الوصول الی کفایة الاصول المجلد 3

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السید محمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: کفایة الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: الوصول الی کفایة الاصول المجلد 3/ السید محمد الحسیني الشیرازي ؛ [برای] الشجرةالطیبه.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.= 1399.

مواصفات المظهر: 5ج.

ISBN : دوره:9789642045242 ؛ ج.2:9789642045228 ؛ ج.2:9789642045235 ؛ ج.3:9789642045259 ؛ ج.4:9789642045266 ؛ ج.5:9789642045273

حالة الاستماع: فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : هذا كتاب وصفي برکفایة الاصول، آخوند خراساني است.

موضوع : آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایة الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

موضوع :أصول الفقه الشيعي -- قرن 14

Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

المعرف المضاف: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

المعرف المضاف: الشجرةالطیبه (قم)

ترتيب الكونجرس: BP159/8

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6131319

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمة الله)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة:السابعة والأربعون، الأولى

للناشر - 1441ه .ق

-------------------

شابك (الدورة): 2204524964978

شابك (المجلد الرابع): 6204526964978

-------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم قم

المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

وبعد:

فهذا هو الجزء الثّالث من الوصول في شرح كفاية الأصول للمحقّق آية اللّه الخراساني(قدس سره) كتبته للإيضاح، واللّه أسأل التوفيق والتمام والثّواب، إنّه وليّ ذلك، وهوالمستعان.

كربلاء المقدّسة

محمّد بن المهدي

ص: 3

ص: 4

المقصد الثّالث: في المفاهيم

اشارة

ص: 5

ص: 6

المقصد الثّالث: في المفاهيم

مقدّمة: وهي أنّ المفهوم - كما يظهر من موارد إطلاقه - هو عبارة عن حكم إنشائيّ أو إخباريّ، تستتبعه خصوصيّة المعنى الّذي أُريد من اللفظ بتلك الخصوصيّة،

___________________________________________

[المقصد الثّالث في المفاهيم]

المقصد الثّالث: في المفاهيم

{المقصد الثّالث: في المفاهيم. مقدّمة} في بيان معنى المفهوم {وهي أنّ المفهوم - كما يظهر من موارد إطلاقه -} لغة وعرفاً {هو عبارة عن حكم إنشائي} إذا كان المنطوق إنشاءً نحو (أكرم زيداً إن جاءَكَ) {أو إخباري} إذا كان المنطوق خبراً نحو (إن كانت الشّمس طالعة فالنهار موجود) {تستتبعه} أي: تستتبع هذا الحكم {خصوصيّة المعنى الّذي أُريد من اللفظ} فعدم إكرام زيد على تقدير عدم المجيء، وعدم وجود النّهار على تقدير عدم طلوع الشّمس، حكمان لازمان لخصوصيّة معنى (إن) الشّرطيّة الّذي أُريد من (أكرم زيداً) الخ و(إن كانت) الخ {بتلك الخصوصيّة} متعلّق بقوله: «أُريد من اللفظ».

قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - : «يعني تكون تلك الخصوصيّة مدلولاً عليها باللّفظ، وبذلك تخرج المداليل الالتزاميّة مثل وجوب المقدّمة وحرمة الضّدّ، فإنّ اللّفظ إنّما يدلّ على ذي الخصوصيّة لا غير وهي تستفاد منخارج اللفظ، بخلاف خصوصيّة المنطوق المستتبعة للمفهوم، فإنّها مدلول عليها باللفظ»(1)،

انتهى.

ص: 7


1- حقائق الأصول 1: 445.

ولو بقرينة الحكمة، وكان يلزمه لذلك، وافقه في الإيجاب والسّلب أو خالفه.

فمفهوم (إن جاءك زيد فأكرمه) مثلاً - لو قيل به - قضيّة شرطيّة سالبة بشرطها وجزائها،

___________________________________________

{ولو} كانت دلالة اللفظ على الخصوصيّة {بقرينة الحكمة} ومقدّمات الإطلاق {وكان} المفهوم {يلزمه} أي: يلزم اللفظ {لذلك} الأمر الموجود في المنطوق المعبّر عنه بالخصوصيّة.

فتحصّل ممّا تقدّم أنّ المفهوم حكم غير مذكور في القضيّة، ولكن لازم لها من جهة أنّ القضيّة مشتملة على خصوصيّة - ولو بقرينة الحكمة - تلازم ذلك الحكم غير المذكور سواء {وافقه} أي: وافق المفهوم لفظ القضيّة {في الإيجاب} نحو «صل من قطعك»(1)

فإنّه يدلّ على صلة الوَصُول بطريق أولى {والسّلب} نحو قوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ}(2)، فإنّه يدلّ على عدم ضربهما بطريق أولى.

وهذا القسم - أعني: ما وافق المفهوم مع المنطوق إيجاباً وسلباً - يسمّى بمفهوم الموافقة ولحن الخطاب {أو خالفه} بأن كان المفهوم إيجاباً والمنطوق سلباً نحو (إن لم يجئك زيد فأهنه) فإنّ مفهومه: (إن جائك فلا تهنه) أو بالعكس نحو (إن جاءك فأكرمه) فإنّ مفهومه: (إن لم يجئك فلا تكرمه){فمفهوم (إن جاءَكَ زيد فأكرمه) مثلاً - لو قيل به - قضيّة شرطيّة سالبة بشرطها وجزائها} الجار متعلّق بقوله: «سالبة»، أي: إنّ كلّا من الشّرط والجزاء في المفهوم مقترن بحرف السّلب، إذ المفهوم (إن لم يجئك فلا تكرمه). وفيه تسامح لا يخفى.

ومن المحتمل أن يكون الضّمير في قوله: «بشرطها وجزائها» راجعاً إلى القضيّة في المنطوق، أي: يكون الشّرط والجزاء في المفهوم بعين الشّرط والجزاء

ص: 8


1- من لا يحضره الفقيه 4: 179.
2- سورة الإسراء، الآية: 23.

لازمة للقضيّة الشّرطيّة الّتي يكون معنى القضيّة اللفظيّة، ويكون لها خصوصيّة، بتلك الخصوصيّة كانت مستلزمة لها.

فصحّ أن يقال: «إنّ المفهوم إنّما هو حكم غير مذكور» لا أنّه حكم لغير مذكور - كما فسّر به(1) - ، وقد وقع فيه

___________________________________________

في المنطوق.

وكيف كان، فهذه القضيّة الشّرطيّة السّالبة الّتي هي مفهوم {لازمة للقضيّة الشّرطيّة} الموجبة في المنطوق {الّتي يكون معنى القضيّة اللفظيّة، ويكون لها} أي: للقضيّة الشّرطيّة الموجبة في المنطوق {خصوصيّة} أمّا في مفهوم الموافقة فالخصوصيّة هي أنّ ثبوت الحكم في الموضوع الأخفّ يستلزم ثبوته للموضوع الأشد، مثلاً ثبوت الحرمة لكلمة (أُفّ) يستلزم ثبوتها للضّرب.

وأمّا في مفهوم المخالفة فالخصوصيّة هي كون الجزاء مترتّباً على الشّرط ترتّب المعلول على العلّة المنحصرة، مثلاً: ترتّب وجود النّهار على طلوع الشّمس بنحوترتّب المعلول على العلّة المنحصرة يستلزم عدم وجود النّهار عند عدم طلوع الشّمس {ب-} سبب {تلك الخصوصيّة كانت} القضيّة اللفظيّة {مستلزمة لها} أي: للقضيّة المفهوميّة {فصحّ} تفريع على التعريف المتقدّم للمفهوم، أي: لمّا كان المفهوم عبارة عن حكم تستتبعه خصوصيّة المعنى - الظاهر في كون المفهوم هو الحكم فقط لا الموضوع - صحّ {أن يقال: «إنّ المفهوم إنّما هو حكم غير مذكور»} لموضوع مذكور، فإنّ (عدم إكرام زيدٍ على تقدير عدم مجيئه) حكم لم يذكر في منطوق اللفظ، وأمّا موضوعه - أعني: زيداً - فهو مذكور في الكلام، ولهذا {لا} يصحّ أن يقال في تعريف المفهوم {أنّه حكم ل-} موضوع {غير مذكور} في اللفظ {كما فسّر به} والمفسِّرُ هو العضديّ كما حُكِيَ {وقد وقع فيه} أي: في هذا التفسير

ص: 9


1- كما عن العضدي في شرح المختصر: 306.

النّقض والإبرام، بين الأعلام(1)، مع أنّه لا موقع له - كما أشرنا إليه في غير مقام - ؛ لأنّه من قبيل شرح الاسم، كما في التفسير اللغوي.

ومنه قد انقدح حال غير هذا التفسير ممّا ذكر في المقام، فلا يهمّنا التصدّي لذلك، كما لا يهمّنا بيان

___________________________________________

{النّقض والإبرام بين الأعلام} فقد قيل بأنّ هذا التعريف غير مطّرد لشموله لمقدّمة الواجب، فإنّ وجوب المقدّمة المستفاد من وجوب ذيها حكم لغير مذكور، إذ المقدّمة لم تذكر في القضيّة المفيدة لوجوب ذيها، وغير منعكس لخروج نحو (أكرم زيداً إن جاءك) فإنّ مفهومها عدم وجوب إكرام زيد على تقدير عدم المجيء، وموضوع هذا الحكم المفهومي وهو زيد مذكورفي القضيّة {مع أنّه لا موقع له} أي: للنقض والإبرام {كما أشرنا إليه في غير مقام ل-} ما تقدّم من {أنّه من قبيل شرح الاسم، كما في التفسير اللغوي} فإنّهم إنّما هم في صدد شرح الاسم في اللغات وتبديل ألفاظها بألفاظ أظهر منها لدى العرف باعتقادهم، ومثل هذا النّحو من التفسير قد يكون أعمّ وقد يكون أخص.

{ومنه قد انقدح حال غير هذا التفسير} المنسوب إلى العضدي {ممّا ذكر في المقام} كما في التقريرات وغيره {فلا يهمّنا التصدّي لذلك} أي: لغير هذا التفسير من سائر التفاسير {كما} تقدّم من أنّه {لا يهمّنا بيان} النّقض والإبرام في تعريف العضدي.

ثمّ إنّ هاهنا نزاعاً آخر، وهو أنّه هل المفهوم من صفات المعنى والمدلول، أو من صفات الدلالة؟ وأمّا القول بأنّه من صفات الدالّ فلم يذهب إليه أحد.

وتوضيح ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، وهي أنّ الصّفات على ثلاثة أقسام:

الأوّل: صفات المدلول كالكلّيّة والجزئيّة والذاتيّة والعرضيّة ونحوها. مثلاً لفظ

ص: 10


1- الفصول الغرويّة: 145؛ مطارح الأنظار 2: 12.

أنّه من صفات المدلول أو الدلالة؛ وإن كان بصفات المدلول أشبه، وتوصيف الدلالة - أحياناً - كان من باب التوصيف بحال المتعلّق.

___________________________________________

الإنسان ليس كليّاً، وكذا دلالة الإنسان على معناه ليست كليّة، وإنّما الكلّي هو مدلول الإنسان، وعلى هذا فلو اتّصف لفظ الإنسان أو دلالته على معناه بالكليّة كان من قبيل الوصف بحال متعلّق الموصوف، إذ الموصوف الحقيقي هو المعنى لا اللفظ والدلالة.الثّاني: صفات الدالّ كالثلاثيّة والرّباعيّة والمجرديّة والمزيديّة، فإنّها صفات لفظ (الإنسان) ونحوه لا صفات مدلوله ولا صفات دلالته، ولو اتصف أحدهما بهذا النّحو من الأوصاف كان مجازاً.

الثّالث: صفات الدلالة كالنصوصيّة والظهور والصّراحة ونحوها، فإنّها صفات دلالة الإنسان ونحوه على معناه، فإنّ هذا اللفظ بما هو لفظ ليس نصّاً مثلاً، والمعنى بما هو معنى كذلك، وإنّما النّصّ هو دلالة اللفظ على معناه حتّى لو اتصف اللفظ أو المعنى بإحدى هذه الأوصاف كان مجازاً.

إذا عرفت ذلك قلنا: قد وقع النّزاع في المفهوم و{أنّه من صفات المدلول} إذ المفهوم حكم ملازم لخصوصيّة المعنى، فلا بدّ وأن يكون صفة للمعنى والمدلول {أو الدلالة} حيث لا يتصف به المعنى من حيث هو وإنّما يتّصف به بلحاظ الدلالة، بمعنى أنّ الدلالة لو كانت تابعة سمّيت مفهوماً، ولا يهمّنا التعرّض للنزاع تفصيلاً {وإن كان بصفات المدلول أشبه} كما ترى من أنّهم يفسّرون المنطوق والمفهوم بالحكم، فيقولون: المنطوق هو الحكم المستتتبع، والمفهوم: هو الحكم المستتبع، ومن البديهي أنّ الحكم هو المدلول لا الدلالة، فتأمّل.

{وتوصيف الدلالة} بالمفهوم والمنطوق {أحياناً} كما يقولون: «الدلالة المنطوقيّة أقوى من الدلالة المفهوميّة» {كان من باب التوصيف بحال المتعلّق} لا

ص: 11

وقد انقدح من ذلك: أنّ النّزاع في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة، إنّما يكون في أنّ القضيّة الشّرطيّة أو الوصفيّة أو غيرهما، هل تدلّ - بالوضع أو بالقرينة العامّة - على تلك الخصوصيّة المستتبعة لتلك القضيّة الأُخرى، أم لا؟

فصل: الجملة الشّرطيّةهل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء - كما تدلّ على الثّبوت عند الثّبوت بلا كلام -

___________________________________________

من التوصيف بحال الموصوف(1).

{وقد انقدح من ذلك} الّذي ذكرنا من أنّ المفهوم حكم تستتبعه خصوصيّة المعنى {أنّ النّزاع} بين الأعلام {في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة} متعلّق بالنزاع {إنّما يكون في أنّ القضيّة الشّرطيّة أو الوصفيّة أو غيرهما} كالغائيّة والعدديّة {هل تدلّ بالوضع أوبالقرينة العامّة} أي: مقدّمات الحكمة {على تلك الخصوصيّه المستتبعة لتلك القضيّة الأُخرى} أي: المفهوم {أم لا؟} وليس النّزاع في حجيّة المفهوم بعد ثبوته، فليس هذا النّزاع من قبيل النّزاع في حجيّة خبر الواحد.

والحاصل: أنّ النّزاع في أصل الدلالة لا في الحجيّة بعد الدلالة، وبهذا ظهر أنّ النّزاع إنّما هو الصّغرى لا في الكبرى، فقول بعض العلماء: هل المفهوم حجّة أم لا؟ يراد به ما ذكرنا، فهو عبارة أُخرى عن قولهم: هل للقضيّة الشّرطيّة مفهوم أم لا؟

[فصل مفهوم الشرط]

اشارة

المقصد الثّالث: في المفاهيم، مفهوم الشرط

{فصل} في مفهوم الشّرط {الجملة الشّرطيّة} سواء كان بلفظة (إن) أم بغيرها من سائر أدوات الشّرط نحو (من)، و(ما)، ومهما وغيرها {هل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء كما تدلّ على الثّبوت عند الثّبوت بلا كلام} متعلّق بقوله: «كماتدلّ» فكما أنّ نحو (إن جاءك زيد فأكرمه) يدلّ على ثبوت الجزاء وهو الإكرام عند ثبوت

ص: 12


1- يعني: الدلالة الّتي مدلولها منطوقي أو مفهومي، كما أنّ معنى (الإنسان كلّيّ): الإنسان معناه كلّيّ.

أم لا؟ فيه خلاف بين الأعلام.

لا شبهة في استعمالها وإرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقام، إنّما الإشكال والخلاف في أنّه بالوضع أو بقرينة عامّة، بحيث لا بدّ من الحمل عليه، لو لم يقم على خلافه قرينة من حال أو مقال؟

فلا بدّ للقائل بالدلالة من إقامة الدليل على الدلالة - بأحد الوجهين - على تلك الخصوصيّة المستتبعة لترتّب الجزاء على الشّرط، نحو ترتّب المعلول على علّته المنحصرة.

وأمّا القائل بعدم الدلالة ففي فُسحة؛ فإنّ له

___________________________________________

الشّرط وهو المجيء، يدلّ على انتفاء الجزاء عند انتفاء المجيء {أم لا} يدلّ على المفهوم؟ {فيه خلاف بين الأعلام}:

فذهب العلّامة وابنه وصاحب المعالم وجماعة من المحقّقين إلى الدلالة(1).

وقال السّيّد المرتضى وابن زهرة وجماعة أُخرى بعدم الدلالة(2).

وتحرير محلّ النّزاع أنّه {لا شبهة في استعمالها} أي: الجملة الشّرطيّة {وإرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقامٍ} واحدٍ، وهذا لا إشكال فيه ولا خلاف، و{إنّما الإشكال والخلاف في أنّه بالوضع أو بقرينة عامّة} أي: مقدّمات الحكمة {بحيث لا بدّ من الحملعليه} أي: على المفهوم {لو لم يقم على خلافه قرينة من حال أو مقال، فلا بدّ للقائل بالدلالة من إقامة الدليل على الدلالة بأحد الوجهين} أي: بالوضع أو بقرينة عامّة {على} وجود {تلك الخصوصيّة} في لفظ المنطوق {المتستتبعة لترتّب الجزاء على الشّرط، نحو ترتّب المعلول على علّته المنحصرة} حتّى يكون بحيث لو انتفت العلّة انتفى المعلول لفرض انحصارها {وأمّا القائل بعدم الدلالة ففي فسحة} عن إقامة الدليل على العدم {فإنّ له} منع الدلالة من جهات عديدة:

ص: 13


1- نهاية الوصول 2: 517؛ معالم الدين: 77؛ معارج الأصول: 102؛ مفاتيح الأصول: 207.
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 406؛ المحصول 2: 122؛ الإحكام في أصول الأحكام 2: 96.

منع دلالتها على اللزوم - بل على مجرّد الثّبوت عند الثّبوت، ولو من باب الاتفاق - ، أو منع دلالتها على الترتّب، أو على نحو الترتّب على العلّة، أو العلّة المنحصرة، بعد تسليم اللزوم

___________________________________________

الأوّل: {منع دلالتها} أي: القضيّة الشّرطيّة {على اللزوم} بأن يقول: لا نسلّم الملازمة بين الشّرط والجزاء حتّى يكون انتفاء الشّرط سبباً لانتفاء الجزاء {بل} الجملة الشّرطيّة إنّما تدلّ {على مجرّد الثّبوت} أي: ثبوت الجزاء {عند الثّبوت} أي: ثبوت الشّرط {ولو من باب الاتفاق} نحو (إن كان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق) فإنّ التلازم بين الطرفين من باب الاتفاق، يعني لا عليّة في البين، وعليه فلا يلزم الانتفاء عند الانتفاء.

الثّاني: {أو منع دلالتها على الترتّب} بأن يقول: لا نسلّم ترتّب الجزاء على الشّرط - وإن سلّمنا الملازمة بينهما - بل الجملة الشّرطيّة إنّما تدلّ على عدم الانفكاك بينهما، ومن الممكن أن يكونا موجودينفي عرض واحد نحو (إن كان الخمر حراماً كان بيعها باطلاً) مع أنّ كلّاً منهما معلول للإسكار مثلاً، فتأمّل(1).

الثّالث: {أو} منع دلالتها {على نحو الترتّب على العلّة} بعد تسليم الدلالة على الترتّب، فيقال: لا نسلّم دلالة القضيّة على كون الجزاء مترتّباً على الشّرط بنحو الترتّب على العلّة التامّة بل إنّما تدلّ على كون المقدّم علّة، أمّا أنّها تامّة فلا، إذ من المحتمل كونه علّة ناقصة، ويعبّر عنه بالتقدّم بالطبع، كتقدّم الخشب على السّرير(2).

الرّابع: {أو} منع دلالتها على ترتّب الجزاء على الشّرط نحو الترتّب على {العلّة المنحصرة} وذلك {بعد تسليم} الأُمور الثّلاثة الأُوَل، أعني: {اللزوم} أو

ص: 14


1- وجهه أنّ عدم الترتّب على تقدير تسليم اللزوم غير رافع للمفهوم، إذ قوام المفهوم بالتلازم لا بالترتّب.
2- وجهه ما تقدّم من أنّ الترتّب على العلّة النّاقصة يستلزم الانتفاء عند الانتفاء، نعم، لا يستلزم الثّبوت عند الثّبوت.

أو العليّة.

لكن منع دلالتها على اللزوم، ودعوى كونها اتفاقيّة في غاية السّقوط؛ لانسباق اللزوم منها قطعاً.

وأمّا المنع عن أنّه بنحو الترتّب على العلّة - فضلاً عن كونها منحصرة - فله مجال واسع.

ودعوى: تبادر اللزوم والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة - مع كثرة استعمالها في الترتّب على نحو الترتّب على الغير المنحصرة منها،

___________________________________________

الترتّب {أو العليّة} وذلك لاحتمال أن يكون لشيء واحد علل تامّةمتبادلة، نحو (إذا طلعت الشّمس كانت الغرفة مضيئة) فإنّه لا يدلّ على عدم إضاءة الغرفة حين عدم طلوع الشّمس، لاحتمال كونها مضيئة بالسِّراج والنّار ونحوهما {لكن منع دلالتها على اللزوم، ودعوى} احتمال {كونها اتفاقيّة} كما ذكرناه في الأمر الأوّل من وجوه المنع {في غاية السّقوط، لانسباق اللزوم منها} أي: من القضيّة الشّرطيّة {قطعاً} فإنّه لو لم يكن قرينة في البين وقال المولى: (إذا جاء زيد أكرمه) فهم منه التلازم بين وجوب الإكرام والمجيء.

{وأمّا} ما ذكر من الوجوه الثّلاثة الأُخرى للمنع، أعني: {المنع عن أنّه بنحو الترتّب} أو المنع عن كون الترتّب {على} نحو الترتّب على {العلّة - فضلاً عن كونها منحصرة - فله مجال واسع} إذ لا دلالة للجملة الشّرطيّة إلّا على الملازمة، والغالب تعدّد العلّة وكون الملازمة من جهة كونهما معلولين لعلّة ثالثة.

[أدلة القائلين بمفهوم الشرط]

{ودعوى تبادر اللّزوم} من الجملة الشّرطيّة {والترتّب} للجزاء على الشّرط {بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة} حتّى تكون مفيدة للمفهوم {مع كثرة} ما نرى من {استعمالها في الترتّب على نحو الترتّب على} العلّة {الغير المنحصرة منها} أي: من العلّة نحو (إذا كانت الشّمس طالعة فالغرفة مضيئة) فإنّ إضاءة الغرفة مترتّبة

ص: 15

بل في مطلق اللزوم - بعيدةٌ، عهدتُها على مدّعيها.

كيف؟ ولا يُرى في استعمالها فيها عنايةٌ ورعايةُ علاقةٍ، بل إنّما تكون إرادته - كإرادة الترتّب على العلّة المنحصرة - بلاعناية، كما يظهر على من أمعن النّظر وأجال البصر في موارد الاستعمالات، وفي عدم الإلزام والأخذ بالمفهوم في مقام المخاصمات والاحتجاجات،

___________________________________________

على طلوع الشّمس لكنّها غير منحصرة في الطلوع، بل لها أسباب أُخرى {بل} كثيراً ما تستعمل الجملة الشّرطيّة {في مطلق اللزوم} بلا ترتّب بينهما أصلاً، بل يكونان معلولين لعلّة ثالثة نحو (كلّما كان الضّوء موجوداً كانت الحرارة موجودة) وهما معلولان لوجود النّار {بعيدة} خبر قوله: «ودعوى» {عهدتها على مدّعيها} فاللّازم عليه، إمّا الجواب عن هذه الموارد وإمّا رفع اليد عن الدعوى.

و{كيف} يمكن ادّعاء التبادر المستلزم لكون الاستعمال في غيره مجاز {و} الحال أنّه {لا يرى في استعمالها} أي: الجملة الشّرطيّة {فيها} أي: في الترتّب على العلّة غير المنحصرة، أو في مطلق اللزوم {عنايةٌ ورعايةُ علاقة} المجاز {بل إنّما تكون إرادته} أي: إرادة كلّ واحد منهما {كإرادة الترتّب على العلّة المنحصرة بلا عناية} وهذا كاشف عن عدم كون الجملة حقيقة فيه فقط {كما يظهر} كون الاستعمال في الجميع على حدّ سواء {على من أمعن النّظر وأجال البصر في موارد الاستعمالات} وقد حكي عن الفوائد الطوسيّة(1)

أنّه استقصى ما يربو على مائة مورد من القرآن المجيد لا دلالة فيها على المفهوم {و} على من أمعن النّظر {في عدم الإلزام} أي: عدم إلزام من تكلّم بالجملة الشّرطيّة على القصد {والأخذ بالمفهوم} بأن يقال له: إنّك اعترفتبهذا المطلب مفهوماً {في مقام المخاصمات والاحتجاجات} مثلاً لو قال المدّعي لدينٍ له على عمرو: (إنّه إن

ص: 16


1- حقائق الأصول 1: 448؛ عن الفوائد الطوسيّة: 279.

وصحّة الجواب ب- : أنّه لم يكن لكلامه مفهوم، وعدم صحّته لو كان له ظهور فيه، معلومٌ.

وأمّا دعوى الدلالة، بادّعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزوميّة إلى ما هو أكمل أفرادها، وهو اللزوم بين العلّة المنحصرة ومعلولها(1)،

ففاسدة جدّاً؛ لعدم كون الأكمليّة موجبة للانصراف إلى الأكمل، لا سيّما مع كثرة الاستعمال في غيره، كما لا يكاد يخفى، هذا.

مضافاً إلى منع كون اللزوم بينهما

___________________________________________

جئت بالصّكّ فلي عليه كذا). ثمّ لم يجيء به مستمرّاً في دعواه، لا يقال له دعواك غير مسموعة؛ لأنّ مفهوم كلامك: الاعتراف بعدم الدين في صورة عدم الإتيان بالصّكّ، فأنت معترف بعدم الدين حينئذٍ.

{و} لو قيل له ذلك أحياناً نرى {صحّة الجواب بأنّه لم يكن لكلامه مفهوم، وعدم صحّته} أي: صحّة هذا الجواب {لو كان له} أي: للكلام {ظهور فيه} أي: في المفهوم {معلوم} لا يخفى.

{وأمّا دعوى الدلالة} للجملة الشّرطيّة على المفهوم {بادّعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزوميّة إلى ما هو أكمل أفرادها وهو اللزوم بين العلّة المنحصرة ومعلولها} إذ بقيّة أقسام اللّزوم - أعني:اللّزوم بين العلّة غير المنحصرة ومعلولها وبين المعلولين لعلّة ثالثة - ليست بهذه الشّدّة والكمال {ففاسدة جدّاً} خبر قوله: «وأمّا دعوى» {لعدم كون الأكمليّه موجبة للانصراف إلى الأكمل} وإنّما سبب الانصراف هو كثرة الاستعمال بملاحظة أُنس اللفظ بهذا المعنى حينئذٍ {لا سيّما مع كثرة الاستعمال في غيره} أي: غير ما كان الترتّب بنحو العلّة المنحصرة {كما لا يكاد يخفى} بل لو كان هنا انصراف لكان في غيره لما ذكر من أنّ منشأه كثرة الاستعمال.

{هذا، مضافاً إلى منع كون اللزوم بينهما} أي: بين المعلول والعلّة المنحصرة

ص: 17


1- مطارح الأنظار 2: 26.

أكمل ممّا إذا لم تكن العلّة بمنحصرة؛ فإنّ الانحصار لا يوجب أن يكون ذاك الرّبط الخاصّ - الّذي لا بدّ منه في تأثير العلّة في معلولها - آكدَ وأقوى.

إن قلت: نعم، ولكنّه قضيّة الإطلاق بمقدّمات الحكمة، كما أنّ قضيّة إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النّفسي.

قلت: أوّلاً: هذا

___________________________________________

{أكمل ممّا إذا لم تكن العلّة بمنحصرة، فإنّ الانحصار} في العلّة {لا يوجب أن يكون ذاك الرّبط الخاصّ - الّذي لا بدّ منه في تأثير العلّة في معلولها - آكد وأقوى} من الرّبط الّذي بين العلّة غير المنحصرة وبين معلولها، فالعلاقة اللزوميّة في العلّة المنحصرة وغيرها هي علاقة العلّة والمعلول بدون تفاوت، بل يمكن ادّعاء أنّ اللزوم لا يتصف بالكمال والنّقص أصلاً.

{إن قلت: نعم} نسلّم عدم دلالة الجملة الشّرطيّة على المفهوموصفاً، للزوم كونه مجازاً في ما إذا لم يقصد المفهوم {ولكنّه} أي: المفهوم {قضيّة الإطلاق بمقدّمات الحكمة} أي: إذا كان المولى في مقام البيان وأتى بالتعليق مطلقاً نستكشف انحصار التعليق؛ لأنّه لو كان في البين تعليق آخر كان على المتكلّم أن يبيّنه.

مثلاً: لو قال المولى: (أكرم زيداً إن جاءك) نفهم منه أنّ العلّة المنحصرة للإكرام هو المجيء، وإلّا فلو كان هناك علّة أُخرى توجب الإكرام لبيّنه المولى بأن قال مثلاً: (أو أكرمك) {كما} تقدّم من {أنّ قضيّة إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النّفسي} العيني التعييني بما تقدّم من أنّه لو كان غير ذلك لزم البيان وأن يقول: (كن على السّطح ومقدّمة له انصب السّلّم) أو (أكرم زيداً إن لم يكرمه عمرو) أو (أطعم ستّين مسكيناً أو صم ستّين يوماً) فتحصّل أنّ إطلاق التعليق وعدم تقييده بوجوب الشّيء في ظرف وجود العلّة الأُخرى يوجب المفهوم.

{قلت}: قياس ما نحن فيه بالأمر غير صحيح، إذ {أوّلاً: هذا} التمسّك بالإطلاق

ص: 18

في ما تمتّ هناك مقدّمات الحكمة، ولا تكاد تتمّ في ما هو مفاد الحرف، كما هاهنا، وإلّا لما كان معنى حرفيّاً، كما يظهر وجهه بالتأمّل.

وثانياً: تعيّنه من بين أنحائه، بالإطلاق المسوق في مقام البيان بلا مُعَيِّنٍ.

ومقايستُه

___________________________________________

إنّما يصحّ {في ما تمتّ هناك مقدّمات الحكمة، ولا تكاد تتمّ في ما هو مفاد الحرف، كما هاهنا} فإنّ التعليق مفاد أداة الشّرط، ومن الواضح أنّ المعنى الحرفي لايتّصف بالإطلاق والتقييد، إذ هما إنّما يتصوّران في ما يمكن لحاظه وهو المعنى الاستقلالي، وأمّا المعنى الآلي الحرفي فلحاظه موجب لانقلابه إلى المعنى الاسمي {وإلّا} فلو أمكن جريان مقدّمات الحكمة هنا {لما كان} التعليق المستفاد من أداة الشّرط {معنى حرفيّاً، كما يظهر وجهه بالتأمّل}.

ويمكن أن يستدلّ لعدم قابليّة التعليق المستفاد من أداة الشّرط للإطلاق بوجه آخر، وهو أنّه معنىً حرفي والمعاني الحرفيّة جزئيّة - كما قرّر في محلّه - والجزئي غير قابل للإطلاق والتقييد وإنّما الإطلاق والتقييد يجريان في المعاني الاسميّة الكليّة.

ولكن لا يذهب عليك أنّ كلا الجوابين خلاف الصّواب عند المصنّف(رحمة الله)، إذ تقدّم منه عدم الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي، كما لا يخفى، مع أنّه لم يظهر وجه للفرق بين المقام وبين الأمر، إذ الطّلب الّذي هو مدلول الأمر أيضاً معنى حرفي، فالكلام فيه كالكلام هنا طابق النّعل بالنّعل، فتأمّل.

{وثانياً}: أنّه لو فرض جريان الإطلاق ومقدّمات الحكمة في التعليق ولكن {تعيّنه} أي: تعيّن كون العلّة منحصرة الموجب للمفهوم {من بين أنحائه} أي: أنحاء الترتّب على العلّة {بالإطلاق} متعلّق بتعيّنه {المسوق في مقام البيان بلا معيّن} بل الإطلاق بالنسبة إلى ما كانت العلّة منحصرة وإلى ما كانت غير منحصرة على حدّ سواء، لما يجيء من قوله: «ضرورة» الخ {ومقايسته} أي: قياس

ص: 19

مع تعيّن الوجوب النّفسي بإطلاق صيغة الأمر مع الفارق؛ فإنّ النّفسي هو الواجب على كلّ حالٍ، بخلاف الغيري، فإنّه واجب على تقدير دون تقدير، فيحتاج بيانه إلى مؤونة التقييد بما إذا وجب الغير، فيكون الإطلاق في الصّيغة مع مقدّمات الحكمة محمولاً عليه، وهذا بخلاف اللزوموالترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة؛ ضرورة أنّ كلّ واحد من أنحاء اللزوم والترتّب، محتاج في تعيّنه إلى القرينة مثل الآخر بلا تفاوت أصلاً، كما لا يخفى.

___________________________________________

تعيّن العلّة المنحصرة - بالإطلاق - التعليق {مع تعيّن الوجوب النّفسي بإطلاق صيغة الأمر مع الفارق} فلا يقاس الإطلاق هنا على الإطلاق ثمّة {فإنّ النّفسي هو الواجب على كلّ حال} سواء وجب الغير أم لا، وعليه فإذا لم يعلم بتقيّد الوجوب بغيره لزم عليه إتيانه {بخلاف} الواجب {الغيري فإنّه واجب على تقدير دون تقدير، فيحتاج بيانه إلى مؤونة التقييد بما إذا وجب الغير} أعني: ذا المقدّمة.

مثلاً: إذا ورد (أكرم زيداً) ولم نعلم أنّه واجب نفسي بحيث يجب إكرامه مطلقاً أم واجب غيري بحيث يجب إكرامه إذا وجب إكرام عمرو، فاللّازم الحمل على الإطلاق وأنّ وجوبه مطلقاً على كلّ حال {فيكون الإطلاق في الصّيغة مع} تماميّة {مقدّمات الحكمة محمولاً عليه} أي: على النّفسيّ.

{وهذا بخلاف اللزوم والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة} في المقام، إذ الإطلاق ليس قالباً لكون العلّة منحصرة حتّى يحتمل الإطلاق عليه {ضرورة أنّ كلّ واحد من أنحاء اللزوم والترتّب} أعني: الترتّب على العلّة المنحصرة والترتّب على العلّة غير المنحصرة {محتاج في تعيّنه إلى القرينة مثل الآخر بلاتفاوت أصلاً، كما لا يخفى}.

والحاصل: أنّ الظاهر من الجملة الشّرطيّة مطلق اللزوم والترتّب الأعمّ من كونه على العلّة المنحصرة وغير المنحصرة، فلا يكون الإطلاق قالباً إلّا للجامع

ص: 20

ثمّ إنّه ربّما يتمسّك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشّرط، بتقريب: أنّه لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده؛ ضرورة أنّه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثّر وحده، وقضيّة إطلاقه أنّه يؤثّر كذلك مطلقاً.

___________________________________________

وكلّ منهما يحتاج إلى قرينة.

{ثمّ إنّه ربّما يتمسّك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشّرط بتقريب} آخر، وهو {أنّه لو لم يكن} المؤثّر في الجزاء - أي: العلّة - {بمنحصر يلزم تقييده} أي: تقييد المؤثّر - أي: العلّة - فإنّ مقتضى إطلاق قولنا: (إن جاء زيد فأكرمه) تأثير مجيء زيد وحده في وجوب الإكرام مطلقاً، وهذا الإطلاق يستلزم الانتفاء عند الانتفاء {ضرورة أنّه لو قارنه} أي: قارن هذا الشّرط شرطاً آخر، كأن يكون كلّ واحد واحد من المجيء وطلب العلم سبباً للإكرام ثمّ جاء زيد طالباً للعلم {أو سبقه الآخر} بأن طلب العلم أوّلاً ثمّ جاء {لما أثر} هذا الشّرط المذكور - أي: المجيء - {وحده} في وجوب الإكرام، بل تشاركا في صورة المقارنة، وكان المؤثّر هو الأوّل في صورة السّبق {و} هذا خلاف {قضيّة إطلاقه} أي: إطلاق الشّرط - أي: المجيء - إذ مقتضى إطلاق قوله: (إن جاء زيد فأكرمه) {أنّه يؤثّر كذلك} أي: وحده {مطلقاً} سواء قارنه آخر أو سبقه أم لا.والحاصل: أنّ الظاهر من الجملة الشّرطيّة أنّه كلّما وجد الشّرط كان هو المؤثّر، ولو فرض أنّ هناك شرطاً آخر يلزم عدم تأثير هذا الشّرط كلّما وجد، إذ لو سبقه الشّرط الثّاني أو قارنه كان التأثير للسابق أو تشاركا في التأثير، فإطلاق «أنّ هذا الشّرط مؤثّر» يقتضي عدم شرط آخر المستلزم لكون الشّرط المذكور علّة منحصرة.

ثمّ إنّه قد يفرق بين هذا الإطلاق وبين الإطلاق السّابق بأنّ التمسّك كان هناك بإطلاق الهيئة وهنا بإطلاق المادّة، أو هناك بإطلاق كلمة (إن) مع قطع النّظر عن

ص: 21

وفيه: أنّه لا يكاد تنكر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه كذلك، إلّا أنّه من المعلوم ندرة تحقّقه، لو لم نقل بعدم اتّفاقه.

فتلخّص - بما ذكرناه - : أنّه لم ينهض دليل على وضع مثل (إن) على تلك الخصوصيّة المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء، ولم تقم عليها قرينة عامّة.

أمّا قيامها أحياناً - كانت مقدّمات الحكمة أو غيرها - ممّا لا يكاد ينكر، فلا يجدي القائل بالمفهوم: أنّه قضيّة الإطلاق في مقامٍ من باب الاتفاق.

وأمّا توهّم: أنّه قضيّة إطلاق الشّرط، بتقريب:

___________________________________________

متعلّقها وهنا بمجموع الجملة.

{وفيه أنّه لا يكاد تنكر الدلالة على المفهوم} والانتفاء عند الانتفاء {مع إطلاقه كذلك} بأن يفهم من الجملة الشّرطيّة أنّ الشّرط مؤثّر في الجزاء مطلقاً سبقه شرط آخر أو قارنه أملا {إلّا أنّه من المعلوم ندرة تحقّقه} أي: تحقّق هذا النّحو من الإطلاق {لو لم نقل بعدم اتّفاقه} فإنّ الغالب أنّ المتكلّم بالجملة الشّرطيّة في مقام تأثير الشّرط في الجزاء، وليس في نظره لحاظ أمر آخر أصلاً، فلا يخطر بباله المقارنة بين هذا الشّرط وأمر آخر.

{فتلخّص بما ذكرناه أنّه لم ينهض دليل على وضع مثل} كلمة {(إن) على تلك الخصوصيّة المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء، و} كذلك تبيّن أنّه {لم تقم عليها} أي: على تلك الخصوصيّة المستتبعة {قرينة عامّة} أي: مقدّمات الحكمة اللّازمة بسبب شهرة أو غيرها {أمّا قيامها} أي: القرينة {أحياناً كانت} تلك القرينة {مقدّمات الحكمة أو غيرها ممّا لا يكاد ينكر، فلا يجدي القائل بالمفهوم} المريد إثباته كليّاً كلّما وجد شرط {أنّه} أي: المفهوم {قضيّته الإطلاق في مقام من باب الاتفاق} فإنّ الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً.

{وأمّا توهّم أنّه} أي: المفهوم {قضيّة إطلاق الشّرط بتقريب} آخر، وحاصله

ص: 22

أنّ مقتضاه تعيّنه، كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر تعيّن الوجوب.

ففيه: أنّ التعيّن ليس في الشّرط نحو، يغاير نحوَه في ما إذا كان متعدّداً، كما كان في الوجوب كذلك، وكان الوجوب في كلّ منهما متعلّقاً بالواجب بنحوٍ آخر، لا بدّ في التخييري منهما من العِدل.

___________________________________________

قياس ما نحن فيه بالواجب التعيينيّ والتخييريّ.بيان ذلك: {أنّ} إطلاق الشّرط {مقتضاه تعيّنه} أي: تعيّن هذا الشّرط في المؤثريّة دون غيره {كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر تعيّن الوجوب} لا التخيير بينه وبين غيره.

توضيحه: أنّ العلّة على قسمين: منحصرة وغير منحصرة، وكذلك الواجب على قسمين: تعييني وتخييري، والعلّة المنحصرة كالواجب التعيّني إذ كلاهما معيّن، وغير المنحصرة كالواجب التخييري إذ كلاهما غير معيّن، فكما أنّ الإطلاق في باب الواجب يحمل على التعييني، كذلك الإطلاق في الشّرط يحمل على المنحصرة.

{ففيه} أنّه فرق بين الواجب التعييني والعلّة المنحصرة، إذ {أنّ التعيّن ليس في الشّرط نحو يغاير نحوه في ما إذا كان متعدّداً} بل الشّرط سواء كان واحداً أم متعدّداً لا يتفاوت الحال في التأثير في المعلول، بل الشّرط المتعدّد تأثيره في المعلول على نحو الشّرط المنفرد في التأثير {كما كان} النّحو {في الوجوب كذلك} بمعنى أنّ نحو التعييني يغاير نحو التخييري {وكان الوجوب في كلّ منهما متعلّقاً بالواجب بنحو آخر} بحيث كان كلّ واحد منهما نحواً من الوجوب والطلب، إذ {لا بدّ في التخييري منهما من العدل} بأن يقول: (أطعم أو أعتق) بخلاف التعييني فإنّه لا يكون فيه العدل، بل يقول: (أطعم) مثلاً، فإنّ في الأوّل تتعلّق المصلحة بأحد الأمرين، وفي الثّاني تتعلّق بشيءٍ واحد.

ص: 23

وهذا بخلاف الشّرط، فإنّه - واحداً كان أو متعدّداً - كان نحوه واحداً، ودخلُه في المشروط بنحوٍ واحدٍ، لا تتفاوت الحال فيه ثبوتاً، كي تتفاوت عند الإطلاق إثباتاً، وكان الإطلاق مثبتاً لنحوٍ لا يكون له عِدْل؛ لاحتياج مالَهُ العِدْل إلى زيادة مؤونة،وهو ذكره بمثل (أو كذا).

واحتياج ما إذا كان الشّرط متعدّداً إلى ذلك

___________________________________________

{وهذا بخلاف الشّرط فإنّه واحداً كان أو متعدّداً كان نحوه واحداً، ودخله في المشروط بنحو واحد} بحيث {لا تتفاوت الحال فيه} أي: في الشّرط {ثبوتاً كي تتفاوت عند الإطلاق إثباتاً}.

ثمّ رجع المصنّف(رحمة الله) إلى الفرق بين التعييني والتخييري بقوله: {وكان الإطلاق} في الواجب {مثبتاً لنحو لا يكون له عدل} أي: الواجب التعييني {لاحتياج ماله العِدْل إلى زيادة مؤونة} في اللفظ {وهو ذكره بمثل (أو كذا)} كما تقدّم فحيث لم يذكر العدل كشف الإطلاق عن التعيين.

{و} إن قلت: لا فرق من هذه الجهة بين المقام وبين الواجب ل- {احتياج ما إذا كان الشّرط متعدّداً إلى ذلك} العدل أيضاً، فكلّ من الواجب التخييري والشّرط المتعدّد يحتاج إلى العدل في اللفظ، فكما يلزم أن يقول في الواجب التخييري: (صم أو صلّ) كذلك يلزم أن يقول في الشّرط المتعدّد: (أكرم زيداً إن جاءك أو طلب العلم) وعليه فإذا لم يجيء في اللفظ بالعدل كشف عن وحدة الشّرط المستلزمة للمفهوم، فإنّ مقام الإثبات تابع لمقام الثّبوت، كما أنّ مقام الثّبوت مكشوف بمقام الإثبات.

وبهذا تبيّن عدم الفرق بين المقام وبين مقام الواجب التعييني والتخييري.

قلت: نعم، نحتاج في كلا الموضعين إلى ذكر العدل، والفرق أنّ الاحتياج في الواجب لأجل بيان نحو الوجوب، وليس كذلك في الشّرط؛ لأنّ ذكر العدلفيه

ص: 24

إنّما يكون لبيان التعدّد، لا لبيان نحو الشّرطيّة. فنسبة إطلاق الشّرط إليه لا تختلف - كان هناك شرط آخر أم لا - حيث كان مسوقاً لبيان شرطيّته بلا إهمال ولا إجمال. بخلاف إطلاق الأمر؛ فإنّه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني، فلا محالة يكون في مقام الإهمال أو الإجمال، تأمّل تعرف.

___________________________________________

{إنّما يكون لبيان التعدّد} وأنّ كلّ واحد منهما يؤثّر في الجزء {لا لبيان نحو الشّرطيّة} إذ الشّرطيّة والتأثير لا تختلف باختلاف تعدّد الشّرط ووحدته، بل الشّرط معناه التأثير في كلّ مكان بخلاف الوجوب، فإنّ نحو الوجوب يختلف باختلاف التعيينيّة والتخييريّة {فنسبة إطلاق الشّرط إليه لا تختلف - كان هناك شرط آخر أم لا - حيث} متعلّق ب- «لا تختلف» {كان مسوقاً لبيان شرطيّته بلا إهمال ولا إجمال} إذ قوام الجملة الشّرطيّة كون الشّرط علّة للجزاء، وهذا المعنى محقّق في كلّ شرط من غير فرق بين وجود شرط آخر أم لا، وهذا {بخلاف إطلاق الأمر} فإنّ قوام الأمر المطلق كونه بحيث يعاقب على تركه بأيّ وجهٍ كان.

فهذا المعنى إن تحقّق فيه بأن كان تعييناً لم يكن مهملاً ولا مجملاً، بخلاف ما إذا أُطلق الأمر ولم يوجد فيه هذا القوام {فإنّه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني، فلا محالة يكون في مقام الإهمال أو الإجمال} بمعنى أنّه في بيان وجوب هذا الشّيء في الجملة، وإلّا فلو كان في مقام البيان مطلقاً للزم عليه ذكر العدل الآخر {تأمّل تعرف}.

وإن شئت توضيح المقام فعليك بالمثال، فإنّه إذا قال المولى: (إن سافرتيجب عليك القصر) ولم يذكر موجباً آخر للقصر - أعني: الخوف - كان هذا الإطلاق صحيحاً، إذ تبيّن فيه إيجاب السّفر للقصر، فالسفر علّة للقصر مطلقاً، بمعنى أنّه ليس هناك بعض أفراد السّفر غير موجب للقصر. وهذا الإطلاق لا ينافي إيجاب الخوف للقصر أيضاً، إذ شرطيّة الشّرط موجودة حتّى في صورة التعدّد، ولا تتفاوت شرطيّة الشّرط حين الوحدة مع شرطيّته حين التعدّد.

ص: 25

هذا.

مع أنّه لو سلم لا يجدي القائل بالمفهوم؛ لما عرفت أنّه لا يكاد ينكر في ما إذا كان مفاد الإطلاق من باب الاتفاق.

ثمّ إنّه ربّما استدلّ المنكرون للمفهوم بوجوه:

أحدها: ما عُزِي إلى السّيّد(1)

من أنّ تأثير الشّرط إنّما هو تعليق الحكم به،

___________________________________________

وهذا بخلاف الوجوب، فإنّ المولى إذا كان في مقام البيان لا بدّ له أن يبيّن العدل - لو كان - فلو قال: (أطعم) مطلقاً في ما كان الواجب أحد الأمرين الصّيام أو الإطعام.

فلا بدّ وأن يكون في مقام الإهمال، إذ وجود العدل ينافي وجوب الإطعام مطلقاً، فإنّه لا يجب الإطعام في ظرف وجود العدل. فتحصّل أنّ إطلاق الشّرط لا ينافي وجود شرط آخر، وإطلاق الواجب ينافي وجود العدل، فإطلاق الشّرط لا يدلّ على عدم شرط آخر حتّى يدلّ على المفهوم، بخلاف الواجب، فإنّ إطلاقه يدلّ على عدم واجب آخر الموجب لكون الواجب تعيينيّاً.

{هذا، مع أنّه لو سلّم} كون إطلاق الشّرط مثل إطلاق الواجب، فكما يقتضي في الواجب عدم العدل يقتضي في الشّرط عدم شرط آخر، لكنّا نقول: {لا يجدي} هذا التنظير {القائل بالمفهوم،لما عرفت} من {أنّه لا يكاد ينكر} المفهوم {في ما إذا كان مفاد الإطلاق من باب الاتفاق} إذ المتكلّم في الغالب إنّما هو بصدد كون هذا الشّرط مؤثّراً، وليس في مقام بيان أن لا مؤثّر غيره.

[أدلة المنكرين لمفهوم الشرط]

{ثمّ إنّه ربّما استدلّ المنكرون للمفهوم بوجوه} ثلاثة:

{أحدها: ما عزي} أي: نسب {إلى السّيّد} المرتضى - قدّس اللّه سرّه - {من أنّ تأثير الشّرط} وفائدته {إنّما هو تعليق الحكم به} بحيث يتوقّف الحكم على وجوده

ص: 26


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 406.

وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه، ولا يخرج عن كونه شرطاً؛ فإنّ قوله تعالى: {وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ}(1) يمنع من قبول الشّاهد الواحد حتّى ينضمّ إليه شاهد آخر، فانضمام الثّاني إلى الأوّل شرط في القبول، ثمّ علمنا: أنّ ضمّ امرأتين إلى الشّاهد الأوّل شرط في القبول، ثمّ علمنا: أنّ ضمّ اليمين يقوم مقامه أيضاً. فنيابة بعض الشّروط عن بعض أكثر من أن تحصى، مثل الحرارة؛ فإنّ

___________________________________________

{وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه} أي: مجرى الشّرط الأوّل في ترتّب الحكم عليه أيضاً {ولا يخرج} الشّرط الأوّل {عن كونه شرطاً} حين ما نابهشرط آخر.

مثلاً: لو قال المولى: (إن جاءك زيد فأكرمه) أفاد كلمة (إن) تعليق وجوب الإكرام على المجيء وليس ممتنعاً أن يخلف المجيء شرط آخر، كطلب العلم فيعلّق الحكم عليه أيضاً، فيكون الحاصل من الشّرطين: (إن جاءك زيد أو طلب العلم فأكرمه).

ثمّ إنّ السّيّد(رحمة الله) مثّل بالشّرط اللّغويّ فقال: {فإنّ قوله - تعالى - {وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ}} يفيد تعليق الحكم - أعني: قبول قول الشّاهد الواحد بانضمام شاهد آخر إليه - بحيث {يمنع من قبول الشّاهد الواحد حتّى ينضمّ إليه شاهد آخر} وهذا معنى الاشتراط، إذ لولاه لكفى الواحد {فانضمام الثّاني إلى الأوّل شرط في القبول، ثمّ علمنا} من الخارج عن هذا اللفظ {أنّ ضمّ امرأتين إلى الشّاهد الأوّل شرط في القبول} فقام هذا الشّرط مقام الشّرط الأوّل.

{ثمّ علمنا أنّ ضمّ اليمين يقوم مقامه أيضاً} فيكون شرط قبول قول الشّاهد الواحد أحد أُمور ثلاثة: ضمّ شاهد آخر، أو امرأتين، أو يمين {فنيابة بعض الشّروط عن بعض أكثر من أن تحصى، مثل الحرارة، فإنّ} الشّمس طلوعها شرط في وجود الحرارة في العالم مع أنّه يخلفها شرط آخر بحيث يؤثّر تأثيرها، إذ

ص: 27


1- سورة البقرة، الآية: 282.

انتفاء الشّمس لا يلزم منه انتفاء الحرارة؛ لاحتمال قيام النّار مقامها. والأمثلة لذلك كثيرة شرعاً وعقلاً.

والجواب: أنّه(قدس سره) إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض الشّروط عن بعض في مقامالثّبوت وفي الواقع، فهو ممّا لا يكاد ينكر؛ ضرورة أنّ الخصم يدّعي عدم وقوعه في مقام الإثبات، ودلالة القضيّة الشّرطيّة عليه.

___________________________________________

{انتفاء الشّمس لا يلزم منه انتفاء الحرارة لاحتمال قيام النّار مقامها} فالشرط للحرارة أحد الأمرين: وجود الشّمس أو النّار {والأمثلة لذلك} الّذي ذكرنا من نيابة بعض الشّروط مقام بعض - المستلزم لانتفاء المفهوم - {كثيرة شرعاً وعقلاً} وإنّما قلنا: إنّ أمثلة السّيّد من باب الشّرط اللغوي لا الاصطلاحي؛ لأنّ المثال الأوّل - أعني: الآية - لم يذكر فيها كلمة الشّرط، مع أنّ الشّاهد الثّاني ونحوه إنّما هو جزء المقوّم لا شرط له. والمثال الثّاني مع ورود الإشكال الأوّل عليه أنّه علّة لا شرط وكم فرق بينهما. وإنّما مثّل بهما السّيّد(رحمة الله) بجامع المدخليّة.

وحاصله: أنّ مدخليّة أمر بالنسبة إلى أمر - سواء أُدّيت بلفظ التعليق أم لا وسواء كان جزءاً أو علّة تامّة أو شرطاً - إنّما تكون في الوجود فقط، بمعنى تعليق وجود الشّيء بوجود غيره.

أمّا الانتفاء عند الانتفاء الّذي هو محطّ الكلام فلا، لاحتمال قيام شيء آخر مقام الشّيء الأوّل.

{والجواب} عن هذا الدليل {أنّه(قدس سره) إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض الشّروط عن بعض في مقام الثّبوت وفي الواقع، فهو ممّا لا يكاد ينكر} إذ ليس هذا من الممتنع الذاتي غير القابل للوجود أصلاً حتّى ينكره أحد {ضرورة أنّ الخصم} القائل بعدم المفهوم لا ينكر إمكان التعدّد في الواقع، بل إنّما {يدّعي عدم وقوعهفي مقام الإثبات ودلالة القضيّة الشّرطيّة عليه} لأنّه يقول بدلالتها على الانتفاء عند

ص: 28

وإن كان بصدد إبداء احتمال وقوعه، فمجرّد الاحتمال لا يضرّه، ما لم يكن بحسب القواعد اللفظيّة راجحاً أو مساوياً، وليس في ما أفاده ما يثبت ذلك أصلاً، كما لا يخفى.

ثانيها: أنّه لو دلّ لكان بإحدى الدلالات، والملازمة - كبطلان التالي - ظاهرة.

___________________________________________

الانتفاء، لا دلالتها على عدم الإمكان حتّى يعارض بالإمكان {وإن كان} السّيّد {بصدد إبداء احتمال وقوعه} بعد الفراغ عن أصل الإمكان، بمعنى أنّه يحتمل أن يكون الشّرط متعدّداً، فلا دلالة للّفظ على الانتفاء عند الانتفاء {فمجرّد الاحتمال لا يضرّه} أي: لا يضرّ القائل بالمفهوم، إذ هو يدّعي الظهور في المفهوم والظهور لا يصادمه الاحتمال. مثلاً: العام الظاهر في العموم لا يصادمه احتمال التخصيص {ما لم يكن} هذا الاحتمال {بحسب القواعد اللفظيّة راجحاً} على احتمال المفهوم {أو مساوياً} له {وليس في ما أفاده} السّيّد {ما يثبت ذلك} الرّجحان أو المساواة {أصلاً}.

وتوضيح الجواب بمثال العام والخاص: أنّه لو ورد عامّ بلا قرينة للتخصيص كان لنا التمسّك بظهوره والقول بعدم التخصيص، وليس لأحد أن يردّ ذلك ويقول بعدم استفادة العموم منه لإمكان التخصيص في نفسه، أو لإمكان عدم إرادة هذا الظاهر؛ لأنّ الإمكان غير منكر، وعدم إرادة هذا الظاهر غير مضرّ إلّا إذا عارضه ما يساويه أو يرجح عليه {كما لا يخفى} فتبصّر.

{ثانيها: أنّه لو دلّ} الشّرط على الانتفاء عند الانتفاء{لكان بإحدى الدلالات} الثّلاث: المطابقة والتضمّن والالتزام {والملازمة - كبطلان التالي - ظاهرة}.

أمّا الملازمة: فلأنّ الدلالة تنحصر في هذه الثّلاثة فلو كانت في المقام دلالة لكانت بإحداها.

وأمّا بطلان التالي: فلأنّ الانتفاء عند الانتفاء ليس عين الثّبوت عند الثّبوت ولا جزئه ولا لازمه، إذ شرط الالتزام الملازمة عقلاً أو عرفاً ولا يوجد أحدهما في المقام.

ص: 29

وقد أُجيب عنه(1):

بمنع بطلان التالي، وأنّ الالتزام ثابت. وقد عرفت بما لا مزيد عليه ما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته أو منعه، فلا تغفل.

ثالثها: قوله تبارك وتعالى: {وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا}(2).

وفيه ما لا يخفى؛ ضرورة أنّ استعمال الجملة الشّرطيّة في ما لا مفهوم له - أحياناً وبالقرينة - لا يكاد ينكر، كما في الآية وغيرها. وإنّما القائل به إنّما يدّعي ظهورها في ما له المفهوم

___________________________________________

{وقد أُجيب عنه بمنع بطلان التالي وأنّ الالتزام ثابت} كما تقدّم بيانه في أدلّة المثبتين وأنّه إمّا بالوضع أو بالقرينة العامّة - أعني: مقدّمات الإطلاق - {و} حيث إنّ هذا الجواب ليس موافقاً لمبنى المصنّف(رحمة الله) من عدم المفهوم أشار إلى ردّه بقوله: و{قد عرفت بما لا مزيد عليه ما قيل أو يمكنأن يقال في إثباته} أي: إثبات التلازم {أو منعه، فلا تغفل} وتدبّر.

{ثالثها: قوله - تبارك وتعالى - :{وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا}} فإنّه قد استعملت الجملة الشّرطيّة في هذه الآية الكريمة ولا مفهوم لها، إذ لو كان لها مفهوم لكان المعنى جواز الإكراه حين عدم إرادة التحصّن، ومن المعلوم حرمة الإكراه على البِغاء والزنا مطلقاً أردن التحصّن أم لا.

{وفيه ما لا يخفى ضرورة أنّ استعمال الجملة الشّرطيّة في ما لا مفهوم له - أحياناً وبالقرينة -} الخارجيّة أو الداخليّة {لا يكاد ينكر، كما في الآية وغيرها} وإنّما تكون فائدة الشّرط حثّ الموالي على عدم الإكراه، فإنّهنّ مع قلّة عقولهنّ لو أردن التحصّن فالمولى أحقّ بهذه الإرادة {وإنّما القائل به} أي: بالمفهوم {إنّما يدّعي ظهورها} أي: الجملة الشّرطيّة {في ما له المفهوم} أي: ظهور الجملة في معنى يشتمل

ص: 30


1- مطارح الأنظار 2: 33.
2- سورة النور، الآية: 33.

وضعاً أو بقرينة عامّة، كما عرفت.

بقي هنا أُمور:

الأوّل: أنّ المفهوم هو: انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشّرط عند انتفائه، لا انتفاء شخصه؛ ضرورة انتفائه عقلاً بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده،

___________________________________________

على خصوصيّة مستتبعة للمفهوم {وضعاً، أو بقرينة عامّة، كما عرفت} ولا يضرّه استعمالها في بعض الموارد في ما لامفهوم له، إذ لا عبرة بالاستعمال المقرون بالقرينة وإنّما العبرة بالظهور. وربّما يقال: إنّ الشّرطفي الآية لتحقّق الموضوع، وفيه تأمّل.

[أمور في مفهوم الشرط]

اشارة

{بقي هنا أُمور} ثلاثة:

[الأمر الأوّل]
اشارة

الأمر {الأوّل}: في تحقيق معنى المفهوم وأنّ المنتفي عند انتفاء الشّرط ما هو، فنقول: الحكم قد يلاحظ شخصيّاً كالإكرام الّذي هو معلول للمجيء، وقد يلاحظ نوعيّاً كالإكرام المطلق، لا نزاع بين القائلين بالمفهوم وعدمه في الأوّل وإنّما النّزاع في الثّاني.

بيان ذلك: {أنّ المفهوم} عند مثبته {هو انتفاء سنخ الحكم} أعني: انتفاء الإكرام الّذي هو سنخ الإكرام {المعلّق على الشّرط عند انتفائه} أي: انتفاء الشّرط {لا انتفاء شخصه} أي: شخص ذلك الحكم المعلّق على الشّرط، فإنّه لا نزاع في انتفاء هذا الحكم بانتفاء الشّرط {ضرورة انتفائه عقلاً بانتفاء موضوعه، ولو} كان انتفاء موضوعه {ب-} سبب انتفاء {بعض قيوده} كأن يقول: (أكرم زيداً إن جاءك ليلاً) فانتفاء مجيء زيد ليلاً - ولو جاء نهاراً - موجب لانتفاء الإكرام المعلّق على المجيء.

ص: 31

ولا يتمشّى الكلام في أنّ للقضيّه الشّرطيّة مفهوماً أو ليس لها مفهوم، إلّا في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء، وانتفاؤه عند انتفاء الشّرط ممكناً. وإنّما وقع النّزاع في أنّ لها دلالةً على الانتفاء عند الانتفاء، أو لا يكون لها دلالة.

___________________________________________

ولنوضح ذلك بمثال فنقول: قولنا: (إن طلعت الشّمس كانت الغرفة مضيئة)إذا كان لها مفهوم يلزم منه انتفاء إضاءة الغرفة مطلقاً عند انتفاء طلوع الشّمس، وإن لم يكن لها مفهوم كان ساكتاً عن ذلك، وأمّا عدم إضاءة الغرفة بالإضاءة الشّمسيّة فمقطوع به سواء قلنا بالمفهوم أم لا، فالكلام في المفهوم إنّما هو في الإضاءة الّتي هي سنخ الإضاءة الشّمسيّة لا الإضاءة الّتي هي مستندة إلى الشّمس، ومثل هذا جميع الجمل الشّرطيّة، فإنّ قولنا: (إن جاء زيد فأكرمه) يقع الكلام في أنّ الإكرام مطلقاً ينتفي عند انتفاء المجيء، أم لا يدلّ على ذلك، أمّا انتفاء الإكرام المعلول للمجيء عند انتفاء المجيء فممّا لا شكّ فيه لأحد.

{و} ممّا ذكرنا من أنّ النّزاع إنّما هو في الدلالة على انتفاء سنخ الحكم تعرف أنّه {لا يتمشّى الكلام - في أنّ للقضيّة الشّرطيّة مفهوماً أو ليس لها مفهوم - إلّا في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء} أي: الحكم الّذي هو الجزاء {وانتفاؤه} عطف على «ثبوت سنخ الحكم» {عند انتفاء الشّرط ممكناً} بأن كان هناك سنخ الحكم {وإنّما وقع النّزاع في أنّ لها} أي: للجملة الشّرطيّة {دلالة على الانتفاء عند الانتفاء} كما يدّعيه القائل بالمفهوم {أو لا يكون لها دلالة} كما يدّعيه من لا يقول بالمفهوم.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ الجزاء لو كان شخصيّاً لم يعقل النّزاع في المفهوم، إذ الحكم الشّخصي تابع لموضوعه، فحيث ما ارتفع بلا خلاف، وليس ارتفاعه حينئذٍ لأجل المفهوم، بل لأجل ارتفاع الحكم الشّخصي برفع موضوعه، كارتفاع الحرارة المستندة إلى الشّمس برفع الشّمس.

ص: 32

ومن هنا انقدح: أنّه ليس من المفهوم ودلالةُ القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء في الوصايا والأوقاف والنّذور والأيمان،كما توهّم(1)،

بل عن الشّهيد في تمهيد القواعد(2): أنّه لا إشكال في دلالتها على المفهوم.

وذلك لأنّ انتفاءها عن غير ما هو المتعلّق لها، - من الأشخاص الّتي تكون بألقابها، أو بوصف شيء، أو بشرطه، مأخوذةً في العقد،

___________________________________________

وهذا بخلاف ما لو كان الجزاء كليّاً، فإنّه يمكن أن يقع النّزاع في أنّ هذا اللفظ المعلّق فيه الكلّي على الشّرط هل يدلّ على انتفاء الكلّي أم لا يدلّ، بل ساكت عن وجوده وعدمه، كما لو علّقت الحرارة الكليّة بالشمس - أي: علّق عليه الحرارة غير المقيّدة بالمستندة - .

{ومن هنا} الّذي ذكرنا من أنّه لا يتمشّى الكلام إلّا في ما كان ثبوت سنخ الحكم ممكناً {انقدح أنّه ليس من المفهوم ودلالة القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء في الوصايا والأوقاف والنّذور والأيمان} وفي بعض النّسخ: «دلالة القضيّة» الخ. وكيف كان فلو أوصى بإعطاء داره لسكنى العلماء، أو نذر ذلك، أو أوقفه كذلك، أو حلف بذلك، لم يجز التخطّي عنه بإعطائها لغيرهم، فإنّه ربّما يقال: بأنّ عدم الجواز من باب المفهوم {كما توهّم، بل عن الشّهيد في تمهيد القواعد: أنّه لا إشكال في دلالتها على المفهوم} ولكن لا يخفى بطلان استناد عدم الجواز إلى المفهوم.

{وذلك لأنّ انتفاءها} أي: انتفاء دلالة القضيّة على الانتفاءعند الانتفاء {عن غير ما هو المتعلّق لها من الأشخاص} بيان «ما» {الّتي تكون} تلك الأشخاص {بألقابها} نحو (وقفت داري للفقير) {أو بوصف شيء} نحو «للرجل العادل» {أو بشرطه} نحو (بشرط أن يكون مسلماً) {مأخوذة في العقد} أي: عقد الوصيّة

ص: 33


1- هداية المسترشدين 2: 423؛ مطارح الأنظار 2: 37؛ تقريرات المجدد الشيرازي 3: 139.
2- تمهيد القواعد: 110.

أو مثل العهد - ليس بدلالة الشّرط أو الوصف أو اللقب عليه، بل لأجل أنّه إذا صار شيء وقفاً على أحدٍ، أو أوصى به، أو نذر له - إلى غير ذلك - لا يقبل أن يصير وقفاً على غيره أو وصيّة أو نذراً له.

وانتفاءُ شخص الوقف أو النّذر أو الوصيّة عن غير مورد المتعلّق، قد عرفت أنّه عقليّ مطلقاً، ولو قيل بعدم المفهوم في مورد صالح له.

إشكال ودفع:

___________________________________________

والوقف ونحوهما {أو مثل العهد} كالنذر واليمين والعهد {ليس بدلالة الشّرط أو الوصف أو اللقب عليه} أي: على الانتفاء. وهذا خبر «أنّ» في قوله: «لأنّ انتفاءها» الخ، فانتفاء جواز السّكنى لغير الفقير والعادل والمسلم ليس من باب المفهوم {بل لأجل أنّه إذا صار شيء وقفاً على أحد أو أوصى به أو نذر له} أو حلف عليه أو عهد مع اللّه فيه {إلى غير ذلك لا يقبل أن يصير وقفاً على غيره أو وصيّة أو نذراً له} لأنّ المعلّق شخصيّ لا كلّي {وانتفاء شخص الوقف أو النّذر أو الوصيّة عن غير مورد المتعلّق قد عرفت أنّه عقليّ} إذ ينتفي الشّيء بانتفاء موضوعه {مطلقاً} وفسّره بقوله: {ولو قيل بعدمالمفهوم في مورد صالح له} ممّا علّق الكلّي على الموضوع.

والحاصل: أنّ مورد النّزاع هو ما علّق الجنس لا الشّخص، أمّا لو علّق الشّخص فلا إشكال في الانتفاء عند الانتفاء لكنّه ليس من باب المفهوم، بل من جهة حكم العقل.

[إشكال ودفع]

{إشكال ودفع} أمّا الإشكال فهو أنّا لا نسلّم كون المفهوم انتفاء نوع الحكم المعلّق، بل انتفاء شخصه، إذ الشّرط إنّما هو شرط لهذا الحكم المذكور المنشأ شخصيّاً وليس هذا الشّرط شرطاً للجنس حتّى يستلزم من انتفائه انتفاء سنخ

ص: 34

لعلّك تقول: كيف يكون المناط في المفهوم هو سنخ الحكم، لا نفس شخص الحكم في القضيّة، وكان الشّرط في الشّرطيّة إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره؟ فغاية قضيّتها انتفاء ذاك الحكم بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخه. وهكذا الحال في سائر القضايا الّتي تكون مفيدة للمفهوم.

ولكنّك غفلت عن

___________________________________________

الحكم، إذ ليس في القضيّة ذكر عن الجنس، فلا بدّ وأن يلزم من انتفاء هذا الشّرط انتفاء هذا الحكم الشّخصي المنشأ لا انتفاء جنسه {لعلّك تقول: كيف يكون المناط في المفهوم، هو} انتفاء {سنخ الحكم، لا} انتفاء {نفس شخص الحكم} المنشأ {في القضيّة، و} الحال أنّه {كان الشّرط في} القضيّة {الشّرطيّة إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى} هذا{الحكم} الشّخصي {الحاصل بإنشائه دون غيره، فغاية قضيّتها} أي: مقتضى الجملة الشّرطيّة {انتفاء ذاك الحكم} الشّخصي {بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخه} إذ ليس من السّنخ في القضيّة الشّرطيّة عين ولا أثر، فمن أين يدلّ المفهوم على انتفائه؟

{وهكذا الحال في سائر القضايا} الشّرطيّة {الّتي تكون مفيدة للمفهوم} فمقتضى (إن كانت الشّمس طالعة كان النّهار موجوداً، أو كانت الغرفة مضيئة) عدم وجود النّهار وإضاءة الغرفة المستندين إلى طلوع الشّمس، أمّا غير المستند إليه فلا يدلّ المفهوم على انتفائه، ومثله قولنا: (إن كان زيد فقيهاً كان مستنبطاً) فإنّ استنباط زيد ينتفي عند انتفاء فقاهته، لا أنّ سنخ استنباطه ينتفي عند انتفاء فقاهته.

وبهذا الإشكال اتّضح عدم الفرق بين الجملة الشّرطيّة وبين الوقف والنّذر والحلف وأمثالها، فالحكم الشّخصي في الجميع ينتفي عند انتفاء الموضوع، وأمّا وجود سنخ الحكم وعدمه فهو مسكوت عنه.

{ولكنّك غفلت عن} دفع هذا الإشكال وحاصله: أنّا نسلّم كون الشّرط شرطاً

ص: 35

أنّ المعلّق على الشّرط إنّما هو نفس الوجوب الّذي هو مفاد الصّيغة ومعناها، وأمّا الشّخص والخصوصيّة النّاشئة من قبل استعمالها فيه، فلا تكاد تكون من خصوصيّات معناها المستعملة فيه، كما لا يخفى، كما لا تكون الخصوصيّة الحاصلة من قبل الإخبار به، من خصوصيّات ما أخبر به واستعمل فيه إخباراً لا إنشاءً.

وبالجملة:

___________________________________________

لهذا الحكم المنشأ، وأنّ انتفاء الشّرط لا يستلزم إلّا انتفاء نفس هذا الحكم المنشأ لا غير، ولكن لا نسلّم جزئيّة الحكم المنشأ بل المنشأ جنس، إذ {أنّ المعلّق على الشّرط إنّما هو نفس الوجوب الّذي هو مفاد الصّيغة ومعناها} إذ قد حقّقنا سابقاً أنّ المعاني الحرفيّة - ومنها الهيئات - مثل الأسماء في الموضوع له طابق النّعل بالنّعل، فمعنى (فأكرمه) وجوب الإكرام المطلق، والإنشاء إنّما تعلّق بهذا الوجوب الكلّي المساوق لكلمة واجب، فكما أنّ في قولنا: (إن جاءك زيد فإكرامه واجب) يكون المعلّق على المجيء جنس وجوب الإكرام، كذلك في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) المعلّق جنس الوجوب.

{وأمّا الشّخص والخصوصيّة النّاشئة من قبل استعمالها} أي: الصّيغة {فيه} أي: في الوجوب {فلا تكاد تكون} تلك الخصوصيّة الاستعماليّة {من خصوصيّات معناها} أي: معنى الصّيغة {المستعملة} تلك الصّيغة {فيه} أي: في هذا المعنى الخاصّ {كما لا يخفى} فإنّ الإنشاء كالإخبار إنّما هما من خصوصيّات الاستعمال، لا من خصوصيّات المستعمل فيه، و{كما لا تكون الخصوصيّة الحاصلة من قبل الإخبار به} في قولنا: (إن جاءك زيد فإكرامه واجب) {من خصوصيّات ما أخبر به واستعمل فيه إخباراً لا إنشاءً} كذلك لا تكون الخصوصيّة الحاصلة من قبل الإنشاء من خصوصيّات المستعمل فيه.

{وبالجملة} لا فرق بين الإنشاء والإخبار ولا دخل لهما في تخصيص المستعمل

ص: 36

كما لا يكون المخبر به المعلّق على الشّرط خاصّاً بالخصوصيّات النّاشئة من قبل الإخباربه، كذلك المنشأ بالصيغة المعلّق عليه، وقد عرفت بما حقّقناه في معنى الحرف وشبهه: أنّ ما استعمل فيه الحرف عامّ كالموضوع له، وأنّ خصوصيّة لحاظه بنحو الآليّة والحاليّة لغيره من خصوصيّة الاستعمال، كما أنّ خصوصيّة لحاظ المعنى بنحو الاستقلال في الاسم كذلك، فيكون اللحاظ الآلي - كالاستقلالي - من خصوصيّات الاستعمال، لا المستعمل فيه.

___________________________________________

فيه، ف- {كما لا يكون المخبر به} كقولنا: (فإكرامه واجب) {المعلّق على الشّرط} وهو قولنا: (إن جاءك زيد) {خاصّاً بالخصوصيّات النّاشئة من قبل الإخبار به} بل هو على حاله قبل الاستعمال من الكليّة والاستقلال {كذلك المنشأ بالصيغة المعلّق عليه} أي: على الشّرط.

{و} إن قلت: الهيئة المنشأة في الصّيغة حرف والمعاني الحرفيّة جزئيّة على مذاق القوم، فالحكم المعلّق على الشّرط جزئيّ لا كلّي.

قلت: {قد عرف بما حقّقناه في معنى الحرف وشبهه} عدم تماميّة كون المعنى الحرفي جزئيّاً، بل الصّحيح {أنّ ما استعمل فيه الحرف عامّ كالموضوع له، و} قد تقدّم {أنّ خصوصيّة لحاظه} أي: لحاظ الحرف {بنحو الآليّة - والحاليّة لغيره - من خصوصيّة الاستعمال} وهذا النّحو من اللّحاظ والخصوصيّة لا يسبّب جزئيّة المعنى {كما أنّ خصوصيّة لحاظ المعنى بنحو الاستقلال في الاسم كذلك} لا يصير سبباً لجزئيّة المعنى، فالمعنى في كليهما عامّ، واللحاظ لا يسبّب جزئيّته {فيكون اللحاظالآلي} في الحرف {كالاستقلالي من خصوصيّات الاستعمال لا المستعمل فيه} وكأنّ القائل بالجزئيّة توهّم كون الوجوب في الجزاء مقيّداً بقيد الإنشاء، وعليه فالوجوب المقيّد بهذا القيد جزئيّ، إذ إنشاء الوجوب بمعنى إيجاده - على مذاق المصنّف(رحمة الله) وجماعة - ومن المعلوم أنّ كلّ موجود جزئيّ حقيقي، إذ الشّيء

ص: 37

وبذلك قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات(1) - في مقام التفصّي عن هذا الإشكال - من التفرقة بين الوجوب الإخباري والإنشائي، بأنّه كلّيّ في الأوّل وخاصّ في الثّاني، حيث دفع الإشكال بأنّه لا يتوجّه في الأوّل؛ لكون الوجوب كليّاً، وعلى الثّاني بأنّ ارتفاع مطلق الوجوب فيه من فوائد العليّة المستفادة من الجملة الشّرطيّة؛

___________________________________________

ما لم يتشخّص لم يوجد.

وقد غفل المتوهّم عن أنّ الإنشاء كالإخبار ليس قيداً للموضوع له (إفعل) بل من كيفيّة الاستعمال، فإنّ الإنسان قد يستعمل الوجوب بلباس الإنشاء فيقول: (إفعل) وقد يستعمله بلباس الإخبار فيقول: (يجب عليك) أو (واجب)، وإلّا فلو لوحظ الوجوب المقيّد بقيد الإنشاء في (إفعل) يلزم ملاحظته بقيد الإخبار في واجب، فيكون كلاهما جزئيّاً، فتدبّر.

{وبذلك} الّذي ذكرنا من كون المعنى في الجزاء كليّاً، وإنّما خصوصيّة الإنشائيّة مربوطة بالاستعمال لا المستعمل فيه {قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات في مقام التفصّي عن هذا الإشكال من التفرقة بين الوجوبالإخباري} المعلّق على الشّرط نحو (إن جاء زيد وجب إكرامه) {والإنشائي} نحو (أكرمه) {بأنّه كلّيّ في الأوّل، وخاصّ} وجزئيّ {في الثّاني، حيث دفع الإشكال} الّذي تقدّم في قولنا: «لعلّك تقول» {بأنّه لا يتوجّه في الأوّل} وهو ما كان المعلّق على الشّرط جملة خبريّة {لكون الوجوب كليّاً، وعلى الثّاني} وهو ما كان المعلّق على الشّرط جملة إنشائيّة، أجاب بعد تسليم كون الوجوب المعلّق جزئيّاً {بأنّ ارتفاع مطلق الوجوب فيه} في هذا القسم الثّاني عند ارتفاع المقدّم {من فوائد العليّة المستفادة من الجملة الشّرطيّة} بمعنى أنّه حيث وقع هذا الوجوب الجزئي الشّخصي جزاءً للشرط، وبعد انتفائه كان اللّازم انتفاء جنس الحكم وسنخ الوجوب

ص: 38


1- مطارح الأنظار 2: 39.

حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس مستنداً إلى ارتفاع العلّة المأخوذة فيها، فإنّه يرتفع ولو لم يوجد في حيال أداة الشّرط، كما في اللقب والوصف.

وأورد(1)

- على ما تُفُصِّيَ به عن الإشكال بما ربّما يرجع إلى ما ذكرناه - بما حاصله: أنّ التفصّي لا يبتني على كليّة الوجوب؛

___________________________________________

عند انتفاء الشّرط، ولا يمكن أن يكون مفيداً لانتفاء شخص الوجوب وإلّا لم يكن لأداة الشّرط فائدة أصلاً {حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس مستنداً إلى ارتفاع العلّة} الّتيهي الشّرط {المأخوذه فيها} أي: في الجملة الشّرطيّة {فإنّه} أي: شخص الوجوب {يرتفع ولو لم يوجد في حيال أداة الشّرط، كما} ترى يرتفع المحمول {في اللقب والوصف} فلو قال: (زيد قائم) أو (العالم يجب إكرامه) انتفى القيام الشّخصي ووجوب الإكرام الشّخصي بانتفاء زيد والعالم.

والحاصل: أنّ شخص الوجوب ينتفي بانتفاء الموضوع ولو لم يعلّق ب- (إن) الشّرطيّة ونحوها، ضرورة انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، فاللّازم أن يكون التعليق بالشرط مفيداً لفائدة لم تكن لولا الشّرط، ولا تتصوّر فائدة إلّا انتفاء سنخ الحكم عند انتفاء الشّرط، وبهذا ظهر أنّ صاحب التقريرات يسلّم كون الوجوب في الإنشاء شخصيّاً، وإنّما يرى انتفاء سنخ الحكم من فوائد أداة الشّرط كي يبقى فرق بين المعلّق على الأداة وغيره.

{و} قد {أورد} صاحب التقريرات {على ما تُفُصِّيَ به عن الإشكال بما ربّما يرجع إلى ما ذكرناه} يعني: أنّ بعضهم أجاب عن الإشكال المتقدّم في قولنا: «إشكال ودفع» بجواب يرجع حاصله إلى جوابنا السّابق في قولنا: «ولكنّك غفلت» الخ، الّذي كان حاصله أنّ الجزاء في الجملة الشّرطيّة كليّ إخباراً كان أم إنشاءً {بما حاصله} متعلّق ب- «أُورد» {أنّ التفصّي} عن الإشكال {لا يبتني على كليّة الوجوب}

ص: 39


1- مطارح الأنظار 2: 39.

لما أفاده، وكونُ الموضوع في الإنشاء عاماً لم يقم عليه دليل، لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه؛ حيث إنّ الخصوصيّات بأنفسها مستفادة من الألفاظ.

وذلك لما عرفت من أنّ الخصوصيّات في الإنشاءات والإخبارات، إنّما تكون ناشئة من الاستعمالات بلا تفاوت أصلاً بينهما.ولعمري لا يكاد ينقضي تعجّبي، كيف تُجعل خصوصيّات الإنشاء من خصوصيّات المستعمل فيه؟ مع أنّها

___________________________________________

في الإنشاء المعلّق على الشّرط {لما أفاده} صاحب التقريرات وهذا وجه عدم الابتناء - أي: يمكن التخلّص عن الإشكال بما ذكرناه - من أنّ ارتفاع مطلق الوجوب من فوائد العلّيّة الخ، وحينئذٍ لا نحتاج إلى جعل الوجوب كليّاً.

{و} هذا مضافاً إلى أنّ {كون الموضوع في الإنشاء عامّاً لم يقم عليه دليل لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه} فإنّ الدليل قام على كون الموضوع في الإنشاء جزئيّاً {حيث إنّ الخصوصيّات} الإنشائيّة {بأنفسها مستفادة من الألفاظ} وذلك ممّا يدلّ على دخلها في الموضوع له، إذ لو لم تكن تلك الخصوصيّات دخيلة في الموضوع له لم تكن تستفاد من الألفاظ، بل اللّازم أن تستفاد من الخارج والقرائن، فصيغة (إفعل) موضوعة للوجوب الخاصّ الإنشائي لا أنّها موضوعة للوجوب المطلق والخصوصيّة مستفادة من الخارج.

{وذلك} أي: بيان ذلك الّذي ذكرنا من انقداح فساد ما في التقريرات {لما عرفت} غير مرّة {من أنّ الخصوصيّات في الإنشاءات والإخبارات إنّما تكون ناشئة من الاستعمالات} لا دخيلة في الموضوع له، فالإنشاء والإخبار من هذا الحيث سيّان {بلا تفاوت أصلاً بينهما}.

