّى الطّريق {مفرغ} للذمّة {وأنّ القطع به} أي: بالواقع {حقيقة أو تعبّداً} بنصب أمارة مؤدّية إليه {مؤمّن جزماً} تبعة العقوبة {وأنّ المؤمّن في حال الانسداد هو الظّنّ بما كانالقطع به مؤمّناً حال الانفتاح} وحيث كان القطع بالواقع مؤمّناً حال الانفتاح كالقطع بالطّريق {فيكون الظّنّ بالواقع أيضاً} كالظنّ بالطريق {مؤمّناً حال الانسداد}.

وهذا الجواب في الحقيقة منع للمقدّمة الثّانية من المقدّمات الثلاثة لدليل صاحب الحاشية القائل بأنّ المهمّ عند العقل إحراز حكم المولى بفراغ الذّمّة، فإنّه ليس المهمّ إحراز حكم المولى؛ لأنّه ليس للمولى حكم في باب الفراغ - كما ليس له حكم في باب الإطاعة - ولو كان له حكم فهو إرشاديّ إذاً، فالمهمّ إحراز حكم العقل بالفراغ، وهو لا يفرق عنده بين الظّنّ بالطريق أو الظّنّ بالواقع.

ص: 140

وثانياً: سلّمنا ذلك، لكن حكمه بتفريغ الذمّة - في ما إذا أتى المكلّف بمؤدّى الطّريق المنصوب - ليس إلّا بدعوى أنّ النّصب يستلزمه، مع أنّ دعوى: أنّ التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ في ما إذا أتى به أولى، كما لا يخفى، فيكون الظّنّ به ظنّاً بالحكم بالتفريغ أيضاً.

إن قلت: كيف يستلزم الظّنّ بالواقع؟ مع أنّه ربّما يقطع بعدم حكمه به معه،

___________________________________________

{و} نجيب {ثانياً} عن دليل صاحب الحاشية بأنّا وإن {سلّمنا ذلك} الّذي ذكرتم في المقدّمة الثّانية - من كون المهمّ إحراز حكم المولى بفراغ الذمّة - {لكن} لا نسلّم المقدّمة الثّالثة القائلة بأن جعل الطّريق ملزوم لجعل فراغ الذمّة، وليس كذلك جعل الواقع، فإنّ جعله لا يستلزم فراغ الذمّة لو أتى به، إذ {حكمه} أي: الشّارع {بتفريغ الذمّة في ما إذا أتى المكلّف بمؤدّى الطّريق المنصوب ليس إلّا بدعوى أنّ النّصب} للطريق {يستلزمه} أي:يستلزم الحكم بتفريغ الذمّة - وإلّا لم يكن للنّصب معنىً - كما هو واضح.

{مع أنّ} ذلك لا يختصّ بنصب الطّريق، بل جعل الواقع أيضاً يستلزم الحكم بالتفريغ في ما إذا أتى المكلّف به، فإنّ {دعوى أنّ التّكليف بالواقع يستلزم حكمه} أي: حكم الشّارع {بالتفريغ في ما إذا أتى} المكلّف {به أولى} إذ قد أتى بما هو الغرض الأوّل للمولى وبما يكون في الإتيان به حصول الغرض الأوّل، بخلاف الإتيان بمؤدّى الطّريق الّذي جعل ثانياً وبالعرض لأجل التحفّظ على الواقع، مع احتماله أن لا يكون مطابقاً، فيكون صرف منجّز ومعذّر بدون الحصول على الغرض الأوّل {كما لا يخفى} وإذ كان القطع بالواقع كالقطع بالطريق في الإفراغ {فيكون الظّنّ به} أي: بالواقع كالظنّ بالطريق {ظنّاً بالحكم بالتفريغ أيضاً} فلا فرق بينهما.

{إن قلت: كيف يستلزم الظّنّ بالواقع} الظّنّ بحكم الشّارع بفراغ الذمّة؟ {مع أنّه ربّما يقطع بعدم حكمه} أي: الشّارع {به} أي: بفراغ الذمّة {معه} أي: مع الظّنّ

ص: 141

كما إذا كان من القياس، وهذا بخلاف الظّنّ بالطريق، فإنّه يستلزمه ولو كان من القياس.

قلت: الظّنّ بالواقع أيضاً يستلزم الظّنّ بحكمه بالتفريغ، و

___________________________________________

بالواقع {كما إذا كان} الظّنّ {من القياس} فإنّه لو قام القياس على شيء ظنّ الشّخص بأنّه الواقع - كما في قصّة قطع أصابع المرأة - مع أنّه يقطع بعدم حكمه بالفراغ {وهذا بخلاف الظّنّ بالطريق، فإنّه} أي: الظّنّ بالطريق {يستلزمه} أي: يستلزم حكمه بالفراغ {ولو كان من القياس} أي كان هذا الظّنّ بالطريق من القياس،بأن قام القياس على أنّ الشّيء الفلاني طريق، فإنّ هذا الظّنّ القياسي القائم على حجيّة هذا الطّريق موجب للظنّ بحكم الشّارع بالفراغ.

وقد علّق المصنّف على قوله: «كيف يستلزم» بقوله: «وذلك لضرورة الملازمة بين الإتيان بما كلّف به واقعاً وحكمه بالفراغ، ويشهد به عدم جواز الحكم بعدمه، لو سُئل عن أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه، هل هو مفرغ؟ ولزوم حكمه بأنّه مفرغ، وإلّا لزم عدم إجزاء الأمر الواقعي، وهو واضح البطلان»(1)،

انتهى.

{قلت}: ليس الظّنّ بحكم الشّارع بالتفريغ خاصّاً بالظنّ بالطريق فقط، بل {الظّنّ بالواقع أيضاً يستلزم الظّنّ بحكمه بالتفريغ} لأنّ الإتيان الواقع موجب للتفريغ إن قطعاً فقطعاً، وإن ظنّاً فظنّاً، وفي بعض النّسخ: «الظّنّ بهما» أي: بالواقع والطّريق يستلزم الحكم بالتفريغ، والمفاد واحد.

{و} إن قلت: كيف يمكن الظّنّ بفراغ الذمّة من الظّنّ القياسي والحال أنّ الشّارع نهى عنه، وهل ذاك إلّا تهافت واضح؟

قلت: كلّا فإنّ الظّنّ بالفراغ لا ينافي عدم الحجيّة، بل العقاب أيضاً، فلو ظنّ الإنسان بالحكم من القياس ظنّ بالفراغ لو أتى بذلك الحكم المظنون، وهذا

ص: 142


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 437.

لا ينافي القطعَ بعدم حجيّته لدى الشّارع، وعدَمَ كون المكلّف معذوراً - إذا عمل به - في ما أخطأ، بل كان مستحقّاً للعقاب - ولو في ما أصاب - لو بنى على حجيّته والاقتصار عليه؛ لتجرّيه، فافهم.

وثالثاً: سلّمنا أنّ الظّنّ بالواقع لايستلزم الظّنّ به، لكن قضيّته ليس إلّا التّنزّلَ إلى الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر، لا خصوص الظّنّ بالطريق،

___________________________________________

الظّنّ لا ينافي عدم الحجيّة الشّرعيّة، بل لا ينافي أن يعاقب على اتّباعه للقياس، وذلك مثل ما لو طهّر يده النّجسة بالماء المغصوب فإنّ العقاب لا ينافي الحكم بطهارة اليد.

والحاصل: أنّ الظّنّ بالفراغ {لا ينافي القطع بعدم حجيّته} أي: حجيّة القياس {لدى الشّارع، و} لا ينافي {عدم كون المكلّف معذوراً إذا عمل به في ما أخطأ} لأنّه خطأ عن تقصير {بل كان} الآتي بما يقتضيه القياس {مستحقّاً للعقاب ولو في ما أصاب} الواقع {لو بنى على حجيّته} أي: حجيّة الظّنّ القياسي {و} بنى على {الاقتصار عليه} في تحصيل التكاليف الواقعيّة {لتجرّيه} بمخالفة نهي المولى وإن لم يخالف الواقع {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ المستفاد من نهي الشّارع عن القياس بقول مطلق عدم ترتيبه أيّ أثر عليه، وحكمه بفراغ الذمّة في ما لو اتّبع الظّنّ القياسي نقض لتلك الكلّيّة، فلا يوجب الظّنّ القياسي ظنّاً بفراغ الذمّة أصلاً.

{وثالثاً} نجيب عن دليل صاحب الحاشية بأنّا وإن {سلّمنا} المقدّمات الثلاث - وهو ثبوت الأحكام، وكون المهمّ حكم المولى بفراغ الذمّة، وكون القطع أو الظّنّ بالطريق ملازماً للقطع أو الظّنّ بالحكم بفراغ الذمّة بخلاف القطع أو الظّنّ بالواقع - ف- {إنّ الظّنّ بالواقع لا يستلزم الظّنّ به} أي: بحكم المولى بفراغ الذمّة {لكن قضيّته} أي: مقتضى ذلك ليس الاقتصار على الظّنّ بالطريق، بل {ليس إلّاالتنزّل إلى الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر لا خصوص الظّنّ بالطريق} لأنّ

ص: 143

وقد عرفت: أنّ الظّنّ بالواقع لا يكاد ينفكّ عن الظّنّ بأنّه مؤدّى الطّريق غالباً.

فصل: لا يخفى عدم مساعدة مقدّمات الانسداد على الدلالة على كون الظّنّ طريقاً منصوباً شرعاً؛ ضرورة أنّه معها لا يجب عقلاً على الشّارع أن ينصب طريقاً؛ لجواز اجتزائه بما استقلّ به العقل في هذا الحال.

___________________________________________

الظّنّ بمؤدّى طريق معتبر يلازم حكم الشّارع بفراغ الذمّة ولو لم نعرف ذلك الطّريق بعينه، فلو علمنا من الإجماع أو الشّهرة أنّ وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مؤدّى طريق معتبر ظننّنا بفراغ الذمّة لدى الإتيان بالدعاء.

{وقد عرفت} سابقاً {أنّ الظّنّ بالواقع لا يكاد ينفكّ عن الظّنّ بأنّه مؤدّى الطّريق غالباً} وبهذا كلّه تحقّق أنّه لا فرق في نتيجة دليل الانسداد بين الظّنّ بالواقع وبين الظّنّ بالطريق، وأنّ القول بالاختصاص بأحدهما في غير محلّه.

[فصل] في الكشف والحكومة

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، الكشف والحكومة

{فصل} هل مقدّمات الانسداد تنتج كون الشّارع جعل الظّنّ حجّة - في حال الانسداد - وهذا يسمّى بالكشف؛ لأنّ العقل يكشف عن ذلك، أم المقدّمات تنتج أنّ العقل يحكم بحجيّة الظّنّ - في هذا الحال - وهذا يسمّى بالحكومة؛ لأنّ العقل يحكم بالحجيّة؟ خلاف، والمصنّف(رحمة الله) ذهب إلى الحكومة فقال: {لا يخفى عدم مساعدة مقدّمات الانسداد على الدلالة على كون الظّنّ طريقاً منصوباً شرعاً} في هذا الحال {ضرورة أنّه معها} أي:مع هذه المقدّمات الدالّة على حجيّة الظّنّ {لا يجب عقلاً على الشّارع أن ينصب} للأحكام الواقعيّة {طريقاً لجواز اجتزائه} أي: الشّارع {بما استقلّ به العقل} من حجيّة الظّنّ {في هذا الحال} أي: حال الانسداد.

نعم، لو لم يكن العقل يستقلّ بحجيّة الظّنّ في هذا الحال ولم يكن هناك

ص: 144

ولا مجال لاستكشاف نصب الشّارع من حكم العقل، لقاعدة الملازمة؛ ضرورة أنّها إنّما تكون في موردٍ قابلٍ للحكم الشّرعي، والموردُ هاهنا غير قابل له؛

___________________________________________

طريق آخر إلى الأحكام كان الواجب على الشّارع نصب الطّرق لئلّا يلزم نقض الغرض، أمّا وقد دلّ العقل فلا وجوب على الشّارع.

{و} إن قلت: إنّ قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشّرع كما ذكروا: «كلّما حكم به العقل حكم به الشّرع» تدلّ على أنّ الشّارع جعل الظّنّ حجّة في هذا الحال، إذ المقدّمات أنتجت حكم العقل وحكم العقل يلازم حكم الشّرع لقاعدة الملازمة فلا بدّ وأن نقول بالكشف، كما ذهب إليه جماعة.

قلت: {لا مجال لاستكشاف نصب الشّارع} الظّنّ طريقاً {من حكم العقل} بحجيّة الظّنّ في حال الانسداد {لقاعدة الملازمة} التعليل وجه للاستكشاف، أي: إنّ الكشف بسبب الملازمة بين حكم العقل وحكم الشّرع، إنّما قلنا بعدم الاستكشاف ل- {ضرورة أنّها} قاعدة الملازمة {إنّما تكون في مورد قابل للحكم الشّرعي، والمورد هاهنا} في مقام الإطاعة الظّنيّة حال الانسداد {غير قابل له} أي: للحكم الشّرعي بحجيّةالظّنّ مولويّاً، وذلك لأنّ حكم العقل بكفاية الإطاعة الظّنيّة ينحلّ إلى أُمور ثلاثة:

الأوّل: عدم وجوب الإطاعة العلميّة، يعني قبح مؤاخذة الشّارع على ترك الإطاعة العلميّة.

الثّاني: عدم جواز الاقتصار على الإطاعة الشّكّيّة والوهميّة.

الثّالث: حسن الإطاعة الظّنيّة.

ومن المعلوم أنّ مؤاخذة الشّارع إنّما هي من أفعال الشّارع الّتي لا تكون موضوعاً للأحكام، كما أنّ عدم جواز الاقتصار على غير الظّنّ وحسن الإطاعة الظّنيّة - وإن كانا من فعل العبد - إلّا أنّ حكم الشّارع في موردهما يكون بدون غرض، إذ

ص: 145

فإنّ الإطاعة الظّنّية - الّتي يستقلّ العقل بكفايتها في حال الانسداد - إنّما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشّارع بأزيد منها، وعدمِ جواز اقتصار المكلّف بدونها. ومؤاخذة الشّارع غير قابلة لحكمه، وهو واضح.

واقتصار المكلّف بما دونها، لمّا كان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً،

___________________________________________

الغرض من الأوامر والنّواهي ليس إلّا إحداث الداعي في نفس المكلّف إلى الفعل أو الترك - ومن المعلوم أنّ الداعي حاصل في المقام - ولو لم يتعلّق بهما حكم شرعي، فإنّ الإطاعة الظّنيّة لازمة عقلاً، والإطاعة الوهميّة والشّكيّة موجبة للعقاب عقلاً لو لم تصادف الواقع، وإذا كان حكم الشّرع بدون غرض لم يصدر منه.

وبهذا كلّه تبيّن أنّ المورد غير قابل للحكم الشّرعي، وإذا لم يكن قابلاً للحكم الشّرعي لم تصحّ قاعدة الملازمة في المقام، حتّى يكون حكم العقل بالإطاعة الظّنيّة في حال الانسداد كاشفاً عن حكم الشّرع بذلك {فإنّ الإطاعة الطّنيّة الّتي يستقلّ العقل بكفايتها في حال الانسداد إنّما هي بمعنى}حسن الإطاعة الظّنيّة، و{عدم جواز مؤاخذة الشّارع بأزيد منها} بأن يؤاخذ العبد بأنّه لِمَ لم يمتثل التكاليف بالإطاعة القطعيّة {وعدم جواز اقتصار المكلّف بدونها} بأن يأتي بالإطاعة الشّكيّة والوهميّة.

{و} من المعلوم أنّ شيئاً من هذه الأُمور الثلاثة غير قابلة لحكم شرعي: أمّا حسن الإطاعة الظّنيّة؛ فلأنّ العقل يقول بها، فلا يكون للحكم الشّرعي مجال لعدم إحداثه الداعي في المكلّف - الّذي هو مناط صحّة الأمر والنّهي - و{مؤاخذة الشّارع غير قابلة لحكمه} لأنّ المؤاخذة ليست فعل العبد حتّى يكون مورداً للحكم الشّرعي {وهو واضح} لا يخفى {واقتصار المكلّف بما دونها} أي: بما دون الإطاعة الظّنيّة - بالإطاعة الشّكيّة والوهميّة - {لمّا كان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً} سواء أخطأ أم أصاب، أمّا في صورة الخطأ فلأنّه فوّت الواقع على نفسه.

ص: 146

أو في ما أصاب الظّنّ - كما أنّها بنفسها موجبة للثواب، أخطأ أم أصاب، من دون حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها - كان حكم الشّارع فيه مولويّاً بلا ملاك يوجبه، كما لا يخفى، ولا بأس به إرشاديّاً، كما هو شأنه في حكمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية.

___________________________________________

وأمّا في صورة الإصابة؛ فلأنّه تجرّأ على المولى {أو} موجباً للعقاب {في ما أصاب الظّنّ} فقط عند القائل بعدم حرمة التجرّي {كما أنّها} أي: الإطاعة الظّنيّة {بنفسها موجبة للثواب أخطأ أم أصاب} أمّا في صورة الإصابة، فواضح، وأمّا في صورة الخطأ،فللانقياد، ولا شكّ أنّه موجب للثواب وإن قلنا أنّ التجرّي لا يوجب العقاب {من دون حاجة إلى أمر بها} أي: بالإطاعة الظّنيّة {أو نهي عن مخالفتها} واتّباع غيرها {كان} جواب قوله: «لمّا» {حكم الشّارع فيه} أي: في باب اقتصار المكلّف بأقلّ من الإطاعة الظّنيّة {مولويّاً} مقابل الحكم الإرشادي {بلا ملاك يوجبه} إذ الملاك للأحكام الشّرعيّة - كما تقدّم - كونها باعثة للمكلّف نحو الفعل أو الترك، وبعد حكم العقل القطعي لا يكون لحكم الشّارع باعثيّة {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{و} لكن {لا بأس به} أي: بحكم الشّارع بلزوم الإطاعة الظّنيّة {إرشاديّاً} إلى حكم العقل {كما هو شأنه} أي: الشّارع {في حكمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية} فإنّ قوله: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ}(1) إرشاديّ وكذا قوله: {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}(2).

وقد وجّهوا عدم كون الأمر بالإطاعة مولويّاً بأُمور:

[1] كقولهم: إنّ الأمر لا بدّ وأن يكون لغرض - كما هو مذهب العدليّة - فإن كان الغرض من الأمر بالإطاعة نفس الغرض الأوّل الّذي يتحقّق بالأمر الأوّل - كالأمر

ص: 147


1- سورة آل عمران، الآية: 32-132؛ سورة النساء، الآية: 59؛ سورة المائدة، الآية: 92؛ سورة الأنفال، الآية: 20.
2- سورة النور، الآية: 63.

وصحّة نصب الطّريق وجعله - في كلّ حال - بملاك يوجب نصبه، وحكمةٍ داعية إليه،

___________________________________________

بالصلاة مثلاً - فهو لغو، إذ لا تعدّد في الغرض، والغرض الواحد يكفيه أمر واحد.

وإن كان الغرض بالإطاعة غير الغرض الأوّل فهو غير معقول، إذ الأمر المولوي الحقيقي لا يدعو إلّا إلى ما في المتعلّق من الغرض، فلا يمكن أن يكون الأمر بإطاعة أمر الصّلاة لغرض آخر غير ما يدعو إليه الأمر بالصلاة.

[2] وقولهم: إنّ أمر المولى إن كان محرّكاً لم يبق مجال لأمرٍ ثانٍ، وإن لم يكن محرّكاً لم ينفع الأمر الأوّل.

[3] وقولهم: إنّ الأمر بالإطاعة مولويّاً موجب للتسلسل، إذ الأمر الثّاني لا يخلو إمّا أن يكون له إطاعة أم لا؟ فإن لم تكن له إطاعة كان لغواً وإن كان له إطاعة احتاج إلى أمر ثالث، ولو كان الأمر الثّالث ناشئاً عن نفس الأمر بالإطاعة، فإنّه يشمل نفسه على القضيّة الطّبيعيّة، كما يشمل قوله: (كلّ خبري صادق) نفس هذا الخبر، والأمر الثّالث يحتاج إلى أمر رابع وهكذا وهو تسلسل. إلى غير ذلك من المحاذير المذكورة في محلّها.

ومنه تحقّق أنّ أوامر الإطاعة كلّها إرشاديّة وربّما يشهد لذلك العرف، فإنّه لو أمر الوالد ولده بأوامر ثمّ قال له: (أطعني) لم يكن يرى العرف أنّه أمر جديد ولمصلحة جديدة وإنّما يكون إرشاداً إلى ما يدلّ عليه العقل. وفي الكلام نقض وإبرام طويلان نكلهما إلى محلّهما.

{و} إن قلت: إنّه إذا كان العقل هو الحاكم في باب الإطاعة والمعصية - حتّى أنّه لا يصحّ للشرع نصب الطّريق - فكيف يمكن نصبه للطريق في حال الانفتاح، وأيّ فرق بين حال الانسداد وحال الانفتاح؟

قلت: {صحّة نصب الطّريق وجعله} أي: صحّة جعل الطّريق {في كلّ حال} من حالي الانفتاح والانسداد {بملاك يوجب نصبه، و} ب- {حكمة داعية إليه} أي:

ص: 148

لا تنافي استقلال العقل بلزوم الإطاعةبنحو حالَ الانسداد، كما يحكم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح، من دون استكشاف حكم الشّارع بلزومها مولويّاً؛ لما عرفت.

فانقدح بذلك: عدم صحّة تقرير المقدّمات إلّا على نحو الحكومة، دون الكشف.

___________________________________________

إلى نصبه {لا تنافي استقلال العقل بلزوم الإطاعة} وهذا خبر لقوله: «صحّة» أي: إنّ صحّة نصب الطّريق غير منافية لكون العقل مستقلّاً في باب الإطاعة، إذ ربّما ينصب الشّارع طريقاً للتسهيل بما ليس للعقل نصبه، كما لو نصب الشّارع الشّهرة طريقاً فإنّ العقل لا يرى للشهرة كشفاً عن حكم المولى.

والحاصل: أنّ العقل لا يمنع نصب الشّارع للطريق وإنّما يمنع عن كون الطّريق الّذي عيّنه العقل مجعولاً للشارع مولويّاً، فالعقل يستقلّ بلزوم الإطاعة {بنحو} الظّنّ {حال الانسداد كما يحكم بلزومها} أي: لزوم الإطاعة {بنحو آخر} كالقطع {حال الانفتاح من دون استكشاف حكم الشّارع بلزومها} أي: الإطاعة {مولويّاً} وإن كان لا بأس بإلزام الشّارع للإطاعة إرشاديّاً {لما عرفت}.

ومن الغريب أنّ الشّرح الفارسي للخوئيني أسقط هذه الجملة من شرحه(1)،

والمشكيني فسّر الإشكال والجواب بنحو(2)،

والسّيّد الحكيم فسّرهما بنحو آخر(3)، وإن كان الأخير أقرب إلى ظاهر العبارة، فراجع.{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من أوّل الفصل إلى هنا {عدم صحّة تقرير المقدّمات} للانسداد {إلّا على نحو الحكومة} أي: حكومة العقل بكون الإطاعة الظّنيّة هي المتعيّنة لدى الانسداد {دون الكشف} عن حكم الشّارع بكون الإطاعة الانسداديّة هي الظّنيّة.

ص: 149


1- ذكر الخوئيني في شرحه ما هو في متن الكفاية، راجع شرح كفاية الأصول 3: 309.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 450.
3- حقائق الأصول 2: 189.

وعليها فلا إهمالَ في النّتيجة أصلاً، سبباً ومورداً ومرتبةً؛ لعدم تطرّق الإهمال والإجمال في حكم العقل، كما لا يخفى.

أمّا بحسب الأسباب: فلا تفاوت بنظره فيها.

___________________________________________

{و} إذ قد فرغنا عن هذا المبحث فلنشرع في مبحث آخر، وهو هل أنّ نتيجة مقدّمات الانسداد مهملة من حيث الأسباب والموارد والمراتب فلا تدلّ إلّا على حجيّة الظّنّ في الجملة أو مطلقة من تلك الحيثيّات، فالظنّ حجّة من أيّ سبب حصل وفي أيّ مورد كان وبأيّة مرتبة كان قويّة أم ضعيفة، فلا فرق بين أن يكون السّبب: الخبر أو طيران الغراب، والمورد: الأحكام المهمّة كالفروج والدماء أم غيرها، والمرتبة: الظّنّ القوي المتآخم للعلم أم الظّنّ الضّعيف القريب من الشّكّ.

وقد فصّل المصنّف في المقام بأنّ المسألة هنا مبتنية على مسألة الكشف والحكومة، فعلى الكشف تكون النّتيجة مهملة وعلى الحكومة تكون النّتيجة مطلقة، ولذا قال: و{عليها} أي: على الحكومة {فلا إهمال في النّتيجة أصلاً سبباً ومورداً ومرتبة} أي: من هذه الحيثيّات الثلاث {لعدم تطرّق الإهمال والإجمال في حكم العقل} إذ العقل إن أحرز مناط حكمه حكم وإن لم يحرز مناط حكمه لم يحكم، فلا ترديد للعقل حتّى يعلم الشّيء في الجملة ولا يعلمخصوصيّاته، فيتردّد فيها بين الأقلّ والأكثر أو بين المتباينين {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{أمّا بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره} أي: بنظر العقل {فيها} فلا يتفاوت الأمر بين كون سبب الظّنّ الخبر أم الشّهرة أم الإجماع أم السّيرة، وذلك لأنّ الملاك في نظر العقل هو الأقربيّة إلى الواقع، ولا شكّ أنّ الظّنّ الحاصل من الأسباب المذكورة أقرب إلى الواقع من الوهم ومن العمل على طبق أحد طرفي الشّكّ اعتباطاً.

لكن لا يخفى أنّ السّبب الأقوى كالخبر الموثّق لو كان بقدر الكفاية لم يكن

ص: 150

وأمّا بحسب الموارد: فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظّنيّة، إلّا في ما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام، واستقلالِهِ بوجوب الاحتياط في ما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج والدماء، بل وسائر حقوق النّاس، ممّا لا يلزم من الاحتياط فيها العسر.

وأمّا بحسب المرتبة: فكذلك لا يستقلّ إلّا بكفاية مرتبة الاطمئنان من الظّنّ، إلّا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر.

وأمّا على تقرير الكشف:

___________________________________________

وجه للتعدّي عنه.

{وأمّا بحسب الموارد} الّتي يتعلّق بها الظّنّ كمورد الطّهارة والصّلاة والزكاة والديات وغيرها {فيمكن أن يقال ب-} أنّ النّتيجة جزئيّة وليست بمطلقة، وذلك ل- {عدم استقلاله} أي: العقل {بكفاية الإطاعة الظّنيّة إلّا في ما ليسللشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام} الجار في قوله: «بفعل» متعلّق

ب- «اهتمام» {واستقلالِهِ بوجوب الاحتياط} وعدم العمل بالظنّ {في ما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج والدماء} ممّا علم اهتمام الشّارع الأكيد فيه {بل وسائر حقوق النّاس} المهمّة {ممّا لا يلزم من الاحتياط فيها العسر} والحرج.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقدّمات الانسداد تفيد كون الظّنّ طريقاً في حاله كالعلم في حال الانفتاح، فكما لا فرق بين موارد العلم كذلك بين موارد الظّنّ.

{وأمّا بحسب المرتبة فكذلك لا يستقلّ} العقل {إلّا بكفاية مرتبة الاطمئنان من الظّنّ} والاحتياط في سائر المراتب {إلّا على تقدير عدم كفايتها} أي: مرتبة الاطمئنان {في دفع محذور العسر} والحرج فيتنزّل إلى مرتبة الأقوى فالأقوى.

هذا كلّه بيان لحال النّتيجة إطلاقاً وتقييداً على حسب الحكومة {وأمّا على تقرير} النّتيجة على حسب {الكشف} وأنّ مقدّمات الانسداد تنتج كشف العقل

ص: 151

فلو قيل بكون النّتيجة هو نصب الطّريق الواصل بنفسه، فلا إهمال فيها أيضاً

___________________________________________

عن أنّ الشّارع جعل لأحكامه طريقاً، فالكلام في كون النّتيجة معيّنة أو مهملة وعلى تقدير عدم الإهمال كونها مطلقة أو مقيّدة يحتاج إلى بيان مقدّمة، وهي: أنّ محتملات الكشف ثلاثة:

الأوّل: أن تكون المقدّمات منتجة لنصب الطّريق الواصل بنفسه، بمعنى كونالمكشوف بالمقدّمات طريقاً خاصّاً معيّناً كالظنّ في المثال، فلا حالة انتظاريّة بعد المقدّمات.

الثّاني: أن تكون المقدّمات منتجة لنصب الطّريق - سواء كان واصلاً بنفسه أم واصلاً بطريقه - فنعلم أنّ الشّارع نصب طريقاً معيّناً، ولو كان علمنا بذلك الطّريق ليس بالمقدّمات فقط، بل بواسطة خارجيّة فنعلم طريقيّة الطّريق بقيام طريق عليه، كما لو علمنا أنّ الشّارع جعل أحد أشياء ثلاثة من الخبر والشّهرة والسّيرة - مثلاً - حجّة ثمّ لم نعلم من المقدّمات أنّ أيّها حجّة لكن أجرينا مقدّمات الانسداد مرّة ثانية حتّى تعيّن ذلك الطّريق المجعول وأنّه الخبر الواحد مثلاً، فكانت مقدّمات الانسداد منتجة للطريق - الّذي هو الخبر - لكنّه لم يكن واصلاً بنفسه، إذ بمجرّد إجراء المقدّمات لم يصل، بل كان واصلاً بطريقه - أي: وصل شيء كان طريقاً إلى وصول الخبر - .

الثّالث: أن تكون المقدّمات منتجة لنصب طريق ما وإن لم يعلم الطّريق بنفسه ولا علم بقياس طريق يؤدّي إليه، فلم تكن المقدّمات كاشفة إلّا عن أنّ الشّارع نصب طريقاً ما، أمّا ذلك الطّريق فلم يعلم بنفسه ولم يعلم بطريقه.

وعلى هذا فاللّازم أن يتكلّم في تسعة أُمور: الكشف على التقادير الثلاثة، وكلّ تقدير بالنسبة إلى الأسباب والموارد والمراتب {ف-} نقول: {لو قيل بكون النّتيجة هو نصب الطّريق الواصل بنفسه فلا إهمال فيها} أي: في النّتيجة {أيضاً}

ص: 152

بحسب الأسباب، بل يستكشف حينئذٍ أنّ الكلّ حجّة لو لم يكن بينها ما هو المتيقّن، وإلّا فلا مجال لاستكشاف حجيّة غيره.

ولا بحسب الموارد، بل يحكم بحجيّته في جميعها، وإلّا لزم عدم وصول الحجّة، ولو لأجل التردّد في مواردها، كما لا يخفى.

___________________________________________

كما لم يكن إهمال لو قلنا بالحكومة {بحسب الأسباب} بل الظّنّ عن أيّ سبب حصل كان حجّة {بل يستكشف حينئذٍ} أي: حين كانت النّتيجة الطّريق الواصل بنفسه {أنّ الكلّ} من الظّنون الحاصلة من أيّ سبب كان {حجّة لو لم يكن بينها ما هو المتيقّن} الاعتبار الكافي بالعلم الإجمالي، كما لو كان الأخبار كافية للوفاء بالفقه {وإلّا} فلو كان بينها متيقّن الاعتبار الكافي بالفقه {فلا مجال لاستكشاف حجيّة غيره} إذ لا موجب لحجيّة غيره بعد استكشاف الطّريق الكافي الواصل الّذي هو الخبر مثلاً. نعم، لو لم يكن بينها مثل ذلك كان الجميع حجّةً لعدم أولويّة بعض الأسباب من بعض.

{و} كما لا إهمال في النّتيجة بالنسبة إلى الأسباب - في الواصل بنفسه - كذلك {لا} إهمال {بحسب الموارد} فلا فرق بين أن يكون الظّنّ في الصّلاة أو في الديات {بل يحكم بحجيّته} أي: حجيّة الظّنّ {في جميعها} أي: جميع الموارد من غير فرق بين الموارد المهمّة كالنفوس والأعراض وغيرها كالطهارة والنّجاسة {وإلّا} فلو لم يكن الظّنّ حجّة في بعض الموارد - كالمهمّة - {لزم عدم وصول الحجّة} إلينا فيها.

{ولو} كان عدم الوصول {لأجل التردّد في مواردها} وهل أنّه حجّة في النّفوس والأعراض أم لا؟ فإنّ التردّد أيضاً موجب لعدم الوصول، وعدم الوصول خلاف الغرض؛ لأنّ الغرض كون النّتيجة هي الطّريق الواصل بنفسه {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

ص: 153

ودعوى الإجماع على التعميم بحسبها(1)

- في مثل هذه المسألة المستحدثة -مجازفة جدّاً.

وأمّا بحسب المرتبة: ففيها إهمال؛ لأجل احتمال حجيّة خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافياً، فلا بدّ من الاقتصار عليه.

___________________________________________

{و} إن قلت: إنّ النّتيجة ليست إلّا الحجيّة في بعض الموارد وأمّا سائر الموارد المشكوكة فنتمّم الكلام فيها بحجيّة الظّنّ بالإجماع، فالمقدّمات إنّما تفيد الحجيّة في البعض غير المهمّة والإجماع يفيد الحجيّة في البعض الأُخر المهمّة؛ لأنّه قام على التعميم.

قلت: إنّ {دعوى الإجماع على التعميم بحسبها} أي: بحسب الموارد {- في مثل هذه المسألة المستحدثة - مجازفة جدّاً} والاعتذار بالعرفان عن مذاق العلماء فيه ما لا يخفى، فإنّ الإنصاف أنّ فهم مذاق العلماء في مثل هذه المسألة من أبعد ما يكون.

{وأمّا بحسب المرتبة} وأنّه لو قلنا بكون النّتيجة على الكشف الطّريق الواصل بنفسه، فهل يكون كلّ ظنّ حجّة سواء كان ظنّاً ضعيفاً أو ظنّاً قويّاً أم تختصّ الحجيّة بالظنّ القوي فقط؟ واللّازم القول بأنّ الظّنّ القوي لو كان وافياً بالفقه فلا إهمال من جهة أنّه الحجّة فقط دون الظّنّ الضّعيف؛ لأنّه وصل الطّريق بنفسه - بسبب الظّنّ القوي - وإن لم يكن وافياً فلا إهمال أيضاً من جهة أنّ الجميع حجّة وإلّا فليس الطّريق واصلاً بنفسه - كما تقدّم في الأسباب - .

وأمّا ما ذكره المصنّف(رحمة

الله) بقوله: {ففيها} أي: في النّتيجة {إهمال لأجل احتمال حجيّة خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافياً} بالأحكام {فلا بدّ منالاقتصار عليه} محلّ نظر، إذ لا فرق بين المرتبة والسّبب، فما قلنا في السّبب يجري هنا أيضاً.

هذا كلّه الأقسام الثلاثة: السّبب والمورد والمرتبة بناءً على كون الطّريق واصلاً

ص: 154


1- فرائد الأصول 1: 467.

ولو قيل: ب- «أنّ النّتيجة هو نصب الطّريق الواصل ولو بطريقه» فلا إهمال فيها بحسب الأسباب، لو لم يكن فيها تفاوت أصلاً، أو لم يكن بينها إلّا واحد، وإلّا

___________________________________________

بنفسه - وهو القسم الأوّل بناءً على الكشف - {و} أمّا القسم الثّاني بناءً على الكشف وهو ما {لو قيل ب- : «أنّ النّتيجة} لمقدّمات الانسداد {هو نصب الطّريق الواصل ولو بطريقه»} بمعنى أنّ الطّريق المكشوف من المقدّمات يصل إلينا بواسطة مقدّمات أُخرى فليس الطّريق واصلاً بنفسه، بل واصلاً بطريقه {فلا إهمال فيها} أي: في النّتيجة {بحسب الأسباب} في الجملة.

وتفصيله: أنّ الظّنّ بالحكم على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون سببه واحداً كالخبر مثلاً.

الثّاني: أن يكون سببه متعدّداً غير متفاوت من حيث اليقين بالاعتبار والظّنّ به، بل كان كلّ واحد منهما مثل الآخر في الاعتبار، كما لو كان الخبر والإجماع متساويين في الإفادة للظنّ.

الثّالث: أن يكون سببه متعدّداً متفاوتاً، كما لو كان سبب الظّنّ الخبر والإجماع والشهرة والسّيرة وقطعنا باعتبار الظّنّ الحاصل من الخبر وظننّا باعتبار الظّنّ الحاصل من الإجماع وشككنا باعتبار الظّنّ الحاصل من الشّهرة ووهمنا في اعتبار الظّنّ الحاصل من السّيرة.ففي ما لو كان القسم الثّاني وهو ما {لو} كان أسباب الظّنّ متعدّداً و{لم يكن فيها تفاوت أصلاً أو} كان القسم الأوّل وهو ما لو {لم يكن بينها} أي: بين النّتيجة {إلّا} سبب {واحد} للظنّ لا إهمال أصلاً بحسب الأسباب: أمّا في صورة الوحدة فلأنّها موجبة للتعيين بالذات فلا مجال للإهمال والتردّد، وأمّا في صورة التعدّد مع التساوي؛ فلأنّ التساوي مانع من تعيين البعض إذ لا وجه لتعيين الخبر دون الإجماع مثلاً مع فرض تساويهما من جميع الجهات.

{وإلّا} يكن القسمان الأوّلان بل كان القسم الثّالث - وهو ما كان أسباب الظّنّ

ص: 155

فلا بدّ من الاقتصار على متيقّن الاعتبار منها أو مظنونه، بإجراء مقدّمات دليل الانسداد حينئذٍ مرّةً أو مرّاتٍ في تعيين الطّريق المنصوب، حتّى ينتهي إلى ظنّ واحد، أو إلى ظنون متعدّدة لا تفاوت بينها، فيحكم بحجيّة كلّها، أو

___________________________________________

متعدّداً ومتفاوتاً - {فلا بدّ من الاقتصار على متيقّن الاعتبار منها} أي: من هذه الأسباب المتعدّدة كالخبر في المثال {أو مظنونه} أي: مظنون الاعتبار {بإجراء مقدّمات دليل الانسداد حينئذٍ} أي: حين التعدّد والتفاوت بالظنّ باعتبار بعضها دون بعض {مرّة أو مرّات}.

وتوضيحه - كما في تعليق السّيّد الحكيم - : «إن كان بعضها مظنون الاعتبار دون ما سواه جرى دليل الانسداد في تعيين الحجّة على الاعتبار، فيقال: الظّنّ بالواقع منه مظنون الاعتبار ومنه مشكوك الاعتبار ومنه موهوم الاعتبار. ثمّ يقال: الظّنّ باعتبار بعض الظّنون المتعلّقة بالواقع، إمّا أن يكون واحداً فهو الحجّة علىالاعتبار، أو متعدّداً وكلّها متساوية في تيقّن الاعتبار أو الظّنّ به، كما تقدّم، فكلّها حجّة أيضاً، أو بعضها متيقّن الاعتبار دون غيره فهو الحجّة دون غيره، وإن كان متعدّداً متفاوتاً في الظّنّ بالاعتبار فلا بدّ من إجراء الدليل ثالثاً لتعيين الحجّة على اعتبار الظّنّ بالاعتبار فيقال كما ذكر، وهكذا حتّى ينتهي الأمر إلى ظنّ واحد أو ظنون متساوية أو بعضها متيقّن الاعتبار فيكون ذلك هو الحجّة، ثمّ ينتقل منه إلى إثبات غيره حتّى يتعيّن الظّنّ الّذي هو حجّة على الواقع ويكون واصلاً إلى المكلّف بطريقه لا بنفسه»(1)،

انتهى.

والحاصل: أنّه يجب إجراء مقدّمات الانسداد {في تعيين الطّريق المنصوب حتّى ينتهي إلى ظنّ واحد} فيكون هو الحجّة كالقسم الأوّل {أو إلى ظنون متعدّدة لا تفاوت بينها فيحكم بحجيّة كلّها} كالقسم الثّاني {أو} متعدّدة

ص: 156


1- حقائق الأصول 2: 193.

متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقّن الاعتبار، فيقتصر عليه.

وأمّا بحسب الموارد والمرتبة، فكما إذا كانت النّتيجة هي الطّريق الواصل بنفسه، فتدبّر جيّداً.

ولو قيل ب- «أنّ النّتيجة هو الطّريق ولو لم يصل أصلاً» فالإهمالُ فيها يكون من الجهات. ولا محيص حينئذٍ إلّا من الاحتياط في الطّريق بمراعاة أطراف الاحتمال، لو لم يكن بينها متيقّنُ الاعتبار،

___________________________________________

{متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقّن الاعتبار فيقتصر عليه} كالقسم الأوّل.{وأمّا} النّتيجة في الطّريق الواصل ولو بطريقه {بحسب الموارد والمرتبة} فالظنّ في جميع الموارد حجّة - سواء كان من الأُمور المهمّة كالنفوس أم لا كالطهارة - وذلك لأنّه لو لم يكن في بعضها حجّة كان خلاف الغرض وإنّه لم يصل الطّريق ولو بطريقه، لكن النّتيجة مهملة بالنسبة إلى المرتبة لاحتمال حجيّة الظّنّ الاطمئناني فقط إذا كان وافياً.

{ف-} الحاصل: أنّ النّتيجة بالنسبة إليهما {كما إذا كانت النّتيجة هي الطّريق الواصل بنفسه} كما تقدّم {فتدبّر جيّداً}.

هذا تمام الكلام في الطّريق الواصل بنفسه والطّريق الواصل ولو بطريقه.

{ولو قيل ب- : «أنّ النّتيجة} لدليل الانسداد {هو الطّريق ولو لم يصل أصلاً»} بمعنى أنّ المقدّمات تنتج أنّ الشارع جعل طريقاً لكنّه غير معلوم ومشتبه بين الطّرق الّتي بأيدينا {فالإهمال فيها} أي: في النّتيجة {يكون من الجهات} الثلاث: الموارد والأسباب والمراتب؛ لأنّه لم يعلم - بعد الإهمال - خصوصيّة وتعيين بالنسبة إلى إحدى الجهات ولا طريق إلى التعيين {ولا محيص حينئذٍ إلّا من الاحتياط في الطّريق بمراعاة أطراف الاحتمال} فنعمل بكلّ طريق هو طرف العلم الإجمالي كأن نعمل بالخبر والإجماع والشّهرة والسّيرة {لو لم يكن بينها متيقّن الاعتبار} وكان

ص: 157

لو لم يلزم منه محذور، وإلّا لزم التنزّل إلى حكومة العقل بالاستقلال، فتأمّل، فإنّ المقام من مزالّ الأقدام.

وهم ودفع: لعلّك تقول: إنّ القدر المتيقّن الوافي لو كان في البين، لما كان مجالٌ لدليل الانسداد؛ ضرورة أنّه منمقدّماته: انسداد باب العلمي أيضاً.

___________________________________________

بقدر الكفاية، وإلّا فاللّازم الرّجوع إلى المتيقّن الكافي؛ لأنّه القدر المتيقّن، والعلم الإجمالي ينحلّ بذلك فلا يلزم الاحتياط.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من لزوم الاحتياط في الأطراف إنّما يكون {لو لم يلزم منه محذور} العسر والحرج واختلال النّظام {وإلّا} بأن لزم المحذور {لزم التنزّل إلى حكومة العقل بالاستقلال} أي: نتنزّل من الكشف إلى الحكومة؛ لأنّه لا محيص إلّا عن ذلك {فتأمّل، فإنّ المقام من مزالّ الأقدام} وفي الكلام مواضع من الإشكال تركناها خوف الخروج عن المرام في هذا الشّرح من توضيح عبارات المتن غالباً، واللّه الهادي.

[وهم ودفع]

{وهم ودفع} أمّا الوهم فهو أنّه {لعلّك تقول: إنّ القدر المتيقّن الوافي} بالأحكام {لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد} فكيف تجعلون بعض محتملات الكشف وجود القدر المتيقّن، وأمّا أنّه لا مجال للانسداد مع وجود القدر المتيقّن ل- {ضرورة أنّه من مقدّماته انسداد باب العلمي أيضاً} كانسداد باب العلم فكيف يمكن انسداد باب العلمي مع وجود القدر المتيقّن، كما ذكرتم في بعض محتملات الكشف؟

وأمّا الدفع فهو أنّ المراد بالمتيقّن هو المتيقّن بملاحظة دليل الانسداد لا مطلقاً. فمثلاً: إذا لم تثبت حجيّة خبر الواحد بدليل خاصّ أجرينا مقدّمات الانسداد، فتثبت بذلك حجيّة الخبر؛ لأنّه يوجب الظّنّ، ويكون الخبر قدراً متيقّناً

ص: 158

لكنّك غفلت عن أنّ المراد: ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قِبَله، لأجل اليقين بأنّه لو كان شيء حجّة شرعاً، كان هذا الشّيء حجّة قطعاً؛ بداهة أنّ الدليل على أحد المتلازمين إنّما هو الدليل على الآخر، لا الدليلُ على الملازمة.

ثمّ

___________________________________________

بين سائر ما يوجب الظّنّ من الإجماع والشّهرة والسّيرة مثلاً.

وإلى هذا أشار بقوله: {لكنّك غفلت عن أنّ المراد} ليس المتيقّن بقول مطلق حتّى في ظرف عدم إجراء مقدّمات الانسداد، بل {ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله} أي: من طرف دليل الانسداد. و(قبل) على وزن (عنب) بمعنى أنّه يتيقّن بذلك كالخبر {لأجل اليقين بأنّه لو كان شيء حجّة شرعاً كان هذا الشّيء} كالخبر {حجّة قطعاً} فهو متيقّن على تقدير الانسداد لا متيقّن على كلّ تقدير حتّى يقال: كيف يلائم الانسداد المتيقّن؟ {بداهة أنّ الدليل على أحد المتلازمين} وهو الظّنّ {إنّما هو الدليل على} المتلازم {الآخر} وهو القدر المتيقّن - الّذي هو الخبر في المثال - فإذا قام دليل الانسداد على حجيّة الظّنّ كان هو الدليل على حجّية ما يلازم الظّنّ وهو الخبر الواحد، فيكون القدر المتيقّن مستنداً إلى دليل الانسداد و{لا} يكون {الدليل على الملازمة} الّذي هو أنّه لو كان شيء حجّة لكان هو الخبر، هو الدليل على حجيّة الخبر، حتّى تكون حجيّة الخبر مستغنية عن دليل الانسداد.

وإن شئت قلت: حجيّة القدر المتيقّن - كالخبر في المثال - مستندة إلى دليل الملازمة، ودليل الملازمة مستند إلى الانسداد، فحجيّة القدر المتيقّن مستندةإلى الانسداد.

{ثمّ} إنّه لو قام ظنّ باعتبار بعض الظّنون - كما لو قام ظنّ باعتبار الخبر الواحد من بين سائر الأمارات المظنونة كالإجماع والشّهرة - فهل يكون هذا

ص: 159

لا يخفى: أنّ الظّنّ باعتبار الظّنّ بالخصوص، يوجب اليقين باعتباره من باب دليل الانسداد - على تقرير الكشف - بناءً على كون النّتيجة هو الطّريق الواصل بنفسه، فإنّه حينئذٍ يقطع بكونه حجّة،

___________________________________________

المظنون الاعتبار أرجح من غيره، أو متعيّناً بين سائر الظّنون، كما يقوله صاحب الحاشية والنّراقي، أو لا يسبّب الظّنّ بالاعتبار ترجيحاً أو تعييناً، بل يبقى حال مظنون الاعتبار كغيره من سائر الظّنون، كما يقوله الشّيخ المرتضى، أو يفصل بين ما لو كانت النّتيجة هو الطّريق الواصل بنفسه فالظنّ بالاعتبار مرجّح كالقول الأوّل، وبين ما لو كانت النّتيجة هو الطّريق الواصل ولو بطريقه أو الطّريق ولو لم يصل فلا فرق بين مظنون الاعتبار وغيره، كما يقوله المصنّف(رحمة الله)؟ احتمالات {لا يخفى أنّ الظّنّ باعتبار الظّنّ بالخصوص} كما لو ظننّا باعتبار الخبر الواحد بالخصوص ولم نظنّ باعتبار الإجماع الّذي هو يورث الظّنّ أيضاً {يوجب اليقين باعتباره من باب دليل الانسداد - على تقرير الكشف -} وأنّ العقل يكشف عن اعتبار الشّارع للظنّ في حال الانسداد.

وإنّما يتقدّم مظنون الاعتبار على غيره {بناءً على كون النّتيجة} للمقدّمات {هو الطّريق الواصل بنفسه} وأنّ الشّارع جعل ظنّاً خاصّاً حجّة {فإنّه} أي: الظّنّ الّذي قام ظنّ باعتباره - كالخبر في المثال - {حينئذٍ} أي: حين قلنا بكون نتيجة الانسداد الطّريق الواصل بنفسه {يقطع بكونه حجّة} بثلاث مقدّمات:الأُولى: أنّ الطّريق وصل بنفسه، فهنا طريق معيّن جعله الشّارع حجّة.

الثّانية: ليس غير المظنونات شيء آخر يحتمل أن يكون طريقاً.

الثّالثة: أنّ هذا الطّريق المظنون الاعتبار أرجح من غيره من سائر الظّنون - الّذي لا يظنّ باعتباره - .

فمثلاً: كلّ من الخبر والإجماع يورث الظّنّ بالحكم لكن نظنّ باعتبار الخبر

ص: 160

كان غيره حجّة أم لا.

واحتمال عدم حجيّته بالخصوص، لا ينافي القطع بحجيّته بملاحظة الانسداد؛ ضرورة أنّه على الفرض لا يحتمل أن يكون غيره حجّة بلا نصب قرينة، ولكنّه من المحتمل أن يكون هو الحجّة دون غيره؛ لما فيه من خصوصيّة الظّنّ بالاعتبار.

___________________________________________

ولا نظنّ باعتبار الإجماع، وإذا كان الخبر أرجح كان متيقّناً - أي: سواء كان جميع الظّنون حجّة أم هذا الظّنّ الخبري بالخصوص بكون الخبر حجّة، فهو مقطوع الحجيّة دون ما سواه - فإذا قام خبر مظنون الاعتبار على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وقام إجماع منقول يورث الظّنّ فقط بدون كونه مظنون الاعتبار على عدم الوجوب كان الظّنّ الخبري مقدّماً؛ لأنّه حجّة قطعاً، سواء قلنا بحجيّة مطلق الظّنّ أو قلنا بحجيّة الظّنّ المظنون الاعتبار، وليس الظّنّ الحاصل من الإجماع كذلك؛ لأنّه حجّة على تقدير دون تقدير.

والحاصل: أنّ الظّنّ الخبري - المظنون الاعتبار - مقطوع الحجيّة سواء {كان غيره حجّة أم لا} كما هو واضح.

{و} إن قلت: إنّا نحتمل عدم حجيّة هذا الظّنّ الخبري لاحتمال كون الإجماع المعارض له في المثال حجّة مطابقاً للواقع.قلت: {احتمال عدم حجيّته بالخصوص} في نفسه {لا ينافي القطع بحجيّته} بالنسبة {بملاحظة} دليل {الانسداد} ل- {ضرورة أنّه} أي: هذا الظّنّ الخبري {على الفرض} الّذي ذكرنا من كون نتيجة الدليل - على الكشف - الطّريق الواصل بنفسه {لا يحتمل أن يكون غيره حجّة بلا نصب قرينة} على حجيّة غيره {ولكنّه من المحتمل أن يكون} الظّنّ الخبري {هو الحجّة دون غيره} كالظنّ من الإجماع {لما فيه} أي: في الظّنّ المظنون الاعتبار كالخبر {من خصوصيّة الظّنّ بالاعتبار} الّذي لا يوجد في ما عداه - كالإجماع المعارض له مثلاً - .

ص: 161

وبالجملة: الأمر يدور بين حجيّة الكلّ وحجيّته، فيكون مقطوع الاعتبار.

ومن هنا ظهر حال القوّة. ولعلّ نظر من رجّح بها(1) إلى هذا الفرض، وكان منع شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه(2) - عن الترجيح بها بناءً على كون النّتيجة هو الطّريق الواصل ولو بطريقه، أو الطّريق ولو لم يصل أصلاً.

___________________________________________

{وبالجملة الأمر يدور بين حجيّة الكلّ} سواء كان مظنون الاعتبار أم لا {وحجيّته} أي: حجيّة مظنون الاعتبار فقط {فيكون} مظنون الاعتبار {مقطوع الاعتبار} لأنّه معتبر على التقديرين بخلاف غيره.{ومن هنا ظهر حال القوّة} أي: قوّة هذا المظنون الاعتبار على ما سواه، حيث ليس غيره بهذه القوّة، والقوّة تصلح للاتّكال عليها في تعيين الطّريق.

{ولعلّ نظر من رجح بها} وهو النّراقي وصاحب الحاشية {إلى هذا الفرض} وهو كون النّتيجة - على الكشف - هو الطّريق الواصل بنفسه، وإن كان كلامهما مطلقاً؛ لأنّهما ذكرا الترجيح بالظنّ بالاعتبار بدون تقييد بكون النّتيجة طريقاً واصلاً بنفسه أم لا {وكان منع شيخنا العلّامة} الشّيخ المرتضى - {أعلى اللّه مقامه - عن الترجيح بها} وأنّه لا يكون الظّنّ بالاعتبار من مرجّحات بعض الظّنون على بعض، بل الظّنون كلّها متساوية - سواء منها مظنون الاعتبار وغيره - {بناءً على كون النّتيجة هو الطّريق الواصل ولو بطريقه أو الطّريق ولو لم يصل أصلاً} بأن نكشف من المقدّمات أنّ الشّارع جعل طريقاً بين هذه المظنونات وإن لم نشخّص ذلك الطّريق بعينه، أو نكشف من المقدّمات أنّ الشّارع جعل طريقاً ولو لم نعلم حتّى بالعلم الإجمالي ما هو ذلك الطّريق.

وإنّما لا يكون الظّنّ بالاعتبار مرجّحاً - بناءً على تقديري كون النّتيجة هو

ص: 162


1- هداية المسترشدين 3: 363؛ عوائد الأيام: 396-397.
2- فرائد الأصول 1: 479-486.

وبذلك ربّما يوفّق بين كلمات الأعلام في المقام، وعليك بالتأمّل التامّ.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ الترجيح بها إنّما هو على تقدير كفاية الرّاجح، وإلّا فلا بدّ من التعدّي إلى غيره

___________________________________________

الطّريق الواصل ولو بطريقه أو الطّريق ولو لم يصل - لأنّ مقتضى الثّاني - وهوكون النّتيجة الطّريق ولو لم يصل - الاحتياط في جميع الأمارات المحتملة للطريقيّة إن لم يستلزم عسراً أو اختلالاً، وإن استلزم أحدهما عمل بالاحتياط في ما أمكن وبحكم العقل بحجيّة مطلق الظّنّ - في ما لم يمكن - فلا يبقى مجال للترجيح بالظنّ بالاعتبار أصلاً.

ومقتضى الأوّل - وهو كون النّتيجة الطّريق الواصل ولو بطريقه - كون الظّنّ إن كان واحداً أخذ به تعييناً، وإن كان متعدّداً غير متفاوت أخذ بالجميع، وإن كان متعدّداً متفاوتاً جرت مقدّمات الانسداد مرّة ثانية وثالثة حتّى ينتهي إلى الواحد أو المتعدّد المتساوي - كما مرّ تفصيله(1) - وحينئذٍ لا يبقى مجال للترجيح بالظنّ بالاعتبار أيضاً.

والحاصل: أنّ منع الشّيخ عن الترجيح خاصّ بهاتين الصّورتين وإن كان كلامه مطلقاً.

{وبذلك} الّذي ذكرنا من تخصيص كلام الطّرفين ببعض صور النّتيجة {ربّما يوفّق بين كلمات الأعلام في المقام} فيرجع النّزاع بينهما لفظيّاً {وعليك بالتأمّل التامّ} وإن كان في هذا التوفيق ما لا يخفى من الإشكال لمن راجع كلام الطّرفين.

{ثمّ لا يذهب عليك أنّ الترجيح بها} أي: بظنيّة الاعتبار {إنّما هو على تقدير كفاية الرّاجح} كالخبر في المثال الّذي هو مظنون الاعتبار بخلاف الإجماع مثلاً {وإلّا} يكف الرّاجح بما علمنا إجمالاً من الأحكام {فلا بدّ من التعدّي إلى غيره}

ص: 163


1- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 153.

بمقدار الكفاية، فيختلف الحال باختلافالأنظار، بل الأحوال.

وأمّا تعميم النّتيجة - بأنّ قضيّة العلم الإجمالي بالطريق هو الاحتياط في أطرافه - : فهو لا يكاد يتمّ إلّا على تقدير كون النّتيجة هو نصب الطّريق، ولو لم يصل.

مع أنّ التعميم بذلك لا يوجب العمل إلّا على وفق المثبتات من الأطراف، دون النّافيات، إلّا في ما إذا كان هناك ناف من جميع الأصناف؛

___________________________________________

من سائر الظّنون {بمقدار الكفاية} بالأحكام {فيختلف الحال باختلاف الأنظار} فنظر يرى الكفاية لمظنون الاعتبار ونظر لا يراها {بل الأحوال} ففي حال يكفي المظنون الاعتبار وفي حال لا يكفي.

{وأمّا} قول شريف العلماء(1) الّذي ذكر إمكان {تعميم النّتيجة} للانسداد في صور الكشف حيث قلنا بعدم عموم لها في الأبحاث السّابقة {ب-} بيان {أنّ قضيّة} أي: مقتضى {العلم الإجمالي} بوجود الأحكام في هذه الأمارات المظنونة {بالطريق} المؤدّي إليها {هو الاحتياط في أطرافه} فيجب العمل على كلّ ظنّ {فهو} مردود، إذ {لا يكاد يتمّ} هذا التعميم {إلّا على تقدير كون النّتيجة هو نصب الطّريق ولو لم يصل} إذ على تقدير كون النّتيجة الطّريق الواصل بنفسه يكون جميع الظّنون حجّةً، فلا مجال للاحتياط. وعلى تقدير كون النّتيجة الطّريق الواصل ولو بطريقه يمكن تعيين الطّريق بالظنّ كما تقدّم، فلا مجال للاحتياط أيضاً {مع أنّ التعميم} للنتيجة {بذلك} الّذي ذكرتم من الاحتياط في الأطراف {لايوجب العمل إلّا على وفق المثبتات} للتكليف {من الأطراف} للعلم الإجمالي {دون النّافيات} كما لو قام ظنّ على نفي التكليف بالنسبة إلى دعاء رؤية الهلال مثلاً، وذلك لأنّ النّافي لا اقتضاء له في الترك ولا يصلح للمؤمّنية مع الشّكّ في حجيّته {إلّا في ما إذا كان هناك ناف} للتكليف {من جميع الأصناف} كأن قام الخبر والإجماع والشّهرة والسّيرة

ص: 164


1- حكاه الشيخ الأعظم في فرائد الأصول 1: 497؛ راجع ضوابط الأصول: 255.

ضرورة أنّ الاحتياط فيها لا يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعيّة إذا لزم؛ حيث لا ينافيه؛ كيف؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجّة النّافية، كما لا يخفى، فما ظنّك بما لا يوجب الأخذ بموجَبه إلّا من باب الاحتياط؟

___________________________________________

على نفي الدعاء، فإنّه حينئذٍ يقطع بعدم التكليف ويكون مؤمّناً للعقاب المحتمل.

وإن قلت: إذ اقتضى العلم الإجمالي العمل بجميع الظّنون وقام ظنّ على نفي التكليف، فأيّ مورد للاحتياط في المسألة الفرعيّة بعد كون الظّنّ القائم على نفيه طرفاً للعلم الإجمالي؟

قلت: كلّا لا يمكن العمل بذلك الظّنّ {ضرورة أنّ الاحتياط فيها} أي: في النّافيات، ومعنى الاحتياط أنّها طرف للعلم الإجمالي فيلزم العمل بمقتضى ذلك العلم {لا يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعيّة} الّتي هي مسألة وجوب الدعاء عند الرّؤية - في المثال - {إذا لزم} ذلك الاحتياط في المسألة الفرعيّة للتأمين من العقوبة المحتملة و{حيث لا ينافيه} أي: لا ينافي الاحتياط في المسألة الفرعيّة الاحتياط العام في أطراف العلم الإجمالي المتعلّق بجميع الظّنون الّتي منها هذا الظّنّ النّافي.لا يقال: كيف يمكن الاحتياط في المسألة الفرعيّة بعد قيام الظّنّ - كالخبر - على نفي التكليف؟

لأنّا نقول: لا منافاة {كيف ويجوز الاحتياط فيها} أي: في المسألة الفرعيّة {مع قيام الحجّة النّافية} للتكليف، كما أنّه لو قام في حال الانفتاح دليل على عدم وجوب الكرّ ثلاثة وأربعين شبراً جاز الاحتياط لنا بعدم التطهير إلّا في ثلاثة وأربعين مثلاً {كما لا يخفى}.

إذ الحكم الواقعي مجهول حتّى مع قيام الحجّة {فما ظنّك بما لا يوجب الأخذ بموجبه} وهو الظّنّ المشكوك الاعتبار، فإنّه لا يلزم الأخذ به {إلّا من باب الاحتياط}

ص: 165

فافهم.

فصل: قد اشتهر الإشكال(1)

بالقطع بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة. وتقريره - على ما في الرّسائل(2)

- : «أنّه كيف يجامع حكم العقل بكون الظّنّ كالعلم مناطاً للإطاعة والمعصية، ويقبح على الآمر

___________________________________________

أورثه كون النّتيجة مهملة لا يعلم أنّ أيّ ظنّ حجّة فيلزم الأخذ بجميع الأطراف احتياطاً {فافهم} فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق، ولعلّه إشارة إلى بعض الإشكالات الواردة في المقام، فراجع المشكيني(3).

[فصل خروج القياس عن حجيّة الظن]

المقصد السّادس: في الأمارات، خروج القياس عن حجيّة الظن{فصل: قد اشتهر} عند الأصوليّين {الإشكال بالقطع} أي: إنّا نقطع {بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة} أي: لو قلنا: إنّ نتيجة دليل الانسداد حكومة العقل بحجيّة الظّنّ المطلق كيف يمكن خروج الظّنّ القياسي من هذا الحكم العقلي، فإنّه كيف يمكن تخصيص الحكم العقلي؟ وأمّا على تقدير الكشف فلا إشكال، إذ العقل لمّا كشف بأنّ الشّارع جعل الظّنّ حجّة كان خروج القياسي عن العموم الشّرعي ممكناً، إذ بعد نهي الشّارع عن القياس لا يكشف العقل إلّا حجيّة الظّنون الّتي لم تكن قياسيّة.

{وتقريره} أي: تقرير الإشكال {على ما في الرّسائل} للشّيخ+ من جهتين:

الأُولى: {«إنّه كيف يجامع حكم العقل بكون الظّنّ} في حال الانسداد {كالعلم} في حال الانفتاح {مناطاً للإطاعة والمعصية} والثواب والعقاب {ويقبح على الآمر}

ص: 166


1- أصل هذا الإشكال من المحدّث أمين الدين الأستر آبادي، كما في شرح كفاية الأصول 2: 118.
2- فرائد الأصول 1: 516-517.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 464.

والمأمور التعدّي عنه، ومع ذلك يحصل الظّنّ أو خصوص الاطمئنان من القياس، ولا يجوّز الشّارع العمل به؟ فإنّ المنع عن العمل بما يقتضيه - العقل من الظّنّ أو خصوص الاطمئنان - لو فرض ممكناً، جرى في غير القياس، فلا يكون العقل مستقلّاً - ؛ إذ لعلّه نهى عن أمارة، مثل ما نهى عن القياس، واختفى علينا. ولا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلك على الشّارع؛ إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلّا بقبحه، وهذا

___________________________________________

التعدّي عنه، بأن يريد الإطاعة العلميّة {و} يقبح على {المأمور التعدّي عنه} بأن يطيع بالإطاعة الشّكيّة والوهميّة {ومع ذلك يحصل الظّنّ أو خصوص الاطمئنان} غير الواصل إلى حدّ العلم {من القياس ولا يجوّز الشّارع العمل به؟}.

والحاصل: أنّ الظّنّ في حال الانسداد كالعلم في حال الانفتاح، {ف-} كما لا يمكن التصرّف في العلم في ذلك الحال بالمنع عن العمل عن بعض أقسامه، كذلك لا يمكن التصرّف في الظّنّ في حال الانسداد بالمنع عن العمل عن بعض أقسامه.

الثّانية: {أنّ المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظّنّ} بيان ل- «ما» {أو} من {خصوص الاطمئنان} الحاصل من القياس {لو فرض ممكناً جرى في غير القياس} من سائر أسباب الظّنّ {فلا يكون العقل مستقلّاً} بحجيّة أيّ ظنّ {إذ لعلّه} أي: الشّارع {نهى عن أمارة} أُخرى {مثل ما نهى عن القياس واختفى} النّهي {علينا} وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال في الأُمور العقليّة، وإن كانت الظّواهر اللفظيّة لا يبطلها الاحتمال - كما لا يخفى - .

{ولا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلك} النّهي {على الشّارع} الحكيم {إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلّا بقبحه} وقد فرض أنّه لا قبح فيه؛ لأنّه نهى عن مثله وهو القياس، وقد ثبت أنّ حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز سواء {وهذا} الحكم العقلي - بكون الظّنّ في حال الانسداد حجّة كالعلم

ص: 167

من أفراد ما اشتهر من: أنّ الدليل العقلي لا يقبل التخصيص». انتهى موضع الحاجة من كلامه - زيد في علوّ مقامه - .

وأنت خبيرٌ بأنّه لا وقع لهذا الإشكال، بعد وضوح كون حكم العقل بذلك معلّقاً على عدم نصب الشّارع طريقاً واصلاً،

___________________________________________

في حال الانفتاح - {من أفراد ما اشتهر من أنّ الدليل العقلي لا يقبل التخصيص»} بمعنى أنّ العقل لو حكم بكلّيّ لم يمكن تخصيصه بدليل لفظي، بل الحكم العقلي مقدّم على جميع الأدلّة اللفظيّة، ولو كان اللفظ قطعيّ الظّهور، بل لا بدّ من تأويل اللفظي {انتهى موضع الحاجة من كلامه} أي: كلام الشّيخ المرتضى(رحمة الله) {زيد في علوّ مقامه}.

ولا يخفى أنّ ورود الإشكال إنّما هو على الحكومة الّتي يقول بها المشهور، إمّا بناءً على الحكومة في ما كان المنجّز هو العلم باهتمام الشّارع بأحكامه، أو الإجماع - كما تقدّم - فالنهي الشّرعي موجب لخروج مورد القياس عن الحكومة العقليّة ولا مانع؛ لأنّ النّهي سبب لعدم إتيان الاهتمام والإجماع في مورد القياس، كما لا يخفى.

{وأنت خبير بأنّه لا وقع لهذا الإشكال} في خروج القياس؛ لأنّ مورد الانسداد هو الوقائع الّتي ليس فيها علم ولا علميّ، ولذا ليس من مورد الانسداد ما علمنا بالحكم أو قام طريق معتبر على الحكم، كما لو قام خبر العدل بأنّ الإمام أوجب ثلاث تسبيحات في الصّلاة وظننّا عدم وجوب أزيد من الواحدة، فإنّ العلمي مقدّم على الظّنّ بلا إشكال.

ومن المعلوم أنّ القياس ممّا قام العلمي على عدم كونه حجّة، فيكون خارجاً عن مورد دليل الانسداد، وليس خروجه تخصيصاً للحكم العقلي {بعد وضوحكون حكم العقل بذلك} أي: بحجيّة الظّنّ مطلقاً {معلّقاً على عدم نصب الشّارع طريقاً واصلاً}

ص: 168

وعدمِ حكمِهِ به في ما كان هناك منصوب ولو كان أصلاً؛ بداهة أنّ من مقدّمات حكمه: عدم وجود علم ولا علمي، فلا موضع لحكمه مع أحدهما.

والنّهي عن ظنّ حاصل من سبب، ليس إلّا كنصب شيء، بل هو يستلزمه في ما كان في مورده أصل شرعي، فلا يكون نهيه عنه رفعاً لحكمه عن موضوعه، بل به يرتفع موضوعه،

___________________________________________

إلى المكلّف {وعدم حكمه} أي: العقل {به} أي: بالظنّ {في ما كان هناك} طريق {منصوب ولو كان} ذلك الطّريق المنصوب {أصلاً}.

{بداهة أنّ من مقدّمات حكمه} أي: حكم العقل بحجيّة الظّنّ {عدم وجود علم ولا علمي، فلا موضع لحكمه مع أحدهما، و} من المعلوم وجود العلمي في باب القياس، ولا يستشكل بأنّه ليس طريقاً وإنّما هو نهي عن شيء؛ لأنّ {النّهي عن ظنّ حاصل من سبب} خاصّ {ليس إلّا كنصب شيء} في كون ذلك خارجاً عن مورد الانسداد، فكما أنّ الشّارع لو قال بحجيّة خبر الواحد في حال الانسداد كان المتّبع في مورده الخبر لا الظّنّ الّذي على خلافه، كذلك لو قال الشّارع بعدم جواز الاعتماد على شيء كان المتّبع في مورد حصول الظّنّ من ذلك الشّيء نهي الشّارع لا الظّنّ الحاصل {بل هو} أي: النّهي عن ظنّ {يستلزمه} أي: يستلزم النّصب {في ما كان في مورده} أي: مورد ذلك النّهي {أصل شرعي} فإنّ معنى النّهي عن ذلكالظّنّ كون المتّبع هو الأصل، إذ لا دليل علماً ولا علميّاً ولا ظنّ حجّة، فتصل النّوبة إلى الأصل، بينما لو لم يكن نهي كان المتّبع بعد فقد العلم والعلمي الظّنّ الحاصل في المقام، فالنّهي عنه يستلزم استلزاماً عرفيّاً كون الأصل الجاري فيه هو المتّبع {فلا يكون نهيه} أي: نهي الشّارع {عنه} أي: عن الظّنّ الحاصل من سبب خاصّ كالقياس في المقام {رفعاً لحكمه} أي: حكم العقل {عن موضوعه} أي: موضوع حكم العقل، حتّى يقال بأنّ الأحكام العقليّة لا تقبل الرّفع والتخصيص بعد تماميّة موضوعاتها {بل به} أي: بنهي الشّارع {يرتفع موضوعه}

ص: 169

وليس حال النّهي عن سبب مفيد للظنّ إلّا كالأمر بما لا يفيده. وكما لا حكومة معه للعقل، لا حكومة له معه، وكما لا يصحّ بلحاظ حكمه الإشكالُ فيه، لا يصحّ الإشكال فيه بلحاظه.

نعم، لا بأس بالإشكال فيه في نفسه، كما أشكل فيه برأسه،

___________________________________________

أي: موضوع حكم العقل؛ لأنّ موضوعه كان في ما لم يكن علم ولا علمي، وقد فرض في المقام وجود العلمي وهو النّهي الثّابت بالنسبة إلى القياس.

{وليس حال النّهي عن سبب مفيد للظنّ} في وجوب اتّباع النّهي وترك الظّنّ الحاصل {إلّا كالأمر بما لا يفيده} أي: لا يفيد الظّنّ، كما لو قام خبر على شيء ولم يظنّ المكلّف به، فإنّ عدم ظنّه لا يصير سبباً لعدم العمل بعد قيام الدليل العلمي {وكما لا حكومة معه} أي: مع الأمر {للعقل} فليس للعقل أن يقول: «حيث لم يحدث الظّنّ فلا تكليف» {لا حكومة له} أي: للعقل {معه} أي: مع النّهي عن ظنّ خاصّ، فليس له أن يقول: «حيث حدث الظّنّ وجب الاتّباع»{وكما لا يصحّ بلحاظ حكمه} أي: حكم العقل {الإشكال فيه} في الأمر الّذي لا يفيد الظّنّ {لا يصحّ الإشكال فيه} أي: في النّهي عن ظنّ خاصّ {بلحاظه} أي: بلحاظ حكم العقل بحجيّة مطلق الظّنّ.

{نعم، لا بأس بالإشكال فيه} أي: في النّهي عن الظّنّ القياسي {في نفسه} مع قطع النّظر عن حكم العقل بوجوب اتّباع الظّنّ {كما أشكل فيه} أي: في الأمر باتّباع الطّرق {برأسه}.

وحاصل الإشكال أن يقال: كيف يصحّ للشارع النّهي عن الظّنّ والحال أنّ الظّنّ قد يصادف الواقع، فلو صادف الظّنّ القياسي بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال الواقع - بأن كان الدعاء واجباً واقعاً - كان نهي الشارع عن العمل بهذا الظّنّ تفويتاً للواقع.

ص: 170

بملاحظة توهّم استلزام النّصب لمحاذير، تَقَدَّمَ الكلامُ في تقريرها - وما هو التحقيق في جوابها - في جعل الطّرق. غاية الأمر، تلك المحاذير - الّتي تكون في ما إذا أخطأ الطّريق المنصوب -

___________________________________________

وهذا الإشكال لا يرتبط بالظنّ القياسي فقط، بل هو جار في مطلق المنع عن الظّنّ سواء كان قياسيّاً أم لا.

وهذا الإشكال في باب النّهي عن الظّنّ يشبه إشكال ابن قبة في باب جعل الحجيّة للطرق الظّنيّة، كالخبر الواحد بأنّه كيف يمكن للشارع أن يجعل الطّريق الظّنّي حجّة مع أنّه قد يخالف الواقع؟ فلو قال الشّارع بحجيّة خبر الواحد وأدّى الخبر إلى عدم وجوب الدعاء منذ رؤية الهلال - وكان الدعاء واجباً واقعاً - كان جعل الحجيّة للخبر مفوّتاً للواقع، فكما أنّ نصب الطّريق موجب للإشكال في صورة المخالفة للواقع كذلك النّهي عن الظّنّ موجب للإشكال في صورةالموافقة للواقع، فكما أشكل في نصب الطّريق {بملاحظة توهّم استلزام النّصب} للطريق {لمحاذير} من مخالفة الواقع وتحليل الحرام وتحريم الحلال واحتمال التناقض - الّذي قد عرفت سابقاً استحالته كالقطع بالتناقض - {تقدّم الكلام في تقريرها و} تقدّم {ما هو التحقيق في جوابها} باختلاف مرتبة الحكم الظّاهري والواقعي، فلا محذور في مخالفة الواقع لمصلحة التسهيل ونحوها، كما أنّ الحرام ليس فعليّاً إذا لم يصل إلى مرتبة الظّاهر فلا يلزم تحليل حرام وبالعكس، والتناقض مقطوع العلم بعد اختلاف المرتبة، كما تقدّمت الإشارة إلى بعض هذه الأجوبة {في} باب {جعل الطّرق} فراجع، كذلك أشكل في إسقاط الظّنّ عن الحجيّة بملاحظة توهّم أنّ المنع منه موجب للمحاذير المذكورة {غاية الأمر تلك المحاذير الّتي} ذكرت في باب جعل الطّريق {تكون في ما إذا أخطأ الطّريق المنصوب} فأدّى إلى مخالفة الواقع، وهذه المحاذير الّتي ذكرت في باب المنع

ص: 171

كانت في الطّريق المنهي عنه في مورد الإصابة. ولكن من الواضح أنّه لا دخل لذلك في الإشكال على دليل الانسداد بخروج القياس؛ ضرورة أنّه بعد الفراغ عن صحّة النّهي عنه في الجملة، قد أشكل في عموم النّهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل. وقد عرفت أنّه بمكان من الفساد.

___________________________________________

عن الظّنّ {كانت في الطّريق} الواقعي {المنهي عنه في مورد الإصابة} بأن أصاب الظّنّ الواقع، فكان نهي الشّارع عنه موجباً لمخالفة الواقع.والحاصل: أنّ إشكال الأمر يختصّ بصورة الخطأ، وإشكال النّهي يختصّ بصورة الإصابة، مع اشتراك الإشكالين في المقوّمات والخصوصيّات.

هذا، وحيث قد عرفت الجواب عن الإشكال في جعل الطّرق تعرف الجواب عن الإشكال في المنع عن الطّريق باختلاف مرتبة الحكم الظّاهري والواقعي، فلا تفويت ولا تحليل ولا تحريم ولا احتمال للتناقض.

هذا حاصل الإشكال في المنع عن الظّنّ {ولكن من الواضح أنّه لا دخل لذلك} الإشكال {في الإشكال على دليل الانسداد بخروج القياس} بل هو إشكال عامّ متوجّه على منع الشّارع عن العمل بالظنّ.

وإنّما قلنا بأنّ الإشكال هنا لا دخل له بالإشكال في خروج القياس ل- {ضرورة أنّه} أي: الشّأن {بعد الفراغ عن صحّة النّهي عنه} أي: عن الظّنّ {في الجملة} وأنّه لا محذور في هذا النّهي بقول مطلق {قد أشكل في عموم النّهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل} بحجيّة الظّنّ الانسدادي من أيّ شيء حصل، والجارّ في قوله: «بملاحظة» متعلّق بقوله: «أشكل» {وقد عرفت أنّه} أي: الإشكال بخروج القياس {بمكان من الفساد} لما تقدّم من أنّه خارج موضوعاً، إذ موضوع الانسداد ما لم يكن هناك علمي، والأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالقياس علميّة توجب عدم العمل به.

ص: 172

واستلزام إمكان المنع عنه - لاحتمال المنع عن أمارة أُخرى، وقد اختفى علينا - وإن كان موجباً لعدم استقلال العقل، إلّا أنّه إنّما يكون بالإضافة إلى تلك الأمارة، لو كان غيرها ممّا لا يحتمل فيه المنعبمقدار الكفاية، وإلّا فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل؛ ضرورة عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعه،

___________________________________________

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أشار إلى جواب الإشكالين اللّذين ذكرهما الشّيخ على خروج القياس من لزوم احتمال خروج ظنون أُخرى من النّتيجة، لعدم الفرق بين الظّنّ القياسي وبين الظّنّ من سائر الأمارات، فلا يمكن العمل بسائر الظّنون أيضاً، ومن أنّ الظّنّ في حال الانسداد كالعلم في حال الانفتاح، فكما لا يمكن المنع عن العلم لا يمكن المنع عن الظّنّ، فقال في صدر الجواب عن الإشكال الأوّل: {واستلزام إمكان المنع عنه} أي: عن الظّنّ القياسي {لاحتمال} المكلّف {المنع عن أمارة أُخرى} لأنّه لو كان المنع عن الظّنّ ممكناً لم يكن فرق بين النّهي عن القياس والنّهي عن غيره.

{و} عدم ظفرنا بالنهي لا يضرّ لاحتمال أنّه {قد اختفى علينا} فلا يمكن العمل بأيّ ظنّ؛ لأنّه إذا جاء الاحتمال بطل الحكم العقلي، كما لا يخفى {وإن كان} هذا الاستلزام {موجباً لعدم استقلال العقل} «إِنْ» وصلية {إلّا أنّه إنّما يكون} مجال لهذا الاحتمال {بالإضافة إلى تلك الأمارة} المشكوكة - الّتي يحتمل المنع عنها - {لو كان غيرها} أي: غير تلك الأمارة {ممّا لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية} كما لو كانت هناك عشرون أمارة تكفي تسع عشرة منها للوفاء بالأحكام، فإنّه يحتمل المنع عن الأمارة الّتي هي متمّمة العشرين {وإلّا} يكن غيرها بقدر الكفاية {فلا مجال لاحتمال المنع فيهامع فرض استقلال العقل} بوجوب العمل بها لدرك الأحكام الّتي لا يرضى الشّارع بتركها {ضرورة عدم استقلاله} أي: العقل {بحكم} كوجوب العمل بالأمارات لدرك الأحكام الواقعيّة {مع احتمال وجود مانعه}

ص: 173

على ما يأتي تحقيقه في الظّنّ المانع والممنوع.

وقياس حكم العقل(1)

- بكون الظّنّ مناطاً للإطاعة في هذا الحال - على حكمه

___________________________________________

إذ الاحتمال المخالف ينافي الحكم العقلي، فلا يمكن أن يحكم العقل بقبح كلّ ظلم ثمّ يحتمل حسن هذا الظّلم - مع فرض تماميّة الموضوع - {على ما يأتي تحقيقه في الظّنّ المانع والممنوع}.

والحاصل: أنّ احتمال منع الشّارع عن الخبر الواحد - مثلاً - في ظرف الانسداد غير معقول، إذ المفروض أنّ الشّارع يريد أحكامه، والمفروض أنّه لا سبيل إلى الأحكام إلّا بهذه الظّنون الحاصلة من خبر الواحد والشّهرة والإجماع والسّيرة مثلاً، فمن المقطوع حجيّة الظّنّ الصّادر عنها، وهذا الحكم القطعي ينافي احتمال المنع.

إن قلت: المنع عن أمارة واحدة لا يوجب إهمال سائر الأمارات حتّى يلزم عدم إمكان العمل بالأحكام الواقعيّة لسدّ طرقها.

قلت: لا يخلو الأمر إمّا أن يكون سائر الأمارات كالشهرة والإجماع والسّيرة في المثال كافية أم لا، فإن لم تكن كافية كان المنع عن الخبر نقضاً للغرض، وإن كانت كافية لم يكن وجه لتخصيص الخبر بالخروج عن الحجيّة؛ لأنّ هذا الاحتمال - أي: احتمال المنع جارٍ في كلّ أمارة أمارة ولا أولويّة لخروج بعضهادون بعض - فتأمّل.

وحيث فرغ المصنّف من الجواب عن الإشكال الأوّل شرع في الجواب عن الإشكال الثّاني القائل بكون الظّنّ في حال الانسداد كالعلم في حال الانفتاح، فكما لا يمكن النّهي عن العلم لا يمكن النّهي عن الظّنّ، فقال: {وقياس حكم العقل - بكون الظّنّ مناطاً للإطاعة في هذا الحال -} أي: حال الانسداد {على حكمه}

ص: 174


1- فرائد الأصول 1: 527.

بكون العلم مناطاً لها في حال الانفتاح، لا يكاد يخفى على أحد فسادُه؛ لوضوح أنّه مع الفارق؛ ضرورة أنّ حكمه في العلم على نحو التنجّز، وفيه على نحو التعليق.

ثمّ لا يكاد ينقضي تعجّبي لم خصّصوا الإشكال بالنهي عن القياس؟ مع جريانه في الأمر

___________________________________________

أي: حكم العقل {بكون العلم مناطاً لها} أي: للإطاعة {في حال الانفتاح} فكما لا يمكن النّهي عن العلم في الانفتاح لا يمكن النّهي عن الظّنّ في الانسداد، فكيف يمكن النّهي عن الظّنّ القياسي؟ {لا يكاد يخفى على أحد فساده} خبر لقوله: «وقياس» {لوضوح أنّه} - أي: هذا القياس - ليس بصحيح لأنّه {مع الفارق، ضرورة أنّ} العلم لا يقبل الخلاف بخلاف الظّنّ فإنّ {حكمه} أي: العقل {في} تنجيز {العلم} حال الانفتاح {على نحو التنجّز} الّذي لا يمكن رفعه {وفيه} أي: في الظّنّ {على نحو التعليق} بعدم المانع وقد فرض وجود المانع.

وإن شئت قلت: إنّ العلم حيث كان له الكاشفيّة الذاتيّة لم يكن قابلاً للجعل والرّفع، أمّا الظّنّ فحيث لم يكن له الكاشفيّة الذاتيّة وإنّما بعض الكاشفيّة القابلة للتتميم وعدمه كان ذلك بيد الشّارع إن أتمّه صار كالعلم في التنجيز وإن لم يتمّهبل منع عنه بقي على أصله الّذي لا يمكن جعله طريقاً.

{ثمّ} إنّ لنا أن نتساءل عن من أشكل في خروج القياس، بأنّه أيّ فرق بين منع الشّارع عن بعض الظّنون في حال الانسداد وبين أمره باتّباع بعض ما لا يوجب الظّنّ في هذا الحال، إذ العقل يرى حجيّة الظّنّ فقط، فكما لا يصحّ المنع عن الظّنّ لا يصحّ جعل ما لا يفيد الظّنّ؛ لأنّ في كليهما خروجاً عن مقتضى العقل الحاكم بحجيّة الظّنّ فقط، فلم هؤلاء المستشكلون استشكلوا على خروج القياس ولم يستشكلوا على دخول ما لا يفيد الظّنّ مع أنّ الإشكال في كليهما على حدّ سواء؟

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {لا يكاد ينقضي تعجّبي لم خصّصوا الإشكال بالنهي عن القياس} في حال الانسداد {مع جريانه} أي: الإشكال {في الأمر} أي:

ص: 175

بطريق غير مفيد للظنّ، بداهة انتفاء حكمه في مورد الطّريق قطعاً، مع أنّه لا يظنّ بأحد أن يستشكل بذلك، وليس إلّا لأجل أنّ حكمه به معلّق على عدم النّصب، ومعه لا حكم له، كما هو كذلك مع النّهي عن بعض أفراد الظّنّ، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

أمر الشّارع {بطريق غير مفيد للظنّ} وإنّما كان شبه إشكال القياس جارياً هنا ل- {بداهة انتفاء حكمه} أي: حكم العقل {في مورد} الأمر ب- {الطّريق قطعاً} فلا يحكم العقل باتّباع الطّريق غير المفيد للظنّ في حال الانسداد {مع أنّه لا يظنّ بأحد أن يستشكل بذلك} أي: بجعل الشّارع للطريق غير المفيد للظنّ في حال الانسداد {وليس} عدم الإشكال في مورد الأمر {إلّا لأجل أنّحكمه} أي: حكم العقل {به} أي: باعتبار الظّنّ {معلّق على عدم النّصب} أي: عدم نصب الشّارع، فإذا نصب الشّارع لم يكن للعقل حكم أصلاً لانتفاء موضوعه، إذ موضوعه في ما لم يكن هناك علم ولا علمي، ومن المعلوم أنّ مع النّصب يوجد العلمي.

{و} الحاصل: أنّ {معه} أي: مع النّصب {لا حكم له} أي: للعقل {كما هو كذلك} أي: لا حكم للعقل {مع النّهي عن بعض أفراد الظّنّ} لانتفاء موضوع حكم العقل {فتدبّر جيّداً}.

هذا تمام الكلام في ما رأيناه من الجواب عن إشكال خروج القياس.

وقد أجاب الشّيخ(رحمة الله) عن الإشكال بجوابين آخرين جعلهما سادس الأجوبة وسابعها، وتقريرهما بلفظه قال: «إنّ النّهي يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعيّة المدركة على تقدير العمل به، فالنهي عن الظّنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مع الانسداد، نظير الأمر بالظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح»(1).

ثمّ أشكل الشّيخ في هذا الجواب، إلى أن قال في ثاني الجوابين: «إنّ خصوصيّة

ص: 176


1- فرائد الأصول 1: 528.

وقد انقدح بذلك؛ أنّه لا وقع للجواب عن الإشكال:

تارةً: بأنّ المنع عن القياس لأجل كونه غالب المخالفة.

وأُخرى: بأنّ العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة.

وذلك لبداهة

___________________________________________

القياس من بين سائر الأمارات هي غلبة مخالفتها للواقع، كما يشهد به قوله(علیه السلام): «إنّ السّنّة إذا قيست محق الدين»(1)،

وقوله: «كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه»(2)، وقوله: «ليس شيء أبعد من عقول الرّجال من دين اللّه»(3)، وغير ذلك...»(4)،

إلى آخر كلامه+.

لكن المصنّف(رحمة الله) لم يرتض هذين الجوابين فقال: {وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من أنّه لا يمكن تخصيص الحكم العقلي بحجيّة الظّنّ في حال الانسداد {أنّه لا وقع للجواب عن الإشكال} بما لا يعود إلى نفي الموضوع {تارة بأنّ المنع عن القياس لأجل كونه غالب المخالفة} للواقع، وهذا هو ثاني الجوابين {وأُخرى بأنّ العمل به} أي: بالقياس {يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة} لأنّه مستلزم للاستغناء عن الحجج^، وهذا هو أوّل الجوابين.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّه لا وقع لهذين الجوابين {لبداهة} أنّ الجوابين يفيدان صحّة النّهي عن القياس، وأنّه إنّما نهى عنه - مع أنّ النّهي مفوّت لمصلحة

ص: 177


1- الكافي 1: 57.
2- وسائل الشيعة 8: 137-138.
3- تفسير العيّاشي 1: 12 و 17، ولفظ الحديث فيه هكذا: «ليس شيء أبعد من عقول الرّجال من القرآن»، وفي بعض الرّوايات: «من تفسير القرآن».
4- فرائد الأصول 1: 529.

أنّه إنّما يُشكل بخروجه - بعد الفراغ عن صحّة المنع عنه في نفسه - بملاحظة حكمالعقل بحجيّة الظّنّ، ولا يكاد يجدي صحّتُه كذلك - في الذبّ عن الإشكال - في صحّته بهذا اللحاظ، فافهم، فإنّه لا يخلو عن دقّة.

___________________________________________

الواقع - لكونه كثير المخالفة أو لكون مفسدته مزاحمة لمصلحة الواقع المحرزة بسببه. أمّا الجواب عن إشكال أنه كيف يمنع عنه في حال الانسداد الّذي يحكم العقل بحجيّة مطلق الظّنّ فيه فليس هذان الجوابان كفيلين به.

وإن شئت قلت: إنّ الإشكال في صحّة النّهي عن القياس من جهتين: من حيث نفسه، ومن حيث منافاته لحكم العقل بحجيّة الظّنّ في حال الانسداد.

وهذان الجوابان إنّما يدفعان الإشكال من الجهة الأُولى، أمّا الجهة الثّانية فلا ربط لهذين الجوابين بها، ف- {إنّه إنّما يشكل بخروجه} أي: خروج القياس {- بعد الفراغ عن صحّة المنع عنه في نفسه - بملاحظة حكم العقل بحجيّة الظّنّ} الجارّ متعلّق بقوله: «يشكل»، يعني بعد ما فرغنا عن أنّ المنع عن القياس في نفسه صحيح نتكلّم في أنّه هل يصحّ المنع في حال الانسداد؟ والجوابان بصدد صحّة المنع في نفسه {ولا يكاد يجدي صحّته} أي: صحّة المنع عنه {كذلك} في نفسه {في الذبّ عن الإشكال في صحّته} أي: صحّة المنع {بهذا اللحاظ} أي: لحاظ حكم العقل في حال الانسداد.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ الجوابين صحيحان حتّى بالنسبة إلى إشكال خروج الظّنّ القياسي عن حكم العقل في حال الانسداد؛ لأنّ العقل إنّما يحكم بحجيّة الظّنّ في حال الانسداد لما يرى من قربه إلى الواقع بدون مفسدة، فإذا استكشف - من نهي الشّارع عن القياس بقول مطلق - عدم قرب القياس إلىالواقع لكثرة الخطأ، أو استكشف وجود مفسدة فيه تزاحم مصلحة الواقع لم يحكم بحجيّته وليس ذلك تخصيصاً بل تخصّصاً، فتفطّن {فإنّه لا يخلو عن دقّة}.

ص: 178

وأمّا ما قيل في جوابه(1)

- من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد، أو منع حصول الظّنّ منه بعد انكشاف حاله، وأنّ ما يفسده أكثرُ ممّا يصلحه - ، ففي غاية الفساد؛ فإنّه - مضافاً إلى كون كلّ واحد من المنعين غيرَ سديد؛ لدعوى الإجماع على عموم المنع، مع إطلاق أدلّته، وعموم علّته،

___________________________________________

وقد ذكر الشّيخ في الرّسائل جوابين آخرين عن إشكال خروج الانسداد:

الأوّل: عدم تسليم خروج القياس، بل الظّنّ القياسي حجّة في حال الانسداد؛ لأنّ الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالقياس مختصّة بصورة الانفتاح.

الثّاني: أنّ القياس لا يوجب الظّنّ، وإن أوجب فهو بدويّ يزول بملاحظة نهي الشّارع عنه.

وفي كلا الجوابين نظر، وإليه أشار المصنّف بقوله: {وأمّا ما قيل} والقائل هو الشّيخ في الرّسائل {في جوابه} أي: جواب إشكال خروج القياس {من منع} أي: إنّا نمنع {عموم المنع عنه} أي: عن القياس {بحال الانسداد} بل المنع خاصّ بحال الانفتاح {أو} نقول في الجواب ب- {منع حصول الظّنّ منه} أي: من القياس {بعد انكشاف حاله} من نهي الشّارع {و} تبيّن {أنّما يفسده أكثر ممّا يصلحه} كما مرّ {ففي غاية الفساد، فإنّه مضافاً إلى كون كلّ واحد من المنعين غير سديد}.

أمّا المنع الأوّل القائل بأنّ أدلّة النّهي عن القياس لا يشمل حال الانسداد ف- {لدعوى الإجماع على عموم المنع} وأنّه لا يجوز مداخلته في الدين {مع إطلاق أدلّته} الشّرعيّة {وعموم علّته} العقليّة، وهي محق الدين وما يفسد أكثر ممّا يصلح، وما نرى بالوجدان من عدم تماثل الأحكام المرتّبة على الموضوعات المتماثلة.

ص: 179


1- ذكره الشيخ الأعظم في فرائد الأصول 1: 517 و 521؛ وراجع قوانين الأصول 1: 448-449، و 2: 112-113.

وشهادةِ الوجدان بحصول الظّنّ منه في بعض الأحيان - لا يكاد يكون في دفع الإشكال - بالقطع بخروج الظّنّ النّاشئ منه - بمفيد، غاية الأمر أنّه لا إشكال مع فرض أحد المنعين، لكنّه غير فرض الإشكال، فتدبّر جيّداً.

فصل: إذا قام ظنّ على عدم حجيّة ظنّ بالخصوص،

___________________________________________

{و} أمّا المنع الثّاني القائل بأنّ القياس لا يفيد الظّنّ فل- {شهادة الوجدان بحصول الظّنّ منه في بعض الأحيان} حتّى مع النّهي الشّرعي عنه، فإنّ النّهي لا يوجب زوال الحالة النّفسيّة، كما لا يخفى {لا يكاد} خبر «إنّ» في قوله: «فإنّه مضافاً» الخ، أي: إنّ كلّ واحد من هذين الجوابين لا يكاد {يكون في دفع الإشكال - بالقطع بخروج الظّنّ النّاشئ منه - بمفيد} خبر «يكون»، فإنّ هذا الجواب فرار عن الإشكال وتسليم للإشكال بالنتيجة؛ لأنّ الجواب - بعد فرض تماميّة مقدّمات الانسداد وخروج الظّنّ القياسي وإيجابالقياس للظنّ - بمنع أحد الأمرين مثل الجواب بمنع مقدّمات الانسداد {غاية الأمر أنّه لا إشكال مع فرض أحد المنعين لكنّه غير فرض الإشكال} والجواب عنه بعد تسليم تمام المقدّمات {فتدبّر جيّداً} وفي المقام أجوبة أُخرى لا داعي إلى نقلها، واللّه العالم.

[فصل الظّنّ المانع والممنوع]

المقصد السّادس: في الأمارات، الظنّ المانع والممنوع

{فصل} في الظّنّ المانع والممنوع {إذا قام ظنّ على عدم حجيّة ظنّ بالخصوص} كأن قام الإجماع على عدم حجيّه الظّنّ الحاصل من الشّهرة، فهل العمل على الظّنّ المانع أو العمل على الظّنّ الممنوع أو يتساقطان أو يلاحظ الأقوائيّة أو المطابق منهما للاحتياط؟ ولا يخفى أنّ المراد ليس الظّنّين الفعليّين لاستحالة ذلك، بل المراد الشّأنيّة فيهما أو في أحدهما، بأن لم يكن ظنّ فعليّ أصلاً أم كان بالنسبة إلى أحدهما.