{ولعمري لا يكاد ينقضي تعجّبي كيف تجعل} بالبناء للمفعول {خصوصيّات الإنشاء من خصوصيّات المستعمل فيه} المقتضي لجزئيّة المعنى {مع أنّها}أي:

ص: 40

- كخصوصيّات الإخبار - تكون ناشئة من الاستعمال، ولا يكاد يمكن أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال، كما هو واضح لمن تأمّل.

الأمر الثّاني: أنّه إذا تعدّد الشّرط مثل: (إذا خفي الأذانُ فقصّر) و(إذا خفي الجدران فقصّر)، فبناءً على ظهور الجملة الشّرطيّة في المفهوم، لا بدّ من التصرّف ورفع اليد عن الظهور:

إمّا بتخصيص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر،

___________________________________________

خصوصيّات الإنشاء {كخصوصيّات الإخبار تكون ناشئة من الاستعمال، ولا يكاد يمكن أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال} إذ المستعمل فيه لا بدّ وأن يوجد قبل الاستعمال حتّى يستعمل فيه اللفظ، فالإنشائيّة والإخباريّة اللّتان تتحقّقان مع الاستعمال لا يعقل دخلهما في المستعمل فيه {كما هو واضح لمن تأمّل} هذا ولكن المصنّف(رحمة الله) لم يجب عمّا ذكره التقريرات من استفادة سنخ الوجوب من أداة الشّرط، مع أنّ فيه ما فيه، فتدبّر.

[الأمر الثّاني]

{الأمر الثّاني} في بيان وجه الجمع بين الشّرطين الواردين على جزاء واحد {أنّه إذا تعدّد الشّرط} واتّحد الجزاء {مثل: (إذا خفي الأذان فقصّر) و(إذا خفي الجدران فقصّر)} سواء كانا في كلام واحد أم في كلامين {فبناءً على ظهور الجملة الشّرطيّة فيالمفهوم لا بدّ من التصرّف} بأحد وجوه أربعة {ورفع اليد عن الظهور} في الجملة، إذ الأخذ بظهور كليهما موجب للتنافي بينهما، فإنّ مفهوم (إذا خفي الأذان) عدم القصر إذا لم يَخْفَ سواء خَفِيَ الجُدْران أم لا، ومفهوم (إذا خَفِيَ الجدران) عدم القصر إذا لم تَخْفَ سواء خفي الأذان أم لا، فلو خفي أحدهما ولم يَخْفَ الآخر تعارض الدليلان، فمنطوق المخفي يحكم بالقصر ومفهوم غير المخفي يحكم بالتمام:

1- {إمّا بتخصيص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر} كأن يقال: (إذا خفي الأذان

ص: 41

فيقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشّرطين.

وإمّا برفع اليد عن المفهوم فيهما، فلا دلالة لهما على عدم مدخليّة شيء آخر في الجزاء. بخلاف الوجه الأوّل، فإنّ فيهما الدلالة على ذلك.

وإمّا بتقييد إطلاق الشّرط في كلّ منهما بالآخر،

___________________________________________

فقصّر، وإذا لم يخف لم يجب القصر إلّا إذا خفي الجدران) وكذا في (إذا خفي الجدران) {فيقال} في نتيجة الجمع بهذا النّحو {بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشّرطين} فكلّما حصل أحد الشّرطين وجب القصر، وحيث لم يحصلا وجب التمام، فخفاء الجدران وحده كافٍ وإن لم يخف الأذان، وخفاء الأذان وحده كافٍ وإن لم يخف الجدران، وخفاء كليهما بطريق أولى. أمّا لو لم يخفيا - بل كانا بارزين - وجب التمام.

2- {وإمّا برفع اليد عن المفهوم فيهما} فيكون كلّ منهما من قبيل (زيد قائم) يعني أنّ خفاء الجدران موجب للقصروخفاء الأذان موجب للقصر {فلا دلالة لهما على} المفهوم الّذي مفاده {عدم مدخليّة شيء آخر في الجزاء} بل كلّ منهما يشتمل على حكم إيجابي فقط.

ثمّ إنّ الفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل - مع اشتراك كليهما في النّتيجة - هو أنّ هذا الوجه لا يقول بالمفهوم أصلاً، فلا يقع بينهما تعارض وتقييد أصلاً {بخلاف الوجه الأوّل، فإنّ فيهما الدلالة على ذلك} أي: على عدم مدخليّة شيء آخر في الجزاء، فيقع التعارض ويقيّد مفهوم كلّ بمنطوق الآخر.

مثال ذلك: إنّ وجه الأوّل من قبيل: (أكرم زيداً ولا تكرم غيره، أكرم عمرواً ولا تكرم غيره) والوجه الثّاني من قبيل (أكرم زيداً، أكرم عمرواً).

3 - {وإمّا بتقييد إطلاق الشّرط} أي: المنطوق {في كلّ منهما بالآخر} فيكون معنى (إذا خفي الأذان): (إذا خفي الأذان بشرط خَفَاءِ الجدران، وإذا خفي الجدران

ص: 42

فيكون الشّرط هو خَفَاء الأذان والجدران معاً، فإذا خفيا وجب القصر، ولا يجب عند انتفاء خفائهما، ولو خفي أحدهما.

وإمّا بجعل الشّرط هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون تعدّد الشّرط قرينةً على أنّ الشّرط في كلّ منهما ليس بعنوانه الخاصّ، بل بما هو مصداق لما يعمّهما من العنوان.

ولعلّ العرف يساعد على الوجه الثّاني،

___________________________________________

بشرط خفاء الأذان).

وعلى هذا فيكون القصر واجباً حيث يخفى الأذان والجُدْرَان كلاهما، ولا يجوز في الصّور الثّلاثة الأُخر - أعني: خفاء الجدران فقط أو خفاء الأذان فقط أوعدم خفاء كليهما - وعليه فهذا عكس الأوّلين في النّتيجة {فيكون الشّرط} في القصر {هو خفاء الأذان والجدران معاً، فإذا خفيا وجب القصر، ولا يجب} بل لا يجوز القصر {عند انتفاء خفائهما، ولو خفي أحدهما} كما تقدّم.

4- {وإمّا بجعل الشّرط} في وجوب القصر {هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون} الشّرط في الواقع أمراً واحداً جامعاً بينهما، و{تعدّد الشّرط} في الدليل {قرينة على أنّ الشّرط في كلّ منهما} خفاء الأذان والجدران {ليس بعنوانه الخاص} مؤثّراً {بل} مؤثريّته في القصر {بما هو مصداق لما يعمّهما من العنوان} بيان «ما» كأن يكون المقدار الخاصّ من البعد عن البلد سبباً للقصر وتحقّقه بأحد من خفاء الجدار وخفاء الأذان.

ثمّ إنّ كلّ واحد من الأمرين إمّا كاشف بغير مدخليّة نفسه، وإمّا دخيل بسبب الجامع الموجود في ضمنه، وعليه فهذا القسم يطابق القسمين الأوّلين في النّتيجة وإن خالفهما في أنّ الشّرط هو الجامع أو المكشوف - في هذا القسم - وكلّ واحد من الأمرين - في القسمين - {ولعلّ العرف يساعد على الوجه الثّاني} لأنّ الجملة الشّرطيّة تكون ظاهرة في المفهوم لديهم حيث لم تقم قرينة على

ص: 43

كما أنّ العقل ربّما يعيّن هذا الوجه، بملاحظة أنّ الأُمور المتعدّدة - بما هي مختلفة - لا يمكن أن يكون كلّ منهما مؤثّراً في واحد؛ فإنّه لا بدّ من الرّبط الخاصّ بين العلّة والمعلول، ولا يكاديكون الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنين - بما هما اثنان - ولذلك أيضاً لا يصدر من الواحد إلّا الواحد.

___________________________________________

الخلاف؛ لأنّهم يفهمون حينئذٍ انحصار السّبب المستلزم للمفهوم، أمّا إذا كانت هناك قرينة على خلاف الانحصار - ومن القرائن تعدّد الشّرط - فلا، فتدبّر.

{كما أنّ العقل ربّما يعيّن هذا الوجه} الرّابع، وهو أن يكون المؤثّر في الجزاء هو القدر المشترك بين الشّرطين لا كلّ شرط على حياله واستقلاله {بملاحظة أنّ الأُمور المتعدّدة بما هي} أُمور {مختلفة لا يمكن أن يكون كلّ} واحد {منهما مؤثّراً في} شيء {واحد، فإنّه لا بدّ من الرّبط الخاصّ} والسّنخيّة {بين العلّة والمعلول} إذ لولا السّنخيّة لزم إمكان تأثير كلّ شيء في كلّ شيء، وحيث إنّ هذا غير معقول لزم وجود السّنخيّة والمناسبة، فكلّما وجدت أمكن التأثير وكلّما لم توجد لم يمكن.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذا الدليل على تقدير تماميّته إنّما يجري في الفاعل بالجبر، كما لا يخفى.

{و} حيث اعتبرنا السّنخيّة لا بدّ وأن يكون علّه كلّ معلول أمراً واحداً و{لا يكاد يكون} المعلول {الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنين} أي: علّتين {بما هما اثنان} بأن لا يكون بينهما جهة جامعة بها تؤثران في المعلول {ولذلك} البرهان المتقدّم من لزوم السّنخيّة بين العلّة والمعلول تنعكس القضيّة {أيضاً} فيقال: {لا يصدر من} العلّة {الواحد} ة {إلّا} المعلول {الواحد} وهذه القضيّة عكس ما تقدّم من أنّه لا يصدر المعلول الواحد إلّا من العلّة الواحدة.والحاصل: أنّ المعلول الواحد لا بدّ وأن يصدر من العلّة الواحدة، كما وأنّ العلّة

ص: 44

فلا بدّ من المصير إلى أنّ الشّرط في الحقيقة واحد، وهو المشترك بين الشّرطين، بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم، وبقاءِ إطلاق الشّرط في كلّ منهما على حاله، وإن كان بناء العرف والأذهان العاميّة على تعدّد الشّرط، وتأثير كلّ شرط بعنوانه الخاص، فافهم.

___________________________________________

الواحدة لا يصدر منها إلّا معلول واحد {فلا بدّ} حينئذٍ {من المصير} في مسألة الشّروط المتعدّدة {إلى أنّ الشّرط في الحقيقة واحد، وهو المشترك بين الشّرطين} فهو المؤثّر في الجزاء، كما تقدّم من مثال البعد عن البلد في اشتراط القصر.

ثمّ إنّ القول بأنّ الشّرط هو الجامع إنّما يكون {بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم وبقاء إطلاق الشّرط في كلّ منهما على حاله} قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - في قوله: «فلا بدّ»: «تفريع على قوله: «ولعلّ العرف»، وقوله: «كما أنّ العقل...» الخ، يعني بعد مساعدة العرف على الثّاني، وبناء العقل على امتناع تأثير كلّ من الشّرطين بخصوصه في الجزاء، لا بدّ من الجمع بين القول بعدم المفهوم للقضيّة الشّرطيّة عند التعدّد والقول بأنّ الشّرط هو الجامع بين الشّرطين»(1)،

انتهى.

ولكن هذا إنّما يتمّ مع بقاء إطلاق الشّرط، بحيث يؤثّر كلّ شرط بسبب وجود الجامع في ضمنه بلا اعتبار انضمام الشّرط الآخر إليه. أمّا لو لم نقل ببقاء هذا الإطلاق فاللّازم القول بتأثير الشّرطين معاً، فلا يستقيم قول المصنّف(رحمة الله):«فلا بدّ من المصير» الخ، فتدبّر.

{وإن كان بناء العرف والأذهان العاميّة على تعدّد الشّرط وتأثير كلّ شرط بعنوانه الخاصّ} فإنّهم يرون أنّ كلّ واحد من خفاء الأذان وخفاء الجدران سبباً مستقلّاً للقصر، لا أنّ الجامع الموجود في كلّ واحد منهما سبب.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى عدم تماميّة البرهان الّذي استندوا إليه للقضيّتين - أعني: الواحد لا يصدر، الخ وعكسه - فإنّ السّنخيّة لم يقم على لزومها

ص: 45


1- حقائق الأصول 1: 461.

وأمّا رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشّرطين وبقاء الآخر على مفهومه، فلا وجه لأن يصار إليه، إلّا بدليل آخر، إلّا أن يكون ما أُبْقِيَ على المفهوم أظهر، فتدبّر جيّداً.

الأمر الثّالث: إذا تعدّد الشّرط واتحد الجزاء،

___________________________________________

دليل حتّى في الفاعل بالجبر، فإنّه من المعقول قطعاً أن يؤثّر شيء في شيء بلا سنخيّة، فإنّ المؤثريّة إنّما هي بجعل اللّه تكويناً ولا مانع من جعله أُموراً متعدّدة متباينة الماهيّة مؤثّرة في أمر واحد كالعكس، بأن يجعل أمراً واحداً مؤثّراً في أُمور متعدّدة.

هذا كلّه في غير الأُمور الاعتباريّة وأمّا الاعتباريّات فالأمر فيها أوضح، إذ لا تأثير في الحقيقة.

هذا تمام الكلام في الوجوه الأربعة الّتي بها يمكن الجمع بين الشّرطين {وأمّا} الوجه الخامس في الجمع، وهو {رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشّرطين وبقاء الآخر على مفهومه} كما حكي عن الحلّي(رحمة الله) في مسألةالأذان والجدران، فجعل المناط في القصر هو خفاء الأذان فقط المستلزم لبقاء مفهوم (إذا خفي الأذان) ورفع اليد عن مفهوم (إذا خفي الجدران) وكأنّه استظهر عدم مدخليّة خفاء الجدران وإنّما هو من علامات خفاء الأذان {فلا وجه لأن يصار إليه إلّا بدليل آخر} خارج عن الجملتين، إذ هذا الجمع ترجيح بلا مرجّح كما لا يخفى {إلّا أن يكون ما أُبْقِيَ على المفهوم أظهر} ممّا رُفِعَ اليدُ عن مفهومه، ويكون المراد برفع اليد: حمله على العرفيّة، كما تقدّم {فتدبّر جيّداً} وفي بعض النّسخ ليس قوله: «وأمّا رفع اليد» الخ موجوداً وكأنّه لما حكي من شطب المصنّف(رحمة الله) عليه.

[الأمر الثّالث]

{الأمر الثّالث: إذا تعدّد الشّرط واتّحد الجزاء} كأن يقول: «إذا بلت فتوضّأ، وإذا

ص: 46

فلا إشكال على الوجه الثّالث. وأمّا على سائر الوجوه، فهل اللّازم لزوم الإتيان بالجزاء متعدّداً، حسب تعدّدِ الشّروط، أو يتداخل، ويُكتفى بإتيانه دفعة واحدة؟ فيه أقوال:

والمشهور: عدم التداخل.

وعن جماعة - منهم المحقّق الخوانساري(رحمة الله)(1) - : التداخل.

وعن الحلّي: التفصيل بين اتحاد جنس الشّروط وتعدّده(2).

___________________________________________

نمت فتوضّأ» فإنّ موضوع الجزاء - وهو الوضوء - أمر واحد {فلا إشكالعلى الوجه الثّالث} من الوجوه المتقدّمة في الأمر الثّاني، وهو تقييد كلّ من المنطوقين بالآخر حتّى يكون المجموع شرطاً واحداً، ويكون معنى الجملتين: «إذا بلت ونمت فتوضّأ» حتّى لا يكون كلّ واحد من الشّرطين كافياً في وجوب الجزاء، بل الأمران معاً سبب له بحيث يصير كلّ واحد جزء سبب.

{وامّا على سائر الوجوه} الثّلاثة الأُخر الّتي كان كلّ واحد منها شرطاً مستقلّاً لوجود الجزاء بحيث كان يؤثّر بلا احتياج إلى انضمام الأُخر {فهل اللّازم لزوم الإتيان بالجزاء متعدّداً حسب تعدّد الشّروط} كأن يجب على من بال ونام الوضوء مرّتين {أو يتداخل ويكتفي بإتيانه دفعة واحدة} فلا يجب إلّا وضوء واحد، أو يفصل بين ما اتّحد الجنس، كما لو بال مرّتين، فيتداخل، وبين ما اختلف، كما لو بال ونام، فيتعدّد؟ {فيه أقوال}.

{والمشهور} بين العلماء {عدم التداخل، وعن جماعة منهم المحقّق الخوانساري(رحمة الله) التداخل، وعن الحلّي} (قدس سره) {التفصيل بين اتحاد جنس الشّروط} فيتداخل {وتعدّده} فلا يتداخل.

ومن البديهي أنّ هذا النّزاع إنّما يجري في ما أمكن التعدّد في الجزاء، وأمّا ما

ص: 47


1- مشارق الشموس: 61.
2- السرائر 1: 258.

والتحقيق: أنّه لمّا كان ظاهر الجملة الشّرطيّة حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط بسببه، أو بكشفه عن سببه، وكان قضيّته تعدّد الجزاء عند تعدّد الشّرط، كان الأخذ بظاهرها - إذا تعدّد الشّرط حقيقة أو وجوداً - محالاً؛ ضرورة أنّ لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة - مثل الوضوء - بما هيواحدة - في مثل: «إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ»(1) أو في ما إذا بال مكرّراً، أو نام كذلك - محكوماً بحكمين متماثلين، وهو واضح الاستحالة كالمتضادّين.

___________________________________________

لم يمكن كما لو أتى بأسباب القتل - كما لو ارتدّ ولاط وقتل - فلا خفاء في التداخل، وإن كان في نحو هذه المسألة كلام، فتدبّر.

{والتحقيق أنّه لمّا كان ظاهر الجملة الشّرطيّة حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط بسببه} أي: بسبب الشّرط {أو بكشفه عن سببه} أي: كشف الشّرط عن سبب الجزاء كأن يكون البول هو بنفسه سبباً للوضوء، أو كاشفاً عن طريان حالة نفسانيّة مظلمة هي سبب الوضوء {وكان قضيّته} أي: مقتضى كون الشّرط سبباً أو كاشفاً عن سبب {تعدّد الجزاء عند تعدّد الشّرط} إذ لا يعقل توارد علّتين تامّتين على معلول واحد {كان الأخذ بظاهرها} أي: ظاهر الجملة الشّرطيّة {إذا تعدّد الشّرط حقيقة} كأن نام وبال {أو وجوداً} كأن بال مرّتين {محالاً} خبر «كان».

وبيّن وجه الاستحالة بقوله: {ضرورة أنّ لازمه} أي: لازم كون الجملة الشّرطيّة ظاهرة في الحدوث عند الحدوث {أن يكون الحقيقة الواحدة - مثل الوضوء - بما هي واحدة، في مثل: «إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ» أو في ما إذا بال مكرّراً أو نام كذلك} مكرّراً {محكوماً بحكمين متماثلين،وهو} أي: اجتماع المثلين {واضح الاستحالة ك-} اجتماع {المتضادّين}.

ص: 48


1- راجع وسائل الشيعة 1: 251 وفيه: «إنما وجب الوضوء مما خرج من الطرفين خاصة ومن النوم دون سائر الأشياء...».

فلا بدّ على القول بالتداخل من التصرّف فيه:

إمّا بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرّد الثّبوت.

أو الالتزامِ بكون متعلّق الجزاء وإن كان واحداً صورة، إلّا أنّه حقائقُ متعدّدة - حسب تعدّد الشّرط - ، متصادقةٌ على واحدٍ،

___________________________________________

والحاصل: أنّ ظاهر كلّ جملة من الشّرطيّتين حدوث الجزاء عند وجود كلّ شرط، فإذا بال أوّلاً حدث وجوب الوضوء، فإذا بال أو نام ثانياً لم يعقل حدوث وجوب الوضوء أيضاً، إذ الطبيعة الواحدة لا يجتمع فيها وجوبان {فلا بدّ على القول بالتداخل من التصرّف فيه} أي: في ظاهر الجملة الشّرطيّة.

أمّا القائل بعدم التداخل فلا يلزم عليه هذا الإشكال؛ لأنّه يقول بوجوب فردين من الوضوء حين التعدّد جنساً أو فرداً.

ثمّ إنّ التصرّف في ظاهر الجملة - على القول بالتداخل - بوجوه: {إمّا بالالتزام بعدم دلالتها} أي: الجملة الشّرطيّة {في هذا الحال} أي: حال اجتماع سببين متقارنين أو متلاحقين {على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرّد الثّبوت}.

فالجملة الشّرطيّة تقول بثبوت الجزاء عند حدوث الشّرط، فلو لم يكن موجوداً من قبل وجد وإن كان موجوداً لم يوجد بعد.

وعلى هذا لا يلزم اجتماع المثلين، وقد تصرّفنا في الشّرط الّذي ظاهرهالحدوث لا الثّبوت {أو الالتزام(1) بكون متعلّق الجزاء وإن كان واحداً صورة} إذ قال في كلّ من الجملتين: «فتوضّأ» {إلّا أنّه حقائق متعدّدة حسب تعدّد الشّرط متصادقة على} جزاء {واحد} فلو بال ونام مراراً، ثمّ توضّأ وضوءاً واحداً، فهذا الوضوء وإن كان شيئاً واحداً صورة إلّا أنّه حقائق متعدّدة حسب تعدّد الشّرط.

ص: 49


1- وهذا التصرّف إنّما هو في ظاهر الجزاء عكس التصرّف الأوّل.

فالذمّة وإن اشتغلت بتكاليف متعدّدة حسب تعدّد الشّروط، إلّا أنّ الاجتزاء بواحد؛ لكونه مجمعاً لها، كما في: (أكرم هاشميّاً) و(أضف عالماً) فأكرَمَ العالِمَ الهاشميّ بالضّيافة؛ ضرورة أنّه بضيافته بداعي الأمرين يصدق أنّه امتثلهما، ولا محالة يسقط الأمر بامتثاله وموافقته، وإن كان له امتثال كلّ منهما على حدة، كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضّيافة، وأضاف العالم الغير الهاشمي.

إن قلت: كيف يمكن ذلك - أي: الامتثال بما تصادق عليه العنوانان - مع استلزامه محذورَ اجتماع الحكمين المتماثلين فيه؟

___________________________________________

مثلاً: إن وجد الشّرط مرّتين كان هذا الوضوء حقيقتين، وإن وجد الشّرط ثلاث مرّات كان الوضوء حقائق ثلاث، وهكذا {فالذمّة} حين تعدّد الشّرط {وإن اشتغلت بتكاليف متعدّدة حسب تعدّد الشّروط إلّا أنّ الاجتزاء بواحد لكونه مجمعاً لها} أي: للتكاليف المتعدّدة {كما في (أكرم هاشميّاً) و(أضف عالماً) فأكرم العالمالهاشمي بالضيافة} فإنّ الذمّة وإن اشتغلت بتكاليف متعدّدة لكن يجتزي فعل واحد عنها {ضرورة أنّه بضيافته بداعي الأمرين يصدق أنّه امتثلهما} فتدبّر {ولا محالة يسقط الأمر بامتثاله وموافقته وإن كان له} أي: للمكلّف {امتثال كلّ منهما على حدة، كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضّيافة وأضاف العالم الغير الهاشمي}.

تنبيه: قد تقدّم في بعض المباحث السّابقة أنّ دخول اللّام على كلمة (غير) في مثل هذا المقام غير موافق لما ذكروه، قال اللّه - تعالى - : {غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ}(1).

{إن قلت: كيف يمكن ذلك} الّذي ذكرتم {أي:} حصول {الامتثال بما تصادق عليه العنوانان، مع استلزامه محذور اجتماع الحكمين المتماثلين فيه} أي: في مورد الاجتماع، فيلزم أن يكون ضيافة العالم الهاشمي واجباً بوجوبين، وهو مستحيل، كما تقدّم؟

ص: 50


1- سورة الفاتحة، الآية: 7.

قلت: انطباق عنوانين واجبين على واحد لا يستلزم اتصافَه بوجوبين، بل غايته أنّ انطباقهما عليه يكون منشئاً لاتصافه بالوجوب، وانتزاع صفته له. مع أنّه - على القول بجواز الاجتماع - لا محذور في اتصافه بهما، بخلاف ما إذا كان بعنوان واحد، فافهم.

أو الالتزامِ بحدوث الأثر عند وجود كلّ شرطٍ، إلّا أنّه وجوب الوضوء في المثال عند الشّرط الأوّل، وتأكّد وجوبه عند الآخر.

___________________________________________

{قلت: انطباق عنوانين واجبين على} شيء {واحد لا يستلزم اتصافه بوجوبين، بل غايته} أي: غاية الأمر {أنّ انطباقهما عليه يكون منشئاً لاتصافه بالوجوب} أي: بوجوب واحد أكيد {وانتزاع صفته} أي: صفة الوجوب الأكيد {له} أي: للمجمع {مع أنّه - على القول بجواز الاجتماع - لا محذور في اتصافه} أي: المجمع {بهما} أي: بالوجوبين بلا تأكيد، وذلك لكفاية تعدّد العنوان في تعدّد الحكم - مثلين كانا أم ضدّين - {بخلاف ما إذا كان} الحكمان {بعنوان واحد} فإنّه مستحيل حتّى على القول بجواز الاجتماع، كما تقدّم في بعض المباحث السّابقة.

{فافهم} إشارة إلى أنّ القول بالاجتماع أو الامتناع لا ربط له بالمقام، إذ الكلام في المقام في مثل: «إن بلت فتوضّأ وإن نمت فتوضّأ». ومن المعلوم أنّ الوضوء بعنوان واحد جزاء للشرطين.

نعم، في مثل: (أكرم هاشميّاً، وأضف عالماً) يفيد القول بالاجتماع، إذ أحد الوجوبين بعنوان الهاشميّة والآخر بعنوان العالميّة.

{أو الالتزام بحدوث الأثر عند وجود كلّ شرط إلّا أنّه} لمّا كان اجتماع المثلين محالاً فلا بدّ وأن نقول ب- {وجوب الوضوء في المثال عند} حصول {الشّرط الأوّل وتأكّد وجوبه عند} حصول الشّرط {الآخر} فهذه محتملات ثلاث لا بدّ من التزام أحدها ورفع اليد عن ظهور الجملة الشّرطيّة، لما تقدّم من أنّ بقاءه على حاله مستلزم لاجتماع المثلين، وهو مستحيل.

ص: 51

ولا يخفى: أنّه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها؛ فإنّه رفع اليد عن الظاهر بلا وجهٍ.مع ما في الأخيرين من الاحتياج إلى إثبات أنّ متعلّق الجزاء متعدّد متصادق على واحد، وإن كان صورة واحداً مسمّى باسم واحدٍ كالغسل، وإلى إثبات أنّ الحادث بغير الشّرط الأوّل تأكُّدُ ما حدث بالأوّل، ومجرّدُ الاحتمال لا يجدي، ما لم يكن في البين ما يثبته.

___________________________________________

{و} لكن {لا يخفى أنّه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها} أي: من هذه الوجوه الثّلاثة {فإنّه رفع اليد عن الظاهر بلا وجه} إذ الظاهر حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط لا مجرّد ثبوته عند ثبوته ولا التصادق على شيءٍ واحد ولا التأكّد {مع ما في الأخيرين، من} الإشكال.

أمّا الوجه الثّاني فل- {الاحتياج إلى إثبات أنّ متعلّق الجزاء متعدّد متصادق على} شيء {واحد، وإن كان في صورة واحداً مسمّىً باسم واحد كالغسل} الّذي دلّ الدليل على التصادق في واحد.

{و} أمّا الوجه الثّالث: فلاحتياجه {إلى إثبات أنّ الحادث بغير الشّرط الأوّل} أي: أنّ الحكم الحادث بسبب وجود الشّرط الثّاني إنّما هو {تأكّد ما حدث بالأوّل} مع أنّ ظاهر الجملة الشّرطيّه هو الحدوث ثانياً، لا تأكّد ما حدث أوّلاً.

{و} إن قلت: هذان ليسا بمستحيلين لاحتمال التعدّد المتصادق واحتمال التأكّد.

قلت: {مجرّد الاحتمال لا يجدي ما لم يكن في البين ما يثبته} فاللّازم المصير إلى وجوب الجزاءالمتعدّد بتعدّد الشّرط إلّا إذا قام دليل على التداخل.

قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - معلّقاً على قوله: «مع ما في الأخيرين» الخ ما لفظه: «يعني يرد إشكال آخر على القائل بأحد الأخيرين، وهو أنّه لو بنى على وجوب رفع اليد عن الظهور يدور الأمر بين المحتملات المذكورة، وتعيين واحد منها - كما يدّعيه القائل به - يحتاج إلى دليل وهو مفقود، وإنّما خصّه بالأخيرين؛

ص: 52

إن قلت: وجه ذلك هو لزوم التصرّف في ظهور الجملة الشّرطيّة؛ لعدم إمكان الأخذ بظهورها، حيث إنّ قضيّته اجتماع الحكمين في الوضوء - في المثال - كما مرّت الإشارة إليه.

قلت: نعم، إذا لم يكن المراد بالجملة - في ما إذا تعدّد الشّرط، كما في المثال - هو وجوب الوضوء - مثلاً - بكلّ شرطٍ غير ما وجب بالآخر، ولا ضير في كون فرد محكوماً بحكم فرد آخر أصلاً،

___________________________________________

لأنّ الأوّل راجع إلى دعوى الظهور فيه، كما وهو يظهر من ملاحظة عبارته بخلاف الأخيرين، فإنّ ظاهر عبارتهما تسليم عدم الظهور فيهما، فتأمّل جدّاً»(1)، انتهى.

{إن قلت: وجه ذلك} التصرّف الّذي ذكرنا {هو لزوم التصرّف في ظهور الجملة الشّرطيّة} في تعدّد وجوب الجزاء بتعدّد الشّرط {لعدم إمكان الأخذ بظهورها، حيث إنّ قضيّته} أي: مقتضى هذا الظهور {اجتماع الحكمين} المتماثلين {في الوضوء - في المثال - كما مرّت الإشارة إليه} فحيث يتعذّر اجتماع الحكمين لا بدّوأن نلتزم بإحدى التصرّفات الثّلاثة المذكورة.

{قلت: نعم} نحتاج إلى إحدى التصرّفات {إذا} التزمنا بوحدة الجزاء كالوضوء بأن {لم يكن المراد بالجملة} الشّرطيّة {في ما إذا تعدّد الشّرط - كما في المثال - هو وجوب الوضوء مثلاً بكلّ شرط} من جنس واحد كانا أم من جنسين {غير ما وجب بالآخر، ولا ضير في كون فرد محكوماً بحكم فرد آخر أصلاً}.

والحاصل: إذا التزمنا بوجوب وضوءٍ واحدٍ عقيب الشّرط المتعدّد، فاللّازم أن نتصرّف في الجملة الشّرطيّة بإحدى التصرّفات المذكورة: أمّا حيث لا ملزم لهذا الالتزام، بل هو خلاف ظاهر الجملة، فالواجب القول بتعدّد الجزاء حين تعدّد الشّرط بأن يقتضي كلّ شرط جزاءً، فإذا نام وجب عليه وضوء، وإذا بال وجب عليه

ص: 53


1- حقائق الأصول 1: 464.

كما لا يخفى.

إن قلت: نعم، لو لم يكن تقدير تعدّد الفرد على خلاف الإطلاق.

قلت: نعم، لو لم يكن ظهور الجملة الشّرطيّة - في كون الشّرط سبباً أو كاشفاً عن السّبب - مقتضياً لذلك - أي: لتعدّد الفرد - ، وإلّا كان بياناً لما هو المراد من الإطلاق.

___________________________________________

وضوء آخر، وهكذا.

ومن الواضح أنّ وجوب فردين من طبيعة واحدة لا يستلزم اجتماع المثلين {كما لا يخفى} نعم، إذا قام دليل على عدم التعدّد، فاللّازم التصرّف في ظهور الجملة الشّرطيّة.{إن قلت: نعم} يجب الحمل على تعدّد الجزاء حتّى لا يحتاج إلى التصرّفات المذكورة {لو لم يكن تقدير تعدّد الفرد} وفرضه {على خلاف الإطلاق} أي: إطلاق مادّة الجزاء، أمّا لو كان فرض تعدّد الفرد على خلاف إطلاق مادّة الجزاء، فاللّازم التحفّظ على الإطلاق والذهاب إلى إحدى التصرّفات المذكورة.

ثمّ إنّ وجه كونه خلاف إطلاق المادّة أنّ قوله(علیه السلام): «إذا بلت فتوضّأ» ظاهره وجوب مطلق الوضوء لا وجوب وضوء آخر، فإنّ تقييد الوضوء الواقع في الجزاء بقيد وهو كلمة (آخر) خلاف إطلاقه.

{قلت: نعم} تقدير تعدّد الفرد خلاف الإطلاق {لو لم يكن ظهور الجملة الشّرطيّة - في كون الشّرط سبباً أو كاشفاً عن السّبب - مقتضياً لذلك، أي: لتعدّد الفرد} وقوله: «في كون» متعلّق ب- «ظهور» وقوله: «مقتضياً» خبر «لم يكن» {وإلّا} فلو كان الظهور مقتضياً لتعدّد الفرد عرفاً {كان بياناً لما هو المراد من الإطلاق} يعني أنّ تعدّد الفرد - كأن يقيّد الوضوء بوضوء آخر - وإن كان خلاف الإطلاق، لكن حيث إنّ ظاهر الجملة الشّرطيّة حدوث الجزاء عند وجود الشّرط، - وهذا مستلزم لتعدّد الفرد - فلا بدّ وأن يكون هذا الظهور بياناً للإطلاق وأنّه مقيّد.

ص: 54

وبالجملة: لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الإطلاق؛ ضرورة أنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقاً على عدم البيان، وظهورَها في ذلك صالحٌ لأن يكون بياناً، فلا ظهور له مع ظهورها، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرّف أصلاً، بخلاف القول بالتداخل، كما لا يخفى.

___________________________________________

وإن شئت قلت: يتصادم أمران:الأوّل: ظهور الجملة الشّرطيّة في حدوث الجزاء المقتضي لتعدّد الفرد.

الثّاني: ظهور إطلاق «توضّأ» مثلاً في كونها طبيعة واحدة من غير تعدّد، وحينئذٍ يكون الأمر الأوّل قرينة لرفع اليد عن الإطلاق، فاللّازم القول بتعدّد الفرد.

{وبالجملة لا دوران بين ظهور الجملة} الشّرطيّة {في حدوث الجزاء} المقتضي للتعدّد {و} بين {ظهور الإطلاق} في وحدة الطبيعة المقتضي لعدم التعدّد، حتّى يقال لا وجه لتقديم أحد الظهورين على الآخر، بل ظهور الجملة مقدّم على ظهور الإطلاق {ضرورة أنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقاً على عدم البيان، وظهورها} أي: الجملة الشّرطيّة {في ذلك} التعدّد الّذي ذكرناه {صالح لأن يكون بياناً} وحينئذٍ {فلا ظهور له} أي: لا ظهور للإطلاق في وحدة الطبيعة {مع ظهورها} أي: الجملة الشّرطيّة في التعدّد {فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرّف أصلاً} لا في الجملة الشّرطيّة، لما تقدّم من ظهورها في التعدّد، ولا في الإطلاق؛ لأنّه لا ينعقد إطلاق مع البيان - كما تقرّر في محلّه - ولذا يقال: إنّ نحو (أكرم العالم العادل) ليس مجازاً، مع أنّ العالم مقيّد بقيد العادل {بخلاف القول بالتداخل} فإنّه يلزم منه التصرّف في ظهور الجملة الشّرطيّة في التعدّد {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش ما لفظه: «هذا واضح بناءً على ما يظهر من شيخنا العلّامة من كون ظهور الإطلاق معلّقاً على عدم البيان مطلقاً - أي: إلى الأبد - ولو كان منفصلاً، وأمّا بناءً على ما أفدناه في غير مقام من أنّه - أي:

ص: 55

فتلخّص بذلك: أنّ قضيّة ظاهر الجملة الشّرطيّة هو القول بعدم التداخل عندتعدّد الشّرط.

وقد انقدح ممّا ذكرناه: أنّ المُجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه الّتي ذكرناها، لا مجرّد كون الأسباب الشّرعيّة معرّفات لا مؤثّرات.

___________________________________________

الإطلاق - إنّما يكون معلّقاً على عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقاً - أي: ولو منفصلاً - فالدّوران حقيقة بين الظهور - أي: ظهور الجملة الشّرطيّه في التعدّد وظهور الإطلاق في الوحدة - حينئذٍ وإن كان إلّا أنّه لا دوران بينهما حكماً؛ لأنّ العرف لا يكاد يشكّ بعد الاطّلاع على تعدّد القضيّة الشّرطيّة أنّ قضيّته تعدّد الجزاء، وأنّه في كلّ قضيّة وجوب فرد غير ما وجب في الأُخرى، كما إذا اتصلت القضايا وكانت في كلام واحد، فافهم»(1)،

انتهى.

فتحصّل: أنّ القيد لو كان متصلاً أو كان منفصلاً وقلنا بمقالة الشّيخ(رحمة الله) فاللّازم تقييد الإطلاق صناعة، وإن كان منفصلاً ولم نقل بمقالته فاللّازم تقييده لظهوره عرفاً في ذلك، إذ يدور الأمر بين القول بالتداخل وأحد التصرّفات المذكورة وبين القول بعدم التداخل والتصرّف في الإطلاق، والثّاني أظهر عند العرف من الأوّل.

{فتلخّص بذلك} البيان المتقدّم {أنّ قضيّة ظاهر الجملة الشّرطيّة هو القول بعدم التداخل عند تعدّد الشّرط} بل يجب إتيان الجزاء بعدد أفراد الشّرط، سواء اتحدت جنساً كبولين، أم اختلفت: كبول ونوم.

{وقد انقدح ممّا ذكرناه} من وجوه التصرف على القول بالتداخل وأنّه لا بدّ من التصرّف بإحدى تلك الوجوه حتّى تتمكّن من القولبالتداخل {أنّ المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه} الثّلاثة {الّتي ذكرناها لا مجرّد كون الأسباب الشّرعيّة معرّفات لا مؤثّرات}.

ص: 56


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 305.

فلا وجه لما عن الفخر(1)

وغيره(2)

من ابتناء هذه المسألة على أنّها

___________________________________________

اعلم أنّه حكي عن فخر المحقّقين أنّه قال: «الأسباب الشّرعيّة في الغالب معرّفات، بخلاف الأسباب العرفيّة فإنّها في الغالب مؤثّرات»(3).

وتوضيحه: أنّ ما جعله الشّارع سبباً لشيء ليس في الحقيقة مؤثّراً وإنّما هو كاشف عن مؤثّر حقيقيّ واقعي.

مثلاً: عبور الحمرة عن وسط السّماء وإن كان في ظاهر الدليل سبباً لوجوب صلاة المغرب لكن في الحقيقة إنّما هو معرّف عن استتار القرص وكاشف له والمؤثّر الحقيقي هو الاستتار، وكذا جعل مكعّب ثلاثة أشبار ونصف - مثلاً - سبباً لعصمة الماء ليس على نحو الحقيقة، بل هو كاشف عن وجود مقدار من الماء بحيث يكون عاصماً، وهكذا غيرهما من سائر الأمثلة، وهذا بخلاف الأسباب العرفيّة فإنّ جعلهم النّار سبباً للإحراق إنّما يعنون العلّة المؤثّرة وكذا غيره.

ثمّ قال الفخر: إنّ القول بالتداخل مبتنٍ على ما ذكرنا؛ لأنّ الأسباب الشّرعيّة لمّا كانت معرّفات أمكن اجتماع كثير منها على شيء واحد، فالسبب الحقيقي واحد والكاشف عنه كثير، فالبول والغائط والرّيح كلّها كاشفة عن ظلمة نفسيّة يذهبها الوضوء، ولهذا لا يلزم تعدّد الوضوء عند تعدّد هذا النّحو من الأسبابالّتي هي كواشف في الواقع؛ لأنّ السّبب واحد بخلاف الأسباب العرفيّة، فإنّ كلّ واحد سبب حقيقي ومؤثّر مستقلّ، فيلزم تعدّد المعلول لدى تعدّد السّبب.

ولكن حيث عرفت أنّ مسألة التداخل تبتني على إحدى الوجوه المذكورة {فلا وجه لما عن الفخر وغيره من ابتناء هذه المسألة} أي: مسألة التداخل {على أنّها} أي:

ص: 57


1- إيضاح الفوائد 1: 145.
2- عوائد الأيام: 294.
3- مطارح الأنظار 2: 53؛ عن إيضاح الفوائد 1: 136.

معرّفات أو مؤثّرات. مع أنّ الأسباب الشّرعيّة حالها حال غيرها، في كونها معرّفاتٍ تارةً، ومؤثّراتٍ أُخرى؛ ضرورة أنّ الشّرط للحكم الشّرعي في الجملة الشّرطيّة ربّما يكون ممّا له دخل في ترتّب الحكم، بحيث لولاه لما وجدت له علّة،

___________________________________________

الأسباب الشّرعيّة {معرّفات} فيتداخل {أو مؤثّرات} فلا يتداخل، فالتداخل مبني على المعرفيّة، لإمكان اجتماع معرّفات كثيرة على شيء واحد، والتعدّد مبني على كونها مؤثّرات حقيقة، لاقتضاء كلّ مؤثّر أثراً مستقلّاً.

وإنّما قلنا بأنّه لا وجه لهذا القول لأنّه على فرض تسليم كون الأسباب الشّرعيّة من قبيل المعرّفات لا يستقيم ما ذكره، لجواز أن تكون الأسباب الشّرعيّة المتعدّدة حاكية لأسباب حقيقيّة متعدّدة، كأن يكون البول حاكياً عن ظلمة والغائط عن ظلمة أُخرى وهكذا، فمجرّد كونها حاكيات لا يجدي القول بالتداخل ما لم يثبت كونها حاكيات عن شيء واحد، وأنّى لهم بإثباته.

إن قلت: الأصل العدم، فإنّا نشكّ في تعدّد السّبب الحقيقي فالأصل البراءة.

قلت: ظهور الجمل الشّرطيّة في كون كلّ من هذه الأُمور سبباً وعلّة للوضوء حاكم على هذا الأصل.

هذا كلّه على تقدير تسليم المبنى {مع أنّ} كون {الأسبابالشّرعيّة} من قبيل المعرّفات مطلقاً، ممنوع، بل {حالها حال غيرها في كونها معرّفات تارةً ومؤثّرات أُخرى} فكلّ من الأسباب الشّرعيّة والعرفيّة على قسمين: فتارة معرّف، وتارة كاشف {ضرورة أنّ الشّرط للحكم الشّرعي في الجملة الشّرطيّة ربّما يكون ممّا له دخل في ترتّب الحكم بحيث لولاه لما وجدت له} أي: للحكم {علّة} وربّما يكون كاشفاً فقط بحيث لولاه لكانت العلّة موجودة، إذ العلّة والمؤثّر لا يتوقّف على الكاشف، بل الأمر بالعكس.

ص: 58

كما أنّه في الحكم الغير الشّرعي قد يكون أمارة على حدوثه بسببه، وإن كان ظاهر التعليق أنّ له الدخل فيهما، كما لا يخفى.

نعم، لو كان المراد بالمعرفيّة في الأسباب الشّرعيّة: أنّها ليست بدواعي الأحكام الّتي هي في الحقيقة علل لها، وإن كان لها دخل في تحقّق موضوعاتها،

___________________________________________

فالأوّل: مثل قوله(علیه السلام): «إذا شككت فابن على الأكثر»(1)،

فإنّ الشّكّ علّة للحكم، فتدبّر.

والثّاني: نحو عبور الحمرة للمغرب كما تقدّم.

{كما أنّه} أي: الشّرط {في الحكم الغير الشّرعي} أيضاً على قسمين: فقد يكون علّة نحو (إذا طلعت الشّمس كان النّهار موجوداً) و{قد يكون أمارة} وكاشفاً {على حدوثه} أي: حدوث الحكم {بسببه} ومؤثّره الحقيقي نحو (إذا كان النّهار موجوداًكانت الشّمس طالعة) {وإن كان ظاهر التعليق} أي: تعليق الجزاء على الشّرط {أنّ له} أي: الشّرط {الدخل فيهما} أي: في الحكم الشّرعي وغير الشّرعي {كما لا يخفى}.

وبهذا تحقّق عدم صحّة قول الفخر من وجهين:

الأوّل: عدم ابتناء القول بالتداخل على كون الأسباب الشّرعيّة معرّفات.

الثّاني: عدم صحّة القول بكون الأسباب الشّرعيّة معرّفات، بل بعضها معرّفات وبعضها مؤثّرات. {نعم، لو كان المراد بالمعرفيّة في الأسباب الشّرعيّة أنّها ليست بدواعي الأحكام الّتي} صفة «دواعي» {هي في الحقيقة علل لها} أي: لتلك الأحكام، فلا يكون البول - مثلاً - علّة لوجوب الوضوء؛ لأنّ الداعي هي المصلحة الموجبة لوجودها {وإن كان لها} أي: لهذه الأسباب الشّرعيّة {دخل في تحقّق موضوعاتها} أي: موضوعات تلك الدواعي، فالأمر بالتوضّي مسبّب عن وجود

ص: 59


1- الفصول المهمة في أصول الأئمة(علیهم السلام) 2: 115.

بخلاف الأسباب غير الشّرعيّة، فهو وإن كان له وجه، إلّا أنّه ممّا لا يكاد يتوهّم أنّه يجدي في ما همّ وأراد.

ثمّ إنّه لا وجه للتفصيل بين اختلاف الشّروط بحسب الأجناس وعدمه، واختيار عدم التداخل في الأوّل، والتداخل في الثّاني(1)، إلّا توهّم عدم صحّة التعلّق بعموم اللفظ في الثّاني؛

___________________________________________

مصلحة تطهير النّفس، والموضوع لهذه المصلحة النّفس المظلمة والبول دخيل في ظلمة النّفس، فبالبول يتحقّق موضوع المصلحة والمصلحة هي العلّةللإيجاب {بخلاف الأسباب غير الشّرعيّة} فإنّها في الغالب بنفسها علّة لوجود المسبّب. مثلاً: قولنا: (سبب وجود النّهار طلوع الشّمس) بمعنى أنّ العلّة لوجوده طلوعها لا أنّ هناك شيئاً آخر، كما لا يخفى {فهو وإن كان له وجه} لصحّة القول بأنّ الأسباب الشّرعيّة حاكيات عن المصالح بهذا المعنى {إلّا أنّه ممّا لا يكاد يتوهّم أنّه يجدي في ما همّ} فخر المحقّقين(رحمة الله) {وأراد} من القول بالتداخل، وذلك لما تقدّم من أنّ السّبب حينئذٍ كاشف عن المصلحة، ومن المحتمل أن يكون كلّ سبب كاشفاً عن مصلحة، فيكون هناك مصالح يجب استيفاؤها بإتيان الشّيء مراراً.

{ثمّ إنّه لا وجه للتفصيل بين اختلاف الشّروط بحسب الأجناس} كالبول والنّوم {و} بين {عدمه} كالبول مرّتين {واختيار عدم التداخل في الأوّل} فيجب وضوءان {والتداخل في الثّاني} فوضوء واحد {إلّا توهّم عدم صحّة التعلّق} أي: الاستدلال {بعموم اللفظ} أي: لا يصحّ أن يقال: لفظ الجملة الشّرطيّة عامّ بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراد الطّبيعة، فقوله: «إن بلت فتوضّأ» يشمل البول الأوّل فيجب وضوء، والبول الثّاني فيجب وضوء آخر {في الثّاني} أي: في ما كان الأفراد من جنس واحد،

ص: 60


1- السرائر 1: 258.

لأنّه من أسماء الأجناس، فمع تعدّد أفراد شرط واحد لم يوجد إلّا السّبب الواحد، بخلاف الأوّل؛ لكون كلّ منها سبباً، فلا وجه لتداخلها.

وهو فاسد؛ فإنّ قضيّة إطلاق الشّرط في مثل: «إذا بلت فتوضّأ» هو حدوث الوجوب عند كلّ مرّة لو بال مرّات،

___________________________________________

ووجه عدم صحّة التعلّق بقوله: {لأنّه} أي: الشّرط كالبول {من أسماء الأجناس فمع تعدّد أفراد شرط واحد لم يوجد إلّا السّبب الواحد} وحين كان من أسماء الأجناس فلا دلالة فيه على العموم بل يكون نفس الطبيعة سبباً، من غير فرق بين أن يوجد مرّة أو مراراً، مثلاً إذا قال المولى: (إن كان في الدار من جنس الحيوان شيء وجب عليك الحراسة) فإنّه تجب الحراسة بوجود هذا الجنس واحداً كان أم متعدداً، لا أنه تجب الحراسة بعدد أفراد الحيوان، ومثله ما نحن فيه، فإن معنى قوله: «إذا بلت فتوضأ» وجب الوضوء عند وجود هذا الجنس سواء حصل فرد واحد، أم أفراد متعدّدة.

وهذا {بخلاف الأوّل} الّذي يتعدّد الأجناس المختلفة {لكون كلّ منها} أي: من الأجناس كالبول والغائط والنّوم {سبباً} مستقلّاً لوجوب الوضوء {فلا وجه لتداخلها}.

هذا تمام الكلام في الوجه الّذي ذكروه للتفصيل المحكي عن الحلّي {وهو فاسد، فإنّ قضيّة إطلاق الشّرط في مثل: «إذا بلت فتوضّأ» هو حدوث الوجوب} للوضوء {عند كلّ مرّة لو بال مرّات} إذ ظاهر الجملة الشّرطيّة حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط كما لو قال: (إن جاءك عالم فأكرمه) فإنّه لو جاء عالم وجب إكرامه، ثمّ لو جاء عالم آخر وجب إكرامه أيضاً، لصدق القضيّة الشّرطيّة عند كلّ مرّة، والقول بأنّه من أسماء الأجناس فلا يفيد التعدّد باطل بعد ما ذكر من الظهور، إذ العرف لا يفهمون من القضيّة الشّرطيّه إلّا سريان طبيعة العلّة في كلّ

ص: 61

وإلّا فالأجناس المختلفة لا بدّ من رجوعها إلى واحد، في ما جعلت شروطاً وأسباباًلواحد، لما مرّت إليه الإشارة: من أنّ الأشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسباباً لواحد.

هذا كلّه في ما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلاً للتعدّد، وأمّا ما لا يكون قابلاً لذلك، فلا بدّ من تداخل الأسباب فيه في ما لا يتأكّد المسبّب، ومن التداخل فيه في ما يتأكّد.

___________________________________________

فرد، كما لا يخفى {وإلّا} فلو كانت الجملة الشّرطيّة لا تدلّ على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرّد الثّبوت {فالأجناس المختلفة} كالبول والنّوم أيضاً كذلك، إذ {لا بدّ من رجوعها إلى واحد} كالأفراد من الجنس الواحد، فإن الأجناس المختلفة لا بدّ من إرجاعها إلى جامع واحد به تؤثّر في شيء واحد {في ما جعلت شروطاً وأسباباً لواحد، لما مرّت إليه الإشارة من أنّ الأشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسباباً لواحد} فإنّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد.

والحاصل: أنّ التفصيل بين اختلاف الجنس واتحاد الجنس لا وجه له، بل يجب القول إمّا بالتداخل في الجميع أو التعدّد في الجميع.

{هذا كلّه في ما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلاً للتعدّد} كالوضوء والغسل والإكرام ونحوها {وأمّا ما لا يكون قابلاً لذلك} كما لو قال: (إن ارتدّ زيد فاقتله وإن لاط فاقتله)، أو قال: (إن أكرمك عبدك فاعتقه، وإن صام فاعتقه) وأمثال ذلك {فلا بدّ من تداخل الأسباب فيه في ما لا يتأكّد المسبّب} كما تقدّم من مثال القتل {ومنالتداخل فيه في ما يتأكّد} المسبّب، كما لو مات في البئر حيوانان، فإنّ نجاسة البئر ليست قابلة للتعدّد وإنّما تكون قابلة للتأكّد. وفي المثالين نظر، فتدبّر، واللّه العالم وهو الموفّق.

ص: 62

فصل: الظاهر أنّه لا مفهوم للوصف

وما بحكمه مطلقاً؛ لعدم ثبوت الوضع،

___________________________________________

[فصل مفهوم الوصف]

اشارة

المقصد الثّالث: في المفاهيم، مفهوم الوصف

{فصل} في مفهوم الوصف {الظاهر أنّه لا مفهوم للوصف} بحيث يفيد انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف {وما بحكمه} كالحال نحو (أكرم العالم عادلاً) {مطلقاً} سواء كان الوصف معتمداً على الموصوف نحو (أكرم الرّجل العالم) أم لا نحو (أكرم العالم) أم لا نحو (أكرم العالم) وسواء كان الوصف علّة للحكم أم لا، وسواء كان بين الوصف والموصوف تساوياً، أو عموماً مطلقاً، أو من وجهٍ.

نعم، لو كان الوصف علّةً منحصرةً للحكم، نحو: (صلّ خلف العادل) لزم انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، ولكن ليس ذلك من جهة المفهوم بل من جهة كون العلّة المنحصرة - كما سيأتي - .

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وكيف كان، فوجه عدم المفهوم هو أنّه لو كان دالّاً على المفهوم لكان ذلك إمّا بالوضع - بأنّ الهيئة التركيبيّة من المقيّد والقيد موضوعة للدلالة على الخصوصيّة المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء - أو بالانصراف العرفي، أو لأجل لزوم اللغويّة بدونه ولا يرتكبه المولى الحكيم، أو لأجل أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً، أو لأجل ما هو المعروف على الألسنة من أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعليّة»(1)،

انتهى.لا سبيل إلى الأوّل: {لعدم ثبوت الوضع}.

ولا إلى الثّاني: لعدم الانصراف بعد فهم العرف في كثير من الموارد فوائد أُخرى غير المفهوم.

ص: 63


1- شرح كفاية الأصول 1: 286.

وعدم لزوم اللغويّة بدونه؛ لعدم انحصار الفائدة به، وعدمِ قرينة أُخرى ملازمة له.

وعليّته - في ما إذا استفيدت - غير مقتضية له، كما لا يخفى. ومع كونها بنحو الانحصار وإن كانت مقتضية له، إلّا أنّه لم يكن من مفهوم الوصف؛ ضرورة أنّه قضيّة العليّة الكذائيّة المستفادة من القرينة عليها في خصوص مقام، وهو ممّا لا إشكال فيه ولا كلام،

___________________________________________

{و} لا إلى الثّالث ل- {عدم لزوم اللغويّة بدونه} أي: بدون المفهوم {لعدم انحصار الفائدة به} أي: لا تنحصر فائدة الوصف بالمفهوم حتّى يلزم من عدمه اللغويّة، فإنّ للوصف فوائد أُخرى مثل الاعتناء بمحلّ الوصف دون غيره ونحو ذلك.

{و} لا إلى الرّابع والخامس ل- {عدم قرينة أُخرى ملازمة له} لعدم تماميّة كون الأصل في القيد الاحترازي، فإنّ للقيد فوائد أُخرى، كما تقدّم.

وأمّا إشعار الوصف بالعليّة فهو غير ملازم للمفهوم؛ لأنّ المفيد للمفهوم كون العلّة منحصرة لا مطلق العليّة، وإلى هذا أشار بقوله: {وعليّته} أي: عليّة الوصف للحكم {في ما إذا استفيدت غير مقتضية له} أي: للمفهوم؛ لأنّ المفيد هو العلّة المنحصرة لا مطلق العليّة {كما لا يخفى}.

{ومع كونها بنحوالانحصار - وإن كانتمقتضية له} لضرورة انتفاء المعلول بانتفاء علّته المنحصرة - {إلّا أنّه لم يكن من مفهوم الوصف} في شيء {ضرورة أنّه} أي: المفهوم {قضيّة العليّة الكذائيّة المستفادة من القرينة عليها في خصوص مقام} وجود هذه القرينة الخاصّة {وهو ممّا لا إشكال فيه ولا كلام} وإنّما الكلام في استفادة المفهوم في جميع الموارد، سواء كانت قرينة على العليّة المنحصرة أم لا.

ثمّ إنّ المحكي عن العلّامة(رحمة

الله) التفصيل في المقام، فقال بالمفهوم في ما كان

ص: 64

فلا وجه لجعله تفصيلاً في محلّ النّزاع ومورداً للنقض والإبرام(1).

ولا ينافي ذلك ما قيل(2)

من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً؛ لأنّ الاحترازيّة لا توجب إلّا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضيّة، مثل ما إذا كان بهذا الضّيق بلفظٍ واحدٍ. فلا فرق أن يقال: (جئني بإنسان)، أو: (بحيوان ناطق).

___________________________________________

الوصف علّة دون غيره، وأشار المصنّف(رحمة الله) إلى ردّه بقوله: {فلا وجه لجعله تفصيلاً في محلّ النّزاع ومورداً للنقض والإبرام} إذ لو كان المراد من العلّة في كلامه مطلق العلّة فلا وجه للقول بالمفهوم أصلاً، وإن كان المراد العلّة المنحصرة فلما تقدّم من أنّ استفادة المفهوم حينئذٍ كان بسبب قرينة انحصار العلّة وهو خارج عن محلّ الكلام، وإنّما القول في استفادة المفهوم من نفس الجملة الوصفيّة.{ولا ينافي ذلك} الّذي ذكرنا من عدم المفهوم {ما قيل من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً} وجه المنافاة أنّ معنى كون القيد احترازيّاً لا توضيحيّاً عدم الحكم عند عدم القيد وهو ينافي قولكم بعدم المفهوم.

وإنّما قلنا بعدم المنافاة {لأنّ الاحترازيّة لا توجب إلّا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضيّة} فمعنى (أكرم الرّجل العالم) وجوب إكرام العالم {مثل ما إذا كان} موضوع الحكم {بهذا الضّيق بلفظٍ واحدٍ} بلا وصف وموصوف {فلا فرق أن يقال: (جئني بإنسان)} حيث إنّ الموضوع مضيّق بلفظٍ واحدٍ {أو: (بحيوان ناطق)} فإنّ الحيوان وسيع وضيّقه بالوصف بالناطقيّة.

وكيف كان، فالمستفاد من المضيّق هو ثبوت الحكم له، لا نفي الحكم عن غيره، فمعنى قولهم: «إنّ الأصل في القيد الاحترازيّة» هو أنّ المستفاد من القيد

ص: 65


1- نهاية الوصول 1: 447.
2- راجع هداية المسترشدين 2: 471.

كما أنّه لا يلزم في حمل المطلق على المقيّد - في ما وجد شرائطه - إلّا ذلك، من دون حاجة فيه إلى دلالته على المفهوم؛

___________________________________________

السّكوت عن غيره، لا نفي غيره، فلو قال: (أكرم الرّجل العالم) فهو ساكت عن الجاهل نفياً وإثباتاً، فلا يجب على القيد إكرامه، لا أنّه ينفيه بحيث يحرم إكرامه، وهذا مثل لو قال: (أكرم زيداً) فإنّه ساكت عن عمرو، لا أنّه يحرم إكرام عمرو.

والحاصل: أنّ انتفاء الحكم عند انتفاء الموضوع لا دخل له بالمفهوم، فخطاب (أكرم العالم) ساكت عن إكرام غيره، لا أنّه دالّ على عدم إكرام غيره.ثمّ إنّه يحكى عن الشّيخ البهائي(رحمة

الله) أنّه قال: إنّ حمل المطلق على المقيّد في مثل: (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة) إنّما هو لمفهوم الوصف، فإنّ مفهوم (أعتق رقبة مؤمنة) عدم كفاية عتق غير المؤمنة - كما كان مفهوم (أكرم العالم) عدم جواز إكرام الجاهل - فلذا يقيّد المطلق ويحكم بعدم كفايته في مقام الامتثال.

وعلى هذا أشكل على المشهور بالتنافي بين قوليهما في باب المفهوم وباب المطلق والمقيّد، إذ لو لم يكن المفهوم حجّة لزم عدم حمل المطلق على المقيّد، وإن كان حمل المطلق على المقيّد صحيحاً لزم أن يكون المفهوم حجّة(1).

وأجاب المصنّف(رحمة الله) عن ذلك بقوله: {كما أنّه لا يلزم في حمل المطلق على المقيّد في ما وجد شرائطه} أي: شرائط الحمل {إلّا ذلك} التضييق المتقدّم فيكون مفاد المطلق والمقيّد معاً وجوب عتق الرّقبة المؤمنة، كما لو لم يكن مطلق في البين أصلاً، فيكون حاصلهما وجوب المقيّد والسّكوت عن المطلق {من دون حاجة فيه} أي: في هذا الحمل {إلى دلالته} أي: المقيّد {على المفهوم} المستفاد من الوصف.

ص: 66


1- حكاه عنه في قوانين الأصول 1: 329؛ وهداية المسترشدين 2: 475.

فإنّه من المعلوم أنّ قضيّة الحمل ليس إلّا أنّ المراد بالمطلق هو المقيّد، وكأنّه لا يكون في البين غيره. بل ربّما قيل(1): «إنّه لا وجه للحمل لو كان بلحاظ المفهوم؛ فإنّ ظهوره فيه ليس بأقوى من ظهور المطلق في الإطلاق كي يحمل عليه، لو لم نقل بأنّه أقوى؛ لكونه بالمنطوق، كمالا يخفى».

___________________________________________

فتحصّل في الجواب: أنّ الحمل ليس من باب مفهوم الوصف حتّى ينافي قولهم بعدم المفهوم {فإنّه من المعلوم أنّ قضيّة الحمل ليس إلّا أنّ المراد بالمطلق هو المقيّد} مع السّكوت عن حكم غيره، لا مع بيان عدم كفايته الّذي كان هو مقتضى المفهوم {وكأنّه لا يكون في البين غيره} أي: غير المقيّد، فالمقيّد مبيّن لتضييق دائرة المطلق ولا يبيّن عدم كفاية غيره، وقد بيّنّا سابقاً أنّ سكوت الدليل عن حكم غير موضوعه لا دخل له بالمفهوم، بل الدخيل في المفهوم دلالة الدليل على عدم الحكم في غيره.

{بل ربّما قيل: «إنّه لا وجه للحمل} أي: حمل المطلق على المقيّد {لو كان بلحاظ المفهوم} المستفاد من الوصف، إذ لو كان بهذا اللحاظ تعارض ظهوران:

الأوّل: ظهور المطلق في الإطلاق المقتضي لكفاية حتّى غير المؤمنة.

الثّاني: ظهور الوصف في المفهوم المقتضي لعدم كفاية غير المؤمنة.

ولا وجه لتقدّم الثّاني على الأوّل {فإنّ ظهوره} أي: ظهور الوصف {فيه} أي: في المفهوم {ليس بأقوى من ظهور المطلق في الإطلاق كي} يقدّم الوصف على الإطلاق و{يحمل عليه، لو لم نقل بأنّه} أي: الظهور الإطلاقي {أقوى لكونه بالمنطوق، كما لا يخفى»} وسيأتي في باب المطلق والمقيّد أنّ وجه الحمل هو التنافي الواقع بينهما بسبب دليل خارجي دلّ على وحدة التكليف من إجماع وغيره بحيث لولاه لما حمل المطلق على المقيّد، فالدليل الخارجي أورث التنافي

ص: 67


1- مطارح الأنظار 2: 83.

وأمّا الاستدلال على ذلك - أي: على عدمالدلالة على المفهوم - بآية {رَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم}(1)، ففيه: أنّ الاستعمال في غيره أحياناً مع القرينة ممّا لا يكاد ينكر، كما في الآية قطعاً.

مع أنّه يعتبر في دلالته عليه - عند القائل بالدلالة - أن لا يكون وارداً مورد الغالب - كما في الآية - ووجهُ الاعتبار واضح؛ لعدم دلالته معه على الاختصاص، وبدونها

___________________________________________

الموجب للحمل لا مفهوم الوصف، كما زعمه البهائي(رحمة الله).

{وأمّا الاستدلال على ذلك - أي: على عدم الدلالة} للوصف {على المفهوم - بآية {رَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم}} بتقريب أنّ الوصف في الآية - وهو قوله: «اللّاتي في حجوركم» - لو دلّ على المفهوم لزم عدم حرمة الرّبائب اللّاتي لسن في حجور الأزواج، وهو مخالف الضّرورة.

{ففيه أنّ الاستعمال} للوصف {في غيره} أي: غير المفهوم {أحياناً مع القرينة} الخارجيّة على عدم المفهوم {ممّا لا يكاد ينكر} حتّى من القائلين بالمفهوم {كما في الآية قطعاً} إذ قامت القرينة الخارجيّة على تحريم الرّبائب مطلقاً وهي تقتضي عدم المفهوم {مع أنّه} لو لم تقم قرينة في المقام لم نقل بالمفهوم أيضاً لفقد شرط المفهوم، إذ {يعتبر في دلالته} أي: الوصف {عليه} أي: على المفهوم {عند القائل بالدلالة أنلا يكون} الوصف {وارداً مورد الغالب كما في الآية} فإنّ الغالب كون الرّبائب في حجور الأزواج، إذ الرّبيبة مع أُمّها وهي مع زوجها غالباً {ووجه الاعتبار} لهذا الشّرط حتّى يدلّ على المفهوم {واضح لعدم دلالته} أي: الوصف {معه} أي: مع كون الوصف غالباً {على الاختصاص} أي: اختصاص الحكم بمورد الوصف المستلزم للمفهوم {وبدونها} أي: بدون دلالة

ص: 68


1- سورة النساء، الآية: 23.

لا يكاد يتوهّم دلالته على المفهوم، فافهم.

تذنيب: لا يخفى أنّه لا شبهة في جريان النّزاع في ما إذا كان الوصف أخصّ من موصوفه ولو من وجه، في مورد الافتراق من جانب الموصوف.

___________________________________________

الوصف على الاختصاص {لا يكاد يتوهّم دلالته على المفهوم} إذ الوصف حينئذٍ يكون توضيحيّاً لا احترازيّاً.

ومن البديهي أنّ الوصف التوضيحي لا يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى بطلان اشتراط المفهوم بعدم كون الوصف غالبيّاً، كما في حاشية المشكيني(رحمة الله) وغيره(1)،

فراجع.

[تذنيب]

{تذنيب} في بيان نسبة الوصف مع الموصوف {لا يخفى} أنّ الوصف الّذي هو محلّ الكلام إذا لوحظ مع موصوفه يكون على أحد أقسام أربعة:

الأوّل: أن يكون مساوياً معه نحو: (الإنسان النّاطق).

الثّاني: أن يكون أعمّ منه مطلقاً، نحو: (الإنسان الماشي).الثّالث: أن يكون أخصّ منه مطلقاً، نحو: (الإنسان العادل).

الرّابع: أن يكون بينهما عموم من وجه، نحو: (الإنسان الأبيض).

إذا عرفت هذا فاعلم {أنّه لا شبهة في جريان النّزاع} نفياً وإثباتاً {في ما إذا كان الوصف أخصّ من موصوفه} مطلقاً ك- (الإنسان العادل) {ولو من وجه} ك- (الإنسان الأبيض) فإنّه {في مورد الافتراق من جانب الموصوف} بأن يكون الموصوف ولا يكون الوصف، ك- (الإنسان غير العادل) و(غير الأبيض) يقول المفهومي: لا حكم فيهما، ويقول غيره: ساكت عنهما.

ص: 69


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 320.

وأمّا في غيره: ففي جريانه إشكالٌ، أظهره عدمُ جريانه. وإن كان يظهر ممّا عن بعض الشّافعيّة(1)

- حيث قال: قولنا: (في الغنم السّائمة زكاة) يدلّ على عدم الزكاة في معلوفة الإبل - جريانُهُ فيه، ولعلّ وجهه استفادة العليّة المنحصرة منه.

___________________________________________

{وأمّا في غيره} أي: غير ما كان الوصف أخصّ - وهو القسمان الأوّلان - أو ما كان الوصف أخصّ من وجه ولكن لا في مورد الافتراق من جانب الموصوف، بل من جانب الصّفة، ك- (الأبيض غير الإنسان) وكذا مع انتفاء الوصف والموصوف كليهما في صورة كان بينهما عموم من وجه، كما لو قال: (أكرم الإنسان الأبيض) بالنسبة إلى الفرس الأسود {ففي جريانه} أي: النّزاع {إشكال أظهره عدم جريانه} فلو قال: (أكرم الإنسانالنّاطق) أو (الماشي) أو (الأبيض) فغير (الإنسان النّاطق الماشي) ولو كان أبيضَ، ك- (الحجر الأبيض) لا يجري فيه النّزاع، إذ النّزاع في المفهوم إنّما هو في ما كان الموصوف باقياً وإنّما تبدّلت الصّفة.

أمّا مع ذهاب الموصوف فلا نزاع أصلاً، بل حاله عند الكلّ حال ما لو قال: (أكرم زيداً) فكما أنّه لا نزاع في إكرام عمرو وعدمه، كذلك هاهنا.

{وإن كان يظهر ممّا عن بعض الشّافعيّة - حيث قال: قولنا: (في الغنم السّائمة زكاة) يدلّ على عدم الزكاة في معلوفة الإبل - جريانه} أي: النّزاع {فيه} أي: في غير الأوّلين من الأقسام الأربعة الأُخر، حيث إنّه لو حكم بالجريان في مورد انتفاء الوصف والموصوف اللّذين بينهما عموم من وجه، فلا بدّ وأن يحكم في ما كان بينهما تساوٍ، أو كان الوصف أعمّ، أو كان بينهما عموم من وجه، مع انتفاء الموصوف فقط.

{ولعلّ وجهه} أي: وجه دلالته على عدم الزكاة في معلوفة الإبل {استفادة العليّة المنحصرة منه} أي: من الوصف، بمعنى أنّ علّة الزكاة مطلقاً هي السّوم،

ص: 70


1- نقل عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3: 72.

وعليه فيجري في ما كان الوصف مساوياً أو أعمّ مطلقاً أيضاً، فيدلّ على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه، فلا وجه للتفصيل بينهما وبين ما إذا كان أخصّ من وجه - في ما إذا كان الافتراق من جانب الوصف - بأنّه لا وجه للنزاع فيهما، معلّلاً بعدم الموضوع،

___________________________________________

فكلّما لم يجد السّوم، غنماً كان أو إبلاً أو بقراً، لم يحكم بالزّكاة.

{وعليه} أي: على هذا الوجه الّذي ذكرنا من استفادة انحصار العلّةالموجبة للمفهوم {فيجري} النّزاع {في ما كان الوصف مساوياً أو أعمّ مطلقاً} أو من وجه {أيضاً، فيدلّ} الوصف {على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه} أي: انتفاء الوصف المساوي أو الأعمّ مطلقاً أو من وجه.

والحاصل: أنّه على قول الشّافعي يكون النّزاع في ثمانية مواضع. بيان ذلك: أنّ صور انتفاء الأقسام الأربعة السّابقة ثمانية: فانتفاء (الإنسان النّاطق) واحد، وانتفاء (الإنسان الماشي) اثنان، وانتفاء (الإنسان العادل) اثنان، وانتفاء (الإنسان الأبيض) ثلاثة.

وبهذا كلّه تحقّق أنّ حال الوصف المساوي والأعمّ مطلقاً حال الأعمّ من وجه، فالجميع إمّا داخل في محلّ النّزاع أو خارج عنه، إذ مع ملاحظة استفادة العليّة يكون الجميع داخلاً، ومع ملاحظة مفهوم الوصف يكون الجميع خارجاً {فلا وجه للتفصيل} المحكي عن التقريرات(1)

{بينهما} أي: ما كان الوصف مساوياً أو أعمّ مطلقاً {وبين ما إذا كان أخصّ من وجه في ما إذا كان الافتراق من جانب الوصف} بأن وجد الوصف ولم يوجد الموصوف {بأنّه لا وجه للنزاع} متعلّق بقوله: «للتفصيل» {فيهما} أي: في الوصف المساوي والأعمّ {معلّلاً بعدم الموضوع} بعد انتفاء الوصف، والنّزاع في المفهوم إنّما يجري في ما كان الموضوع

ص: 71


1- مطارح الأنظار 2: 80.

واستظهار جريانه عن بعض الشّافعيّة فيه، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

فصل:

___________________________________________

باقياً {واستظهار جريانه} أي: النّزاع {عن بعض الشّافعيّة فيه} أي: في ما كان الوصف أخصّ من وجه، كما تقدّم من مثال (في الغنم السّائمة زكاة) وأنّ المفهوم منه عدم الزكاة في معلوفة الإبل.

وقد علّق العلّامة المشكيني(رحمة الله) على قوله: «من جانب الوصف» ما لفظه: «قد عبّر به في التقريرات(1) أيضاً، والظاهر أنّه سهو من القلم إذ افتراقه في الإبل السّائمة، ولا إشكال في عدم جريان النّزاع فيه من جهة الوصف، والمراد ما لم يصدق عليه واحد من الموصوف والصّفة وهي الإبل المعلوفة، كما يشهد به استظهار جريانه من بعض الشّافعيّة القائل بعدم الزكاة في معلوفة الإبل بمقتضى مفهوم في الغنم السّائمة زكاة»(2)،

انتهى.

والظاهر من ملاحظة كلام الأعلام كون النّزاع في ما ذكره المصنّف أوّلاً {كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً} واللّه الموفّق وهو العالم.

[فصل مفهوم الغاية]

المقصد الثّالث: في المفاهيم، مفهوم الغاية

{فصل} في مفهوم الغاية، اعلم أنّه وقع الخلاف في أنّ الغاية داخلة في المغيّى أم لا؟ مثلاً: لو قال: (سر من البصرة إلى الكوفة) فهنا أُمور ثلاثة: الأوّل المغيّى وهي ما قبل الكوفة، والثّاني الغاية وهي نفس الكوفة، والثّالث ما بعد الغاية وهو البيداء بعد الكوفة.

وكذا لو قال: (يجب الصّوم إلى المغرب) فالمغيّى ما قبل المغرب، والغاية نفس المغرب، وما بعد الغاية اللّيل.

ص: 72


1- مطارح الأنظار 2: 79.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 323.

هل الغاية في القضيّة تدلّ على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية - بناءً على دخول الغاية في المغيّى - أو عنها وبعدها -بناءً على خروجها - أو لا؟

___________________________________________

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ جماعة ذهبوا إلى دخول الغاية في حكم المغيّى، فمعنى (سِرْ إلى الكوفة) وجوب دخول الكوفة، ومعنى (صُمْ إلى المغرب) وجوب الإمساك حتّى المغرب.

وذهب آخرون إلى عدم دخول الغاية في حكم المغيّى، فالسير واجب إلى باب الكوفة ولا يجب دخولها، والصّوم واجب إلى أوّل المغرب ولا يجب حينه.

ثمّ إنّه على كلا القولين وقع النّزاع في أنّه {هل الغاية في القضيّة} أعني: (حتّى) و(إلى)(1)

{تدلّ على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية} بحيث يدلّ (سر من البصرة إلى الكوفة) على عدم السّير في بيداء ما بعد الكوفة.

وكذا يدلّ (صُمْ إلى المغرب) على عدم الصّوم في ما بعد المغرب، أي: الليل، وتحرير المبحث بهذا النّحو {بناءً على دخول الغاية في المغيّى} فالكوفة والمغرب داخلان في حكم السّير والصّوم، وإنّما الكلام في ما بعدهما {أو} نقول هل الغاية في القضيّة تدلّ على ارتفاع الحكم {عنها} أي: الغاية {و} عن {بعدها} بحيث يدلّ المثالان على عدم السّير في الكوفة وما بعدها. وعلى عدم الصّوم في المغرب وما بعده، وتحرير المبحث بهذا النّحو {بناءً على خروجها} أي: خروج الغاية عن المغيّى {أو لا} تدلّ القضيّة على شيء من ذلك، بل هي ساكتة عن حكم مابعد الغاية - على القول الأوّل - أو حكم الغاية وما بعدها - على

ص: 73


1- فإنّ الغاية تطلق على أربعة معان: الأوّل: نفس الأداة، مثل: (حتّى) و(إلى). الثّاني: مدخولها، كالكوفة واللّيل. والثّالث: المسافة، كقولهم: (إلى لانتهاء الغاية) - أي: المسافة. والرّابع: النّهاية، وهو حدّ فقدان الشّيء، قالها المشكيني. كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 328.

فيه خلافٌ. وقد نسب إلى المشهور: الدلالة على الارتفاع(1)،

وإلى جماعة - منهم: السّيّد والشّيخ(2) - : عدم الدلالة عليه.

والتحقيق: أنّه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربيّة قيداً للحكم، - كما في قوله(علیه السلام): «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام»(3)، و: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(4) كانت دالّة على ارتفاعه عند حصولها؛

___________________________________________

القول الثّاني - ؟ {فيه خلاف} بين الأعلام.

{وقد نسب إلى المشهور الدلالة} للقضيّة الغائيّة {على الارتفاع} للحكم عند الغاية أو بعدها على الخلاف {وإلى جماعة منهم السّيّد} المرتضى(رحمة الله) {والشّيخ} الطوسي(قدس سره) {عدم الدلالة عليه} والمصنّف فصّل في المسألة بين ما كانت الغاية قيداً للحكم، فتدلّ على المفهوم، وبين ما كانت قيداً للموضوع، فلا تدلّ، وبيّن ذلك بقوله: {والتحقيق أنّه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربيّة قيداً للحكم} لا للموضوع {كما في قوله(علیه السلام): «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام»، و«كلّ شيءطاهر حتّى تعلم أنّه قذر» كانت} الغاية {دالّة على ارتفاعه عند حصولها} وإنّما كانت مقتضى قواعد العربيّة كون الغايتين قيداً للطهارة والحلّ لوجهين:

الأوّل: قرب الغاية من الحكم، بخلاف الموضوع فإنّه بعيد عنها، والأقرب يمنع الأبعد.

الثّاني: أنّ الموضوع وهو: كلّ شيء، جامد فلا يصحّ أن يقع متعلّقاً لشيء إلّا إذا أوّل بالمشتق.

ص: 74


1- مطارح الأنظار 2: 98.
2- الذريعة إلى أصول الشيعة 1: 407؛ العدة في أصول الفقه 2: 478.
3- الكافي 5: 313، وفيه: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام».
4- مستدرك الوسائل 2: 583؛ وسائل الشيعة 3: 467، وفيه: «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر».

لانسباق ذلك منها، كما لا يخفى، وكونِهِ قضيّة تقييده بها، وإلّا لما كانت ما جعل غاية له بغاية، وهو واضح إلى النّهاية.

وأمّا إذا كانت بحسبها قيداً للموضوع - مثل: (سر من البصرة إلى الكوفة) - فحالها حال الوصف في عدم الدلالة،

___________________________________________

وإنّما قلنا بدلالة الغاية على ارتفاع الحكم في مثل هذين الموردين {لانسباق ذلك} الارتفاع {منها} أي: من الغاية حينئذٍ {كما لا يخفى}.

فالحكم بالطهارة والحليّة منتهٍ بالعلم والعرفان، فإذا علم نجاسة شيء لم يجز له استعماله في ما يشترط بالطهارة، وكذا إذا علم حرمة شيء لم يجز له استعمال الحليّة معه، وإلّا فلو استمرّ الحكم إلى ما بعد الغاية كان ذكر الغاية لغواً. ألا ترى أنّه لو سئل الإمام(علیه السلام) عن حكم ما بعد العلم فأجاب ببقاء الحكم الأوّل، كان له أن يسأل عن سبب التقييد {وكونِهِ} أي: الارتفاع {قضيّة تقييده} أي: تقييد الحكم {بها} أي: بالغاية {وإلّا} فلو لم يرتفع الحكم بعد وجود الغاية {لما كانت ما جعل غاية له} أي: للحكم {بغاية، وهو واضح إلى النّهاية} قالالعلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وبالجملة لو لم يكن حينئذٍ مفهوم لخرجت الغاية عن كونها غاية وآخراً إلى كونها وسطاً هذا خلف»(1)،

انتهى.

{وأمّا إذا كانت} الغاية {بحسبها} أي: بحسب القواعد العربيّة {قيداً للموضوع مثل: (سر من البصرة إلى الكوفة)} فإنّ الموضوع هو السّير، والحكم هو الوجوب، والأوّل مفاد المادّة، والثّاني مفاد الهيئة، وظاهر القواعد العربيّة تعلّق الجارين بالسّير لا بالوجوب، إذ المتبادر من معنى الجملة: أنّ السّير المقيّد بكونه من البصرة إلى الكوفة واجب {فحالها} أي: حال الغاية {حال الوصف في عدم الدلالة} على المفهوم، بل يدلّ على أنّ السّير الكذائي مطلوب للمولى، وأمّا غيره فهو ساكت

ص: 75


1- شرح كفاية الأصول 1: 290.

وإن كان تحديده بها بملاحظة حكمه، وتعلّق الطلب به، وقضيّته ليس إلّا عدم الحكم فيها إلّا بالمغيّى، من دون دلالة لها أصلاً على انتفاء سنخه عن غيره؛ لعدم ثبوت وضع لذلك، وعدمِ قرينة ملازمة لها - ولو غالباً - دلّت على اختصاص الحكم به. وفائدةُ التحديد بها - كسائر أنحاء التقييد - غير منحصرة بإفادته، كما مرّ في الوصف.

ثمّ إنّه في الغاية خلاف آخر - كما أشرنا إليه - ،

___________________________________________

عنه ويكون كما لو قال: يجب هذا المقدار من السّير في السّكوت عن غيره.

{وإن كانت تحديده} أي: الموضوع {بها} أي: بالغاية {بملاحظة حكمه} أي: حكم الموضوع {وتعلّق الطلب به}أي: حيث إنّ طلب المولى كان لهذا الموضوع الخاص حدّده بهذا التحديد، ولكن بيان متعلّق لا يستلزم المفهوم {و} ذلك لأنّ {قضيّته} أي: مقتضى التحديد بالغاية {ليس إلّا عدم الحكم فيها} أي: في القضيّة {إلّا بالمغيّى} مع الغاية على قول، وبدونها على قول آخر {من دون دلالة لها أصلاً على انتفاء سنخه} أي: سنخ الحكم {عن غيره} أي: غير الموضوع، فلا يدلّ (سر من البصرة إلى الكوفة) على عدم السّير في بعد الكوفة مثلاً.

وإنّما قلنا بعدم دلالة هذا القسم على المفهوم {لعدم ثبوت وضع} الجملة الغائيّة بهذا النّحو {لذلك} المفهوم {وعدم قرينة ملازمة لها} أي: للغاية {ولو غالباً، دلّت على اختصاص الحكم به}.