ص: 180

فالتحقيق أن يقال - بعد تصوّر المنع عن بعض الظّنون في حال الانسداد - : إنّه لا استقلال للعقل بحجيّة ظنّ احتمل المنع عنه، فضلاً عمّا إذا ظنّ - كما أشرنا إليه في الفصل السّابق - ؛ فلا بدّ من الاقتصار على ظنّ قطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن كفى، وإلّا فبضميمة ما لم يظنّ المنع عنه وإن احتمل، مع قطع النّظر عن مقدّمات الانسداد، وإن انسدّ باب هذا الاحتمال معها،

___________________________________________

{فالتحقيق أن يقال}: بسقوط الظّنّ الممنوع عن الحجيّة، إذ {بعد تصوّر المنع عن بعض الظّنون في حال الانسداد} كما تقدّم في باب المنع من القياس وأنّه لا مانع من عدم العملببعض الظّنون وأنّه ليس منافياً لحكم العقل، ولو قلنا بكون النّتيجة على الحكومة {أنّه لا استقلال للعقل بحجيّة ظنّ احتمل المنع عنه} لما تقدّم من أنّ الأدلّة العقليّة لا مجال لها مع احتمال الخلاف، فإنّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال {فضلاً عمّا إذا ظنّ} بالمنع كما هو مفروض الكلام الآن {كما أشرنا إليه في الفصل السّابق} في توجيه خروج القياس {فلا بدّ من الاقتصار} حينئذٍ {على ظنّ قطع بعدم المنع عنه بالخصوص} أمّا الظّنّ الممنوع قطعاً - بظنّ آخر - أو المحتمل المنع فلا يعمل بهما {فإن كفى} الظّنّ المقطوع بعدم المنع عنه للوفاء بمعظم الفقه فهو {وإلّا} يكف {فبضميمة ما لم يظنّ المنع عنه وإن احتمل} لأنّه أقرب إلى الواقع من الظّنّ الممنوع قطعاً.

ثمّ إنّ مرادنا باحتمال المنع كونه محتملاً {مع قطع النّظر من مقدّمات الانسداد} يعني أنّه لو لم يكن انسداد في البين كان هذا الظّنّ محتمل المنع - لا من باب أصالة عدم جواز العمل بمطلق الظّنّ - بل من باب أنّ فيه خصوصيّة زائدة أوجبت المنع عنه {وإن انسدّ باب هذا الاحتمال} أي: احتمال المنع {معها} أي: مع وجود مقدّمات الانسداد.

وإنّما قيّدنا الظّنّ المحتمل المنع بكون احتمال منعه قبل مقدّمات الانسداد؛

ص: 181

كما لا يخفى؛ وذلك ضرورة أنّه لا احتمال مع الاستقلال حسب الفرض.

___________________________________________

لأنّ الظّنّ المحتمل المنع عنه بعد تماميّة مقدّمات الانسداد حاله حال الظّنّالمقطوع المنع عنه، لما عرفت - في فصل الظّنّ القياسي - من أنّ احتمال المنع كالقطع بالمنع في تخصيص الحكم العقلي بحجيّة مطلق الظّنّ به {كما لا يخفى} على من تأمّل.

{وذلك} الّذي ذكرنا من كون احتمال المنع قبل مقدّمات الانسداد غير ضارّ ل- {ضرورة أنّه لا احتمال} للمنع {مع الاستقلال} للعقل بحجيّة كلّ ظن {حسب الفرض} الّذي ذكرنا من تماميّة مقدّمات الانسداد.

ثمّ إنّه قد اختلف في أنّ مقدّمات الانسداد تنتج حجيّة الظّنّ مطلقاً - سواء في مسائل أُصول الفقه أو المسائل الفرعيّة، فيكون حال الظّنّ بامتناع اجتماع الأمر والنّهي، ووجوب المقدّمة، وعدم حجيّة الاستصحاب إذا كان مثبتاً - مثلاً - حال الظّنّ بكون التسبيحات الأربع تجب ثلاث مرّات، والظّنّ بوجوب الإقامة على الرّجال، والظّنّ بعدم وجوب جلسة الاستراحة - أم لا تنتج إلّا حجيّة الظّنّ في المسائل الفرعيّة فقط أمّا المسائل الأصوليّة، فلا حجيّة للظنّ فيها؟ وقد ذكر هذا المبحث شيخنا المرتضى(رحمة الله) في الرّسائل مفصّلاً، فراجع(1).

وهنا قد يبنى على هذا الاختلاف الفرق - في ما نحن فيه من الظّنّ المانع والممنوع - بين كون الظّنّ المانع من الأصول أم من الفروع وكذا الظّنّ الممنوع، ففي بعضها يقدّم المانع وفي بعضها يقدّم الممنوع.

قال السّيّد الحكيم: «على ما ذكرنا تتفاوت الحال بينهما، إذ بناءً على حجيّة الظّنّ بالأصول فالظنّ الممنوع ممّا يظنّ بعدم حجيّته فلا يجوز العمل عليه، وبناءً على حجيّة الظّنّ في الفروع يكون العمل على الممنوع؛ لأنّه منه دون المانع،

ص: 182


1- فرائد الأصول 1: 541.

ومنه انقدح: أنّه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النّتيجة هي حجيّة الظّنّ في الأصول، أو في الفروع، أو فيهما، فافهم.

فصل: لا فرق - في نتيجة الانسداد - بين الظّنّ بالحكم من أمارة عليه، وبين الظّنّ به من أمارة متعلّقة بألفاظ الآية أو الرّواية، كقول اللغوي في ما يورث الظّنّ بمراد الشّارع من لفظه،

___________________________________________

وبناءً على حجيّة كلّ منهما يجوز العمل بكلّ واحد منهما في نفسه لكن لتمانعهما يتعيّن العمل بالمانع؛ لأنّ المقتضى فيه تنجيزيّ وفي الممنوع تعليقيّ، وذو المقتضى التنجيزي مقدّم على ذي المقتضى التعليقي»(1)،

انتهى.

{و} لكن المصنّف بعد تمهيد ما تقدّم بنى على عدم الفرق، إذ {منه انقدح أنّه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النّتيجة هي حجيّة الظّنّ في الأصول} أي: أُصول الفقه {أو في الفروع أو فيهما} ولعلّه أشار إلى بعض ما تقدّم بقوله: {فافهم} والكلام في المقام طويل، من شاء فليرجع إلى المفصّلات.

[فصل الظّنّ بالحكم وبمقدّماته]

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، الظنّ بالحكم وبمقدّماته

{فصل} في الظّنّ بالحكم وبمقدّماته {لا فرق في نتيجة دليل الانسداد بين الظّنّ بالحكم من أمارة عليه} كأن يظنّ كون الضّربة الواحدة كافية في باب التيمّم من الرّوايات البيانيّة الدالّة على ذلك {وبين الظّنّ به} أي: بالحكم {من أمارة متعلّقة بألفاظ الآية} المتضمّنة للحكم {أو الرّواية} الدالّة عليه {كقول اللغوي في ما يورث الظّنّ بمراد الشّارع من لفظه} كما لو قام قول اللغويعلى أنّ لفظ (الصّعيد) عبارة عن مطلق وجه الأرض ولو كان حجراً أو تراباً ولا يختصّ بالتراب فقط، فإنّه موجب لفهم ذلك من قوله - تعالى - : {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا}(2)، وذلك سبب للظنّ

ص: 183


1- حقائق الأصول 2: 205.
2- سورة النساء، الآية: 43؛ سورة المائدة، الآية: 6.

وهو واضح.

ولا يخفى: أنّ اعتبار ما يورثه لا يختصّ بما إذا كان ممّا ينسدّ فيه باب العلم، فقول أهل اللغة حجّة في ما يورث الظّنّ بالحكم مع الانسداد، ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد.

نعم،

___________________________________________

بالحكم وإنّ مطلق وجه الأرض كاف في التيمّم {وهو واضح} لا يخفى. وإنّما عمّمنا النّتيجة؛ لأنّه لا فرق في نظر العقل الحاكم بحجيّة الظّنّ بين القسمين، فإنّ الظّنّ في حالة الانسداد كالقطع في حالة الانفتاح، فكما لا فرق في الأمرين بالنسبة إلى العلم كذلك لا فرق بينهما بالنسبة إلى الانسداد.

{ولا يخفى أنّ اعتبار ما يورثه} أي: اعتبار السّبب الّذي يورث الظّنّ ممّا يتعلّق بالحكم مطلقاً {لا يختصّ بما إذا كان ممّا ينسدّ فيه باب العلم} أي: ينسدّ في الحكم الشّرعي باب العلم، فإذا انسدّ باب العلم بالأحكام كان كلّ ما يورث الظّنّ بالحكم ابتداءً أو نتيجة حجّة، لما عرفت من العلّة {فقول أهل اللغة حجّة في ما يورث الظّنّ بالحكم مع الانسداد} لباب العلم والعلمي بالأحكام {ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد} أي: في غير هذا المورد، فلو كان الإنسان يتمكّن من العلم بمعاني الألفاظ اللغويّة لم يكن يلزمعليه ذلك في فهم الأحكام من الأدلّة، بل اللّازم هو مجرّد تحصيل الظّنّ.

مثلاً: لو كان بإمكانه مراجعة المتعدّد من اللغات حتّى يحصل العلم بمعنى الصّعيد لم يجب ذلك وكان أوّل مراجعة يوجب الظّنّ بالمعنى كافياً في جواز الاعتماد، وذلك لأنّ انسداد باب العلم في الأحكام كاف في حجيّة الظّنّ بالحكم، وأيّ فرق بين أن يكون الظّنّ بالحكم ابتداءً أو بما يؤول إلى الظّنّ بالحكم؟

{نعم} انسداد باب العلم بالأحكام لا يوجب كفاية الظّنّ باللغة مطلقاً ولو في

ص: 184

لا يكاد يترتّب عليه أثر آخر، من تعيين المراد في وصيّة أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجيّة، إلّا في ما يثبت فيه حجيّةُ مطلق الظّنّ بالخصوص، أو ذاك المخصوص.

___________________________________________

غير باب الأحكام، بل اللّازم في سائر الأُمور المحتاجة إلى اللغة تحصيل العلم بالمعنى اللغوي، فلو أوصى بإعطاء آنيته إلى زيد لزم تحصيل العلم بمعنى الآنية ولا يكفي الظّنّ بمعناها، وإن كفى الظّنّ بمعناها في باب تحريم آنية الذهب والفضّة، وذلك لأنّ انسداد باب العلم بالأحكام موجب لكفاية الظّنّ ولو بالنسبة إلى متعلّق الحكم، وأمّا غير الأحكام فلم ينسدّ باب العلم بالاكتفاء بالظنّ فيه خلاف حكم العقل بوجوب تحصيل العلم.

والحاصل: أنّه {لا يكاد يترتّب عليه} أي: على الظّنّ {أثر آخر} غير الحكم {من تعيين المراد في وصيّة أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجيّة} غير المرتبطة بباب الأحكام، فإنّه لا ملازمة بين حجيّة الظّنّ بالأحكام وحجيّته في سائر الموضوعات الّتي لها آثار عمليّة كباب الوصيّة والإقرار وأوامر الموالي ونواهيهم، فلو أمر المولى بالإتيان ببعض الصّعيد لميكف الظّنّ في معناه لإطاعته، بل يلزم العلم.

فالظنّ بمراد الشّارع حجّة لا الظّنّ بمراد الموصي والمقرّ والمولى {إلّا في ما يثبت فيه حجيّة مطلق الظّنّ بالخصوص} بأن قام دليل عامّ على حجيّة الظّنّ مطلقاً بالنسبة إلى قول اللغوي، كما لو جرت في أقوالهم مقدّمات الانسداد، كأن يقال: إنّا نقطع بتوجّه تكاليف إلينا في أبواب الوصايا والأقارير ونحوهما، وانسداد باب العلم والعلمي بمعاني اللغات والاحتياط موجب للعسر أو الاختلال، ويقبح ترجيح المرجوح على الرّاجح فلا بدّ من كفاية الظّنّ في اللغة.

{أو} يثبت حجيّة {ذاك} الظّنّ {المخصوص} بأن قلنا: إنّ قول اللغوي من

ص: 185

ومثله: الظّنّ الحاصل بحكم شرعيّ كلّيّ من الظّنّ بموضوع خارجيّ، كالظنّ بأنّ راوي الخبر هو: زرارة بن أعين - مثلاً - لا آخر.

___________________________________________

الظّنون الخاصّة - كما ادّعى جماعة في باب ظواهر الألفاظ - لأنّهم من أهل الخبرة وقول أهل الخبرة حجّة مطلقاً ولو لم يورث علماً، فإنّه يكفي حينئذٍ الظّنّ بمعاني الوصايا والأقارير، لكن لا من باب الظّنّ الانسدادي المطلق، بل من باب حجيّة هذا الظّنّ المخصوص، لكونه خارجاً عن الأدلّة النّاهية عن العمل بغير العلم لقيام الدليل على حجيّته كما قام على حجيّة الظّواهر.

والحاصل: أنّ دليل الانسداد في الأحكام يكفي لحجيّة الظّنّ المتعلّق باللغة في باب الحكم لا حجيّته في سائر الأبواب إلّا إذا قام انسداد آخر أو قام دليل خاصّ يقول بحجيّة الظّنّ المتعلّق باللغة.

ولو انعكس الأمر - بأن لم تتمّ مقدّمات الانسداد في باب الأحكام - لا يكفيالظّنّ باللغة المتعلّق بالحكم وإن انسدّ باب العلم في اللغة، بل اللّازم الاحتياط، فلو كان باب العلم بالحكم مفتوحاً يجب تحصيل معنى الصّعيد علماً أو علميّاً، ولا يكفي الظّنّ بمعناه وإن قلنا بحجيّة الظّنّ المطلق في باب اللغة لانسداد باب العلم والعلمي فيها.

{ومثله} أي: مثل الظّنّ الحاصل من قول اللغوي {الظّنّ الحاصل بحكم شرعيّ كلّيّ من الظّنّ بموضوع خارجيّ، كالظنّ بأنّ راوي} هذا {الخبر} المفيد لحكم شرعيّ كلّي {هو زرارة بن أعين} الثقة {مثلاً، لا} زرارة {آخر} غير الثقة، فإنّ جريان مقدّمات الانسداد في باب الأحكام كاف لحجيّة الظّنّ المتعلّق بالرجال وإن لم يكف إلّا العلم في سائر الأبواب، فلو كان زرارة هذا حيّاً واشتبه وظنّ أنّه ابن أعين جاز أخذ الحكم منه ولم يجز الطّلاق عنده ولا الصّلاة خلفه ولا قبول شهادته في الموضوعات، لعدم انسداد باب العلم في هذه الأُمور.

ص: 186

فانقدح: أنّ الظّنون الرّجاليّة مجدية في حال الانسداد، ولو لم يقم دليل على اعتبار قول الرّجالي، لا من باب الشّهادة، ولا من باب الرّواية.

تنبيه: لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات - المتطرّقة إلى مثل السّند أو الدلالة أو جهة الصّدور -

___________________________________________

{فانقدح} بما ذكرنا من كفاية كلّ ظنّ متعلّق بالحكم في حال الانسداد {أنّ الظّنون الرّجاليّة} وهي عبارة عن الظّنّ بكثير من الرّواة أنّهم ثقة أو غير ثقة - كما يعرف ذلك من له أقلّ إلمام بعلمي الدراية والرّجال - {مجدية في حال الانسداد} أي: انسداد باب العلم في الأحكام الشّرعيّة {ولو لم يقم دليل} خاصّ، ولا دليل انسدادصغير خاصّ بباب الرّجال {على اعتبار قول الرّجالي لا من باب الشّهادة} لاعتبار العدد والعدالة في الشّهادة، ومن المعلوم أنّ الغالب عدم اقتران قول الرّجالي بهما {ولا من باب الرّواية} لوضوح أنّ قول الرّجالي إخبار عن الموضوع وليس من الرّواية في شيء حتّى تكفي الوحدة والوثوق وتشمله أدلّة خبر الواحد.

فظهر بذلك أنّ توهّم شمول أدلّة الشّهادة أو أدلّة خبر الواحد لأقوال أهل الرّجال في غير محلّه، بل لو قلنا بالانسداد في الفقه كان قول الرّجالي حجّة لكونه موجباً للظنّ وإلّا احتجنا إلى التماس دليل آخر، فتدبّر فإنّه سيأتي في التنبيه أنّ مادام العلم والعلمي ممكناً لم يتنزّل العقل إلى الظّنّ؛ لأنّها أقوى، فكيف يكتفى بالظنّ في اللغة ونحوها مع إمكان العلم وإن انسدّ باب العلم بالأحكام.

[تنبيه]

{تنبيه} في أنّ التنزّل إلى الظّنّ لا يكون إلّا بعد عدم إمكان العلم والعلمي {لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرّقة إلى مثل السّند} وهو الرّواة النّاقلون للخبر {أو الدلالة} المرتبطة بظهور الخبر في المعنى المراد منه {أو جهة الصّدور} وهي كون الخبر صادراً لبيان الحكم الواقعي أو للتقيّة أو ما

ص: 187

مهما أمكن في الرّواية، وعدم الاقتصار على الظّنّ الحاصل منها، بلا سدّ بابه فيه بالحجّة، من علم أو علمي؛ وذلك لعدم جواز التنزّل في صورة الانسداد إلى الضّعيف، مع التمكّن من القوي، أو ما بحكمه عقلاً، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

أشبه، فإنّ هذه الجهات تحصيلها أوّلاً وبالذات بالعلم أو العلمي، بأن نعلم مثلاًصحّة سند الخبر وظهوره في المعنى المراد وكونه صادراً لبيان حكم اللّه الواقعي {مهما أمكن} فلو انسدّ باب العلم والعلمي في بعضها لا شكّ بأنّه يرجع إلى الظّنّ، على ما عرفت في تقرير مقدّمات الانسداد.

أمّا البعض الآخر الّذي لم ينسدّ باب العلم والعلمي فيه فهل يجوز الرّجوع إلى الظّنّ {في الرّواية} بالنسبة إليه أم يلزم تحصيل العلم والعلمي به؟ كما لو انسدّ باب العلم والعلمي بالنسبة إلى السّند لكن لم ينسدّا بالنسبة إلى الظّهور والدلالة، الأقوى لزوم تحصيل العلم {وعدم الاقتصار على الظّنّ الحاصل منها} أي: من هذه الجهات {بلا سدّ بابه} أي: باب الاحتمال {فيه} أي: في ذلك المظنون من الجهات {بالحجّة من علم أو علمي}.

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم كفاية الظّنّ {لعدم جواز التنزّل في صورة الانسداد إلى الضّعيف} الّذي هو الظّنّ {مع التمكّن من القوي} الّذي هو العلم {أو ما بحكمه} الّذي هو العلمي {عقلاً، فتأمّل جيّداً}.

ومن ذلك تعرف المنافاة بين هذا الكلام وبين ما نفاه سابقاً في الفصل المتقدّم.

ثمّ إنّ مقتضى هذا الحكم العقلي بعدم جواز التنزّل أنّ أيّ مورد أمكن العلم والعلمي ولو كان مورداً واحداً لم يجز التنزّل، فلو انسدّ الباب في الجهات الثلاث في جميع الأخبار لكن جهة واحدة في خبر واحد يمكن تحصيل العلم والعلمي فيها لا يجوز التنزّل إلى الظّنّ في تلك الجهة.

ص: 188

فصل: إنّما الثابت بمقدّمات دليل الانسداد في الأحكام، هو: حجيّة الظّنّ فيها، لا حجيّته في تطبيق المأتي به في الخارج معها، فيتّبع - مثلاً - في وجوبصلاة الجمعة يومها، لا في إتيانها، بل لا بدّ من علم أو علمي بإتيانها، كما لا يخفى.

نعم، ربّما يجري نظير مقدّمات الانسداد في الأحكام، في بعض الموضوعات الخارجيّة،

___________________________________________

[فصل الظّنّ بالفراغ]

المقصد السّادس: في الأمارات، الظّنّ بالفراغ

{فصل} الثابت بمقدّمات الانسداد حجيّة الظّنّ في باب التكليف لا في باب الامتثال، فلو ظنّ الإنسان بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال كان حجّة، أمّا لو شكّ في السّاعة الثّانية من أوّل ليلة من الشّهر هل أنّه أتى بالدّعاء عند الرّؤية أم لا، ثمّ ظنّ بالإتيان لم يكن ظنّه هذا حجّة بل يجب عليه الإتيان حالاً بالدعاء؛ لأنّ مقدّمات الانسداد لم تدلّ على حجيّة الظّنّ بالامتثال، بل لا بدّ وأن يرجع في مقام الامتثال إلى القواعد الخاصّة بهذا المقام من استصحاب وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز وقاعدة الصّحّة وأشباهها.

{إنّما الثّابت بمقدّمات دليل الانسداد في الأحكام هو حجيّة الظّنّ فيها} أي: في الأحكام في مقام الإثبات والاشتغال {لا حجيّته} أي: حجيّة الظّنّ {في تطبيق المأتي به في الخارج معها} أي: مع تلك الأحكام في مقام الفراغ والامتثال، وعلى هذا {فيتّبع} الظّنّ {- مثلاً - في وجوب صلاة الجمعة يومها} أي: يوم الجمعة و{لا} يتّبع الظّنّ في ما لو تردّد {في إتيانها} بعد ظهر يوم الجمعة {بل لا بدّ من علم أو علمي بإتيانها، كما لا يخفى} لأنّ الانسداد إنّما هو في مقام التكليف لا في مقام الامتثال.

{نعم، ربّما يجري نظير مقدّمات الانسداد في الأحكام} الجارّ متعلّق ب-«الانسداد» {في بعضالموضوعات الخارجيّة} الجارّ متعلّق ب- «يجري»، فيثبت به حجيّة الظّنّ في ذلك الموضوع الخارجي، فإنّه - وإن كان من باب الامتثال لا أصل الحكم - لكن حيث يجري شبه المقدّمات فيه ينتج حجيّة الظّنّ، وذلك

ص: 189

من: انسداد باب العلم به غالباً،

___________________________________________

كباب الضّرر الّذي هو موضوع لأحكام شرعيّة كثيرة، كالطهارات الثلاث والصّوم والصّلوات الإعذاريّة والحجّ وغيرها، فإنّ مقدّمات الانسداد لا شكّ في عدم جريانها في الامتثال بهذه التكاليف؛ لأنّه كان من مقدّماته عدم الرّجوع إلى الأصول لمخالفته للعلم الإجمالي كثيراً.

ومن المعلوم أنّ الرّجوع في باب الضّرر إليها لا يلزم منه ذلك، لكن يجري في مثل ذلك شبه مقدّمات الانسداد، كأن يقال: إنّا نعلم بالتكليف في المقام وقد انسدّ علينا باب العلم والعلمي به، فلا ندري هذا الصّوم - مثلاً - ضرري حتّى يحرم أم لا حتّى يجب، نعلم باهتمام الشّارع بحكمه حتّى لا يرضى بإجراء الأصول في كلّ مورد مورد ولا يمكن الاحتياط أو يمكن مع العسر المرفوع شرعاً، وحينئذٍ يدور الأمر بين الظّنّ والشّكّ والوهم، فبضميمة قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح تنتج حجيّة الظّنّ، فنعمل في الصّيام والإفطار حسب ظنّنا بأحد الطّرفين، وهكذا يقال بالنسبة إلى ظنّ الضّرر من استعمال الماء في الطّهارة الحدثيّة والخبثيّة والذهاب إلى الحجّ وسائر موارد مظنون الضّرر.

بل يقال مثل ذلك في باب النّسب بترتيب الآثار على النّسب المظنون، فلو اشترط العلم لزم عدم ترتيب الآثار على كثير من الأنساب المظنونة خصوصاً في بابي الخمس والزكاة وفي باب الرّضاع وفي باب العدالة الّذي يلزم من اشتراط العلم فيه تضييق دائرة الأحكام، إذ كلّ شهادة وقضاء وإمامة وما أشبه مرتّبة علىالعدالة، حتّى لو لم نقل بمقالة من يقول باشتراطها في أخذ الزكاة والنّائب عن الميّت والوصي ومن أشبههم.

والحاصل: أنّ كلّ مورد {من} موارد الامتثال تحقّقت فيه هذه الأُمور:

الأوّل: {انسداد باب العلم} والعلمي {به غالباً}.

ص: 190

واهتمام الشّارع به، بحيث عُلم بعدم الرّضا بمخالفته الواقع، بإجراء الأصول فيه مهما أمكن، وعدمِ وجوب الاحتياط شرعاً، أو عدم إمكانه عقلاً، كما في سائر موارد الضّرر المردّد أمره بين الوجوب والحرمة مثلاً، فلا محيص عن اتّباع الظّنّ حينئذٍ أيضاً،

___________________________________________

{و} الثّاني: {اهتمام الشّارع به بحيث علم بعدم الرّضا بمخالفته الواقع بإجراء الأصول فيه مهما أمكن} إحراز الواقع ولو إحرازاً ظنيّاً.

{و} الثّالث: {عدم وجوب الاحتياط شرعاً} لاستلزامه العسر والحرج، كما في ما كان الوضوء أو الصّلاة عن قيام شاقّاً {أو عدم إمكانه} أي: الاحتياط {عقلاً} كما لو كان الأمر دائراً بين محذورين، كما في ما لو علم بوجوب الصّيام أو حرمته ممّا لا يمكن فيه الاحتياط لدورانه بين المحذورين، و{كما في سائر موارد الضّرر المردّد أمره بين الوجوب والحرمة مثلاً، فلا محيص عن اتّباع الظّنّ حينئذٍ أيضاً} ترجيحاً للراجح على المرجوح.

ولكن ربّما يقال: إنّ اتّباع الظّنّ في هذه الموارد ليس لأجل جريان شبهمقدّمات الانسداد فيه، بل من جهة كون الظّنّ، بل الخوف موضوعاً للحكم، كما يرشد إليه جملة من الأخبار، كقوله(علیه السلام) في باب التيمّم وعدم وجوب الفحص عن الماء: «لا آمره أن يغرّر بنفسه»(1).

ومن المعلوم أنّ الخوف أقلّ مرتبة من الظّنّ، بل يلائم مع الشّكّ، ألا ترى أنّه لو تردّد إناء السّمّ بين عشرة لم يقدم على إحداها العقلاء محتجّين بخوف الضّرر، مع أنّ تسعة احتمالات من عشرة في هذا الإناء الخاصّ تؤيّد عدم كونه سمّاً وهكذا في سائر أبواب الضّرر، والنّسب دلّ الدليل على كفاية الشّهرة فيه والاكتفاء بما دونها خلاف القاعدة، والرّضاع يحكم الأصل فيه لدى الشّكّ ولم يقم دليل على كفاية الظّنّ، بل لم يظهر قائل بها، والعدالة كاف فيها حسن الظّاهر بناءً على التضييق في مفهومها أمّا من يقول

ص: 191


1- الكافي 3: 65.

فافهم.

خاتمة: يذكر فيها أمران استطراداً:

الأوّل: هل الظّنّ كما يتّبع - عند الانسداد عقلاً - في الفروع العمليّة - المطلوب فيها أوّلاً العمل بالجوارح - يتّبع في الأصول الاعتقاديّة - المطلوبُ فيها عملُ الجوانح، من: الاعتقاد به، وعقد القلب عليه،

___________________________________________

بالسعة - كما ذكر في باب التقليد وغيره - فهو في مندوحة عن هذا الإشكال، ولعلّ قوله: {فافهم} إشارة إلى بعض ما ذكرناه.

[خاتمة]

اشارة

{خاتمة} لمبحث الانسداد {يذكر فيها أمران}: الظّنّ في أُصول الدين، والترجيح بالظنّ {استطراداً} وإنّما كان استطراداً لأنّانعقاد بحث الانسداد إنّما هو لحجيّة الظّنّ في باب الأمارات والطّرق - أي: الأحكام الفرعيّة العمليّة - لا في أُصول الدين وباب التراجيح:

[عدم اعتبار الظّنّ في الاعتقادات]

المقصد السّادس: في الأمارات، عدم اعتبار الظّنّ في الاعتقادات

{الأوّل} في حجيّة الظّنّ في أُصول الدين {هل الظّنّ كما يتّبع - عند الانسداد عقلاً -} منصوب بقوله: «يتّبع» {في الفروع العمليّة المطلوب فيها أوّلاً} وبالذات {العمل بالجوارح} أي: البدن بما احتوى من أعضاء {يتّبع في الأصول الاعتقاديّة المطلوب فيها عمل الجوانح} أي: القلب وما في الجوف {من الاعتقاد به} بيان ل-«عمل الجوانح» {وعقد القلب عليه}.

ولا يخفى أنّ الاعتقاد غير عقد القلب، فإنّ الأوّل عبارة عن معرفة الإنسان بشيء والثّاني عبارة عن البناء عليه، وبينهما عموم من وجه، فالمشرك الّذي يعرف الحقّ معتقد للحقّ لكنّه ليس بعاقد قلبه عليه، كما أنّ من يعرف فساد عقيدته

ص: 192

وتحمّله، والانقيادِ له - أو لا؟

الظّاهر: لا؛ فإنّ الأمر الاعتقادي وإن انسدّ باب القطع به،

___________________________________________

الّذي بنى عليه عاقد قلبه وليس بمعتقد، ويجتمعان في المؤمن الّذي يعتقد بالحقّ ويعقد قلبه عليه، كما أنّهما ينتفيان في من لا يعتقد ولا يعقد قلبه على شيء، ويدلّ على الافتراق من ناحية العقيدة قوله - سبحانه - : {وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ}(1)، وقوله - سبحانه - : {يَعۡرِفُونَهُۥكَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمُۘ}(2)، وقوله - تعالى - : {يَعۡرِفُونَ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا}(3)، ولعلّ قوله - سبحانه - : {قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ}(4)، يدلّ على الافتراق من جهة العقيدة، بأنّهم كانوا عقدوا قلوبهم ولكن بدون الاعتقاد.

وكيف كان، فهل الظّنّ يتّبع في ما يكون المطلوب فيه العقيدة به {وتحمّله والانقياد له أو لا} فلا يكفي فيه الظّنّ، بل إن حصل الاعتقاد ولو إجمالاً فهو وإلّا فلا يعتبر الظّنّ أصلاً؟ {الظّاهر لا} فلا يتّبع الظّنّ، وذلك لأنّ من مقدّمات الانسداد عدم إمكان الاحتياط عقلاً أو استلزامه للعسر والحرج المنفيّين شرعاً، والاعتقاد ليس كذلك، إذ يكفي الاعتقاد الإجمالي - بأن يلتزم بأنّه مؤمن بما هو الواقع - وذلك لا يستلزم عسراً، كما أنّه ليس بمستحيل عقلاً {فإنّ الأمر الاعتقادي} الّذي هو أُصول الدين الخمسة التوحيد والعدل والنّبوّة والإمامة والمعاد {وإن انسدّ باب القطع به} كما لو كان في محلّ منقطع عن البشر في مغارة أو منقطع جبل فلا يتمكّن من العلم بأنّ خالق الكون واحد أو اثنان وهل له نبيّ أم

ص: 193


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة البقرة، الآية: 146؛ سورة الأنعام، الآية: 20.
3- سورة النحل، الآية: 83.
4- سورة الحجرات، الآية: 14.

إلّا أنّ باب الاعتقاد إجمالاً - بما هو واقعه - والانقيادِ له وتحمّله غيرُ منسدٍّ. بخلاف العمل بالجوارح، فإنّه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلّا بالاحتياط، والمفروض عدم وجوبه شرعاً، أو عدم جوازه عقلاً، ولا أقرب من العمل على وفق الظّنّ.وبالجملة: لا موجب - مع انسداد باب العلم في الاعتقاديّات - لترتيب الأعمال الجوانحيّة على الظّنّ فيها، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها، فلا يتحمّل إلّا لما هو الواقع، ولا ينقاد إلّا له،

___________________________________________

لا... إلى غير ذلك {إلّا أنّ باب الاعتقاد إجمالاً - بما هو واقعه -} فيعتقد بالخالق كما هو الواقع وبالنبيّ، كما هو الواقع {والانقياد} القلبي {له وتحمّله} عقلاً وذهناً {غير منسدّ} فلا تتمّ مقدّمات الانسداد لتصل النّوبة إلى الظّنّ.

وهذا {بخلاف العمل بالجوارح} في الأحكام العمليّة {فإنّه لا يكاد يعلم مطابقته} أي: المأتي به {مع ما هو واقعه} ومطلوب منه {إلّا بالاحتياط} بالإتيان بجميع الأطراف، إذ لا يكون عمل إجمالي، كما يكون علم إجمالي {والمفروض عدم وجوبه} أي: الاحتياط {شرعاً} لكونه عسراً وحرجاً {أو عدم جوازه عقلاً} لكونه مخلّاً بالنظام، أو عدم إمكانه خارجاً لكونه من دوران الأمر بين المحذورين، كما تقدّم في الشّكّ بين وجوب الصّوم وحرمته {ولا أقرب} إلى الواقع {من العمل على وفق الظّنّ} ولذا يكون الظّنّ حجّة.

{وبالجملة لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديّات لترتيب الأعمال الجوانحيّة على الظّنّ فيها} بأن يعقد قلبه على ما هو المظنون من الأصول الاعتقاديّة، بل لا يجوز؛ لأنّ في الظّنّ خوف الاعتقاد بخلاف الواقع.

بل ربّما يقال: إنّ الآيات النّاهية عن الاعتقاد بغير علم شاملة لصورة الانسداد أيضاً {مع إمكان ترتيبها} أي: الأعمال الجوانحيّة {علىما هو الواقع فيها} بالنحو الإجمالي {فلا} يجوز أن يعتقد و{يتحمّل إلّا لما هو الواقع ولا ينقاد إلّا له} أي: لما

ص: 194

لا لما هو مظنونه. وهذا بخلاف العمليّات، فإنّه لا محيص عن العمل بالظنّ فيها مع مقدّمات الانسداد.

نعم، يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات - لو أمكن - ، من باب وجوب المعرفة لنفسها،

___________________________________________

هو الواقع {لا لما هو مظنونه} أي: مظنون كونه واقعاً {وهذا بخلاف العمليّات} أي: الأحكام المرتبطة بالعمل {فإنّه لا محيص عن العمل بالظنّ فيها مع} تماميّة {مقدّمات الانسداد}.

لا يقال: إذا كان الاعتقاد بالواقع بما هو واقع كافٍ في الأمن من الضّرر - الّذي هو مبنى حكم العقل بوجوب المعرفة - فالاعتقاد الإجمالي حتّى في صورة إمكان تحصيل العلم التفصيلي كافٍ في امتثال الحكم العقلي بوجوب المعرفة ويكون مؤمناً من الضّرر، فما وجه ما ذكره العلماء من وجوب تحصيل العلم بالمعارف تفصيلاً؟

لأنّا نقول: ليس الأمر كذلك، بل المعرفة واجبة عقلاً وإنّما يكون الاكتفاء بالإجمال في صورة تعذّر التفصيل، وإلى هذا أشار بقوله: {نعم، يجب تحصيل العلم} التفصيلي {في بعض الاعتقادات لو أمكن} تحصيل العلم التفصيلي {من باب وجوب المعرفة لنفسها} إما من جهة وجوب شكر المنعم، وذلك لا يتأتّى إلّا بعد المعرفة التفصيليّة، فإنّ الشّكر يجب أن يكون قابلاً للمنعم، وعرفان ذلك لا يكون إلّابمعرفة المنعم تفصيلاً.

ألا ترى إن جاءه ضيف وعرف أنّه إنسان محترم يجب إكرامه لا يكفي هذا العلم الإجمالي في اكتفاء العقل، إذ من المحتمل أن يكون هذا المحترم إنساناً زاهداً فيكون احترامه بتهيئة القرآن وكتب الدعاء له، وقد يكون إنساناً جائعاً فيكون احترامه بتهيئة الطّعام له، وقد يكون عالماً فيكون بتهيئة كتب العلم له وهكذا، فإنّ

ص: 195

كمعرفة الواجب - تعالى - وصفاته، أداءً لشكر بعض نعمائه، ومعرفة أنبيائه؛ فإنّهم وسائط نعمه وآلائه،

___________________________________________

الاحترام يلزم أن يكون لائقاً بمن يراد احترامه، وكذلك الشّكر يلزم أن يكون لائقاً بالمشكور، وهذا يتوقّف على معرفته التفصيليّة.

والحاصل: أنّ المعرفة واجبة لوجوب الشّكر عقلاً، والشّكر لا يتأتّى إلّا بعد المعرفة التفصيليّة.

هذا لو قلنا بأنّ حكم العقل بوجوب المعرفة مستند إلى وجوب شكر المنعم، ولو قلنا بأنّه مستند إلى الأمن من الضّرر فكذلك أيضاً، إذ العقل لا يؤمن من لا يعرف تفصيلاً لإيجابه معرفته التفصيليّة حتّى يتجنّب مواضع سخطه، فإنّ المعرفة الإجماليّة بما يحتمل ضرره لا يكفي في تجنّب الضّرر.

والظّاهر أنّ وجوب شكر المنعم كما هو عقليّ كذلك هو فطريّ، وكذلك بالنسبة إلى وجوب دفع الضّرر المحتمل فلا يلزم من كونهما فطريّين عدم كونهما عقليّين كما قيل، كما أنّه لا بأس بالقول بكون المعرفة واجبة شرعاً أيضاً، ولكن ذلك - لا كما يقول الأشاعرة - على شرط استقلال العقل أوّلاً بأصلها.

وعلى أيّ حال لا شكّ في أنّ المعارف واجبة نفسيّاً {كمعرفة الواجب - تعالى - و} معرفة {صفاته} في الجملة ممّايرجع إلى معرفته كمعرفة أنّه واحد وقديم وعالم وقادر لا جميع الصّفات، إذ لم يدلّ دليل عقليّ ولا نقليّ على وجوب معرفة صفاته جميعها. وإنّما نقول بوجوب المعرفة لما أشرنا إليه {أداءً لشكر بعض نعمائه} فإنّ أداء شكر جميع النّعم غير ميسّر، فإنّ لكلّ شكر شكراً، والعقل إنّما يوجب أداء ما تمكّن الإنسان من شكره لا شكر ما هو أهله وإن لم يتمكّن.

{و} كذا يجب {معرفة أنبيائه} في الجملة وإن لم يعرفهم تفصيلاً {فإنّهم وسائط نعمه وآلائه} إذ بهم هُدِيَ النّاسُ إلى الحقّ وإلى صراط مستقيم، والعقل

ص: 196

بل وكذا معرفة الإمام(علیه السلام) على وجه صحيح؛ فالعقل يستقلّ بوجوب معرفة النّبيّ ووصيّه؛ لذلك،

___________________________________________

كما يوجب معرفه المنعم يوجب معرفة الواسطة. وإنّما قلنا: «في الجملة» لبداهة عدم وجوب معرفه جميع الأنبياء، بل لولا الدليل لأمكن القول بعدم وجوب معرفة ما سوى نبيّ الإسلام بالنسبة إلينا.

{بل وكذا} يجب عقلاً {معرفة الإمام(علیه السلام) على وجه صحيح} وبيّنه المصنّف في تعليقه بقوله: «وهو كون الإمامة كالنبوّة منصباً إلهيّاً يحتاج إلى تعيينه - تعالى - ونصبه، لا أنّها من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين، وهو الوجه الآخر»(1)، انتهى.

الّذي يقول به العامّة خلافاً للوجه الأكمل الّذي يقول به الخاصّة في رواية سليم بن قيس عن أميرالمؤمنين(علیه السلام) قال: «إنّ أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أن يعرّفه اللّه - تبارك وتعالى - نفسه فيقرّ له بالطاعة، ويعرّفه نبيّه فيقرّ لهبالنبوّة، ويعرّفه إمامه وحجّته في أرضه وشاهده على خلقه فيقرّ له بالطاعة»، فقلت: يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلّا ما وصفت؟ قال: «نعم، إذا أُمر أطاع، وإذا نُهي انتهى»(2).

ويدلّ عليه أيضاً قوله - تعالى - : {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(3)، فإنّ إطاعة أُولي الأمر لا تكون إلّا بعد المعرفة، وكذا الحديث المشهور: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهليّة»(4)،

إلى غير ذلك.

{فالعقل يستقلّ بوجوب معرفة النّبي ووصيّه لذلك} الّذي ذكرنا من وجوب أداء

ص: 197


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 505.
2- بحار الأنوار 66: 17؛ إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات 1: 121.
3- سورة النساء، الآية: 59.
4- وسائل الشيعة 16: 246؛ بحار الأنوار 51: 160؛ كمال الدين وتمام النعمة 2: 409؛ إعلام الورى 2: 253.

ولاحتمال الضّرر في تركه.

ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر إلّا ما وجب شرعاً معرفته، كمعرفة الإمام(علیه السلام) على وجه آخر غير صحيح،

___________________________________________

شكر المنعم ووسائطه، فإنّه على تقدير كون الإمام منصوباً من قبل اللّه تعالى، - كما هو المذهب - يكون داخلاً في كونه واسطة، منتهى الأمر أنّ وساطة النّبيّ ابتدائيّ ووساطة الإمام ثانوي.

{ولاحتمال الضّرر في تركه} ودفع الضّرر المحتمل واجب عقلاً ولا مؤمن يدفع هذا الاحتمال، كما لا يخفى.

أمّا معرفة العدل فهو من شئون التوحيد، وإنّما جعل أصلاً برأسه في قبال منأنكرها فقال: لو أدخل اللّه الأنبياء النّار بعد طول عبادتهم وإطاعتهم وأدخل الفجّار جنّة عرضها السّماوات والأرض بعد طول كفرهم وفجورهم كان عدلاً، كما بيّن ذلك مع جوابه مفصّلاً في الكلام. وأمّا المعاد فهو ممّا يجب الاعتقاد به نقلاً لا عقلاً، وربّما يقال بوجوبه عقلاً؛ لأنّه من لوازم العدل، فالقول بالعدل يستلزمه. وتفصيل الكلام في كتب الكلام، فراجع.

{ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر إلّا ما وجب شرعاً معرفته} فإنّ العقل يوجبه حينئذٍ لا أصالة بل من باب الامتثال والإطاعة، كما يوجب سائر أنحاء الامتثال والإطاعة {كمعرفة الإمام(علیه السلام) على وجه آخر غير صحيح} وهو الوجه الّذي اختاره العامّة من عدم كون الإمامة من المناصب الإلهيّة، وإنّما هو أمر يجب على المسلمين مقدّمة لإقامة الحدود وتأمين البلاد وتقويم العباد.

وفي قصّة ظريفة أنّ أحد علماء العامّة قال لتلاميذه: إنّي ظفرت بحديث فإن أجبتموني وإلّا تركت هذا المسلك، وهو قوله(صلی الله علیه و آله): «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهليّة»، فمن هو إمام هذا الزّمان بعد موت الخلفاء؟ فإن قلتم

ص: 198

أو أمر آخر ممّا دلّ الشّرع على وجوب معرفته.

وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص - لا من العقل ولا من النّقل - كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة.

و

___________________________________________

هو الحاكم للبلاد في هذا الوقت، فكيف يمكن أن يوجب اللّه - تعالى - عَلَيّ معرفته وأنا كما تعلمون مقامي في العلم والدين، وهو كما تعلمون مقامه في الابتعاد عنهما؟ فلا يخلو الأمر: من أن يكون الرّسول(صلی الله علیه و آله) غيرقائل بالحقّ - والعياذ باللّه - أو أن يكون اللّه أوجب معرفة الجاهل على العالم ولا يكون ذلك، أو أن نموت نحن موت الجاهليّين ولا نريد ذلك، أو أن يكون كلام الشّيعة صدقاً. ولمّا لم يعرف التلاميذ الجواب، وكان الحديث صحيحاً بلا ارتياب، ولم تصحّ الشّقوق الأُخر من مانعة الخلوّ، تشيّع واعتنق مذهب آل البيت^.

{أو} معرفة {أمر آخر} عطف على قوله: «كمعرفة الإمام» أي: لا يجب عقلاً بعد معرفة اللّه والنّبيّ والإمام إلّا بعض الأُمور {ممّا دلّ الشّرع على وجوب معرفته} فإنّه واجب حينئذٍ عقلاً لكونه إطاعة وامتثالاً {وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص لا من العقل ولا من النّقل} كخصوصيّات صفات اللّه سبحانه - ككون علمه من صفات الذات لا من صفات الفعل - ، وصفات النّبيّ والإمام - ككونهم لا ينام قلوبهم وإنّما تنام عيونهم - ، وخصوصيّات القبر والقيامة والجنّة والنّار - ككون اسم الملك الّذي يدخل القبر (رومان)، ونزول الشّمس إلى سمت الرّؤوس بمقدار رمح، وإنّ باب الصّبر للجنّة أضيق الأبواب، وإنّ عقارب جهنّم كالبغال - {كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة} بالإضافة إلى الأدلّة الشّرعيّة الدالّة على عدم وجوب معرفة هذه الأشياء، كما تقدّم في حديث ابن قيس.

{و} ربّما توهّم وجوب معرفة ما جاء به النّبيّ(صلی الله علیه و آله) مطلقاً من الأُمور الأصوليّة

ص: 199

لا دلالة لمثل قوله - تعالى - : {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ}(1) الآية، ولا لقوله(صلی الله علیه و آله):«وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلوات الخمس»(2)،

ولا لما دلّ على وجوب التفقّه وطلب العلم - من الآيات والرّوايات - على وجوب معرفته بالعموم.

___________________________________________

والفرعيّة، واستدلّ لذلك بجملة من الآيات والرّوايات، وبعد ما بيّن المصنّف(رحمة الله) مقتضى الأصل توجّه إلى ردّ دليل أُولئك فقال: و{لا دلالة لمثل قوله - تعالى - : {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ} الآية} وتمامها {إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} {ولا لقوله(صلی الله علیه و آله): «وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلوات الخمس»} فإنّ الآية تدلّ على وجوب المعرفة بناءً على ما فسّر قوله - تعالى - : «ليعبدون» ب- «ليعرفون» وكذا الحديث، فإنّ وجوب الصّلوات الخمس المتأخّرة في الرّتبة يدلّ على وجوب المعرفة المتقدّمة في الرّتبة، وحيث حذف متعلّق المعرفة في الآية والرّواية لزم القول بكونه عامّاً، لما تقرّر في البلاغة من أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم.

{و} كذا {لا} دلالة {لما دلّ على وجوب النّفقة وطلب العلم من الآيات والرّوايات} كقوله - تعالى - : {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ}(3)، ممّا دلّ على وجوب معرفة المنذرين والمنذرين، وما ورد في الحديث: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»(4)، و «ليت السّياط علىرؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا»(5)،

و «اطلبوا العلم ولو بالصين»(6) وغيرها، فإنّه لا دلالة بأيّ شيء منها {على وجوب معرفته} أي: معرفة غير ما ذكر من معرفة اللّه والنّبيّ والإمام {بالعموم} أي: عموم

ص: 200


1- سورة الذاريات، الآية: 56.
2- الكافي 3: 264، باختلاف يسير عن الإمام الصادق×.
3- سورة التوبة، الآية: 122.
4- بحار الأنوار 1: 177؛ غوالي اللئالي 40: 70؛ مستدرك الوسائل 17: 249.
5- المحاسن 1: 229.
6- روضة الواعظين 1: 11؛ وسائل الشيعة 27: 27.

ضرورة أنّ المراد من {لِيَعۡبُدُونِ} هو خصوص عبادة اللّه ومعرفته. والنّبوي إنّما هو بصدد بيان فضيلة الصّلوات، لا بيان حكم المعرفة، فلا إطلاق فيه أصلاً. ومثل آية النّفر إنّما هو بصدد بيان الطّريق المتوسّل به إلى التفقّه الواجب،

___________________________________________

هذه الآيات والرّوايات لا تدلّ على وجوب معرفة مطلق ما جاء به النّبيّ {ضرورة أنّ المراد من {لِيَعۡبُدُونِ}} في الآية {هو خصوص عبادة اللّه} وما ذكر من تفسيره ب-«ليعرفون» لم نجده في رواية، بل ذكره بعض التفاسير ولا حجيّة فيه، فالآية لا ترتبط بنا أصلاً.

وقوله(رحمة الله): {ومعرفته} إنّما هو على تقدير صحّة ذلك، أي: إنّه لو صحّ التفسير المذكور كان المراد خصوص معرفته - تعالى - لا معرفة كلّ شيء، والمتعلّق - وإن كان محذوفاً - إلّا أنّ القرينة تدلّ عليه فلا عموم.

{والنّبوي} أي: قوله: «وما أعلم شيئاً...» {إنّما هو بصدد بيان فضيلة الصّلوات لا بيان حكم المعرفة فلا إطلاق فيه أصلاً} كما لا يخفى، فإنّ من مقدّمات الإطلاق أن يكون المولى في صدد البيان من تلك الجهة، فلو لم يكن في صدد البيان بالنسبة إليها وإن كان في صدد البيان من سائر النّواحي لم يفد في الإطلاق، ولذا ردّواتمسّك الشّيخ بإطلاق {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(1) على حليّة موضع العضّ، لعدم كون المطلق في صدد البيان من هذه الجهة.

{ومثل آية النّفر} وهي قوله - تعالى - : {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}(2) كما تقدّمت الإشارة إليها {إنّما هو بصدد بيان الطّريق المتوسّل به إلى التفقّه الواجب} وأنّه بالنفر ثمّ الإنذار، كما لو قال: (اذهب إلى بغداد وحصل المال وارجع إلى أهلك) حيث

ص: 201


1- سورة المائدة، الآية: 4.
2- سورة التوبة، الآية: 122.

لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته، كما لا يخفى. وكذا ما دلّ على وجوب طلب العلم، إنّما هو بصدد الحثّ على طلبه، لا بصدد بيان ما يجب العلم به.

ثمّ إنّه لا يجوز الاكتفاء بالظنّ في ما يجب معرفته عقلاً أو شرعاً؛ حيث إنّه ليس بمعرفة قطعاً، فلا بدّ من تحصيل العلم لو أمكن. ومع العجز عنه كان المكلّف معذوراً إن كان عن قصور؛ لغفلة، أو لغموضة المطلب مع قلّة الاستعداد،

___________________________________________

إنّه يريد إراءة الطّريق لتحصيل المال، وليس للحال إطلاق يتمسّك به {لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته} حتّى يقال: إنّ المتعلّق لمّا حذف أفاد العموم، فيجب تفقّه كلّ شيء ممّا جاء به النّبيّ(صلی الله علیه و آله) {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{وكذا} لا إطلاق ل- {ما دلّ على وجوب طلبالعلم} من الرّوايات المتقدّمة وغيرها، بل {إنّما هو بصدد الحثّ على طلبه لا بصدد بيان ما يجب العلم به}.

وحيث أتمّ الكلام حول عدم كفاية الظّنّ الانسدادي في أُصول الدين شرع في بيان عدم كفاية الظّنّ مطلقا ولو كان دليله غير الانسداد في الأصول، فقال: {ثمّ إنّه لا يجوز الاكتفاء بالظنّ في ما يجب معرفته عقلاً} كالأصول الخمسة {أو شرعاً} كما عرفت من وجوب معرفة بعض الشّؤون المتعلّقة بالآخرة، كالقبر في الجملة ونحوه. وإنّما قلنا بعدم كفاية الظّنّ {حيث إنّه ليس بمعرفة قطعاً} وقد كان المفروض وجوب المعرفة {فلا بدّ من تحصيل العلم لو أمكن} تحصيله {ومع العجز عنه} أي: عن العلم لم يتنزّل إلى الظّنّ؛ لأنّ الكشف النّاقص في الظّنّ ما لم يعتبر عقلاً أو شرعاً، كان كلا كشف، وحينئذٍ {كان المكلّف معذوراً إن كان} عجزه عن العلم {عن قصور لغفلة} عن وجوب تحصيل العلم {أو لغموضة المطلب} كمبحث أنّ اللّه - سبحانه - ليس له زمان ولا مكان ولا جهة ولا أبعاد {مع قلّة الاستعداد} من غالب النّاس، فإنّ فهم ذلك حقيقة يحتاج إلى تعمّق واطّلاع وسيعين وإلّا لا يكاد يأتي في ذهن النّاس أنّ الأيّام والشّهور والأعوام

ص: 202

كما هو المشاهد في كثير من النّساء بل الرّجال. بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد، ولو لأجل حبّ طريقة الآباء والأجداد، واتّباع سيرة السّلف، فإنّه كالجبلي للخلف وقلّما عنه تخلّف.

___________________________________________

كيف لا تمرّ على اللّه - سبحانه - وأنّه كيف يمكن شيء لا مكان له، وهكذا{كما هو المشاهد في كثير من النّساء} والأطفال أوائل البلوغ {بل الرّجال}.

ففي رواية إسماعيل قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن الدين الّذي لا يسع العباد جهله؟ فقال: «الدين واسع وإنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهلهم»، فقلت: جعلت فداك أما أُحدّثك بديني الّذي أنا عليه؟ فقال: «بلى». قلت: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند اللّه، وأتولّاكم، وأبرأ من عدوّكم ومن ركب رقابكم وتأمّر عليكم وظلمكم حقّكم. فقال: «ما جهلت - تركت خ ل - شيئاً». فقال: «هو واللّه الّذي نحن عليه». قلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ قال: «لا إلّا المستضعفين». قلت: من هم؟ قال: «نساؤكم وأولادكم». قال: «أرأيت أم أُمّ أيمن؟ فإنّي أشهد أنّها من أهل الجنّة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه»(1).

{بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد ولو} كان تقصيره {لأجل حبّ طريقة الآباء والأجداد واتّباع سيرة السّلف، فإنّه كالجبلي للخلف} ولذا كانوا يقولون: {إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ}(2) {وقلّما عنه تخلّف} كما نرى من النّادر أن يترك بعض النّاس دين آبائه ويعتنق ديناً آخر، إلّا إذا حكمت القوّة كما في أندلس أو انفصلت الأبناء عن الآباء وسيطرت عليهم تقاليد وآراء، كما نرى من اعتناق كثير من شباب المدارس مبادئ مستوردة.

ص: 203


1- الكافي 2: 405.
2- سورة الزخرف، الآية: 23.

___________________________________________

ثمّ إنّه قد اختلف في أنّه هل يمكن وجود القاصر أم لا؟ فذهب جمع إلى الأوّل ومنهم المصنّف، وقد عرفت بعض الأدلّة المؤيّدة له، وذهب آخرون إلى عدم إمكان ذلك عقلاً وشرعاً:

أمّا عقلاً فلأنّ أحداً لا يخلو من أن يفكّر ولو مرّة في عمره في أنّ طريقته حقّ أو باطل، وهذا هو إلقاء الحجّة عليه، فلو لم يتّبع وكانت طريقته باطله كان معاقباً، فكلّ إنسان مقصّر في عدم اتّباع الحقّ.

وأمّا شرعاً فلما دلّ على انحصار النّاس في المؤمن والكافر كقوله - تعالى - : {فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ}(1)، وقوله: {إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا}(2)، وقوله: {وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ}(3)، بضميمة ما دلّ على أنّ الكفّار مخلّدون في النّار ولا يكون ذلك إلّا عن تقصير، ولمّا دلّ على أنّ اللّه - تعالى - أتمّ الحجّة كقوله - تعالى - : {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ}(4)، ولمّا دلّ على أنّ من جاهد هدي إلى الحقّ بضميمة أنّ الجهاد أمر مقدور اختياري كقوله - تعالى - : {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ}(5)، إلى غير ذلك ممّا لا مجال لذكره.

لكن الجواب عن ذلك: أمّا عن الدليل العقلي فنقول: مجرّد تفكّر أنّ الطّريق حقّ أو باطل لا يوجب إتمام الحجّة بعد ارتكاز الذهن بحقيّة الطّريقة المتّبعة، وإلّا فحتّى المؤمن الموحّد الّذي أثبت كلّ شيء بالأدلّة والبراهين القطعيّةقد

ص: 204


1- سورة التغابن، الآية: 2.
2- سورة الإنسان، الآية: 3.
3- سورة البلد، الآية: 10.
4- سورة النساء، الآية: 165.
5- سورة العنكبوت، الآية: 69.

والمراد من المجاهدة - في قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ} - هو: المجاهدة مع النّفس، بتخليتها من الرّذائل، وتحليتها بالفضائل - وهي الّتي كانت أكبر من الجهاد - ،

___________________________________________

يفكّر في أنّ طريقه حقّ أم لا.

والحاصل: أنّ إتمام الحجّة ليس بمجرّد تفكير عابر، فإنّه لم يقم دليل شرعي أو عقلي إنّه إتمام لها.

وأمّا عن الأدلّة النّقليّة فآيات الحصر لا بدّ من القول بكونها نازلة منزلة الغالب من بيان حال الأفراد الّذين شملتهم الدعوة، كمعاصري النّبي(صلی الله علیه و آله) بمكّة والمدينة، وذلك لما دلّ من مستفيض الأخبار على ثبوت الواسطة، وفي بعض الرّوايات امتحان بعض المستضعفين في الآخرة، كما هو مذكور مفصّلاً في البحار(1) وحقّ اليقين(2)

- للسيّد الشّبّر - وغيرهما، والمراد من آية إتمام الحجّة بالنسبة إلى مثل أُولئك أيضاً لا كلّ من في الأرض، لما دلّ من العقل والنّقل على أنّ من بين الرّسولين لا تكون الحجّة تامّة عليه، كما يرشد إليه قوله - تعالى - : {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ}(3).

{والمراد من المجاهدة في قوله - تعالى - {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ}(4) هو المجاهدة مع النّفس بتخليتها من الرّذائل}كالكبر والغرور والجبن والبخل وما أشبه {وتحليتها بالفضائل} كالتواضع والعفّة والسّخاء والشّجاعة وما أشبهها {وهي الّتي كانت أكبر من الجهاد} مع الأعداء، كما في حديث أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قال لأصحابه - بعد رجوعهم من محاربة المشركين - : «قد بقي عليكم الجهاد

ص: 205


1- بحار الأنوار 5: 288.
2- حق اليقين في معرفة أصول الدين 2: 104.
3- سورة المائدة، الآية: 19.
4- سورة العنكبوت، الآية: 69.

لا النّظر والاجتهاد، وإلّا لأدّى إلى الهداية، مع أنّه يؤدّي إلى الضّلالة والجهالة، إلّا إذا كانت هناك منه - تعالى - عناية؛

___________________________________________

الأكبر». قالوا: وما هو يا رسول اللّه؟ قال: «الجهاد مع النفس»(1)، وفي حديث آخر: «إنّ أعدى عدوّك نفسك الّتي بين جنبيك»(2).

ولو قلنا إنّ المراد بالجهاد أعمّ من الجهاد في باب أُصول الدين ليتفقّه أو في باب تزكية النّفس لتتصفّى، فلا ربط للآية بالمقام؛ لأنّها لم تدلّ على أنّ كلّ أحد يتمكّن من الجهاد الّذي هو محلّ الكلام، فالآية مثل قولنا: (كلّ من اشترى بستاناً ربح) فإنّه لا يدلّ على أنّ كلّ أحد يتمكّن من اشتراء البستان.

أمّا ما ذكره المصنّف في وجه عدم التعميم بقوله: {لا النّظر والاجتهاد وإلّا لأدّى إلى الهداية مع أنّه} كثيراً ما {يؤدّي إلى الضّلالة والجهالة} كما نرى بالنسبة إلى كثير من الفلاسفة الّتي تؤدّي فلسفتهم إلى الانحراف، ففيه ما أشار إليه السّيّد الحكيم بقوله: «هذا إنّما يتوجّه لو أُريد مطلق النّظر والاجتهاد، وهو خلاف ظاهر الظّرف «فينا»، فإنّ المجاهدة في اللّه إنّما تكون بقصد الوصول إليه والفوز بمعرفته»(3)،انتهى.

والحاصل: الجهاد في اللّه - كما في الآية - ليس عبارة عن الاجتهاد فقط حتّى يؤدّي إلى الضّلالة تارة وإلى الهداية أُخرى، بل المراد الاجتهاد الّذي يكون مقصده المعارف الإلهيّة بدون هوى وعمى، وذلك لا بدّ وأن ينتهي إلى المعرفة؛ لأنّ الأدلّة كافية - بل فوق الكفاية - للإرشاد والإيصال، كيف:

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

وبهذا تحقّق أنّ النّظر ليس دائماً يؤدّي إلى الهداية {إلّا إذا كانت هناك منه - تعالى - عناية} فإنّ العناية لا شكّ وأنّها موجودة بالنسبة إلى كلّ من اجتهد بقصد

ص: 206


1- الكافي 5: 12.
2- بحار الأنوار 70: 64.
3- حقائق الأصول 2: 215.

فإنّه غالباً بصدد إثبات أنّ ما وجد آباءه عليه هو الحقّ، لا بصدد الحقّ، فيكون مقصّراً مع اجتهاده، ومؤاخذاً إذا أخطأ على قطعه واعتقاده.

ثمّ لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظّنّ مع اليأس عن تحصيل العلم، في ما يجب تحصيله عقلاً لو أمكن، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه، بل بعدم جوازه؛

___________________________________________

الوصول إلى الحقّ وكان نظره صرف ذلك {فإنّه} يوفّق للطريق ويهتدى للسبيل.

أمّا كثير من الأفراد الّذين هم {غالباً بصدد إثبات أنّ ما وجد آباءه عليه هو الحقّ لا بصدد الحقّ} فإنّهم لا يجاهدون في اللّه، بل يجاهدون في تقليد الآباء، وهو خلاف فرض الآية.

وقد قيل لأحد الأعلام: كيف صار الفخر الرّازي - مع شدّة تدقيقه وتشكيكه -سنيّاً ولم يتنبّه للحقّ؟ قال: لم يصر الفخر سنيّاً وإنّما صار السّنيّ فخراً، يشير بذلك إلى أنّه تربّى في السّنيّة ثمّ التمس الدليل على تسنّنه، لا أنّه كان عالماً لا اتجاهيّاً ففحص للظفر على الحقّ وحده فظفر على التسنّن فاعتنقه {ف-} إنّ مثل هذا الشّخص {يكون مقصّراً مع اجتهاده ومؤاخذاً إذا أخطأ على قطعه واعتقاده} لأنّه قصّر في المقدّمات، ولا فرق في العقاب والمؤاخذة بين التقصير في المقدّمات وبين التقصير في النّتائج.

{ثمّ لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظّنّ مع اليأس عن تحصيل العلم في ما يجب تحصيله} أي: تحصيل العلم فيه {عقلاً لو أمكن} لما أشرنا إليه من أنّه لا كشف للظنّ وكشفه النّاقص مثل عدمه، واحتمال أنّه من مراتب العلم فوجوبه مع العجز عن تحصيل العلم بعين مناط وجوب تحصيل العلم في غير محلّه، إذ العقلاء لا يشكّون في أنّه لو قال المولى: (حَصِّلِ العلم) فلم يتمكّن من تحصيله انتفى الموضوع، وليس الظّنّ من مراتب العلم قطعاً {لو لم نقل باستقلاله} أي: العقل {بعدم وجوبه، بل بعدم جوازه} لأنّ محذور عدم الاعتقاد بخلاف الحقّ

ص: 207

لما أشرنا إليه: من أنّ الأُمور الاعتقاديّة - مع عدم القطع بها - أمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد لها، فلا إلجاء فيها أصلاً إلى التنزّل إلى الظّنّ في ما انسدّ فيه باب العلم، بخلاف الفروع العمليّة، كما لا يخفى.

وكذلك لا دلالة من النّقل على وجوبه في ما يجب معرفته مع الإمكان شرعاً، بل الأدلّة الدالّة على النّهي عن اتّباع الظّنّ دليل على عدم جوازه

___________________________________________

أكثر من محذور عدم الاعتقاد لا بالحقّ ولا بعدمه.

والحاصل: أنّه مع اتّباع الظّنّ يحتمل الاعتقاد بالحقّ والاعتقاد بخلاف الحقّ، وهذا محذوره لدى العقل أكثر من محذور عدم الاعتقاد المطلق.

هذا في ما لا يمكن الاعتقاد الإجمالي لعدم التفات إليه أو نحوه، أمّا لو أمكن فلا إشكال في عدم جواز التنزّل إلى الظّنّ بعد عدم إمكان العلم {لما أشرنا إليه من أنّ الأُمور الاعتقاديّة مع عدم} إمكان {القطع بها} تفصيلاً {أمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد لها} إجمالاً {فلا إلجاء فيها أصلاً إلى التنزّل إلى الظّنّ في ما انسدّ فيه باب العلم} فتكون المراتب - حتّى لو قلنا بوصول النّوبة إلى الظّنّ - علم تفصيلي ثمّ علم إجمالي ثمّ ظنّ تفصيلي ثمّ ظنّ إجمالي، أمّا التنزّل من العلم التفصيلي إلى الظّنّ التفصيلي فلا {بخلاف الفروع العمليّة} الّتي ليس بين العلم التفصيلي وبين الظّنّ فيها واسطة {كما لا يخفى} إذ لا يمكن الاحتياط أو لا يجب، كما عرفت في مقدّمات دليل الانسداد من كونه موجباً للعسر أو مخلّاً بالنظام.

{وكذلك لا دلالة من النّقل على وجوبه} أي: وجوب تحصيل الظّنّ بالعقائد إذا لم يتمكّن من العلم {في ما يجب معرفته مع الإمكان شرعاً} أي: في ما يجب شرعاً معرفته في صورة الإمكان {بل الأدلّة الدالّة على النّهي عن اتّباع الظّنّ} كقوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(1) {دليلعلى عدم جوازه} أي: جواز

ص: 208


1- سورة يونس، الآية: 36.

أيضاً.

وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا: أنّ القاصر يكون - في الاعتقاديّات - للغفلة، أو عدم الاستعداد للاجتهاد فيها، لعدم وضوح الأمر فيها، بمثابة لا يكون الجهل بها إلّا عن تقصير، كما لا يخفى، فيكون معذوراً عقلاً.

___________________________________________

اتّباع الظّنّ {أيضاً} كما لا يجب، والقول باختصاص النّهي بحال التمكّن من تحصيل العلم غير تامّ؛ لأنّ العلّة في الآية غير قابلة للتخصيص، كما لا يخفى.

{وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا} بقولنا: «كان معذوراً إن كان عن قصور الغفلة» الخ {إنّ القاصر يكون في الاعتقاديّات} أي: يوجد القاصر في الاعتقاديّات إمّا {للغفلة} عن وجوب التحصيل مطلقاً {أو} ل- {عدم الاستعداد للاجتهاد فيها} كالبله والأطفال أوائل بلوغهم {لعدم وضوح الأمر فيها} أي: في الاعتقاديّات كوضوح الشّمس في رابعة النّهار حتّى تكون حال الاعتقاديّات {بمثابة لا يكون الجهل بها إلّا عن تقصير} فيكون كلّ من لم يعلم الاعتقاديّات مقصّراً معاقباً {كما لا يخفى} بملاحظة أحوال النّاس {فيكون} الجاهل عن قصور {معذوراً عقلاً} وشرعاً لما تقدّم من حديث الإمام(علیه السلام) حول النّساء والأطفال.

وقد علّق المصنّف هنا بما حاصله: أنّ الجاهل وإن لم يكن معاقباً لكنّه لا ينال المراتب السّامية لقصوره الذاتي، كما لا ينال الحمار ما يناله الإنسان وإن لم يكن عدم إدراكه عن سوء صنعه بقوله: «ولا ينافي ذلك عدم استحقاقه درجة بل استحقاقهدركة - أي: الانحطاط لا العقاب - لنقصانه بسبب فقدانه للإيمان به - تعالى - أو برسوله، أو لعدم معرفة أوليائه، ضرورة أنّ نقصان الإنسان لذلك يوجب بُعده عن ساحة جلاله - تعالى - وهو يستتبع لا محالة دركة من الدركات، وعليه فلا إشكال في ما هو ظاهر بعض الرّوايات والآيات من خلود الكافر مطلقاً ولو كان قاصراً».

أقول: هذا خلاف ظاهر الآيات والرّوايات من أنّ النّاس إذا لم يعلموا لم

ص: 209

ولا يصغى إلى ما ربّما قيل: بعدم وجود القاصر فيها، لكنّه إنّما يكون معذوراً - غير معاقَب على عدم معرفة الحقّ - إذا لم يكن يعانده، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله.

___________________________________________

يجحدوا لم يكفروا، بل خلاف موازين العدل وخلاف الرّوايات الدالّة على امتحان غير المقصّرين يوم القيامة، والتفريع الّذي فرّعه بقوله: «فلا إشكال» في غير محلّه، كما لا يخفى، «فقصوره إنّما ينفعه في رفع المؤاخذة عنه بما يتبعها من الدركات، لا في ما يستتبعه نقصان ذاته ودنوّ نفسه وخساستها - من الانحطاط وعدم القرب وإن لم يكن معاقباً أصلاً - فإذا انتهى إلى اقتضاء الذات لذلك - أي: الانحطاط وعدم القرب - فلا مجال للسؤال عنه بلم ذلك؟ فافهم»(1)،

انتهى.

والحاصل: أنّه ليس في العدل واجباً تسوية هذا بالعلماء، وإنّما يجب عدم عقابه مطلقاً؛ لأنّه من العقاب بدون التقصير وهو قبيح إطلاقاً، وانقطاع السّؤال ب-(لم) إنّما ينفع بالنسبة إلى الانحطاط لا بالنسبة إلى العقاب، وقد تكرّر من المصنّف(رحمة الله) هذا المطلب في المجلّد الأوّل وفي بحث القطع وهنا وغيرها(2)،

وذلك خلاف الأدلّة وخلاف مقتضى مبادئ العدليّة، كما لا يخفى.وكيف كان، فوجود الجاهل القاصر حسّاً ودليلاً واضح {ولا يُصغى إلى ما ربّما قيل بعدم وجود القاصر فيها} أي: في الاعتقاديّات {لكنّه} أي: القاصر ينقسم إلى قسمين: من إذا عرف الحقّ عانده، ومن إذا عرف الحقّ لم يعانده وآمن به على إجماله، كمن يسمع نبيّ الإسلام، فإنّه إن سمع قد يكون يعانده على جهله به وقد يكون يعتقد أنّه لو كان حقّاً اعتقد به، ف- {إنّما يكون} القاصر {معذوراً غير معاقب على عدم معرفة الحقّ إذا لم يكن يعانده، بل كان ينقاد له} أي: للحقّ {على إجماله لو احتمله} أمّا لو كان يعانده لو احتمله فليس معذوراً.

ص: 210


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 518.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 313، 3: 270، 4: 400.

هذا بعض الكلام ممّا يناسب المقام، وأمّا بيان حكم الجاهل من حيث الكفر والإسلام، فهو - مع عدم مناسبته - خارجٌ عن وضع الرّسالة.

الثّاني: الظّنّ الّذي لم يقم على حجيّته دليل: هل يجبر به ضعف السّند أو الدلالة،

___________________________________________

هذا كلّه لا يصغى إليه، بل القاصر موجود ولا عقاب عليه مطلقاً؛ لأنّه من العقاب بلا بيان {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا}(1)، وقد دلّ على ذلك العقل والنّقل، وقد تقدّم عدم دلالة ما استدلّوا به لمذهبهم على ما ادّعوا، فراجع.

{هذا بعض الكلام} في باب الظّنّ في أُصول الدين {ممّا يناسب المقام، وأمّا بيان حكم الجاهل}المقصّر والقاصر {من حيث الكفر والإسلام} وأنّه هل هو يعامل معاملة المسلمين أم معاملة الكفّار في الطّهارة والنّجاسة وسائر الآثار؟ {فهو مع عدم مناسبته} لأنّه ليس مسألة أُصوليّة، بل كلاميّة على تقدير وفقهيّة على تقدير {خارج عن وضع الرّسالة} الّتي بنيت على الاختصار وإن أشار إليه الشّيخ في الرّسالة وفصّله بعض الأصوليّين.

هذا تمام الكلام في باب الظّنّ في أُصول الدين حسب اقتضاء المقام.

[الجبر والوهن والترجيح بالظن غير المعتبر]

المقصد السّادس: في الأمارات، الجبر والوهن والترجيح بالظن غير المعتبر

{الثّاني} من الأمرين اللّذين يذكران في خاتمة مبحث الانسداد في أنّ الظّنّ هل يجبر سند الرّواية أو دلالتها، وهل يوهن سند الرّواية أو دلالتها، وهل يرجّح أحد المتعارضين على الآخرين أم لا يقوم بشيء من ذلك؟ {الظّنّ الّذي لم يقم على حجيّته دليل} خاصّ ولا دليل الانسداد كالظنّ المطلق في حال الانفتاح {هل يجبر به ضعف السّند أو الدلالة} مثلاً إذا كان الخبر ضعيف السّند ثمّ عمل به المشهور فأورث ظنّاً بأنّهم ظفروا على قرينة على حجيّته فهل هذا الظّنّ - الّذي

ص: 211


1- سورة الإسراء، الآية: 15.

بحيث صار حجّة ما لولاه لما كان بحجّة؟ أو يوهن به ما لولاه على خلافه لكان حجّة؟ أو يرجّح به أحد المتعارضين، بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لأحدهما،

___________________________________________

لم يقم على حجيّته دليل - يوجب حجيّة ذاك الخبر الضّعيف السّند عندنا حتّى يجوز العمل به، أو كان الخبر ضعيف الدلالة كأن لم يدلّ على الإطلاق ثمّ فهم المشهور منه الإطلاق وظننّا من فهمهم الإطلاق احتفاءه بقرينة دلّت على ذلك،فهل هذا الظّنّ يوجب حجيّة الدلالة بحيث يجوز الاستناد إلى إطلاق ذلك الخبر الّذي لا ظهور فيه في الإطلاق أم لا يجوز لا هذا ولا ذاك، فلا يكون الظّنّ جابراً لضعف السّند ولا جابراً لضعف الدلالة، بل يكون حال الظّنّ حال الشّكّ؟

والحاصل: هذا الظّنّ جابر {بحيث صار حجّة ما لولاه} أي: لولا الظّنّ، ومصداق «ما» السّند والدلالة، وهو اسم «صار» {لما كان بحجّة} في نفسه {أو} هل {يوهن به} أي: بالظنّ الّذي لم يقم على حجيّته دليل {ما} أي: السّند والدلالة الّذي {لولاه} أي: لولا الظّنّ {على خلافه} الضّمير يعود إلى «ما» {لكان حجّة} كما لو كان خبر صحيح السّند فأعرض المشهور عنه بما أورث ظنّنا عن وجود خلل فيه، فهل هذا الظّنّ يسبّب وهن الخبر الصّحيح حتّى لا نعمل به، أو كان خبر ظاهر الدلالة فلم يفهم المشهور منه ما هو ظاهر فيه، فهل الظّنّ الحاصل بعدم الدلالة - لعدم فهم المشهور - يوجب وهن دلالته حتّى لا نتمكّن من التمسّك به {أو} هل {يرجّح به} أي: بالظنّ الّذي لم يقم على اعتباره دليل {أحد المتعارضين} كما لو كان هناك خبران متعارضان متساويان من جميع الجهات لكن ظننّا بكون أحدهما صادراً لبيان الحكم الواقعي والآخر صادراً لعلّة، فهل هذا الظّنّ يوجب ترجيح الأوّل فيرجّح بالظنّ أحد الخبرين {بحيث لولاه} أي: لولا الظّنّ {على وفقه} أي: وفق ذلك الخبر {لما كان ترجيح لأحدهما} بحيث تصل النّوبة إلى التخيير، لقوله(علیه السلام): «بأيّهما أخذت من باب

ص: 212

أو كان للآخر منهما، أم لا؟

ومجمل القول في ذلك: أنّ العبرة في حصول الجبران أو الرّجحان - بموافقته - هو الدخول بذلك تحت دليل الحجيّة، أو المرجّحيّة الرّاجعة إلى دليل الحجيّة.

___________________________________________

التسليم وسعك»(1)

{أو كان} الترجيح {للآخر منهما} لكون الخبر الآخر الّذي لا يؤيّده الظّنّ راجحاً لأحد المرجّحات لكن رجحاناً لا يصل إلى رجحان الظّنّ {أم لا} يكون الظّنّ جابراً وموهناً ومرجّحاً؟

{ومجمل القول في ذلك أنّ العبرة في حصول الجبران} للخبر الضّعيف {أو الرّجحان} لأحد المتعارضين {بموافقته} أي: بموافقة الظّنّ لذلك الخبر {هو الدخول بذلك} الظّنّ الّذي وافقه {تحت دليل الحجيّة} كما لو قلنا بأنّ الخبر الموثوق به أو المظنون الصّدور حجّة، فصار هذا الخبر الضّعيف السّند - في نفسه - بسبب هذا الظّنّ بصدوره داخلاً في الموثوق أو المظنون الصّدور، فإنّه يكون حينئذٍ حجّة لا الظّنّ سبب دخوله في العنوان الّذي هو حجّة {أو} الدخول بسبب ذلك الظّنّ تحت دليل {المرجّحيّة الرّاجعة إلى دليل الحجيّة} فإنّ اشتمال أحد المتعارضين على المرجّح يدخل ذا المرجّح في الدليل الّذي يقول إنّه حجّة دون ما يعارضه، فدليل المرجحيّة راجعة إلى دليل الحجيّة، وذلك كما لو قلنا بأنّ مطلق المرجّحات - ولو غير المنصوصة منها - توجب الترجيح وظننّا بجهة من جهات أحد الخبرين دون الآخر، فيكون الظّنّ بذلك مرجّحاً له وموجباً لحجيّته في قبال الخبر المعارض له العاري عن الظّنّ.

أمّا لو لم يوجب الظّنّ الدخول للخبر المظنون تحت دليل الحجيّة والمرجحيّة فلا يفيد الظّنّ في الحجيّة والترجيح، كما لو قلنا بأنّ خبر العادل حجّة سواء ظننّا بصدوره أم لا، فإنّه لو ظنّ بالخبر الّذي ضعف سنده لم يدخل

ص: 213


1- الكافي 1: 66.

كما أنّ العبرة في الوهن إنّما هو الخروج - بالمخالفة - عن تحت دليل الحجيّة.

___________________________________________

الخبر بهذا الظّنّ تحت عنوان خبر العادل، وكما لو قلنا بأنّ المرجّح في باب التراجيح منحصر بالمنصوصات، فلا يكون الخبر المساوي لمعارضه بسبب الظّنّ أرجح منه حتّى يرجّح عليه، بل لا بدّ من القول حينئذٍ بالتخيير.

هذا كلّه في الجبر والترجيح {كما أنّ العبرة في الوهن إنّما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دليل الحجيّة} فيكون الخبر المخالف للظنّ موهوناً؛ لأنّه خرج عن دليل الحجيّة، كما لو قلنا بأنّ الخبر الموثوق به المظنون الصّدور حجّة، فصار هذا الخبر الصّحيح السّند بسبب ظنّنا لعدم صدوره واشتباه الرّاوي النّاقل له غير موثوق به أو مظنوناً عدم صدوره، فإنّ الظّنّ بالخلاف أوجب خروجه عن تحت دليل الحجيّة، أمّا لو لم يوجب الظّنّ بالخلاف خروج الخبر عن دليل الحجيّة، فلا يوجب الظّنّ بالخلاف وهناً، كما لو اعتبر صحّة السّند في الخبر فقط، فإنّ الظّنّ بالخلاف لا يوجب عدم صحّة سنده.

هذا كلّه في مقام الثبوت والتصوير، وأمّا في مقام الإثبات فقد اختلف العلماء بالنسبة إلى حجيّة الخبر: فبعضهم اعتبر في حجيّة الخبر الظّنّ بصدوره بالنسبة إلى نفس السّند، مثل كون الرّاوي ممّن يظنّ بصدقه ووثاقته، فكلّ خبر كان هكذا يكون حجّة وما لم يكن كذلك ولو اعتمد المشهور عليه أو طابق فتوى المشهور له فليس بحجّة، وبعضهم اعتبر في حجيّة الخبر كونه مظنون الصّدور ولو بالنظر إلى خارج السّند، كما لو عمل الأصحاب بالخبر وإن لم نظنّ نحن بصدق راويه أو وثاقته، وهذا أعمّ من القول السّابق - كما لا يخفى - . وبعضهم اعتبر الأعمّ من ذلك أيضاً، وهو كلّ خبر ظنّ بمطابقة مؤدّاه للواقع ولو لم يظنّ بصدق راويه ولم يعتمد الأصحاب عليه، كما لو كان هناك خبر ضعيف لكن كان مطابقاً لفتوىالمشهور.

ص: 214

فلا يبعد جبرُ ضعف السّند في الخبر بالظنّ بصدوره، أو بصحّة مضمونه، ودخوله بذلك تحت ما دلّ على حجيّة ما يوثق به، فراجع أدلّة اعتبارها.

___________________________________________

والمصنّف(رحمة الله) على القول الثّالث، ولذا قال: {فلا يبعد جبر ضعف السّند في الخبر بالظنّ بصدوره} ظنّاً من الداخل كما لو ظنّ بصدق الرّاوي ووثاقته، أو من الخارج كما لو ظنّ بصحّته لاستناد الأصحاب عليه وعملهم به {أو} الظّنّ {بصحّة مضمونه} كما لو طابق الخبر الضّعيف لفتوى المشهور وإن لم يظنّ بصدق راويه ولا اعتمد الأصحاب عليه {ودخوله بذلك} الظّنّ {تحت ما دلّ على حجيّة ما يوثق به} وإن لم يكن ناقله ثقة {فراجع أدلّة اعتبارها} كالصحيح المروي في الغيبة، أنّ حسين بن روح سأله أصحابه عن كتب الشّلمغاني، فقال الشّيخ: أقول فيها ما قاله العسكري(علیه السلام) في كتب بني فضّال، حيث قالوا له: ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ قال(علیه السلام): «خذوا ما رووا وذروا ما رأوا»(1).

وما عن الصّادق(علیه السلام) في تفسير قوله - تعالى - {وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا * وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ}(2) قال: «هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء وليس عندهم ما يتحمّلون به إلينا، فيستمعون حديثنا ويقتبسون من علمنا، فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم، ويتعبون أبدانهم، حتّى يدخلوا علينا، ويسمعوا حديثنا فينقلوا إليهم، فيعيه أُولئك ويضيّعههؤلاء، فأُولئك الّذين يجعل اللّه لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون...»(3)،

إلى غيرهما من الرّوايات الدالّة على ذلك.

وقد ادّعى الشّيخ في الرّسائل أنّ المشهور كون الشّهرة في الفتوى جابرة

ص: 215


1- الغيبة (للشيخ الطوسي): 389.
2- سورة الطلاق، الآية: 2-3.
3- الكافي 8: 179؛ نور الثقلين 5: 355.

وعدمُ جبر ضعف الدلالة بالظنّ بالمراد؛ لاختصاص دليل الحجيّة بحجيّة الظّهور في تعيين المراد. والظّنّ - من أمارة خارجيّة - به لا يوجب ظهور اللفظ فيه - كما هو ظاهر - إلّا في ما أوجب القطع - ولو إجمالاً - باحتفافه بما كان موجباً لظهوره فيه، لولا عروض انتفائه.

___________________________________________

لضعف سند الخبر(1)

{و} لا يبعد {عدم جبر ضعف الدلالة بالظنّ بالمراد} فلو لم يكن ظهورٌ للفظٍ في معنىً لكن ظننّا بالمراد من المراد لم يكن هذا الظّنّ جابراً لضعف الدلالة {لاختصاص دليل الحجيّة} أي: حجيّة الظّواهر {بحجيّة الظّهور في تعيين المراد} فاللّازم وجود الظّهور حتّى تشمله أدلّة حجيّته {والظّنّ من أمارة خارجيّة به} أي: بالمراد {لا يوجب ظهور اللفظ فيه} فلو قال المولى: (أكرم زيداً) وكان زيد مجملاً مشتركاً بين نفرين، ثمّ ظننّا أنّ مراده زيد بن خالد لم يكن اللفظ حجّة في ذلك، إذ الظّهور غير موجود والظّنّ لا دليل على اعتباره كما لا يوجب ظهوراً حتّى يدخله في حجيّة مطلق الظّهور، وهكذا لو قال: (أكرم العلماء) ممّا انعقد فيه مقدّمات الإطلاق ثمّ ظننّا عدم إرادته زيد العالم لم يوجب ذلك رفع اليد عن الظّهور بسبب هذا الظّنّ {كما هو ظاهر} فلو لم يكرمه في المثالالثّاني أو لم يعمل بمقتضى العلم الإجمالي في الأوّل وخالف الواقع لم يكن له عذر في عدم إطاعة المولى بسبب أنّه ظنّ بخلاف الظّاهر أو ظنّ بالمراد في ما ليس له ظاهر.

والحاصل: أنّ الظّنّ بالمراد ليس بحجّة {إلّا في ما أوجب القطع} بالمراد {ولو إجمالاً} أي: قطعاً إجماليّاً {باحتفافه} أي: باحتفاف هذا الكلام الّذي له ظهور {بما كان موجباً لظهوره فيه لولا عروض انتفائه} يعني كان احتفاف الكلام بقرينة توجب ظهور الكلام في المراد المظنون لولا عروض فقد تلك القرينة فلا ظهور له حالاً.

ص: 216


1- فرائد الأصول 1: 587.

وعدمُ وهن السّند بالظنّ بعدم صدوره، وكذا عدم وهن دلالته مع ظهوره، إلّا في ما كشف - بنحو معتبر - عن ثبوت خلل في سنده،

___________________________________________

ولا يخفى أنّ هذا الاستثناء منقطع، إذ ذلك من العلم بالظهور لا الظّنّ به، ولا فرق في الظّهور المعلوم بين أن يكون فعلاً أو سابقاً.

{و} لا يبعد {عدم وهن السّند} المعتبر {بالظنّ بعدم صدوره} فقد قال(علیه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التّشكيك في ما يرويه عنّا ثقاتنا»(1).

ولا يخفى أنّ الظّنّ الّذي لم يقم على اعتباره دليل كالشكّ - وفرق بين جبر الظّنّ ووهن الظّنّ، وأنّ الظّنّ بالصحّة كان مدخلاً للخبر الضّعيف في أدلّه الحجيّة، أمّا الظّنّ بالخلاف فلا يخرج الخبر المعتبر عن أدلّة الحجيّة. فما ذكره في الحقائق بقوله: «ولكن لا يخفى أنّه إذا كان الظّنّ بالصدور أو بصحّةالمضمون(2)

كافياً في الجبر كان عدمه كافياً في الوهن فضلاً عن الظّنّ بعدم الصّدور، فيمتنع الجمع بين الدعوى الأُولى مع هذه الدعوى»(3)، انتهى. غير معلوم الوجه.

{وكذا} لا يبعد {عدم وهن دلالته} بسبب الظّنّ بخلاف الظّهور {مع ظهوره} فلو كان لفظ ظاهراً في معنى وظننّا بأنّ المراد ليس ذلك المعنى لم يجز رفع اليد عن الظّهور بمجرّد هذا الظّنّ، كما تقدّم؛ لأنّ الظّهور مطلقاً حجّة ولا يشترط فيها الظّنّ بالوفاق أو عدم الظّنّ بالخلاف، كما حقّق في مبحث الظّواهر {إلّا في ما كشف} الظّنّ الموهن للسند أو الدلالة {بنحو معتبر} عقلاً أو شرعاً {عن ثبوت خلل في سنده} كأن اشتبه الرّاوي فظنّ أنّ أبا بصير الموجود في السّند هو الثقة،

ص: 217


1- وسائل الشيعة 27: 150.
2- في المصدر: «بصحة المظنون».
3- حقائق الأصول 2: 218.

أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهوره في ما فيه ظاهر، لولا تلك القرينة؛ لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة، ولا دليل اعتبار الظّهور بما إذا لم يكن ظنّ بعدم صدوره، أو ظنّ بعدم إرادة ظهوره.

وأمّا الترجيح بالظنّ: فهو فرع دليل على الترجيح به، بعد سقوط الأمارتين بالتعارض من البين، وعدمِ حجيّة واحد منهما بخصوصه وعنوانه،

___________________________________________

فوصفه بما يدلّ على ذلك، والحال أنّه ضعيف {أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهوره} بأن كان هناك قرينة على عدم إرادة زيد العالم من عموم (أكرم العلماء) {في ما فيه ظاهرلولا تلك القرينة} الّتي ظننّا بوجودها بنحو معتبر، فإنّه حينئذٍ يعمل بالظنّ في وهن السّند والدلالة لكنّه لا لكونه ظنّاً بل لكونه كاشفاً كشفاً معتبراً عن عدم صحّة السّند وعن عدم انعقاد الظّهور، ولذا فالاستثناء هنا أيضاً منقطع كالاستثناء السّابق.

وإنّما قلنا بأنّ الظّنّ لا يوهن الدلالة ولا يوهن الظّهور {لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة ولا دليل اعتبار الظّهور بما إذا لم يكن ظنّ بعدم صدوره} حتّى إذا وجد الظّنّ بعدم الصّدور لا يشمله دليل الاعتبار {أو ظنّ بعدم إرادة ظهوره} حتّى إذا وجد الظّنّ بعدم الظّهور لا يشمله دليل حجيّة الظّواهر.

هذا كلّه في جبر الظّنّ للسند والدلالة ووهنه لهما {وأمّا الترجيح بالظنّ} بأن يكون سبباً لترجيح أحد المتعارضين على الآخر {فهو فرع دليل على الترجيح به} أي: دليل شرعيّ على أنّ الظّنّ من المرجّحات {بعد سقوط الأمارتين} المتعارضتين {ب-} سبب {التعارض من البين} لما ذكروه في بحث التراجيح من أنّ دليل الاعتبار لا يشمل المتعارضين فيسقط كلاهما عن الحجيّة، وإن كان لنا فيه نظر.

{و} بعد {عدم حجيّة واحد منهما بخصوصه وعنوانه} كخبر زرارة مثلاً أو خبر

ص: 218

وإن بقي أحدهما - بلا عنوان - على حجيّته، ولم يقم دليل بالخصوص على الترجيح به، وإن ادّعى شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه(1) - استفادتَه من الأخبارالدالّة على الترجيح بالمرجّحات الخاصّة، على ما يأتي تفصيله في التعادل والتراجيح(2).

ومقدّمات الانسداد في الأحكام إنّما توجب حجيّة الظّنّ بالحكم أو بالحجّة،

___________________________________________

محمّد بن مسلم {وإن بقي أحدهما بلا عنوان على حجيّته} لأنّ مقتضى أدلّة الحجيّة بعد الجمع بينها وبين ما دلّ على عدم إمكان صدور كليهما. وربّما استشكل في هذا أيضاً، فإنّ أدلّة الحجيّة إذا لم تشمل المتعارضين سقطا عن الحجيّة تفصيلاً وإجمالاً {ولم يقم دليل بالخصوص} عقلاً أو نقلاً، وإن قام دليل الانسداد في ما إذا تمّت مقدّماته {على الترجيح به} أي: بالظنّ، وقوله: «ولم يقم» مرتبط بقوله: «فهو فرع دليل» {وإن ادّعى شيخنا العلّامة} الشّيخ المرتضى {أعلى اللّه مقامه} الشّريف {استفادته} أي: استفادة كون الظّنّ مرجّحاً {من الأخبار الدالّة على الترجيح بالمرجّحات الخاصّة} كالشهرة والمخالفة للعامّة والموافقة للكتاب وما أشبه {على ما يأتي تفصيله في} بحث {التعادل والتراجيح} بأنّه هل الترجيح خاصّ بالمرجّحات المنصوصة أم عامّ لها ولغيرها من كلّ ما يوجب ترجيحاً في أحدهما، فإن قلنا بالثّاني كان الظّنّ من المرجّحات أيضاً.

هذا بالنسبة إلى مرجحيّة الظّنّ في حال الانفتاح {و} أمّا مرجحيّة الظّنّ في حال الانسداد فالمصنّف على أنّه غير تامّ، إذ {مقدّمات الانسداد} الجارية {في الأحكام إنّما توجب حجيّة الظّنّبالحكم} كالظنّ بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال {أو بالحجّة} كالظنّ بحجيّة الشّهرة القائمة على وجوب الدعاء - مثلاً -

ص: 219


1- فرائد الأصول 1: 610.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 297.

لا الترجيح به ما لم يوجب الظّنّ بأحدهما.

ومقدّماته في خصوص الترجيح - لو جرت - إنّما توجب حجيّة الظّنّ في تعيين المرجّح، لا أنّه مرجّح، إلّا إذا ظنّ أنّه أيضاً مرجّح، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

{لا الترجيح به} أي: بالظنّ {ما لم يوجب الظّنّ بأحدهما} أي: بالحكم أو بالحجّة، كأن يوجب الظّنّ بترجيح الخبر الدالّ على وجوب الدعاء الظّنّ بأنّ الدعاء واجب أو الظّنّ بأنّ هذا الخبر حجّة، ومن المعلوم أنّه لا تلازم بين الظّنّ بالترجيح وبين الظّنّ بأحدهما، فإنّه ربّما يظنّ الإنسان بأنّ هذا أرجح ولا يظنّ بأنّ مفاده مراد المولى، كما أنّ القطع بالرجحان لا يوجب القطع بالواقع أو بالحجّة، ألا ترى أنّ القياس أرجح من الاستحسان، ومع ذلك لا يوجب ظنّاً بالواقع.

{و} إن قلت: يمكن إجراء {مقدّماته} أي: مقدّمات الانسداد {في خصوص الترجيح} بأن يقال: إنّا مكلّفون عند تعارض الأخبار بالرجوع إلى المرجّح ولا يمكن الاحتياط أو عسر ولا يصحّ إجراء الأصول، وقد انسدّ باب الترجيح علماً أو علميّاً ويقبح ترجيح المرجوح على الرّاجح، فلا بدّ وأن نرجع إلى الظّنّ في هذا الباب ويكون الظّنّ بالراجح حجّة.

قلت: لو جرت مقدّمات الانسداد هنا كان نتيجتها أنّ الظّنّ بالمرجّح الّذي هو الشّهرة مثلاً - كالعلم بالمرجّح - ولم تكن نتيجتها أنّ الظّنّ بنفسه يكون مرجّحاً، فإنّها {لو جرت إنّما توجب حجيّة الظّنّ في تعيين المرجّح} بالكسر {لا أنّه} أي: الظّنّ بنفسه {مرجّح}.

نعم، إذا قلنا بأنّ الظّنّ بالمرجّح حجّة ثمّ ظننّا بأنّ الظّنّ من المرجّحات كانالظّنّ مرجّحاً أيضاً، وإليه أشار بقوله: {إلّا إذا ظنّ أنّه} أي: الظّنّ {أيضاً مرجّح} كسائر المرجّحات المظنونة، فظنّ بأنّ الشّهرة والإجماع والمخالفة للعامّة والظّنّ - مثلاً - كلّها مرجّحات {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك الأمر.

ص: 220

هذا في ما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل.

وأمّا ما قام الدليل على المنع عنه كذلك - كالقياس - فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح، في ما لا يكون لغيره أيضاً. وكذا في ما يكون به أحدها؛ لوضوح أنّ الظّنّ القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه لكان حجّة - بعد المنع عنه - ، لا يوجب خروجه عن تحت دليل الحجيّة، وإذا كان على وفق ما لولاه لما كان حجّة، لا يوجب دخوله

___________________________________________

{هذا} كلّه في الجبر والوهن والترجيح بالظنّ {في ما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل} كالظنون المطلقة الّتي تحصل من الأسباب الخارجيّة {وأمّا ما قام الدليل على المنع عنه كذلك} بخصوصه {كالقياس فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح} فالظنّ القياسي لا يكون جابراً للخبر الضّعيف ولا كاسراً للخبر القوي ولا مرجّحاً لأحد المتعارضين {في ما لا يكون لغيره} من سائر الظّنون {أيضاً} جبر ووهن وترجيح {وكذا في ما يكون به} أي: بغيره {أحدها} أي: أحد الثلاثة.

والحاصل: أنّ الظّنّ القياسي لا يجبر ولا يوهن ولا يرجّح، سواء في المورد الّذي كان سائر الظّنون جابراً وموهناً ومرجّحاً أو في المورد الّذي لم يكن سائرالظّنون كذلك، وذلك {لوضوح أنّ الظّنّ القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه لكان حجّة} أي: كان على خلاف الخبر المعتبر - الّذي لولا هذا القياس لكان ذلك الخبر حجّة - {بعد المنع عنه} أي: عن القياس {لا يوجب} هذا الظّنّ القياسي {خروجه} أي: خروج ذلك الخبر {عن تحت دليل الحجيّة} لأنّ الشّارع لم يعتن بالقياس ولم يجعل له دخلاً في الأحكام فكيف يوجب القياس على خلاف الخبر المعتبر إخراج الخبر عن تحت دليل الحجيّة وإسقاطه عن الاعتبار؟ {وإذا كان} الظّنّ القياسي {على وفق ما لولاه لما كان حجّة} كما لو كان على وفق خبر ضعيف لا حجيّة فيه لولا القياس {لا يوجب} هذا القياس الموافق له {دخوله}

ص: 221

تحت دليل الحجيّة. وهكذا لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين؛ وذلك لدلالة دليل المنع على إلغائه الشّارع رأساً، وعدمِ جواز استعماله في الشّرعيّات قطعاً، ودخلُهُ في واحد منها نحو استعمال له فيها، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

أي: دخول ذلك الخبر الضّعيف {تحت دليل الحجيّة} حتّى يكون حجّة بسبب القياس الموافق له.