{و} إن قلت: لو لم تدلّ الغاية على المفهوم فما فائدة التحديد بها وهل تكون إلّا لغواً مستغنى عنها؟

قلت: {فائدة التحديد بها كسائر أنحاء التقييد} للموضوع من الوصف والحال وغيرهما {غير منحصرة بإفادته} أي: إفادة المفهوم {كما مرّ في الوصف} فلا دليل على المفهوم في ما كانت الغاية من قيود الموضوع.

{ثمّ إنّه في الغاية} بمعنى مدخول (إلى) و(حتّى) {خلاف آخر كما أشرنا إليه}

ص: 76

وهو أنّها هل هي داخلة في المغيّى بحسب الحكم، أو خارجة عنه؟

والأظهر: خروجها؛ لكونها من حدوده، فلا تكون محكومة بحكمه. ودخوله في بعض الموارد إنّما يكون بالقرينة. وعليهتكون كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأوّل، كما أنّه على القول الآخر تكون محكومة بالحكم منطوقاً.

___________________________________________

في أوّل المبحث {وهو أنّها هل هي داخلة في المغيّى بحسب الحكم} حتّى يجب دخول الكوفة في (سر من البصرة إلى الكوفة) ويجب الإمساك في المغرب في قوله: (صم إلى المغرب) {أو خارجة عنه} بحيث يكون المغرب والكوفة خارجين عن حكم السّير والصّوم؟

ولا يخفى أنّ هذا بحث عن الدلالة المنطوقيّة بخلافه «ثمّ» فإنّه كان بحثاً عن الدلالة المفهوميّة {والأظهر خروجها} أي: الغاية {لكونها من حدوده} أي: حدود المحكوم {فلا تكون محكومة بحكمه} إذ الحدّ خارج عن المحدود {ودخوله} أي: الحدّ في حكم المحدود {في بعض الموارد} نحو:

ألقى الصّحيفة كي يخفّف رحله***

والزاد حتّى نعله ألقاها

{إنّما يكون بالقرينة} الخاصّة {و} بناءً {عليه} أي: على خروج الغاية {تكون} الغاية {كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأوّل} فالقائلون بالمفهوم يقولون: إنّ معنى (سر من البصرة إلى الكوفة) وجوب السّير إلى باب الكوفة ولا يجب السّير فيها ولا في ما بعدها، وغيرهم يقولون بالسكوت عن الكوفة وما بعدها {كما أنّه على القول الآخر} القائل بدخول الغاية في حكم المغيّى {تكون} الغاية{محكومة بالحكم منطوقاً} فيجب السّير في الكوفة قولاً واحداً، وإنّما الخلاف بين المفهومين وغيره في ما بعد الكوفة.

ص: 77

ثمّ لا يخفى: أنّ هذا الخلاف لا يكاد يعقل جريانه في ما إذا كان قيداً للحكم، فلا تغفل.

___________________________________________

{ثمّ لا يخفى أنّ هذا الخلاف} في دخول الغاية في المغيّى وعدمه {لا يكاد يعقل جريانه في ما إذا كان} الحدّ، أي: الغاية {قيداً للحكم} نحو «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» و«كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام».

{فلا تغفل} وعلّله المصنّف(رحمة الله) في الهامش بما لفظه: «حيث إنّ المغيّى حينئذٍ نفس الحكم لا المحكوم به ليصحّ أن ينازع في دخول الغاية في الحكم للمغيّى أو خارجاً عنه، كما لا يخفى.

نعم، يعقل أن ينازع في أنّ الظاهر هل هو انقطاع الحكم المغيّى بحصول غايته في الاصطلاح - أي: مدخول (إلى) و(حتّى) - أو استمراره في تلك الحال ولكن الأظهر هو انقطاعه، فافهم واستقم»(1)،

انتهى.

قال العلّامة المشكيني(رحمة

الله) في حاشية قوله: «لا يكاد يعقل» ما لفظه: «يعني بالعنوان المتقدّم، وهو أنّ الغاية داخلة في المغيّى بحسب الحكم؛ لأنّ المغيّى حينئذٍ نفس الحكم فلا بدّ من تغيّر العنوان بأن يقال: هل الحكم ينقطع عند الغاية أو يستمرّ إلى ما بعدها؟ وإن كان الأظهر هو الانقطاع، كما أنّ الأظهر في قيد الموضوع هو الخروج، وكون الكلام ساكتاًعن الغاية وما بعدها»(2)،

انتهى.

وقد يقال: إنّه لا معنى لدخول الغاية في المغيّى في هذا القسم، إذ يستلزم اجتماع الضّدّين، فإنّه لو عرفت الحرمة لا يعقل الحكم بالحليّة، وكذا لا يعقل بعد العلم بالنجاسة الحكم بالطهارة، فتدبّر.

ص: 78


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 329.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 328.

فصل: لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم - سلباً أو إيجاباً - بالمستثنى منه، ولا يعمّ المستثنى. ولذلك يكون الاستثناء من النّفي إثباتاً، ومن الإثبات نفياً؛ وذلك للانسباق عند الإطلاق قطعاً.

فلا يُعبأ بما عن أبي حنيفة(1)

من عدم الإفادة، محتجّاً بمثل: «لا صلاة إلّا بطهور»(2).

___________________________________________

[فصل مفهوم الاستثناء]

المقصد الثّالث: في المفاهيم، مفهوم الاستثناء

{فصل} في مفهوم الاستثناء {لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم} سواء كان {سلباً أو إيجاباً بالمستثنى منه} فلو قال: (لا تكرم الفسّاق إلّا العلماء) دلّ على اختصاص عدم الإكرام بالفسّاق غير العلماء.

وكذا لو قال: (أكرم العلماء إلّا زيداً) دلّ على اختصاص الإكرام بالعالم غير زيد {ولا يعمّ} الحكم الّذي كان للمستثنى منه {المستثنى} ك- (العلماء) في الأوّل و(زيد) في الثّاني {ولذلك} الّذي ذكرنا من عدم شمول الحكم للمستثنى، بل دلالته على ثبوت نقيض الحكم له {يكونالاستثناء من النّفي إثباتاً ومن الإثبات نفياً} كما هو مقتضى الاختصاص {وذلك} الّذي ذكر من الاختصاص وعدم شمول الحكم للمستثنى {للانسباق عند الإطلاق قطعاً} والتبادر علامة الحقيقة.

ولا يخفى أنّ قوله: «عند الإطلاق» توضيحي لا احترازي(3)

{فلا يعبأ بما عن أبي حنيفة من عدم الإفادة} أي: عدم دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، بل قد يكون الحكم يعمّ المستثنى أيضاً {محتجّاً بمثل: «لا صلاة إلّا بطهور»} فإنّه لو كان الحكم بعدم الصّلاة مختصّاً بحالة عدم الطهور لزم وجود الصّلاة مع الطهور، والحال أنّه ليس كذلك، إذ ربّما لا تكون الصّلاة مع الطهور

ص: 79


1- الإحكام في أصول الأحكام 2: 308.
2- وسائل الشيعة 1: 315.
3- ولكن بناءً على الجواب الثّاني عن أبي حنيفة يكون هذا القيد احترازيّاً، فتأمّل.

ضرورة ضعف احتجاجه:

أوّلاً: بكون المراد من مثله: أنّه لا تكون الصّلاة الّتي كانت واجدةَ لأجزائها وشرائطها المعتبر فيها صلاةً إلّا إذا كانت واجدةً للطهارة، وبدونها لا تكون صلاة على وجهٍ، وصلاة تامّة مأموراً بها على آخر.

___________________________________________

كما لو فقد جزء أو شرط آخر، فيعمّ حكم المستثنى منه للمستثنى، وكذا أنحاء هذا المثال نحو «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(1)،

وغيره.

وقد يوجّه كلامه بأنّ حال الاستثناء حال الوصف، فإنّه يفيد تضيّق موضوع الحكم فقط من غير نظر إلى غيره، فمعنى «لا صلاة إلّا بطهور» صحّة الصّلاة مع الطهور، أمّا غيرها فهو ساكت عنه.

وكيف كان، فلا يخفى ضعفه {ضرورة ضعف احتجاجه}.{أوّلاً: بكون المراد من مثله} أي: مثل هذا الكلام {أنّه لا تكون الصّلاة - الّتي كانت واجدة لأجزائها وشرائطها المعتبر فيها - صلاةً} خبر «يكون» {إلّا إذا كانت واجدةً للطّهارة، وبدونها لا تكون صلاة} أصلاً {على وجه} وهو كون ألفاظ العبادات موضوعة للصحيحة؛ إذ الصّلاة الفاقدة لشرط لا تكون حينئذٍ إلّا صورة صلاة {و} لا تكون الصّلاة الفاقدة للطهارة {صلاةً تامّةً مأموراً بها على} وجه {آخر} وهو كونها موضوعة للأعمّ، فإنّ الفاقدة وإن كانت حينئذٍ صلاة ولكنّها ليست بمأمور بها، كما لا يخفى.

وعلى كلّ حال، يكون حكم المستثنى منه غير حكم المستثنى، وأمّا ما ذكر في التوجيه ففساده أظهر من أن يخفى بعد ما ذكر من التبادر.

وقد علّق المصنّف في الهامش على قوله: «أوّلاً بكون المراد» ما لفظه: «بل المراد من مثله في المستثنى منه نفي الإمكان، وأنّه لا يكاد يكون بدونه المستثنى،

ص: 80


1- مستدرك الوسائل 4: 158.

وثانياً: بأنّ الاستعمال مع القرينة - كما في مثل التركيب ممّا علم فيه الحال - لا دلالة له على مدّعاه أصلاً، كما لا يخفى.

ومنه قد انقدح: أنّه لا موقع للاستدلال على المدّعى بقبول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إسلامَ من قال كلمة التوحيد(1)،

___________________________________________

وقضيّته ليس إلّا إمكان ثبوته معه لا ثبوته فعلاً، كما هو واضح لمن راجع أمثالهمن القضايا العرفيّة»(2)،

انتهى. مثلاً: لو قال: (لا طبخ إلّا بالنار) كان معناه عدم إمكانه إلّا بها، لا أنّها كلّما وجدت طبخ. فتحصّل من جميع ذلك اختلاف المستثنى والمستثنى منه في الحكم إمّا بالوجود والعدم، وإمّا بالصحّة والفساد، وإمّا بالإمكان والامتناع.

{وثانياً} أنّه لو سلّم اتحاد حكم المستثنى منه والمستثنى فنقول: {بأنّ الاستعمال مع القرينة - كما في مثل التركيب ممّا علم فيه الحال -} بأنّ للمركّب أجزاءً وشروطاً أُخر بحيث لا يتحقّق بدونها {لا دلالة له على مدّعاه أصلاً} إذ قد تقدّم أنّ الكلام في الإطلاق، أي: إذا لم يكن هناك قرينة {كما لا يخفى} فتأمّل.

{ومنه} أي: ومن الجواب الثّاني عن أبي حنيفة المتضمّن لعدم فائدة الاستدلال بورود الاستعمال إذا كان مع القرينة {قد انقدح أنّه} كما لا يمكن الاستدلال بذي القرينة على النّفي، كذلك لا يمكن الاستدلال به على الإثبات، ف- {لا موقع للاستدلال على المدّعى} وهو دلالة الاستثناء على الاختصاص {بقبول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إسلام من قال كلمة التوحيد} أعني: «لا إله إلّا اللّه».

ووجه الاستدلال: أنّه لو لم تكن الجملة الاستثنائيّة دالّةً على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، بل كان ساكتاً عن المستثنى، كان المتكلّم بكلمة التوحيد

ص: 81


1- مطارح الأنظار 2: 106.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 330.

لإمكان دعوى أنّ دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال.

والإشكال في دلالتها عليه: بأنّ خبر (لا)إمّا يقدّر: (ممكن)، أو: (موجود)، وعلى كلّ تقديرٍ لا دلالة لها عليه:

أمّا على الأوّل: فإنّه حينئذٍ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمكان وجوده - تبارك وتعالى - .

وأمّا على

___________________________________________

مثل من قال: (اللّه إله) بلا نفي الأُلوهة عمّن عداه.

ومن المعلوم عدم كفاية ذلك في الإسلام، بل اللّازم الإقرار بالوحدانيّة، وإلّا لكان من يعبد الأصنام - لتقرّبه إلى اللّه زلفى - مسلماً، فقبول قول النّبي(صلی الله علیه و آله) إسلام من قالها من أعدل الشّواهد على دلالة الاستثناء على الاختصاص.

وإنّما قلنا بعدم دلالة قبوله(صلی الله علیه و آله) إسلام من قالها على المدّعى {لإمكان دعوى أنّ دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال} فإنّهم لم يكونوا يقولونها إلّا إذا أرادوا الدخول في زمرة المسلمين {أو المقال} بأن كانوا يتبرّؤون من الشّركاء أوّلاً ثمّ يقولونها، ولكن المحكي عن التقريرات أنّه قال: «والقولُ بأنّ ذلك للقرينة، أو أنّها تدلّ على التوحيد شرعاً، بمكانٍ من السّخافة»(1)،

انتهى. والحقّ معه قطعاً.

{والإشكال في دلالتها} أي: كلمة «لا إله إلّا اللّه» {عليه} أي: على التوحيد {بأنّ خبر (لا)} النّافية للجنس {إمّا يقدّر (ممكن)} يعني: لا إله ممكن إلّا اللّه {أو} يقدّر {(موجود)} أي: لا إله موجود إلّا اللّه {وعلى كلّ تقدير لادلالة لها عليه، أمّا على} التقدير {الأوّل، فإنّه حينئذٍ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمكان وجوده - تبارك وتعالى -} إذ الاستثناء عن غير الممكن ممكن.

ومن المعلوم أنّ إثبات إمكان اللّه - تعالى - ليس توحيداً {وأمّا على} التقدير

ص: 82


1- حاشية الكفاية 1: 277؛ عن مطارح الأنظار 2: 106.

الثّاني: فلأنّها وإن دلّت على وجوده - تعالى - ، إلّا أنّه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر.

مندفعٌ: بأنّ المراد من الإله هو واجب الوجود، ونفي ثبوته ووجوده في الخارج، وإثباتُ فرد منه فيه - وهو اللّه - يدلّ بالملازمة البيّنة على امتناع تحقّقه في ضمن غيره - تبارك وتعالى - ؛ ضرورة أنّه لو لم يكن ممتنعاً لوجد؛ لكونه من أفراد الواجب.

___________________________________________

{الثّاني فلأنّها وإن دلّت على وجوده - تعالى -} لأنّ الاستثناء من غير الموجود موجود {إلّا أنّه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر} والمطلوب في التوحيد نفي إمكان الغير كوجوده.

والحاصل: أنّه يعتبر في التوحيد أمران: نفي الغير إمكاناً ووجوداً، وإثبات اللّه كذلك، والخبر كيفما قدّر لا يفي بذلك.

هذا، ولكن هذا الإشكال {مندفع بأنّ المراد من الإله} في العقد السّلبي {هو واجب الوجود، و} حينئذٍ فتقدير الخبر «موجود» غير ضائر، إذ {نفي ثبوته} أي: ثبوت واجبالوجود {ووجوده في الخارج وإثبات فرد منه فيه} أي: في الخارج {وهو اللّه} تعالى {يدل بالملازمة البيّنة} بين إمكان الوجود وبين الثّبوت والتحقّق بالنسبة إلى واجب الوجود {على امتناع تحقّقه في ضمن غيره - تبارك وتعالى -} فالوجود لسائر أفراد الإله منفي مطابقة والإمكان منفي التزاماً {ضرورة أنّه لو لم يكن} سائر أفراد هذا المفهوم {ممتنعاً لوجد لكونه من أفراد الواجب}.

والحاصل: أنّ في الواجب يتلازم الإمكان بمعناه العام والوجود، فحيث قدّرنا موجوداً كان نفي الوجود ونفي الإمكان معاً، فمعنى الكلمة: (لا إله موجود، ولا ممكن) وعلى هذا التلازم يمكن تقدير (الإمكان) أيضاً، ولا يضرّ حينئذٍ كون العقد الإيجابي يكون هو إمكان اللّه سبحانه للتلازم المذكور.

وإن شئت قلت: إنّه إن قدّر (موجود) كان العقد السّلبي يتمّ بالتلازم بين الإمكان والوجود، وإن قدّر (ممكن) كان العقد الإيجابي محتاجاً إلى التلازم،

ص: 83

ثمّ إنّ الظاهر: أنّ دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم، وأنّه لازمُ خصوصيّة الحكم في جانب المستثنى منه الّتي دلّت عليها الجملة الاستثنائيّة.

نعم، لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء،

___________________________________________

ولكن الكلمة الطيّبة أظهر في التوحيد بجميع معنى الكلمة من هذه التكلّفات، فإنّها تشبه أقوال السّوفسطائيّين، واللّه الموفّق.

{ثمّ} إنّ القوم حيث ذكروا الجملة الاستثنائيّة في باب المفاهيم، فاللّازم تحقيق الكلام حول هل هناك دلالة مفهوم أم لا، وعلى تقدير وجود دلالةالمفهوم فأيّ من المستثنى والمستثنى منه يستفاد حكمه من المفهوم؟ فنقول: {إنّ الظاهر أنّ دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم} أمّا الدلالة على حكم المستثنى منه فهو بالمنطوق قطعاً، فلو قلنا: (جاءني القوم إلّا زيداً) كان استفادة مجيء القوم من المنطوق واستفادة عدم مجيء زيد من المفهوم {و} ذلك ل- {أنّه} أي: الحكم في طرف المستثنى {لازم خصوصيّة الحكم في جانب المستثنى منه} والخصوصيّة عبارة عن حصر المجيء في القوم غير زيد {الّتي دلّت عليها الجملة الاستثنائيّة}.

ومن المعلوم أنّه لو حصر المجيء في قوم زيد فهم منه عدم مجيء زيد فعدم المجيء ليس مصرّحاً به في الجملة، وإنّما المصرّح به هو المجيء للقوم. نعم، قيّد القوم بقيد أنّه غير هذا الفرد الخاص - أعني: زيداً - فهو مثل أن يكون للقوم غير زيد اسم آخر ك- (الرّهط) مثلاً، ثمّ قلنا: (جاءني الرّهط فقط) فكما أنّ دلالة هذا على عدم مجيء زيد بالمفهوم كذلك دلالة الاستثناء.

{نعم} ذهب بعض إلى عدم دلالة مفهوميّة أصلاً، لا في جانب المستثنى منه، ولا في جانب المستثنى، بل كلاهما بالمنطوق، وإليه أشار المصنّف بقوله: {لو كانت الدلالة في طرفه} أي: طرف المستثنى {بنفس الاستثناء} وكلمة (إلّا)

ص: 84

- لا بتلك الجملة - ، كانت بالمنطوق، كما هو ليس ببعيد، وإن كان تعيين ذلك لا يكاد يفيد.

وممّا يدلّ على الحصر والاختصاص: (إنّما) وذلك لتصريح أهل اللغة بذلك، وتبادره منها قطعاً عند أهل العرف والمحاورة.

ودعوى: «أنّ الإنصاف أنّه لا سبيل لنا إلىذلك؛ فإنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة،

___________________________________________

حتّى أنّ مجيء القوم يستفاد من (جاءني القوم) وعدم مجيء زيد يستفاد من نفس (إلّا زيداً) {لا} أنّه يستفاد {بتلك الجملة} المتقدّمة - أعني: (جاءني القوم) - {كانت} الدلالة على حكم المستثنى {بالمنطوق، كما هو ليس ببعيد} بل في غاية القرب.

فتحصّل أنّه وقع الاختلاف في كيفيّة دلالة الجملة على حكم المستثنى وأنّه بالمفهوم أو بالمنطوق {وإن كان تعيين ذلك} وأنّه بالمنطوق أو المفهوم {لا يكاد يفيد} لعدم ترتّب ثمرة فقهيّة أو غيرها عليه.

{وممّا يدلّ على الحصر والاختصاص (إنّما)} فيكون مفيداً للمفهوم، فلو قال: (إنّما تحلّ المرأة بعد انقضاء العدّة) كان دالّاً على عدم جواز نكاح المعتدّة، فإذا كانت الجملة ثبوتيّة كان مفهومها السّلب وإذا كانت سلبيّة كان مفهومها الإيجاب {وذلك} الّذي ذكرنا من دلالته على الحصر المستلزم للمفهوم {لتصريح أهل اللغة بذلك} وقد ذكروا في علائم الحقيقة أنّ منها تنصيص أهل اللغة أو واضعها، والقول بأنّ تنصيصهم غير حجّة - لأنّهم ليسوا من أهل الخبرة - لا ينبغي الإصغاء إليه {وتبادره} أي: الاختصاص {منها قطعاً عند أهل العرف والمحاورة} ومنع التبادر مكابرة.

{ودعوى «أنّ الإنصاف أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك} أي: إفادة (إنّما) للحصر - كما حكي عن التقريرات - {فإنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة} فربّما تستعمل

ص: 85

ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا،حتّى يستكشف منها ما هو المتبادر منها»(1).

غيرُ مسموعةٍ؛ فإنّ السّبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا؛ فإنّ الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضاً سبيلٌ.

وربّما يعدّ ممّا دلّ على الحصر كلمة: (بل) الإضرابيّة(2).

والتحقيق: أنّ الإضراب على أنحاء:

منها: ما كان لأجل أنّ المضرب عنه، إنّما أتى به غفلةً، أو سبقه به لسانه، فيُضْرِبُ بها

___________________________________________

للحصر وربّما لا تكون له {ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا} الفارسي {حتّى يستكشف منها} أي: من الكلمة المرادفة لها في عرفها {ما هو المتبادر منها»} أي: من كلمة (إنّما) في عرف العرب، وتفسير بعضهم لها (اينست و جز اين نيست) غير معلوم المطابقة {غير مسموعة} لأنّه إن أراد عدم الانسباق إلى ذهنه(قدس سره)، فهذا غير ضائر {فإنّ السّبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا، فإنّ الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضاً سبيل} إلى كشف الحقيقة، وإن أراد عدم الانسباق إلى أذهان أهل العرف فهو معلوم العدم، ويشهد للانسباق تفسيرهم المتقدّم لها، واستعمالهم لها أحياناً في غير الحصر بالقرينة غير مانع عن ظهورها.

{وربّما يعدّ ممّا دلّ على الحصر كلمة(بل) الإضرابيّة} ومعنى إفادتها الحصر أنّها لحصر الحكم عمّا بعدها ونفيه عمّا قبلها فهي مفيدة للمفهوم، ولهذا ذكرت في باب المفاهيم.

{والتحقيق} أنّ عدّها مطلقاً مفيدة للحصر غير صحيح، بل {إنّ الإضراب على} ثلاثة {أنحاء} على ما ذكره المصنّف.

{منها: ما كان لأجل أنّ المضرب عنه إنّما أتى به غفلة أو سبقه به لسانه فيُضْرِب بها}

ص: 86


1- مطارح الأنظار 2: 110.
2- مطارح الأنظار 2: 108.

عنه إلى ما قصد بيانه، فلا دلالة له على الحصر أصلاً، فكأنّه أتى بالمضرب إليه ابتداءً، كما لا يخفى.

ومنها: ما كان لأجل التأكيد، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه، فلا دلالة له عليه أيضاً.

ومنها: ما كان في مقام الرّدع وإبطال ما أثبت أوّلاً، فيدلّ عليه، وهو واضح.

___________________________________________

أي: بسبب كلمة (بل) {عنه، إلى ما قصد بيانه} كأن يقول: (جاءني زيد بل عمرو) في ما إذا ألتفت أنّ قوله: (زيد) غلط أو غفلة، ثمّ يضرب عنه {فلا دلالة له على الحصر أصلاً، فكأنّه أتى بالمضرب إليه ابتداءً، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ومنها: ما كان لأجل التأكيد} كأن يقول: (نجاسة عرق الجنب عن الحرام أشهر، بل مشهور) {فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد} والمقدّمة {لذكر المضرب إليه} الّذي يتأخّر عن كلمة (بل) {فلا دلالة له عليه} أي: على الحصر {أيضاً} بل يدلّ على الترقّي، وقد يمثّل بنحو(حبيبي قمر، بل شمس).

{ومنها: ما كان في مقام الرّدع وإبطال ما أثبت أوّلاً} كأن يقول: (زيد قائم، بل قاعد). قال - تعالى - : {وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ}(1) {فيدلّ} لفظ (بل) في هذا القسم الثّالث {عليه} أي: على الإضراب {وهو واضح} وعلى هذا فلو قامت قرينة على أنّه بأيّ نحو من الأقسام كان له حكمه، وإلّا فلو لم تقم لم يمكن القول بإفادتها للحصر والمفهوم.

ثمّ إنّ في كلمة (بل) كلاماً طويلاً لا يسعه المقام، فليرجع إلى المغني(2)

والمطوّل(3)

ونحوهما.

ص: 87


1- سورة الأنبياء، الآية: 26.
2- مغني اللبيب 1: 112.
3- المطوّل: 102.

وممّا يفيد الحصر - على ما قيل(1) - تعريف المسند إليه باللّام.

والتحقيق: أنّه لا يفيده إلّا في ما اقتضاه المقام؛ لأنّ الأصل في اللّام أن تكون لتعريف الجنس، كما أنّ الأصل في الحمل - في القضايا المتعارفة - هو الحمل المتعارف،

___________________________________________

{وممّا يفيد الحصر - على ما قيل - تعريف المسند إليه باللّام} نحو (الحمد للّه ربّ العالمين) واستدلّوا لذلك بأُمور، والأقرب منها التبادر، وهو مستند إمّا إلى وضعاللّام للاستغراق، وإمّا إلى انصرافها إليه.

{والتحقيق أنّه لا يفيده إلّا في ما اقتضاه المقام} إذ التبادر ممنوع والمستند غير صحيح {لأنّ الأصل في اللّام أن تكون لتعريف الجنس} فيقصد منها الإشارة إلى نفس الماهيّة من حيث هي.

وتوضيح ذلك: أنّ الماهيّات حيث كانت متميّزة في الذهن فالجنس إن كان معرّى عن (اللّام) لا يراد منه إلّا نفس الحقيقة بغير تعريف، بخلاف ما إذا كان معرّفاً ب- (اللّام) فإنّ المراد منه حينئذٍ الحصّة المتميّزة المعهودة في الذهن، وبهذا يحصل نوع تمييز وتعريف، ولهذا قالوا بأنّ الماهيّة المدخولة عليها (اللّام) معرفة بخلاف المعرّاة عنها، فتأمّل. وعلى هذا ف- (اللّام) لا تفيد الاستغراق.

ثمّ إنّه حيث يمكن أن يدّعى أنّ وجه إفادة المعرّف للاستغراق والحصر أمر آخر وهو أنّ (اللّام) لتعريف الجنس - كما ذكر - ولكن ظاهر الحمل هو الذاتي، ولازمه اتحاد الموضوع مع المحمول، والاتحاد مقتضٍ للحصر، كما لا يخفى. أجاب المصنّف(رحمة الله) عنه بقوله: {كما أنّ الأصل في الحمل} ليس هو الحمل الذاتي الّذي مناطه الاتحاد في المفهوم كما زعم، بل ظاهر الحمل {في القضايا المتعارفة} غير مقام التحديدات {هو الحمل المتعارف} المعبّر عنه بالشائع الصِّناعي

ص: 88


1- قوانين الأصول 1: 190.

الّذي ملاكه مجرّد الاتحاد في الوجود، فإنّه الشّائع فيها، لا الحمل الذاتي، الّذي ملاكه الاتحاد بحسب المفهوم، كما لا يخفى. وحمل شيء على جنس وماهيّة كذلك، لا يقتضي اختصاص تلك الماهيّة به وحصرها عليه.نعم، لو قامت قرينة على أنّ اللّام للاستغراق، أو أنّ مدخوله أُخذ بنحو الإرسال والإطلاق، أو على أنّ الحمل عليه كان ذاتيّاً، لأُفيد حصر مدخوله على محموله واختصاصُه به.

___________________________________________

{الّذي ملاكه مجرّد الاتحاد في الوجود} في الجملة {فإنّه الشّائع فيها} أي: في القضايا المتعارفة في العلوم والمحاورات {لا الحمل الذاتي الّذي ملاكه الاتحاد بحسب المفهوم} أو الاتحاد في الماهيّة ولو تغايرا مفهوماً {كما لا يخفى}.

{و} كيف كان، ف- {حمل شيء على جنس وماهيّة كذلك} بالحمل الشّائع الصِّناعي {لا يقتضي اختصاص تلك الماهيّة به وحصرها عليه} لأنّ هناك احتمالات أربع:

الأوّل: أن يكون المسند إليه أعمّ نحو: (الأمير زيد).

الثّاني: أن يكون أخصّ نحو: (الضّاحك إنسان).

الثّالث: أن يكون مساوياً نحو: (الإنسان ناطق).

الرّابع: أن يكون أعمّ من وجه نحو (الأبيض إنسان) فكيف يمكن القول بالحصر مع هذه الاحتمالات؟!

{نعم، لو قامت قرينة على أنّ اللّام للاستغراق} الحقيقي {أو} على {أنّ مدخوله أُخذ بنحو الإرسال والإطلاق} على نحو القضيّة الطبيعيّة وإرادة الجنس من المدخول {أو على أنّ الحمل عليه كان ذاتيّاً} لا شائعاً {لأُفيد} بسبب القرينة {حصر مدخوله على محموله واختصاصه به} إذ لو كان المحمول على جميع الأفراد -كما هو قضيّة الأوّل - أو كان محمولاً على الطبيعة - كما هو قضيّة الثّاني -

ص: 89

وقد انقدح بذلك: الخلل في كثيرٍ من كلمات الأعلام في المقام، وما وقع منهم من النّقض والإبرام(1).

ولا نطيل بذكرها، فإنّه بلا طائل، كما يظهر للمتأمّل، فتأمّل جيّداً.

فصل: لا دلالة للقب ولا للعدد على المفهوم، وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما أصلاً.

___________________________________________

أو كان المحمول والموضوع متّحدين في المفهوم أو الماهيّة - كما هو قضيّة الثّالث - لم يعقل الانفكاك بينهما، وهذا هو معنى الحصر.

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكر من عدم دلالة المعرّف بنفسه - مع قطع النّظر عن القرينة - على الحصر {الخلل في كثير من كلمات الأعلام في المقام، وما وقع منهم من النّقض والإبرام، ولا نطيل} البحث {بذكرها فإنّه بلا طائل} وفائدة {كما يظهر للمتأمّل، فتأمّل جيّداً} ومن المعلوم أنّ ربط هذا البحث بالمفهوم هو أنّه لو كان مفيداً للحصر فهم منه عدم الحكم على غير المسند إليه، واللّه الموفّق.

[فصل مفهوم اللقب والعدد]

المقصد الثّالث: في المفاهيم، مفهوم اللقب والعدد

{فصل} في مفهوم اللقب والعدد {لا دلالة للقب} وهو ما كان طرفاً في الكلام فاعلاً كان أو مفعولاً أو حالاً أو تمييزاً أو ظرفاً، غير الشّرط والوصف والاستثناء ونحوها ممّا جعله القوم مبحثاً مستقلّاً {ولا للعدد على المفهوم وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما أصلاً} فلو قال المولى: (أكرم زيداً راكباً يوم الجمعة) لم يدلّالكلام على (عدم إكرام عمرو) أو (زيد في غير حال الرّكوب) أو (غير يوم الجمعة) بحيث لو كان هناك دليل على (إكرام عمرو) أو (زيد في غير حال الرّكوب) أو (غير يوم الجمعة) لوقع التنافي بين مفهوم الأوّل ومنطوق الثّاني.

وكذا بالنسبة إلى العدد، فلو قال: (أضف عشرة رجال) لم يدلّ على (عدم إضافة الحادي عشر) حتّى يقع التنافي بينهما، بل اللقب والعدد بالنسبة إلى غير

ص: 90


1- قوانين الأصول 1: 190؛ مطارح الأنظار 2: 111.

وقد عرفت أنّ انتفاء شخصه ليس بمفهوم.

كما أنّ قضيّة التقييد بالعدد منطوقاً عدمُ جواز الاقتصار على ما دونه؛ لأنّه ليس بذاك الخاصّ والمقيّد.

وأمّا الزيادة فكالنقيصة. إذا كان التقييد به للتحديد به بالإضافة إلى كلا طرفيه.

نعم، لو كان لمجرّد التحديد بالنظر إلى طرفه الأقلّ،

___________________________________________

حكم موردهما ساكتان، وإنّما قلنا بعدم المفهوم لعدم ثبوت الوضع ولا قرينة عامّة تدلّ عليه مطلقاً.

{و} إن قلت: معنى (أكرم زيداً) عدم وجوب هذا الشّخص من الإكرام لعمرو، فيدلّ على المفهوم.

قلت: {قد عرفت أنّ انتفاء شخصه ليس بمفهوم} وإنّما المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم.

وإن قلت: كيف قلتم بعدم المفهوم للعدد، مع أنّه من البديهي أن لو قال المولى: (جئني بعشرة رجال) فأتاه العبد بتسعة كان معاقباً، وذلك آية المفهوم، وأنّ معنى (جئني بعشرة) عدم جواز الإتيان بتسعة؟

قلت: هذا الحكم ليس مستفاداً من المفهوم، بل من المنطوق كما أشار إليهالمصنّف(رحمة الله) بقوله: {كما أنّ قضيّة التقييد بالعدد منطوقاً عدم جواز الاقتصار على ما دونه؛ لأنّه} أي: ما دون العدد المذكور {ليس بذاك الخاصّ والمقيّد} المأمور به فهو مستفاد من المنطوق لا المفهوم، وإنّما الكلام في مفهوم العدد في الزيادة {وأمّا الزيادة} كالإتيان بالحادي عشر {فكالنقيصة} مستفاد من المنطوق {إذا كان التقييد به} أي: بالعدد {للتحديد} للتكليف {به بالإضافة إلى كلا طرفيه} طرف القلّة والكثرة، بأن يكون المطلوب بشرط لا.

{نعم، لو كان} العدد {لمجرّد التحديد بالنظر إلى طرفه الأقلّ} بحيث كان في

ص: 91

لما كان في الزيادة ضيرٌ أصلاً، بل ربّما كان فيها فضيلة وزيادة، كما لا يخفى.

وكيف كان، فليس عدم الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم، بل إنّما يكون لأجل عدم الموافقة مع ما أُخذ في المنطوق، كما هو معلوم.

___________________________________________

مقام بيان عدم كفاية الأقلّ {لما كان في الزيادة ضير أصلاً} بل كان وجوده كعدمه إن لم يستفد من دليل خارجيّ مزيّة أو نقيصة {بل ربّما كان فيها فضيلة وزيادة، كما لا يخفى} كذكر الرّكوع والسّجود ونحوهما، كما أنّه ربّما كان فيها منقصةً، كما لو أوجب الزيادةُ على منزوحاتِ البئر بعضَ مراتبِ الإسراف في الماء.

{وكيف كان، فليس عدم الاجتزاء بغيره} النّقيصة مطلقاً والزيادة حيث كان في مقام التحديد بالنسبة إلى الطرفين {من جهة دلالته} أي: العدد {على المفهوم، بل إنّمايكون لأجل عدم الموافقة مع ما أُخذ في المنطوق، كما هو معلوم} ثمّ لا بأس بالإشارة إلى بعض ما ذكره القائلون بالمفهوم للّقب والعدد فنقول: استدلّ القائل بمفهوم اللقب بأمرين:

الأوّل: أنّ التخصيص بالذكر يستدعى مخصّصاً وليس إلّا نفي الحكم عن غير المذكور.

وفيه: أنّ الذكر لكون الحكم له، وأمّا غير المذكور فيكفي في تركه عدم اشتماله على فائدة مقصودة، إذ ليس اللقب قيداً زائداً في الكلام حتّى يكون ذكره محوجاً إلى فائدة زائدة على فائدة الكلام.

الثّاني: أنّ قول القائل: (لست زانياً) يدلّ على رمي المخاطب بالزِّنا، ومن هنا التزم بعضهم بوجوب الحدّ عليه.

وفيه: منع ثبوت الدلالة فيه مطلقاً، بل يختصّ بمورد التعريض وهو قرينة خاصّة لا كلام لنا فيه.

واحتجّ القائلون بمفهوم العدد بما لفّقوه عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) أنّه بعد ما نزل قوله تعالى:

ص: 92

___________________________________________

{إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ}(1) قال: «لأزيدنّ على السّبعين»(2)،

وجه الدلالة: أنّه فهم النّبيّ(صلی الله علیه و آله) أنّ ما زاد على السبعين حكمه بخلاف السّبعين.

وفيه: - مضافاً إلى منع صحّة الحديث، لأنّ الظاهر نفي الغفران بالاستغفار الكثير، إذ ذكر السّبعين للمبالغة - أنّه لا دلالة في ما نقلوا عنه(صلی الله علیه وآله) على حصول الغفران في ما زاد بل على عدم دلالتها على نفيه فيه، وهو خارج عن محلّ النّزاع، على أنّه يمكن فهمه(صلی الله علیه و آله) من القرائن.

ثمّ إنّ هذا الحديث ممّا يضحك الثّكلى كما يظهر ذلك لمن راجع قبل هذه الفقرة من الآية وبعدها، واللّه الهادي.

ص: 93


1- سورة التوبة، الآية: 80.
2- الدرّ المنثور 3: 264.

ص: 94

المقصد الرّابع: في العام والخاص

اشارة

ص: 95

ص: 96

المقصد الرّابع: في العام والخاص

فصل: قد عُرِّف العام بتعاريف، قد وقع من الأعلام(1)

فيها النّقض - بعدم الاطّراد تارةً، والانعكاس أُخرى - بما لا يليقُ بالمقام؛ فإنّها تعاريف لفظيّة تقع في جواب السّؤال عنه بما الشّارحة، لا واقعة في جواب السّؤال عنه بما الحقيقيّة.

___________________________________________

[المقصد الرّابع في العام والخاص]

{المقصد الرّابع} من مقاصد الكتاب {في العام والخاص} وفيه فصول:

[فصل تعريف العام وأقسامه]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، تعريف العام وأقسامه

{فصل} في بيان تعريف العام وتقسيمه إلى البدلي، والشّمولي، والمجموعي.

{قد عرّف العام بتعاريف، وقد وقع من الأعلام فيها النّقض بعدم الاطّراد} ومانعيّة الأغيار {تارةً و} عدم {الانعكاس} وجامعيّة الأفراد {أُخرى، بما لا يليق بالمقام} مصداق ما هو النّقض، وبيّن وجه عدم اللياقة بقوله: {فإنّها تعاريف لفظيّة} ومن المعلوم أنّ القصد بالتعريف اللفظي هو شرح مسمّى اللفظ في الجملة، بحيث {تقع} هذهالتعاريف {في جواب السّؤال عنه} أي: عن «العام» {بما الشّارحة} فإنّه إذا قيل: ما هو العام؟ تقع هذه التعاريف في الجواب، وقد تقرّر في المنطق جواز كون التعريف اللفظي أعمّ من المعرَّف أو أخصّ نحو (سعدانة نبت).

و{لا} تكون هذه التعاريف تعاريف حديّة {واقعة في جواب السّؤال عنه} أي: عن «العام» {بما الحقيقيّة} المطلوب بها حقيقة المحدود، المستلزم للتساوي

ص: 97


1- هداية المسترشدين 3: 144؛ الفصول الغرويّة: 158.

كيف؟ وكان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح ممّا عُرّف به مفهوماً ومصداقاً، ولذا يجعل صدقُ ذاك المعنى على فرد وعدمُ صدقه، المقياسَ في الإشكال عليها بعدم الاطّراد أو الانعكاس، بلا ريب فيه، ولا شبهة تعتريه من أحد، والتعريفُ لا بدّ أن يكون بالأجلى، كما هو أوضح من أن يخفى.

___________________________________________

بين المعرِّف والمعرَّف، نحو: (الحيوان النّاطق) في جواب (الإنسان ما هو) وإنّما قلنا بكون تعاريف العام لفظيّة لا حقيقيّة لوجهين:

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: و{كيف} تكون هذه التعاريف حقيقيّة {و} الحال أنّه {كان المعنى المركوز منه} أي: من العام {في الأذهان أوضح ممّا عرّف} العام {به مفهوماً ومصداقاً} يعني: أنّ مفهوم المعنى المركوز المعرّف أوضح من مفهوم هذه المعرّفات، ومصاديق المعنى المركوز أوضح من مصاديق هذه المعرّفات.

ولو كانت هذه التعاريف حقيقيّة لامتنع ذلك؛ لأنّه لا يجوز التعريف بالأخفىفي التعريف الحقيقي، قال في التهذيب: «ويشترط أن يكون مساوياً وأجلى»(1).

{ولذا} الّذي ذكرنا من إجلائيّة العام المعرّف عند الذهن من هذه المعرّفات {يجعل صدق ذاك المعنى} المرتكز {على فرد وعدم صدقه} على آخر {المقياس في الإشكال عليها} أي: على هذه التعريفات {بعدم الاطّراد أو الانعكاس} فيقال: العام صادق على هذا الفرد مع أنّ هذا التعريف لا يشمله، فهو غير منعكس، أو العام ليس صادقاً عليه، مع أنّ التعريف يشمله، فهو غير مطّرد {بلا ريب فيه} أي: في صدق المرتكز وعدم صدقه {ولا شبهة تعتريه من أحد، والتعريف} الحقيقي {لا بدّ} و{أن يكون بالأجلى، كما هو أوضح من أن يخفى}.

وإن شئت قلت في صورة القياس: إنّ هذه المعرّفات أخفى، والمعرّف الحقيقي يمتنع أن يكون أخفى، فليست هذه المعرّفات بمعرّفات حقيقيّة:

ص: 98


1- الحاشية على تهذيب المنطق: 50.

فالظّاهر: أنّ الغرض من تعريفه إنّما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعاً بين ما لا شبهة في أنّها أفراد العام، ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الأحكام، لا بيان ما هو حقيقته وماهيّته؛ لعدم تعلّق غرض به - بعدَ وضوح ما هو محلّ الكلام، بحسب الأحكام، من أفراده ومصاديقه - ؛ حيث لا يكون بمفهومه العام محلّاً لحكم من الأحكام.

___________________________________________

أمّا الصّغرى فلما تقدّم من أوضحيّة المعنى المرتكز الّذي هو المعرّف.وأمّا الكبرى فلما ذكر في المنطق، وحينئذٍ فلا يبقى إلّا أن تكون تعاريف لفظيّة الّتي هي عبارة عن تبديل لفظ بلفظ آخر أوضح منه في الجملة.

الوجه الثّاني: إنّه حيث لا يترتّب على فهم العام بكنهه ثمرة عمليّة، فلا وجه لجعل التعاريف حقيقيّة وتجشّم إصلاحها طرداً وعكساً، وقد أشار إلى هذا بقوله: {فالظاهر أنّ الغرض من تعريفه} أي: العام {إنّما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعاً بين ما لا شبهة في أنّها أفراد العام} سواء كان شاملاً لبعض الأغيار أم لا، وسواء كان شاملاً لجميع الأفراد أم لا، إذ المقصود من التعريف الموجبة الجزئيّة {ليشار به} أي: بذلك المفهوم الواقع في التعريف {إليه} أي: إلى العام {في مقام إثبات ما له من الأحكام} وقد ذكروا أنّ التصوّر بوجهٍ ما كافٍ في التصديق لثبوت الحكم {لا بيان ما هو حقيقته وماهيّته، لعدم تعلّق غرض} عملي {به} أي: ببيان الحقيقة.

إن قلت: الغرض العملي هو معرفة أفراده حتّى يرتّب عليها الحكم المتعلّق بالعام.

قلت: هذا الغرض حاصل بدون التعريف لما تقدّم من معلوميّة المفهوم لدى الأذهان، وإلى هذا أشار بقوله: {بعد وضوح ما هو محلّ الكلام بحسب الأحكام} المتعلّقة بذاك العام {من أفراده ومصاديقه} فلا نحتاج إلى تعريف المفهوم {حيث} إنّ الحكم متعلّق بالأفراد المعلومة لدى الأذهان، و{لا يكون} المحكوم {بمفهومه العام محلّاً لحكم من الأحكام}.

ص: 99

ثمّ الظاهر: أنّ ما ذكر له من الأقسام - من الاستغراقي والمجموعي والبدلي - إنّما هو باختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام به،

___________________________________________

والحاصل: أنّ الحكم مترتّب على الأفراد، لا على المفهوم، فلا غرض في تحديده ولكن لا يخفى ورود الإشكال على كثير ممّا ذكر، كما يظهر من مراجعة الحواشي والمطوّلات.

{ثمّ} إنّهم ذكروا أنّ العموم على ثلاثة أقسام:

الأوّل: العموم الاستغراقي، وهو ما يكون الحكم فيه متعلّقاً بكلّ فرد، بحيث يكون لكلّ فرد إطاعة ومعصية مستقلّة بدون ارتباط لبعض الأفراد ببعض، نحو (أكرم العلماء) فإنّ إكرام كلّ فرد من أفراد العلماء واجب وتركه حرام، فلو أكرم فرداً ولم يكرم آخر كان مطيعاً بالنسبة إلى الأوّل وعاصياً بالنسبة إلى الآخر.

الثّاني: العموم المجموعي، وهو ما يكون الحكم فيه متعلّقاً بالمجموع من حيث المجموع، فله إطاعة واحدة وهو في ما أتى بالكلّ ومعصية واحدة وهو في ما ترك الجميع أو البعض، نحو ما لو وقع ابن المولى في البئر واحتاج المولى إلى جميع الحبال الموجودة في الدار لإنقاذه فقال لعبده: (جئني بالحبال) فإنّ لهذا الأمر إطاعة واحدة وهي الإتيان بجميعها ومعصية واحدة وهي ترك الجميع أو ترك حبل واحد منها.

الثّالث: العموم البدلي، وهو أن يكون التكليف واحداً لكنّه متعلّق بجميع الأفراد على سبيل البدل، بحيث لو أتى بواحدٍ كان مطيعاً، ولو ترك الكلّ كان عاصياً، نحو (جئني برجل) فإنّه لو أتى برجل واحد كان مطيعاً ولو ترك الكلّ كان عاصياً.

إذا عرفت هذا نقول: {الظاهر أنّ ما ذكر له من الأقسام، من الاستغراقي والمجموعي والبدلي} ليس بسبب اختلاف العام في نفسه، بل {إنّما هو باختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام به}.

ص: 100

وإلّا فالعموم في الجميع بمعنى واحد، وهو: «شمول المفهوم لجميع ما يصلح أنينطبق عليه». غاية الأمر أنّ تعلّق الحكم به:

تارةً بنحو يكون كلّ فرد موضوعاً على حدةٍ للحكم.

وأُخرى بنحو يكون الجميع موضوعاً واحداً، بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في (أكرم كلّ فقيه) - مثلاً - لَما امتثل أصلاً، بخلاف الصّورة الأُولى، فإنّه أطاع وعصى.

___________________________________________

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش ما لفظه:

«إن قلت: كيف ذلك ولكلّ واحد منها لفظ، غير ما للآخر، مثل: (أيّ رجل) للبدلي و(كلّ رجل) للاستغراقي؟

قلت: نعم، ولكنّه لا يقتضي أن تكون هذه الأقسام له ولو بملاحظة اختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام، لعدم إمكان تطرّق هذه الأقسام إلّا بهذه الملاحظة، فتأمّل جيّداً»(1)، انتهى.

وحاصل مرامه في الجواب أنّه - وإن سلّمنا اختلاف لفظ العام - إلّا أنّا نقول: منشأ ذلك لحاظ الواضع اختلاف كيفيّة تعلّق الحكم {وإلّا} يكن هناك اختلاف في كيفيّة تعلّق الحكم {فالعموم في الجميع بمعنى واحد، وهو «شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه»} من الأفراد.

{غاية الأمر أنّ تعلّق الحكم به تارةً بنحوٍ يكون كلّ فردٍ موضوعاً على حِدَةٍ للحكم} فيكون له إطاعات ومعاص.

{وأُخرى بنحو يكون الجميع موضوعاًواحداً} بنحو المجموعي {بحيث لو أخلّ بإكرام واحدٍ} من الفقهاء {في} ما لو قال المولى: {(أكرم كلّ فقيه) مثلاً، لما امتثل أصلاً، بخلاف الصّورة الأُولى} أعني: الاستغراقي {فإنّه} لو أخلّ بإكرام واحدٍ {أطاع وعصى}.

ص: 101


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 349.

وثالثةً بنحوٍ يكون كلّ واحد موضوعاً على البدل، بحيث لو أكرم واحداً منهم لقد أطاع وامتثل، كما يظهر لمن أمعن النّظر وتأمّل.

وقد انقدح: أنّ مثل شمول (عشرة) وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم؛ لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحدٍ منها،

___________________________________________

{وثالثةً} يكون الحكم {بنحو يكون كلّ واحدٍ موضوعاً على البدل، بحيث لو أكرم واحداً منهم لقد أطاع وامتثل، كما يظهر لمن أمعن النّظر وتأمّل}.

وقد يفرق بين الثّلاثة بعبارة أُخرى، وهي: أنّ العام الاستغراقي يطاع بفعل واحدٍ ويُعْصَى بترك آخر، والعام البدلي: يطاع بفعل واحدٍ من الأفراد ويُعْصَى بترك الجميع، والعام المجموعي يُطاع بفعل الجميع ويُعْصَى بترك واحدٍ، فالعام المجموعي والبدلي متعاكسان في الإطاعة والمعصية.

{وقد انقدح} من قولنا في تعريف العام: «وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه» {أنّ} اللّازم أن يكون للعام مفهومٌ واحدٌ ملحوظٌ بنحو يصلح للانطباق على كلّ فردٍ من أفراد العام، ف- {مثل شمول (عشرة) وغيرها، لآحادها المندرجة تحتها، ليس من العموم} لوضوح الفرق بين العامّ نحو (العلماء) وبينأسماء العدد ك- (عشرة) و(مائة) فإنّ (العلماء) ينطبق على الجميع بلحاظ مفهوم العام السّاري في كلّ واحد من الأفراد، بخلاف أسماء العدد {لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحد منها} إذ ليس لها صفة قابلة للانطباق، إذ اسم العدد وضع لمعنى منطبق فعلاً على جميع الآحاد، وليس فيه ماهيّة قابلة الانطباق على الأفراد.

والحاصل: أنّ أفراد (العالم) من مصاديقه، بخلاف (عشرة) فإنّ الأفراد ليس من مصاديقها، بل من أجزائها.

نعم، لفظة (عشرة) بالنسبة إلى العشرات الّتي هي مصاديقها ك- (عشرة أفراس)

ص: 102

فافهم.

فصل: لا شبهة في أنّ للعموم صيغة تخصّه - لغة وشرعاً - ، كالخصوص، كما يكون ما يشترك بينهما ويعمّهما؛ ضرورة أنّ مثل لفظ (كلّ) وما يرادفه - في أيّ لغة كان - يخصّه، ولا يخصّ الخصوص ولا يعمّه.

___________________________________________

و(عشرة أناسيّ) و(عشرة أثواب) من قبيل العام؛ لأنّ كلّ عشرة مصداق، فلفظة (العشرة) بالنسبة إلى (العشرات) عامّ، وبالنسبة إلى أفرادها ليست بعام.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى عدم تسليم الفرق بما ذكر بين العام المجموعي وبين اسم العدد، إذ الآحاد في كلّ واحد منهما جزء، وفيه ما لا يخفى.

[فصل هل للعموم صيغة تخصّه أم لا؟]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، هل للعموم صيغة تخصّه أم لا؟

{فصل} في بيان وجود ألفاظ العموم ودفع بعض الإشكالات عنها {لا شبهة في أنّ للعموم صيغة تخصّه لغة وشرعاً} خلافاً لمن ذهب إلى أنّ جميع الصّيغ المدّعى وضعها للعموم فهي موضوعة للخصوص، ومن قال بأنّها مشتركة بين العموم والخصوص، إلى غير ذلك منالأقوال.

والحاصل: أنّ للعموم لفظاً موضوعاً {كالخصوص} الّذي له لفظ موضوع، كالأعلام الشّخصيّة {كما يكون ما يشترك بينهما ويعمّهما} فيكون استعماله في كلٍّ من العموم والخصوص على نحو الحقيقة، وذلك كالمعرّف ب-(اللّام) فإنّها لو كانت للعهد كانت للخصوص، وإن كانت للاستغراق كانت للعموم.

وإنّما قلنا بوجود ألفاظ العموم: {ضرورة أنّ مثل لفظ (كلّ) وما يرادفه في أيّ لغة كان يخصّه} أي: يختصّ بالعموم حتّى يكون استعماله في الخصوص مجازاً، ألا ترى أنّه لو قال: (أكرم كلّ من دخل داري) فهم العرف منه الاستغراق، بحيث لو لم يكرم واحداً كان معاقباً {و} لفظ (كلّ) {لا يخصّ الخصوص} بحيث يكون موضوعاً للخاصّ فقط حتّى يكون استعماله في العام مجازاً {ولا يعمّه} أي: الخصوص

ص: 103

ولا ينافي اختصاصه به استعمالُه في الخصوص عناية، بادّعاء أنّه العموم، أو بعلاقة العموم والخصوص.

ومعه لا يُصغى إلى أنّ إرادة الخصوص متيقّنة ولو في ضمنه، بخلافه، وجعلُ اللفظ حقيقةً في المتيقّن أولى.

ولا إلى أنّ

___________________________________________

بحيث يكون مشتركاً بينهما حتّى يكون استعماله في كليهما على نحو الحقيقة.

{و} إن قلت: لو كان لفظ (كلّ) موضوعاً للعموم لما جاز أن يقال: (زيد كلّ الرّجل) ممّا استعمل فيه لفظ (كلّ) في الخصوص.

قلت: {لا ينافي اختصاصه} أي: «كلّ» {به} أي: بالعموم {استعماله في الخصوص عنايةً بادّعاء أنّهالعموم} حتّى يكون التصرّف في أمر عقلي، وهو ادّعاء أنّ زيداً من أفراد العام {أو} مجازاً بغير عناية الادّعاء، بل {بعلاقة العموم والخصوص} وهو استعمال لفظ العامّ وإرادة الخاصّ حتّى يكون التصرّف في أمر لغويّ {ومعه} أي: مع قيام الضّرورة على ما ذكر {لا يصغى إلى} إنكار ذلك الّذي ذكرنا من الوضع للعموم، وادّعاء أنّ لفظ (كلّ) ونحوه موضوع للخصوص فقط، مستدلّاً ب- {أنّ إرادة الخصوص متيقّنة ولو في ضمنه} أي: ضمن العموم، إذ الخاصّ مراد على أيّ حال، فإنّه إن أُريد الخاصّ فهو المطلوب، وإن أُريد العام كان الخاصّ مراداً أيضاً؛ لأنّ الخصوص بعض العموم وإرادة الكلّ تقتضي إرادة البعض {بخلافه} أي: العموم، فإنّ إرادته مشكوكة {وجعل اللّفظ حقيقة في المتيقّن أولى} فإنّ الوضع يتبع ما هو أكثر فائدة في مقام التفهيم والتفهّم والمتيقّن أقرب إلى التفهيم والتفهّم من المشكوك، كما لا يخفى.

{و} كذلك {لا} يصغى {إلى أنّ} وضع اللّفظ للعموم يقتضي كثرة المجاز، بخلاف وضعه للخصوص، ف-إنّه سبب لقلّة المجاز؛ لأنّ استعمال اللفظ ف-ي

ص: 104

التخصيص قد اشتهر وشاع حتّى قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خُصّ»، والظّاهر يقتضي كونه حقيقةً لما هو الغالب، تقليلاً للمجاز. مع أنّ تيقّن إرادته لا يوجب اختصاص الوضع به، مع كون العموم كثيراً ما يراد.

واشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز؛ لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازيّة،

___________________________________________

الخصوص أكثر من استعماله في العموم، إذ {التخصيص قد اشتهر وشاع حتّى قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خُصّ»،والظّاهر} من حال الواضع الحكيم الّذي يضع اللفظ لما هو أكثر دوراناً {يقتضي كونه} موضوعاً للخصوص حتّى يكون {حقيقة لما هو الغالب} مجازاً في ما هو النّادر {تقليلاً للمجاز}.

وإنّما قلنا بعدم الإصغاء إلى هذين الوجهين لأمرين:

الأوّل: ما تقدّم من قيام الضّرورة على العموم، فيكون هذان من قبيل الشّبهة في مقابل البديهة.

الثّاني: عدم سلامة كلّ من الوجهين من الخلل.

أمّا الوجه الأوّل: فلمّا أشار إليه بقوله: {مع أنّ تيقّن إرادته} أي: الخصوص {لا يوجب اختصاص الوضع به} إذ الإرادة المردّدة بين كونها ضمنيّاً لا تستلزم الوضع - على تقدير تسليم الاستلزام في الجملة - هو الإرادة المستقلّة.

وإن شئت قلت: إنّه لمّا كان بين الخاصّ والعامّ بحدودهما تضادّ لم يكن الخاصّ بحدّه متيقّناً حتّى يستلزم الوضع {مع} أنّه لو كانت إرادة العموم شاذّاً حتّى يلحق الوضع له بما لا فائدة فيه أمكن أن يكون للقول بالوضع للخصوص وجه، ولكن ليس كذلك ل- {كون العموم كثيراً ما يراد} من اللفظ.

{و} أمّا الوجه الثّاني: فلأنّ {اشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز، لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازيّة} لأنّ التخصيص عن المراد، لا عن المستعمل فيه، فإنّ العام في مورد إرادة الخاصّ مستعمل في عمومه، وإنّما المراد من هذا

ص: 105

كما يأتي توضيحه، ولو سلم فلا محذور فيه أصلاً إذا كان بالقرينة، كما لا يخفى.

فصل: ربّما عُدّ من الألفاظ الدالّة على العموم: النّكرةُ في سياق النّفي أوالنّهي.

ودلالتها عليه لا ينبغي أن ينكر عقلاً؛ لضرورة أنّه لا يكاد يكون طبيعةٌ معدومةً إلّا إذا لم يكن فرد منها بموجود، وإلّا كانت موجودة.

لكن لا يخفى: أنّها تفيده إذا أُخذت مرسلةً -

___________________________________________

العام المستعمل في العموم معناه الخاص بدالّين ومدلولين، كما أنّ إرادة المعهود من (الرّجل) لا يوجب استعماله في المعهود حتّى يلزم المجازيّة؛ لأنّه موضوع للطبيعة بلا عهد، بل (اللّام) مستعملة في العهد، و(رجل) مستعمل في معناه، ومن انضمامهما يفهم الرّجل المعهود {كما يأتي توضيحه} إن شاء اللّه - تعالى - .

{ولو سلم} التلازم بين التخصيص والمجاز {فلا محذور فيه أصلاً إذا كان بالقرينة، كما لا يخفى} إذ الاستعمال في غير المعنى الموضوع له مع القرينة لا ينافي الحقيقة وإنّما المضرّ هو كثرة الاستعمال بغير قرينة، فإنّها توجب إجمال اللفظ، فتدبّر.

[فصل الألفاظ الدالة على العموم]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، الألفاظ الدالة على العموم

{فصل} في النّكرة الواقعة في سياق النّفي {ربّما عدّ من الألفاظ الدالّة على العموم النّكرة} الواقعة {في سياق النّفي} نحو (لم يضرب أحد) {أو النّهي} نحو (لا تضرب أحداً) {ودلالتها عليه} أي: العموم {لا ينبغي أن ينكر عقلاً} فإنّ العقل دالّ في المقام على العموم {لضرورة} أنّهما يدلّان على نفي الطبيعة، و{أنّه لا يكاد يكون طبيعة معدومة إلّا إذا لم يكن فرد منها بموجود، وإلّا} فلو كان بعض أفراد الطّبيعة موجوداً {كانت موجودة} وهوخلف.

{لكن لا يخفى أنّها} أي: النّكرة في سياق النّفي {تفيده} أي: العموم {إذا أُخذت مرسلة} مطلقة.

ص: 106

لا مبهمة - قابلةً للتقييد، وإلّا فسلبها لا يقتضي إلّا استيعابَ السّلب لما أُريد منها يقيناً،

___________________________________________

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش ما لفظه: «وإحراز الإرسال في ما أُضيف إليه إنّما هو بمقدّمات الحكمة، فلولاها كانت مهملة وهي ليست إلّا بحكم الجزئيّة فلا تفيد إلّا نفي هذه الطبيعة في الجملة ولو في ضمن صنف منها، فافهم فإنّه لا يخلو من دقّة»(1)،

انتهى.

وإن شئت قلت: إنّ الطبيعة الواقعة في سياق النّفي على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الطبيعة المطلقة، أي: الّتي تمّت فيها مقدّمات الإطلاق، كأن يقول: (لا تضرب أحداً) مريداً بكلمة (أحد) جميع مدلوله اللغوي، ولا شكّ في إفادة هذا القسم العموم.

الثّاني: الطبيعة المقيّدة، كأن يقول: (لا تضرب أحداً من العدول) وهذا لا شكّ في إفادته للعموم، لكن بالنسبة إلى صنف خاصّ وهم العلماء فقط، فهذا القسم يشترك مع القسم الأوّل في إفادة العموم، وإنّما الفرق بأنّ الأوّل عامّ بالنسبة إلى جميع أفراد الطبيعة، والثّاني عامّ بالنسبة إلى جميع أفراد هذا الصّنف.

الثّالث: الطبيعة المهملة، بأن لم يكن المقام في مقام البيان فإنّه يحتمل العموم ويحتمل التقييد، كأن يقول: (لا تكرم فاسقاً) في مقام بيان رذيلة الفسق، لكنّه ليس بصدد بيان جميع أفراد الفسّاق حتّى يشمل الكرماء منهم، أو لا حتّىلا يشملهم، وهذا القسم - وإن كان في مقام الثّبوت يرجع إلى أحد الأوّلين؛ لأنّه إمّا أن يريد المطلق أو المقيّد - ولكنّه في مقام الإثبات مجمل مردّد.

وقد أشار المصنّف إلى هذا بقوله: {لا مبهمة قابلة للتقييد} والإطلاق {وإلّا} فلو لم تتمّ مقدّمات الحكمة، بأن كانت النّكرة الواقعة في سياق النّفي مهملة {فسلبها لا يقتضي إلّا استيعاب السّلب لما أُريد منها يقيناً} إن مطلقاً فمطلق وإن مقيّداً

ص: 107


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 355.

لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها.

وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقليّةً، فإنّها بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها، لا الأفراد الّتي تصلح لانطباقها عليها. كما لا ينافي دلالةَ مثل لفظ (كلّ) على العموم وضعاً، كونُ عمومه بحسب ما يراد من مدخوله، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة.

___________________________________________

فمقيّد و{لا} يقتضي {استيعاب ما يصلح انطباقها} أي: الطبيعة {عليه من أفرادها} بحسب الوضع اللغوي.

{وهذا} الّذي ذكرنا من عدم إفادة النّكرة في سياق النّفي للعموم في ما كانت مبهمة مهملة {لا ينافي كون دلالتها} أي: النّكرة في سياق النّفي {عليه} أي: على العموم {عقليّة، فإنّها} أي: الدلالة العقليّة على العموم {بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها} فاللفظ عامّ بالنسبة إلى الأفراد المرادة إن عامّاً فعامّ، وإن مقيّداً فمقيّد، و{لا} تدلّ على العموم بالنّسبة إلى {الأفراد الّتي تصلح} الماهيّة {لانطباقها عليها} في حال كونها مهملة.والحاصل: أنّ الطبيعة لو كانت مطلقة دلّ اللفظ على نفي الطبيعة، وذلك بضميمة حكم العقل - بأنّ نفي الطبيعة يستلزم نفي جميع مصاديقها - يدلّ على نفي جميع الأفراد، أمّا لو لم تكن الطبيعة مطلقة فلا يتمّ ذلك {كما لا ينافي دلالة مثل لفظ (كلّ)} و(عامّة) و(أجمع) ونحوها {على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله، ولذا} الّذي ذكرنا من أنّ العموم بحسب المدخول {لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة} ولو كان العموم بحسب المدخول من غير تقييد لم يمكن تقييده، مثلاً لو قال: (أكرم كلّ عالم أو عامّة العلماء أو العلماء أجمع) أفاد (كلّ) عموم العلماء لا الجهّال، ولو قال: (أكرم كلّ عالم عادل) أفاد عموم العدول منهم بحيث يصير حال غيره حال غير العالم.

ص: 108

نعم، لا يبعد أن تكون ظاهرة - عند إطلاقها - في استيعاب جميع أفرادها.

وهذا هو الحال في المحلّى باللّام، جمعاً كان أو مفرداً، - بناءً على إفادته للعموم - . ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره.

و

___________________________________________

{نعم} لو لم تقيّد النّكرة في سياق النّفي أو النّهي في اللفظ بقيد ودار الأمر بين الإهمال والإطلاق {لا يبعد أن تكون ظاهرة عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها} لأنّ الأصل - في مقام الشّكّ في الإطلاق - هو الإطلاق، كما سيأتي في بحث المطلق والمقيّد إن شاء اللّه - تعالى - .

وفسّر السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - العبارة بغير ما ذكرنا فقال: «قوله: «أن يكونظاهراً» يعني تفترق (كلّ) عن الأداة بأنّ الأداة مع إهمال مدخولها يكون النّفي مهملاً من حيث العموم والخصوص، و(كلّ) مع إهمال مدخولها وعدم اقترانه بما يقتضي تقييده أو إطلاقه تكون رافعة لإهماله وموجبة لإطلاقه»(1)،

انتهى.

{وهذا} الّذي ذكرنا من أنّ العموم بالنّسبة إلى أفراد ما يراد لا الأفراد الّذي يصحّ الانطباق عليها {هو الحال في المحلّى باللّام، جمعاً كان} نحو (أكرم العلماء) {أو مفرداً} نحو (أكرم العالم) {بناءً على إفادته} أي: المفرد المحلّى {للعموم} كما هو مذهب جماعة {ولذا} الّذي ذكرنا من أنّ المحلّى لعموم المدخول، لا للعموم بالنّسبة إلى ما يصحّ الانطباق {لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف} نحو أن يقول: (أكرم العلماء العدول) {وغيره} كأن يقول: (أكرم العلماء إذا كانوا عدولاً) مع أنّ (اللّام) لو كان لعموم المدخول لزم التنافي بينه وبين تقييده المقتضي لعدم العموم.

{و} إن قلت: لو كان (اللّام) لعموم المراد من أفراد المدخول لم يصدق في نحو

ص: 109


1- حقائق الأصول 1: 488.

إطلاق التخصيص على تقييده ليس إلّا من قبيل: (ضَيِّقْ فم الرّكيّة).

لكن دلالته على العموم وضعاً محلّ منع، بل إنّما يفيده في ما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أُخرى؛ وذلك لعدم اقتضائه وضعُ (اللّام) ولا مدخوله، ولا وضعٌ آخر للمركّب منهما، كما لا يخفى. وربّما يأتي في المطلق والمقيّد بعض الكلام ممّا يناسب المقام.

___________________________________________

(أكرم العلماء العدول) أنّه مقيّد ومخصّص؛ لأنّ التخصيص عبارة عن تضييق دائرة العموم في فرض ثبوته، وقد ذكرتم أنّه لا عموم في المقام فكيف يطلق عليه التخصيص.

قلت: {إطلاق التخصيص على تقييده ليس إلّا من قبيل (ضيّق فم الرّكية)} أي: البئر، فكما أنّ معنى (ضيّق) في المثال إحداثه ضيّقاً، لا تضييقه بعد ما كان موسّعاً، فكذلك في المقام فإنّ معنى تخصيص المحلّى حدوثه مخصّصاً، لا أنّه يطرأ التخصيص بعد العموم، فليس المراد من التخصيص المعنى المصطلح حتّى ينافي القول بأنّ المحلّى لعموم المراد من المدخول.

{لكن} لا يخفى أنّ المعروف ب-(اللّام) وإن اشتهر {دلالته على العموم وضعاً} ولكنّه {محلّ منع، بل إنّما يفيده} أي: المحلّى يفيد العموم {في ما إذا اقتضته الحكمة} بأن تمّت مقدّمات الإطلاق، كما لو كان المولى في مقام البيان وقال: (أكرم العلماء) أو (أحلّ اللّه البيع) {أو} كانت هناك {قرينة أُخرى} خاصّة غير مقدّمات الحكمة.

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم دلالة المحلّى على العموم وضعاً {لعدم اقتضائه} أي: العموم {وضع اللّام} فاعل «اقتضائه» لأنّ اللّام إشارة إلى الماهيّة المميّزة في الذهن {ولا مدخوله} لأنّه موضوع لنفس الماهيّة {ولا وضع آخر للمركّب منهما} أي: من (اللّام) ومدخوله {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل {وربّما يأتي في} مبحث {المطلق والمقيّد بعض الكلام ممّا يناسب المقام} إن شاء اللّه - تعالى - .

ص: 110

فصل: لا شبهة في أنّ العام المخصّص -بالمتصل أو المنفصل - حجّة في ما بقي،

___________________________________________

[فصل حجيّة العام المخصَّص في الباقي]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، حجيّة العام المخصَّص في الباقي

{فصل} اعلم أنّ العامّ قد يخصّص بدليل متّصل، كأن يقول: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم) وقد يخصّص بدليل منفصل كأن يقول: (أكرم العلماء) ثمّ يقول بعد مدّة: (لا تكرم الفسّاق من العلماء)، إذا عرفت ذلك فنقول: قد اختلف في حجيّة العامّ بالنسبة إلى غير مورد التخصيص أم لا؟

فذهب قوم إلى عدم الحجيّة، فالعلماء غير الفسّاق لا يجب إكرام جميعهم.

والمشهور على الحجيّة.

وبعضهم فصّل بين المخصّص المتصل وبين المنفصل.

وكيف كان، فالحقّ أنّه {لا شبهة في أنّ الع--ام المخصّص - ب-المتصل أو المنفصل - حجّة في ما بقي} لأنّ العام كان ظاهراً في الجميع، فبعد خروج بعض الأفراد لا ينثلم ظهوره في الباقي، ولهذا لو لم يكرم العبد غير مورد التخصيص معتذراً بعدم الظهور لم يقبل منه.

نعم، هنا كلام لا بدّ من التنبيه عليه وهو أنّ الأفراد بعد التخصيص على ثلاثة أقسام:

منها: ما هو مقطوع الخروج.

ومنها: ما هو مقطوع الدخول ولا شبهة فيهما.

ومنها: ما هو مشكوك الدخول والخروج، كأن لم يعلم أنّه فاسق حتّى لا يكرمه أو عادل حتّى يكرمه، وفي هذا القسم انعقاد تفصيل، وهو أنّ المخصّص لو كان متصلاً لم يكن العام حجّة في هذا المشكوك لعدم ظهور للعام في جميع الأفراد حتّى يقال: إنّه كان مشمولاً لحكم العام ولم يعلم خروجه فيجب إكرامه، ولو كان منفصلاً كان العام حجّة فيه؛ لأنّ العام شمله قطعاً وخروجهمشكوك.

ص: 111

في ما علم عدم دخوله في المخصّص مطلقاً ولو كان متّصلاً، وما احتمل دخوله فيه أيضاً إذا كان منفصلاً، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل لا ينسب الخلاف إلّا إلى بعض أهل الخلاف(1).

وربّما فصّل بين المخصّص المتصل، فقيل بحجيّته فيه، وبين المنفصل، فقيل بعدم حجيّته.

واحتجّ النّافي بالإجمال؛ لتعدّد المجازات حسب مراتب الخصوصيّات، وتعيّنُ الباقي من بينها بلا معيّن، ترجيحٌ بلا مرجّح.

___________________________________________

وإلى هذا التفصيل أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: إنّ العام حجّة في ما بقي {في ما علم عدم دخوله في المخصّص مطلقاً} وبين الإطلاق بقوله: {ولو كان} المخصّص {متصلاً، و} كذا العام حجّة في ما بقي {ما احتمل دخوله فيه} أي: في المخصّص {أيضاً إذا كان} المخصّص {منفصلاً} وأمّا المشكوك الدخول فيهما كان المخصّص متّصلاً فليس العام حجّة فيه {كما} سبق، وهذا الّذي ذكرنا من حجيّة العام في الباقي {هو المشهور بين الأصحاب، بل لا ينسب الخلاف إلّا إلى بعض أهل الخلاف} من العامّة.

{وربّما فصّل بين المخصّص المتصل فقيل بحجيّته} أي: العام المخصّص {فيه} أي: في الباقي {وبين المنفصل فقيل بعدم حجيّته} فيه.{واحتجّ النّافي} للحجيّة مطلقاً {بالإجمال} للعام بعد التخصيص {لتعدّد المجازات حسب مراتب الخصوصيّات} فلو قال: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق) لم يعلم أنّ المراد بالعلماء جميع العدول أو بعضهم؛ لأنّ العلماء لمّا صار مجازاً بسبب عدم إرادة ظهوره الأوّلي في العموم ولم تكن قرينة معيّنة للمجاز وكان المجاز كثيراً لم يمكن الأخذ بالباقي {و} ذلك لأنّ {تعيّن الباقي من بينها} أي: بين المجازات {بلا معيّن} يدلّ عليه {ترجيح بلا مرجّح} وهذا كما لو كان للفظ

ص: 112


1- الإحكام في أصول الأحكام 2: 227؛ أصول الجصّاص 1: 131.

والتحقيق في الجواب أن يقال: إنّه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازاً:

أمّا في التخصيص بالمتصل: فلما عرفت من أنّه لا تخصيص أصلاً، وأنّ أدوات العموم قد استعملت فيه، وإن كان دائرته - سعةً وضيقاً - تختلف باختلاف ذوي الأدوات، فلفظة (كلّ) في مثل: (كلّ رجل) و(كلّ رجل عالم) قد استعملت في العموم، وإن كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر، - بل في نفسها - في غاية القلّة.

___________________________________________

(الأسد) مجازات كثيرة: الرّجل الشّجاع، والهرّة الهاجمة، والرجل الأبخر، والشّخص المشعر، وغيرها، ثمّ قامت قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي الّذي هو الحيوان المفترس كان القول بإرادة بعض المجازات دون بعض بلا مرجّح، فلا يصار إليه إلّا بالقرينة.

{والتحقيق في الجواب أن يقال} ببقاء الظهور العرفي في الباقي وهو المعيّن لهذا الفرد من المجازات المحتملة. هذا على تقدير القول بالمجازيّة وإلّا فنقول: {إنّه لا يلزم منالتخصيص كون العام مجازاً}.

{أمّا في التخصيص بالمتّصل فلما عرفت من أنّه لا تخصيص أصلاً وأنّ أدوات العموم قد استعملت فيه} أي: في العموم، لما قلنا من أنّ العموم بحسب المراد، لا بحسب ما يصلح انطباق اللّفظ عليه {وإن كان دائرته سِعَةً وضيقاً، تختلف باختلاف ذوي الأدوات} أي: المدخولات لأدوات العموم {فلفظة (كلّ) في مثل: (كلّ رجل)} الموسّع {و(كلّ رجل عالم)} المضيّق {قد استعملت في العموم} وأُريد بها جميع الأفراد المرادة {وإن كان أفراد أحدهما} أعني: المقيّد بالعلم {بالإضافة إلى الآخر} أعني: غير المقيّد {بل في نفسها في غاية القلّة} كما لو كان أفراد العلماء ثلاثة.

وبهذا تبيّن أنّ استعمال العام في المقيّد ليس مجازاً حتّى يقال بأنّ المجازات كثيرة ولا معيّن لبعضها فيصير اللفظ مجملاً فلا يكون حجّة في الباقي.

ص: 113

وأمّا في المنفصل: فلأنّ إرادة الخصوص واقعاً لا تستلزم استعمالَه فيه، وكونَ الخاصّ قرينةً عليه، بل من الممكن - قطعاً - استعمالُه معه في العموم قاعدةً، وكونُ الخاصّ مانعاً عن حجيّة ظهوره،

___________________________________________

{وأمّا في المنفصل فلأنّ} ذكر العام وإرادة الخاص يتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن يستعمل العام في الخاص ابتداءً مجازاً، كأن يستعمل (العلماء) في (أكرم العلماء) في العدول منهم، ثمّ ينصب قرينة على هذا الاستعمال المجازي، كما يستعمل (الأسد) في الرّجل الشّجاع ابتداءً، ويراد به ذلك، ثمّينصب قرينة - نحو (يرمي) - على المجازيّة.

الثّاني: - أن يستعمل العام في العموم - أعني: معناه الحقيقي الموضوع له - ولكن يكون المراد الجدّي للمولى خاصّاً.

بيان ذلك: أنّه قد يكون للمولى حين الاستعمال إرادة جديّة وإرادة استعماليّة، فيريد بالإرادة الاستعماليّة تمام الموضوع له ويريد بالإرادة الجديّة بعضه، والميزان في الإطاعة والمعصية هي الإرادة الجديّة وفي الحقيقة والمجاز هي الإرادة الاستعماليّة، وإنّما تختلف الإرادتان؛ لأنّه يريد استعمال اللفظ في تمام معناه ضرباً للقاعدة حتّى يرجع إليه في مقام الشّكّ ويريد البعض جدّاً لقيام المصلحة به.

إذا عرفت ما ذكرنا قلنا: إنّ العام المراد به الخاصّ يكون مجازاً على التصوير الأوّل، وأمّا على التصوير الثّاني فلا، لما تقدّم من أنّ {إرادة الخصوص واقعاً} بالإرادة الجديّة {لا تستلزم استعماله} أي: العام {فيه} أي: في الخصوص {وكون الخاصّ قرينة عليه} حتّى يكون الاستعمال مجازاً {بل من الممكن قطعاً استعماله} أي: العام الكائن {معه} أي: مع المخصّص المنفصل {في العموم قاعدة} بأن يعلّق الحكم على جميع أفراد الموضوع ظاهراً بالإرادة الاستعماليّة.

{وكون الخاصّ مانعاً عن حجيّة ظهوره} في تعلّق الإرادة الجديّة بالعموم فيرفع

ص: 114

تحكيماً للنصّ - أو الأظهر - على الظاهر، لا مصادماً لأصل ظهوره، ومعه لا مجال للمصير إلى أنّه قد استعمل فيه مجازاً، كي يلزم الإجمال.

لا يقال: هذا مجرّد احتمال ولا يرتفع به الإجمال؛ لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه.فإنّه يقال: مجرّد احتمال استعماله فيه لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره في العموم، والثّابتُ من مزاحمته بالخاصّ إنّما هو بحسب الحجيّة، تحكيماً لما هو الأقوى، كما أشرنا إليه آنفاً.

___________________________________________

اليد عن هذا الظاهر {تحكيماً للنصّ أو الأظهر} الّذي هو الخاص {على الظاهر} الّذي هو العام، و{لا} يكون الخاص حينئذٍ {مصادماً لأصل ظهوره} أي: ظهور العام حتّى لا يكون العام ظاهراً في الجميع الموجب لمجازيّة العام، فيرد إشكال الخصم وأنّ العام بعد المجازيّة مردّد بين مراتب الباقي ولا معيّن لبعضها فيصير مجملاً {ومعه} أي: مع هذا الاحتمال الثّاني - وهو أن يستعمل العام في الموضوع له بالإرادة الاستعماليّة الموجب لكون اللفظ حقيقة - {لا مجال للمصير إلى أنّه قد استعمل فيه مجازاً كي يلزم الإجمال} الموجب لعدم حجيّة العام في الباقي.

{لا يقال: هذا} الّذي ذكرتم من استعمال العام في العموم {مجرّد احتمال ولا يرتفع به الإجمال، لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه} فيكون مجازاً ومجملاً لا يمكن التمسّك به في الباقي.

{فإنّه يقال: مجرّد احتمال استعماله} أي: العام {فيه} أي: في الخاص {لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره في العموم} بحسب الإرادة الاستعماليّة.

{و} إن قلت: يلزم رفع اليد عن هذا الظهور لمزاحمة الخاصّ له.

قلت: {الثّابت من مزاحمته بالخاص} ليس بحسب الظهور والاستعمال، بل {إنّما هو بحسب الحجيّة تحكيماًلما هو الأقوى، كما أشرنا إليه آنفاً} من أنّ الخاصّ

ص: 115

وبالجملة: الفرق بين المتصل والمنفصل - وإن كان بعدم انعقاد الظهور في الأوّل إلّا في الخصوص، وفي الثّاني إلّا في العموم - إلّا أنّه لا وجه لتوهّم استعماله مجازاً في واحد منهما أصلاً، وإنّما اللّازم الالتزام بحجيّة الظهور في الخصوص في الأوّل، وعدم حجيّة ظهوره في خصوص ما كان الخاصّ حجّة فيه في الثّاني، فتفطّن.

___________________________________________

قرينة لعدم الإرادة الجديّة بالنسبة إلى العموم لا لعدم الإرادة الاستعماليّة.

وإن قلت: ما ذكرتم إنّما يصحّ في المخصّص المنفصل حيث ينعقد الظهور للعام في العموم، وأمّا المخصّص المتصل فلا يستقيم ذلك فيه، إذ قد تقدّم عدم انعقاد ظهور للعام في العموم.

قلت: لا ربط للمتصل والمنفصل في المجازيّة.

{وبالجملة الفرق بين} المخصّص {المتصل والمنفصل - وإن كان بعدم انعقاد الظهور في الأوّل إلّا في الخصوص} حتّى لو قال: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق) كان معناه وجوب إكرام العالم غير الفاسق، فلا يمكن التمسّك بالعام في الفرد المشكوك لعدم انعقاد ظهور للعام في العموم {وفي الثّاني إلّا في العموم -} فيصحّ التمسّك بالعام في الفرد المشكوك {إلّا أنّه لا وجه لتوهّم استعماله مجازاً في واحد منهما أصلاً} حتّى يلزم الإجمال المدّعى.

{وإنّما اللّازم} هو {الالتزام بحجيّة الظهور في الخصوص في الأوّل} الّذي هو عبارة عن المخصّص بالمتصل{وعدم حجيّة ظهوره في خصوص ما كان الخاصّ حجّة فيه} بل يكون حجّة في المتيقّن من أفراد العام والمشكوك. مثلاً لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم الفسّاق) فإنّ عدم حجيّة ظهور العام إنّما يكون بالنسبة إلى خصوص الفسّاق المقطوع دخولهم في (لا تكرم الفسّاق) وأمّا العدول والمشكوك عدالتهم وفسقهم، فالعام حجّة فيهم {في الثّاني} الّذي هو عبارة عن المخصّص بالمنفصل {فتفطّن} ذلك.

ص: 116

وقد أُجيب(1)

عن الاحتجاج: بأنّ الباقي أقرب المجازات.

وفيه: أنّه لا اعتبار بالأقربيّة بحسب المقدار، وإنّما المدار على الأقربيّة بحسب زيادة الأُنس النّاشئة من كثرة الاستعمال.

وفي تقريرات بحث شيخنا الأُستاذ(قدس سره) - في مقام الجواب عن الاحتجاج - ما هذا لفظه: «والأولى أن يجاب

___________________________________________

{وقد أُجيب عن الاحتجاج} المتقدّم لإجمال العامّ بعد التخصيص {بأنّ الباقي أقرب المجازات} وأقرب المجازات أولى بالإرادة حين تعذّر إرادة الحقيقة.

أمّا كونه أقرب المجازات فلوضوح أنّ التسعمائة مثلاً أقرب إلى الألف الّذي هو الحقيقة من ثمانمائة وسبعمائة ونحوهما، مع أنّ الكلّ مجازات.

وأمّا أنّ الأقرب أولى بالإرادة؛ فلأنّ الأقرب أقرب إلى المعنى الحقيقي في الذهن، فكما أنّ (الأسد) إذا كان مجازاً انصرف الذهن إلى الشّجاع لا المشعر والأبخر لقربه دونهما، كذلك في ما نحن فيه.{وفيه أنّه لا اعتبار بالأقربيّة بحسب المقدار} ومراد القوم حيث يقولون: «بأنّ أقرب المجازات أولى بالإرادة» ليس هذا النّحو من الأقربيّة {وإنّما المدار على الأقربيّة بحسب زيادة الأُنس} بين المعنى الحقيقي وبين المعنى المجازي {النّاشئة من كثرة الاستعمال} وهنا ليس كذلك، إذ لا أُنس للذهن بواحد من المجازات فكلّها سواء من هذه الجهة. هذا ولكن الإنصاف أنّه على فرض القول بالمجازيّة لا محيص عن القول بما قالوا، فتدبّر.

{وفي تقريرات بحث شيخنا الأُستاذ} الأنصاري {(قدس سره) في مقام الجواب عن الاحتجاج ما هذا لفظه: «والأولى أن يجاب} عن استدلال من نفى حجيّة العام بعد التخصيص في تمام الباقي، بل قال بإجمال اللفظ بعد التخصيص

ص: 117


1- قوانين الأصول 1: 266؛ الفصول الغرويّة: 200.

- بعد تسليم مجازيّة الباقي - بأنّ دلالة العام على كلّ فرد من أفراده غيرُ منوطة بدلالته على فردٍ آخر من أفراده، ولو كانت دلالة مجازيّة؛ إذ هي بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة، لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله،

___________________________________________

{- بعد تسليم مجازيّة} العام في {الباقي - بأنّ} المجاز على قسمين:

الأوّل: أن يكون المعنى المجازي مبايناً للمعنى الحقيقي، كالرّجل الشّجاع المباين للحيوان المفترس، والمجازيّة في هذا القسم تكون من جهتين: دخول الأجنبي، وخروج الموضوع له.الثّاني: أن يكون بين المعنى المجازي والحقيقي الأقلّ والأكثر، وتكون المجازيّة باعتبار خروج بعض الأفراد عن الموضوع له، كما في ما نحن فيه، إذ مجازيّة لفظ العام إنّما هو بسبب خروج بعض الأفراد لا بسبب دخول الأجنبي، وحينئذٍ فنقول: إنّ {دلالة العامّ على كلّ فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده} بل الدلالة منحلّة إلى دلالات ضمنيّة متعدّدة بتعدّد الأفراد، فالعام الّذي له أفراد عشرة - مثلاً - تنحلّ دلالته إلى عشرة دلالات ضمنيّة، فكلّ فرد قد استعمل فيه العام ضمناً.

هذا في ما كان العام حقيقة {و} هكذا {لو كانت دلالة مجازيّة} على بعض الأفراد، وذلك حيث كان العام مخصّصاً، وإنّما قلنا ببقاء الدلالة الضّمنيّة بعد التخصيص والمجازيّة {إذ هي} أي: المجازيّة لا تضرّ بهذه الدلالة، وذلك لأنّها {بواسطة عدم شموله} أي: العام {للأفراد المخصوصة} الخارجة بالتخصيص {لا بواسطة دخول غيرها} أي: غير تلك الأفراد {في مدلوله} حتّى يكون من قبيل استعمال (الأسد) في الرّجل الشّجاع المقتضي لانهدام الدلالة السّابقة برمّتها، فالمجازيّة في ما نحن فيه إنّما صارت سبباً لعدم بعض الدلالات الضّمنيّة من غير مدخليّة لها نفياً أو إثباتاً بالنسبة إلى الدلالات الضّمنيّة الأُخر

ص: 118

فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود؛ لأنّ المانع في مثل المقام إنّما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي؛ لاختصاص المخصّص بغيره، فلو شكّفالأصل عدمه»(1)،

انتهى موضع الحاجة.

قلت: لا يخفى أنّ دلالته على كلّ فرد إنّما كانت لأجل دلالته على العموم والشّمول، فإذا لم يستعمل فيه واستعمل في الخصوص - كما هو المفروض - مجازاً، وكان إرادة كلّ واحد من مراتب الخصوصيّات - ممّا جاز انتهاءُ التخصيص إليه، واستعمالُ العام فيه مجازاً -

___________________________________________

{فالمقتضي للحمل على الباقي} كالعدول في مثال (أكرم العلماء إلّا الفسّاق) {موجود} وهو الدلالة الضّمنيّة الّتي كانت قبل التخصيص {والمانع مفقود} بيان فقدان المانع {لأنّ المانع في مثل المقام} الّذي هو مقام الدلالة اللفظيّة {إنّما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه} أي: انتفاء الصّارف {بالنسبة إلى} الأفراد {الباقي} وهم العدول في المثال {لاختصاص المخصّص بغيره، ف-} يكون للعام دلالة على تمام الباقي، و{لو شكّ} في وجود المانع بأن لم يعلم أنّ التخصيص صار سبباً لانهدام الدلالة في الباقي أم لا {فالأصل عدمه»} وبهذا كلّه تبيّن عدم إجمال العام بعد التخصيص {انتهى موضع الحاجة} من كلامه، زيد في علوّ مقامه.

{قلت}: إنّ ما ادّعاه الشّيخ(رحمة الله) من وجود المقتضي للحمل على تمام الباقي ممنوع، وذلك لما {لا يخفى} من {أنّ دلالته} أي: دلالة العام قبل التخصيص {على كلّ فرد إنّما كانت لأجل دلالتهعلى العموم والشّمول} فالدلالات الضّمنيّة مستندة إلى الدلالة على العموم {فإذا لم يستعمل} العام {فيه} أي: في العموم {واستعمل في الخصوص - كما هو المفروض - مجازاً، وكان إرادة كلّ واحد من مراتب الخصوصيّات ممّا جاز انتهاء التخصيص إليه} بأن لم يكن مستهجناً {واستعمال العام فيه مجازاً}

ص: 119


1- مطارح الأنظار 2: 132.

ممكناً، كان تعيين بعضها بلا معيّن ترجيحاً بلا مرجّح، ولا مقتضى لظهوره فيه؛ ضرورة أنّ الظهور إمّا بالوضع، وإمّا بالقرينة، والمفروض أنّه ليس بموضوع له، ولم يكن هناك قرينة، وليس له موجب آخر.

ودلالته على كلّ فردٍ على حدة - حيث كانت في ضمن دلالته على العموم - لا توجب ظهوره في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم، إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه. فالمانع عنه وإن كان مدفوعاً بالأصل، إلّا أنّه لا مقتضي له بعد رفع اليد عن الوضع.

___________________________________________

عطف على «انتهاء التخصيص» {ممكناً} خبر «وكان إرادة» {كان تعيين بعضها} أي: بعض مراتب الخصوصيّات {بلا معيّن} حال {ترجيحاً بلا مرجّح} إذ مستند الدلالات الضّمنيّة هو دلالة العام على الكلّ، فإذا سقط هذه الدلالة سقطت الدلالات الضّمنيّة.

{و} على هذا ف- {لا مقتضى لظهوره} أي: العام المخصّص {فيه} أي: في بعض مراتب الخصوصيّات {ضرورة أنّ الظهور إمّا بالوضع وإمّا بالقرينة} العامّة أو الخاصّة {والمفروض أنّه} أي: تمام الباقي {ليس بموضوع لهولم يكن هناك} بعد التخصيص {قرينة} لا عامّة، لعدم مقدّمات الحكمة فتدبّر، ولا خاصّة، لفرض مكان عدم القرينة {وليس له} أي: للظهور في تمام الباقي {موجب آخر}.

{و} الحاصل: أنّ {دلالته على كلّ فرد على حدة} بالدلالة الضّمنيّة {حيث كانت في ضمن دلالته على العموم لا توجب ظهوره} أي: العام {في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم، إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه} من بين المجازات {فالمانع عنه} أي: عن الظهور في تمام الباقي {وإن كان مدفوعاً} قطعاً، أو {بالأصل} كما ذكره الشّيخ(رحمة الله) {إلّا أنّه لا مُقْتَضِيَ له بعد رفع اليد عن الوضع}.

ص: 120

نعم، إنّما يجدي إذا لم يكن مستعملاً إلّا في العموم، كما في ما حقّقناه في الجواب، فتأمّل جيّداً.

فصل:

___________________________________________

{نعم} عدم المانع {إنّما يجدي} في الظهور في تمام الباقي {إذا لم يكن} العام المخصّص {مستعملاً إلّا في العموم} حتّى يكون الدلالة على الخاصّ بنحو تعدّد الدالّ والمدلول {كما} تقدّم {في ما حقّقناه في الجواب، فتأمّل جيّداً} وقد عرفت في طيّ هذا الفصل عدم مجازيّة العام المخصّص، فلا يحتاج إلى عقد فصل في تحقيق أنّه مجاز أو حقيقة على ما هو دأب القوم، واللّه العالم.

[فصل هل يسري إجمال الخاص إلى العام؟]

اشارة

المقصد الرّابع: في العام والخاص، هل يسري إجمال الخاص إلى العام؟

{فصل} في بيان أنّ إجمال المخصّص هل يسري إلى العام أم لا؟ اعلم أنّ المخصّص على قسمين:

الأوّل: أن يكون مبيّن المفهوم والمصداق، كأن يقول: (لا تكرم أحداً إلّا العدول) مع معلوميّة مفهوم العدل بأنّه الّذي يجتنب الكبائر عن ملكة، ومصداقه بأن نعلم أنّ (العادل زيد، وعمرو، وبكر).

الثّاني: أن يكون مجملاً، وهو على ثمانية أقسام: لأنّ الإجمال إمّا في المفهوم وإمّا في المصداق، وعلى كلا التقديرين فأمر المخصّص دائر إمّا بين الأقلّ والأكثر وإمّا بين المتباينين، وعلى كلّ تقدير فالمخصّص إما متّصل وإمّا منفصل.

فالأوّل والثّاني: أن يكون الإجمال في المفهوم مع دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، مثل أن يتردّد أمر العدالة بين أن يكون مطلق الاجتناب عن المعصية أو الاجتناب عن ملكة، بمعنى أنّ الاجتناب عن ملكة يقيناً داخل في مفهوم العدالة وإنّما الشّكّ في الاجتناب لا عن ملكة.

ص: 121

إذا كان الخاصّ بحسب المفهوم مجملاً - بأن كان دائراً بين الأقلّ والأكثر وكان منفصلاً - فلا يسري إجماله إلى العام، لا حقيقة ولا حكماً،

___________________________________________

والثّالث والرّابع: أن يكون الإجمال في المفهوم مع دوران الأمرين المتباينين، كما لو تردّد العدالة بين الملكة أو حسن الظاهر، فتدبّر.

والخامس والسّادس: أن يكون الإجمال في المصداق مع دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، كأن نعلم بعدالة زيد وعمرو وبكر، ونشكّ في غيرهم، لا لأجل الشّكّ في مفهوم العدالة، بل لأجل عدم الاطّلاع على حالهم.والسّابع والثّامن: أن يكون الإجمال في المصداق مع دوران الأمر بين المتباينين، كأن لا نعلم أنّ زيداً عادل أو عمرواً مع العلم بعدالة أحدهما. وفي كلّ هذه الصّور المجملة إمّا أن يكون المخصّص متصلاً، كأن يقول: (لا تصلّ خلف أحد إلّا العدول) أو منفصلاً كأن يقول: (لا تصلّ خلف أحد) ثمّ يقول: (صلّ خلف العدول) ولهذا ذكرنا الأقسام مثنى مثنى.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه لا شبهة في عدم العمل بالعام في الأفراد المتيقّن خروجها، وكذا لا شبهة في العمل بالعام في الأفراد المتيقّن بقاؤها، وإنّما الكلام في الأفراد المشكوكة ولبيان حكمها انعقد هذا الفصل.

وحاصله: أنّه لو كان الخاصّ مجملاً بأحد الأنحاء الثّمانية فهل يسري إجماله إلى العامّ حتّى يكون العام مجملاً أيضاً فلا يمكن التمسّك به في الأفراد المشكوكة، أم لا يسري الإجمال إلى العام فيتمسّك به في تلك الأفراد وتكون محكومة بحكم العام؟

إذا تبيّن ما ذكر فاعلم أنّه {إذا كان الخاصّ بحسب المفهوم مجملاً - بأن كان دائراً بين الأقلّ والأكثر وكان منفصلاً} وهو الثّاني من الأقسام الثّمانية - {فلا يسري إجماله إلى العام لا حقيقة} بأن يرتفع ظهوره {ولا حكماً} بأن يبقى ظهوره، ولكن

ص: 122

بل كان العام متّبعاً في ما لا يتبع فيه الخاصّ؛ لوضوح أنّه حجّة فيه بلا مزاحم أصلاً؛ ضرورةَ أنّ الخاصّ إنّما يزاحمه في ما هو حجّة على خلافه، تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر، لا في ما لا يكون كذلك، كما لا يخفى.

وإن لم يكن كذلك - بأن كان دائراً بين المتباينين مطلقاً، أو بين الأقلّ والأكثر في ما كان متصلاً - فيسرى إجماله إليهحكماً في المنفصل المردّد بين المتباينين،

___________________________________________

ترتفع حجيّته {بل كان العام متّبعاً في ما لا يتبع فيه الخاص} فلو قال: (صلّ خلف العادل) بعد قوله: (لا تصلّ خلف أحد) ثمّ شكّ في من يجتنب المعاصي لا عن ملكة، فإنّه لا تصحّ الصّلاة خلفه وكان محكوماً بحكم العام {لوضوح أنّه} أي: العام {حجّة فيه} أي: في ما لا يتبع فيه الخاصّ {بلا مزاحم أصلاً، ضرورة أنّ الخاصّ إنّما يزاحمه} أي: العام {في ما هو حجّة على خلافه} أي: في ما كان الخاصّ حجّة على خلاف العام {تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر} والترديد: إمّا لأجل اختلاف الخاصّ فقد يكون نصّاً وقد يكون أظهر، وإمّا لأجل الاختلاف في الخاصّ مطلقاً بأنّه هل يكون أظهر من العام أو نصّاً بالنسبة إليه؟ و{لا} يزاحم الخاصّ للعام {في ما لا يكون كذلك} أي: في الأفراد الّتي لا يكون الخاصّ حجّة فيها، كالأفراد المشكوكة، كما نحن فيه {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{وإن لم يكن كذلك -} أي: ممّا دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر مع انفصال المخصّص {بأن كان} الخاصّ مجملاً بحسب المفهوم {دائراً بين المتباينين مطلقاً} سواء كان المخصّص متّصلاً أم منفصلاً {أو} كان أمر الخاصّ المجمل دائراً {بين الأقلّ والأكثر في ما كان} المخصّص {متّصلاً} وهذه هي الثّلاثة الباقية في إجمال المفهوم من الأقسام الثّمانية - {فيسري إجماله} أي: إجمال المخصّص {إليه} أي: إلى العام {حكماً في المنفصل المردّد بين المتباينين} لا حقيقة.مثلاً: لو قال: (لا تصلّ خلف أحد) ثمّ قال: (صلّ خلف العادل) وتردّد العادل

ص: 123

وحقيقةً في غيره:

أمّا الأوّل: فلأنّ العام - على ما حقّقناه - كان ظاهراً في عمومه، إلّا أنّه لا يتبع ظهورُه في واحد من المتباينين اللّذين علم تخصيصه بأحدهما.

وأمّا الثّاني: فلعدم انعقاد ظهور من رأس للعام؛ لاحتفاف الكلام

___________________________________________

بين أن يكون صاحب الملكة وبين أن يكون حسن الظاهر، فإنّ ظهور العام في العموم منعقد ولا ينثلم بإجمال المخصّص ظهوره، وإنّما ينثلم به حجيّته فلا يمكن التمسّك به في الفرد المشكوك {و} يسري إجمال المخصّص إلى العام {حقيقة} بحيث ينثلم ظهوره {في غيره} أي: غير المنفصل المردّد بين المتباينين، وهو عبارة عن المتّصل المردّد بين المتباينين، كما لو قال في المثال السّابق: (لا تصلّ خلف أحد إلّا العدول)، والمتّصل المردّد بين الأقلّ والأكثر، كما لو قال كذلك، إلّا أنّ أمر العدالة تردّد بين الاجتناب مطلقاً وبين الاجتناب عن ملكة.

{أمّا الأوّل} وهو ما ذكره بقوله: «فيسري إجماله إليه حكماً في المنفصل المردّد بين المتباينين» {فلأنّ العام على ما حقّقناه كان ظاهراً في عمومه} إذ تقدّم أنّ الإرادة الاستعماليّة تقتضي استعمال العام في الموضوع له الحقيقي وإن كانت الإرادة الجديّة على خلاف ذلك {إلّا أنّه} أي: العام مجمل حكماً بالنسبة إلى مشكوك العدالة، و{لا يتبع ظهوره في واحد من المتباينين اللّذين علم تخصيصه بأحدهما}فلا يعمل بظاهر العام في مسألة الاقتداء بمن حسن ظاهره بلا ملكة، أو كانت له الملكة بلا حسن الظاهر؛ لأنّا نعلم بخروج أحد الطائفتين عن العام ولا نعلم أنّه أيّهما، والفرض أنّه لا مرجّح في البين، فاللّازم العمل بالأصول بعد اليأس عن الأدلّة الاجتهاديّة.

{وأمّا الثّاني} وهو ما ذكره بقوله: «وحقيقة في غيره» أي: ما كان المخصّص متّصلاً {فلعدم انعقاد ظهور من رأس للعام لاحتفاف الكلام} وهو العام

ص: 124

بما يوجب احتماله لكلّ واحد من الأقلّ والأكثر، أو لكلّ واحد من المتباينين، لكنّه حجّة في الأقلّ؛ لأنّه المتيقّن في البين.

فانقدح بذلك: الفرق بين المتصل والمنفصل، وكذا في المجمل بين المتباينين، والأكثر والأقل،

___________________________________________

{بما يوجب احتماله لكلّ واحد من الأقلّ والأكثر}في ما كان أمر المخصّص دائراً بين الأقلّ والأكثر {أو لكلّ واحد من المتباينين} في ما كان أمره دائراً بينهما {لكنّه} أي: الخاص {حجّة في الأقل} في ما كان مردّداً بين الأقلّ والأكثر {لأنّه المتيقّن في البين} فإنّا نعلم أنّ الاجتناب عن ملكة خارج من العام - أعني: (لا تصلّ خلف أحد) - وإنّما الشّكّ في الأكثر - أعني: مطلق الاجتناب ولولا عن ملكة - .

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه من المعنى مؤيّد بأمرين:

الأوّل: ظهور الأقلّ في معناه الاصطلاحي لا الأقلّ المقطوع بقائه في العام.

الثّاني: اختصاص قوله: «لكنّه حجّة في الأقلّ» بالثّاني، مع أنّ حجيّة العام بالنسبةإلى المقطوع بقاؤه يجري في الأوّل وهو ما كان المخصّص مردّداً بين المتباينين.

لكن العلّامة المشكيني(رحمة الله) فسّر العبارة بما لفظه: «الضّمير - أي: في لكنّه - راجع إلى العام المتصل به الخاصّ، والمراد من الأقلّ هي الأفراد المقطوع بعدم دخولها في عنوان المخصّص»(1)،

انتهى.

{فانقدح بذلك} كلّه {الفرق بين} المخصّص {المتصل، و} بين {المنفصل} وأنّ في المتّصل يسري إجمال المخصّص إلى العام حقيقة من غير فرق بين أن يكون متباينين أم الأقلّ والأكثر {وكذا} ظهرالفرق {في المجمل بين المتباينين والأكثر والأقل} وأنّ المتباينين في المنفصل موجب لإجمال العام حكماً دون الأقلّ والأكثر المنفصل.

ص: 125


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 376.

فلا تغفل.

وأمّا إذا كان مجملاً بحسب المصداق - بأن اشتبه فرد، وتردّد بين أن يكون فرداً له أو باقياً تحت العام - فلا كلام في عدم جواز التمسّك بالعام لو كان متّصلاً به؛ ضرورة عدم انعقاد ظهور للكلام إلّا في الخصوص، كما عرفت.

___________________________________________

والحاصل: أنّ الأقسام الأربعة من المخصّص المجمل المفهومي لها حكمان:

الأوّل: ما لا يسري إجماله إلى العام لا حقيقة ولا حكماً، وهو قسم واحد في ما كان المخصّص منفصلاً دائراً بين الأقلّ والأكثر.

الثّاني: ما يسري إجماله إلى العام إمّا حقيقة وهو المتّصل مطلقاً وإمّا حكماً وهو المنفصل المردّد بين المتباينين {فلا تغفل}.

هذا تمام الكلام في أقسام المخصّص المجمل مفهوماً {وأمّا إذاكان} المخصّص {مجملاً بحسب المصداق} مبيّناً بحسب المفهوم {بأن اشتبه فرد وتردّد بين أن يكون فرداً له} أي: للمخصّص {أو باقياً تحت العام فلا كلام في عدم جواز التمسّك بالعام لو كان} المخصّص {متّصلاً به} سواء كان أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر، كما لو قال: (أكرم العلماء إلّا فسّاقهم) وتردّد الفسّاق بين أن يكونوا زيداً وعمرواً، وبين أن يكونوا هما مع أبي بكر، أو المتباينين كما لو تردّد العام الفاسق بين زيد وبين عمرو، فإنّه لا يمكن التمسّك ب- (أكرم العلماء) لإكرام بكر - في المثال الأوّل - ولا التمسّك به لإكرام زيد وعمرو - في المثال الثّاني - {ضرورة عدم انعقاد ظهور للكلام} أي: العام {إلّا في الخصوص، كما عرفت} أعني: العام غير الفاسق، ولم يحرز أنّ بكراً - في الأوّل - وزيداً وعمرواً - في الثّاني - يصدق عليهم هذا العنوان.

ولا يخفى أنّه كما لا يكون العام حجّة في هذا الفرد المشكوك كذلك لا يكون المخصّص حجّة، إذ الفسق أيضاً غير معلوم، فاللّازم الرّجوع في المشكوك إلى

ص: 126

وأمّا إذا كان منفصلاً عنه، ففي جواز التمسّك به خلاف.

والتحقيق: عدم جوازه؛ إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه: أنّ الخاصّ إنّما يزاحم العامّ في ما كان فعلاً حجّة، ولا يكون حجّةً في ما اشتبه أنّه من أفراده، فخطاب (لا تكرم فسّاق العلماء) لا يكون دليلاً على حرمة إكرام من شكّ في فسقه من العلماء، فلا يزاحم مثل: (أكرم العلماء) ولا يعارضه؛ فإنّه يكون من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة.

___________________________________________

القواعد الأُخر.

{وأمّا إذا كان} المخصّص المجمل مصداقاً سواء كان دائراً بين المتباينين أو الأقلّ والأكثر {منفصلاً عنه} كما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم الفسّاق منهم) {ففي جواز التمسّك به} أي: بالعام في الفرد المشكوك {خلاف} ففي المشهور التمسّك بالعام في ما كان دائراً بين الأقلّ والأكثر {والتحقيق عدم جوازه، إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه} هو {أنّ الخاصّ إنّما يزاحم العام في ما كان} الخاص {فعلاً حجّة} فيه {ولا يكون حجّة في ما اشتبه أنّه من أفراده} فالمقتضي لشمول حكم العام لهذا الفرد موجود، إذ العموم يشمله والمانع مشكوك الوجود، فالأصل عدمه {فخطاب (لا تكرم فسّاق العلماء)} بعد قوله: (أكرم العلماء) {لا يكون دليلاً على حرمة إكرام من شكّ في فسقه من العلماء} بالشبهة المصداقيّة {فلا يزاحم} هذا المخصّص {مثل: (أكرم العلماء) ولا يعارضه} عطف بيان، أو المراد أنّه ليس في كلّ من العام والمخصّص ملاك بالنسبة إلى المشتبه حتّى يقع التزاحم، ولا أنّ في أحدهما ملاكاً لكونه مشتبهاً حتّى يقع التعارض {فإنّه يكون من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة} إذ العام في المشكوك حجّة، والخاصّ غير حجّة، لعدم العلم بانطباق عنوان الفاسق على هذا المشتبه.

ص: 127

وهو في غاية الفساد؛ فإنّ الخاصّ وإن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً، إلّا أنّه يوجب اختصاص حجيّة العام في غيرعنوانه من الأفراد، فيكون (أكرم العلماء) دليلاً وحجّةً في العالم الغير الفاسق. فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقاً للعام بلا كلام، إلّا أنّه لا يعلم أنّه من مصاديقه بما هو حجّة؛ لاختصاص حجيّته بغير الفاسق.

___________________________________________

فتحصّل: أنّ اللّازم إكرام مشكوك الفسق من العلماء، تمسّكاً بالعام في الشّبهة المصداقيّة {وهو في غاية الفساد، فإنّ الخاصّ وإن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً} لأنّه لا يعلم انطباق عنوان المخصّص عليه، إذ لا يعلم أنّ زيداً المشكوك فاسق أم لا {إلّا أنّه} أي: المخصّص {يوجب اختصاص حجيّة العام في غير عنوانه} أي: عنوان المخصّص {من الأفراد، فيكون (أكرم العلماء) دليلاً وحجّة في العالم الغير الفاسق} فإنّه وإن كان منفصلاً عنه في اللفظ لكنّه متّصل به في الحقيقة وحين الإرادة {فالمصداق المشتبه} وهو زيد المشكوك عدالته وفسقه {وإن كان مصداقاً للعام بلا كلام} لانعقاد ظهور العام في العموم {إلّا أنّه لا يعلم أنّه من مصاديقه بما هو حجّة} ومراد حقيقة وواقعاً {لاختصاص حجيّته بغير الفاسق} لأنّه قد خرج الفاسق الواقعي فلا يجب إكرامه، وهذا الفرد حيث يتردّد أمره بين الفسق والعدالة لم يجب إكرامه، إذ نسبة العام والخاص إلى هذا الفرد نسبة واحدة، فالخاصّ ليس حجّة فيه للشكّ في كونه من أفراده، والعام ليس حجّة، للشكّ كذلك، منتهى الأمر: ظهور الطبيعي لأحدهما دون الآخر.

وإن شئت قلت: إنّ العام بعد ورود المخصّص قد انقسم إلى قسمين: قسمواجب الإكرام وهو العادل، وقسم محرّم الإكرام وهو الفاسق. فحيث يتردّد الأمر بينهما لا يمكن التمسّك بأحدهما لإثبات الحكم، بل يلزم الرّجوع إلى دليل آخر.

إن قلت: إنّا نعلم بكونه معنوناً بعنوان العام، ولا نعلم بكونه معنوناً بعنوان الخاص، فاللّازم ترتيب حكم العام عليه.

ص: 128

وبالجملة: العام المخصّص بالمنفصل وإن كان ظهوره في العموم كما إذا لم يكن مخصّصاً - بخلاف المخصّص بالمتّصل، كما عرفت - إلّا أنّه في عدم الحجيّة - إلّا في غير عنوان الخاصّ - مثلُهُ. فحينئذٍ يكون الفرد المشتبه غيرَ معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين، فلا بدّ من الرّجوع إلى ما هو الأصل في البين.

هذا إذا كان المخصّص لفظيّاً.

وأمّا إذا كان لبيّاً:

___________________________________________

قلت: مجرّد العلم بكونه معنوناً بعنوان (العالم) غير مفيد لترتّب حكم العام عليه، إذ العام ليس حجّة في ثبوت حكمه لعنوانه مطلقاً، بل بعد التخصيص إنّما يكون حجّة في ثبوت حكمه للباقي.

{وبالجملة العام المخصّص بالمنفصل وإن كان ظهوره في العموم} منعقداً {كما إذا لم يكن مخصّصاً بخلاف} العام {المخصّص بالمتّصل} حيث لا ظهور له في العموم {كما عرفت، إلّا أنّه} أي: المخصّص بالمنفصل {في عدم الحجيّة إلّا في غير عنوان الخاص} وبعبارة أُخرى في الحجيّة في غير عنوان الخاصّ فقط {مثله} أي: مثل المخصّص بالمتّصل {فحينئذٍ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدىالحجّتين} العام والمخصّص {فلا بدّ من الرّجوع إلى ما هو الأصل في البين} لو لم يكن دليل اجتهاديّ آخر.

ثمّ إنّ الأظهر ما ذهب إليه المشهور من التمسّك بالعام. وكيف كان فهذا الخلاف إنّما هو في ما كان أمر المخصّص دائراً بين الأقلّ والأكثر، وأمّا إذا كان دائراً بين المتباينين فلا مجال للتمسّك بالعام، فلا تغفل.

ثمّ إنّ {هذا} التفصيل في الأقسام الثّمانية المتقدّمة كلّه في ما {إذا كان المخصّص لفظيّاً، وأمّا إذا كان لبيّاً} كما لو كان المخصّص دليلاً عقليّاً، أو إجماعاً، أو ضرورة، أو سيرة، فقد اختلف فيه:

ص: 129

فإن كان ممّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب، فهو كالمتّصل، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلّا في الخصوص.

وإن لم يكن كذلك، فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيّته كظهوره فيه.

والسّرّ في ذلك: أنّ الكلام الملقى من السّيّد حجّةً، ليس إلّا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم، فلا بدّ من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه.

___________________________________________

فذهب بعض إلى التمسّك بالعام في الشّبهة المصداقيّة، واختار المصنّف(رحمة الله) التفصيل بقوله: {فإن كان} المخصّص اللبّي {ممّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب} بأن كان المخصّص في غاية الوضوح، كما لو اجتمع أعداء للمولى في داره ليقتلوه وكان أبناؤه حاضرين عنده يدافع عنه بعضهم فقال المولى لعبده: (أُقتل كلّ من في الدار) فإنّالعقل يخصّص (الابن) عن هذا الحكم {فهو كالمتّصل حيث لا يكاد ينعقد معه} أي: هذا المخصّص {ظهور للعام إلّا في الخصوص} كخصوص الأعداء في المثال.

وهذا ليس مجملاً في الحقيقة حتّى يقع الكلام في أنّه يتمسّك بالعام فيه أم لا؟ {وإن لم يكن} المخصّص اللبّي {كذلك} أي: ظاهراً بحيث يصحّ أن يتّكل عليه - كما يأتي مثاله - {فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه} في ما كان المخصّص دائراً بين الأقلّ والأكثر {على حجيّته كظهوره} أي: العام {فيه} أي: في ذلك المصداق المشتبه، أي: إنّ العام ظاهر في المشتبه وحجّة {والسّرّ في ذلك} الّذي ذكرنا من التفصيل بين ما كان المخصّص لفظيّاً فلا يتمسّك بالعام في الشّبهة المصداقيّة، وبين ما كان لبيّاً فيتمسّك بالعام {أنّ الكلام الملقى من السّيّد} إلى العبد حال كونه {حجّة ليس إلّا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته} أي: المولى {للعموم} وليس المخصّص في اللفظ، بل هو لبّي، كما فرض {فلا بدّ من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه}.

ص: 130

مثلاً، إذا قال المولى: (أكرم جيراني)، وقطع بأنّه لا يريد إكرام من كان عدوّاً له منهم، كان أصالة العموم باقية على الحجيّة بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام، للعلم بعداوته؛ لعدم حجّة أُخرى بدون ذلك على خلافه. بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظيّاً؛ فإنّ قضيّة تقديمه عليه هو كون الملقى إليه كأنّه - من رأس - لا يعمّ الخاص، كما كان كذلك حقيقةً في ما كان الخاصّ متّصلاً.

___________________________________________

{مثلاً: إذا قال المولى (أكرم جيراني) وقطع بأنّه لا يريد إكرام من كان عدوّاً له منهم} من عقل أو إجماع أو نحوهما {كان أصالة العموم باقية على الحجيّة بالنسبة إلى} الأفراد المشكوكة {من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام، للعلم بعداوته} يعني أنّ العلم بالخروج للعلم بالعداوة. وعلّل بقاء المشكوك على الحجّة بقوله: {لعدم حجّة أُخرى بدون ذلك} العلم بالخروج {على خلافه} أي: خلاف العموم، فإنّ المشكوك ليس حجّة يخصّص العام به.

والحاصل: أنّ القطع بالخروج عن العام هو المخصّص ولا قطع في مشكوك العداوة {بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظيّاً، فإنّ قضيّة تقديمه عليه} أي: مقتضى تقديم الخاصّ على العام {هو كون} العام {الملقي إليه كأنّه من رأس} ومن ابتداء الأمر {لا يعمّ الخاصّ} في صورة انفصاله عنه {كما كان} العام {كذلك} لا يعمّ الخاصّ {حقيقة في ما كان الخاصّ متّصلاً}.

وتوضيحه بلفظ السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - : «الفرق بين المخصّص اللفظي واللبّي أنّه في المخصّص اللفظي قد ألقى السّيّد إلى عبده حجّتين: إحداهما العام وثانيتهما: الخاص، وفي المخصّص اللبّي قد ألقى السّيّد إلى عبده حجّة واحدة وهي العام لا غير؛ لأنّ المخصّص اللبّي بعد ما كان علماً لا يكون حجّة ملقاة من السّيّد، بل هي حجّة عند العقل لا غير.

والفرد المشكوك في الأوّل يكون نسبته إلى الحجّتين الملقاتين من السّيّدنسبة

ص: 131

والقطعُ بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيّته إلّا في ما قطع أنّه عدوّه، لا في ما شكّ فيه، كما يظهر صدق هذا من صحّة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحداً من جيرانه؛ لاحتمال عداوته له، وحسن عقوبته على مخالفته، وعدم صحّة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة، والسّيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء الّتي هي ملاك حجيّة أصالة الظهور.

وبالجملة: كان بناء العقلاء على حجيّتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا، بخلافه هناك؛

___________________________________________

واحدة، فيمتنع الأخذ بإحداهما بعينهما فيه لاحتمال دخوله تحت الأُخرى.

وفي الثّاني: لمّا لم يكن الحجّة من السّيّد إلّا العام كان رفع اليد عنه في المشكوك بلا حجّة على خلافه وهو ممتنع»(1)،

انتهى.

{و} إن قلت: إنّا نقطع بعدم إرادة العدوّ هاهنا، كما كنّا نقطع بعدم إرادته حال كون المخصّص لفظيّاً، فكما لا يعمل بالعام هناك كذلك هاهنا.

قلت: {القطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيّته إلّا في ما قطع أنّه عدوّه لا في ما شكّ فيه، كما يظهر صدق هذا} الّذي ذكرنا من عدم جواز ترك مشكوك العداوة {من صحّة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحداً من جيرانه} في المثال المتقدّم {لاحتمال عداوته له، وحسن عقوبته علىمخالفته، وعدم صحّة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة، كما لا يخفى} ذلك {على من راجع الطريقة المعروفة والسّيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء الّتي هي ملاك حجيّة أصالة الظهور}.

{وبالجملة كان بناء العقلاء على حجيّتها} أي: حجيّة أصالة الظهور {بالنسبة إلى} الفرد {المشتبه هاهنا} في المخصّص اللبّي {بخلافه هناك} في المخصّص اللفظي.

ص: 132


1- حقائق الأصول 1: 500.

ولعلّه لما أشرنا إليه، من التفاوت بينهما بإلقاء حجّتين هناك، تكون قضيّتهما - بعد تحكيم الخاصّ وتقديمه على العام - كأنّه لم يعمّه حكماً من رأس، وكأنّه لم يكن بعام.

بخلافه هاهنا؛ فإنّ الحجّة الملقاة ليست إلّا واحدة. والقطعُ بعدم إرادة إكرام العدوّ في (أكرم جيراني) - مثلاً - لا يوجب رفعَ اليد عن عمومه إلّا في ما قُطع بخروجه من تحته، فإنّه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه، فلا بدّ من اتّباعه ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه.

بل يمكن

___________________________________________

{ولعلّه لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما} أي: بين المخصّص اللبّي واللفظي {بإلقاء حجّتين هناك} في اللفظي {تكون قضيّتهما بعد تحكيم الخاصّ وتقديمه على العام} بحيث {كأنّه} أي: العام {لم يعمّه} أي: هذا الخاصّ الخارج {حكماً من رأس، وكأنّه لم يكن بعامّ بخلافه هاهنا} أي: في اللبّي{فإنّ الحجّة الملقاة ليست إلّا واحدة} كما تقدّم تقريره {والقطع بعدم إرادة إكرام العدوّ في (أكرم جيراني) مثلاً لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلّا في ما قطع بخروجه من تحته} فمقطوع العداوة لا يكرم، بخلاف مشكوكها فإنّه يكرم كالمقطوع عدم عداوته {فإنّه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه، فلا بدّ من اتّباعه ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه} والمفروض في المقام هكذا؛ لأنّ قوله: (أكرم جيراني) على طبق غرضه، ففي متيقّن العداوة حيث قام دليل أقوى على خلاف العام لم يتمسّك بالعام بالنسبة إليه، بخلاف مشكوك العداوة، فإنّه لم يقم دليل أقوى على خلاف العام بالنسبة إليه.

ثمّ لا يخفى أنّه ثبت إلى هنا أنّ الفرد المشكوك ليس محكوماً بحكم المخصّص {بل يمكن} الترقّي عن ذلك والقول بأنّ المشكوك ليس داخلاً موضوعاً في الخاصّ، فيترتّب على هذا الفرد المشكوك جميع الآثار المترتّبة على

ص: 133

أن يقال: إنّ قضيّة عمومه للمشكوك أنّه ليس فرداً لما علم بخروجه عن حكمه بمفهومه، فيقال - في مثل: «لعن اللّه بني أُميّة قاطبة»(1)

- : «إنّ فلاناً وإن شكّ في إيمانه يجوز لعنه» لمكان العموم، وكلّ من جاز لعنه لا يكون مؤمناً، فينتج: أنّه ليس بمؤمن، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

غير الخاص، فيصحّ {أن يقال: إنّ قضيّة عمومه} أي: العام {للمشكوك أنّه ليس فرداً لما علم بخروجه}أي: للخاصّ المعلوم خروجه {عن حكمه} أي: حكم العام {بمفهومه} فيثبت للفرد المشكوك - مضافاً إلى حكم العام - سائر الأحكام المتوقّفة على عدم فرديّته للخاص.

والحاصل: أنّه لو قلنا بظهور العام حتّى في الفرد المشكوك فهل يُقْضَى على إثبات حكم العام على هذا المشكوك، أو يُثْبَتُ به كلّ أثر مترتّب على غير الفرد الداخل تحت الخاص؟ مثلاً: لو أوجب المولى لعن بني أُميّة قاطبةً، وعلمنا أنّ المؤمن منهم - كالراويين في زمان الصّادقين(علیهما السلام) - خارج عن حكم العام، ثمّ شكّ في فرد ثالث لم يعلم أنّه مؤمن أم لا؟ فالمتيقّن خروجه عن حكم الخاصّ ودخوله في حكم العام - أي: جواز لعنه - وهل يستكشف من جواز اللعن أنّه ليس بمؤمن حتّى يجري عليه سائر أحكام غير المؤمنين ككون الصّلاة عليه بأربع تكبيرات ونحو ذلك أم لا؟ وقد اختار المصنّف(رحمة الله) الأوّل {فيقال في مثل: «لعن اللّه بني أُميّة قاطبة»} أي: جميعاً {«أنّ فلاناً وإن شكّ في إيمانه يجوز لعنه» لمكان العموم} بلا معارض أقوى {وكلّ من جاز لعنه لا يكون مؤمناً، فينتج أنّه ليس بمؤمن} بالبرهان الإنّي، إذ جواز اللعن معلول عدم الإيمان، وحينئذٍ يثبت عليه جميع أحكام غير المؤمنين {فتأمّل جيّداً}.

وبهذا تبيّن أنّ العموم في ما كان المخصّص لبيّاً مبيّن للخاص. والإنصاف أنّ

ص: 134


1- كامل الزيارات: 176.

إيقاظ: لا يخفى أنّ الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل، أو كالاستثناء من المتّصل، لمّا كان غير معنون بعنوان خاصّ، بل بكلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان خاصّ،

___________________________________________

بعد هذا التفصيل الطويل لم يظهر فرق بين المخصّص اللبّي واللفظي، إذ العرف بعد العلم بمنع العداوة عن إكرام الجيران لا يفرّق بين أن يكون سبب العلم مخصّصاً لفظيّاً وبين أن يكون لُبيّاً، واللّه العالم.

[إيقاظ]

{إيقاظ} حاصله أنّ التفصيل الّذي تقدّم بين المخصّص اللفظي واللبّي، وأنّه لا يمكن التمسّك بالعام في الشّبهة المصداقيّة في المخصّص اللفظي بخلاف المخصّص اللبّي، إنّما يكون في ما لا يمكن إحراز عنوان العام أو عنوان المخصّص بالأصول الموضوعيّة وإلّا كان خارجاً عن محلّ الكلام.

مثلاً: لو قال: (أكرم العلماء العدول) ثمّ شكّ في علم زيد أو عدالته فإن كان مسبوقاً بهما تمسّكنا بالعام - وليس هذا من التمسّك بالعام في الشّبهة المصداقيّة - وإن كان مسبوقاً بالجهل أو الفسق كان محكوماً بحكم المخصّص - أعني: عدم الإكرام - أمّا لو لم يكن العلم معنوناً بعنوان فقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى حكمه بقوله: {لا يخفى أنّ الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل} كأن يقول: (أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق) {أو كالاستثناء من} المخصّص {المتّصل} نحو (أكرم العلماء إلّا الفسّاق) وإنّما خصّ الحكم في المتّصل بالاستثناء ونحوه لعدم تعنون العام بهذا النّحو من المخصّصات، بخلاف مثل الشّرط نحو (أكرم العلماء إن كانوا عدولاً) فإنّه موجب لتعنون العام {لمّا كان غير معنون بعنوان خاصّ} كعنوان كونهم عدولاً {بل} العام حينئذٍ معنون {بكلّ عنوان} متّصف بأنّه {لم يكن ذاك بعنوان خاصّ} فالعلماء في (أكرم العلماء إلّا الفسّاق) ليس له عنوان، غير أنّه يلزم أن لا يصدق عليه عنوان الفاسق

ص: 135

كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد - إلّا ما شذّ - ممكناً، فبذلك يحكم عليه بحكم العام، وإن لم يجز التمسّك به بلا كلام، ضرورة أنّه قلّما لم يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقّح به أنّه ممّا بقي تحته.

مثلاً: إذا شكّ أنّ امرأة تكون قرشيّة أو غيرها ، - فهي وإن كانت إذا وجدت

___________________________________________

{كان إحراز} الفرد {المشتبه منه} وإدخاله في حكم العام {بالأصل الموضوعي} الموجب لدخول المشكوك تحت العام {في غالب الموارد إلّا ما شذّ ممكناً} خبر «كان».

والمراد بما شذّ هو الّذي شكّ فيه لتبادل الحالتين، كمن تبادل عليه صفتي الفسق والعدالة {فبذلك} الأصل الموضوعي {يحكم عليه} أي: على الفرد المشتبه {بحكم العام وإن لم يجز التمسّك به} أي: بالأصل لترتيب الآثار، لكونه مثبتاً {بلا كلام} لكنّه ينقّح موضوع العام فتترتّب عليه الآثار.

والحاصل: أنّ الأصل ينفي عنوان الخاص في الفرد المشتبه، وحينئذٍ فيشمله العام ويترتّب عليه حكمه، وليس المراد من نفي الأصل عنوان الخاصّ ترتيب أثر العام حتّى يقال إنّه مثبت.

وإنّما قلنا بغلبة إحراز كون المشتبه داخلاً تحت العام، ل- {ضرورة أنّه قلّما لم يوجد} للخاصّ {عنوان يجري فيه أصل} العدم بحيث {ينقّح به أنّه} أي: الفرد المشتبه {ممّا بقي تحته} أي: تحت العام.

{مثلاً} إذا كان لنا عامّ مضمونه أنّ المرأة إنّما ترى الحمرة إلى الخمسين،وكان هناك مخصّص مضمونه استثناء القرشيّة عن هذا الحكم - لأنّها ترى الحمرة إلى السّتّين - .

ثمّ {إذا شكّ أنّ امرأة تكون قرشيّة} حتّى نحكم على دمها بالحيضيّة بعد الخمسين {أو غيرها} حتّى يحكم بأنّ دمها استحاضة {فهي وإن كانت إذا وجدت}

ص: 136

إمّا قرشيّة أو غير قرشيّة - فلا أصل يحرز به أنّها قرشيّة أو غيرها، إلّا أنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح أنّها ممّن لا تحيض إلّا إلى الخمسين؛ لأنّ المرأة الّتي لا يكون بينها وبين قريش انتساب أيضاً، باقية تحت ما دلّ على: أنّ المرأه إنّما ترى الحمرة إلى الخمسين، والخارج عن تحته هي القرشيّة، فتأمّل تعرف.

وهم وإزاحة: ربّما يظهر عن بعضهم: التمسّك بالعمومات في ما إذا شكّ في فرد لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهة أُخرى،

___________________________________________

تكون {إمّا قرشيّة أو غير قرشيّة} وليست مثل العادل والفاسق الممكن تبادلهما {فلا أصل يحرز به أنّها قرشيّة أو غيرها} لفرض عدم التيقّن بحالتها السّابقة {إلّا أنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح أنّها ممّن لا تحيض إلّا إلى خمسين} سنة، إذ حين وجودها نشكّ في أنّه هل تحقّق الانتساب إلى قريش أم لا فالأصل عدمه.

وإنّما تجدي هذه الأصالة {لأنّ المرأة الّتي لا يكون بينها وبين قريش انتساب أيضاً} كالمرأة المقطوعبعدم انتسابها {باقية تحت} حكم العام، وهو {ما دلّ على أنّ المرأة إنّما ترى الحمرة إلى الخمسين، و} حينئذٍ يكون {الخارج عن تحته هي القرشيّة} المعلوم انتسابها إلى قريش {فتأمّل تعرف} ذلك، وأنّه يمكن التمسّك بالعام في بعض موارد الشّبهة في المصداق.

وقد طوينا الكلام روماً لما قصدناه من شرح لفظ الكتاب، واللّه الهادي إلى الصّواب.

[وهم وإزاحة]

{وهم وإزاحة} أمّا الوهم فقد أشار إليه بقوله: {ربّما يظهر عن بعضهم التمسّك بالعمومات في ما إذا شكّ في فرد لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهة أُخرى} وتوضيح ذلك أنّ التمسّك بالعام في المورد المشكوك على نحوين:

ص: 137

كما إذا شكّ في صحّة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فيستكشف صحته بعموم مثل: (أوفوا بالنذور) في ما إذا وقع متعلّقاً للنذر، بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر؛ للعموم، وكلّما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً؛ للقطع بأنّه لولا صحّته لما وجب الوفاء به.

وربّما يؤيّد ذلك

___________________________________________

الأوّل: أن يكون الشّكّ من جهة احتمال التخصيص، كأن يشكّ في شمول (أوفوا بالنذور) - مثلاً - للنذر مع نهي الوالد، ومن المعلوم أنّ حال هذا القسم من الشّكّ حال ما تقدّم طابق النّعل بالنّعل.

الثّاني: أن يكون الشّكّ لا من جهة احتمال التخصيص {كما} لو شكّ في صحّة الوضوء، أو الغسل بالماء المضاف، فهل يمكن رفع هذا الشّكّ والحكمبالصحّة بعموم دليل مثبت للحكم بعنوان ثانوي كدليل النّذر أو الشّرط أم لا؟

ذهب بعض إلى جواز التمسّك، قالوا: {إذا شكّ في صحّة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف فيستكشف صحّته بعموم} ثانوي {مثل: (أوفوا بالنذور)} و(أطع والديك) و(المؤمنون عند شروطهم)، وأمثال ذلك {في ما إذا وقع} هذا المشكوك {متعلّقاً للنذر} وإطاعة الوالدين ونحوهما.

وتقريب الاستكشاف {بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم} متعلّق ب- «وجب» {وكلّما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً - للقطع بأنّه لولا صحّته لما وجب الوفاء به -} وصوره القياس: الإتيان بهذا الوضوء واجب، وكلّما كان الإتيان به واجباً كان صحيحاً، فالإتيان بهذا الوضوء كان صحيحاً.

أمّا الصّغرى فلعموم وجوب الوفاء بالنذر، وأمّا الكبرى فللتلازم بين وجوب الوفاء والصّحّة.

{وربّما يؤيّد ذلك} الّذي ذكر من استكشاف الصّحّة بواسطة عموم ثانوي وقوع

ص: 138

بما ورد من صحّة الإحرام والصّيام قبل الميقات وفي السّفر، إذا تعلّق بهما النّذر كذلك.

والتحقيق أن يقال: إنّه لا مجال لتوهّم الاستدلال بالعمومات المتكفّلة لأحكام العناوين الثّانويّة في ما شكّ من غير جهة تخصيصها،

___________________________________________

مثله في الشّريعة المقدّسة {بما ورد من} الأدلّة الخاصّة على {صحّة الإحرام والصّيام قبل الميقات وفي السّفرإذا تعلّق بهما النّذر كذلك} بأن نذر الإحرام قبل الميقات، والصّوم في السّفر، مع أنّهما محرّمان لولا النّذر، وعلى هذا فحرمة الوضوء بالمضاف ترتفع بالنذر ونحوه.

ثمّ لا يخفى أنّ الظاهر من دليل هذا القائل الالتزام بذلك في ما كان تحريمه تشريعيّاً لا ذاتيّاً، مع أنّه يستلزم القول به مطلقاً تحليل الحرام وتحريم الحلال، كما لا يخفى.

وأمّا إزاحته فقد أشار إليه بقوله: {والتحقيق} التفصيل في المقام بين الأدلّة المتكفّلة للأحكام بعناوينها الثّانويّة، بأنّه إن كان دليل الحكم الثّانوي وارداً على موضوع خاصّ لم يجز التمسّك به في غير ذلك المورد، مثلاً وجوب إطاعة الوالد إنّما هو في المباحات والمكروهات والمستحبّات فلا يجوز التمسّك بدليل الإطاعة في المحرّمات أو الواجبات.

كما لو أوجب الوالد شرب الخمر أو ترك الصّلاة، وإن كان وارداً على جميع المواضيع جاز التمسّك به مطلقاً، مثلاً أدلّة الضّرر والحرج وارد حتّى على الواجب إذا كان فعله ضرريّاً والحرام إذا كان تركه حرجيّاً، وعليه فيمكن التمسّك بدليل الحرج لرفع الوجوب أو الحرمة.

وتوضيح المطلب {أن يقال: إنّه لا مجال لتوهّم الاستدلال بالعمومات المتكفّلة لأحكام العناوين الثّانويّة} كإطاعة الوالدين، والنّذر، والعهد، واليمين، والشّرط {في ما شكّ من غير جهة تخصيصها} إذ قد يكون الشّكّ من جهة التخصيص، كأن

ص: 139

إذا أُخذ في موضوعاتها أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوليّة، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد، والوفاء بالنذر وشبهه في الأُمور المباحةأو الرّاجحة؛ ضرورة أنّه - معه - لا يكاد يتوهّم عاقل إذا شكّ في رجحان شيءٍ أو حليّته، جوازَ التمسّك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليّته.

___________________________________________

يشكّ في أنّ وجوب إطاعة الوالد يجري حتّى في هذا القسم الخاصّ من المباح أم لا. وقد يكون لا من جهته، كما تقدّم.

ففي الأوّل يجوز التمسّك بالعموم.

وفي الثّاني لا يجوز {إذا أُخذ في موضوعاتها أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوليّة، كما هو الحال في} مسألة {وجوب إطاعة الوالد} ين، والسّيّد، والزوج {والوفاء بالنذر وشبهه} من العهد، واليمين، والشّرط، فإنّه أُخذ {في} موضوع الثّلاثة الأُوَل واليمين والشّرط، كونه من {الأُمور المباحة، أو} المكروهة، أو المستحبّة، وأُخذ في موضوع النّذر والعهد كونه من الأُمور {الرّاجحة} حتّى أنّه لا ينعقد النّذر لو كان متعلّقه مباحاً أو مكروهاً.

وإنّما قلنا بعدم جواز التمسّك بالعموم؛ ل- {ضرورة أنّه معه} أي: مع أخذ أحد الأحكام الخمسة في موضوعاتها {لا يكاد يتوهّم عاقل إذا شكّ في رجحان شيء} في ما أُخذ الرّجحان في الموضوع {أو حليّته} في ما أُخذ في الموضوع {جواز التمسّك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليّته} متعلّق ب- «جواز التمسّك» إذ لو تفرّع الجواز أو الرّجحان عن وجوب الإطاعة والوفاء مثلاً لزم الدور.

بيان ذلك: أنّ الحكم بوجوب الإطاعة والوفاء متوقّف على الموضوع الّذي هو الجواز أو الرّجحان، فلو توقّفا على الوجوب لزم توقّف الشّيء على نفسه، ولهذاقالوا: إنّ الحكم لا يتكفّل لبيان الموضوع.

ص: 140

نعم، لا بأس بالتمسّك به في جوازه - بعد إحراز التمكّن منه والقدرة عليه - في ما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً، فإذا شكّ في جوازه صحّ التمسّك بعموم دليلها في الحكم بجوازها. وإذا كانت محكومة بعناوينها الأوليّة بغير حكمها بعناوينها الثّانويّة، وقع المزاحمة بين المقتضيين، ويؤثّر الأقوى منهما لو كان في البين،

___________________________________________

{نعم} في القسم الثّاني من العناوين الثّانويّة كالضرر والحرج {لا بأس بالتمسّك به} أي: بعموم دليل العنوان الثّانوي {في جوازه} أي: جواز الفرد المشكوك كأن يتمسّك بأدلّة الضّرر، لجواز شرب الخمر أو ترك الصّيام {بعد(1) إحراز التمكّن منه} أي: من الفرد المشكوك {والقدرة عليه} لاشتراطها في جميع الأحكام التكليفيّة {في ما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم} من الأحكام الخمسة {أصلاً} بل كان الحكم الثّانوي وارداً على جميع الأحكام الأوّليّة، فلو لم يدلّ دليل الحرج على أنّ متعلّقه لا بدّ وأن يكون كذا، صحّ رفع الحكم به مطلقاً {فإذا شكّ في جوازه صحّ التمسّك بعموم دليلها في الحكم بجوازها} فتدبّر.

ثمّ إنّ الحكم بعنوانه الأوّلي قد يكون لا اقتضائيّاً فلا يعارض الحكم بعنوانه الثّانوي الاقتضائي، مثلاً: حليّة الماء لا اقتضائي ولهذا لا تعارض حرمته الطارئة لنهي الوالد عن شربه، أو وجوبه الطارئ لتوقّف الحياة عليه، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

{و} أمّا {إذا كانت} المتعلّقات للحكمين - الأوّلي والثّانوي - لاكذلك، بأن كانت {محكومة بعناوينها الأوليّة بغير حكمها بعناوينها الثّانويّة} كما لو كان الوضوء الواجب بعنوانه الأوّلي ضرريّاً المقتضي لحرمته بعنوانه الثّانوي {وقع المزاحمة بين المقتضيين، و} حينئذٍ {يؤثّر الأقوى منهما لو كان في البين} فإن كان الوضوء أهمّ ملاكاً وجب إن كانت زيادة الملاك بحدّ الوجوب وإلّا استحبّ إن كانت بقدر الاستحباب، وإن كان الضّرر أهمّ ملاكاً حرّم إن كانت الزيادة بحدّ

ص: 141


1- لم يظهر لي لهذه العبارة وجه يصحّح تقييد الكلام به.

وإلّا لم يؤثّر أحدهما، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح، فليحكم عليه حينئذٍ بحكم آخر - كالإباحة - ، إذا كان أحدُهما مقتضياً للوجوب، والآخر للحرمة مثلاً.

وأمّا صحّة الصّوم في السّفر بنذره فيه - بناءً على عدم صحّته فيه بدونه - وكذا الإحرام قبل الميقات، فإنّما هو لدليل خاصّ كاشف عن رجحانهما ذاتاً في السّفر وقبل الميقات، وإنّما لم يؤمر بهما - استحباباً أو وجوباً - لمانع يرتفع مع النّذر.

___________________________________________

الحرمة وإلّا كره إن كانت بقدر الكراهة {وإلّا} يكن أحد المقتضيين أقوى بل كانا متساويين {لم يؤثّر أحدهما، وإلّا} فلو أثّر أحدهما مع عدم كونه أقوى {لزم الترجيح بلا مرجّح}.

وعلى هذا {فليحكم عليه حينئذٍ بحكم آخر كالإباحة إذا كان أحدهما} أي: أحد الملاكين {مقتضياً للوجوب، والآخر للحرمة مثلاً} وبهذا كلّه اتضح منشأ حكم الفقهاء بجواز بعض أقسام الوضوء والصّوم الضّرري وإن لم يكن هناك دليل على الإباحة.{وأمّا} الجواب عن التأييد الّذي ذكره المستدلّ من {صحّة الصّوم في السّفر بنذره} بأن يصوم {فيه بناءً على عدم صحّته} أي: الصّوم {فيه} أي: في السّفر {بدونه} أي: بدون النّذر {وكذا الإحرام قبل الميقات، فإنّما هو لدليل خاصّ كاشف عن رجحانهما ذاتاً في السّفر وقبل الميقات}.

{و} إن قلت: لوكانا راجحين ذاتاً لكانا مستحبّين مع ضرورة حرمتهما لولا النّذر.

قلت: {إنّما لم يؤمر بهما استحباباً أو وجوباً لمانع يرتفع مع النّذر} لا بعده، إذ لو كان مرجوحاً لم يتعلّق به النّذر، وفيه تأمّل لأنّ المعيّة أيضاً غير مفيدة لوجوب الرّجحان قبل التعلّق، فالأولى اعتباراً أن يقال: إنّ إرادة إيقاع النّذر عليهما مع تعقّبهما بالوقوع موجب لرجحانهما الموجب لقابليّتهما لتعلّق النّذر، فتأمّل.

وكيف كان، فهذا شيء خلاف الأصل لا بدّ من المصير إليه جمعاً بين ما يدلّ

ص: 142

وإمّا لصيرورتهما راجحين بتعلّق النّذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك، كما ربّما يدلّ عليه ما في الخبر: من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت.

لا يقال: لا يُجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديّتهما؛ ضرورة كون وجوب الوفاء توصليّاً لا يعتبر في سقوطه إلّا الإتيان بالمنذور

___________________________________________

على حرمة الصّوم والإحرام كذلك، وبين ما دلّ على لزوم رجحان المتعلّق، وبين ما دلّ على صحّة تعلّق النّذر بهما فلا يقاس ذلك بالوضوء بالمضاف الّذي لميدلّ دليل على صحّة تعلّق النّذر به.

{وإمّا} أن نقول بعد تسليم عدم رجحانهما ذاتاً: بصحّة تعلّق النّذر بهما {لصيرورتهما راجحين بتعلّق النّذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك} قبل تعلّق النّذر وحينه {كما ربّما يدلّ عليه} أي: على عدم الرّجحان قبل تعلّق النّذر {ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصّلاة قبل الوقت} فكما لا رجحان للصلاة قبله، كذلك الإحرام، فتبيّن أنّ الرّجحان حصل بعد النّذر، وهذا القدر من الرّجحان كافٍ في العموم، والإحرام للدليل الخاصّ المخصّص لعموم اشتراط الرّجحان في تعلّق النّذر قبل تعلّقه.

{لا يقال: لا يجدي صيرورتهما} أي: الصّوم في السّفر والإحرام قبل الميقات {راجحين بذلك} الّذي ذكرتم من تعلّق النّذر {في عباديّتهما} فالرجحان الآتي من قبل النّذر غير كافٍ في العباديّة.

والحاصل: أنّه لا شبهة في لزوم الإتيان بهذا الصّوم والإحرام بعد النّذر بقصد القربة، والحال أنّه لا وجه له، إذ قصد التقرّب يلازم العبادة ولا عباديّة لهما، إذ قبل تعلّق النّذر لم يكونا عبادة، كما هو واضح، وبعد تعلّق النّذر لم يدلّ دليل على وجوب قصد القربة، فإنّ الدليل منحصر في (أوفوا بالنذور) وهو لا يدلّ على لزوم قصد القربة {ضرورة كون وجوب الوفاء توصليّاً لا يعتبر في سقوطه إلّا الإتيان بالمنذور}

ص: 143

بأيّ داع كان.

فإنّه يقال: عباديّتهما إنّما تكون لأجل كشف دليل صحّتهما عن عروض عنوان راجح عليهما، ملازم لتعلّق النّذر بهما.هذا لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرّجحان في متعلّق النّذر بهذا الدليل، وإلّا أمكن أن يقال بكفاية الرّجحان الطارئ عليهما من قبل النّذر في عباديّتهما، بعد تعلّق النّذر بإتيانهما عباديّاً ومتقرّباً بهما منه - تعالى - ، فإنّه وإن لم يتمكّن من إتيانهما كذلك

___________________________________________

فقط {بأيّ داعٍ كان} وهذا بخلاف ما لو ثبت رجحانهما قبل تعلّق النّذر، كما هو مقتضى الجواب الأوّل.

{فإنّه يقال}: نعم، لا تكون {عباديّتهما} قبل النّذر، ولا ناشئة عن النّذر، بل {إنّما تكون لأجل كشف دليل صحّتهما عن عروض عنوان راجح عليهما ملازم لتعلّق النّذر بهما} فعباديّتهما بواسطة انطباق ذلك العنوان المكشوف بالنذرعليهما.

{هذا} وهنا جواب ثالث غير الرّجحان الذاتي قبل النّذر وغير الرّجحان الطارئ بسبب انطباق عنوان راجح مكشوف بالنذر، إذ إنّما نحتاج إلى هذين الجوابين {لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرّجحان في تعلّق النّذر بهذا الدليل} الدالّ على صحّة الإحرام قبل الميقات والصّوم في السّفر إذا وقعا متعلّقين للنذر {وإلّا} فلو قلنا بالتخصيص {أمكن أن يقال بكفاية الرّجحان الطارئ عليهما من قبل النّذر في عباديّتهما} متعلّق ب-«الرجحان»، فالدليل الّذي يدلّ على لزوم رجحان في العبادات المغاير للرجحان الحاصل بالنذر قد خصّص بدليل الإحرام والصّيام الكاشف عن كفاية الرّجحان النّذري في العباديّة.

وبعبارة أُخرى: إنّهما قبل النّذر لم يكونا عبادة ولم يكونا راجحين، وبعدتعلّق النّذر يكونان عبادتين راجحين، فتكون عباديّتهما {بعد تعلّق النّذر بإتيانهما عباديّاً ومتقرّباً بهما منه - تعالى - فإنّه وإن لم يتمكّن من إتيانهما كذلك} عباديّاً

ص: 144

قبله، إلّا أنّه يتمكّن منه بعده، ولا يعتبر في صحّة النّذر إلّا التمكّن من الوفاء ولو بسببه، فتأمّل جيّداً.

بقي شيء، وهو: أنّه يجوز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في إحراز عدم كون ما شكّ في أنّه من مصاديق العام - مع العلم بعدم كونه محكوماً بحكمه - مصداقاً له،

___________________________________________

{قبله} أي: قبل تعلّق النّذر {إلّا أنّه يتمكّن منه} أي: من الإتيان متقرّباً {بعده، ولا يعتبر في صحّة النّذر إلّا التمكّن من الوفاء ولو بسببه} وإن لم يتمكّن قبله {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يخفى عليك الفرق بين الأجوبة الثّلاثة.

فالأوّل يقول بالرجحان قبل النّذر.

والثّاني يقول بالرجحان لانطباق عنوان راجح يكشف عنه النّذر مقارناً له.

والثّالث يقول بالرجحان النّاشئ من النّذر.

{بقي شيء} نوضحه أوّلاً ثمّ نشرح العبارة فنقول: لو قال المولى: (أكرم العلماء) ثمّ علمنا من خطاب آخر أو إجماع أو نحوه حرمة إكرام زيد، ولكن نشكّ في أنّ زيداً من العلماء وحرمة إكرامه تخصيص بالنسبة إلى العام، أم ليس من العلماء فلا تخصيص، فالشكّ في التخصيص بعد العلم بمراد المولى، والكلام حينئذٍ في أنّ أصالة عدم التخصيص تجرّي في المقام أم لا؟ وفائدته أنّهالو جرت كشفت عن عدم علم زيد فيجري على زيد أحكام الجهّال، بخلاف ما لو لم تجر أصالة عدم التخصيص، فإنّ زيداً حينئذٍ محكوم بعدم الإكرام فقط، ولكلّ من إجراء أحكام الجهّال والعلماء عليه توقّف.

إذا عرفت هذا رجعنا إلى شرح كلام المصنّف {وهو أنّه هل يجوز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في إحراز عدم كون ما شكّ في أنّه من مصاديق العام} كزيد في المثال {مع العلم بعدم كونه محكوماً بحكمه مصداقاً له} خبر «كون ما شكّ»

ص: 145

مثل ما إذا علم أنّ زيداً يحرم إكرامه، وشكّ في أنّه عالم، فيحكم عليه - بأصالة عدم تخصيص (أكرم العلماء) - أنّه ليس بعالم، بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الأحكام؟

فيه إشكال؛ لاحتمال اختصاص حجيّتها بما إذا شكّ في كون فرد العالم محكوماً بحكمه، كما هو قضيّة عمومه، والمثبت من الأصول اللفظيّة وإن كان حجّة، إلّا أنّه لا بدّ من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل، ولا دليل هاهنا إلّا السّيرة وبناء العقلاء،

___________________________________________

وذلك {مثل ما إذا علم أنّ زيداً يحرم إكرامه} بدليل خارجي {وشكّ في أنّه عالم} حتّى يكون تخصيصاً لأكرم العلماء أو ليس بعالم حتّى لا يكون تخصيصاً {فيحكم عليه بأصالة عدم تخصيص (أكرم العلماء) أنّه ليس بعالم} حرف المشبّهة في قوله: «إنّه ليس بعالم» نائب الفاعل لقوله: «فيحكم» {بحيث} يكون فائدة جريان أصالة عدم التخصيص أنّه {يحكم عليه بسائر ما لغير العالم منالأحكام} من كراهة القيام له في المجلس ووجوب إرشاده مثلاً.

{فيه إشكال} وجهه أنّ أصالة عدم التخصيص - وإن كانت من الأصول العقلائيّة، ومثبتاتُها حجّة - . لكن القدر المتيقّن من ديدن العقلاء إجراؤها حين الشّكّ في المراد لا بعد العلم بالمراد والشّكّ في شيء آخر.

وإلى هذا أشار بقوله: {لاحتمال اختصاص حجيّتها بما إذا شكّ في كون فرد العام محكوماً بحكمه} أي: بحكم العام {كما هو قضيّة عمومه} أي: مقتضى عموم العام أم لا، بل الفرد المشكوك خارج، والحاصل اختصاصها بمورد الشّك في التخصيص {والمثبت من الأصول اللفظيّة} كأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد ونحوهما {وإن كان حجّة إلّا أنّه لا بدّ من الاقتصار على} إجرائها بقدر {ما يساعد عليه الدليل} أعني: بناء العقلاء {ولا دليل هاهنا} لإجراء أصالة عدم التخصيص {إلّا السّيرة وبناء العقلاء} والمسلّم منهما إجراؤها في مورد الشّكّ في

ص: 146

ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك، فلا تغفل.

فصل: هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصّص؟

فيه خلاف، وربّما نفي الخلاف عن عدم جوازه، بل ادّعي الإجماع عليه(1).

والّذي ينبغي أن يكون محلّ الكلام في المقام، أنّه هل يكون أصالة العموم متّبعة مطلقاً، أو بعد الفحص عن المخصّص واليأس عن الظفر به؟

___________________________________________

المراد {ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك} أي: إجراء أصالة عدم التخصيص بعد العلم بالمراد {فلا تغفل} واللّه العالم.

[فصل العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص]

اشارة

المقصد الرّابع: في العام والخاص، العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص

{فصل} في بيان وجوب الفحص عن المخصّص في جواز العمل بالعام {هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصّص} أم لا؟ {فيه خلاف} فالمشهور على عدم الجواز، والمنسوب إلى كثير من العامّة وبعض المتأخّرين من الخاصّة الجواز.

{و} لكن {ربّما نفي الخلاف عن عدم جوازه} والنّافي هو الغزالي - على ما قيل(2) - {بل ادّعي الإجماع عليه} كما عن النّهاية(3) {والّذي ينبغي أن يكون محلّ الكلام} حتّى يتّضح به حال بعض الأدلّة {في المقام} هو {أنّه هل يكون أصالة العموم} الّتي هي من الأصول العقلائيّة {متّبعة مطلقاً} سواء كان قبل الفحص أم بعده {أو} أنّها متّبعة {بعد الفحص عن المخصّص واليأس عن الظفر به} فقبل الفحص أو بعده قبل اليأس لا يجوز التمسّك بأصالة العموم؟

ص: 147


1- مطارح الأنظار 2: 157.
2- إشارات الأصول: 314؛ مطارح الأنظار 2: 157.
3- نهاية الوصول 2: 230.

بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص في الجملة، من باب الظنّ النّوعي للمشافه وغيره ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلاً، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالاً.

وعليه فلا مجال لغير واحد ممّا استدلّ بهعلى عدم جواز الاستدلال به قبل الفحص واليأس.

___________________________________________

وجعل محلّ النّزاع بهذا النّحو إنّما يكون {بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص في الجملة} أي: سواء كان حتّى قبل الفحص، كما يقوله بعض، أو بعده، كما هو المشهور {من باب الظنّ النّوعي} قبال أنّه من باب الظنّ الشّخصي {للمشافه وغيره} قبال أنّ الحجيّة مختصّة بالمشافه {ما لم يعلم بتخصيصه} أي: العموم {تفصيلاً، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالاً} قبال أنّ الحجيّة تخصيص بما لم يكن العام من أطراف ما علم تخصيصه إجمالاً.

والحاصل: أنّه بعد تماميّة هذه الأُمور الثّلاثة يقع الكلام في أنّ أصالة العموم متّبعة مطلقاً أو بعد الفحص {وعليه فلا مجال لغير واحد ممّا استدلّ به على عدم جواز الاستدلال به} أي: بالعام {قبل الفحص واليأس}.

قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - : «هذا تعريض بجماعة من القائلين بعدم جواز العمل بالعام قبل الفحص، حيث استدلّ بعض منهم على ذلك: بعدم حصول الظنّ بالمراد إلّا بعد الفحص - كما عن الوافية(1) حكايته عن بعض - .

وآخر بعدم الدليل على حجيّة أصالة العموم بالنسبة إلى غير المشافه أو من قصد تفهيمه إلّا بعد الفحص - كما عن المحقّق القمّي(رحمة الله)(2)- .

وثالث بالعلم الإجمالي بورود مخصّصات كثيرة بين الأمارات الشّرعيّةالموجب لسقوط أصالة العموم عن الحجيّة، وبعد الفحص يخرج العام عن كونه

ص: 148


1- الوافية في أصول الفقه: 129.
2- قوانين الأصول 1: 272.

فالتحقيق: عدم جواز التمسّك به قبل الفحص، في ما إذا كان في معرض التخصيص، كما هو الحال في عمومات الكتاب والسّنّة؛ وذلك لأجل أنّه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله، فلا أقلّ من الشّك، كيف؟ وقد ادّعي الإجماع على عدم جوازه فضلاً عن نفي الخلاف عنه، وهو

___________________________________________

طرفاً للعام المذكور، فلا مانع من إجراء أصالة العموم فيه.

وحاصل التعريض: أنّ هذه الاستدلالات كلّها خارجة عن محلّ الكلام، فإنّ المدّعى لوجوب الفحص يدّعيه بعد البناء على أنّ أصالة الظهور حجّة من باب الظنّ النّوعي لا الشّخصي، وأنّها حجّة في حقّ المشافهين وغيرهم، وأنّ العام ليس من أطراف العلم الإجمالي»(1)،

انتهى.

{فالتحقيق} في المقام التفصيل ب- {عدم جواز التمسّك به قبل الفحص في ما إذا كان} العام {في معرض التخصيص، كما هو الحال في عمومات الكتاب والسّنّة} فإنّ كونها في معرض التخصيص بديهيّ لمن له أقلّ إلمام بالفقه {وذلك} الّذي ذكرنا من وجوب الفحص في هذا النّوع من العمومات {لأجل أنّه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به} أي: بالعام {قبله} أي: قبل الفحص {فلا أقلّ من الشّكّ} فلا مسرح لبناء العقلاء على العمل بالعموم مطلقاً، ومثلها ما لو كان متكلّم كذلك بأن جرت عادته علىالتكلّم بالعام مع إرادة الخاصّ اعتماداً على القرائن المنفصلة.

و{كيف} يجوز العمل بالعام قبل الفحص في هذا النّحو من العمومات {و} الحال أنّه {قد ادّعي الإجماع على عدم جوازه} فإنّه لو كان بناؤهم على العمل كيف ذهب المجمعون الّذين هم من العقلاء على عدم الجواز؟ {فضلاً عن} ادّعاء {نفي الخلاف عنه} أي: عن عدم الجواز {وهو} أي: الشّكّ النّاشئ عن الإجماع

ص: 149


1- حقائق الأصول 1: 515.

كافٍ في عدم الجواز، كما لا يخفى.

وأمّا إذا لم يكن العام كذلك - كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات - فلا شبهة في أنّ السّيرة على العمل به بلا فحص عن مخصّص.

وقد ظهر لك بذلك: أنّ مقدار الفحص اللّازم، ما به يخرج عن المعرضيّة له. كما أنّ مقداره اللّازم منه - بحسب سائر الوجوه الّتي استدلّ بها، من العلم الإجمالي به، أو حصول الظنّ بما هو التكليف، أو غير ذلك - رعايُتها،

___________________________________________

{كافٍ في عدم الجواز، كما لا يخفى}.

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من العمومات {وأمّا} القسم الثّاني، وهو ما {إذا لم يكن العام كذلك} في معرض التخصيص {كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات فلا شبهة في أنّ السّيرة} الجارية لدى العقلاء {على العمل به بلا فحص عن مخصّص} نعم، إذا كان هناك علم إجمالي لم يجز العمل، ولكن قد عرفت خروج ذلك عن محلّ البحث.

{وقد ظهر لك بذلك} الّذي ذكرنا من أنّ وجه وجوب الفحصهو احتمال وجود المخصّص وأنّه في معرض التخصيص {أنّ مقدار الفحص اللّازم ما به يخرج} العام {عن المعرضيّة له} بأن لا يحتمل احتمالاً عقلائيّاً وجوده؛ لأنّه لو كان لبان {كما أنّ مقداره} أي: الفحص {اللّازم منه بحسب سائر الوجوه الّتي استدلّ بها من العلم الإجمالي به} أي: بالمخصّص {أو حصول الظنّ بما هو التكليف، أو غير ذلك} كعدم حجيّة الخطاب لغير المشافه مثلاً {رعايتها} أي: رعاية تلك الوجوه.

والحاصل: أنّ مقدار وجوب الفحص يتفاوت بحسب اختلاف دليل وجوب الفحص، فمن يقول بأنّ وجوب الفحص لكونه معرضاً للتخصيص يقول بأنّ مقدار الفحص هو أن يخرج عن المعرضيّة.

ص: 150

فيختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الظّاهر: عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل، باحتمال أنّه كان ولم يصل، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقاً ولو قبل الفحص عنها، كما لا يخفى.

___________________________________________

ومن يقول بأنّ الفحص للعلم إجمالاً بوجود المخصّص يرى أنّ مقداره إلى انحلال العلم الإجمالي.

ومن يقول بأنّ الفحص للظنّ بالتخصيص فلا ظنّ بالعموم يرى أنّ مقداره إلى حصول الظنّ الشّخصي.

ومن يقول بأنّ الفحص لعدم حجيّة خطاب المشافه بالنّسبة إلى أن يقوم الإجماع أو بناء العقلاء على الحجيّة. وكيف كان {فيختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى} هذا كلّه في الفحص عن المخصّصالمنفصل.

{ثمّ إنّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان ولم يصل} لتقطيع الأخبار ونحوه {بل حاله} أي: حال احتمال المخصّص المتّصل {حال احتمال قرينة المجاز} متّصلة ومنفصلة {وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به} أي: باحتمال المجاز {مطلقاً} سواء احتمل كون قرينته متّصلة أم منفصلة {ولو قبل الفحص عنها} وهذا الاتفاق حجّة لما تقدّم في الإجماع من كشفه عن سيرة أهل اللسان، إذ العلماء من أظهر مصاديق أهل اللسان {كما لا يخفى} ولكن الكلام في الاتفاق المذكور، فإنّا رأينا كتب الفقه تتعرّض لجميع ذلك عند الاستدلال. نعم، الغالب هو التكلّم في المعارضات. وبهذا كلّه ظهر حال سائر ما هو خلاف الظاهر، كاحتمال النّقل، والاشتراك، والإضمار، وغيرها.

ص: 151

إيقاظ: لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا، وبينه في الأصول العمليّة؛ حيث إنّه هاهنا عمّا يزاحم الحجيّة، بخلافه هناك، فإنّه بدونه لا حجّة؛ ضرورة أنّ العقل بدونه يستقلّ باستحقاق المؤاخذة على المخالفة، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان، والمؤاخذة عليها من غير برهان.

___________________________________________

[إيقاظ]

{إيقاظ: لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا} في باب الأصول اللفظيّة، كأصالة العموم وأصالة الإطلاق ونحوهما {وبينه في الأصول العمليّة} أعني: أصالة البراءةوالاستصحاب والتخيير والاحتياط، فإنّه كما يجب الفحص هنا حتّى يحكم بالعموم أو الإطلاق كذلك يجب الفحص هناك حتّى يحكم بالبراءة وأخواتها، ولكن بين الفحصين فرق {حيث إنّه} أي: الفحص {هاهنا} في الأصول اللفظيّة {عمّا يزاحم الحجيّة} بعد إحرازها، إذ أصالة العموم محرزة، وإنّما الشّكّ في المانع عنها، لبداهة أنّ التخصيص مانع عن العمل بالعموم؛ لأنّ عدم التخصيص مُقْتَضٍ له {بخلافه} أي: الفحص {هناك} في باب الأصول العمليّة {فإنّه بدونه} أي: بدون الفحص {لا حجّة} ولا مقتضي للعمل بها {ضرورة أنّ} مدرك حجيّة الأصول العمليّة إمّا العقل وإمّا النّقل.

أمّا {العقل} فإنّه {بدونه يستقلّ باستحقاق المؤاخذة على المخالفة} لو كان التكليف في الواقع غير البراءة {فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان} إذ العقل إنّما يحكم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان في مورد فحص المكلّف عن البيان ولم يجده، فالفحص بالنسبة إلى البراءة العقليّة محقّق لموضوعه، كما أنّ العقل إنّما يحكم بالتخيير في أطراف العلم بعد الفحص، إذ قبل الفحص يحتمل نصب الحجّة على الواقع الموجب لتحفّظه.

والحاصل: أنّ للفحص مدخليّة في تماميّة مقتضى البراءة والتخيير العقليّين

ص: 152

والنّقل وإن دلّ على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقاً، إلّا أنّ الإجماع بقسميه على تقييده به، فافهم.

فصل: هل الخطابات الشّفاهيّة - مثل: (يا أيّها المؤمنون) -

___________________________________________

{والنّقل وإن دلّ على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقاً} لإطلاق «رفع ما لا يعلمون»(1)، و«لا تنقض اليقين بالشك»(2)، {إلّا أنّ الإجماع بقسميه} محصّله ومنقوله {على تقييده} أي: تقييد النّقل {به} أي: بالفحص، فكأنّه قيل: رفع ما لا يعلمون بعد الفحص، وهكذا دليل لا تنقض.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ وجوب الفحص من باب الجمع بين دليلي الأحكام والرّفع، فإنّ العرف يفهم منهما ترتّب الرّفع على الفحص بدلالة الاقتضاء، إذ يلزم من عدم وجوب الفحص لغويّة الأحكام، كما ذكر الفقهاء أنّ دليل «لا تعاد الصّلاة إلّا من خمس»(3)، مختصّ بالنسيان وإلّا لزم لغويّة دليل الأجزاء والشّروط، وعلى هذا فلا نحتاج إلى التمسّك بذيل الإجماع، واللّه الهادي.

[فصل هل الخطابات الشفاهيّة تعمّ غير الحاضرين؟]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، هل الخطابات الشفاهيّة تعمّ غير الحاضرين؟

{فصل} في الخطابات الشّفاهيّة غير المختصّة بمخاطب خاصّ، والمراد بها الأحكام الملقاة بأداة الخطاب على جماعة حاضرة في مجلس الخطاب بدون قصد الاختصاص فنحو «نفّذوا جيش أُسامة»(4)،

خارج عن محلّ الكلام كخروج نحو {إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ}(5).

إذا عرفت ذلك قلنا: {هل الخطابات الشّفاهيّة مثل: (يا أيّها المؤمنون)} و{قُوٓاْ

ص: 153


1- الخصال 2: 417.
2- الكافي 3: 352، وفيه: «لا ينقض اليقين بالشك».
3- من لا يحضره الفقيه 1: 279؛ تهذيب الأحكام 2: 152.
4- بحار الأنوار 22: 468.
5- سورة النحل، الآية: 90.

تختصّ بالحاضر مجلس التخاطب، أو تعمّغيره من الغائبين، بل المعدومين؟ فيه خلاف.