{وهكذا لا يوجب} الظّنّ القياسي {ترجيح أحد المتعارضين} في ما لم يكن مرجّح آخر في البين {وذلك} الّذي ذكرنا من عدم كونه مرجّحاً موهناً جابراً {لدلالة دليل المنع} كقوله: «الدّين إذا قيس مُحِق»(1)

{على إلغائه} أي: إلغاء القياس من{الشّارع رأساً} مطلقاً {وعدم جواز استعماله في الشّرعيّات قطعاً، و} من المعلوم أنّ {دخله في واحد منها} أي: من الجبر والوهن والترجيح {نحو استعمال له} أي: للقياس {فيها} أي: في الشّرعيّات {كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً} حتّى لا تقول: أيّ فرق بين الظّنون المطلقة المنهي عنها بقول مطلق كقوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(2) حتّى قلتم بكونها جابرة موهنة مرجّحة، وبين الظّنّ القياسي المنهي عنه بالخصوص حتّى قلتم بعدم جبره ووهنه وترجيحه مع أنّ كليهما شريكان في النّهي؟

قلت: الفرق أنّ عمومات النّهي قابلة للتخصيص بما دلّ على أنّ الظّنّ يمكنه الجبر والوهن والترجيح، كما يخصّص بالظنّ في الرّكعات، بخلاف النّهي عن الظّنّ بالقياسي فليس قابلاً لتجويز العمل به بعد النّهي عنه، فتأمّل.

هذا تمام الكلام في المقصد السّادس من مقاصد الكتاب المنعقد لبيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً، واللّه الهادي.

ص: 222


1- هكذا ورد: «إنّ السنة إذا قيست محق الدّين» الكافي 1: 57.
2- سورة يونس، الآية: 36.

المقصد السّابع: في الأصول العمليّة

اشارة

ص: 223

ص: 224

المقصد السّابع: في الأصول العمليّة

وهي الّتي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظّفر بدليل،

___________________________________________

[المقصد السّابع في الأصول العمليّة]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة

{المقصد السّابع} من مقاصد الكتاب {في الأصول العمليّة} الأصل: في اصطلاح الأصوليّين والفقهاء هو الحكم المجعول شرعاً أو عقلاً في ظرف الشّكّ مع كون الشّكّ جزءاً لموضوعه، وفي قباله الدليل الّذي هو الحكم المجعول في ظرف الشّكّ مع أنّ الشّكّ ليس جزءاً من موضوعه. فمثلاً خبر الواحد حجّة عند الشّكّ في الواقع لكن ليس الموضوع مأخوذاً فيه الشّكّ، فقول زرارة بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال إخبار عن الواقع وإن كان حجيّة خبره في ظرف الشّكّ بالحكم الواقعي، أمّا أصالة البراءة فقد أُخذ في موضوعها الشّكّ؛ لأنّها تقول: إذا لم تدر وجوب الدعاء أجر البراءة فالدعاء المشكوك مجرى للبراءة.

ثمّ الأصول العمليّة هي في مقابلة الأصول الاعتقاديّة الّتي يجب الاعتقاد بها، فهذه للاعتقاد وتلك للعمل، وإذا أُطلق الأصول احتمل أن يراد به أُصول الفقه الشّامل للأصل والدليل، واحتمل أن يراد به أُصول الاعتقاد.

{و} عرّف المصنّف الأصول العمليّة بأنّها {هي الّتي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظّفر بدليل} سواء كان ذلك لفقدان النّصّ أو إجماله أو تعارض النّصّين في ما لو قلنا أنّ المرجع عند تعارض النّصّين الأصول العمليّة.

وهذا التعريف - كما لا يخفى - لازم الأصول العمليّة، لا أنّه تعريفها الحقيقي، وإنّما التعريف القريب أن نقول: هو الجاري في الشّبهة في الحكم

ص: 225

ممّا دلّ عليه حكم العقل أو عموم النّقل.

والمهمّ منها أربعة؛

___________________________________________

الكلّي النّاشئة من فقدان النّصّ أو إجماله أو تعارض النّصّين {ممّا دلّ عليه حكم العقل} هذا بيان للموصول في قوله: «هي الّتي» وتقسيم للأُصول على قسمين:

الأوّل: ما دلّ عليه العقل، كقبح العقاب بلا بيان المستند للبراءة العقليّة {أو} الاحتياط العقلي الّذي هو مقتضى العلم الإجمالي.

والثّاني: ما دلّ على {عموم النّقل} كقوله(علیه السلام): «رفع ما لا يعلمون»(1)

الّذي هو مستند البراءة الشّرعيّة، و «أخوك دينك فاحتط لدينك»(2)،

بناءً على أنّه دليل للاحتياط شرعاً.

{والمهمّ منها} أي: من الأصول العمليّة {أربعة} وهي: البراءة الّتي توجب عدم التكليف في صورة الشّكّ فيه، والاشتغال الموجب لاشتغال الذمّة بالتكليف المشكوك، والتخيير الموجب لتخيير المكلّف بين طرفي الشّبهة بأن يأتي بأحدهما، والاستصحاب الموجب لسحب الحالة السّابقة في مورد الشّكّ.

ثمّ إنّ الأصول الّتي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل أكثر من هذه الأربعة، كقاعدة الفراغ، وقاعدة التجاوز، وقاعدة شكّ كثير الشّكّ، وقاعدة الطّهارة، وقاعدة الحليّة، وقاعدة اليد، وقاعدة الفراش، والبناء على الأكثر في الشّكّ بين الأربع والثلاث والثلاث والاثنين، وما أشبهها، فعدم التعرّض لها وحصر الأصول في هذه الأربعة لأمرين:

الأوّل: جريان الأصول الأربعة في جميع أبواب الفقه، بخلاف هذه القواعد المختصّة بباب دون باب.

ص: 226


1- الخصال 2: 417.
2- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

فإنّ مثل قاعدة الطّهارة في ما اشتبه طهارته بالشبهة الحكميّة وإن كان ممّا ينتهي إليها

___________________________________________

الثّاني: عدم كثرة النّقض والإبرام إلّا في هذه الأربعة، وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى سبب عدم ذكر تلك في الأصول بقوله: {فإنّمثل قاعدة الطّهارة} وهي: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»(1) {في ما اشتبه طهارته} كالحديد - مثلاً - الّذي قال بعضهم بنجاسته {بالشبهة الحكميّة} وهي الشّبهة النّاشئة عن فقدان النّصّ أو إجماله أو تعارض النّصّين ممّا يحتاج إلى استطراق باب الشّرع مقابل الشّبهة الموضوعيّة، وهي النّاشئة عن اشتباه أُمور خارجيّة، كما لو لم يعلم أنّ هذا بول أو ماء مع معرفة حكم كليهما. وإنّما خصّص ذلك بالشبهة الحكميّة؛ لأنّ الشّبهة الموضوعيّة ليست ممّا ينتهي إليها المجتهد بما هو مجتهد؛ لأنّ إجراء الأصل جائز بالنسبة إلى المقلّد أيضاً، فالشبهات الموضوعيّة حتّى في الأصول الأربعة - بعد فتوى الفقيه بكليّاتها - ليست خاصّة بالمجتهد ولذا يجوز للمقلّد إجراء البراءة في ما لو شكّ أنّه مديون لزيد بدينار، وإجراء الاحتياط في ما لو شكّ في إضافة أحد الماءين وأراد التطهير، وإجراء الاستصحاب في ما لو كان قبل ساعة على وضوء ثمّ شكّ في النّقض، وإجراء التخيير في ما لو حلف بزيارة أحد الحرمين في ساعة خاصّة، ممّا لا يمكن الجمع بينهما.

والحاصل: أنّ هذه القواعد والأصول لها جهتان:

الأُولى: في الشّبهات الموضوعيّة، ولا كلام فيها؛ لأنّها ليست خاصّة بالمجتهد وليست ممّا ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص.

الثّانية: في الشّبهات الحكميّة، وهنا يقع الكلام في أنّه لم خصّص الأصول بهذه الأربعة ولم يذكر فيه مثل قاعدة الطّهارة في الشّبهة الحكميّة؟

والجواب: أنّه {وإن كان ممّا ينتهي إليها} الفقيه فيفتي بالطهارة في الحكم

ص: 227


1- تهذيب الأحكام 1: 285.

في ما لا حجّة على طهارته ولا على نجاسته، إلّا أنّ البحث عنها ليس بمهمّ، حيث إنّها ثابتة بلا كلام، من دون حاجة إلى نقض وإبرام. بخلاف الأربعة - وهي: البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب - ، فإنّها محلّ الخلاف بين الأصحاب، ويحتاج - تنقيح مجاريها، وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النّقل فيها - إلى مزيد بحث وبيان، ومؤونة حجّة وبرهان،

___________________________________________

الكلّي الإلهي {في ما لا حجّة على طهارته ولا على نجاسته} لفقدان النّصّ أو إجماله أو تعارضه {إلّا أنّ البحث عنها ليس بمهمّ حيث إنّها ثابتة} لا اختلاف فيها {بلا كلام من دون حاجة إلى نقض وإبرام} بخلاف الأصول الأربعة حيث كثر القيل والقال فيها واحتاجت إلى تنقيح وتوضيح، وغيرها يكتفي في تنقيحها في مواضعها الخاصّة من الفقه {بخلاف} الأصول {الأربعة وهي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب، فإنّها محلّ الخلاف بين الأصحاب}.

وقد علّق المصنّف هنا بما لفظه: «لا يقال: إنّ قاعدة الطّهارة مطلقاً تكون قاعدة في الشّبهة الموضوعيّة، فإنّ الطّهارة والنّجاسة من الموضوعات الخارجيّة الّتي يكشف عنها الشّرع.

فإنّه يقال: أوّلاً: نمنع ذلك، بل إنّهما من الأحكام الوضعيّة الشّرعيّة، ولذا اختلفتا في الشّرع بحسب المصالح الموجبة لتشريعهما، كما لا يخفى.

وثانياً: إنّهما لو كانا كذلك، فالشبهة فيهما في ما كان الاشتباه لعدم الدليل على أحدهما كانت حكميّة، فإنّه لا مرجع لرفعها إلّا الشّارع، وما كانت كذلك ليست إلّا حكميّة»(1)،

انتهى.

{و} كيف كان، فإنّ الأصول الأربعة {يحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النّقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجّة وبرهان}

ص: 228


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 16.

هذا.

مع جريانها في كلّ الأبواب، واختصاص تلك القاعدة ببعضها، فافهم.

فصل: لو شكّ في وجوب شيء أو حرمته، ولم تنهض عليه حجّة، جاز شرعاً وعقلاً ترك الأوّل وفعل الثّاني،

___________________________________________

ولذا كثر القيل والقال.{هذا مع جريانها} أي: جريان الأصول الأربعة {في كلّ الأبواب} من الطّهارة إلى الديات {واختصاص تلك القاعدة ببعضها} أي: ببعض تلك الأبواب كباب الطّهارة، وهكذا بالنسبة إلى سائر القواعد المتقدّمة {فافهم} لعلّه إشارة إلى كثرة القيل والقال في تلك القواعد أيضاً، وإن لم تصل إلى حدّ الاختلاف في هذه الأربعة، كما أنّ الاختصاص بباب خاصّ لا يوجب عدم الذكر، واللّه العالم.

[فصل أصل البراءة]

اشارة

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، أصل البراءة

{فصل} في أصل البراءة {لو شكّ في وجوب شيء} كالدعاء عند رؤية الهلال {أو حرمته} كشرب التبغ {ولم تنهض عليه} أي: على المشكوك {حجّة جاز شرعاً وعقلاً ترك الأوّل} الّذي هو محتمل الوجوب {وفعل الثّاني} الّذي هو محتمل الحرمة.

ولا يخفى أنّ المسائل في المقام ستّة: لأنّ الشّكّ إمّا في الوجوب وإمّا في الحرمة، وسبب الشّكّ في كلّ منهما إمّا فقدان النّصّ أو إجماله أو تعارض النّصّين. وقد عقد الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل لكلّ مسألة فصلاً، لكن ما صنعه المصنّف أقلّ مؤونة.

وقد علّق المصنّف هنا بما لفظه: «لا يخفى أنّ جمع الوجوب والحرمة في فصل، وعدم عقد فصل لكلّ منهما على حدة، وكذا جمع فقد النّصّ وإجماله في عنوان عدم الحجّة، إنّما هو لأجل عدم الحاجة إلى ذلك بعد الاتحاد في ما هو

ص: 229

وكان مأموناً من عقوبة مخالفته، كان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النّصّ، أو إجماله واحتماله الكراهة أو الاستحباب، أو تعارضه في ما لم يثبت بينهما ترجيح، بناء على التوقّف في مسألة تعارض النّصّين، في ما لم يكن ترجيح في البين.

وأمّا بناءً على التخيير

___________________________________________

الملاك، وما هو العمدة من الدليل على المهمّ، واختصاص بعض شقوق المسألة بدليل أو بقول، لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة، وأمّا ما تعارض فيه النّصّان فهو خارج عن موارد الأصول العمليّة المقرّرة للشاكّ على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير، كما أنّه داخل في ما لا حجّة فيه، بناءً على سقوط النّصّين عن الحجيّة، وأمّا الشّبهة الموضوعيّة فلا مساس لها بالمسائل الأصوليّة، بل فقهيّة، فلا وجه لبيان حكمها في الأصول إلّا استطراداً، فلا تغفل»(1).

وعلى أيّ جاز إجراء البراءة في مشكوك الوجوب أو الحرمة {وكان} المرتكب للمشكوك {مأموناً من عقوبة مخالفته} لو كان في الواقع واجباً أو حراماً، سواء {كان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النّصّ أو إجماله واحتماله الكراهة} في ما دار بين الحرام والمكروه {أو} احتماله {الاستحباب} في ما دار الواجب والمستحبّ {أو تعارضه} أي: تعارض النّصّ - المستفاد من الحجّة - {في ما لم يثبت بينهما ترجيح} وإلّا كان الحكم لذي الترجيح، كما لو تعارض نصان بالنسبة إلى فاقد الطّهورين هذا يقول بحرمة الصّلاة وأنّه لا صلاة إلّا بطهور وهذا يقول بوجوبها وأنّه لا تترك الصّلاة بحال، ثمّ رجّحنا الحرمة، فإنّه لا يبقى مجال للشكّ.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من إجراء البراءة في مورد تعارض النّصّين إنّما هو {بناءً على التوقّف في مسألة تعارض النّصّين في ما لم يكن ترجيح في البين} إذ على هذا المبنى يبقى محلّ الرّجوع إلى الأصل فيجوز إجراء البراءة {وأمّا بناءً على التخيير} وأنّه

ص: 230


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 24.

- كما هو المشهور - فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها؛ لمكان وجود الحجّة المعتبرة، وهو أحد النّصّين فيها، كما لا يخفى.

وقد استدلّ على ذلك بالأدلّة الأربعة:

أمّا الكتاب؛ فبآيات، أظهرها: قوله - تعالى - : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا}(1).

___________________________________________

إذا تعارض النّصّان ولم يكن بينهما مرجّح يكون التكليف مخيّراً بين الأخذ بأيّهما لقوله(علیه السلام): «إذن فتخيّر»(2)،

وقوله: «بأيّهما عملت من باب التسليم وسعك»(3) {كما هو المشهور} في ظرف عدم المرجّح {فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها} من الأصول {لمكان وجود الحجّة المعتبرة، وهو} أي: الحجّة المعتبرة الموجودة في المقام {أحد النّصّين فيها} أي: في المسألة المتعارض فيها، فإنّ أحد المتعارضين تخييراً نصّ يعمل به، ومع وجود النّصّ لا مجال للأُصول {كما لا يخفى} ولا فرق في النّصّ بين أن يكون معيّناً أو مخيّراً.

وقد تحصّل أنّ شرط الرّجوع إلى البراءة في باب المتعارضين أن لا يكون أحدهما أرجح، وأن لا نقول بالتخيير، أمّا إذا كان أحدهما أرجح فاللّازم العمل بالراجح، وإن قلنا بالتخيير فاللّازم العمل بأحدهما.

[الاستدلال على البراءة بالأدلة الأربعة]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، أدلة البراءة

{وقد استدلّ على ذلك} الّذي ذكرنا من جريان البراءة في المشتبه مطلقاً {بالأدلّة الأربعة} الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل.

{أمّا الكتاب ف-} قد استدلّ {بآيات} منه {أظهرها قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا}} ووجه الاستدلال بها أنّ الآية كناية عن نفي العذاب بدون

ص: 231


1- سورة الإسراء، الآية: 15.
2- مستدرك الوسائل 17: 304؛ عن غوالي اللئالي 4: 133.
3- الكافي 1: 66، وفيه: «بأيهما أخذت...».

وفيه: أنّ نفي التعذيب - قبل إتمام الحجّة ببعث الرّسل - لعلّه كان منّة منه - تعالى - على عباده، مع استحقاقهم لذلك.

___________________________________________

إتمام الحجّة، فالبعث كناية عن البيان، والآية حكم عامّ لا بالنسبة إلى الأُمم السّابقة فقط، والعذاب أعمّ من الدنيوي والأُخروي، فالآية تدلّ على أنّ البيان إذا لم يكن هناك حكم فيجوز إجراء البراءة.

{وفيه} أنّ الآية تدلّ على نفي التعذيب، ونفي التعذيب أعمّ من عدم الاستحقاق ومن عدم الفعليّة منّة، فالمؤمن لا يعذّب؛ لأنّه لا يستحقّ، والعاصي المشفوع له لا يعذّب وإن استحقّ. وإذا تحقّق ذلك قلنا: {إنّ نفي التعذيب قبل إتمام الحجّة ببعث الرّسل لعلّه كان منّة منه - تعالى - على عباده مع استحقاقهم لذلك} التعذيب، فلا تدلّ الآية على عدم الاستحقاق حتّى تدلّ على البراءة، وإنّما تدلّ على نفي الفعليّة، ونفي الفعليّة لا ينافي وجود الحكم كما في العصاة، فإنّ عدم عقابهم فعلاً لأمر من عفو أو شفاعة لا يدلّ على عدم وجود تكليف عليهم.

والحاصل: أنّ الآية لا تدلّ على نفي الاستحقاق فلا تدلّ على نفي الحكم.

إن قلت: الظّاهر من نفي الاستحقاق نفي الفعليّة، فإنّ المتبادر من قول المولى: (لا عقاب عليك في هذا الحال) أنّه لا يستحقّه.

قلت: الظّاهر وجود الاستحقاق قبل بعث الرّسل لمخالفة النّاس الأوامر العقليّة، وإنّما لا يعذّب اللّه - تعالى - منّة وفضلاً، ويدلّ على ذلك قوله - تعالى - : {وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا}(1) أي: إذا أردنا هلاك قرية لمخالفتهم الأحكام العقليّة بالظلم والجور وسفك الدماء وانتهاك الأعراض، أمرنا مترفيها بالطاعة، وتخصيص الأمر بالمترفين لكونهم السّادة الّذين إذا سمعوا سمع النّاس وإن أبوا أبى النّاس،

ص: 232


1- سورة الإسراء، الآية: 16.

ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعليّة، لما صحّ الاستدلال بها إلّا جدلاً،

___________________________________________

فكأنّهم هم مناط الحكم إثباتاً ونفياً، ففسقوا فيها، فحيث خالفوا أوامرنا، فحقّ عليها القول، وإنّما نبعث إليهم الرّسل ثمّ نأخذهم بذنوبهم لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة، ولئلّا يقولوا: لولا جائنا من نذير.

{و} قد أجاب الشّيخ(رحمة الله)(1) عن هذا الإشكال - أي: إشكال عدم التلازم بين عدم العقاب الفعلي وبين عدم الاستحقاق - بأنّ الأخباري الّذي لا يقول بالبراءة ويقول بالاحتياط إنّما يقول بإثبات العقاب في ارتكاب المشتبه، فإذا دلّت الآية على عدم العقاب الفعليكفى في ردّه. وإنّما يقول الأخباري بالعقاب الفعلي؛ لأنّ أدلّته - كأخبار التثليث ونحوها - تدلّ على ذلك.

وفي جواب الشّيخ نظر، إذ أوّلاً: أنّ التزام الأخباري بالملازمة بين عدم الاستحقاق وعدم الفعليّة لا يصحّح استدلالنا بالآية إلّا جدلا، إذ نحن القائلين بالبراءة لا يمكننا الاستدلال بالآية على البراءة، إذ الآية تقول: «لا عقاب فعليّاً» وهذا غير كافٍ للبراءة، وإنّما الكافي للبراءة قوله: «لا استحقاق للعقاب» والآية غير متعرّضة لها.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: و{لو سلم اعتراف الخصم} أي: الأخباري القائل بالاحتياط {بالملازمة بين الاستحقاق والفعليّة} حتّى أنّه لو نفت الفعليّة نفت الاستحقاق {لما صحّ الاستدلال بها} أي: بالآية للبراءة {إلّا جدلاً}.

وثانياً: أنّا لا نسلّم أنّ الأخباري يلتزم بالملازمة بين الفعليّة والاستحقاق، كيف وفي المعصية الحقيقيّة الّتي يعترف الأخباري بالاستحقاق لا يعترف بأنّ العقاب فعليّ لاحتمال العفو ونحوه؟ فكيف يمكن أن يقول بالفعليّة في الشّبهة

ص: 233


1- فرائد الأصول 2: 23-24.

مع وضوح منعه؛ ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم ممّا علم بحكمه، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلّا كالوعيد به فيه، فافهم.

وأمّا السّنّة: فروايات:

منها: حديث الرّفع،

___________________________________________

الّتي هي دون المعصية الحقيقيّة؟

وإلى هذا أشار بقوله: {مع وضوح منعه} أي: منع تسليم الخصم بالملازمة {ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس عنده} أي: الخصم {بأعظم ممّا علم بحكمه} وأنّه حرام ولا يقول في المعلوم بالملازمة فكيف في المشكوك {وليس حال الوعيد بالعذاب فيه} أي: في المشكوك {إلّا كالوعيد به} أي: بالعذاب {فيه} أي: في ما علم بحكمه في كون كليهما لا يستلزمان الفعليّة {فافهم} لعلّه إشارة إلى عدم كون الاستحقاق محلّ الكلام، إذ محلّ الكلام هو لزوم الاجتناب شرعاً وعدمه، فالأخباري أيضاً لا بدّ وأن يلتزم بعدم وجوب الاجتناب؛ لأنّه لا محذور فيه، ومجرّد الاستحقاق المحتمل مع القطع بعدم الفعليّة لا يكفي في ثبوت الاحتياط.

ثمّ إنّه قد استدلّ للبراءة في الرّسائل(1) بآيات أُخر كقوله - تعالى - : {لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ}(2) لكن لمّا لم تستقم دلالتها على المطلب تركها المصنّف.

{وأمّا السّنّة ف-} قد استدلّ منها ب- {روايات} متعدّدة {منها حديث الرّفع} وهي الرّواية المرويّة عن النّبيّ - صلوات اللّه عليه وآله وسلّم - قال: «رفع عن أُمّتي تسعة: الخطأ، والنّسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون،

ص: 234


1- فرائد الأصول 2: 21.
2- سورة الطلاق، الآية: 7.

حيث عدّ «ما لا يعلمون» من التسعة المرفوعة فيه، فالإلزام المجهول من «ما لا يعلمون»، فهو مرفوع فعلاً وإن كان ثابتاً واقعاً، فلا مؤاخذة عليه قطعاً.

لا يقال:

___________________________________________

وما اضطرّوا إليه، والطّيرة، والحسد، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفته»(1).

ولا إشكال في سند الحديث؛ لأنّه مرويّ في الخصال(2) والتوحيد(3)

بسند صحيح، وفي دلالته على البراءة {حيث عدّ «ما لا يعلمون» من التسعة المرفوعة فيه} وتقريب الدلالة: أنّ المراد من كلمة «ما» الموصولة هو الحكم المجهول فهو مرفوع عن الأُمّة {فالإلزام المجهول} سواء كان إيجابيّاً أم تحريميّاً {من «ما لا يعلمون»} لأنّ المكلّف لايعلم به وإن احتمله أو ظنّ بوجوده {فهو مرفوع فعلاً وإن كان ثابتاً واقعاً} لما تحقّق في موضعه من أنّ الجهل لا يقيّد الأحكام الواقعيّة، بل هي ثابتة على المكلّفين، سواء علموا أم جهلوا. والقول بأنّه لا فائدة في تكليف مجهول اجتهاد في مقابل النّصّ الدالّ على أنّ أحكام اللّه عامّة لا تخصّ العالم فقط، بالإضافة إلى أنّ الأحكام لمّا كانت تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة لم يكن معنى لتخصيصها بفئة دون فئة.

نعم، الجاهل إذا كان قاصراً لم يعاقب؛ لأنّه خلاف العقل والنّقل {فلا مؤاخذة عليه قطعاً} فإنّ العقل والنّقل اتفقا على قبح مؤاخذة الجاهل القاصر.

{لا يقال}: إنّ الغرض في المقام نفي المؤاخذة حتّى يكون المكلّف الجاهل

ص: 235


1- ورد بألفاظ مختلفة، فتارةً: «رفع عن أمتي»، وأخرى: «وضع عن أمتي»، وثالثة: «ثلاث» أو «أربع» أو «ست» أو «تسع» و«تسعة»... راجعها في الكافي 2: 462؛ من لا يحضره الفقيه 1: 59؛ وسائل الشيعة 15: 369؛ مستدرك الوسائل 12: 23؛ سفينة البحار 3: 386.
2- الخصال 2: 417.
3- التوحيد: 353.

ليست المؤاخذة من الآثار الشّرعيّة، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهراً، فلا دلالة له على ارتفاعها.

فإنه يقال: إنّها وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعيّاً، إلّا أنّها ممّا يترتّب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه، من إيجاب الاحتياط شرعاً،

___________________________________________

في مأمن منها، والحال {ليست المؤاخذة من الآثار الشّرعيّة كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهراً} بل هي من الآثار العقليّة، والمرفوع في الخبر هي الآثار الشّرعيّة {فلا دلالة له} أي: للخبر {على ارتفاعها} أي: ارتفاع المؤاخذة.

وقد علّق المصنّف في الحاشية بقوله: «مع أنّ ارتفاعها وعدم استحقاقها بمخالفة التكليف المجهول هو المهمّ في المقام. والتحقيق في الجواب أن يقال - مضافاً إلى ما قلنا - : إنّ الاستحقاق وإن كان أثراً عقليّاً إلّا أنّ عدم الاستحقاق عقلاً مترتّب على عدم التكليف شرعاً ولو ظاهراً، تأمّل تعرف»(1).

{فإنّه يقال}: المؤاخذة لا تترتّب على التكليف الواقعي المجهول وليست أثراً له وإنّما هي أثر عقليّ للاحتياط، فنفي التكليف ظاهراً - بدليل الرّفع - دليل على عدم إيجاب الاحتياط الّذي هو موضوع المؤاخذة حقيقة، وإذا انتفى الموضوع انتفى الأثر.

والحاصل: أنّ دليل الرّفع يدلّ على إيجاب الاحتياط وبعدم الاحتياط ينتفي الموضوع للأثر العقلي الّذي هو المؤاخذة، ف- {إنّها} أي: المؤاخذة {وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعيّاً} حتّى ترفع بدليل الرّفع {إلّا أنّها} أي: المؤاخذة {ممّا يترتّب عليه} أي: على الأثر الشّرعي {بتوسيط ما هو أثره} أي: ما يكون العقاب أثره، فالضمير يرجع إلى معنى المؤاخذة، والضّمير في «أثره» يرجع إلى الموصول أي: «ما» {وباقتضائه} عطف على «أثره» {من إيجاب الاحتياط شرعاً} بيان

ص: 236


1- حقائق الأصول 2: 226؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 28.

فالدليل على رفعه دليلٌ على عدم إيجابه، المستتبع لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته.

لا يقال: لا يكاد يكون إيجابه مستتبعاً لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول،

___________________________________________

ل- «ما» يعني أنّ المؤاخذة ليست أثراً شرعيّاً لكنّها أثر لما يترتّب على الأثر الشّرعي، فالمؤاخذة أثر لإيجاب الاحتياط الّذي هو أثر للتكليف الواقعي، فالشارع يتمكّن من رفع المؤاخذة برفع موضوعها الّذي هو الاحتياط {فالدليل على رفعه} أي: رفع ما لا يعلمون {دليل على عدم إيجابه} أي: عدم إيجاب الاحتياط {المستتبع} أي: يستتبع عدم إيجاب الاحتياط {لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته} أي: مخالفة ما لا يعلمون، أو مخالفة الاحتياط.

ثمّ إنّ المشكيني(رحمة الله) ذكر في تعليقه أنّ الجواب لا يلائم الإشكال وإنّما هو جواب عن إشكال آخر، كما أنّ الإشكال يحتاج إلى جواب آخر، فراجع(1).

{لا يقال}: ما ذكرتم في جواب الإشكال من أنّ المؤاخذة من آثار الاحتياط، فإذا لم يوجب الشّارع الاحتياط كان لازمه عدم المؤاخذة غير تام، إذ لنا مؤاخذتان: مؤاخذة على ترك الاحتياط ومؤاخذة على ترك التكليف المجهول، إذ لكلّ أمر ثواب وفي عصيانهعقاب، فالدليل على عدم المؤاخذة التابعة لعدم الاحتياط إنّما يدلّ على رفع المؤاخذة النّاشئة من الاحتياط، أمّا المؤاخذة الثّانية النّاشئة من مخالفة التكليف فلا دليل على رفعها.

والحاصل: أنّ هناك أمرين - بالتكليف وبالاحتياط، فعدم جعل الاحتياط معناه عدم المؤاخذة التابعة لهذا الأمر، وتبقى المؤاخذة التابعة للتكليف على حالها لا دليل على رفعها، فإنّه {لا يكاد يكون إيجابه} أي: إيجاب الاحتياط {مستتبعاً لاستحقاقها} أي: استحقاق المؤاخذة {على مخالفة التكليف المجهول}

ص: 237


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 34.

بل على مخالفته نفسه، كما هو قضيّة إيجاب غيره.

فإنّه يقال: هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيّاً، وإلّا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول،

___________________________________________

الّذي هو أمر آخر غير أمر الاحتياط {بل} إيجاب الاحتياط يستتبع استحقاق العقاب {على مخالفته} أي: مخالفة الاحتياط {نفسه، كما هو قضيّة} أي: مقتضى {إيجاب غيره} أي: غير الاحتياط من سائر التكاليف، فإنّ إيجاب الصّلاة مثلاً يستتبع العقاب على مخالفة الصّلاة، لا أنّه يستتبع العقاب على مخالفة الصّوم.

{فإنّه يقال}: قد يكون في المقام إيجابان نفسيّان، وهذا لا شكّ في أنّ كلّ إيجاب يستتبع عقاب نفسه، كما في الصّلاة والصّوم، وقد يكون في المقام إيجاب نفسيّ وإيجاب غيريّ طريقي، وفي هذا الحال لا يكون في الحقيقة إلّا إيجاب واحد وعقاب واحد وكان المناط هو النّفسي، فإذا خولف كان فيه العقاب وإذا أُوتي به لم يكن فيه عقاب وإن خولف الأمر الطّريقي.

فمثلاً: إذ أمر المولى بإحضار زيد ثمّ لم يعرفه العبد فأمر بإحضار من في الدار الّذين فيهم زيد، فإنّ هذا الأمر الثّاني ليس نفسيّاً وإنّما هو لمصلحة إحضار زيد، فإن أحضر زيداً كان قد أتى بكلّ تكليف متوجّه إليه وإن لم يأت به كان له عقاب واحد عقلاً وشرعاً، ففي المقام ليس أمران وعقابان حتّى يدلّ أمر الاحتياط على أنّ مخالفته توجب العقاب النّاشئ عن أمر الاحتياط ويبقى عقاب التكليف الواقعي بحاله.

ف- {هذا} الّذي ذكرتم من كون إيجاب الاحتياط يستتبع العقاب على مخالفته إنّما يصحّ {إذا لم يكن إيجابه} أي: إيجاب الاحتياط {طريقيّاً} لأجل التحفّظ على التكليف الواقعي {وإلّا} بأن كان الاحتياط طريقيّاً {فهو} أي: خلاف الاحتياط {موجب لاستحقاق العقوبة على} التكليف {المجهول} الّذي

ص: 238

كما هو الحال في غيره من الإيجاب والتحريم الطّريقيّين؛ ضرورة أنّه كما يصحّ أن يحتجّ بهما، صحّ أن يحتجّ به، ويقال: لم أقدمت مع إيجابه ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان، كما يخرج بهما.

وقد انقدح بذلك: أنّ رفع التكليف المجهول كان منّةً على الأُمّة؛ حيث كان له - تعالى - وضعُهُ بما هو قضيّته من إيجاب الاحتياط، فرفعه،

___________________________________________

جعل الاحتياط لمصلحته {كما هو الحال في غيره} أي: غير الاحتياط {من الإيجاب والتحريم الطّريقيّين} كالإيجاب والتحريم المقدّمي، فإنّه لا عقاب فيهما، وإنّما العقاب مخالفة التكليف المجهول. فمثلاً: الإلقاء من السّطح حرام لكنّه حرام طريقيّ لحرمة قتل النّفس، فإذا ألقى نفسه ومات عوقب على القتل لا على الإلقاء {ضرورة أنّه كما يصحّ أن يحتجّ} المولى على العبد {بهما} أي: بالإيجاب والتحريم الطّريقيّين، بأن يقول: لم ألقيت نفسك من السّطح؟ أو لم ما ركبت السّفينة حتّى توصلك إلى الحجّ؟ {صحّ} للمولى {أن يحتجّ به} أي: بنفس التكليف.

{ويقال: لم أقدمت} على ترك الحجّ وعلى قتل نفسك {مع إيجابه} أو تحريمه {ويخرج} المولى {به} أي: بهذا الاحتجاج بقوله: لم أقدمت على ترك التكليف الواقعي؟ {عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان، كما يخرج} المولى بالاحتجاج {بهما} أي: بالإيجاب والتحريم الطّريقيّين. وهذا دليل على وحدة التكليف، إذ لو كان التكليف بالطريق وبذي الطّريق تكليفين مستقلّين لم يصحّ الاحتجاج بأيّهما، كما لا يخفى.

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من كون التكليف المجهول كان مقتضياً لإيجاب الاحتياط تحفّظاً عليه {أن رفع التكليف المجهول كان منّة على الأُمّة} كما هو ظاهر قوله - عليه الصّلاة والسّلام - : «رفع..» {حيث كان له - تعالى - وضعه بما هو قضيّته} أي: وضعه بهذه الكيفيّة {من إيجاب الاحتياط ف-} لم يضعه، بل {رفعه}

ص: 239

فافهم.

ثمّ لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة - ولا غيرها من الآثار الشّرعيّة - في «ما لا يعلمون»، فإنّ ما لا يعلم من التكليف

___________________________________________

تفضّلاً {فافهم} لعلّه إشارة إلى الفرق بين الاحتياط وبين سائر الأوامر الطّريقيّة، فإنّ في ترك الاحتياط تجرّياً يستتبع العقاب وإن أتى بالتكليف الواقعي، كما لو صلّى إلى طرف واحد - في ما اشتبهت القبلة - وترك سائر الجهات وصادفت تلك الجهة الواقع، فإنّه يعاقب للتجرّي - كما هو خيرة المصنّف - وهذا ليس كسائر الأوامر الطّريقيّة الّتي لا عقاب لها قطعاً.

{ثمّ} إنّ المحتملات العقليّة في قوله(علیه السلام): «رفع ما لا يعلمون»(1) أربعة: لأنّ «ما» الموصولة إمّا أن يراد بها الحكم وإمّا أن يراد بها فعل المكلّف، فعلى الأوّل يراد أنّ الحكم الّذي لا يعلم مرفوع، وعلى الثّاني يكون المحتملات ثلاثة:

الأوّل: رفع الفعل حقيقة، وهذا محال إذ لم ترفع أفعال المكلّفين، كشرب التتن ودعاء رؤية الهلال.

الثّاني: تقدير شيء في الكلام، أي: رفع جميع الآثار الشّرعيّة لما لا يعلمون، أو رفع الأثر الظّاهر - الّذي هو المؤاخذة - .

الثّالث: كون الإسناد مجازاً بأن أسند الرّفع إلى «ما لا يعلمون» مجازاً، مع أنّه مسند في الحقيقة إلى آثاره أو إلى مؤاخذته.

هذه محتملات الكلام، وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى مختاره بقوله: {لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة} في الكلام {ولا غيرها} أي: غير المؤاخذة {من الآثار الشّرعيّة} بأن يقال: إنّ التقدير {في} قوله: «رفع {ما لا يعلمون»} رفع مؤاخذة ما لا يعلمون أو رفع آثار ما لا يعلمون {فإنّ ما لا يعلم من التكليف}

ص: 240


1- الخصال 2: 417.

مطلقاً - كان في الشّبهة الحكميّة أو الموضوعيّة - بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً، وإن كان في غيره لا بدّ من تقدير الآثار، أو المجاز في إسناد الرّفع إليه؛

___________________________________________

كالوجوب والحرمة المجهولين {مطلقاً} سواء {كان في الشّبهة الحكميّة} كالشكّ في وجوب دعاء الرّؤية والشّكّ في حرمة شرب التتن {أو الموضوعيّة} كالشكّ في أنّ هذا المائع الخاصّ خمر أو هذا الشّخص الخاصّ ولد فتجب نفقته {بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً} إذ للشارع أن يقول يجب وأن يقول لا يجب أو يقول يحرم وأن يقول لا يحرم.

لكن لا يخفى أنّ هذا الاحتمال - أي: رفع الحكم بنفسه الّذي استظهره المصنّف(رحمة الله) - إنّما يتمّ بالنسبة إلى هذه الفقرة من الرّواية، أي: قوله: «ما لا يعلمون»، وأمّا بالنسبة إلى سائر الفقرات كقوله: «ما لا يطيقون» و «ما اضطرّوا» و «ما استكرهوا» فلا يمكن هذا الكلام، إذ لا يمكن أن يراد ب- «ما» الموصولة فيها الحكم، فإنّه لا معنى لأن يقال: «رفع حكم اضطرّ إليه» إذ الحكم لا يضطرّ إليه وإنّما الفعل والعين يضطرّ إليهما. فمثلاً: شرب الخمر يضطرّ إليه، ومن المعلوم أنّ شرب الخمر فعل، ولا يصحّ أن يقال الوجوب المضطرّ إليه مرفوع، فإنّ الوجوب - الّذي هو الحكم - لا يضطرّ إليه.

والحاصل: أنّ كون المراد ب- «ما» الحكم خاصّ بالنسبة إلى «ما لا يعلمون» {وإن كان في غيره} من سائر الفقرات {لا بدّ من تقدير الآثار} فالمراد رفع آثار ما استكرهوا عليه - مثلاً - فإنّه إذا شرب الإنسان الخمر - مثلاً - عوقب في الآخرة وجلد في الدنيا وكره تزويجه، لكن دليل الرّفع دلّ على عدم ترتّب تلك الآثار على ما إذا كان الشّرب إكراهيّاً {أو المجاز} وذلك {في إسناد الرّفع إليه} أي: إلى ذلك الغير - مثل: «ما استكرهوا» مع أنّ الإسناد في الحقيقة إلى الآثار أو إلى المؤاخذة، فيكون من قبيل إسناد الجَرَيان إلى الميزاب والحال أنّه مسند إلى الماء

ص: 241

فإنّه ليس «ما اضطرّوا أو ما استكرهوا» - إلى آخر التسعة - بمرفوع حقيقة.

نعم، لو كان المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه، لكان أحد الأمرين ممّا لا بدّ منه أيضاً.

ثمّ

___________________________________________

حقيقة في قولنا: (جرى الميزاب) {فإنّه ليس «ما اضطرّوا أو ما استكرهوا» إلى آخرالتسعة بمرفوع حقيقة} كما لا يخفى.

{نعم، لو كان المراد من الموصول} أي: لفظة «ما» {في «ما لا يعلمون» ما اشتبه حاله} أي: فعل المكلّف حتّى يكون المعنى رفع شرب التتن الّذي لا يعلم حرمته، ورفع الدّعاء عند الرّؤية الّذي لا يعلم وجوبه ممّا علم ذاته {ولم يعلم عنوانه، لكان أحد الأمرين} من تقدير الآثار أو كون الإسناد مجازيّاً {ممّا لا بدّ منه أيضاً} لكنّه قد عرفت أنّ المحتمل - بل الظّاهر - كون المراد رفع الحكم الّذي لا يعلم، فلا يحتاج إلى تقدير الآثار أو القول بكون الإسناد مجازيّاً، لكن جماعة من العلماء قالوا بأحد الأمرين ولم يقولوا بمقالة المصنّف حتّى يستقيم السّياق، إذ نسبة الرّفع إلى «ما لا يعلمون» وإلى سائر الفقرات واحدة، وحيث لا يمكن القول برفع سائر الفقرات بل لا بدّ من أحد الأمرين كان مقتضى السّياق أن يكون «ما لا يعلمون» أيضاً كذلك. وهذا الكلام من المصنّف إشارة إلى كلام الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل(1) الّذي يقول بأنّ التقدير رفع الآثار أو رفع خصوص المؤاخذة.

ثمّ إنّ الإنصاف أنّ السّياق يؤيّد كلمات أُولئك الأعلام الّذين جعلوا الموصول عبارة عن الموضوع الخارجي، وقالوا بأنّ المراد من رفعه رفع آثاره أو يكون الإسناد مجازاً بنسبة الرّفع الّذي هو للآثار إلى الموضوع ذي الأثر.

{ثمّ} هل المقدّر جميع الآثار أو الأثر الظّاهر أو المؤاخذة؟ وجوهٌ: أقواها

ص: 242


1- فرائد الأصول 2: 28.

لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة، بعد وضوح أنّ المقدّر في غير واحدٍ غيرها، فلا محيص من أن يكون المقدّر هو الأثر الظّاهر في كلّ منها، أو تمام آثارها الّتي تقتضي المنّة رفعها.

___________________________________________

الأوّل، إذ {لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة} حتّى يكون المرفوع المؤاخذة فقط على تلك التسعة {بعد وضوح أنّ المقدّر في غير واحد} من العناوين التسعة المذكورة في الرّواية {غيرها} أي: غير المؤاخذة، إذ سيأتي في الحديث تقدير غير المؤاخذة في «ما أُكرهوا» و«ما لا يطيقون» و«الخطأ» {فلا محيص من أن يكون المقدّر هو الأثر الظّاهر في كلّ منها} أي: من التسعة حتّى يكون معنى الرّفع رفع الأثر الظّاهر ل- «ما لا يعلمون» و«ما لا يطيقون» و«ما اضطرّوا إليه» و«ما استكرهوا عليه» وهكذا {أو تمام آثارها الّتي تقتضي المنّة رفعها} لكن الثّاني أولى؛ لأنّه هو المتبادر من النّسبة إلى الشّيء، فلو قيل: (زيد وجوده كالعدم) كان الظّاهر منه أنّه لا يترتّب عليه أيّ أثرٍ، لا أنّه لا يترتّب عليه الأثر الظّاهر، فإنّ كون المراد الأثر الظّاهر يحتاج إلى قرينة.

ولعلّ السّرّ في ذلك أنّ رفع جميع الآثار أقرب إلى نفي الذّات من نفي بعض الآثار ولو كان ذلك البعض هو الأثر الظّاهر.

وإنّما قيّدنا تمام الآثار بما إذا كانت المنّة تقتضي رفعها لئلّا يرتفع تمام الآثار حتّى ما لا يقتضي المنّة رفعها، فلو كسر أحدٌ إناءَ أحدٍ خطاءً، أو قتل شخصاً اضطراراً، لم يرتفع الضّمان والدِّية؛ لأنّ رفعهما ليس منّةً مطلقاً بل على الفاعل، والرّواية تدلّ على الرّفع مطلقاً منّة على الجميع، كما أنّ الرّفع قد لا يكون منّة بالنسبة إلى الفاعل، كما لو أخطأ وصام من ليس عليه الصّوم لمرض ونحوه، فإنّ جعل صومه الخطائي كلا صوم في عدم ترتّب الأثر عليه خلاف الامتنان، ولذا أفتى الفقهاء بترتّب الأثر على مثل هذا الصّوم، وكذا بالنسبة إلى الوضوء والغسل الضّرريّين.

ص: 243

كما أنّ ما يكون بلحاظه الإسناد إليها مجازاً هو هذا، كما لا يخفى.

فالخبر دلّ على رفع كلّ أثر تكليفيّ أو وضعيّ كان في رفعه منّة على الأُمّة، كما استشهد الإمام(علیه السلام) بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطّلاق والصّدقة والعتاق.

___________________________________________

{كما أنّ ما يكون بلحاظه الإسناد إليها مجازاً هو هذا} يعني أنّا لو أردنا أن لا نقدّر في الكلام شيئاً وقلنا: إنّ إسناد الرّفع إلى التسعة مجاز بلحاظ الآثار يلزم أن نقول: إنّ الإسناد إنّما هو بلحاظ جميع الآثار أو بلحاظ أظهر الآثار {كما لا يخفى} فالإسناد الّذي كان من حقّه أن يسند إلى جميع الآثار أو أظهر الآثار، فيقال: رفع آثار ما لا يعلمون أو رفع أظهر آثار ما لا يعلمون، أسند إلى نفس «ما لا يعلمون» مجازاً.ثمّ هل المرفوع بالحديث جميع الآثار التكليفيّة والوضعيّة أم خصوص الآثار التكليفيّة؟ قد يقال بالثّاني، إذ لو كان المرفوع جميع الآثار الوضعيّة كالتكليفيّة يلزم عدم الضّمان لمن أتلف مال الغير كرهاً أو جهلاً أو اضطراراً، وعدم النَّجاسة لمن شرِب النّجس أو أكله أو استعمله بسائر أنحاء الاستعمالات المعدّية اضطراراً أو جهلاً أو نحوهما، وهكذا بالنسبة إلى سائر الآثار الوضعيّة من قبيلهما. لكن الأقوى العموم {فالخبر دلّ على رفع كلّ أثر تكليفيّ أو وضعيّ كان في رفعه منّة على الأُمّة} فمن شرب الخمر جهلاً لا يحدّ كما لا يكره تزويجه ولا عقاب عليه وهكذا، أمّا الضّمان والنّجاسة فلا بدّ من خروجهما عن دليل وذلك غير ضارّ بالعموم، وقد دلّت الأدلّة على ذلك {كما} لا يخفى.

وقد {استشهد الإمام(علیه السلام) بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطّلاق والصّدقة والعتاق} ففي المحاسن عن أبيه، عن صفوان بن يحيى والبزنطي جميعاً، عن أبي الحسن(علیه السلام)، في الرّجل يستكره على اليمين، فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال(علیه السلام): «لا، قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): رفع عن

ص: 244

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ المرفوع في «ما اضطرّ إليه» وغيره - ممّا أُخذ بعنوانه الثانوي - إنّما هو الآثار المترتّبة عليه بعنوانه الأوّلي؛

___________________________________________

أُمّتي ما أُكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما أخطأوا»(1)

الخبر.

قال الشّيخ في الرّسائل: «فإنّ الحلف بالطلاق والعتاق والصّدقة - وإن كان باطلاً عندنا مع الاختيار أيضاً - إلّا أنّ استشهاد الإمام(علیه السلام) على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرّفع، شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة»(2)،

انتهى. كما أنّها تؤيّد رفع جميع الآثار سواء كانت تكليفيّة أم وضعيّة.

{ثمّ لا يذهب عليك} أنّ التسعة المرفوعة في الحديث على قسمين:

الأوّل: ما هو بعنوانه الأوّلي كالحسد والطّيرة والتفكّر في الخلق، ولا شكّ أنّ المرفوع في هذا القسم آثار هذه الأُمور، فالمعنى أنّه لا أثر شرعيّ للحسد وللطيرة وللتفكير ولا عقاب عليها إذا لم تظهر بيد أو لسان، كما في الحديث.

الثّاني: ما هو بعنوانه الثانوي، كما لا يعلمون وغيره، فإنّ شرب التتن - مثلاً - عنوان أوّليّ للفعل الخارجي الصّادر من الشّخص وكونه لا يعلم حكمه - أي: شرب التتن المجهول الحكم - عنوان ثانوي.

وفي هذا القسم يراد {أنّ المرفوع في «ما اضطرّ إليه» وغيره ممّا أُخذ بعنوانه الثانوي} الطّارئ على العنوان الأوّلي {إنّما هو الآثار المترتّبة عليه بعنوانه الأوّلي} فلو كان للإ فطار أثر من كفّارة ونحوها يرفع ذلك الأثر إذا حدث على الإفطار عنوان ثانوي، بأن كان لا يعلم أنّه شهر رمضان أو أُكره على الإفطار أو لم يطق الصّوم فأفطر أو نحو ذلك.

ص: 245


1- المحاسن: 339؛ وسائل الشّيعة 16: 173، وفيهما: «وضع...».
2- فرائد الأصول 2: 30.

ضرورة أنّ الظّاهر أنّ هذه العناوين صارت موجبة للرفع، والموضوع للأثر مستدع لوضعه، فكيف يكون موجباً لرفعه؟

لا يقال: كيف؟ وإيجاب الاحتياط في ما لا يعلم، وإيجاب التحفّظ في الخطأ والنّسيان، يكون أثراً لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها.

___________________________________________

{ضرورة أنّ الظّاهر} من الحديث {أنّ هذه العناوين} من الاضطرار والإكراه وعدم العلم ونحوها {صارت موجبة للرفع} فالأثر يلزم أن يكون قبل هذه العناوين {و} لو كانت هذه العناوين سبباً للأثر لم تكن رافعة له، إذ {الموضوع للأثر مستدعٍ لوضعه، فكيف يكون موجباً لرفعه؟}.

والحاصل: أنّ آثار العنوان الثانوي أن يكون العنوان الثانوي علّة لثبوتها لا علّة لرفعها.

{لا يقال}: ما ذكرتم من كون حديث الرّفع يرفع آثار الواقع بعنوانه الأوّلي لا بعنوانه الثانوي يقتضي أن لا يرفع الاحتياط - بأن يجب الاحتياط في ما لا يعلمون - إذ الاحتياط ليس من آثار الواقع حتّى يرفع بحديث الرّفع، بل هو من آثار الجهل بالواقع وهذا خلافالبداهة، فإنّ حديث الرّفع يرفع الاحتياط، وعلى هذا فلا يخصّ حديث الرّفع برفع آثار الواقع بعنوانه الأوّلي، بل يرفع آثار العنوان الثانوي أيضاً - كالجهل ونحوه - .

والحاصل: أنّه {كيف} تقولون بأنّ الرّفع إنّما يرفع آثار العنوان الأوّلي {و} الحال أنّ {إيجاب الاحتياط في ما لا يعلم وإيجاب التحفّظ في الخطأ والنّسيان يكون أثراً لهذه العناوين} الثلاثة {بعينها وباقتضاء نفسها} ومع ذلك يرفعها حديث الرّفع، فإن كان حديث الرّفع خاصّاً برفع الأثر على العناوين الأوّليّة فقط لم يرفع به الاحتياط والتحفّظ اللّذين هما أثران للعناوين الثانويّة؟

ص: 246

فإنّه يقال: بل إنّما تكون باقتضاء الواقع في موردها؛ ضرورة أنّ الاهتمام به يوجب إيجابهما، لئلّا يفوت على المكلّف، كما لا يخفى.

ومنها: حديث الحَجْب، وقد انقدح تقريب الاستدلال به ممّا ذكرنا في حديث الرّفع.

___________________________________________

{فإنّه يقال}: لا نسلّم بأنّ الاحتياط وإيجاب التحفّظ من آثار الجهل والخطأ والنّسيان، بل هما من آثار الواقع لكنّها آثار للواقع في ظرف الجهل والخطأ والنّسيان فليسا من العناوين الثانويّة {بل إنّما تكون} هذه الأُمور الاحتياط والتحفّظ في الخطأ والتحفّظ في النّسيان {باقتضاء} الحكم الثابت في {الواقع في موردها} أي: مورد الجهل والخطأ والنّسيان {ضرورة أنّ الاهتمام به} أي: بالواقع {يوجب إيجابهما} أي: إيجاب الاحتياط والتحفّظ {لئلّا يفوت على المكلّف} الواقع {كما لا يخفى} ومنه تبيّن أنّ حديث الرّفع إنّما يرفعهما لكونهما من آثار العناوين الأوّليّة.

نعم، لو كان هناك أثر للعناوين الثانوية لم يرفعها حديث الرّفع كسجدتي السّهو وكفّارة الخطأ وما أشبه ممّا رتّبه الشّارع على الجاهل والسّاهي ونحوهما، فإنّ هذه الأُمور تثبت بطروّ العناوين الثانويّة، لا أنّها ترتفع بتلك العناوين.

{ومنها} أي: من الرّوايات الّتي استدلّ بها على البراءة {حديث الحجب} وهو قوله - عليه الصّلاة والسّلام - : «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1).

{وقد انقدح تقريب الاستدلال به ممّا ذكرنا في حديث الرّفع} فشرب التتن محجوب عن العباد حكمه التحريمي مثلاً، فلا تحرم، ودعاء الرّؤية حكمه الإيجابي محجوب عنهم فلا وجوب، وكذلك بالنسبة إلى الشّبهات الموضوعيّة.

ص: 247


1- التوحيد: 413؛ وسائل الشيعة 27: 163.

إلّا أنّه ربّما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلّقت عنايته - تعالى - بمنع اطّلاع العباد عليه: لعدم أمر رُسُله بتبليغه، حيث إنّه بدونه لما صحّ إسناد الحجب إليه - تعالى - .

___________________________________________

والحاصل: أنّ الإلزام المجهول وجوبيّاً كان أو تحريميّاً، حكميّاً أو موضوعيّاً، تكليفيّاً أو وضعيّاً محجوب عن العباد فهو موضوع عنهم.

{إلّا أنّه ربّما يشكل} كما في الرّسائل {بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلّقت عنايته - تعالى - بمنع اطّلاع العباد عليه} بحيث كان المنع ناشئاً منه - تعالى - فقط، لا مثل ما إذا صار سبب عدم العلم عدم إيصال الرّاوي الحكم أو اشتباه الأُمور الخارجيّة، بل {لعدم أمر} اللّه - سبحانه - {رسله بتبليغه حيث إنّه بدونه} أي: بدون كون الحجب منه - تعالى - {لما صحّ إسناد الحجب إليه - تعالى -}.

ولذا قال الشّيخ: «إنّ هذه الرّواية مساوقة لما ورد عن الإمام أميرالمؤمنين - عليه الصّلاة والسّلام - : «إنّ اللّه - تعالى - حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تعصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تتكلّفوها، رحمة من اللّه - تعالى - بكم»(1)(2).لكن ربّما يقال بعدم ظهور الحديث في ذلك، حيث إنّ النّسبة إلى اللّه - تعالى - إذ كلّ شيء يقع في الكون يصحّ نسبته إليه - تعالى - حتّى أفعال العباد، إذ الآلة والأسباب كلّها منه سبحانه، ولذا يصحّ نسبة الضّلال وما أشبه إليه سبحانه. قال - تعالى - : {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ}(3)، فتأمّل.

ص: 248


1- من لا يحضره الفقيه 4: 75؛ جامع أحاديث الشيعة 30: 512.
2- فرائد الأصول 2: 41.
3- سورة الرعد، الآية: 27؛ سورة النحل، الآية: 93؛ سورة فاطر، الآية: 8.

ومنها: قوله(علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه»(1) الحديث. حيث دلّ على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقاً، ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته.

وبعدم الفصل قطعاً بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه، وبين عدم وجوب الاحتياط في الشّبهة الوجوبيّة، يتمّ المطلوب.

___________________________________________

{ومنها} أي: من الرّوايات الّتي استدلّ بها للبراءة {قوله(علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه»} إلى آخر {الحديث} فإنّه دليل على البراءة {حيث دلّ على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقاً} وفسّر قوله: «مطلقاً» بقوله: {ولو كان} عدم العلم بالحرمة {من جهة عدم الدليل على حرمته} كما لو كان عدم العلم بحرمة التبغ من جهة عدم قيام الدليل على حرمته كما هو كذلك في جميع الشّبهات الحكميّة، أمّا شمول الرّواية للشبهات الموضوعيّة فليس عليه غبار.

هذا بالنسبة إلى جريان البراءة في الشّبهات التحريميّة {و} أمّا الشّبهات الوجوبيّة - كما لو شكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو شكّ في وجوب صلة زيد لاحتمال كونه رحماً له - فنقول: {بعدم الفصل قطعاً بين إباحته} أي: الشّيء المشكوك الحرمة {وعدم وجوب الاحتياط فيه} بالترك {وبين عدم وجوب الاحتياط في الشّبهة الوجوبيّة} حكميّة كانت - كالشكّ في وجوب دعاء الرّؤية - أم موضوعيّة - كالشكّ في وجوب صلة زيد - {يتمّ المطلوب} الجار في قوله: «بعدم» متعلّق بقوله: «يتمّ» أي :إنّ الرّواية ولو تعرّضت للشبهة التحريميّة لكنّا نسحب الحكم منها إلى الشّبهة الوجوبيّة لعدم القول بالفصل، إذ لم يفصل أحد من العلماء بين الشّبهات التحريميّة والوجوبيّة بأن يقول بجريان البراءة في الأُولى دون الثّانية، وإن كان هناك قول بالتفصيل بالعكس بجريان البراءة في الشّبهات

ص: 249


1- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341. ومتن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

مع إمكان أن يقال: ترك ما احتمل وجوبه ممّا لم يعرف حرمته، فهو حلال، تأمّل.

ومنها: قوله(علیه السلام): «النّاس في سعة ما لا يعلمون»(1).

فهم في سعةِ ما لم يعلم، أو مادام لم يعلم وجوبه أو حرمته، ومن الواضح أنّه لو كان الاحتياط واجباً لما كانوا في سعة أصلاً، فيعارض به

___________________________________________

الوجوبيّة دون التحريميّة.

{مع إمكان أن يقال} في وجه تعميم الرّواية للشبهات الوجوبيّة: أنّ {ترك ما احتمل وجوبه ممّا لم يعرف حرمته فهو حلال} إذ الفعل المردّد بين الوجوب وغير الحرمة - كدعاء الرّؤية - يكون تركه مردّداً بين الحرمة وغير الوجوب، فيثبت حليّة تركه بسبب الرّواية، ف- {تأمّل} ولعلّ وجهه أنّ إرجاع الشّبهات الوجوبيّة إلى الشّبهة التحريميّة بهذه الكيفيّة خلاف ظاهر الرّواية، فإنّ ظاهرها أنّ كلّما دار بين الحرمة في الفعل وغير الوجوب كان مجرى البراءة.

{ومنها} أي: من الرّوايات الّتي استدلّ بها للبراءة {قوله(علیه السلام): «النّاس في سعة ما لا يعلمون»} و«ما» في الرّواية إمّا ظرفيّة توقيتيّة فيقرأ «سعة» بالجرّ، ويكون المعنى النّاس في سعة من التكليف مادام لم يعلموا بها، وإمّا موصولة مضاف إليها للسعة، ويكون المعنى النّاس في سعة الشّيء الّذي لا يعلمونه {فهم في سعة ما لم يعلم} بناءً على الموصولة {أو} في سعة {مادام لم يعلم وجوبه أو حرمته} بناءً على الظّرفيّة.ومن المعلوم أنّ ذلك شامل للشبهات الوجوبيّة والتحريميّة، التكليفيّة والوضعيّة، الحكميّة والموضوعيّة {و} على هذا لا يجب الاحتياط مطلقاً، إذ {من الواضح أنّه لو كان الاحتياط واجباً لما كانوا في سعة أصلاً} إذ الاحتياط ضيق فكيف يكونوا في سعة؟ {فيعارض به} أي: بقوله(علیه السلام): «النّاس في سعة»

ص: 250


1- غوالي اللئالي 1: 424؛ مستدرك الوسائل 18: 20، مع اختلاف يسير.

ما دلّ على وجوبه، كما لا يخفى.

لا يقال: قد عُلم به وجوب الاحتياط.

فإنّه يقال: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله؟

نعم، لو كان الاحتياط واجباً نفسيّاً كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه،

___________________________________________

{ما دلّ على وجوبه} أي: وجوب الاحتياط {كما لا يخفى} فلا بدّ من حمل ما دلّ على الاحتياط على الاستحباب؛ لأنّه الجمع الدلالي بين الدليلين، أمّا لو أخذنا بأدلّة الاحتياط يلزم طرح ما دلّ على أنّ النّاس في سعة، كما هو واضح.

{لا يقال}: الدّليل الأوّل وهو قوله: «النّاس في سعة» يقول: إنّ السّعة إنّما تكون إذا لم يعلموا، وأدلّة الاحتياط توجب العلم بوجوب الاحتياط فلا موضوع للدليل الأوّل معها، ف- {قد علم به} أي: بدليل الاحتياط {وجوب الاحتياط}. والحاصل: أنّ دليل الاحتياط وارد على «النّاس في سعة».

{فإنّه يقال}: لا يصلح دليل الاحتياط لكونه وارداً على السّعة، إذ الوجوب والحرمة الواقعيّان ممّا لا يعلم بهما، فالنّاس في سعة منهما، وأدلّة الاحتياط لا توجب العلم بهما حتّى تكون واردة على ما دلّ على السّعة، فإنّه {لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد} أي: بعد ورود أدلّة الاحتياط {فكيف يقع} المكلّف {في ضيق الاحتياط من أجله} أي: من أجل ما لا يعلم به من الوجوب والحرمة؟

وعلى هذا يقع التعارض بين الدليلين: السّعة تقول: أنت في سعة من التكليف الواقعي، والاحتياط يقول: أنت في ضيق منه، وقد عرفت وجه الجمع بحمل أدلّة الاحتياط على الاستحباب.

{نعم، لو كان الاحتياط واجباً نفسيّاً} بحيث إنّه كان واجباً لمصلحة في نفسه لا لمصلحة الواقع {كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه} لأنّ أدلّته حينئذٍ كانت

ص: 251

لكنّه عرفت أنّ وجوبه كان طريقيّاً، لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحياناً، فافهم.

ومنها: قوله(علیه السلام): «كلّ شيء مطلق حتّى يَرِدَ فيه نهي»(1).

___________________________________________

كانت واردة على دليل «النّاس في سعة ما لا يعلمون»(2)،

إذ لقد علموا بوجوب الاحتياط للأدلّة الدالّة عليه {لكنّه عرفت أنّ وجوبه} أي: الاحتياط {كان طريقيّاً لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحياناً} فأدلّته تقول الواقع المجهول يجب العمل به وأدلّة السّعة تقول الواقع المجهول لا يجب العمل به، كما تقدّم {فافهم} لعلّه إشارة إلى احتمال أن يكون «ما» في قوله: «في سعة ما لا يعلمون» ظرفيّة، أي: إنّ النّاس في سعة مادام لم يعلموا فإذا علموا وجوب الاحتياط لم تكن سعة إذ ما لم يعلموا محذوف المتعلّق حينئذٍ، ويحتمل أن يكون متعلّقه الحكم الواقعي وأن يكون الأعمّ من الواقع والاحتياط، وعلى هذا يكون دليل الاحتياط وارداً، ويكون حاله حال ما لو قال المولى لعبده: (إذا لم تعلم شيئاً فأنت في سعة) ثمّ قال له بالنسبة إلى دعاء الرّؤية: (واجب عليك)، وقال بالنسبة إلى الإناءين المشتبهين: (احتط عنهما)، فإنّه لا شكّ في ورود كلا الدّليلين على الدليل الأوّل المتضمّن للسعة.

{ومنها} أي: من الرّوايات الّتي استدلّ بها للبراءة {قوله(علیه السلام): «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»} وقد استدلّ به الصّدوق لجواز القنوت بالفارسيّة وأنّ الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يثبت الحضر.

ثمّ لا يخفى أنّ دلالة الرّواية على البراءة تتوقّف على كون الورود فيها بمعنى الوصول، كقوله - تعالى - : {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَمَدۡيَنَ}(3) أو نحو (ورد زيد كربلاء)،

ص: 252


1- من لا يحضره الفقيه 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.
2- غوالي اللئالي 1: 424؛ مستدرك الوسائل 18: 20، مع اختلاف يسير.
3- سورة القصص، الآية: 23.

ودلالته تتوقّف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم أو ما بحكمه، بالنهي عنه، وإن صدر عن الشّارع ووصل إلى غير واحد، مع أنّه ممنوع؛ لوضوح صدقه على صدوره عنه، لاسيّما بعد بلوغه إلى غير واحد، وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

___________________________________________

حيث إنّه فيهما بمعنى الوصول، أمّا لو قلنا بأنّ الورود بمعنى الصّدور عن الشّارع ولو لم يصل إلينا حتّى يكون مفاد الحديث أنّ الأشياء قُبيل تشريع الأحكام لها مطلقة يجوز ارتكابها فلا دلالة للرّواية على البراءة أصلاً.

ولذا قال المصنّف(رحمة الله): {ودلالته} على البراءة {تتوقّف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم} فلا ورود إذا لم نعلم وإن كان صادراً {أو ما بحكمه} أي: بحكم العلم من الأمارات والطّرق الّتي هي حجّة شرعاً أو عقلاً {بالنّهي عنه} متعلّق ب- «العلم» فلو علمنا أو قامت أمارة على النّهي عن الشّيء كان ذلك وارداً وخرج عن كونه مطلقاً وإلّا كان جائز الارتكاب {وإن صدر} النّهي بالنّسبة إليه {عن الشّارع ووصل إلى غير واحد} لأنّ المراد بالورود الوصول إلى كلّ مكلّف مكلّف، فإنّ الاحتمالات أربعة حاصلة من ضرب حالتي المطلق أي: بالنسبة إلى الجميع، أو بالنسبة إلى بعض الأفراد في حالتي الورود، أي: بالنسبة إلى الجميع أو بالنسبة إلى بعض الأفراد.

هذا إذا لم يؤخذ الورود بمعنى الصّدور عن الشّارع {مع أنّه} أي: كون الورود غير صادق إلّا بعد الوصول {ممنوع لوضوح صدقه} أي: الورود {على صدوره عنه} أي: عن الشّارع {لاسيّما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره}.

فما ذكره الشّيخ في الرّسائل(1)

من أنّ هذه الرّواية أحسن الرّوايات الدالّة على البراءة، مخدوش.

ص: 253


1- فرائد الأصول 2: 43.

لا يقال: نعم، ولكن بضميمة أصالة العدم صحّ الاستدلال به وتمّ.

فإنّه يقال: وإن تمّ الاستدلال به بضميمتها، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه، إلّا أنّه

___________________________________________

وربّما أشكل على المصنّف بأنّه إن أراد من كونه مطلقاً عدم حكم له في اللوح المحفوظ قبل صدور النّهي فهو خلاف البديهي، إذ لكلّ شيء حكم في الواقع حتّى قبل صدوره عن النّبيّ والإمام، وإن أراد من كونه مطلقاً عدم نهي عنه قبل أن ينهى عنه النّبيّ والإمام فهو ضروريّ ويكون كتوضيح الواضحات، وكلاهما لا يناسب مقام الرّواية الظّاهرة في أنّه حكم إنشائيّ ذو فائدة.

ولكن ربّما يجاب عن ذلك بأنّ المراد من كونه مطلقاً جواز ارتكابه، كما يقول به من يقول: بكون الأصل في الأشياء الإباحة مقابل من يقول: إنّ الأصل فيها الحظر، فتأمّل.

{لا يقال}: سلّمنا أنّ الورود بمعنى الصّدور لكن إذا شككنا في شيء - كشرب التتن - هل أنّه ورد فيه نهي أم لا؟ كان استصحاب عدم الورود محكماً، وبذلك تكون النّتيجة الإباحة، وعلى هذا لا يفرق بين كون الورود بمعنى الصّدور أو بمعنى الوصول {نعم} يكون الفرق في أنّ الأوّل يحتاج إلى ضمّ الاستصحاب إليه بخلاف الثّاني.

{و} الحاصل: أنّ الورود - وإن كان بمعنى الصّدور - {لكن بضميمة أصالة العدم صحّ الاستدلال به} أي: بهذا الحديث {وتمّ} حجّة البراءة.

{فإنّه يقال}: كلامنا في أنّ مجهول الحكم هل يجوز ارتكابه أم لا، وهذا الحديث لم يتعرّض لذلك وإنّما تعرّض لما لم يصدر فيه حكم، فإنّه {وإن تمّ الاستدلال به} أي: بهذا الحديث {بضميمتها} أي: ضميمة أصالة العدم {ويحكم} حينئذٍ {بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه إلّا أنّه} أي: الإطلاق والإباحة

ص: 254

لا بعنوان أنّه مجهول الحرمة شرعاً، بل بعنوان أنّه ممّا لم يرد عنهالنّهي واقعاً.

لا يقال: نعم، ولكنّه لا يتفاوت في ما هو المهم من الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.

فإنّه يقال: حيث إنّه بذاك العنوان لاختصّ بما لم يعلم ورود النّهي عنه أصلاً، ولا يكاد يعمّ ما إذا ورد النّهي عنه في زمان، وإباحتُهُ في

___________________________________________

للمجهول {لا بعنوان أنّه مجهول الحرمة شرعاً} لما عرفت أنّ مجهول الحرمة لا يشمله الحديث {بل بعنوان أنّه ممّا لم يرد عنه النّهي واقعاً} المكشوف ذلك بأصالة العدم، وهذا ممّا لا يحتاج معه إلى الحديث أصلاً، إذ أصالة العدم تجري وتحكم بعدم الحرمة وإن لم يرد هذا الحديث، كما لا يخفى.

{لا يقال}: مهم الفقيه هو الحكم بالإطلاق والإباحة، من غير فرق بين أن يكون مستنده الحديث وحده أو بضميمة أصالة العدم {نعم} هناك فرق من حيث السّبب للإباحة {ولكنّه لا يتفاوت في ما هو المهمّ من الحكم بالإباحة} والإطلاق {في مجهول الحرمة كان} الحكم بالإباحة {بهذا العنوان} أي: بعنوان أنّه مجهول الحكم - إذا قلنا بدلالة الحديث - {أو بذلك العنوان} أي: عنوان أنّه لم يرد عنه النّهي واقعاً المكشوف ذلك بأصالة العدم - إذ قلنا باحتياج الحديث إلى ضميمة أصالة العدم - .

{فإنّه يقال}: ليس الأمر على ما ذكرتم من عدم التفاوت، وإنّما يكون الدليل - بناءً على كونه مركّباً من الحديث وأصالة العدم - أخصّ من الدليل - بناءً على كونه الحديث فقط - إذ لو كان المعيار هو مجهول الحكم شمل الحكم بالإباحة ما طرأ عليه إباحة وحرمة ولم يعلم السّابق منهما، ولو كان المعيار إجراء أصالة العدم لم تجر في هذا الفرض فلا يحكم فيه بالإباحة {حيث إنّه} أي: المشكوك {بذاك العنوان} أي: بعنوان ما لم يرد فيه نهي {لاختصّ بما لم يعلم ورود النّهي عنه أصلاً} حتّى تجري أصالة العدم {ولا يكاد يعمّ ما إذا ورد النّهي عنه في زمان، وإباحة في}

ص: 255

آخر، واشتبها من حيث التقدّم والتأخّر.

لا يقال: هذا لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

فإنّه يقال:

___________________________________________

زمان {آخر، واشتبها} أي: الإباحة والنّهي {من حيث التقدّم والتأخّر} إذ لا تجري أصالة العدم حينئذٍ، وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم لمجهول الحرمة - بدون احتياج إلى ضميمة أصالة العدم - فإنّه يشمل حتّى هذه الصّورة؛ لأنّه لم يعلم حكمه فعلاً.

إن قلت: لا يشمل الحديث صورة توارد الحكمين؛ لأنّا نعلم بورود النّهي حينئذٍ فلا يشمله «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي».

قلت: كلا، إذ معنى ورود النّهي: النّهي المستمر ولا نعلم ورود النّهي المستمرّ لاحتمال كون الإباحة بعد النّهي.

{لا يقال}: في ما توارد فيه النّهي والإباحة أيضاً نحكم بالإباحة، حتّى لو قلنا باحتياج الحديث إلى ضميمة أصالة العدم، فإنّ أصالة العدم وإن لم تجر هنا إلّا أنّ عدم القول بالفصل بين أفراد المشتبهات كافٍ في الحكم بالإباحة، ف- {هذا} الّذي ذكرتم من الفرق غير تامّ؛ لأنّه إنّما يتمّ {لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته} سواء لم يعلم حالته السّابقة أصلاً أم علم بتوارد الحالين عليه.

{فإنّه يقال}: إنّه لو قام إجماع مركّب على عدم الفرق بين موردين، فإنّ أحد الموردين لو كان ثابتاً بالدليل تعدّى الحكم إلى المورد الثّاني بالإجماع المركّب، أمّا لو كان ثبوت الحكم في أحدهما بالأصل لم يثبت الحكم في الآخر، وذلك لأنّ لوازم الأدلّة حجّة بخلاف لوازم الأصول، فمثلاً: لو قام الدليل على حرمة الخمر ودلّ الإجماع على التلازم بين الخمر والفقّاع قلنا بحرمة الفقّاع؛ لأنّ لازم الحرام حرام، أمّا لو قام الأصل على حرمة الخمر ودلّ الإجماع على التلازم لم

ص: 256

وإن لم يكن بينهما الفصل، إلّا أنّه إنّما يجدي في ما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل، لا الأصل، فافهم.

___________________________________________

نقل بأنّ الفقّاع حرام، إذ لوازم الأصول ومثبتاتها ليست بحجّة.والحاصل: أنّ إثبات الحكم في اللّازم يحتاج إلى ثلاثة أُمور:

الأوّل: وجود الحكم في الملزوم.

الثّاني: الدليل على الملازمة.

الثّالث: كون اللّازم يثبت بالملزوم، فالإجماع إنّما دلّ على الأمر الثّاني - أي: الملازمة - ويبقى الأمر الثّالث رهن كون الأمّر الأوّل لازمه حجّة أو عدم كون لازمه حجّة، وحيث إنّ لازم الدليل حجّة يتمّ المطلوب. أمّا في الأصل فحيث أنّ لازمه ليس بحجّة لا يتمّ المطلوب، وفي ما نحن فيه حيث ثبت حكم الملزوم - وهو إباحة ما لا نصّ فيه - بالأصل الّذي هو أصالة بقاء الإباحة الواقعيّة، لا يمكن إثبات الحكم في اللّازم - وهو ما توارد عليه الإباحة والحرمة - بدليل الملازمة الّذي هو الإجماع المركّب المدّعى.

{و} الحاصل: أنّه و{إن لم يكن بينهما} أي: بين ما يجهل حاله وبين ما يعلم بتوارد الحالتين عليه ولم يعلم المتأخّر منهما {الفصل} القائل بالإباحة يقول فيهما والقائل بالاحتياط يقول فيهما {إلّا أنّه} أي: عدم الفصل الثابت بالإجماع المركّب {إنّما يجدي في ما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها} وهو ما لا حالة سابقة له، بل هو مجهول مطلق {الدليل} بأن كان الدليل دالّاً على الإباحة المطلقة {لا الأصل} العملي، إذ لازم الدليل حجّة وليس لازم الأصل بحجّة {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مدّعى الإجماع يريد به الإجماع على الحكم الظّاهري كما ليس ببعيد، فكأنّه يقول: كلّ من قال بالإباحة قال في الجميع، وكلّ من قال بالاحتياط قال في الجميع، فالقول بالإباحة في البعض والاحتياط في البعض

ص: 257

وأمّا الإجماع: فقد نقل على البراءة(1)، إلّا أنّه موهون، ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة؛ فإنّ تحصيله في مثل هذه المسألة - ممّا للعقل إليه سبيل، ومن واضح النّقل عليه دليل - بعيد جدّاً.

وأمّا العقل: فإنّه قد استقلّ بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول، بعد الفحص واليأس عن الظّفر بما كان حجّة عليه، فإنّهما

___________________________________________

إيجاد قول ثالث وهو مخالف للإجماع المركّب، فالإباحة الثابتة في اللّازم إنّما هو بنفس الإجماع لا بسبب كونه لازماً حتّى يقال بأنّ الأصل لا يثبت لوازمه.

هذا تمام الكلام في الرّوايات الّتي استدلّ بها للبراءة {وأمّا الإجماع فقد نقل على البراءة} القولي منه حيث إنّ بعضهم ادّعاه، والعملي حيث يعملون بالبراءة في مختلف أبواب الفقه حيث لا دليل {إلّا أنّه موهون} جدّاً {ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة} إذ مع الغضّ عن مخالفة الأخباريّين في الشّبهات التحريميّة فلا إجماع من الكلّ، وقد منع حجيّة الإجماع من باب اللطف مع أنّه لا مجال له بعد وجود المخالف، والحدسي في مثل هذه المسألة لا مجال له {فإنّ تحصيله} أي: تحصيل الإجماع {في مثل هذه المسألة ممّا للعقل إليه سبيل} كما يأتي {ومن واضح النّقل عليه دليل} كما تقدّم {بعيد جدّاً} فإنّ من شرط حجيّة الإجماع على مبنى المتأخّرين أن لا يكون محتمل الاستناد، وهذا الإجماع بعد ورود الأدلّة العقليّة والنّقليّة من محتمل الاستناد قطعاً لو لم يكن من مظنونه أو مقطوعه.

{وأمّا العقل} فقد استدلّ به على البراءة {فإنّه قد استقلّ بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول} سواء كان سبب الجهل عدم الصّدور أو عدم الوصول أو اشتباه الأُمور الخارجيّة {بعد الفحص واليأس عن الظّفر بما كان حجّة عليه} من العلم والعلمي والظّنّ في حال الانسداد {فإنّهما} أي: العقوبة

ص: 258


1- فرائد الأصول 2: 50.

بدونهما عقاب بلا بيان، ومؤاخذةٌ بلا برهان، وهما قبيحان بشهادة الوجدان.

ولا يخفى: أنّه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته، فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل، كي يتوهّم أنّها تكون بياناً. كما أنّه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة، بل في صورةالمصادفة استحقّ العقوبة على المخالفة، ولو قيل بعدم وجوب دفع الضّرر المحتمل.

___________________________________________

والمؤاخذة {بدونهما} أي: بدون الحجّة {عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان، وهما} أي: العقاب والمؤاخذة بدون الحجّة {قبيحان بشهادة الوجدان} الحاكم في باب الإطاعة والعصيان.

{و} لا يقال: إنّ في ارتكاب المشتبه احتمال للضرر ودفع الضّرر المحتمل واجب عقلاً.

لأنّا نقول: {لا يخفى أنّه مع استقلاله} أي: العقل {بذلك} أي: بقبح العقاب بلا بيان {لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته} أي: مخالفة التكليف المجهول، بل المؤاخذة تكون معلومة العدم والضّرر معلوم الانتفاء {فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل كي يتوهّم أنّها} أي: قاعدة دفع الضّرر المحتمل {تكون بياناً} فلا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان تكون رافعة لموضوع قاعدة دفع الضّرر المحتمل، وإنّما تجري قاعدة دفع الضّرر المحتمل في أطراف العلم الإجمالي {كما أنّه مع احتماله} أي: احتمال العقل للضرر {لا حاجة إلى القاعدة} أي: قاعدة دفع الضّرر المحتمل {بل في صورة المصادفة} أي: مصادفة الفعل للمضرّ {استحقّ العقوبة على المخالفة} للواقع {ولو قيل بعدم وجوب دفع الضّرر المحتمل}.

والحاصل: أنّ هاتين القاعدتين - قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقاعدة دفع الضّرر المحتمل - لهما موردان ولا ترتبط إحداهما بالأُخرى، فإن جرت قاعدة

ص: 259

وأمّا ضرر غير العقوبة، فهو وإن كان محتملاً، إلّا أنّ المتيقّن منه - فضلاً عن محتمله - ليس بواجب الدفع شرعاً ولا عقلاً

___________________________________________

قبح العقاب بلا بيان لم يبق مورد لقاعدة دفع الضّرر المحتمل، إذ لا احتمال للضرر حينئذٍ وإن لم تجر قاعدة قبح العقاب بلا بيان جرت قاعدة دفع الضّرر المحتمل، بل فوق ذلك وهو أنّه لو لم تجر قاعدة القبح يلزم عقلاً اجتناب الضّرر المحتمل - وإن قلنا بأنّه لا دليل لوجوب دفع الضّرر المحتمل - وذلك لأنّه لو صادف العمل الواقع المعاقب عليه حسن العقاب ولا مانع عنه؛ لأنّ المفروض عدم قبح العقاب، فالعقل يلزم باجتناب المحتمل لئلّا يصادف الواقع فيعاقب.

والنّتيجة أنّه لو جرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان جاز الارتكاب للمشتبه، ولو لم تجر هذه القاعدة لم يجز الارتكاب عقلاً، سواء قلنا بقاعدة دفع الضّرر المحتمل أم لا، أمّا لو قلنا بها فللقاعدة، وأمّا لو لم نقل بها فلأنّه لا مؤمن للعقاب الواقعي في صورة المصادفة.

هذا كلّه في كون الضّرر المحتمل عقوبة أُخرويّة {وأمّا} ال- {ضرر} الدنيوي {غير العقوبة} كالمرض والخسارة وما أشبههما {فهو وإن كان محتملاً} في المشتبه الحرمة والوجوب ولا يجري هنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان {إلّا أنّ} احتمال الضّرر الدنيوي غير ضارّ.

والحاصل: أنّ العقل يستقلّ في المشتبهات بالبراءة، ولا دافع لهذا الحكم العقلي إلّا احتمالان:

الأوّل: قاعدة دفع الضّرر المحتمل الأُخروي - أي: العقاب - لكن هذا غير تامّ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، كما تقدّم تقريرها.

الثّاني: قاعدة دفع الضّرر المحتمل الدنيوي، لكنّها غير صحيحة أيضاً لأنّ {المتيقّن منه} أي: من الضّرر الدنيوي {فضلاً عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعاً ولا عقلاً}

ص: 260

ضرورةَ عدمِ القبح في تحمّل بعض المضارّ ببعض الدواعي عقلاً، وجوازه شرعاً.

مع أنّ احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرّة، وإن كان ملازماً لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة؛

___________________________________________

فإنّه لم يدلّ دليل من عقل أو شرع على وجوب دفع الضّرر بقول مطلق.

نعم، الضّرر إذا كان هلاك النّفس أو ذهاب بعض الأعضاء كالعين أو الأُذن لم يجز، لإطلاق {لَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَىٱلتَّهۡلُكَةِ}(1)، وما دلّ على أنّ المثلة لا تجوز حتّى بالنفس إلّا أنّ مثل إدماء بعض الجسم أو خدش الأعضاء أو شرب ما يسبّب حمى أو ضرراً أو ما أشبهها فلا دليل شرعاً أو عقلاً على المنع عنه إذا كان متيقّناً فضلاً عمّا إذا كان محتملاً، ولذا كانوا^ يقفون حتّى تتورّم أقدامهم، ويسجدون حتّى تحتاج آثار سجودهم إلى القرض، وكان يحيى(علیه السلام) يبكي حتّى أثّر في وجهه أخاديد، ويعقوب بكى حتّى ابيضّت عيناه من الحزن، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.

{ضرورة عدم القبح في تحمّل بعض المضارّ ببعض الدواعي عقلاً وجوازه شرعاً} ولذا يركب التجّار الأهوال ويتعب أصحاب الأعمال أنفسهم ولم يقل أحد بحرمته شرعاً ولا كان ذلك مناف للعقل.

هذا بناءً على أنّ الحرمة المحتملة أو الوجوب المحتمل الّذي نقول بجواز فعل الأوّل وترك الثّاني إنّما هو إذا قلنا بتلازمهما للمضرّة والمنفعة {مع أنّ احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرّة} في محتمل الحرمة {وإن كان ملازماً لاحتمال المفسدة} الّتي هي أهمّ من المضرّة الشّخصيّة {أو ترك المصلحة} في محتمل الوجوب فإنّ الحرمة القطعيّة لا تلازم الضّرر الشّخصي، فالسرقة - مثلاً - ، لا تلازم ضرراً شخصيّاً على السّارق وإن كانت ملازمة للمفسدة؛ لأنّها توجب

ص: 261


1- سورة البقرة، الآية: 195.

لوضوح أنّ المصالح والمفاسد الّتي تكون مناطات الأحكام - وقد استقلّ العقل بحسن الأفعال الّتي تكون ذات المصالح، وقبحِ ما كان ذات المفاسد - ليست براجعةٍ إلى المنافع والمضارّ، وكثيراً ما يكون محتمل التكليف مأمون الضّرر. نعم، ربّما يكون المنفعة أو المضرّة مناطاً للحكم شرعاً وعقلاً.

إن قلت: نعم،

___________________________________________

الإخلال بالأمن العام مثلاً، كما أنّ الوجوب القطعي لا يلازم المصلحة الشّخصيّة، فإنّ إعطاء الزكاة لا يلازم عود النّفع إلى المعطي وإن كان يلازم الصّلاح العام؛ لأنّه يوجب إنعاش الفقير مثلاً، فكيف بالحرمة والوجوب المحتملين {لوضوح أنّ المصالح والمفاسد الّتي تكون مناطات الأحكام} على مبنى أهل العدل القائلين بكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد {وقد استقلّ العقل بحسن الأفعال الّتي تكون ذات المصالح} وهي الّتي أوجبها الشّرع {وقبح ما كان ذات المفاسد} وهي الّتي نهى عنها الشّرع {ليست براجعة إلى المنافع والمضارّ} الشّخصيّة.

وقوله: «ليست» خبر لقوله: «إنّ المصالح» {وكثيراً ما يكون محتمل التكليف مأمون الضّرر} فنقطع بعدم الضّرر مع أنّه نحتمل التكليف {نعم، ربّما يكون المنفعة أو المضرّة} الدنيويّتان {مناطاً للحكم شرعاً وعقلاً}.

فتحصّل: أنّ الشّيء المشتبه وجوبه أو حرمته لا مانع من جريان البراءة بالنسبة إليه، إذ العقاب الأُخروي مأمون فيه لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، والضّرر الدنيوي - أوّلاً - لا يلازم محتمل الحرمة، فمحتمل الحرمة لا يلزم أن يكون محتمل الضّ-رر وهك-ذا بالنسبة إلى محتم-ل ال-وج-وب، - وثانياً - دفع الضّرر القطعي الدنيوي غير لازم عقلاً وشرعاً فكيف بالضرر المحتمل.

{إن قلت: نعم} احتمال الوجوب لا يلازم احتمال المنفعة واحتمال الحرمة لا

ص: 262

ولكن العقل يستقلّ بقبح الإقدام على ما لا يؤمن مفسدته، أو أنّه كالإقدام على ما علم مفسدته، كما استدلّ به شيخ الطّائفة+(1) على أنّ الأشياء على الحَظْر أو الوقف.

قلت: استقلاله بذلك ممنوع، واسند: شهادة الوجدان، ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان، حيث إنّهم لا يحترزون ممّا لا تؤمن مفسدته، ولا يعامِلون معه معاملة محتمل المفسدة، كيف؟ وقد أذن الشّارع بالإقدام عليه،

___________________________________________

يلازم احتمال المضرّة، وكذلك لا يلازمان احتمال العقاب الأُخروي {ولكن العقل يستقلّ بقبح الإقدام على ما يؤمن مفسدته أو أنّه كالإقدام على ما علم مفسدته} وهذا المقدار كافٍ في لزوم العقل الاجتناب، فإنّ المفسدة المحتملة ممّا لا شكّ فيها في فعل مشتبه الحرمة وترك الوجوب، إذ عدم الوصول إلى المصلحة الملزمة مفسدة أيضاً {كما استدلّ به شيخ الطّائفة+ على أنّ الأشياء على الحظر أو الوقف} حتّى يتحقّق الإذن في الإقدام ويذهب احتمال المفسدة.

{قلت}: ليس كذلك، فإنّ استقلال العقل إنّما هو في الضّرر الأُخروي فقط، كما تقدّم تقريره، فإنّ {استقلاله بذلك} الّذي ذكرتم من قبح الإقدام على ما لا يؤمن مفسدته {ممنوع، والسّند شهادة الوجدان} فإنّ الوجدان لا يحكم بأنّ محتمل المفسدة كمقطوعها {ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان} فإنّ جميع الأسفار وأقسام التجارات وما أشبهها محتمل للمفسدة، ومع ذلك فإنّ العقلاء يقدمون عليها، ولو كانت هذه الأشياء مقطوعة المفسدة لم يقدموا عليها.

ومن ذلك تبيّن أنّ محتمل المفسدة ليس لديهم كمقطوع المفسدة {حيث إنّهم لا يحترزون ممّا لا تؤمن مفسدته} بل يقدمون عليه {ولا يعاملون معه} أي: مع محتمل المفسدة {معاملة محتمل المفسدة}.

{كيف و} الخصم يعترف بأنّه {قد أذن الشّارع بالإقدام عليه} في الشّبهات

ص: 263


1- العدة في أصول الفقه 2: 742.

ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح، فتأمّل.

واحتُجّ للقول بوجوب الاحتياط - في ما لم تقم فيه حجّة - بالأدلّة الثلاثة:

أمّا الكتاب: فبالآيات النّاهية عن القول بغير العلم،

___________________________________________

الوجوبيّة {ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح} وليس للشارع رفع احتمال المفسدة الدنيويّة حتّى يقال: إنّ إذنه كاشف عن عدم المفسدة، فإذنه يكشف عن عدم قبحه عند العقلاء {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى فرق العقلاء بين المفاسد المحتملة، ففي بعضها لا يجيزون الإقدام وفي بعضها يجيزون، فإنّ الثورة مثلاً محتمل المفسدة، ومع ذلك فالعقلاء لا يجيزونها ولا يقدمون عليها؛ لأنّ المفسدة المحتملة كبيرة جدّاً، وهذا بخلاف المفاسد الجزئيّة.

هذا تمام الكلام في الأدلّة الأربعة الّتي أُقيمت على جريان البراءة في الشّبهة البدويّة - وجوبيّة كانت أم تحريميّة، موضوعيّة أم حكميّة، مهمّة أم غير مهمّة، تكليفيّة كانت أم وضعيّة - من غير فرق في الشّبهة الحكميّة بين كون سبب الشّبهة إجمال النّصّ أو فقدانه أو تعارض النّصّين، كلّ ذلك لإطلاق ما عرفت من الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل.

[أدلة القول بالاحتياط في الشبهات البدوية والجواب عنها]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، أدلّة الاحتياط في الشبهات البدوية ومناقشتها

{واحتجّ للقول بوجوب الاحتياط في ما لم تقم فيه حجّة} على البراءة سواء في الشّبهات التحريميّة أو الوجوبيّة {بالأدلّة الثلاثة} الكتاب والسّنّة والعقل.

{أمّا الكتاب فبالآيات النّاهية عن القول بغير العلم} كقوله - تعالى - : {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1)، وقوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ}(2)، وقوله:

ص: 264


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة يونس، الآية: 59.

وعن الإلقاء في التهلكة، والآمرة بالتقوى.

والجواب: أنّ القول بالإباحة شرعاً، وبالأمن من العقوبة عقلاً، ليس قولاً بغير علم؛ لما دلّ على الإباحة من النّقل، وعلى البراءة من حكم العقل، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشّبهة أصلاً، ولا فيه مخالفة التقوى،

___________________________________________

{إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(1) {و} بما دلّ على النّهي {عن الإلقاء في التهلكة} وهو قوله -تعالى - : {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ}(2) {و} بالآية {الآمرة بالتقوى} كقوله - تعالى - : {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ}(3)، فإنّ الاقتحام في الشّبهة بدون الحجّة عمل بغير علم وإلقاء للنفس في التهلكة؛ لأنّ العلم مؤمن وغيره ليس بمؤمّن، وعمل بخلاف التقوى، فإنّ التقوى معناه الاجتناب والتحذّر والاحتياط، إذ هو مشتقّ من (وقى) ومن المعلوم أنّ الإقدام في الشّبهة خلاف ذلك كلّه.

{والجواب: أنّ القول بالإباحة شرعاً} لما دلّ من الآيات والأخبار على ذلك {وبالأمن من العقوبة عقلاً} لقبح العقاب بلا بيان {ليس قولاً بغير علم، لما دلّ على الإباحة من النّقل} كقوله: «كلّ شيء حلال»(4)،

و «كلّ شيء مطلق»(5)

{وعلى البراءة من حكم العقل}.

ولا يخفى أنّه فرق بين الإباحة والبراءة، فالإباحة إيجابيّ والبراءة سلبيّ {ومعهما} أي: مع حكمي العقل والنّقل {لا مهلكة في اقتحام الشّبهة أصلاً ولا فيه مخالفة التقوى} بل من التقوى أن يبيح الإنسان ما أباحه الشّارع فقد قال(علیه السلام): «إنّ

ص: 265


1- سورة يونس، الآية: 36.
2- سورة البقرة، الآية: 195.
3- سورة التغابن، الآية: 16.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 341.
5- من لا يحضره الفقيه 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.

كما لا يخفى.

وأمّا الأخبار:

___________________________________________

اللّه يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه»(1).

وكيف كان، فالكتاب لا دلالة فيه على الاحتياط {كما لا يخفى}.

هذا تمام الكلام في ما استدلّ به من الآيات على الاحتياط {وأمّا الأخبار} فهي طوائف كثيرة نذكر بعضها: كمقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبداللّه(علیه السلام)، وفيها بعد ذكر المرجّحات: «إذا كان كذلك أرجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشّبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(2).

وروايات السّكوني والزهري وعبدالأعلى، وفيها: «الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(3).

وخبر مسعدة، عن جعفر، عن آبائه، عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) أنّه قال: «لا تجامعوا في النّكاح على الشّبهة وقفوا عند الشّبهة» إلى أن قال: «فإنّ الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في التهلكة»(4).

وخبر حمزة، عن الصّادق(علیه

السلام) قال: «إنّه لا يسعكم في ما نزل بكم ممّا لا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتثبّت والرّدّ إلى أئمّة الهدى»(5)، وخبر جميل، عن الصّادق(علیه السلام)، عن آبائه قال: قال رسول اللّه(صلی

الله علیه و آله): «الأُمور ثلاثة: أمر بيّن لك رشده فاتّبعه، وأمر بيّن لك غيّة فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردّه إلى اللّه - عزّ وجلّ...»(6).

ص: 266


1- وسائل الشيعة 16: 232.
2- الكافي 1: 67؛ تهذيب الأحكام 6: 301.
3- الكافي 1: 50؛ تفسير العيّاشي 1: 8.
4- وسائل الشيعة 27: 159.
5- الكافي 1: 50؛ مستدرك الوسائل 17: 268.
6- من لا يحضره الفقيه 4: 400.

فبما دلّ على وجوب التوقّف عند الشّبهة، - معلّلاً في بعضها بأنّ «الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في المهلكة» - من الأخبار الكثيرة الدالّة عليه مطابقة أو التزاماً. وبما دلّ على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة.

___________________________________________

وغيرهما ممّا نقل جملة منها في الرّسائل(1).وإليها أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {فبما دلّ على وجوب التوقّف عند الشّبهة معلّلاً في بعضها بأنّ «الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في المهلكة»} فإنّ الوقوف يوجب السّلامة لا محالة بخلاف الاقتحام فإنّه يحتمل أن يكون مهلكة، ومعنى كونه خيراً هو المعنى العرفي لا التفضيل، أو يراد أنّ صعوبة الوقوف أقلّ من صعوبة الهلكة {من الأخبار الكثيرة الدالّة عليه مطابقة} مثل ما تضمّن الأمر بالوقوف: فإنّه يدلّ على الوقوف مطابقة {أو التزاماً} مثل ما دلّ على الإرجاء والتثبّت الّذي هو لازم الوقوف {وبما دلّ على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة} كصحيحة عبدالرّحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال: «بل عليهما أن يجزى كلّ واحد منهما الصّيد». فقلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ قال: «إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا وتعلموا»(2).

وموثّقة عبداللّه بن وضّاح قال: كتبت إلى العبد الصّالح عنّا يتوارى القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعاً ويستر عنّا الشّمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذّن عندنا المؤذّنون فأُصلّي حينئذٍ وأفطر إن كنت صائماً أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة الّتي فوق الجبل؟ فكتب(علیه السلام): «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة

ص: 267


1- فرائد الأصول 2: 68.
2- الكافي 4: 391.

والجواب: أنّه لا مهلكة في الشّبهة البدويّة، مع دلالة النّقل على الإباحة، وحكم العقل بالبراءة، كما عرفت.

وما دلّ على وجوب الاحتياط - لو سلم - وإن كان وارداً على حكم العقل؛ فإنّه كفى بياناً على العقوبة - على مخالفة التكليف المجهول -

___________________________________________

وتأخذ الحائطة لدينك»(1).

وقول أميرالمؤمنين(علیه السلام) لكميل: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(2)،

إلى غير ذلك.

{والجواب: أنّه لا مهلكة في الشّبهة البدويّة} غير المقرونة بالعلم الإجمالي {مع دلالة النّقل على الإباحة} كما تقدّم من قوله(علیه السلام): «كلّ شيء حلال»(3)

و«كلّ شيء مطلق»(4) و «رفع ما لا يعلمون»(5) {وحكم العقل بالبراءة} لقبح العقاب بلا بيان {كما عرفت} سابقاً {وما دلّ على وجوب الاحتياط لو سلم} أنّ ظاهر الأدلّة الوجوب ولم نقل أنّه للاستحباب، كما يوجد بعض القرائن الدالّة على ذلك في نفس الأخبار، كما يشهد له قوله في خبر كميل: «بما شئت»، وغيره ممّا ذكره الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل {وإن كان وارداً على حكم العقل فإنّه كفى بياناً على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول} فإنّه لا فرق لدى العقل بين أن يقول المولى: اعمل كذا، أو احتط في هذا الموضوع، في عدم بقاء مجال لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، إذ إيجاب الاحتياط أيضاً بيان.

ص: 268


1- تهذيب الأحكام 2: 259.
2- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 341.
4- من لا يحضره الفقيه 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.
5- الخصال 2: 417.

ولا يُصغى إلى ما قيل: من «أنّ إيجاب الاحتياط إن كان مقدّمة للتحرّز عن عقاب الواقع المجهول، فهو قبيح، وإن كان نفسيّاً فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع» وذلك لما عرفت من أنّ إيجابه يكون طريقيّاً، وهو عقلاً ممّا يصحّ أن يحتجّ به على المؤاخذة في مخالفة الشّبهة،

___________________________________________

{ولا يصغى إلى ما قيل} والقائل هو الشّيخ {من «أنّ إيجاب الاحتياط} لا يمكن أن يكون طارداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، إذ لا يخلو الواقع من أمرين:الأوّل: كون إيجاب الاحتياط طريقيّاً لإحراز التكليف المجهول، وعلى هذا فالتكليف مجهول ولا بيان له، فلا يمكن العقاب عليه، كما لا يمكن العقاب على ترك الاحتياط، لفرض أنّه طريقي والطّريق لا عقاب على تركه ولا ثواب على فعله.

الثّاني: كون إيجاب الاحتياط نفسيّاً، وعلى هذا يكون العقاب على ترك الاحتياط الّذي هو واجب نفسي ولا يكون على مخالفة التكليف المجهول.

والحاصل: أنّ الاحتياط {إن كان مقدّمة للتحرّز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح} إذ الشّيء المجهول لا عقاب عليه، لما تقدّم من قاعدة قبح العقاب بلا بيان {وإن كان} الاحتياط {نفسيّاً، فالعقاب} يكون {على مخالفته لا على مخالفة الواقع»} وعلى كلا التقديرين لا يمكن أن يكون الاحتياط طارداً، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

{و} لا يخفى أنّ هذا الكلام غير تامّ، و{ذلك} لأنّا نختار الشّقّ الأوّل - وهو كون إيجاب الاحتياط طريقيّاً - لكنّا نقول بعد إيجاب الاحتياط لا مجال لقاعدة القبح، إذ لا فرق في البيان بين كونه بياناً للتكليف بنفسه أو بياناً للاحتياط الّذي يسبب التحفّظ على التكليف {لما عرفت من أنّ إيجابه} أي الاحتياط {يكون طريقيّاً، وهو عقلاً ممّا يصحّ أن يحتجّ به على المؤاخذة في مخالفة الشّبهة} الّتي

ص: 269

كما هو الحال في أوامر الطّرق والأمارات والأصول العمليّة، إلّا أنّها تعارض بما هو أخصّ وأظهر؛ ضرورة أنّ ما دلّ على حليّة المشتبه أخصّ، بل هو في الدلالة على الحليّة نصّ، وما دلّ على الاحتياط غايته أنّه ظاهر في وجوب الاحتياط.

___________________________________________

أوجب الاحتياط فيها {كما هو الحال في أوامر الطّرق والأمارات والأصول العمليّة} فإنّ جميعها وضعت طريقاً لدرك مصلحة الواقع، ومع ذلك فإنّ كلّها واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وأيّ فرق بين الاحتياط شرعاً في الشّبهة البدويّة - إذا قلنا به - والاحتياط عقلاً في الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

وكيف كان، فالحقّ في الجواب أن نقول: إنّ أخبار الاحتياط وإن كانت واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان {إلّا أنّها تعارض بما هو أخصّ} منها {وأظهر} وهذا استدراك لقوله: «وإن كان وارداً على حكم العقل»، فهنا طائفتان من الأخبار: طائفة تدلّ على الاحتياط، وطائفة تدلّ على البراءة، لكن ترجيح الطّائفة الثّانية على الطّائفة الأُولى بأُمور:

الأوّل: أنّ أدلّة الاحتياط تشمل الشّبهات البدويّة والمقرونة بالعلم الإجمالي، بخلاف أخبار البراءة فإنّها خاصّة بالشبهات البدويّة.

الثّاني: أنّ أخبار البراءة أظهر، إذ هي نصّ في البراءة وأخبار الاحتياط ظاهر في الوجوب، فلا بدّ من حملها على الاستحباب كما هو مقتضى الجمع الدلالي، فإنّه إن أخذنا بأخبار الاحتياط لم يبق وجه لأخبار البراءة بخلاف العكس.

الثّالث: أنّ في أخبار الاحتياط شواهد تدلّ على أنّها للإرشاد - كما في أوامر الإطاعة - .

{ضرورة أنّ ما دلّ على حليّة المشتبه أخصّ} ممّا دلّ على الاحتياط {بل هو في الدلالة على الحليّة نصّ} صريح {وما دلّ على الاحتياط غايته أنّه ظاهر في وجوب الاحتياط} فيقدّم النّصّ على الظّاهر - كما هو القاعدة المطّردة في جميع موارد

ص: 270

مع أنّ هناك قرائن دالّة على أنّه للإرشاد، فيختلف إيجاباً واستحباباً حسب اختلاف ما يرشد إليه.

___________________________________________

تعارض النّصّ والظّاهر - والسّرّ ما تقدّم من أنّ الظّاهر يمكن الإغماض عن ظاهره والإبقاء على أصله بخلاف النّصّ، فإنّه لا مجال له إلّا الطّرح {مع أنّ هناك قرائن دالّة على أنّه} أي: الاحتياط {للإرشاد} أي: حكم العقل {فيختلف إيجاباً واستحباباً حسب اختلاف ما يُرشد إليه} فإن كان المرشد إليه واجباً - كالشبهة في أطراف العلم الإجمالي - كان الاحتياط واجباً لحكم العقل، وإن كان المرشد إليه مستحبّاً - كالشبهة البدويّة - كان الاحتياط مستحبّاً لحكم العقل بذلك.

وأمّا القرائن الدالّة على كون الأمر بالاحتياط إرشاداً فهي أنّ في كثير منها علل الاحتياط بأنّه سبب للتحرّز عن المحذور ونحوه ممّا ظاهره الإرشاد، كقول أميرالمؤمنين(علیه السلام): «حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان لهأترك، والمعاصي حمى اللّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها»(1).

ورواية الباقر(علیه السلام) قال: «كان جدّي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يأمر بترك الشّبهات بين الحلال والحرام: من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا وإنّ حمى اللّه محارمه فاتّقوا حمى اللّه ومحارمه»(2).

وما ورد من أنّ «في حلال الدنيا حساباً، وفي حرامها عقاباً، وفي الشّبهات عتاباً»(3).

ص: 271


1- من لا يحضره الفقيه 4: 75.
2- وسائل الشيعة 27: 169؛ بحار الأنوار 2: 261، مع اختلاف يسير.
3- مستدرك الوسائل 12: 52.

ويؤيّده: أنّه لو لم يكن للإرشاد يوجب تخصيصه - لا محالة - ببعض الشّبهات إجماعاً، مع أنّه آبٍ عن التخصيص قطعاً.

كيف لا يكون قوله: «قف عند الشّبهة؛ فإنّ الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة» للإرشاد؟ مع أنّ المهلكة ظاهرةٌ في العقوبة، ولا عقوبة في الشّبهة البدويّة قبل إيجاب الوقوف والاحتياط،

___________________________________________

ورواية الفضل بن عياض قال: قلت لأبي عبداللّه(علیه السلام): مَنِ الورع من النّاس؟ قال: «الّذي يتورّع عن محارم اللّه - تعالى - ويجتنب هؤلاء فإذا لم يتّق الشّبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه...»(1)، إلى غير ذلك.

وقد ذكر شيخنا المرتضى في الرّسائل(2) شواهد على ذلك {ويؤيّده أنّه لو لم يكن للإرشاد يوجب تخصيصه} أي: الاحتياط {لا محالة ببعض الشّبهات إجماعاً} كالشبهات الوجوبيّة الّتي حتّى الأخباريّ لا يقول بوجوب الاحتياط فيها، فاللّازم أن نقول: إنّ الاحتياط واجب إلّا في الشّبهات الوجوبيّة {مع أنّه} أي: ما دلّ على الاحتياط {آبٍ عن التخصيص قطعاً} لأنّ لسانه لسان الوقوف عند الشّبهة، وإنّ الرّعي حول الحمى يوجب الوقوع فيه، وإنّ في الشّبهات عتاباً، وإنّ الأُمور ثلاثة بيّن رشده وبيّن غيّه وشبهات، ومن المعلوم أنّ أيّ عنوان من هذه العناوين لا يحتمل تخصيصاً.

و{كيف لا يكون قوله: «قف عند الشّبهة، فإنّ الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة» للإرشاد} إلى حكم العقل إن واجباً فواجب وإن مندوباً فمندوب {مع أنّ المهلكة ظاهرة في العقوبة، ولا عقوبة في الشّبهة البدويّة قبل إيجاب الوقوف والاحتياط} يعني أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ المهلكة يراد بها العقوبة، إذ لا ضرر

ص: 272


1- الكافي 5: 108.
2- فرائد الأصول 2: 80.

فكيف يعلّل إيجابه بأنّه خير من الاقتحام في المهلكة.

لا يقال: نعم، ولكنّه يستكشف منه - على نحو الإِنِّ -

___________________________________________

دنيويّة في بعض المحرّمات فكيف بالشبهة، وإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ العقوبة الأُخرويّة لا تكون إلّا بعد البيان، إذ لا يصحّ العقاب بلا بيان، وعلى هذا فلا مهلكة قبل البيان {فكيف يعلّل إيجابه} أي: الاحتياط {بأنّه خير من الاقتحام في المهلكة} إذ المهلكة متوقّفة على الإيجاب فكيف يتوقّف الإيجاب عليها؟!

وعلى هذا، فلا بدّ أن يحمل الكلام على الإرشاد وإنّه يرشد إلى حكم عقليّ، وهو أنّ المشتبه إن كان في أطراف العلم الإجمالي يجب الوقوف عنده وإن كان بدويّاً يستحبّ.

لكن ربّما يقال: إنّه ليس تعليلاً حقيقيّاً حتّى يجب أن يكون مقدّماً ويلزم ما ذكر، بل هو كشف عن العلّة، كقول المولى: (لا تشرب الخمر) فإنّه يوجب العقاب.

إذ لا يمكن أن يقال: إنّه كيف يمكن التعليل بالعقاب لما لم يسبق نهي عنه، فتأمّل.

{لا يقال}: من هذا التعليل نستكشف إيجاب الشّارع للاحتياط واقعاً، فالاحتياط واجب واقعيّ في الشّبهة البدويّة قبل الفحص، كما هو واجب في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي وفي الشّبهة البدويّة قبل الفحص، وقد كشف عنه الشّارع بهذه العبارة.

والحاصل: أنّه {نعم} صحيح ما ذكرتم من عدم إمكان تعليل وجوب الوقوف العقاب {ولكنّه} إذا كان تعليلاً حقيقيّاً، وليسكذلك، بل {يستكشف منه} أي: من هذا التعليل {على نحو الإنّ} وهو الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلّة، كالاستدلال لوجوده - تعالى - من آثاره، مقابل الاستدلال اللِّمّ، وهو

ص: 273

إيجابُ الاحتياط من قبلُ، ليصحّ به العقوبة على المخالفة.

فإنّه يقال: إنّ مجرّد إيجابه واقعاً ما لم يعلم لا يصحّ العقوبة، ولا يخرجها عن أنّها بلا بيان ولا برهان، فلا محيص عن اختصاص مثله بما يتنجّز فيه المشتبه - لو كان - ، كالشبهة قبل الفحص مطلقاً، أو الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، فتأمّل جيّداً.

وأمّا العقل: ف-

___________________________________________

الاستدلال بوجود العلّة على وجود المعلول، كالاستدلال لوجود الحرارة هناك من وجود النّار {إيجاب الاحتياط من قبل} أي: قبل ورود هذا الحديث وهو قوله(علیه السلام): «قف عند الشّبهة» الخ {ليصحّ به العقوبة على المخالفة} والضّمير في «به» عائد إلى إيجاب الاحتياط.

{فإنّه يقال}: الإيجاب الواقعي غير واصل فلا يجوز التكليف، والتعليل الوارد غير صالح لما عرفت، فلا دليل على الإيجاب في الشّبهة البدويّة بعد الفحص ف- {إنّ مجرّد إيجابه} أي: الاحتياط {واقعاً ما لم يعلم لا يصحّ العقوبة ولا يخرجها} أي: العقوبة {عن أنّها بلا بيان ولا برهان} وقد عرفت أنّ التعليل أيضاً لا يصحّ أن يكون إيجاباً، فلا إيجاب في البين إطلاقاً {فلا محيص عن اختصاص مثله} أي: مثل إيجاب الاحتياط {بما يتنجّز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقاً} سواء في الشّبهة البدويّة أو المقرونة بالعلم الإجمالي {أو الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، فتأمّل جيّداً} وفي حقائق الأصول(1)

تفصيل طويل حول الموضوع، فراجع.

هذا تمام الكلام في الدليل الثّاني من أدلّة القائل بالاحتياط في الشّبهة. {وأمّا العقل ف-} قد استدلّ به للاحتياط بأنّا نعلم بأحكام كثيرة في بين المشتبهات، ومقتضى هذا العلم الإجمالي الاحتياط في كلّ شبهة إلّا إذا ظفرنا بالدليل، لما

ص: 274


1- حقائق الأصول 2: 242.

لاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبُه، وترك ما احتمل حرمتُه - حيث علم إجمالاً بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في ما اشتبه وجوبه أو حرمته، ممّا لم يكن هناك حجّة على حكمه - ؛ تفريغاً للذمّة بعد اشتغالها، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلّا من بعض الأصحاب(1).

والجواب: أنّ العقل وإن استقلّ بذلك، إلّا أنّه إذا لم ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيليّ وشكّ بدويّ، وقد انحلّ هاهنا

___________________________________________

تقدّم في باب العلم الإجمالي من لزوم الاحتياط في أطرافه {لاستقلاله} أي: العقل {بلزوم فعل ما احتمل وجوبه} بالنسبة إلى الشّبهة الوجوبيّة {وترك ما احتمل حرمته} بالنسبة إلى الشّبهة التحريميّة {حيث علم إجمالاً بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في ما اشتبه وجوبه أو حرمته ممّا لم يكن هناك حجّة على حكمه} سواء كانت الحجّة موافقة للاحتياط أو مخالفة له، وإنّما يجب فعل محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة {تفريغاً للذمّة بعد} العلم ب- {اشتغالها} بالأحكام {ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي} الّذي لم ينحلّ {إلّا من بعض الأصحاب} الّذين ذهبوا إلى عدم وجوبه في بعض الأطراف أو في جميعها، ولا يعتدّ بخلافهم لقيام الدليل على وجوبه مطلقاً.

{والجواب: أنّ العقل وإن استقلّ بذلك} الّذي ذكرتم - من أنّ العلم الإجمالي منجّز للتكليف وموجب للاحتياط في الأطراف المشتبهة - {إلّا أنّه} إنّما يصحّ {إذا لم ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيليّ وشكّ بدويّ وقد انحلّ هاهنا} فإذا علمت أنّ في هذه الأواني العشرة إناءً نجساً على سبيل الإجمال، ثمّ علمت أنّ ذلك الإناء النّجس هو هذا المخصوص، فإنّه لا يجب الاجتناب حينئذٍ عن بقيّة الأواني، إذ العلم الإجمالي انحلّ إلى علمتفصيليّ بنجاسة هذا الإناء الخاصّ

ص: 275


1- قوانين الأصول 2: 35؛ مدارك الأحكام 1: 107؛ ذخيرة المعاد 1: 138.

فإنّه كما علم بوجود تكاليف إجمالاً، كذلك علم إجمالاً بثبوت طرق وأُصول معتبرة مثبتة لتكاليف، بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد، وحينئذٍ لا علم بتكاليف أُخر غير التكاليف الفعليّة في الموارد المثبتة من الطّرق والأصول العمليّة.

___________________________________________

وشكّ بدويّ بنجاسة سائر الأواني، فلا تبقى تلك الأواني الباقية طرفاً للعلم ولا هي معلومة النّجاسة، والعقل لا يلزم إلّا إذا كان الشّيء معلوم الحكم أو طرفاً للعلم.

ثمّ إنّه لا فرق في الانحلال بين أن يكون العلم الثّاني إجماليّاً أو تفصيليّاً، ففي المثال لو علم ثانياً بأنّ النّجس الموجود في البين في أحد هذين الإنائين من الأواني العشرة لم يجب الاجتناب عن الأواني الثمانية الباقية لعين ما ذكر في الفرض السّابق، وما نحن فيه من هذا القبيل {فإنّه كما علم بوجود تكاليف إجمالاً} بين جميع المشتبهات {كذلك علم إجمالاً} علم إجماليّ أضيق دائرة من العلم الإجمالي الأوّل {بثبوت طرق وأُصول معتبرة مثبتة لتكاليف} معيّنة {بمقدار تلك التكاليف المعلومة} بالعلم الإجمالي الأوّل {أو أزيد، و} ذلك كما إذا علمنا بالعلم الإجمالي الوسيع أنّ لنا تكاليف يبلغ عددها ألفاً، ثمّ علمنا بوجود الطّرق والأمارات الّتي تدلّ على ألف تكليف أو أكثر، فإنّه {حينئذٍ لا علم بتكاليف أُخر غير التكاليف الفعليّة} المعلومة {في الموارد المثبتة من الطّرق والأصول العمليّة} حتّى يجب الاحتياط في كلّ شبهة. وإنّما قيّد الموارد ب- «المثبتة» لأنّ الطّرق والأصول النّافية لا تدلّ على التكليف المجهول فلا يوجب انحلال العلم.

نعم، يوجب خروج ذلك المورد الذي دل على أنه لا تكليف فيه عن طرف العلم الإجمالي الكبير، فلا يجب فيه الاحتياط وإن لم ينحلّ العلم، وذلك كما لو تردّد النّجس بين عشرة أواني ثمّ علمنا بأنّ هذا الإناء الخاصّ ليس نجساً، فإنّه

ص: 276

إن قلت:

___________________________________________

يخرج عن أطراف الشّبهة وتكون دائرة العلم أضيق، فتكون خاصّة بتسعة، كما لا يخفى.

{إن قلت}: ما ذكرتم من انحلال العلم الإجمالي الأوّل إلى العلم الإجمالي الثّاني - في أطراف الأمارات والأصول - والشّبهة البدويّة غير تامّ، إذ العلم الإجمالي لا ينحلّ مطلقاً، بل هو على قسمين:

الأوّل: أن يقارن العلم الثّاني العلم الأوّل أو يتقدّمه، كأن يعلم ابتداءً علمين: علماً بوجود أحكام بين المشتبهات، وعلماً بأنّ تلك الأحكام في الأمارات والأصول، أو يتقدّم العلم الثّاني على العلم الأوّل، وهاهنا ينحلّ العلم الكبير إلى العلم الصّغير، لأنّه لم يعلم بتكليف منجّز عليه في أكثر من أطراف العلم الثّاني، ويكون حاله حال ما علم إجمالاً بنجاسة أحد إنائين كان أحدهما محلّ ابتلائه والآخر ليس محلّ ابتلائه، فإنّه لا يتنجّز هذا العلم بل يكون الطّرف الّذي هو محلّ الابتلاء شبهة بدويّة يجري فيه البراءة.

الثّاني: أن يتقدّم العلم الإجمالي الأوّل على العلم الثّاني، كأن علم بوجود أحكام بين المشتبهات ممّا أوجب الاحتياط في أطرافها ثمّ علم بأنّ تلك الأحكام محصورة في الأمارات والأصول، فإنّ هذا العلم الثّاني لا يوجب انحلال العلم الأوّل حتّى يقال بأنّ موارد الأمارات والأصول معلومة وغيرها من سائر المشتبهات مشكوكة، فيجري البراءة فيها، بل يكون حال ذلك حال ما لو علم بنجاسة أحد الإنائين كانا محلّ ابتلائه ثمّ أُريق أحدهما أو خرج عن محلّ ابتلائه، فإنّه لا يوجب رفع الاحتياط بالنسبة إلى الطّرف الباقي، مع أنّه لا علم بتكليف فعلي. والسّرّ في الفرق بين الصّورتين أنّ العلم الإجمالي في الثّانية قد تنجّز فيجب الاحتياط في جميع أطرافه بخلاف الأُولى، فإنّ العلم لم يتنجّز في أكثر

ص: 277

نعم، لكنّه إذا لم يكن العلم بها مسبوقاً بالعلم بالتكاليف.

قلت:

___________________________________________

من مقدار العلم الصّغير.

وهذا ما أشار إليه بقوله: {نعم} يتمّ الانحلال {لكنّه إذا لم يكن العلم بها} أي: بالأمارات والأصول{مسبوقاً بالعلم بالتكاليف} في جميع المشتبهات، أمّا إذا علم أوّلاً إجمالاً بتكاليف في مطلق المشتبهات ثمّ علم بأنّ التكاليف في الأصول والأمارات فلا ينحلّ العلم الأوّل حتّى لا يجب الاحتياط في سائر المشتبهات.

{قلت}: العلم الإجمالي الثّاني على قسمين:

الأوّل: أن ينطبق على المعلوم بالإجمال أوّلاً، كما لو علمنا بأنّ أحد هذه الأواني العشرة نجس ثمّ علمنا بأنّ ذلك النّجس بعينه في أحد هذه الخمسة من تلك العشرة، وفي هذا القسم لا يفرق بين سبق العلم الثّاني وتقارنه مع العلم الأوّل وتأخّره عنه، في انحلال العلم الإجمالي الأوّل وعدم وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الخمسة الباقية وليس هذا كما مثلتم من خروج بعض الأطراف عن الابتلاء بعد العلم الإجمالي حيث يجب الاجتناب عن الباقي، إذ في المثال يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على الإناء الباقي بخلاف ما نحن فيه، إذ يقطع بعدم وجود النّجس في الخمسة الباقية حيث علم بأنّ النّجس المنجّز المعلوم في تلك الخمسة.

الثّاني: أن لا ينطبق المعلوم الثّاني على المعلوم الأوّل، كما لو علمنا بأنّ أحد هذه الأواني العشرة نجس ثمّ علمنا بأنّ أحد هذه الخمسة نجس، ولم نعلم أنّ نجاسة أحد الخمسة هي نجاسة أحد العشرة أو غيرها، كما لو علمنا أنّ قطرة دم قطرت في إحدى العشرة ثمّ علمنا بأنّ إحدى الخمسة نجسة ولم نعلم أنّها بسبب

ص: 278

إنّما يضرّ السّبق إذا كان المعلوم اللّاحق حادثاً، وأمّا إذا لم يكن كذلك، بل ممّا ينطبق عليه ما علم أوّلاً،

___________________________________________

تلك القطرة من الدم أو بسبب نجاسة أُخرى، كما لو رأينا النّجاسة الأُولى وقامت بيّنة إجماليّة على النّجاسة الثّانية ولم تبيّن السّبب، فإنّ هنا يفرق الأمر بين أن يكون العلم الإجمالي الثّاني سابقاً ومقارناً للعلم الأوّل، وبين أن يكون العلم الإجمالي الثّاني لاحقاً، فإنّ الصّورة الأُولى وهي سبق العلم الثّاني أو تقارنه يوجب الانحلال، بخلاف الصّورة الثّانية وهي لحوق العلم الثّاني.

ووجه الفرق: أنّه لو كان العلم الصّغير سابقاً على العلم الكبير - بأن قامت بيّنة أوّلاً على نجاسة إحدى الخمسة - ثمّ قطرت قطرة في إحدى العشرة لم يحصل علم بتكليف جديد حتّى تتوسّع دائرة العلم الإجمالي الصّغير، وعليه فلا يجب الاجتناب عن الخمسة الباقية، ومثله لو كان العلمان مقترنين أمّا لو كان العلم الصّغير لاحقاً فلم يكن هناك سبب لانحلال العلم الكبير بعد تنجّزه، إذ لم يعلم أنّ هذا العلم بعينه ينطبق على العلم الأوّل حتّى ينحلّ العلم الكبير إلى العلم التفصيلي الصّغير والشّكّ البدوي بالنسبة إلى غيره.

إذا عرفت ذلك قلنا في ما نحن فيه - وهو العلم إجمالاً بوجود تكاليف في جميع المشتبهات ثمّ العلم بأنّ تلك التكاليف في الأصول والأمارات - إنّه من قبيل القسم الأوّل، ولذا ينحلّ العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الثّاني، لما عرفت من أنّه {إنّما يضرّ السّبق} أي: سبق العلم الإجمالي الكبير على العلم الثّاني - ومضرّته عدم الانحلال - في ما {إذا كان المعلوم اللّاحق حادثاً} كما إذا علم بأنّ إحدى العشرة نجس ثمّ قامت بيّنة بأنّ إحدى هذه الخمسة نجس - وكانت البيّنة لم تبيّن السّبب المنطبق على العلم الأوّل - {وأمّا إذا لم يكن} المعلوم اللّاحق {كذلك} أي: حادثاً {بل} كان المعلوم اللّاحق {ممّا ينطبق عليه ما علم أوّلاً} كما لو قامت

ص: 279

فلا محالة قد انحلّ العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشّكّ البدوي.

إن قلت: إنّما يوجب العلم بقيام الطّرق - المثبتة له بمقدار المعلوم بالإجمال - ذلك،

___________________________________________

البيّنة في المثال على أنّ القطرة من الدم الّتي رأيت سقوطها في إحدى العشرة إنّما سقطت في إحدى هذه الخمسة {فلا محالة قد انحلّ العلم الإجمالي إلى} العلم {التفصيلي} في هذه الخمسة الّتي قامت عليها البيّنة {والشّكّ البدوي} في الخمسة الأُخر، فلا يجب الاجتناب عنها.

{إن قلت}: ما ذكرتم من انحلال العلم الإجمالي بالتكليف في جميع المشتبهات إلى العلم في أطراف الأمارات والأصول غير تامّ، إذ الأمارات والأصول إنّما هي منجزة للواقع في صورة المصادفة ومعذرة في صورة المخالفة - كما سبق من أنّ معنى جعل الشّارع ليس إلّا التنجيز والإعذار - ومن المعلوم أنّ التنجيز والإعذار غير الكشف عن التكليف الواقعي حتّى يوجب الانحلال، فلو رأينا أنّ قطرة خمر قطرت في إحدى الأواني العشرة ثمّ علمنا أنّها إنّما وقعت في إحدى هاتين انحلّ العلم إلى يقين وشكّ، أمّا لو قام دليل على أنّها وقعت في إحداهما بحيث لو صادف الواقع كان منجّزاً له ولو خالف كان معذّراً لم ينحلّ العلم، إذ لم يعلمالمكلّف بأنّ التكليف في إحداهما وإنّما يعلم بالتنجيز والإعذار في إحداهما، فالعلم الإجمالي الأوّل بين عشرة المقتضي للاحتياط باق على حاله، فيجب الاجتناب عن الجميع.

وإن شئت قلت: إنّ الأمارة حيث إنّها طريقٌ لا تدلّ على التكليف حتّى ينحلّ العلم الإجمالي وإنّما تدلّ على التنجيز والإعذار، فالتكليف غير معلوم كونه في مؤدّيات الأمارات والأصول حتّى ينحلّ العلم، إذ أنّه {إنّما يوجب العلم بقيام الطّرق المثبتة له} أي: التكليف {بمقدار المعلوم بالإجمال} الظّرف متعلّق ب- «قيام» أي: قيام الطّرق بمقدار العلم الإجمالي {ذلك} أي: الانحلال، وهذا

ص: 280

إذا كان قضيّة قيام الطّريق على تكليفٍ موجباً لثبوته فعلاً. وأمّا بناءً على أنّ قضيّة حجيّته واعتباره شرعاً ليس إلّا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلاً - وهو تنجّز ما أصابه والعذر عمّا أخطأ عنه - ، فلا انحلال لما علم بالإجمال أوّلاً، كما لا يخفى.

قلت: قضيّة الاعتبار شرعاً - على اختلاف ألسنة أدلّته -

___________________________________________

مفعول لقوله: «يوجب» أي: إنّما يوجب بالطريق انحلال العلم الإجمالي الكبير {إذا كان قضيّة} أي: مقتضي {قيام الطّريق على تكليف موجباً لثبوته} أي: ثبوت ذلك التكليف {فعلاً} وهذا غير صحيح؛ لأنّه موجب للقول بالسببيّة، وهو قسم من التصويب، كما تقدّم {وأمّا بناءً على} ما هو الصّحيح عندنا من {أنّ قضيّة حجيّته واعتباره شرعاً ليس إلّا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلاً} أي: القطع الّذي هو طريق معتبر عقلاً {وهو} أي: ما للطريق المعتبر عقلاً {تنجّز ما أصابه} الواقع {والعذر عمّا أخطأ عنه} أي: عن الواقع {فلا انحلال لما علم بالإجمال أوّلاً} بل العلم الإجمالي الوسيع باقٍ على حاله {كما لا يخفى} على من تأمّل.

{قلت}: ما ذكرتم من أنّ جعل الطّرق والأمارات والأصول ليس إلّا جعل المنجّز والمعذّر صحيح، لكنّا نقول: إنّ قيام الأمارات والأصول كافٍ للانحلال إذا اكتفى الشّارع عن أحكامه الواقعيّة بمؤدّياتها، فلم ينجز أكثر من ذلك على الأُمّة وإلّا لم يكن فائدة في جعلها، وقد يمثّل ذلك بما لو علمنا بأنّ إحدى الأواني العشرة نجس ثمّ قامت البيّنة بأنّ النّجس هذا، فإنّه يوجب الانحلال، مع أنّ البيّنة إنّما هي منجّزة ومعذّرة وليست مثبتة للتكليف.

والحاصل: أنّ انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى مؤدّيات الأصول والأمارات إنّما هو انحلال حكميّ وليس بانحلال حقيقيّ، وذلك كافٍ في عدم لزوم الاحتياط، كما هو كافٍ في سائر الأبواب، فإنّ {قضيّة الاعتبار} أي: مقتضى اعتبار الأمارات والأصول {شرعاً - على اختلاف ألسنة أدلّته -} أي: أدلّة الاعتبار

ص: 281

وإن كان ذلك - على ما قوّيناه في البحث - ، إلّا أنّ نهوض الحجّة على ما ينطق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف، يكونُ عقلاً بحكم الانحلال، وصَرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطّرف، والعذر عمّا إذا كان في سائر الأطراف، مثلاً: إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زيد بين الإناءين، وقامت البيّنة على أنّ هذا إناؤه، فلا ينبغي الشّكّ في أنّه كما إذا علم أنّه إناؤه، في عدم لزوم الاجتناب إلّا عن خصوصه دون الآخر.

ولولا ذلك

___________________________________________

{وإن كان ذلك} الّذي ذكرتم من كونها منجّزة لدى المصادفة ومعذّرة لدى الخطأ وليست متضمّنة للتكليف الواقعي على نحو السّببيّة والتصويب {- على ما قوّيناه في البحث -}.

وقد مرّ الكلام حوله سابقاً {إلّا أنّ نهوض الحجّة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف} للعلم الإجمالي بأن قامت الحجّة على أنّ هذا هو التكليف المعلوم بالإجمال - لا أن تقوم على تكليف ما محتمل الانطباق وعدمه - {يكون} ذلك النّهوض للحجّة {عقلاً بحكم الانحلال} الحقيقي {وصرف تنجّزه} أي: يصرف هذا النّهوض تنجّز التكليف الواقعي الّذي كان موجباً للاحتياط {إلى ما إذا كان} التكليف الواقعي {في ذاك الطّرف} الّذي قامت عليه الحجّة {والعذر عمّا إذا كان} التكليف الواقعي {في سائر الأطراف} الّتي لمتقم عليها الحجّة.

{مثلاً: إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زيد} الّذي اشتبه {بين الإنائين} اللّذين هما لزيد ولعمرو كان مقتضى القاعدة الاحتياط بالاجتناب عنهما {و} إذا {قامت البيّنة على أنّ هذا} الإناء الأبيض مثلاً {إناؤه فلا ينبغي الشّكّ في أنّه} يسبّب انحلال العلم ويكون حاله {كما إذا علم أنّه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلّا عن خصوصه دون} الإناء {الآخر} الّذي هو لعمرو.

{ولولا ذلك} الّذي ذكرنا من أنّ قيام الأمارات والأصول يوجب الانحلال لم

ص: 282

لما كان يجدي القول بأنّ قضيّة اعتبار الأمارات هو كون المؤدّيات أحكاماً شرعيّة فعليّة؛ ضرورة أنّها تكون كذلك بسبب حادث، وهو كونها مؤدّيات الأمارات الشّرعيّة.

هذا إذا لم يعلم ثبوت التكاليف الواقعيّة - في موارد الطّرق المثبتة - بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلّا

___________________________________________

يفد قيام الطّريق على القول بالسببيّة - الّذي ظنّ الخصم إفادته للانحلال قطعاً - لأنّه يوجب علماً حادثاً بالتكليف، فإنّ الطّريق سبب للتكليف على ما هو المفروض، فلا يوجب انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعيّة، ويكون حال قيام الطّريق - على السّببيّة - حال ما لو علمت بأنّ إحدى هذه الأواني العشرة نجس ثمّ علمت علماً ثانياً بأنّ إحدى هذه الخمسة أيضاً نجس، فإنّ العلم الثّاني لا يوجب انحلال العلم الأوّل حتّى لم يجب الاجتناب عن الخمسة الأُخر.

والحاصل: أنّه لو لم نقل بالانحلال الحكمي على الطّريقيّة {لما كان يجدي القول بأنّ قضيّة اعتبار الأمارات هو كون المؤدّيات أحكاماً شرعيّة فعليّة} على نحو السّببيّة والموضوعيّة {ضرورة أنّها} أي: مؤدّيات الأمارات {تكون كذلك} أي: أحكاماً شرعيّة {بسبب حادث وهو} أي: السّبب الحادث {كونها مؤدّيات الأمارات الشّرعيّة} وقد عرفت أنّ مثل ذلك العلم الحادث لا يوجب الانحلال.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرنا من كون قيام الأصول والأمارات موجباً لانحلال العلم الإجمالي - على الطّريقيّة - وأنّ الانحلال وإن لم يكن حقيقيّاً لكنّه حكميّ إنّما يكون {إذا لم يعلم ثبوت التكاليف الواقعيّة في موارد الطّرق المثبتة} للتكليف {بمقدار المعلوم بالإجمال} بأن احتملنا خطأ جميع الطّرق وعدم إصابتها للواقع، أو احتملنا خطأ كثير منها بحيث لم يكن علمنا بالإصابة بمقدار المعلوم بالإجمال، فإنّه حينئذٍ يكون قيام الطّرق بحكم الانحلال وليس انحلالاً حقيقيّاً {وإلّا} بأن علمنا بأنّ هذه الطّرق القائمة تشتمل على المقدار المعلوم بالإجمال

ص: 283

فالانحلال إلى العلم بما في الموارد، وانحصار أطرافه بموارد تلك الطّرق بلا إشكال، كما لا يخفى.

وربّما استدلّ(1)

بما قيل من استقلال العقل بالحظر في الأفعال غير الضّروريّة قبل الشّرع، ولا أقلّ من الوقف وعدمِ استقلاله، لا به ولا بالإباحة، ولم يثبت شرعاً إباحة ما اشتبه حرمته؛

___________________________________________

{فالانحلال} للعلم الإجمالي الكبير {إلى العلم بما في الموارد} الّتي قامت عليها الطّرق {وانحصار أطرافه} أي: أطراف العلم الإجمالي الكبير {بموارد تلك الطّرق بلا إشكال} ويكون الانحلال حقيقيّاً لا حكميّاً {كما لا يخفى} إذ قد علمنا بمقدار المعلوم بالإجمال.

{وربّما استدلّ} للأخباري القائل بوجوب الاحتياط في الشّبهة البدويّة {ب-} دليل عقليّ آخر، وذلك {ما قيل من استقلال العقل بالحظر} أي: المنع عن الجري {في الأفعال غير الضّروريّة قبل الشّرع} فإنّ من الأفعال ما هو ضروريّ يضطرّ الشّخص إليه - كالتنفّس ونحوه، ممّا دلّ العقل على جواز الجري فيه ولو لم يعلم بالإذن اللفظي - ومن الأفعال ما ليس كذلك - كشرب التتن المشتبه الحكم مثلاً - فإنّ العقل مستقلّ بعدم جواز ارتكابه؛ لأنّه ملك المولى ولم يعلم الإذنفيه، وكلّ تصرّف في ملك الغير بدون إحراز رضاه قبيح {ولا أقلّ من الوقف} أي: من توقّف العقل {وعدم استقلاله لا به} أي: بالحظر {ولا بالإباحة}.

هذا كلّه قبل الشّرع يعني قبل تشريع الأحكام، أمّا بعده فما أُجيز التصرّف فيه جاز وما لم يجز يبقى على حظره {ولم يثبت شرعاً إباحة ما اشتبه حرمته} فيبقى على المنع العقلي الموجب ارتكابه للضرر ولو المحتمل منه.

ص: 284


1- فرائد الأصول 2: 90.

فإنّ ما دلّ على الإباحة معارض بما دلّ على وجوب التوقّف أو الاحتياط.

وفيه: أوّلاً: أنّه لا وجه للاستدلال بما هو محلّ الخلاف والإشكال، وإلّا لصحّ الاستدلال على البراءة بما قيل من كون في تلك الأفعال على الإباحة.

___________________________________________

إن قلت: دلّ الدليل الشّرعي على الإباحة كقوله: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ}(1)، {كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ}(2)، «كلّ شيء حلال»(3)

وغيرها.

قلت: هذا غير تامّ {فإنّ ما دلّ على الإباحة معارض بما دلّ على وجوب التوقّف أو الاحتياط} فيتساقطان ويبقى الأصل العقلي بحاله سليماً عن المعارض.

{وفيه أوّلاً}: أنّ كون الأصل في الأشياء الحظر محلّ الخلاف، فقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّ كون الأصل في الأشياء هو الإباحة و{أنّه لا وجه للاستدلال} على المدّعى {بما هو محلّ الخلاف والإشكال وإلّا لصحّ الاستدلال على البراءة} في المشتبه {بما قيل} وذهب إليه غير واحد {من كون} الأصل العقلي {في تلك الأفعال} غير الضّروريّة {على الإباحة} فيقال: يجوز ارتكاب المشتبه لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة، فإنّ المنع عن التصرّف في ملك الغير إنّما يكون بالنسبة إلى النّاس وأمّا بالنسبة إلى اللّه - عزّ شأنه - فالأصل الجواز بعد ظهور استغنائه - تعالى - ، وقيام القرائن التكوينيّة على أنّها لم تخلق عبثاً وإنّما للانتفاع، بل هذا هو حال النّاس فلو أطلق المولى الغني جماعة من عبيده في بساتينه الواسعة ولم يقل شيئاً عن تصرّفهم وعدم تصرّفهم ولم يرسل أحداً لاقتطاف أثمار وتشذيب أشجاره وأخذ فاضل مياهه ولم يعيّن مصرفاً لتلك أو

ص: 285


1- سورة البقرة، الآية: 29.
2- سورة المؤمنون، الآية: 51.
3- الكافي 5: 313، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341، وقد مرّ أنّ متن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام، فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

وثانياً: إنّه تثبت الإباحة شرعاً؛ لما عرفت من عدم صلاحيّة ما دلّ على التوقّف أو الاحتياط للمعارضة لما دلّ عليها.

وثالثاً: أنّه لا يستلزم القولُ بالوقف - في تلك المسألة -

___________________________________________

أثمانها، استقلّ العقل بأنّ التصرّف فيها جائز وأنّه لا يجوز إبقاؤها حتّى تهدر الثمار بالسقوط والمياه بالغور وهكذا.

{وثانياً} إنّ قولكم: «لم تثبت الإباحة شرعاً» محلّ إشكال ف- {إنّه تثبت الإباحة شرعاً، لما عرفت من عدم صلاحيّة ما دلّ على التوقّف أو الاحتياط للمعارضة لما دلّ عليها} أي: على الإباحة لكون أدلّة الإباحة أظهر وكونها أخصّ، أمّا كونها أظهر فلأنّها نصّ في الجواز وأدلّة الاحتياط ظاهرة في الحائطة، وأمّا كون أدلّة الإباحة أخصّ فلأنّها لا تشمل المقرونة بالعلم الإجمالي والبدويّة قبل الفحص، بخلاف أدلّة الاحتياط فإنّها تشملهما بالإضافة إلى الشّبهات البدويّة بعد الفحص، كما تقدّم تفصيله.

{وثالثاً} بأنّه لو سلّمنا بكون الأصل في الأشياء الحظر ولم نقل بأنّ الأدلّة الشّرعيّة تدلّ على الإباحة، لكن نقول مع ذلك لا بأس بارتكاب الشّبهة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنّ العقل دلّ على كون الأشياء على الحظر في نفسها، مع الغضّ عن قاعدة القبح أمّا بملاحظة قاعدة القبح فيجوز الارتكاب.

والحاصل: أنّ أصالة الحظر إنّما هي بعنوان أولى وقاعدة القبح إنّما هي بعنوان ثانوي ولا تنافي بينهما، فإنّ الأصالة مع قطع النّظر عن الشّرع والقاعدة بعد تشريع الأحكام. ألا ترى أنّ العبد لا يجوز له التصرّف في ملك المولى لكن لو بيّن المولى أحكاماً وأودعها في كتاب ثمّ قال للعبد: (هذه كلّ أحكامي الّتي لا يجوز التخلّف عنها) يرى العقل جواز ارتكاب المشتبه الّذي لم يذكر حكمه في ذلك الكتاب، ف-{إنّه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة} أي: مسألة كون

ص: 286

للقول بالاحتياط في هذه المسألة؛ لاحتمال أن يقال معه بالبراءة، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وما قيل(1)

من: «أنّ الإقدام على ما لا تؤمن المفسدة فيه، كالإقدام على ما تعلم فيه المفسدة».

ممنوع، ولو قيل بوجوب دفع الضّرر المحتمل،

___________________________________________

الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة {للقول بالاحتياط في هذه المسألة} أي: مسألة الشّبهة البدويّة، فمن الممكن أن نقول في تلك المسألة بالحظر ونقول في هذه المسألة بالبراءة {لاحتمال أن يقال معه} أي: مع القول بالوقف في تلك المسألة {بالبراءة} في هذه {لقاعدة قبح العقاب بلا بيان} كما عرفت تفصيله.

وربّما أشكل على جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في ما نحن فيه بأنّ المشتبه يحتمل فيه المفسدة، وما يحتمل مفسدته - مثلما يقطع بمفسدته - يجب الاجتناب عنه، وعلى هذا فلا تجرى القاعدة وتبقى أصالة الحظر الثابتة قبل الشّرع بحالها مستمرّة إلى ما بعد الشّرع.

وفيه ما أشار إليه المصنّف(رحمة الله) بقوله: {وما قيل من: «أنّ الإقدام على ما لا تؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما تعلم فيه المفسدة»} فلا يجوز ارتكاب الشّبهة عقلاً لاحتمالها للمفسدة {ممنوع} لما أشرنا إليه سابقاً من أنّ المفسدة إن أُريد بها الضّرر الأُخروي - أي: العقوبة - فهي مأمونة لقبح العقاب بلا بيان، وإن أُريد الضّرر الدنيوي فليست المفسدة تلازم الضّرر حتّى يقال بوجوب دفع الضّرر المحتمل، إذ المفسدة أعمّ فإنّ في عدم إعطاء الزكاة مفسدة وليس فيه ضرراً مثلاً، فدفع المفسدة المحتملة غير لازم {ولو قيل بوجوب دفع الضّرر المحتمل} إذ لا تلازم بين الضّرر والمفسدة

ص: 287


1- العدة في أصول الفقه 2: 742.

فإنّ المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالباً، ضرورة أنّ المصالح والمفاسد - الّتي هي مناطات الأحكام - ليست براجعة إلى المنافع والمضارّ، بل ربّما يكون المصلحة في ما فيه الضّرر، والمفسدة في ما فيه المنفعة. واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر، ضعيف غالباً، لا يعتنى به قطعاً.

مع أنّ الضّرر ليس دائماً ممّا يجب التحرّز عنه عقلاً، بل يجب ارتكابه أحياناً، في ما كان المترتّب عليه أهمّ في نظره ممّا في الاحتراز عن ضرره، مع القطع به، فضلاً عن احتماله.

___________________________________________

{فإنّ المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالباً} أو كثيراً.

{ضرورة أنّ المصالح والمفاسد الّتي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضارّ} الرّاجعة إلى نفس المكلّف {بل ربّما} يعكس الأمر ف- {يكون المصلحة} النّوعيّة {في ما فيه الضرر} الشّخصي كالزكاة مثلاً، الّتي فيها مصلحة النّوع وضرر هذا المعطي {و} تكون {المفسدة} النّوعيّة {في ما فيه المنفعة} الشّخصيّة، كالربا، فإنّها مفسدة للنوع منفعة للشخص.

لا يقال: إنّ المشتبه يحتمل أن يكون من مصاديق ما فيه الضّرر الشّخصي، فإنّ شرب التتن يحتمل أن يكون ضارّاً للصحّة للمدخن، فيأتي حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل.

لأنّا نقول: هذا غير تامّ {و} ذلك لأنّ {احتمال أن يكون في المشتبه ضرر} شخصيّ {ضعيف غالباً لا يعتنى به قطعاً} فلا تجري قاعدة دفع الضّرر المحتمل، فإنّ المراد ب- «المحتمل» الاحتمال العقلائي {مع أنّ الضّرر} لو كان متيقّناً {ليس دائماً ممّا يجب التحرّز عنه عقلاً} فكيف إذا كان محتملاً {بل يجب ارتكابه أحياناً في ما كان المترتّب عليه} أي: على الضّرر {أهمّ في نظره} أي: نظر العقل {ممّا} أي: من الضّرر - أي: كان ضرر الارتكاب أهمّ من الضّرر - الّذي كان {في الاحتراز عن ضرره مع القطع به} أي: بالضرر {فضلاً عن احتماله} أي: احتمال الضّرر.

ص: 288

بقي أُمور مهمّة لا بأس بالإشارة إليها:

الأوّل:

___________________________________________

فمثلاً: كان في هذا السفر ضرر خسارة أُجرة الطّريق لكن كان ترك هذا السّفر موجباً لسرقة اللصّ أمواله، بحيث كان الضّرر المتوجّه عليه من ارتكاب السّفر الضّارّ لا يعدّ شيئاً بالنسبة إلى الضّرر المتوجّه إليه من تركه، فإنّ العقل يوجب ارتكاب ذلك الضّرر المتيقّن فراراً عن ضرر أكثر، فكيف إذا كان الضّرر محتملاً لا متيقّناً؟ وما نحن فيه كذلك، فإنّ ضرر العسر والحرج النّاشئ من اجتناب المشتبهات أكثر من ضرر المشتبه حتّى لو قطعنا بضرره، فكيف بما لو احتملنا ضرره، كما هو الغالب؟

وبهذا كلّه تحقّق أنّ الأصل في المشتبه البراءة مطلقاً من غير فرق بين الشّبهة الحكميّة والموضوعيّة والوجوبيّة والتحريميّة إلّا ما خرج بالدليل أو لم يشمله دليل البراءة كالشبهات البدويّة الحكميّة قبل الفحص، والشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، والشّبهة في الأُمور المهمّة كالدماء والأموال والفروج، بل والشّبهة البدويّة الموضوعيّة قبل الفحص على ما اخترناه إلّا في ما علم عدم اهتمام الشّارع به كالطهارة والنّجاسة وأمثالهما، وقد ذكرنا هناك أنّ ممّا يشهد لذلك - مع الغضّ عن شمول الأدلّة - إيجابهم فتوى أو احتياطاً الفحص في أبواب الخمس والزكاة والحجّ وحقوق النّاس، وتفصيل الكلام موكول إلى محلّه، وقد ذكرنا طرفاً منه في كتاب الحجّ من شرح العروة(1).

[تنبيهات البراءة]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، تنبيهات البراءة

{بقي أُمور مهمّة} مترتّبة على أصالة البراءة {لا بأس بالإشارة إليها}:

{الأوّل} في أصالة عدم التذكية في الحيوان المشكوك قابليّته للتذكية

ص: 289


1- موسوعة الفقه 38: 97.

أنّه إنّما تجري أصالة البراءة - شرعاً وعقلاً - في ما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقاً، ولو كان موافقاً لها؛ فإنّه معه لا مجال لها أصلاً؛ لوروده عليها - كما يأتي تحقيقه(1) - .

___________________________________________

{إنّه إنّما تجري أصالة البراءة شرعاً وعقلاً في ما لم يكن هناك أصل موضوعي} ينقّح موضوع الشّكّ {مطلقاً} أي: سواء كان مطابقاً للبراءة أو مخالفاً لها.

فمثلاً: لو كان هذا الماء حلالاً ثمّ شككنا في أنّه هل صار حراماً بحيازة أحد له - حتّى يصبح غصباً - أم لا لم تجر أصالة البراءة ولم يصحّ التمسّك بكلّ شيء لك حلال، بل جرى الأصل الموضوعي الموافق له.

فيقال: إنّه كان سابقاً حلالاً، ثمّ شككنا في عروض الحرمة عليه فالاستصحاب يقتضي بقاء حليّته، وكذا في العكس كما لو كان الماء ملك زيد ثمّ شككنا في إعراضه عنه لم يجز التمسّك بأصالة البراءة والقول بحليّته بمقتضى كلّ شيء حلال، بل اللّازم إجراء أصالة الحرمة؛ لأنّه كان سابقاً لا يجوز التصرّف فيه لكونه ملك شخص ثمّ شككنا في خروجه عن ملكه، فالأصل - أي: الاستصحاب - يقتضي بقاؤه على حالته السّابقة، وهكذا في كلّ مورد جرى فيه أصل موضوعيّ لم يجز إجراء البراءة، والسّرّ أنّ الأصل يخرج الموضوع عن كونه مشكوكاً، إذ هو في حكم العلم، فكما أنّه لا تجري البراءة مع العلم بأنّ الماء مباح أو لزيد كذلك لا تجري مع استصحاب الإباحة أو الملكيّة.

فتحقّق أنّ البراءة لا تجري مع جريان أصل موضوعي {ولو كان موافقاً لها} بأن كانت البراءة والأصل الموضوعي كلاهما يحكمان بالإباحة {فإنّه معه} أي: الشّأن مع الأصل الموضوعي {لا مجال لها} أي: للبراءة {أصلاً لوروده} أي: الأصل الموضوعي {عليها} أي: على البراءة، ومعنى الورود رفع موضوع البراءة شرعاً، إذ موضوع البراءة هو المشكوك والاستصحاب الموضوعي يرفع الشّكّ {كما يأتي تحقيقه}

ص: 290


1- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 242.

فلا تجري مثلاً: أصالة الإباحة في حيوان شكّ في حليّته مع الشّكّ في قبوله التذكية؛

___________________________________________

إن شاء اللّه تعالى.

وإنّما سمّي هذا الأصل بالموضوعي؛ لأنّه على قسمين: قد يجري في الموضوع وقد يجري في الحكم. فمثلاً: لو قلنا: (العادل يجوزالصّلاة خلفه) كان الموضوع (العادل) والحكم (جواز الصّلاة خلفه) فإذا شككنا في عدالة زيد بعد علمنا بأنّه كان عادلاً، يقال يجرى الاستصحاب الموضوعي فيثبت عدالته، فيقال: (كان عادلاً سابقاً) فنستصحب الآن عدالته، وإذا شككنا في جواز الصّلاة خلفه لاحتمال فقده لسائر الشّرائط مثلاً، يقال: إنّه كان يجوز الصّلاة خلفه سابقاً فنجري الاستصحاب الحكمي بجواز الصّلاة خلفه الآن أيضاً، وهذا في كلّ مورد استصحب فيه الموضوع يسمّى الأصل الموضوعي وإن استصحب الحكم يسمّى الأصل الحكمي.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أراد أن يمثّل لعدم جريان البراءة في مورد جريان الأصل الموضوعي بمسألة الشّكّ في التذكية {فلا تجري - مثلاً - أصالة الإباحة في حيوان شكّ في حليّته} كالمتولّد بين الكلب والشّاة ممّا لا يشبه أحدهما حتّى يدخل في عموم ذلك العنوان - إذا لم يكن هناك دليل خاصّ يدلّ على حكمه - {مع الشّكّ في قبوله التذكية} بأن لم يعلم أنّه كالشاة حتّى يقبل التذكية أو كالكلب حتّى لا يقبل التذكية.

وهذا يحتاج إلى التفصيل فنقول: إنّ الشّبهة في التذكية قد تكون موضوعيّة بأن لم نعلم أنّ هذا الحيوان القابل للتذكية هل ذكي أم لا؟ وقد تكون حكميّة بأن لم نعلم بأنّ هذا الحيوان هل هو قابل للتذكية أم لا؟ أمّا في الشّبهة الموضوعيّة فأصالة عدم التذكية محكمة وتقدّم على أصلي الطّهارة والحلّ، فإذا وجدنا حيواناً ميّتاً ولم نعلم أنّه مات حتف أنفه أو ذكي جرت أصالة عدم التذكية، وهو أصل

ص: 291

فإنّه إذا ذبح مع سائر الشّرائط المعتبرة في التذكية، فأصالة عدم التذكية تدرجها في ما لم يُذَكّ،

___________________________________________

موضوعيّ يقدّم على كلّ أصل حكميّ ويحكم بحرمة الحيوان ونجاسته.

وأمّا في الشّبهة الحكميّة - الّتي كان سبب الشّكّ قبول الحيوان للتذكية - اختلفوا في أنّه هل التذكية شيء خاصّ وقابليّة مخصوصة في الحيوان أم ليست إلّا فري الأوداج مثلاً، بشرائطها المذكورة في الفقه من كون الذابح مسلماً واستقبال القبلة وكون الفري بالحديد وغيرها؟ فإن قلنا بالأوّل كان مقتضى القاعدة إجراء أصالة عدم التذكية لعدم العلم بكون الحيوان المردّد قابلاً لها، وإذا جرت أصالة عدم التذكية حكم بالحرمة والنّجاسة، ولا مجال حينئذٍ لأصلي الطّهارة والحلّ، لما عرفت من أنّ الأصل الموضوعي لا يبقي مجالاً للأصل الحكمي، وإن قلنا بالثّاني - كما هو غير بعيد - وإنّه ليس وراء الشّرائط الخمسة المقرّرة شيء لم يبق مجال لأصالة عدم التذكية وجرت أصالة الطّهارة والحلّ في المشكوك تذكيته للشبهة الحكميّة - كالمثال السّابق وهو المتولّد بين الشّاة والكلب - لكن المصنّف استظهر الأوّل وأنّ التذكية عبارة عن الذبح الخاصّ الجامع للشرائط مع قابليّة المحلّ، ولذا قال: {فإنّه إذا ذبح مع سائر الشّرائط المعتبرة في التذكية} من الإسلام والقبلة والحديد والتسمية وفري الأوداج - في مثل الغنم - {فأصالة عدم التذكية تدرجها في ما لم يذك} لعدم العلم بقابليّة المحلّ.

وإن قلت: لا أثر لإجراء أصالة عدم التذكية، إذ الحرمة والنّجاسة معلّقتان على كون الحيوان ميتة وبأصالة عدم التذكية لا يثبت كونه ميتة، إذ بأصالة عدم أحد الضّدّين لا يثبت الضّدّ الآخر، لما تقرّر في مبحث الاستصحاب من أنّ الأصل لا يثبت لوازمه العادية والعقليّة، وإذا لم تفد أصالة عدم التذكية الحرمة

ص: 292

وهو حرام إجماعاً، كما إذا مات حتف أنفه.

فلا حاجة إلى إثبات أنّ الميتة تعمّ غير المذكّى شرعاً؛ ضرورة كفاية كونه مثله حكماً؛

___________________________________________

والنّجاسة في الحيوان لم تجر، إذ لا أثر لها، وحينئذٍ يشكّ في طهارة هذا الحيوان المذبوح وفي حليّته فأصالة الطّهارة والحليّة محكمة، والحاصل أنّه ليس في المقام أصل موضوعيّ فتصل النّوبة إلى الأصل الحكمي.

قلت: الحرمة والنّجاسة كما تترتّبان على الميتة تترتّبان على غير المذكّى، إذ الخارج إنّما هو المذكّى فقط فمهما لم نعلم بها جرت الحرمة والنّجاسة، وعلى هذا فلا حاجة لإثباتها إثبات كون الحيوان ميتة، بل أصالة عدم التذكية كافية لترتيب الأثرين.

وإلى هذا الجواب أشار بقوله: {وهو حرام إجماعاً، كما} هو حرام {إذا مات حتف أنفه} في المجازات النّبويّة: «إنّ هذه الكلمة من مجازات النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، فكأنّ الحيوان الّذي يموت يخرج روحه من أنفه بخلافالحيوان الّذي يذبح، وهكذا بالنسبة إلى الإنسان»(1){فلا حاجة إلى إثبات أنّ الميتة تعمّ غير المذكّى شرعاً} في ترتيب أثري الحرمة والنّجاسة كما ذكره الشّيخ(رحمة الله)(2)، فإنّه عمّ الميتة لمّا مات حتف أنفه وما لم يذكّ بالتذكية الشّرعيّة، كما لو لم يسمّ حين ذبحه فأصالة عدم التذكية تثبت عنوان الميتة؛ لأنّها ليست وجوديّة حتّى تكون من باب الأصل المثبت، بل هي عدميّة أي: ما لم يذكّ، والأصل المذكور يكفي لإثباته.

وإنّما قلنا بعدم الحاجة إلى ما صنعه الشّيخ ل- {ضرورة كفاية كونه} أي: كون عنوان عدم التذكية {مثله} أي: مثل عنوان الميتة {حكماً} فهما في حكم الشّارع بالنجاسة والحرمة سواء ولا حاجة إلى إدراج أحد الموضوعين في الموضوع الآخر.

ص: 293


1- المجازات النّبويّة: 80.
2- فرائد الأصول 2: 129، و 3: 198.

وذلك بأنّ التذكية إنّما هي عبارة عن فري الأوداج الأربعة مع سائر شرائطها، عن خصوصيّة في الحيوان الّتي بها يؤثر فيه الطّهارة وحدها أو مع الحليّة، ومع الشّكّ في تلك الخصوصيّة، فالأصل عدم تحقّق التذكية بمجرّد الفري بسائر شرائطها،

___________________________________________

مثلاً: لو كان كلّ من عنوان الحيض والنّفاس سبباً لترتيب آثار خاصّة من عدم جواز الاقتراب وعدم صحّة الطّلاق وحرمة العبادة وما أشبه كان الأصل الجاري لإثبات أحدهما كافياً في ترتيب الأثر ولا حاجة إلى إدراج أحد الموضوعين في الآخر لإثبات الأحكام المذكورة، لكن لا يخفى أنّه ليس بعيداً صحّة مقالة الشّيخ، إذ ليس لنا إلّا عنوانان: المذكّى والميتة، فما اجتمعت فيه الشّرائط يكون مذكّى وما لم تجتمع يكون ميتة، وهذا ليس من إدراج موضوع في موضوع، وما ذكره المصنّف وإن كان صحيحاً في نفسه لكنّه خلاف ظاهر الأدلّة والفتاوى الّتي جعلت المقابلة بين الميتة والمذكّى.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّ أصالة عدم التذكية تدرج الحيوان في عنوان ما لم يذكّ الّذي هو موضوع للنجاسة والحرمة إنّما هو {ب-} سبب {أنّ التذكية إنّما هي عبارة عن فري الأوداج الأربعة} مريء الطّعام والتنفّس وعرقا الدم الغليظان {مع سائر شرائطها} الإسلام والحديد والقبلة والتسمية {عن خصوصيّة} أي: تكون هذه الشّرائط مع خصوصيّة {في الحيوان الّتي بها} أي: بتلك الخصوصيّة {يؤثر} هذا الفري مع سائر الشّرائط وتلك الخصوصيّة {فيه} أي: في ذلك الحيوان {الطّهارة وحدها} في الحيوانات الّتي ليست قابلة للأكل كالسباع {أو مع الحليّة} في الحيوانات القابلة لها كالأنعام ونحوها {ومع الشّكّ في تلك الخصوصيّة} وأنّ الحيوان هل هو فيه هذه القابليّة أم لا {فالأصل عدم تحقّق التذكية بمجرّد الفري بسائر شرائطها} أي: شرائط التذكية، إذ الخصوصيّة من الشّرائط، فمع الشّكّ فيها كان الأصل عدمها، فلا يحكم بحليّة حيوان أُجريت عليه التذكية

ص: 294

كما لا يخفى.

نعم، لو علم بقبوله التذكية وشكّ في الحليّة فأصالة الإباحة فيه محكمة؛ فإنّه حينئذٍ إنّما يشكّ في أنّ هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام، ولا أصل فيه إلّا أصالة الإباحة، كسائر ما شكّ في أنّه من الحلال أو الحرام.

هذا

___________________________________________

الظّاهريّة إذا لم يعلم بوجود تلك الخصوصيّة فيه كالمولود بين الكلب والشّاة، وإنّما تعلم تلك الخصوصيّة من حكم الشّارع بقبول الحيوان الفلاني للتذكية أو قيام الإجماع عليه وإلّا كان الأصل عدمها {كما لا يخفى} لكنّك قد عرفت الإشكال، وأنّ ظاهر الأدلّة أنّ التذكية تتحقّق بمجرّد الفري مع سائر الشّرائط، ولذا يكون الأصل قبول التذكية في كلّ حيوان إلّا ما أُخرج بالدليل.

{نعم، لو علم} في حيوان {بقبوله التذكية وشكّ في الحليّة} كبعض أقسام الغراب أو الأرنب مثلاً، بناءً على فرض عدم وجود دليل على الحرمة {فأصالة الإباحة فيه محكمة} ويحكم بالحلّ لعدم أصل موضوعيّ حاكم على أصل الحلّ {فإنّه حينئذٍ} أي: حين علم بقبوله التذكية ولم يعلم حليّته وحرمته {إنّما يشكّ في أنّ هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام، ولا أصل فيه إلّا أصالة الإباحة}واحتمال استصحاب حال الحياة الّذي كان حراماً إلى ما بعد الموت؛ لأنّ القدر المتيقّن من الحليّة ما دلّ الدليل على حليّته بالتذكية، فيبقى الاستصحاب في غيره على حاله ساقط، لاشتراط بقاء الموضوع في صحّة الاستصحاب ولا بقاء للموضوع في المقام كما لا يخفى، فيكون حال هذا الحيوان {كسائر ما شكّ في أنّه من الحلال أو الحرام} من الأطعمة والأشربة وغيرهما.

{هذا} في ما كان الشّكّ في أصل الحليّة والحرمة، وأمّا إذا كان الشّكّ في الحليّة ناشئاً عن طروّ حالة محرّمة كالموطوئيّة والجلل وشرب لبن الخنزيرة ممّا

ص: 295

إذا لم يكن هناك أصل موضوعيّ آخرُ مثبت لقبوله التذكية، كما إذا شكّ - مثلاً - في أنّ الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليّته لها، أم لا؟ فأصالة قبوله لها معه محكمة، ومعها لا مجال لأصالة عدم تحقّقها، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحلّ بالفري بسائر شرائطها، فالأصل أنّه كذلك بعده.

وممّا ذكرنا ظهر الحال في ما اشتبهت حلّيّته وحرمته بالشبهة الموضوعيّة من الحيوان،

___________________________________________

احتمل معه ارتفاع قابليّة التذكية - إذا لم يكن هناك دليل - فالأصل يقتضي بقاء القابليّة ويحكم بالحليّة.

والحاصل: أنّ في المشكوك يتمسّك بأصل الحلّ {إذا لم يكن هناك أصل موضوعيّ آخر مثبت لقبوله التذكية} وإلّا لم يكن مجال لأصل الحلّ لارتفاع موضوع الشّكّ بجريان الأصل {كما إذا شكّ - مثلاً - في أنّ الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليّته لها} أي: للتذكية {أم لا} يوجب ارتفاع القابليّة؟ {فأصالة قبوله} أي: الحيوان {لها} أي: للتذكية {معه} أي: مع الجلل {محكمة} فيثبت بقاء القابليّة {ومعها} أي: مع هذه الأصالة - أي: الاستصحاب - {لا مجال لأصالة عدم تحقّقها} أي: عدم تحقّق التذكية {فهو قبل الجلل كان يطهر ويحلّ بالفري بسائر شرائطها} أي: مع سائر شرائط التذكية {فالأصل أنّه كذلك} قابل {بعده} أي: بعد الجلل، وهكذا كلّ أصلين كان أحدهما منقّحاً لموضوع الآخر ورافعاً للشكّ عنه، كما إذا شكّ في ماء أنّه طاهر أو نجس وقد كان قبل طاهراً، فإنّه لا مجال لإجراء أصالة الطّهارة بعد استصحابها، وفي المقام مناقشة لا تناسب وضع الشّرح.

{وممّا ذكرنا} من الحال في الشّبهة الحكميّة {ظهر الحال في ما اشتبهت حليّته وحرمته بالشبهة الموضوعيّة من الحيوان} كأن علمنا حكم الشّاة وحكم الكلب لكن لا نعلم أنّ هذا الحيوان المذبوح هل هو كلب أو شاة، أو علمنا أنّ الجلال حرام وغيره حلال لكن لم نعرف أنّه جلال أم لا، أو علمنا أنّ المذكّى من الشّاة

ص: 296

وأنّ أصالة عدم التذكية محكمة في ما شكّ فيها لأجل الشّكّ في تحقّق ما اعتبر في التذكية شرعاً.

كما أنّ أصالة قبول التذكية محكَّمة إذا شكّ في طروّ ما يمنع عنه، فيحكم بها في ما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

الثّاني: أنّه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً

___________________________________________

حلال والميتة منها حرام لكن لم نعرف أنّها مذكاة أو ميتة، فإنّ في الجميع لو جرى أصل موضوعي كان ذلك المحكم وإلّا جرت أصالة الحلّ والطّهارة.

{وأنّ أصالة عدم التذكية محكمة في ما شكّ فيها} أي: في التذكية {لأجل الشّكّ في تحقّق ما اعتبر في التذكية شرعاً} إذ أصالة العدم لا تبقي مجالاً لأصالة الحلّ {كما أنّ أصالة قبول التذكية محكَّمة إذا} علمنا بأنّ الحيوان كان قابلاً للتذكية ثمّ {شكّ في طروّ ما يمنع عنه} كما لو شكّ في أنّ الجلل هل يزيل قابليّته للذكاة أم لا {فيحكم بها} أي: بالتذكية {في ما أحرز الفري} للأوداج الأربعة {بسائر شرائطها} أي: إحراز الفري مع سائر شرائط التذكية {عداه} أي: عدا المشكوك الّذي جرى فيه الاستصحاب {كما لا يخفى} فيحرز بعض الشّرائط بالوجدان وبعض الشّرائط بالأصل، وذلك كاف في الحكم، كما لو شكّ فينقص الماء عن الكرّ حيث يحكم بالكريّة لإحراز كونه ماءً بالوجدان وكونه بقدر الكرّ بالأصل {فتأمّل جيّداً} هذا بعض الكلام في بيان جريان أصالة عدم التذكية وعدمه في الموارد المشكوكة.

الأمر {الثّاني} في بيان إجراء الاحتياط في مشكوك العباديّة، فنقول مقدّمة لذلك: {إنّه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً} أمّا شرعاً فلما تقدّم من أدلّة الاحتياط كقوله(علیه السلام): «أخوك دينك فاحتط لدينك»(1).

ص: 297


1- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

في الشّبهة الوجوبيّة أو التحريميّة، في العبادات وغيرها.

كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب في ما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النّهي.

وربّما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب،

___________________________________________

وأمّا عقلاً فلأنّه يوجب العمل على طبق الواقع، ومن المعلوم أنّ الإتيان بالواقع مطلوب عند العقلاء وإن لم يكلّفوا به تسهيلاً، من غير فرق {في} ذلك بين {الشّبهة الوجوبيّة} كالدعاء عند رؤية الهلال {أو} الشّبهة {التحريميّة} كشرب التتن {في العبادات} كصلاة الجمعة عند من لم يحرّمها {وغيرها} من التوصليّات ونحوها {كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب في ما إذا احتاط وأتى} بمحتمل الوجوب {أو ترك} محتمل الحرمة {بداعي احتمال الأمر أو النّهي} وهل الحرمة وهل الثواب للإطاعة أو الانقياد؟ احتمالان: من أوامر الاحتياط المقتضية للثواب، ومن أنّها للإرشاد فلا ثواب إلّا للمرشد إليه لو كان في الواقع.

والإنصاف أنّه لا يستبعد استفادة ثواب الإطاعة من لحن الرّوايات وإن لم يدلّ عليه دليل قطعيّ، وإنّما قيّد الإتيان والترك بكونهما بداعي احتمال الأمر والنّهي لإخراج ما إذا أتى بمحتمل الوجوب أو ترك محتمل الحرمة لا لذاك بل لداعي آخر، فإنّه لم يطع ولم ينقاد فلا ثواب له من أجلهما. نعم، لو اتفق مطابقته للواقع أدرك المصلحة واجتنب المفسدة في التوصليّات الّتي لا تحتاج إلى القربة.

{وربّما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات} المشكوكة {عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب} وغير الحرمة، وإنّما قيّدنا بذلك؛ لأنّ في صورة الدوران بين الوجوب والاستحباب، كما لو علمنا أنّ دعاء الرّؤية والصّلوات عند

ص: 298

من جهة أنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة القربة المتوقّفة على العلم بأمر الشّارع تفصيلاً أو إجمالاً.

وحسن الاحتياط عقلاً لا يكاد يجدي في رفع الإشكال،

___________________________________________

ذكر النّبيّ(صلی الله علیه و آله) واجب أو مستحبّ، لا مجال للإشكال لوجوب الأمر المقطوع به المصحّح للقربة.

نعم، يشكل من جهة قصد الوجه لكنّه ليس بالمحذور؛ لأنّ اعتباره ضعيف للغاية، وفي صورة الدوران بين الوجوب والحرمة لا مجال للاحتياط؛ لأنّه من دوران الأمر بين المحذورين، ولم يذكره المصنّف(رحمة الله) لوضوحه. وعلى كلّ فوجه الإشكال في الاحتياط في العبادة المشكوكة بين الوجوب وبين الكراهة أو الإباحة {من جهة أنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة القربة المتوقّفة على العلم بأمر الشّارع تفصيلاً أو إجمالاً} فالأوّل: كما لو علمنا بأمره بهذه العبادة الخاصّة، والثّاني: كما لو علمنا بأمره بإحدى العبادتين، فإنّ الأمر حينئذٍ معلوم بالإجمال، وكذا في مورد دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب، فمع الشّكّ في الأمر - كما هو المفروض - لا يمكن نيّة القربة، ومع عدم إمكان نيّة القربة لا يكون المأتي به عبادة.

{و} إن قلت: يمكن تحصيل الأمر للعبادة المحتملة ببيان أنّ الأمر معلول للحسن - فإذا كان شيء حسناً أمر به الشّارع - وحيث إنّ الاحتياط حسن كان هناك أمر بالاحتياط في العبادة، فيأتي الشّخص بالعبادة المحتملة بداعي هذا الأمر المكشوف باللمّ.

قلت: {حسن الاحتياط عقلاً لا يكاد يجدي في رفع الإشكال} لأنّ الحسن ليس علّة تامّة للأمر المولوي، إذ ليس كلّ حسن يصل حسنه إلى حدّ المصلحة الملزمة حتّى يؤمر به، بالإضافة إلى إمكان أن يكون هناك موانع حتّى عن الاستحباب فكيف بالأمر.

ص: 299

ولو قيل بكونه موجباً لتعلّق الأمر به شرعاً؛ بداهة توقّفه على ثبوته توقّفَ العارض على معروضه، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته؟

و

___________________________________________

{ولو} سلم ذلك و{قيل بكونه} أي: الحسن العقلي {موجباً لتعلّق الأمر به شرعاً} فهناك محذور آخر مانع عن استكشاف الأمر الشّرعي من الحسن العقلي، وهو لزوم ذلك للدور. ويقرّر الدور ببيانات أوضحها: إنّ الأمر يتوقّف على حسن صلاة الجمعة مثلاً، وحسنها يتوقّف أن تكون الصّلاة احتياطاً، وكونها احتياطاً يتوقّف على قصد القربة، إذ بدون قصد القربة لا تكون صلاة، وقصد القربة يتوقّف على الأمر فالأمر، يتوقّف على الأمر.

وقد يقرّر الدور بأنّ: الحسن عارض على الاحتياط، والاحتياط معروض له، فيجب أن يكون الاحتياط مقدّماً على الحسن، إذ كلّ معروض مقدّم على العارض. ومن ناحية أُخرى أنّ الاحتياط متأخّر عن الأمر، إذ لولا الأمر لم يكن الاحتياط احتياطاً، فكيف يمكن أن يؤثر الحسن المتأخّر عن الاحتياط في الأمر المتقدّم عليه؟.

{بداهة توقّفه} أي: الحسن {على ثبوته} أي: ثبوت الاحتياط {توقّف العارض على معروضه} فإنّ الاحتياط معروض للحسن والحسن عارض عليه {فكيف يعقل أن يكون} الحسن المتأخّر عن الاحتياط {من مبادئ ثبوته} أي: ثبوت الاحتياط، إذ مبدأ ثبوت الاحتياط هو الأمر، والحسن هو السّبب للأمر؟

{و} أجاب بعض عن الإشكال المتقدّم - وهو أنّ الاحتياط في العبادة يحتاج إلى قصد القربة والقربة متوقّفة على الأمر ولا أمر في مشكوك العباديّة - بما حاصله: أنّا نستكشف أمر الشّارع بالاحتياط من ترتّب الثواب عليه إذ الثواب تابع للأمر، وإذ حصل للاحتياط أمر أمكن إتيان العبادة الاحتياطيّة مع قصد القربة،

ص: 300

انقدح بذلك: أنّه لا يكاد يجدي في رفعه أيضاً القول بتعلّق الأمر به من جهة ترتّب الثواب عليه؛ ضرورة أنّه فرع إمكانه، فكيف يكون من مبادئ جريانه؟

___________________________________________

لكن فيه ما تقدّم في الجواب السّابق لمن ادّعى استكشاف الأمر من حسن الاحتياط، بأنّ ذلك مستلزم للدور؛ لأنّ الأمر يتوقّف على إمكان الاحتياط، وإمكان الاحتياط يتوقّف على قصد القربة، وقصد القربة يتوقّف على الأمر، فالأمر يتوقّف على الأمر.

و{انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من الإشكال على تصحيح الاحتياط في العبادة باستكشاف الأمر من الحسن {أنّه لا يكاد يجدي في رفعه} أي: رفع الإشكال {أيضاً} ما ذكره بعض من {القول بتعلّق الأمر به} أي: بالاحتياط {من جهة ترتّب الثواب عليه} فالثواب المترتّب على الاحتياط كاشف عن الأمر، والأمر مصحّح لقصد القربة، فيمكن الاحتياط في العبادة.

وإنّما قلنا لا يجدي في رفع الإشكال هذا الجواب ل- {ضرورة أنّه} أي: تعلّق الأمر بالاحتياط {فرع إمكانه} أي: إمكان الاحتياط، فإنّ الشّيء ما لم يمكن لم يؤمر به، فكشف الثواب عن الأمر فرع إمكان الاحتياط {فكيف يكون} تعلّق الأمر {من مبادئ جريانه} أي: جريان الاحتياط؟

والحاصل: إنّ الأمر لا يتعلّق بالاحتياط إلّا إذا كان الاحتياط ممكناً، فكيف يكون الأمر سبباً لإمكان الاحتياط؟ وإن شئت قلت: الأمر متأخّر عن إمكان الاحتياط - لأنّ الأمر لا يتعلّق إلّا بالاحتياط الممكن - فكيف يمكن أن يكون الأمر صانعاً لإمكان الاحتياط ويتقدّم عليه؟

فتحصّل إلى هنا خمسة مطالب:

الأوّل: أنّ الاحتياط في العبادة غير ممكن، إذ هو متوقّف على قصد القربة، وقصد القربة متوقّف على الأمر، فمع الشّكّ في الأمر لا يمكن الاحتياط.

ص: 301

هذا.

مع أنّ حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلّق الأمر به بنحو اللّمّ، ولا ترتّبِ الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الإنّ، بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة؛

___________________________________________

الثّاني: الجواب عن الإشكال بأنّا لا نشكّ في الأمر؛ لأنّ الاحتياط حسن عقلاً، وكلّ شيء حسن عقلاً لا بدّ له من الأمر، فالعبادة الاحتياطيّة مأمور بها.

الثّالث: ردّ هذا الجواب بأنّ تعلّق الأمر بالاحتياط مستلزم للدور؛ لأنّ الأمر يتوقّف على الاحتياط، والاحتياط يتوقّف على القربة، والقربة تتوقّف على الأمر.

الرّابع: جواب ثان عن الإشكال بأنّا لا نشكّ في الأمر؛ لأنّا نستكشف الأمر من الثواب المترتّب على الاحتياط، إذ لا ثواب بدون الأمر.

الخامس: ردّ هذا الجواب بأنّ تعلّق الأمر بالاحتياط مستلزم للدور - كما تقدّم - فلا يستكشف الأمر من الثواب. ولا يخفى أنّ في كلام المصنّف(رحمة الله) خلطاً، فراجع الخوئيني(1)

وغيره. وقد آثرنا شرح العبارة تحفّظاً على مقصدنا من التوضيح غالباً.

{هذا} بعد تسليم أنّ حسن الاحتياط كاشف عن الأمر - كما قال المجيب الأوّل - وبعد تسليم أنّ الثواب كاشف عن الأمر - كما قال المجيب الثّاني - {مع أنّ} لنا أن نمنع ذلك، فإنّ {حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلّق الأمر به} أي: الاحتياط {بنحو اللمّ} ومعرفة المعلول من العلّة، إذ الحسن علّة للأمر {ولا ترتّب الثواب عليه} أي: على الاحتياط {بكاشف عنه} أي: عن الأمر {بنحو الإنّ} ومعرفة العلّة من المعلول، إذ الثواب معلول للأمر {بل يكون حاله} أي: حال الاحتياط {في ذلك} أي: في حسنه وترتّب الثواب عليه {حال الإطاعة} فإنّ الإطاعة الحقيقيّة حسن ويترتّب الثواب عليها، ومع ذلك فإنّهما لا يكشفان عن

ص: 302


1- شرح كفاية الأصول 3: 449.

فإنّه نحوٌ من الانقياد والطّاعة.

وما قيل(1) في دفعه: من كون المراد بالاحتياط في العبادات، هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات، عدا نيّة القربة.

___________________________________________

الأمر بهما شرعاً؛ لأنّ الأمر بالإطاعة إرشاديّ، كما لا يخفى {فإنّه} أي: الاحتياط {نحو من الانقياد والطّاعة} فما نقول في الطّاعة نقول في الاحتياط.

وإن شئت قلت: إنّ الاحتياط إطاعة احتماليّة، فيكون حاله حال الإطاعة الحقيقيّة المستفادة من قوله: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ}(2)، فكما أنّ حسن الإطاعة الحقيقيّة وترتّب الثواب على الإطاعة الحقيقيّة لا يكشف عن أمر مولويّ بالإطاعة وإنّما أمره إرشاديّ إلى حكم العقل، كذلك حسن الإطاعة الاحتماليّة - الّتي هي الاحتياط - وترتّب الثواب عليها لا يكشف عن أمر مولويّ بها، وإنّما أمره - لو كان - فهو إرشاديّ إلى حكم العقل، مع أنّ الأمر الإرشادي هنا لا دليل عليه.

{وما قيل في دفعه} القائل الشّيخ، فإنّه قد أجاب {من} إشكال الاحتياط في العبادة بجواب آخر حاصله: إنّه ليس المراد بالاحتياط في العبادة الأجزاء والشّرائط مع قصد القربة حتّى يقال بأنّ قصد القربة يحتاج إلى الأمر ولا أمر في العبادة المشكوكة، بل {كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات} الأجزاء والشّرائط والموانع والخصوصيّات {عدا نيّة القربة} ويأتي بنيّة القربة بدليل آخر، كما هو كذلك في باب العبادة الحقيقيّة الّتي صحّحناها بأمرين، فيأتي بقصد القربة باحتمال الأمر أو بدليل آخر كالإجماع والضّرورة القائمين على أنّ العبادة لا تكون إلّا بقصد القربة. والّذي

ص: 303


1- فرائد الأصول 2: 153.
2- سورة النساء، الآية: 59.

فيه: - مضافاً إلى عدم مساعدة دليل حينئذٍ على حسنه بهذا المعنى فيها؛ بداهة أنّه ليس باحتياط حقيقة، بل هو أمرٌ لو دلّ عليه دليلٌ كان مطلوباً مولويّاً نفسيّاً عباديّاً، والعقلُ لا يستقلّ إلّا بحسن الاحتياط، والنّقل لا يكاد يرشد إلّا إليه.

___________________________________________

يدلّ على أنّ مراد الشّيخ ليس الإتيان بدون قصد القربة - كما فهمه المصنّف(رحمة الله) - قول الشّيخ: «فأوامر الاحتياط يتعلّق بهذا الفعل،وحينئذٍ فيقصد المكلّف فيه التقرّب بإطاعة هذا الأمر»(1).

وحيث فهم المصنّف من الشّيخ أنّ مراده الإتيان بصورة العبادة بدون قصد القربة أشكل عليه بقوله: و{فيه - مضافاً إلى عدم مساعدة دليل حينئذٍ} أي: حين كان بدون قصد القربة {على حسنه} أي: حسن الاحتياط {بهذا المعنى} أي: بمجرّد الأجزاء والشّرائط {فيها} أي: في العبادة {بداهة أنّه ليس باحتياط حقيقة} إذ هو شيء أجنبيّ عن العبادة المحتملة {بل هو أمر لو دلّ عليه دليل كان مطلوباً مولويّاً} لا إرشاديّاً {نفسيّاً} لا طريقيّاً إلى الواقع {عباديّاً} أي: منسوباً إلى العبادة لا أنّها عبادة بنفسها {و} لا دليل على مثله، إذ {العقل لا يستقلّ إلّا بحسن الاحتياط} وليس هذا منه {والنّقل لا يكاد يرشد إلّا إليه} فمن أين لنا إثبات مثل هذا الاحتياط الّذي ذكرتم وهو الأجزاء والشّرائط بدون قصد القربة؟

إن قلت: كيف ذكرتم عدم مساعدة دليل على هذا المعنى والحال أنّ أوامر الاحتياط شاملة له؟ فإنّ قوله(علیه السلام): «فاحتط لدينك»(2)

كما يشمل غير العبادة يشمل العبادة أيضاً، وحيث لا يمكن أن يكون المراد من العبادة المأمور بها - في تلك الأوامر - الأجزاء والشّرائط مع قصد القربة، فلا بدّ أن نقول بالمجازيّة، وهو أن يراد بالاحتياط جميع الأجزاء والشّرائط بدون قصد القربة صوناً لكلام الحكيم

ص: 304


1- فرائد الأصول 2: 153.
2- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

نعم، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة، لَما كان محيص عن دلالته اقتضاءً على أنّ المراد به ذاك المعنى، بناءً على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة، كما لا يخفى - أنّه التزامٌ بالإشكال وعدمِ جريانه

___________________________________________

عن اللغويّة.

قلت: الأوامر مصروفة إلى غير العبادة، إذ الاحتياط ظاهر في معناه الحقيقي، فأيّ وجه يقتضي حمله على معنى مجازي يشمل العبادات أيضاً، إذ الدليل على الاحتياط سواء كان عقليّاً أو فعليّاً إنّما هو بالاحتياط الّذي لا يمكن وجوده في العبادة.

{نعم، لو كان هناك} في باب الاحتياط {دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة} بأن قال: «احتط في العبادة» {لما كان محيص عن دلالته} أي: دلالة ذلك الدليل الخاصّ بالعبادة {اقتضاءً} أي: بدلالة الاقتضاء، وهو صون كلام الحكيم عن اللغويّة، إذ لو لم يحمل الاحتياط حينئذٍ على معناه المجازي كان كلام الحكيم الآمر بالاحتياط لغواً، إذ لا يمكن معناه الحقيقي {على أنّ المراد به} أي: بدليل الاحتياط {ذاك المعنى} الّذي ذكره الشّيخ وهو الأجزاء والشّرائط بدون قصد القربة {بناءً على عدم إمكانه} أي: الاحتياط {فيها} أي: في العبادة {بمعناه حقيقة} لاحتياجها إلى قصد القربة ولا قربة في مشكوك الأمر {كما لا يخفى - أنّه التزام بالإشكال} هذا مرتبط بقوله: «فيه مضافاً» و«أنّه» مبتدأ وخبره «فيه» المتقدّم.

وهذا أصل الإشكال الوارد على الشّيخ، وحاصله: أنّ الإشكال - في الاحتياط في العبادة - كان من جهة عدم إمكان قصد القربة فيها، وقد التزمتم بذلك وأنّه يراد بالاحتياط صورة العبادة {و} أنّه التزام منكم ب- {عدم جريانه} أي: الاحتياط

ص: 305

فيها، وهو كما ترى.

قلت: لا يخفى أنّ منشأ الإشكال هو تخيّل كون القربة المعتبرة في العبادة مثلَ سائر الشّروط المعتبرة فيها، ممّا يتعلّق بها الأمر المتعلّق بها، فيشكل جريانه حينئذٍ؛ لعدم التمكّن من إتيان جميع ما اعتبر فيها، وقد عرفت(1)

أنّه فاسد، وإنّما اعتبر قصد القربة فيها عقلاً، لأجل أنّ الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه.

___________________________________________

{فيها} أي: في العبادة {وهو كما ترى} لكن كلام المصنّف مبنيّ على أن يكون مراد الشّيخ الإتيان بالعبادة بدون قصد القربة، وقد عرفت تصريح الشّيخ بخلافه.{قلت}: يمكن دفع إشكال الاحتياط في العبادة بوجه آخر، وهو أنّ اعتبار القربة - في جميع العبادات - ليس شرعيّاً بل هو عقليّ، والعقل لا يعتبر أزيد من قصد الأمر جزميّاً كان أو احتماليّاً، فيتحقّق الاحتياط، إذ لم يحتج إلى أمر الشّارع المستلزم للدور، إذ {لا يخفى أنّ منشأ الإشكال} في صحّة الاحتياط في العبادة {هو تخيّل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر} الأجزاء و{الشّروط المعتبرة فيها ممّا يتعلّق بها الأمر المتعلّق بها} أي: بتلك العبادة، وإذا لزم تعلّق الأمر بأجزائها وشروطها {فيشكل جريانه} أي: الاحتياط {حينئذٍ لعدم التمكّن من إتيان جميع ما اعتبر فيها} أي: في العبادة حتّى قصد القربة، إذ قصد القربة متوقّفة على الأمر بهذه العبادة الاحتياطيّة.

{وقد عرفت} سابقاً في مبحث الأمر {أنّه فاسد} لما أُقيم من الدليل على امتناع أخذ القربة في موضوع الأمر، إذ القربة لا يمكن الإتيان بها إلّا بعد تعلّق الأمر، فكيف يمكن أن تؤخذ في متعلّق الأمر؟ {وإنّما اعتبر قصد القربة فيها} أي: في العبادة {عقلاً لأجل أنّ الغرض منها} أي: من العبادة {لا يكاد يحصل بدونه} أي: بدون قصد القربة.

ص: 306


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 418.

وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الإمكان؛ ضرورة التمكّن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله، غاية الأمر أنّه

___________________________________________

{وعليه} أي: بناءً على كون قصد القربة ممّا يعتبر عقلاً - لا شرعاً - {كان جريان الاحتياط فيه} أي: في باب العبادة {بمكان من الإمكان}.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) علّق على قوله: «إنّه فاسد» بقوله: «هذا مع أنّه لو أغمض عن فساده، لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الإشكال فيها، فكما يلتزم في دفعه بتعدّد الأمر فيها، ليتعلّق أحدهما بنفس العمل، والآخر بإتيانه بداعي أمره، كذلك في ما احتمل وجوبه منها كان على هذا احتمال أمرين كذلك، أي: أحدهما كان متعلّقاً بنفسه، والآخر بإتيانه بداعي ذاك الأمر، فيتمكّن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء أمره واحتماله، فيقع عبادة وإطاعة لو كان واجباً وانقياداً لو لم يكن كذلك.

نعم، كان بين الاحتياط هاهنا وفي التوصليّات فرق، وهو أنّ المأتي به فيها قطعاً كان موافقاً لما احتمل وجوبه مطلقاً، بخلافه هاهنا، فإنّه لا يوافق إلّا على تقدير وجوبه واقعاً، لما عرفت من عدم كونه عبادة إلّا على هذا التقدير، ولكنّه ليس بفارق لكونه عبادة على تقدير الحاجة إليه، وكونه واجباً. ودعوى عدم كفاية الإتيان برجاء الأمر في صيرورته عبادة أصلاً - ولو على هذا التقدير - مجازفة، ضرورة استقلال العقل بكونه امتثالاً لأمره على نحو العبادة لو كان، وهو الحاكم في باب الإطاعة والعصيان، فتأمّل جيّداً»(1)،

انتهى.

فتحصّل: أنّه بناءً على كون اعتبار القربة عقليّاً لا شرعيّاً يمكن الاحتياط في العبادة {ضرورة التمكّن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله} من الأجزاء والشّرائط حتّى القربة {غاية الأمر أنّه} لا يأتي بالعبادة بداعي الأمر لعدم علمه

ص: 307


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 120.

لا بدّ أن يؤتى به على نحو لو كان مأموراً به لكان مقرّباً، بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر، أو احتمال كونه محبوباً له - تعالى - ، فيقع حينئذٍ على تقدير الأمر به امتثالاً لأمره - تعالى - ، وعلى تقدير عدمه انقياداً لجنابه - تبارك وتعالى - ، ويستحقّ الثواب على كلّ حال: إمّا على الطّاعة أو الانقياد.

وقد انقدح بذلك: أنّه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلّق أمر بها، بل لو فرض تعلّقه بها لما كان من الاحتياط بشيء، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها، كما لا يخفى.

___________________________________________

بالأمر، بل {لا بدّ أن يؤتى به على نحو لو كان مأموراً به لكان مقرّباً} وذلك {بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوباً له - تعالى -} وقد تقدّم أنّ العقل في ما علم بالأمر يعتبر الإطاعة الجزميّة وفي ما احتمله يعتبر الإطاعة الاحتماليّة {فيقع حينئذٍ على تقديرالأمر به امتثالاً لأمره، - تعالى -} لأنّه قصد الأمر على هذا التقدير {وعلى تقدير عدمه} أي: عدم الأمر واقعاً {انقياداً لجنابه - تبارك وتعالى - ويستحقّ الثواب} والأجر {على كلّ حال} حال المطابقة وعدمها {إمّا على الطّاعة} في الأوّل {أو الانقياد} في الثّاني.

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من إمكان الاحتياط في العبادة {أنّه لا حاجة في جريانه} أي: الاحتياط {في العبادات إلى تعلّق أمر بها} أي: بالعبادة الاحتياطيّة {بل لو فرض تعلّقه بها لما كان من الاحتياط بشيء} إذ الاحتياط هو الإتيان باحتمال الأمر، فلو تعلّق الأمر لم يكن احتياطاً {بل} كان {كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها} أي: من العبادات {كما لا يخفى}.

هذا تمام الكلام في ما ارتضاه المصنّف من جواب الإشكال، وقد أُشكل عليه أيضاً كما هو أشكل في الوجوه الثلاثة السّابقة، لكن مقصد الشّرح يأبى عن التعرّض له.

ص: 308

فظهر أنّه لو قيل(1) ب- «دلالة أخبار (من بلغه ثواب)(2) على استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف» لَما كان يُجدي في جريانه في خصوص ما

___________________________________________

وهناك وجه خامس لدفع إشكال الاحتياط في العبادة، وهو: أنّ مشكوك العباديّة وإن لم يمكن الإتيان به بقصد القربة، من جهة أنّه لم يحرز تعلّق الأمر به، لكن يمكن الإتيان به بقصد القربة بملاحظة الاستحباب المستفاد من أخبار من بلغ، فقد ورد في مستفيض الأحاديث أنّ «من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أُوتيه وإن لم يكن كما بلغه»(3).

فلو قام خبر ضعيف على استحباب الأذان لصلاة مستحبّة - مثلاً - صحّ الاحتياط بإتيان الأذان لها بقصد القربة، لوجود الأمر العام المستفاد من أخبار من بلغ، لكن هذا الوجه أيضاً مخدوش.

إذ أوّلاً: هذا لا يدفع الإشكال عن جميع موارد الشّبهة في العبادة، وإنّما يختصّ بما ورد فيه أمر ولو بخبر ضعيف. وثانياً: أنّ موافقة هذا الأمر الاستحبابي يجعل المأتي به طاعة جزميّة، ويخرج عن المتنازع فيه الّذي هو الاحتياط في محتمل الوجوب.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: {فظهر} ممّا ذكرنا من أنّه لو فرض تعلّق الأمر بالعبادة لما كان من الاحتياط بشيء {أنّه لو قيل ب- «دلالة أخبار (من بلغه ثواب) على استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف»} وإنّما قال: «لو قيل» لأنّ من الفقهاء من أنكر الاستحباب، كما هو مفصّل في محلّه {لما كان} هذا القول {يجدي في جريانه} أي: جريان الاحتياط {في خصوص ما} أي: عبادة

ص: 309


1- فرائد الأصول 2: 153.
2- راجع وسائل الشيعة 1: 59-60.
3- الكافي 2: 87.

دلّ على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف، بل كان - عليه - مستحبّاً، كسائر ما دلّ الدليل على استحبابه.

لا يقال: هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الّذي بلغ عليه الثواب بعنوانه، وأمّا لو دلّ على استحبابه

___________________________________________

{دلّ على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف} فلا يكون تلك العبادة من مصاديق الاحتياط {بل كان} الاسم وضمير «ما» الّذي مصداقه العبادة {عليه} أي: بناءً على دلالة الخبر الضّعيف {مستحبّاً كسائر ما دلّ الدليل على استحبابه}.