ولا بدّ - قبل الخوض في تحقيق المقام - من بيان ما يمكن أن يكون محلّاً للنقض والإبرام بين الأعلام:

فاعلم: أنّه يمكن أن يكون النّزاع في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب، هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين، كما صحّ تعلّقه بالموجودين، أم لا؟

أو في صحّة المخاطبة معهم - بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب - بالألفاظ الموضوعة للخطاب، أو بنفس توجيه الكلام إليهم،

___________________________________________

أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا}(1)، {تختصّ بالحاضر مجلس التخاطب} حتّى يحتاج في إثبات الحكم لغيرهم بدليل الاشتراك في التكليف الثّابت بالإجماع الموجب لعدم إثبات الحكم في ما لم يكن إجماع بالاشتراك، كلزوم ثوبين للمرأة في الإحرام {أو تعمّ غيره} أي: غير الحاضر {من الغائبين، بل المعدومين؟ فيه خلاف} بين الأعلام {ولا بدّ قبل الخوض في تحقيق المقام من بيان ما يمكن أن يكون محلّاً للنقض والإبرام بين الأعلام، ف-} نقول: {اعلم أنّه يمكن} أن يحرّر محلّ النّزاع على ثلاثة أوجه:

الأوّل: {أن يكون النّزاع في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين} بأن يكون المعدوم فعلاً - حين الخطاب - مأموراً بالفعلومنهيّاً عنه، يعني أن يكون البعث والزجر بالنسبة إليه فعليّاً {كما صحّ تعلّقه بالموجودين أم لا؟} وكذا يتصوّر النّزاع بهذا النّحو بالنسبة إلى الغائبين عن مجلس الخطاب وإن كان الأمر بالنسبة إليهم أهون.

الثّاني: ما أشار إليه بقوله: {أو} أن يكون النّزاع {في صحّة المخاطبة معهم - بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب - بالألفاظ الموضوعة للخطاب} كأن يقول لهم: افعلوا كذا واتركوا كذا {أو} المخاطبة معهم {بنفس توجيه الكلام إليهم} بدون الخطاب

ص: 154


1- سورة التحريم، الآية: 6.

وعدم صحّتها.

أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيبَ أداة الخطاب للغائبين، بل المعدومين، وعدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة.

ولا يخفى أنّ النّزاع على الوجهين الأوّلين يكون عقليّاً، وعلى الوجه الأخير لغويّاً.

إذا عرفت هذا، فلا ريب في عدم صحّة تكليف المعدوم عقلاً، بمعنى بعثه أو زجره فعلاً؛

___________________________________________

كأن يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(1)، موجّهاً الكلام إلى المعدوم أو إلى الغائب {وعدم صحّتها}.

الثّالث: ما أشار إليه بقوله: {أو} أن يكون النّزاع {في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين، بل المعدومين} كأن يكون (النّاس) الواقع عقيب كلمة (أيّها) شاملاً للحاضر والغائب والمعدوم والموجود {وعدم عمومها} أي: تلك الألفاظ {لهما} أي: للغائب والمعدوم، فالمرادبالناس خصوص الحاضر {بقرينة تلك الأداة} مثل: (أيّها) في المثال.

{ولا يخفى أنّ النِّزاع على الوجهين الأوّلين} أعني: صحّة التكليف وصحّة الخطاب {يكون عقليّاً} لأنّ المرجع في الصّحّة هو العقل {وعلى الوجه الأخير} أعني: شمول اللّفظ يكون النّزاع {لغويّاً} يرجع إلى أنّ واضع اللغة هل وضع ألفاظ العموم لما يشمل المعدومين والغائبين أم لا؟

{إذا عرفت هذا ف-} نقول في بيان المختار: إنّه {لا ريب في عدم صحّة تكليف المعدوم عقلاً، بمعنى بعثه أو زجره فعلاً} فإنّ للتكليف على مذاق المصنّف مراتب أربع: الاقتضاء، والإنشاء، والفعليّة، والتنجّز، وحيث إنّ مرتبتي الاقتضاء والتنجّز ليستا من مراتب التكليف حقيقة أضرب عنهما وبين مرتبة الفعليّة والإنشاء فقط. وعلى

ص: 155


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

ضرورة أنّه بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقةً، ولا يكاد يكون الطلب كذلك إلّا من الموجود ضرورةً.

نعم، هو بمعنى مجرّد إنشاء الطلب - بلا بعثٍ ولا زجرٍ - لا استحالة فيه أصلاً؛ فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة، فالحكيم - تبارك وتعالى - يُنْشِئُ على وفق الحكمة والمصلحة طلب شيء - قانوناً - من الموجود والمعدوم حين الخطاب، ليصير فعليّاً بعد ما وجد الشّرائط وفقد الموانع، بلا حاجة إلى إنشاء آخر، فتدبّر.

___________________________________________

كلّ فلا يصحّ التكليف الفعلي بالنسبة إلى المعدوم {ضرورة أنّه} أي: التكليف {بهذا المعنى} أعني: الفعليّة {يستلزم الطلبمنه حقيقة} بأن يريد منه الحركة والسّكون والجري على طبق التكليف {ولا يكاد يكون الطلب كذلك} فعلاً {إلّا من الموجود ضرورة} وبداهة هذا المعنى أوجبت الاستغناء عن البرهان. وليس يصحّ عند العقل شيء إذا احتاج النّهار إلى دليل، ولذا أضربنا عن بعض الإطناب في المقام.

{نعم، هو} أي: التكليف {بمعنى مجرّد إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر} بالنسبة إلى المعدوم، وإن كان فعليّاً بالنسبة إلى الموجود {لا استحالة فيه أصلاً، فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة} إذ هو عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ، أو جعل الشّيء على عهدة المكلّف {فالحكيم - تبارك وتعالى - يُنشئ على وفق الحكمة والمصلحة طلب شيء قانوناً} أي: على سبيل ضرب القانون والقاعدة الكليّة {من الموجود والمعدوم حين الخطاب} الجار يتعلّق ب-«الطلب» والظرف متعلّق ب-«الموجود والمعدوم».

إن قلت: طلبه من الموجود لا إشكال فيه، وأمّا الطلب من المعدوم فلغو، لعدم قدرة المعدوم على الفعل حين الطلب.

قلت: إنّما يطلب من المعدوم {ليصير} التكليف {فعليّاً بعد ما وجد الشّرائط وفقد الموانع} فإنّه لو أنشأ التكليف أوّلاً على الموجود فقط احتاج ثانياً إلى إنشاء آخر، بخلاف ما لو أنشأ عاماً فإنّه {بلا حاجة إلى إنشاء آخر} بعد وجود المعدومين {فتدبّر}

ص: 156

ونظيره من غير الطلب إنشاءُ التمليك في الوقف على البطون، فإنّ المعدوم منهم يصير مالكاً للعين الموقوفة بعد وجوده بإنشائه، ويتلقّى لها من الواقف بعقده،فيؤثّر في حقّ الموجود منهم الملكيّة الفعليّة، ولا يؤثّر في حقّ المعدوم فعلاً إلّا استعدادها لأن تصير ملكاً له بعد وجوده. هذا إذا أُنْشِئَ الطلب مطلقاً.

___________________________________________

كي لا تتوهّم بأنّه لا يحتاج إلى إنشاء آخر ولو أنشأ أوّلاً بالنسبة إلى الموجود لإمكان نصب قرينة على الاشتراك، وذلك لأنّه يحتاج إلى الإنشاء على كلّ حال وإنّما القرينة كاشفة عن الإنشاء.

{ونظيره} أي: نظيره في صحّة الإنشاء ليصير فعليّاً عند وجود الشّرائط وفقدان الموانع {من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون، فإنّ} الواقف ينشأ الملك بإنشاء واحد للمعدوم والموجود كما أنّ المولى ينشأ الطلب بإنشاء واحد منهما.

و{المعدوم منهم يصير مالكاً للعين الموقوفة} في الوقف الخاص {بعد وجوده} أي: وجود ذلك المعدوم {ب-} سبب {إنشائه} أي: إنشاء الواقف {ويتلقّى} الموجود الّذي كان معدوماً حين الوقف {لها} أي: للعين الموقوفة {من الواقف} لا من البطن السّابق عليه {بعقده} أي: يكون تلقّي الموجود فعلاً للوقف بسبب ذلك العقد للوقف الّذي أجراه الواقف قبل وجود هذا الموقوف عليه {فيؤثّر} عقد الوقف المنشأ بإنشاء واحد {في حقّ الموجود منهم الملكيّة الفعليّة} لفرض اجتماع الشّرائط {ولا يؤثّر} هذا العقد {في حقّ المعدوم فعلاً إلّا استعدادها} أي: العين الموقوفة {لأن تصير ملكاً له بعد وجوده} فكما أنّ الملك بالنسبة إلى بعض البطون فعلي، وبالنسبة إلى البعض الآخر استعدادي، كذلك الطلب بالنّسبة إلى الموجودينفعلي، وبالنسبة إلى المعدومين استعدادي.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرنا في توجيه كون الإنشاء واحداً والمنشأ مختلفاً إنّما يكون في ما {إذا أنشئ الطلب مطلقاً} كأن يقول: (يا أيّها النّاس اتّقوا اللّه)، فإنّه يحتاج

ص: 157

وأمّا إذا أُنْشِئَ مقيّداً بوجود المكلّف ووجدانه الشّرائط، فإمكانه بمكانٍ من الإمكان.

وكذلك لا ريب في عدم صحّة خطاب المعدوم - بل الغائب - حقيقةً، وعدم إمكانه؛ ضرورةَ عدم تحقّق توجيه الكلام نحو الغير حقيقةً إلّا إذا كان موجوداً، وكان بحيث يتوجّه إلى الكلام ويلتفت إليه.

ومنه قد انقدح: أنّ ما وضع للخطاب - مثل أدوات النّداء -

___________________________________________

إلى التقريب المذكور {وأمّا إذا أنشئ} الطلب {مقيّداً بوجود المكلّف ووجدانه الشّرائط} كأن يقول: (يجب التقوى على كلّ موجود بالغ عاقل) {فإمكانه بمكان من الإمكان} ويكون حاله حال سائر الواجبات المشروطة المتّفق على إمكانها.

تنبيه: في العبارة تسامح، إذ ليس للإمكان إمكان حتّى يتفاوت بعض الأشياء في الإمكان، فإنّ ظاهر العبارة أنّ إمكان هذا النّحو من الإيجاب أولى بالإمكانيّة من إمكان النّحو الأوّل. وكيف كان فالمراد أنّ إمكان هذا أوضح من إمكان ذاك.

هذا تمام الكلام في النّحو الأوّل من تحرير محلّ النّزاع، وقد تبيّن عدم صحّة الخطاب، بمعنى إرادة البعث والزجر فعلاً.

{وكذلك لا ريب في عدم صحّة} النّحو الثّاني وهو {خطاب المعدوم، بل الغائب حقيقةً وعدمإمكانه} من العاقل الملتفت {ضرورة} فكما لا يمكن تكليف المعدوم لا يمكن خطابه لضرورة {عدم تحقّق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلّا إذا كان موجوداً وكان} حاضراً {بحيث يتوجّه إلى الكلام ويلتفت إليه} فالكلام وإن كان عرضاً قائماً بالمتكلّم لكن كونه خطاباً حقيقيّاً متوقّف على طرف للمتكلّم يسمّى بالمخاطب، وعليه فلا يتعلّق بالمعدوم والغائب.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من عدم تعلّق الخطاب بالمعدوم والغائب {قد انقدح} حال النّزاع الثّالث الّذي كان نزاعاً لغويّاً، و{إنّ ما وضع للخطاب مثل أدوات النّداء}

ص: 158

لو كان موضوعاً للخطاب الحقيقي، لأوجب استعمالُه فيه تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين. كما أنّ قضيّة إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره.

لكن الظاهر: أنّ مثل أدوات النّداء لم يكن موضوعاً لذلك، بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي.

___________________________________________

ك- (يا) و(أيّها) {لو كان موضوعاً للخطاب الحقيقي لأوجب استعماله} أي: استعمال ما وضع للخطاب {فيه} أي: في الخطاب الحقيقي {تخصيص ما يقع في تلوه} مثل: (النّاس) {بالحاضرين} دون الغائبين والمعدومين، لما ظهر من أنّ الخطاب الحقيقي لا يعقل بالنسبة إليهما.

والحاصل: أنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن ظهور الأداة في الخطاب الحقيقي بقرينة عموم ما في تلوها، وبين رفع اليد عن ظهور ما في تلوها في العموم بقرينة خصوص الأداة، وحيث إنّ الأداة في مفادها أظهر من العام في عمومه كانالمتعيّن هو الثّاني.

وهذا كما يقال في نحو: (أسد يرمي) أنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن ظهور الأسد في المفترس بقرينة (يرمي) وبين العكس، بأن يراد: بالرمي رمي من الحصاة، وحيث إنّ (يرمي) أظهر عند العرف في مفاده فاللّازم الأوّل.

وإلى ما ذكرنا أشار بقوله: {كما أنّ قضيّة إرادة العموم منه} أي: ممّا في تلو الأداة ك- (النّاس) في المثال {لغيرهم} متعلّق بالعموم يشمل المعدومين والغائبين أيضاً {استعماله} أي: ما وضع للخطاب وهو الأداة {في غيره} أي: في غير الخطاب الحقيقي الّذي كانت الأداة موضوعة له.

هذا كلّه بناءً على أنّ أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي، و{لكن الظاهر} من الانصراف لدى الإطلاق {أنّ مثل أدوات النّداء لم يكن موضوعاً لذلك} الخطاب الحقيقي {بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي} بمعنى أنّها موضوعة لإنشاء الخطاب، سواء كان بداعي الحقيقة أو بسائر الدواعي، كإظهار الشّوق

ص: 159

فالمتكلّم ربّما يوقع الخطاب بها تحسّراً وتأسّفاً وحزناً، مثل: «يا كوكباً ما كان أقصر عمره»(1)، أو شوقاً ونحو ذلك، كما يوقعه مُخَاطِباً لمن يناديه حقيقةً، فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقي حينئذٍ التخصيصَ بمن يصحّ مخاطبته.

نعم، لا يبعد دعوى الظهور - انصرافاً - في الخطاب الحقيقي، كما هو الحال فيحروف الاستفهام والترجّي والتمنّي وغيرها، على ما حقّقناه في بعض المباحث السّابقة من كونها موضوعةً للإيقاعي منها بدواعٍ مختلفة،

___________________________________________

والحزن أو الحسرة أو النّدبة أو السّخريّة أو غير ذلك {فالمتكلّم ربّما يوقع الخطاب بها} أي: بالأدوات {تحسّراً وتأسّفاً وحزناً، مثل:

«يا كوكباً

ما كان أقصر عمره»}

وكذا تكون كواكب الأسحار

{أو شوقاً ونحو ذلك} غير الخطاب الحقيقي {كما يوقعه مخاطباً لمن يناديه حقيقة} نحو «أيا من لست أنساه» {فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقي حينئذٍ} أي: حين لم تكن موضوعة للخطاب الحقيقي فقط {التخصيص بمن يصحّ مخاطبته} من الحاضرين فقط، بل يشمل المعدومين والغائبين؛ لأنّه لا مانع من تعلّق الخطاب الإنشائي بهما.

{نعم، لا يبعد دعوى الظهور انصرافاً} لا وضعاً {في الخطاب الحقيقي} ولذا لو سمع الإنسان خطاباً حمله على الخطاب الحقيقي إلّا أن يكون هناك قرينة الإنشائي {كما هو الحال في حروف الاستفهام والترجّي والتمنّي وغيرها} كالعرض والتحضيض {على ما حقّقناه في بعض المباحث السّابقة} وهو الجهة الرّابعة من مبحث الأوامر(2) {من كونها موضوعة للإيقاعي منها} لا الحقيقي {بدواع مختلفة} فالاستفهام قد يكون لطلبالفهم حقيقة وقد يكون للتقرير نحو (أأنت فعلت) وكذا

ص: 160


1- البيت من قصيدة أبي الحسن التهاميّ، المتوفّى سنة 416ه- .
2- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 357.

مع ظهورها في الواقعي منها انصرافاً، إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه، كما يمكن دعوى وجوده غالباً في كلام الشّارع؛ ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل: (يا أيّها النّاس اتّقوا) و (يا أيّها المؤمنون) بمن حضر مجلسَ الخطاب، بلا شبهة ولا ارتياب.

ويشهد لما ذكرنا: صحّة النّداء بالأدوات، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية، ولا للتنزيل والعلاقة رعايةً.

___________________________________________

التمنّي وغيره {مع ظهورها} أي: أدوات الاستفهام وأخواته {في الواقعي منها انصرافاً إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه} أي عن هذا الظهور الانصرافي. كما لو وقع الاستفهام أو الترجّي في كلام اللّه سبحانه لاستحالة الجهل عليه سبحانه {كما يمكن دعوى وجوده} أي: وجود المانع عن الانصراف إلى الحقيقي {غالباً في كلام الشّارع} إذ لو أُخذ بظاهر الخطاب لزم الاختصاص بالحاضرين، مع {ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل: (يا أيّها النّاس اتّقوا) و (يا أيّها المؤمنون)} و {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ}(1)، إلى غير ذلك {بمن حضر مجلس الخطاب بلا شبهة ولا ارتياب} فلو أُريد الحاضرون فقط لزم إنشاء آخر لغيرهم، وذلك ممّا لم يظهر الداعي إليه.

{ويشهد لما ذكرنا} من عدم اختصاص الوضع بالحقيقيوإنّما الاختصاص بالانصراف {صحّة النّداء بالأدوات مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية} كاشفة عن تغيير وجهة اللفظ {ولا للتنزيل} للمعدوم منزلة الموجود {والعلاقة} بين المعنى الحقيقي والمجازي {رعاية} ولو كانت موضوعة للحاضرين لم يجز استعمالها في العموم بلا ملاحظة العلاقة.

ولذا ترى المرتكز في الذهن شمول الخطابات القرآنيّة لنا، حتّى أنّه لو قيل لأحد من العرف إنّ خطاب (يا أيّها النّاس) لا يشملك، رأى ذلك خلاف وجدانه

ص: 161


1- سورة التحريم، الآية: 6.

ولتوهّم كونه ارتكازيّاً، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه والتفتيش عن حاله، مع حصول العلم به بذلك لو كان ارتكازيّاً، وإلّا فمن أين يعلم بثبوته كذلك؟ كما هو واضح.

وإن أبيت إلّا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي، فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهيّة - بأدوات الخطاب أو بنفس توجيه الكلام بدون الأداة - ، كغيرها،

___________________________________________

{ولتوهّم كونه} أي: التنزيل الّذي هو سبب صحّة الاستعمال {ارتكازيّاً} ولذا لا نرى العناية لإِلف الذهن به الموجب لعدم البعد عنه حتّى يحتاج إلى النّظر والتفكّر {يدفعه عدم العلم به} أي: بالتنزيل {مع الالتفات إليه والتفتيش عن حاله} بأن نرجع إلى الذهن ونلاحظ أنّه هل نزّل فيه المعدوم منزلة الموجود أم لا {مع حصول العلم به} أي: بالتنزيل {بذلك} الالتفات والتفتيش {لو كان} التنزيل {ارتكازيّاً}.والحاصل: أنّه لو كان تنزيل لالتفتنا إليه عند التفتيش، فعدم وجدان التنزيل حين التفتيش دليل على عدم التنزيل {وإلّا} فلو لم نجد التنزيل من أنفسنا حين التفتيش ومع ذلك كان هناك تنزيل {فمن أين يعلم بثبوته} أي: التنزيل {كذلك؟} أي: ارتكازاً.

والحاصل: أنّه لو لم يكن التفتيش سبباً لظهور التنزيل فمن أين نعلم بالتنزيل الارتكازي والمدّعى له يكون بلا دليل؛ لأنّ الدليل عليه الوجدان.

وقد عرفت عدم وجداننا له {كما هو واضح} لمن تأمّل، إذ كيف يمكن أن يكون التنزيل ارتكازي الأذهان ومع ذلك لم نلتفت إليه حين التفتيش والفحص؟ {وإن أبيت إلّا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي} لا الإنشائي الإيقاعي {فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهيّة} - عزّ اسمه - الواقعة {بأدوات الخطاب} نحو (يا أيّها النّاس) {أو بنفس توجيه الكلام بدون الأداة} نحو {لِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(1)، {كغيرها} أي: كغير الخطابات الإلهيّة من خطابات سائر الملوك الّذين يريدون به جميع الرّعيّة من كان حاضراً ومن كان غائباً ومن كان

ص: 162


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

بالمشافهين، في ما لم يكن هناك قرينة على التعميم.

وتوهّم صحّة التزام التعميم في خطاباته - تعالى - لغير الموجودين - فضلاً عن الغائبين - ؛ لإحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال.

فاسدٌ: ضرورة أنّ إحاطته لا توجب صلاحيّةالمعدوم - بل الغائب - للخطاب. وعدم صحّة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصاً في ناحيته - تعالى - ، كما لا يخفى.

___________________________________________

معدوماً {بالمشافهين} متعلّق بال-«اختصاص» {في ما لم يكن هناك قرينة على التعميم}.

أمّا لو كانت قرينة على التعميم نحو غالب الخطابات الّتي علم عدم اختصاصها فلا بدّ وأن نقول بشمولها للجميع ولو بنحو المجاز والعناية بتنزيلها منزلة الحاضرين.

{وتوهّم} الفرق بين خطابات الملوك فلا بدّ من اختصاصها بالحاضرين، وبين خطابات اللّه - سبحانه - ب- {صحّة التزام التعميم في خطاباته - تعالى - لغير الموجودين فضلاً عن الغائبين، لإحاطته} - سبحانه - إحاطة علميّة {بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال} وإن كان معدوماً في الحال لاستواء علم اللّه - تعالى - بالنسبة إلى ما كان وما يكون وما لم يكن، فيصحّ خطابه العام بالنسبة إلى الجميع.

{فاسد} خبر«توهّم» {ضرورة أنّ} الضّعف والقصور وعدم الإمكان قد يكون بسبب المتكلّم وقد يكون بسبب طرف الخطاب، وعدم إمكان خطاب المعدوم من ناحيته لا من ناحية اللّه - سبحانه - حتّى يقال بأنّ الإحاطة العلميّة كافية في الخطاب، ف- {إحاطته} تعالى {لا توجب صلاحيّة المعدوم، بل الغائب، للخطاب، وعدم صحّة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصاً في ناحيته، تعالى} فعدم قابليّة الظرف مثلاً لأخذ ماء البحر ليس من جهة نقص في ماء البحر بل من جهة نقص الظرف {كما لا يخفى}.

وقد ورد في بعض من الرّوايات حين سُئل الإمام عن تعلّق قدرة اللّه - تعالى -

ص: 163

كما أنّ خطابه اللفظي - لكونه تدريجيّاً ومتصرّم الوجود - كان قاصراً عن أن يكون موجّهاً نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة.

هذا لو قلنا بأنّ الخطاب مثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ}(1) في الكتاب حقيقة إلى غير النّبي(صلی الله علیه و آله) بلسانه.

وأمّا إذا قيل بأنّه المخاطب والموجّه إليه الكلام حقيقةً، - وحياً أو إلهاماً - ،

___________________________________________

بالمستحيل، فأجاب(علیه السلام) بأنّ ربّنا لا يوصف بالعجز ولكن الطّرف غير قابل(2) {كما أنّ خطابه اللفظي} جلّ اسمه {لكونه تدريجيّاً ومتصرّم الوجود} بحيث لا يبقى أبداً في الكون - على رأي جماعة من الحكماء والمتكلّمين في الكلام اللفظي - فتدبّر {كان قاصراً عن أن يكون موجّهاً نحو غير مَنْ كان بمسمع منه ضرورة} ولو كان باقياً لأمكن توجيهه إلى الغائب بعد حضوره، وإلى المعدوم بعد وجوده، وهذا البحث خارج عمّا نحن فيه، كما لا يخفى.

{هذا} كلّه {لو قلنا بأنّ الخطاب بمثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ} في الكتاب} متوجّه {حقيقةإلى غير النّبي(صلی الله علیه و آله)} ولكن كان جريانه {بلسانه} المبارك كجريان الكلام بالشجر مع كون المخاطب هو موسى(علیه السلام)، والفرق أنّ الواسطة في الأوّل ذو إرادة بخلاف الثّاني.

{وأمّا إذا قيل بأنّه} - صلّى اللّه عليه وآله وسلم - هو {المخاطب والموجّه إليه الكلام حقيقة وحياً أو إلهاماً} بغرض إيصالها إلى المكلّفين فحيث لم يرد منه المخاطب الحقيقي، إذ المقصود بالخطاب غير موجّه إليه الكلام والموجّه إليه

ص: 164


1- سورة النساء، الآية: 1.
2- بحار الأنوار 4: 143 نقلاً عن التوحيد: 130، ومتن الحديث هكذا: قيل لأميرالمؤمنين(علیه السلام) هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟ قال(علیه السلام): «إنّ اللّه - تبارك وتعالى - لا ينسب إلى العجز، والّذي سألتني لا يكون».

فلا محيص إلّا عن كون الأداة في مثله للخطاب الإيقاعي ولو مجازاً.

وعليه لا مجال لتوهّم اختصاص الحكم - المتكفّل له الخطاب - بالحاضرين، بل يعمّ المعدومين فضلاً عن الغائبين.

فصل: ربّما قيل(1):

إنّه يظهر لعموم الخطابات الشّفاهيّة للمعدومين ثمرتان:

الأُولى: حجيّة ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين.

___________________________________________

الكلام غير مقصود بالخطاب {فلا محيص إلّا عن كون الأداة في مثله للخطاب الإيقاعي ولو مجازاً} لو قلنا بأنّ وضع الأداة للخطاب الحقيقي {وعليه لا مجال لتوهّم اختصاص الحكم المتكفّل له الخطاب بالحاضرين، بل يعمّ المعدومين فضلاً عن الغائبين} إذ الجميع غير موجّه إليهم الخطاب حسب الفرض، فالقول بشموله للبعض فقط دون غيره تحكّم.

إن قلت: يمكن أن يقال بعدم شمول الجميع؛ لأنّ الخطاب حقيقة موجّه إلىالنّبيّ(صلی الله علیه و آله) ولا وجه للقول بالمجازيّة وأنّ الخطاب إيقاعي.

قلت: لا يمكن ذلك؛ لأنّه يلزم عدم شمول الخطابات الشّفاهيّة للحاضرين ولم يقل به أحد، فتدبّر، واللّه الموفّق.

[فصل ثمرة عموم الخطابات الشفاهيّة]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، ثمرة عموم الخطابات الشفاهيّة

{فصل} في بيان ثمرة النّزاع في الخطابات الشّفاهيّة {ربّما قيل: أنّه يظهر لعموم الخطابات الشّفاهيّة للمعدومين ثمرتان} مع عدم التعرّض للغائبين حين الخطاب لعدم ثمرة فعليّة بالنسبة إليهم.

{الأُولى: حجيّة ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين} فلو قلنا بالعموم كانت الخطابات حجّة لهم كالمشافهين، ولو لم نقل بالعموم لم تكن الظهورات حجّة

ص: 165


1- قوانين الأصول 1: 233.

وفيه: أنّه مبنيّ على اختصاص حجيّة الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وقد حقّق عدم الاختصاص بهم.

ولو سلّم، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك

___________________________________________

لهم، لعدم كونهم مخاطبين، فاللّازم في إثبات التكاليف بالنسبة إليهم الرّجوع إلى أدلّة اشتراك التكليف من الإجماع ونحوه، حتّى أنّه لو لم يكن إجماع على الاشتراك في حكم - كما تقدّم في مسألة ثوبي الإحرام - لم يثبت التكليف بالنسبة إلى ذلك المورد.

{وفيه: أنّه مبنيّ على اختصاص حجيّة الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وقد حقّق عدم الاختصاص بهم} بل الظواهر حجّة لكلّ أحد.

وأظنّ أنّ هذا الإشكال لا يرتبط بالثمرة، إذ ليس المراد من حجيّة الظهورتشخيص مراد المتكلّم بالنسبة إلى الحاضرين وأنّه كان يشملهم جميعاً أم لا؟ حتّى يقال: إنّ تشخيص المراد لا يختصّ بالمقصود بالإفهام، بل يعمّ جميع أهل النّاس، بل المراد حجيّة الظهور الّذي يصحّ على طبقه العمل، ومن المعلوم أنّ الظهور لو كان شاملاً لنا لم نحتج إلى الإجماع في الاشتراك، حتّى لو خالف جماعة كثيرة وقالوا بعدم شمول اللفظ للمرأة مثلاً، وكان له ظهور بالنسبة إليها أخذنا بالظهور بخلاف ما لو كان الظهور منحصراً بالمشافهين، فإنّ مخالفة شخص واحد بأن قال ليس الحكم مشتركاً بين الرّجال والنّساء يضرّ، إذ يسقط الإجماع في الاشتراك حتّى في هذا الحكم المختلف فيه(1)،

فتدبّر.

{ولو سلّم} ذلك وقلنا إنّ الظواهر ليست حجّة مطلقاً بل بالنسبة إلى من قصد إفهامه، فيقع الكلام في الصّغرى {فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك}

ص: 166


1- لا يخفى أنّ بيان هذه الثّمرة بالكيفيّة الّتي بيّنّاها مأخوذة عن شرح الخوئيني - 2: 393 - وعليه فيرد ما ذكرنا من الإشكال، ولكن المحتمل عدم ما ذكر، فلا إشكال عليه.

ممنوع، بل الظاهر: أنّ النّاس كلّهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك، وإن لم يعمّهم الخطاب، كما يومي إليه غير واحد من الأخبار.

الثّانية: صحّة التمسّك بإطلاقات الخطابات القرآنيّة - بناءً على التعميم - لثبوت الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين، وإن لم يكن متّحداً مع المشافهين في الصّنف، وعدم صحّته على عدمه؛ لعدم كونها حينئذٍ متكفّلة لأحكام غير المشافهين، فلا بدّ من إثبات اتحاده معهم في الصّنف،

___________________________________________

الخطاب {ممنوع، بل الظاهر} من الرّوايات الآتية {أنّالنّاس كلّهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك} مقصودين بالإفهام {وإن لم يعمّهم الخطاب} بحيث يصحّ لهم التمسّك به في إثبات تكاليفهم {كما يومي إليه} أي: إلى كون النّاس مقصودين بالإفهام {غير واحد من الأخبار} الآمرة بالرجوع إلى الكتاب، كأخبار الثّقلين وأخبار عرض الخبرين المتعارضين على الكتاب إلى غير ذلك.

فإنّ الظاهر كون الكتاب حجّة إلى يوم القيامة، وما ورد من احتمال القرآن لوجوه عديدة - كقول أميرالمؤمنين(علیه السلام) لابن عبّاس - لا ينافي ما ذكرنا، كما لا يخفى بأدنى تأمّل.

الثّمرة {الثّانية}: - المترتّبة على النّزاع في الخطابات الشّفاهيّة - {صحّة التمسّك بإطلاقات الخطابات القرآنيّة - بناءً على التعميم - لثبوت الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين وإن لم يكن متّحداً مع المشافهين في الصّنف} إذ انطباق العنوان كافٍ لإثبات الحكم ولو لم يكن متّحداً صنفاً {وعدم صحّته} أي: صحّة التمسّك بالإطلاق بناءً {على عدمه} أي: عدم التعميم {لعدم كونها} أي: الإطلاقات {حينئذٍ} أي: حين لم تكن تشمل المعدومين {متكفّلة لأحكام غير المشافهين، فلا بدّ من إثبات اتحاده} أي: اتحاد المعدوم في الحكم {معهم} أي: مع المشافهين {في الصّنف} بأن يكون رجلاً لو كانوا رجالاً، وعراقيّاً لو كانوا عراقيّين،

ص: 167

حتّى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الأحكام؛ حيث لا دليل عليه حينئذٍ إلّا الإجماع، ولا إجماع عليه إلّا في ما اتحد الصّنف، كما لا يخفى.ولا يذهب عليك: أنّه يمكن إثبات الاتحاد، وعدمِ دخلِ ما كان البالغ الآن فاقداً له ممّا كان المشافهون واجدين له،

___________________________________________

وهكذا {حتّى يحكم} عليه {بالاشتراك مع المشافهين في الأحكام} وإنّما أوجبنا الاتحاد في الصّنف {حيث لا دليل عليه} أي: على الاتحاد في الحكم {حينئذٍ} أي: حين عدم شمول الإطلاقات {إلّا الإجماع، ولا إجماع عليه} أي: على الاتحاد حكماً {إلّا في ما اتحد الصّنف، كما لا يخفى} إذ الإجماع دليل لبّي والمتيقّن من معقده الاشتراك في الحكم في صورة الاشتراك في جميع الخصوصيّات، ولا يكفي صدق عنوان الحكم على المعدوم لفرض عدم شمول الإطلاق.

والحاصل: أنّه مع الشّكّ في الحكم يرجع إلى الإطلاق على القول بالشمول ويرجع إلى الأصول العمليّة على القول بعدم الشّمول.

مثلاً: لو شكّ في وجوب صلاة الجمعة حال الغيبة جاز التمسّك بإطلاق قوله - تعالى - {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ} الآية(1)،

لإثبات الوجوب حال الغيبة، لصدق العنوان، كالإيمان على المعدوم زمان الخطاب بناءً على شمول الخطابات للمعدومين، ولم يجز التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ الإجماع ليس هنا على الاشتراك في التكليف؛ بناءً على عدم الشّمول، فاللّازم الرّجوع إلى الأصل العملي.

{و} لكن {لا يذهب عليك} عدم استقامة هذه الثّمرة أيضاً، ل- {أنّه يمكن إثبات الاتحاد، و} القطع ب- {عدم دخل ما كان البالغ الآن} بعد زمان الخطاب {فاقداً لهممّا كان المشافهون واجدين له} كفقد البالغ في زماننا للنبي والوصي ووجدان المشافهين

ص: 168


1- سورة الجمعة، الآية: 9.

بإطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به. وكونُهم كذلك لا يوجب صحّة الإطلاق مع إرادة المقيّد منه في ما يمكن أن يتطرّق إليه الفقدان، وإن صحّ في ما لا يتطرّق إليه ذلك.

___________________________________________

لهما في مثال صلاة الجمعة {بإطلاق الخطاب إليهم دون التقييد به} أي: بهذا الوصف المفقود في زماننا.

مثلاً: إطلاق خطاب {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ} الآية، يقتضي عدم دخل كونهم في زمان النّبي والوصي(علیهما السلام) في حكم وجوب الجمعة، إذ لو كان دخيلاً لقيّد الحكم كأن يقال: يا أيّها المؤمنون الحاضرون في زمان النّبي والوصي.

{و} إن قلت: {كونهم} أي: المشافهين {كذلك} واجدين للشرط يغني عن التقييد، فعدم ذكر القيد لا يدلّ على عدم القيد واقعاً، بل يحتمل أمرين: عدم القيد، وعدم الذكر، لوجدان الشّرط، وعلى هذا فلا يمكن التمسّك بالإطلاق، لعدم دخل القيد، إذ الإطلاق أعمّ من عدم القيد، والأعمّ لا يدلّ على الأخص.

قلت: كون المشافهين واجدين للشرط {لا يوجب صحّة الإطلاق مع إرادة المقيّد منه في ما يمكن} أي: في القيد والشّرط الّذي يمكن {أن يتطرّق إليه الفقدان} كما في ما نحن فيه، فإنّه كان من الممكن فقدانهم للنبيّ والوصيّ، كأن يسافر أحدهم إلى بلد ناءٍ، فإنّه لو أُريد المقيّد بالحاضر من إطلاق الآية ولم يبيّن فيها لزم الإجمالحتّى جاز أن يتمسّك النّائي بالإطلاق وإقامة الصّلاة بدون النّبي والوصي {وإن صحّ} الإطلاق وإرادة المقيّد {في ما} أي: في الشّرط الّذي {لا يتطرّق إليه ذلك} الفقدان، كأن يقول: (يا أيّها الّذين آمنوا) ويريد بهم المقيّد بمن كان في عصره نبي أو وصي، فإنّ الأرض لا تخلو عن الحجّة.

فتحصّل أنّ الإطلاق يدفع احتمال التقييد بقيد ممكن الزوال، وحينئذٍ فلو كان هناك إطلاق واحتملنا اختصاص الحكم بصنف خاصّ - يمكن زوال الوصف عنهم - تمسّكنا بأصالة الإطلاق لنفيه، ولو لم يكن إجماع بالاشتراك.

ص: 169

وليس المراد بالاتحاد في الصّنف إلّا الاتحاد في ما اعتبر قيداً في الأحكام، لا الاتحاد في ما كثر الاختلاف بحسبه، والتفاوتُ بسببه بين الأنام، بل في شخص واحد بمرور الدهور والأيّام، وإلّا لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين - فضلاً عن المعدومين - حكم من الأحكام.

___________________________________________

وبهذا كلّه تبيّن سقوط الثّمرة الثّانية {وليس المراد بالاتحاد في الصّنف} في كلام من شرط الاتّحاد لجرّ التكليف بالنسبة إلى الغائب والمعدوم {إلّا الاتحاد في ما اعتبر قيداً في الأحكام} كالبلوغ، والخلوّ عن الحيض، وعدم السّفر، ونحوها ممّا يمكن تقييد التكليف بها {لا الاتحاد في ما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه بين الأنام} كالسكنى في بعض البلاد، كأن يقال: نحتمل أنّ الحكم بكون الكرّ كذا ماءً مختصّ بالمدينة الّتي ماؤها مُرّ، فيزيد وزنه عن وزن ماء العراق العذب، أو الحكم بالصوم بالأبيض، لا الجنس الأسود، لاحتمال أن يكون علّته تجفيف الرّطوبات والأسود لا رطوبة لجسمه {بل في شخص واحد} كالشاب والهرم والقويوالضّعيف {بمرور الدهور والأيّام} متعلّق بالاختلاف في شخص واحد {وإلّا} فلو كان المعتبر الاتحاد في الصّنف بحسب هذه الأُمور {لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين - فضلاً عن المعدومين - حكم من الأحكام} لوجود هذا النّحو من الاختلافات.

فالتزام الفقهاء بالاشتراك يدلّ على مدخليّة هذا النّحو من التفاوت، بل لو اعتبر مثله لزم تبدّل الأحكام بالنسبة إلى الأزمان والأجيال.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) استدلّ على صحّة التمسّك بالإطلاق للمعدومين بما حاصله: أنّه لو تبدّل حال المشافه، بأن كان في حال الخطاب مثلاً غنيّاً ثمّ صار فقيراً، فشكّ - من جهة التبدّل - في بقاء الحكم الأوّل كان اللّازم عليه إجراء الإطلاق، فكذا الحال بالنسبة إلى الموجود والمعدوم بأنّه لو كان للموجود وصف

ص: 170

ودليل الاشتراك إنّما يُجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين، في ما لم يكونوا مختصّين بخصوص عنوان، لو لم يكونوا معنونين به لشكّ في شمولها لهم أيضاً. فلولا الإطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك. ومعه كان الحكم يعمّ غير المشافهين ولو قيل باختصاص الخطابات بهم، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

كان المعدوم فاقداً له لزم إجراء المعدوم الإطلاق بالنسبة إلى ذلك الوصف.

والحاصل: أنّه كما يجري الإطلاق بالنسبة إلى الحالة الثّانية في شخص واحد كذلك يجري الإطلاق بالنسبة إلى الشّخص الثّاني المفقود حين الخطاب. نعم، إذا كان الوصف بحيث لو فقد في المشافه لم يتمكّن منالتمسّك بالإطلاق لم يجر التمسّك بالإطلاق لفاقده من المعدومين {و} ذلك لأنّ {دليل الاشتراك إنّما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين في ما لم يكونوا} أي: المشافهين {مختصّين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين به لشكّ في شمولها لهم أيضاً} فإنّه لو كان فقدان الوصف في المشافه موجباً لعدم جريان الإطلاق بالنسبة إليه لم يجر الإطلاق بالنسبة إلى غير المشافه الّذي يعدم عنه ذلك الوصف، بخلاف ما لو كان الوصف ليس ممّا يوجب فقدانه في المشافه عدم جريان الإطلاق بالنسبة إليه {فلولا الإطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان} المحتمل دخله {في} ترتّب {الحكم، لما} ثبت الحكم للمشافه حين فقدانه الوصف، لعدم {إفاد} ة {دليل الاشتراك} بالنسبة إلى حالتي المشافه {ومعه} أي: مع الإطلاق {كان الحكم يعمّ غير المشافهين} من المعدومين والغائبين، كما يعمّ حالتي المشافهين {ولو قيل باختصاص الخطابات بهم} وصل بقوله: «يعم» فالمدار في شمول الإطلاق لغير المشافه شموله للحالة الثّانية للمشافه، ولا يخفى أنّ عبارة المصنّف(رحمة الله) مشوّشة {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك المراد.

ص: 171

فتلخّص: إنّه لا يكاد تظهر الثّمرة إلّا على القول باختصاص حجيّة الظواهر لمن قصد إفهامه، مع كون غيرَ المشافهين غير مقصودين بالإفهام، وقد حقّق عدم الاختصاص به في غير المقام، وأُشير إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته - تبارك وتعالى - في المقام.فصل: هل تعقّبُ العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يوجب تخصيصَه به أو لا؟

فيه خلاف بين الأعلام.

___________________________________________

{فتلخّص} ممّا تقدّم {أنّه لا يكاد تظهر الثّمرة إلّا على} تماميّة {القول باختصاص حجيّة الظواهر لمن قصد إفهامه، مع} إثبات مقدّمة أُخرى، وهي {كون غير المشافهين غير مقصودين بالإفهام} فإن تمّت هاتان المقدّمتان كانت ثمرة النّزاع: أنّه لو قلنا بشمول الخطاب للمعدومين كانت الظواهر حجّة بالنسبة إليهم فيجوز لهم الرّجوع إلى ظهور الخطابات لتشخيص مراد المتكلّم، ولو لم نقل بالشمول لم يجز ذلك لهم {و} لكن {قد حقّق} بطلان المقدّمتين لضرورة {عدم الاختصاص به} أي: بمن قصد إفهامه، بل الظواهر حجّة مطلقاً، كما بيّنوه {في غير المقام} وهو في المجلّد الثّاني {وأُشير إلى منع كونهم} أي: غير المشافهين {غير مقصودين به في خطاباته - تبارك وتعالى - في} هذا {المقام} فلا ثمرة لهذا النّزاع أيضاً.

[فصل تعقب العام بضميرٍ يرجع إلى بعض أفراده]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، تعقب العام بضميرٍ يرجع إلى بعض أفراده

{فصل: هل تعقّبُ العام} أو المطلق {بضمير يرجع إلى بعض أفراده} لا جميع الأفراد {يوجب تخصيصه} أي: الحكم المرتّب على العام {به} أي: بذلك البعض الواقع مرجعاً للضّمير {أو لا} بل يبقى العام على العموم؟

ولا يخفى أنّ رجوع الضّمير في كلام القوم من باب المثال، وإلّا فاسم الإشارةأيضاً بحكمه {فيه خلاف بين الأعلام} ذهب العلّامة(رحمة الله)(1) وجماعة إلى أنّه موجب

ص: 172


1- نهاية الوصول 2: 193.

وليكن محلّ الخلاف ما إذا وقعا في كلامين أو في كلام واحد، مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}(1).

___________________________________________

لتخصيص العام، وذهب الشّيخ(رحمة

الله) إلى إنكار ذلك(2)، واختار المحقّق الوقف(3) {وليكن محلّ الخلاف ما إذا وقعا}: العامُ والضّميرُ الرّاجع إليه {في كلامين} كالآية الشّريفة {أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام} بأن كان العام تمام الموضوع في الكلام ولم يكن للضّمير دخل في الموضوعيّة أصلاً.

مثال ما كان في كلامين {كما في قوله - تبارك وتعالى - : {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ}} أي: يصبرن {إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}} فإنّ المطلّقات عامّ يشمل البائنات والرّجعيّات، ولكن الضّمير في «بعولتهنّ» مختصّ بالرجعيّات إذ حقّ الرّجعة للزوج إنّما هو في المطلّقة الرّجعيّة دون البائنة، والكلام في أنّه هل يوجب اختصاص الضّمير بالرجعيّات تخصيص العام - أعني: المطلّقات - بهنّحتّى يكون الكلام في قوّة أن يقال: (والمطلّقات الرّجعيّات يتربّصن) أم لا يبقى العام على العموم حتّى يكون الحكم بالتربّص عامّاً بالنسبة إلى جميعهنّ.

ومثال ما كان في كلام واحد مع استقلال العام: نحو (أكرم العلماء وواحداً من جيرانهم)، والفرق بين المثالين واضح، فإنّ جملة «بعولتهنّ» تامّة مغايرة لجملة «والمطلّقات»، بخلاف الثّاني، فإنّ (وواحداً من جيرانهم) بمنزلة المفعول للجملة الأُولى.

ص: 173


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- العدة في أصول الفقه 1: 384.
3- معارج الأصول: 147.

وأمّا ما إذا كان مثل: (والمطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ) فلا شبهة في تخصيصه به.

والتحقيق أن يقال: إنّه حيث دار الأمر بين التصرّف في العام - بإرادة خصوص ما أُريد من الضّمير الرّاجع إليه - ، أو التصرّف في ناحية الضّمير - إمّا بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلى تمامه

___________________________________________

{وأمّا ما إذا كان} في كلام واحد مع عدم استقلال العام، بل يكون العام بعض الموضوع، كما إذا كان له بدل {مثل: (والمطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ)} فإنّ «أزواجهنّ» بدل عن العام - أي: المطلّقات - {فلا شبهة في} خروجه عن محلّ النّزاع لبداهة {تخصيصه} أي: العام {به} أي: بالضّمير، إذ ليس في البين إلّا حكم واحد مختصّ ببعض أفراد العام، فلا مجال لتوهّم بقاء العام على عمومه للزوم اللغويّة.

والحاصل: أنّه إذا كان العام محكوماً بحكم غير حكم الضّمير، كما في الجملتين، أو جملة مستقلّة العام، جاء الاحتمالان، وإلّا فلا يكون إلّا القطع بتخصيص العام.هذا كلّه في بيان تحرير محلّ النّزاع {و} المختار الّذي يقتضيه {التحقيق} في المطلب {أن يقال: إنّه حيث دار الأمر بين التصرّف في العام بإرادة خصوص ما أُريد من الضّمير الرّاجع إليه} كأن يريد من «المطلّقات» ما أُريد من ضمير «بعولتهنّ» وهي الرّجعيّات فقط، وهذا موجب للتصرّف في ناحية العام بالتخصيص وإبقاء الضّمير على ظاهره {أو التصرّف في ناحية الضّمير} أي: في «بعولتهنّ» مع إبقاء العام على عمومه.

ثمّ التصرّف في الضّمير بأحد نحوين {إمّا بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه} وهذا خلاف الظّاهر؛ لأنّ الظّاهر من الضّمير رجوعه إلى تمام مرجعه لا إلى بعضه سواء كان المرجع ذو أجزاء أو ذو أفراد {أو} إرجاعه {إلى تمامه} أي:

ص: 174

مع التوسّع في الإسناد، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقةً، إلى الكلّ توسّعاً وتجوّزاً - كانت أصالة الظهور في طرف العام سالمةً عنها في جانب الضّمير؛ وذلك لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو اتّباع الظهور في تعيين المراد، لا في تعيين كيفيّة الاستعمال، وأنّه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الإسناد،

___________________________________________

تمام المرجع، ولكنّه {مع التوسّع في الإسناد، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقةً، إلى الكلّ توسّعاً وتجوّزاً} كما يقال: (جمع الأمير الصّاغة) مجازاً بإسناد الجمع المسند إلى بعض الصّاغة إلى جميعهم تجوّزاً {كانتأصالة الظهور في طرف العام سالمة عنها} أي: عن أصالة الظهور {في جانب الضّمير} فاللّازم التصرّف في الضّمير، بأحد النّحوين، دون العام {وذلك لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو اتّباع الظهور في تعيين المراد} فلو شكّ في أنّ المراد من لفظ (صلّ) الإيجاب أو الاستحباب أجروا أصالة الحقيقة وحكموا بأنّ المراد الإيجاب لا الاستحباب مثلاً {لا في تعيين كيفيّة الاستعمال، وأنّه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الإسناد} فلو علم بأنّ المراد من الأمر في قوله: (صلّ) هو الإيجاب، ولكن شكّ في أنّه على نحو الحقيقة أو المجاز لم يجروا أصالة الحقيقة لإثبات أنّه حقيقة لا مجاز.

ثمّ إنّه قد تقدّم في بعض المباحث السّابقة الفرق بين المجاز في الكلمة وبين المجاز في الإسناد وأنّ الأوّل لغويّ، والثّاني عقلي.

مثلاً: لو قال: (أنبت الرّبيع البقل) فقد يجعل المجاز في الكلمة، بأن يشبّه (الرّبيع) بالفاعل الحقيقي فيستعمل (الرّبيع) فيه كلمة (اللّه)، كاستعمال الأسد في (زيد)، وحينئذٍ يكون المجاز في الكلمة لاستعمال كلمة مكان أُخرى.

وقد يجعل المجاز في الإسناد بأن ينسب فعل القادر المختار إلى (الرّبيع) مع استعمال (الرّبيع) في معناه الموضوع له، وحينئذٍ يكون المجاز في الإسناد، إذ أنّه

ص: 175

مع القطع بما يراد، كما هو الحال في ناحية الضّمير.

وبالجملة: أصالة الظهور إنّما تكون حجّة في ما إذا شكّ في ما أُريد لا في ما إذا شكّ في أنّه كيف أُريد، فافهم.

لكنّه إذا عقد للكلام ظهور في العموم، بأن لا يعدّ ما اشتمل على الضّمير ممّايكتنف به عرفاً، وإلّا

___________________________________________

أسند الفعل وهو الإنبات إلى غير ما هو له، ولم يكن مجازاً في الكلمة؛ لأنّ كلّ كلمة من الجملة استعملت في معناها الموضوع لها.

وكيف كان فليس بناء العقلاء على اتّباع الظهور في تعيين كيفيّة الاستعمال {مع القطع بما يراد كما هو الحال في ناحية الضّمير} إذ نقطع بالمراد منه وأنّه بعض أفراد العام، فأصالة الحقيقة في العام لا تعارضها أصالة الحقيقة في الضّمير، لعدم جريان الأصل فيه بعد العلم بالمراد.

{وبالجملة أصالة الظهور إنّما تكون حجّة في ما إذا شكّ في ما أُريد لا في ما إذا شكّ في أنّه كيف أُريد}.

وبهذا تبيّن أنّه لا دوران بين الأصالتين حتّى نحتاج إلى المرجّح أو نتوقّف، بل اللّازم الحكم بتربّص جميع المطلّقات إلّا ما خرج بالدليل، مع الحكم بأحقيّة بعولة الرّجعيّات فقط.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ أصالة الظهور ولو لم تجر في الضّمير لكنّها غير جارية في العام أيضاً، لاحتفاف الكلام بما يصلح أن يكونَ قرينة، وحينئذٍ يجب التوقّف، كما ذهب إليه المحقّق، وإليه أشار بقوله:

{لكنّه} أي: ما ذكرنا من بقاء العام على ظهوره، إنّما يكون {إذا عقد للكلام ظهور في العموم بأن لا يعدّ ما اشتمل على الضّمير ممّا يكتنف به} الكلام {عرفاً} كأن يكونا في كلامين {وإلّا} يكن كذلك - بأن لم ينعقد ظهور في العموم، بأن كان

ص: 176

فيحكم عليه بالإجمال، ويرجع إلى مايقتضيه الأصول.

إلّا أن يقال باعتبار أصالة الحقيقة تعبّداً، حتّى في ما إذا احتفّ بالكلام ما لا يكون ظاهراً معه في معناه الحقيقي، كما عن بعض الفحول(1).

فصل: قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف - مع الاتّفاق على الجواز

___________________________________________

العام والضّمير في كلام واحد وشبهه - {فيحكم عليه بالإجمال، ويرجع} في غير مورد الضّمير، كالبائنات في الآية الشّريفة {إلى ما يقتضيه الأصول} من البراءة عن العدّة، أو الاحتياط في الفروج، ونحو ذلك.

هذا كلّه بناءً على حجيّة أصالة الظهور من باب الظنّ النّوعي، كما هو المشهور بين الأعلام {إلّا أن يقال باعتبار أصالة الحقيقة} ونحوها {تعبّداً} بمعنى أنّ الأصول العقلائيّه حجّة مطلقاً {حتّى في ما إذا احتفّ بالكلام ما لا يكون ظاهراً معه في معناه الحقيقي، كما} نقل ذلك {عن بعض الفحول} وحينئذٍ فالعام حجّة، وإن احتفّ بالضّمير الصّالح للقرينة، بخلاف من يقول بأنّ أصالة الحقيقة معتبرة من باب الظهور النّوعي فلا بدّ وأن يحكم بإجمال العام.

إذ الكلام المحتف بما يصلح للقرينيّة لا ظهور نوعيّ له، كما لا يخفى.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ الأقوى عند المصنّف تقديم ظهور العام على ظهور الضّمير في ما لم يكن الضّمير مكتنفاً بالعام وإلّا حكم بالإجمال.

[فصل التخصيص بالمفهوم المخالف]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، التخصيص بالمفهوم المخالف

{فصل: قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف} الّذي يكون حكم المفهوم على خلاف حكم المنطوق، كما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (أكرم العلماء إن جاؤوك) المفهوم منه عدم وجوب إكرامهم في صورة عدم المجيء {مع الاتفاق على الجواز} بمعنى عدم المانع من تخصيص العام

ص: 177


1- لعلّ المقصود به هو صاحب الفصول، راجع الفصول الغرويّة: 212.

بالمفهوم الموافق - على قولين.

وقد استُدِلّ لكلّ منهما بما لا يخلو عن قصور.

وتحقيق المقام: أنّه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين - ولكن على نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متّصلة للتّصرّف في الآخر -

___________________________________________

{بالمفهوم الموافق} كما لو قال: {فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ}(1). المفهوم منه عدم ضربهما، فإنّ هذا المفهوم يقيّد عموم (اضرب كلّ فاسق) مثلاً.

قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - : «والوجه في هذا الاتفاق رجوع التعارض في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعموم، حيث لا يمكن رفع اليد عن مفهوم الموافقة مع البناء على المنطوق للقطع بثبوت المفهوم على تقدير ثبوت المنطوق، وإلّا لم يكن مفهوم الموافقة فيكون التعارض بينهما من قبيل التعارض بين الخاص المنطوق والعام، ولا ريب في وجوب تقديم الخاصّ على العام، أمّا مفهوم المخالفة فيمكن رفع اليد عنه فقط مع الحكم بثبوت المنطوق، فيدور الأمر بينرفع اليد عنه ورفع اليد عن العموم»(2)،

انتهى {على قولين} متعلّق ب- «اختلفوا».

{وقد استدلّ لكلّ منهما بما لا يخلو عن قصور} فاستدلّ القائل بالتخصيص بأنّ المفهوم دليل شرعيّ عارض مثله وفي العمل به جمع بين الدليلين، واستند القائل بعدم التخصيص بأنّ الخاصّ إنّما يقدّم على العامّ لأقوائيّة دلالته، والمفهوم الخاص ليس أقوى من المنطوق العام فلا يصلح لمعارضته.

{وتحقيق المقام أنّه إذا ورد العام} ك- (أكرم العلماء) {وما له المفهوم} ك- (أكرم العلماء إن جاؤوك) {في كلام} واحد {أو كلامين، ولكن على نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متّصلة للتّصرّف في الآخر} لا في كلامين أحدهما أجنبيّ

ص: 178


1- سورة الإسراء، الآية: 23.
2- حقائق الأصول 1: 530.

ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فالدلالة على كلّ منهما إن كانت بالإطلاق - بمعونة مقدّمات الحكمة، أو بالوضع - فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم؛ لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في واحدٍ منهما، لأجل المزاحمة، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك، فلا بدّ من العمل بالأصول العمليّة في ما دار فيه بين العموم والمفهوم إذا لم يكن - مع ذلك -

___________________________________________

عن الآخر {ودار الأمر بين تخصيص العموم} بالمفهومحتّى لا يجب إكرام العلماء إلّا إذا جاؤوا {أو إلغاء المفهوم} والأخذ بظاهر العموم حتّى يجب إكرامهم ولو لم يجيئوا {فالدلالة على كلّ منهما} أي: العام والمفهوم {إن كانت بالإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة، أو} كانت دلالة كلّ منهما {بالوضع، فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم، لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في واحد منهما} إذ من مقدّماتها عدم اكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة، والمفروض اكتنافه حينئذٍ، وبعبارة أُخرى: إنّ وجود شيء صالح للقرينيّة موجب لانتفاء إحدى مقدّمات الحكمة، وهي أن لا يكون قدر متيقّن في مقام التخاطب {لأجل المزاحمة} بين العموم والمفهوم {كما} أنّ الأمر كذلك {في} صورة {مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك} أي: وضعاً.

نعم، هنا فرق بين الأمرين، وهو أنّ السّقوط على الأوّل لعدم المقتضي، وعلى الثّاني لأجل المانع وهو العلم إجمالاً بعدم إرادة أحد الظاهرين، فإنّ الوضع موجود، وإنّما المانع العلم بعدم إرادة أحدهما، بخلاف الأوّل فإنّ مقدّمات الحكمة غير تامّة.

وعلى كلٍّ {فلا بدّ} على كلا التقديرين {من العمل بالأصول العمليّة في ما دار فيه بين العموم والمفهوم} فالعالم في ظرف عدم مجيئه لا يجب إكرامه للبراءة إلّا إذا كان قبل ورود الدليلين واجب الإكرام فيجب للاستصحاب.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من سقوط العموم والمفهوم إنّما يكون {إذا لم يكن مع ذلك}

ص: 179

أحدهما أظهر، وإلّا كان مانعاً عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر.ومنه قد انقدح الحال في ما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم، وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتصال، وأنّه لا بدّ أن يعامل مع كلّ منهما معاملة المجمل، لو لم يكن في البين أظهرُ، وإلّا فهو المعوّل، والقرينة على التصرّف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل.

___________________________________________

التعارض {أحدهما أظهر} عرفاً {وإلّا} فلو كان في البين أظهر {كان} ذلك الأظهر {مانعاً عن انعقاد الظهور} في الآخر في الكلام المتّصل {أو} مانعاً عن {استقراره} أي: استقرار الظهور وحجيّته {في الآخر} في الكلام المنفصل.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من حكم تعارض العموم مع المفهوم في الكلام الواحد أو الكلامين الصّالح كلّ منهما للقرينيّة {قد انقدح الحال في} الشّقّ الثّالث من صور التعارض، وهو {ما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم، وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتصال} بل كان كلّ منهما منفصلاً عن الآخر بحيث لا يصلح أحدهما للقرينيّة على التصرّف في الآخر {وأنّه} حينئذٍ {لا بدّ أن يعامل مع كلّ منهما معاملة المجمل} وإن لم يكن مجملاً حقيقة لفرض انعقاد الظهور.

وبهذا تبيّن الفرق بين صورة الانفصال وبين صورة الاتّصال والارتباط، فإنّه ولو كان الحكم فيهما واحداً ولكن الفرق بانعقاد الظهور في المنفصل دون المرتبط.

ثمّ إنّ التعامل مع المنفصل معاملة المجمل في ما {لو لم يكن في البين أظهر} عرفاً {وإلّا فهو المعوّل والقرينة} عطف على «المعوّل» أي: إنّ الأظهر يكون قرينة {على التصرّف فيالآخر بما لا يخالفه بحسب العمل} أي: يلزم التصرّف في الظاهر، وحمله على ما لا يخالف الأظهر، بحسب العمل، وإن خالفه بحسب الحكم.

مثلاً: لو كان (أكرم العلماء) أظهر في وجوب الإكرام في صورة عدم مجيئهم من مفهوم (أكرم العلماء إن جاؤوك) في عدم إكرامهم عند عدم مجيئهم، فاللّازم التصرّف في المفهوم بحمله على الكراهة، والقول بأنّ إكرامهم في صورة عدم

ص: 180

فصل: الاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة:

هل الظّاهر هو رجوعه إلى الكلّ(1)،

أو خصوص الأخيرة(2)،

أو لا ظهور له في واحد منهما، بل لا بدّ في التعيين من قرينة(3)؟

أقوال.

والظّاهر: أنّه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال؛ ضرورة أنّ رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة.

وكذا

___________________________________________

مجيئهم واجب مكروه كالصلاة في الحمّام، والكراهة وإن خالفت الوجوب بحسب المفهوم ولكنّها لا تخالفه بحسب العمل، إذ يمكن العمل مع الكراهة، فتأمّل.

[فصل الاستثناء المتعقّب لجُمَلٍ متعاطفة]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، الاستثناء المتعقّب لجُمَلٍ متعاطفة

{فصل: الاستثناء المتعقّب للجملالمتعدّدة} كما لو قال: (أكرم العلماء وأطعم الفقراء وأكس العراة إلّا الفسّاق) {هل الظّاهر هو رجوعه إلى الكلّ} حتّى لا يجب الإكرام والإطعام والإكساء بالنسبة إلى فاسق الطوائف الثّلاثة {أو خصوص الأخيرة} حتّى لا يجب إكساء العاري الفاسق وإن وجب إكرام العالم وإطعام الفقير الفاسقين {أو لا ظهور له} أي: للاستثناء {في واحدٍ منهما، بل لا بدّ في التعيين من قرينة} دالّة على أنّه راجع إلى الجميع أو إلى الأخيرة فقط؟ {أقوال}.

{والظّاهر} من تتبّع كلماتهم {أنّه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال} سواء كان مجملاً أو راجعاً إلى الجميع أو الأخيرة ولا يحتمل رجوعه إلى غير الأخيرة {ضرورة أنّ رجوعه إلى غيرها بلا قرينة} تدلّ على ذلك كانحصار الفاسق في الطائفة الأُولى في المثال {خارج عن طريقة أهل المحاورة، وكذا}

ص: 181


1- العدة في أصول الفقه 1: 321.
2- الفصول الغرويّة: 204.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 249.

في صحّة رجوعه إلى الكلّ، وإن كان المتراءى من كلام صاحب المعالم(رحمة الله)(1) - حيث مهّد مقدّمة لصحّة رجوعه إليه - أنّه محلّ الإشكال والتأمّل.

وذلك ضرورة أنّ تعدّد المستثنى منه - كتعدّد المستثنى - لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الأداة بحسب المعنى - كان الموضوع له في الحروف عامّاً أو خاصّاً - ،

___________________________________________

الظّاهر انّه لا إشكال {في صحّة رجوعه إلى الكلّ، وإن كان المتراءَى من كلام صاحب المعالم(رحمة الله)حيث مهّد مقدّمة لصحّة رجوعه إليه} أي: إلى الكلّ {أنّه} أي: الرّجوع إلى الكلّ {محلّ الإشكال والتأمّل}.

وإن أشكل عليه المشكيني(رحمة الله) بأنّ غرض صاحب المعالم(رحمة الله) إثبات ما اختاره من الاشتراك المعنوي لا إثبات الإمكان، فراجع(2).

{وذلك} الّذي ذكرنا من صحّة رجوعه إلى الكلّ ل- {ضرورة أنّ تعدّد المستثنى منه} نحو (أكرم العلماء وأطعم الفقراء وأكس العراة) {كتعدّد المستثنى} نحو (إلّا الفسّاق والجهّال والبخلاء) {لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الأداة} للاستثناء نحو (إلّا) و(غير) و(سوى) وأضرابها {بحسب المعنى} لأنّ معنى الأداة هو الإخراج، ومن المعلوم أنّ كلّاً من إخراج المتعدّد عن المتعدّد وإخراج الواحد عن المتعدّد وإخراج المتعدّد عن الواحد إخراج، وإنّما التفاوت في طرفي الإخراج - أعني: المخرج والمخرج منه - .

والحاصل: أنّه لا يفرق بالنسبة إلى الأداة شيء من هذه الأُمور سواء {كان الموضوع له في الحروف عامّاً أو خاصّاً}.

لا يقال: إذا كان الموضوع له خاصّاً لا يجوز التعدّد؛ لأنّ تعدّد المخرج عنه ملازم لتعدّد الإخراج، والمفروض أنّ (إلّا) وضع لإخراج جزئي غير قابل للتعدّد.

ص: 182


1- معالم الدين: 123.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 437.

وكان المستعمل فيه الأداة في ما كان المستثنى منه متعدّداً، هو المستعمل فيه في ما كان واحداً، كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال. وتعدُّدُ المُخرج أو المخرج عنه خارجاً، لا يوجب تعدّد ما استعمل فيه أداة الإخراجمفهوماً.

وبذلك يظهر: أنّه لا ظهور لها في الرّجوع إلى الجميع، أو خصوص الأخيرة، وإن كان الرّجوع إليها متيقّناً على كلّ تقدير.

نعم، غير الأخيرة أيضاً من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم؛

___________________________________________

لأنّه يقال: جزئيّة النّسبة لا تنافي انحلالها إلى المتعدّد بدليل صحّة تعدّد المستثنى بلا خلاف ظاهراً {وكان المستعمل فيه الأداة، في ما كان المستثنى منه متعدّداً، هو المستعمل فيه، في ما كان} المستثنى منه {واحداً، كما هو الحال في المستثنى، بلا ريب ولا إشكال} فإنّه سواء كان واحداً أو متعدّداً تكون الأداة بمعنى واحد {وتعدّد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا يوجب تعدّد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوماً} حتّى يقال بأنّ خصوص الوضع ينافي ذلك.

والحاصل: أنّ الإخراج الواحد يمكن تعلّقه بالواحد من المتعدّد وبالعكس وبالمتعدّد من المتعدّد {وبذلك} الّذي ذكرنا من وحدة معنى الأداة سواء تعدّد المستثنى والمستثنى منه أو اتّحد أحدهما {يظهر أنّه لا ظهور لها} أي: للأداة {في الرّجوع إلى الجميع، أو خصوص الأخيرة} لأنّ اللفظ إذا كان قابلاً للمعنيين على حدّ سواء لم يكن له ظهور في أحدهما إلّا بالقرينة الخارجيّة {وإن كان الرّجوع إليها متيقّناً على كلّ تقدير} سواء رجع إلى الأخيرة أو إلى الجميع.

{نعم، غير الأخيرة أيضاً من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم} وهذا كأنّه استثناء عما يمكن أنيتوهّم في المقام من أنّه لو كان المتيقّن هو الأخيرة فلا مانع من التمسّك بظهور غيرها في العموم لأصالة العموم بلا معارض، وإنّما قال: «أيضاً» لأنّ غير الأخيرة كالأخيرة في عدم الظهور في العموم، وإنّما الفرق في أنّ الأخيرة

ص: 183

لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهراً فيه، فلا بدّ في مورد الاستثناء فيه من الرّجوع إلى الأصول.

اللّهمّ إلّا أن يقال بحجيّة أصالة الحقيقة تعبّداً، لا من باب الظهور، فيكون المرجع - عليه - أصالة العموم إذا كان وضعيّاً، لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة؛ فإنّه لا يكاد يتمّ تلك المقدّمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع، فتأمّل.

___________________________________________

مبيّن وما عداها مجمل {لاكتنافه} أي: غير الأخيرة {بما لا يكون معه ظاهراً فيه} أي: في العموم {فلا بدّ} حين الإجمال {في مورد الاستثناء فيه} أي: في غير الأخيرة، ومورد الاستثناء عبارة عن الفاسق من العلماء والفقراء، فإنّه المحتمل للاستثناء {من الرّجوع إلى الأصول} كالبراءة إن لم يكن قبل ورود الدليل واجب الإكرام وإلّا فالمحكم هو الاستصحاب.

{اللّهمّ إلّا أن يقال بحجيّة أصالة الحقيقة} الجارية في العمومات المتقدّمة {تعبّداً} من باب بناء العقلاء على العمل بالعام، وإن لم يحصل الظنّ النّوعي بإرادة العموم لاكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة - كالاستثناء في ما نحن فيه - {لا من باب الظهور} النّوعي كما هو الأقوى عند المصنّف(رحمة الله) {فيكون المرجع عليه} أي: بناءً على الحجيّة تعبّداً {أصالةالعموم} فيجب إكرام جميع العلماء وإطعام جميع الفقراء حتّى الفاسق منهم.

ولكن هذا الاستثناء إنّما يكون في ما {إذا كان} العموم {وضعيّاً لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، فإنّه} يلزم الحكم بإجمال الجمل المتقدّمة، من غير فرق بين القول بحجيّة أصالة الظهور من باب الظنّ أو تعبّداً؛ لأنّ الإطلاق متوقّف على المقدّمات، و{لا يكاد يتمّ تلك المقدّمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع} إذ من المقدّمات عدم وجود ما يحتمل القرينيّة والفرض وجوده في ما نحن فيه {فتأمّل}.

ص: 184

فصل: الحقّ جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المعتبر بالخصوص، كما جاز بالكتاب، أو بالخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة القطعيّة من الخبر الواحد بلا ارتياب؛

___________________________________________

وقد بيّن المصنّف(رحمة الله) وجهه في الهامش بما لفظه: «إشارة إلى أنّه يكفي في منع جريان المقدّمات، صلوح الاستثناء لذلك، لاحتمال اعتماد المطلق حينئذٍ في التقييد عليه لاعتقاد أنّه كافٍ فيه، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مجرّد صلوحه لذلك بدون قرينة عليه، غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسسب متفاهم العرف ظاهراً في الرّجوع إلى الجميع، فأصالة الإطلاق مع عدم القرينة محكمة، لتماميّة مقدّمات الحكمة فافهم»(1)،

انتهى.

ثمّ لا يخفى أنّ حكم غير الاستثناء - كالشرط والوصف وغيرهما - حكم الاستثناء إلّا في بعض الخصوصيّات.

[فصل تخصيص الكتاب بخبر الواحد]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، تخصيص الكتاب بخبر الواحد

{فصل} اختلفوا في جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، فأجازه قوم ومنعه آخرون وتوقّف ثالث، و{الحقّ جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المعتبر بالخصوص} بأن يكون جامعاً لشرائط الحجيّة قال العلّامة الرّشتي: «أي: بدليل خاصّ غير دليل الانسداد الّذي هو دليل حجيّة مطلق الظنّ، فإنّ العمل بخبر الواحد حينئذٍ يكون من باب الاحتياط الّذي هو أصل من الأصول العمليّة، فلا يجوز حينئذٍ تخصيص الكتاب به، فإنّ الأصل دليل حيث لا دليل»(2)،

انتهى.

{كما جاز} تخصيص الكتاب {بالكتاب أو بالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعيّة من الخبر الواحد بلا ارتياب} وإنّما قلنا بالجواز

ص: 185


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 439.
2- شرح كفاية الأصول 1: 334.

لما هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل بالأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة(علیهم السلام).

واحتمال أن يكون ذلك بواسطة القرينة واضح البطلان.

مع أنّه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه؛ ضرورةَ ندرة خبر لم يكن على خلافه عمومُ الكتاب، لو سلّم وجود ما لم يكن كذلك.

وكونُ العام الكتابي قطعيّاً صدوراً، والخبر الواحد ظنّيّاً سنداً،

___________________________________________

{لما هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل بالأخبار الآحاد} المعتبرة {في قبالعمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة(علیهم السلام)} مع أنّهم كانوا بمرأى من الأئمّة ومسمع، ومع ذلك فلم يردعوهم، ولو كان ذلك غير جائز لردعوهم قطعاً.

{واحتمال أن يكون ذلك} العمل بالخبر الخاصّ من الصّحابة {بواسطة القرينة} القطعيّة، فكان عملهم من باب تخصيص الكتاب بالخبر المحتفّ بالقرينة القطعيّة لا من باب تخصيصه بالخبر المعتبر {واضح البطلان} لبداهة عدم وجود القرائن القطعيّة لكلّ خبر كانوا يخصّصون به عموم الكتاب {مع أنّه لولاه} أي: لولا جواز التخصيص بالخبر المعتبر {لزم إلغاء الخبر بالمرّة، أو ما بحكمه} أي: بحكم الإلغاء {ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه} أي: خلاف ذاك الخبر {عموم الكتاب} أو إطلاقه {لو سلّم وجود ما} أي: خبر {لم يكن كذلك} أي: لم يكن خلافه عموم الكتاب، والمعنى أنّه لو سلّم وجود خبر ليس عموم الكتاب مخالفاً له فهو في غاية النّدور، فيلزم من عدم العلم بأخبار الآحاد المخالفة للكتاب إلغاء معظم الأخبار بحيث لا يبقى منها إلّا النّادر.

ثمّ إنّه استدلّ القائلون بعدم الجواز بأنّ الخبر ظنّي السّند والكتاب قطعيّ فكيف يجوز ترك القطعيّ بالظنّي؟ {و} أجاب المصنّف(رحمة الله) عنه: بأنّ {كون العام الكتابي قطعيّاً صدوراً والخبر الواحد ظنيّاً سنداً} لا ربط له بالمقام؛ لأنّا لا نريد رفع

ص: 186

لا يمنع عن التصرّف في دلالته غير القطعيّة قطعاً، وإلّا لما جاز تخصيص المتواتر به أيضاً، مع أنّه جائز جزماً.

والسّرّ: أنّ الدوران في الحقيقة بينأصالة العموم ودليل سند الخبر، مع أنّ الخبر - بدلالته وسنده - صالحٌ للقرينيّة على التصرّف فيها، بخلافها، فإنّها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره.

___________________________________________

اليد عن سند الكتاب بواسطة الخبر، بل نريد رفع اليد عن ظاهره، ومن المعلوم أنّ قطعيّة سند الكتاب {لا يمنع عن التصرّف في دلالته غير القطعيّة قطعاً، وإلّا} فلو كان مجرّد قطعيّة صدور الكتاب مانعة عن رفع اليد عن ظاهره {لما جاز تخصيص} الخبر {المتواتر به} أي: بخبر الواحد {أيضاً} لتمشّي الدليل السّابق هنا، فإنّه يقال الخبر ظنّي السّند والمتواتر قطعيّ ولا يجوز ترك القطعي بالظنّي {مع أنّه جائز جزماً} فما يقولون هنا نقوله هناك.

{والسّرّ} في جواز تخصيص الكتاب بالخبر {أنّ الدوران في الحقيقة} ليس بين طرح سند الكتاب أو سند الخبر، بل {بين أصالة العموم} في الكتاب وهي طنيّة {ودليل سند الخبر} وهو ظنّيّ أيضاً، فإمّا أن نأخذ بظهور الكتاب ونطرح الخبر رأساً وإمّا أن نأخذ بسند الخبر - أي: نصدّق العادل في خبره - ونرفع اليد عن عموم الكتاب.

فإن قلت: إذا كان الأمر دائراً بين أمرين ظنّيّين فلم تقدّمون أحدهما على الآخر، بل اللّازم تقديم أيّهما شئنا على الآخر؟

قلت: أشار المصنّف إلى جوابه بقوله: {مع أنّ الخبر بدلالته} الّتي هي أخصّ من عموم الكتاب - والخاصّ مقدّم على العام عرفاً - {وسنده} المستند حجيّته إلى صدق العادل {صالح للقرينيّة على التصرّف فيها} أي: في أصالة العمومالكتابي {بخلافها، فإنّها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره} أي: اعتبار الخبر؛

ص: 187

ولا ينحصر الدليل على الخبر بالإجماع، كي يقال ب- «أنّه في ما لا يوجد على خلافه دلالة، ومع وجود الدلالة القرآنيّة يسقط وجوب العمل به»(1). كيف؟ وقد عرفت: أنّ سيرتهم مستمرّة على العمل به في قبال العمومات الكتابيّة.

والأخبارُ الدالّة على أنّ الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها، أو ضربها على الجدار، أو أنّها زخرف، أو أنّها ممّا لم يقل بها الإمام، وإن كانت كثيرة جدّاً، وصريحة الدلالة على طرح المخالف،

___________________________________________

لأنّ دليل اعتبار الخبر قطعي، والعمدة هي أنّ الجمع العرفي بعد تساويهما يقتضي تقديم الخبر على ظهور الكتاب في العموم.

{و} إن قلت: دليل حجيّة الخبر هو الإجماع، ولا إجماع على حجيّة الخبر المخالف للكتاب، فعند التعارض يسقط الخبر لعدم دليل على حجيّته.

قلت: {لا ينحصر الدليل على} حجيّة {الخبر بالإجماع كي يقال ب-«أنّه} أي: الإجماع يقول بحجيّة الخبر {في ما لا يوجد على خلافه دلالة} الكتاب {ومع وجود الدلالة القرآنيّة يسقط وجوب العمل به»} و{كيف} يكون الدليل على الخبر هو الإجماع فقط {وقد عرفت أنّ سيرتهم مستمرّة على العمل به} أي: بالخبر {في قبال العمومات الكتابيّة} ولو كان الدليل - هو الإجماع فيظرف عدم المخالفة - لم تستمرّ السّيرة المذكورة، فوجود السّيرة كاشف عن وجود مدرك آخر لحجيّة الخبر.

{و} إن قلت: {الأخبار الدالّة على أنّ الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها، أو ضربها على الجدار، أو أنّها زخرف، أو أنّها ممّا لم يقل بها الإمام} - عليه الصّلاة والسّلام - كلّها تدلّ على حجيّة الخبر المخالف للكتاب، والمخالفة أعمّ من التخالف بنحو التباين أو العموم المطلق او العموم من وجه.

قلت: هذه الأخبار {وإن كانت كثيرة جدّاً وصريحة الدلالة على طرح المخالف}

ص: 188


1- معارج الأصول: 96.

إلّا أنّه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الأخبار غير مخالفة العموم، إن لم نقل بأنّها ليست من المخالفة عرفاً، كيف؟ وصدور الأخبار المخالفة للكتاب - بهذه المخالفة - منهم(علیهم السلام) كثيرةٌ جدّاً.

مع قوّة احتمال أن يكون المراد: أنّهم لا يقولون بغير ما هو قول اللّه - تبارك وتعالى - واقعاً، وإن كان هو على خلافه ظاهراً، شرحاً لمرامه - تعالى - ، وبياناً لمراده من كلامه، فافهم.

___________________________________________

قطعاً {إلّا أنّه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الأخبار غير مخالفة العموم} المطلق، بأن يكون المراد بها مخالفة التباين.

هذا على تقدير تسليم أنّها مخالفة، وأمّا {إن لم نقل} بذلك، بل قلنا {بأنّها} أي: المخالفة بالعموم المطلق {ليست من المخالفةعرفاً} فالأمر واضح، و{كيف} يمكن أن يكون المراد من المخالفة الموجبة لطرح الخبر مخالفة العموم المطلق {و} الحال أنّ {صدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة} بالعموم المطلق {منهم(علیهم السلام) كثيرة جدّاً} بحيث يؤول طرحها إلى انهدام أساس الفقه {مع قوّة احتمال أن يكون المراد} من قولهم(علیهم السلام): «ما خالف قول ربّنا لم نقله»(1)

ونحوه {أنّهم لا يقولون بغير ما هو قول اللّه - تبارك وتعالى - واقعاً} فإنّ كلامهم مطابق لمراده - سبحانه - {وإن كان هو على خلافه} أي: خلاف كلامه - تعالى - {ظاهراً} فإنّه ليس مخالفاً له واقعاً، بل صدر منهم(علیهم السلام) {شرحاً لمرامه - تعالى - وبياناً لمراده من كلامه، فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى عدم استقامة هذا التوجيه؛ لأنّ جملة من هذه الأخبار صدرت لبيان الضّابط لمعرفة الخبر وعلاج المعارضة، والرّواة ليسوا عالمين بالواقعيّات حتّى يعلموا المخالف من الموافق، فلا بدّ من أن يكون مراد الأئمّة(علیهم السلام) مخالفة ظاهر الكتاب لا خلاف مقصود اللّه - سبحانه - .

ص: 189


1- راجع مضمونه في بحار الأنوار 2: 250.

والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النّسخ به ممنوعة، وإن كان مقتضى القاعدة جوازهما؛ لاختصاص النّسخ بالإجماع على المنع. مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده، بخلاف التخصيص.

___________________________________________

ثمّ إنّ بعض المتأخّرين ذكر وجهاً آخر لعدم جواز تخصيص الكتاب بالخبرالواحد، وحاصله: أنّ القرآن الّذي أُنزل قانوناً ونظاماً للأُمّة لا يمكن أن يكون المراد منه غير ظاهره؛ لأنّه جعل ملاذاً ومرجعاً، فكيف لا يراد منه ظواهر عمومه وإطلاقه؟

وجوابه أنّه نزل لبيان القوانين إجمالاً وأوكل بيانه إلى المنزل عليه، ولهذا لم يبيّن عدد الرّكعات، ونصب الزكوات، وأعمال الحجّ، وشرائط الجهاد، وحدود الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وخصوصيّات البيع والشّراء، وتفاصيل الأطعمة والأشربة إلى كثير من غيرها، كما هو شأن كتب القانون عامّة، خصوصاً إذا كان مقترناً بشرع جديد وحكومة حديثة، ولذا ترى أغلب آيها في تنظيم الحكومة الجديدة ورفض الأديان والتقاليد والعقائد والأنظمة السّابقة، مشيراً إلى كثير من المحسنات والمقبحات بالقصص المناسبة لإفهام عامّة الطبقات.

ثمّ أشار المصنّف(رحمة الله) إلى جواب إشكال آخر، وهو أنّه لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه، والتالي باطل إجماعاً فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: أنّ النّسخ قسم من التخصيص، إذ هو بالنسبة إلى الأزمان كما أنّ الأوّل بالنسبة إلى الأفراد، بقوله: {والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النّسخ به} أي: بالخبر الواحد {ممنوعة، وإن كان مقتضى القاعدة} المتقدّمة من أنّه تعارض بين سند الخبر ودلالة الكتاب الظنيّين {جوازهما} وإنّما منعنا الملازمة للفرق بينهما {لاختصاص النّسخ بالإجماع على المنع} وكفى به فارقاً {مع وضوح الفرق} بين النّسخ والتخصيص من وجه آخر {بتوافر الدواعي إلى ضبطه، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده بخلاف التخصيص}.

ص: 190

فصل: لا يخفى أنّ العام والخاص المتخالفين يختلف حالهما ناسخاً ومخصّصاً ومنسوخاً، فيكون الخاصّ: مخصّصاً تارةً،وناسخاً مرّةً، ومنسوخاً أُخرى:

وذلك لأنّ الخاصّ إن كان مقارناً مع العام، أو وارداً بعده قبلَ حضور وقت العمل به، فلا محيص عن كونه مخصّصاً وبياناً له.