وقد أُجيب عن إشكال الاحتياط في العبادة بوجه سادس، وهو: أنّه كما لو كان أوامر الاحتياط الواردة في الشّريعة مولويّة دلّت على جواز الإتيان بالعبادة المشكوكة بقصد القربة، لكنّها حيث كانت إرشاديّة لم تدلّ على ذلك، كذلك أخبار من بلغ لو كانت للاستحباب لم تدلّ على إمكان الاحتياط، أمّا لو كانت في مقام أنّ الإنسان إذا أتى بالعبادة برجاء الثواب أتاه ذلك الثواب المرجّى دلّت على الاستحباب بعنوان الاحتياط، وتكفي حينئذٍ في رفع الإشكال؛ لأنّ محتمل الثواب أمر به الشّارع، فيمكن الإتيان به بقصد القربة، إذ قصد القربة كان محتاجاًإلى أمر نفسيّ بالعمل الاحتياطي وقد دلّت على ذلك أخبار من بلغ، منتهى الأمر أنّه في مورد يكون فيه خبر ضعيف وليس في جميع موارد العبادات الاحتياطيّة.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {لا يقال: هذا} الّذي ذكرتم من أنّ الأمر المستفاد من أخبار من بلغ لا يفيد لإمكان الاحتياط في العبادة؛ لأنّ الأمر يفيد استحباباً لا احتياطاً، إنّما هو {لو قيل بدلالتها} أي: دلالة أخبار من بلغ {على استحباب نفس العمل الّذي بلغ عليه الثواب بعنوانه} كأن تدلّ على استحباب دعاء رؤية الهلال بعنوان أنّه دعاء مروي.

{وأمّا لو} لم نقل بذلك بل قلنا بأنّ من بلغ {دلّ على استحبابه} أي: ذلك

ص: 310

لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنّه محتمل الثواب، لكانت دالّة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط، كأوامر الاحتياط لو قيل بأنّها للطلب المولوي، لا الإرشادي.

فإنّه يقال:

___________________________________________

العمل - كالدعاء للرؤية - {لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنّه محتمل الثواب} وفرق بين الأمرين، فإنّ صلاة الليل المقطوع استحبابها إنّما تدلّ أخبارها على استحبابها بما هي صلاة الليل، لا بعنوان أنّها محتملة الثواب، أمّا ما دلّ عليه خبر ضعيف، فإنّ الخبر الضّعيف لمّا لم يكن قابلاً لإفادة استحباب ذلك الموضوع لضعفه كان أخبار من بلغ كافياً لاستحبابه، لكن لا بعنوانه بل بعنوان أنّه محتمل الثواب وأنّ موضوع أخبار من بلغ ينطبق عليه، وعلى هذا {لكانت دالّة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط كأوامر الاحتياط} نحو «أخوك دينك فاحتط لدينك»(1)، {لو قيل بأنّها للطلب المولوي} حيث تدلّ حينئذٍ على الأمر المولوي بالاحتياط المفيد ذلك لصحّة الإتيان بالعمل بقصد القربة لوجود الأمر {لا} للطلب {الإرشادي} كما هو ظاهرها.

{فإنّه يقال}: لا يمكن التمسّك بأخبار من بلغ لتصحيح قصد القربة في العبادات المشكوكة، إذ لا يخلو الأمر من كون الأمر المستفاد من أخبار من بلغ للتوصليّة - الّتي يسقط الأمر بمجرّد إتيان متعلّقه ولو بدون قصد القربة - أو للتعبديّة الّتي يحتاج في إسقاط الأمر إلى قصد القربة - فلو كان الأمر بعنوان الاحتياط بالدعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - المستفاد من أخبار من بلغ للتوصّل، كان اللّازم كفاية الإتيان بالدعاء ولو بدون قصد القربة - كما هو شأن كلّ أمر توصليّ - ولو كان الأمر المستفاد لتعبّد لم يفد أيضاً في لزوم قصد القربة، لما عرفت سابقاً من أنّ قصد القربة يأتي من قبل الأمر، فلا يمكن أخذه في متعلّق

ص: 311


1- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

إنّ الأمر بعنوان الاحتياط - ولو كان مولويّاً - لكان توصليّاً. مع أنّه لو كان عباديّاً لما كان مصحّحاً للاحتياط، ومجدياً في جريانه في العبادات، كما أشرنا إليه آنفاً.

ثمّ

___________________________________________

الأمر للزوم الدور.

فتحصّل: أنّ أخبار من بلغ ولو كانت مفيدة للاحتياط لم تنفع في تصحيح القربة في العبادة المشكوكة، ف- {إنّ الأمر بعنوان الاحتياط} المستفاد من أخبار من بلغ {ولو كان مولويّاً} لا إرشاديّاً {لكان توصليّاً} إذ لم يدلّ دليل على تعبديّته والتوصليّة هي الأصل في الأوامر، إذ التعبديّة تحتاج إلى مؤونة زائدة ولو كان الأمر المستفاد توصليّاً لم ينفع في تصحيح قصد القربة في العبادة المشكوكة فلا يندفع الإشكال الوارد في باب الاحتياط في العبادة من أنّه بدون الأمر كيف يعقل قصد القربة {مع أنّه لو كان} الأمر بالاحتياط المستفاد من أخبار من بلغ {عباديّاً} لا توصليّاً {لما كان} هذا الأمر {مصحّحاً للاحتياط ومجدياً في جريانه} أي: جريان الاحتياط {في العبادات، كما أشرنا إليه آنفاً} لأنّه يلزم منه الدور المتقدّم.

{ثمّ} لا بأس بصرف عنان الكلام إلى أخبار من بلغ وأنّه هل يستفاد منها الاستحباب حتّى أنّه لو قام خبر ضعيف على استحباب أعمالليلة الرّغائب - مثلاً - تكون تلك الأعمال مستحبّة ويكون الثواب بإزاء نفس العمل كسائر المستحبّات أم لا يستفاد منها الاستحباب، وأنّه إنّما يكون الثواب للانقياد؟

والفرق بين الثوابين أنّ الأوّل على نفس العمل والثّاني على الانقياد، إذ المفروض أنّ العمل لا ثواب له.

مثلاً: لو قال المولى: (اغتسل للجمعة) كان الثواب على نفس الاغتسال، ولو لم يقل: (اغتسل لقتل الوزغ) لكن قام على ذلك خبر ضعيف، فاغتسل العبد لم يكن الثواب لنفس الاغتسال، إذ ليس مشروعاً في الواقع وإنّما الثواب على انقياد العبد.

ص: 312

إنّه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب؛ فإنّ صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «من بلغه عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) شيء من الثواب فعَمِلَهُ كان أجر ذلك له، وإن كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لم يقله»(1) ظاهرة في أنّ الأجر كان مترتّباً على نفس العمل الّذي بلغه عنه(صلی الله علیه و آله) أنّه ذو ثواب.

___________________________________________

وقد اختلف الشّيخ والمصنّف - رحمهما اللّه - في المستفاد من هذه الأخبار فالشيخ - رضي اللّه عنه - على أنّها لا تفيد استحباب الشّيء الّذي قام عليه الخبر الضّعيف، وإنّما يثاب ثواب الانقياد وأنّ الأخبار في صدد أنّ الانقياد للّه - تعالى - حسن كما يحكم بذلك العقل واستدلّ لذلك بما ورد في بعض تلك الأخبار من قوله(علیه السلام): «رجاء ذلك الثواب» أو «التماس ذلك الثواب» ممّا ظاهره أنّ العمل المأتي به إنّما يكون بعنوان الانقياد والخضوع برجاء الثواب، ولذا فلا يصحّ الفتوى باستحباب ما قام عليه خبر ضعيف.

والمصنّف(رحمة الله) على أنّها تفيد الاستحباب، إذ في بعض تلك الأخبار جعل الثواب بإزاء العمل؛ لأنّه قال(علیه السلام): «فعله كان أجر ذلك له»، فإنّ إضافة الأجر إلى المأتي به يفيد كون الثواب لنفس العمل لا للانقياد، والثواب لا يكون لعمل إلّا إذا كان مستحبّاً.

إذا عرفت ذلك نقول: {إنّه لا يبعد دلالة تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب} فالمستحبّ كما يثبت بالخبر الّذي هو حجّة كذلك يثبت بالخبر الضّعيف بمعونة أخبار من بلغ {فإنّ صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن} للبرقي {عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «من بلغه عن النّبيّ(صلی

الله علیه و آله) شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لم يقله»} وخبر قوله: «فإنّ» قوله: {ظاهرة في أنّ الأجر كان مترتّباً على نفس العمل الّذي بلغه عنه(صلی الله علیه و آله) أنّه ذو ثواب} ولا يكون نفس

ص: 313


1- المحاسن 1: 25.

وكون العمل متفرّعاً على البلوغ، وكونه الداعي إلى العمل(1)،

غيرُ موجب لأن يكون الثواب إنّما يكون مترتّباً عليه في ما إذا أتى برجاء أنّه مأمور به وبعنوان الاحتياط؛ بداهة أنّ الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً يؤتى به بذاك الوجه والعنوان.

وإتيان العمل بداعي طلب قول النّبيّ(صلی الله علیه و آله)(2)، - كما قيّد به في بعض الأخبار -

___________________________________________

العمل ذا ثواب إلّا إذا كان مستحبّاً، إذ العمل الانقيادي لا يثاب فاعله عليه بما هو عمل وإنّما يثاب بما هو انقياد للمولى وخضوع له.

{و} ما في بعض الأخبار الآتية من {كون العمل متفرّعاً على البلوغ وكونه} أي: البلوغ {الداعي إلى العمل} ممّا ظاهره أنّ الثواب على عنوان الرّجاء والالتماس والاحتياط فلا ثواب في إزاء الفعل بما هو فعل، بل في إزاء الفعل المعنون بعنوان البلوغ فيكون الثواب للانقياد، كما ذكره الشّيخ(رحمة الله) {غير موجب} خبر قوله: «وكون» أي: أنّ كون العمل متفرّعاً على البلوغ لا يوجب {لأن يكون الثواب إنّما يكون مترتّباً عليه} أي: على العمل المقيّد {في ماإذا أتى برجاء أنّه مأمور به وبعنوان الاحتياط} وإدراك الواقع لو كان {بداهة} أنّه للعلّة لا للتقييد، فالبلوغ علّة للعمل لا أنّ العمل مقيّد به، ف- {إنّ الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً} بحيث {يؤتى به} أي: بالعمل {بذاك الوجه والعنوان} فالترتّب على البلوغ ليس ملحوظاً قيداً في موضوع الثواب، وإنّما هو ملحوظ علّة للثواب يعني أنّ علّة الثواب هو البلوغ لا أنّ الثواب مقيّد بكون الإتيان لالتماس قول النّبيّ(صلی الله علیه و آله) {وإتيان العمل بداعي طلب قول النّبيّ(صلی الله علیه و آله) كما قيّد به في بعض الأخبار} كرواية محمّد بن مروان، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «من بلغه عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النّبيّ(صلی الله علیه و آله) كان له ذلك الثواب وإن كان النّبيّ(صلی الله علیه و آله)

ص: 314


1- فرائد الأصول 2: 155.
2- فرائد الأصول 2: 155.

وإن كان انقياداً، إلّا أنّ الثواب في الصّحيحة إنّما رتّب على نفس العمل، ولا موجب لتقييدها به، لعدم المنافاة بينهما، بل لو أتى به كذلك، أو التماساً للثواب الموعود - كما قيّد به في بعضها الآخر - لأُوتي الأجر والثواب على نفس العمل، لا بما هو احتياط وانقياد،

___________________________________________

لم يقله»(1).

الّتي ظاهرها كون الثواب إنّما هو على الفعل المقيّد برجاء قول النّبيّ وطلبه، ممّا يدلّ على كون الثواب على الانقياد لا ذات الفعل.

{وإن كان} ظاهره يعطي أن يكون العمل {انقياداً} وإطاعة لا مطلقاً {إلّا أنّ الثواب في الصّحيحة} المتقدّمة لهشام بن سالم {إنّما رتّب على نفس العمل ولا موجب لتقييدها} أي: تقييد الصّحيحة {به} أي: بهذا الخبر، بل هما خبران يفيد أحدهما كون الثواب لأصل العمل ويفيد الثّاني كون الثواب للانقياد، ولا وجه لإسقاط ظهور أحدهما {لعدم المنافاة بينهما} حتّى يستلزم التقييد {بل} فوق ذلك، وهو أنّه {لو أتى به} أي: بالعمل الّذي قام عليه الخبر الضّعيف {كذلك} أي: لأنّه مستحبّ كما هو مقتضى الصّحيحة {أو التماساً للثواب الموعود كما قيّد به في بعضها الآخر} كرواية ابن مروان {لأُوتي الأجر والثواب على نفس} ذلك {العمل لا بما هو احتياط وانقياد} وذلك لأنّ ما دلّ على أنّ الثواب على نفس العمل كاشف عن ذلك، وقصد الانقياد لا يوجب انقلاب الثواب عمّا هو عليه إلى غيره، فإنّ الانقياد إنّما ترتّب على واقعها لا على القصد المتعلّق به، فإنّ الإنسان سواء صلّى بعنوان أنّها واجبة أو صلّى بعنوان الانقياد أتاه ثواب الصّلاة لا ثواب الانقياد.

نعم، في ما لم يكن هناك واقع مجعول عليه الثواب لا محالة يكون الثواب للانقياد، وحال الثواب في ذلك حال العقاب في المعصية، فإنّه لو عصى تجرّياً عوقب للمعصية لا للتجرّي.

نعم، لو تجرّى بغير المعصية الحقيقيّة ظنّاً منه أنّها معصية كان العقاب

ص: 315


1- المحاسن 1: 25؛ وسائل الشيعة 1: 60.

فيكشف عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعة، فيكون وزانه وزان: «من سرّح لحيته»(1)،

أو «من صلّى» أو «صام» فله كذا. ولعلّه لذلك أفتى المشهور بالاستحباب، فافهم وتأمّل.

الثّالث: أنّه لا يخفى

___________________________________________

للتجرّي - على القول به - {ف-} ترتيب الثواب على ما قام عليه خبر ضعيف {يكشف عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعة، فيكون وزانه} أي: وزان خبر «من بلغ» {وزان «من سرّح لحيته» أو «من صلّى» أو «صام» فله كذا} حيث إنّ الثواب مرتّب على نفس الأفعال.

{ولعلّه لذلك} الّذي ذكرنا من استفادة استحباب ما قام عليه خبر ضعيف من الصّحيحة؛ لأنّها تكشف عن الثواب الّذي هو من آثار الاستحباب {أفتى المشهور بالاستحباب} في موارد وجود الخبر الضّعيف، فقالوا بأنّ الصّلاة الفلانيّة، وصيام يوم كذا، ودعاء ليلة الرّغائب، مستحبّة، مع أنّ الأخبار الضّعاف دلّت عليها، ولو كان الثواب مرتّباً على الانقياد لم يصحّ فتواهم بالاستحباب،بل اللّازم أن يقولوا أنّ الصّلاة يوم كذا برجاء الثواب يثاب عليها، وهكذا {فافهم وتأمّل} حتّى لا تتوهّم أنّ المشهور إنّما أفتوا بالاستحباب لأنّهم استفادوا حجيّة الخبر الضّعيف من أخبار من بلغ، إذ لا يخفى ما في ذلك، فإنّ استفادة حجيّة كلّ خبر ضعيف من هذه الأخبار أصعب بكثير من القول بكون الثواب على نفس العمل، على ما تقدّم.

{الثّالث} من الأُمور المهمّة المتعلّقة بالبراءة {أنّه لا يخفى} أنّ البراءة تجري في الشّبهات الحكميّة وجوبيّة كانت أو تحريميّة كما تقدّم تقريبه، أمّا جريان البراءة في الشّبهات الموضوعيّة فهل تجري مطلقاً كما هو قول، أو لا تجري مطلقاً كما هو احتمال، أو يفصل في ذلك بين تعلّق الحكم بالطبيعة نحو (لا تشرب الخمر) حيث إنّ المطلوب ترك هذه الطّبيعة وبين تعلّق الحكم بالأفراد نحو (لا

ص: 316


1- الكافي 6: 489.

أنّ النّهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمانٍ أو مكانٍ، - بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلاً - ، كان اللّازم على المكلّف إحراز أنّه تركه بالمرّة ولو بالأصل،

___________________________________________

تكرم الفسّاق) حيث إنّ المطلوب ترك إكرام كلّ فاسق، فلا تجري البراءة في الأوّل في ما لو شكّ في فرد أنّه خمر أم لا، بل يجب الاجتناب عنه إلّا إذا كان هناك أصل، وتجري في الثّاني في ما لو شكّ في فرد أنّه فاسق أم لا فيجوز إكرامه؟ احتمالات، ذهب المصنّف(رحمة الله) إلى التفصيل.

ولا يخفى أنّ مدار كلام المصنّف(رحمة الله) - وإن كان في الشّبهة التحريميّة - إلّا أنّه يجري في الشّبهة الوجوبيّة، فلو كان الوجوب متعلّقاً بالطبيعة لم تجر البراءة في الفرد المشكوك الوجوب، ولو كان متعلّقاً بالأفراد على نحو الانحلال تجري البراءة في الفرد المشكوك.

إذا عرفت ذلك قلنا: {إنّ النّهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان} خاصّ كيوم الصّوم {أو مكان} خاصّ كمكّة مثلاً {- بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو} ذلك {المكان ولو دفعة} واحدة - {لما امتثل أصلاً} كالأكل في الأوّل والصّيد في الثّاني {كان اللّازم على المكلّف إحراز أنّه تركه بالمرّة ولو} كان الإحراز {بالأصل} إذ المطلوب هو ترك الطّبيعة وصرف الوجود، وذلك لا يتحقّق إلّا بالترك المطلق وعدم الإتيان بأيّ فرد منها حتّى يتحقّق ترك صرف الوجود، فإنّه لو أتى بأكلة في الصّيام أو اصطاد صيداً واحداً في مكّة لم يمتثل ذلك النّهي، وحينئذٍ إذا شكّ في فرد أنّه أكل أم لا - كالتزريق في الوريد - أو شكّ في حيوان أنّه من الصّيد المحرّم أو المحلّل، كصيد البحر مثلاً، فإنّ مقتضى التحفّظ على الترك المطلق أن لا يأتي به إلّا إذا أحرز أنّه ليس بأكل أو ليس بصيد، ولو كان الإحراز بالأصل، كأن يقول قبل تناول هذا الشيء كالتزريق وأخذ هذا الحيوان:

ص: 317

فلا يجوز الإتيان بشيء يشكّ معه في تركه، إلّا إذا كان مسبوقاً به ليستصحب مع الإتيان به.

___________________________________________

كنت تاركاً، والآن أشكّ في ارتفاع ذلك الترك بهذا الفعل، فالأصل يقتضي عدمه.

إن قلت: ما الفرق بين الشّبهة في الحكم حيث تجرون البراءة مطلقاً وبين الشّبهة في الموضوع حيث لا تجرون البراءة في هذا القسم منه، وهو ما لو تعلّق بالطبيعة.

قلت: الفرق أنّ الشّبهة الحكميّة يشكّ فيها في أصل التكليف، فلا نعلم أنّ الحرمة تعلّقت بالتبغ أم لا، وذلك مجرى البراءة العقليّة والنّقليّة. أمّا هذا القسم من الشّبهة الموضوعيّة فقد علمنا بتعلّق التكليف بالاجتناب عن الأكل والصّيد، ولكن إذا عملنا المشكوك لم نتيقّن في الخروج عن عهدة المكلّف، فهناك شكّ في الاشتغال وهنا شكّ في الامتثال.

إن قلت: ما ذكرتم من أنّه إذا كان أصل في المسألة حكم بالبراءة، كأصالة عدم الصّيد وعدم الأكل في المثال المتقدّم، فيجوز حينئذٍ الارتكاب بسبب عدم وجود فائدة لما ذكرتم من جريان الاشتغال في الشّبهات الموضوعة، إذ ليس مورد إلّا وهو مسبوق بأصل العدم، فتكون النّتيجة البراءة أيضاً لكن ليس ابتداءً كالشبهات الحكميّة، بل ثانياً بسبب إجراء الأصل.

قلت: مع وجود الفرق العلمي وهو كاف في الفرق، كما أنّ العلماء ينقّحون موضوع استصحاب الطّهارة والحلّ من أصل الطّهارة والحلّ مع عدم فرق بينهما في مقام العمل، أنّه ربّما لا يجرى أصل العدم كما لو كان حين النّهي آتياً بالمنهي عنه، كما لو كان شارباً للخمر، فإنّه لا يجرى أصل العدم.

وعلى كلّ حال، إذا كان النّهي عن الطّبيعة يجب عليه اجتناب الفرد المشكوك {فلا يجوز الإتيان بشيء يشكّمعه في تركه} أي: ترك ذلك الشّيء المنهي {إلّا إذا كان مسبوقاً به} أي: بالترك {ليستصحب} الترك {مع الإتيان به} أي: بالفرد

ص: 318

نعم، لو كان بمعنى طلب ترك كلّ فرد منه على حدة، لَما وجب إلّا ترك ما علم أنّه فرد، وحيث لم يعلم تعلّق النّهي إلّا بما علم أنّه مصداقه، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكّمة.

فانقدح بذلك: أنّ مجرّد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة، في ما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كلّ فرد على حدة، أو كان الشّيء مسبوقاً بالترك،

___________________________________________

المشكوك، وحينئذٍ يكون جواز الإتيان ببركة الأصل لا لجريان البراءة، بخلاف ما لو تعلّق النّهي بالأفراد، فإنّه تجرى البراءة في الفرد المشكوك.

{نعم، لو كان} النّهي {بمعنى طلب ترك كلّ فرد منه على حدة} بأن كان النّهي انحلاليّاً حتّى يكون مثل: (لا تكرم زيداً وعمراً وبكراً الفاسقين) فيكون كلّ فرد موضوعاً مستقلّاً. وإنّما أجمل المولى عن هذه الموضوعات المتعدّدة بلفظ واحد {لما وجب إلّا ترك ما علم أنّه فرد} قطعيّ للمنهي عنه {وحيث لم يعلم تعلّق النّهي إلّا بما علم أنّه مصداقه} كزيد وعمرو وبكر في المثال {فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكَّمة} فيرجع في خالد وخويلد وهند المشتبه فسقهم إلى عدم حرمة الإكرام، وذلك لأنّ الشّكّ هنا في الاشتغال، إذ يشكّ في أنّه هل اشتغل ذمّته بهم أم لا، وليس شكّاً في الامتثال كما لو كان الأمر متعلّقاً بالطبيعة.

{فانقدح بذلك أنّ} تعلّق النّهي إمّا بالطبيعة وإمّا بالأفراد، والنّهي المتعلّق بالطبيعة إمّا في ما كان الشّيء مسبوقاً بالترك أو لا، وأنّ قسمين من هذه الأقسام الثلاثة مجرى البراءة وأصالة العدم، وأنّ قسماً واحداً منها مجرى الاشتغال، وأنّ {مجرّد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة في ما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كلّ فرد على حدة} نحو (لا تكرم الفسّاق) {أو كان الشّيء مسبوقاً بالترك} في ما كان النّهي متعلّقاً بالطبيعة نحو (لا تصد في الحرم)

ص: 319

وإلّا لوجب الاجتناب عنها عقلاً لتحصيل الفراغ قطعاً.

فكما يجب في ما علم وجوب شيء إحراز إتيانه، إطاعة لأمره، فكذلك يجب في ما علم حرمته إحرازُ تركه وعدم إتيانه، امتثالاً لنهيه. غاية الأمر كما يحرز وجود الواجب بالأصل،

___________________________________________

أو (لا تأكل يوم الصّوم) في ما كان مسبوقاً بعدم الأكل وعدم الصّيد {وإلّا} بأن كان النّهي عن الطّبيعة ولم يكن مسبوقاً بالعدم {لوجب الاجتناب عنها} أي: عن الأفراد المشتبهة {عقلاً لتحصيل الفراغ قطعاً} إذ الاشتغال اليقيني يحتاج إلى الفراغ اليقيني، وذلك لا يتحقّق إلّا بالاجتناب عن جميع الأفراد القطعيّة والمشكوكة.

{فكما يجب في ما علم وجوب شيء إحراز إتيانه، إطاعة لأمره} حتّى أفراده المشكوكة، كما لو أمر ربّان السّفينة بقتل كلّ جرذ فيها بحيث كان ذلك تكليفاً واحداً بإبادة هذه الطّبيعة حتّى لو بقي واحد منها لأوجبت غرق السّفينة لخرقها إيّاها، فإنّه يجب عقلاً إطاعة لهذا الأمر قتل حتّى مشكوك كونه جرذاً تحصيلاً للبراءة اليقينيّة عن هذا الاشتغال اليقيني الّذي لا يكاد يبرأ منه لو بقي من الجرذان واحد، وذلك بخلاف ما لو كان تكاليف متعدّدة منحلّة، كما لو أمر بإكرام العلماء حيث كان لكلّ فرد إطاعة ومعصية، فإنّه لا يجب إكرام المشتبه لجريان البراءة عن ذلك بعد إطاعة الأفراد المعلومة؛ لأنّه من الشّكّ في الاشتغال فقد اشتغلت ذمّته بالمعلومين، أمّا المشكوك منهم فالأصل عدم وجوبه {فكذلك يجب في ما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالاً لنهيه} المتعلّق بالطبيعة الّذي لا يمتثل إلّا بترك الجميع حتّى المشكوك كونه فرداً لها.

{غاية الأمر كما يحرز وجود الواجب بالأصل} كما لو كان الأمر متعلّقاً بوجود طبيعة السّتر في الصّلاة الّتي لا تحقّق - بالنسبة إلى المرأة - إلّا بستر جميع

ص: 320

كذلك يحرز ترك الحرام به.والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه، إلّا أنّ قضيّة لزوم إحراز الترك اللّازم: وجوبُ التحرّز عنه، ولا يكاد يحرز إلّا بترك المشتبه أيضاً، فتفطّن.

الرّابع:

___________________________________________

جسدها، فإنّه يجب ستر المواضع المشكوكة أيضاً تحصيلاً لليقين بالفراغ اليقيني لهذا الواجب الّذي لا يتأتّى لو كان جزء منها - ولو مشكوكاً - غير مستور، وحينئذٍ لو كان للستر حالة سابقة بأن كانت مستورة ثمّ شكّ في زوال السّتر عن جزء من بدنه كان مقتضى الاستصحاب بقاء ستره {كذلك يحرز ترك الحرام به} أي: بالأصل كما تقدّم في مثال الفرد المشتبه من الأكل في باب الصّيام، والفرد المشتبه من الصّيد في باب مكّة {والفرد المشتبه} من الطّبيعة المحرّمة {وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه} لأنّه رفع ما لا يعلمون ولقبح العقاب بغير بيان {إلّا أنّ قضيّة لزوم إحراز الترك} في ما كان النّهي متعلّقاً بالطبيعة، {اللّازم وجوب التحرّز عنه ولا يكاد يحرز} الترك مطلقاً {إلّا بترك المشتبه أيضاً} كما يترك المتيقّن {فتفطّن}.

لكن الانصاف أنّ هذا إتعاب بلا وجه، فإنّ البراءة تجرى مطلقاً ولو كان النّهي أو الأمر متعلّقاً بالطبيعة ولم يكن مسبوقاً بالترك أو الفعل، من غير فرق بينها وبين تعلّق النّهي والأمر بالأفراد، لأنّه أيضاً من الشّكّ في الاشتغال، فإنّي أعلم بوجوب الاجتناب عن أقسام الأكل في يوم الصّوم ولا أعلم أنّ التزريق في الوريد مثلاً أكل، وحيث لا أعلم بذلك لا أعلم بتوجّه التكليف إليّ من هذه الجهة، ولذا اختار غير واحد من الأعلام جريان البراءة في جميع الأفراد ولم يروا للتفصيل الّذي اختاره المصنّف وجهاً.

{الرّابع} من الأُمور المهمّة التابعة لأصالة البراءة في حسن الاحتياط مطلقاً،

ص: 321

أنّه قد عرفت حسن الاحتياط عقلاً ونقلاً. ولا يخفى أنّه مطلقاً كذلك، حتّى في ما كان هناك حجّة على عدم الوجوب أو الحرمة، أو أمارة معتبرة على أنّه ليس فرداً للواجب أو الحرام، ما لم يخلّ بالنظام فعلاً، فالاحتياط قبل ذلك مطلقاً يقع حسناً، كان في الأُمور المهمّة، كالدماء والفروج، أو غيرها، وكان احتمال التكليف قويّاً أو ضعيفاً،

___________________________________________

إلّا إذا كان مخلّاً بالنظام {أنّه قد عرفت} مكرّراً {حسن الاحتياط عقلاً ونقلاً} أمّا عقلاً فلأنّه إدراك للواقع، وأمّا نقلاً فلقوله: «احتط لدينك بما شئت»(1).

{ولا يخفى أنّه} أي: الاحتياط {مطلقاً} في جميع الموارد {كذلك} أي: حسن {حتّى في ما كان هناك حجّة على عدم الوجوب أو} على عدم {الحرمة أو} كان هناك {أمارة معتبرة على أنّه ليس فرداً للواجب أو} ليس فرداً ل- {الحرام} كما لو كان حجّة على عدم وجوب رؤية الحلال وعدم حرمة تدخين التبغ، أو على عدم كون زيد من أفراد العلماء في ما لو قال، (أكرم العلماء)، أو عدم كون عمرو من أفراد الفسّاق في ما لو قال: (لا تكرم الفسّاق)، فإنّه حيث إنّ الشّكّ هنا موجود لا قطع بالواقع كان محلّ الاحتياط باقياً.

نعم، لو كان هناك قطع بالواقع لم يبق موضوع الاحتياط، كما لا يخفى {ما لم يخلّ بالنظام فعلاً} أمّا إذا أخلّ بالنظام لم يكن حسناً لا عقلاً ولا شرعاً، وما لم تصل النّوبة إلى الوسوسة فهي كذلك أيضاً {فالاحتياط قبل ذلك} الاختلال وما أشبه {مطلقاً} في جميع الأبواب {يقع حسناً} سواء {كان في الأُمور المهمّة، كالدماء والفروج} كما لو دلّ الدليل على أنّ المرتضعة معه لم تكمل الرّضاع، أو قام الدليل على أنّ العاصي يقتل في المرّة الثّالثة، لكن بشرط أن لا يكون الاحتياط سبباً لتعطيل في الحدود، كما لا يخفى {أو غيرها} أي: غير الأُمور المهمّة كأبواب الطّهارة والنّجاسة وأمثالهما {و} سواء {كان احتمال التكليف قويّاً أو ضعيفاً}.

ص: 322


1- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

كانت الحجّة على خلافه أو لا. كما أنّ الاحتياط الموجب لذلك لا يكون حسناً كذلك، وإن كان الرّاجح لمن التفت إلى ذلك من أوّل الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً، فافهم.

___________________________________________

فمثلاً: في المعبر العام المسقّف الّذي يذبح القصّابون فيه الحيوانات احتمال النّجاسة قويّة، وفي الشّارع المبلّط النّظيف احتمالها ضعيف، ومع ذلك يحسن الاحتياط بالاجتناب فيهما، وسواء {كانت الحجة على خلافه} أي: خلاف الاحتياط بأن دلّ الدليل على الطّهارة {أو لا} كما لو كان مستند الطّهارة الأصل وما أشبه من الأصول العمليّة الّتي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل، وإن لم تكن في المسألة حجّة لفظيّة.

فمثلاً: قد يدلّ الدليل على حليّة الحيوان الفلاني ومع ذلك نحتاط بالاجتناب لاحتمال الحرمة، وقد يكون الحليّة مقتضى أصل الحلّ ومع ذلك نحتاط بالاجتناب {كما أنّ الاحتياط الموجب لذلك} الاختلال بالنظام أو ما أشبه {لا يكون حسناً كذلك} أي: مطلقاً {وإن كان الرّاجح لمن التفت إلى ذلك} أي: إلى أنّ الاحتياط المطلق موجب للاختلال {من أوّل الأمر} بأن أراد الاحتياط في الأبواب كلّها {ترجيح بعض الاحتياطات} على بعض، كترجيح احتياطات باب الفروج والدماء على احتياطات بابي الطّهارة والنّجاسة، أو ترجيح الاحتياطات الّتي يكون احتمال التكليف في مواردها قويّاً {احتمالاً} هذا للثاني {أو محتملاً} هذا للأوّل، إذ في باب الفروج المحتمل أقوى من باب الطّهارة، والاحتياط الأقوى الاحتمال أقوى، كما لا يخفى {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مرتبة العسر والحرج من الاحتياط أيضاً ليست حسنة، فالتخصيص بالمخلّ للنظام لا وجه له، وفي حسن الاحتياط مطلقاً لنا كلام ذكرناه في بعض الموارد، واللّه العالم.

ص: 323

فصل: إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته؛ لعدم نهوض حجّة على أحدهما تفصيلاً، بعد نهوضها عليه إجمالاً، ففيه وجوه:

الحكم بالبراءة عقلاً ونقلاً؛ لعموم النّقل، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة؛ للجهل به.

ووجوب الأخذ بأحدهما تعييناً

___________________________________________

[فصل في التخيير]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، التخيير

{فصل} في دوران الأمر في الشّبهة الحكميّة بين محذورين - أي: الوجوب والحرمة - كما إذا دار أمر صلاة الجمعة بينهما {إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته لعدم نهوض حجّة على أحدهما تفصيلاً} بأن تدلّ على أنّه واجب أو حرام {بعد نهوضها} أي: الحجّة {عليه} أي: على أحدهما {إجمالاً} كما لو تعارضت روايتان أو اختلفت الأُمّة على قولين {ففيه وجوه} ذكر المصنّف منها أربعة:

الأوّل: {الحكم بالبراءة عقلاً ونقلاً} فالمشتبه حلال محض، كما لو لم نعلم أنّ شرب التتن واجب أو حرام - مثلاً - ، فنحكم بحليّته، وإنّما نحكم بالبراءة {لعموم النّقل} نحو «رفع ما لا يعلمون»(1)،

و«النّاس في سعة»(2)،

و«ما حجب اللّه علمه عن العباد»(3)، فإنّ التتن قد فرض أنّه كذلك {وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به} أي: بخصوص أحدهما، لقاعدة قبح العقاب بغير بيان.

{و} الثّاني: {وجوب الأخذ بأحدهما تعييناً} بأن يأخذ باحتمال الحرمة فيجتنب عمّا دار فيه الأمر بين الوجوب والحرمة؛ لأنّ دفع المفسدة أولى من

ص: 324


1- الخصال 2: 417.
2- غوالي اللئالي 1: 424.
3- التوحيد: 413.

أو تخييراً. والتخيير بين الترك والفعل عقلاً، مع التوقّف عن الحكم به رأساً، أو مع الحكم بالإباحة عليه شرعاً.

___________________________________________

جلب المنفعة، وللاستقراء، فإنّ الشّارع قدّم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب في غير مورد - كأيّام الاستظهار الّتي يدور فيها الأمر بين وجوب الصّلاة وحرمتها، وكيوم الشّكّ الّذي يدور فيه الصّوم بقصد رمضان بين الوجوب والحرمة - {أو تخييراً} بأن يكون المكلّف مخيّراً بين أن يأخذ باحتمال الحرمة فيلزمه الترك حتّى أنّه لا يجوز له الفعل بعد ذلك، وبين أن يأخذ باحتمال الوجوب، فيلزمه الفعل حتّى أنّه لا يجوز له الترك، وبهذا يفرق هذا الوجه عن الوجه الأوّل، فإنّ في الأوّل تكون الإباحة فيأتي بهذا مرّة وبذاك مرّة، بخلافهذا فلا يصحّ له أن يأخذ إلّا بأحدهما.

ووجه ذلك أنّه يعلم بكونه في الواقع أحدهما، فلو أخذ بهذا وذاك علم بالمخالفة القطعيّة وذلك لا يجوز بخلاف ما لو أخذ بأحدهما، فإنّه مخالفة احتماليّة وموافقة احتماليّة.

وهنا وجه ثالث ملحق بهذا الوجه الثّاني، وهو أنّه يقدّم الأهمّ من الوجوب والحرمة لو كان في البين أهمّ وإلّا فعلى أحد الشّقّين السّابقين ووجهه واضح.

{و} الثّالث: {التخيير بين الترك والفعل عقلاً} في مقام العمل {مع التوقّف عن الحكم به رأساً} فلا يحكم بالوجوب ولا بالحرمة، بل إنّما يكون تخييراً عمليّاً ويفترق هذا الوجه عن الوجه الثّالث بكون ذاك تخييراً مع الحكم بأحدهما وهذا تخيير بلا حكم بأحدهما، أمّا التخيير العملي فلأنّه لا دليل على التعيين، وأمّا التوقّف عن الحكم فلأنّ السّكوت عن الحكم أولى من مخالفة الحكم قطعاً في ما صادف واحتمالاً على كلا التقديرين.

والرّابع: التخيير بين الترك {أو} الفعل عقلاً {مع الحكم بالإباحة عليه شرعاً}

ص: 325

أوجَهُها: الأخير؛ لعدم الترجيح بين الفعل والترك، وشمول مثل «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام»(1) له، ولا مانع منه عقلاً ولا نقلاً.

___________________________________________

أمّا التخيير العقلي العملي فقد عرفت وجهه في الثّالث، وأمّا الحكم بالإباحة فلأدلّة البراءة. وهناك وجوه أُخر ذكرها المشكيني(2) وغيره لا داعي لإيرادها.

وهذه الوجوه الأربعة {أوجهها} عند المصنّف(رحمة الله) {الأخير} وهو الوجه الرّابع، وقد كان مركّباً من أمرين، استدلّ للأوّل منهما وهو التخيير بين الترك والفعل عقلاً عملاً بقوله: {لعدم الترجيح بين الفعل والترك} لأنّ في كلّ منهما احتمال الموافقة والمخالفة ولا ترجيح، فالعقل يرى التخيير في مقام العمل فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وهذا التخيير استمراريّ في كلّ مرّة، ففي كلّ يوم إن شاء شرب التتن وإن شاء لم يشرب.

واستدلّ للأمر الثّاني - وهو الحكم بالإباحة شرعاً - بقوله: {و} ل- {شمول مثل «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» له} وهكذا تشمله أدلّة الرّفع والحجب والسّعة وما أشبهها، ولا اختصاص لهذه الرّوايات بما يدور أمره بين الحرمة وغير الوجوب أو الوجوب وغير الحرمة، بل هي عامّة تشمل جميع الصّور {ولا مانع منه} أي: من شمول مثل: «كلّ شيء» {عقلاً} أي: ليس من أطراف الشّبهة المحصورة الّذي كان خارجاً عن هذا العموم لدليل عقلي {ولا نقلاً} كما في الشّبهة البدويّة قبل الفحص أو بعده بناءً على مذهب الأخباري من شمول أخبار الاحتياط له.

ص: 326


1- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341، ولفظ الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام، فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 146.

وقد عرفت(1)

أنّه لا يجب موافقة الأحكام التزاماً، ولو وجب لكان الالتزام إجمالاً بما هو الواقع معه ممكناً.

والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعاً محرّماً لما نهض على وجوبه دليل قطعاً.

___________________________________________

{و} إن قلت: كيف يمكن الحكم على هذا الفعل المردّد بالإباحة، فإنّه خلاف ما دلّ على لزوم الالتزام بأحكام اللّه - تعالى - إذ حكم اللّه الواقعي لا يخلو عن كونه واجباً أو حراماً؟

قلت: {قد عرفت} سابقاً في أوّل الكتاب {أنّه} ليس للأحكام موافقتان ومخالفتان: الموافقة والمخالفة العمليّة والالتزاميّة، فلو ترك الإنسان الخمر وكان ملتزماً بإباحتها، أو وطِئ في رأس كلّ أربعة أشهر زوجته وكان ملتزماً بإباحته، لم يكن مخالفاً لحكم اللّه ولم يستحقّ العقاب، ف- {لا يجب موافقة الأحكام التزاماً} وإنّما يجب الالتزام في أُصول الدين وفي مثل العبادة حال الإتيان بها لقصد القربة والتعيين ونحوهما.{ولو} سلّمنا أنّه {وجب} الالتزام بالأحكام {لكان الالتزام - إجمالاً - بما هو الواقع معه} أي: مع الالتزام بالإباحة ظاهراً {ممكناً} فيلتزم بأنّ حكمه الواقعي أحدهما وحكمه الظّاهري الإباحة، كما أنّا نلتزم بالأحكام الواقعيّة في موارد جريان أصالة الطّهارة والإباحة ونحوهما، مع العلم بأنّ هذه الأصول تخالف الواقع كثيراً {والالتزام التفصيلي بأحدهما} إمّا تعييناً كأن يلتزم بالتحريم أو تخييراً {لو لم يكن تشريعاً محرّماً} لأنّه التزام بأنّه حكم اللّه مع عدم العلم بأنّه حكمه {لما نهض على وجوبه دليل قطعاً} إذ الدليل على الالتزام لو كان فرضاً فإنّما هو في معلوم الحكم لا في مجهوله الدائر أمره بين المحذورين، ومن الممكن أن يلتزم

ص: 327


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 322.

وقياسه بتعارض الخبرين - الدالّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب - باطل؛

___________________________________________

بخلاف حكم اللّه، ومن المعلوم أنّ الالتزام بخلاف الحكم أكثر مفسدة من عدم الالتزام بالحكم، فإنّ عدم الالتزام تفويت لمصلحة الحكم مثلاً، والالتزام بخلافه تفويت لتلك المصلحة وجلب لمفسدة خلاف الحكم.

ثمّ إنّه قد استدلّ القائل بالتخيير الشّرعي بأنّه مثل تعارض الخبرين، فكما يخيّر هناك بين الخبرين حيث يعلم بصحّة أحدهما إذا لم يكن مرجّح في البين كذلك يخيّر هاهنا للعلم بأحدهما، لكن المصنّف أجاب عن ذلك بأنّ حجيّة الخبرين:

إمّا من باب البيّنة وأنّ كلّ خبر علّة للحكم، فيكون حال الخبرين حال الواجبين المتزاحمين كالغريقين اللّذين لا يتمكّن المكلّف إلّا من إنقاذ أحدهما، وعلى هذا يكون التخيير بين الأخذ بهذا الخبر أو ذاك على القاعدة لوجود المناط في كلّ واحد منهما.

وإمّا من باب الطّريقيّة وأنّ كلّ خبر طريق إلى الواقع، وحينئذٍ وإن كان مقتضى القاعدة التساقط، لكن الدليل الخاصّ دلّ على التخيير لو لم يكن مرجّح في البين، وأين هذا ممّا نحن فيه، فإنّ الحرمة والوجوب المشكوكين ليس لكلّ منهما مناط في ما نحن فيه حتّى يكونا كالخبرين - بناءً على السّببيّة - وليسا طريقاً إلى الواقع حتّى يكونا كالخبرين - بناءً على الطّريقيّة بالإضافة إلى أنّ مقتضى القاعدة كما عرفت التساقط في الطّريقين المتعارضين لا التخيير وإنّما دلّ الدليل الخاصّ في باب الخبر بالتخيير، وليس في المقام دليل خاصّ يدلّ على ذلك.

{و} ممّا ذكرنا تبيّن أنّ {قياسه} أي: قياس دوران الأمر بين المحذورين {بتعارض الخبرين الدالّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب باطل} لا وجه له

ص: 328

فإنّ التخيير بينهما - على تقدير كون الأخبار حجّة من باب السّببيّة - يكون على القاعدة، ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين.

وعلى تقدير أنّها من باب الطّريقيّة، فإنّه وإن كان على خلاف القاعدة إلّا أنّ أحدهما - تعييناً أو تخييراً - حيث كان واجداً لما هو المناط للطريقيّة - من احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشّرائط - حصل حجّة في هذه الصّورة بأدلّة الترجيح تعييناً، أو التخيير تخييراً،

___________________________________________

{فإنّ التخيير بينهما} أي: بين الخبرين {على تقدير كون الأخبار حجّة من باب السّببيّة} والموضوعيّة، وأنّ في كلّ خبر مناطاً وملاكاً حتّى يكون الخبر ذا ملاك ولو في حال التعارض، كالغريق الّذي فيه ملاك وجوب الإنقاذ وإن لم يتمكّن المكلّف من نجاته لتعارضه مع غريق آخر - {يكون على القاعدة} الأوّليّة {ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين} ولا يكون حينئذٍ من باب التعارض الّذي ملاكه عدم الملاك في أحد الطّرفين {وعلى تقدير أنّها} أي: الحجيّة في الأخبار {من باب الطّريقيّة} وأنّه لا مصلحة في الخبر بذاته وإنّما المصلحة في الواقع المكشوف به {فإنّه} أي: التخيير {وإن كان على خلاف القاعدة} إذ الأصل في الطّريقين المتعارضين التساقط لا الترجيح والتخيير بينهما {إلّا أنّ أحدهما تعييناً} وهو الّذي كان فيه المرجّحات المنصوصة أو غير المنصوصة على قول {أو تخييراً} حين لم يكن في أحدهما مرجّح أو جعلنا المرجّحات استحبابيّة كما هو رأي جماعة {حيث كان} ذلك الواحد {واجداً لما هو المناط للطريقيّة من احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشّرائط} المعتبرة في الطّريق غير الابتلاء بالمعارض {حصل} ذلك الواحد {حجّة في هذه الصّورة} أي: صورة التعارض {بأدلّة الترجيح تعييناً} لو كان هناك بعض المرجّحات {أو} بدليل{التخيير تخييراً} بينهما لو لم يكن بينهما ترجيح.

ص: 329

وأين ذلك ممّا إذا لم يكن المطلوب إلّا الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً؟ وهو حاصل، والأخذ بخصوص أحدهما ربّما لا يكون إليه بموصل.

نعم، لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة، وإحداثِهما الترديد بينهما، لكان القياس في محلّه؛ لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير هاهنا، فتأمّل جيّداً.

ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛

___________________________________________

{وأين ذلك} الّذي ذكرنا من سبب الأخذ بأحد الخبرين معيّناً أو أحدهما مخيّراً في صورة التعارض {ممّا إذا لم يكن المطلوب إلّا الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً} أي: ما نحن فيه الّذي دار الأمر بين الوجوب والحرمة الّذي يطلب فيه الالتزام بالواقع {وهو حاصل} لأنّ الإنسان يلتزم إجمالاً بما هو صادر واقعاً {والأخذ بخصوص أحدهما ربّما لا يكون إليه بموصل} لاحتمال كون الواقع غيره، فقياس ما نحن فيه بالخبرين المتعارضين قياس باطل، لما عرفت من الفرق الكثير بينهما.

{نعم، لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة} وأنّ ذلك سبب للخيار؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما {وإحداثهما الترديد بينهما} وأنّ أحدهما يطابق الواقع {لكان القياس} لما نحن فيه الّذي هو احتمال الوجوب والحرمة بالخبرين {في محلّه لدلالة الدليل} الّذي قام {على التخيير بينهما} أي: بين الخبرين {على التخيير هاهنا} في مورد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة {فتأمّل جيّداً}.

{و} أمّا من حكم في مورد دوران الأمر بين المحذورين بالبراءة عقلاً محتجّاً بدليل قبح العقاب بلا بيان، ففيه أنّه {لا مجال هاهنا} في مورد الدوران {لقاعدة قبح العقاب بلا بيان} إذ القاعدة إنّما تجري في ما لا بيان له، وليس ما نحن فيه

ص: 330

فإنّه لا قصور فيه هاهنا، وإنّما يكون عدم تنجّز التكليف لعدم التمكّن من الموافقة القطعيّة كمخالفتها، والموافقةُ الاحتماليّة حاصلة لا محالة، كما لا يخفى.

ثمّ

___________________________________________

من ذلك، بل قد بيّن أحد الحكمين، كما أنّه في مورد دوران الأمر بين طرفي العلم الإجمالي قد بيّن الحكم فقد يكون متعلّق الحكم الواحد مردّداً بين اثنين وقد يكون الشّيء الواحد مردّداً بين حكمين وفي كليهما قد بيّن في الجملة {فإنّه لا قصور فيه} أي: في البيان {هاهنا، وإنّما يكون عدم تنجّز التكليف لعدم التمكّن من الموافقة القطعيّة} وعدم التمكّن غير عدم البيان، ولذا نرى وجود البيان في ما لو دار الأمر بين وجوب هذا وحرمة ذاك، فإنّ العقل يرى ذلك بياناً وموجباً لإتيان محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة، وأيّ فرق بين تردّد الحكم بين الواجب والحرام مع وحدة الموضوع المردّد فيه أو مع تعدّد الموضوع؟

والحاصل: أنّ العجز من طرف المكلّف حيث لا يتمكّن من الموافقة القطعيّة {كمخالفتها} أي: كما لا يتمكّن من المخالفة القطعيّة، وليس العجز من قبل الحكم {والموافقة الاحتماليّة حاصلة لا محالة} سواء كان فاعلاً أو تاركاً، وعلى هذا فلا مجال للتمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لكن ربّما يقال: إنّه لو لم تجر قاعدة القبح لما ذكر كان اللّازم عدم جريان البراءة الشّرعيّة أيضاً؛ لأنّ الملاك فيهما واحد، فكيف حكم المصنّف بالإباحة شرعاً لشمول «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام»(1)

لهذا المورد؟ {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ثمّ} إنّ دوران الأمر بين المحذورين له صور أربع:الأوّل: أن يكون كلاهما توصليّاً، كما لو دار أمر التبغ بين وجوب الشّرب وحرمته.

ص: 331


1- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341؛ وقد مرّ غير مرّة أنّ متن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

إنّ مورد هذه الوجوه

___________________________________________

الثّاني: أن يكون كلاهما تعبديّاً، ويتصوّر ذلك في بعض محرّمات الإحرام وتروك الصّوم، كما لو تردّد الذبح بين كونه شاة فيجب ذبحها قربة إلى اللّه - تعالى - والغزال فيحرم ذبحها قربة إلى اللّه - تعالى - لو صحّ المثال.

الثّالث: أن يكون أحدهما المعيّن تعبّديّاً، كما لو دار أمر الشّوط المشكوك بين كونه السّابع فيجب تعبّداً والثامن فيحرم مطلقاً.

الرّابع: أن يكون أحدهما المردّد تعبّديّاً، كما لو نذر أن يعطي زيداً ديناراً وأن يحرم عمراً عن الدينار؛ لأنّه فاسق، وكان قصد القربة في أحدهما، ثمّ تردّد أمر رجل خاصّ بين كونه زيداً أو عمراً فلم يعلم أنّ إعطاءه واجب أو حرام، كما لم يعلم أنّ أيّهما يجب اقترانه بقصد القربة.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الدوران بين المحذورين إنّما هو في ما لو كانا توصليّين أو كان أحدهما غير المعيّن تعبّديّاً، إذ حينئذٍ يكون كلّ من الفعل والترك محتمل الحرمة ومحتمل الوجوب، فإنّه لو أتى بشرب التتن احتمل الوجوب كما احتمل الحرمة ولو ترك كان كذلك، وهكذا لو أعطى هذا المردّد ديناراً سواء قصد القربة أم لا أم لم يعطه سواء قصد القربة أم لا احتمل كلّاً من الوجوب والحرمة، أمّا في صورتي الثّانية والثّالثة فليس من دوران الأمر بين المحذورين، فإنّه لو ذبح المردّد بدون قصد القربة أو ترك الذبح بدون قصد القربة كان مخالفاً للتكليف قطعاً، إذ الواجب كان تعبّديّاً والحرام كان تعبّديّاً ولم يأت بأحدهما في كلتا الصّورتين، وهكذا لو أتى بالشوط المردّد بدون قصد القربة فإنّه خالف قطعاً، إذ لو كان هو السّابع احتاج إلى قصد القربة ولم يقصد ولو كان الثامن حرم مطلقاً.

وبهذا كلّه تبيّن {أنّ مورد هذه الوجوه} الأربعة المحتملة في مورد دوران الأمر

ص: 332

وإن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبّديّاً؛ إذ لو كانا تعبّديّين، أو كان أحدهما المعيّن كذلك، لم يكن إشكالٌ في عدم جواز طرحهما والرّجوع إلى الإباحة؛ لأنّها مخالفة عمليّة قطعيّة - على ما أفاد شيخنا الأُستاذ+(1) - ، إلّا أنّ الحكم أيضاً فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلاً بين إتيانه على وجه قربيّ - بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه - وتركه كذلك؛ لعدم، الترجيح وقبحه بلا مرجّح.

___________________________________________

بين المحذورين - كما سبق في أوّل الفصل - {وإن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبّديّاً} بأن كانا توصّليّين كالصورة الأُولى، أو كان أحدهما المردّد تعبّديّاً كما في الصّورة الرّابعة - إذ في هاتين الصّورتين يمكن فرض دوران الأمر بين المحذورين - كما تقدّم {إذ لو كانا تعبّديّين} كالصورة الثّانية {أو كان أحدهما المعيّن كذلك} أي: تعبّديّاً كالصورة الثّالثة {لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما} أي: طرح الحكمين المردّد بينهما من الوجوب والحرمة {والرّجوع إلى الإباحة} كما اختير {لأنّها مخالفة عمليّة قطعيّة} وهو خارج عن موضوع البحث {- على ما أفاد شيخنا الأُستاذ} المرتضى {+ -} في الرّسائل {إلّا أنّ الحكم أيضاً فيهما} أي: في هاتين الصّورتين كالصورتين الأُخريين {إذا كانا كذلك} دائراً الأمر فيهما بين الوجوب والحرمة {هو التخيير عقلاً بين إتيانه على وجه قربي} كأن يذبح المردّد بين الشّاة والغزال قربة إلى اللّه - تعالى - {بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه و} بين {تركه كذلك} أي: على وجه قربي بأن يترك ذبح المردّد قربة إلى اللّه - تعالى - {لعدم الترجيح} لأحدهما على الآخر {وقبحه} أي: الترجيح {بلا مرجّح} وهكذا حال ما لو كان أحدهما المعيّن قربيّاً، كأن يطوف قربة إلى اللّه أو يترك مطلقاً.

والحاصل: أنّ الدوران بين الفعل والترك آتٍ في الصّور الأربعة، وإنّما الفرق

ص: 333


1- فرائد الأصول 2: 179.

فانقدح: أنّه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليّين بالنسبة إلى ما هوالمهمّ في المقام، وإن اختصّ بعض الوجوه بهما، كما لا يخفى.

ولا يذهب عليك: أنّ استقلال العقل بالتخيير إنّما هو في ما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين. ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه، كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام.

___________________________________________

أنّ الصّورة الأُولى والرّابعة لا يمكن المخالفة القطعيّة فيهما والصّورة الثّانية والثّالثة يمكن المخالفة القطعيّة فيهما، والوجوه الأربعة المذكورة في أوّل الفصل جارية في صورتين فقط، كما سبق.

{فانقدح} بما ذكرنا من كون التخيير في جميع الصّور الأربع {أنّه لا وجه ل-} ما وصفه الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل من {تخصيص المورد بالتوصليّين بالنسبة إلى ما هو المهمّ في المقام} من دوران الأمر بين المحذورين {وإن اختصّ بعض الوجوه} أي: الدوران {بهما} أي: بالتوصليّين {كما لا يخفى} بأدنى ملاحظة.

{ولا يذهب عليك أنّ استقلال العقل بالتخيير} في الصّور الأربع {إنّما هو في ما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين} وإنّما قيّد بأحدهما على التعيين لإخراج احتمال الترجيح في أحدهما غير المعيّن، إذ ذاك غير مفيد إطلاقاً.

{ومع احتماله} أي: احتمال الترجيح في أحدهما المعيّن - كما لو احتمل ترجيح طرف الفعل من غلبة أو قيام شاهد واحد أو أمثالهما - {لا يبعد دعوى استقلاله} أي: العقل {بتعيينه} أي: تعيين ذاك الرّاجح {كما هو الحال} من تقديم الرّاجح {في} مسألة {دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام} كما لو دار أمر المجتهدين بين أن يكون زيد أعلم وبين أن يكون هو وعمرو متساويين، فإنّه يلزم تقليد زيد؛ لأنّه مبرئ للذمّة قطعاً، بخلاف عمرو؛ لأنّه محتمل عدم كفايته، كما قرّروا في باب التقليد.

ص: 334

ولكن الترجيح إنّما يكون لشدّة الطّلب في أحدهما، وزيادته على الطّلب في الآخر بما لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة، ووجب الترجيح بها. وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزيّة في صورة الدوران.

___________________________________________

{ولكن} لا يخفى أنّ {الترجيح إنّما يكون} إذا استفيد من القرائن المفيدة {ل-} -لترجيح {شدّة الطّلب في أحدهما} أي: واحد من الواجب والحرام المحتملين {وزيادته} أي: زيادة الطّلب {على الطّلب في الآخر} كما لو كان طلب الواجب أهمّ في نظر المولى من طلب ترك الحرام.

فمثلاً: قد غرق في الماء أحد شخصين لا نعلم به تفصيلاً كابن المولى الحبيب الّذي يستعدّ أن يبذل جميع ما لديه لأجله أو عدوّه الضّعيف الّذي لا أهميّة لعداوته عنده، فإنّ دوران الأمر بينهما يوجب أن يقدّم الواجب وينقذ الحبيب؛ لأنّ الواجب أهمّ بنظر المولى من الحرام.

وبالعكس لو دار الأمر بين كون الغريق عبده الّذي لا أهميّة له إطلاقاً، إذ يكثر عنده العبيد والأموال الّتي تمكّنه من اشتراء العبد بها، وبين كونه ألدّ أعدائه الّذي يغصّ بالطعام والشّراب خوفاً منه ويترقّب كلّ حين وآخَرَ كيده ومكره، فإنّ دوران الأمر بينهما يوجب أن يقدّم الحرام ولا ينقذ الغريق؛ لأنّ الحرام أهمّ بنظره من الواجب {بما لا يجوز الإخلال بها} أي: بشدّة الطّلب وأهميّته {في صورة المزاحمة} بأن لم يكن المتعلّق شيئاً واحداً، بل كان اثنين وتزاحما - أي: دار الأمر بين هذا الواجب وهذا الحرام - بأن كان لا بدّ من فوتهما حتّى يكون الواجب هو المقدّم وتركهما حتّى يكون الحرام هو المقدّم، كما لو دار الأمر بين أن يصلّي ويترك إنقاذ الغريق أو يترك الصّلاة وينقذ الغريق {ووجب} عطف على قوله: «بما لا يجوز» {الترجيح بها} أي: بشدّة الطّلب {وكذا} عطف على قوله: «لا يجوز» {وجب ترجيح احتمال ذي المزيّة في صورة الدوران} بين التخيير والتعيين.

ص: 335

ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقاً، لأجل أنّ دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة؛ ضرورةَ أنّه رُبّ واجب يكون مقدّماً على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام، فكيف يقدّم على احتمالِهِ احتمالُهُ في صورة الدوران بين مثليهما؟ فافهم.

___________________________________________

والحاصل: أنّ شدّة الطّلب إذا بلغت حدّاً موجباً للترجيح على تقدير التزاحم وللتعيين على تقدير دوران الأمر بين التعيين والتخيير كانت هذه الشّدّة موجبة لتقديم ذلك الاحتمال لدى الجهل بالحكم ودورانه بين الوجوب والحرمة، وإلّا كان الحكم التخيير بينهما ولا يكفي للترجيح مجرّد أهميّة ما لم يعلم كونها شديدة {ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقاً} ولو لم يكن الطّلب المتعلّق بها - على تقدير الحرمة - أشدّ من الطّلب المتعلّق بالوجوب - على تقدير الوجوب - وربّما احتمل تقدّم الحرمة مطلقاً {لأجل أنّ دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة} إذ في الحرام مفسدة وفي الواجب مصلحة ومهما دار الأمر بينهما قدّم دفع المفسدة، إذ المفسدة نقص والمنفعة شيء زائد والعقلاء لا يجعلون للنقص إلى أنفسهم سبيلا، أمّا المنفعة فلا يلزم جلبها في نظرهم، لكن هذا الاحتمال غير تامّ، إذ يفترق الأمر في المصالح والمفاسد، فلو كانت المفسدة خسارة دينار للمكس(1)

والمنفعة ألف دينار حاصل من التجارة لرأوا تقدّم جلب المنفعة، وهكذا في الأحكام الشّرعيّة ل- {ضرورة أنّه ربّ واجب يكون مقدّماً على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام} كما لو غرق شخص وانحصر إنقاذه بالاستعانة بحبل مغصوب أو المرور من أرض مغصوبة، فإنّه لا شكّ في تقدّم الواجب على الحرام {فكيف يقدّم على احتماله} أي: على احتمال الواجب {احتماله} أي: احتمال الحرام {في صورة الدوران بين مثليهما} أي: الوجوب والتحريم، فما يكون مقدّماً في صورة التزاحم يكون مقدّماً في صورة الدوران {فافهم} لعلّه إشارة

ص: 336


1- الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار، لسان العرب 6: 221.

فصل: لو شكّ في المكلّف به

___________________________________________

إلى ما ذكرنا سابقاً من عدم وجه للفرق بين قاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث حكم بعدم جريانها وبين البراءة الشّرعيّة حيث حكم بشمولها للمقام، فراجع.

إلى هنا كان الكلام في الشّكّ في أصل التكليف، فلنعطف الكلام إلى الشّكّ في المكلّف به مع العلم بأصل التكليف.

[فصل في الاشتغال]

اشارة

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، الاشتغال

{فصل} في الشّكّ في المكلّف به وهو متعلّق التكليف، وهو على قسمين: إذ قد يكون الشّكّ في المكلّف به دائراً بين المتباينين، كما لو علم بوجوب صلاة في يوم الجمعة ولم يدر أنّها الجمعة أو الظّهر؟ أو علم بحرمة وطي أحد المرأتين لكونها أُختها من الرّضاعة، وقد يكون دائراً بين الأقلّ والأكثر، وهذا ينقسم إلى قسمين:

لأنّ الأقلّ والأكثر قد يكونان ارتباطيّين، كما لو شكّ في أنّ السّورة من أجزاء الصّلاة أم لا، فيكون الشّكّ في أنّ أجزاء الصّلاة تسعة أو عشرة مثلاً.

وقد يكونان غير ارتباطيّين، كما لو شكّ في أنّ دينه عشرة دنانير أو تسعة، لكن هذا القسم من الأقلّ والأكثر حيث يؤول أمره إلى الشّكّ في أصل التكليف - إذ الفرض أنّه لا يعلم أنّه مديون بدينار آخر فوق تلك الدنانير التسعة أم لا - فهو ليس مربوطاً بمحلّ الكلام، وعلى هذا يقع الكلام هنا في مبحثين:

الأوّل: دوران أمر المكلّف به بين المتباينين.

الثّاني: دورانه بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

إذا عرفت ذلك فنقول: {لو شكّ في المكلّف به} وهو متعلّق التكليف مع العلم بأصل التكليف - بأن علم بتوجّه التكليف إليه ولم يعلم أنّ متعلّقه هذا أو ذاك -

ص: 337

مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم: فتارة لتردّده بين المتباينين، وأُخرى بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين

لا يخفى: أنّ التكليف المعلوم بينهما مطلقاً - ولو كانا فعلَ أمر وترك آخر - إن كان فعليّاً من جميع الجهات -

___________________________________________

{مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم، فتارة} يكون الشّكّ {لتردّده} أي: تردّدالمكلّف به {بين المتباينين} وهما ما ليس أحدهما داخلاً في الآخر {وأُخرى} يكون الشّكّ لتردّده {بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين} كما مثّل لهما سابقاً {فيقع الكلام في مقامين}:

[المقام الأوّل في دوران الأمر بين المتباينين]

اشارة

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، الاشتغال، الدوران بين المتباينين

{المقام الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين} فنقول: {لا يخفى أنّ التكليف المعلوم بينهما} أي: بين الأمرين المتباينين {مطلقاً} أي: سواء كان فعل أحدهما كصلاة الظّهر والجمعة، أو كان ترك أحدهما كوطي هذه أو تلك، بل {ولو كانا فعل أمر وترك آخر} كأن علم بتوجّه تكليف إلزاميّ إليه لكنّه لا يعلم هل هو وجوب هذا أو حرمة ذاك، كما لو تردّد الأمر بين آخر رمضان وأوّل شوّال، فعلم أنّه توجّه إليه أمر إلزاميّ إمّا بوجوب الدعاء ليلاً أو حرمة الإفطار نهاراً مثلاً، فإنّ هذا ممّا جعله الشّيخ من الشّكّ في التكليف وجعله المصنّف من الشّكّ في المكلّف به، فإنّه بملاحظة عدم العلم بنوع التكليف - من إيجاب أو تحريم - يكون شكّاً في أصل التكليف، وبملاحظة العلم بجنس التكليف الّذي هو الإلزام يكون شكّاً في المكلّف به.

وعلى كلّ حال، فالتكليف المعلوم {إن كان فعليّاً من جميع الجهات} إذ الفعليّة لها مرتبتان:

ص: 338

بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلي، مع ما هو عليه من الإجمال والتردّد والاحتمال - فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته، وحينئذٍ لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرّفع أو الوضع أو السّعة أو الإباحة ممّا يعمّ أطراف العلم

___________________________________________

الأُولى: ما لم يصل التكليف إلى مرتبة الإرادة والكراهة، حتّى أنّ المكلّف لو علم الحكم لم يجب عليه الإتيان به.

الثّانية: ما وصل إلى هذه المرتبة بحيث لم يكن حال انتظار إلّا علم المكلّف بحيث لو علم به لتنجّز عليه، والمراد من الفعليّة من جميع الجهات هذه المرتبة، ولذا قال: {بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث} في الإيجاب {أو الزجر} في التحريم {الفعلي مع ما هو عليه من الإجمال والتردّد والاحتمال} في المكلّف به {فلا محيص} حين كان التكليف فعليّاً من جميع الجهات {عن تنجّزه} بسبب العلم {وصحّة العقوبة على مخالفته}.

{و} حيث قد عرفت سابقاً أنّ التكليف الفعلي يضادّ الترخيص ولو كان التكليف مظنوناً أو موهوماً - لأنّه يوجب الظّنّ أو الوهم باجتماع الضّدّين - ف- {حينئذٍ} أي: حين كان التكليف فعليّاً معلوماً بالإجمال {لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرّفع} نحو «رفع ما لا يعلمون»(1)

{أو الوضع} نحو «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(2)

{أو السّعة} نحو «النّاس في سعة ما لا يعلمون»(3) {أو الإباحة} نحو «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف»(4) {ممّا يعمّ أطراف العلم}

ص: 339


1- الخصال 2: 417.
2- التوحيد: 413.
3- غوالي اللئالي 1: 424؛ مستدرك الوسائل 18: 20، مع اختلاف يسير.
4- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341، وقد مرّ أصل المتن غير مرّة.

مخصّصاً عقلاً؛ لأجل مناقضتها معه.

وإن لم يكن فعليّاً كذلك - ولو كان بحيث لو علم تفصيلاً لَوَجَب امتثاله وصحّ العقاب على مخالفته - لم يكن هناك مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشّرعيّة للأطراف.

___________________________________________

الإجمالي؛ لأنّ كلّ طرف ممّا لا يعلم كون التكليف متعلّقاً به {مخصّصاً} بالفتح {عقلاً} والمخصّص هو العلم الإجمالي {لأجل مناقضتها} أي: مناقضة تلك الأدلّة على البراءة {معه} أي: مع التكليف الفعلي المردّد. نعم، لو قطعنا بعدم التكليف - كما في الشّبهات البدويّة بعد الفحص - جرت أدلّة البراءة.

إن قلت: نحتمل التكليف في الشّبهات البدويّة فكيف تجري البراءة، وذلك يستلزم احتمال المناقضة؛ لأنّكم ذكرتم أنّ احتمال التكليفلا يجامع البراءة؛ لأنّه من احتمال الجمع بين الضّدّين - واحتماله كالقطع به مستحيل - .

قلت: لا يحتمل التكليف الفعلي في الشّبهات البدويّة بعد الفحص واليأس {وإن لم يكن} التكليف المعلوم فيهما {فعليّاً كذلك} أي: من جميع الجهات، بأن لم يكن فعليّاً بالمرتبة الثّانية وإن كان فعليّاً بالمرتبة الأُولى {- ولو كان بحيث لو علم تفصيلاً لوجب امتثاله وصحّ العقاب على مخالفته -} إذ لا يبقى مع العلم التفصيلي مرتبة الحكم الظّاهري محفوظة، فإنّ الحكم الظّاهري في مرتبة الجهل بالواقع والعلم التفصيلي لا يبقى مجالاً للجهل، وذلك بخلاف أطراف العلم الإجمالي الّتي يكون مرتبة الحكم الظّاهري في كلّ طرف طرف منها محفوظة {لم يكن هناك مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشّرعيّة للأطراف}.

أمّا عقلاً فلأنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامّة للتنجّز حتّى يكون كالعلم التفصيلي في مانعيّته لجريان قبح العقاب بلا بيان وما أشبهه.

وأمّا شرعاً فلأنّ الحجب وعدم العلم وما أشبهه - الّتي هي أسباب البراءة -

ص: 340

ومن هنا انقدح: أنّه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي، إلّا أنّه لا مجال للحكم الظّاهري مع التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعليّاً من سائر الجهات لا محالة يصير فعليّاً معه من جميع الجهات، وله مجال مع الإجمالي، فيمكن أن لا يصير فعليّاً معه؛ لإمكان جعل الظّاهري في أطرافه، وإن كان فعليّاً من غير هذه الجهة، فافهم.

ثم

___________________________________________

موجودة في المقام؛ لأنّ كلّ طرف طرف ممّا لا يعلم وممّا هو محجوب.

لكن الإنصاف عدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي من هذه النّاحية، وأنّ كلّ محذور يذكر في العلم التفصيلي موجود هاهنا.

{ومن هنا انقدح أنّه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي} مطلقاً {إلّا أنّه لا مجال للحكم الظّاهري مع} العلم {التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعليّاً مع سائر الجهات لا محالة يصير} ذلك الحكم الواقعي {فعليّاً معه} أي: مع العلم التفصيلي {من جميع الجهات} حتّى لا يبقى للحكم الظّاهري مجال {وله مجال مع} العلم {الإجمالي، فيمكن أن لا يصير} الحكم الواقعي في المرتبة الأُولى {فعليّاً معه} أي: مع العلم الإجمالي، إذ المفروض وجود الجهل في كلّ طرف الّذي هو مناط الحكم الظّاهري {لإمكان جعل} الحكم {الظّاهري في أطرافه} أي: أطراف العلم الإجمالي {وإن كان} الحكم الواقعي {فعليّاً من غير هذه الجهة} أي: من سائر الجهات، بحيث لو علم تفصيلاً لتنجّز، وإنّما ليس فعليّاً من جهة أنّه لا يضادّ الحكم الواقعي {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما تقدّم من عدم الفرق عقلاً وشرعاً بين العلمين في عدم صحّة جعل الترخيص المضادّ لها.

{ثمّ} إنّك قد عرفت أنّ المناط في جواز جعل الترخيص على خلاف العلم وعدم جوازه يناط بفعليّة الحكم الواقعي وعدم فعليّتها - أي: إرادة المولى للواقع

ص: 341

إنّ الظّاهر: أنّه لو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان فعليّاً من جميع الجهات، لوجب عقلاً موافقته مطلقاً، ولو كانت أطرافه غيرَ محصورة.

وإنّما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو: أنّ عدم الحصر ربّما يلازم ما يمنع عن فعليّة المعلوم مع كونه فعليّاً - لولاه - من سائر الجهات.

وبالجملة: لا يكاد يرى العقل تفاوتاً بين المحصورة وغيرها في التنجّز وعدمِه،

___________________________________________

وكراهته لضدّه وعدمهما - ولذا كلّما وجدت الفعليّة بهذا المعنى لم يكن مجال لجعل الترخيص، وكلّما لم توجد الفعليّة بهذا المعنى كان مجال لجعل الترخيص.

ومنه تبيّن أن ليس المناط كون الأطراف محصورة فلا يجوز في أطرافه أو غير محصورة فيجوز الترخيص فيها، إذ لو فرضنا كون الأطراف غير محصورة وكانت إرادة فعليّة كيف يمكن جعل خلاف الواقع، وهل ذاك إلّا مناقضة للإرادة الفعليّة، فما يظهر من الشّيخ(رحمة الله) وغيره من جعل المناط المحصورة فلا يجوز، وغير المحصورة فيجوز، ليس في محلّه.اللّهمّ إلّا أن يريدوا أنّ غير المحصورة تلازم عدم الفعليّة لعدم الإرادة والكراهة في غير المحصورة، ف- {إنّ الظّاهر أنّه لو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان فعليّاً من جميع الجهات} حتّى الإرادة والكراهة {لوجب عقلاً موافقته مطلقاً} بالاجتناب عن جميع أطرافه {ولو كانت أطرافه غير محصورة} كيف ما فسّرنا غير المحصورة {وإنّما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو أنّ عدم الحصر} في عدد قليل {ربّما يلازم ما يمنع عن فعليّة المعلوم} بالإجمال {مع كونه فعليّاً لولاه} أي: لولا ما يمنع {من سائر الجهات} متعلّق بقوله: «فعليّاً».

{وبالجملة لا يكاد يرى العقل تفاوتاً بين المحصورة وغيرها في التنجّز وعدمه} فإن كان في المحصورة العلم الإجمالي منجّزاً كان في غير المحصورة كذلك

ص: 342

في ما كان المعلوم إجمالاً فعليّاً، يبعثُ المولى نحوه فعلاً أو يزجر عنه كذلك، مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.

والحاصل: أنّ اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتاً في ناحية العلم. ولو أوجب تفاوتاً فإنّما هو في ناحية المعلوم، في فعليّة البعث أو الزجر مع الحصر، وعدمها مع عدمه،

___________________________________________

{في ما كان المعلوم إجمالاً فعليّاً يبعث المولى نحوه فعلاً} بأن يريده {أو يزجر عنه كذلك} أي: فعلاً بأن يكرهه {مع ما هو عليه من كثرة أطرافه} فإنّه لا يمكن أن يريد المولى شيئاً، ثمّ يجعل ما يضادّه - بأن يريد الاجتناب عن الميتة - ثمّ يجوّز في ارتكاب الأطراف الّتي تكون الميتة بينها.

{والحاصل: أنّ اختلاف الأطراف} للمعلوم بالإجمال {في الحصر} في عدد قليل {وعدمه} أي: عدم الحصر في عدد قليل {لا يوجب تفاوتاً في ناحية العلم} بأن ينجز العلم في أحدهما فيجب الاجتناب عن جميع أطرافه، ولا ينجز في أحدهما فلا يجب الاجتناب، كما هو المستفاد من كلام الشّيخ والمنسوب إلى جماعة آخرين {ولو أوجب} اختلاف الأطراف بالحصر وعدمه {تفاوتاً فإنّما هو في ناحية المعلوم} أي: إنّ العلم الّذي كشف عن الواقع - الّذي هو معلوم - لا يوجب التفاوت، وإنّما الواقع المكشوف بالعلم يوجب التفاوت، فإن كان الواقع فعليّاً - بأن أراده المولى أو كرهه - كان ذلك سبباً للاحتياط في الأطراف كلّها ولو كانت غير محصورة، وإن لم يكن الواقع فعليّاً لم يجب الاحتياط في الأطراف ولو كانت محصورة، فالاختلاف لم يحدث من ناحية الأطراف قلّة وكثرة، وإنّما حدث من ناحية الواقع {في فعليّة البعث أو الزجر مع الحصر} فلو كانت الأطراف محصورة كان الواقع فعليّاً فيجب الاحتياط فيها {وعدمها} أي: عدم الفعليّة للواقع {مع عدمه} أي: عدم الحصر فلو كانت الأطراف غير محصورة كان الواقع

ص: 343

فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف - قلّة وكثرة - في التنجيز وعدمه، ما لم يختلف المعلوم في الفعليّة وعدمها بذلك، وقد عرفت آنفاً: أنّه لا تفاوت بين التفصيلي والإجمالي في ذلك، ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضاً، فتأمّل تعرف.

وقد انقدح: أنّه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعيّة مع حرمة مخالفتها؛

___________________________________________

غير فعليّ {فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف - قلّة وكثرة - في التنجيز} للواقع {وعدمه} أي: عدم التنجيز {ما لم يختلف} الواقع {المعلوم في الفعليّة} بإرادة المولى إيّاه فعلاً {وعدمها} أي: عدم الفعليّة بعدم إرادة المولى له فعلاً {بذلك} أي: بسبب القلّة والكثرة، فإن أوجب كثره الأطراف عدم إرادة المولى لم يجب الاحتياط وإلّا وجب وإن كانت الأطراف كثيرة جدّاً.

{وقد عرفت آنفاً أنّه لا تفاوت بين} العلم {التفصيلي والإجمالي في ذلك} أي: في تنجيز الواقع، فكلاهما ينجزان الواقع {ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم} الّذي هو الواقع {أيضاً، فتأمّل تعرف}.

ثمّ إنّه هل يجوز في الشّبهة غير المحصورة ارتكاب جميع الأطراف أم لا يجوز ذلك، بل يجب عدم ارتكاب مقدار الحرام منها؟ مثلاً: لواشتبه الحرام الواحد في ألف فهل يجوز ارتكاب الجميع أم يجوز ارتكاب غير الواحد؟ الشّيخ(رحمة الله) على الثّاني(1)،

فإنّه وإن جوّز المخالفة الاجتماعيّة لكن لا يجوز المخالفة القطعيّة، والمصنّف(رحمة الله) على الأوّل واستدلّ لذلك بأنّ المفروض أنّ الواقع ليس فعليّاً وإذا لم يكن فعليّاً جاز ارتكاب الجميع.

{وقد انقدح} ممّا تقدّم من عدم كون الواقع فعليّاً في أطراف الشّبهة غير المحصورة {أنّه لا وجه لاحتمال} ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) من {عدم وجوب الموافقة القطعيّة} فلا يجب الاجتناب عن جميع الأطراف لكنّه {مع حرمة مخالفتها} أي:

ص: 344


1- فرائد الأصول 2: 204.

ضرورة أنّ التكليف المعلوم إجمالاً لو كان فعليّاً لوجب موافقته قطعاً، وإلّا لم يحرم مخالفته كذلك أيضاً.

ومنه ظهر: أنّه لو لم يعلم فعليّة التكليف مع العلم به إجمالاً - إمّا من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه،

___________________________________________

المخالفة القطعيّة فلا يجوز ارتكاب جميع الأطراف، وإنّما قال الشّيخ ذلك لأنّه يرى أنّ العلم مقتضٍ لا علّة تامّة، فيجوز مخالفة البعض دون الكلّ لكنّه غير تامّ، ل- {ضرورة أنّ التكليف المعلوم إجمالاً} في أطراف غير المحصورة {لو كان فعليّاً} بأن تعلّق به الإرادة والكراهة {لوجب موافقته قطعاً} حتّى لا يجوز ارتكاب أحد الأطراف فضلاً عن أكثرها {وإلّا} يكن التكليف فعليّاً {لم يحرم مخالفته} أي: مخالفة ذلك التكليف المعلوم بالإجمال {كذلك} أي: قطعاً {أيضاً} كما لا يجب موافقته القطعيّة لا تحرم مخالفته القطعيّة.

ثمّ إنّه يظهر من الشّيخ وجماعة آخرين أنّه يشترط في وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي: أن لا يكون الأطراف غير محصورة، وأن لا يكون بعضها خارجاً عن محلّ الابتلاء، وأن لا يكون بعضها مضطرّاً إليه، وأن لا يكون تدريجيّاً. لكن المصنّف(رحمة الله) على أنّ جامع هذه الشّرائط عدم فعليّة التكليف، فإن كان التكليف فعليّاً لم يفد شيء من ذلك على ما تقدّم منه، فإنّه يرى دوران الأمر مدار الفعلية فقط، ولذا قال: {ومنه} أي: ممّا تقدّم من كون التنجّز دائراً مدار فعليّة الواقع وعدمها {ظهر أنّه لو لم يعلم فعليّة التكليف مع العلم به} أي: بالتكليف {إجمالاً} لم تجب الموافقة وجازت المخالفة لعدم الإرادة الفعليّة للواقع.

ثمّ إنّ عدم الفعليّة {إمّا من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه} كما لو علم الشّخص بأنّ أحد الإنائين نجس، لكن كان أحدهما خارجاً عن ابتلائه إطلاقاً

ص: 345

أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معيّناً أو مردّداً، أو من جهة تعلّقه بموضوع يقطع بتحقّقه إجمالاً في هذا الشّهر، كأيّام حيض المستحاضة مثلاً -

___________________________________________

كما لو كان أحدهما عنده والآخر في بلاد نائية لا يرتبط به ولا يصل إليه {أو من جهة الاضطرار إلى بعضها} كما لو علم بنجاسة أحد إنائين لكنّه مضطرّ إلى شرب أحدهما - سواء كان المضطرّ إليه - {معيّناً} كما لو اضطرّ إلى شرب هذا الإناء الأبيض {أو مردّداً} كما لو اضطرّ إلى أن يشرب الأبيض أو الأصفر من غير فرق بينهما {أو من جهة تعلّقه} أي: التكليف المعلوم بالإجمال {بموضوع يقطع بتحقّقه إجمالاً في هذا الشّهر} من غير علم بزمان تحقّقه، كما لو علم أنّه يبتلى بمعاملة ربويّة في ضمن معاملاته الكثيرة التدريجيّة في هذا الشّهر، أو علم بحرمة مقاربة زوجته في الجملة {كأيّام حيض المستحاضة} ممّا لا يعلم أنّه في أوّل الشّهر أو وسطه أو آخره {مثلاً} ولم يكن هناك دليل على طرف منها، فإنّ الجماعة علّلوا عدم وجوب الموافقة في هذه الموارد بأنّ التكليف في مورد عدم الابتلاء غير معلوم، إذ لا يعلم المكلّف بخطاب متوجّه إليه لاحتماله كون النّجس في ذلك الطّرف الخارج عن محلّ ابتلائه، وفي مورد الاضطرار حيث يضطرّ المكلّف إلى أحدهما وليس النّجس معيّناً، كأن يجوز له شرب ذلك فلا يعلم بتوجّه التكليف إليه.

نعم، لو كان الاضطرار بعد العلم لم يجز ارتكاب كليهما، إذ قد تنجّز التكليف فيجوز الارتكاب بعد الاضطرار، فيكون حاله حال ما لاتنجّز ويكون كلاهما محلّ ابتلائه ثمّ خرج أحدهما عن الابتلاء - على تفصيل قرّر في محلّه - وفي مورد التدريجيّة، بأنّه من أقسام الخروج عن محلّ الابتلاء؛ لأنّه لو كان الحرام سابقاً فقد مضى وفات، ولو كان لاحقاً فلما يأت ولا يتوجّه التكليف إلى المستقبل - فعلاً - والآن لا يعلم بحرمة هذا الفرد الّذي هو محلّ ابتلائه.

ص: 346

لما وجب موافقته، بل جاز مخالفته.

وأنّه لو علم فعليّته - ولو كان بين أطراف تدريجيّة - لكان منجّزاً ووجب موافقته؛ فإنّ التدرّج لا يمنع عن الفعليّة؛ ضرورة أنّه كما يصحّ التكليف بأمر حاليّ، كذلك يصحّ بأمر استقباليّ، كالحجّ في الموسم للمستطيع، فافهم.

تنبيهات

الأوّل:

___________________________________________

لكنّك قد عرفت المعيار العام على رأي المصنّف(رحمة الله) وأنّه لو لم يعلم فعليّة التكليف {لما وجب موافقته، بل جاز مخالفته} لعدم الإرادة الفعليّة {وأنّه لو علم فعليّته ولو كان بين أطراف تدريجيّة} كمثالي الرّبا والحيض {لكان} الواقع {منجّزاً ووجب موافقته} بالاجتناب عن جميع أطراف العلم {فإنّ التدرّج} بما هو تدرّج لا يوجب الخروج عن محلّ الابتلاء و{لا يمنع عن الفعليّة} للتكليف الواقعي {ضرورة أنّه كما يصحّ التكليف بأمر حاليّ كذلك يصحّ بأمر استقباليّ كالحجّ في الموسم للمستطيع} الّذي يجب عليه السّفر من قبل الموسم، وكما لو تردّد الصّوم المنذور بين أن يكون هذا اليوم أو يوم غد، فإنّه يجب أن يصوم كلا اليومين تحصيلاً للبراءة اليقينيّة {فافهم} وتأمّل، فإنّه يترتّب على اختلاف المبنيين فوائد جمّة، وإن كان الظّاهر أنّ قول الشّيخ والجماعة هو الأقرب إلى الأدلّة.

[تنبيهات]

{تنبيهات} مرتبطة بالعلم الإجمالي والبراءة.

{الأوّل} في الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجمالي، كما لو علم إجمالاً أنّ أحد الإنائين نجس لكنّه اضطرّ إلى أحدهما، فهل هذا الاضطرار موجب لعدم تنجيز العلم الإجمالي مطلقاً أم لا؟

وصور المسألة أربع: لأنّ الاضطرار قد يكون إلى أحدهما المعيّن، كما لو

ص: 347

أنّ الاضطرار كما يكون مانعاً عن العلم بفعليّة التكليف لو كان إلى واحد معيّن، كذلك يكون مانعاً لو كان إلى غير معيّن؛ ضرورة أنّه

___________________________________________

اضطرّ إلى الإناء الأبيض أو الأصفر في ما لو اشتبه النّجس بين الإناء الأبيض والأصفر، وقد يكون إلى أحدهما غير المعيّن، كما لو اضطرّ إلى أحدهما بدون فرق بين الإنائين، وعلى كلّ تقدير إمّا أن يكون الاضطرار لاحقاً على العلم الإجمالي، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحدهما ثمّ اضطرّ، وإمّا أن يكون غير لاحق بل سابقاً أو مقارناً، كما لو اضطرّ إلى أحدهما ثمّ علم بالنجاسة أو تقارن الأمران.

ثمّ إنّ الشّيخ والمصنّف اختلفا في أنّه لو اضطرّ إلى أحدهما فهل يكون الاضطرار مطلقاً سبباً لعدم تنجيز العلم فيجوز ارتكاب الطّرفين كما هو مذهب المصنّف(رحمة الله)، أم يختلف الاضطرار فإن كان إلى أحدهما غير المعيّن لم ينجز العلم ويجب الاجتناب عن غير المضطر إليه كما هو مذهب الشّيخ(رحمة الله)؟

إذا عرفت ذلك قلنا: {إنّ الاضطرار كما يكون مانعاً عن العلم بفعليّة التكليف لو كان إلى واحد معيّن} من طرفي العلم الإجمالي - كما لو كان مضطرّاً إلى شرب الإناء الأبيض مثلاً - {كذلك يكون} الاضطرار {مانعاً} عن العلم بفعليّة التكليف {لو كان إلى غير معيّن} كما لو اضطرّ إلى شرب أحد الإنائين الأبيض أو الأصفر: أمّا في صورة الاضطرار إلى المعيّن؛ فلأنّ من المحتمل أن يكون التكليف بالاجتناب بالنسبة إلى ذلك المعيّن، بأن كان النّجس في الإناء الأبيض مثلاً، فلا علم بالتكليف أصلاً، وأمّا في صورة الاضطرار إلى غير المعيّن فلأنّ الاضطرار مانع من فعليّة التكليف، ولذا يقيّد التكليف بالاجتناب بغير ما يختاره من الإنائين، فيكون ما يختاره أوّلاً حلالا ويبقى غيره مشكوك الحرمة لعدم العلم بانطباق النّجس عليه، والأصل يقتضي البراءة بالنسبة إليه، ل- {ضرورة أنّه} أي:

ص: 348

مطلقاً موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه، تعييناً أو تخييراً، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلاً.

وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقاً على حدوث العلم

___________________________________________

الاضطرار {مطلقاً} سواء كان إلى المعيّن أو غير المعيّن {موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف} في الشّبهة التحريميّة {أو تركه} أي: ترك أحد الأطراف في الشّبهة الوجوبيّة {تعييناً} إذا كان الاضطرار إلى معيّن، فيجوز فعله - في الشّبهة التحريميّة - ويجوز تركه - في الشّبهة الوجوبيّة - {أو تخييراً} في ما إذا كان الاضطرار إلى غير المعيّن {وهو} أي: تجويز الارتكاب أو تجويز الترك {ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها} أي: بين الأطراف {فعلاً} إذ جواز ارتكاب المعيّن يوجب عدم العلم بحرمة الطّرف الآخر، وجواز ارتكاب غير المعيّن يسبّب عدم العلم بحرمة الطّرف الباقي، لاحتمال انطباق النّجس على المعيّن في الأوّل وعلى المختار منهما في الثّاني، وإذا شكّ في انطباق الواقع على الباقي يكون من الشّبهة البدويّة الّتي تجري فيها الأصل.

لكن الشّيخ(رحمة الله) كما سبق أوجب الاحتياط باجتناب الطّرف الآخر في صورة الاضطرار إلى غير المعيّن، واستدلّ لذلك بما لفظه: «ولو كان المضطرّ إليه بعضاً غير معيّن، وجب الاجتناب عن الباقي - وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي - لأنّ العلم حاصل بحرمة واحدة من الأُمور، ولو علم حرمته تفصيلاً وجب الاجتناب عنه، وترخيص بعضها على البدل يوجب اكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي»(1)،

الخ.

{وكذلك لا فرق} في عدم وجوب الاحتياط {بين أن يكون الاضطرار كذلك} أي: إلى أحد الأطراف {سابقاً على حدوث العلم} بأن اضطرّ إلى أحدهما ثمّ علم

ص: 349


1- فرائد الأصول 2: 245.

أو لاحقاً؛ وذلك لأنّ التكليف المعلوم بينها من أوّل الأمر كان محدوداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلّقه، فلو عرض على بعض أطرافه لمّا كان التكليف به معلوماً؛ لاحتمال أن يكون هو المضطرّ إليه في ما كان الاضطرار إلى المعيّن، أو يكون هو المختار في ما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين.

___________________________________________

بأنّ أحدهما نجس {أو لاحقاً} بأن علم بنجاسة أحدهما ثمّ اضطرّ {وذلك لأنّ التكليف المعلوم بينها} أي: بين الأطراف {من أوّل الأمر كان محدوداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلّقه} فإنّ التكاليف الواقعيّة محدودة بمثل الاضطرار والعسر والحرج وما أشبه، فكأنّ الشّارع قال: اجتنب عن النّجس إلّا إذا اضطررت إليه، فالاجتناب كان محدّداً بالاضطرار، وذلك لا يفرق فيه بين أن يأتي التحديد - أي: يحصل الاضطرار - بعد العلم أو قبله {فلو عرض} الاضطرار {على بعض أطرافه} سواء كان قبل العلم أو بعده {لمّا كان التكليف به} أي: بالواقع {معلوماً} عند المكلّف {لاحتمال أن يكون} الواقع {هو المضطرّ إليه في ما كان الاضطرار إلى المعيّن، أو يكون} الواقع {هو المختار} أي: الّذي يختاره المكلّف {في ما كان} الاضطرار {إلى بعض الأطراف بلا تعيين} وإذا لم يعلم التكليف كان مقتضى البراءة عدم التكليف، فيجوز ارتكاب الطّرف الآخر.

لكن المصنّف أضرب عمّا في المتن في تعليقه على قوله: «لأنّ التكليف» بقوله: «لا يخفى أنّ ذلك إنّما يتمّ في ما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، وأمّا لو كان إلى أحدهما المعيّن، فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجّز، لعدم منعه عن العلم بفعليّة التكليف المعلوم إجمالاً، المردّد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطّرف أو المطلق في الطّرف الآخر، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعليّة مثل هذا المعلوم أصلاً، وعروض الاضطرار إنّما يمنع عن فعليّة التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه، لا عن فعليّة المعلوم بالإجمال

ص: 350

لا يقال: الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلّا كفقد بعضها، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان، كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار، فيجب الاجتناب عن الباقي أوارتكابه؛ خروجاً عن عهدة ما تنجّز عليه قبل عروضه.

فإنّه يقال:

___________________________________________

المردّد بين التكليف المحدود في طرف المعروض، والمطلق في الآخر بعد العروض، وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فإنّه يمنع عن فعليّة التكليف في البين مطلقاً، فافهم وتأمّل»(1)،

انتهى.

لكن فيه: أنّ التكليف المحدود يقتضي عدم وجود تكليف بعد الحدّ، والكلام الآن في ما بعد الحدّ فلا يعلم التكليف حينئذٍ، ولذا يجوز ارتكاب الطّرف لجريان البراءة، ولعلّ أمره بالتأمّل والفهم لذلك.

{لا يقال}: ما ذكرتم من أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف موجب لحليّة الجميع غير تامّ، إذ {الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلّا كفقد بعضها} كما لو علم بنجاسة أحد الإنائين ثمّ أريق أحدهما {فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان} لبعض الأطراف {كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته} أي: الاحتياط {مع الاضطرار} إلى بعض الأطراف، فيكون الاضطرار إلى البعض كفقدان البعض في أنّ كلّا منهما لا يوجب رفع الاحتياط في الطّرف الآخر الباقي وغير المضطرّ إليه {فيجب الاجتناب عن الباقي} في الشّبهة التحريميّة {أو ارتكابه} في الشّبهة الوجوبيّة {خروجاً عن عهدة ما} أي: التكليف الّذي {تنجّز عليه قبل عروضه} أي: عروض الاضطرار.

{فإنّه يقال}: فرق بين الاضطرار وبين فقدان أحد الأطراف، فإنّ تكليف

ص: 351


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 189.

حيث إنّ فقد المكلّف به ليس من حدود التكليف به وقيوده، كان التكليفُ المتعلّق به مطلقاً، فإذا اشتغلت الذمّة به كان قضيّة الاشتغال به يقيناً الفراغ عنه كذلك. وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه؛ فإنّه من حدود التكليف به وقيوده،

___________________________________________

(اجتنب عن الحرام) مقيّد في أحدهما وليس مقيّداً في الآخر، إذ المولى يقول: (اجتنب عن الحرام إذا لم تضطرّ إليه) ولا يقول: (اجتنب عن الحرام مادام باقياً) إذ بقاء الموضوع ليس من قيود التكليف، وعلى هذا في مورد الاضطرار يكون التكليف مقيّداً، فإذا انتفى القيد ارتفع التكليف بخلاف مورد الفقدان، فإنّ التكليف مطلق وقد علم به المكلّف ولا يعلم بالبراءة بفقدان بعض الأطراف، فالتكليف اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة.

وإن شئت قلت: إنّ بعد الاضطرار يكون الشّكّ في ثبوت التكليف فالقاعدة تقتضي البراءة، ولكن بعد فقدان أحد الأطراف يكون الشّكّ في سقوط التكليف، فالقاعدة تقتضي الاشتغال، ف- {حيث إنّ فقد المكلّف به} أي: الموضوع الّذي تعلّق به التكليف ولو احتمالاً - كالإناء الّذي هو طرف للعلم الإجمالي - {ليس من حدود التكليف به} أي: بذلك الموضوع {وقيوده} إذ لم يقل المولى: (اجتنب عن الحرام مادام موجوداً) {كان التكليف المتعلّق به} أي: بذلك الموجود {مطلقاً} فقد قال المولى: (اجتنب عن الحرام)، وبفقد أحد الإنائين لا أعلم سقوط هذا التكليف، {فإذا اشتغلت الذمّة به} للعلم الإجمالي {كان قضيّة} أي: مقتضى {الاشتغال به يقيناً الفراغ عنه كذلك} أي: يقيناً، ولا يفرغ عنه يقيناً إلّا بالاجتناب عن الطّرف الباقي.

{وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه، فإنّه من حدود التكليف به} أي: بذلك الموضوع {وقيوده} فإنّ الشّارع قال: «إلّا ما اضطررتم» فقد قيّد التكليف بعدم الاضطرار، فإذا اضطرّ إلى أحد الأطراف لا يبقى تكليف معلوم لاحتمال انطباق

ص: 352

ولا يكون الاشتغال به من الأوّل إلّا مقيّداً بعدم عروضه، فلا يقين باشتغال الذمّة بالتكليف به إلّا إلى هذا الحدّ، فلا يجب رعايته في ما بعده، ولا يكون إلّا من باب الاحتياط في الشّبهة البدويّة، فافهم وتأمّل فإنّه دقيق جدّاً.

الثّاني: أنّه لمّا كان النّهي عن الشّيء إنّما هو لأجل أن يصير داعياً للمكلّف نحو تركه، لو لم يكن له داع آخر

___________________________________________

التكليف بهذا المضطرّ إليه {ولا يكون الاشتغال به من الأوّل} وقبل حصول الاضطرار {إلّا مقيّداً بعدم عروضه} أي: عروض الاضطرار {فلا يقين باشتغال الذمّة بالتكليف به إلّا إلى هذا الحدّ} أي: حدّ الاضطرار {فلا يجب رعايته} أي: رعاية ذلك التكليف المحدود بالاضطرار {في ما بعده} أي: بعد الحدّ {ولا يكون إلّا من باب الاحتياط في الشّبهة البدويّة} الّتي لا يجب الاحتياط فيها {فافهم وتأمّل فإنّه دقيق جدّاً} وبالتأمّل حقيق.

{الثّاني} من التنبيهات في بيان عدم تأثير العلم الإجمالي في وجوب الاحتياط إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء، كما لو علم بنجاسة إنائه أو إناء رجل في أفريقيا ممّا ليس بمحلّ ابتلائه إطلاقاً، فإنّ هذا العلم الإجمالي لا يوجب الاجتناب عن إنائه الموجود عنده، وذلك لأنّ النّجس لو كان في ذلك الإناء النّائي لم يتوجّه منه تكليف إليه وهو يشكّ في كونه في إنائه، فالأصل يقتضي البراءة، ف- {إنّه لمّا كان النّهي عن الشّيء إنّما هو لأجل أن يصير داعياً للمكلّف نحو تركه} أي: يكون له داعويّة فعليّة، كما في الكفّار والعصاة من ليس للنهي داعوية فعليّة بالنسبة إليهم.

وتخصيص المصنّف النّهي بالذكر إنّما هو من باب المثال وإلّا فالأمر أيضاً كذلك، كما لا يخفى، وتظهر النّتيجة في العلم الإجمالي بأمر متعلّق بأحد موضوعين أحدهما خارج عن محلّ ابتلائه {لو لم يكن له} أي: للمكلّف {داعٍ آخر}

ص: 353

- ولا يكاد يكون ذلك إلّا في ما يمكن عادة ابتلاؤه به، وأمّا ما لا ابتلاء به بحسبها، فليس للنهي عنه موقع أصلاً؛ ضرورة أنّه بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل - كان الابتلاء بجميع الأطراف ممّا لا بدّ منه في تأثير العلم، فإنّه بدونه لا علم بتكليف فعليّ؛ لاحتمال تعلّق الخطاب بما لا ابتلاء به.

___________________________________________

غير النّهي، أمّا لو كان له داع آخر إلى ترك الشّيء، كما أنّ للإنسان الداعي إلى ترك أكل القاذورة النّتنة، فإنّ النّهي يكون مؤكّداً للداعي وموجباً لإمكان قصد القربة في الترك ممّا يوجب الثواب ومانعاً عن احتمال إرادة الفعل الّتي لولا النّهي لكان من الممكن احتمال انقداحها في النّفس {ولا يكاد يكون ذلك} أي: كون النّهي داعياً إلى الترك {إلّا في ما يمكن عادة ابتلاؤه} أي: المكلّف {به} أي: بالنهي عنه، فإنّ في مثل ذلك يصحّ النّهي ويكون داعياً إلى الترك ولو لم يكن فعلاً لديه، كما لو كان الإناء النّجس في دار صديقه الّذي يذهب إليه، فإنّه يكون النّهي داعياً لابتلائه عادة بتلك الإناء.

{وأمّا ما لا ابتلاء به بحسبها} أي: بحسب العادة - كما لو كان الإناء النّجس في أفريقيا مثلاً، ممّا لا يذهب إليه أصلاً - {فليس للنهي عنه موقع أصلاً} فلا يصحّ أن يقول المولى الحكيم: (اجتنب عن ذلك الإناء) {ضرورة أنّه بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل} إذ الترك حاصل بنفسه فلا يكون طلبه تأسيساً ولا تأكيداً، فيمتنع ذلك على المولى الحكيم {كان الابتلاء} هذا جواب لقوله: «لمّا كان النّهي» أي: حيث كان النّهي إنّما يصحّ في ما يكون داعياً كان الابتلاء {بجميع الأطراف} في باب العلم الإجمالي {ممّا لا بدّ منه في تأثير العلم} وإيجابه الاحتياط {فإنّه بدونه} أي: بدون الابتلاء بجميع الأطراف - بأن كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء - {لا علم بتكليف فعليّ لاحتمال تعلّق الخطاب بما لا ابتلاء به} لاحتمال كون النّجس هناك.

ص: 354

ومنه انقدح: أنّ الملاك في الابتلاء المصحّح لفعليّة الزجر، وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلاً، هو ما إذا صحّ انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد، مع اطّلاعه على ما هو عليه من الحال.

ولو شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة؛ لعدم القطع بالاشتغال،

___________________________________________

وقوله: «تعلّق الخطاب» مسامحة، إذ لا خطاب أصلاً، فلو كان النّجس هناك لا خطاب وهنا لا علم لي بوجود النّجس فالأصل البراءة، ومن المعلوم لزوم كون الخارج عن محلّ الابتلاء بقدر المعلوم بالإجمال أو أكثر، أمّا لو كان أقلّ كان العلم منجّزاً، فلو علمنا بوجود نجسين في هذه الأواني الخمسة الّتي كان الخارج منها اثنين أو ثلاث لم ينجّز العلم، أمّا لو كان الخارج منها واحداً كان العلم منجّزاً للعلم بوجود نجس في هذه الأربعة الّتي هي محلّ الابتلاء.{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من لزوم كونه محلّاً للابتلاء حتّى يسبّب الداعي لقبح الخطاب بما لا ابتلاء به {انقدح أنّ الملاك في الابتلاء المصحّح لفعليّة الزجر} والنّهي {و} ل- {انقداح طلب تركه في نفس المولى فعلاً} حتّى ينهى عنه {هو ما إذا صحّ انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد} يعني أنّه لولا النّهي لأمكن أن يفعله العبد حتّى يكون النّهي داعياً لتركه أو مؤكّداً للداعي {مع اطّلاعه على ما هو عليه من الحال} فالميزان لكونه محلّ الابتلاء صحّة إرادة المكلّف لإتيانه وعدم الصّحّة، فإن صحّ كان محلّاً للابتلاء وإن لم يصحّ لم يكن محلّاً للابتلاء.

{ولو شكّ في ذلك} وأنّه هل يكون محلّاً للابتلاء أم لا - كما لو كان الإناء في دار جاره وشككنا في أنّه هل ينقدح إرادة الاستعمال في نفس هذا الشّخص بالنسبة إلى ذلك الإناء أم لا - فإن صحّ كان العلم الإجمالي المردّد بين إنائه وإناء جاره منجّزاً للتكليف، فيجب الاجتناب عن إنائه، وإن لم يصحّ لم يكن العلم منجّزاً فيجوز ارتكاب إنائه {كان المرجع هو البراءة لعدم القطع بالاشتغال} لأنّه

ص: 355

لا إطلاقُ الخطاب؛ ضرورةَ أنّه لا مجال للتشبّث به إلّا في ما إذا شكّ في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه، لا في ما شكّ في اعتباره في صحّته،

___________________________________________

تكليف جديد لا يعلم به، فلو وقعت قطرة نجسة في أحد الإنائين لم يجب الاجتناب عن إناء نفسه وجاز استعماله، و{لا} يكون المرجع في باب الشّكّ في الابتلاء {إطلاق الخطاب} أي: خطاب (اجتنب عن النّجس) مثلاً، حتّى يجب الاجتناب عن هذا الإناء، خلافاً لمن توهّم ذلك قائلاً: إنّ الخطاب متعلّق على نحو الإطلاق أو التقييد، فالمولى يقول: (اجتنب عن هذا الإناء) أو يقول: (اجتنب عن هذا الإناء إن صار محلّ الابتلاء) وإذ نشكّ في هذا القيد يكون الأصل عدمه.

لكن فيه أنّه إنّما يصحّ الرّجوع إلى الإطلاق - في ما شكّ في الإطلاق والتقييد - إذا علمنا بصحّة الخطاب المطلق وشككنا في التقييد، أمّا إذا شككنا في أصل صحّة الخطاب المطلق كالمقام الّذي نشكّ في أصل صحّة الخطاب المطلق - لاحتمال كونه خارجاً عن محلّ الابتلاء فلا يصحّ إطلاق (اجتنب عن النّجس) - فلا مجال لأصالة الإطلاق وأصالة عدم التقييد. {ضرورة أنّه لا مجال للتشبّث به} أي: بالإطلاق - بمقدّمات الحكمة - {إلّا في ما إذا شكّ في التقييد بشيء} أي: تقييد التكليف بشيء {بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه} أي: بدون ذلك الشّيء المشكوك - كما لو أمر المولى بإعتاق رقبة ثمّ شككنا في أنّه مطلق أو مقيّد بكونها مؤمنة - فإنّه يجوز التمسّك بمقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق، إذ الشّكّ في التقييد بالمؤمنة بعد الفراغ عن صحّة إطلاق الرّقبة بدونها {لا في ما شكّ في اعتباره} أي: شكّ في القيد الّذي اعتبر {في صحّته} أي: صحّة الإطلاق، فلا يمكن التشبّث بالإطلاق، إذا كان الشّكّ في قيد لا يصحّ الإطلاق بدونه كما في ما نحن فيه، فإنّ الابتلاء قيد لا يصحّ الإطلاق بدونه، فإنّه إذا كان إناء الجار خارجاً عن محلّ الابتلاء لا يصحّ أن يطلق المولى قوله: (اجتنب عن إناء زيد)

ص: 356

تأمّل لعلّك تعرف إن شاء اللّه - تعالى - .

الثّالث: أنّه قد عرفت: أنّه مع فعليّة التكليف المعلوم لا تفاوت بين أن يكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة.

نعم، ربّما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبةً لعسر موافقته القطعيّة باجتناب كلّها، أو ارتكابه،

___________________________________________

وإنّما يصحّ أن يقول: (اجتنب عنه إن ابتليت به) {تأمّل لعلّك تعرف، إن شاء اللّه - تعالى -}.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) على هنا ما لفظه: «نعم، لو كان الإطلاق في مقام يقتضي بيان التقييد بالابتلاء - لو لم يكن هناك ابتلاء مصحّح للتكليف - كان الإطلاق وعدم بيان التقييد دالّاً على فعليّته، ووجود الابتلاء المصحّح لها، كما لا يخفى، فافهم»(1).{الثّالث} من التنبيهات في أنّ كون أطراف الشّبهة غير محصورة لا يوجب رفع التكليف المعلوم بالإجمال، وإنّما سبب دفع التكليف هو كون الاحتياط ضرراً أو حرجاً أو ما أشبه {أنّه قد عرفت أنّه مع فعليّة التكليف المعلوم} بالإجمال، كما لو أراد الشّارع الاجتناب عن النّجس المتردّد بين ألف إناء مثلاً {لا تفاوت بين أن يكون أطرافه} أي: أطراف المعلوم {محصورة} في عدد قليل - كمائة مثلاً - {وأن تكون غير محصورة} في عدد قليل - كمائة ألف مثلاً - فيجب الاجتناب عن الكلّ في الشّبهة التحريميّة والإتيان في الشّبهة الوجوبيّة.

{نعم، ربّما يكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعيّة باجتناب كلّها} في الشّبهة التحريميّة {أو ارتكابه} في الشّبهة الوجوبيّة، كما لو تردّدت الأرض المغصوبة في شوارع يستطرقها المكلّف، فإنّه لو أراد اجتنابها لزم عليه أن

ص: 357


1- حقائق الأصول 2: 305؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 211.

أو ضررٍ فيها، أو غيرهما ممّا لا يكون معه التكليف فعليّاً، بعثاً أو زجراً فعلاً، وليس بموجبة لذلك في غيره. كما أنّ نفسها ربّما تكون موجبة لذلك، ولو كانت قليلة في مورد آخر.

فلا بدّ من ملاحظة ذاك

___________________________________________

يمشي كلّ يوم فراسخ لنيل حاجاته ممّا يوجب عليه عسراً وحرجاً، أو تردّد ثوبه الطّاهر الّذي يجوز الصّلاة فيه بين خمسين ثوب، ممّا يوجب حرجاً عليه لو أراد الاحتياط بإتيان خمسين صلاة {أو ضرر فيها} كما لو تردّدت شاة مغصوبة بين مائة شاة له، حتّى أنّ الاجتناب عنها ضرر ماليّ على المكلّف {أو غيرهما} أي: غير العسر والضّرر كما لو كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء {ممّا لا يكون معه التكليف فعليّاً} إذ كلّ واحد من الضّرر والحرج والخروج عن محلّ الابتلاء يسبّب عدم فعليّة التكليف {بعثاً أو زجراً فعلاً} بأن يأمر به أو ينهى عنه {وليس بموجبة لذلك في غيره} عطف على قوله: «موجبة» أي: لا يكون كثرة الأطراف بموجبة للعسر في غير ذلك المورد، مثلاً لو اشتبهت حبّة من الحنطة النّجسة في ألف حبّة لا يوجب الاجتناب عن الألف عسراً {كما أنّ نفسها} أي: الموافقة القطعيّة {ربّما تكون موجبة لذلك} العسر.

{ولو كانت} الأطراف {قليلة في مورد آخر} كما لو كانت المخابز في البلد خمسين وعلمنا بنجاسة أحدها فإنّ الاجتناب عن الجميع مقدّمة للموافقة القطعيّة موجب للعسر.

وبهذا تبيّن أن ليس للعسر الّذي هو مناط لسقوط التكليف ميزان خاصّ، فقد تكون الأطراف كثيرة ولا يوجب الاجتناب عسراً، وقد تكون الأطراف قليلة ويوجب الاجتناب عسراً، فليس المناط هو المحصورة وغير المحصورة، وإنّما المناط العسر والضّرر والخروج عن محلّ الابتلاء، كما تقدّم {فلا بدّ من ملاحظة ذاك}

ص: 358

الموجب لرفع فعليّة التكليف المعلوم بالإجمال أنّه يكون، أو لا يكون في هذا المورد، أو يكون مع كثرة أطرافه، وملاحظة أنّه مع أيّة مرتبة من كثرتها، كما لا يخفى.

ولو شكّ في عروض الموجب،

___________________________________________

الشّيء - كالعسر والضّرر والخروج عن الابتلاء - {الموجب لرفع فعليّة التكليف المعلوم بالإجمال} و{أنّه} هل {يكون أو لا يكون في هذا المورد} الخاصّ مثلاً؟ فإن كان ارتفع التكليف ولو كانت الأطراف محصورة، وإن لم يكن لم يرتفع التكليف وإن كانت الأطراف غير محصورة، {أو يكون} الرّافع للتكليف - كالعسر - {مع كثرة أطرافه} دون قلّتها {وملاحظة أنّه} أي: الرّافع للتكليف {مع أيّة مرتبة من كثرتها} فمثلاً: إنّ تردّد الماء المطلق بين ألف مضاف يقيناً موجب للعسر الموجب لرفع التكليف بالوضوء، وتردّد بين ثلاثة يقيناً غير موجب للعسر الرّافع للتكليف، وبين الثلاثة والألف لا بدّ وأن يلاحظ هل يوجد عسر في هذه المرتبة أو تلك أم لا يوجد؟ {كما لا يخفى}.

ومنه تحقّق أنّ عنوان غير المحصورة ليس عنواناً مستقلّاً رافعاً للتكليف، وإنّما العنوان هو ما جعله الشّارع من العسر ونحوه، فالأمر دائر مدار ذلك لا هذا. لكن ربّما يقال: إنّه عنوان مستقلّ لما يفهم من قول الإمام(علیه السلام): «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة يحرم مافي الأرض»(1)،

ممّا يدلّ على عدم تحريم غير المحصور.

{ولو شكّ في عروض الموجب} لرفع التكليف، كما لو كان أطراف العلم كثيرة لكنّا شككنا في أنّ الكثرة وصلت إلى حدّ العسر أم لا، أو علمنا أنّ الكثرة وصلت إلى حدّ العسر لكنّا شككنا في أنّ مثل هذا العسر رافع للتكليف أم لا - لوضوح

ص: 359


1- المحاسن 2: 496؛ وسائل الشيعة 25: 119، ولفظه هكذا: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟»

فالمتّبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان، وإلّا فالبراءة لأجل الشّكّ في التكليف الفعلي. هذا هو حقّ القول في المقام.

وما قيل في ضبط المحصورة وغيره لا يخلو من الجزاف.

الرّابع: أنّه إنّما يجب عقلاً رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف،

___________________________________________

أنّ كلّ عسر لا يوجب رفع التكليف - {فالمتّبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان} إطلاق في المقام - فنقول: قوله: {إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ}(1) مطلق ولا يعلم وجود عسر في المقام رافع لهذا التكليف، فالمرجع الإطلاق.

لكن هذا في ما لم يكن هناك أصل حاكم، كما لو كان قبل ساعة التكليف عسراً قطعاً - لبرودة الهواء - ثمّ شككنا في بقاء العسر وعدمه لتغيّر في الجملة في الهواء مثلاً {وإلّا} يكن هناك إطلاق يرجع إليه في مورد الشّكّ لكون الدليل على المسألة الإجماع، والإجماع دليل لُبّيّ لا إطلاق له، أو كان الدليل لفظيّاً لكنّه كان مجملاً لا إطلاق له {ف-} المرجع {البراءة} عن التكليف {لأجل الشّكّ في التكليف الفعلي} الموجب لشمول أدلّة البراءة العقليّة والفعليّة للمقام.

نعم، إن كانت الشّبهة مصداقيّة لم يصحّ التمسّك بالإطلاق، لما تقرّر في الجزء الأوّل من أنّه لا يتمسّك بالإطلاق في الشّبهات المصداقيّة.

{هذا هو حقّ القول في المقام} بنظر المصنّف(رحمة الله) {و} سائر {ما قيل في ضبط المحصورة وغيره لا يخلو من الجزاف} وللكلام تفصيل لا يسعه الشّرح، فراجع.

{الرّابع} من التنبيهات في عدم لزوم الاجتناب عن ملاقي الشّبهة المحصورة، كما لو اشتبه النّجس بين إنائين ثمّ لاقى شيء أحدهما لم يجب الاجتناب عن ذلك الملاقي، وإن وجب الاجتناب عن الملاقي وطرفه {أنّه إنّما يجب عقلاً رعاية الاحتياط} باجتناب الأطراف أو ارتكابها {في خصوص الأطراف} الأوّليّة،

ص: 360


1- سورة المائدة، الآية: 6.

ممّا يتوقّف على اجتنابه أو ارتكابه حصولُ العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها، وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوماً بحكمه واقعاً.

ومنه ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النّجس المعلوم بالإجمال، وأنّه:

___________________________________________

كالإنائين اللّذين اشتبه النّجس بينهما {ممّا يتوقّف على اجتنابه} في الشّبهة التحريميّة {أو ارتكابه} في الشّبهة الوجوبيّة {حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين} أي: في بين المشتبهين أو المشتبهات، فإنّه يتوقّف العلم بالاجتناب عن البول الواقع في أحدهما على اجتناب الإنائين، كما يتوقّف العلم بإتيان الصّلاة في ثوب طاهر على الإتيان بصلاتين، في ما لو اشتبه الطّاهر بالنجس في ثوبين {دون غيرها} أي: غير الأطراف، فإنّه لا يجب الاجتناب عن ذلك الغير {وإن كان} ذلك الغير {حاله حال بعضها} أي: بعض الأطراف {في كونه} أي: ذلك الغير {محكوماً بحكمه} أي: حكم بعض الأطراف {واقعاً} فإنّه إذا لاقى اليد الإناء الأحمر في ما لو اشتبه النّجس بينه وبين الإناء الأصغر، كانت اليد محكومة بحكم الإناء الأحمر واقعاً، فإن كان نجساً كانت نجسة وإن كان طاهراً كانت طاهرة، لكنّه لا يجب الاجتناب عن اليد وإن وجب الاجتناب عن الإنائين. لكنّه إنّما يكون في ما لو لم يكن بعض أحدهما مع الملاقي، كما لو صبّ بعض الماء من أحد الإنائين في إناء ثالث، فإنّه يجب الاجتناب عن هذا الإناء أيضاً؛ لأنّه بعضه فحكمه حكمه.

ومنه يظهر أنّه لو لاقت اليد الإناء وأخذت معها بعض الماء وجب الاجتناب عن هذه القطرات المتصلة باليد، إذ حالها حال الماء في الإناءالواجب الاجتناب عنه.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من عدم كون حال الملاقي حال المشتبهين {ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شيء} كاليد في المثال {مع أحد أطراف النّجس المعلوم بالإجمال وأنّه} على ثلاثة أقسام:

ص: 361

تارةً: يجبُ الاجتنابُ عن الملاقى دون ملاقيه، في ما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالاً بالنجس بينها؛

___________________________________________

الأوّل: أن يجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر دون الملاقي - بالكسر - كاليد.

الثّاني: أن يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - كاليد دون الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر.

الثّالث: أن يجب الاجتناب عنهما معاً.

وحاصل الوجه في هذا التفصيل: أنّه لو علم المكلّف بنجاسة أحد الإنائين ثمّ لاقى اليد أحدهما، كان الاحتياط يقتضي بوجوب الاجتناب عنهما، أمّا الملاقي - بالكسر - فتجري فيه أصل البراءة بدون المعارض، وهذا هو القسم الأوّل.

ولو علم المكلّف بنجاسة اليد والإناء الأصفر ثمّ علم بأنّ نجاسة اليد - لو كانت نجسة - مستندة إلى ملاقاتها للإناء الأحمر الّذي هو طرف النّجس الواقعي، كان مقتضى العلم الاجتناب عن اليد والإناء الأصفر دون الإناء الأحمر؛ لأنّه تنجّز العلم في اليد والإناء الأصفر، أمّا الإناء الأحمر فيجري فيه أصل البراءة بدون معارض لتنجّز العلم الإجمالي قبله، وهذا هو القسم الثّاني.

ولو علم المكلّف بنجاسة اليد والإناء الأحمر أو الإناء الأصفر - دفعة واحدة - وجب الاجتناب عن الجميع؛ لأنّ العلم تعلّق بالجميع مرّة واحدة فصار الكلّ أطرافاً للعلم.

والكلام حول ذلك يحتاج إلى بسط خارج عن وضع الشّرح، فلنقتصر على شرح المتن فنقول: إنّه {تارة يجب الاجتناب عن الملاقى} - بالفتح - كالإناء الأحمر في المثال {دون ملاقيه} كاليد في المثال {في ما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالاً بالنجس بينها} أي: بين الأطراف، كما لو علم بأنّ أحد الإنائين نجس ثمّ

ص: 362

فإنّه إذا اجتنب عنه وطرفِه اجتنبَ عن النّجس في البين قطعاً ولو لم يجتنب عمّا يلاقيه؛ فإنّه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فرداً آخر من النّجس، قد شكّ في وجوده، كشيء آخر شكّ في نجاسته بسبب آخر.

ومنه ظهر: أنّه لا مجال لتوهّم أنّ قضيّة تنجّز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضاً؛

___________________________________________

لاقت يده أحدهما {فإنّه إذا اجتنب عنه} أي: الملاقى - بالفتح - {وطرفه} كالإناء الأصفر في المثال {اجتنب عن النّجس في البين قطعاً ولو لم يجتنب عمّا يلاقيه} بأن استعمل مع يده استعمال الطّاهر، وإنّما لم يلزم الاجتناب عن اليد الملاقية {فإنّه على تقدير نجاسته} أي: نجاسة الملاقي - بالكسر - كاليد {لنجاسته} أي: لنجاسة الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر {كان} الملاقي - بالكسر - {فرداً آخر من النّجس قد شكّ في وجوده} لأنّه لا يعلم أنّ يده قد تنجّست لاحتماله عدم نجاسة الملاقى - بالفتح - الّذي هو الإناء الأحمر، و{قد شكّ في وجوده} أي: وجود هذا النّجس الحادث {كشيء آخر شكّ في نجاسته بسبب آخر} كما لو شكّ في أنّ أرض الغرفة هل تنجّست بسبب بول الهرّة أم لا، فكما يجري أصل البراءة هناك يجري أصل البراءة في المقام.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من أنّ اليد الملاقية فرد جديد لم يعلم بنجاسته {ظهر أنّه لا مجال لتوهّم} وجوب الاجتناب عن اليد ل- {أنّ قضيّة تنجّز الاجتناب عن المعلوم} بالإجمال {هو الاجتناب عنه} أي: عن الملاقي - بالكسر - {أيضاً} كما يجب الاجتناب عن الإنائين، فإنّ العلم الإجمالي قد توسّعت دائرته، إذ بعد الملاقاة يعلم المكلّف بأنّه إمّا الإناء الأصفر نجس وإمّا اليد والإناء الأحمر نجسان، ويكون حاله حال ما لو علم بوجوب إعطاء زيد أو إعطاء عمرو وخالد بأن كان أحد طرفي العلم الإجمالي ذا طرفين، فإنّ العلم منجّز للجميع.

ص: 363

ضرورة أنّ العلم به إنّما يوجبُ تنجّزَ الاجتناب عنه، لا تنجّز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه، وإن احتمل.

وأُخرى: يجب الاجتناب عمّا لاقاه دونه، في ما لو علم إجمالاً بنجاسته أو نجاسة شيء آخر، ثمّ حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاك الشّيء أيضاً؛

___________________________________________

لكن هذا التوهّم غير تامّ {ضرورة أنّ العلم به} أي: بالنجس في أحد الإنائين {إنّما يوجب تنجّز الاجتناب عنه} أي: عمّا هو طرف للعلم، وهو كلّ واحد من الإنائين {لا تنجّز الاجتناب عن فرد آخر} وهو الملاقي - بالكسر - كاليد حيث {لم يعلم حدوثه} أي: حدوث التكليف حول هذا الفرد الجديد {وإن احتمل} لاحتمال كون ذلك الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر نجساً، فيكون ملاقيه كاليد نجساً.

وهذا ردّ لما يحكى عن ابن زهرة القائل بوجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - لأنّ الاجتناب عنه من شؤون الاجتناب عن النّجس، فالخروج عن عهدة هذا النّهي الاجتناب عن ملاقيه لاحتمال انطباق النّجس المنهي عنه عليه وعلى ملاقاه.

وحاصل جواب المصنّف: أنّ الملاقي - بالكسر - فرد جديد لا يرتبط بالتكليف الأوّلي المعلوم، وهذا التكليف الزائد مشكوك فيه، فالأصل البراءة عنه.

هذا كلّه في ما وجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - دون الملاقي - بالكسر {وأُخرى يجب الاجتناب عمّا لاقاه} أي: الملاقي - بالكسر - كاليد في المثال {دونه} أي: دون الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر في المثال، فيجب الاجتناب عن الإناء الأصفر واليد دون الأحمر، وذلك {في ما لو علم إجمالاً نجاسته أو نجاسة شيء آخر} بأن علم أوّلاً أنّ اليد أو الأصفر نجس {ثمّ حدث العلم بالملاقاة} أي: بملاقاة الي-د للأحمر {و} ح-دث {العلم بنجاس--ة الملاق-ى} - بالفتح - أي: الأحمر {أو ذاك الشّيء} الّذي هو الإناء الأصفر {أيضاً}.

ص: 364

فإنّ حال الملاقى في هذه الصّورة بعينها حال ما لاقاه في الصّورة السّابقة، في عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي،

___________________________________________

وعلّق المصنّف هنا بقوله: «وإن لم يكن احتمال نجاسة ما لاقاه - كاليد في المثال - إلّا من قبل ملاقاته»(1)،

انتهى.

فمثلاً: يعلم أوّلاً بأنّ اليد أو الأصفر نجس ثمّ يعلم بأنّ الأحمر أو الأصفر نجس، ويعلم بأنّ مستند نجاسة اليد المحتملة هو ملاقاته للأحمر لا أنّه نجس بنجاسة خارجيّة.

وإنّما قلنا بعدم نجاسة الأحمر مع أنّه هو طرف العلم الإجمالي واقعاً، إذ تبيّن بعد ذلك أنّ النّجس الكائن إنّما هو بين الإنائين، لما أشار إليه بقوله: {فإنّ حال الملاقى} - بالفتح - الّذي هو الإناء الأحمر {في هذه الصّورة} أي: صورة سبق علم بنجاسة اليد أو الأصفر {بعينها حال ما لاقاه} أي: الملاقي - بالكسر - الّذي هو اليد {في الصّورة السّابقة} وهي صورة ما لو علم بنجاسة الأحمر أو الأصفر ثمّ لاقى اليد الأحمر، فكما قلنا هناك بعدم لزوم الاجتناب عن اليد، كذلك نقول هنا بعدم لزوم الاجتناب عن الأحمر {في عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي} فإنّ طرفي العلم الإجمالي هما اليد والإناء الأصفر.

إن قلت: نعلم إجمالاً بنجاسة الأحمر أو الأصفر، وهذا أمر وجداني.

قلت: هذا العلم حادث بعد العلم الإجمالي الأوّل الّذي كان يقتضي الاجتناب عن اليد والأصفر، وقد تقرّر في موضعه أنّ العلم الإجمالي غير مؤثّر إذا كان أحد أطرافه منجّزاً سابقاً. فمثلاً: لو علمنا بأنّ إناء زيد نجس ثمّ وقعت قطرة في أحد الإنائين هذا الإناء الّذي لزيد أو ذاك الّذي لعمرو لم يتوجّه منها تكليف بالاجتناب عن الإنائين، بل يجوز ارتكاب إناء عمرو وإن كان طرفاً للعلم

ص: 365


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 226.

وأنّه فردٌ آخر على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم النّجاسة أصلاً، لا إجمالاً ولا تفصيلاً.وكذا لو علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي، ولكن كان الملاقى

___________________________________________

الإجمالي؛ لأنّ أحد أطراف هذا العلم - وهو إناء زيد - كان منجّزاً سابقاً قبل العلم. والسّرّ أنّه لم يعلم بحدوث تكليف جديد لاحتمال وقوعها في إناء زيد الّذي كان نجساً سابقاً، فأصالة الطّهارة بالنسبة إلى إناء عمرو محكمة.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ العلم الإجمالي بنجاسة اليد أو الإناء الأصفر أوجب الاحتياط عنهما، وإذ علمنا ثانياً بأنّ أحد الإنائين من الأحمر أو الأصفر نجس كان أحد طرفي هذا العلم الثّاني الّذي هو الأصفر منجّزاً سابقاً، فلا يؤثّر هذا العلم الإجمالي الحادث في تنجيز التكليف المحتمل، فتكون أصالة الطّهارة بالنسبة إلى الأحمر محكمة، وإن علمنا بأنّ نجاسة اليد لو كانت نجسة مستندة إلى الإناء الأحمر لأنّها اكتسبت النّجاسة من الملاقاة للإناء الأحمر.

{و} بهذا تحقّق أنّ الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر في المثال لا يحكم عليه بالنجاسة بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الاثنين اليد والإناء الأصفر، ل- {أنّه فرد آخر} جديد {على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم النّجاسة أصلاً لا إجمالاً ولا تفصيلاً} أمّا تفصيلاً فلوضوح أنّا لا نعلم أنّ الإناء الأحمر نجس، وأمّا إجمالاً فلأنّه لا نعلم بنجاسة أحد من الإنائين بعلم إجماليّ مؤثّر، وإنّما العلم الإجمالي لا يؤثّر في المقام، كما تقدّم تقريره.

{وكذا} يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - كاليد في المثال دون الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر في المثال في ما {لو علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي} بأن علمت بأنّ يدي لاقت الإناء الأحمر ثمّ علمت بأنّ أحد الإنائين الأحمر والأصفر كان نجساً {ولكن كان الملاقى} - بالفتح - وهو الإناء

ص: 366

خارجاً عن محلّ الابتلاء في حال حدوثه، وصار مبتلى به بعده.

وثالثة: يجبُ الاجتناب عنهما

___________________________________________

الأحمر {خارجاً عن محلّ الابتلاء في حال حدوثه} أي: حدوث العلم {وصار} ذلك الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر {مبتلى به بعده} أي: بعد حدوث العلم، كما لو لاقى يدي للأحمر في الصّباح وخرج الأحمر عن محلّ الابتلاء في الظّهر، وعلمت بنجاسة سابقة للأحمر أو الأصفر في العصر وعاد الأحمر إلى الابتلاء في المساء، فإنّه يجب الاجتناب عن اليد الملاقية وعن الأصفر، ولا يجب الاجتناب عن الأحمر الّذي هو الملاقى - بالفتح - وذلك لأنّ خروج الأحمر عن محلّ الابتلاء موجب لعدم توجّه التكليف إليه، فإذا علمت عصراً بأنّ أحداً من الأحمر أو الأصفر كان نجساً لم يتنجّز الأحمر ويتنجّز العلم الإجمالي بالنسبة إلى اليد والأصفر؛ لأنّهما طرفا العلم الإجمالي، فإذا صار الأحمر محلّاً للابتلاء ليلاً لم يتنجّز العلم بالنسبة إليه، لما تقدّم من أنّ العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه منجّزاً سابقاً لم يتنجّز ثانياً.

والحاصل: أنّ تعلّق العلم بالملاقى وطرفه بعد العلم بالملاقي - بالكسر - وطرف بالملاقى - بالفتح - يكون مثل عدم كون الملاقى - بالفتح - محلّاً للابتلاء حال تعلّق العلم، فإنّ في الصّورتين يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - وطرف الملاقى - بالفتح - كاليد والأصفر في المثال دون الملاقى - بالفتح - كالأحمر في المثال.

وهذا تمام الكلام في الصّورة الثّانية الّتي هي عكس الصّورة الأُولى، ففي الأُولى وجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - وفي الصّورة الثّانية وجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - .

{وثالثة: يجب الاجتناب عنهما} أي: عن المتلاقيين كاليد والأحمر معاً، وذلك

ص: 367

في ما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة؛ ضرورة أنّه حينئذٍ نعلم إجمالاً: إمّا بنجاسة الملاقي والملاقى، أو بنجاسة الآخر، كما لا يخفى، فيتنجّز التكليف بالاجتناب عن النّجس في البين، وهو الواحد أو الاثنان.

المقام الثّاني: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين

___________________________________________

{في ما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة} كما لو علم صباحاً بملاقاة اليد للأحمر ثمّ علم ظهراً بأنّ أحداً من الأحمر والأصفر نجس، فإنّه حينئذٍ يجب الاجتناب عن الأطراف الثلاثة: الملاقي والملاقى وطرف الملاقى{ضرورة أنّه حينئذٍ نعلم إجمالاً إمّا بنجاسة الملاقي} بالكسر {والملاقى} بالفتح {أو بنجاسة الآخر} الّذي هو طرف الملاقى - بالفتح - كالإناء الأصفر {كما لا يخفى} ولا يرد عليه الإيراد السّابق لتعلّق العلم بالجميع دفعة واحدة {فيتنجّز التكليف بالاجتناب عن النّجس في البين وهو الواحد} الإناء الأصفر كما في المثال {أو الاثنان} وهما الإناء الأحمر أو اليد.

لكن هذا إذا كان الملاقي - بالكسر - في حال العلم محلّاً للابتلاء، أمّا لو لم يكن كما لو لاقى الأحمر إناءً، فعلمت في حال كون ذلك الإناء خارجاً عن محلّ الابتلاء بنجاسة الواحد أو الاثنين ثمّ صار محلّاً للابتلاء، وجب الاجتناب عن الإنائين الأحمر والأصفر دون ذلك الملاقي - بالكسر - لما تقدّم في الصّورة الثّانية القائلة بوجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - دون الملاقى - بالفتح - والكلام في المقام يحتاج إلى بسط خارج عن وضع الشرح.

[المقام الثّاني في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيّين]

اشارة

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، الاشتغال، الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين

{المقام الثّاني} من مقامات العلم الإجمالي {في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيّين} كما لو علمنا بالتكليف ولم نعلم بأنّه متوجّه إلى عشرة أجزاء أم إلى تسعة أجزاء، كالتكليف المتوجّه إلى الصّلاة المردّد بين أن يكون أجزاؤها عشرة

ص: 368

والحقّ: أنّ العلم الإجمالي بثبوت التكليف بينهما أيضاً يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر؛ لتنجّزه به، حيث تعلّقَ بثبوته فعلاً.

___________________________________________

- مثلاً - لكون جلسة الاستراحة جزءاً أم تسعة، لكونها ليست بجزء.

وهذا في ما لم يكن هناك دليل على أحد الطّرفين وكان اللّازم الرّجوع إلى الأصول العمليّة، فهل مقتضاها البراة عن الجزء المشكوك فيه فيصحّ الإتيان بالصلاة ذات تسعة أجزاء بدون جلسة الاستراحة، أم مقتضاها الاحتياط الإتيان بها مع الجلسة؟

والفرق بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين وبين الأقلّ والأكثر غير الارتباطيّين كالدين المردّد بين كونه عشرة دراهم وكونه تسعة دراهم: أنّ الارتباطيّين لا يصحّ الإتيان بالأقلّ لو كان الأكثر واجباً، فلا تصحّ الصّلاة ذات تسعة أجزاء لو كانت في الواقع ذات عشرة أجزاء، وأنّ غير الارتباطيّين يصحّ الإتيان بالأقلّ ويكفي عن نفسه وإن كان الأكثر واجباً، فلو أدّى تسعة دراهم كفاه عن دين تسعة دراهم وإن بقيت ذمّته مشغولة بالدرهم العاشر لو كان الدين عشرة.

ثمّ إنّهم اختلفوا في كون المقام مجرى البراءة أو الاحتياط، فقد ذهب الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل إلى الأوّل، والمصنّف يرى وجوب الأكثر وأنّ المقام مجرى للاحتياط {و} ذلك لأنّ {الحقّ أنّ العلم الإجمالي بثبوت التكليف بينهما} أي: بين الأقلّ والأكثر {أيضاً} مثل دوران الأمر بين المتباينين {يوجب الاحتياط عقلاً} فإنّ العقل يستقلّ {بإتيان الأكثر لتنجّزه} أي: الأكثر {به} أي: بسبب العلم الإجمالي {حيث تعلّق} العلم {بثبوته} أي: ثبوت الأكثر {فعلاً} لأنّه يجب أن يخرج عن عهدة هذا التكليف المعلوم، فإنّ الاشتغال اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة، فلو أتى بالأكثر كان خارجاً عن عهدة التكليف المتوجّه إليه قطعاً، وذلك بخلاف ما لو أتى بالأقلّ، فإنّه لا يعلم بأنّه أتى بالتكليف المعلوم المتوجّه إليه.

ص: 369

وتوهّم(1)

«انحلاله إلى العلم بوجوب الأقلّ تفصيلاً، والشّكّ في وجوب الأكثر بدواً؛ ضرورة لزوم الإتيان بالأقلّ لنفسه شرعاً، أو لغيره كذلك، أو عقلاً، ومعه

___________________________________________

{و} لكن الشّيخ(رحمة الله) ذهب إلى البراءة وأنّه يكفي الإتيان بالأقلّ للخروج عن عهدة التكليف، وذلك لأنّ التكليف بالأقلّ متيقّن على كلا التقديرين: تقدير وجوب الأقلّ، وتقدير وجوب الأكثر فيجب الإتيان به. أمّا التكليف بالجزء العاشر فهو مشكوك فيه؛ لأنّه لا يعلم وجوبه فهو مجرى البراءة، فالعلم الإجمالي المتعلّق بأحدهما منحلّ إلى يقين تفصيلي هو اليقين بالتسعة، وشكّ بدوي بالنسبة إلى الجزء العاشر، كجلسة الاستراحة في المثال.

لكن هذا الكلام بنظر المصنّف(رحمة الله) غير تامّ، إذ {توهّم «انحلاله} أي: العلم الإجمالي {إلى العلمبوجوب الأقلّ تفصيلاً} فإنّا نعلم بوجوب تسعة أجزاء علماً تفصيليّاً؛ لأنّها واجبة على كلّ تقدير {والشّكّ في وجوب الأكثر} أي: الجزء العاشر {بدواً} لأنّا لا نعلم هل إنّه واجب أم لا {ضرورة لزوم الإتيان بالأقلّ لنفسه شرعاً} إذا كان الأقلّ واجباً فقط {أو لغيره كذلك} أي: شرعاً إذا كان الأكثر واجباً، وإنّما كان الأقلّ واجباً غيريّاً على تقدير كون الأكثر واجباً؛ لأنّ الأقلّ يكون مقدّمة للأكثر فيكون له وجوب غيري، كما هو الشّأن في كلّ واجب ذي أجزاء، حيث يكون كلّ جزء منه واجباً بالوجوب المقدّمي لوجوب الكلّ الّذي هو واجب نفسي {أو عقلاً} عطف على قوله: «كذلك»، أي: إنّ وجوب الأجزاء التسعة على تقدير وجوب العشرة عقليّ أو شرعيّ، بناءً على اختلاف المبنى في وجوب المقدّمة هل أنّه شرعيّ أو عقلي.

{ومعه} أي: مع العلم بوجوب الأقلّ والشّكّ في وجوب الجزء الزائد المتمّم للأكثر. وبعبارة أُخرى: مع انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيليّ وشكّ بدوي

ص: 370


1- فرائد الأصول 2: 322.

لا يوجب تنجّزه لو كان متعلّقاً بالأكثر».

فاسدٌ قطعاً؛ لاستلزام الانحلالِ المحالَ، بداهةَ توقّفِ لزوم الأقلّ فعلاً - إمّا لنفسه أو لغيره - على تنجّز التكليف مطلقاً، ولو كان متعلّقاً بالأكثر، فلو كان لزومه كذلك مستلزماً لعدم تنجّزه إلّا إذا كان متعلّقاً بالأقلّ، كان خلفاً.

مع أنّه يلزم من وجوده عدمُهُ؛ لاستلزامه عدمَ تنجّز التكليف على كلّ حالٍ،

___________________________________________

{لا يوجب} العلم الإجمالي المتعلّق بالأقلّ والأكثر {تنجّزه} أي: تنجّز الجزء المشكوك فيه {لو كان متعلّقاً} واقعاً {بالأكثر»} كما هو شأن كلّ انحلال {فاسد} خبر قوله: «وتوهّم»، فإنّ انحلال العلم الإجمالي بهذه الكيفيّة غير تامّ {قطعاً} وذلك {لاستلزام الانحلال المحال} الّذي هو الخلف، إذ وجوب الأقلّ على كلّ تقدير متوقّف على تنجّز التكليف مطلقاً، فلو سبّب وجوب الأقلّ على كلّ تقدير انحلال العلم - الّذي معناه عدم وجوب الأكثر وعدم تنجّز التكليف مطلقاً - لزم عدم وجوب الأقلّ على كلّ تقدير، وهو خلف، إذ صارت النّتيجة أنّ وجوب الأقلّ مطلقاً مستلزم لعدم وجوب الأقلّ مطلقاً.

{بداهة توقّف لزوم الأقلّ فعلاً - إمّا لنفسه} لو كان الأقلّ واجباً واقعاً {أو لغيره -} لو كان الأكثر واجباً واقعاً {على تنجّز التكليف مطلقاً} بأن يكون هذا التكليف المتوجّه إلى التكليف منجّزاً عليه سواء كان متعلّقاً بالأقلّ أو متعلّقاً بالأكثر، وقوله: {ولو كان متعلّقاً بالأكثر} وصليّة مبيّنة لقوله: «مطلقاً».

{فلو كان لزومه} أي: الأقل {كذلك} أي: فعلاً {مستلزماً لعدم تنجّزه} أي: عدم تنجّز التكليف {إلّا إذا كان متعلّقاً بالأقلّ} لغرض الانحلال {كان خلفاً} هذا تقرير للخلف اللّازم على تقدير إجراء البراءة عن الأكثر بسبب الانحلال {مع أنّه} أي: الانحلال {يلزم من وجوده عدمه} وهذا تقرير آخر للخلف الّذي يستلزمه القول بالبراءة {لاستلزامه} أي: الانحلال {عدم تنجّز التكليف على كلّ حال} إذ معنى

ص: 371

المستلزم لعدم لزوم الأقلّ مطلقاً، المستلزم لعدم الانحلال، وما يلزم من وجوده عدمُه محال.

نعم، إنّما ينحلّ إذا كان الأقلّ ذا مصلحة ملزمة؛ فإنّ وجوبه حينئذٍ يكون معلوماً له، وإنّما كان الترديد لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين،

___________________________________________

الانحلال عدم وجوب الأكثر، وعدم وجوب الأكثر ملازم لعدم تنجّز التكليف على كلتا الحالتين، وهما كون التكليف متعلّقاً بالأقلّ وكون التكليف متعلّقاً بالأكثر {المستلزم} ذلك الّذي هو عدم التنجّز على كلّ حال {لعدم لزوم الأقلّ مطلقاً} إذ على تقدير كون التكليف متوجّهاً إلى الأكثر، والأكثر لا يجب بسبب البراءة لم يكن الأقلّ واجباً، إذ الأقلّ إنّما يكون واجباً مطلقاً إذا كان كلّ من الأقلّ والأكثر على تقدير توجّه التكليف إليه متنجّزاً {المستلزم} ذلك الّذي هو عدم لزوم الأقلّ مطلقاً {لعدم الانحلال} إذ الانحلال قوامه وجوب الأقلّ يقيناً والشّكّ في وجوب الأكثر {وما يلزم من وجوده عدمه محال} لا يعقل، فالانحلال الّذي ذكره الشّيخ(رحمة الله)(1) غير تامّ.{نعم، إنّما ينحلّ} العلم الإجمالي إلى يقين تفصيلي وشكّ بدوي {إذا كان الأقلّ} والأكثر غير ارتباطيّين، بأن يكون الأقلّ {ذا مصلحة ملزمة} سواء كان الأكثر واجباً أم لا، كالدين المردّد بين ألف وخمسمائة، وكصلاة القضاء المردّدة بين خمس وأربع {فإنّ وجوبه} أي: الأقلّ {حينئذٍ} أي: حين كان الأقلّ ذا مصلحة مطلقاً {يكون معلوماً له} أي: للمكلّف.

{وإنّما كان الترديد} بين الأقلّ والأكثر {لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين} مصلحة للأقلّ ومصلحة للزائد على الأقلّ، فالصلاتان لهما مصلحتان غير متلازمتين بحيث تنفكّ إحداهما عن الأُخرى، حتّى أنّه لو جاء بصلاة واحدة

ص: 372


1- فرائد الأصول 2: 322.

أو مصلحة أقوى من مصلحة الأقلّ، فالعقل في مثله وإن استقلّ بالبراءة بلا كلام، إلّا أنّه خارج عمّا هو محلّ النّقض والإبرام في المقام، هذا.

مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلّا بالأكثر،

___________________________________________

- والحال أنّ الفائت صلاتان - أحرز مصلحتها فقط، ولو جاء بهما أحرز المصلحتين {أو} يكون الأكثر ذا {مصلحة أقوى من مصلحة الأقلّ} كما أنّه لو أمر بإعطاء شيء إلى الفقير حتّى أنّه لو أعطى ديناراً كفى، ولو أعطى أكثر أحرز المصلحة الأقوى {فالعقل في مثله وإن استقلّ بالبراءة} للانحلال إلى يقين تفصيلي بالنسبة إلى الأقلّ، وشكّ بدويّ بالنسبة إلى الزائد المعبّر عنه بالأكثر {بلا كلام} في ذلك لجريان أدلّة البراءة العقليّة والنّقليّة بالنسبة إلى الأكثر {إلّا أنّه خارج عمّا هو محلّ النّقض والإبرام في المقام} لما عرفت من أنّ الكلام في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين لا الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين.

فتحصّل: أنّ المنصف يرى في الارتباطيّين وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر، خلافاً للشيخ(رحمة الله) الّذي يرى كفاية الإتيان بالأقلّ وإجراء البراءة بالنسبة إلى الزائد.

{هذا} بيان دليل وجوب الاحتياط في الشّكّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {مع أنّ} هنا وجهاً آخر لوجوب الاحتياط، وهو أنّ الشّكّ في المقام من قبيل الشّكّ في المحصّل ممّا يكون مجراه البراءة قطعاً، إذ {الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلّا بالأكثر} فلو أتى المكلّف بالصلاة ذات العشرة أجزاء تيقّن بأنّه أتى بالغرض الّذي دعى المولى إلى الأمر، ولو أتى بالأقلّ وهو تسعة أجزاء لم يتيقّن بأنّه حصل الغرض، وحيث أنّ تحصيل الغرض واجب لزم الإتيان بالأكثر.

وإن شئت قلت: إنّ الدليل مركّب من مقدّمتين: الأُولى أنّ الأمر ناشئ عن الغرض، الثّانية أنّ الغرض واجب التحصيل، تنتج لزوم العلم بتحصيل الغرض، ولا يعلم بذلك إلّا بإتيان الأكثر.

ص: 373

بناءً على ما ذهب إليه المشهور من العدليّة، من تبعيّة الأوامر والنّواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها، وكون الواجبات الشّرعيّة ألطافاً في الواجبات العقليّة،

___________________________________________

أمّا المقدّمة الأُولى ف- {بناءً على ما ذهب إليه المشهور من العدليّة} وهم القائلون بعدل اللّه - سبحانه - في التكوين والتشريع الّذين هم الشّيعة والمعتزلة مقابل من لا يقول بذلك وهم الأشاعرة {من تبعيّة الأوامر والنّواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها} حتّى أنّ كلّ أمر تابع لمصلحة ملزمة وكلّ نهي تابع لمفسدة ملزمة {وكون الواجبات الشّرعيّة ألطافاً في الواجبات العقليّة} لفظة «في» بمعنى النّسبة، أي: أنّ الواجبات الشّرعيّة ألطاف بالنسبة إلى الواجبات العقليّة، إذ المصالح والمفاسد الواقعيّة ممّا يلزم العقل بانتهاجها فيأتي بالصالح ويترك الفاسد، لكن العقل لمّا لم يدرك مواقع تلك المصالح والمفاسد وعيّنها الشّرع يكون هذا التعيين من الشّرع لطفاً، أي: مقرّباً للمصلحة ومبعّداً عن المفسدة العقليّتين. وقوله: «وكون» عطف على قوله: «تبعيّة».

والحاصل: أنّ الأوامر والنّواهي تابعة للمصالح والمفاسد، وأنّ الواجب الشّرعي لطف في الواجب العقلي، وعلى هذا ففي الأمر مصلحة ولا يعلم بإتيانها إلّا بإتيان الأكثر في ما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر.

ثمّ إنّه يدلّ على كون الأوامر والنّواهي تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة جملة من الآيات والأخبار كقوله - تعالى - : {يَضَعُ عَنۡهُمۡإِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ}(1)، ممّا يدلّ على أنّ الشّريعة إنّما هي لتحرير البشر من الآثام والأغلال الاجتماعيّة ونحوها، وقوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ}(2)، وقوله تعالى: {وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ}(3)، وقوله:

ص: 374


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة العنكبوت، الآية: 45.
3- سورة البقرة، الآية: 179.

وقد مرّ(1) اعتبار موافقة الغرض وحصولهِ عقلاً في إطاعة الأمر وسقوطه، فلا بدّ من إحرازه في إحرازها، كما لا يخفى.

___________________________________________

{وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّٰلِمِينَ}(2)، إلى غير ذلك ممّا يتعرّض له في علم الكلام.

{و} أمّا المقدّمة الثّانية فلما {قد مرّ} سابقاً من {اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً في إطاعة الأمر وسقوطه} فإنّ العقلاء يلومون العبد التارك للغرض وإن أتى بالمأمور به، فلو أمر المولى عبده أن يسدّ باب البيت وعلمنا أنّ غرضه عدم ضياع ولده، ثمّ أطاع العبد بسدّ الباب لكن الولد ألقى بنفسه من السّطح في الشّارع ممّا يسبّب ضياعه فأهمله العبد، كان ملوماً عند العقلاء إذا لم ينقذه من الضّياع، وإن اعتذر بأنّه أطاع الأمر وأنّ المولى لم يقل له أكثر من ذلك. وقد مرّ تفصيل الكلام في ذلك فراجع {فلا بدّ من إحرازه} أي: إحراز الإتيان بالغرض {في إحرازها} أي: إحراز الإطاعة {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل. ومن المعلوم أنّه ما لم يأت بالأكثر لا يحرز الإتيان بالغرض.

هذا وقد أجاب الشّيخ(رحمة الله) عن الاستدلال لوجوب الأكثر بدليل لزوم الغرض بوجهين:

الأوّل: أنّ الكلام في هذه المسألة مع الغضّ عن مسألة تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد. والّذي يدلّ على ذلك أنّ النّزاع في هذه المسألة لا يختصّ بمذهب العدليّة، بل يجري حتّى على مذهب الأشاعرة المنكرين للمصالح والمفاسد العقليّة.

الثّاني: أنّ الغرض إنّما يجب تحصيله إذا تمكّن المكلّف من ذلك قطعاً،

ص: 375


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 418.
2- سورة الزخرف، الآية:76.

ولا وجه للتفصّي عنه:

تارة: بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدليّة، وجريانها على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرون لذلك، أو بعض العدليّة(1)

المكتفون بكون المصلحة في نفس الأمر دون المأمور به.

___________________________________________

والحال أنّ المقام لا يمكن تحصيل الغرض فيه، لاحتمال أن يكون الجزء - مثلاً - غير مأمور به، فلا يمكن من قصد الجزئيّة فيه - ومن المحتمل اعتبار قصد الجزئيّة - في باب العبادات. وعليه فيسقط حكم العقل بوجوب الجزم بحصول الغرض، فهم العقل حينئذٍ الأمن من العقاب، وهو يحصل بالإتيان بالمتيقّن الّذي هو الأقلّ للأمن من الأكثر، إذ هو مجرى البراءة، كما عرفت.

هذا حاصل ما ذكره الشّيخ في الجواب عن إشكال لزوم تحصيل الغرض.

وإليهما أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {ولا وجه للتفصّي عنه} أي: عن الاستدلال للأكثر بلزوم تحصيل الغرض {تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة} عن الأكثر {والاحتياط} بالإتيان به {على ما ذهب إليه مشهور العدليّة} من كون الأوامر والنّواهي تابعة للمصالح والمفاسد {وجريانها} أي: مسألة البراءة والاحتياط {على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرون لذلك} القول، فإنّهم يقولون أنّ الأحكام تابعة لإرادة اللّه - تعالى - وإن لم تكن فيها مصالح بل كان فيها المفاسد، فمن الممكن أن يحرم اللّه الزكاة، ويبيح الرّبا، أو يحرم الصّلاة، ويبيح الزنا، وهكذا {أو بعض العدليّة المكتفون بكون المصلحة في نفس الأمر} والنّهي {دون المأمور به} والمنهي عنه فكما يصحّ أن يأمر اللّه بالصلاة لمصلحة فيها بذاتها كذلك يمكن أن يأمر بفعل لا مصلحة ذاتيّة فيه، وإنّما يأمر حتّى يتبيّن المطيع والعاصي فيرتفع بذلك مقام الأوّل كالأوامر الامتحانيّة الّتي لا مصلحة في نفسها، وإنّما

ص: 376


1- الفصول الغرويّة: 337.

وأُخرى: بأنّ حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلّا بإتيانها على وجه الامتثال، وحينئذٍ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلاً - ليؤتى بها مع قصد الوجه - مجال، ومعه لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الأمر، فلم يبقَ

___________________________________________

المصلحة في الأمر بها كقصّة ذبح إبراهيم(علیه السلام) لولده إسماعيل، ودليل هؤلاء أنّ ما دلّ عليه العدل أنّ اللّه - سبحانه - لا يفعل عبثاً، وهذا المقدار كاف في إخراج الأمر والنّهي عن العبث.

{وأُخرى} هذا ثاني الوجهين اللّذين تفصّى الشّيخ(رحمة الله) بهما عن إشكال الغرض {بأنّ حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلّا بإتيانها على وجه الامتثال} بخلاف غير العبادات الّتي لا تحتاج إلّا إلى وجودها في الخارج، فلو أوقع الرّيح الشّيء النّجس في كرّ من الماء طهر وإن لم ينو المكلّف ذلك ولم يصدق امتثال {وحينئذٍ} أي: حين اعتبار الامتثال في العبادة {كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها} أي: أجزاء العبادة {تفصيلاً ليؤتى بها مع قصد الوجه مجال} بل ذهب إلى ذلك جمع، كما لا يخفى.

{ومعه} أي: مع هذا الاحتمال {لا يكاد يقطع} الآتي بالأكثر {بحصول اللطف} أي: كون هذا الإتيان بالمأمور به - الأكثر - مقرّباً إلى ما فيه المصلحة العقليّة الواقعيّة {و} بحصول {المصلحة الداعية إلى الأمر} فالمكلّف سواء أتى بالأقلّ أو أتى بالأكثر لم يعلم بحصول الغرض، إذ مع إتيان الأقلّ يحتمل عدم كفايته لوجوب الأكثر واقعاً وكون المصلحة في الأكثر دون الأقلّ، ومع إتيان الأكثر يحتمل لزوم قصد الوجه في تحصيل الغرض ولا يتمكّن من قصد الوجه؛ لأنّه لا يقطع بكون هذا الجزء المشكوك كجلسة الاستراحة جزءاً حتّى ينوي جزئيّته، فلا يقطع بحصول الغرض أيضاً {فلم يبق} لدى المكلّف الشّاكّ بين

ص: 377

إلّا التخلّص عن تبعة مخالفته، بإتيان ما علم تعلّقه به، فإنّه واجب عقلاً وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأساً؛ لتنجّزه بالعلم به إجمالاً. وأمّا الزائد عليه - لو كان - فلا تبعة على مخالفته من جهته؛ فإنّ العقوبة عليه بلا بيان.

وذلك ضرورة أنّ حكم العقل بالبراءة - على مذهب الأشعري - لا يُجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدليّة،

___________________________________________

الأقلّ والأكثر {إلّا التخلّص عن تبعة مخالفته} أي: مخالفة التكليف {بإتيان ما علم تعلّقه} أي: تعلّق الأمر {به} الضّمير راجع إلى «ما علم» {فإنّه واجب عقلاً} فإنّ العقل يحكم بلزوم الإتيان بالأقلّ، لأنّه واجب على كلّ تقدير {وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأساً} لكون المصلحة في الأكثر الّذي لم يأت به.

وإنّما قلنا بلزوم الإتيان بالأقلّ {لتنجّزه بالعلم به إجمالاً} لأنّ الأجزاء التسعة - مثلاً - واجبة قطعاً إمّا بنفسها وإمّا في ضمن عشرة أجزاء الّتي منها جلسة الاستراحة كما في المثال {وأمّا الزائد عليه} أي: على الأقلّ، وهو الجزء العاشر المشكوك فيه {لو كان} في الواقع جزءاً {فلا تبعة على مخالفته} أي: مخالفة الأمر المتعلّق به واقعاً {من جهته} أي: من جهة الجزء الزائد المشكوك فيه {فإنّ العقوبة عليه بلا بيان} لفرض الشّكّ فيه الّذي يكون مجرى للبراءة العقليّة والشّرعيّة.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّه لا وجه للتفصّي بالوجهين اللّذين ذكرهما الشّيخ(رحمة الله) ل- {ضرورة} أنّ التفصّي الأوّل القائل بأنّ الكلام حول البراءة والاحتياط مع الغضّ عن حيثيّة الغرض غير مُجدٍ، ف- {إنّ حكم العقل بالبراءة} في صورة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {على مذهب الأشعري} النّافي للغرض في الأوامر والنّواهي {لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدليّة} من تبعيّة الأحكام للأغراض والمصالح، فإنّ الكلام الآن مع من يذهب

ص: 378

بل مَن ذهب إلى ما عليه غير المشهور؛ لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر ومصلحتهُ - على هذا المذهب أيضاً - هو ما في الواجبات من المصلحة وكونِها ألطافاً، فافهم.

___________________________________________

إلى ذلك وهل أنّه يجوز له إجراء البراءة أم لا بدّ من الاحتياط؟ والحاصل أنّ الفقهاء الّذين يريدون أن يفتوا لا بدّ لهم من القول بالاحتياط؛ لأنّهم قائلون بتبعيّة الأحكام للأغراض والمصالح.

نعم، للأشعري أن يفتي بالبراءة لكن ذلك لا يرتبط بنا نحن العدليّة.

{بل} نقول: يجب الاحتياط حتّى على قول غير المشهور من العدليّة الّذين يجوّزون أن تكون المصلحة في نفس الأمر والنّهي بدون أن تكون في متعلّقهما، إذ هذا القائل إنّما يقول باحتمال كون المصلحة في الأمر، وفي عين الحال يحتمل كونها في المأمور به، فإذا أتى بالأكثر قطع بأنّه أتى بالمصلحة المحتملة وحصل الغرض - على تقدير وجوده - أمّا إذا أتى بالأقلّ يحتمل أن لا يكون آتياً بالمأمور به لاحتمال وجود المصلحة في الأكثر، فإذا شكّ في الامتثال كان الموضع مجرى للاحتياط، وذلك مثل ما لو أمر المولى عبده بإتيان الماء فاحتمل أنّه يريد الماء الحلو للشرب والماء المطلق لسقي أرضه، فإنّه لا بدّ وأن يأتي بالماء الحلو تحصيلاً للامتثال.

وبهذا تحقّق أنّ {من ذهب إلى ما عليه غير المشهور} من العدليّة فقال بصحّة كون المصلحة في نفس الأمر لا يجديه قوله هذا في الاكتفاء بالأقلّ عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر ومصلحته} أي: مصلحة الأمر {على هذا المذهب أيضاً} كمذهب المشهور {هو ما في الواجبات من المصلحة وكونها} أي: الواجبات الشّرعيّة {ألطافاً} بالنسبة إلى الواجبات العقليّة، فإذا جاز أن تكون المصلحة في المأمور به لم يجز الاكتفاء بالأقلّ {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مجرّد الاحتمال لا يكفي في لزوم الإتيان بالأكثر؛

ص: 379

وحصول اللطف والمصلحة في العبادة وإن كان يتوقّف على الإتيان بها على وجه الامتثال، إلّا أنّه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الأجزاء وإتيانها على وجهها، كيف؟ ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا، كما في المتباينين، و

___________________________________________

لأنّ الشّكّ حينئذٍ في الاشتغال لا في الامتثال، إذ الشّكّ الشّخصي في أنّ للمولى غرضاً في المأمور به، فالمجرى البراءة لا الاحتياط.

{و} أمّا تفصّي الشّيخ(رحمة الله) عن الإشكال بالوجه الثّاني القائل باعتبار قصد الوجه على ما مرّ تفصيله، ففيه أنّا وإن كنّا من القائلين باعتبار قصد الوجه فإنّما ذلك بمعنى الإتيان بالعبادة الواجبة بقصد وجوبها في الجملة، ولا يعتبر الإتيان بكلّ جزء جزء بقصد الوجوب العرضي الغيري، فإنّه لم يقل أحد بذلك، ولذا تراهم لا يشكّون في جواز الإتيان بالأكثر في ما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين حتّى على القول بلزوم قصد الوجه، وليس ذلك إلّا لأنّه لا تنافي بين قصد الوجه وبين عدم العلم بكون الجزء المشكوك فيه - كجلسة الاستراحة مثلاً - واجباً أم ندباً، فإنّ {حصول اللطف} وكون هذا المأتي به سبباً للإتيان بالتكليف العقلي الّذي فيه المصلحة.

{و} حصول {المصلحة في العبادة وإن كان يتوقّف على الإتيان بها} أي: بتلك العبادة {على وجه الامتثال} ونيّة الوجه {إلّا أنّه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الأجزاء وإتيانها على وجهها} بأن يأتي بكلّ جزء جزء بقصد وجوبه أو بدونه وعليه فمن الممكن الإتيان بالأكثر بدون أيّ تزلزل بسبب قصد الوجه المعتبر عند بعض، فيقطع المكلّف باللطف والمصلحة.

و{كيف} يحتمل اعتبار قصد كلّ جزء جزء {و} الحال أنّه {لا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا} أي: في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {كما} يمكن الاحتياط {في المتباينين} عبادة كانا أم غير عبادة {و} لو اعتبر قصد كلّ جزء جزء

ص: 380

لا يكاد يمكن مع اعتباره، هذا.

مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك. والمراد ب- «الوجه» - في كلام من صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به - هو وجه نفسه من وجوبه النّفسي، لا وجهُ أجزائه من وجوبها الغيري، أو وجوبها العرضي. وإتيانُ الواجب مقترناً بوجهه - غايةً ووصفاً - بإتيان الأكثر بمكان من الإمكان؛ لانطباق الواجب عليه ولو كان هو الأقلّ، فيتأتّى من المكلّف معه قصدُ الوجه.

___________________________________________

{لا يكاد يمكن} الاحتياط {مع اعتباره} أي: اعتبار الوجه بالمعنى الّذي ذكره الشّيخ(رحمة الله) من لزوم معرفة كلّ جزء جزء.{هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك} بأن ينوي الوجوب والنّدب في كلّ جزء جزء، إذ لا دليل على ذلك إطلاقاً لا عقلاً ولا نقلاً {والمراد ب- «الوجه» في كلام من صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه} أي: الواجب {به} أي: بقصد الوجه {هو وجه نفسه} أي: وجه نفس الواجب، بمعنى أن يأتي المكلّف بالواجب بقصد أنّه واجب، كأن يأتي بالصلاة بقصد وجوبها {من وجوبه النّفسي} الّذي هو وصف الواجب في الجملة {لا} أنّ المراد {وجه أجزائه} بأن يلزم قصد وجه كلّ جزء جزء من الواجب {من وجوبها} أي: وجوب تلك الأجزاء {الغيري أو وجوبها العرضي} فلا يعتبر ذلك قطعاً.

{و} من المعلوم أنّ {إتيان الواجب مقترناً بوجهه} في حال كون الوجه {غاية ووصفاً} بأن ينوي آتي بالصلاة لوجوبها أو آتي بالصلاة الواجبة {بإتيان الأكثر} المشتمل على جلسة الاستراحة - مثلاً - {بمكان من الإمكان} وذلك {لانطباق الواجب} المحتم على المكلّف {عليه ولو كان} ذلك الواجب {هو الأقل} «لو» وصليّة {فيتأتّى من المكلّف معه} أي: مع هذا النّحو من الإتيان {قصد الوجه} كما لا يخفى.

ص: 381

واحتمال اشتماله على ما ليس من أجزائه ليس بضائر، إذا قصد وجوب المأتي على إجماله، بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه،

___________________________________________

{و} إن قلت: كيف يمكن إتيان الأكثر بقصد الوجوب مع احتمال اشتماله على ما ليس بواجب وليس من أجزائه، فإنّ جلسة الاستراحة - مثلاً - يحتمل أن لا تكون جزءاً، فكيف يمكن أن يؤتى بالصلاة المشتملة عليها بقصد الوجوب؟

قلت: {احتمال اشتماله} أي: الأكثر {على ما ليس من أجزائه} كجلسة الاستراحة {ليس بضائر إذا قصد وجوب المأتي على إجماله} بأن نوى أنّه يأتي بالصلاة الواجبة - إجمالاً - حتّى يمكن انطباقه على كلّ من الأكثر والأقل، بأنّه لم يعيّن أنّه يأتي بالصلاة الّتي أجزائها الواجبة عشرة - مثلاً - حتّى يضرّ هذا القصد في ما لو كان الأقلّ واجباً واقعاً، فيأتي بالصلاة الواجبة في الجملة {بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه} «من» بيان ل- «ما»، وذلك لأنّ الشّيء المحتمل على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون جزءاً واجباً أو مندوباً، كالسورة الّتي هي جزء قطعاً لكنّها مردّدة بين الوجوب والاستحباب.

الثّاني: احتمال أن يكون جزءاً أو مقارناً من غير مدخليّة له في الصّلاة أصلاً، كما لو احتملنا في جلسة الاستراحة ذلك، بأن دار أمرها بين الجزئيّة وبين أن تكون خصوصيّة فرديّة لا ترتبط بالصلاة إطلاقاً، مثل كون الصّلاة في الغرفة الّتي هي من الخصوصيّات الفرديّة الّتي لا ترتبط بالصلاة.

الثّالث: احتمال أن يكون جزءاً أو مانعاً، كالتسبيحتين الزائدتين على الواحدة في حال ضيق الوقت، ممّا يحتمل أن يكون محرّماً لأجل إيجابه تفويت الوقت ووقوع بعض الصّلاة خارج الوقت - مثلاً - .

ومن المعلوم أنّ في غير القسم الثّالث المردّد بين الجزئيّة والمانعيّة لا يضرّ

ص: 382

لاسيّما إذا دار الزائد بين كونه جزءاً لماهيّته وجزءاً لفرده؛ حيث ينطبق الواجب على المأتيّ حينئذٍ بتمامه وكماله؛ لأنّ الطّبيعي يصدق على الفرد بمشخّصاته.

___________________________________________

إتيان ذلك المحتمل بقصد الوجوب الإجمالي {لاسيّما إذا دار} الجزء {الزائد بين كونه جزءاً لماهيّته و} بين كونه {جزءاً لفرده} جزء الماهيّة هو الّذي ينتفي الماهيّة بانتفائه، وجزء الفرد هو الّذي ينتفي الفرد بانتفائه وإن بقيت الماهيّة، وذلك يتصوّر في الماهيّات الّتي تنطبق على الكثير بعين انطباقها على القليل. فمثلاً: لو قال: (تصدّق) فإنّ الصّدقة ماهيّة تنطبق على الدرهم الواحد بعين انطباقها على عشرة دراهم، فلو أعطى تسعة دراهم - بنقص واحد من عشرة - كان آتياً بالماهيّة وإن لم يكن آتياً بأحد أفرادها - فالدرهم العاشر في المثال جزء للفرد وليس جزءاً للماهيّة - وذلك بخلاف ما لو قال: (تصدّق بدينار) فإنّه لو أعطى تسعة دراهم كانت الماهيّة منتفية، إذ الدينار عشرة دراهم، فإذا دار بين أن يكون هذا الجزء المشكوك جزئيّته - كالدرهم العاشر في المثال - جزءاً للماهيّة بأن كان الأمر متوجّهاً إلى التصدّق بالدينار، أو جزءاً للفرد بأن كان الأمر متوجّهاً إلى التصدّق مطلقاً، أمكن للمكلّف أن يعطي عشرة دراهم بقصد الوجوب إجمالاً، وإن لم يعلم أنّ الدرهم العاشر هل هو جزء للماهيّة أم جزء للفرد.{حيث ينطبق الواجب على المأتي} به {حينئذٍ} أي: حين دار الزائد بين كونه جزءاً للماهيّة وبين كونه جزءاً للفرد {بتمامه وكماله} فإنّ الأجزاء العشرة في المثال كلّها مصداق للصدقة الواجبة {لأنّ الطّبيعي يصدق على الفرد بمشخّصاته} الفرديّة.

وإنّما قال المصنّف: «لاسيّما» لأنّ الجزء الزائد لو لم يدر بين كونه جزءاً للماهيّة أو جزءاً للوجود، بل دار بين كونه جزءاً أو مقارناً أمكن التطبيق، لكن لو كان الزائد مقارناً - في الواقع - لم ينطبق الواجب على المأتي به بكماله وتمامه.

ص: 383

نعم، لو دار بين كونه جزءاً ومقارناً، لما كان منطبقاً عليه بتمامه لو لم يكن جزءاً. لكنّه غير ضائر؛ لانطباقه عليه أيضاً في ما لم يكن ذاك الزائد جزءاً، غايته لا بتمامه بل بسائر أجزائه، هذا.

مضافاً إلى أنّ اعتبار قصد الوجه من رأس ممّا يقطع بخلافه.

___________________________________________

وإليه أشار بقوله: {نعم، لو دار} الزائد {بين كونه جزءاً و} بين كونه {مقارناً لما كان} المأتي به {منطبقاً عليه بتمامه} وكماله {لو لم يكن جزءاً} بل كان مقارناً ومن خصوصيّات الوجود والفرد، إذ هذا الزائد ليس داخلاً حينئذٍ في الواجب إطلاقاً {لكنّه} أي: لكن عدم الانطباق حينئذٍ {غير ضائر} بالانطباق الإجمالي {لانطباقه} أي: الواجب {عليه} أي: على هذا المأتي به المشتمل على الجزء الزائد الخارج عن الحقيقة {أيضاً} كما كان ينطبق على الواجب المردّد جزؤه بين كونه جزءاً للماهيّة أو جزءاً للفرد {في ما لم يكن ذاك الزائد جزءاً} لا للفرد ولا للماهيّة {غايته} أي: غاية الأمر - ومرجع الضّمير مفهوم من الكلام - يكون انطباق الواجب على المأتي به {لا بتمامه} حتّى يشمل هذا الزائد أيضاً {بل} الانطباق يكون {ب-} سبب {سائر أجزائه} كالأجزاء التسعة في ما لو لم تكن جلسة الاستراحة جزءاً إطلاقاً.

{هذا} هو الجواب عن الدليل الثّاني للشيخ(رحمة الله) القائل بكفاية الإتيان بالأقلّ في صورة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {مضافاً إلى أنّ} دليله كان متوقّفاً على اعتبار قصد الوجه في العبادة، فيرد عليه:

أوّلاً: بأنّ {اعتبار قصد الوجه من رأس} أي: مطلقاً {ممّا يقطع بخلافه} إذ لم يدلّ على ذلك دليل شرعيّ ولا عقليّ، بل عدم الدليل دليل على العدم، إذ لو كان قصد الوجه معتبراً لكان اللّازم التنبيه عليه، حيث إنّه ممّا يغفل عنه العامّة، كما لايخفى.

ص: 384

مع أنّ الكلام في هذه المسألة لا يختصّ بما لا بدّ أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات.

مع أنّه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردّد والاحتمال، فلا وجه معه للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلاً، ولو بإتيان الأقلّ لو لم يحصل الغرض،

___________________________________________

{مع} أنّه يرد عليه ثانياً: {أنّ الكلام في هذه المسألة} أي: مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {لا يختصّ بما لا بدّ أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات} بل هو جار في كلّ أقلّ وأكثر ارتباطيّ، وإن لم يكن عبادة، بل كان من التوصليّات الّتي لا يعتبر فيها قصد أصلاً، فكيف بقصد الوجه؟

ودليل الشّيخ(رحمة الله) على تقدير تماميّته لا يتمّ فيها {مع} أنّه يرد على الشّيخ(رحمة الله) ثالثاً: بأنّه لو قلتم بلزوم قصد الوجه - بمعنى قصد كلّ جزء جزء على وجهه في العبادة - : كان اللّازم في مورد الشّكّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين عدم إمكان الإتيان بالعبادة مطلقاً، إذ سواء أتى بالأكثر أو بالأقلّ لم تصحّ العبادة، فإنّه مع الإتيان بالأقلّ كان محتملاً لعدم الإتيان بالتكليف لاحتمال عدم حصول الغرض، ومع الإتيان بالأكثر لم يتمكّن من قصد الوجه في الجزء الزائد؛ لأنّه لا يعلم بكونه جزءاً؛ لأنّه مردّد كما هو المفروض، ف- {إنّه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال} أي: في باب الامتثال {فيها} أي: في العبادات {على وجه ينافيه التردّد والاحتمال} حتّى لا يمكن قصد الوجه مع التردّد.

{فلا وجه معه} أي: مع التردّد والاحتمال في جزئيّة شيء كجلسة الاستراحة - مثلاً - {للزوم مراعاة الأمر المعلوم} أي: لا يجب الإتيان بالتكليف المتيقّن المعلوم، كالأجزاء التسعة المعلومةفي الصّلاة مثلاً {أصلاً} فيسقط التكليف عن الشّخص بمجرّد الشّكّ في جزء وإن علم بقيّة الأجزاء فلا يجب الامتثال {ولو بإتيان الأقلّ لو لم يحصل الغرض} إذ الآمر إنّما أمر للوصول إلى غرضه، فإذا لم

ص: 385

وللزم الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله، ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال؛ لاحتمال بقائه مع الأقلّ بسبب بقاء غرضه، فافهم.

هذا بحسب حكم العقل.

وأمّا النّقل:

___________________________________________

يف الأقلّ بالغرض كان ملاك الأمر باقياً، فإذا لم يسقط الأمر - عند الإتيان بالأوّل - لبقاء غرض الآمر لا تكفي موافقة الأمر بإتيان الأقلّ {وللزم الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله} أي: حصول الغرض {ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال} بالتكليف {لاحتمال بقائه} أي: الاشتغال {مع} إتيان {الأقلّ بسبب بقاء غرضه}.

وإن شئت قلت: إنّه لو اعتبر في العبادة قصد الوجه بمعنى وجوب قصد كلّ جزء جزء على ما هو عليه من الوجوب وعدمه، بحيث ينافي معه التردّد لم يتمكّن المكلّف امتثال ما دار أمره بين الأقلّ والأكثر، إذ الأقلّ لا يكون محصّلاً للغرض على ما تقدّم، والأكثر لا يمكن إتيانه لعدم العلم بجزئيّة الزائد المشكوك على ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مع الإتيان بالأقلّ لا يقطع بعدم حصول الغرض بل يشكّ فيه، ولا دليل على وجوب الإتيان بأزيد من التكليف المعلوم إذا شكّ في حصول الغرض. ألا ترى أنّه لا يعلم بحصول الغرض في ما لو اجتنب المكلّف عن الأفراد المعلومة للخمر دون المشكوكة ممّا تجري فيها البراءة، لكونها شبهات بدويّة وإن جهل حصول الغرض من الاجتناب عن تلك الأفراد المعلومة، لعدم القطع بكون المشكوكة ليست خمراً.

{هذا} كلّه حكم دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {بحسب حكم العقل} وقد عرفت أنّ الشّيخ يرى جواز الاكتفاء بالأقلّ، والمصنّف يوجب الإتيان بالأكثر.

{وأمّا} حكم {النّقل} وأنّه هل تجري البراءة بالنسبة إلى الجزء الزائد

ص: 386

فالظاهر أنّ عموم مثل حديث الرّفع قاضٍ برفع جزئيّة ما شكّ في جزئيّته، فبمثله يرتفع الإجمال والتردّد عمّا تردّد أمره بين الأقلّ والأكثر، ويعيّنه في الأوّل.

لا يقال:

___________________________________________

المشكوك أم هو مجرى الاحتياط؟ لكن لا يخفى أنّ هذا الاختلاف إنّما يصحّ على تقدير صحّة جريان النّقل في المقام، فقد ذكر المصنّف(رحمة الله) في تعليقته: «لكنّه لا يخفى أنّه لا مجال للنقل في ما هو مورد حكم العقل بالاحتياط، وهو ما إذا علم إجمالاً بالتكليف الفعلي الأمر الواقعي وهو واضح البطلان»(1)،

{فالظاهر أنّ عموم مثل حديث الرّفع قاض برفع جزئيّة ما شكّ في جزئيّته} فإذا شككنا في أنّه هل جلسة الاستراحة جزء أم لا كان مقتضى «رفع ما لا يعلمون»(2)

عدم جزئيّته {فبمثله} - أي: بمثل حديث الرّفع - نحو «ما حجب اللّه علمه عن العباد»(3)،

وشبهه {يرتفع الإجمال والتردّد عمّا تردّد أمره بين الأقلّ والأكثر} سواء كان في العبادة أو في غيرها {وبعينه} عطف على «يرتفع»، أي: يعيّن حديث الرّفع الشّيء المردّد فيه {في الأوّل} أي: في الأقلّ، ومرجع الضّمير البارز في «يعيّنه» هو «ما» في قوله: «عمّا».

{لا يقال}: لا يتمكّن حديث الرّفع من رفع الجزئيّة المشكوكة، فلو شكّ في أنّ السّورة - مثلاً - جزء من الصّلاة أم لا، لا يتمكّن رفع جزئيّتها بحديث الرّفع، وذلك لأنّ الرّفع إنّما يمكن بالنسبة إلى ما يكون وضعه بيد الشّارع، والجزئيّة ليست بيد الشّارع، وإذ لا يمكن وضعها لا يمكن رفعها.

ص: 387


1- حقائق الأصول 2: 326.
2- الخصال 2: 417.
3- التوحيد: 413.

إنّ جزئيّة السّورة المجهولة - مثلاً - ليست بمجعولة، وليس لها أثر مجعول، والمرفوع بحديث الرّفع إنّما هو المجعول بنفسه أو أثره. و

___________________________________________

بيان ذلك: أنّ المراد من الجزء إمّا الجزء الواقعي الّذي له دخل في المصلحة الواقعيّة - كدخل الخلّ في السّكنجبين - حتّى أنّه لو لم يؤت به لم تأت المصلحة الواقعيّة، ومن المعلوم أنّ هذا تابع للواقع، فإن كان الجزء دخيلاً في المصلحة لم يرتفع هذا الدخل بحديث الرّفع، فيكون حاله كحال الخلّ في المثال ممّا هو أمر تكوينيّ لا دخل له في عالم التشريع، وليس وضعه ورفعه بيد الشّارع، وأمّا الجزء المأمور به الّذي هو الصّلاة مثلاً، فهذا تابع للجعل، وأنّ الشّارع هل أمر بمركّب تكون السّورة جزءاً منه أم بمركّب ليست السّورة جزءاً منه، فتكون الجزئيّة أمراً انتزاعيّاً لا مجعولة حتّى يكون رفعها بيد الشّارع، وعلى كلا التقديرين سواء كانت السّورة جزءاً واقعيّاً أو انتزاعيّاً، ف- {إنّ جزئيّة السّورة} للصلاة {المجهولة - مثلاً - ليست بمجعولة} حتّى يمكن رفعها بحديث الرّفع {وليس لها أثر مجعول} إذ الجعل يتناول شيئين:

الأوّل: ما يكون هو بنفسه قابلاً للجعل كالوجوب والحرمة بالنسبة إلى الأُمور.

الثّاني: ما لا يكون هو بنفسه مجعولاً ولكنّه كان ذا أثر قابل للجعل، كما لو كان من أثر جزئيّة الخلّ للسكنجبين - مثلاً - وجوب البرّ بالنذر في ما لو نذر إعطاء درهم للفقير إن كان الخلّ جزءاً، فإنّ الخلّ ليس بالجعل وإنّما أثره بالجعل.

وإذ قد ظهر أنّ الجزئيّة ليست مجعولة ولا لها أثر مجعول فلا تشملها أدلّة البراءة - حتّى إذا شكّ فيها ترفع بحديث الرّفع ونحوه - {و} ذلك لأنّ {المرفوع بحديث الرّفع إنّما هو المجعول بنفسه} كالحرمة والوجوب {أو} المجعول {أثره} كما لو رتّب أثر شرعيّ على شيء واقعي.

{و} إن قلت: لا نسلّم عدم الأثر الشّرعي للجزئيّة، فإنّ لجزئيّة السّورة المشكوكة

ص: 388

وجوب الإعادة إنّما هو أثر بقاء الأمر الأوّل بعد العلم، مع أنّه عقليّ، وليس إلّا من باب وجوب الإطاعة عقلاً.

لأنّه يقال: إنّ الجزئيّة وإن كانت غير مجعولة بنفسها، إلّا أنّها مجعولة بمنشأ انتزاعها، وهذا كافٍ في صحّة رفعها.

___________________________________________

أثراً شرعيّاً، وهو وجوب الإعادة في ما لو أتى بالصلاة بدونها جهلاً منه بوجوبها ثمّ علم بها، ومن المعلوم أنّ وجوب الإعادة أثر شرعيّ فيصحّ جعلها ويصحّ رفعها.

قلت: {وجوب الإعادة} ليس من آثار جزئيّة السّورة، بل {إنّما هو أثر بقاء الأمر الأوّل بعد العلم} بكون السّورة جزءاً {مع أنّه} أي: وجوب الإعادة أمر {عقليّ} لا شرعيّ {وليس إلّا من باب وجوب الإطاعة عقلاً} فوجوب الإعادة معناه وجوب إطاعة الأمر بإتيان المأمور به تامّاً - بعد ما فعله ناقصاً - وهذا أثر عقليّ لبقاء الأمر.

والحاصل: أنّه حيث لم يأت بالمكلّف به - إذ الإتيان النّاقص كعدم الإتيان - يلزمه العقل بإتيانه، فهذا أمر عقليّ لا أثر شرعيّ من آثار الجزئيّة.

وعلى هذا فلا يمكن رفع الجزء المشكوك بحديث الرّفع ونحوه.

{لأنّه يقال}: نسلّم أنّ الجزئيّة ليست مجعولة بنفسها ولا لها أثر شرعي، لكن لها جعل تبعي؛ لأنّها أمر انتزاعي ومنشأ انتزاعها بيد الشّارع، إذ للشارع أن يصبّ أمره على مركّب من أجزاء عشرة حتّى ينتزع من كلّ جزء الجزئيّة وأن يصبّ أمراً على مركّب من أجزاء تسعة حتّى لا ينتزع من الشّيء العاشر الجزئيّة، وإذ كانت الجزئيّة أمراً انتزاعيّاً وكان منشأ انتزاعها بيد الشّارع كانت قابلة للرفع والوضع، فإذا شكّ في ما صحّ التمسّك بأدلّة الرّفع لرفعها.

والحاصل: {إنّ الجزئيّة وإن كانت غير مجعولة بنفسها إلّا أنّها مجعولة بمنشأ انتزاعها، وهذا} القدر {كافٍ في صحّة رفعها} فإذا صحّ رفعها شملتها أدلّة البراءة.

ص: 389

لا يقال: إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه، وهو الأمر الأوّل، ولا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه.

لأنّه يقال:

___________________________________________

{لا يقال}: نسلّم أنّ الأمر الانتزاعي يمكن ارتفاعه برفع منشأ انتزاعه، لكن هذه الكليّة لا تنطبق على مقامنا، إذ الجزئيّة منشأ انتزاعها الأمر، فرفع الجزئيّة إنّما يمكن برفع الأمر المتوجّه إلى الصّلاة، فتبقى الصّلاة بدون أمر، وهذا ما لا تقولون به.

وإن شئت قلت: إنّ الأمر المتوجّه إلى الصّلاة إن كان منصبّاً على الصّلاة مع السّورة - في الواقع - كان معنى رفعه عدم وجوب الصّلاة إطلاقاً، وإن كان منصبّاً على الصّلاة بدون السّورة لم يكن محلّ لحديث الرّفع، فلا يمكن التمسّك بحديث الرّفع إطلاقاً، فإنّه {إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه} كما ذكرتم {و} منشأ انتزاع الجزئيّة في المقام {هو الأمر الأوّل} المتوجّه إلى الصّلاة مع السّورة - أي: الأكثر، لا الأقلّ - {و} إذا قلتم بارتفاع هذا الأمر بسبب حديث الرّفع بقيت الصّلاة ذات تسعة أجزاء خالية من الأمر إطلاقاً، إذ {لا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه} الضّمير راجع إلى «الأمر الانتزاعي» المراد به الجزئيّة.

{لأنّه يقال}: إنّه ورد من الشّارع قسمان من الأمر:

الأوّل: ما يتعلّق بالصلاة كقوله: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ}(1).

الثّاني: ما يتعلّق بالأجزاء والشّرائط نحو «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(2).

ولهذا الأمر الثّاني إطلاق، أي: إنّ الفاتحة جزء الصّلاة مطلقاً في حال العلم

ص: 390


1- سورة الإسراء، الآية: 78.
2- مستدرك الوسائل 4: 158.

نعم، وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه، إلّا أنّ نسبة حديث الرّفع - النّاظر إلى الأدلّة الدالّة على بيان الأجزاء - إليها نسبةُ الاستثناء، وهو معها يكون دالّة على جزئيّتها إلّا مع الجهل بها، كما لا يخفى، فتدبّر جيّداً.

وينبغي التنبيه على أُمور:

___________________________________________

والجهل والذكر والنّسيان، فإذا جاء حديث الرّفع كان حاكماً على أدلّة الأجزاء، فيخصّص فاتحة الكتاب بحال العلم والذكر ويرفع جزئيّتها بالنسبة إلى حالتي الجهل والنّسيان، فالأمر الأوّل باقٍ، والأمر الثّاني باقٍ في بعض صوره، وعليه فلا يلزم من حديث الرّفع رفع الأمر مطلقاً حتّى تبقى الصّلاة بلا سورة بدون الأمر، فما ذكرتم من أنّ رفع الشّيء برفع منشأ انتزاعه.

{نعم} صحيح {و} لكنّا نقول: إنّ الأمر الانتزاعي و{إن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه إلّا أنّ نسبة حديث الرّفع} وهو قوله(صلی الله علیه و آله): «رفع عن أُمّتي تسع»(1) {النّاظر إلى الأدلّة الدالّة على بيان الأجزاء -} للصلاة مثلاً {إليها} أي: إلى تلك الأدلّة - والظّرف متعلّق ب- «نسبة» {نسبة الاستثناء} خبر «أنّ نسبة» فلا يرفع حديث الرّفع الأمر حتّى تبقى الصّلاة بلا أمر، بل يخصّص الأمر بصورة العلم والذكر.

{وهو} أي: حديث الرّفع {معها} أي: مع أدلّة الأجزاء {يكون دالّة على جزئيّتها} أي: جزئيّة تلك الأجزاء {إلّا مع الجهل بها} أو النّسيان لها {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل {فتدبّر جيّداً}.

[تنبيهات]
اشارة

{و} حيث انتهينا من بحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ممّا كان الشّكّ في الجزئيّة {ينبغي التنبيه على أُمور} مرتبطة بالمقام:

ص: 391


1- الخصال 2: 417.

الأوّل: أنّه ظهر - ممّا مرّ - : حالُ دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقهِ، وبين الخاصّ - كالإنسان - وعامّه - كالحيوان - ، وأنّه لا مجال هاهنا للبراءة عقلاً، بل كان الأمر فيهما أظهر؛ فإنّ الانحلال المتوهّم(1) في الأقلّ والأكثر

___________________________________________

[التنبيه الأوّل]

{الأوّل} في بحث دوران الأمر بين المطلق والمقيّد، كأن شككنا في أنّ الواجب مثلاً، هل هو عتق رقبة مطلقة أم عتق رقبة مؤمنة؟ودوران الأمر بين الخاصّ والعام، كأن شككنا في أنّ الواجب هل هو الإتيان بالإنسان أو بالحيوان، فهل المقام من مجرى الاشتغال حتّى لا يكتفى بمطلق الرّقبة والحيوان في ضمن أيّ قسم كان، أو من مجرى البراءة فيكتفى بذلك؟ إذا عرفت ذلك قلنا {إنّه ظهر ممّا مرّ} في مبحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، وإنّ القاعدة تقتضي الأكثر - على مذاق المصنّف - {حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه} كالرقبة المشروطة بالإيمان ومطلقها ولو كانت كافرة {وبين الخاصّ كالإنسان وعامّه كالحيوان} والفرق بين المطلق والعام قد ذكر في الجزء الأوّل، فراجع(2).

وسيأتي في آخر هذا الأمر أنّ الخاصّ هو الّذي انتزع خصوصيّته من نفس الخاصّ كإنسانيّة الإنسان وظهريّة صلاة الظّهر، والمقيّد هو الّذي انتزع قيده من أمر خارج كالطهارة في الصّلاة المنتزعة من الوضوء وأخويه.

{وإنّه لا مجال هاهنا للبراءة عقلاً} وإن قلنا بالبراءة في الأقلّ والأكثر، كما تقدّم عن الشّيخ(رحمة الله) {بل كان الأمر} بالاشتغال {فيهما} أي: في المطلق والعام وضدّيهما {أظهر، فإنّ الانحلال المتوهّم في الأقلّ والأكثر} باليقين التفصيلي بالنسبة إلى الأقلّ، والشّكّ البدوي بالنسبة إلى الزائد الّذي هو مجرى البراءة

ص: 392


1- فرائد الأصول 2: 356-357.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 87.

لا يكاد يتوهّم هاهنا؛ بداهةَ أنّ الأجزاء التحليليّة لا تكاد تتّصف باللزوم من باب المقدّمة عقلاً، فالصلاة - مثلاً - في ضمن الصّلاة المشروطة أو الخاصّة

___________________________________________

{لا يكاد يتوهّم هاهنا، بداهة أنّ الأجزاء التحليليّة} كالحيوان والرّقبة - في المثالين - {لا تكاد تتّصف باللزوم من باب المقدّمة عقلاً} فإنّ في الأقلّ والأكثر كانت الأجزاء خارجيّة، فالسورة - مثلاً - جزء خارجيّ قائم برأسه مقابل الحمد والرّكوع والسّجود، بخلاف بابي المطلق والعام، فإنّ الرّقبة المؤمنة ليست ذات جزئين خارجيّين يمتاز جزء منهما كأصل الرّقبة عن الجزء الآخر كالإيمان، وهكذا بالنسبة إلى الإنسان، فلا يمتاز حيوانه عن ناطقه، فلا يمكن أن يقال: إنّ ذات الرّقبة وذات الحيوان مقطوع بهما، إمّا أصالة أو مقدّمة والجزء الثّاني وهو النّاطق والإيمان مشكوك فيه، فالأصل العدم.

وربّما يقرّر دليل الاشتغال: بأنّ البراءة إنّما تصحّ عن الشّيء المشكوك فيه إذا كان أصل المتيقّن يمكن أن يؤتى به بدون ذاك الشّيء كالصلاة بدون السّورة، أمّا أنّه إذا لم يمكن الإتيان بالمتيقّن إلّا في ضمن فرد مباين لم يمكن التفكيك بين الأجزاء بإجراء البراءة في جزء مشكوك للزومه الإتيان بمباين المأمور به.

مثلاً: لو شكّ في أنّ الواجب بناء دار ذات ستّ غرف أو سبع جاز إجراء البراءة عن الغرفة السّابعة وكانت الدار ذات السّتّ متيقّناً من التكليف، أمّا لو شكّ في أنّ الواجب صنع الدار المربّعة أو المطلقة فبنى داراً مسدّسة الأضلاع لم يعلم بإتيان أصل التكليف، إذ الدار المسدّسة ضدّ للدار المربّعة، فلا يتيقّن بإنجاز أصل التكليف، وهكذا قل في الصّلاة.

{فالصلاة - مثلاً - في ضمن الصّلاة المشروطة} بالطهارة {أو} في ضمن الصّلاة {الخاصّة} كصلاة المغرب، في حال كون تلك الصّلاة - أي: الأركان والأجزاء

ص: 393

موجودة بعين وجودها، في ضمن صلاة أُخرى فاقدة لشرطها ولخصوصيّتها تكون متباينة للمأمور بها، كما لا يخفى.

نعم، لا بأس بجريان البراءة النّقليّة في خصوص دوران الأمر بين المشروط وغيره،

___________________________________________

الخاصّة - {موجودة بعين وجودها في ضمن صلاة أُخرى فاقدة لشرطها} كالصلاة بدون الطّهارة {و} فاقدة {لخصوصيّتها} كصلاة {تكون متباينة للمأمور بها} خبر لقوله: «فالصلاة» وإذا كانت هذه الصّلاة متباينة لم يكن الآتي بها آتياً بشيء من المأمور به على فرض كونه ذلك المشروط والخاص.

والحاصل: أنّ المكلّف يجب أن يأتي بالمكلّف به المتيقّن الّذي هو مكلّف به على كلّ تقدير، وفي صورة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثريكون الآتي بالأقلّ كذلك، إذ الأجزاء التسعة واجبة على كلا التقديرين وجوب الأقلّ ووجوب الأكثر، غاية الأمر أنّه على تقدير وجوب الأكثر لم يأت بجزء واحد فقط، وذلك بخلاف صورة دوران الأمر بين المشروط وفاقد الشّرط والخاصّ والعامّ، فالآتي بفاقد الشّرط وبفرد آخر من العامّ لم يكن آتياً بشيء من المأمور به على تقدير وجوب الخاصّ والمشروط، إذ العامّ في ضمن فرد ثانٍ كالحيوان في ضمن الفرس مباين للعامّ في ضمن الفرد المشكوك كالإنسان، وكذلك المطلق في ضمن مقيّد آخر كالصلاة في ضمن الحدث مباين للمطلق في ضمن المقيّد المشكوك، كالصلاة مع الطّهارة {كما لا يخفى}.

هذا كلّه بالنسبة إلى البراءة العقليّة عن خصوصيّة الخاصّ وشرط المشروط {نعم، لا بأس بجريان البراءة النّقليّة} لحديث الرّفع(1) وحديث الحجب(2)

وما أشبهها {في خصوص دوران الأمر بين المشروط وغيره} كما لو شكّ في وجوب

ص: 394


1- الخصال 2: 417.
2- التوحيد: 413.