___________________________________________

وعليه فلو وجد خبر ظاهره نسخ القرآن فرضاً لم نعمل به لوجهين:

الأوّل: الإجماع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد.

الثّاني: أنّ توفّر الدواعي لضبط النّسخ مع عدم ضبطهم هذا كاشف عن عدم صحّته.

والوجهان مفقودان في التخصيص لعدم الإجماع على عدم التخصيص ولعدم توفّر الدواعي على ضبطه، واللّه - تعالى - العالم بحقيقة الحال.

[فصل العام والخاص المتخالفان]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، العام والخاص المتخالفان

{فصل} في العام والخاص المتخالفين {لا يخفى أنّ العام والخاص المتخالفين} بحسب الدلالة نحو (أكرم العلماء ولا تكرم فسّاقهم) {يختلف حالهما} فتارة يكون الخاص {ناسخاً} لحكم العام {و} أُخرى يكون {مخصّصاً} له {و} ثالثة يكون {منسوخاً} به {فيكون الخاص مخصّصاً تارةً، وناسخاً مرّةً، ومنسوخاً أُخرى}.

{و} بيان {ذلك} يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي أنّ الخاص قد يكون وارداً قبل العام وقد يكون وارداً بعده وقد يكون مقارناً معه، وعلى التقديرين الأوّلين فإمّا أن يكون الثّاني بعد حضور وقت العمل بالأوّل وإمّا أن يكون قبله، فالأحوال المتصوّرة خمسة ويختلف الحكم في ذلك {لأنّ الخاص إن كان مقارناً مع العام أو وارداً بعده قبل حضور وقت العمل به} كما لو قال المولى في يوم الجمعة: (أكرمالعلماء يوم الاثنين)، ثمّ قال في يوم السّبت: (لا تكرم زيداً) {فلا محيص عن كونه} أي: الخاص {مخصّصاً وبياناً له} كاشفاً عن أنّ المراد الجدّي من أوّل الأمر

ص: 191

وإن كان بعد حضوره كان ناسخاً لا مخصّصاً؛ لئلّا يلزم تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة في ما إذا كان العام وارداً لبيان الحكم الواقعي، وإلّا لكان الخاصّ أيضاً مخصّصاً له، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والرّوايات.

وإن كان العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاص، فكما يحتمل أن يكون الخاصّ مخصّصاً للعام، يحتمل أن يكون العام ناسخاً له، وإن كان الأظهر أن يكون الخاص مخصّصاً؛

___________________________________________

كان غير زيد {وإن كان} الخاصّ الوارد بعد العام {بعد حضوره} أي: بعد حضور وقت العمل بالعام، كما لو قال في يوم الثّلاثاء: (لا تكرم زيداً) {كان} الخاص {ناسخاً} لحكم زيد المستفاد من العام {لا مخصّصاً، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة} المستقبح عقلاً.

ولكن لا يخفى أنّ الالتزام بكون الخاصّ ناسخاً - في هذه الصّورة - إنّما هو {في ما إذا كان العام} المتقدّم {وارداً لبيان الحكم الواقعي، وإلّا} فلو كان لبيان الحكم الظاهري لمصلحة اقتضى ذلك {لكان الخاص أيضاً مخصّصاً له} كالصورتين الأوليين {كما هو الحال في غالب العمومات والخصومات} الواردة {في الآيات والرّوايات} واختلافالحكم الظاهري والواقعي بمكان من الإمكان، كما حقّق في جواب ابن قبة وغيره المذكور في الجلد الثّاني.

{و} أمّا {إن} انعكس الأمر بأن {كان العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاص} كما لو أمر بإكرام زيد ثمّ قال بعد أيّام: (لا تكرم الفسّاق) {فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصّصاً للعام} حتّى يكون الواجب عدم إكرام الفسّاق إلّا زيداً {يحتمل أن يكون العام ناسخاً له} فيحرم إكرام الفسّاق حتّى زيداً {وإن كان الأظهر} بحسب الغلبة {أن يكون الخاص مخصّصاً} للعام لا أن يكون العام ناسخاً

ص: 192

لكثرة التخصيص حتّى اشتهر: «ما من عامّ إلّا وقد خُصّ» مع قلّة النّسخ في الأحكام جدّاً. وبذلك يصير ظهور الخاص في الدوام - ولو كان بالإطلاق - أقوى من ظهور العام - ولو كان بالوضع - ، كما لا يخفى.

هذا في ما علم تاريخُهما.

وأمّا لو جُهل وتردّد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، وقبل حضوره، فالوجه هو الرّجوع إلى الأصول العمليّة.

___________________________________________

له {لكثرة التخصيص حتّى اشتهر} في الألسن {«ما من عامّ إلّا وقد خُصّ» مع قلّة النّسخ في الأحكام جدّاً} حتّى أنكره جماعة من المحقّقين رأساً.

{وبذلك} الّذي ذكرنا من قلّة النّسخ وكثرة التخصيص {يصير ظهور الخاصّ} أعني: (أكرم زيداً) مثلاً {في الدوام} إلى الأبد {ولو كان} الدوام {بالإطلاق} ومقدّمات الحكمة القائلة بأنّه لو أُريدالإكرام في وقت خاصّ لزم تقييد الكلام به {أقوى من ظهور العام} في العموم الشّامل لزيد في مثال (لا تكرم الفسّاق) {ولو كان} العموم {بالوضع}.

والحاصل: أنّ هذه القرينة الخارجيّة تكون سبباً لأقوائيّة دوام الخاص عن عموم العام فيخصّص العام به {كما لا يخفى} وإن كان العام في نفسه لكونه بالوضع أقوى من الدوام لكونه بالإطلاق.

{هذا} كلّه {في ما علم تاريخهما، وأمّا لو جهل وتردّد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام} حتّى يكون ناسخاً {و} بين أن يكون {قبل حضوره} حتّى يكون مخصّصاً {فالوجه هو الرّجوع إلى الأصول العمليّة}.

لا يخفى أنّه بعد ورود الخاص والعام لا شبهة في أنّ البناء على النّسخ سواء قلنا بكونه ناسخاً للعام أو مخصّصاً، فالعمل المرتبط بما بعدهما لا يفرّق فيه بين النّسخ والتخصيص.

ص: 193

وكثرة التخصيص وندرة النّسخ هاهنا، وإن كانا يوجبان الظنّ بالتخصيص أيضاً، وأنّه واجد لشرطه، إلحاقاً له بالغالب، إلّا أنّه لا دليل على اعتباره،

___________________________________________

نعم، الفرق إنّما هو في ما بين زمان ورود العام وورود الخاص بالنسبة إلى حكم القضاء والإعادة بعد ورود الخاص، فإنّه إن ترك العمل بالخاص قبل ورود المخصّص ثمّ أراد التدارك بعد ورود الخاص فإن كان الخاص ناسخاً لزم التدارك وإن كان مخصّصاً لم يلزم.

مثلاً: لو أوجب إكرام العلماء بإعطاء كلّ يوم لكلّ واحد منهم ديناراً ثمّ حرّمإكرام زيد ودار أمر التحريم بين المخصصيّة والنّاسخيّة - مع فرض أنّه لم يعط قبل ورود المخصّص لزيد شيئاً - فإن كان الخاص ناسخاً لزم تدارك ما فات منه من الإعطاء لزيد؛ لأنّ الحكم كان إلى زمان ورود الخاص وإنّما نسخه الخاص، بخلاف ما لو كان الخاص مخصّصاً، فإنّه يكشف عن عدم الوجوب بالنسبة إلى زيد من أوّل الأمر فلا يجب التدارك.

وبهذا تبيّن أنّ المرجع في المقام هو البراءة؛ لأنّه لا يعلم بوجوب أصل الإعطاء حتّى يجب عليه التدارك.

{وكثرة التخصيص وندرةُ النّسخ هاهنا} أي: في ظرف ورود الخاص بعد العام {وإن كانا يوجبان الظنّ بالتخصيص} فيكون المرجع في ظرف الشّكّ التخصيص الموجد للبراءة لا أصالة البراءة العمليّة {أيضاً} كما في ما كان الخاص قبل العام {وأنّه واجد لشرطه} أي: شرط التخصيص وهو الورود قبل زمان العمل {إلحاقاً له بالغالب} في الخاص، فإنّ الظنّ يلحق الشّيء بالأعم الأغلب. مثلاً: لو كان غالب من رأيناه من أهل السّودان أسود ثمّ شككنا في أحد منهم أنّه أسود أم لا حكمنا بأسوديّته للقاعدة المذكورة {إلّا أنّه لا دليل على اعتباره} أي: اعتبار هذا الظنّ ما لم يحرز بناء العقلاء الموجب للظهور.

ص: 194

وإنّما يوجبان الحملَ عليه في ما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص؛ لصيرورة الخاص بذلك في الدوام أظهر من العام، كما أُشير إليه، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

{و} إن قلت: فما الفرق بين العام الوارد بعد حضور وقت العمل بالخاص حيث حكمتم بِكَوْنِ الخاص مخصّصاً لا ناسخاً، وبين الخاص الوارد بعد العاممع تردّده بين أن يكون بعد حضور العمل وقبله حيث حكمتم بالرجوع إلى الأصول العمليّة مع أنّهما من وادٍ واحدٍ، لدوران الأمر في كلّ منهما بين النّسخ والتخصيص؟

قلت: {إنّما يوجبان} كثرة التخصيص وقلّة النّسخ {الحمل عليه} أي: على التخصيص {في ما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص لصيرورة الخاصّ بذلك} التكثّر {في الدوام أظهر من العام} في العموم {كما أُشير إليه} فالعمل إنّما هو على طبق الظهور وكثرة التخصيص وقلّة النّسخ سبب له، بخلاف ما نحن فيه لعدم الظهور للخاصّ في كونه مخصّصاً حتّى يسقط احتمال النّسخ.

{فتدبّر جيّداً} يمكن أن يكون إشارة إلى دفع وهم حاصله: أنّه كما يكون الظنّ بالتخصيص لكثرته موجباً لظهور الخاصّ في التخصيص في ما ورد العام بعد الخاص فليكن هذا الظنّ أيضاً موجباً له في ما ورد الخاصّ بعد العام.

والجواب بالفرق، فإنّ العام مؤخّر يدور الأمر فيه بين ظهورين: ظهور الخاصّ في الدوام والعام في العموم، بخلاف العام المقدّم فإنّه يدور الأمر بين ورود الخاصّ قبل حضور وقت العمل وبعده، وليس أحدهما مؤدّي الظهور حتّى يرجع أحدهما بالظنّ النّاشئ من كثرة التخصيص.

ولا يذهب عليك أنّ غالب ما ذكره المصنّف(رحمة الله) في هذا الباب استحسانات عقليّة لا توجب ظهوراً ولا حجيّة فيها في أنفسها، فالمتّبع هو الظهور فإن كان فهو وإلّا فالمرجع الأصول العمليّة.

ص: 195

ثمّ إن تعيّن الخاص للتخصيص، إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به، إنّما يكون مبنيّاً على عدم جواز النّسخ قبلحضور وقت العمل، وإلّا فلا يتعيّن له، بل يدور بين كونه مخصّصاً وناسخاً في الأوّل، ومخصّصاً ومنسوخاً في الثّاني، إلّا أنّ الأظهر كونه مخصّصاً، وإن كان ظهور العام في عموم الأفراد

___________________________________________

{ثمّ إنّ} ما ذكرنا من {تعيّن الخاصّ للتخصيص} دون النّسخ {إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به} أو وقع مقارناً للعام {إنّما يكون مبنيّاً على عدم جواز النّسخ قبل حضور وقت العمل} كما هو المشهور في ألسنة القوم؛ لأنّ النّسخ عبارة عن رفع الحكم الثّابت ولا ثبوت للحكم قبل حضور وقت العمل {وإلّا} فلو قلنا بجواز النّسخ قبل حضور وقت العمل {فلا يتعيّن} الخاص في الصّور الثّلاثة {له} أي: لكونه مخصّصاً {بل يدور بين كونه مخصّصاً وناسخاً في الأوّل} وهو ما إذا ورد قبل وقت حضور العمل بالعام {ومخصّصاً ومنسوخاً في الثّاني} وهو ما إذا ورد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص، ومخصّصاً وناسخاً ومنسوخاً في الثّالث وهو ما إذا ورد مقارناً للعام.

وعلّق المصنّف على قوله: «ثمّ إنّ تعيّن الخاص للتخصيص» ما لفظه: «لا يخفى أنّ كونه مخصّصاً بمعنى كونه مبيّناً لمقدار المراد عن العام، وناسخاً بمعنى كون حكم العام غير ثابت في نفس الأمر في مورد الخاص مع كونه مراداً ومقصوداً بالإفهام في مورده بالعام كسائر الأفراد، وإلّا فلا تفاوت بينهما عملاً أصلاً، كما هو واضح لا يكاد يخفى»(1)،

انتهى.وحاصل ما ذكره: عدم الثّمرة لكون الخاص مخصّصاً أو ناسخاً {إلّا أنّ الأظهر كونه مخصّصاً وإن كان ظهور العام في عموم الأفراد} لكونه بالوضع

ص: 196


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 445.

أقوى من ظهور الخاص في الخصوص؛ لما أُشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه، وندرة النّسخ جدّاً في الأحكام.

ولا بأس بصرف عنان الكلام إلى ما هو نخبة القول في النّسخ.

فاعلم: أنّ النّسخ وإن كان رفعَ الحكم الثّابت إثباتاً، إلّا أنّه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتاً، وإنّما اقتضت الحكمة إظهارَ دوام الحكم واستمراره، أو

___________________________________________

{أقوى من ظهور الخاص في الخصوص} لكونه بالإطلاق {لما أُشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه وندرة النّسخ جدّاً في الأحكام}.

ثمّ لا يذهب عليك عدم الثّمرة العمليّة لهذا الكلام الطويل بالنسبة إلينا؛ لأنّه بعد البناء على عدم كون الخاصّ ناسخاً - في الفقه - فاللّازم تخصيص العام به سواء كان قبله أو بعده أو مقارنه، جهل التاريخ أو علم، كان المتأخّر بعد حضور وقت العمل - فالمتقدّم بالنسبة إلى المشافهين - أم قبله، وعلى هذا جرى ديدن الفقهاء، ولذا لا يتوقّفون بمجرّد رؤية الخاصّ من العمل على طبقه ولو كان نبويّاً والعام عسكريّاً. نعم، من جوّز النّسخ في كلمات الأئمّة(علیهم السلام) فيفيده بعض هذا النّزاع.

{و} حيث انجرّ الكلام إلى النّسخ وأنّه هل يمكن نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به، أم لا ف- {لا بأس بصرف عنان الكلام إلى ما هو نخبة القول في النّسخ} وتفسير معناه: {فاعلم أنّ النّسخ وإن كان} في الظاهر {رفع الحكم الثّابت إثباتاً} متعلّق بالرفع، أي: إنّ رفع الحكم فيمقام الإثبات نسخ {إلّا أنّه في الحقيقة} والواقع {دفع الحكم ثبوتاً} وواقعاً، بحيث لم يكن في الواقع حكم، وإن كان تخيّل من ظاهر الدليل وجود الحكم {وإنّما اقتضت الحكمة} الإلهيّة {إظهار دوام الحكم واستمراره} مع أنّ الحكم في الواقع ليس مستمرّاً، كأن يأمر بتقديم الصّدقة بين يدي النّجوى(1)، الظاهر في الدوام والاستمرار {أو} تقتضي الحكمة

ص: 197


1- إشارة إلى الآية الكريمة: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗۚ...} سورة المجادلة، الآية: 12.

أصلَ إنشائه وإقراره، مع أنّه بحسب الواقع ليس له قرار، أو ليس له دوام واستمرار؛ وذلك لأنّ النّبيّ(صلی الله علیه و آله) الصّادع للشرع ربّما يُلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره، مع اطلاعه على حقيقة الحال وأنّه يُنسِخ في الاستقبال، أو مع عدم اطلاعه على ذلك؛ لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه - تبارك وتعالى - . ومن هذا القبيل لعلّه يكون أمرُ إبراهيم بذبح إسماعيل.

وحيث عرفت: أنّ النّسخ بحسب الحقيقة يكون دفعاً،

___________________________________________

{أصل إنشائه وإقراره} مع أنّه ليس في الواقع مراداً، كأن يأمر إبراهيم - عليه الصّلاة والسّلام - بذبح ولده {مع أنّه بحسب الواقع ليس له قرار} هذا بالنسبة إلى الثّاني {أو ليس له دوام واستمرار} هذا بالنسبة إلى الأوّل.

وعلى كلّ تقدير فدليل النّاسخ يبيّن المراد من المنسوخ وأنّه لم يرد به الدوام مع الإرادة في الجملة في الأوّل، أو لم يرد به إلّا الامتحان ونحوه في الثّاني {وذلكلأنّ النّبيّ(صلی الله علیه و آله) الصّادع للشّرع ربّما يلهم أو يوحى إليه} أو يرى في المنام أو غير ذلك من أنحاء الإلقاء {أن يظهر} أصل {الحكم، أو} يظهر {استمراره مع اطلاعه} (علیه السلام) {على حقيقة الحال، وأنّه ينسخ في الاستقبال، أو مع عدم اطلاعه على ذلك} النّسخ، وعدم اطلاع النّبيّ ليس مستغرباً {لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه - تبارك وتعالى -} {وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ}(1).

{ومن هذا القبيل} الّذي لم يكن النّبي(صلی الله علیه و آله) يعلم بحقيقة الحال {لعلّه يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل} إذ لو علم(علیه السلام) النّسخ لم يكن له كثير ثواب ومدح، إذ الرّجل العادي منّا لو علم بنسخ تكليف شاقّ عليه لم يكن تهيئته للمقدّمات ممدوحاً.

{و} كيف كان، ف- {حيث عرفت أنّ النّسخ بحسب الحقيقة يكون دفعاً} وبياناً

ص: 198


1- سورة الأعراف، الآية: 188.

وإن كان بحسب الظاهر رفعاً، فلا بأس به مطلقاً، ولو كان قبل حضور وقت العمل؛ لعدم لزوم البداء المحال في حقّه - تبارك وتعالى - ، بالمعنى المستلزم لتغيّر إرادته - تعالى -

___________________________________________

لعدم الحكم من أوّل الأمر إلّا صورياً {وإن كان بحسب الظاهر} يكون {رفعاً} للحكم الثّابت {فلا بأس به مطلقاً ولوكان قبل حضور وقت العمل} ولا يشترط بما ذكره المشهور من اشتراط حضور وقت العمل مفرّقين به بين النّسخ والتخصيص {لعدم لزوم البداء المحال في حقّه - تبارك وتعالى - بالمعنى المستلزم لتغيّر إرادته - تعالى -} بخلاف ما لو كان النّسخ في الحقيقة دفعاً، إذ يلزم منه البداء المستلزم للجهل، إذ لو أمر - سبحانه - بصلاة خمسين ركعة في اليوم والليلة حسب المصلحة الموجودة في الفعل بلا مفسدة أصلاً ثمّ نسخ ذلك قبل العمل وجعلها سبعة عشرة ركعة، لكان أحد الأمرين خطاءً لا محالة، إمّا الجعل الأوّل وإمّا الرّفع الثّاني.

وهذا الكلام بعينه آتٍ في ما لو كان النّسخ بعد حضور وقت العمل رفعاً لا دفعاً، إذ جعل الاستمرار حقيقة ثمّ رفعه يستلزم أحد الخطأين، وحيث قلنا بأنّ النّسخ مطلقاً سواء كان لأصل الحكم أم لاستمراره رفعاً لم يلزم محذور، ولم يفرّق فيه حينئذٍ النّسخ قبل حضور وقت العمل وبعده، كما ظهر بذلك أيضاً بطلان ما اشتهر بينهم من لزوم كون التخصيص قبل حضور وقت العمل - عكس النّسخ - معلّلين بأنّه لو صدر بعد الحضور لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

بيان البطلان: أنّه كما يمكن إظهار الحكم لمصلحة مع إرادته في الواقع في باب النّسخ، كذلك يمكن إظهار عموم الحكم مع عدم إرادة العموم في الواقع وإنّما الموجب لإظهار العموم مصلحة اقتضتها الحال، ثمّ يبيّن بعد العمل تخصيصه وإنّه لم يرد منه إلّا البعض لا الكل.

فتحصّل إمكان النّسخ قبل حضور وقت العمل وجواز التخصيص بعد حضور وقت العمل، لعدم لزوم تأخير البيان القبيح في التخصيص ولا لزوم البداء المحال

ص: 199

مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهةً، وإلّا لزم امتناع النّسخ أو الحكم المنسوخ؛ فإنّ الفعل إن كان مشتملاً على مصلحة موجبةللأمر به امتنع النّهي عنه، وإلّا امتنع الأمر به؛ وذلك لأنّ الفعل أو دوامه لم يكن متعلّقاً لإرادته، فلا يستلزم نسخُ أمره بالنهي تغيير إرادته، ولم يكن الأمر بالفعل من جهة كونه مشتملاً على مصلحة، وإنّما كان إنشاء الأمر به أو إظهار دوامه عن حكمة ومصلحة.

___________________________________________

في النّسخ؛ لأنّ في الإظهار مصلحة، وذلك لا يستلزم تغيّر إرادته - سبحانه - {مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهة، وإلّا} فلو كان النّسخ قبل حضور وقت العمل مستحيلاً لاستلزامه تغيّر الإرادة {لزم امتناع النّسخ أو الحكم المنسوخ} مطلقاً ولا اختصاص للاستحالة بصورة قبليّة حضور وقت العمل {فإنّ} النّسخ لو كان رفعاً امتنعا(1)

جميعاً، إذ {الفعل إن كان مشتملاً على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النّهي عنه، وإلّا} يكن مشتملاً على مصلحة {امتنع الأمر به} ولو كان دفعاً صحّا جميعاً، فلا وجه للتفصيل بين بعد حضور وقت العمل فيجوز وقبله فلا يجوز.

{وذلك} الّذي ذكرنا مع صحّة النّسخ مطلقاً {لأنّ الفعل أو دوامه لم يكن} في الواقع ونفس الأمر {متعلّقاً لإرادته} سبحانه {فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي} أو العكس {تغيير إرادته} المستلزم للجهل - تعالى عنه - {ولم يكن الأمر بالفعل} من الأوّل {من جهة كونه مشتملاً على مصلحة، وإنّما كان إنشاء الأمر به} أي: بالفعل {أو إظهار دوامه} ناشئاً {عن حكمةومصلحة}.

وبهذا كلّه ظهر سقوط الإشكالات الّتي ذكروها لبطلان النّسخ في الشّرعيّات من أنّ الأفعال تابعة للحسن والقبح، فلو كان في الفعل مفسدة لما أمر به أوّلاً ولو كان مصلحة لما نهى عنه ثانياً.

ومِن أنّه يستلزم الجهل؛ لأنّ جعل الحكم ناشٍ عن العلم بالمصلحة، فلو لم

ص: 200


1- قبل حضور وقت العمل وبعده.

وأمّا البداء في التكوينيّات بغير ذاك المعنى، فهو ممّا دلّ عليه الرّوايات المتواترات، كما لا يخفى.

ومجمله: أنّ اللّه - تبارك وتعالى - إذا تعلّقت مشيّته - تعالى - بإظهار ثبوت ما يمحوه

___________________________________________

يكن في الفعل مصلحة علمها أوّلاً ثمّ نسيها فنسخ الحكم لزم الجهل ثانياً.

ومن أنّ جعل الحكم تابع للإرادة فتغييره مستلزم لتغيّر الإرادة وهو مستحيل في حقّه - سبحانه - .

والجواب عن الكلّ ما تقدّم من أنّ الحكم ليس مجعولاً حقيقة أولاً، بل جعل صوري لمصلحة فيه، فالنسخ يظهر عدمه المعبّر عنه بالدفع لا أنّه يرفعه، وهذا في كمال الظهور.

هذا كلّه حال النّسخ في التشريعيّات {وأمّا البداء في التكوينيّات} كأن يخبر بعذاب قوم يونس لا يعذّبهم، أو يخبر بموت العروس ليلة الزفاف ثمّ لا يموت، أو يخبر بإمامة إسماعيل ثمّ لا يجعله إماماً بأن يتوفّاه ويجعل موسى بن جعفر(علیهما السلام) مكانه، وكذا بالنسبة إلى الإمام الهادي والعسكري(علیهما السلام) إلى غير ذلك {بغير ذاك المعنى} الّذي تقدّم استحالته من تغيّر الإرادة واقعاً {فهو ممّا دلّعليه الرّوايات المتواترات، كما لا يخفى} كقول الصّادق(علیه السلام): «ما عُظِّم اللّه - عزّ وجلّ - بمثل البداء»(1)،

وقول الرّضا(علیه السلام): «ما بعث اللّه نبيّاً قطّ إلّا بتحريم الخمر وأن يقرّ له بالبداء»(2)،

وقول الصّادق(علیه السلام) أيضاً: «ولو يعلم النّاس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه»(3)

إلى غير ذلك.

{ومجمله أنّ اللّه - تبارك وتعالى - إذا تعلّقت مشيّته - تعالى - بإظهار ثبوت ما يمحوه}

ص: 201


1- التوحيد: 333.
2- التوحيد: 334.
3- التوحيد: 334.

- لحكمة داعية إلى إظهاره - ألهَم أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه أن يُخبر به، مع علمه بأنّه يمحوه، أو مع عدم علمه به؛ لما أُشير إليه من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه. وإنّما يخبر به؛ لأنّه حال الوحي أو الإلهام - لارتقاء نفسه الزكيّة، واتصاله بعالم لوح المحو والإثبات - اطّلع على ثبوته، ولم يطّلع على كونه معلّقاً على أمر غيرَ واقع، أو عدم الموانع، قال اللّه - تبارك وتعالى - : {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ}(1) الآية.

___________________________________________

كإظهار ثبوت إمامة إسماعيل الّذي يمحوه بعد {لحكمة داعية إلى إظهاره ألهم أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه أن يخبر به، مع علمه} (علیه السلام) {بأنّه} تعالى{يمحوه، أو مع عدم علمه} (علیه السلام) {به} أي: بالمحو، وإنّما يجوز عدم علم النّبي أو الولي به {لما أُشير إليه من عدم الإحاطة} للنبيّ والولي {بتمام ما جرى في علمه} ولا يحيطون بشيء من علمه إلّا بما شاء {وإنّما يخبر} النّبي أو الولي {به؛ لأنّه حال الوحي أو الإلهام - لارتقاء نفسه الزكيّة واتصاله بعالم لوح المحو والإثبات} يمحو اللّه ما يشاء ويثبت - لا لوح الواقع - وعنده أُمّ الكتاب - {اطّلع} النّبيّ أو الولي {على ثبوته ولم يطّلع على كونه معلّقاً على أمر غير واقع أو عدم الموانع} كمن يرى نصف اللوح فيرى أنّ العروس الفلانيّة تموت في هذه الليلة، ولا يرى النّصف الآخر المكتوب فيه بشرط أن لا تتصدّق فيخبر بالموت والحال أنّها تصدّقت فلم تمت {قال اللّه - تبارك وتعالى - {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ} الآية} بل قد يكون الاطلاع بإخبار اللّه سبحانه.

فعن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «كان في بني إسرائيل نبيّ وعده اللّه أن ينصره إلى خمس عشرة ليلةً، فأخبر بذلك قومه فقالوا: واللّه إذا كان ليفعلنّ وليفعلنّ، فأخبره اللّه إلى خمس عشرة سنة، وكان فيهم من وعده اللّه النّصرة إلى خمس عشرة سنة فأخبر بذلك النّبيّ قومه، فقالوا: ما شاء اللّه، فعجّله اللّه لهم في خمس عشرة

ص: 202


1- سورة الرعد، الآية: 39.

نعم، مَن شملته العناية الإلهيّة واتصلت نفسه الزكيّة بعالم لوح المحفوظ - الّذي هو من أعظم العوالم الرّبوبيّة، وهو أُمّ الكتاب - ينكشف عنده الواقعيّات على ما هي عليها، كما ربّما يتّفق لخاتم الأنبياء ولبعض الأوصياء، وكان عارفاً على الكائناتكما كانت وتكون.

نعم، مع ذلك، ربّما يوحى إليه حكم من الأحكام: تارةً بما يكون ظاهراً في الاستمرار والدوام، مع أنّه في الواقع له غاية وأمد يعيّنها بخطاب آخر، و

___________________________________________

ليلة»(1).

{نعم، من شملته العناية الإلهيّة واتصلت نفسه الزكيّة بعالم لوح المحفوظ - الّذي هو من أعظم العوالم الرّبوبيّة} لأنّه عالم العلم المختصّ بذاته - سبحانه وتقدّس - {وهو أُمّ الكتاب - ينكشف عنده الواقعيّات على ما هي عليها، كما ربّما يتّفق لخاتم الأنبياء ولبعض الأوصياء} لا دائماً، كما يشعر بذلك ما عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «كان عليّ بن الحسين(علیه السلام) يقول: لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة، فقلت: أيّة آية؟ قال: «قول اللّه: {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ}(2)(3)» {وكان} النّبي والوصي(علیهما السلام){عارفاً على الكائنات كما كانت وتكون}.

وحيث كان هنا محلّ أن يقال: لو اتّصل نفس النّبيّ بعالم اللّوح المحفوظ رأى جميع الأحكام وعلم عدم استمرار بعضها فكيف يحكم بالاستمرار مع علمه بعدم الاستمرار؟ أشار المصنّف إلى جوابه بقوله:{نعم، مع ذلك} الاتّصال باللوح {ربّما يوحى إليه حكم من الأحكام تارة بما يكون ظاهراً في الاستمرار والدوام} إلى الأبد {مع أنّه في الواقع له غاية وأمد يعيّنها} أي: الغاية {بخطاب آخر} هذا في نسخ الاستمرار {و} يوحى إليه تارة

ص: 203


1- بحار الأنوار 4: 112.
2- سورة الرعد، الآية: 39.
3- بحار الأنوار 4: 118.

أُخرى بما يكون ظاهراً في الجدّ، مع أنّه لا يكون واقعاً بجدّ، بل لمجرّد الاختبار والابتلاء، كما أنّه يأمر وحياً أو إلهاماً بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره ممّا لا يقع؛ لأجل حكمة في هذا الإخبار أو ذاك الإظهار.

___________________________________________

{أُخرى بما يكون ظاهراً في الجدّ} والإرادة الحقيقيّة {مع أنّه لا يكون واقعاً بجدّ، بل لمجرّد الاختبار والابتلاء} أي: الامتحان، وهذا في نسخ أصل الحكم، كالذبح بالنسبة إلى إسماعيل(علیه السلام).

وبهذا تبيّن أنّ قولهم: «إنّ النّسخ عبارة عن التخصيص في الأزمان» يراد به القسم الأوّل من النّسخ لا الثّاني المنسوخ فيه أصل الحكم.

{كما} أنّ هناك قسماً ثالثاً من البداء، وهو {أنّه يأمر وحياً أو إلهاماً} نبيّه أو وصيّه {بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره} كموت العروس {ممّا لا يقع، لأجل حكمة في هذا الإخبار} كالتضرّع إلى اللّه الموجب لرفعه، فإنّه لولا الإخبار بوقوعه لم يكن يحصل منهم ذاك التضرّع الرّافع للعذاب أو الموت.

مثلاً: لو أخبر الصّادق شخصاً بأنّ الملك يريد صَلْبَهُ، تَضَرَّعَ المُجْرِمُ إلى الملك وتوسّل بجميع الوسائل إلى عفوه، بحيث لو لم يخبره بهذا النّحو من الإخبار الحرج، بل قال له: (لو لم تتضرّع وتتوسّل صلبك) لم يكن يحصل منههذا النّوع من الاستكانة والابتهال.

وبهذا اندفع ما ربّما يتوهّم مِن أنّ الإخبار بما لا يقع مستلزم للكذب القبيح عقلاً، وحاصل الدفع أنّ القبيح يرتفع بملاحظة وجود مصلحة أهمّ لا تحصل إلّا بالكذب.

والحاصل: أنّ الحكمة في هذا الإخبار {أو ذاك الإظهار} أوجبت الإلهام إلى النّبيّ بالإخبار والإظهار وإن كان لا يقع لموانع أو عدم شرائط.

ثمّ إنّه ربّما يقال: البداء بمعنى العلم، فمعنى (بدا له): عَلِمَ وهو مستلزم للجهل

ص: 204

فبدا له تعالى: بمعنى أنّه يُظهِر ما أمر نبيّه أو وليّه بعدم إظهاره أوّلاً، ويبدي ما خفي ثانياً.

___________________________________________

فكيف يجوز في حقّه - تعالى - هذا التعبير، كما في كثير من الكلمات، ففي زيارة سامرّاء: «يا من بدا للّه في شأنكما»(1)؟

والجواب ما أشار إليه بعض بما لفظه: «البداء، لغةً هو الظّهور الّذي هو بمعنى الحدوث، لا الظّهور الّذي في مقابل الخَفَاء والجهل، ف- (بدا له في أمرٍ، يبدو، بَدَاءً) هو إنشاء الرّأي وخطوره بعد خفائه عن صاحبه حتّى يستلزم الجهل في صاحبه، وإن كان في الخارج منشأُ بَدَاءِ المخلوق - الجاهل بعواقب الأُمور - هو جهله نوعاً»(2)، انتهى.

وإن شئت قلت: إنّ المراد بهذه الألفاظ في اللّه - سبحانه - هو غاياتها، فإنّه كما يكون المراد بفرحه وغضبه ورحمته وعطفه غاياتها من الثّواب والعقاب،كذلك المراد ببدائه غايته، فكما أنّه لو بدا شيء أظهر ما بَدَا له، كذلك المراد إظهاره - سبحانه - على طبق البداء وإن لم يكن فيه حقيقة البداء، مثل معاملته معاملة الرّحيم وإن لم تكن فيه رحمة بمعناها الّذي في النّاس.

قال أبو عبداللّه(علیه السلام): «من زعم أنّ اللّه - عزّ وجلّ - يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرؤوا منه»(3)، وعنه(علیه السلام) في حديث آخر: «ليس شيء يبدو له إلّا وقد كان في علمه أنّ اللّه لا يبدو له من جهل»(4)،

الحديث.

{فبدا له - تعالى - بمعنى أنّه يظهر ما أمر نبيّه أو وليّه بعدم إظهاره أوّلاً، ويبدي ما خفي ثانياً} أي: يبدي ثانياً ما خفي على النّاس أوّلاً، فقوله: «ثانياً» متعلّق ب-«خفي»

ص: 205


1- كامل الزيارات: 314؛ بحار الأنوار 99: 61.
2- لم نعثر عليه.
3- بحار الأنوار 4: 111.
4- بحار الأنوار 4: 121.

وإنّما نسب إليه - تعالى - البداء - مع أنّه في الحقيقة الإبداء؛ لكمال شباهة إبدائه - تعالى - كذلك بالبداء في غيره.

وفي ما ذكرنا كفاية في ما هو المهم في باب النّسخ، ولا داعي إلى ذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب، كما لا يخفى على أُولي الألباب.

___________________________________________

{وإنّما نسب إليه - تعالى - البداء - مع أنّه في الحقيقة الإبداء - لكمال شباهة إبدائه - تعالى - كذلك} بإظهار ما خفي {بالبداء في غيره} وحيث كان اللّازم التكلّم على طبق سطح الأذهان الأليفة بالمحسوسات أُطلقت هذه الألفاظ مراداً بها غاياتها، تحفّظاً على الجمع بينالواقع وبين ما يقرب من الأذهان العرفيّة، كما قيل: (أضلّه اللّه) وأُريد به تركهم وشأنهم، كما يقال في العرف: (فلان أفسد ولده) - إذا تركه وشأنه حتّى فسد - وقيل: (نسيهم اللّه) إذا فعل بهم فعل النّاسي، كما يقال في العرف - لغير المعتني - : (نسيتنا) وقيل: {ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ}(1)، كما يقال في العرف: (استولى الملك على عرش المملكة) كنايةً عن استقلاله بالأمر، إلى غير ذلك ممّا يزخر به القرآن الحكيم والأحاديث المباركة.

{وفي ما ذكرنا كفاية} إن شاء اللّه - تعالى - {في ما هو المهمّ في باب النّسخ، ولا داعي إلى ذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب، كما لا يخفى على أُولي الألباب}.

نعم، هنا إشكال لا بأس بالإشاره إليه، وهو أنّه قد يظهر من بعض الرّوايات والكلمات أنّ من فوائد الإيمان بالبداء الدعاء، إذ لو علم النّاس بالتقدير وعدم التغيّر لقالوا: المقدّر كائن ولا حاجة إلى الدعاء، كما عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «ادع ولا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه، إنّ عند اللّه - عزّ وجلّ - منزلة لا تنال إلّا بمسألة»(2)،

الحديث.

ص: 206


1- سورة طه، الآية: 5.
2- الكافي 2: 466.

ثمّ لا يخفى ثبوت الثّمرة بين التخصيص والنّسخ؛ ضرورةَ أنّه على التخصيص يُبنى على خروج الخاصّ عن حكم العام رأساً، وعلى النّسخ على ارتفاع حكمه عنه من حينه، في ما دار الأمر بينهما في المخصّص.

___________________________________________

وحاصل الإشكال: أنّ البداء لا يصحّح الدعاء، إذ اللوح المحفوظ لا يتغيّرعمّا هو عليه.

والجواب: أنّ في اللّوح مكتوباً مثلاً: (فلان يدعو فيغفر له) وإن كان في لوح المحو والإثبات مكتوب (أنّ فلاناً لا يغفر له) والدعاء في ما وراء الطبيعة كالأفعال في الطبيعيّات، فكما لا يصحّ أن يقول شخص: إن قدّر لي اليوم أكل الخبز أكلت سواء طبخته أم لا وإن لم يقدّر لي ما أكلت، بل واقع الأمر أنّه يطبخ ويأكل، فيلزم عليه الطبخ حتّى يحصله ويأكله، كذلك لا يصحّ أن يقول: إن قدّر موت ولدي وبقاء مرضي وفقري لم يفد الدعاء وإن قدّر عدم الموت والصّحّة والغنى لم يكن داعٍ إلى تعب الدعاء، بل علّة الصّحّة والغنى والحياة الدعاء، وإن علم اللّه في الواقع أنّه يدعو فيبقى ولده، وهكذا فتدبّر، مع أنّه لا ينحصر فائدة البداء في الدعاء، بل للّه حكم ومصالح يدقّ خفاها عن الأفهام، واللّه الهادي وهو الموفّق.

{ثمّ لا يخفى ثبوت الثّمرة بين التخصيص والنّسخ، ضرورة أنّه على التخصيص يبنى على خروج الخاص عن حكم العام رأساً} فلا يجب الإعادة والقضاء في ما لو لم يأت بحكم الخاصّ في الزمان المتوسّط بين ورود العام والخاص {وعلى النّسخ} يبني {على ارتفاع حكمه} أي: حكم العام {عنه} أي: عن الخاص {من حينه} أي: حين النّسخ فيجب الإعادة والقضاء بالنسبة إلى الزمان المتوسط بينهما {في ما دار الأمر بينهما} أي: بين النّسخ والتخصيص {في المخصّص} الوارد بعد العام مع تردّده بين أن يكون وارداً قبل حضور وقت العمل أو بعده.

ص: 207

وأمّا إذا دار بينهما في الخاص والعام، فالخاصُ على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلاً، وعلى النّسخ كان محكوماًبه من حين صدور دليله، كما لا يخفى.

___________________________________________

{وأمّا إذا دار} الأمر {بينهما في الخاص} المتقدّم {والعام} المتأخّر، بأن يتردّد الأمر بين كون العام ناسخاً وبين كون الخاص مخصّصاً {فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلاً} بل له حكمه المختصّ به {وعلى النّسخ} أي: نسخ العام له {كان} الخاص {محكوماً به} أي: بحكم العام {من حين صدور دليله} أي: دليل العام، وإن كان للخاص حكمه المختصّ بنفسه قبل صدور العام {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

ص: 208

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن

اشارة

ص: 209

ص: 210

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن

فصل: عرّف المطلق بأنّه: ما دلّ على شائع في جنسه.

وقد أشكل عليه بعض الأعلام(1)

بعدم الاطّراد أو الانعكاس،

___________________________________________

[المقصد الخامس في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن]

{المقصد الخامس} من مقاصد الكتاب {في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن}.

[فصل ألفاظ المطلق]

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن، ألفاظ المطلق

{فصل: عرف المطلق بأنّه ما دلّ على شائع} ومنتشر {في جنسه} ك- (رجل) الموضوع للفرد المنتشر، من غير اختصاص ببعض الأفراد دون بعض، بخلاف نحو (زيد) فإنّه يدلّ على شخص مخصوص غير قابل للانطباق إلّا على فرد معيّن.

{وقد أشكل عليه بعض الأعلام بعدم الاطّراد} لأنّه لا يمنع الأغيار، بل يصدق على غير المطلق أيضاً.

قال المشكيني(رحمة الله): «لشموله ل- (من) و(ما) و(أيّ) الاستفهاميّة الدالّة على العموم البدلي وضعاً»(2)،

انتهى، فإنّها عامّ لا مطلق مع صدق هذا التعريفعليها، ووجه كونها عامّاً أنّ الشّيوع المستفاد منها وضعيّ لا حكمي {أو الانعكاس} وذلك لعدم شموله لجميع أفراد المطلق، فإنّه لا يشمل الألفاظ الدالّة على نفس الماهيّة ك- (رجل) فإنّه موضوع لنفس الماهيّة لا للفرد المنتشر، مع بداهة أنّها من المطلقات.

ص: 211


1- الفصول الغرويّة: 218.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 468.

وأطال الكلام في النّقض والإبرام.

وقد نبّهنا في غير مقام على أنّ مثله شرح الاسم، وهو ممّا يجوز أن لا يكون بمطّرد ولا بمنعكس.

فالأولى: الإعراض عن ذلك، ببيان ما وضع له بعض الألفاظ الّتي يطلق عليها المطلق، أو غيرها ممّا يناسب المقام:

فمنها: اسم الجنس ك- (إنسان)، و(رجل)، و(فرس)، و(حيوان)، و

___________________________________________

وقد عرّف صاحب الفصول المطلق بأنّه ما دلّ على معنىً شائعٍ في جنسه شيوعاً حكميّاً(1).

{وأطال الكلام في النّقض والإبرام، و} لكن الأولى ترك التطويل في المقام لما {قد نبّهنا في غير مقام} واحد {على أنّ مثله} أي: مثل هذا التعريف {شرح الاسم} وتبديل اللفظ بلفظ آخر أقرب منه إلى الذهن {وهو ممّا يجوز أن لا يكون بمطّرد ولا بمنعكس، فالأولى الإعراض عن ذلك} الكلام في النّقض والإبرام والاشتغال {ببيان ما وضع له بعض الألفاظ} أي: بيان المعاني الّتي وضع لها الألفاظ {الّتي يطلق عليها} أي: على تلك الألفاظ اسم {المطلق أوغيرها} عطف على «ما وضع له» وتأنيث الضّمير باعتبار معنى «ما» الموصولة، أي: نبيّن غير المعاني الّتي وضع لها ألفاظ المطلق.

ولا يخفى أنّ في العبارة تعقيداً وتسامحاً. وكيف كان فها نحن نشرع في بيان بعض الأسماء المطلقة {ممّا يناسب المقام ف-} نقول: {منها اسم الجنس} سواء كان نوعاً {ك- (إنسان) و(رجل) و(فرس) و} أمثال ذلك أو جنساً

ك- (جسم) و{(حيوان) و} نحوهما، جوهراً كان كما تقدّم، أو عرضاً مثل:

ص: 212


1- الفصول الغرويّة: 217.

(سواد)، و(بياض) إلى غير ذلك من أسماء الكلّيّات من الجواهر والأعراض، بل العرضيّات.

ولا ريب أنّها موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة، بلا شرط أصلاً ملحوظاً معها، حتّى لحاظ أنّها كذلك.

___________________________________________

{(سواد) و(بياض) إلى غير ذلك من أسماء الكليّات من الجواهر والأعراض، بل العرضيّات}.

والفرق بين العَرَض والعَرَضيّ في اصطلاح المصنّف أنّ الأوّل هو المتأصّل من الأعراض الّتي ما بحذائها شيء في الخارج، كالسّواد والبياض، والثّاني هو الاعتباري من الأعراض، كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما.

وقد تقدّم في بعض المباحث السّابقة أنّ اصطلاح المصنّف خلاف اصطلاح أهل المعقول، فإنّ العرض عندهم مبدأ الاشتقاق والعرضي هو المشتقّ كما قال الحاج السّبزواري:وعرضي الشّيء

غير العرض

ذا كالبياض ذاك

مثل الأبيض(1)

{ولا ريب أنّها موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة بلا شرط أصلاً ملحوظاً معها} أي: مع تلك المفاهيم {حتّى لحاظ أنّها كذلك} أي مبهمة مهملة.

وتوضيح ذلك: أنّ الماهيّة الملحوظة على أربعة أقسام:

الأوّل: الموضوعة لا بشرط بنحو اللّابشرط المقسمي.

الثّاني: الموضوعة لا بشرط بنحو اللّابشرط القسمي.

الثّالث: الموضوعة بشرط شيء.

الرّابع: الموضوعة بشرط لا.

والمطلق موضوع للماهيّة لا بشرط المقسمي لا بمعنى أخذ السّريان والعموم في الموضوع له، إذ لو كان موضوع له للماهيّة السّارية لم يصدق على الأفراد، ك- (زيد) و(عمرو) مثلاً.

ص: 213


1- شرح المنظومة 1: 154.

وبالجملة: الموضوع له اسم الجنس هو: نفس المعنى، وصِرف المفهوم غيرِ الملحوظ معه شيءٌ أصلاً - الّذي هو المعنى بشرط شيء - ، ولو كان ذاك الشّيء هو الإرسال والعموم البدلي، ولا الملحوظ معه عدمُ لحاظ شيءٍ معه - الّذي هو الماهيّة اللّابشرط القسمي - : وذلك لوضوح صدقها - بما لها من المعنى - بلا عناية التجريد عمّا هو قضيّة الاشتراط والتقييد فيها،

___________________________________________

{وبالجملة الموضوع له اسم الجنس} نائب فاعل«الموضوع له» يعني أنّ الّذي وضع له اسم الجنس {هو نفس المعنى، وصرف المفهوم غير الملحوظ معه شيء أصلاً} ويعبّر عنه في لسان بعض الأعاظم ب- : ماهيت ليسيده {الّذي هو المعنى بشرط شيءٍ} وصف للمعنى الّذي لوحظ معه شيء {ولو كان ذاك الشّيء} الملحوظ {هو الإرسال والعموم البدلي} ف- (الرّجل) موضوع لماهيّة الرّجل فقط لا لماهيّة الرجل المرسلة، حتّى يكون قيد الإرسال جزء المعنى {ولا الملحوظ معه} أي: مع صرف المعنى {عدم لحاظ شيء معه} حتّى يكون موضوعاً لماهيّة الرّجل بشرط عدم لحاظ شيءٍ {الّذي هو الماهيّة اللّابشرط القسمي}.

والفرق بين اللّابشرط المقسمي واللّابشرط القسمي، كما عن التقريرات(1): أنّ اللّابشرط القسمي هي الماهيّة الّتي لم يلحظ معها شيء مقيّدة بلحاظ أنّها لم يلحظ معها شيء، واللّابشرط المقسمي هي الماهيّة الّتي لم يلحظ معها شيء مع خلوّها عن هذا القيد {وذلك} الّذي ذكرنا من عدم أخذ شيء في المعنى حتّى قيد الإرسال {لوضوح صدقها} أي: صدق هذه المطلقات ك- (رجل) و(حيوان) وغيرهما {بما لها من المعنى} الموضوع لها على كلّ فرد من الأفراد {بلا عناية التجريد عمّا هو قضيّة الاشتراط والتقييد فيها} أي: إذا أُطلق لفظ (الرّجل)

ص: 214


1- راجع حقائق الأصول 1: 546.

كما لا يخفى.

مع بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الأفراد، وإن كان يعمّ كلّواحد منها بدلاً أو استيعاباً. وكذا المفهوم اللّابشرط القسمي، فإنّه كلّيّ عقليّ لا موطن له إلّا الذهن، إذ لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها؛ بداهة أنّ مناطه

___________________________________________

على (زيد) مثلاً رأينا أنّه حقيقة وأنّه مستعمل في معناه الحقيقي بلا عناية ومجازيّة، فإنّه لم يجرّد (الرّجل) عن قيد الإرسال والعموم حين استعماله في (زيد) {كما لا يخفى، مع بداهة} أنّ الإرسال لو كان جزء المعنى لزم تجريد (الرّجل) عن هذا الجزء ثمّ استعماله في (زيد) لوضوح {عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الأفراد، وإن كان} المفهوم بشرط العموم {يعمّ كلّ واحد منها} أي: من الأفراد {بدلاً} في ما كان الإطلاق بدليّاً {أو استيعاباً} في ما كان الإطلاق شموليّاً.

والحاصل: أنّه لو اعتبر في معنى المطلق الإرسال لكان استعماله في الفرد مجازاً وبالعناية، فعدم وجداننا المجازيّة والعناية حين الاستعمال يدلّ على عدم الوضع للماهيّة المرسلة، بل للماهيّة فقط.

{وكذا} لم يوضع المطلق ل- {المفهوم اللّابشرط القسمي} الّذي تقدّم أنّ المعنى فيه مقيّد بلحاظ عدم شيء معه {فإنّه كلّيّ عقليّ لا موطن له إلّا الذهن} فيمتنع تعلّق التكليف به {إذ لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها} أي: صدق هذا المفهوم اللّابشرط القسمي على الأفراد الخارجيّة.

والحاصل: أنّ اللّابشرط القسمي موجود ذهنيّ فقط؛ لأنّه مقيّد بلحاظ التجرّد وحيث إنّ لحاظ التجرّد ذهنيّ فالمقيّد به أيضاً ذهني، والأمر الذهني لا يتعلّق به التكليف، فإنّ التكليف يتعلّق بما يمكن أن يكون خارجيّاً وما يكونمقيّداً بالذهن لا يمكن أن يصير خارجيّاً {بداهة أنّ مناطه} أي: مناط الحمل

ص: 215

الاتّحاد بحسب الوجود خارجاً، فكيف يمكن أن يتّحد معها ما لا وجود له إلّا ذهناً؟

ومنها: علم الجنس، ك- (أُسامة). والمشهور بين أهل العربيّة: أنّه موضوع للطّبيعة لا بما هي هي، بل بما هي متعيّنة بالتعيّن الذهني، ولذا يعامَل معه

___________________________________________

{الاتحاد بحسب الوجود خارجاً، فكيف يمكن أن يتّحد معها} أي: مع الأفراد {ما لا وجود له إلّا ذهناً؟}.

فتحصّل أنّ صدق (الرّجل) ونحوه على الفرد ك- (زيد) ونحوه بلا عناية يدلّ على شيئين:

الأوّل: أنّ (الرّجل) ليس موضوعاً للماهيّة بشرط الإرسال - أي: بشرط شيء - وإلّا لزم التجريد حين الحمل على الفرد.

الثّاني: أنّه ليس موضوعاً للماهيّة المقيّدة بلحاظ عدم شيء معه - أي: اللّابشرط القسمي - وإلّا لزم عدم صدق (الرّجل) على الفرد أصلاً؛ لأنّ اللّابشرط القسمي ذهنيّ فلا يصدق على الخارجي، فلم يبق إلّا أن يكون موضوعاً للماهيّة بشرط لا، وهي عبارة أُخرى عن الماهيّة بشرط شيء، إذ قد يعبّر عن الإرسال بشرط؛ لأنّ معنى الإرسال عدم التقييد، ويعبّر عنه بشرط شيء؛ لأنّه تقييد بالإرسال، أو موضوعاً للّابشرط المقسمي وهو المطلوب.

{ومنها} أي: من الألفاظ المطلقة {علم الجنس ك- (أُسامة)} للأسد، و(أُمّ عِرْيَطٍ) للعقرب، و(ثُعالة) للثعلب، وغير ذلك {والمشهور بين أهل العربيّة أنّه موضوعللطبيعة - لا بما هي هي - بل بما هي متعيّنة} ومتميّزة {بالتعيّن الذهني} وبهذا القيد يقع الفرق بينه وبين اسم الجنس، فإنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة فقط، وهذا موضوع للماهيّة المقيّدة بكونها معيّنة في الذهن {ولذا} الّذي ذكر من تقييده بالمعهوديّة الذهنيّة {يعامل معه} أي: مع علم الجنس

ص: 216

معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.

لكن التحقيق: أنّه موضوع لصِرف المعنى بلا لحاظ شيءٍ معه أصلاً - كاسم الجنس - ، والتعريف فيه لفظيّ - كما هو الحال في التأنيث اللفظي - ، وإلّا لما صحّ حمله على الأفراد بلا تصرّف وتأويل؛ لأنّه على المشهور كلّيّ عقليّ، وقد عرفت: أنّه لا يكاد صدقه عليها، مع صحّة حمله عليها بدون ذلك، كما لا يخفى؛ ضرورة أنّ التصرّف في المحمول،

___________________________________________

{معاملة المعرفة بدون أداة التعريف} فيقع مبتدءاً وموصوفاً بالمعرفة ونحوهما، وهذا هو الّذي دعا أهل العربيّة إلى القول بوضعه للماهيّة المعهودة.

والحاصل: أنّ الفرق اللّفظيّ بين علم الجنس واسم الجنس كاشف عن الفرق المعنوي بينهما {لكن التحقيق} عدم صحّة ما ذكروه، بل {أنّه} أي: علم الجنس {موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ شيء معه أصلاً كاسم الجنس} طابِقَ النَّعْلِ بالنَّعْلِ {والتعريف فيه لفظي} فلا يدلّ على كونه موضوعاً للطبيعة المتميّزة، كما ذكره أهل العربيّة {كما هو الحال في التأنيث اللفظي} فكما أنّ كون اللفظ مؤنّثاً استعمالاً لا يدلّ على إعمال خصوصيّة في معناه، كذلككون اللفظ معرفة استعمالاً لا يدلّ على خصوصيّة معنويّة {وإلّا} فلو كان علم الجنس موضوعاً للماهيّة بقيد التعيّن الذهني {لما صحّ حمله على الأفراد} خارجاً {بلا تصرّف وتأويل} بانسلاخ القيد عن المستعمل {لأنّه على المشهور كلّيّ عقلي} إذ ما له جزء عقلي لا يمكن إلّا أن يكون عقليّاً.

{وقد عرفت} في اسم الجنس {أنّه لا يكاد صدقه} أي: صدق الأمر العقلي {عليها} أي: على الأفراد بدون التأويل والانسلاخ {مع} أنّا نرى من بداهة {صحّة حمله عليها بدون ذلك} التأويل {كما لا يخفى} على من راجع وجدانه. {ضرورة أنّ التصرّف في المحمول} ك- (أُسامة) حين يقول: (هذه أُسامة) - مشيراً إلى أسد في

ص: 217

بإرادة نفس المعنى بدون قيده تعسّف، لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه.

مع أنّ وضعَهُ لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده عن خصوصيّته عند الاستعمال، لا يكاد يصدر عن جاهل فضلاً عن الواضع الحكيم.

ومنها: المفرد المعرّف باللّام. والمشهور أنّه على أقسام:

المعرّف بلام الجنس، أو الاستغراق، أو العهد بأقسامه، على نحو الاشتراك بينها لفظاً

___________________________________________

البادية - {بإرادة نفس المعنى} وصرف الطبيعة {بدون قيده} الّذي هو عبارة عن كونه متميّزاً في الذهن {تعسّف لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه} مع أنّه لوكان موضوعاً للمقيّد لزم تجريده في القضايا المتعارفة وارتكاب هذا التعسّف {مع أنّ} في القول ب- {وضعه لخصوص معنى} متميّز ذهناً - كما ذهب إليه أهل العربيّة - إشكالاً آخر، وهو أنّ وضع اللفظ لمعنى {يحتاج إلى تجريده عن خصوصيّته عند الاستعمال}خلاف حكمة الوضع المقصود منه التفهيم والتفهّم عند الاستعمالات بلا تكلّف {لا يكاد يصدر عن جاهل فضلاً عن الواضع الحكيم} واللّه العالم.

{ومنها: المفرد المعرّف باللّام، والمشهور أنّه على أقسام} ستّة أو أكثر: {المعرّف بلام الجنس} نحو {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ}(1)، {أو الاستغراق} نحو {إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ}(2)، {أو العهد بأقسامه} الأربعة:

الذهني: نحو (ادخل السّوق) حيث لا عهد في الخارج.

والذكري: نحو {فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ}(3).

والحضوري: نحو (لا تشتم الرّجل) لمن شتم رجلاً عندك.

والخارجي: نحو (ادخل السّوق) حيث كان عهد {على نحو الاشتراك بينها لفظاً}

ص: 218


1- سورة الفاتحة، الآية: 1.
2- سورة العصر، الآية: 2.
3- سورة المزمل، الآية: 16.

أو معنى.

والظاهر: أنّ الخصوصيّة في كلّ واحد من الأقسام من قِبل خصوص (اللّام) أو من قبل قرائن المقام، من باب تعدّد الدالوالمدلول، لا باستعمال المدخول، ليلزم فيه المجاز

___________________________________________

فيكون (اللّام) موضوعاً تارةً لهذا، وأُخرى لذاك، وهكذا {أو معنًى} بأن يكون موضوعاً بوضع واحد جامعاً بين هذه المعاني السّتّة مثلاً.

قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - : «بأن يكون الوضع للعهد الحاصل من أحد الأسباب المذكورة، ويكون فهم الخصوصيّات مستنداً إلى القرينة»(1).

{والظاهر أنّ الخصوصيّة في كلّ واحد من الأقسام من قبل خصوص (اللّام)} بناءً على أن يكون مشتركاً لفظيّاً {أو من قبل قرائن المقام} بناءً على أن يكون مشتركاً معنويّاً، والمشترك اللفظي والمعنوي وإن احتاج كلاهما إلى القرينة حين الاستعمال في أحد المعاني ولكن الفرق هو أنّ المشترك اللفظي يحتاج إلى القرينة المعيّنة للخصوصيّة الّتي هي مدلولة اللفظ، إذ المفروض أنّه وضع لكلّ معنى مع خصوصيّة، والمشترك المعنوي يحتاج إلى القرينة المعيّنة للخصوصيّة الّتي هي خارجة عن مدلول اللفظ، إذ الفرض أنّه وضع للجامع.

وكيف كان، فيكون دلالة المعرّف على الأقسام المذكورة {من باب تعدّد الدالّ والمدلول} فالمدخول دالّ على الماهيّة و(اللّام) دالّ على الخصوصيّة.

ويمكن بعيداً أن يراد بهذه العبارة أنّه لو كان (اللّام) موضوعاً للجامع يكون الدلالة على الخصوصيّة من باب تعدّد الدالّ والمدلول، ف-(اللّام) يدلّ على العهد مثلاً والقرينة تدلّ على الخصوصيّة و{لا} تكون الخصوصيّة في كلّ واحد من الأقسام {باستعمال المدخول} كأن يستعمل كلمة (رجل) تارةًفي الجنس، وأُخرى في الاستغراق، وثالثةً في العهد {ليلزم فيه المجاز} لو كان موضوعاً لواحدٍ

ص: 219


1- حقائق الأصول 1: 551.

أو الاشتراك، فكان المدخول على كلّ حال مستعملاً في ما يستعمل فيه غير المدخول.

والمعروف: أنّ (اللّام) تكون موضوعة للتعريف، ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهني.

___________________________________________

منها واستعمل في الآخر بالعلاقة {أو الاشتراك} اللفظي لو كان موضوعاً بأوضاع متعدّدة لتلك المعاني، أو المعنوي لو كان موضوعاً بوضع واحد للجامع {فكان المدخول} وهو (رجل) مثلاً {على كلّ حال مستعملاً في ما يستعمل فيه غير المدخول} طابق النّعل بالنّعل.

{والمعروف} بين أهل العربيّة {أنّ (اللّام) تكون موضوعة للتعريف ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهني} فإنّ الفرد لا يتعيّن ب-(اللّام) وإنّما المتعيّن هو الجنس، إذ العهد الذهني عبارة عمّا إذا أتى المعرّف ب-(لام) الحقيقة لواحد من الأفراد باعتبار عهديّته في الذهن، وذلك عند قيام القرينة على أن ليس القصد إلى نفس الحقيقة من حيث هي هي، بل من حيث الوجود لا من حيث وجودها في ضمن جميع الأفراد، بل في بعضها، فإنّهم قسّموا المعرّف ب-(اللّام) إلى ما يراد به الأفراد وهو المسمّى ب- : الاستغراق، المساوق لكلمة (كل) وما يراد به الحقيقة.

ثمّ قسّموا الثّاني إلى ما يراد به نفس الحقيقة وهو المسمّى ب- : الجنس، المساوق لعلم الجنس، وما يراد به حصّة منها.

ثمّ قسّموا الثّاني إلى ما يراد به حصّة معيّنة المسمّى ب- : العهد الخارجي، المساوق لعلم الشّخص، وما يراد به حصّة غير معيّنة المسمّى ب- : العهد الذهني،المساوق للنكرة.

فالأقسام كلّها مفيدة للتعيين إلّا العهد الذهني، فإنّ الأوّل يعيّن جميع الأفراد، والثّاني الجنس، والثّالث حصّة معيّنة من الحقيقة نحو (اشتريت فرساً ثمّ بعت الفرس).

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه هنا جرى على اصطلاح أهل البيان، كما أنّ ما ذكرناه

ص: 220

وأنت خبير بأنّه لا تعيّن في تعريف الجنس، إلّا الإشارة إلى المعنى المتميّز بنفسه م-ن بين المعاني ذهناً. ولازمه أن لا يصحّ حمل المعرّف ب-(اللّام) - بم-ا هو معرَّفٌ - على الأفراد؛ لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلّا الذهن، إلّا بالتجريد. ومعه لا فائدة في التقييد.

مع أنّ التأويل والتصرّف في القضايا المتداولة في العرف غيرُ خالٍ عن التعسّف. هذا.

مضافاً إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه - بل لا بدّ من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرّف ب-(اللّام)

___________________________________________

في أوّل البحث جرى على مصطلح النّحاة، فتدبّر.

{وأنت خبير بأنّه لا تعيّن في تعريف الجنس إلّا الإشارة إلى المعنى المتميّز بنفسه من بين المعاني ذهناً} فمعنى وضعه له كونه موضوعاً للمعنى المتميّز {ولازمه أن لا يصحّ حمل المعرّف ب-(اللّام) بما هو معرّف على الأفراد} الخارجيّة {لما عرفت} في المبحث السّابق {من امتناع الاتحاد}في الأفراد الخارجيّة {مع ما} أي: مع الجنس المتميّز الذهني الّذي {لا موطن له إلّا الذهن} فإنّ الأمر الذهني بما هو ذهني لا يمكن أن ينطبق على الخارجيّات {إلّا بالتجريد} عن الخصوصيّة الذهنيّة {ومعه} أي: مع لزوم التجريد في الانطباق {لا فائدة في التقييد} أي: لا فائدة في تقييد الواضع المعنى بالخصوصيّة الذهنيّة، فلا يقيّده لفرض كونه حكيماً، كما سبق، وسيأتي في قوله: «مضافاً» الخ تَوضِيحُهُ.

{مع أنّ التأويل والتصرّف} بتجريد المعنى عن جزئه {في القضايا المتداولة في العرف} بالتزام أنّهم يجرّدون اللّفظ ثمّ يحملونه على الفرد الخارجي {غير خالٍ عن التعسّف} لما سبق من أنّا إذا راجعنا وجداننا لم نجد هذا التصرّف عند الاستعمال.

{هذا مضافاً إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه، بل} يكون مضرّاً؛ لأنّه {لا بدّ من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرّف ب-(اللّام)}

ص: 221

أو الحمل عليه - كان لغواً، كما أشرنا إليه.

فالظّاهر: أنّ (اللّام) مطلقاً تكون للتزيين، كما في لفظ (الحسن) و(الحسين). واستفادة الخصوصيّات إنّما تكون بالقرائن الّتي لا بدّ منها لتعيينها على كلّ حال، ولو قيل بإفادة (اللّام) للإشارة إلى المعنى. ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيّات لا حاجة إلى تلك الإشارة، لو لم تكن مخلّة، وقد عرفت إخلالها، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

على الفرد الخارجي نحو (زيد الرّجل) {أو الحمل عليه} نحو (الرّجل زيد) {كان لغواً} ينافيه حكمة الوضع {كما أشرنا إليه} غير مرّة.

{فالظاهر أنّ (اللّام) مطلقاً} بجميع أقسامه حتّى العهد الذهني {تكون للتزيين كما في لفظ (الحسن) و(الحسين)} كما ذهب إليه نجم الأئمّة الشّيخ الرّضي(قدس سره)(1).

نعم، هو استثنى العهد الذهني، فإنّه ذهب إلى أنّ الإشارة الذهنيّة إلى فردٍ ما مستندة إلى (اللّام) لعدم دلالة المدخول عليه، ولكنّه غفل عن أنّه بسبب القرينة الخارجيّة أيضاً، كما حكي عن بعض كتب البيان، ف-(اللّام) في الكلّ للتزين {واستفادة الخصوصيّات إنّما تكون بالقرائن الّتي لا بدّ منها لتعيينها} أي: تعيين الخصوصيّات {على كلّ حال} أي: سواء قلنا باشتراكه معنويّاً، أو لفظيّاً، أو كونه للتزيين، أو قلنا بالتفصيل، كما هو مذهب الرّضي.

وقوله: {ولو قيل بإفادة (اللّام) للإشارة إلى المعنى} وصليّة مرتبطة بقوله: «على كلّ حال» {ومع الدلالة عليه} أي: على المراد - المفهوم من الكلام السّابق - {بتلك الخصوصيّات} المفهومة من القرائن {لا حاجة إلى تلك الإشارة} الذهنيّة {لو لم تكن مخلّة، وقد عرفت إخلالها، فتأمّل جيّداً} فمع إخلالها - كما عرفت من التجريدبناءً عليها - يكون عدم الاحتياج إليها أشدّ.

ص: 222


1- شرح كافية ابن الحاجب 3: 236.

وأمّا دلالة الجمع المعرّف ب-(اللّام) على العموم

___________________________________________

والحاصل: أنّه حيث لا بدّ من القرائن لتعيين المراد لا وجه للقول بالإشارة الذهنيّة، فإنّه تبعيد للطريق، إذ الأمر دائر بين أن يقال: العهد الذهني - مثلاً - مستفاد من (اللّام)، وكون (اللّام) للعهد الذهني يعرف بالقرينة، وبين أن يقال العهد الذهني يعرف بالقرينة، لكنّه ربّما يورد على ما ذهب إليه الرّضي(رحمة الله) والمصنّف(رحمة الله) بأنّه لو كان (اللّام) لمجرّد التزيين واستناد الأقسام إلى القرينة لزم عدم الفرق مع وجود القرينة بين المعرّف وغيره، مع بداهة الفرق، فإنّ قولنا: (اشتريت فرساً ثمّ بعت الفرس) لا يساوي قولنا: (ثمّ بعت فرساً) وإن عرف من الخارج أنّ المبيع هو المشتري، بل ربّما يعدّ هذا النّحو من الجملة غلطاً، فتدبّر.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «ولمّا كان هنا مظنّة سؤال، وهو أنّ إنكار إفادة (اللّام) للتعريف وكونها للتزيين ينافي ما اتفق عليه أئمّة الأدب من إفادة الجمع المحلّى ب-(اللّام) للعموم حيث إنّه لا سبب في ذلك إلّا (اللّام)، فإنّ الفرض عدم وضع المدخول لذلك ولا قرينة ظاهراً كي يستند العموم إليه، فأجاب المصنّف(رحمة

الله) بقوله: {وأمّا دلالة الجمع المعرّف ب-(اللّام) على العموم}»(1) الخ.

وتقريب الإشكال - على نحو يناسب سوق الجواب - هو: أنّ قولكم: «اللّام للتزيين مطلقاً» غير صحيح، إذ من الواضح أنّ المدخول لا يدلّ على الاستغراق بدون (اللّام) فدلالته عليه إنّما يكون ب-(اللّام).ووجه دلالة (اللّام) على العموم: أنّه يدلّ على التعيين وحيث لا تعيين في الجمع إلّا المرتبة العليا منه وهي الاستغراق، إذ له في مراتب الجمع تعيين ما، وهو أنّه آخر القدر الممكن، يدلّ على الاستغراق.

ص: 223


1- شرح كفاية الأصول 1: 343.

- مع عدم دلالة المدخول عليه - : فلا دلالة فيها على أنّها تكون لأجل دلالة (اللّام) على التعيين - حيث لا تعيين إلّا للمرتبة المستغرقة لجميع الأفراد - ؛ وذلك لتعيّن المرتبة الأُخرى، وهي أقلّ مراتب الجمع، كما لا يخفى.

فلا بدّ أن يكون دلالته عليه مستندة إلى وضعه كذلك لذلك، لا إلى دلالة (اللّام) على الإشارة إلى المعيّن، ليكون به التعريف.

وإن أبيت إلّا عن استناد الدلالة عليه إليه، فلا محيص عن دلالته على الاستغراق بلا توسّط الدلالة على التعيين،

___________________________________________

والجواب: أنّ دلالة الجمع المحلّى على العموم {مع عدم دلالة المدخول عليه، فلا دلالة فيها على أنّها تكون لأجل دلالة (اللّام) على التعيين حيث لا تعيين إلّا للمرتبة المستغرقة لجميع الأفراد} كما توهّم.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّ الدلالة ليست مستندة إلى ما ذكره هذا القائل؛ لأنّه لا يستقيم بعض مقدّمات مطلبه وهو قوله: «حيث لا تعيين» الخ، فإنّه لا نسلّم انحصار التعيين في المرتبة الأخيرة {لتعيّن المرتبة الأُخرى وهي أقلّ مراتب الجمع، كما لا يخفى} فهذا الوجه يقتضي تردّد المحلّى بين أقلّ مراتب الجمع وأكثرها لا تعيّن الثّاني {فلا بدّ أن يكون دلالته} أي: الجمع المحلّى {عليه} أي: على العموم {مستندة إلى وضعه كذلك} أي: مجموعاً منالداخل والمدخول {لذلك} العموم والشّمول {لا إلى دلالة (اللّام) على الإشارة إلى المعيّن} بضميمة أنّه لا تعيّن إلّا للعموم {ليكون به} أي: ب-(اللّام) {التعريف} ويثبت قول علماء الأدب.

{وإن أبيت إلّا عن استناد الدلالة عليه} أي: على العموم {إليه} أي: إلى (اللّام) فقط، لا كما ذكرنا من استناده إلى المجموع {فلا محيص عن دلالته} أي: (اللّام) {على الاستغراق بلا توسّط الدلالة} (للّام) {على التعيين} لأنّه يشبه الأكل من القفا، إذ الأمر دائر بين أن يقال: إنّ (اللّام) يدلّ على التعيين والتعيين منحصر في

ص: 224

فلا يكون بسببه تعريف إلّا لفظاً، فتأمّل جيّداً.

ومنها: النّكرة مثل: (رجل) في {وَجَآءَ رَجُلٞ مِّنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ}(1) أو، في (جئني برجل).

ولا إشكال أنّ المفهوم منها في الأوّل - ولو بنحو تعدّد الدال والمدلول - هو: الفرد المعيّن في الواقع، المجهولُ عند المخاطب، المحتملُ الانطباق على غير واحد من أفراد الرّجل.

___________________________________________

الاستغراق ف-(اللّام) يدلّ على الاستغراق، وبين أن يقال: إنّ (اللّام) يدلّ على الاستغراق ابتداءً {فلا يكون بسببه تعريف إلّا لفظاً} كما حكي عن نجم الأئمّة في شرحه على الكافية {فتأمّل جيّداً}.

وبهذا كلّه تبيّن أنّه لا شاهد لما ذكروه من دلالة (اللّام) على التعريف لا فيالجمع المحلّى ولا في العهد الذهني ولا في غيرها، بل (اللّام) مطلقاً للتزيين، والخصوصيّات مستفادة من القرائن الكلاميّة أو الحاليّة، واللّه سبحانه أعلم.

{ومنها: النّكرة} سواء كانت معيّنة في الواقع غير معيّن عند المتكلّم والمخاطب كما لو علم بمجيء شخص فقط فقال: جاء شخص، أو كان معيّناً في الواقع وعند المتكلّم فقط {مثل: (رجل) في {وَجَآءَ رَجُلٞ مِّنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ} يَسۡعَىٰ} {أو} غير معيّن مطلقاً ك- (رجل) {في (جئني برجل)} أو كان معيّناً عند المخاطب دون المتكلّم عكس الثّاني نحو (أيّ رجل جاءك).

{ولا إشكال} في {أنّ المفهوم منها في الأوّل} في المتن {ولو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول - هو الفرد المعيّن في الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق على غير واحد من أفراد الرّجل} والمراد بتعدّد الدالّ والمدلول هو أنّ النّكرة تدلّ على نفس الطبيعة، والتنوين الداخل عليها تدلّ على الوحدة، فمفاد النّكرة المنوّنة هو

ص: 225


1- سورة القصص، الآية: 20.

كما أنّه في الثّاني هي: الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة، فيكون حصّة من الرّجل، ويكون كليّاً ينطبق على كثيرين، لا فرداً مردّداً بين الأفراد.

وبالجملة: النّكرة - أي: ما بالحمل الشّائع يكون نكرةً عندهم - إمّا هو فرد معيّنٌ في الواقع غير معيّن للمخاطب، أو حصّة كليّة، لا الفرد المردّد بين الأفراد؛

___________________________________________

الطبيعة المقيّدة بقيد الوحدة.

وبهذا ظهر الفرق بين النّكرة واسم الجنس، فاسم الجنس هو النّكرة قبلدخول التنوين والنّكرة هي اسم الجنس الداخل عليه تنوين التنكير.

{كما أنّه} أي: المفهوم من النّكرة {في الثّاني} في المتن {هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة فيكون} المطلوب {حصّة من الرّجل ويكون كليّاً ينطبق على كثيرين} بحيث يصحّ إتيان كلّ فرد يصدق عليه هذه الطبيعة {لا فرداً مردّداً بين الأفراد} النّفي يرتبط بأصل المطلب، يعني أنّ النّكرة مطلقاً لا تكون فرداً، بل إمّا أن تكون فرداً معيّناً في الواقع غير معيّن عند أحدهما أو كليهما، وإمّا أن تكون حصّة قابلة الانطباق على كثيرين.

{وبالجملة النّكرة، أي: ما بالحمل الشّائع} الصّناعي {يكون نكرة} مقابل ما بالحمل الأوّلي يكون نكرة وهو مفهوم النّكرة، إذ كلّ شيء بالحمل الأوّلي يكون هو نفسه وبالحمل الشّائع يكون أفراده.

مثلاً: المبتدا بالحمل الأوّلي هو مفهوم المبتدا، وبالحمل الشّائع هو (زيد) في (زيد قائم)، وهكذا الجنس بالحمل الأوّلي هو مفهوم الجنس، وبالحمل الشّائع هو (الحيوان) {عندهم، إمّا هو فرد معيّن في الواقع غير معيّن للمخاطب} نحو (جاء رجل) أو للمتكلّم نحو (أيّ رجل عندك) أو لكليهما كما لو قلنا: (فعل شخص كذا) مع عدم علمنا به {أو حصّة كليّة} كما في ما لو وقع حيّز الأمر والنّهي وشبههما، و{لا} يكون النّكرة {الفرد المردّد بين الأفراد} أصلاً.

ص: 226

وذلك لبداهة كون لفظ (رجل) في (جئني برجل) نكرة، مع أنّه يصدق على كلّ من جيءبه من الأفراد، ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره، كما هو قضيّة الفرد المردّد، لو كان هو المراد منها؛ ضرورة أنّ كلّ واحد هو هو، لا هو أو غيره.

فلا بدّ أن تكون النّكرة الواقعة في متعلّق الأمر، هو الطبيعي المقيّد بمثل مفهوم الوحدة، فيكون كليّاً قابلاً للانطباق، فتأمّل جيّداً.

إذا عرفت ذلك، فالظاهر: صحّة إطلاق المطلق عندهم - حقيقةً - على اسم الجنس والنّكرة بالمعنى الثّاني، كما يصحّ

___________________________________________

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّه لا تكون بمعنى الفرد المردّد {لبداهة كون لفظ (رجل) في (جئني برجل) نكرة مع أنّه يصدق على كلّ من جيء به من الأفراد، ولا يكاد يكون واحد منها} أي: من تلك الأفراد القابلة الانطباق عليها {هذا أو غيره، كما هو} أي: هذا أو غيره {قضيّة الفرد المردّد لو كان هو المراد منها} أي: من النّكرة، يعني لو كان المراد من النّكرة الفرد لزم أن يصدق على من يأتي به هذا أو غيره وإنّما قلنا بعدم صدق هذا العنوان على أيّ فرد من أفراد الرّجل ل- {ضرورة أنّ كلّ واحد هو هو، لا هو أو غيره} مثلاً: (زيد) هو هو لا أنّه (زيد) أو (عمرو).

وعلى ما ذكرنا من عدم معقوليّة الفرق المردّد {فلا بدّ أن تكون النّكرة الواقعة في متعلّق الأمر} أو النّهي في مثل: (لا تضرب رجلاً منهم) في ما أراد ضرب الجميع إلّا واحداً {هو الطبيعي المقيّد بمثل مفهوم الوحدة، فيكون كليّاً قابلاً للانطباق} على أيّ فرد من الأفرادالمتكثّرة {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك المرام.

{إذا عرفت ذلك} الّذي ذكرنا من معنى اسم الجنس والنّكرة {ف-} نقول {الظّاهر صحّة إطلاق المطلق عندهم حقيقة على اسم الجنس} الموضوع لصرف الطبيعة {والنّكرة بالمعنى الثّاني} الّتي يراد بها الحصّة من الجنس مقيّدة بقيد الوحدة القابلة الانطباق على كثيرين نحو (جئني برجل) {كما يصحّ} تسميتها

ص: 227

لغةً. وغيرُ بعيدٍ أن يكون جريهم في هذا الإطلاق على وِفْق اللغة، من دون أن يكون لهم فيه اصطلاح على خلافها، كما لا يخفى.

نعم، لو صحّ ما نسب إلى المشهور(1)،

من كون المطلق عندهم موضوعاً لما قيّد بالإرسال والشّمول البدلي، لما كان ما أُريد منه الجنس أو الحصّة عندهم بمطلق، إلّا أنّ الكلام في صدق النّسبة.

ولا يخفى: أنّ المطلق بهذا المعنى لطروّ التقييد غيرُ قابل؛ فإنّ ما له من الخصوصيّة ينافيه

___________________________________________

بالمطلق {لغةً، وغير بعيد أن يكون جريهم في هذا الإطلاق} أي: تسمية النّكرة واسم الجنس مطلقاً {على وفق اللغة من دون أن يكون لهم فيه} أي: في لفظ المطلق {اصطلاح} جديد {على خلافها} أي: خلاف اللّغة {كما لا يخفى} لعدم ثبوت تضييق أو توسعة في معنى المطلق.

{نعم، لو صحّ ما نسب إلى المشهور منكون المطلق عندهم موضوعاً لما قيّد بالإرسال والشّمول البدلي} حتّى يكون لا بشرطاً قسميّاً لا مقسميّاً {لما كان ما أُريد منه الجنس} ك- (رجل) {أو الحصّة} ك- (جيء برجل) {عندهم بمطلق} فلا يكونان حينئذٍ من أقسام المطلق، لعدم تحقّق الإرسال في اسم الجنس، ولا النّكرة لما تقدّم من أنّ تقيّدهما بقيد الإرسال موجب لمحاذير متعدّدة {إلّا أنّ الكلام في صدق النّسبة} إلى المشهور؛ لأنّه لم يعلم منهم أخذ الإرسال في مفهوم المطلق، بل معاملتهم لاسم الجنس والنّكرة معاملة المطلق أقوى شاهد على عدم صدق النّسبة.

{ولا يخفى أنّ المطلق بهذا المعنى} - المنسوب إلى المشهور - أعني: المقيّد بقيد الإرسال {لطروّ التقييد غير قابل، فإنّ ما له من الخصوصيّة} أي: ما للمطلق من خصوصيّة الإرسال الّذي هو جزء معناه الموضوع له {ينافيه} أي: ينافي التقييد

ص: 228


1- قوانين الأصول 1: 321.

ويعانده. وهذا بخلافه بالمعنيين، فإنّ كلّاً منهما له قابل؛ لعدم انثلامهما بسببه أصلاً، كما لا يخفى.

وعليه لا يستلزم التقييد تجوّزاً في المطلق؛ لإمكان إرادة معنى لفظه منه وإرادةِ قيده من قرينة حال أو مقال، وإنّما استلزمه لو كان بذلك المعنى.

نعم، لو أُريد من لفظه، المعنى المقيّد،

___________________________________________

{ويعانده} نعم، يمكن التقييد بعد التجوّز بحذف قيد الإرسال.

{وهذا بخلافه بالمعنيين} أي: بخلاف المطلق بمعنى نفس الطبيعة فقط في اسم الجنس، وبمعنى الطبيعة المقيّدة بقيد الوحدة فيالنّكرة {فإنّ كلّاً منهما} أي: من المعنيين {له} أي: للتقييد {قابل لعدم انثلامهما بسببه} أي: بسبب التقييد {أصلاً} إذ صرف الطبيعة قابلة للتقييد والتضييق، فإنّ اللّابشرط يجتمع مع ألف شرط، وكذا الطّبيعة المقيّدة بالوحدة {كما لا يخفى} فيقيّدان بقيد خارج عن معناهما، كالإيمان في الرّقبة.

{وعليه} أي: بناءً على ما ذكرنا من عدم أخذ قيد الإرسال في معنى المطلق {لا يستلزم التقييد تجوّزاً في المطلق} بل المطلق بعد التقييد يبقى على ما كان عليه من الحقيقة {لإمكان إرادة معنى لفظه} أي: لفظ المطلق {منه وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال} على نحو تعدّد الدالّ والمدلول.