دون دوران الأمر بين الخاصّ وغيره؛ لدلالة مثل حديث الرّفع على عدم شرطيّة ما شكّ في شرطيّته، وليس كذلك خصوصيّة الخاصّ؛ فإنّها إنّما تكون منتزعة عن نفس الخاصّ،

فيكون الدوران بينه وبين غيره من قبيل الدوران بين المتباينين، فتأمّل جيّداً.

الثّاني: أنّه لا يخفى؛ أنّ الأصل في ما إذا شكّ في جزئيّة شيء

___________________________________________

الطّهارة بالنسبة إلى الصّلاة {دون دوران الأمر بين الخاصّ وغيره} كما لو شكّ في وجوب الإنسان أو مطلق الحيوان {لدلالة مثل حديث الرّفع على عدم شرطيّة ما شكّ في شرطيّته} لأنّ الشّرط المشكوك فيه مرفوع بحكم «رفع ما لا يعلمون».

وقد تقدّم تقريبه في باب الشّكّ في الجزء، فهناك شيء متيقّن هو الصّلاة - مثلاً - وشيء مشكوك فيه لم يعلم أخذه في مصبّ الأمر هو الطّهارة، فجريان حديث الرّفع فيها كاف في رفع ما ينتزع منها الّذي هو الشّرطيّة.

{وليس كذلك خصوصيّة الخاصّ} كناطقيّة الإنسان في ما لو شكّ بأنّ المأمور به الإتيان بإنسان أو مطلق حيوان {فإنّها إنّما تكون منتزعة عن نفس الخاصّ} لا عن شيء آخر خارج، كالطهارة الّتي كانت منتزعة عن شيء خارج عن الصّلاة وهو الوضوء والغسل والتيمّم، وحيث إنّها منتزعة من نفس الخاصّ تكون مقوّمة لنفس الواجب {فيكون الدوران بينه} أي: بين الخاصّ {وبين غيره} كسائر أفراد العام المتحقّقة في ضمن سائر الخصوصيّات {من قبيل الدوران بين المتباينين} فليس هناك متيقّن ومشكوك حتّى نقول بجريان البراءة عن المشكوك، بل هناك شيء وشيء آخر، كما تقدّم تقريبه {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يختلط عليك الأمر.

[التنبيه الثّاني]

التنبيه {الثّاني} في ما لو نسي الجزء كما لو نسي الحمد، فهل تجب إعادة الصّلاة أم لا؟ {أنّه لا يخفى أنّ الأصل في ما إذا شكّ في جزئيّة شيء} كالحمد

ص: 395

أو شرطيّته في حال نسيانه عقلاً ونقلاً، ما ذكر في الشّكّ في أصل الجزئيّة أو الشّرطيّة، فلولا مثل حديث الرّفع مطلقاً، و«لا تعاد» في الصّلاة، يحكم عقلاً بلزوم إعادة ما أخلّ بجزئه أو شرطه نسياناً،

___________________________________________

{أو شرطيّته} كالطهارة {في حال نسيانه} وأنّه هل هو شرط وجزء مطلقاً في حالتي الذكر والنّسيان أم لا بل خاصّ بحال الذكر، حتّى أنّه لو نسيهما وأتى بالصلاة - مثلاً - لم تجب الإعادة والقضاء لو تذكر بعد ذلك؟ {عقلاً ونقلاً} متعلّق بقوله: «الأصل» {ما ذكر في الشّكّ في أصل الجزئيّة أو الشّرطيّة} كما لو شكّ بأنّ السّورة جزء أم لا، أو الطّهارة في سجدة السّهو شرط أم لا، فإنّ مقتضى الأصل الاحتياط، فإنّ حال الجزء والشّرط المشكوكين في بعض الأحوال - كحال النّسيان- حالهما في جميع الأحوال.

هذا من جهة العقل، أمّا من جهة النّقل فأدلّة البراءة وما أشبهها محكمة {فلولا مثل حديث الرّفع مطلقاً} الجاري في جميع أبواب العبادات من صلاة وصوم وحجّ واعتكاف وغيرها {و} حديث {«لا تعاد} الصّلاة إلّا من خمس: الرّكوع، والسّجود، والقبلة، والوقت، والطّهور»(1)

{في الصّلاة} وإنّما قيّده لمعلوميّة أنّ هذا الحديث لا يجري في غير الصّلاة بخلاف حديث الرّفع {يحكم عقلاً بلزوم إعادة ما أخلّ بجزئه أو شرطه نسياناً}.

أمّا وهذان الحديثان موجودان فالأصل الشّرعي عدم لزوم الإعادة والقضاء في باب نسيان الشّرط والجزء، فلو نسى جزءاً أو شرطاً ثمّ ذكر لم يجب الإتيان بالعمل ثانياً، إلّا إذا كان في باب الصّلاة من أحد الخمسة المستثناة، بأن نسي الطّهارة أو الرّكوع أو الثلاثة الأُخر.

نعم، يشترط صدق ذلك العمل، فلو نسي جميع الأجزاء والشّرائط أتى بالعمل

ص: 396


1- مستدرك الوسائل 4: 429.

كما هو الحال في ما ثبت شرعاً جزئيّته أو شرطيّته مطلقاً، نصّاً أو إجماعاً.

ثمّ لا يذهب عليك:

___________________________________________

بما لا يسمّى الصّلاة وإن كانت مشتملة على الخمسة لم يكف ووجبت الإعادة والقضاء، كما لو كبّر وأتى بصورة الرّكوع بدون ذكر واستقرار وطمأنينة وقام وسجد السّجدتين وهكذا أتمّ العمل لم يكف لعدم تسميته صلاة، مضافاً إلى عدم استبعاد انصراف الدليل عن مثلها.

وعلى أيّ حال، فلولا الحديثان لزم الإعادة بالنسبة إلى كلّ فاقد شرط أو جزء {كما هو الحال في ما ثبت شرعاً جزئيّته} كالركوع {أو شرطيّته} كالطهارة {مطلقاً} وفي كلّ حال {نصّاً} كالخمسة المذكورة في حديث «لا تعاد» {أو إجماعاً} كتكبيرة الافتتاح وسائر الأركان، وكأنّ وجه الإجماع في بعضها عدم صدق الصّلاة بدونها، كما لا يخفى.

{ثمّ لا يذهب عليك} أنّه يظهر من كلمات الشّيخ(1) أنّ النّسيان لا يسبّب سقوط الجزء أو الشّرط عن الجزئيّة والشّرطيّة في حال النّسيان حتّى يكونان خاصّين بحال الذكر، بل إنّما يكون الشّارع قد قبل غير المأمور به مكان المأمور به - في حال النّسيان - كما قبل صلاة الإخفات مكان الجهر في الصّبح والعشائين عن الجاهل.

وإنّما نقول بعدم سقوط الجزء أو الشّرط في هذا الحال؛ لأنّه لا يمكن أن يكون المأمور النّاسي مخالفاً المأمور المتذكّر، إذ لو كان المأمور النّاسي قسماً خاصّاً لزم توجّه خطاب خاصّ إليه، كأن يقال: (يا أيّها النّاسي تجب عليك الصّلاة بلا سورة) وبمجرّد هذا الخطاب يخرج النّاسي عن كونه ناسياً وينقلب الموضوع إلى المتذكّر.

ص: 397


1- فرائد الأصول 2: 363.

أنّه كما يمكن رفع الجزئيّة أو الشّرطيّة في هذا الحال بمثل حديث الرّفع، كذلك يمكن تخصيصها

___________________________________________

والحاصل: أنّ التكليف الخاصّ محتاج إلى خطاب خاصّ، والخطاب الخاصّ موجب لعدم التكليف الخاصّ - لانقلاب الموضوع - فلا تكليف خاصّ، وتكون السّورة - مثلاً - جزءاً بالنسبة إلى كليهما، لكن الشّارع قبل غير المأمور به - عن النّاسي - مكان المأمور به.

لكن لا يخفى أنّ المحذور الّذي ذكره الشّيخ(رحمة الله) منظور فيه، لإمكان أن يجعل الشّارع أجزاء الصّلاة تسعة - بصورة عامّة - ثمّ يجعل أجزاء إضافيّة بالنسبة إلى غير النّاسي، حتّى لا يكون الجزء جزءاً بالنسبة إلى النّاسي، كما لو كان للمولى عبيد فأمر أمراً عامّاً باشتغال كلّ واحد ثمان ساعات ثمّ أمر بعض عبيده بإضافة ساعتين على ساعاتهم الثمانية، ولإمكان أن يجعل الشّارع جميع الأجزاء للجميع بخطاب عامّ، كأن يقول: (وائتوا بالسورة في الصّلاة) ثمّ يخاطب النّاسي بقوله: (يا أيّها الرّجل لا يجب عليك الإتيان بالسورة) فلا يخاطبه بالناسي حتّى ينقلب عن موضوعه الأوّل، كما يصحّ أن يخاطبه بالناسي، لكن لا يبيّن متعلّق النّسيان حتّى ينقلب ذاكراً، كأن يقول: (يا أيّها النّاسي لبعض أجزاء الصّلاة إنّما الواجب عليك تكبيرة، وحمد، وركوع، وسجود) مثلاً.

وما ذكرناه من كون الجزء المنسي في حقّ النّاسي أيضاً جزءاً هو مقتضى ظاهر أدلّة الجزئيّة بعد الجمع بينها وبين دليل «لا تعاد»، أمّا ما ذكره الشّيخ فهو خلاف الظّاهر صار إليه للمحذور الّذي ذكره، لكن عرفت النّظر في المحذور، ف- {إنّه كما يمكن رفعالجزئيّة أو الشّرطيّة في هذا الحال} أي: حال النّسيان {بمثل حديث الرّفع} حتّى يكون حديث الرّفع مخصّصاً لعموم ما دلّ على جزئيّة السّورة وشرطيّة الطّهارة الخبثيّة مثلاً {كذلك يمكن تخصيصها} أي: تخصيص أدلّة الجزء

ص: 398

بهذا الحال بحسب الأدلّة الاجتهاديّة،

كما إذا وجّه الخطاب - على نحو يعمّ الذاكرَ والنّاسي - بالخالي عمّا شكّ في دخله مطلقاً، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حقّ الذاكر،

___________________________________________

والشّرط {بهذا الحال} أي: حال الذكر حتّى يكون ما دلّ على الجزئيّة والشّرطيّة خاصّاً - من أوّل الأمر - دائرته ضيّقة، بمعنى أن يكون مختصّاً بالذاكر.

ومن المعلوم أنّ عدم حكم على موضوع يمكن أن يكون بالتخصيص، ويمكن أن يكون بالتخصّص، فمرّة يقول: (أكرم العلماء) ثمّ يقول: (لا تكرم الفسّاق منهم) ومرّة يقول: (أكرم العلماء العدول) {بحسب الأدلّة الاجتهاديّة} مقابل الأصول العمليّة. والأصل العملي هو الّذي أخذ الجهل بالواقع في موضوعه مثل: «ما لا يعلمون»، والدّليل الاجتهادي هو الّذي يكون الحكم على الواقع نحو سائر الفقرات في حديث الرّفع، إذ الرّفع منصب على الواقع، كما لا يخفى.

وقد ذكر العلّامة المشكيني(رحمة الله) في تعليقته على المقام ما يفهم منه وجه الفرق بين قوله أوّلاً: «بمثل حديث الرّفع» وثانياً: «بحسب الأدلّة الاجتهاديّة»، فراجع(1).

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) مثّل للثاني وهو قوله: «كذلك يمكن» بقوله: {كما إذا وجّه الخطاب على نحو يعمّ الذاكر والنّاسي} كما لو قال: (يا أيّها الّذين آمنوا)، ولكن كان الخطاب {بالخالي عمّا شكّ في دخله} كجلسة الاستراحة مثلاً، فقال: (إنّ أجزاء الصّلاة تسعة) حتّى أنّ التكليف العامّ كان بتسعة أجزاء فقط {مطلقاً} بالنسبة إلى النّاسي والذاكر {و} لكن {قد دلّ دليل آخر على دخله} أي: دخل ما شكّ كجلسة الاستراحة {في حقّ الذاكر}.

ص: 399


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 276.

أو وجّه إلى النّاسي خطاب يخصّه بوجوب الخالي بعنوان آخر - عامّ أو خاصّ - ، لا بعنوان النّاسي، كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه بهذا العنوان؛ لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة، كما توهّم لذلك استحالة تخصيص الجزئيّة أو الشّرطيّة بحال الذكر، وإيجاب العمل الخالي عن المنسي على النّاسي، فلا تغفل.

الثّالث:

___________________________________________

ومثّل للأوّل وهو قوله: «كما يمكن» بقوله: {أو وجّه إلى النّاسي خطاب يخصّه بوجوب الخالي} ولكن كان الخطاب {بعنوان آخر عامّ} نحو (يا أيّها الرّجل) {أو خاصّ} نحو (يا من ضعفت ذاكرته) و{لا} يكون الخطاب {بعنوان النّاسي} كأن يقول: (يا أيّها النّاسي) {كي يلزم} المحذور الّذي ذكره الشّيخ من {استحالة إيجاب ذلك} الخالي عن الجزء العاشر مثلاً {عليه} أي: على النّاس {بهذا العنوان} أي: بعنوان أنّه ناسي.

ووجّه الاستحالة المذكورة في كلام الشّيخ ما ذكره بقوله: {لخروجه} أي: النّاسي {عنه} أي: عن كونه ناسياً {بتوجيه الخطاب} بهذا العنوان {إليه لا محالة، كما توهّم لذلك} أي: للاستحالة المذكورة {استحالة تخصيص الجزئيّة أو الشّرطيّة بحال الذكر} حتّى يكون الشّرط والجزء مخصّصين بالذاكر {وإيجاب العمل الخالي عن} الجزء {المنسي} كالسورة المنسيّة {على النّاسي، فلا تغفل} يعني توهّم أنّ محذور الاستحالة في كلتا الحالتين، حالة أن يقول: (يا أيّها النّاسي تجب عليك تسعة أجزاء)، وحالة أن يقول: (يا أيّها الّذين آمنوا تجب عليكم عشرة أجزاء) (يا أيّها النّاسي لا يجب عليك الجزء العاشر).

ولا يخفى أنّ الكلام في المقام يحتاج إلى تفصيل لا يسعه الشّرح.

[التنبيه الثّالث]

{الثّالث} من التنبيهات إذا شكّ في شيء وهل أنّه مخلّ أم لا؟ كما لو شكّ في

ص: 400

أنّه ظهر - ممّا مرّ - ، حالُ زيادة الجزء إذا شكّ في اعتبار عدمها شرطاً أو شطراً في الواجب - مع عدم اعتباره في جزئيّته، وإلّا لم يكن من زيادته، بل من نقصانه - ؛

___________________________________________

أنّ قراءة السّورة في الرّكعة الثّالثة مخلّة بالصلاة أم لا، فالبراءة تقتضي عدم الإخلال، فإذا قرأ في الرّكعة الثّالثة بعد الحمد - الّذي هو عدل التسبيحات الأربعة - السّورة كان مقتضى القاعدة عدم بطلان الصّلاة، ف- {إنّه} قد {ظهر ممّا مرّ} في التنبيه الثّاني {حال زيادة الجزء إذا شكّ في اعتبار عدمها شرطاً} بأن يكون من شرط الصّلاة عدم قراءة السّورة في الرّكعة الثّالثة، كما أنّ من شرط الصّلاة عدم الضّحك ونحوه {أو شطراً} بأن كان العدم جزءاً من الواجب، فإنّه كما أنّ الشّيء الوجودي قد يكون شرطاً وقد يكون جزءاً كذلك عدم شيء قد يكون شرطاً وقد يكون جزءاً، والفرق أنّ الصّلاة لو كانت مركّبة من وجودات وأعدام - كالحجّ - يكون الأمر العدمي جزءاً، ولو كانت مركّبة من وجودات وكان الأمر العدمي خارجاً لكن أخذت الصّلاة بشرط السّكون به كان العدم شرطاً، فتدبّر.

وعلى أيّ حال، تجري البراءة لو شكّ في الاشتراط وأنّه هل يشترط {في الواجب} عدم السّورة أم لا؟ لكن لا يخفى أنّ تسمية هذا من الشّكّ في الزيادة إنّما يكون إذا لم تكن الحمد الواجبة مشروطة بعدم هذه السّورة حتّى يكون إتيان السّورة مبطلاً للحمد، بل كانت السّورة كسائر الموانع - كالضحك ونحوه - ممّا يضرّ بأصل الصّلاة، أمّا لو كان هذا الشّيء الزائد - كالسورة - ممّا يضرّ وجوده بالحمد - أي: مبطلاً لها - كان زيادته مسبّباً لنقص الصّلاة، إذ تصبح الصّلاة بلا حمد.

وهذا ما أشار إليه بقوله: {مع عدم اعتباره} أي: اعتبار هذا المشكوك عدمه {في جزئيّته} أي: لم يعتبر عدمه في الجزء {وإلّا} فلو كان معتبراً عدمه في الجزء بحيث يسقط الجزء - كالحمد - عن جزئيّته إذا جاء بهذا الشّيء - كالسورة - {لم يكن من زيادته} أي: زيادة الجزء {بل من نقصانه} لأنّ وجوده سبب عدم

ص: 401

وذلك لاندراجه في الشّكّ في دخل شيء فيه جزءاً أو شرطاً، فيصحّ لو أتى به مع الزيادة عمداً تشريعاً، أو جهلاً - قصوراً أو تقصيراً - أو سهواً، وإن استقلّ العقل - لولا النّقل - بلزوم الاحتياط؛ لقاعدة الاشتغال.

نعم،

___________________________________________

وجود الحمد الّذي هو جزء الصّلاة.

{وذلك} الّذي قلنا من ظهور حال الزيادة ممّا مرّ {لاندراجه} أي: لاندراج هذا المبحث {في الشّكّ في دخل شيء فيه} أي: في المأمور به {جزءاً أو شرطاً} فيكون أخذ العدم شرطاً أو جزءاً، مثل أخذ الوجود شرطاً أو جزءاً، فيكون حاله حال سابقه في عدم جريان البراءة العقليّة، وإنّما تجري البراءة الشّرعيّة فيه {فيصحّ لو أتى به مع} هذه {الزيادة} سواء كان الإتيان بالزيادة {عمداً تشريعاً} كما لو أتى في العبادة بشيء مشكوك ضرره عامداً مشرعاً، بأن علم أنّ الزيادة ليست من العبادة ومع ذلك أتى بها بعنوان الزيادة.

ولا يخفى أنّه حينئذٍ يكون فعله حراماً، ولا يسبّب ذلك بطلان صلاته - مثلاً - لإجراء البراءة كما تقدّم {أو جهلاً} بأنّ هذه الزيادة محتمل الضّرر، بل اعتقد كونها واجبة {قصوراً} بأن لم يتمكّن من تحصيل العلم {أو تقصيراً} في ما لو تمكّن وتساهل كأغلب الجهّال {أو سهواً} عن الواقع ونسياناً.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من صحّة العبادة المتضمّنة لهذه الزيادة إنّما كانت من جهة الشّرع {وإن استقلّ العقل - لولا النّقل} أي: البراءة النّقليّة {بلزوم الاحتياط لقاعدة الاشتغال} الّتي تقدّمت في المبحث السّابق.

{نعم} إنّ ما ذكرنا من صحّة العبادة المشتملة على الجزء الزائد إنّما تكون في ما إذا لم يقيّد الأمر بهذه الزيادة، أمّا إذا قيّده بها - كما لو نوى أنّي أُصلّي الصّلاة الّتي أمر اللّه بها مع السّورة في الرّكعة الثّالثة - فإنّه في هذه الصّورة إن لم يكن

ص: 402

لو كان عبادةً، وأتى به كذلك - على نحوٍ لو لم يكن للزائد دخلٌ فيه لَما يدعو إليه وجوبه - ، لكان باطلاً مطلقاً، أو في صورة عدم دخله فيه؛لعدم قصور الامتثال في هذه الصّورة، مع استقلال العقل بلزوم الإعادة مع اشتباه الحال؛ لقاعدة الاشتغال.

___________________________________________

للسورة أمر واقعاً بطلت الصّلاة عقلاً - للاشتغال - ونقلاً؛ لأنّه تشريع في ناحية الأمر، إذ لا أمر بمثل هذه الصّلاة.

وإن شئت قلت: إنّ الأمر الواقعي غير مقصود، والمقصود للمكلّف - وهو الصّلاة بالسورة في الثّالثة - غير مأمور به، وإن كان للسورة أمر - بأن كانت جزءاً في الرّكعة الثّالثة واقعاً - احتمل البطلان؛ لأنّ هكذا نيّة لمن لا يعلم بالجزئيّة خلاف مقام العبوديّة، واحتمل الصّحّة؛ لأنّ المأتي به مطابق للواقع والنّيّة صادفت الأمر الواقعي، منتهى الأمر أنّه متجرّئ بنيّته لا أنّ صلاته باطلة، ف- {لو كان} المأتي به {عبادة} كالصلاة {وأتى به كذلك} أي: مع هذا الجزء المشكوك فيه - كالسورة في الرّكعة الثّالثة - وكان الإتيان {على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه} أي: في المأتي به {لما يدعو إليه} أي: إلى الزائد {وجوبه} فاعل «يدعو».

وذلك بأن نوى: إنّي آتي بالصلاة المأمور بها مع السّورة في الثّالثة، بحيث كان لا يدعو أمر الصّلاة إلى مثل هذه الصّلاة، إذ كان الأمر بالخالي عن السّورة فيكون الأمر الّذي نواه غير ما أمر به الشّارع {لكان} المأتي به المشتمل على الزائد {باطلاً مطلقاً} سواء كان الزائد جزءاً واقعاً أو لم يكن، أمّا إذا لم يكن فواضح، وأمّا إذا كان فلأنّ مثل هذه النّيّة لمن لا يعلم بالجزئيّة خلاف مقام العبوديّة {أو} يكون باطلاً {في صورة عدم دخله} أي: الزائد {فيه} أي: في الماتيّ به واقعاً {لعدم قصور الامتثال في هذه الصّورة} أي: صورة الإتيان بالزيادة على نحو التقييد في ما لم يكن الزائد واقعاً مأموراً به {مع استقلال العقل بلزوم الإعادة} لما تقدّم في المبحث السّابق من عدم جريان البراءة العقليّة في مثل هذه الموارد {مع اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال} ولا براءة شرعيّة.

ص: 403

وأمّا لو أتى به على نحو يدعوه إليه - على أيّ حال - كان صحيحاً، ولو كان مشرِّعاً في دخله الزائد فيه بنحو؛ مع عدم علمه بدخله فإنّ تشريعه في تطبيق المأتي به مع المأمور به، وهو لا ينافي قصدَه الامتثالَ والتقرّب به على كلّ حال.

ثمّ إنّه ربّما يتمسّك - لصحّة ما أتى به مع الزيادة - باستصحاب الصّحّة.

___________________________________________

هذا كلّه في ما لو أتى بالزائد المشكوك فيه تشريعاً على نحو التقييد {وأمّا لو أتى به} على نحو الخطأ في التطبيق - بأن يكون الأمر داعيه إلى إيجاد الصّلاة، لكنّه يظنّ أنّ الأمر متوجّه إلى الصّلاة مع سورة في الرّكعة الثّالثة، فينوي الأمر بالصلاة الّتي من أجزائها هذه السّورة حتّى أنّه لو علم بأنّ السّورة ليست جزءاً أتى بالصلاة أيضاً - فكان الإتيان {على نحو يدعوه} الأمر {إليه على أيّ حال} سواء كانت الصّلاة مع السّورة واقعاً أو بلا سورة، وذلك بخلاف الصّورة الأُولى الّتي هي كانت من باب التقييد بحيث لا يأتي بالصلاة لو لم تكن السّورة جزءها {كان} المأتي به بهذه الزيادة {صحيحاً ولو كان مشرِّعاً في دخله الزائد فيه بنحو} أي: بأيّ نحو {مع عدم علمه بدخله} أمّا الصّحّة، فلأنّه أتى بالمأمور به وقصد الأمر الواقعي المنطبق عليه، وأمّا التشريع في إتيان هذا الجزء، {فإنّ-} -ه بسبب {تشريعه في تطبيق المأتي به مع المأمور به} فالمأمور به الصّلاة بلا سورة والمأتي به الصّلاة معها {وهو} أي: هذا التشريع الّذي هو خارج عن العبادة {لا ينافي قصده الامتثال والتقرّب به} أي: بهذا المأتي به {على كلّ حال} لأنّه كان قاصداً إلى الأمر سواء كان هذا الزائد جزءه أم لا، فتحصّل أنّه لو أتى على نحو التقييد بطل ولو أتى على نحو الخطأ في التطبيق صحّ.

{ثمّ إنّه} لو أتى بالصلاة مع هذه الزيادة في صورة التقييد الّتي ذكرنا بطلانها ف- {ربّما يتمسّك لصحّة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصّحّة} فيقال: إنّ الصّلاة

ص: 404

وهو لا يخلو من كلام ونقض وإبرام خارج عمّا هو المهمّ في المقام، ويأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب إن شاء اللّه - تعالى - .

الرّابع:

___________________________________________

كانت صحيحة قبل أن يأتي في الرّكعة الثّالثة بالسورة، فإذا أتينا بالسورة فيها نشكّ في بطلانها فالأصل الصّحّة {وهو لا يخلو منكلام ونقض وإبرام} إذ لو أُريد بالصحّة المستصحبة أنّ الأجزاء السّابقة كانت صحيحة قبل إتيان السّورة، فذلك لا ينفع في صحّة بقيّة الأجزاء، وإن أُريد صحّة مجموع ما سبق السّورة وما يلحقها، فلا حالة سابقة له، لكن الكلام حول هذا الاستصحاب وأنّه هل له وجه صحيح أم لا؟ {خارج عمّا هو المهمّ في المقام، ويأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب إن شاء اللّه - تعالى -} وإنّه يمكن تصحيحه ببعض الوجوه.

[التنبيه الرّابع]

{الرّابع} لو علمنا بكون السّتر - مثلاً - شرطاً للصلاة أو علمنا بأنّ الرّكوع - مثلاً - جزء لها، ثمّ شككنا في أنّه هل الشّرطيّة والجزئيّة لهما مطلقة حتّى في حال العجز عنهما أو مقيّدة بحال التمكّن، حتّى تكون النّتيجة أنّه على تقدير الإطلاق للجزئيّة والشّرطيّة أنّ المكلّف لو لم يتمكّن منهما سقط أصل التكليف بالصلاة، وعلى تقدير التقييد بحال الاختيار والقدرة لو لم يتمكّن المكلّف منهما لزم الإتيان بالصلاة الفاقدة لهما، كان مقتضى القاعدة - في ما لم يكن هناك دليل على الإطلاق أو التقييد - القول بسقوط أصل التكليف إذا عجز عنهما؛ لأنّ الصّلاة المعلومة إنّما هي الواجدة للشرط والجزء، فالفاقدة لم يعلم التكليف بها والأصل البراءة.

ولا يخفى أنّ النّحوين موجودان في العبادات، فالصلاة بدون الرّكوع لمن عجز عنه حتّى عن الإشارة واجبة، والصّوم بدون الإمساك عن الأكل - لمن لا يقدر

ص: 405

أنّه لو علم بجزئيّة شيء أو شرطيّته في الجملة، ودار الأمر بين أن يكون جزءاً أو شرطاً مطلقاً ولو في حال العجز عنه، وبين أن يكون جزءاً أو شرطاً في خصوص حال التمكّن منه - فيسقط الأمرُ بالعجز عنه على الأوّل؛ لعدم القدرة حينئذٍ على المأمور به، لا على الثّاني فيبقى معلّقاً بالباقي - ، ولم يكن هناك ما يعيّن أحدَ الأمرين، - من إطلاق دليل اعتباره جزءاً أو شرطاً، أو إطلاق دليل المأمور به،

___________________________________________

على الإمساك عنه وإن قدر على الإمساك عن سائر المفطرات - غير واجب.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {إنّه لو علم بجزئيّة شيء أو شرطيّته في الجملة} إمّا مطلقاً وإمّا في حال القدرة فقط {ودار الأمر بين أن يكون جزءاً أو شرطاً مطلقاً} وبين الإطلاق بقوله: {ولو في حال العجز عنه} أي: عن ذلك الجزء أو الشّرط، كما لو عجز عن الرّكوع أو عن السّتر - مثلاً - {وبين أن يكون جزءاً أو شرطاً في خصوص حال التمكّن منه} وذكر نتيجة هذا الشّكّ بقوله: {فيسقط الأمر} المتعلّق بالصلاة - مثلاً - {بالعجز عنه} أي: بالعجز عن ذلك الجزء أو الشّرط {على الأوّل} الّذي هو اشتراط المكلّف به بهذا الجزء، والشّرط مطلقاً حتّى أنّ التكليف ليس بالفاقد {لعدم القدرة حينئذٍ على المأمور به} فلا أمر، إذ القدرة من الشّرائط العقليّة للتكليف، و{لا} يسقط الأمر {على الثّاني} الّذي هو اختصاص الشّرط والجزء بحال التمكّن {فيبقى} الأمر {معلّقاً بالباقي} الّذي يقدر عليه كسائر الأجزاء والشّرائط بدون الرّكوع والسّتر - مثلاً - {ولم يكن هناك ما يعيّن أحد الأمرين} من إطلاق الشّرط والجزء أو تقييدهما بحال التمكّن {من إطلاق دليل اعتباره} أي: اعتبار ذلك الجزء والشّرط.

وهذا بيان للمعيّن، يعني أنّه لو كان لدليل الشّرط والجزء إطلاق، بأن دلّ الدليل على أنّ هذين {جزءاً أو شرطاً} في جميع الأحوال، حتّى يتعيّن الإطلاق ويتحقّق أنّه لا صلاة بدونهما ولو في حال العجز {أو إطلاق دليل المأمور به} أي:

ص: 406

مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله - ، لاستقلّ العقل بالبراءة عن الباقي؛ فإنّ العقاب على تركه بلا بيان، والمؤاخذةَ عليه بلا برهان.

لا يقال:

___________________________________________

دلّ الدليل على أنّ الصّلاة مطلقاً مطلوبة، سواء كانت مع الجزء أو الشّرط أو بدونهما {مع إجمال دليل اعتباره} أي: اعتبار ذلك الجزء والشّرط، بأن كان دليلهما الإجماع ممّا لا إطلاق له {أو إهماله} أي: إهمال دليل اعتبار الجزء والشّرط، بأن دلّ على الاعتبار في الجملة.

وفي هذا الحال - أي: إطلاق دليل المأمور به مع إجمال أو إهمال دليل الشّرط والجزء - يجب الإتيان بالباقي في حال العجز عنهما{لاستقلّ العقل بالبراءة} هذا جواب قوله: «لو علم» أي: لو علم بأصل الجزء والشّرط وشكّ في إطلاقهما أو تقييدهما كان العقل مستقلّاً بإجراء البراءة {عن الباقي} في صورة عدم التمكّن من ذلك الجزء والشّرط؛ لأنّ الأمر المعلوم المتعلّق بالجامع للأجزاء والشّرائط ساقط، وأمر آخر بالناقص غير معلوم، فالأصل البراءة {فإنّ العقاب على تركه} أي: ترك الباقي - النّاقص الفاقد للجزء والشّرط - {بلا بيان والمؤاخذة عليه} أي: على الترك {بلا برهان} كما لا يخفى.

{لا يقال}: إذا شككنا في اشتراط الصّلاة بالركوع والسّتر في حال العجز كان مقتضى حديث الرّفع عدم الجزئيّة والشّرطيّة للمشكوك، وذلك ممّا يلازم بقاء التكليف.

وإن شئت قلت: إنّ الشّكّ في وجوب النّاقص ناشٍ عن الشّكّ في اعتبار الجزء والشّرط في هذا الحال، فإذا رفع هذا الشّكّ بحديث الرّفع ثبت وجوب النّاقص، كما هو كذلك في حال النّسيان للجزء والشّرط.

ص: 407

نعم، ولكن قضيّة مثل حديث الرّفع عدم الجزئيّة أو الشّرطيّة إلّا في حال التمكّن منه.

فإنّه يقال: إنّه لا مجال هاهنا لمثله؛ بداهة أنّه ورد في مقام الامتنان، فيختصّ بما يوجب نفي التكليف، لا إثباته.

نعم، ربّما يقال: «بأن قضيّة الاستصحاب في بعض الصّور وجوب الباقي في حال التعذّر أيضاً».

___________________________________________

فما ذكرتم {نعم} صحيح {ولكن قضيّة مثل حديث الرّفع عدم الجزئيّة أو الشّرطيّة إلّا في حال التمكّن منه} وذلك ينتج وجوب الإتيان بالباقي.

{فإنّه يقال}: إنّ حديث الرّفع وارد في مقام الامتنان والمنّة على العباد برفع كلفة «ما لا يعلمون» عنهم، فإذا أُريد بهذا الحديث إثبات وجوب النّاقص كان منافياً للمنّة، ف- {إنّه لا مجال هاهنا} الّذي يراد بالحديث إثبات التكليف بالنسبة إلى النّاقص {لمثله} أي: مثل حديث الرّفع الوارد امتناناً {بداهة أنّه} أي: الحديث {ورد في مقام الامتنان فيختصّ بما يوجب نفي التكليف} و{لا} يجري في ما يراد به {إثباته} أي: إثبات التكليف، كالمقام.

{نعم، ربّما يقال: «بأنّ} مقتضى الدوران بين الجزئيّة والشّرطيّة المطلقة وبين المقيّدة وإن كان إجراء البراءة في حال العجز والتعذّر، إلّا أنّ {قضيّة الاستصحاب في بعض الصّور} وهي صورة طروّ العجز وبقاء أغلب الأجزاء ممكناً {وجوب الباقي في حال التعذّر أيضاً»} فإنّه لو كان أوّل الظّهر متمكّناً من الصّلاة الكاملة ثمّ عرض عدم التمكّن من السّتر كان مقتضى الاستصحاب بقاء الوجوب؛ لأنّه علم بالوجوب ثمّ شكّ فيه من جهة التعذّر، فمقتضى «لا تنقض اليقين بالشكّ» بقاء ذلك الوجوب.

وإنّما قيّدنا الاستصحاب بذينك القيدين؛ لأنّه إن كان العجز من أوّل الأمر - كما لو كان عجزه من قبل دخول الوقت - لم يكن للوجوب حالة سابقة حتّى يستصحب، بل كان الشّكّ في أصل التكليف الّذي هو مجرى البراءة، كما أنّه لو

ص: 408

ولكنّه لا يكاد يصحّ إلّا بناءً على صحّة القسم الثّالث من استصحاب الكلّي،

___________________________________________

كان العجز عن أجزاء كثيرة بحيث كان الممكن غير الصّحيح السّابق - كما لو طرأ العجز عن جميع الأجزاء والشّرائط باستثناء القراءة مثلاً - لم يستصحب الوجوب، لاشتراط وحدة السّابق واللّاحق في باب الاستصحاب.

{ولكنّه} مع توفّر هذين الشّرطين أيضاً {لا يكاد يصحّ} هذا الاستصحاب، إذ هذه الأجزاء الباقية كانت سابقاً واجبة بالوجوب الغيري والحال يراد إثبات الوجوب النّفسي لها، ومن المعلوم أنّ الوجوبين مختلفان، فإنّها سابقاً كانت واجبة في ضمن وجوب الكلّ، فكان وجوبها غيريّاً، أمّا الآن - وبعد تعذّر بعض الأجزاء - لو كانت واجبة كان الوجوب لها فقط وهو الوجوب النّفسي، فكيف يستصحب الوجوب الغيري لإثبات الوجوب النّفسي؟ {إلّا بناءً على صحّة القسم الثّالث من استصحاب الكلّي} وهو ما لو كان الكلّي موجوداً في ضمن فرد ثمّ علمنا بزوال ذلك الفرد واحتملنا وجود فرد آخر مقارن لزوال ذلك الفرد.

مثلاً: لو كان في الدار زيد ممّا تحقّق به كلّي الإنسان ثمّ علمنا بذهاب زيد واحتملنا دخول عمرو عند خروج زيد، فهل يصحّ استصحابالكلّي - أي: الإنسان - في الدار؛ لأنّه علم سابقاً بوجود هذا الكلّي ثمّ شكّ في زواله، أم لا يصحّ؛ لأنّ حصّة الكلّي الموجودة في ضمن زيد متيقّن الارتفاع والحصّة الجديدة الموجودة في ضمن عمرو مشكوك الحدوث؟ فيه كلام سيأتي في باب الاستصحاب(1)

- إن شاء اللّه تعالى - .

وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ للوجوب فردان: الوجوب النّفسي والوجوب الغيري، فمن يجوّز مثل هذا الاستصحاب يقول: إنّا علمنا سابقاً بوجود كلّي الوجوب للصلاة ثمّ شككنا في ارتفاع الكلّي - بسبب تعذّر الجزء أو الشّرط -

ص: 409


1- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 112.

أو على المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب، وكان ما تعذّر ممّا يسامَح به عرفاً، بحيث يصدق مع تعذّره بقاءُ الوجوب لو قيل بوجوب الباقي، وارتفاعُه لو قيل بعدم وجوبه. ويأتي تحقيق الكلام فيه في غير المقام.

كما أنّ وجوب الباقي في الجملة،

___________________________________________

فالأصل البقاء، إذ الكلّي متحقّق في كلّ من النّفسي والغيري. ومن يمنع عن ذلك يقول: إنّ الوجوب السّابق النّفسي علم بارتفاعه، والوجوب الغيري اللّاحق لا حالة سابقة له ولا يعلم بوجوده.

وكيف كان، فاستصحاب الوجوب متوقّف على صحّة القسم الثّالث من استصحاب الكلّي {أو على المسامحة في تعيين الموضوع في} باب {الاستصحاب} بأن يقال: إنّ هذه الأجزاء السّابقة - بعد تعذّر السّتر أو الرّكوع مثلاً - في نظر العرف هي تلك الصّلاة الّتي كانت واجبة بالوجوب النّفسي، فيستصحب الوجوب النّفسي السّابق؛ لأنّ الموضوع الحالي نفس الموضوع السّابق بنظر العرف، كما لو نقص مقدار من ماء الكرّ ثمّ شكّ في الكريّة، فإنّ الموضوع الباقي هو الموضوع السّابق عرفاً، وإن كان بالنظر الدقّي هذا الماء الباقي غير ذلك الماء السّابق المعلوم كريّته - لفرض أنّه قد نقص منه - . {و} الحاصل: أنّ المبرّر لاستصحاب الوجوب أن نقول: إنّ النّاقص هو ذاك عرفاً؛ لأنّه {كان ما تعذّر} من الأجزاء والشّرائط {ممّا يسامح به عرفاً، بحيث يصدق مع تعذّره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي} فيرى العرف أنّ نفس ذلك الموضوع السّابق باقٍ لا أنّ الباقي أمر جديد حادث {و} يصدق {ارتفاعه} أي: ارتفاع الوجوب السّابق {لو قيل بعدم وجوبه} فيرى العرف أنّ الوجوب السّابق ارتفع عن موضوعه الباقي لا أنّه ارتفع لارتفاع موضوعه.

{ويأتي تحقيق الكلام فيه} أي: في هذا الاستصحاب {في غير المقام} إن شاء اللّه تعالى {كما أنّ وجوب الباقي} النّاقص {في الجملة} في ما كان معظم الأجزاء

ص: 410

ربّما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله(صلی الله علیه و آله): «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(1)،

وقوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور»(2)، وقوله: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(3).

و

___________________________________________

باقياً بحيث يصدق عرفاً أنّه ميسور الكلّ {ربّما قيل بكونه مقتضى} قاعدة الميسور.

وإنّما قيّدنا بذلك لأنّ فقد الأجزاء قد يسبّب عدم صدق الاسم، كما لو فقد من ماء اللحم اللحم، فإنّ الباقي لا يسمّى ميسوراً من ماء اللحم، بخلاف ما لو فقد البصل مثلاً، فإنّ الباقي يسمّى ميسوراً من ماء اللحم. وفي المقام كذلك لو تعذّر بعض الأجزاء والشّرائط ممّا يسمّى الباقي - عرفاً - ميسوراً للصلاة تمسّك لإثبات وجوبه بقاعدة الميسور، إذ هو مقتضى {ما يستفاد من قوله(صلی الله علیه و آله): «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»، وقوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور»، وقوله: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»} ممّا دلّ على إرادة الشّارع القدرالممكن من كلّ واجب وإن تعذّر بعض أجزائه وشرائطه.

وإنّما قيّدنا بالميسور مع أنّ الحديثين الآخرين مطلقان من هذه الحيثيّة: «فما استطعتم» شامل حتّى للجزء الواحد، وكذلك «ما لا يدرك»؛ لأنّ الظّاهر من الحديثين بقاء الصّدق، فالماء فقط في ما لو تعذّر الإطعام المأمور به لا يقال له إنّه: ما استطاع من الإطعام، كما لا يصحّ أن يقول: إنّي لم أدرك كلّ المأمور به - الّذي هو الإطعام - فأردت أن لا أترك كلّه.

{و} لكن لا يخفى أنّ في التمسّك بهذه الرّوايات لإثبات الوجوب بعد التعذّر

ص: 411


1- غوالي اللئالي 4: 58، مع اختلاف يسير.
2- غوالي اللئالي 4: 58، مع اختلاف يسير.
3- غوالي اللئالي 4: 58.

دلالة الأوّل مبنيّة على كون كلمة (من) تبعيضيّة، لا بيانيّة، ولا بمعنى الباء.

وظهورُها في التبعيض وإن كان ممّا لا يكاد يخفى، إلّا أنّ كونه بحسب الأجزاء غيرُ واضح؛ لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد.

___________________________________________

عن بعض الأجزاء والشّراط نظراً، إذ {دلالة الأوّل} وهو قوله(صلی الله علیه و آله): «إذا أمرتكم بشيء» الخ، مردّدة بين ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أن يكون (من) في قوله: «منه» بيانيّة، فيكون بياناً للشيء لقوله: «بشيء»، فالمعنى: إذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا ذلك الشّيء مادام تستطيعون الإتيان به، وتكون (من) في المقام من قبيل (من) في قوله - تعالى - : {أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ}(1) أي: فأتوا ذلك الجنس المأمور به مادام الاستطاعة.

الثّاني: أن يكون (من) للتعدية، فيكون المعنى: فأتوا به ما دام الاستطاعة.

الثّالث: أن يكون (من) للتبعيض، نحو قوله - تعالى - : {مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ}(2) فيكون المعنى: فأتوا البعض الممكن منه.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ دلالة الرّواية على قاعدة الميسور {مبنيّة على كون كلمة (من) تبعيضيّة لا بيانيّة ولا بمعنى الباء} الّتي هي للتعدية {وظهورها في التبعيض وإن كان ممّا لا يكاد يخفى} إذ المعنيان الآخران محتاجان إلى عناية ورعاية {إلّا} أنّ التبعيض كما يمكن أن يكون بالنسبة إلى الأجزاء فيراد من بعض الصّلاة - مثلاً - القيام والرّكوع والسّجود، كذلك يمكن أن يكون بالنسبة إلى بعض الأفراد للكلّي، فيراد من بعض الصّلاة صلاة الظّهر مثلاً، إذ كلاهما بعض لكن الأوّل بعض الفرد والثّاني بعض الكلّي، وإذ كان كلّ من المعنيين محتملاً في الرّواية ف- {إنّ كونه بحسب الأجزاء غير واضح، لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد}.

ص: 412


1- سورة الكهف، الآية: 31.
2- سورة البقرة، الآية: 253.

ولو سلم، فلا محيص عن أنّه هاهنا بهذا اللحاظ يراد؛ حيث ورد جواباً عن السّؤال عن تكرار الحجّ بعد أمره به. فقد روي أنّه خطبَ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: «إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ»، فقام عكاشة - ويُروى سراقة بن مالك - فقال: في كلّ عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه، حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال: «ويحك! وما يؤمنك أن أقول نعم؟ واللّه لو قلتُ نعم، لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتم، وإنّما هلك من كان قبلَكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»(1).

___________________________________________

{و} إن قلت: إنّ كون التبعيض بلحاظ الأفراد خلاف الظّاهر، إذ الظّاهر كونه بلحاظ الأجزاء.

قلت: {لو سلم} ذلك ولم يناقش فيه {فلا محيص عن أنّه هاهنا بهذا اللحاظ يراد} أي: إنّ التبعيض في الرّواية هنا بلحاظ الأفراد لا الأجزاء، وإنّما قلنا بأنّه لا محيص لوجود القرينة المعيّنة {حيث} إنّ هذا الحديث {ورد جواباً عن السّؤال عن تكرار الحجّ بعد أمره}(صلی الله علیه و آله) {به} أي: بالحجّ {فقدروي} كما في الوسائل(2)

وغيره باختلاف يسير في ألفاظ الرّوايات {أنّه خطب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: «إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ»، فقام عكاشة - ويروى سراقة بن مالك - فقال: في كلّ عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه، حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثاً} في كلّ مرّة يسأل عنه(صلی الله علیه و آله) وهو لا يجيب {فقال}(صلی الله علیه و آله): {«ويحك! وما يؤمنك أن أقول نعم؟ واللّه لو قلت نعم لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتم، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»} فإنّ الظّاهر من الحديث أنّ المراد

ص: 413


1- بحار الأنوار 22: 31؛ مجمع البيان في تفسير القرآن 3: 386، مع اختلاف يسير.
2- لم نعثر على ذلك في وسائل الشيعة.

ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثّاني أيضاً، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها؛ لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها،

___________________________________________

بالإتيان حسب الاستطاعة في أفراد الواجب لا أجزائه؛ لأنّه في مقابل أن يؤتى به كلّ عام لا في مقابل أن يؤتى بالفعل كاملاً غير منقوص.

لا يقال: إنّ الحجّ لا يجب حسب المستطاع، بل مرّة واحدة.

لأنّا نقول: أوّلاً: إنّ هذا الإشكال لا يصحّح كون المراد من الاستطاعة بالنسبة إلى الأجزاء.

وثانياً: أنّ مقتضى الحديث هو ذاك، لكن الدليل الخارجي دلّ على الوحدة، فلا بدّ وأن يحمل على الاستطاعة النّوعيّة من حيث العدد، ومن المعلوم أنّ النّوع لا يستطيعون أكثر من مرّة، فتأمّل.

{و} كيف كان، لا يكون هذا الحديث دليلاً على الميسور الّذي أُريد به الاستدلال على لزوم الإتيان بالناقص إذا تعذّر بعض الأجزاء والشّرائط، و{من ذلك} الإشكال في هذا الحديث {ظهر الإشكال في دلالة} الحديث {الثّاني} وهو قوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور» {أيضاً، حيث لم يظهر} أي: ليس له ظهور {في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها} حتّى يراد بالحديث أنّ الأجزاء الميسورة تبقى واجبة وإن تعذّرت بعض الأجزاء {لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها} فإذا وجب عام ولم يتمكّن المكلّف من امتثال تمام أفراده لا يسقط التكليف مطلقاً، بل يجب أن يأتي بما يتمكّن من أفراده.

مثلاً: لو وجب إطعام كلّ فقير فلم يتمكّن أطعم من تمكّن منه. لكن الإنصاف أنّ تخصيص الدليل بالأفراد لا وجه له، بل هو عامّ يشمل ذي الأجزاء وذي الأفراد.

ص: 414

هذا.

مضافاً إلى عدم دلالته على عدم السّقوط لزوماً؛ لعدم اختصاصه بالواجب. ولا مجال معه لتوهّم دلالته على أنّه بنحو اللزوم، إلّا أن يكون المرادُ عدمَ سقوطه بما له من الحكم - وجوباً كان أو ندباً - بسبب سقوطه عن المعسور،

___________________________________________

{هذا مضافاً إلى} أنّه لو سلم دلالة الرّواية على عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها لم يكف في ما نحن بصدده من وجوب الأجزاء الميسورة، إذ الرّواية دلّت على عدم السّقوط، لكن عدم السّقوط أعمّ من عدم السّقوط وجوباً أو استحباباً.

وبعبارة أُخرى: الرّواية تدلّ على ثبوت الميسور، لكن لا دلالة لها على أنّ هذا الثبوت هل هو على وجه الوجوب أو الاستحباب؟

إن قلت: ظاهرها الثبوت وجوباً.

قلت: كلّا، إذ دليل الميسور جار في كلّ واجب ومستحبّ، فيدلّ على بقاء الرّجحان للأجزاء الباقية، والرّجحان أعمّ من الوجوب، ف- {عدم دلالته على عدم السّقوط} لا يفيد المستدلّ، إذ لا يدلّ على عدم السّقوط {لزوماً لعدم اختصاصه} أي: الحديث {بالواجب ولا مجال معه} أي: مع عدم الاختصاص بالواجب {لتوهّم دلالته} أي: دلالة الحديث {على أنّه} أي: عدم السّقوط {بنحو اللزوم} والوجوب.اللّهمّ {إلّا أن} يقال: إنّ ظاهر الحديث عدم سقوط كلّ ميسور بحسبه، فلا يسقط الميسور من الواجب لزوماً ولا يسقط الميسور من المستحبّ ندباً، ف- {يكون المراد عدم سقوطه} أي: الميسور {بما له من الحكم - وجوباً كان أو ندباً - بسبب سقوطه عن المعسور}.

وقوله: «بسبب» متعلّق بقوله: «عدم سقوطه» أي: لا يسقط الحكم السّابق - وجوباً كان أم ندباً - إذا تعسّر بعض الأجزاء، بل يبقى الحكم السّابق على ما

ص: 415

بأن يكون قضيّة الميسور كناية عن عدم سقوطه؛ بحكمه حيث إنّ الظّاهر من مثله هو ذلك - كما أنّ الظّاهر من مثل: «لا ضرر ولا ضرار» هو نفي ما لَه من تكليف أو وضع - ، لا أنّها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه، وبقائه على عهدة المكلّف، كي لا يكون له دلالة على جريان القاعدة في المستحبّات على وجه، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على

___________________________________________

تيسّر، فالميسّر من صلاة الظّهر واجب، والميسّر من نافلة الظّهر مستحبّ {بأن يكون قضيّة الميسور كناية عن عدم سقوطه} أي: سقوط الميسور {بحكمه} أي: بما له من الحكم {حيث إنّ الظّاهر من مثله} ممّا يثبت الحكم بلسان إثبات الموضوع {هو ذلك} وأنّ نفس الحكم باقٍ، لا أنّ الباقي شيء في الجملة وإن كان مخالفاً للحكم السّابق، فلو قال: (الصّيد بعد الخروج عن الإحرام ثابت) كان معناه أنّ حكم الصّيد الّذي هو الجواز ثابت، فلا يقال أنّه محتمل للوجوب والنّدب والجواز - مثلاً - .

{كما أنّ الظّاهر من مثل: «لا ضرر ولا ضرار»} الّذي هو عكس ما نحن فيه، إذ ما نحن فيه إثبات الحكم بلسان إثبات موضوعه، وهنا نفي الحكم بلسان نفي موضوعه {هو نفي ما له} أي: للموضوع الضّرري {من تكليف أو وضع} فالصوم الضّرري غير واجب، والبيع الضّرري غير لازم الوفاء به، بمعنى أنّ كلّ حكم كان سابقاً للموضوع إذا صار الموضوع ضرريّاً يرتفع ذلك الحكم، وفي ما نحن فيه هكذا، فالميسور من الواجب واجب، ومن المستحبّ مستحبّ.

{لا أنّها} أي: ليس قضيّة الميسور {عبارة عن عدم سقوطه} أي: الميسور {بنفسه وبقائه على عهدة المكلّف} وجوباً {كي لا يكون له} أي: للحديث {دلالة على جريان القاعدة في المستحبّات على وجه} وهو حمل عدم السّقوط على الوجوب {أو لا يكون له} أي: للحديث {دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على}

ص: 416

آخر، فافهم.

وأمّا الثّالث: فبعد تسليم ظهور كون الكلّ في المجموعي لا الأفرادي، لا دلالة له على رجحان الإتيان بباقي الفعل المأمور به - واجباً كان أو مستحبّاً - عند تعذّر بعض أجزائه؛

___________________________________________

وجه {آخر} وهو حمل الثبوت - أي: عدم السّقوط - على الرّجحان في الجملة، بل المراد أنّ الميسور ثابت كما كان في كلّ شيء بحسبه، فالثبوت في الواجب واجب، وفي المستحبّ مستحبّ {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما تقدّم منّا من الإشكال في إيراده على قاعدة الميسور قبل قوله: «مضافاً»، فراجع.

{وأمّا} الحديث {الثّالث} وهو قوله: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» الّذي استدلّ به لوجوب النّاقص بعد تعذّر الأجزاء والشّرائط، بمعنى الصّلاة الّتي لا تدرك جميع أجزائها، بل يؤتى ببعضها الّذي يدرك {فبعد تسليم ظهور كون الكلّ} في قوله: «كلّه» {في المجموعي} أي: في الشّيء ذات الأجزاء حتّى يكون المراد بكلّه كلّ أجزائه {لا الأفرادي} أي: في الكلّي ذي الأفراد، نحو الإنسان الّذي هو مشتمل على زيد وعمرو وبكر.

وإنّما قال: «بعد تسليم» لاحتمال أن يكون المراد أنّه لو أمر بالصلاة الكلّي فلم يتمكّن المكلّف من بعض أفرادها يأتي بما يتمكّن من أفرادها الأُخر، كما سبق من المصنّف(رحمة الله) مثله في الرّوايتين السّابقتين، حتّى يكون المعنى الكلّي الّذي لا يدرك المكلّف من الإتيان بجميع أفراده يأتي بما تيسّر من أفراده {لا دلالة له إلّا على رجحان الإتيان بباقي الفعلالمأمور به} فإذا تعذّرت بعض أجزاء الصّلاة رجح الإتيان بالأجزاء الممكنة، فإنّ قوله: «لا يترك» لا دلالة له على حرمة الترك، وإنّما يدلّ على رجحان عدم الترك {واجباً كان أو مستحبّاً عند تعذّر بعض أجزائه}.

ص: 417

لظهور الموصول في ما يعمّهما.

وليس ظهور «لا يترك» في الوجوب - لو سلم - موجباً لتخصيصه بالواجب، لو لم يكن ظهوره في الأعمّ قرينة على إرادة خصوص الكراهة، أو مطلق المرجوحيّة من النّفي.

___________________________________________

وإنّما قلنا بأنّ الحديث لا يدلّ إلّا على رجحان القدر الميسور - لا وجوبه - {لظهور الموصول} وهو كلمة «ما» في قوله: «ما لا يدرك» {في ما يعمّهما} أي: الواجب والنّدب، فالمعنى أنّ الواجب والمندوب الّذي لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، ومن المعلوم أنّ عدم ترك الميسور من المندوب ليس واجباً، بل راجحاً، فالحديث يدلّ على رجحان عدم ترك الميسور، فلا يدلّ على الوجوب الّذي هو مراد المستدلّ.

{و} إن قلت: ظاهر قوله: «لا يترك» وجوب عدم الترك؛ لأنّه من قبيل النّهي الظّاهر في التحريم فالمعنى يحرم ترك الميسور، وبهذه القرينة تحمل «ما» الموصولة على خصوص الواجب، ويكون المعنى: الواجب الّذي لا يدرك كلّ أجزائه لا يترك كلّ أجزائه.

قلت: {ليس ظهور «لا يترك» في الوجوب - لو سلم -} له ظهور في الوجوب نفسه {موجباً لتخصيصه} أي: تخصيص «ما» الموصولة {بالواجب} كما ذكر في الإشكال، بل نقول بالعكس وإنّ ظهور «ما» الموصولة في الأعمّ من الواجب والمستحبّ أوجب التصرّف في ظهور «لا يترك»، وحمله على مطلق مرجوحيّة الترك ليلائم المستحب.

وهذا ما أشار إليه بقوله: {لو لم يكن ظهوره في الأعمّ} أي: ظهور «ما» في الأعمّ من الواجب والمستحبّ {قرينة على إرادة خصوص الكراهة} من الترك في قوله: «لا يترك» يعني أنّ تركه مكروه {أو مطلق المرجوحيّة} الملائم للحرام والمكروه {من النّفي} وهو قوله: «لا يترك».

ص: 418

وكيف كان، فليس ظاهراً في اللزوم هاهنا، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام.

ثمّ إنّه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفاً، كانت القاعدة جارية مع تعذّر الشّرط أيضاً؛ لصدقه

___________________________________________

{وكيف كان، فليس} «لا يترك» {ظاهراً في اللزوم هاهنا} في حديث «ما لا يدرك» {ولو قيل بظهوره} أي: ظهور النّفي {فيه} أي: في اللزوم {في غير المقام} وهو حديث «الميسور لا يسقط بالمعسور».

لكن لا يخفى أنّ ما سلّمه المصنّف في حديث الميسور - وهو أنّ عدم سقوط كلّ شيء بحسبه - آتٍ هنا، فالمعنى: أنّ كلّ واجب ومستحبّ لا يدرك كلّه لا يترك - وجوباً أو استحباباً - كلّه، وأيّ فرق بين المقامين حتّى سلّمه هناك دون هنا؟!

وبعد هذا كلّه، فالإنصاف أنّ الأحاديث الثلاثة دالّة على الوجوب، ولذا اشتهر التمسّك بها عملاً وفتوى من أوّل الفقه إلى آخره، والمناقشات المذكورة علميّة لا تضرّ بالظهور.

{ثمّ} إنّ المناط في الميسور من الشّيء هو العرف - لا العقل - ، فكلّما رأى العرف أنّ الفاقد ميسور من الكامل لزم الإتيان به وإن رآه العقل مبايناً، وكلّما لم يره العرف ميسوراً لم يلزم الإتيان به وإن رآه العقل ميسوراً، وإذا دلّ دليل خارجيّ على أنّ بعض ما يراه العرف ميسوراً ليس بميسور - كالصلاة الفاقد للطهور - أو على أنّ ما يراه ليس بميسور وهو ميسور - كالتسبيحات الأربعة في صلاة الغريق - فالمتّبع هو الدليل لا القاعدة، كما لا يخفى.

وإلى هذا التفصيل أشار المصنّف بقوله: {إنّه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفاً} حتّى يقول العرف أنّ الصّلاة بغير سورة - مثلاً - ميسور من الصّلاة مع السّورة {كانت القاعدة جارية مع تعذّر الشّرط أيضاً} كما لو تعذّر السّتر مثلاً، فإنّه بنظر العرف مثل تعذّر الجزء {لصدقه} أي:

ص: 419

حقيقة عليه مع تعذّره عرفاً، كصدقه عليه كذلك مع تعذّر الجزء في الجملة، وإن كان فاقد الشّرط مبايناً للواجد عقلاً، ولأجل ذلك ربّما لايكون الباقي - الفاقد لمعظم الأجزاء أو لركنها - مورداً لها، في ما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفاً، وإن كان غير مباين للواجد عقلاً.

نعم، ربّما يلحق به شرعاً ما لا يعدّ بميسور عرفاً بتخطئته للعرف،

___________________________________________

الميسور {حقيقة} وعرفاً {عليه} أي: على الباقي {مع تعذّره} أي: تعذّر الشّرط {عرفاً} قيد لقوله: «لصدقه» {كصدقه} أي: الميسور {عليه} أي: على الباقي {كذلك} أي: عرفاً {مع تعذّر الجزء في الجملة} أي: في ما لم يكن الجزء والشّرط ممّا يفقد الكلّ بفقدهما.

فمثلاً: تعذّر النّار الّتي هي شرط تكون المرق موجب لعدم الصّدق فليس الّتي ميسوراً من المرق، كما أنّ عدم اللحم الّذي هو جزء لماء اللحم موجب لعدم الصّدق فليس الماء والحِمَّص وما أشبه ميسوراً من ماء اللحم {وإن كان فاقد الشّرط مبايناً للواجد عقلاً} أي: في نظر العقل.

{ولأجل ذلك} الّذي ذكرنا من دوران الأمر مدار الصّدق العرفي {ربّما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الأجزاء أو لركنها} أي: ركن الأجزاء - كاللحم في المثال - {مورداً لها} أي: لقاعدة الميسور {في ما إذا لم يصدق عليه} أي: الفاقد {الميسور عرفاً وإن كان غير مباين للواجد عقلاً} لما قد عرفت من كون الاعتبار بالعرف لا بالعقل والدقّة.

{نعم، ربّما} يكون شيء لا يعدّ ميسوراً عرفاً لكن الشّارع ألحقه بالميسور بالدليل الخارجي، ف- {يلحق به} أي: بالميسور {شرعاً} بالدليل {ما لا يعدّ بميسور عرفاً بتخطئته} أي: تخطئة الشّرع {للعرف} كأن يعدّ الشّارع غسل الجبيرة الموضوعة على الرّأس أو المسح عليها ميسوراً من الغسل والمسح

ص: 420

وأنّ عدم العدّ كان لعدم الاطّلاع على ما هو عليه الفاقد، من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد، أو بمعظمه في غير الحال، وإلّا عدّ أنّه ميسوره.

كما ربّما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفيّ لذلك - أي: للتخطئة - وأنّه لا يقوم بشيء من ذلك.

وبالجملة: ما لم يكن دليل على الإخراج أو الإلحاق كان المرجع هو الإطلاق،

___________________________________________

الواجبين في الوضوء، مع أنّها ليسا عرفاً بميسور إطلاقاً.

{و} بذلك ينبّه الشّارع على {أنّ عدم العدّ كان لعدم الاطّلاع} من العرف {على ما هو عليه الفاقد} أي: على الصّفة الحقيقيّة الواقعيّة الّتي يتّصف بها الفاقد {من قيامه} أي: الفاقد {في هذا الحال} أي: حال التعذّر {بتمام ما قام عليه الواجد أو بمعظمه في غير الحال} أي: حال القدرة، حتّى أنّ العرف لو كان له اطّلاع بالواقع لعدّه ميسوراً أيضاً {وإلّا} فلو كان العرف مطّلعاً {عدّ أنّه} أي: الباقي {ميسوره} أي: الميسور من الواجد المتعذّر فعلاً.

{كما ربّما} يكون الأمر بالعكس، بأن {يقوم الدليل} الخارجي {على سقوط ميسور عرفي} كما قام الدليل على أنّ الصّوم إذا تخلّله - ولو شرب قطرة ماء عمدي - يسقط عن كونه صوماً، فلو اضطرّ إلى شرب قطرة دواء لم يجب عليه الصّوم، مع أنّ الإمساك بجميع شرائطه المتخلّل بقطرة دواء ميسور عرفاً عن الإمساك المطلق، فالدليل دلّ على أنّه ليس بميسور {لذلك، أي: للتخطئة} وأنّه واقعاً فاقد لملاك الميسور، حتّى أنّ العرف لو اطّلع على الواقع لم يجعله ميسوراً أيضاً {وإنّه لا يقوم بشيء من ذلك} الواجد للأجزاء والشّرائط.

{وبالجملة ما لم يكن دليل} خارجي {على الإخراج} لبعض أفراد الميسور العرفي عن كونه ميسوراً - كمثال الصّوم - {أو الإلحاق} لبعض ما ليس بنظر العرف ميسوراً بالميسور - كمثال الجبيرة - {كان المرجع هو الإطلاق} أي: إطلاق

ص: 421

ويستكشف منه أنّ الباقي قائم بما يكون المأمور به قائماً بتمامه، أو بمقدار يوجب إيجابه في الواجب، واستحبابه في المستحبّ.وإذا قام الدليل على أحدهما فيخرج أو يدرج، تخطئة أو تخصيصاً في الأوّل، وتشريكاً في الحكم - من دون الاندراج - في الموضوع في الثّاني، فافهم.

___________________________________________

دليل الميسور.

{ويستكشف منه} أي: من الإطلاق {أنّ الباقي} الصّادق عليه الميسور {قائم بما يكون المأمور به قائماً بتمامه} كأن يكون الفاقد للستر محصّلاً للغرض كما كان الواجد {أو} قائم {بمقدار يوجب إيجابه} أي: إيجاب الباقي {في الواجب واستحبابه في المستحبّ} كأن يكون السّتر محصّلاً لتسعين بالمائة من الواجد - مثلاً - حتّى أنّه لو كان هذا المقدار من أوّل الأمر لوجب أو استحبّ {وإذا قام الدليل على أحدهما} أي: الإخراج عن كونه ميسوراً أو الإلحاق بكونه ميسوراً {فيخرج} الأوّل {أو يدرج} في الميسور الثّاني {تخطئة} من الشّارع للعرف المخرج ما هو ميسور أو المدخل ما ليس بميسور {أو تخصيصاً في الأوّل} أي: لا يكون الإخراج من باب التخطئة، بل من باب التخصيص، بأن يكون الشّارع يعترف بأنّ هذا ميسور، لكنّه يخصّصه عن دليل الميسور.

وقوله: «في الأوّل» أي: من باب الإخراج {وتشريكاً في الحكم} بأنّ حكم الشّارع بأنّ هذا الشّيء الّذي أقمته مقام الوضوء التامّ - كالجبيرة - ليس بميسور من الوضوء وإنّما شركته في الحكم مع الوضوء {من دون الاندراج في الموضوع} للميسور، فهو وإن كان ليس بميسور إلّا أنّه مدرج في الحكم {في الثّاني} أي: في صورة إدراج فرد ليس بميسور في الحكم {فافهم} لعلّه إشارة بأنّ ظاهر الإدخال والإخراج كونه من الميسور؛ لأنّه من باب التخطئة والتشريك، وإن كان كلّ من الأمرين محتملاً في مقام الثبوت والواقع.

ص: 422

تذنيب: لا يخفى أنّه إذا دار الأمر بين جزئيّة شيء أو شرطيّته، وبين مانعيّته أو قاطعيّته، لكان من قبيل المتباينين، ولا يكاد يكونُ من الدوران بين المحذورين، لإمكان الاحتياط بإتيان العمل مرّتين، مع ذاك الشّيء مرّة، وبدونه أُخرى، كما هو واضح من أن يخفى.

خاتمة: في شرائط الأصول

___________________________________________

{تذنيب} لمسألة البراءة والاحتياط {لا يخفى أنّه إذا دار الأمر بين جزئيّة شيء أو شرطيّته وبين مانعيّته أو قاطعيّته} أي: شكّ بين جزئيّته ومانعيّته، أو شكّ بين شرطيّته وقاطعيّته، كما لو شكّ بأنّ السّورة في الرّكعة الثّالثة جزء أو مانع، أو شكّ بأنّ جواب السّلام في الأثناء شرط أو قاطع {لكان} هذا الشّكّ {من قبيل} الشّكّ بين {المتباينين} المقتضي للاحتياط، فيجب الإتيان بالصلاة تارة مع السّورة وأُخرى بدونها، وتارة مع الجواب وأُخرى بدونها - مثلاً - .

{ولا يكاد يكون من} باب {الدوران بين المحذورين} المقتضي للتخيير، وذلك لأنّ الدوران بين المحذورين إنّما يكون في ما لا يمكن الاحتياط، كمنذورة الوطي أو الترك، وتردّد اليوم بين كونه رمضان أو عيد شوّال مثلاً، وليس ما نحن فيه من ذلك {لإمكان الاحتياط بإتيان العمل مرّتين} بأن يأتي به {مع ذاك الشّيء} المشكوك في جزئيّته أو شرطيّته {مرّة وبدون أُخرى} فيكون قد أحرز الواقع {كما هو أوضح من أن يخفى}.

نعم، لو لم يتمكّن من الإتيان مرّتين، كما لو كان الوقت ضيّقاً - مثلاً - كان من دوران الأمر بين المحذورين، ويكون المرجع التخيير.

[خاتمة في شرائط الأصول]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، خاتمة في شرائط الأصول

{خاتمة في شرائط الأصول} المراد بها هي البراءة والاحتياط، وإنّما أتى بلفظ الجمع لأنّ كلّاً من هذين الأصلين ينقسم إلى عقليّة وشرعيّة، كما لا يخفى.

ص: 423

أمّا الاحتياط: فلا يعتبر في حسنه شيء أصلاً، بل يحسن على كلّ حال إلّا إذا كان موجباً لاختلال النّظام.

ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقاً، ولو كان موجباً للتكرار فيها.

وتوهّم: «كون التكرار عبثاً ولعباً بأمر المولى، وهو ينافي قصدالامتثال المعتبر في العبادة».

___________________________________________

{أمّا} شرط {الاحتياط فلا يعتبر في حسنه شيء أصلاً} ممّا اعتبر في البراءة والاستصحاب ونحوهما {بل يحسن على كلّ حال} سواء قام الدليل على الحكم أم لا، وسواء استلزم التكرار أم لا، وسواء كان قبل الفحص أم لا {إلّا إذا كان موجباً لاختلال النّظام} فإنّه حينئذٍ قبيح لا حسن فيه؛ لأنّ مناط الاختلال أقوى من مناط الحسن الموجود في الاحتياط، إذ العقل إنّما يحسن الاحتياط؛ لأنّه إدراك لمصلحة الواقع، وإن كان المولى اكتفى بدونه لنصبه الطّريق أو جعله الأصل العملي، ومن المعلوم أنّ مصلحة استتباب النّظام من أهمّ المصالح، فلا يزاحمه مصلحة إدراك الواقع.

{ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات} كما لا تفاوت فيه بين أقسام كلّ منهما {مطلقاً ولو كان موجباً للتكرار فيها} إذ قد يكون الاحتياط في العبادة بإتيان الأكثر في ما لو دارت بين الأقلّ والأكثر، كما لو دارت بين الصّلاة مع السّورة والصّلاة بدونها وقد يكون الاحتياط بإتيان أمرين، كما لو دارت بين صلاة الجمعة وصلاة الظّهر، أو كان أحد ثوبيه نجساً ممّا أوجب الإتيان بالصلاة مرّتين، مرّة في هذا الثوب ومرّة في ذاك.

{وتوهّم: «كون التكرار عبثاً ولعباً بأمر المولى، وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة»} فلا يتأتّى القصد المذكور من المحتاط، فلا يمكن الاحتياط في العبادة فإنّ المولى أمر بصلاة واحدة، فالإتيان بها مرّتين نحو (لعب) و(عبث)

ص: 424

فاسد؛ لوضوح أنّ التكرار ربّما يكون بداعٍ صحيح عقلائي، مع أنّه لو لم يكن بهذا الداعي، وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه، لما ينافي قصد الامتثال، وإن كان لاعباً في كيفيّة امتثاله،

___________________________________________

وبالشيء اللعبي لا يمكن قصد القربة. وهذا بخلاف التوصليّات الّتي وإن فرض الاحتياط فيها لعباً، لكن المقصود وجود المأمور به في الخارج وقد وجد {فاسد} إذ لا نسلّم أنّ التكرارمطلقاً لعب وعبث، فإنّه إنّما يتّصف باللعبيّة إذا لم يكن بداع عقلائي بل بداعي البطالة، وليس دائماً كذلك {لوضوح أنّ التكرار ربّما يكون بداع صحيح عقلائي} كما لو صعب على المكلّف تحصيل القبلة، فإنّه يصلّي إلى طرفين مثلاً، أو صعب عليه غسل الثوب ليصلّي في ثوب طاهر متيقّن فيصلّي في ثوبين، أو كان داعيه التمرّن على الصّلاة أو تحصيل الخشوع الحاصل من تكرار الصّلاة.

{مع أنّه لو لم يكن بهذا الداعي} أي: بداع عقلائي، بل كان لمجرّد ميل النّفس {و} لكن {كان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه} بأن كان داعيه إلى الصّلاة أمر الشّارع ولكن كان داعيه إلى التكرار مجرّد العبث، كما لو كان داعي المأمور في إتيانه بالكتاب أمر المولى - في ما لو أمر بإحضار الشّرائع مثلاً - لكنّه أتى بعشرة كتب في ما بينها الشّرائع، فإنّه يكون ممتثلاً وإن كان لاعباً في طريق الامتثال، فإنّه لو كان قصده من أصل العمل أمر المولى {لما ينافي} التكرار {قصد الامتثال وإن كان لاعباً في كيفيّة امتثاله} فإنّ أصل الامتثال شيء وطريق الامتثال شيء آخر، فالزمان المعيّن كأوّل الظّهر، والمكان المعيّن ككون الإتيان في المسجد، والكيفيّة المعيّنة ككونها بجماعة، أو في لباس خاصّ أو نحو ذلك كلّها من طرائق الامتثال وليست من أصل الامتثال، وكذلك الوحدة والتكرار فهما طريقان للامتثال وليسا نفس الامتثال.

ص: 425

فافهم.

___________________________________________

{فافهم} لعلّه إشارة إلى الإشكال في أصل حسن الاحتياط، فإنّ العرف لا يرون حسن من يأتي بأوامر المولى على نحو الاحتياط - مطلقاً - ، ألا ترى أنّ المولى لو أمر بدقّ مسمار في الحائط فدقّ العبد في كلّ مكان من الحائط مسماراً كان له حقّ العقاب - لا من جهة كونه تصرّفاً غير جائز، لفرض كون الحائط والمسمار مباحين - بل من جهة أنّه لعب وعبث، وكذلك لو أمر بالذهاب إلى دار زيد، فذهب إلى عشرة دور احتياطاً مع التمكّن من تحصيل الواقع بلا تكلّف وحرج، وهكذا.

ولعلّ السّرّ أنّ الامتثال عبارة عن إطاعة المولى في أوامره بقدره، فكما أنّ النّقصان خلاف الأمر كذلك الزيادة وإن كانت الزيادة غير متّصلة، ولذا نرى أنّ من يتردّد في الأعمال يعدّ خارجاً عن المتعارف، وليجرّب كلّ أحد نفسه، فلو أمر ولده بالإتيان بإناء، فلم يعرف الولدالإناء المراد، ولم يسأل عن إمكانه، ثمّ أتى بكلّ إناء في البيت، كان للأب عقابه عرفاً لعمله.

هذا وقد فصّلنا ذلك في بعض مباحثنا، كما أنّ قوله: «فافهم» لعلّه إشارة إلى منع التكرار في العبادة وأنّه لعب في ذات العبادة لا في كيفيّة الامتثال، إذ فرق بين الزمان والمكان ممّا هو خارج عن حقيقة العبادة وبين التعدّد ممّا هو نفس العبادة، بالإضافة إلى أنّ العبادة توقيفيّة، فمن المحرّم الإتيان بعبادة غير مشروعة والاحتياط يستلزم ذلك.

فمثلاً: الصّلاة في ثوب نجس محرّم، فكيف يأتي الإنسان بها في ثوبين يعلم بكون أحدهما نجساً مع تمكّنه من الفحص، وكذلك الصّلاة خلاف القبلة والصّلاة بدون الطّهارة الحدثيّة.

هذا بالإضافة إلى احتمال أنّ المحتاط فيه سبب لمفسدة واقعيّة غير مرضيّة

ص: 426

بل يحسن أيضاً في ما قامت الحجّة على البراءة عن التكليف؛ لئلّا يقع في ما كان - في مخالفته على تقدير ثبوته - من المفسدة وفوتِ المصلحة.

وأمّا البراءة العقليّة: فلا يجوز إجراؤها إلّا بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة على التكليف؛ لما مرّت الإشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلّا بعدهما.

___________________________________________

عند الشّارع، كما لو احتاط بإعطاء الخمس مرّتين من مال الطّفل، وبمجرّد هذا الاحتياط لا يحكم العقل بحسن الاحتياط، ومن أين لنا أن نقطع بعدم هذه المفسدة في الاحتياط.

اللّهمّ إلّا إذا دلّ دليل قطعيّ على ذلك، كما ورد في بعض الشّرعيّات، وأدلّة الاحتياط الشّرعيّة منصرفة إلى المشتبهات الّتي يقطع بعدم ضرر في الاحتياط بالنسبة إليها.

وكيف كان، ففتح باب الاحتياط بمثل هذه السّعة خلاف ما يستفاد من الأدلّة وسيرة المتشرّعة، ولا يبعد أن يكون خروجاً عن متعارف الموالي والعبيد {بل يحسن} الاحتياط {أيضاً في ما قامت الحجّة على البراءة عن التكليف} كما لو دلّ الدليل على عدم التكليف ثمّ احتاط المكلّف {لئلّا يقع في ما كان - في مخالفته} أي: في مخالفة التكليف {على تقدير ثبوته -} أي: ثبوت التكليف واقعاً {من المفسدة} بيان «ما» {وفوت المصلحة} عطف على «المفسدة».

{وأمّا} شرط {البراءة العقليّة} وهي قبح العقاب بلا بيان {فلا يجوز إجراؤها إلّا بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة على التكليف} وذلك لأنّ القبح للعقاب إنّما هو في ما لم يكن بيان، ووجود البيان وعدمه إنّما يعلمان بعد الفحص، فبدون الفحص لا يعلم القبح، فلا تجري البراءة {لما مرّت الإشارة إليه} في الدّليل الرّابع من أدلّة البراءة {من عدم استقلال العقل بها} أي: بالبراءة {إلّا بعدهما} أي: بعد الفحص واليأس.

ص: 427

وأمّا البراءة النّقليّة: فقضيّة إطلاق أدلّتها، وإن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها، كما هو حالها في الشّبهات الموضوعيّة، إلّا أنّه استدلّ على اعتباره بالإجماع، وبالعقل، فإنّه لا مجال لها بدونه؛ حيث يعلم إجمالاً بثبوت التكليف بين موارد الشّبهات،

___________________________________________

{وأمّا} شرط {البراءة النّقليّة} وهي «رفع ما لا يعلمون»(1)، «و ما حجب اللّه علمه عن العباد»(2)، و«النّاس في سعة»(3)

وأشباهه {ف-} نقول: إنّ {قضيّة} أي: مقتضى {إطلاق أدلّتها} كالروايات السّابقة {وإن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها} مثلاً «رفع ما لا يعلمون» له إطلاق بالنسبة إلى ما قبل الفحص وما بعد الفحص، وكذا سائر الرّوايات {كما هو حالها في الشّبهات الموضوعيّة} حيث تجري البراءة بدون الفحص.لكن لا يخفى أنّا ذكرنا في غير مورد من كتبنا لزوم الفحص في الشّبهات الموضوعيّة أيضاً، فراجع كتاب الحجّ من الفقه في شرح العروة(4)

وغيره {إلّا أنّه استدلّ على اعتباره} أي: اعتبار الفحص في الشّبهات الحكميّة {بالإجماع} حيث قام الإجماع على عدم جواز إجراء البراءة في الشّبهة الحكميّة بدون الفحص، وبلزوم الخروج عن الدين لو جاز إجراء البراءة بدون الفحص، إذ كلّ من بلغ التكليف يجري البراءة عن كلّ ما شكّ في وجوبه أو تحريمه.

{وبالعقل} وذكر وجه الاستدلال بالعقل بقوله: {فإنّه لا مجال لها} أي: للبراءة {بدونه} أي: بدون الفحص {حيث يعلم إجمالاً بثبوت التكليف بين موارد الشّبهات} فإنّ كلّ مكلّف يعلم إجمالاً بأنّ هناك تكاليف موجّهة إليه، ولا يجوز

ص: 428


1- الخصال 2: 417.
2- التوحيد: 413.
3- غوالي اللئالي 1: 414.
4- موسوعة الفقه 38: 97.

بحيث لو تفحّص عنه لظفر به.

ولا يخفى أنّ الإجماع هاهنا غير حاصل، ونقله - لوهنه - بلا طائل؛ فإنّ تحصيله في مثل هذه المسألة - ممّا للعقل إليه سبيل - صعبٌ،

___________________________________________

إجراء البراءة في أطراف العلم الإجمالي، فكلّ حكم يتحيّر فيه لا يصحّ له إجراء البراءة فيه إلّا بعد أن يفحص، فإن ظفر بما يدلّ على وجود الحكم في ذاك فهو وإلّا خرج هذا المشكوك عن كونه طرفاً للعلم الإجمالي، فيجري البراءة.

والحاصل: أنّه حيث يعلم بوجود الحكم {بحيث لو تفحّص عنه لظفر به} لم يجز له إجراء البراءة للتنافي بين العلم الإجمالي في البين، وبين إجراء البراءة في كلّ واحد من الأطراف، كما لا يصحّ الاستصحاب مع العلم الإجمالي.

هذا {و} لكن المصنّف(رحمة الله) لم يتمّ لديه هذان الدليلان: أمّا الإجماع فلاحتمال استناده إلى حكم العقل، ومن المعلوم أنّ الإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجّة، وأمّا العقل فلأنّ العلم الإجمالي منجّز إذا كان جميع أطرافه محلّ الابتلاء وكان المكلّف ملتفتاً إلى علمه الإجمالي، وشيء من الشّرطين ليس بموجود لدى الشّكّ في حكم - غالباً - فإنّه {لا يخفى أنّ الإجماع هاهنا} في مسألة وجوب الفحص {غير حاصل} فإنّ كثيراً من الفقهاء لم يذكروا هذه المسألة حتّى يحصل الإجماع من أقوالهم {ونقله} أي: نقل الإجماع الّذي وقع في كلام جمع، حيث ذكروا قيام الإجماع على لزوم الفحص {لوهنه} أي: وهن هذا النّقل {بلا طائل} وبغير فائدة، فلا يمكن الاعتماد على الإجماع المنقول في هذه المسألة {فإنّ} النّاقل الّذي حصل الإجماع بالتتبّع غفل عن شيء، وهو أنّ {تحصيله في مثل هذه المسألة ممّا للعقل إليه سبيل صعب} لاحتمال استناد المجمعين إلى دليل العقل لا إلى الدليل الشّرعي حتّى يكشف إجماعهم عن قول المعصوم أو دليل معتبر، فكشف الإجماع عن دليل معتبر صعب

ص: 429

لو لم يكن عادة بمستحيل؛ لقوّة احتمال أن يكون المستند للجلّ - لولا الكلّ - هو ما ذكر من حكم العقل.

وأنّ الكلام في البراءة في ما لم يكن هناك علم موجب للتنجّز، إمّا لانحلال العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال، أو لعدم الابتلاء إلّا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشّبهات، ولو لعدم الالتفات إليها.

___________________________________________

{لو لم يكن عادة بمستحيل لقوّة احتمال أن يكون المستند للجلّ لولا الكلّ هو ما ذكر من حكم العقل} بعدم البراءة قبل الفحص، وإنّ قبح العقاب إنّما هو بعد اليأس عن البيان.

ثمّ ذكر المصنّف(رحمة الله) حكم العقل بقوله: {وإنّ الكلام في البراءة في ما لم يكن هناك علم موجب للتنجّز} والاحتياط.

ثمّ إنّ عدم العلم {إمّا لانحلال العلم الإجمالي ب-} سبب {الظّفر بالمقدار المعلوم بالإجمال} فيكون الشّكّ في الباقي شكّاً بدويّاً {أو لعدم الابتلاء إلّا بما} أي: بمقدار {لا يكون بينها علم بالتكليف} وقوله: {من موارد الشّبهات} بيان لقوله: «بما» {ولو} كان عدم الابتلاء{لعدم الالتفات إليها} فإنّه إذا لم يكن بعض الأطراف محلّاً للابتلاء جرت البراءة فيها، ولو كان عدم الابتلاء من جهة غفلة الشّاكّ عن تلك الموارد، فلو شكّ المكلّف بأنّ هذا الإناء نجس أم لا وكان غافلاً عن علمه الإجمالي بأنّه إمّا نجس وإمّا ذاك الإناء الآخر جرت البراءة في هذا المشكوك فيه وإن كان طرفه الآخر أيضاً محلّاً للابتلاء.

ثمّ لو وصلت النّوبة إلى الإناء الثّاني وشكّ فيه جرت البراءة أيضاً لعدم علم إجماليّ فعلي، والعلم الإجمالي السّابق قد انحلّ بخروج الطّرف الأوّل عن محلّ الابتلاء، فيكون حال المغفول عنه حال الخارج عن محلّ الابتلاء، كما لو علم بأنّ إناءه هذا أو إناءُ ملك الهند نجس، فأجرى البراءة بالنسبة إلى إنائه لخروج إناء

ص: 430

فالأولى: الاستدلال للوجوب بما دلّ من الآيات والأخبار على وجوب التفقّه والتعلّم، والمؤاخذة على ترك التعلّم - في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم

___________________________________________

الملك عن محلّ الابتلاء، ثمّ اتفق اتفاقاً غير عادي ابتلاؤه بإناء الملك، لم يجب الاجتناب عنه؛ لأنّه لا علم إجماليّ حالاً بالنسبة إلى هذا أو غيره.

لا يخفى أنّا - وإن سلّمنا عدم إمكان الاعتماد في مسألة وجوب الفحص على الإجماع لما ذكر فيه من المناقشة - لكن يمكن الاعتماد على الدليل الثّاني للمشهور، إذ لا نسلّم غفلة المكلّف الجاهل، فإنّ كلّ مكلّف يعلم بتوجّه أحكام إليه، مضافاً إلى أنّ كون مثل هذه الغفلة - على فرض وجودها - سبباً للخروج عن محلّ الابتلاء محلّ مناقشة.

وعلى كلّ حال {فالأولى} عند المصنّف {الاستدلال للوجوب} أي: وجوب الفحص وعدم جواز إجراء البراءة في الشّبهات الحكميّة قبل الفحص {بما دلّ من الآيات والأخبار على وجوب التّفقه والتعلّم} نحو قوله - تعالى - : {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ}(1)، وقوله تعالى: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(2)، وقوله(علیه السلام): «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»(3)،

وقوله(علیه السلام): «ليت السّياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا»(4)،

وقوله(علیه السلام): «تفقّهوا وإلّا كنتم أعراباً»(5).

{و} بما دلّ على {المؤاخذة على ترك التعلّم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم} يعني: أنّ من اعتذر يوم القيامة عن عدم عمله بأنّه لم يكن يعلم، لا

ص: 431


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة النحل، الآية: 43؛ سورة الأنبياء، الآية: 7.
3- بحار الأنوار 1: 177.
4- بحار الأنوار 1: 213.
5- بحار الأنوار 1: 214.

- بقوله تعالى، - كما في الخبر - : «هلّا تعلّمت؟»(1). فيقيّد بها أخبارُ البراءة؛ لقوّة ظهورها في أنّ المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلّم في ما لم يعلم،

___________________________________________

يقبل عذره، بل يؤاخذ {بقوله - تعالى - كما في الخبر: «هلّا تعلّمت؟»} فقد ورد في تفسير قوله - تعالى - : {فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَٰلِغَةُۖ}(2)، إنّه يقال للعبد يوم القيامة: هل علمت؟ فإن قال: نعم، قيل له: فهلّا عملت؟ وإن قال: لا، قيل له: فهلّا تعلّمت حتّى تعمل(3)؟

وحيث ثبت وجوب التعلّم والتفقّه {فيقيّد بها} أي: بأدلّة التعلّم {أخبار البراءة} فيكون هكذا: النّاس في سعة ما لا يعلمون، بعد التعلّم والفحص.

وربّما قيل: أنّ لأخبار التعلّم والتفقّه موردين:الأوّل: مورد العلم الإجمالي، بأن يعلم إجمالاً بوجود حكم في هذه الأُمور الّتي هي محلّ ابتلائه.

الثّاني: مورد الشّكّ البدوي، كما لو شكّ بدواً بأنّه هل صلاة الجمعة واجبة أو هل شرب التتن حرام أو أشباه ذلك، فيجمع بين هذه الأخبار وبين أخبار البراءة نحو «رفع ما لا يعلمون»(4)

بتخصيص الطّائفة الأُولى بمورد العلم الإجمالي وتخصيص الطّائفة الثّانية بمورد الشّكّ البدوي، وعلى هذا فلا يجب الفحص في الشّبهات الحكميّة إلّا إذا كانت طرفاً للعلم الإجمالي، لكن هذا الكلام غير تامّ بل اللّازم أن تخصّص أخبار البراءة بكلا الموردين، وذلك بتقديم أخبار وجوب التعلّم على أخبار البراءة مطلقاً {لقوّة ظهورها} أي: ظهور أخبار وجوب التعلّم {في أنّ المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلّم في ما لم يعلم} سواء كان من قبيل الشّبهة

ص: 432


1- الأمالي (للشيخ الطوسي): 9، مع اختلاف.
2- سورة الأنعام، الآية: 149.
3- نور الثقلين 1: 776.
4- الخصال 2: 417.

لا بترك العمل في ما علم وجوبه ولو إجمالاً، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالاً، فافهم.

ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضاً بعين ما ذكر في البراءة، فلا تغفل.

___________________________________________

البدويّة أو من قبيل الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي {لا} أنّ المؤاخذة خاصّة {بترك العمل في ما علم وجوبه ولو إجمالاً} حتّى لا تكون مؤاخذة في الشّبهة البدويّة {فلا مجال للتوفيق} بين الطّائفتين {بحمل هذه الأخبار} الدالّة على وجوب التعلّم {على ما إذا علم إجمالاً، فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مقتضى الجمع الصّناعي بين الخبرين «النّاس في سعة ما لا يعلمون»(1)

و «اطلبوا العلم»(2)

هو ما ذكره المشهور؛ لأنّ ما لا يعلمون أعمّ من قبل الفحص وبعده، واطلبوا العلم خاصّ بما قبل الفحص، إذ ما بعد الفحص لا يعقل الطّلب، فلا حاجة إلى التمسّك بقوّة الظّهور وما أشبه.

{ولا يخفى} أنّه لو دار الأمر بين المحذورين - كما لو علم بوجوب صلاة الجمعة أو حرمتها - لم يجز إجراء أصالة التخيير العقلي قبل الفحص، بل اللّازم الفحص أوّلاً، ثمّ إن لم يظفر بالمرجّح جرى أصل التخيير، وذلك لأنّ أصل التخيير من مقدّماته عدم الرّجحان، وذلك ممّا لا يعلم إلّا بالفحص، ف- {اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضاً بعين ما ذكر} من الدليل {في} باب {البراءة، فلا تغفل} وإنّما خصّه بالتخيير العقلي؛ لأنّ التخيير الشّرعي الّذي هو بين الرّوايات المتعارضة قد نصّ في دليله بأنّه بعد الفحص عن الترجيح، كما أنّ التخيير العقلي في الشّبهات الموضوعيّة - كالمحلوفة على وطيها أو تركها - محتاج إلى الفحص واليأس، على ما اخترناه من لزوم الفحص في الشّبهات الموضوعيّة.

ص: 433


1- غوالي اللئالي 1: 424؛ مستدرك الوسائل 18: 20، مع اختلاف يسير.
2- الكافي 1: 36.

ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة - قبل الفحص - من التبعة والأحكام:

أمّا التبعة: فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة، في ما إذا كان ترك التعلّم والفحص مؤدّياً إليها؛ فإنّها وإن كانت مغفولة حينها وبلا اختيار، إلّا أنّها منتهية إلى الاختيار،

___________________________________________

{ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة - قبل الفحص - من التبعة والأحكام} بيان لقوله: «ما للعمل» وإنّه لو عمل بالبراءة ولم يفحص فهل يترتّب على عمله عقاب أو تبعة أم لا؟ وهل يفرق بين ما لو كانت البراءة مخالفة للواقع وبين ما لو كانت موافقة؟ فلو شرب التبغ قبل أن يفصح عن حرمته وحليّته، فهل يعاقب لو كان حراماً واقعاً أو مطلقاً؟ فنقول:

{أمّا التبعة} أي: العقوبة {فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة} لو كان التبغ - مثلاً - حراماً واقعاً {في ما إذا كان ترك التعلّم و} ترك {الفحص مؤدّياً إليها} أي: إلى المخالفة، إذ لا فرق في استحقاق المخالف بين كونه عالماً عامداً كما لو علم بحرمة الخمر وشربها، وبين كونه جاهلاً مقصّراً، كما لو لم يسأل عن حليّة الخمر وحرمتها وشربها، إذ كلّ مخالف عن عمد معاقب {فإنّها وإن كانت} المخالفة {مغفولةحينها} أي: حين المخالفة، بأن غفل عن كونها مخالفة أو لم يعلم أصلاً - كما هو المفروض - {وبلا اختيار} إذ الغافل ليس قابلاً للتكليف حتّى يقال بأنّه مختار {إلّا أنّها منتهية إلى الاختيار} فإنّ التفاته السّابق إلى احتمال الحرمة، ووجوب التعلّم كاف في صحّة العقوبة.

ألا ترى أنّ المولى لو أمر عبده بأن يطالع ما كتبه في الكتاب فيعمل على طبقه فلم يطالع العبد الكتاب واتفقت المخالفة لم يعذره العقلاء بجهله أو غفلته حين العمل المخالف، إذ الغفلة العذريّة هي الّتي كانت لا عن عمد، أمّا لو كانت

ص: 434

وهو كافٍ في صحّة العقوبة، بل مجرّد تركهما كافٍ في صحّتها، وإن لم يكن مؤدّياً إلى المخالفة مع احتماله؛ لأجل التجرّي وعدم المبالاة بها.

نعم،

___________________________________________

الغفلة وعدمها سواء بالنسبة إلى المكلّف حتّى أنّه لو التفت لكان آتياً بمقتضى البراءة - مثلاً - أيضاً لم تكن غفلته عذراً.

{وهو} أي: الانتهاء إلى الاختيار {كافٍ في صحّة العقوبة} عقلاً {بل} فوق ذلك، وهو أنّه لو أجرى البراءة وكان في الواقع غير محرّم استحقّ العقوبة أيضاً للتجرّي، ف- {مجرّد تركهما} أي: ترك التعلّم والفحص {كافٍ في صحّتها} أي: صحّة العقوبة {وإن لم يكن مؤدّياً إلى المخالفة} ولكن إنّما يستحقّ العقوبة في صورة عدم الحرمة الواقعيّة {مع احتماله} أي: احتمال الأداء إلى المخالفة.

وإنّما قيّدناه بذلك؛ لأنّه لو قطع بعدم الأداء لم يتحقّق التجرّي، فلا وجه للعقاب.

نعم، مع احتماله يستحقّ العقاب {لأجل التجرّي وعدم المبالاة بها} أي: بالمخالفة، لكن هذا إنّما يصحّ على تقدير حرمة التجرّي كما هو مبنى المصنّف(رحمة الله)، أمّا من يرى عدم الحرمة فلا حرمة، كما أنّه ربّما يشكل على العقاب ولو قلنا بحرمة التجرّي، إذ أنّ حرمة التجرّي متوقّفة على قصد المخالفة، كما لو شرب الماء بزعم أنّه خمر. ومن المعلوم أنّ مجرى البراءة لا يقصد المخالفة.

{نعم} ما ذكرنا من استحقاق العقاب لو لم يتعلّم، فترك الواجب إنّما هو في ما كان الواجب مطلقاً لا مشروطاً، إذ التعلّم في الواجب المطلق مقدّمة مطلقة، فإذا لم يتعلّم وترك بسببه الواجب كان تاركاً للواجب المطلق بسبب ترك مقدّمته، وذلك بخلاف الواجب المشروط كالحجّ مثلاً، فإنّه قبل الاستطاعة - مثلاً - لا

ص: 435

يشكل في الواجب المشروط والموقّت، ولو أدّى تركهما قبل الشّرط والوقت إلى المخالفة بعدهما، فضلاً عمّا إذا لم يؤدّ إليها؛ حيث لا يكون حينئذٍ تكليف فعليّ أصلاً، لا قبلهما - وهو واضح - ولا بعدهما - وهو كذلك - ؛ لعدم التمكّن منه بسبب الغفلة،

___________________________________________

يجب الحجّ فلا تجب مقدّمته الّتي هي التعلّم، فعدم تعلّمه ليس ضارّاً، وإذا حصلت الاستطاعة ولم يكن له وقت التعلّم فترك الحجّ بسببه لم يصحّ عقابه، فالتعلّم قبل الوجوب للحجّ ليس بواجب وبعد الوجوب غير متمكّن منه.

ومثله الواجب الموقّت، وهو الّذي له وقت خاصّ كصلاة الجمعة مثلاً، فإنّه قبل دخول الوقت لا وجوب لها حتّى تجب مقدّمتها وبعد دخول الوقت لا يتمكّن من التعلّم، ف- {يشكل} ما ذكرناه من العقاب على ترك الواجب لترك مقدّمته الّذي هو التعلّم {في الواجب المشروط و} الواجب {الموقّت} الّذي له وقت خاصّ، كصلاة الجمعة {ولو أدّى تركهما} أي: الفحص والتعلّم {قبل الشّرط} كالاستطاعة {و} قبل {الوقت} كالظهر {إلى المخالفة بعدهما} أي: بعد الشّرط والوقت {فضلاً عمّا إذا لم يؤدّ إليها} أي: إلى المخالفة، وذلك بخلاف الواجب المطلق الّذي ذكرنا فيه أنّه وإن لم يؤدّ إلى المخالفة كان معاقباً للتجرّي.