مثلاً: لو قال: (أعتق رقبة مؤمنة) قلنا إنّ الرّقبة مستعملة في معناها الشّامل للكافرة والمؤمنة، والمؤمنة مستعملة في معناها، لكن مجموعهما يفيدان أنّ مراد المولى هو المؤمنة فقط {وإنّما استلزمه} أي: استلزم التقييد للتجوّز {لو كان} المطلق {بذلك المعنى} المنسوب إلى المشهور؛ لأنّه لا بدّ من انسلاخه عن قيد الإرسال أوّلاً حتّى يصير قابلاً للتقييد. ومن المعلوم أنّ حذف جزء المعنى موجب للمجازيّة.

{نعم، لو أُريد من لفظه} أي: لفظ المطلق {المعنى المقيّد} كأن يراد بلفظ الرّقبة

ص: 229

كان مجازاً مطلقاً، كان التقييد بمتصل أو منفصل.

فصل: قد ظهر لك أنّه لا دلالة لمثل (رجل) إلّا على الماهيّة المبهمة وضعاً، وأنّ الشّياع والسّريان - كسائر الطوارئ - يكون خارجاً عمّا وضع له.فلا بدّ في الدلالة عليه من قرينة حال، أو مقال، أو حكمة.

وهي تتوقّف على مقدّمات:

___________________________________________

المؤمنة فقط، ويجعل لفظ (مؤمنة) قرينة على المراد {كان مجازاً مطلقاً} بالمعنى الّذي ذكرنا وبالمعنى المنسوب إلى المشهور، إذ الرّقبة لم توضع للمؤمنة فقط، بل وضعت للطبيعة على قولنا، وللطبيعة المرسلة على قول المشهور، وعلى كلا التقديرين فهي مستعملة في غير معناها الموضوع لها، ولا يفرق حينئذٍ بين ما {كان التقييد بمتصل} كأن يقول: (أعتق رقبة مؤمنة) {أو منفصل} كأن يقول: (أعتق رقبة) ثمّ يقول بعد مدّة: (الرّقبة الّتي تعتقها يلزم أن تكون مؤمنة).

[فصل مقدّمات الحكمة]

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن، مقدّمات الحكمة

{فصل} في بيان معنى مقدّمات الإطلاق وقرينة الحكمة واحتياج المطلق إليها غالباً {قد ظهر لك أنّه لا دلالة لمثل (رجل) إلّا على الماهيّة المبهمة وضعاً} والطبيعة المجرّدة {وأنّ الشّياع والسّريان كسائر الطوارئ} من التقييد وغيره {يكون خارجاً عمّا وضع له} المطلق {فلا بدّ في الدلالة عليه} أي: على الشّياع والسّريان {من قرينة حال أو مقال} تدلّ على أنّ المراد باسم الجنس أو النّكرة الإطلاق والشّيوع، وهاتان القرينتان نادرتان ولهذا لم يتعرّض المصنّف لتفصيلهما مع أنّهما واضحتان لكلّ أحد، وإنّما الكلام في الثّالث من القرائن المشار إليها بقوله: {أو} قرينة {حكمة وهي تتوقّف على مقدّمات} ثلاثة:

ص: 230

إحداها: كون المتكلّم في مقام بيانتمام المراد، لا الإهمال أو الإجمال.

ثانيتها: انتفاء ما يوجب التعيين.

ثالثتها: انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب،

___________________________________________

{إحداها: كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا} في مقام {الإهمال أو الإجمال} وأصل تشريع الحكم بلا قصد لبيان خصوصيّات المطلب، وقد تقدّم في بعض المباحث السّابقة الفرق بينهما، وذكره العلّامة الرّشتي(رحمة الله) هاهنا، فراجع(1).

{ثانيتها: انتفاء ما يوجب التعيين} بأن لا تكون هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة تدلّ على أنّ مراد المولى من هذا المطلق هو المقيّد وإلّا لم ينعقد الإطلاق، مثلاً: لو قال المولى: (أعتق رقبة) وكانت هناك قرينة على أنّ المراد بالرقبة هو المؤمنة لم ينعقد الإطلاق.

{ثالثتها: انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب} بأن لم يكن للفظ الانصراف إلى بعض الأفراد بحيث يغيّر وجهة اللفظ حين المخاطبة حتّى يصحّ اعتماد المولى عليه.

مثلاً: لو قال الإمام(علیه السلام): «مداد العلماء أفضل من دماء الشّهداء»(2) انصرف اللفظ إلى العالم باللّه لا العالم بالهيئة والهندسة وأمثالهما.

والحاصل: أنّ من مقدّمات الإطلاق أن يكون اللفظ متساوي الأقدام بالنسبة إلى الأفراد حين التخاطب، أي: يكون اللفظ بالنسبة إليها على حدّ سواء عندالمتكلّم والمخاطب وإن كان مختلف الأقدام عند غيرهم.

ص: 231


1- شرح كفاية الأصول 1: 346.
2- قال الإمام الصادق(علیه السلام): «إذا كان يوم القيامة جمع اللّه عز وجل الناس في صعيد واحدٍ، ووضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء» من لا يحضره الفقيه 4: 398.

ولو كان المتيقّن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام في البين، فإنّه غير مؤثّر في رفع الإخلال بالغرض، لو كان بصدد البيان، كما هو الفرض.

فإنّه - في ما تحقّقت - لو لم يرد الشّياعَ لأخلّ بغرضه؛ حيث إنّه لم ينبّه مع أنّه بصدده.

___________________________________________

{ولو كان المتيقّن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام} أي: مقام التخاطب {في البين} كما لو كان بعض الأفراد أولى من بعض لكونه أتمّ وأمل، فإنّه غير مضرّ بالإطلاق.

مثلاً: لو قال أحد الشّيعة لآخر: (ترحّم على الأموات من العلماء) فإنّ المتيقّن منهم بحسب الأكمليّة مثلاً الشّيخ المرتضى ونحوه، ولكن هذا ليس بحيث يوجب تغيير وجه اللفظ عن المتكلّم والمخاطب حال التخاطب حتّى لا يشمل الكلام للعلماء المفضولين {فإنّه} أي: وجود العدد المتيقّن بالنسبة إلى الخارج عن مقام التخاطب {غير مؤثّر في رفع الإخلال بالغرض} بل يبقى الإخلال بالغرض على حاله {لو كان بصدد البيان، كما هو الفرض} فإنّ وجود هذا القدر المتيقّن ليس صالحاً لكونه بياناً {فإنّه} أي: المتكلّم {في ما تحقّقت} المقدّمات بأن كان في صدد البيان ولم يكن ما يوجب التعيين ولم يكن قدر متيقّن في مقام التخاطب {لو لم يرد الشّياع} والسّريان اعتماداً على القدر المتيقّن بالنظر إلى الخارج عن مقام التخاطب {لأخلّ بغرضه، حيث إنّه} أي: المتكلّم {لم ينبّه} على الغرض {مع أنّه بصدده} أي: بصدد بيان الغرض.وقوله: «فإنّه» الخ تعليل لقوله: «فإنّه غير مؤثّر» ويحتمل أن يكون علّة لأصل المطلب وهو أنّه مع تماميّة المقدّمات ينعقد الإطلاق، وعليه فيلغو قولنا اعتماداً على القدر المتيقّن بالنظر إلى الخارج عن مقام التخاطب.

وكيف كان، فالمقدّمات إذا تمّت كشفت بطرق الإنّ عن إرادة المتكلّم الإطلاق؛

ص: 232

وبدونها لا يكاد يكون هناك إخلال به؛ حيث لم يكن مع انتفاء الأُولى إلّا في مقام الإهمال أو الإجمال، ومع انتفاء الثّانية كان البيان بالقرينة؛ ومع انتفاء الثّالثة لا إخلال بالغرض لو كان المتيقّن تمام مراده؛ فإنّ الفرض أنّه بصدد بيان تمامه وقد بيّنه، لا بصدد بيان أنّه تمامه،

___________________________________________

لأنّه لو لم يرد الإطلاق لكان مخلّاً بفرضه، وهو قبيح عقلاً {وبدونها} أي: بدون تماميّة المقدّمات - بأن انتفى جميعها أو بعضها - {لا يكاد يكون هناك إخلال به} أي: بالغرض لو لم يرد الإطلاق والسّريان؛ لأنّه لا يجوز للمخاطب فهم الإطلاق مع عدم تماميّتها {حيث لم يكن} المولى {مع انتفاء} المقدّمة {الأُولى} وهي كونه في مقام بيان تمام المراد {إلّا في مقام الإهمال أو الإجمال} فلا يحقّ للعبد حينئذٍ التمسّك بالإطلاق {ومع انتفاء} المقدّمة {الثّانية} وهي انتفاء ما يوجب التعيين {كان البيان بالقرينة} فاللّازم الأخذ بمفاد القرينة لا الأخذ بالإطلاق {ومع انتفاء} المقدّمة {الثّالثة} وهي انتفاء القدر المتيقّن {لا إخلال بالغرض} بل اللّازم الأخذ بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب، فلوتركه وأخذ بالإطلاق كان أخذ بخلاف ما ألقاه المولى.

والحاصل: أنّه لا إخلال بالغرض {لو كان المتيقّن تمام مراده} أي: تمام مراد المولى {فإنّ الفرض أنّه بصدد بيان تمامه} أي: تمام المراد {وقد بيّنه} بواسطة كونه متيقّناً، إذ قد يكون البيان بواسطة اللفظ، وقد يكون بواسطة الاعتماد على القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

نعم، لو أراد الفرد المشكوك أيضاً في ما كان هناك قدر متيقّن لزم الإخلال بالفرض؛ لأنّه لا يفهم من كلامه إلّا القدر المتيقّن {لا بصدد بيان أنّه تمامه} توضيحه: أنّ المولى قد يكون بصدد بيان المراد وفي هذا الحال يصحّ الاعتماد على القدر المتيقّن، إذ لا يفهم العبد إلّا القدر المتيقّن فقط وهذا هو مراد المولى.

ص: 233

كي أخلّ ببيانه، فافهم.

ثمّ لا يخفى عليك: أنّ

___________________________________________

وقد يكون بصدد بيان أنّ القدر المتيقّن تمام المراد بوصف التماميّة، وحينئذٍ لا يصحّ الاعتماد على القدر المتيقّن؛ لأنّ العبد إنّما يفهم القدر المتيقّن ولا يفهم وصف التماميّة، وحيث إنّه لا فائدة غالباً في بيان صفة التماميّة لا مانع من الاعتماد على القدر المتيقّن لبيان المراد، إذ ليس بصدد أنّه تمام المراد {كي} يقال إنّه {أخلّ ببيانه} أي: بيان أنّه تمام المراد {فافهم}.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش ما لفظه: «إشارة إلى أنّه لو كان بصدد بيان أنّه تمامه ما أخلّ ببيانه، بعد عدم نصب قرينة على إرادة تمام الأفراد، فإنّه بملاحظته يفهم أنّ المتيقّن تمام المراد، وإلّا كان عليه نصب القرينة على إرادة تمامها وإلّا قد أخلّ بغرضه.

نعم، لا يفهم ذلك إذا لم يكن إلّا بصدد بيان أنّ المتيقّن مراد ولم يكن بصددبيان أنّ غيره مراد، أو ليس بمراد قبالاً للإجمال أو الإهمال المطلقين، فافهم فإنّه لا يخلو عن دقّة»(1)،

انتهى.

وغرضه(رحمة الله) التفصيل بين ما كان بصدد بيان أنّ غير المتيقّن ليس بمراد، وبين ما لم يكن بصدد ذلك، بل في مقام الإهمال أو الإجمال بالنسبة إلى غير القدر المتيقّن، ففي الأوّل يصحّ الاعتماد على المتيقّن لبيان المراد ولبيان أنّه تمام المراد، وفي الثّاني يصح الاعتماد على المتيقن لبيان المراد لا لبيان أنه تمام المراد، وفي الحقيقة أنّ قوله: «فافهم» إشكال على إطلاق قوله: «كي أخلّ ببيانه».

{ثمّ لا يخفى عليك أنّ} البيان على قسمين:

الأوّل: بيان الحكم الواقعي وهذا هو المراد في قولهم: «تأخير البيان عن وقت

ص: 234


1- حقائق الأصول 1: 557.

المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده: مجرّدُ بيان ذلك وإظهاره وإفهامه، ولو لم يكن عن جدّ، بل قاعدة وقانوناً؛ لتكون حجّة في ما لم تكن حجّةٌ أقوى على خلافه، لا البيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة،

فلا يكون الظفر بالمقيّد - ولو كان مخالفاً -

___________________________________________

الحاجة قبيح» يريدون بذلك أنّ تأخير بيان الواقع المتعلّق به الغرض قبيح لاستلزامه نقض الغرض.

الثّاني: بيان الحكم مطلقاً الأعم من الظاهري والواقعي، حيث يكون المولى في مقام جعل القانون وضرب القاعدة ليرجع إليه العبد حين الشّك ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه.إذا عرفت هذا قلنا: {المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده} هو المعنى الثّاني، أي: {مجرّد بيان ذلك وإظهاره وإفهامه ولو لم يكن عن جدّ} ومطابقة واقع {بل} كان {قاعدة وقانوناً} وإنّما ألقاه بنحو العموم مع أنّه ليس بمراد جدّي {لتكون حجّة في ما لم تكن حجّة أقوى على خلافه} ليرجع إليه العبد في مقام الشّك ولا يبقى متحيّراً {لا البيان} بالمعنى الأوّل، وهو المذكور {في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة} المعبّر عنه بالبيان الجدّي الحقيقي.

والفرق بين المعنيين بالنسبة إلى ما نحن فيه أنّه لو كان هناك قيد فالإطلاق باقٍ بحاله على الثّاني، ويقع التعارض بين المطلق والمقيّد ويقدّم المقيّد بالقوّة؛ لأنّ المراد الاستعمالي ضرباً للقانون لا ينثلم بمخالفة المراد الجدّي له، فالإطلاق باقٍ على حاله وإن خرج عنه المقيّد، بخلاف الأوّل، فإنّه ينثلم الإطلاق بوجود المقيّد، لوضوح انثلام الإطلاق المبيّن للمراد الجدّي بظهور القيّد المبيّن لعدم الجديّة بالنسبة إلى الإطلاق.

وإلى هذا أشار بقوله: {فلا يكون الظفر بالمقيّد ولو كان مخالفاً} للمطلق

ص: 235

كاشفاً عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان. ولذا لا ينثلم به إطلاقه وصحّة التمسّك به أصلاً، فتأمّل جيّداً.

وقد انقدح بما ذكرنا: أنّ النّكرة في دلالتها على الشّياع والسّريان أيضاً تحتاج - في ما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال - إلى مقدّمات الحكمة، فلا تغفل.

بقي شيء: وهو أنّه

___________________________________________

{كاشفاً عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان} لعدم التنافي بين كونه مقام البيان ضرباً للقاعدة، مع عدم الإرادة الجديّة بالنسبة إلى بعض الأفراد {ولذا} الّذي ذكرنا من أنّ المقيّد لا يكشف عن عدم كونه في مقام البيان {لا ينثلم به إطلاقه و} لا يضرّ ب- {صحّة التمسّك به} أي: بالمطلق في الأفراد المشكوكة {أصلاً} بخلاف ما لو كان الإطلاق في مقام بيان الإرادة الجديّة، فإنّ وجود المقيّد منثلم فيه لعدم إمكان وجود إرادتين جديّتين بالنسبة إلى المطلق والمقيّد المتنافيين {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك حقيقة الحال.

{وقد انقدح بما ذكرنا} من احتياج الإطلاق إلى مقدّمات الحكمة {أنّ النّكرة} الموضوعة للحصّة المقيّدة بالوحدة {في دلالتها على الشّياع والسّريان} كي يصحّ انطباقها على كلّ فرد من أفراد الماهيّة {أيضاً} كسائر المطلقات {تحتاج - في ما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال - إلى مقدّمات الحكمة}

ف- (الرّجل) في (جئني برجل) لو أُريد دلالته على السّريان حتّى يصحّ انطباقه على كلّ فرد من أفراد الرّجل احتيج إلى قرينة خاصّة من حال أو مقال أو قرينة عامّة، أعني: تماميّة مقدّمات الحكمة فلو لم تكن إحدى تلك القرائن لم يفد السّريان {فلا تغفل} عن ذلك.

{بقي شيء وهو أنّه} هل المراد بالمقدّمة الأُولى القائلة بكون المتكلّم في مقام البيان أن نعلم بأنّه في مقام البيان، أم لا يلزم العلم، بل يكفي أصالة كونه في

ص: 236

لا يبعد أن يكون الأصل في ما إذا شكّ في كون المتكلّم في مقام بيان تمام المرادهو: كونه بصدد بيانه؛ وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسّك بالإطلاقات، في ما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرفَ وجهها إلى جهة خاصّة.

ولذا ترى أنّ المشهور لا يزالون يتمسّكون بها مع عدم إحراز كون مطلقها بصدد البيان، وبُعْدِ كونه لأجل ذَهَابهم إلى أنّها موضوعة للشّياع والسّريان، وإن كان ربّما نسب ذلك إليهم(1).

ولعلّ وجه النّسبة ملاحظةُ أنّه لا وجه للتمسّك بها بدون الإحراز،

___________________________________________

مقام البيان {لا يبعد} القول بالثّاني، بتقريب {أن يكون الأصل في ما إذا شكّ في كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد} أم لا {هو كونه بصدد بيانه، وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات} كافّة {من التمسّك بالإطلاقات في ما إذا لم يكن هناك} قدر متيقّن أو غيره من {ما يوجب صرف وجهها} أي: وجه الإطلاقات {إلى جهة خاصّة} لكونه المتيقّن في مقام التخاطب أو ما يوجب إجمالها أو إهمالها ككونها في مقام التشريع أو نحو ذلك.

{ولذا} الأصل المذكور {ترى أنّ المشهور} من العلماء {لا يزالون يتمسّكون بها} أي: بالمطلقات {مع عدم} العلم الوجداني بالمقدّمة الأُولى بعدم {إحراز كون مطلقها} بصيغة الفاعل {بصدد البيان، وبعد كونه} أي: تمسّكهم بالمطلقات مع عدم إحراز المقدّمة الأُولى {لأجل ذهابهم إلىأنّها موضوعة للشياع والسّريان} فلا يحتاج إلى تماميّة مقدّمات الإطلاق {وإن كان ربّما نسب ذلك} القول بأنّها موضوعة للسريان {إليهم، ولعلّ وجه النّسبة ملاحظة أنّه لا وجه للتمسّك بها} أي: بالمطلقات {بدون الإحراز} أي: إحراز كون المولى بصدد البيان، يعني أنّ التمسّك بالإطلاق مستند إلى أحد الأمرين:

الأوّل: تماميّة المقدّمات الّتي منها إحراز كون المولى بصدد البيان.

ص: 237


1- قوانين الأصول 1: 321.

والغفلةُ عن وجهه، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّه قد انقدح بما عرفت - من توقّف حمل المطلق على الإطلاق في ما لم يكن هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة على قرينة الحكمة، المتوقّفة على المقدّمات المذكورة - : أنّه لا إطلاق له في ما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو الأصناف؛ لظهوره فيه، أو كونِهِ متيقّناً منه، ولو لم يكن ظاهراً فيه بخصوصه، حسب اختلاف مراتب الانصراف.

___________________________________________

الثّاني: وضع المطلق للسريان، وحيث رأوا أنّ المشهور يتمسّكون بالإطلاق بلا تماميّة الوجه الأوّل زعموا أنّ مستند تمسّكهم هو الوجه الثّاني {والغفلة عن وجهه} أي: وجه تمسّكهم، فإنّهم يستندون إلى الوجه الأوّل لتماميّة المقدّمات، إذ لا يلزم إحراز كون المولى بصدد البيان، بل الشّكّ كافٍ في صحّة التمسّك لما تقدّم من جريان السّيرة على ذلك، فلا تغفل {فتأمّل جيّداً} حتّى تعرف صدق ما ذكرنا من بناء العرف على إجراء أصالة الإطلاق عند الشّكّ فيه.

{ثمّ إنّه قد انقدح بما عرفت من توقّف حمل المطلق على الإطلاق - في ما لم يكنهناك قرينة حاليّة أو مقاليّة - على قرينة الحكمة} العامّة {المتوقّفة على المقدّمات المذكورة أنّه} فاعل «انقدح» {لا إطلاق له} أي: للفظ المطلق {في ما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو الأصناف، لظهوره} أي: المطلق {فيه} أي: في ذلك الفرد أو الصّنف، كظهور العلماء في لسان الأئمّة(علیهم السلام) في حملة الأخبار لا أهل الهيئة والحساب {أو كونه متيقّناً منه} بحسب مقام التخاطب لا بملاحظة الخارج عن ذاك المقام {ولو لم يكن} المطلق {ظاهراً فيه} أي: في هذا المتيقّن {بخصوصه} إذ التيقّن لا يلازم الظهور.

مثلاً: القدر المتيقّن من أدلّة التقليد - كآية الإنذار والسّؤال ورواية الاحتجاج والتوقيع - هو البالغ الطاهر المولد وإن لم يكن اللفظ ظاهراً فيه فقط {حسب اختلاف مراتب الانصراف} فمنها ما يوجب الظهور كالأوّل، ومنها ما لا يوجبه مع

ص: 238

كما أنّه منها ما لا يوجب ذا ولا ذاك، بل يكون بدويّاً زائلاً بالتأمّل.

كما أنّه منها ما يوجب الاشتراك، أو النّقل.

لا يقال: كيف يكون ذلك؟ وقد تقدّم أنّ التقييد لا يوجب التجوّز في المطلق أصلاً؟

فإنّه يقال - مضافاً إلى أنّه إنّما قيل لعدم استلزامه له، لا عدمِ إمكانه؛

___________________________________________

كونه القدر المتيقّن كالثّاني {كما أنّه منها} أي: من المراتب {ما لا يوجب ذا} التيقّن {ولا ذاك} الظهور {بل يكون بدويّاً زائلاً بالتأمّل} كانصراف (الحرم) في كربلاء إلى حرمالحسين(علیه السلام) {كما أنّه} للشأن {منها} أي: من مراتب الانصراف {ما يوجب الاشتراك} بين المنصرف عنه والمنصرف إليه {أو النّقل} عن المنصرف عنه إلى المنصرف إليه.

{لا يقال: كيف يكون ذلك} الّذي ذكرتم من إيجاب الانصراف للاشتراك أو النّقل {وقد تقدّم أنّ التقييد لا يوجب التجوّز في المطلق أصلاً} فكيف يمكن الحقيقة الثّانويّة التعيّنيّة مع أنّ مرتبتها متأخّرة عن مرتبة المجاز؟

والحاصل: أنّكم ذكرتم في ما سبق أنّ التقييد حيث يكون بدالّين ومدلولين لا يوجب تصرّفاً في لفظ المطلق، بل هو باقٍ على معناه الأوّلي.

مثلاً: (الرّقبة) في (الرّقبة المؤمنة) مستعملة في مطلق الرّقبة، فلم تستعمل في المؤمنة حتّى يكون مجازاً، ويستلزم كثرة استعمالها فيها إنشاء للفظ بالمعنى المقيّد حتّى يكون وضعاً بالغلبة، إمّا بأن يترك المعنى الأوّل بالمرّة حتّى يكون منقولاً أو يبقى الأوّل أيضاً حتّى يكون مشتركاً.

{فإنّه يقال: مضافاً إلى أنّه إنّما قيل} بعدم التجوّز في التقييد {لعدم استلزامه} أي: التقييد {له} أي: للتجوّز {لا عدم إمكانه} أي: إمكان التجوّز، فإنّه كما يمكن استعمال المطلق في معناه والمقيّد في معناه، ويكون التقييد من نتيجة الجمع بينهما حتّى لا يكون في لفظ المطلق تجوّز.

ص: 239

فإنّ استعمال المطلق في المقيّد بمكانٍ من الإمكان - إنّ كثرة إرادة المقيّد لدى إطلاق المطلق ولو بدالّ آخر ربّما تبلغ بمثابة توجب له مزيّة أُنس - كما في المجاز المشهور - أو تعييناً واختصاصاً به - كما في المنقول بالغلبة - ، فافهم.تنبيه: وهو أنّه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة، كان وارداً في مقام البيان من جهة منها، وفي مقام الإهمال أو الإجمال من أُخرى،

___________________________________________

كذلك يمكن استعمال المطلق في المقيّد ابتداءً ويكون ذكر المقيّد دليلاً على المراد {فإنّ استعمال المطلق في المقيّد بمكان من الإمكان} كما تقدّم، وعليه فيكون الاستعمال مجازاً وينجرّ إلى النّقل أو الاشتراك {إنّ كثرة إرادة المقيّد لدى إطلاق المطلق، ولو} كانت الإرادة {بدالّ آخر} حتّى لا يستلزم المجاز {ربّما تبلغ} هذه الكثرة {بمثابة توجب له} أي: للفظ المطلق {مزيّة أُنس} بالمقيّد بلا إيجاب لوضع ثانوي تعيّني {كما في المجاز المشهور، أو} توجب هذه الكثرة {تعييناً واختصاصاً} للفظ المطلق {به} أي: بالمقيّد {كما في المنقول بالغلبة} سواء مع ترك المعنى الأوّل الموجب للنقل أو مع بقائه الموجب للاشتراك.

وبهذا تبيّن أنّ صيرورة اللّفظ حقيقة في معنى ثانوي لا يترتّب على استعماله مجازاً فيه أوّلاً {فافهم} فإنّه دقيق.

{تنبيه: وهو أنّه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة} قابلاً للإطلاق والتقييد بحسب كلّ واحدٍ منهما، ولكن {كان وارداً في مقام البيان من جهة منها وفي مقام الإهمال أو الإجمال من} جهة {أُخرى} كقوله تعالى: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ}(1)، فإنّه في مقام الإطلاق من حيثسؤال كلّ جاهل عن العالم وليس في مقام الإطلاق من حيث أفراد أهل الذِّكر، الذَّكر منهم والأُنثى والحرّ والعبد وطاهر المولد وغيره، ولا من حيث أحوالهم، كالعادل منهم والفاسق والحيّ والميّت - كما قالوا -

ص: 240


1- سورة النحل، الآية: 43.

فلا بدّ في حمله على الإطلاق بالنسبة إلى جهةٍ، من كونه بصدد البيان من تلك الجهة، ولا يكفي كونه بصدده من جهة أُخرى، إلّا إذا كان بينهما ملازمة عقلاً أو شرعاً أو عادة، كما لا يخفى.

___________________________________________

{فلا بدّ في حمله على الإطلاق بالنسبة إلى جهة} كالإطلاق من حيث الأفراد {من كونه بصدد البيان من تلك الجهة} أي: من جهة الأفراد، مثلاً {ولا يكفي} في الإطلاق من جهة - كالإطلاق الأحوالي - {كونه بصدده} أي: بصدد البيان {من جهة أُخرى} كالإطلاق الأفرادي {إلّا إذا كان بينهما} أي: بين الإطلاقين الّذي كان المطلق بصدد بيان أحدهما دون الآخر {ملازمة} بأن كان الإطلاق من الجهة المقصود بيانها يلازم الإطلاق من الجهة الأُخرى غير المقصود بيانها، سواء ثبتت الملازمة {عقلاً أو شرعاً أو عادة، كما لا يخفى}.

قال العلّامة المشكيني(رحمة الله):

«والأوّل: مثل ما إذا ورد أنّه (لا بأس بالصلاة في عذرة غير المأكول ناسياً) فإنّ نفي مانعيّتها من حيث النّجاسة، ملازم عقلاً لنفيها من حيث الجزئيّة لغير المأكول، فإذا فرض كون المولى في مقام البيان من الجهة الأُولى، يحمل على الإطلاق من الجهة الثّانية أيضاً، للملازمة العقليّة.

والثّاني: مثل قوله: (إذا سافرت فقصّر) بناءً على شمول التقصير للإفطار، فإذا فرض كونه في مقام البيان من جهة الصّلاة، يحمل على الإطلاق من جهةالإفطار أيضاً، للملازمة الشّرعيّة المستفاده من قوله(علیه السلام): «إذا قصّرت أفطرت»(1).

والثّالث: مثل ما إذا ورد أنّه (لا بأس بالصلاة في جلد الميتة) وفرضنا أنّ الغالب فيه النّجاسة، فإذا فرض كونه مسوقاً في بيان عدم مانعيّة عنوان الميتة، يحمل

ص: 241


1- من لا يحضره الفقيه 1: 437.

فصل: إذا ورد مطلق ومقيّد متنافيين: فإمّا يكونان مختلفين في الإثبات والنّفي، وإمّا يكونان متوافقين.

___________________________________________

على الإطلاق من جهة النّجاسة أيضاً، وأنّها غير مانعة»(1)،

انتهى كلامه رفع مقامه، فتأمّل.

[فصل المطلق والمقيّد المتنافيان]

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن، المطلق والمقيّد المتنافيان

{فصل} في بيان الجمع بين المطلق والمقيّد، وحيث إنّك قد عرفت المطلق في ما سبق إجمالاً فاللّازم تعريف المقيّد إجمالاً ثمّ الشّروع في المبحث، فنقول: عرّف المقيّد بأنّه «ما دلّ على شائعٍ في جنسه» وعرّفه صاحب الفصول بأنّه: «ما اختصّ دلالته ببعض ما دلّ عليه المطلق من حيث إنّه كذلك»، قال: «فدخل فيه العلم وما بحكمه والمطلق المستعمل في المقيّد مجازاً أو العام واسم الجنس مفرداً ومركّباً إذا اختصّت بالدلالة على بعض ما دلّ عليه المطلق»(2)،

انتهى.

وحيث إنّ مفهومه عند العرف أظهر من هذه التعاريف فالأولى ترك الإطنابفيها بذكر ما أُورد عليها من الإشكال والجواب.

{إذا ورد مطلق ومقيّد متنافيين} مقابل ما لم يكن بينهما تنافٍ نحو (أكرم العلماء) و(صلّ خلف عدول العلماء) {فإمّا يكونان مختلفين في الإثبات والنّفي} كما لو قال: (أعتق رقبة) و(لا تعتق رقبة كافرة) {وإمّا يكونان متوافقين} في الإثبات نحو (أعتق رقبة) (أعتق رقبة مؤمنة) أو في النّفي نحو (لا تبع الخمر) و(لا تبع خمر التمر).

ص: 242


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 503.
2- الفصول الغرويّة: 219.

فإن كانا مختلفين، مثل: (أعتِقْ رقبة) و (لا تعتق رقبة كافرة)، فلا إشكال في التقييد.

وإن كانا متوافقين، فالمشهور فيهما الحمل والتقييد.

وقد استدلّ بأنّه جمع بين الدليلين، وهو أولى.

وقد أُورد عليه: بإمكان الجمع على وجه آخر، مثل حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب(1).

وأُورد عليه: بأنّ التقييد ليس تصرّفاً في معنى اللّفظ،

___________________________________________

{فإن كانا مختلفين} كما تقدّم من {مثل: (أعتق رقبة) و(لا تعتق رقبة كافرة) فلا إشكال في التقييد} للفهم العرفي المستند ظاهراً إلى أنّ العمل بالمقيّد لا يوجب طرح المطلق، بل إنّما يضيق به دائرته، بخلاف العكس فإنّ العمل بالمطلق يوجب رفع اليد عن المقيّد رأساً.{وإن كانا متوافقين فالمشهور فيهما الحمل والتقييد} فاللّازم العمل بالمقيّد في مثل: (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة) حتّى أنّه لو أعتق عبداً غير مؤمن لم يكف.

{وقد استدلّ} عليه {بأنّه جمع بين الدليلين، وهو أولى} من الطرح، على المشهور كما نقله الشّيخ المرتضى(رحمة الله) في باب التعادل والترجيح(2).

{وقد أُورد عليه} أي: على وجوب الحمل مستنداً إلى هذه القاعدة {بإمكان الجمع} وعدم الطرح {على وجه آخر، مثل حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب} فيكون المقيّد أفضل الأفراد.

{وأُورد عليه} أي: على هذا الإيراد ببيان الفرق بين حمل المقيّد على الاستحباب، وبين حمل المطلق على المقيّد {بأنّ التقييد ليس تصرّفاً في معنى اللفظ} أي: لفظ

ص: 243


1- ذكر الاستدلال والإيراد عليه في قوانين الأصول 1: 325.
2- فرائد الأصول 4: 19.

وإنّما هو تصرّف في وجهٍ من وجوه المعنى، اقتضاه تجرّده عن القيد، مع تخيّل وروده في مقام بيان تمام المراد، وبعد الاطّلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الإجمال، فلا إطلاق فيه حتّى يستلزم تصرّفاً، فلا يعارض ذلك بالتصرّف في المقيّد، بحمل أمره على الاستحباب.

وأنت خبير بأنّ التقييد أيضاً يكون تصرّفاً في المطلق؛ لما عرفت من أنّ الظفر بالمقيّد لا يكون كاشفاً عن عدم ورود المطلق في مقام البيان، بل

___________________________________________

المطلق {وإنّما هو تصرّف في وجه من وجوه المعنى} أعني: وصف الإطلاق الّذي {اقتضاه تجرّده} أي: تجرّد المطلق {عن القيد، مع تخيّل وروده في مقام بيان تمام المراد، و} من المعلوم أنّ {بعد الاطّلاع على ما يصلح للتقييد} بالظفر بالمقيّد ينكشف بطلان التخيّل المزبور، و{نعلم وجوده} أي: المقيّد {على وجه الإجمال} لا وجه لهذا القيد، كما لا يخفى {فلا إطلاق فيه} أي: في لفظ المطلق لانهدام بعض مقدّمات الإطلاق - وهي المقدّمة الثّانية الّتي تقول بانتفاء ما يوجب التعيين - {حتّى يستلزم} التقييد {تصرّفاً} في المطلق {فلا يعارض ذلك} التقييد في لفظ المطلق {بالتصرّف في المقيّد بحمل أمره} الظاهر في الوجوب {على الاستحباب} مجازاً.

والحاصل: أنّ تقييد المطلق لا يستلزم تجوّزاً وحمل المقيّد على الاستحباب يستلزم تجوّزاً، وحمل الكلام على ما لا تجوّز فيه أولى من حمله على ما فيه التجوّز، كما لا يخفى.

{وأنت خبير بأنّ} جواب هذا المجيب مردود من وجهين:

الأوّل: أنّ {التقييد أيضاً يكون تصرّفاً في المطلق} كما أنّ حمل الأمر على الاستحباب أيضاً تصرّف في المقيّد فهما متساويان {لما عرفت من أنّ الظفر بالمقيّد لا يكون كاشفاً عن عدم ورود المطلق في مقام البيان، بل} ورود المقيّد كاشف

ص: 244

عن عدم كون الإطلاق - الّذي هو ظاهره بمعونة الحكمة - بمراد جدّي، غاية الأمرأنّ التصرّف فيه بذلك لا يوجب التجوّز فيه.

مع أنّ حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب لا يوجب تجوّزاً فيه؛ فإنّه في الحقيقة مستعمل في الإيجاب، فإنّ المقيّد إذا كان فيه ملاك الاستحباب، كان من أفضل أفراد الواجب، لا مستحبّاً فعلاً؛ ضرورة أنّ ملاكه

___________________________________________

{عن عدم كون الإطلاق الّذي هو ظاهره} أي: ظاهر المطلق {بمعونة} مقدّمات {الحكمة بمراد جدّي} وإن كان مراداً بالإرادة الاستعماليّة ضرباً للقاعدة.

وبهذا سقط قولكم: «بأنّ التقييد ليس تصرّفاً في معنى اللفظ لكشفه عن عدم الإطلاق من أصل» {غاية الأمر أنّ التصرّف فيه} أي: في المطلق {بذلك} التصرّف الّذي هو عبارة عن حمله على أنّه ليس بمراد جدّي {لا يوجب التجوّز فيه} أي: في المطلق، ولكن ليس محذوره أهون من محذور التجوّز، إذ كلاهما خلاف الظاهر.

والحاصل: أنّ المطلق له ظهور في كونه مراداً جديّاً، والمقيّد له ظهور في كونه واجباً، فالأمر يدور حينئذٍ بين رفع اليد عن ظهور المطلق في الإرادة الجديّة وعن ظهور المقيّد في الوجوب وكلاهما على السّواء. نعم، رفع اليد عن ظهور المقيّد موجب لمجازيّته دون رفع اليد عن ظهور المطلق.

الثّاني: ما أشار إليه بقوله: {مع أنّ حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب لا يوجب تجوّزاً فيه} أي: في المقيّد، إذ ليس المراد من الاستحباب في باب المطلق والمقيّد الاستحباب الاصطلاحي الّذي هو مضادّ للوجوب {فإنّه} أي: الأمر الواقع في المقيّد {في الحقيقة مستعمل في الإيجاب}الأفضل {فإنّ المقيّد إذا كان فيه ملاك الاستحباب كان من أفضل أفراد الواجب} لاشتماله على ملاكين {لا مستحبّاً فعلاً} كسائر المستحبّات {ضرورة أنّ ملاكه} الاستحبابي

ص: 245

لا يقتضي استحبابه إذا اجتمع مع ما يقتضي وجوبه.

نعم، في ما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالأصل، كان من التوفيق بينهما حملُه على أنّه سيق في مقام الإهمال، على خلاف مقتضى الأصل، فافهم.

ولعلّ وجه التقييد: كون ظهور إطلاق الصّيغة في الإيجاب التعييني

___________________________________________

{لا يقتضي استحبابه إذا اجتمع مع ما يقتضي وجوبه} لأنّه يستلزم الجمع بين الضّدّين وهو محال قطعاً.

مثلاً: صلاة الجماعة إنّما تكون أفضل أفراد الواجب لا أنّها مستحبّة فعلاً، وهكذا لو قلنا بأنّ الإيمان في الرّقبة ليس واجباً كان عتق الرّقبة المؤمنة أفضل أفراد الواجب لا مستحبّاً فعلاً.

{نعم} كلام المجيب القائل بأنّ التقييد ليس تصرّفاً في معنى اللفظ إنّما يصحّ {في ما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالأصل} الّذي ادّعاه المصنّف(رحمة الله) من جريان أصالة الإطلاق عند الشّكّ فيه، فإنّه لو ظفرنا بالمقيّد أمكن القول بأنّ المطلق لم يكن في مقام البيان من أوّل الأمر، و{كان} حينئذٍ {من التوفيق بينهما حمله} أي: حمل المطلق {على أنّه سيق في مقام الإهمال} أو الإجمال {على خلاف مقتضى الأصل} فاللّازم الأخذ بالمقيّد وإبقاؤه على ظاهره.{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ اللّازم ممّا ذكر عدم جواز التمسّك بهذا المطلق في غير مورد المقيّد، مضافاً إلى أنّه لو أمكن التوفيق بكلّ واحد من النّحوين، فلو كان ظهور في البين فهو المتّبع وإلّا فترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح.

وبهذا كلّه تبيّن الإشكال في كون وجه الجمع بالتقييد هي القضيّة المشهورة القائلة بأنّ: «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح».

{ولعلّ وجه التقييد} شيء آخر، وهو {كون ظهور إطلاق الصّيغة في الإيجاب التعييني} المقتضي لعدم هذه الفصول عنه إلى غيره ممّا لا يشمل على الوصف،

ص: 246

أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق.

وربّما يُشكل بأنّه يقتضي التقييد في باب المستحبّات، مع أنّ بناء المشهور على حمل الأمر بالمقيّد فيها على تأكّد الاستحباب. اللّهمّ إلّا أن يكون الغالب في هذا الباب هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبيّة، فتأمّل.

أو أنّه كان بملاحظة التسامح في أدلّة المستحبّات،

___________________________________________

كالرقبة غير المؤمنة - في المثال السّابق - {أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق} لعدم جواز الإتيان بأحد الأفراد ولو لم يشتمل على الوصف.

{وربّما يشكل} ما ذكرناه من الوجه تقديم المقيّد على المطلق {بأنّه} كان الوجه أقوائيّة ظهور الصّيغة في التعيين في ظهور المطلق في الإطلاق كان هذا الوجه بعينه {يقتضي التقييد في باب المستحبّات} فلو ورد (زُر الحسينَ(علیه السلام)) و(زُرِ الحسين(علیهالسلام) يوم عرفة) كان اللّازم القول باستحباب زيارة الحسين(علیه السلام) في يوم عرفة فقط، وهكذا لو ورد (اُقنُتْ) و(اُقْنُتْ بكلمات الفرج) كان اللّازم القول بعدم استحباب القنوت بغير كلمات الفرج، وهكذا {مع أنّ بناء المشهور} بل لم ينقل فيه خلاف من أحد {على} إبقاء المطلق على إطلاقه، و{حمل الأمر بالمقيّد فيها} أي: في المستحبّات {على تأكّد الاستحباب}.

{اللّهمّ إلّا أن} يقال بوجود الصّارف عن العمل على طبق الظهور الأقوى الكائن للمقيّد؛ لأنّه {يكون الغالب في هذا الباب هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبيّة} فتكون الغلبة قرينة على إرادة التأكّد من القيود، وليس في باب الواجبات مثل هذه القرينة النّوعيّة {فتأمّل} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الواجبات أيضاً كذلك، إذ قلّما يتّفق واجب لم تكن له مراتب {أو} نقول بفرق آخر بين الواجبات والمستحبّات، وهو {أنّه} أي: عدم الحمل في باب المستحبّات {كان بملاحظة التسامح في أدلّة المستحبّات} فإنّ موضوع أخبار «من

ص: 247

وكان عدمُ رفع اليد من دليل استحباب المطلق - بعد مجيء دليل المقيّد - وحمله على تأكّد استحبابه، من التسامح فيها.

ثمّ إنّ الظاهر: أنّه لا يتفاوت في ما ذكرنا بين المُثْبَتَيْنِ والمَنْفِيَّيْنِ بعد فرض كونهما متنافيين.

كما لا يتفاوتان في استظهار التنافي بينهما من استظهار اتحاد التكليف

___________________________________________

بلغه ثواب على عمل»(1)

الخ، هو البلوغ ولا شكّ في صدق بلوغ المطلق ولو بعد ورود المقيّد {وكان عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق بعد مجيء دليل المقيّد، وحمله على تأكّد استحبابه من التسامح فيها} متعلّق بقوله: «وكان عدم» الخ.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش ما لفظه: «ولا يخفى أنّه لو كان حمل المطلق على المقيّد جمعاً عرفيّاً، كان قضيّته عدم الاستحباب إلّا للمقيّد، وحينئذٍ إن كان بلوغ الثّواب صادقاً على المطلق كان استحبابه تسامحيّاً، وإلّا فلا استحباب له وحده، كما لا وجه - بناءً على هذا الحمل وصدق البلوغ - لتأكّد الاستحباب في المقيّد، فافهم»(2)،

انتهى.

وأجاب بعضهم بوجه آخر، وهو أنّ التقييد إنّما يكون في ما علم وحدة التكليف من الخارج، ولم يعلم ذلك في المستحبّات، والإنصاف عدم استقامة شيء من هذه الوجوه، بل المتّبع الظهور في كلّ مورد فقد لا يمكن إلّا التقييد، كما لا يخفى.

{ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا يتفاوت} الحال {في ما ذكرنا} من حمل المطلق على المقيّد {بين المثبتين والمنفيين بعد فرض كونهما متنافيين، كما لا يتفاوتان} المثبتان والمنفيان {في استظهار التنافي بينهما من استظهار اتحاد التكليف} متعلّق

ص: 248


1- الكافي 2: 87.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 511.

من وحدة السّبب وغيره، من قرينة حال أو مقال حسب ما يقتضيه النّظر، فليتدبّر.تنبيه: لا فرق في ما ذكر من الحمل في المتنافيين بين كونهما في بيان الحكم التكليفي، وفي بيان الحكم الوضعي. فإذا ورد - مثلاً - : أنّ البيع سبب، وأنّ البيع الكذائي سبب، وعُلم أنّ مراده: إمّا البيع على إطلاقه، أو البيع الخاصّ، فلا بدّ من التقييد لو كان ظهور دليله في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه، كما هو

___________________________________________

بقوله: «في استظهار» {من وحدة السّبب وغيره} متعلّق باتحاد التكليف {من قرينة حال أو مقال حسب ما يقتضيه النّظر}.

والحاصل: أنّه إذا أحرز وحدة التكليف - سواء كان الإحراز من إجماع أو غيره - كان اللّازم حمل المطلق على المقيّد، إذ مع وحدة التكليف يقع التنافي بين المطلق والمقيّد؛ لأنّ دليل المقيّد يقول بعدم كفاية المطلق، ودليل المطلق يقول بكفايته، وحينئذٍ يلزم أحد الأمرين:

[1] حمل المقيّد على الاستحباب في الواجب والكراهة في الحرام.

[2] أو حمل المطلق على المقيّد، فيقدّم الثّاني على الأوّل حسب ما مرّ تفصيله {فليتدبّر} لئلّا تظنّ عدم التنافي بين تحريمين.

{تنبيه: لا فرق في ما ذكر من الحمل} للمطلق على المقيّد {في المتنافيين بين كونهما في بيان الحكم التكليفي} كما تقدّم من مثال العتق {وفي بيان الحكم الوضعي} كالسببيّة والمانعيّة والجزئيّة والشّرطيّة ونحوها {فإذا ورد مثلاً أنّ البيع سبب} للملكيّة {و} ورد أيضاً {أنّ البيع الكذائي} كالبيع بالعربي مثلاً {سبب،وعلم} من دليل خارج كون الدليلين في مقام بيان سبب واحد، و{أنّ مراده إمّا البيع على إطلاقه أو البيع الخاص} سبب للملكيّة {فلا بدّ} حينئذٍ {من التقييد} والقول بأنّ البيع بلفظ العربي سبب فقط {لو كان ظهور دليله} أي: دليل المقيّد {في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه} أي: في دخل المطلق {كما هو}

ص: 249

ليس ببعيد؛ ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيّد - بخلاف العكس - بإلغاء القيد وحمله على أنّه غالبي، أو على وجه آخر، فإنّه على خلاف المتعارف.

تبصرةٌ لا تخلو من تذكرة: وهي أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة في المطلقات تختلف بحسب اختلاف المقامات.

فإنّها تارةً: يكون حملها على العموم البدلي،

___________________________________________

أي: هذا الظهور {ليس ببعيد، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيّد} فإنّ قول المولى: (أحللت لك المعاملة) لا يراد به مطلق المعاملة، بل المعاملة الخاصّة الّتي هي في نظره، ودليل القيد كاشف عنه {بخلاف العكس بإلغاء القيد وحمله على أنّه غالبي} بيان لإلغاء القيد، بأن يقال: إنّ المطلق يراد به الإطلاق وإنّما المقيّد محمول على كون القيد غالبيّاً فذكره من قبيل قوله - تعالى - : {وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم}(1)، {أو على وجه آخر} من أنّ سببيّة المقيّد أقوى وأحسن في نظر المولى من سببيّة المطلق وإن اشتركا في مطلق السّببيّة {فإنّه} أي: إلغاء القيد بأحدالوجهين {على خلاف المتعارف} فلا يصار إليه.

والإنصاف أنّ المتّبع هو الظهور، وليس له ميزان خاصّ، بل الفهم العرفي في كلّ مورد هو المعيار في المطلب، فلربّما نرى أنّهم يلغون القيد ويأخذون بالإطلاق، كما نرى العكس مع مماثلة الموردين، واللّه الموفّق.

{تبصرة لا تخلو من تذكرة: وهي أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة في المطلقات} ليست على نحوٍ واحدٍ، بل {تختلف بحسب اختلاف المقامات، فإنّها} أي: المطلقات:

[1] {تارةً يكون} مقتضي مقدّماتها {حملها} أي: حمل تلك المطلقات {على العموم البدلي} بمعنى حصّة من الطبيعة قابلة الانطباق على كلّ فرد من أفرادها.

ص: 250


1- سورة النساء، الآية: 23.

وأُخرى: على العموم الاستيعابي، وثالثةً: على نوع خاصّ ممّا ينطبق عليه، حسب اقتضاء خصوص المقام، واختلاف الآثار والأحكام، كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام.

فالحكمة في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد: خصوص الوجوب التعييني العيني

___________________________________________

[2] {وأُخرى} تقتضي مقدّمات الإطلاق حمل المطلق {على العموم الاستيعابي} أي: الاستغراق والشّمول لكلّ فرد من أفراد الطبيعة.

[3] {وثالثةً على نوع خاصّ ممّا ينطبق} المطلق {عليه} وهذا الاختلاف إنّما يكون {حسب اقتضاء خصوص المقام واختلاف الآثار والأحكام} قال العلّامةالمشكيني(رحمة الله):

«أمّا الأوّل: فكما في اللفظ الدالّ على الإيجاب من صيغة أو غيرها، فإنّ مقام الإيجاب يقتضي الحمل على فرد معيّن - كما مر - .

وأمّا الثّاني: فكما في اللفظ الدالّ على موضوع حكم تكليفي أو وضعي، مثل: (أعتِقْ رقبة) و {وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1)، فإنّ الأثر الأوّل تحقّق فيه مقدّمتان اقتضتا مع المقدّمات العامّة العموم البدلي، والأثر الثّاني تحقّق فيه مقدّمات ثلاث اقتضت مع العامّة العموم الاستغراقي»(2)،

انتهى {كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام} فإنّها تختلف حسب اختلاف المقامات، مثلاً: القرائن الأحواليّة تدلّ على شيء وأُخرى على شيء آخر، وهكذا القرائن المقاليّة.

ثمّ قدّم المصنّف(رحمة الله) القسم الثّالث المشار إليه بقوله: «وثالثة» الخ، بقوله: {فالحكمة في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعييني} مقابل التخييري نحو (أطعم) أو (صم) أو (اكس) {العيني} مقابل الكفائي نحو

ص: 251


1- سورة البقرة، الآية: 275.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 522.

النّفسي؛ فإنّ إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان، ولا معنى لإرادة الشّياع فيه، فلا محيص عن الحمل عليه في ما إذا كان بصدد البيان.

كما أنّها قد تقتضي العموم الاستيعابي، كما في {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ}(1)؛ إذإرادة البيع مهملاً أو مجملاً تنافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان، وإرادةُ العموم البدلي لا تناسب المقام.

___________________________________________

(اغسل الميّت أنت، أو زيد) {النّفسي} مقابل الغيري نحو {إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ}(2)، المفيد لكون الوضوء واجباً غيريّاً {فإنّ إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان} ففي الأوّل: يحتاج إلى عدل للواجب. وفي الثّاني: إلى عدل للفاعل. وفي الثّالث: إلى بيان ذي المقدّمة، فحيث لم يبيّن انكشف عدمها، فتبيّن أنّ المراد بالحكمة في صيغة الأمر هو هذا المعنى {ولا معنى لإرادة الشّياع} والسّريان {فيه} وحينئذٍ {ف-} لو تمّت مقدّمات الحكمة {لا محيص عن الحمل عليه} أي: على هذا المعنى {في ما إذا كان} المولى {بصدد البيان، كما أنّها} أي: مقدّمات الحكمة {قد تقتضي العموم الاستيعابي، كما في {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ}} فإنّه يدلّ على حليّة جميع أنواع البيوع وحرمة جميع أنواع الرّبا {إذ إرادة البيع مهملاً أو مجملاً تنافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان} مع عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب وعدم قرينة توجب التعيين.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّه في مقام إمضاء البيع مجملاً، كما أنّ أدلّة العبادات - كما قالوا - في مقام التشريع، فتدبّر {وإرادة العموم البدلي} حتّى يكون بمعنى حليّة فرد مردّد من البيع نظير (جئني برجل) {لا تناسبالمقام} الّذي هو مقام إعطاء الحكم

ص: 252


1- سورة البقرة، الآية: 275.
2- سورة المائدة، الآية: 6.

ولا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلّف - أيّ بيع كان - ، مع أنّها تحتاج إلى نصب دلالة عليها، لا يكاد يفهم بدونها من الإطلاق.

ولا يصحّ قياسه على ما إذا أُخذ في متعلّق الأمر؛ فإنّ العموم الاستيعابي لا يكاد يمكن إرادته، وإرادةُ غير العموم البدلي وإن كانت ممكنة، إلّا أنّها

___________________________________________

بالنسبة إلى المعاملات المتعارفة، وأمّا القول بأنّه مقام الامتنان فليس شيئاً يعرف لا من اللفظ ولا من الخارج مع عدم صحّته بالنسبة إلى تحريم الرّبا.

{ولا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلّف - أيّ بيع كان -} مثل قوله: (جئني برجل) الّذي يقتضي إطلاقه إرادة المولى لرجل اختاره المكلّف أيّ رجل كان، والفرق بين هذا وسابقه أنّ الأوّل غير معلوم المراد، لإجماله حتّى يبقى المكلّف متحيّراً بخلاف الثّاني كما لا يخفى، وإنّما قلنا بعدم المجال لهذا الاحتمال لما تقدّم من أنّه في مقام إعطاء الحكم بالنسبة إلى المعاملات المتعارفة {مع أنّها} أي: إرادة بيع اختاره المكلّف {تحتاج إلى نصب دلالة عليها} أي: على هذه الإرادة فإنّه {لا يكاد يفهم} هذا المعنى {بدونها} أي: بدون القرينة {من الإطلاق} إذ الإطلاق لا يقتضيه فإرادته منه بدون قرينة نقض للغرض {ولا يصحّ قياسه} أي: قياس {وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ} ممّا يقع المطلق عقيب غير الأمر {على ما إذا أُخذ} المطلق {في متعلّق الأمر} نحو (جئني برجل) {فإنّ العموم الاستيعابي} في ما إذا وقعالأمر {لا يكاد يمكن إرادته} لاستحالة تعلّق القدر بجميع أفراد الماهيّة.

ولكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يصحّ في ما كانت الأفراد كثيرة جدّاً نحو (الرّجل) أمّا لو انحصرت في عدد قليل جاز ذلك كما لو قال: (جئني بمجتهد) مع فرض انحصار المجتهدين {وإرادة غير العموم البدلي} بأن يراد ب- (الرّجل) في (جئني برجل) البعض المعيّن {وإن كانت ممكنة إلّا أنّها} أي: هذه الإرادة بدون نصب

ص: 253

منافية للحكمة وكون المطلق بصدد البيان.

___________________________________________

قرينة عليها {منافية للحكمة، و} ل- {كون المطلق بصدد البيان} فهذا الفارق يوجب على عدم صحّة قياس نحو (أحلّ اللّه البيع) على نحو (جئني برجل)، إذ يدور أمر الرّجل بين العموم الاستيعابي المتعذّر وبين إرادة قسم خاصّ المنافية للحكمة، وبين العموم البدلي وحيث لا محذور فيه وجب المصير إليه، بخلاف نحو (أحلّ اللّه البيع) فإنّ العموم الاستيعابي فيه ممكن.

ثمّ لا بأس بالإشارة إلى بعض ما ذكره القوم في الآيات الواردة بالنسبة إلى العبادات، وهو أنّهم ذكروا عدم وجود المطلقات أو شذوذها في الآيات المتعلّقة بالعبادات وفرّقوا بينها وبين الآيات المتعلّقة بالمعاملات فقالوا فيها بعكس ما قالوا في العبادات، مستظهرين أنّها في مقام أصل التشريع لا بصدد البيان حتّى ينعقد الإطلاق فيها. ولكن أنت خبير بعدم الفرق بل هما على حدّ سواء، فاللّازم إمّا الالتزام بوجود الإطلاق في كليهما - كما هو الأظهر - أو عدم الإطلاق بالنسبة إلى كليهما، فكما يمكن التمسّك بنحو {أَحَلَّ ٱللَّهُٱلۡبَيۡعَ}(1)، لصحّة بيع الفضولي والمعاطاتي كذلك يمكن التمسّك بإطلاق {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ}(2)، لعدم اشتراط الإمام(علیه السلام) في الانعقاد، وكما يقيّد الأوّل بالأدلّة الدالّة على اشتراط المالية ونحوه، كذلك يقيّد الثّاني بالأدلّة الدالّة على اشتراط عدم السّفر ونحوه.

والقول بأنّه في مقام أصل التشريع للجمعة يشابه القول بأنّ آية البيع في مقام أصل جوازه مقابل حرمة الرّبا. وكيف كان، فلا وجه للتفصيل، واللّه الهادي إلى سواء السّبيل.

ص: 254


1- سورة البقرة، الآية: 275.
2- سورة الجمعة، الآية: 9.

فصل: في المجمل والمبيّن والظاهر: أنّ المراد من المبيّن - في موارد إطلاقه - الكلامُ الّذي له ظاهر، ويكون بحسب متفاهم العرف غالباً لخصوص معنىً؛ والمجمل بخلافه. فما ليس له ظهورٌ: مجملٌ، وإن علم بقرينة خارجيّة ما أُريد منه، كما أنّ ما له الظهور: مبيّنٌ، وإن علم بالقرينة الخارجيّة أنّه ما أُريد ظهوره وأنّه مؤوّل.

___________________________________________

[فصل في المجمل والمبيّن]

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن، المجمل والمبيّن

{فصل: في المجمل والمبيّن والظاهر} المتبادر إلى الذهن من هذين اللفظين {أنّ المراد من المبيّن - في موارد إطلاقه -} هو {الكلام} أو الكلمة {الّذي له ظاهر ويكون بحسب متفاهم العرف} من أهل اللسان {غالباً لخصوص معنىً} بحيث إذا أُطْلِقَ بدر إلى الذهنمعنى واحد للتلازم ذهناً بين هذا اللفظ وهذا المعنى الموجب لتذكّر أحدهما عند تذكّر الآخر {و} المراد من {المجمل} ما هو {بخلافه} ممّا لا يكون له ظاهر يبدر من لفظه عند الإطلاق.

وعلى ما ذكرنا من التعريف {فما ليس له ظهور مجمل، وإن علم بقرينة خارجيّة ما أُريد منه} فلو قامت القرينة على أنّ المراد بالقروء في قوله - تعالى - : {يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ}(1)، الإطهار لم يخرج بذلك عن الإجمال {كما أنّ ما له الظهور مبيّن، وإن علم بالقرينة الخارجيّة أنّه ما أُريد ظهوره وأنّه مؤوّل} فنحو {وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٭ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ}(2) مبيّن وإن قامت القرينة القطعيّة العقليّة والنّقليّة على عدم إرادة ظهوره من النّظر بالعين. وقد خالف في ما ذكره من المعنى بعض، والظاهر عدم صحّته.

ص: 255


1- سورة البقرة،الآية: 228.
2- سورة القيامة، الآية: 22-23.

ولكلّ منهما - في الآيات والرّوايات - وإن كان أفرادٌ كثيرة لا تكاد تخفى، إلّا أنّ لهما أفراد مشتبهة، وقعت محلّ البحث والكلام للأعلام في أنّها من أفراد أيّهما؟ كآية السّرقة، ومثل: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ}(1) و {أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ}(2) ممّا أُضيف التحريم والتحليل إلى الأعيان،

___________________________________________

{و} كيف كان، ف- {لكلّ منهما} أي: من المجمل والمبيّن {في الآيات والرّوايات وإن كان أفراد كثيرة لا تكاد تخفى} على واحد {إلّا أنّ لهما أفراد مشتبهة وقعت محلّ البحث والكلام للأعلام في أنّها من أفراد أيّهما؟} وهذا الخلاف إنّما نشأ من أُنس بعض الأذهان ببعض الشّواهد والمقرّبات والمبعّدات، بحيث صار سبباً لأُنس الذهن بالتلازم بين لفظ ومعنى أو عدم التلازم أو الشّكّ فهذا يدّعي إجماله وذاك يدّعي خلافه، كما قد يقع هذا النّزاع في التبادر وأمثاله {كآية السّرقة} وهي قوله - تعالى - : {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا}(3)، فقد ذهب السّيّد المرتضى(رحمة الله)(4) وجماعة من العامّة على أنّها مجملة باعتبار اليد، لاحتمال أن يكون المراد القطع من الأشاجع ومن الزند ومن المرفق ومن المنكب، وذهب آخرون - ومنهم صاحب المعالم(5)

- إلى عدم إجمالها.

{ومثل: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ}و {أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ}} وغيرهما {ممّا أُضيف التحريم والتحليل إلى الأعيان} لا إلى الأفعال، فالأكثرون على عدم الإجمال لظهوره في الفعل المقصود منه، فتحريم الأُمّ يراد به وطيها وسائر الاستمتاعات بها، وتحليل البهيمة يراد به حليّة لحمها وسائر الانتفاعات غير

ص: 256


1- سورة النساء، الآية: 23.
2- سورة المائدة، الآية: 1.
3- سورة المائدة، الآية: 38.
4- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 325.
5- معالم الدين: 153.

ومثل: «لا صلاة إلّا بطهور»(1).

ولا يذهب عليك: أنّ إثبات الإجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان؛ لما عرفت من أنّ ملاكهما أن يكون للكلام ظهور، ويكون غالباً لمعنىً، وهو ممّا يظهر بمراجعة الوجدان، فتأمّل.

___________________________________________

المحظورة بها، وذهب بعض إلى إجمالها؛ لأنّ الأفعال كثيرة، وحيث لا يمكن تقدير جميعها؛ لأنّ ما يقدّر للضرورة يقدّر بقدرها، ولا بعضها، للترجيح بلا مرجّح، يقع الإجمال.

{ومثل: «لا صلاة إلّا بطهور»} و «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(2) ونحوهما ممّا ينفي فيه الفعل مطلقاً، فقال بعض بإجماله، لعدم معلوميّة أنّ المراد من النّفي هو نفي الصّحّة أو الكمال، وذهب آخرون إلى عدم الإجمال، لظهور النّفي في نفي الحقيقة(3).

{ولا يذهب عليك أنّ إثبات الإجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان، لما عرفت من أنّ ملاكهما} ليس ممّا يثبت بالبرهان، بل ملاك الأوّل أن لا يكون للكلام ظهور هو أمر عرفي، وملاك الثّاني {أن يكون للكلام ظهور، ويكون غالباً لمعنىً} بحيث يظهر منه ذلك المعنى عند الإطلاق {وهو ممّا يظهر بمراجعة الوجدانفتأمّل} جيّداً.

نعم، في ظرف الاختلاف يجب المراجعة إلى العرف، ولا حقّ لادّعاء الإجمال أو الظهور مع مخالفة العرف، كما لا يخفى.

ص: 257


1- تهذيب الأحكام 2: 140؛ من لا يحضره الفقيه 1: 58.
2- مستدرك الوسائل 4: 158.
3- راجع الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 353؛ معارج الأصول: 158؛ معالم الدين: 154؛ مطارح الأنظار 2: 307.

ثمّ لا يخفى: أنّهما وصفان إضافيّان، ربّما يكون مجملاً عند واحد - لعدم معرفته بالوضع، أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لديه - ، ومبيّناً لدى الآخر - لمعرفته وعدم التصادم بنظره - ، فلا يهمّنا التعرّض لموارد الخلاف، والكلام والنّقض والإبرام في المقام، وعلى اللّه التوكّل وبه الاعتصام.

___________________________________________

{ثمّ لا يخفى أنّهما وصفان إضافيّان ربّما يكون مجملاً عند واحد لعدم معرفته بالوضع أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لديه} أي: لدى من يكون مجملاً عنده {ومبيّناً لدى الآخر لمعرفته} بالوضع {وعدم التصادم بنظره} ولا يخفى أنّ في كونهما كذلك نظر.

وعلى أيّ حال {فلا يهمّنا التعرّض لموارد الخلاف والكلام، والنّقض والإبرام في المقام، وعلى اللّه التوكّل وبه الاعتصام}.

انتهى المجلّد الأوّل من الكفاية لآية اللّه المحقّق الخراساني(قدس سره)، وقد انتهى بذلك شرحنا على المجلّد الأوّل، واللّه المتقبّل، وسنبدأ في شرح المجلّد الثّاني بإذن اللّه - تعالى - واللّه المستعان.

ص: 258

المقصد السّادس: في الأمارات

اشارة

ص: 259

ص: 260

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

المقصد السّادس: في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً

___________________________________________

قال المصنّف(رحمة الله): {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم}

[المقصد السّادس في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً]

المقصد السّادس: في الأمارات، مباحث القطع

{المقصد السّادس} من مقاصد الكتاب {في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً} ومعنى الاعتبار: المنجزيّة لدى الإصابة، والمعذريّة لدى الخطأ، وهو المسمّى ب- : الحجّة، لاحتجاج كلّ من المولى والعبد على الآخر.

ثمّ إنّ الحجيّة قد تكون مجعولةً للشارع - بمعنى أنّ الشّارع جعل الشيء الفلاني حجّة وإن لم يكن العقل يراه حجّة - وقد تكون مجعولةً للعقل - بمعنى أنّ العقل جعله حجّةً ويرى صحّة المؤاخذة على مخالفته وعدم صحّتها على موافقته وإن لم يتصرّف الشّارع فيه - إمّا مع إمكان التصرّف أو بدون إمكانه - وعلى هذا يكون أقسام الحجّة ثلاثة:

الأوّل: المعتبرة شرعاً كالاستصحاب، والبراءة الشّرعيّة، والخبر الرّاجح بالمرجّحات المنصوصة لدى التعارض.

الثّاني: المعتبرة عقلاً مع إمكان تصرّف الشّارع فيه، كالظنّ الانسدادي على الحكومة.الثّالث: المعتبرة عقلاً مع عدم إمكان التصرّف كالقطع.

ص: 261

وقبل الخوض في ذلك، لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام - وإن كان خارجاً من مسائل الفن،

___________________________________________

[مباحث القطع]

{وقبل الخوض في ذلك} البيان {لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام} كمسألة أنّ القطع حجّة بنفسه لا بجعل الجاعل، ومسألة تنجّز الحكم بالقطع الإجمالي، ومسألة أنّ مخالف القطع معاقب مطلقاً حتّى في صورة عدم الموافقة للواقع أو معاقب في صورة الموافقة فقط - ويعبّر عنه بالتجرّي - إلى غير ذلك {وإن كان} ما للقطع من الأحكام {خارجاً من مسائل الفنّ} الّذي نحن بصدده الآن - أعني: علم الأصول - لأنّ مسائل الأصول - كما تقدّم في أوّل الكتاب - هي أحد أمرين:

الأوّل: الوقوع في طريق الاستنباط، أي: يصحّ جعلها كبرى للصغريات الوجدانيّة حتّى تنتج الحكم الفرعي، كأن يقال هذه مقدّمة الواجب وكلّ مقدّمة الواجب واجبة، فهذه واجبة.

الثّاني: ما ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل كالاستصحاب والبراءة ونحوهما ممّا يعمل بها عند اليأس عن الدليل الاجتهادي، وأحكام القطع ليست كذلك، لا تقع طريقاً للاستنباط، ولا ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل.

أمّا الأوّل: فلأنّه لا يصحّ أن يقال: «الخمر معلوم الحرمة، وكلّ معلوم الحرمة حرام، فالخمر حرام» إذ يستلزم منه سببيّة الشّيء لنفسه؛ لأنّه صار العلم بحرمة الخمر سبباً للعلم بحرمة الخمر، وإن عكست وقلت: «هذا معلوم الخمريّة، وكلّ معلوم الخمريّة حرام، فهذا حرام» استلزم أن يكون العلم جزء الموضوع ويكونالتحريم عارضاً على معلوم الخمريّة لا على نفس الخمر.

والحاصل: يلزم من جعل مسائل القطع كُبْرىً اتحادُ السّبب والمسبّب والخلف

ص: 262

وكان أشبه بمسائل الكلام - ؛ لشدّة مناسبته مع المقام.

فاعلم: أنّ البالغ الّذي وضع عليه القلم، إذا التفت إلى حكم فعليّ واقعيّ،

___________________________________________

وكلاهما محال.

وأمّا الثّاني: فلأنّ هذه المباحث ليست ممّا ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل بعد الفحص والبحث عن الأدلّة والأمارات، فإنّ حجيّة القطع ليست منوطة بالفحص والبحث عن الدليل بخلاف الأمارات، كالاستصحاب والبراءة والتخيير والاحتياط، فكلّها تتوقّف على الفحص واليأس عن الظفر بالدليل.

{وكان أشبه بمسائل الكلام} إذ المسائل الكلاميّة مرتبطة بأحوال المبدأ والمعاد، ومباحث القطع ترجع إلى صحّة المؤاخذة وعدمها المرتبطان بالمعاد، مثلاً: مسألة تنجّز العلم الإجمالي ترجع إلى صحّة المؤاخذة على مخالفة المعلوم بالإجمال وعدمها، وهكذا بقيّة المسائل السّبعة المذكورة في الكتاب.

وإنّما يجعلها من مسائل الكلام، إذ هي ليست عبارة عن مطلق المسائل العقليّة، بل ما ترتبط بالعقائد، ومن الواضح أنّه ليست مسائل القطع ممّا ترتبط بالعقائد.

وإنّما ذكرنا مسائل القطع في الأصول مع أنّها ليست منه {لشدّه مناسبته مع المقام} إذ نتكلّم في المقام عن الأمارات المعتبرة، ومن المعلوم أنّ اعتبارها إنّما يكون بالنسبة إلى غير القاطع، فمن المناسب أن يبحث أوّلاً عن أحكامها ثمّ عن أحكام ما ليس فيه القطع.إذا عرفت ما ذكرناه {فاعلم أنّ البالغ الّذي وضع عليه القلم} أي: قلم التكليف {إن التفت إلى حكم فعلي} لا ما إذا التفت إلى الحكم الاقتضائي أو الإنشائي، فإنّه لا يوجب الالتفات إليهما شيئاً {واقعي} وهو الحكم الثّابت للعناوين من حيث هي هي، كالحكم الثّابت على (الغنم) بالحليّة، وعلى (الخنزير) بالحرمة، من غير فرق في ذلك بين الواقعي الأوّلي كما مثلنا، أو الواقعي الثّانوي المعبّر عنه

ص: 263

أو ظاهريّ، متعلّق به أو بمقلّديه:

فإمّا أن يحصل له القطع به، أو لا. وعلى الثّاني لا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل، من اتّباع الظنّ لو حصل له، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة،

___________________________________________

ب- : الاضطراري كالوجوب الثّابت على التيمّم عند فقد الماء، والحرمة الثّابتة على الصّوم عند الضّرر.

وكذا لا فرق بين ما ثبت لشيء بعنوانه الأوّلي، كحليّة لحم الغنم في المثال، أو بعنوانه الثّانوي، كحرمة لحم الغنم الموطوء.

{أو ظاهري} وهو الحكم الثّابت للعناوين بوصف كونها مشكوكة، كالحليّة الثّابتة على الشّيء المشكوك حليّته وحرمته، والطهارة الثّابتة على المشكوك طهارته ونجاسته، والبراءة الثّابتة على مشكوك الوجوب، وهكذا {متعلّق به أو بمقلّديه} كالتفات الرّجل إلى حكم الحيض.

وليس المراد من القيد إخراج غير المجتهد، إذ كثير من الأحكام المذكورة هنا مشتركة بين المجتهد والمقلّد، كالقطع والأصول العقليّة ونحوهما، وإنّما فائدة هذا القيد إدخال المجتهد الملتفت إلى حكم غيره، أي: المقلّد، فتدبّر.

{فإمّا أن يحصل له القطع به} وحينئذٍ فيجب أنيعمل بمقتضى قطعه وإن كان لم يجب على غيره اتّباعه، في ما كان مجتهداً وقلنا بعدم حجيّة قطع المجتهد بالحكم للمقلّد، وإنّما يجب على المقلّد اتّباع ما استنبطه المجتهد من الدليل الشّرعي {أو لا} يحصل القطع.

{وعلى الثّاني} بأن لم يحصل القطع له {لا بدّ من انتهائه} أي: البالغ المذكور {إلى ما استقلّ به العقل} لأنّ كلّ ما بالغير لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات وإلّا لزم التسلسل، كما بيّن في محلّه {من اتّباع الظنّ لو حصل له، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة} أمّا لو لم يحصل له الظنّ أو حصل ولم تتمّ مقدّمات

ص: 264

___________________________________________

الانسداد كان التكليف هو الرّجوع إلى الأصول العمليّة الآتي ذكرها، وأمّا إن تمّت المقدّمات لكن على تقدير الكشف لا الحكومة كان بمنزلة القطع.

وتوضيح المقام: أنّ بعض الأصوليّين ادّعوا انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام وألزموا العمل بمطلق الظنّ، أي: إنّ الظنّ حجّة من أيّ سبب كان في الجملة، وهذا المبحث يسمّى بمبحث الانسداد وله مقدّمات:

الأُولى: العلم بثبوت تكاليف كثيرة.

الثّانية: انسداد باب العلم والعلمي بها.

الثّالثة: عدم جواز إهمال تلك الأحكام.

الرّابعة: عدم لزوم الاحتياط علينا في أطراف العلم ولا يجوز الرجوع إلى الأصل ونحوه.

الخامسة: أنّ ترجيح المرجوح الّذي هو الوهم على الرّاجح الّذي هو الظنّ قبيح.

وإذا تمّت هذه المقدّمات فقد يقال بأنّ العقل يحكم بحجيّة الظنّ حينئذٍ مندون أن يكون الشّارع جعله حج-ّة، وهذا هو المسمّى عندهم ب- : الحكومة، فيقال: إنّ مقدّمات الانسداد تنتج حجيّة الظنّ على الحكومة.

وقد يقال بأنّ بعد تماميّة مقدّمات الانسداد نستكشف بأنّ الشّارع نصب الظنّ طريقاً حينئذٍ، وهذا هو المسمّى عندهم ب- : الكشف، فيقال: إنّ مقدّمات الانسداد تنتج حجيّة الظنّ على الكشف.

إذا عرفت هذا فنقول: إذا لم يحصل القطع بالحكم فإمّا أن تتمّ مقدّمات الانسداد أم لا، وعلى الأوّل فإمّا أن يحصل الظنّ بالحكم أم لا، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون حجيّة الظنّ حينئذٍ على الحكومة وإمّا أن يكون على الكشف، فالأقسام أربعة:

ص: 265

وإلّا فالرجوع إلى الأصول العقليّة: من البراءة والاشتغال والتخيير، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء اللّه - تعالى - .

___________________________________________

الأوّل: أن تتمّ مقدّمات الانسداد ويحصل الظنّ على الحكومة، وعليه فاللّازم اتّباع هذا الظنّ لحكومة العقل بحجيّته حين التعذّر عن القطع.

الثّاني: أن تتمّ المقدّمات ويحصل الظنّ على الكشف، وهذا داخل في الشّقّ الأوّل - أعني: القطع بالحكم - إذ هو قطع بالحكم الظاهري.

الثّالث: أن تتمّ المقدّمات ولم يحصل الظنّ، وهذا داخل في الشّقّ الثّالث - أعني: الشّكّ بالحكم - الّذي سيأتي أنّ تكليفه الرّجوع إلى الأصول العمليّة.

الرّابع: أن تتمّ المقدّمات سواء حصل الظنّ بالحكم أم لا، وهذا كالثّالث في لزوم الرّجوع إلى الأصول العمليّة.

فتحصّل أنّه يجب اتّباع الظنّ على فرض تماميّة المقدّمات على الحكومة وحصول الظنّ {وإلّا} تتمّ المقدّمات أو تمّت ولم يحصل الظنّ {ف-} اللّازم {الرّجوع إلى الأصول العقليّة من البراءة}العقليّة الّتي مدركها حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان لا البراءة الشّرعيّة الّتي مدركها «رفع ما لا يعلمون»(1)

{والاشتغال} العقلي الّذي مدركه دفع الضّرر المحتمل في ما علم بالتكليف وشكّ في المكلّف به، لا الاشتغال الشّرعي الّذي مدركه «أخوك دينك فاحتط لدينك»(2)،

فتدبّر.

{والتخيير} العقلي في مورد دوران الأمر بين المحذورين لا التخيير الشّرعي الّذي مدركه قوله(علیه السلام): «إذن فتخيّر»(3)،

{على تفصيل يأتي في محلّه - إن شاء اللّه تعالى -}.

ص: 266


1- الخصال 2: 417.
2- بحار الأنوار 2: 258.
3- مستدرك الوسائل 17: 304.

وإنّما عمّمنا متعلّق القطع؛ لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلّقاً بالأحكام الواقعيّة،

___________________________________________

وإنّما أوجب الرّجوع إلى الأصول العقليّة عند تعذّر القطع والظنّ المذكور لا الأصول الشّرعيّة؛ لأنّ الأصول الشّرعيّة داخلة في الشّقّ الأوّل؛ لأنّ بها يحصل العلم بالحكم الشّرعي الظاهري، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الشّيخ(قدس سره) في أوّل الرّسائل قسم المكلّف الملتفت إلى ثلاثة أقسامٍ بما لفظه: «فاعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي، فيحصل له إمّا الشّكّ فيه، أو القطع، أو الظنّ»(1)

ثمّ جعل المرجع عند الشّك الأصول العمليّة.

والمصنّف(رحمة الله) عدل من تقسيمه لوجهين:

الأوّل: أنّه خصّص القطع بما إذا تعلّق بالحكم الواقعي بقرينة أنّه جعل الأصول العمليّة مرتبطاً بالشقّ الثّالث - أعني: الشّكّ - ولا وجه له، إذ القطع كماقد يتعلّق بالحكم الواقعي كذلك قد يتعلّق بالحكم الظاهري، كأن يقطع بالبراءة أو الاستصحاب ونحوهما عند الشّكّ في الحكم الواقعي.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {وإنّما عمّمنا متعلّق القطع} حيث جعلنا مصبّ الأقسام الثّلاثة الأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري {لعدم اختصاص أحكامه} أي: أحكام القطع {بما إذا كان متعلّقاً بالأحكام الواقعيّة} فإنّ القطع كما يجب اتّباعه إذا تعلّق بالحكم الواقعي كذلك يجب اتّباعه إذا تعلّق بالحكم الظاهري.

الثّاني: أنّه عمّم متعلّق القطع وأخويه بما إذا تعلّقت بالحكم الفعلي أو الاقتضائي أو الإنشائي لأنّه لم يقيّد الحكم بالفعلي، ولا وجه له، إذ أنّ أحكام القطع والظنّ والشّكّ لا تترتّب على الحكم الاقتضائي والإنشائي.

ص: 267


1- فرائد الأصول 1: 25.

وخصّصنا بالفعلي؛ لاختصاصها بما إذا كان متعلّقاً به - على ما ستطّلع عليه - . ولذلك عدلنا عمّا في رسالة شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - من تثليث الأقسام(1).

وإن أبيت إلّا عن ذلك، فالأولى أن يقال: «إنّ المكلّف: إمّا أن يحصل له القطع، أو لا. وعلى الثّاني:

___________________________________________

مثلاً: لو قطعنا بالحكم الإنشائي لم يجب اتّباعه ولم يحرم مخالفته، وهكذا لا يترتّب عليه سائر الأحكام فاللّازم تقييد الحكم بالفعلي، وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {وخصّصنا} متعلّق القطع {بالفعلي} بأن قلنا في العنوان: «إذا التفت إلى حكم فعلي» {لاختصاصها} أي:اختصاص أحكام القطع {بما إذا كان} القطع {متعلّقاً به} أي: بالحكم الفعلي {على ما ستطّلع عليه} إن شاء اللّه - تعالى - .

وهناك إشكال ثالث على تعريف الشّيخ يشير إليه المصنّف بقوله: «لئلّا يتداخل الأقسام» الخ.

{ولذلك} الّذي ذكرنا من التعميم والتخصيص {عدلنا عمّا في رسالة شيخنا العلّامة} المرتضى الأنصاري {- أعلى اللّه مقامه - من تثليث الأقسام} بتلك الكيفيّة الخاصّة من انصبابها على الحكم الواقعي، الأعم من الفعلي وغيره {وإن أبيت إلّا عن ذلك} النّحو من التقسيم الّذي ذكره الشّيخ(رحمة الله)، ووجه الإباء زعم أنّه أقرب إلى الاعتبار العرفي المأخوذ من الحالة الوجدانيّة.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وأمّا بملاحظة عدم صحّة التقسيم الثّنائي المزبور لو عمّم - لمكان القطع بالحكم الفعلي في جميع الأقسام - »(2) {فالأولى أن يقال: «إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع أو لا، وعلى الثّاني} الّذي هو عبارة عن عدم حصول

ص: 268


1- فرائد الأصول 1: 25.
2- شرح كفاية الأصول 2: 4.

إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر، أو لا»؛ لئلّا يتداخل الأقسام في ما يذكر لها من الأحكام. ومرجعه - على الأخير - إلى القواعد المقرّرة - عقلاً أو نقلاً - لغير القاطع ومن يقوم عنده الطريق، على تفصيل يأتي في محلّه - إن شاء اللّه تعالى- حسب ما يقتضي دليلها.

___________________________________________

القطع {إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر} شرعاً أو عقلاً {أو لا»} فالأقسام حينئذٍ تكون ثلاثة: القاطع، ومن يقوم لديه طريق معتبر، وغيرهما.

وإنّما قلنا بأولويّة هذا النّحو من التقسيم الثّلاثي عن تقسيم الشّيخ {لئلّا يتداخل الأقسام في ما يذكر لها من الأحكام} فإنّه على تقسيم الشّيخ يتداخل حكم الظنّ والشّكّ، إذ جعل الشّيخ(رحمة الله) مجرى الأصول مختصّاً بصورة الشّكّ ومحلّ الأمارات في صورة الظنّ، مع معلوميّة أنّ الظنّ الّذي لا يعتبر شرعاً كان حكمه حكم الشّكّ فيجب الرّجوع فيه إلى الأصول، كما أنّه إذا كان هناك شكّ في الحكم ولكن وجد في مورده دليل تعبّدي كان بحكم الظنّ اللّازم فيه العمل على طبق الأمارة، فتدبّر.

والحاصل: أنّه لو كانت - في صورة عدم حصول القطع - حجّة كان مورداً للأمارة، سواء كانت الحالة الوجدانيّة الشّكّ أو الظنّ، ولو لم تكن حجّة كان مورداً للأُصول {ومرجعه} أي: مرجع المكلّف على الأوّل هو المقطوع به، وعلى الثّاني هو الأمارات كالظواهر وخبر الواحد ونحوهما، ويعبّر عنها بالأدلّة الاجتهاديّة، و{على الأخير} وهو المكلّف الّذي لم يحصل له أحد الأوّلين {إلى القواعد} الأربعة من الاستصحاب والبراءة والتخيير والاحتياط {المقرّرة عقلاً أو نقلاً لغير القاطع، و} غير {من يقوم عنده الطريق، على تفصيل يأتي في محلّه - إن شاء اللّه تعالى -} من أنّ أيّ مكلّف حكمه الاستصحاب، وأيّ مكلّف حكمه البراءة، وهكذا {حسب ما يقتضي دليلها} أي: دليل تلك القواعد.