وإنّما قلنا بعدم العقاب ولو أدّى إلى المخالفة {حيث لا يكون حينئذٍ} أي: حين كان الواجب مشروطاً أو موقّتاً {تكليف فعليّ أصلاً لا قبلهما} أي: قبل الشّرط والوقت، إذ لا وجوب للمشروط والموقّت حتّى يترشّح منهما الوجوب إلى المقدّمة الّتي هي التعلّم {وهو واضح} لا يخفى {ولا بعدهما وهو كذلك} أي: واضح {لعدم التمكّن منه} أي: من الواجب {بسبب الغفلة}.لكن المصنّف(رحمة الله) علّق هنا بقوله: «إلّا أن يقال بصحّة المؤاخذة على ترك المشروط أو الموقّت عند العقلاء إذا تمكّن منهما في الجملة، ولو بأن تعلم وتفحص إذا التفتّ، وعدم لزوم التمكّن منهما بعد حصول الشّرط ودخول الوقت

ص: 436

ولذا التجأ المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك - قدّس سرّهما -(1)

إلى الالتزام بوجوب التفقّه والتعلّم نفسيّاً تهيّئيّاً،

___________________________________________

مطلقاً، كما يظهر ذلك من مراجعة العقلاء، ومؤاخذتهم العبيد على ترك الواجبات المشروطة أو الموقّتة، بترك تعلّمها قبل الشّرط أو الوقت، المؤدّي إلى تركها بعد حصوله أو دخوله، فتأمّل»(2).

فتحصّل الفرق بين الواجب المطلق والواجبين المشروط والموقّت: إنّه لو أجرى المكلّف البراءة بالنسبة إلى المطلق ثمّ غفل عن التكليف ولم يأت بالواجب كان معاقباً؛ لأنّ البراءة شرطها الفحص والتعلّم ولم يعمل بالشرط، فهو ترك الواجب المطلق بترك مقدّمته، ولذا يصحّ عقابه، وذلك بخلاف المشروط والموقّت، فلو أجرى المكلّف البراءة قبل التعلّم والفحص ثمّ غفل ولم يأت بهما لم يصحّ عقابه، إذ التعلّم قبل الشّرط والوقت لم يكن واجباً وبعد حصول الشّرط والوقت كان غافلاً، وغفلته هنا عذر بخلاف غفلته في الواجب المطلق.

{ولذا} أي: لما ذكرنا من لزوم عدم صحّة العقاب على ترك الواجب المشروط والمقيّد على تقدير عدم وجوب التعلّم مع بداهة العقاب على تركهما {التجأ المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك - قدّس سرّهما - إلى} القول بأنّ التعلّم واجب نفسي، فالمكلّف مأمور بالتعلّم قبل الشّرط والوقت، وليس وجوبه مقدّميّاً ترشحيّاً حتّى يقال كيف تجب المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة.

ولا يخفى أنّ {الالتزام ب-} كون {وجوب التفقّه والتعلّم نفسيّاً تهيّئيّاً} غير بعيد لإطلاق أدلّتها، ولا داعي إلى جعله مقدّميّاً وإن كان ما ذكره المصنّف في التعليقة أوجه، والمراد بالتّهيّأ أنّ الوجوب النّفسي ليس على حدّ سائر الواجبات النّفسيّة،

ص: 437


1- مجمع الفائدة والبرهان 2: 110؛ مدارك الأحكام 2: 219-220.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 331.

فيكون العقوبة على ترك التعلّم نفسه، لا على ما أدّى إليه من المخالفة.

فلا إشكال حينئذٍ في المشروط والموقّت. ويسهل بذلك الأمر في غيرهما لو صعب على أحد، ولم تصدق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلاً مغفولاً عنه، وليس بالاختيار.

ولا يخفى: أنّه لا يكاد ينحلّ هذا الإشكالُ

___________________________________________

بل إنّما وجب هنا نفسيّاً للتهيّأ، وفرقه مع الوجوب الغيري أنّ في الغيري يكون الوجوب مترشّحاً من ذي المقدّمة بخلافه هنا {فيكون العقوبة على ترك التعلّم نفسه لا على ما أدّى إليه من المخالفة} للواجب، فإنّ العقل يرى لزوم تعلّم أوامر المولى ليطيعه العبد، فإذا ترك استحقّ العقوبة {فلا إشكال حينئذٍ في المشروط والموقّت} بأنّه لا عقاب على تقدير تركهما مع بداهة العقاب، وعدم الفرق لدى العقلاء بين المطلق وبينهما.

{ويسهل بذلك} الجواب الّذي ذكره الأردبيلي وصاحب المدارك {الأمر في غيرهما} أي: غير المشروط والموقّت، فيكون العقاب في ترك الواجب المطلق أيضاً على عدم التعلّم الّذي هو واجب نفسي {لو صعب} جوابنا المتقدّم {على أحد ولم تصدّق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلاً مغفولاً عنه}.

فإنّا ذكرنا أنّه لو ترك التعلّم - في الواجب المطلق - ثمّ غفل وترك الواجب غفلة كان معاقباً؛ لأنّ الترك - وإن استند إلى الغفلة فعلاً - لكنّه بالآخرة يرجع إلى ترك التعلّم، إذ لو كان قد تعلّم لما غفل فعلاً، وترك التعلّم أمر اختياري، فالترك المستند إلى الغفلة المستندة إلى ترك التعلّم الّذي هو اختياري مصحّح للعقاب، فإذا صعب على أحد هذا الجواب {و} احتمل أنّ الترك {ليس بالاختيار} استراح إلى جواب المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك.{ولا يخفى أنّه لا يكاد ينحلّ هذا الإشكال} أي: إشكال العقاب على ترك

ص: 438

إلّا بذاك، أو الالتزامِ بكون المشروط أو الموقّت مطلقاً معلّقاً، لكنّه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدّماته الوجوديّة - عقلاً - بالوجوب قبل الشّرط أو الوقت غير التعلّم، فيكون الإيجاب حاليّاً، وإن كان الواجب استقباليّاً

___________________________________________

الواجب المشروط والموقّت {إلّا بذاك} الّذي ذكره المحقّق والسّيّد {أو الالتزام} بجواب آخر، وهو أنّ الواجب - في المشروط والموقّت - معلّق، ومعنى الواجب المعلّق هو ما كان وجوبه فعلاً وظرف الواجب بعداً، فالحجّ واجب الآن وصلاة الجمعة واجبة الآن، وإنّما وقتهما بعد الاستطاعة وبعد دخول الظّهر، وعلى هذا تجب مقدّمتهما، وهو التعلّم قبل الوقت والشّرط.

لا يقال: لو كان الوجوب فعلاً لزم وجوب سائر مقدّماتهما مع فرض أنّها ليست بواجبة، فإنّ تحصيل الاستطاعة - مثلاً - ليس بواجب.

لأنّا نقول: للوجوب مراتب: فمرتبة منه الآن وهو ما تجب به مقدّمته الّتي هي التعلّم، ومرتبة منه بعد حصول الاستطاعة وهي الّتي يجب به السّير والسّفر، ومرتبة منه في الموسم وهي الّتي تجب به الأعمال.

وإن شئت قلت: حيث إنّ الإطلاق والاشتراط إضافيّان فمن الممكن أن يكون الواجب بالنسبة إلى مقدّمة - وهو التعلّم - مطلقاً، وبالنسبة إلى مقدّمة أُخرى - وهي الاستطاعة - مشروطاً، فنلتزم {بكون المشروط أو الموقّت مطلقاً} أي: في جميع الموارد والأحوال {معلّقاً} أي: إنّ الوجوب فيها فعليّ {لكنّه قد اعتبر على نحو لا تتّصف مقدّماته الوجوديّة} كالاستطاعة وسائر المقدّمات الّتي يتوقّف عليها وجود الواجب {- عقلاً -} قيد لقوله: «اعتبر» {بالوجوب قبل الشّرط أو الوقت} فلا يجب تحصيلها {غير التعلّم} الّذي هو واجب حالي لوجوب ذيه {فيكون الإيجاب} في المشروط والموقّت {حاليّاً} فعليّاً قبل الشّرط والوقت {وإن كان الواجب استقباليّاً}.

ص: 439

قد أخذ على نحو لا يكاد يتّصف بالوجوب شرطه، ولا غير التعلّم من مقدّماته قبل شرطه أو وقته.

وأمّا لو قيل بعدم الإيجاب إلّا بعد الشّرط والوقت - كما هو ظاهر الأدلّة وفتاوى المشهور - ، فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلّم نفسيّاً، لتكون العقوبة - لو قيل بها - على تركه، لا على ما أدّى إليه من المخالفة، ولا بأس به، كما لا يخفى.

___________________________________________

وهذا هو معنى الواجب المعلّق الّذي يكون فيه الهيئة والمادّة مقيّدة، لكن كون الوجوب حاليّاً - أيضاً - ليس مطلقاً بل الوجوب {قد أخذ على نحو لا يكاد يتّصف بالوجوب شرطه} الّذي هو الاستطاعة {ولا غير التعلّم من مقدّماته} كتهيئة الزاد والرّاحلة والماء للوضوء مثلاً، والتوضّي بالنسبة إلى الصّلاة الموقّتة، فإنّها لا تجب {قبل شرطه} في المشروط {أو وقته} في الموقّت.

{وأمّا لو قيل بعدم الإيجاب إلّا بعد الشّرط والوقت} وإنّ الوجوب ليس معلّقاً {كما هو ظاهر الأدلّة وفتاوى المشهور} حيث إنّ الظّاهر منهما كون الوجوب مرتّباً على الشّرط والوقت {فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلّم نفسيّاً} كما ذكره المحقّق والسّيّد {لتكون العقوبة - لو قيل بها - على تركه} أي: ترك التعلّم {لا على ما أدّى إليه من المخالفة} للواجب فإذا ترك الحجّ كان العقاب على أنّه لم يتعلّم لا على أنّه ترك الحجّ.

لكن الإنصاف أنّه خلاف ظاهر الأدلّة والمرتكز، فالأجود الالتزام بما ذكره المصنّف(رحمة الله) في تعليقته السّابقة {و} إن كان ذكر المصنّف أنّ جواب المحقّق والسّيّد {لا بأس به، كما لا يخفى}.

وأشكل عليه في الحقائق: «بأنّ لازم ذلك عدم المقيّد؛ لإطلاق أدلّة البراءة لانحصار المقيّد بأوامر التعلّم بناءً على كونها طريقيّة، ولو كانت نفسيّة لم تصلح

ص: 440

ولا ينافيه ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلّم إنّما هولغيره، لا لنفسه؛ حيث إنّ وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجباً غيريّاً يترشّح وجوبه من وجوب غيره، فيكون مقدميّاً، بل للتهيّئ لإيجابه، فافهم.

وأمّا الأحكام؛ فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة،

___________________________________________

لتقييد تلك الإطلاقات»(1).

{ولا ينافيه} أي: لا ينافي كون أوامر التعلّم نفسيّة {ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلّم إنّما هو لغيره لا لنفسه} كقوله(علیه السلام): «التاجر فاجر ما لم يتفقّه»(2)، وقوله(علیه السلام): «الفقه ثمّ المتجر»(3)، إلى غير ذلك.

وإنّما قلنا بعدم المنافاة {حيث إنّ وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجباً غيريّاً} بحيث {يترشّح وجوبه من وجوب غيره} فإنّ معنى كون وجوبه لغيره إنّه للتهيّأ للغير لا أنّ وجوبه مترشّح من الغير كوجوب سائر المقدّمات {فيكون مقدميّاً، بل} إنّما وجب {للتهيّئ لإيجابه} أي: إيجاب الغير {فافهم} لعلّه إشارة إلى الإشكال المتقدّم نقله عن الحقائق.

هذا كلّه بالنسبة إلى العقاب على من أجرى البراءة بدون الفحص {وأمّا} سائر {الأحكام} وهل أنّه يترتّب على هذا الشّخص حكم أم لا؟ {ف-} نقول: {لا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة} كما لو شكّ بأنّ الذكر جزء الرّكوع أم لا؟ فأجرى البراءة عن الذكر - بدون الفحص - فصلّى بدون الذكر ثمّ علم وجب عليه الإعادة في الوقت والقضاء خارجه؛ لأنّه لم يأت بالمأمور به، ومقتضى

ص: 441


1- حقائق الأصول 2: 368.
2- هكذا ورد: «التاجر فاجر، والفاجر في النار، إلّا من أخذ الحق وأعطى الحق» الكافي 5: 150.
3- الكافي 5: 150.

بل في صورة الموافقة أيضاً في العبادة، في ما لا يتأتّى منه قصد القربة؛ وذلك لعدم الإتيان بالمأمور به، مع عدم دليل على الصّحّة والإجزاء إلّا في الإتمام في موضع القصر، أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر، فورد في الصّحيح - وقد أفتى به المشهور - صحّةُ الصّلاة وتماميّتها في الموضعين مع الجهل مطلقاً، ولو كان عن تقصيرٍ

___________________________________________

ذلك الإتيان به داخل الوقت أو خارجه {بل في صورة الموافقة أيضاً في العبادة} كما لو أتى بالذكر {في ما لا يتأتّى منه قصد القربة} لوضوح أنّ الذكر الواجب في الرّكوع هو ما يتأتّى بقصد القربة، فالذكر بدونه كلا ذكر، فتكون الصّلاة باطلة يجب الإتيان بها ثانياً إعادة أو قضاء {وذلك لعدم الإتيان بالمأمور به مع عدم دليل} خارجيّ {على الصّحّة والإجزاء} فإنّ سقوط المأمور به يكون إمّا بالإتيان وإمّا بحصول الغرض، وليس شيء منهما في المقام موجوداً، كما لا يخفى {إلّا في} موارد دلّ الدليل على الاكتفاء بالناقص جهلاً وإن كان مقصّراً، مثل بعض مسائل الحجّ، كما لا يخفى على من راجع كتابه.

ومثل {الإتمام في موضع القصر} كالمسافر الّذي تكليفه القصر فأتمّ جاهلاً، فإنّه تصحّ صلاته ولا يحتاج إلى إعادة أو قضاء {أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر} كأن أخفت في صلاة الصّبح أو العشائين، أو أجهر في صلاة الظّهرين، فإنّه تصحّ منه الصّلاة وإن خالف التكليف جهلاً {فورد في الصّحيح - وقد أفتى به المشهور - صحّة الصّلاة} «صحّة» فاعل «ورد» {وتماميّتها} أي: تماميّة الصّلاة {في الموضعين} أي: موضع الإتمام وموضع الإجهار والإخفات {مع الجهل مطلقاً، ولو كان عن تقصير}.

فيدلّ على الأوّل صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر(علیه السلام): رجل صلّى في السّفر أربعاً أيعيد أم لا؟ قال: «إن كان قُرئت عليه آية التقصير وفُسّرت له فصلى أربعاً أعاد، وإن لم يكن قُرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة

ص: 442

موجبٍ لاستحقاق العقوبة على ترك الصّلاة المأمور بها؛ لأنّ ما أُتِيَ بها،وإن صحّت وتمّت، إلّا أنّها ليست بمأمور بها.

إن قلت: كيف يحكم بصحّتها مع عدم الأمر بها؟

___________________________________________

عليه»(1).

أقول: قوله(علیه السلام): «وفُسّرت له» كأنّ وجهه أنّ الآية لا تدلّ على التقصير في مطلق السّفر، إذ موردها الخوف، مضافاً إلى أنّ الآية تقول: «لا جناح» ممّا لا يظهر منها الحتم والإيجاب.

ويدلّ على الثّاني صحيح زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام)، عن رجل جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه؟ فقال(علیه السلام): «أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته، وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه، وقد تمّت صلاته»(2).

لكن لا يخفى أنّ التقصير في ترك التعلّم والعمل بخلاف الواجب {موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصّلاة المأمور بها} فيعاقب لترك القصر وللجهر في موضع الإخفات وبالعكس {لأنّ ما أتي بها} من الصّلاة المخالفة للواقع {وإن صحّت وتمّت} فلا إعادة ولا قضاء {إلّا أنّها ليست بمأمور بها} فيكون كما لو طلب المولى الماء الحلو - لاضطراره لرفع عطشه - فأُتي بماء مالح وشرب المولى اضطراراً، فإنّه يسقط التكليف لفوات الغرض وإن استحقّ العبد العقاب.

{إن قلت}: أيّ وجه لصحّة الصّلاة، وأيّ وجه للعقاب على تقدير الصّحّة، فإنّه {كيف يحكم بحصّتها} أي: صحّة الصّلاة المخالفة {مع عدم الأمر بها؟} فإنّ الأمر كان متوجّهاً إلى القصر وإلى الإخفات في الظّهرين والجهر في الصّبح

ص: 443


1- من لا يحضره الفقيه 1: 435؛ تهذيب الأحكام 3: 226.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 344؛ تهذيب الأحكام 2: 162.

وكيف يصحّ الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصّلاة الّتي أُمر بها، حتّى في ما إذا تمكّن ممّا أُمر بها، - كما هو ظاهر إطلاقاتهم - بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الإتمام والإخفات، وقد بقي من الوقت مقدارُ إعادتها قصراً أو جهراً؟؛ ضرورة أنّه لا تقصير هاهنا يوجب استحقاق العقوبة.

وبالجملة: كيف يحكم بالصحّة بدون الأمر؟ وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة؟ لولا الحكم شرعاً بسقوطها وصحّة ما أُتِيَ بها.

قلت:

___________________________________________

والمغربين {وكيف يصحّ الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصّلاة الّتي أُمر بها} أي: الصّلاة الواقعيّة {حتّى في ما إذا تمكّن ممّا أُمر بها} يعني أنّه لو تمكّن من إعادة الصّلاة موافقة للواقع فكيف يقول له الشّارع: (لا تصلّ) - إذ لا إعادة عليه - ثمّ يعاقبه بأنّه لماذا صلّى الصّلاة النّاقصة، فإنّه كالتهافت {كما هو ظاهر إطلاقاتهم} بالكفاية حتّى في مورد التمكّن {بأن علم بوجوب القصر أو الجهر} أو الإخفات {بعد الإتمام والإخفات} والإجهار {وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصراً أو جهراً} أو إخفاتاً؟ وإنّما استغربنا استحقاق العقوبة؛ لأنّ المولى هو سبب تفويت الواجب، فإنّ العبد كان مستعدّاً للإتيان بالموافق، ل- {ضرورة أنّه لا تقصير هاهنا} من العبد {يوجب استحقاق العقوبة} وهذا خلاف العدل والحكمة.

{وبالجملة كيف يحكم بالصحّة} للصلاة المخالفة {بدون الأمر} لفرض أنّ الأمر متوجّه إلى الصّلاة التامّة {وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة لولا الحكم شرعاً بسقوطها} أي: لولا الحكم الشّرعي بالسقوط كان المكلّف قادراً على الإعادة {و} الحكم شرعاً ب- {صحّة ما أتي بها} من الصّلاة الفاقدة؟

{قلت}: الحكم بالصحّة لأجل وفائها بالغرض الأكمل، والحكم بالعقاب

ص: 444

إنّما حكم بالصحّة لأجل اشتمالها على مصلحة تامّة، لازمةِ الاستيفاء في نفسها، مهمّة في حدّ ذاتها، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر، وإنّمالم يؤمر بها لأجل أنّه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النّحو الأكمل والأتمّ.

وأمّا الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة، فإنّها

___________________________________________

لأجل أنّه فوّت على المولى مقداراً من المصلحه لا يمكن تداركها.

أقول: لكن العقاب إنّما هو بدليل اجتهاديّ لا بنصّ خاصّ، وعلى هذا فيمكن المناقشة فيه: بأنّه لا دليل على تفويت المصلحة، فليس مثل إرواء المولى بالماء المالح، ويدلّ على إمكان الإعادة ما دلّ على صحّة إعادة الصّلاة جماعة وإنّ اللّه يختار أحبّهما إليه، وما دلّ على جواز إعادة الصّلاة احتياطاً وإن كانت وافية حسب القواعد.

وعلى كلّ حال، في الأمر بالعقاب نظر، فلنرجع إلى جواب المصنّف فنقول: {إنّما حكم بالصحّة} للصلاة النّاقصة {لأجل اشتمالها على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء} أي: كانت هذه المصلحة بحيث لو كانت وحدها لزم استيفاؤها {في نفسها مهمّة} جدّاً {في حدّ ذاتها، وإن كانت دون مصلحة الجهر} والإخفات {والقصر} الّتي كانت مأموراً بها {وإنّما لم يؤمر بها} أي: لم يأمر الشّارع بهذه المصلحة الموجودة في الصّلاة النّاقصة {لأجل أنّه أمر بما} أي: بالصلاة الكاملة الّتي {كانت واجدة لتلك المصلحة} الموجودة في النّاقصة {على النّحو الأكمل والأتمّ} فإنّ صلاة القصر مشتملة على مائة درجة والتمام على تسعين فلم يأمر بالتمام - في السّفر - لأنّ القصر مشتملة على التسعين وعلى الزائد.

{وأمّا الحكم باستحقاق العقوبة} وأنّ العبد يستحقّ عقاب ترك الأمر المتوجّه إلى القصر، حيث كان الترك بسوء اختياره؛ لأنّه لم يتعلّم {مع التّمكّن من الإعادة} الّتي تكون وافية بتمام المصلحة {ف-} لأجل {أنّها} أي: الإعادة

ص: 445

بلا فائدة؛ إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة الّتي كانت في المأمور بها، ولذا لو أتى بها في موضع الآخر جهلاً - مع تمكّنه من التعلّم - فقد قصر ولو علم بعده وقد وسع الوقت.

فانقدح: أنّه لا يتمكّن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الإتمام، ولا من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الإخفات، وإن كان الوقت باقياً.

إن قلت: على هذا يكون كلّ منهما في موضع الآخر سبباً لتفويت الواجب فعلاً،

___________________________________________

{بلا فائدة، إذ مع استيفاء تلك المصلحة} الّتي كانت في النّاقصة {لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة الّتي كانت في المأمور بها} وهي الصّلاة التامّة، فيكون حالها حال من شرب الماء المالح مع طلبه للماء الحلو، حيث لا يبقى مجال للإطاعة ثانياً مع استحقاقه للعقوبة لمخالفة الأمر.

{ولذا} أي: والّذي يدلّ على عدم بقاء مجال للتامّة أنّه {لو أتى بها} أي: بالناقصة {في موضع الآخر} التامّة {جهلاً} بالحكم {مع تمكّنه من التعلّم فقد قصر} في أداء التكليف {ولو علم بعده وقع وسع الوقت} للإتيان ثانياً.

{فانقدح} بما ذكرنا من المصلحة التامّة لا يمكن تداركها بعد الإتيان بالمصلحة النّاقصة {أنّه لا يتمكّن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الإتمام} جهلاً - في السّفر - {ولا} يتمكّن {من} صلاة {الجهر كذلك} صحيحة {بعد فعل صلاة الإخفات} وبالعكس - في الظّهرين - {وإن كان الوقت باقياً} لكنّك قد عرفت الإشكال فيه.

{إن قلت: على هذا} الّذي ذكرتم من أنّه لا يتمكّن من الإتيان بالتامّة بعد الإتيان بالناقصة {يكون كلّ منهما} من القصر والإتمام والجهر والإخفات {في موضع الآخر} المكلّف به {سبباً لتفويت الواجب فعلاً} فإنّ الإتمام سبب لتفويت

ص: 446

وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام، وحرمةُ العبادة موجبةلفسادها بلا كلام.

قلت: ليس سبباً لذلك، غايته أنّه يكون مضادّاً له، وقد حقّقنا في محلّه: أنّ الضّدّ وعدم ضدّه متلازمان ليس بينهما توقّف أصلاً.

___________________________________________

القصر الواجب، والجهر في الظّهر سبب لتفويت الإخفات {وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك} أي: الواجب العقلي {حرام، وحرمة العبادة موجبة لفسادها} فالتمام في موضع القصر والإخفات في موضع الجهر فاسد، فيجب الإتيان بالكاملة ثانياً {بلا كلام} فكيف يقال بصحّة العبادة النّاقصة؟

{قلت}: سبب ترك الواجب التامّ هو سوء الاختيار لا هذا المأتي به النّاقص فإنّه {ليس سبباً لذلك} أي: لتفويت الواجب الكامل {غايته أنّه} أي: النّاقص {يكون مضادّاً له} أي: للواجب الكامل، فالتمام مضادّ للقصر الّذي هو مأمور به والإخفات مضادّ للجهر الّذي هو مأمور به.

{وقد حقّقنا في محلّه} وهو مبحث كون الأمر بالشيء ينهى عن ضدّه {أنّ الضّدّ} كالتمام {وعدم ضدّه} كالقصر {متلازمان} و{ليس بينهما توقّف أصلاً} فلا يتوقّف القصر - المأمور به - على عدم التمام، إذ الضّدّان في مرتبة واحدة ولا يعقل أن يكون ما في مرتبة صاحبه مقدّماً عليه حتّى يتوقّف أحدهما على الآخر.

فمثلاً: عدم البياض في مرتبة السّواد، فلا يمكن أن يكون عدم البياض مقدّمة للسواد.

فتحصّل: أنّ السّبب لتفويت الواجب الّذي هو القصر - مثلاً - سوء اختيار المكلّف الّذي لم يتعلّم، لا أنّ السّبب لتفويته هو التمام الّذي أتى به، فلا يكون التمام سبباً لتفويت الواجب حتّى يقال بأنّه حرام، وأنّ الحرمة في العبادة موجبة لفسادها فالتمام باطلة ويبقى مجال للقصر.

ص: 447

لا يقال: على هذا فلو صلّى تماماً أو صلّى إخفاتاً في موضع القصر والجهر - مع العلم بوجوبهما في موضعهما - لكانت صلاته صحيحة، وإن عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر.

فإنّه يقال: لا بأس بالقول به لو دلّ دليل على أنّها تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم؛ لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل،

___________________________________________

{لا يقال: على هذا} الّذي ذكرتم من كون التمام - في السّفر - ذا مصلحة وإنّه ليس بمحرّم؛ لأنّه ليس بمقدّمة لترك الواجب {فلو صلّى تماماً} في السّفر {أو صلّى إخفاتاً} أو جهاراً {في موضع القصر والجهر} والإخفات {مع العلم بوجوبهما} أي: وجوب القصر والجهر {في موضعهما} أي: موضع التمام والإخفات، ويحتمل أن يرجع الضّمير إلى المرجع السّابق وهو القصر والجهر {لكانت صلاته صحيحة} لأنّه أتى بما يشتمل على المصلحة التامّة الكافية وإن لم يكن بقدر مصلحة الواقع المأمور به {وإن عوقب} الآتي بالمخالف {على مخالفة الأمر} الّذي توجّه إليه {ب-} الصّلاة {القصر أو الجهر} وهكذا بالنسبة إلى الإخفات.

{فإنّه يقال: لا بأس بالقول به} أي: بكون الصّلاة المخالفة صحيحة حتّى مع العلم بالواقع {لو دلّ دليل على أنّها} أي: الصّلاة المخالفة {تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم} بالواقع.

والحاصل: أنّا نقول: باشتمال الصّلاة النّاقصة على المصلحة في حال الجهل بالواقع لما دلّ على الاكتفاء بها، أمّا في صورة العلم بالواقع فلا دليل على كفاية الصّلاة النّاقصة حتّى نقول بها، ولا يعلم باشتمالها حين العلم على المصلحة {لاحتمال اختصاص أن يكون} الفاقد {كذلك} مشتملاً على المصلحة {في صورة الجهل} بالواقع فالجهر في الظّهر ذو مصلحة لمن لا يعلم بوجوب الإخفات،

ص: 448

ولا بُعد أصلاً في اختلاف الحال فيها باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به، كما لا يخفى.

وقد صار بعض الفحول(1)

بصدد بيان إمكان كون المأتيّ به في غير موضعه مأموراً به بنحو الترتّب.

___________________________________________

والتمام في السّفر ذو مصلحة لمن لا يعلم بوجوب القصر.

{و} إن قلت: كيف يمكن وجود الصّلاح في حال الجهل وعدم وجوده في حال العلم؟

قلت: {لا بعد أصلاً في اختلاف الحال فيها} أي: في الصّلاة النّاقصة {باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء} كالقصر والجهر في الصّبح مثلاً {والجهل به} أي: بوجوب ذلك الشّيء حتّى يكون المخالف لذلك الشّيء في حال العلم به بدون مصلحة وفي حال الجهل به مع المصلحة، فلا يلزم من كون المخالف ذا مصلحة في حال الجهل بالواقع كونه ذا مصلحة في حال العلم بالواقع {كما لا يخفى}.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إلى هنا كان في صدد بيان كون الصّلاة المخالفة ذات مصلحة كافية عن الواقع - في حال الجهل بالواقع - {و} لكن كاشف الغطاء(رحمة الله) أراد أن يجعل الصّلاة المخالفة ذات أمر أيضاً بنحو الترتّب، ف- {قد صار بعض الفحول} وهو الشّيخ الأكبر الشّيخ جعفر(رحمة الله) {بصدد بيان إمكان كون المأتي به في غير موضعه} وهو التمام في موضع القصر والإخفات في موضع الجهر {مأموراً به بنحو الترتّب} كأن قال المولى: (صلّ قصراً فإن عصيت فصلّ تماماً) وقال: (صلّ جهراً فإن عصيت فصلّ إخفاتاً) حتّى أنّه لو ترك الأمر الأوّل عوقب عليه ولو تركهما كان له عقابان.

ص: 449


1- كشف الغطاء 1: 171.

وقد حقّقنا في مبحث الضّدّ امتناع الأمر بالضدّين مطلقاً - ولو بنحو الترتّب - بما لا مزيد عليه، فلا نعيد.

ثمّ إنّه ذكر(1)

لأصل البراءة شرطان آخران:

أحدهما: أن لا يكون موجباً لثبوت حكم شرعي من جهة أُخرى.

ثانيهما: أن لا يكون موجباً للضرر على آخر.

___________________________________________

{و} لكن {قد حقّقنا} نحن {في مبحث الضّدّ امتناع الأمر بالضدّين مطلقاً ولو بنحو الترتّب} للزومه طلب الضّدّين في وقت المهمّ، وأوضحنا هناك أنّه من الأمر بالضدّين المحال {بما لا مزيد عليه فلا نعيد} فراجع مبحث الترتّب في الجزء الأوّل.

{ثمّ إنّه ذكر} والذاكر هو الفاضل التوني {لأصل البراءة شرطان آخران} بالإضافة إلى لزوم الفحص:

{أحدهما: أن لا يكون} أصل البراءة {موجباً لثبوت حكم شرعيّ من جهة أُخرى} كما لو وقعت نجاسة في أحد الإنائين، فإنّ إجراء أصالة الطّهارة في أحدهما معناه نجاسة الإناء الآخر ووجوب الاجتناب عنه، فالأصل هنا أوجب ثبوت حكم شرعي لغير مجراه، وهذا هو معنى قوله: «من جهة أُخرى» وكما لو وقعت نجاسة في ماء مشكوك الكريّة، فإنّ إجراء أصالة عدم الكريّة موجب لإثبات القلّة والنّجاسة، فمثل هذين الأصلين لا يجريان لأنّهما موجبان لإثبات حكم شرعيّ آخر.

{ثانيهما: أن لا يكون} أصل البراءة {موجباً للضرر على آخر} كما لو فتح إنسان قفص الطّير الّذي هو لإنسان آخر، أو حبس شاته حتّى مات ولدها أو حفظ إنساناً حتّى شردت دابّته، فإنّ إجراء أصل البراءة عن الضّمان موجب لضرر صاحب الطّير والشّاة والدابّة، فمثل هذا الأصل لا يجري.

ص: 450


1- الوافية في أصول الفقه: 193.

ولا يخفى: أنّ أصالة البراءة عقلاً ونقلاً في الشّبهة البدويّة بعد الفحص لا محالة تكون جارية. وعدمُ استحقاق العقوبة - الثابت بالبراءة العقليّة - والإباحةُ أو رفعُ التكليف - الثابت بالبراءة النّقليّة - لو كان موضوعاً لحكم شرعيّ أو ملازماً له، فلا محيص عن ترتّبه

___________________________________________

{ولا يخفى} أنّ هذين الشّرطين اللّذين ذكرهما الفاضل التوني لإجراء البراءة مناقش فيهما: أمّا الشّرط الأوّل فقد أجاب الشّيخ(رحمة الله) عنه، بأنّ الأصل في الإنائين ساقط للمعارضة لا لشيء آخر، والأصل في الكريّة لا بأس بإجرائه، وأجاب المصنّف(رحمة الله) عنه بأنّه لا مانع من إجراء البراءة بعد الفحص واليأس، ولو كان موجباً لإثبات حكم شرعي. نعم، الحكم العقلي والعادي لا يترتّب على الأصل.وأمّا الشّرط الثّاني فقد أجاب عنه بأنّ دليل الضّرر إن كان يشمل مثل تلك الموارد لم تجر البراءة؛ لأنّها بعد اليأس عن الدليل، وقد وجد الدليل فرضاً - وهو دليل لا ضرر - وإن لم يشمل دليل الضّرر لها لم يكن مانع عن إجراء البراءة.

إذا عرفت مجمل الجواب نقول: أمّا بالنسبة إلى الشّرط الأوّل ف- {إنّ أصالة البراءة عقلاً} وهو قبح العقاب بغير بيان {ونقلاً} وهو «رفع ما لا يعلمون»(1){في الشّبهة البدويّة} غير المقرونة بالعلم الإجمالي - كالإنائين - {بعد الفحص} واليأس عن الدليل {لا محالة تكون جارية} لتماميّة أدلّتها {وعدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقليّة} لأنّها تقول بقبح العقاب بغير بيان {والإباحة أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النّقليّة} لأنّها تقول: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام»(2)، وتقول: «رفع ما لا يعلمون» {لو كان} ذلك لعدم {موضوعاً لحكم شرعي أو ملازماً له} أي: لحكم شرعي {فلا محيص عن ترتّبه} أي: ترتّب ذلك

ص: 451


1- الخصال 2: 417.
2- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341، ومتن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

عليه بعد إحرازه. فإن لم يكن مترتّباً عليه، بل على نفي التكليف واقعاً، فهي وإن كانت جارية، إلّا أنّ ذاك الحكم لا يترتّب؛ لعدم ثبوت ما يترتّب عليه بها،

___________________________________________

الحكم أو الملازم له {عليه} أي: على ذلك العدم {بعد إحرازه} أي: إحراز العدم بجريان البراءة، فلو ثبت بالبراءة حليّة تدخين التبغ، وقد دلّ الدليل الشّرعي على جواز بيع ما كان حلالاً ترتّب على أصل البراءة جواز بيعه.

{ف-} ما ذكره الفاضل من عدم ترتّب الحكم اللّازم أو الملازم على أصل البراءة: إن أراد أنّ أصل البراءة لا يجري قلنا إنّ عدم جريان الأصل خلاف إطلاق أدلّة البراءة، وإن أراد أنّ الأصل يجري لكن اللّازم أو الملازم لا يترتّب قلنا إنّ ذلك خلاف الدليل الدالّ على اللزوم أو على الملازمة، ففي المثال إن أراد عدم جريان أصالة الحلّ بالنسبة إلى التبغ كان ذلك خلاف قوله(علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال»، وإن أراد عدم ترتّب جواز البيع على جواز الشّرب كان ذلك خلاف ما دلّ على أنّ كلّ حلال جائز البيع - المفهوم من قوله: «إذا حرّم اللّه شيئاً حرّم ثمنه»(1)

- .

نعم {إن لم يكن} ذلك الحكم اللّازم أو الملازم {مترتّباً عليه} أي: على العدم المستفاد من الأصل {بل} كان مترتّباً {على نفي التكليف واقعاً} كما لو نذر أنّ التبغ لو كان حلالاً واقعاً أعطى ديناراً للفقير {فهي} أي: البراءة {وإن كانت جارية إلّا أنّ ذاك الحكم لا يترتّب} فلا يجب إعطاء الدينار للفقير {لعدم ثبوت ما يترتّب} ذلك الحكم {عليه} الضّمير عائد إلى «ما» ومصداقه الحلال الواقعي {بها} أي: بالبراءة، يعني أنّ البراءة إنّما تفيد الحليّة الظّاهريّة، والتصدّق كان معلّقاً على الحليّة الواقعيّة فلا يترتّب التصدّق على البراءة الّتي تفيد الحليّة الظّاهريّة.

ص: 452


1- بحار الأنوار 100: 55.

وهذا ليس بالاشتراط.

وأمّا اعتبار أن لا يكون موجباً للضرر: فكلّ مقام تعمّه قاعدةُ نفي الضّرر، وإن لم يكن مجال فيه لأصالة البراءة - كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلّه الاجتهاديّه - ،

___________________________________________

{وهذا} الّذي ذكر من عدم الترتّب لو كان معلّقاً بالحلال الواقعي {ليس بالاشتراط} الّذي ذكره الفاضل التوني(رحمة الله).

{وأمّا} الجواب عن الشّرط الثّاني الّذي ذكره الفاضل، وهو {اعتبار أن لا يكون} أصل البراءة {موجباً للضرر} على الغير {ف-} فنقول: {كلّ مقام تعمّه قاعدة نفي الضّرر} وهو قوله(صلی الله علیه و آله): «لا ضرر ولا ضرار» {وإن لم يكن مجال فيه} أي: في ذلك المورد {لأصالة البراءة} كما لو كسر إنسان آنية غيره، فإنّه لا مجال له لإجراء أصالة البراءة عن الضّمان لشمول القاعدة له {- كما هو حالها} أي: حال البراءة {مع سائر القواعد الثابتة بالأدلّة الاجتهاديّة -} فإذا كان في المقام دليل الجتهاديّ لم يبق مجالللبراءة.

والفرق بين الدّليل الاجتهادي والأصل العملي: هو أنّ الحكم في الأوّل منصبّ على الواقع، كما لو قال: (الغنم حلال)، والحكم في الثّاني منصبّ على الواقع المشكوك فيه - أي: المجهول - ، كما لو قال: (كلّ حيوان لم تعلم أنّه حرام أو حلال فهو حلال).

ومن المعلوم أنّه لو كان في باب حكم منصبّ على الواقع لم يبق الواقع مجهولاً حتّى يكون مجال للأصل العملي، فلو دلّ دليل على أنّ لحم الأرنب حرام لم يبق مجال للبراءة وأصالة الحلّ؛ لأنّ أصل الحلّ يقول: (كلّ لحم مجهول)، وذلك الدليل قال: (لحم الأرنب ليس مجهولاً، بل هو حرام).

وعلى هذا، فإذا دلّ دليل على وجود الضّمان في مورد لا يبقى مجال لدليل البراءة، إذ البراءة تقول: (إذا لم تعلم الضّمان فأنت بريء) وذاك الدليل يقول: (أنت ضامن).

ص: 453

إلّا أنّه حقيقة لا يبقى لها مورد؛ بداهة أنّ الدليل الاجتهادي يكون بياناً وموجباً للعلم بالتكليف ولو ظاهراً، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك، فلا بدّ من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهاديّ، لا خصوص قاعدة الضّرر، فتدبّر، والحمد للّه على كلّ حال.

ثمّ إنّه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضّرر والضّرار على نحو الاختصار، وتوضيح مدركها، وشرح مفادها، وإيضاح نسبتها مع الأدلّة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوليّة

___________________________________________

والحاصل: أنّه وإن لم يكن مجال للبراءة إذا عمّ دليل الضّرر لمورد {إلّا أنّه حقيقة لا يبقى لها} أي: للبراءة {مورد} بعد عموم دليل الضّرر {بداهة أنّ الدليل الاجتهادي يكون بياناً وموجباً للعلم بالتكليف ولو} كان إيجابه {ظاهراً} لا واقعاً، فإنّ أدلّة البراءة تعيّن التكليف الظّاهري، كما لا يخفى.

إذا عرفت الجواب عن شرط الفاضل التوني(رحمة الله) نقول: {فإن كان المراد من الاشتراط} أي: اشتراط البراءة بعدم الضّرر {ذلك} الّذي ذكرنا من عدم بقاء مورد للبراءة مع جريان أدلّة الضّرر {ف-} أيّ وجه لتخصيص أدلّة الضّرر بالاشتراط، بل {لا بدّ من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهاديّ} مطلقاً {لا خصوص قاعدة الضّرر} كما ذكر {فتدبّر} جيّداً {والحمد للّه على كلّ حال} هذا تمام الكلام في شراط الأصول العمليّة.

[قاعدة نفي الضرر]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، قاعدة نفي الضرر

{ثمّ} حيث انتهى الكلام إلى اشتراط البراءة بعدم جريان أدلّة الضّرر ف- {إنّه لا بأس بصرف} عنان {الكلام إلى بيان قاعدة الضّرر والضّرار على نحو الاختصار} والإيجاز {وتوضيح مدركها وشرح مفادها} أي: سندها ودلالتها {وإيضاح نسبتها مع الأدلّة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوليّة} كنسبة القاعدة مع

ص: 454

أو الثانويّة، وإن كانت أجنبيّة عن مقاصد الرّسالة، إجابة لالتماس بعض الأحبّة، فأقول وبه أستعين:

إنّه قد استدلّ عليها بأخبار كثيرة:

منها: موثّقة زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام): «أنّ سمرة بن جُندب كان له عَذقٌ في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان سمرة يمرّ إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، فشكا إليه، وأخبره بالخبر، فأرسل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه، فقال: إذا أردتَ الدخول فاستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ من الثمن ما شاء اللّه، فأبى أن يبيعه، فقال:

___________________________________________

وجوب الصّلاة والصّيام وحرمة الخمر والميتة {أو} بعناوينها {الثانويّة} كنسبة القاعدة مع «كلّ شيء لك حلال حتّىتعرف»(1)

{وإن كانت} هذه القاعدة {أجنبيّة عن مقاصد الرّسالة} وإنّما نذكرها {إجابة لالتماس بعض الأحبّة، فأقول وبه أستعين: إنّه قد استدلّ عليها} أي: على القاعدة {بأخبار كثيرة}:

{منها: موثّقة زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام): «أنّ سمرة بن جندب كان له عذق} وهو النّخل {في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان سمرة يمرّ إلى نخلته ولا يستأذن} حتّى يتهيّأ الأنصاري وأهله لدخوله {فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى النّبيّ(صلی الله علیه و آله) فشكى إليه، وأخبره بالخبر، فأرسل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه فقال} الرّسول(صلی الله علیه و آله): {إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ من الثمن ما شاء اللّه، فأبى أن يبيعه} أي: يبيع النّخلة للرسول(صلی الله علیه و آله) {فقال}(صلی الله علیه و آله)

ص: 455


1- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341. ومتن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

لك بها عذق في الجنّة، فأبى أن يقبل، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار»(1).

وفي رواية الحذّاء عن أبي جعفر(علیه السلام) مثل ذلك، إلّا أنّه فيها بعد الإباء: «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّاً؛ اذهب يا فلان. فاقلعها وارم بها وجهَه»(2).

إلى غير ذلك من الرّوايات الواردة في قصّة سَمُرة وغيرها.

___________________________________________

{لك بها عذق في الجنّة، فأبى} سمرة {أن يقبل، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار»} وقد روى هذه الرّواية جماعة.

{وفي رواية الحذّاء، عن أبي جعفر(علیه السلام) مثل ذلك إلّا أنّه فيها بعد الإباء} أي: بعد إباء سمرة للبيع أنّ النّبيّ(صلی الله علیه و آله) قال له: {«ما أراك يا سمرة إلّا مضارّاً، اذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه»} وفي نسخة «فاقطعها واضرب بها» {إلى غير ذلك من الرّوايات الواردة في قصّة سمرة وغيرها}.

فعن عقبة بن خالد، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «قضى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالشفعة بين الشّركاء في الأرضين والمساكن، قال: ولا ضرر ولا ضرار»(3).

وعن عقبة بن خالد، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «قضى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بين أهل المدينة في مشارب النّخل أنّه لا يمنع نقع البئر، وقضى بين أهل البادية أن لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، وقال: لا ضرر ولا ضرار»(4).

وعن هارون بن حمزة الغنوي، عن أبي عبداللّه(علیه السلام)، عن رجل شهد بعيراً مريضاً يباع، فاشتراه رجل بعشرة دراهم، فجاء واشترك فيه رجل بدرهمين بالرأس

ص: 456


1- من لا يحضره الفقيه 3: 233، مع اختلاف يسير.
2- الكافي 5: 292.
3- الكافي 5: 280.
4- الوافي 18: 1015.

وهي كثيرة، وقد ادّعي(1)

تواترها مع اختلافها لفظاً ومورداً، فليكن المراد بها تواترها إجمالاً، بمعنى القطع بصدور بعضها.

___________________________________________

والجلد، فقضى أنّ البعير بريء، فبلغ ثمنه دنانير، قال: فقال(علیه السلام): «لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ، فإن قال أُريد الرّأس والجلد فليس له ذلك هذا الضّرار، وقد أُعطي حقّه إذا أُعطي الخمس»(2).

وعن طلحة بن زيد، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «إنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم»(3).

وعن عقبة بن خالد، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) في رجل أتى جبلاً فشقّ فيه قناة فذهبت قناة الآخر بماء قناة الأُولى: «يتقايسان بحقائب البئر ليلة ليلة، فينظر أيّهما أضرّت بصاحبها، فإن رأيت الأخيرة ضرّت بالأُولى فلتعوّر»(4).

وعن التذكرة مرسلاً عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) أنّه قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(5)،

إلى غير ذلك ممّا يجدها المتتبّع في الوسائل(6)

والمستدرك(7).

{وهي كثيرة، وقد ادّعى} الفخر في الإيضاح {تواترها مع اختلافها لفظاً ومورداً} كما تقدّم في جملة منها {فليكن المراد بها تواترها إجمالاً} لا التواتر اللفظي أو التواتر المعنوي {بمعنى القطع بصدور بعضها} ولو واحداً منها، وذلك بخلاف التواتر اللفظي الذي هو أن يكون لفظ واحد رواه جمع يؤمن من

ص: 457


1- إيضاح الفوائد 2: 48.
2- الكافي 5: 293.
3- الكافي 5: 292.
4- وسائل الشيعة 25: 432.
5- تذكرة الفقهاء 11: 68.
6- وسائل الشيعة 25: 427.
7- مستدرك الوسائل 17: 118.

والإنصاف، أنّه ليس في دعوى التواتر كذلك جزاف. وهذا مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها؛ مع أنّ بعضها موثّقة، فلا مجال للإشكال فيها من جهة سندها، كما لا يخفى.

وأمّا دلالتها: فالظاهر أنّ الضّرر هو ما يقابل النّفع - من النّقص في النّفس أو الطّرف أو العرض أو المال - تقابلَ العدم والملكة.

___________________________________________

اجتماعهم على الكذب أو اشتباههم، وبخلاف التواتر المعنوي الّذي هو أن يروي جماعة عدّة ألفاظ لها معنى واحد نعلم قطعاً بذلك المعنى، كما قرّر في مبحث التواتر.

{والإنصاف أنّه ليس في دعوى التواتر كذلك} إجمالاً {جزاف، وهذا} التواتر الإجمالي {مع استناد المشهور إليها} في مختلف أبواب الفقه {موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها} لو كان {مع أنّ بعضها موثّقة} وهو كاف في الاستناد {فلا مجال للإشكال فيها من جهة سندها، كما لا يخفى} على من أعطى المسألة حقّ النّظر.

هذا هو الجهة الأُولى في الرّواية {وأمّا دلالتها فالظاهر أنّ الضّرر هو ما يقابل النّفع من النّقص في النّفس} كالجنون مقابل العقل أو ذهاب بعض النّفوس في مهلكة مقابل بقائها {أو الطّرف} كالعمى مقابل البصر {أو العرض} كانتهاك العرض مقابل سلامته {أو المال} كذهاب بعض المال مقابل بقائه، من غير فرق بين المال الموجود أو المترقّب {تقابل العدم والملكة} وهما وجوب خاصّ وعدم خاصّ، فالملكة هو الوجود الخاصّ سواء كان لشيء كالبصر أو كان في نفسه كوجود الجدار مثلاً، وهذا التقابل أحد أقسام التقابل الأربعة، وهي تقابل الضّدّين، والنّقيضين، والتضايف والتماثل، فراجع شرح التجريد(1) وغيره.

ص: 458


1- كشف المراد: 108.

كما أنّ الأظهر: أن يكون الضّرار بمعنى الضّرر، جيء به تأكيداً -كما يشهد به إطلاق المضارّ على سمرة، وحكي عن النّهاية(1)- ، لا فعل الاثنين، وإن كان هو الأصل في باب المفاعلة، ولا الجزاء على الضّرر؛ لعدم تعاهده من باب المفاعلة.

___________________________________________

{كما أنّ الأظهر أن يكون الضّرار بمعنى الضّرر} فقوله(صلی الله علیه و آله): «لا ضرر ولا ضرار» {جيء به تأكيداً} فهو مثل أن يقول: «لا ضرر ولا ضرار» {كما يشهد به إطلاق المضار} في نفس الرّواية {على سمرة} فإنّه(صلی الله علیه و آله) قال له: «إنّك رجل مضارّ»، فإنّه من باب المفاعلة، تقول: ضارّ، يضارّ، مضارّ، وله مصادر: مضارّةً، وضراراً، وضيراراً، على وزن مفاعلة، وفعالاً، وفيعالاً.

{و} هذا المعنى {حكي عن النّهاية} لابن الأثير {لا فعل الاثنين} بأن يضرّ هذا ذاك وذاك هذا {وإن كان هو الأصل في باب المفاعلة} كما هو المذكور في كلام غير واحد من أهل العربيّة، فمعنى ضارب: أنّ كلّ واحد من الاثنين ضرب الآخر، وكذا (قاتل) وغيرهما، وإن كان هذا غير دائمي كما في قوله - تعالى - : {قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ}(2) {ولا الجزاء على الضّرر} بمعنى أنّه جازى على الضّرر حتّى يكون «ضارّه» بمعنى «جازاه على الضّرر» وإنّما لم يكن معنى المضارّ الجزاء على الضّرر {لعدم تعاهده من باب المفاعلة}.

هذا بالإضافة إلى كونه من الاثنين أو الجزاء خلاف استعمالات هذه الكلمة أو مشتقّاتها، كقوله - تعالى - : {وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا}(3)، وقوله - تعالى - : {لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا}(4)، وقوله - تعالى - : {وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ}(5)، وقوله - تعالى - :

ص: 459


1- النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 81، مادة (ضرر)
2- سورة التوبة، الآية: 30؛ سورة المنافقون، الآية: 4.
3- سورة التوبة، الآية: 107.
4- سورة البقرة، الآية: 233.
5- سورة البقرة، الآية: 282.

وبالجملة لم يثبت له معنى آخَرُ غير الضّرر.

كما أنّ الظّاهر: أن يكون «لا» لنفي الحقيقة

___________________________________________

{وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا}(1)، وقول الصّادق(علیه السلام) في خبر الغنوي: «هذا الضرار»(2)، على أنّ أحد المعنيين لا يستقيم في رواية سمرة، فهو لم يكن مجازيّاً على الضّرر ولا هو والأنصاري كان يضرّ أحدهما الآخر.

{وبالجملة لم يثبت له} أي: لضرار {معنى آخر غير الضّرر} والمقصود من هذا الكلام بيان أنّه ليس هناك شيئان منفيّان بل المنفي هو شيء واحد فقط، فلا تكليف أزيد ممّا يترتّب على نفي الضّرر.

وعلى تقدير أنّه لو شكّ في أنّه هل للضّرار معنى آخر أم لا كان مقتضى البراءة عن التكليف الزائد عدم لزوم شيء، وإن كان هذا الأصل لا يثبت المعنى اللغوي، كما لا يخفى، لكن لا يبعد ولو بقرينة كون التأكيد خلاف الأصل أنّ الضّرر بمعنى اسم المصدر كالألم، والضّرار بمعنى المصدر كالإيلام، فالمعنى لا ضرر ولا ضرار. وهذا وإن كان مآله التأكيد إلّا أنّه فرق بين التأكيد بلفظ واحد وبين هذا القسم من التأكيد، والّذي يؤيّد ذلك أنّ الرّسول(صلی الله علیه و آله) قال له: «إنّك رجل مضارّ»(3)، وفي المقام تفصيل لا يسعه المقام.

{كما أنّ الظّاهر} من المنسبق العرفي {أن يكون «لا»} في قوله(صلی الله علیه و آله): «لا ضرر» {لنفي الحقيقة} فإنّ (لا) النّافية، بل مطلق النّفي تستعمل على وجهين:

الأوّل: نفي الحقيقة حقيقة، مثل أن يقول: (لا رجل في الدار) في ما ليس فيها رجل أصلاً.

ص: 460


1- سورة البقرة، الآية: 231.
2- الكافي 5: 293.
3- الكافي 5: 294.

- كما هو الأصل في هذا التركيب - حقيقةً أو ادّعاءً كناية عن نفي جميعالآثار، كما هو الظّاهر من مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد»(1)،

و«يا أشباه الرّجال ولا رجال»(2)؛

___________________________________________

الثّاني: نفي الحقيقة ادّعاءً، وهذا القسم إمّا بلحاظ نفي جميع الآثار وإمّا بلحاظ نفي آثار الكمال، كما لو قصد رجلاً قائلاً: (إنّه ليس برجل)، فقد يريد عدم آثار الرّجوليّة له إطلاقاً، وقد يريد عدم آثار الكمال له كعدم كونه عالماً حليماً شجاعاً - مثلاً - .

ففي ما نحن فيه الظّاهر أن يكون قوله: «لا ضرر» لنفي الحقيقة بلحاظ نفي الآثار {كما هو} أي: نفي الحقيقة {الأصل في هذا التركيب} وأشباهه ممّا أسند النّفي - بأيّ لفظ كان - إلى ذات خارجيّة {حقيقة} بأن كان المراد نفي حقيقة الضّرر الإسلامي بأن يراد نفي الضّرر الآتي من الحكم الإسلامي، فإنّه ممّا يمكن نفيه حقيقة بنفي سببه وهو الحكم {أو} نفيه {ادّعاءً} ومجازاً بأن يكون نفي الحقيقة {كناية عن نفي جميع الآثار} فليس المراد عدم الضّرر، بل الضّرر كائن وجوده في الخارج لكنّه لا يترتّب عليه أيّ حكم شرعي {كما هو} أي: نفي الحقيقة كناية عن نفي الآثار - لا أنّ المراد نفي جميع الآثار، لظهور أنّ المثالين ليسا لنفي جميع الآثار - فتأمّل {الظّاهر من مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» و «يا أشباه الرّجال ولا رجال»} حيث إنّ المراد نفي الرّجال ونفي الصّلاة - لا حقيقة - بل ادّعاءً لنفي الآثار الكاملة، يعني ليست صلاة كاملة ولا رجالاً كملون.

إن قلت: أليس من الأفضل أن نقدّر في المقام شيئاً فنقول: إنّ تقدير «لا ضرر» لا حكم ضرريّاً - مثلاً -؟

ص: 461


1- مستدرك الوسائل 3: 356.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 27.

فإنّ قضيّة البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادّعاءً، لا نفي الحكم أو الصّفة، كما لا يخفى.

ونفيُ الحقيقة ادّعاءً بلحاظ الحكم أو الصّفة، غيرُ نفي أحدهما ابتداءً مجازاً في التقدير أو في الكلمة، ممّا لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة.

وقد انقدح بذلك: بُعد إرادة نفي الحكم الضّرري، أو الضّرر غير المتدارك،

___________________________________________

قلت: كلّا {فإنّ قضيّة البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادّعاءً} فإنّه لو قال: (ليس فيكم صفة الرّجال) لم يكن بليغاً {لا نفي الحكم أو الصّفة، كما لا يخفى} على من له أدنى إلمام بالبلاغة.

هذا مضافاً إلى أنّه خلاف الظّاهر، فإنّ الظّاهر نفي الحقيقة ادّعاءً.

{و} إن قلت: أيّ فرق بين نفي الحقيقة وبين المجاز في التقدير أو في الكلمة حتّى قلتم بأن «لا ضرر» من نفي الحقيقة ادّعاءً لا من المجاز؟

قلت: {نفي الحقيقة ادّعاءً} أي: نقول: لا ضرر - من دون عدم وجود الضّرر - {بلحاظ الحكم أو الصّفة} أي: ليس حكم الضّرر موجوداً، أو ليست صفة الضّرر موجودة، والمراد بصفة الضّرر: غير المتدارك، أي: لا ضرر غير المتدارك موجود {غير نفي أحدهما ابتداءً} بأن نقول: لا ضرر غير المتدارك موجود، أو لا حكم ضرريّاً موجود {مجازاً في التقدير} بأن تقدّر الصّفة للضرر أو الحكم المضاف إلى الضّرر الموجود في الكلام {أو في الكلمة} بأن قيل لفظ (الضّرر) وأُريد به حكمه أو صفته، كما يقال لفظ (الأسد) ويراد به الرّجل الشّجاع {ممّا لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة} بالإضافة إلى ما ذكر من أنّه خلاف الظّاهر - لا خلاف البلاغة فقط - .

{وقد انقدح بذلك} الّذي قرّرنا في معنى «لا ضرر» {بُعد إرادة نفي الحكم الضّرري} وهو من تقدير «الحكم» في الكلام {أو الضّرر غير المتدارك} وهو من

ص: 462

أو إرادة النّهي من النّفي جدّاً؛ ضرورة بشاعة استعمال الضّرر وإرادة خصوص سبب من أسبابه، أو خصوص غير المتدارك منه.

ومثله لو أُريد ذاك بنحو التقييد، فإنّه وإن لم يكن ببعيد، إلّا أنّه بلادلالة عليه غير سديد.

وإرادة النّهي من النّفي وإن كان ليس بعزيز،

___________________________________________

تقدير صفة للضرر في الكلام {أو إرادة النّهي من النّفي} بأن قال: «لا ضرر» وأراد: لا يضرّ، كقوله - تعالى - : {لَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ}(1) أي: لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل، فإنّ هذه المعاني الثلاثة بعيدة {جدّاً، ضرورة بشاعة استعمال الضّرر وإرادة خصوص سبب من أسبابه} كما لو قدّرنا لا حكم ضرر {أو} إرادة {خصوص غير المتدارك منه} كما لو قدّرنا لا ضرر غير المتدارك.

{ومثله} أي: مثل بعد تلك المعاني الثلاثة بُعد ما {لو أُريد ذاك} المعنى الحاصل من الوصف أو الإضافة، بأن لا يقدّر مضاف أو وصف وإنّما يراد من الضّرر في «لا ضرر» هذا القسم من الضّرر، أي: غير المتدارك أو حكم الضّرر {بنحو التقييد} فإنّه ربّما يقدّر شيء وربّما لا يقدّر ولكن يقصد من اللفظ نفس ذلك المعنى المقيّد، فقد يقال: (جرى النّهر) فيقدّر جرى ماء النّهر، وربّما يراد ب- (النّهر) ماء النّهر، والفرق بينهما أنّ أحدهما مجاز بالإضمار والآخر مجاز في الكلمة.

هذا ما احتمل في مراد المصنّف من العبارة، وللمشكيني(2)

والسّيّد الحكيم(3)

وغيرهما للعبارة تفسيرات، فراجع.

{فإنّه وإن لم يكن ببعيد} إذ المجاز في الكلمة شيء دائر {إلّا أنّه بلا دلالة عليه غير سديد} بعد عدم كونه ظاهر اللفظ {وإرادة النّهي من النّفي وإن كان ليس بعزيز}

ص: 463


1- سورة البقرة، الآية: 197.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 358.
3- حقائق الأصول 2: 380.

إلّا أنّه لم يعهد من مثل هذا التركيب.

وعدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة لا يكاد يكون قرينة على إرادة واحد منها، بعد إمكان حمله على نفيها

___________________________________________

لوروده بكثرة في الآيات والرّوايات، نحو {لَا رَفَثَ}(1) و{لَا مِسَاسَۖ}(2)، وقوله(صلی الله علیه و آله): «لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام»(3)،

وقوله(صلی الله علیه و آله): «لا جلب ولا جنب ولا اعتراض»(4)، وقوله(صلی الله علیه و آله): «لا حفاء في الإسلام ولا بنيان لكنيسة»(5)، وقوله(صلی الله علیه و آله): «لا حمى في الإسلام ولا مناجشة»(6) وغيرها {إلّا أنّه لم يعهد من مثل هذا التركيب} قال المشكيني: «يعني الكلام الّذي دخلت لا النّافية على الاسم العامل فيه للنصب لفظاً أو محلّاً»(7).

{و} إن قلت: إنّا مجبورون لأحد هذه التقديرات صوناً للكلام عن الكذب، إذ لو أُريد «لا ضرر» حقيقة ممّا معناه أنّه لا يكون في الإسلام ضرر تكويني، لكان ذلك كذباً قطعاً.

قلت: {عدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة} لما قلتم من استلزامه الكذب {لا يكاد يكون قرينة على إرادة واحد منها} أي: واحد من هذه المعاني الّتي ذكرتموها {بعد إمكان حمله} أي: حمل «لا ضرر» {على نفيها} أي: نفي الحقيقة

ص: 464


1- سورة البقرة، الآية: 197.
2- سورة طه، الآية: 97.
3- الكافي 5: 361؛ معاني الأخبار: 274.
4- تاج العروس من جواهر القاموس 10: 91.
5- مستدرك الوسائل 8: 287، وفيه: «ليس في الإسلام إخصاء ولا كنيسة محدثة»؛ وراجع الجامع الصغير 2: 725.
6- الجامع الصغير 2: 746.
7- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 359.

ادّعاءً، بل كان هو الغالب في موارد استعماله.

ثمّ

___________________________________________

{ادّعاءً} بأن يراد نفي الحقيقة مبالغة، كما في (ولا رجال) - كما تقدّم - {بل كان هو الغالب في موارداستعماله} أي: استعمال هذا التركيب، إذ الغالب في أمثاله نفي الحقيقة ادّعاءً.

{ثمّ} لا يخفى أنّ الأحكام على قسمين:

الأوّل: ما كان ثابتاً للموضوع بعنوانه الأوّلي، كما لو قال: (الوضوء واجب)، و(شرب الخمر حرام).

الثّاني: ما كان ثابتاً للموضوع بعنوانه الضّرري سواء ذكر القيد بالضرر في لسان الدليل، كما لو قال: (الصّوم المضرّ حرام)، أم لم يذكر كما لو قال: (الزكاة واجبة) و(الجهاد واجب)، فإنّ كلّاً من الزكاة والجهاد حكم ضرري، إذ الأوّل ضرر في المال والثّاني ضرر في النّفس.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ أدلّة «لا ضرر» إنّما تنفي الأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوليّة كالقسم الأوّل، فإذا صار الوضوء ضرراً ارتفع وجوبه، وكذلك إذا صار عدم شرب الخمر ضرراً ارتفعت حرمتها، أمّا الأحكام الثابتة للموضوعات الضّرريّة كالقسم الثّاني، سواء أخذ الضّرر في لسان الدليل أم لا فأدلّة «لا ضرر» لا تنفيها؛ وذلك لأنّه في الشّقّ الأوّل انصبّ الحكم على الموضوع الضّرري، فالضرر صار علّة للحكم، فكيف يمكن أن يكون رافعاً للحكم، فإنّ في قوله: (الصّوم الضّرري حرام) صبّ الحرمة على الصّوم الضّرري، فكيف يمكن أن يكون الضّرر رافعاً لهذا الحكم - وهو الحرمة -؟ وفي الشّقّ الثّاني ترتّب الحكم على الموضوع الّذي هو ضرريّ، فكيف يمكن أن يرفع الضّرر الحكم؟ فإنّ ذلك ملازم لعدم الحكم إطلاقاً، فقوله: (الزكاة واجبة) معناه أنّ دفع المال الّذي هو

ص: 465

الحكم الّذي أُريد نفيه بنفي الضّرر هو الحكم الثابتُ للأفعال بعناوينها، أو المتوهّم ثبوته لها كذلك في حال الضّرر، لا الثابت له بعنوانه؛ لوضوح أنّه العلّة للنفي ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه.

___________________________________________

ضرر واجب، فكيف يمكن أن يرفع الضّرر هذا الحكم، وهل معناه إلّا عدم وجوب الزكاة مطلقاً؟ ومثله الجهاد الموجب للشهادة وهكذا.

وبهذا تبيّن أنّ {الحكم الّذي أُريد نفيه} أي: نفي ذلك الحكم {بنفي الضّرر} أي: بلسان نفي الضّرر {هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها} الأوّليّة نحو الوضوء، وشرب الخمر، والمراد من قوله: «بعناوينها» مقابل العناوين الضّرريّة لا مقابل العناوين الثانويّة، إذ «لا ضرر» منصبّ على الأفعال حتّى بعناوينها الثانويّة، فقولنا: (اللحم المشكوك تذكيته محرّم) إذا صارت الحرمة ضرريّة ارتفعت حرمته، وإن كان الحكم بالحرمة منصبّاً على اللحم بعنوانه الثانوي وهو الشّكّ في تذكيته.

وكذا لو صار الصّوم المنذور ضرريّاً كما لا يخفى {أو المتوهّم ثبوته} أي: الحكم {لها} أي: للأفعال {كذلك} أي: بعناوينها، وهذا عطف على قوله: «الثابت» والمراد أنّه لا يجب أن يكون الحكم ثابتاً محقّقاً، بل يكفي أن يكون متوهّم الثبوت في نظر المكلّف {في حال الضّرر} متعلّق بقوله: «المتوهّم ثبوته» {لا} الحكم {الثابت له} أي: للموضوع {بعنوانه} أي: بعنوان الضّرر بأن كان الموضوع بذاته ضرريّاً - كما في القسم الثّاني - {لوضوح أنّه} أي: الضّرر في لا ضرر {العلّة للنفي} أي: علّة لنفي الحكم عن الموضوع - في الموضوعات الأوّليّة - .

{و} إذا فرض أنّ الضّرر كان جزءاً للموضوع ف- {لا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه} بأن يكون جزء الموضوع الّذي هو سبب لثبوت الحكم طارداً للحكم فيمنع عنه {وينفيه، بل} الموضوع {يثبته} أي: يثبت الحكم {ويقتضيه}.

ص: 466

ومن هنا لا يلاحظ النّسبة بين أدلّة نفيه وأدلّة الأحكام، وتقدّم أدلّته على أدلّتها، - مع أنّها عموم من وجه - ؛ حيث إنّه يوفّق بينهما عرفاً بأنّ الثابت للعناوين الأوّليّة اقتضائيّ، يمنع عنه فعلاً ما عرض عليها من عنوان الضّرر بأدلّته، كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلّة المثبتة أو النّافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانويّة

___________________________________________

{ومن هنا} أي: من أجل وضوح أنّ الضّرر علّة لنفي الحكم بعنوان ثانوي تبيّن أنّه {لا يلاحظ النّسبة بين أدلّه نفيه} أي: نفي الضّرر {و} بين {أدلّة الأحكام} الأوّليّة، كالصلاة والصّيام وشرب الخمر وغيرها {وتقدّم أدلّته} أي: أدلّة «لا ضرر» {على أدلّتها} أي: أدلّة الأحكام {مع أنّها} بينهما {عموم من وجه}.

فمثلاً: بعض أقسام الوضوء ضرريّة، وبعضها ليست بضرريّة، وبعض الضّرر ليس في الوضوء، فإن كانت أدلّة الضّرر في عرض سائرالأدلّة، ولم تكن مقدّمة عليها، كان مقتضى القاعدة أن يتعارض الدليلان في مادّة الاجتماع وهو الوضوء الضّرري، ويقدّم أحدهما على الآخر بدليل خارجي، لكنّه ليس كذلك، بل يقدّم دليل الضّرر مطلقاً، فكلّ شيء ضرريّ مرفوع الحكم {حيث إنّه يوفّق بينهما} أي: بين دليل الضّرر ودليل الأحكام {عرفاً بأنّ الثابت للعناوين الأوليّة اقتضائي} يثبت الحكم للموضوع المجرّد بدون نظر إلى الطّوارئ والأحوال، ف- {يمنع عنه فعلاً ما عرض} «ما» فاعل «يمنع» {عليها} أي: على تلك العناوين الأوّليّة {من عنوان الضّرر} بيان «ما» {بأدلّته} أي بأدلّة الضّرر، والجار متعلّق بقوله: «عرض».

{كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلّة المثبتة أو النّافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية} كأدلّة النّذر والعهد واليمين والشّرط وإطاعة الوالدين والزوج والمولى المثبتة للأحكام بهذه العناوين الثانوية، كأدلّة العسر والحرج واختلال

ص: 467

والأدلّة المتكفّلة لحكمها بعناوينها الأوليّة.

نعم، ربّما يعكس الأمر في ما أحرز - بوجه معتبر - أنّ الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء، بل بنحو العليّة التامّة.

___________________________________________

النّظام النّافية للأحكام بهذه العناوين الثانويّة {والأدلّة المتكفّلة لحكمها} أي: حكم الأفعال {بعناوينها الأوليّة} كأدلّة الوضوء والتصدّق وسائر العاديات المباحة وسائر الأحكام، فإنّ الوضوء الواجب لو صار ضرريّاً لم يجب، والتصدّق المستحبّ لو وقع متعلّق النّذر وجب، والأكل المباح لو كان ضرريّاً حرم ولو كان سادّاً للرمق واجب وهكذا.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ لتقدّم هذه الأدلّة على سائر الأدلّة المتكفّلة للأحكام بعناوينها الأوليّة بوجهين آخرين:

الأوّل: أنّ موضوعات أدلّة الأحكام الثانويّة هي نفس موضوعات أدلّة الأحكام الأوّليّة بزيادة، فمثلاً: دليل «لا ضرر» أخصّ من أدلّة الأحكام بمجموعها، فالتقديم على القاعدة المطّردة بين العامّ والخاصّ.

الثّاني: إنّه لو لم تقدّم أدلّة الأحكام الثانويّة لزم أن لا يبقى للثانويّة مورداً، فمثلاً: الوضوء الضّرري واجب والصّدقة الضّرريّة مستحبّة، وشرب الخمر - الّذي لولا شربها لكان الهلاك - حرام، وأكل الفاكهة الضّرريّة مباح، والنّوم بين الطّلوعين الضّرري مكروه، فأيّ مورد يبقى لقوله(صلی الله علیه و آله): «لا ضرر».

لكن لا يخفى أنّ الوجه في التقديم هو الحكومة المتقدّمة، فإنّها عرفاً حاكمة على الأدلّة الأوّليّة، كما لا يخفى.

{نعم، ربّما يعكس الأمر} فيقدّم دليل الحكم بعنوانه الأوّلي على أدلّة الأحكام الثانويّة {في ما أحرز بوجه معتبر أنّ الحكم} الأوّلي {في المورد ليس بنحو الاقتضاء} حتّى يرفع بالعنوان الثانوي {بل بنحو العليّة التامّة} كموضوع إنقاذ

ص: 468

وبالجملة: الحكم الثابت بعنوان أوّلي:

تارة: يكون بنحو الفعليّة مطلقاً، أو بالإضافة إلى عارض، دون عارض، بدلالة لا يجوز الإغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له، فيقدّم دليل ذاك العنوان على دليله.

وأُخرى: يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الإغماض عنها بسببه

___________________________________________

النّبي مثلاً، فإنّه علّة تامّة ولو كان ضرريّاً.

{وبالجملة الحكم الثابت بعنوان أوّلي} على قسمين، ف- {تارة يكون بنحو الفعليّة} وإنّ الحكم دائمي {مطلقاً} عرض عارض أم لا، كإنقاذ النّبي(صلی الله علیه و آله) الّذي هو واجب مطلقاً، سواء كان ضرريّاً أو حرجيّاً أو مخالفاً للنذر والشّرط وأمر الأبوين أم لا {أو} يكون بنحو الفعليّة - لكن لا مطلقاً - بل {بالإضافة إلى عارض دون عارض} كشرب الخمر مثلاً، الّذي هو حرام بالنسبة إلى الضّرر غير المهلك وليس بحرام بالنسبة إلى الضّرر المهلك، فإنّ الحرمة حكم فعليّ بالنسبة إلى عارض - وهو غير المهلك - دون عارض آخر وهو المهلك، فإنّ الفعليّة المطلقة في الأوّل والخاصة ببعض العوارض في الثّاني قد ثبتت {بدلالة لا يجوز الإغماض عنها بسبب دليل حكم العارض}أي: «لا ضرر» في المثال {المخالف} هذا العارض {له} أي: لذلك الحكم الفعلي {فيقدّم دليل ذاك العنوان} الأوّلي الفعلي {على دليله} أي: دليل العارض نحو «لا ضرر» في المثال، فيجب إنقاذ النّبي مطلقاً، ويحرم شرب الخمر إذا لم يكن المرض مهلكاً، وإن كان فيهما ضرر شديد وعسر أكيد.

{وأُخرى يكون} الحكم الثابت بعنوان أوّلي {على نحو لو كانت هناك دلالة} على خلافه بسبب عنوان ثانوي {للزم الإغماض عنها} أي: عن تلك الأحكام الأوليّة، ومرجع الضّمير مفهوم من الكلام {بسببه} أي: بسبب دليل حكم العارض

ص: 469

عرفاً، حيث كان اجتماعهما قرينة على أنّه بمجرّد المقتضي، وإنّ العارض مانع فعلي. هذا ولو لم نقل بحكومة دليله؛ على دليله لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله، كما قيل(1).

ثمّ

___________________________________________

ولو عكس المصنّف فقال: (عنه بسببها) كان أوفق {عرفاً} أي: يفهم العرف ذلك {حيث كان اجتماعهما} أي: اجتماع دليلي العارض والحكم الأوّلي {قرينة على أنّه} أي: الحكم الثابت بالعنوان الأوّلي {بمجرّد المقتضي} كأدلّة استعمال المباحات {وإنّ العارض مانع فعلي} فيقدّم دليل «لا ضرر» - مثلاً - عليها.

ثمّ إنّ الشّيخ ذكر أنّ أدلّة الأحكام الثانويّة حاكمة على أدلّة الأحكام الأوّليّة، بمعنى أنّ الثانويّة ناظرة إلى الأوّليّة، ولهذا تقدّم الثانويّة على الأوّليّة، لكن المصنّف لم يرتض بالحكومة ورأى أنّ الوجه في التقديم كون الأوّليّة اقتضائيّة والثانويّة فعليّة.

ولذا عرّض بالحكومة الّتي ذكرها الشّيخ بقوله: {هذا} الّذي ذكرنا من التقديم وجهه الاقتضائيّة والفعليّة {ولو لم نقل بحكومة دليله} أي: دليل الحكم الثانوي {على دليله} أي: دليل الحكم الأوّلي {لعدم ثبوت نظره} أي: نظر الثانوي {إلى مدلوله} أي: مدلول الأوّلي.

وقد اشترط في دليل الحاكم أن يكون ناظراً إلى دليل المحكوم، كأن يقول: (لا شكّ لكثير الشّكّ)، بعد ما قال: (ابن على الأربع في الشّكّ بين الثلاث والأربع) {كما قيل} والقائل الشّيخ كما ذكرنا.

{ثمّ} بعد ما فرغنا من النّسبة بين دليل لا ضرر وأدلّة الأحكام الأوليّة نذكر النّسبة بين دليلين من الأحكام الثانويّة، كما لو تعارض دليل الضّرر ودليل العسر مثلاً، في ما لو اعتاد شرب التتن - مثلاً - بحيث إنّ تركه عسر عليه واستعماله

ص: 470


1- فرائد الأصول 2: 462.

انقدح بذلك: حال توارد دليلي العارضين، كدليل نفي العسر ودليل نفي الضّرر مثلاً. فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين، وإلّا فيقدّم ما كان مقتضيه أقوى، وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى.

ولا يبعد: أنّ الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب،

___________________________________________

مضرّ له، فنقول: {انقدح بذلك} الّذي ذكرنا في دليلي الضّرر والأحكام الأوّليّة {حال توارد دليلي العارضين} بأن كان كلا الدليلين ثانويّين {كدليل نفي العسر ودليل نفي الضّرر} أو كدليل وجوب النّذر ودليل نفي الضّرر في ما صار الصّوم المنذور ضرريّاً {مثلاً، فيعامل معهما معاملة المتعارضين} لو كان لأحدهما فقط ملاك، بأن علمنا من الخارج أنّه لا ملاك في أحدهما ولم نعلم صاحب الملاك، وحين عومل معهما معاملة المتعارضين نأخذ بالراجح لو كان أحدهما راجحاً، وإلّا فالتخيير أو الرّجوع إلى الأصل، فإنّه قد اختلف في أنّ مورد الاجتماع من العامين من وجه هل يحكم بالتخيير فيه أم بالرجوع إلى الأصول العمليّة؟

لكن معاملتهما معاملة المتعارضين إنّما هو في ما {لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين} بأن كان في كلّ واحد منهما ملاك تامّ حتّى في مورد الاجتماع، كمثل إنقاذ الغريقين {وإلّا} بأن كانا من باب التزاحم {فيقدّم ما كان مقتضيه أقوى} على ما كان مقتضيه أضعف، فإنّه في مثال النّذر والضّرر يقدّم دليل الضّرر على دليل النّذر لو كان الصّوم موجباً للهلاك مثلاً.{وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى} في مقام الدليليّة، إذ الرّجحان اللفظي إنّما ينفع في مقام التعارض لا مقام التزاحم، فلو ورد دليل ضعيف بوجوب إنقاذ النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، ودليل قوي بوجوب إنقاذ المؤمن، قدّم الأوّل في مقام التزاحم {ولا يبعد أنّ الغالب في توارد العارضين} أي: الدليلين الثانويّين {أن يكون من ذاك الباب}

ص: 471

بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما، لا من باب التعارض؛ لعدم ثبوته إلّا في أحدهما، كما لا يخفى.

هذا حال تعارض الضّرر مع عنوان أوّلي أو ثانوي آخر.

وأمّا لو تعارض مع ضرر آخر، فمجمل القول فيه:

أنّ الدوران، إن كان بين ضررَي شخص واحد أو اثنين، فلا مسرح إلّا لاختيار أقلّهما

___________________________________________

أي: باب التزاحم {بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما} على موضوع واحد، فلكلّ منهما ملاك ومقتضي {لا من باب التعارض} بوجود الملاك في أحدهما فقط، و{لعدم ثبوته} أي: المقتضي {إلّا في أحدهما، كما لا يخفى} وهذا تعليل لعدم كونه من باب التعارض.

{هذا} كلّه {حال تعارض الضّرر مع عنوان أوّلي} كالوضوء {أو ثانوي} كالحرج {آخر} أي: غير نفس الضّرر {وأمّا لو تعارض مع ضرر آخر} بأن دار الأمر بين ضررين فهو على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يدور بين ضرري شخص واحد، كما لو أُجبر بين قتل زيد وبين أخذ دينار منه.

الثّاني: أن يدور بين ضرري شخصين، كما لو أُجبر بين قتل زيد أو ضرب عمرو.

الثّالث: أن يدور بين ضرر نفسه وضرر غيره، كما لو أُجبر على قبول الولاية فإن لم يقبل ضرّه، وإن قبل كان مستلزماً لضرر آخرين.

{فمجمل القول فيه أنّ الدوران إن كان بين ضررَي شخص واحد} كالأوّل {أو} ضرري {اثنين} كالمثال الثّاني {فلا مسرح إلّا لاختيار أقلّهما} فإنّ الضّرورات تقدّر بقدرها.

ومن المعلوم أنّ الضّرر الأقلّ سواء كان بالنسبة إلى شخص واحد أو إلى

ص: 472

لو كان، وإلّا فهو مختار.

وأمّا لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره، فالأظهر عدم لزوم تحمّله الضّررَ، ولو كان ضرر الآخر أكثر؛ فإنّ نفيه يكون للمنّة على الأُمّة، ولا منّة على تحمّل الضّرر لدفعه عن الآخر، وإن كان أكثر.

___________________________________________

شخصين ضرورة دون الضّرر الأكثر، فيكون حاله حال ما لو دار أمره بين أن يشرب قدح خمر أو قدحين، فإنّ الثّاني لا يجوز لعدم ضرورة بالنسبة إليه.

لكن هذا {لو كان} بينهما أقلّ وأكثر كالمثالين {وإلّا} بأن تساويا، كما لو أُجبر على قطع إحدى يدي زيد أو قطع يد زيد أو ضرر {فهو مختار} بينهما لعدم ترجيح هناك.

{وأمّا لو كان} الأمر دائراً {بين ضرر نفسه وضرر غيره ف-} له صور وأحكام، كدوران الأمر بين قتل نفسه أو غيره، أو قتل نفسه أو قطع طرف غيره، أو قتل نفسه أو إضرار غيره مالياً، أو بالعكس فيهما، أو رفع سلطة نفسه أو غيره، كما لو دار بين عدم حفر في داره أو حفر وتضرّر جدار جاره، أو أشباه هذه الموارد ممّا له صور كثيرة.

وقد وقع الخلاف في بعضها والاتفاق في بعضها الآخر، لكن المصنّف(رحمة الله) على أنّ {الأظهر عدم لزوم تحمّله الضّرر ولو كان ضرر الآخر أكثر} كما لو أجبره الجابر بين إعطاء دينار من نفسه أو إعطاء دينارين من غيره {فإنّ نفيه} أي: الضّرر بقوله: «لا ضرر» {يكون للمنّة على الأُمّة} ف- «لا ضرر» بالنسبة إلى الغير منّة عليه {ولا منّة على تحمّل} الإنسان {الضّرر لدفعه عن الآخر وإن كان} ضرر الآخر {أكثر}.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تفسير قوله: «وأمّا لو تعارض مع ضرر آخر» بناءً على احتمال، وهناك احتمال آخر أقرب إلى العبارة، وهو أن يراد: أقسام الضّرر الثلاثة

ص: 473

نعم، لو كان الضّرر متوجّهاً إليه، ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر.

___________________________________________

غير المرتبطة بالمكلّف على كلّ تقدير، كما لو أراد اللصّ أن يقطع يد زيد أو يسرق ماله، أو أراد اللصّ أن يسرق مال زيد أو مال عمرو، أو أراد زيد أن يحفر بئراً في داره ممّا يكون عدم حفره ضرراً عليه وكان حفر بئره ضرراً على جاره، فإنّه لا يجب على زيد تحمّل الضّرر ولو كان ضرر الآخر أكثر في الصّورتين الأخيرتين، ويجب عليه تحمّل أقلّهما لو كان دائراً بين ضرري شخصه، لكنّه إذا كان تحمّلهما حراماً، كما لو دار بين قطع يده أو قطع يديه أمّا لو كان تحمّل أحدهما جائزاً قدّم على المحرّم، كما لو دار بين قطع يده أو أخذ دينار منه، ولو كان كلاهما جائزاً كان له الخيار، كما لا يخفى.

{نعم} إنّ ما ذكرنا من عدم لزوم تحمّل الضّرر على النّفس لدفع الضّرر عن الغير إنّما يصحّ في ما لم يكن الضّرر متوجّهاً إليه، أمّا {لو كان الضّرر متوجّهاً إليه} كما لو أراد اللصّ سرقة ماله ف- {ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر} بأن يدلّه على مال صديقه حتّى يسرقه فيجوز عن ماله.

لكن هذا إنّما يتمّ لو كان الدفع عن النّفس بلحاظ إرادة ضرر الغير، أمّا لو لم يكن كذلك بل كان فراراً يوجب بالآخرة الضّرر على الغير، كما لو رماه الظّالم ففرّ حتّى أصاب السّهم غيره، أو أراد اللصّ سرقة ماله ففرّ حتّى أخذ مال غيره، فالظاهر عدم إشكال في ذلك؛ لأنّه من دفع الضّرر عن النّفس ولا يرتبط بإضرار الغير.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من عدم لزوم تحمّل الضّرر وإن كان ضرر الآخر أكثر إنّما يصحّ إذا قلنا بأنّه لوحظت المنّة بالنسبة إلى كلّ فرد فرد، وأمّا إن قلنا بأنّ المنّة لوحظت بالنسبة إلى مجموع الأُمّة - بأن جعلت الأُمّة كفرد واحد - يكون حال تعارض الضّررين بالنسبة إلى شخصين كتعارضهما بالنسبة إلى شخص واحد

ص: 474

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ نفي الضّرر وإن كان للمنّة، إلّا أنّه بلحاظ نوع الأُمّة، واختيار الأقلّ بلحاظ النّوع منّة، فتأمّل.

___________________________________________

في وجوب التحمّل للضرر الأخفّ، وإلى هذا أشار بقوله: {اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ نفي الضّرر وإن كان للمنّة} على الأُمّة {إلّا أنّه} أي: الرّفع الامتناني {بلحاظ نوع الأُمّة واختيار الأقلّ بلحاظ النّوع منّة} فيجب تحمّل الضّرر الأقلّ على النّفس دفعاً للضرر الأكثر المتوجّه إلى الغير {فتأمّل}.

فإنّ الظّاهر اختلاف موارده، فلو توجّه ضرر القتل إلى الغير أو ذهاب مال يسير من النّفس قدّم الثّاني، ولو توجّه ضرر دينارين على الغير أو دينار على النّفس لم يلزم الدفع عن الغير، والكلام في هذا الباب طويل، فليراجع الفقه واللّه المستعان.

ص: 475

ص: 476

فهرس المحتويات

فصل: حجيّة خبر الواحد...... 5

المسألة أصولية........ 5

أدلة القول بعدم حجيّة الخبر الواحد..... 9

أدلة حجيّة خبر الواحد.... 18

فصل: الآيات التي يستدل بها على حجيّة خبر الواحد ومناقشتها........ 18

الاستدلال بآية النبأ... 18

الإشكال الأوّل....... 21

الإشكال الثّاني....... 23

الإشكال الثّالث....... 25

الإشكال الرّابع....... 31

الاستدلال بآية النفر........ 34

الاستدلال بآية الكتمان..... 42

الاستدلال بآية السؤال..... 45

الاستدلال بآية الاُذُن....... 49

فصل: الأخبار التي يستدل على حجيّة خبر الواحد...... 53

فصل: الإجماع على حجيّة خبر الواحد....... 55

الوجه الأوّل: دعوى الإجماع القولي........ 55

الوجه الثّاني: دعوى الإجماع العملي....... 57

الوجه الثّالث: سيرة العقلاء..... 59

فصل: في الوجوه العقليّة التي أُقيمت على حجيّة خبر الواحد...... 65

الوجه الأوّل: العلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار...... 65

ص: 477

الوجه الثّاني: ثبوت كثير من الأحكام بخبر الواحد.... 69

الوجه الثّالث: وجوب العمل بالظن عند الانسداد....... 74

فصل: أدلة حجيّة مطلق الظن..... 78

الدليل الأوّل: قاعدة دفع الضرر المظنون........ 78

الدليل الثّاني: الملازمة بين عدم الأخذ بالظن وترجيح المرجوح على الراجح........ 87

الدليل

الثّالث: لزوم العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكاتوالموهومات... 89

الدليل الرّابع: دليل الانسداد..... 91

مقدمات دليل الانسداد...... 91

التحقيق في مقدمات دليل الانسداد...... 93

1- انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف بسبب الأخبار الواردة عن أهل البيت^ 94

2- انسداد باب العلم، لا باب العلمي........ 95

3- عدم جواز الإهمال.... 96

4- عدم وجوب الاحتياط في ما يوجب عُسره اختلال النظام، لا في ما لا يوجبه........ 99

لا مانع من إجراء الأصول المثبتة في أطراف العلم....... 103

لا مانع من إجراء الأصول النافية أيضاً مع الانحلال...... 107

لزوم الاحتياط في موارد الأصول النافية مع عدم الانحلال..... 110

عدم جواز رجوع الانسدادي إلى المجتهد الانفتاحي....... 111

5- ترجيح المرجوح على الراجح قبيح قطعاً إلّا أن النوبة لا تصل إليه 112

فصل: الظّنّ بالطريق والظن بالواقع........ 115

الوجه في اختصاص الحجيّة بالظن بالواقع.... 118

الوجه الأوّل........ 120

الوجه الثّاني....... 138

فصل: في الكشف والحكومة.... 144

لا مجال لاستكشاف حجيّة الظّنّ شرعاً... 144

عدم الإهمال في النتيجة بناءً على الحكومة.... 150

التفصيل بين محتملات الكشف...... 151

ص: 478

الاحتمال الأوّل..... 152

الاحتمال الثّاني.... 155

الاحتمال الثّالث.... 157

وهم ودفع.... 158

طريق تعميم النتيجة على الكشف... 159

فصل: خروج القياس عن حجيّة الظن...... 166

فصل: الظّنّ المانع والممنوع... 180

فصل: الظّنّ بالحكم وبمقدّماته........ 183

حجيّة قول اللغوي مع الانسداد...... 184

حجيّة قول الرجالي في حال الانسداد..... 186

تنبيه...... 187فصل: الظّنّ بالفراغ 189

خاتمة..... 192

عدم اعتبار الظّنّ في الاعتقادات.... 192

وجوب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات..... 195

لا دليل على عموم وجوب المعرفة....... 199

عدم كفاية الظّنّ في ما يجب معرفته...... 202

لا دلالة للعقل ولا للنقل على وجوب تحصيل الظّنّ مع اليأس عن العلم... 207

وجود القاصر في تحصيل العلم بالاعتقاديّات........ 209

الجبر والوهن والترجيح بالظن غير المعتبر... 211

جبر ضعف السند بالظن....... 215

عدم جبر ضعف الدلالة بالظن...... 216

عدم وهن السند والدلالة بالظن...... 217

عدم الترجيح بالظن...... 218

عدم حصول الجبر والوهن والترجيح بمثل القياس........ 221

ص: 479

المقصد السّابع: في الأصول العمليّة

المقصد السّابع: في الأصول العمليّة........ 223

تعريف الأصول العمليّة....... 225

المهم من الأصول العمليّة..... 226

فصل: أصل البراءة........ 229

الاستدلال على البراءة بالأدلة الأربعة...... 231

الاستدلال بالكتاب..... 231

الاستدلال بالروايات........ 234

حديث الرفع........ 234

المراد من الموصول في «ما لا يعلمون»...... 240

المرفوع في غير «ما لا يعلمون»....... 245

حديث الحجب...... 247

حديث الحلّ........ 249

تعميم مفاد الحديث للشبهة الوجوبيّة....... 249

حديث السعة....... 250

حديث الإطلاق..... 252

دعوى الإجماع على البراءة..... 258

حكم العقل بالبراءة... 258

عدم جريان قاعدة دفع الضرر المحتمل في الشبهات البدويّة.... 259

أدلة القول بالاحتياط في الشبهات البدويّة والجواب عنها... 264

الاستدلال بالكتاب........ 264

الاستدلال بالأخبار....... 266

الاستدلال بالعقل... 274

الوجه الأوّل: العلم الإجمالي........ 274

الوجه الثّاني: أصالة الحظر... 284

تنبيهات البراءة...... 289

ص: 480

التنبيه الأوّل: اشتراط جريان البراءة بعدم وجود أصل موضوعي في موردها...... 289

صور الشك في التذكية........ 291

الصورة الأولى.... 291

الصورة الثّانية..... 295

الصورة الثّالثة..... 295

الصورة الرّابعة... 296

الصورة الخامسة........ 297

التنبيه الثّاني: حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً...... 297

الإشكال في جريان الاحتياط في العبادات...... 298

الجواب الأوّل...... 299

الجواب الثّاني...... 300

الجواب الثّالث..... 303

الجواب الرّابع..... 306

الجواب الخامس... 309

الجواب السّادس.... 310

مفاد أخبار «من بلغه»........ 312

التنبيه الثّالث: لزوم التفصيل في جريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة....... 316

عدم لزوم الاحتياط في جميع الشبهات الموضوعيّة........ 319

التنبيه الرّابع: الاحتياط حسنٌ مطلقاً إلّا إذا أخلّ بالنظام..... 321

دوران الأمر بين الوجوب والحرمة...... 324

فصل: في التخيير.... 324

توهم وجود المانع عن جريان أصالة الحلّ..... 327

الرد على القول بالتخيير الشرعي في المقام... 328

عدم جريان البراءة العقليّة في المقام..... 330

شمول النزاع للتعبّديّات........ 331

تقديم محتمل الأهمّيّة..... 334

ص: 481

بطلان القول بترجيح جانب الحرمة...... 336

فصل: في الاشتغال... 337

المقام الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين.... 338

منجزيّة العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي من جميع الجهات....... 338

عدم التنجيز في الإجمالي غير الفعلي.... 340

جريان الحكم الظاهري في أطراف الإجمالي غير الفعلي....... 341

بطلان التفصيل بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة...... 341

مسلك الاقتضاء.... 344

موانع فعلية الحكم في العلم الإجمالي..... 345

منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات... 347

تنبيهات... 347

التنبيه الأوّل: الاضطرار إلى المعين أو غير المعين مانع عن التكليف. 347

لا فرق بين الاضطرار السابق على حدوث العلم واللاحق له... 349

التنبيه الثّاني: شرطيّة الابتلاء بتمام الأطراف... 353

الملاك في الابتلاء....... 355

حكم الشك في الابتلاء... 355

التنبية الثّالث: الشبهة غير المحصورة..... 357

حكم الشك في طروء الموجب لرفع فعليّة التكليف... 359

التنبيه الرّابع: حكم ملاقي بعض الأطراف........ 360

الصورة الأولى.... 362

الصوة الثّانية....... 364

الصورة الثّالثة..... 367

المقام الثّاني: في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيّين..... 368

لزوم الاحتياط عقلاً والدليل عليه... 369

توهم انحلال العلم الإجمالي... 370

انحلال العلم الإجمالي في الأقل والأكثر الاستقلاليّين...... 372

ص: 482

دليل آخر على لزوم الاحتياط عقلاً....... 373

جريان البراءة الشرعيّة عن الأكثر....... 386

تنبيهات... 391

التنبيه الأوّل: عدم جريان البراءة العقليّة في الشك في الشرطيّة والخصوصيّة...... 392

جريان البراءة الشرعيّة في الشك في الشرطيّة دون الخصوصيّة.... 394

التنبيه الثّاني: حكم ناسي الجزء والشرط........ 395

التنبيه الثّالث: حكم زيادة الجزء عمداً أو سهواً في التوصّليّات........ 400

حكم زيادة الجزء في التعبّديّات..... 402

استصحاب صحة العبادة في صورة الزيادة.... 404

التنبيه الرّابع: الشك في إطلاق الجزئية والشرطية.... 405

جريان البراءة عن الباقي بعد تعذر الجزء أو الشرط...... 406

التمسك باستصحاب وجوب الباقي........ 408

التمسك بقاعدة الميسور لإثبات وجوب الباقي........ 410

جريان قاعدة الميسور مع تعذر الجزء والشرط...... 419

المناط في تشخيص الميسور هو العرف إلّا مع تصرّف الشرع...... 420

الدوران بين الجزئية والمانعيّة ونحوهما....... 423

خاتمة: في شرائط الأصول...... 423

شرط حُسن الاحتياط..... 424

اشتراط الفحص في البراءة العقليّة والنقليّة..... 427

لزوم الفحص في التخيير العقلي.... 433

حكم العمل بالبراءة قبل الفحص.... 434استحقاق العقوبة... 434

وجوب الإعادة إلّا في الجهر والإخفات والقصر والإتمام........ 441

تصحيح الأمر بالتمام على نحو الترتّب........ 449

شرطان آخران ذكرهما الفاضل التوني لأصل البراءة..... 450

الفرق بين الدليل الاجتهادي والأصل العملي... 453

ص: 483

قاعدة نفي الضرر.... 454

أخبار نفي الضرر....... 455

لا إشكال في صدور بعض أخبار نفي الضرر....... 458

معنى «الضرر»........ 458

معنى «الضرار»....... 459

المقصود من «لا» هو نفي الحقيقة ادّعاءً...... 460

استبعاد إرادة نفي الحكم أو الصفة أو إرادة النهي من النفي..... 462

المرفوع بالضرر هو الحكم الثابت للشيء بعنوانه الأولي....... 465

نسبة القاعدة مع أدلة الأحكام الأوّليّة...... 467

نسبة القاعدة مع أدلة الأحكام الثّانويّة..... 470

تعارض الضررين...... 472

فهرس المحتويات.... 477

ص: 484

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.