ص: 269

وكيف كان، فبيان أحكام القطع وأقسامه يستدعي رسم أُمور:

الأمر الأوّل: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً، ولزوم الحركة على طبقه جزماً، وكونه موجباً لتنجّز التكليف الفعلي في ما أصاب، باستحقاق الذمّ والعقاب على مخالفته، وعذراً في ما أخطأ قصوراً.

___________________________________________

[أحكام القطع]

اشارة

{وكيف كان، فبيان أحكام القطع وأقسامه يستدعي رسم أُمور} سبعة:

[الأمر الأوّل لزوم العمل بالقطع عقلاً]

المقصد السّادس: في الأمارات، لزوم العمل بالقطع عقلاً

{الأمر الأوّل} في وجوب اتّباع القطع: {لا شبهة في وجوب العمل على وفقِ القطع عقلاً} بمعنى لزوم ترتيب آثار المقطوع بمجرّد القطع، فلو قطع بوجود الأسد حكم العقل بلزوم الفِرار منه {و} ذلك معنى {لزوم الحركة على طبقه جزماً} والقول بأنّه ليس للعقل حكم وبعث وزجر وإنّما الموجود في صقع العقل هو الإذعان فقط والمشاهدة للحسن والقبح ممّا يأباه الوجدان.

وكذلك بالنسبة إلى الأحكام العقلائيّة {وكونه} أي: القطع {موجباً لتنجّز التكليف الفعلي} لا الشّأني والاقتضائي {في ما أصاب} القطع للواقع بأن لم يكن جهلاً مركّباً {باستحقاق الذمّ والعقاب} متعلّق بالتنجّز، أي: إنّ معنى التنجّز هو لزوم الإتيان المستتبع للذمّ والعقاب {على مخالفته} ولا يخفى أنّ الذمّ من العقلاء والمولى، والعقاب من المولى، فتخصيص الذمّ بالعقلاء لا وجه له {وعذراً}عطف على «موجباً» أي: يكون القطع معذّراً {في ما أخطأ قصوراً} لا تقصيراً، فلو علم من أوّل الأمر أنّ قراءة الحكمة مثلاً موجباً للضلال، ثمّ قرأ فقطع بصحّة العقول العشرة لم يكن معذوراً.

ثمّ لا يخفى أنّ النّسبة بين الأثر الأوّل - وهو لزوم الحركة على طبق القطع -

ص: 270

وتأثيره في ذلك لازم، وصريحُ الوجدان به شاهد وحاكم، فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان.

ولا يخفى: أنّ ذلك لا يكون بجعل جاعلٍ؛

___________________________________________

وبين الأثر الثّاني - وهو التنجيز والإعذار - عموم مطلق، إذ لزوم الحركة عامّ بالنسبة إلى جميع أفراد القطع بخلاف الحجيّة {وتأثيره} أي: تأثير القطع {في ذلك} أي: وجوب الحركة على طبقه وحجيّته {لازم} لا ينفكّ عنه، كزوجيّة الأربعة، بل ربّما يقال: إنّ الحجيّة عين القطع لا لازمه {وصريح الوجدان به شاهد وحاكم} فهو من البديهيّات الأوليّة {فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان} مع أنّ إقامة البرهان على ذلك غير معقول؛ لأنّه لا بدّ وأن ينتهي إلى القطع وإلّا لم يفد علماً ولم يكن برهاناً وانتهاؤه إلى القطع مستلزم للتسلسل.

نعم، قد يكون الأمر الضّروري لخفاء تصوّره يخفى تصديقه، فاللّازم توجيه الذهن إلى تصوّره.

{ولا يخفى أنّ ذلك} أي: وجوب العمل على وفقه وتأثيره في التنجيز والإعذار {لا يكون بجعل جاعل} بخلاف سائر الأمارات كالخبر الواحد ونحوه، إذ الجعل إنّما يعقل بإعطاء الشّيء الفاقد، وأمّا الواجد فلا يعقل إعطاءه للزومه الجمع بين المثلين لو كان المُعْطى ثانياً غير ما كان له أوّلاً،ولزوم تحصيل الحاصل لو كان عين اللّازم أو لا.

ثمّ إنّ الجعل على قسمين:

الأوّل: الجعل البسيط، وهو عبارة عن جعل الشّيء وإيجاده، كجعل الإنسان، ويكون مفاد كان التامّة.

الثّاني: الجعل التأليفي، وهو عبارة عن جعل الشّيء شيئاً، كجعل الإنسان كاتباً، ويكون مفاد كان النّاقصة.

ص: 271

لعدم جعل تأليفي حقيقةً بين الشّيء ولوازمه، بل عرضاً بتبع جعله بسيطاً.

ولذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضاً، مع أنّه يلزم منه اجتماع الضّدّين اعتقاداً مطلقاً، وحقيقة في صورة الإصابة،

___________________________________________

إذا عرفت هذا قلنا لا يعقل أحد الجعلين بالنسبة إلى حجيّة القطع - بناءً على كون الحجيّة من لوازمه - {لعدم جعل} البسيط بالنسبة إلى لازم الشّيء؛ لأنّه مفاد كان النّاقصة لا التامّة، وعدم جعل {تأليفي حقيقة} على ما هو المصطلح مقابل قوله: «بل عرضاً» {بين الشّيء ولوازمه} فإنّه كما لا يعقل جعل الأربعة زوجاً والثّلاثة فرداً كذلك لا يعقل جعل القطع حجّة {بل} المتصوّر من الجعل بالنسبة إلى اللوازم هو الجعل {عرضاً يتّبع جعله} أي: جعل ذلك الشّيء {بسيطاً} بمعنى أنّ جعل القطع وإيجاده يلازم جعل الحجيّة بتبعه، كما أنّ جعل الأربعة يلازم جعل الزوجيّة {ولذلك} الدليل الّذي ذكرنا من امتناع جعل الحجيّة للقطع {انقدح امتناع المنع} أي: منع الشّارع {عن تأثيره أيضاً} كأن يقول بعدم حجيّة القطع، وذلك لأنّ ما لا يعقل جعله لا يعقل رفعه.

نعم، يمكن رفعه برفع أصل القطع، كما تقدّم من إمكان جعله بجعل أصله{مع أنّه يلزم منه} أي: من منع الشّارع عن حجيّة القطع {اجتماع الضّدّين اعتقاداً مطلقاً} سواء خالف الواقع أم طابقه؛ لأنّه بعد الاعتقاد بأنّ هذا المائع بول، وأنّ الشّارع نهى عن شرب البول لو قال له المولى: (يجوز لك شربه) رأى المولى مناقضاً؛ لأنّه يكون حينئذٍ محرّماً للنهي ومحلّلاً للتجويز، ولا يفرق في هذا بين أن يكون العلم بكون هذا المائع بولاً مطابقاً للواقع أم مخالفاً، وزعم أنّ اجتماع الضّدّين مانع عن تصديق العبد وإن لم يكن مستحيلاً بالنظر إلى الواقع.

{و} يلزم من منع الشّارع عن حجيّة القطع اجتماع الضّدّين {حقيقة في صورة الإصابة} أي: إصابة القطع للواقع، بأن كان ما قطع ببوليّته بولاً حقيقة، إذ لا يجتمع

ص: 272

كما لا يخفى.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصِر فعليّاً، وما لم يصر فعليّاً لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز واستحقاق العقوبة على المخالفة، وإن كان ربّما يوجب موافقتُهُ استحقاق المثوبة؛

___________________________________________

النّهي عن هذا المائع - لكونه بولاً - وتجويز ارتكابه {كما لا يخفى} بأدنى تدبّر.

{ثمّ لا يذهب عليك} أنّ للحكم مراتب مندرجة فما لم تتحقّق المرتبة السّالفة لا يعقل المرتبة اللّاحقة، فالمرتبة الأُولى: مرتبة الاقتضاء والمصلحة والمفسدة، فما لم تتحقّق في الشّيء مصلحة أو مفسدة لا يعقل وصوله إلى المرتبة الثّانية وهي مرتبة الإنشاء، فإنّ المولى بعد ملاحظة المصلحة ينشئ الوجوب وبعد ملاحظة المفسدة ينشئ الحرمة قانوناً، وهذه المرتبة -كالمرتبة السّابقة - لا تلازم الإرادة والكراهة، ولذا قالوا بإمكان اجتماع حكمين إنشائيّين، فتدبّر.

المرتبة الثّالثة: الفعليّة بأن يكون للمولى بعث وزجر نحو الحكم بدون قيام الحجّة عليه، فلا تكون مخالفته موجبة للعقاب.

المرتبة الرّابعة: التنجّز وتتحقّق بقيام الحجّة على المرتبة الثّالثة ويكون في فعله الثّواب وفي تركه العقاب حينئذٍ.

وبهذا تبيّن {أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليّاً} بل كان اقتضائيّاً أو إنشائيّاً {وما لم يصر فعليّاً لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز} لما تقدّم من تدرّج المراتب {و} عليه فلا يوجب الحكم {استحقاق العقوبة على المخالفة} مثلاً: لو علم بعض المسلمين في أوّل ظهور الإسلام بالمفسدة في الخمر وأنشأ المولى الحرمة ولكن لم يكن هناك زجر فعليّ كان شربها غير موجب للعقاب {وإن كان ربّما يوجب موافقته} بعنوان كونه محبوباً للمولى لا بداعٍ شهوي مع عدم العلم بحبّ المولى له {استحقاق المثوبة} لانطباق عنوان الانقياد عليه.

ص: 273

وذلك لأنّ الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقةً بأمرٍ ولا نهيٍ، ولا مخالفتهُ عن عمد بعصيان، بل كان ممّا سكت اللّه عنه، كما في الخبر، فلاحظ وتدبّر.

نعم، في كونه بهذه المرتبة مورداً للوظائف المقرّرة شرعاً للجاهل، إشكالُ لزوم اجتماع الضّدّين أو المثلين،

___________________________________________

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم العقوبة على المخالفة إذا لم يصر فعليّاً{لأنّ الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة} الفعليّة {لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي} إذ الحكم إنّما يسمّى أمراً أو نهياً حتّى يدخل تحت قوله - تعالى - : {مَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ}(1)، إذا وصل مرتبة الفعليّة {و} حينئذٍ {لا} يكون {مخالفته عن عمد بعصيان، بل كان ممّا سكت اللّه عنه، كما في الخبر} المروي عن أميرالمؤمنين - عليه الصّلاة والسّلام - : «إنّ اللّه تعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تعصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تتكلّفوها رحمة من اللّه لكم»(2)،

{فلاحظ وتدبّر} حتّى تستفيد منه عدم العقوبة على مخالفة الحكم المسكوت عنه وإن كان العمل به ليس محرّماً، بقرينة قوله(علیه السلام): «فلا تتكلّفوها» وقوله: «رحمة من اللّه لكم».

{نعم، في كونه} أي: الحكم {بهذه المرتبة} الفعليّة {مورداً للوظائف المقرّرة شرعاً للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضّدّين} في صورة مخالفة الواقع للأمارة.

مثلاً: لو كان الواقع على حرمة التُّتُن، وأدّت الأمارة إلى حليّته لزم اجتماع الضّدّين، وذلك مستحيل قطعاً {أو} اجتماع {المثلين} في صورة الموافقة، كما لو كان التُّتُن في الواقع حلالاً وأدّت الأمارة إلى حليّته لزم اجتماع إباحتين إباحة واقعيّة وإباحة ظاهريّة، وكما لا يمكن اجتماع الضّدّين لا يمكن اجتماع المثلين،

ص: 274


1- سورة الحشر، الآية: 7.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 75، وفيه: «... وفرض فرائض فلا تنقصوها... نسياناً لها فلا تكلّفوها».

على ما يأتي تفصيله - إن شاء اللّه تعالى - ، مع ما هو التحقيق في دفعه، في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري، فانتظر.

الأمر الثّاني: قد عرفت: أنّه لا شبهة في أنّ القطع يوجب استحقاقَ العقوبة على المخالفة، والمثوبةِ على الموافقة في صورة الإصابة.

___________________________________________

كما لا يخفى {على ما يأتي تفصيله} في بيان جعل الأمارات {إن شاء اللّه - تعالى - مع} بيان {ما هو التحقيق في دفعه} بحيث لا يلزم اجتماعهما وذلك {في} ما تبيّن من {التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري، فانتظر}.

وقوله: «نعم» استدراك عمّا اختاره المصنّف(رحمة الله) من جعل الأحكام الّتي هي متعلّق الأمارات والأصول فعليّاً، بخلاف ما لو جعل بعضها فعليّاً وبعضها غير فعليّ، فإنّه لا يلزم هذا الإشكال. وتوضيحه إجمالاً: أنّ المراد بالأحكام الّتي تكون متعلّقة للأُصول والأمارات أحد أُمور ثلاثة:

الأوّل: الأحكام الإنشائيّة والاقتضائيّة، فيرد عليه أنّ قيام الأمارة على هذه الأحكام لا توجب تنجّزها، لما تقدّم من أنّ التنجّز متأخّر عن مرتبة الفعليّة.

الثّاني: الأحكام الفعليّة، فيرد عليه لزوم اجتماع الضّدّين عند المخالفة والمثلين عند الإصابة.

الثّالث: الأعمّ من الأحكام الفعليّة وغيرها، وقد اختار المصنّف خلافه، فتدبّر.

[الأمر الثّاني التجرّي والانقياد]

المقصد السّادس: في الأمارات، التجري والانقياد

{الأمر الثّاني} في بيان استحقاق الثّواب والعقاب على العمل طبق القطع وأنّه هل يستحقّ المتجرّي العقاب أم لا؟ {قد عرفت أنّهلا شبهة في أنّ القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة} في العبارة تسامح، إذ القطع لا يوجب العقاب، كما لا يخفى {والمثوبة على الموافقة} للمقطوع به.

وقوله: {في صورة الإصابة} أي: مطابقة القطع للواقع، متعلّق بهما

ص: 275

فهل يوجب استحقاقها - في صورة عدم الإصابة - على التجرّي بمخالفته، واستحقاقَ المثوبة على الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئاً؟

الحقّ: أنّه يوجبه؛ لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته، وذمّه على تجرّيه وهتك حرمته لمولاه، وخروجه عن رسوم عبوديّته، وكونه بصدد الطغيان، وعزمه على العصيان، وصحّة مثوبته، ومدحه على إقامته بما هو قضيّة عبوديّته،

___________________________________________

{فهل يوجب} القطع {استحقاقها} أي: العقوبة {في صورة عدم الإصابة، على التجرّي} متعلّق بالاستحقاق، أي: إنّ التجرّي {بمخالفته} أي: بمخالفة القطع هل يوجب عقاباً - في ما إذا لم يصادف الواقع - كما لو شرب الماء بزعم أنّه خمر {و} كذا هل يوجب القطع {استحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته} أي: بموافقة القطع - في ما إذا لم يصادف الواقع - كما لو أتى بالصلاة مستدبراً بزعم أنّه القبلة {أو لا يوجب} القطع المخالف للواقع {شيئاً} لا عقاباً في صورة التجرّي ولا ثواباً في صورة الانقياد؟ وقد وقعت هذه المسألة محلّاً للكلام بين الأعلام.

و{الحقّ} عند المصنّف(رحمة الله) وجماعة {أنّه} أي: التجرّي{يوجبه} أي: يوجب العقاب {لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجرّيه وهتك حرمته لمولاه وخروجه عن رسوم عبوديّته} فإنّ العبد يلزم أن يكون بصدد الإطاعة وحفظ الحرمة {وكونه بصدد الطغيان وعزمه على العصيان} وهذا كلّه موجب للعقاب، إذ ملاك العقاب عند العقل هو كون العبد في هذا المقام، والتجرّي والمعصية الحقيقيّة متساويان في وجود هذا الملاك، فالفرق بينهما غير تام. نعم، لو قلنا بأن العقاب مترتّب على المخالفة العمديّة - كما هو الظاهر - لا يكون المتجرّي مستحقّاً للعقاب.

{و} وكذا يشهد الوجدان ب- {صحّة مثوبته ومدحه على إقامته بما هو قضيّة عبوديّته} وليس المراد من الإقامة الاستمرار، إذ هذا البرهان يجري بالنسبة إلى

ص: 276

من العزم على موافقته، والبناء على إطاعته، وإن قلنا بأنّه لا يستحقّ مؤاخذة أو مثوبة - ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة - بمجرّد سوء سريرته أو حسنها، وإن كان مستحقّاً للذمّ أو المدح بما يستتبعانه،

___________________________________________

العاصي دائماً، حيث يصدر منه الانقياد ولو مرّة واحدة {من العزم على موافقته} بيان «ما» {والبناء على إطاعته} أي: إطاعة المولى، فالملاك العقلي لاستحقاق المطيع المثوبة موجود في المنقاد.

نعم، لو قلنا مناط الثّواب عقلاً موافقة العبد لأمر المولى مع الالتفات إلى ذلك - كما هو الظاهر - لا كونه في مقام إظهار العبوديّة فقط لم يكن للانقيادثواب الإطاعة الحقيقيّة، وهذا لا ينافي الثّواب تفضّلاً، كما دلّ عليه بعض الأدلّة {وإن قلنا بأنّه لا يستحقّ مؤاخذة أو مثوبة - ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة} عملاً - {بمجرّد سوء سريرته أو حسنها} بأن كان عازماً على شرب الخمر لو وجدها أو للصيام لو أدرك شهر رمضان.

وقد يفسّر العبارة بأنّ المراد بها كون النّفس دنيّة أو رفيعة لا البناء على المعصية أو الطاعة حين التمكّن {وإن كان} هذا العبد {مستحقّاً للذمّ أو المدح بما يستتبعانه} أي: بسبب استتباع سوء السّريرة وحسنها استحقاق الذمّ أو المدح.

قال المشكيني(رحمة الله): «كلمة «ما» مصدريّة، وضمير التثنية راجع إلى «سوء السّريرة، وحسنها» وضمير المفرد المنصوب إلى «الاستحقاق» و«الباء» للسببيّة، والمعنى أنّ العبد مستحقّ للّوم أو المدح في تلك المرتبة، بسبب استلزام سوء السّريرة وحسنها الاستحقاق المذكور»(1)،

انتهى.

والمحتمل أن يكون المراد أنّه مستحقّ للذمّ أو المدح مع ما يستتبعان من قرب المولى وبعده، ونحو ذلك من سائر الأُمور المرتّبة عليهما.

ص: 277


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 48.

كسائر الصّفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة.

وبالجملة: ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحقّ بها إلّا مدحاً أو لوماً، وإنّما يستحقّ الجزاء بالمثوبة أو العقوبة - مضافاً إلى أحدهما - إذا صار بصدد الجري على طبقها، والعمل على وفقها، وجَزَمَ وعَزَمَ؛ وذلك لعدم صحّة مؤاخذته بمجرّد سوء سريرته من دون ذلك، وحسنها معه، كمايشهد به مراجعة الوجدان، الحاكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان، وما يستتبعان من استحقاق النّيران أو الجنان.

___________________________________________

والحاصل: أنّ هاتين الصّفتين {كسائر الصّفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة} كالشَّجَاعة والجُبْن والجُود والبُخْل، فإنّها وإن كانت لا توجب ثواباً أو عقاباً ولكنّها موجبة للمدح والذمّ، فيقال: (فلان بخيل) في مقام الذمّ أو (كريم) في مقام المدح.

{وبالجملة ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحقّ بها إلّا مدحاً أو لوماً، وإنّما يستحقّ الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافاً} وعلاوة {إلى أحدهما} أي: المدح واللوم {إذا صار بصدد الجري على طبقها} أي: طبق تلك الصّفة الكامنة {والعمل على وفقها وجزم وعزم} كأن أخذ كأس الماء بزعم الخمر فشربها، أو أكرم كافراً مهدور الدم بزعم أنّه مؤمن صالح.

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم استحقاق العقاب والثّواب على مجرّد الصّفة {لعدم صحّة مؤاخذته بمجرّد سوء سريرته من دون ذلك} الجري على طبقه {وحسنها} أي: المؤاخذة {معه} أي: مع الجري، وذلك لأنّ الصّفات النّفسيّة ليست مقدورة والثّواب والعقاب تابعان للمقدور، وبهذا يشكل استحقاقه للّوم والمدح إلّا أن يكون مراد المصنّف منهما إظهار أنّ هذا مخلوق حسن - كما في (مدحت اللؤلؤء على صفائه) - وذاك مخلوق قبيح {كما يشهد به} أي: بعدم صحّة الثّواب والعقاب على مجرّد حسن السّريرة وقبحها {مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال} من غير مدخليّة للشرع {في مثل باب الإطاعةوالعصيان وما يستتبعان من استحقاق النّيران أو الجنان}.

ص: 278

ولكن ذلك مع بقاء الفعل المُتَجَرّى به أو المنقاد به، على ما هو عليه

___________________________________________

ثمّ إنّ أقسام التجرّي على ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) ستّة:

أحدها: مجرّد القصد إلى المعصية، كأن يقصد شرب الخمر لو وجدها بعد سنة.

الثّاني: القصد مع الاشتغال بمقدّماته، كأن يتحرّك قاصداً دار الزانية من غير فرق بين أن يكون تلك الدار دار الزانية أو دار زوجته.

الثّالث: القصد مع التلبّس بما يعتقد كونه معصية، كأن يجامع زوجته بزعم أنّها أجنبيّة.

الرّابع: التلبّس بما يحتمل كونه معصية رجاءً لتحقّق المعصية، كأن يشرب أحد الإناءين المشتبهين رجاء كونه خمراً.

الخامس: التلبّس بما يحتمل كونه معصية لعدم المبالات بمصادفة الحرام، كأن يريد شرب هذا الإناء لرفع العطش سواء كان خمراً أم ماءً.

السّادس: التلبّس بمحتمل الحرمة رجاء أن لا يكون معصية وخوف أن يكون معصية، كأن يحتاج إلى شرب الماء فيشرب محتمل الخمريّة برجاء عدمها(1).

وأمّا خبث الذات كذات الأشرار بلا وجود أحد الأقسام فليس من التجرّي، ولذا فسّرناه عبارة المصنّف حيث قال: «وإن قلنا بأنّه لا يستحقّ» الخ بغير هذه الصّورة، فتأمّل.

ثمّ إنّ الفعل المتجرّى به - كشرب الماء المزعوم أنّه خمر - هل يبقى على ماهو عليه لولا التجرّي أم يحرم بهذا السّبب؟ وجهان واختار المصنّف(رحمة الله) العدم

بقوله: {ولكن ذلك} الّذي ذكرنا من كون التجرّي موجباً للعقاب والانقياد موجباً للثواب {مع بقاء الفعل المتجرّى به أو المنقاد به على ما هو عليه} قبل عروض

ص: 279


1- فرائد الأصول 1: 49.

من الحسن أو القبح، والوجوب أو الحرمة واقعاً، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصّفة، ولا يُغيّر حسنه أو قبحه بجهة أصلاً؛ ضرورة أنّ القطع بالحسن أو القبح، لا يكون من الوجوه والاعتبارات الّتي بها يكون الحسنُ والقبحُ عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبيّة والمبغوضيّة شرعاً؛ ضرورة عدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه - من المبغوضيّة والمحبوبيّة للمولى - بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له،

___________________________________________

عنواني التجرّي والانقياد عليه {من الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة واقعاً} فلو اعتقد خمريّة الماء فشربه كان الماء باقياً على جواز شربه وإن استحقّ المتجرّي العقاب، وبالعكس لو اعتقد وجوب شرب الماء لزعم كونه دواءه المنجي من الهلكة فشربه لم يكن الماء واجباً شربه.

والحاصل: أنّ الموجب للثواب والعقاب هو قصد الإطاعة والعصيان المقارن مع الفعل لا نفس الفعل {بلا حدوث تفاوت فيه} أي: في الفعل {بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم} الوجوبي والتحريمي {والصّفة} من الحسن والقبح {ولايغيّر} بصيغة المبنى للمفعول {حسنه أو قبحه} ووجوبه أو تحريمه الذاتي {بجهة} من جهتي التجرّي والانقياد {أصلاً، ضرورة أنّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات الّتي بها يكون الحسن والقبح عقلاً} وليسا مثل عنوان التعظيم والإهانة المغيّران للفعل.

مثلاً: القيام لأخذ شيء ليس حسناً ولا قبيحاً، والقيام تعظيماً للأب موجب لحسنه، فإنّ التعظيم من العناوين المحسنة، والقيام استهزاءً به موجب لقبحه إذ الاستهزاء من العناوين المقبحة، والقطع ليس كذلك، فالقطع بكون ابن المولى كافراً مهدور الدم لا يوجب حسنه {و} ذلك لأنّ القطع {لا} يكون {ملاكاً للمحبوبيّة والمبغوضيّة شرعاً، ضرورة عدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه من المبغوضيّة والمحبوبيّة للمولى بسبب قطع العبد} بنحو الجهل المركّب {بكونه محبوباً أو مبغوضاً له}

ص: 280

فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له - ولو اعتقد العبد بأنّه عدوّه - ، وكذا قتل عدوّه - مع القطع بأنّه ابنه - لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً. هذا.

مع أنّ الفعل المتجرّى به أو المنقاد به - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب - لا يكون اختياريّاً؛ فإنّ القاطع لا يقصده إلّا بما قطع أنّه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه، فكيف يكون

___________________________________________

أي: للمولى {فقتل ابن المولى} بما هو قتل لابنه {لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له - ولو اعتقدالعبد بأنّه عدوّه} ومهدور الدم عنده - . نعم، يثاب هذا العبد ثواب الانقياد.

{وكذا قتل عدوّه - مع القطع بأنّه ابنه - لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً} وإن كان مبغوضاً للمولى ومعاقباً لكونه تجرّياً وهتكاً لحرمته.

والحاصل: أنّ منشأ توهّم القبح والحرمة أو الحسن والوجوب ليس إلّا تعلّق القطع وحيث إنّ القطع ليس من العناوين المحسنة والمقبحة، فالفعل لا يتغيّر عمّا هو عليه، فالفعل حسن وإن كان ارتكابه بزعم أنّه قبيح موجباً لعقاب الفاعل، وكذا العكس.

{هذا مع أنّ} هنا وجهاً آخر لمنع قبح الفعل وحرمته بزعم الحرمة أو حسنه ووجوبه بزعم الوجوب، وهو أنّ {الفعل المتجرّى به أو المنقاد به - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب - لا يكون اختياريّاً، فإنّ} الفعل الاختياري ما يؤتى به بقصده وليس الفعل بعنوان أنّه مقطوع يؤتى به، إذ {القاطع لا يقصده إلّا بما قطع أنّه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي} فيشرب الماء بعنوان أنّه خمر ويقتل الغزال بعنوان أنّه عدوّ {لا بعنوانه الطارئ الآلي} فإنّه لا يشرب الماء بعنوان أنّه مقطوع الخمريّة ولا يقتل الغزال بعنوان أنّه مقطوع العداوة {بل لا يكون} الفعل المتجرّى به أو المنقاد به {غالباً بهذا العنوان} أي: بعنوان كونه مقطوعاً {ممّا يلتفت إليه، فكيف يكون}

ص: 281

من جهات الحسن أو القبح عقلاً، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلّا إذا كانتاختياريّة.

إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع،

___________________________________________

القطع الّذي لم يلتفت إليه {من جهات الحسن أو القبح عقلاً ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً، و} إذا ثبتت هذه المقدّمة - أعني: عدم كون الفعل بما هو مقطوع اختياريّاً - فبضميمة أنّه {لا يكاد يكون صفة موجبة لذلك} الحسن والقبح أو الحرمة والوجوب {إلّا إذا كانت اختياريّة} يتمّ المطلوب من عدم تغيير الفعل عمّا هو عليه، فلو فرضنا أنّ القطع كالتعظيم موجب للحسن، فكما أنّه لو قام بلا توجّه إلى كونه تعظيماً للمؤمن لم يكن التعظيم القهري موجباً لحسنه كذلك لو قتل الغزال بلا توجّه إلى كونه مقطوع العداوة لم يكن القطع المتعلّق به موجباً لحسنه، ومثله طرف التجرّي.

وإن شئت قلت: إن قتل الغزال بعنوان أنّه قتل العدوّ مقصود فهو اختياري وأمّا بعنوان أنّه قتل مقطوع العداوة غير مقصود، وحيث إنّ كلّ غير مقصود غير اختياري فهو غير اختياري، والعنوان الّذي لا يكون اختياريّاً ليس موجباً للحسن والقبح، إذ المقسم لهما هو الفعل الاختياري، كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ القطع ليس من العناوين المحسنة والمقبحة أوّلاً، وعلى تقدير تسليم كونه من تلك العناوين ليس موجباً للحسن والقبح لعدم الالتفات إليه، فلا يكون اختياريّاً حتّى يكون محسناً أو مقبحاً.

{إن قلت: إذا لم يكن الفعل} المتجرّى به {كذلك} أي: لم يكن بما هو مقطوع الحرمة اختياراً - لعدم الالتفات إلى هذا العنوان - {فلا وجه لاستحقاق العقوبة علىمخالفة القطع} مثلاً: الماء المزعوم كونه خمراً بعنوان أنّه مقطوع الخمريّة ليس

ص: 282

وهل كان العقاب عليها إلّا عقاباً على ما ليس بالاختيار؟

قلت: العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان، لا على الفعل الصّادر بهذا العنوان بلا اختيار.

إن قلت: إنّ القصد والعزم إنّما يكون من مبادئ الاختيار، وهي ليست باختياريّة، وإلّا لتسلسل.

___________________________________________

اختياريّاً يوجب العقاب {و} حينئذٍ {هل كان العقاب عليها} أي: على مخالفة القطع {إلّا عقاباً على ما ليس بالاختيار} فما قصده من شرب الخمر لم يقع والّذي وقع من شرب معلوم الخمريّة لم يكن باختيار فلا يصحّ العقاب، وذلك مثل ما لو قام بلا قصد الاستهزاء فتعنون بهذا العنوان فإنّه ليس معاقباً، إذ العقاب يكون مترتّباً على الفعل الاختياري والاستهزاء لم يقع باختياره لعدم قصده له؟

{قلت}: هذا الإشكال وارد لو قلنا بأنّ العقاب على الفعل وليس كذلك، إذ {العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان} مع تقارنه للفعل المزعوم بأنّه معصية، فإرادة المخالفة موجبة للعقاب {لا على الفعل الصّادر بهذا العنوان} أي: بعنوان أنّه مقطوع حتّى يقال: إنّه {بلا اختيار} ولا يصحّ العقاب على الأمر غير الاختياري.

{إن قلت}: لا يعقل أن يكون العقاب والثّواب على قصد العِصْيان أو الطّاعة، إذ لا عقاب ولا ثواب على القصد والعزم، ف- {إنّ القصدوالعزم} والإرادة {إنّما يكون من مبادئ الاختيار، وهي} أي: مبادئ الاختيار {ليست باختياريّة، وإلّا} فلو كانت مبادئ الاختيار اختياريّة {لتسلسل} إذ الفعل الاختياري هو الفعل الّذي يكون مسبوقاً بالإرادة، فلو كانت الإرادة اختياريّة احتاجت إلى إرادة أُخرى وتسلسل، فلا بدّ وأن لا يكون العقاب على القصد.

ص: 283

قلت: - مضافاً إلى أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار، إلّا أنّ بعض مباديه غالباً يكون وجوده بالاختيار؛ للتمكّن من عدمه، بالتأمّل في ما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة - يمكن أن يقال:

___________________________________________

{قلت}: يعقل أن يكون العقاب والثّواب على الإرادة والقصد، وما ذكرتم من أنّه لا يعقل؛ لأنّها ليست باختياريّة غير تامّ، إذ {مضافاً إلى أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار} كما ذكرتم فإنّ نفس الإرادة غير مسبوقة بإرادة أُخرى {إلّا أنّ بعض مباديه} أي: بعض مبادئ الاختيار والإرادة {غالباً يكون وجوده بالاختيار} إذ الفعل الاختياري مسبوق بمقدّمات سبعة - كما قالوا - : الأُولى: العلم، الثّانية: التصديق بالغاية، الثّالثة: الميل إلى الشّيء، الرّابعة: حكم القلب بأنّه ينبغي صدور الفعل بدفع الموانع وهو المسمّى بالجزم، الخامسة: الميل الّذي هو قبل الشّوق المؤكّد المسمّى بالعزم، السّادسة: الإرادة، السّابعة: حركة العضلات. وكلّ مرتبة من هذه المراتب متوقّفة على سابقتها فالإرادة متوقّفة على مقدّمات خمسة والجزم والعزم اختياريّان في الغالب.

فتبيّن أنّ بعض مقدّمات الإرادة داخلة تحت الاختيار {للتمكّن منعدمه بالتأمّل في ما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة} فيصرف نفسه عن الجزم والعزم حتّى لا تتمّ مقدّمات الإرادة ولا يقع الفعل، وعليه فلو لم يصرف نفسه عن الجزم والعزم وأراد صحّ العقاب على الإرادة؛ لأنّها تحت يده - فإنّ المقدور بالواسطة مقدور - .

ولا يخفى أنّ هذا هو الجواب الصّحيح - وإن كان قرّره بعض بوجه آخر - لما أُورد على هذا التقرير.

وكيف كان، فلا يحتاج إلى الجواب الثّاني الموجب لبعض ما يخالف قواعد العدل الّذي ذكره بقوله: {يمكن أن يقال} بعد تسليم أنّ الإرادة غير اختياريّة مطلقاً

ص: 284

إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بُعده عن سيّده، بتجرّيه عليه، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة، فكما أنّه يوجب البُعد عنه، كذلك لا غروَ في أن يوجب حسن العقوبة؛ فإنّه وإن لم يكن باختياره، إلّا أنّه بسوء سريرته وخبث باطنه، بحسب نقصانه، واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكاناً.

وإذا انتهى الأمرُ إليه يرتفع الإشكال

___________________________________________

وأنّ العقاب على الإرادة: {إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بُعْده} أي: بعد العبد {عن سيّده ب-} سبب {تجرّيه عليه كما كان} العقاب {من تبعته} أي: تبعة العبد {ب-} سبب {العصيان في صورة المصادفة} فحال التجرّي والمعصية متساويان من هذه الجهة {فكما أنّه} أي: العصيان بالتجرّي {يوجب البُعد} للعبد {عنه} تعالى{كذلك لا غروَ} ولا عجب {في أن يوجب حسن العقوبة، فإنّه وإن لم يكن} هذا العصيان {باختياره} لأنّ العقاب على التجرّي التابع للإرادة الّتي ليست باختياريّة {إلّا أنّه بسوء سريرته وخبث باطنه بحسب نقصانه} فطرةً {واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكاناً} فإنّ إمكان كلّ شيء بحسبه، فإمكان الخبيث إنّما هو إمكان الخبيث لا إمكان مطلق، كما أنّ إمكان الطيّب إنّما هو إمكان الطيّب لا مطلقاً {وإذا انتهى الأمر إليه} أي: إلى مقام الذات، بأن كان العقاب تابعاً للتجرّي التابع للإرادة التابعة للذات {يرتفع الإشكال} بأنّه إن كانت الإرادة بغير اختيار لزم كون العقاب على ما ليس بالاختيار وإن كانت اختياريّة لزم التسلسل.

ووجه ارتفاع الإشكال أنّا نختار الشّقّ الأوّل ونقول: العقاب التابع للذاتي غير قبيح، وإنّما يقبح العقاب على ما ليس من قبل الذات، بل من أمر خارجيّ وكان بواسطة الغير.

أقول: وهذا كما ترى عين الجبر، واللّه العاصم.

ص: 285

وينقطع السّؤال ب- (لِمَ)؛ فإنّ الذاتيّات ضروريّ الثّبوت للذات.

وبذلك أيضاً ينقطع السّؤال عن أنّه لِمَ اختار الكافر والعاصي، الكفر والعصيان، والمطيع والمؤمن، الإطاعة والإيمان؟ فإنّه يساوق السّؤال عن أنّ الحمار لم يكون ناهقاً؟ والإنسان لم يكون ناطقاً؟

وبالجملة: تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه - جلّ شأنه، وعظمت كبرياؤه - والبعدِ عنه، سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة ودرجاتها، والنّار ودركاتها،وموجب لتفاوتها في نيل الشّفاعة وعدمه،

___________________________________________

{و} حيث ربّما يُوْرَدُ هنا بأنّ اللّه - تعالى عمّا يقولون - لم جعل الذات هكذا حتّى يعاقبه، أشار إلى جوابٍ ذكره الشّيخ الرّئيس - وإن كان في نفسه غير صحيح - وهو أنّه: {ينقطع السّؤال ب- (لم) فإنّ الذاتيّات ضروريّ الثّبوت للذات} فإنّه كما يمتاز النّوع عن الجنس بفصل ضروريّ الثّبوت له كذلك يمتاز كلّ فرد عن أبناء نوعه بلازم ضروريّ الثّبوت له.

{وبذلك} الّذي ذكرنا في باب التجرّي من انتهاء الأمر إلى الذاتي الّذي ينقطع السّؤال فيه ب- (لم) {أيضاً} يظهر الجواب في باب المعصية الحقيقيّة، فإنّه {ينقطع السّؤال عن أنّه لم اختار الكافر والعاصي، الكفر والعصيان، و} لم اختار {المطيع والمؤمن، الإطاعة والإيمان، فإنّه} سؤال عن الذاتي، إذ الإطاعة والإيمان والكفر والعصيان ناشئة عن الذات، فالسؤال عنها يساوي و{يساوق السّؤال عن أنّ الحمار لم يكون ناهقاً والإنسان لم يكون ناطقاً} فكما أنّ السّؤال الثّاني غيرُ صحيحٍ، كذلك السّؤال الأوّل.

{وبالجملة تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه - جلّ شأنه وعظمت كبرياؤه - والبُعد عنه سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة ودرجاتها والنّار ودركاتها، وموجب لتفاوتها} أي: تفاوت أفراد الإنسان {في نيل الشّفاعة وعدمه} أي: عدم النّيل

ص: 286

وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتيّاً، والذاتي لا يعلّل.إن قلت: على هذا فلا فائدة في بعث الرّسل وإنزال الكتب، والوعظ والإنذار.

___________________________________________

{وتفاوتها في ذلك} القرب والبعد {بالآخرة يكون ذاتيّاً والذاتي لا يعلّل} كما قال السّبزواري:

«ذاتيّ شيء لم يكن معلّلا

وكان ما يسبقه تعقّلا»(1)

وقد علّق المصنّف على قوله: «وإن لم يكن باختياره» ما لفظه: «كيف لا، وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختياريّة، فإنّها هي المخالفة العمديّة وهي لا تكون بالاختيار، ضرورة أنّ العمد إليها ليس باختياري، وإنّما تكون نفس المخالفة اختياريّة، وهي غير موجبة للاستحقاق، وإنّما الموجبة له هي العمديّة منها، كما لا يخفى على أُولي النُّهى»(2)، انتهى.

ولا يخفى بطلان هذا الكلام برهاناً ووجداناً مع مخالفته لضروري المذهب، فإنّ العصيان لو لم يكن اختياريّاً لم تكن الإطاعة اختياريّة لعدم الفرق بينهما، إذ الإطاعة هي الموافقة عن عمد، فيلزم الجبر وأدلّة بطلانه آتٍ هنا، فلا نطيل المقام بذكرها.

والعجب عن المصنّف كيف غفل عن ذلك، وأغرَبُ منه تأييد بعض المحشّين لهذه الدعاوي الباطلة الخالية عن أيّ برهان مع مصادمة الوجدان، عصمنا اللّه والطلّاب من الزلل بمحمّد وآله الطّاهرين.

{إن قلت: على هذا} الّذي ذكرتم من أنّ الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان من تبعات الذات ومقتضياته {فلا فائدة في بعث الرّسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار} إذ المؤمن والمطيع يؤمن بنفسه ويطيع، كما أنّ النّار تحرق بنفسها من غيراحتياج إلى الإرشاد.

ص: 287


1- شرح المنظومة 1: 154.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 62.

قلت: ذلك لينتفع من حسُنت سريرته وطابت طينته، لتكمل به نفسه، ويخلص مع ربّه أُنسه، {وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ}(1)، قال اللّه تبارك وتعالى: (فَذَكِّر فَإِنَّ الذِّكرَی تَنفَعُ المُؤمِنِينَ)(2)، وليكون حجّة على من ساءت سريرته وخبثت طينته، {لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ}(3)، كيلا يكون للناس على اللّه حجّة، بل كان له حجّة بالغة.

ولا يخفى: أنّ في الآيات والرّوايات شهادة على صحّة ما حكم به الوجدان،

___________________________________________

{قلت: ذلك} البعث والإنزال والوعظ والإرشاد إنّما هو لإيجاد الشّوق بالنسبة إلى المؤمن والمطيع {لينتفع مَنْ حَسُنَتْ سريرته وطابت طِيْنَتُهُ لتكمل به نفسه ويخلص مع ربّه أُنسه} كما قال - تعالى - حكايةً عنهم: {{وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ}} و{قال اللّه - تبارك وتعالى - : (فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)} والظاهر أنّ «الفاء» من غلط النّسّاخ إذ الآية: {وَذَكِّرۡ} {وليكون حجّة على من ساءت سريرته وخبثت طينته {لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ}، كيلايكون للناس على اللّه حجّة، بل كان له حجّة بالغة} وأنت تعلم أنّه لو كان من مقتضيات الذات لم يتمّ شيء ممّا ذكر ويكون تكثير العبارة فقط.

{ولا يخفى أنّ في الآيات والرّوايات شهادة على صحّة ما حكم به الوجدان} من حرمة التجرّي والعقاب عليه.

قال الشّيخ الأنصاري(رحمة الله) في مبحث التجرّي من الرّسائل: «يظهر من أخبار أُخر العقاب على القصد أيضاً، مثل قوله(صلی الله علیه و آله): «نيّة الكافر شرّ من عمله»(4)، وقوله:

ص: 288


1- سورة الأعراف، الآية: 43.
2- إشارة إلى سورة الذاريات، الآية: 55.
3- سورة الأنفال، الآية: 42.
4- الكافي 2: 84.

___________________________________________

«إنّ اللّه يحشر النّاس على نيّاتهم»(1)، وما ورد من تعليل خلود أهل النّار في النّار، وخلود أهل الجنّة في الجنّة، بعزم كلّ من الطائفتين على الثّبات على ما كان عليه من المعصية والطاعة لو خلّدوا في الدنيا(2)، وما ورد من أنّه إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النّار. قيل: يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال(صلی الله علیه و آله): «لأنّه أراد قتل صاحبه»(3)،

وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدّمات بقصد ترتّب الحرام كغارس شجرة الخمر(4) والماشي لسعاية مؤمن(5)،

وفحوى ما دلّ على أنّ الرّضا بفعل كفعله، مثل ما عنأميرالمؤمنين(علیه السلام) «أنّ الرّاضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى الداخل إثمان: إثم الرّضا وإثم الدخول»(6)، وما ورد في تفسير قوله - تعالى - {فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ}(7)، من أنّ نسبة القتل إلى المخاطبين، مع تأخّرهم عن القاتلين بكثيرٍ، رضاهم بفعلهم(8)،

ويؤيّده قوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ}(9)، وقوله - تعالى - : {وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ}(10)، وما ورد من «أنّ من رضي بفعل فقد لزمه وإن لم

ص: 289


1- المحاسن 1: 262.
2- وسائل الشيعة 1: 50.
3- تهذيب الأحكام 6: 174.
4- وسائل الشيعة 17: 224.
5- وسائل الشيعة 29: 19.
6- نهج البلاغة، الحكمة: 154.
7- سورة آل عمران، الآية: 183.
8- الكافي 2: 409.
9- سورة النور، الآية: 19.
10- سورة البقرة، الآية: 284.

الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة.

ومعه لا حاجة إلى ما استُدِلّ على استحقاق المتجرّي للعقاب بما حاصله: «أنّه لولاه - مع استحقاق العاصي له - يلزم إناطةُ استحقاق العقوبة بما هو خارجٌ عن الاختيار، من مصادفة قطعه، الخارجة عن تحت قدرته واختياره».

___________________________________________

يفعل»(1)، وقوله - تعالى - : {تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ}»(2)(3)،

انتهى كلامه رفع مقامه، إلى غير ذلك من الأدلّة السّمعيّةالشّاهدة على صحّة ما حكم به الوجدان {الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة}.

{ومعه} أي: مع وجود الشّهادة المذكورة لحكم الوجدان {لا حاجة إلى ما استدلّ} والمستدلّ هو المحقّق السّبزواري في الذخيرة(4) - على ما حكي - {على استحقاق المتجرّي للعقاب بما حاصله: «أنّه لولاه} أي: لولا استحقاق المتجرّي للعقاب {مع استحقاق العاصي له} أي: للعقاب {يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار من مصادفة قطعه} للواقع {الخارجة} تلك المصادفة {عن تحت قدرته واختياره»} وقوله: «من مصادفة» بيان لقوله: «ما هو خارج عن الاختيار».

وتوضيحُ: هذا الاستدلالِ - على ما ذكره الشّيخ(رحمة

الله)(5) - هو: أنّا إذا فرضنا شخصين قاطعين بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمراً، وقطع الآخر بكون مائع معيّن آخر خمراً، فشرباهما، فاتّفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر له، فإمّا أن يستحقّا العقاب، أو لا يستحقّه أحدهما، أو يستحقّه من صادف قطعه الواقع

ص: 290


1- وسائل الشيعة 16: 139.
2- سورة القصص، الآية: 83.
3- فرائد الأصول 1: 46.
4- ذخيرة المعاد 2: 209-210.
5- فرائد الأصول 1: 38.

مع بطلانه وفساده؛ إذ للخصم أن يقول: بأنّ استحقاق العاصي دونه، إنّما هو لتحقّق سبب الاستحقاق فيه - وهو مخالفته عن عمد واختيار - وعدمِ تحقّقه فيه؛ لعدم مخالفته أصلاً - ولو بلا اختيار - ، بل عدم صدور فعلٍ منه في بعض أفرادهبالاختيار، كما في التجرّي بارتكاب ما قطع أنّه من مصاديق الحرام، كما إذا قطع - مثلاً - بأنّ مائعاً خمر، مع أنّه لم يكن بالخمر،

___________________________________________

دون الآخر، أو العكس، لا سبيل إلى الثّاني والرّابع، والثّالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار، وهو مناف لما يقتضيه العدل فتعيّن الأوّل.

وهذا الاستدلال - {مع} أنّا في غِنىً عنه، لما تقدّم من حكم الوجدان وشهادة الأدلّة السّمعيّة - {بطلانه وفساده} واضح {إذ للخصم} القائل بعدم حرمة التجرّي وعدم العقاب عليه {أن يقول} في جواب هذا الاستدلال: إنّا نلتزم باستحقاق المصادف دون غيره، ولا يلزم إناطة العقاب بأمر خارج عن الاختيار {بأنّ استحقاق العاصي دونه} أي: دون المتجرّي {إنّما هو لتحقّق سبب الاستحقاق فيه} أي: في العاصي - {وهو مخالفته عن عمد واختيار - وعدم تحقّقه} أي: تحقّق سبب استحقاق العقاب {فيه} أي: في التجرّي {لعدم مخالفته} للمولى {أصلاً ولو بلا اختيار} لا باختيار ولا بغير اختيار، إذ المفروض أنّه شرب الماء، فلم يشرب الخمر باختياره، ولم يشربها بغير اختياره، فإنّه لم يتحقّق منه شرب الخمر حتّى يقال: إنّه باختيار أو بغير اختيار {بل عدم صدور فعل منه} أي: من المتجرّي {في بعض أفراده} أي: أفراد التجرّي {بالاختيار} متعلّق ب- «عدم صدور» {كما في التجرّي بارتكاب ما قطع أنّه من مصاديق الحرام} مقابل التجرّي بارتكاب ما احتمل أنّه من مصاديق الحرام، كشرب أحد أطراف الشّبهة المحصورة {كما إذا قطع - مثلاً - بأنّ مائعاً} معيّناً {خمر مع أنّه لم يكن بالخمر}.ووجه عدم صدور الفعل في هذه الصّورة أنّه قد شرب المائع المذكور باعتقاد

ص: 291

فيحتاج إلى إثبات أنّ المخالفة الاعتقاديّة سبب كالواقعيّة الاختياريّة، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّه ليس في المعصية الحقيقيّة إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة - وهو هتك واحد - ، فلا وجه لاستحقاق عقابين

___________________________________________

كونه خمراً، فما قصد لم يقع وما وقع - أعني: شرب الماء - لم يقصد. وقد تقدّم أنّ الفعل الاختياري هو المسبوق بالقصد والإرادة، فتأمّل.

وأمّا وجه كون مرتكب أحد الأطراف باحتمال الخمريّة يصدر منه الفعل الاختياري أنّه قاصد لكلّ منهما على البدل، والقصد كما يتعلّق بأمر معيّن كذلك يتعلّق بأمر مردّد، فأيّهما وقع يقع بالاختيار لسبق الإرادة، ولاختلاف أفراد التجرّي في صدور الفعل الاختياري عن المتجرّي وعدمه.

قال المصنّف(رحمة الله) في بعض أفراده: وحيث بطل استدلال صاحب الذخيرة بما ذكرنا {فيحتاج} (رحمة الله) {إلى إثبات أنّ المخالفة الاعتقاديّة سبب} للعقاب سواء كان باختيار أم لا {ك-} المخالفة {الواقعيّة الاختياريّة} بأن يقول: إنّ علّة استحقاق العقاب ليست منحصرة في شرب الخمر، بل لو شرب معلوم الخمريّة - بأن صدرت منه المخالفة الاعتقاديّة - كان معاقباً أيضاً، وهذا أوّل الكلام، إذ المنكر لعقاب المتجرّي ينكر كون معلوم الخمريّة، كالخمر الواقعيّة في عقاب متناوله {كما عرفت بما لا مزيد عليه}.

هذا {ثمّ} إنّه أورد على من التزم بعقاب المتجرّي بأنّه يلزم أن يكون فيالمعصية الحقيقيّة عقابان: أحدهما: لكونه معصية، والثّاني: لكونه تجرّياً وهتكاً لحرمة المولى مع أنّه ليس في المعصية إلّا عقاب واحد بالضّرورة.

وأجاب المصنّف(رحمة

الله) عنه بقوله: {لا يذهب عليك أنّه ليس في المعصية الحقيقيّة إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة وهو هتك واحد} للمولى {فلا وجه لاستحقاق عقابين}

ص: 292

متداخلين - كما توهّم -(1).

مع ضرورة أنّ المعصية الواحدة لا توجب إلّا عقوبةً واحدة، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما، كما لا يخفى.

ولا منشأ لتوهّمه إلّا بداهة أنّه ليس في معصية واحدة إلّا عقوبة واحدة، مع الغفلة عن أنّ وحدة المسبّب

___________________________________________

إذ هتك الحرمة والجرأة تارةً يكون بشرب الخمر، وأُخرى بشرب مائع باعتقاد أنّه خمر، وعلى أيّ حال فالجرأة واحدة ولا تكون متعدّدة حتّى توجب تعدّد العقاب، نعم، يتفاوت العقاب بتفاوت مراتب الهتك، كما لا يخفى.

وأجاب صاحب الفصول(رحمة الله) عن إيراد تعدّد العقاب بجواب آخر، وهو تداخل العقابين فحيث اجتمع التجرّي مع المعصية الحقيقيّة يكون عقاب واحد لها وحيث كان التجرّي فقط كان له عقاب له.

وإليه أشار بقوله: «لا وجه لاستحقاق عقابين» {متداخلين كما توهّم} حيث رأى أنّ تعدّد المعصية بالمصادفة والتجرّي يوجب تعدّد العقاب {مع ضرورة أنّ المعصية الواحدة لا توجب إلّا عقوبة واحدة} فتلخّص عن هذا المحذور بالتزام التداخل.وردّه المصنّف بقوله: {كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما} إذ المراد بالتداخل إن كان اشتداد العقوبة بقدر المعصيتين فهذا ليس من التداخل بل هو جمع بينهما، وإن كان المراد وحدة العقاب حقيقةً فلا وجه للالتزام بعقابين حتّى نقع في محذور التداخل بأنّه كيف يسقط أحد العقابين عند اجتماع معصيتين {كما لا يخفى}.

{و} الحاصل: أنّه {لا منشأ لتوهّمه} أي: توهّم التداخل {إلّا بداهة أنّه ليس في معصية واحدة إلّا عقوبة واحدة} فلا بدّ من القول بالتداخل جمعاً بين تعدّد المعصية وبين وحدة العقاب {مع الغفلة عن أنّ وحدة المسبّب} كالعقاب في ما

ص: 293


1- الفصول الغرويّة: 87.

تكشف - بنحو الإنّ - عن وحدة السّبب.

الأمر الثّالث: أنّه قد عرفت، أنّ القطع بالتكليف - أخطأ أو أصاب - يوجب عقلاً استحقاق المدح والثّواب، أو الذمّ والعقاب، من دون أن يؤخذ شرعاً في خطاب.

وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلّقه، لا يماثله ولا يضادّه، - كما إذا ورد في الخطاب: (أنّه إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدّق بكذا) - :

___________________________________________

نحن فيه - الّذي قامت الضّرورة على وحدته - {تكشف بنحو الإنّ} والانتقال من المعلول إلى العلّة {عن وحدة السّبب} وهو المعصية، لا أنّ وحدة العقاب تكشف عن تداخل المعصيتين الموجب لتداخل العقابين، فالسبب واحد وهو التجرّي الواحد ولذا وحّد العقاب.

هذا ولكن الإنصاف عدم قيام الدليل على حرمة التجرّي وعقابه، واللّه العالم.

[الأمر الثّالث أقسام القطع]

المقصد السّادس: في الأمارات، أقسام القطع{الأمر الثّالث} - من الأُمور السّبعة المبحوث عنها في باب القطع - : {أنّه قد عرفت أنّ القطع بالتكليف} سواء {أخطأ أو أصاب يوجب عقلاً استحقاق المدح والثّواب} في مورد الإطاعة والانقياد {أو الذمّ والعقاب} في مورد المعصية والتجرّي {من دون أن يؤخذ} القطع {شرعاً في خطاب} بل يكون طريقيّاً محضاً.

{وقد يؤخذ} القطع {في موضوع حكم آخر} بحيث {يخالف} ذلك الحكم الآخر لحكم {متعلّقه لا يماثله ولا يضادّه} أي: لا يماثل ذلك الحكم الآخر لحكم متعلّق القطع ولا يضادّه {كما إذا ورد في الخطاب} الشّرعي {أنّه (إذا قطعت بوجوب شيء} كالصلاة {يجب عليك التصدّق بكذا)} فإنّ القطع جعل موضوعاً لوجوب التصدّق، ومن المعلوم أنّ وجوب التصدّق الّذي هو حكم آخر متّصف بثلاث صفات:

الأُولى: أنّه يخالف حكم متعلّق القطع، فإنّ حكم متعلّق القطع وجوب الصّلاة،

ص: 294

تارةً: بنحو يكون تمام الموضوع، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقاً - ولو أخطأ - موجباً لذلك.

___________________________________________

وهذا الحكم وجوب التصدّق - فليس عينه - نعم، لو قال: (إذا قطعت بوجوب الصّلاة وجب عليك الصلاة) - بذلك الوجوب الأوّل - كان حكم القطع عين حكم متعلّق القطع، لكنّه مستحيل للزوم الدور.

الثّانية: أنّ وجوب التصدّق لا يماثل حكم متعلّق القطع - أعني: وجوب الصّلاة - إذ وجوب الصّلاة ليس مماثلاً لوجوب التصدّق، نعم، لو قال: (إذاقطعت بوجوب الصّلاة وجب عليك الصّلاة) - بوجوب آخر غير الأوّل - كان حكم القطع مماثلاً لحكم متعلّق القطع، لكنّه مستحيل للزوم اجتماع المثلين في موضوع واحد.

الثّالثة: أنّ وجوب التصدّق لا يضادّ حكم متعلّق القطع - أعني: وجوب الصّلاة - إذ وجوب الصّلاة ليس مضادّاً لوجوب التصدّق، فإنّ الضّدّين لا يمكن اجتماعهما وهذان يجتمعان.

نعم، لو قال: (إذا قطعت بوجوب الصّلاة حرّمت عليك الصّلاة) كان حكم القطع مضادّاً لحكم متعلّق القطع، لكنّه مستحيل للزوم اجتماع الضّدّين في موضوع واحد.

وبهذا تحقّق أنّ كلّاً من القيود الثّلاثة في عبارة المصنّف وهو قوله: «يخالف» وقوله: «لا يماثله» وقوله: «لا يضادّه» لإخراج شيء مستحيل.

وعلى كلّ حال، فالقطع قد يكون طريقاً محضاً وقد يكون موضوعاً، والقطع الموضوعي على أقسام أربعة - على ما ذكره المصنّف(رحمة الله) - لأنّه:

{تارةً بنحو يكون تمام الموضوع، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقاً} - وفسّره بقوله: {ولو أخطأ - موجباً لذلك} الحكم الآخر، كأن يقول: (إذا قطعت بوجوب

ص: 295

وأُخرى: بنحو يكون جزءه وقيده، بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجباً له.

وفي كلٍّ منهما يؤخذ: طوراً بما هو كاشف وحاكٍ عن متعلّقه؛ وآخرَ بما هو صفة خاصّة للقاطع، أو المقطوع به.

وذلك لأنّ القطع لمّا كان من الصّفات الحقيقيّة ذات الإضافة

___________________________________________

الصّلاة - سواء كانت الصّلاة واجبة واقعاً أم لا - يجب عليك التصدّق).

{وأُخرى بنحو يكون} القطع {جزءه وقيده} أي: جزء الموضوع {بأن يكون القطع به} أي: بالوجوب {في خصوص ما أصاب} بأن كان القطع مطابقاً للواقع - لا مطلقاً كالقسم الأوّل - {موجباً له} أي: لذلك الحكم الآخر، كأن يقول: (إذا قطعت بوجوب الصّلاة - وكان القطع مطابقاً للواقع بأن كان في الواقع وجوب وقطعت به - يجب عليك التصدّق) فلا يجب التصدّق، إذا لم يكن في الواقع وجوب ولو قطع بالوجوب - جهلاً مركّباً - وكذا لا يجب التصدّق إذا كان في الواقع وجوب ولم يقطع به - جهلاً بسيطاً - .

{وفي كلٍّ منهما} أي: ممّا كان القطع تمام الموضوع وممّا كان جزء الموضوع {يؤخذ} القطع {طوراً بما هو كاشف وحاكٍ عن متعلّقه} فيكون القطع بوجوب الصّلاة لكونه كاشفاً عن الوجوب موضوعاً لوجوب التصدّق، أو جزء موضوع له {وآخر} يؤخذ القطع {بما هو صفة خاصّة للقاطع} فيكون القطع بوجوب الصّلاة لكونه صفة قائمة بنفس القاطع - كالشَّجاعة القائمة بها - موضوعاً أو جزء موضوع لوجوب التصدّق {أو المقطوع به} فيكون القطع بوجوب الصّلاة لكونه صفة للصلاة - إذ الصّلاة متّصفة بكونها مقطوعاً بها - موضوعاً أو جزء موضوع لوجوب التصدّق.

{وذلك} الّذي ذكرنا من إمكان أخذ القطع - بما هو كاشف أو بما هو صفة - في الموضوع {لأنّ القطع لمّا كان من الصّفات الحقيقيّة ذات الإضافة} إذ القطع يقوم

ص: 296

- ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره - صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة، بإلغاء جهة كشفه،أو اعتبار خصوصيّة أُخرى فيه معها؛ كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاكٍ عنه. فيكون أقسامه أربعة، مضافة إلى ما هو طريق محض عقلاً، غير مأخوذ في الموضوع شرعاً.

___________________________________________

بالنفس حقيقة، لا أنّه أمر انتزاعي ويتعلّق بالمقطوع، فهو إضافة بين القاطع والمقطوع {ولذا} الّذي ذكر من كونه صفة حقيقيّة وذات الإضافة {كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره} أي: واضح بنفسه وموضح لغيره، كالسِّراج الّذي هو ظاهر بنفسه ومظهر لغيره {صحّ أن يؤخذ} القطع {فيه} أي: في موضوع حكم آخر - كوجوب التصدّق - {بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة} لشخص القاطع {بإلغاء جهة كشفه} بأن يقول المولى: حيث إنّ القطع صفة - من غير اعتبار كونه كاشفاً - أخذته في موضوع حكمي بوجوب التصدّق {أو اعتبار خصوصيّة أُخرى} أي: إلغاء اعتبار خصوصيّة أُخرى غير جهة الكشف، بأن لا يعتبر المولى في أخذ القطع موضوعاً كونه من سبب خاصّ أو شخص خاصّ {فيه} أي: في الموضوع، وهذا متعلّق بقوله: «بإلغاء» {معها} أي: مع كونه صفة خاصّة. والحاصل: أنّ الموجب لأخذ المولى للقطع موضوعاً هو كونه صفة، لا كونه كاشفاً، ولا كونه من سبب خاصّ - مثلاً - فلم يعتبر مع الصّفتيّة شيئاً أصلاً.

{كما صحّ أن يؤخذ} القطع في موضوع وجوب التصدّق {بما هو كاشف عن متعلّقه وحاكٍ عنه} لا بما هو صفة خاصّة قائمة بنفس القاطع، وبناءً على هذا التفصيل {فيكون} القطع المأخوذ في الموضوع {أقسامه أربعة} لأنّه إمّا أن يؤخذ تمام الموضوع أوجزؤه، وعلى كلا التقديرين فإمّا أن يكون أخذه في الموضوع بما هو كاشف أو بما هوصفة {مضافة إلى} قسم خاصّ وهو {ما} أي: القطع الّذي {هو طريق محض عقلاً غير مأخوذ في الموضوع شرعاً} كأن يكون الوجوب مرتّباً

ص: 297

ثمّ لا ريب في قيام الطّرق والأمارات المعتبرة - بدليل حجيّتها واعتبارها - مقام هذا القسم.

كما لا ريب في عدم قيامها - بمجرّد ذلك الدليل - مقام ما أُخذ في الموضوع على نحو الصّفتيّة من تلك الأقسام، بل لا بدّ من دليل آخر على التنزيل؛ فإنّ قضيّة الحجيّة والاعتبار ترتيبُ ما للقطع - بما هو حجّة - من الآثار، لا لَه

___________________________________________

على الصّلاة ويكون القطع بهذا الوجوب طريقاً إلى إدراك الواقع.

{ثمّ} إذا عرفت أقسام القطع فنقول في أحكام هذه الأقسام: إنّه {لا ريب في قيام الطرق والأمارات المعتبرة} كخبر العادل والبيّنة - {بدليل حجيّتها واعتبارها - مقام هذا القسم} من القطع - أعني: الطّريقي المحض - فكما أنّه إذا قطع بأنّ صلاة الجمعة واجبة وجب الإتيان بها، كذلك إذا قام خبر الواحد على وجوبها وجبت، وكما أنّه لو علم بنجاسة هذا المائع وجب الاجتناب عنه، كذلك إذا قامت البيّنة على نجاستها وجب الاجتناب، إذ معنى جعل الطريق والأمارة ترتيب آثار الواقع على مؤدّياتهما، فدليل اعتبارهما يجعلهما بمنزلة القطع الطريقي {كما لا ريب في عدم قيامها} أي: الطرق والأمارات {بمجرّد ذلك الدليل} القائم على حجيّتها {مقام ما أُخذ في الموضوع على نحو الصّفتيّة} سواء أُخذ في الموضوع تماماً أو جزءاً {من تلك الأقسام} الخمسة فلو نذرالتصدّق بدرهم إذا قطع بوجوب صلاة الجمعة لم يجب عليه التصدّق إذا لم يقطع وإن قام الخبر الواحد على وجوبها {بل لا بدّ} في قيام الطرق والأمارات مقام القطع الصّفتي {من دليل آخر على التنزيل} يصرّح بقيامها منزلته.

وإنّما قلنا بعدم كفاية دليل الحجيّة في التنزيل منزلة الصّفتي {فإنّ قضيّة الحجيّة والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجّة} وطريق {من الآثار} أي: ترتيب آثار القطع الطريقي على الطرق والأمارات {لا} ترتيب ما {له} أي: للقطع

ص: 298

بما هو صفة وموضوع؛ ضرورة أنّه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصّفات.

ومنه قد انقدح: عدم قيامها - بذاك الدليل - مقامَ ما أُخذ في الموضوع على نحو الكشف؛ فإنّ القطع المأخوذ بهذا النّحو في الموضوع شرعاً، كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً، فلا يقوم مقامه شيء بمجرّد حجيّته

___________________________________________

{بما هو صفة وموضوع} فلا يترتّب على الأمارة آثار القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصّفتيّة.

{ضرورة أنّه} أي: القطع بما هو {كذلك} صفة قائمة بالقاطع {يكون كسائر الموضوعات والصّفات} فكما أنّ النّجاسة لو ترتّبت على البول يجب تنزيل جديد لترتّب النّجاسة على شيء آخر قائم مقام البول، كذلك إذا ترتّب التصدّق على هذه الصّفة النّفسانيّة الموجبة لاطمئنان الخاطر يجب تنزيل جديد لترتّب التصدّق على شيء آخر قائم مقام هذه الصّفة.

فحاصل استدلال المصنّف(رحمة الله) على عدم قيام الأمارات والطرق مقام القطع الصّفتي هو: دعوى ظهور دليل اعتبارها في اعتبارها مقام القطع الطريقيفقط، مضافاً إلى عدم إمكان الجمع بين تنزيل الأمارة منزلة الصّفتي ومنزلة الصّفتي بتنزيل واحد لاختلاف اللحاظين، فتأمّل.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من عدم قيام الأمارات والطرق مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصّفتيّة {قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل} المعتبر لها {مقام ما أُخذ في الموضوع على نحو الكشف} سواء كان جزءاً للموضوع أو تماماً {فإنّ القطع المأخوذ بهذا النّحو} أي: بنحو الكاشفيّة {في الموضوع شرعاً} تمييز لقوله: «المأخوذ» {كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً} كما كان القطع المأخوذ بنحو الصّفتيّة كسائر ما لها دخل في الموضوعات {فلا يقوم مقامه} أي: مقام هذا القطع المأخوذ بنحو الكاشفيّة {شيء بمجرّد حجيّته} أي: حجيّة ذلك الشّيء، إذ

ص: 299

أو قيام دليل على اعتباره، ما لم يقم دليل على تنزيله ودخله في الموضوع كدخله.

وتوهّم(1):

كفاية دليل الاعتبار، الدالّ على إلغاء احتمال خلافه، وجعله بمنزلة القطع من جهة كونه موضوعاً، ومن جهة كونه طريقاً،

___________________________________________

دليل حجيّة الأمارة إنّما هو جعل للحجّة لا جعل للموضوع {أو} جزء الموضوع، فمجرّد {قيام دليل على اعتباره} أي: اعتبار ذلك الشّيء لا يفيد بالنسبة إلى ما أُخذ في الموضوع بنحو الكشف {ما لميقم دليل} آخر - غير دليل التنزيل المطلق - {على تنزيله} أي: تنزيل ذلك الشّيء - كخبر الواحد أو البيّنة - {ودخله في الموضوع كدخله} أي: كدخل القطع.

والحاصل: أنّ صدق العادل - مثلاً - إنّما يدلّ على قيام قول العادل مقام الطريقي المحض، أمّا قيام قول العادل مقام القطع الدخيل في الموضوع تماماً أو جزءاً صفة أو كشفاً فلا يتمّ بهذا الدليل، وإنّما يحتاج إلى دليل خاصّ آخر يصرّح بقيام قول العادل مقام هذا النّحو من القطع، فإنّ ظاهر دليل التنزيل هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فاللّازم ترتيب آثار الواقع وأحكامه على مؤدّى الأمارة والطريق. أمّا ترتيب نفس آثار القطع المأخوذ في الموضوع بما هو صفة أو كاشف على الأمارة والطريق فلا وجه له.

{وتوهُّمُ} أنّه لا وجه لتخصيص دليل تنزيل الأمارة منزلة القطع بحيثيّة الطّريقيّة فقط، فإنّه خلاف إطلاق دليل التنزيل، ل- {كفاية دليل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه} فإنّ قول العادل بالنظر إلى ذاته يحتمل الصّدق والكذب، فدليل الاعتبار وهو صدق العادل، يقول: (ألغِ احتمال الخلاف) {و} هذا عامّ؛ لأنّه {جعله بمنزلة القطع} مطلقاً {من جهة كونه موضوعاً ومن جهة كونه طريقاً}.

ص: 300


1- فرائد الأصول 1: 33-34.

فيقوم مقامه: طريقاً كان أو موضوعاً.

فاسِدٌ جدّاً، فإنّ الدليل الدالّ على إلغاء الاحتمال، لا يكاد يكفي إلّا بأحد التنزيلين؛ حيث لا بدّ في كلّ تنزيل منهما من لحاظ المنزل والمنزل عليه،

___________________________________________

وعلى هذا {فيقوم} الأمارة والطريق {مقامه} أي: مقام القطع {طريقاً كان أو موضوعاً} صفة كان أو كاشفاً جزء الموضوع أوتمامه، فيترتّب على قول العادل أثر القطع، كما يترتّب عليه أثر متعلّقه - أي: المقطوع - {فاسدٌ جدّاً، فإنّ الدليل الدالّ على} حجيّة الأمارات والطرق {إلغاء لاحتمال} المخالف {لا يكاد يكفي إلّا بأحد التنزيلين} إمّا تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي حتّى يترتّب عليها ما يترتّب على القطع الموضوعي من الآثار، وإمّا تنزيلها منزلة القطع الطريقي فلا يترتّب على الأمارة آثار القطع وإنّما يترتّب عليها آثار متعلّق القطع، وإنّما لم يمكن الجمع بين التنزيلين في كلام واحد {حيث لا بدّ في كلّ تنزيل منهما} أي: من هذين التنزيلين {من لحاظ المنزل والمنزل عليه}.

مثلاً: لو كان القطع بوجوب الصّلاة موضوعاً لوجوب التصدّق، فإنّه إذا حصل هذا القطع فيجب على المكلّف بمجرّده أمران:

الأوّل: الإتيان بالصلاة؛ لأنّ هذا القطع صار سبباً لانكشاف الواقع.

الثّاني: التصدّق؛ لأنّ القطع بوجوب الصّلاة موضوع له، وحيث وجد الموضوع ترتّب عليه حكمه، وحينئذٍ فالمولى الجاعل لخبر العادل منزلة القطع: إمّا أن يجعله منزلة القطع في ترتّب أثر الواقع - أعني: وجوب الصّلاة - فيكون مفاد التنزيل أنّه كما يجب عليك الصّلاة إذا قطعت بوجوبها كذلك يجب عليك الصّلاة إذا قام خبر الواحد على وجوبها.

وإمّا أن يجعله منزلة القطع في ترتّب أثر القطع عليه، فيكون مفاد التنزيل أنّه كما يجب عليك التصدّق إذا قطعت بوجوب الصّلاة كذلك يجب عليك التصدّق

ص: 301

ولحاظهما في أحدهما آليّ، وفي الآخر استقلاليٌّ؛ بداهة أنّ النّظر في حجيّته وتنزيله منزلةَ القطع في طريقيّته - في الحقيقة - ، إلى الواقع ومؤدّى الطّريق،وفي كونه بمنزلته في دخله

___________________________________________

إذا قام خبر الواحد على وجوبها.

{و} من المعلوم أنّ {لحاظهما} أي: لحاظ المنزل والمنزل عليه {في أحدهما} وهو تنزيل خبر الواحد منزلة القطع في ترتّب أثر الواقع عليه {آلي} إذ لا يلاحظ المولى حينئذٍ القطع بما هو، بل ينزل مؤدّى الأمارة منزلة متعلّق القطع، فلا نظر إلى القطع وإنّما النّظر كلّه إلى المؤدّى والواقع {وفي الآخر} وهو تنزيل خبر الواحد منزلة القطع في ترتّب أثر القطع عليه {استقلالي} إذ لا يلاحظ المولى حينئذٍ متعلّق القطع ومؤدّى الأمارة، بل يلاحظ القطع بما هو وينزل خبر الواحد بما هو منزلته.

{بداهة أنّ النّظر} واللحاظ {في حجيّته} أي: حجيّة الأمارة والطّريق، وتذكير الضّمير باعتبار خبر الواحد ونحوه {وتنزيله منزلة القطع في طريقيّته} أي: حيث ينزل الأمارة منزلة القطع الطريقي {في الحقيقة} يكون النّظر {إلى الواقع ومؤدّى الطريق} فقوله: «الأمارة كالقطع» معناه أنّ مؤدّى الأمارة كمتعلّق القطع، فالنّظر إلى وجوب الصّلاة - مثلاً - والنّظر إلى القطع طريقيّ ومرآتيّ، فكما أنّ النّاظر في المرآة إلى وجهه ينحصر نظره إلى وجهه حتّى لو سئل عن كيفيّة المرآة لم يتمكّن من الإخبار عنها وبيان كيفيّتها لعدم الالتفات إلى المرآة أصلاً وإنّما النّظر كلّه منصرف إلى الوجه فقط، كذلك في ما نحن فيه لا نظر إلى القطع أصلاً، فالقطع ما به النّظر لا ما إليه النّظر.

وبالعكس في القسم الثّاني، لبداهة أنّ النّظر في حجيّة خبر الواحد وتنزيله منزلة القطع {وفي كونه} أي: الخبر {بمنزلته} أي: بمنزلة القطع {في دخله} أي:

ص: 302

في الموضوع إلى أنفسهما، ولا يكاد يمكنالجمع بينهما.

نعم، لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما، يمكن أن يكون دليلاً على التنزيلين، والمفروض أنّه ليس. فلا يكون دليلاً على التنزيل إلّا بذاك اللحاظ الآلي، فيكون حجّة موجبة لتنجّز متعلّقه، وصحّة العقوبة على مخالفته، في صورتي إصابته وخطئه،

___________________________________________

الخبر {في الموضوع} إنّما يكون {إلى أنفسهما} أي: نفس الخبر ونفس القطع من دون نظر إلى مؤدّى الخبر ومتعلّق القطع، فيكون النّظر إلى القطع لا بالقطع، وحاله حال من ينظر في المرآة نظر من يريد شراءها فإنّه ينظر إلى كيفيّتها وقيمتها، حتّى لو سُئل عن حال وجهه وأنّه كان أسود أجاب بأنّه لم يلتفت إلى ذلك، بل إنّ تمام نظره كان إلى نفس المرآة.

{و} من البديهي أنّه كما {لا يكاد يمكن الجمع} بين النّظر إلى الوجه في المرآة وبين النّظر إلى نفس المرآة بنظرة واحدة، كذلك لا يكاد يمكن الجمع {بينهما} أي: بين النّظر إلى القطع آليّاً وبين النّظر إليه استقلاليّاً في نظر واحد ولحاظ واحد.

{نعم، لو كان في البين} على فرض مستحيل {ما بمفهومه جامع بينهما} أي: بين التنزيلين حتّى يكون عند التنزيل النّظر إلى الجامع {يمكن أن يكون} دليل واحد للتنزيل ناظر إلى الجامع {دليلاً على التنزيلين} تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل الأمارة منزلة القطع {و} لكن {المفروض أنّه ليس} ما بمفهومه جامع بينهما، بل لا يعقل أصلاً على ما تقدّم {فلا يكون} دليل حجيّة الأمارة ونحوها {دليلاً على التنزيل إلّا بذاكاللحاظ الآلي} فقط، فلو قام الخبر على وجوب الصّلاة لم يجب إلّا الإتيان بالصلاة لا التصدّق {فيكون} دليل التنزيل {حجّة موجبة لتنجّز متعلّقه وصحّة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته} بأن كانت الصّلاة في الواقع واجبة وقامت الأمارة على وجوبها {وخطئه} بأن لم تكن واجبة وقام

ص: 303

بناءً على استحقاق المتجرّي، أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي، فيكون مثله في دخله في الموضوع، وترتيبٍ ما لَه عليه من الحكم الشّرعي.

لا يقال: على هذا لا يكون دليلاً على أحد التنزيلين ما لم يكن هناك قرينة في البين.

فإنّه يقال: لا إشكال في كونه دليلاً على حجيّته؛ فإنّ ظهوره

___________________________________________

الدليل على وجوبها.

أمّا صحّة العقوبة في صورة الإصابة فواضحة لتنجّز الواقع بقيام الدليل عليه، وأمّا صحّتها في صورة المخالفة فإنّما تكون {بناءً على استحقاق المتجرّي} للعقاب {أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي} عطف على قوله: «بذلك اللحاظ الآلي» يعني: يكون دليل التنزيل: إمّا باللّحاظ الآلي، أو اللّحاظ الاستقلاليّ {فيكون} خبر الواحد {مثله} أي: مثل القطع {في دخله في الموضوع، و} وجوب {ترتيب ما له} أي: ما للقطع {عليه} أي: على خبر الواحد {من الحكم الشّرعي} بيان ما له وعليه، فيجب التصدّق فقط ولا تجب الصّلاة.

{لا يقال: على هذا} الّذي ذكرتم من عدم كفاية دليل واحدلتنزيلين، بل لا بدّ من كون المراد بدليل التنزيل أحد التنزيلين يكون دليل التنزيل مجملاً، ف- {لا يكون دليلاً على أحد التنزيلين} بل يحتمل أن يكون لتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، ويحتمل أن يكون لتنزيل الطريق منزلة القطع، فلا يعلم أنّ أيّهما مراد من الدليل {ما لم يكن هناك قرينة في البين} تعيّن المراد من دليل التنزيل، وعليه فلا وجه لما حكمتم من أنّ دليل التنزيل إنّما ينزّل المؤدّى منزلة الواقع.

{فإنّه يقال: لا إشكال في كونه} أي: دليل التنزيل {دليلاً على حجيّته} وطريقيّته، إذ الأثر الظّاهر للقطع هو طريقيّته وحجيّته لا موضوعيّته، ولهذا كلّما نزّل منزلته يكون ظاهراً في أنّه نزل بلحاظ كاشفيّته وطريقيّته {فإنّ ظهوره} أي: ظهور التنزيل

ص: 304

في أنّه بحسب اللحاظ الآلي، ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنّما يحتاج تنزيله - بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي - من نَصْبِ دلالةٍ عليه. فتأمّل في المقام، فإنّه دقيق، ومزالّ الأقدام للأعلام.

ولا يخفى: أنّه لولا ذلك، لأمكن أن يقوم الطريقُ بدليل واحد - دالّ على إلغاء احتمال خلافه - مقامَ القطع بتمام أقسامه، ولو في ما أُخذ في الموضوع على نحو الصّفتيّة، كان تمامه أو قيده وبه قوامه.

___________________________________________

{في أنّه} نزل منزلة القطع {بحسب اللحاظ الآلي ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنّما يحتاج تنزيله} أي: تنزيل خبر الواحد منزلة القطع {بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي} بأن يكون الخبر كالقطع موضوعاً لوجوب التصدّقمثلاً {من نصب دلالة عليه} لما تقدّم من أنّ الظهور بخلافه {فتأمّل في المقام فإنّه دقيق ومزالّ الأقدام للأعلام} واللّه الموفّق.

{ولا يخفى أنّه لولا ذلك} الّذي ذكرنا من لزوم اجتماع لحاظين لو كان التنزيل للمؤدّى منزلة الواقع وللطريق منزلة القطع {لأمكن أن يقوم الطريق} كخبر الواحد {بدليل واحد دالّ على إلغاء احتمال خلافه} كقوله(علیه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنّا ثقاتنا»(1)،

{مقام القطع بتمام أقسامه} الخمسة {ولو في ما أُخذ في الموضوع على نحو الصّفتيّة} للقاطع أو المقطوع به سواء {كان تمامه أو قيده وبه قوامه} بأن كان جزؤه.

وكيف كان، فلا فرق في القطع الموضوعي بين الصّفتي والطّريقي ولا بين جزء الموضوع وتمامه، فلا وجه للتفصيل بأنّه تنزيل منزلة القطع الطريقي، سواء كان طريقاً محضاً أو طريقاً موضوعيّاً جزءاً أو تماماً، فلا يكون تنزيلاً منزلة القطع الموضوعي على نحو الصّفتيّة فقط.

ص: 305


1- وسائل الشيعة 27: 150.

فتلخّص بما ذكرنا: أنّ الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها، إلّا مقام ما ليس مأخوذاً في الموضوع أصلاً.

وأمّا الأصول: فلا معنى لقيامها مقامه بأدلّتها أيضاً، غير الاستصحاب؛ لوضوح أنّ المراد من قيام المقام: ترتيب ما له من الآثار والأحكام، من تنجّز التكليف وغيره - كما مرّت إليه الإشارة -

___________________________________________

ووجه بطلان هذا التفصيل واضح، إذ الطريقي الموضوعي مثل الصّفتي الموضوعي كلاهما يحتاج إلى النّظر الاستقلالي، فلا يجتمع مع النّظر الآلي.

{فتلخّص بما ذكرنا أنّ الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها} وإن أمكن فيها بدليلٍ ثانٍ {إلّا مقام ما ليس مأخوذاً في الموضوع أصلاً} فقيامها إنّما هو مقام القطع الطريقي المحض.

هذا كلّه في بيان حال الأمارات والطُّرُق وبيان قيامها مقام أيّ من أقسام القطع.

{وأمّا الأصول} العمليّة الأربعة: الاستصحاب، والبراءة، والتخيير، والاحتياط، فهل تقوم مقام القطع أم لا؟

وعلى تقدير قيامها فهل تقوم مقام القطع الطريقي فقط - كالأمارات - أم مقام مطلق القطع؟ {فلا معنى لقيامها مقامه} أي: مقام القطع {ب-} سبب {أدلّتها أيضاً} كما لا تقوم الأمارات، والطّرق مقام القطع الموضوعي {غير الاستصحاب} فإنّه يقوم مقام القطع الطريقي المحض كسائر الأمارات.

وإنّما قلنا بعدم قيام الأصول مقام القطع مطلقاً {لوضوح أنّ المراد من قيام المقام} أي: قيام الشّيء مقام القطع {ترتيب ما له} أي: للقطع {من الآثار والأحكام من تنجّز التكليف وغيره} على ذلك الشّيء القائم مقام القطع {كما مرّت إليه الإشارة} فمعنى قيام الأمارة أنّها طريق إلى الواقع. كما أنّ القطع طريق

ص: 306

وهي ليست إلّا وظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل، شرعاً أو عقلاً.لا يقال: إنّ الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجّز التكليف - لو كان - .

فإنّه يقال:

___________________________________________

{و} البراءة والتخيير والاحتياط ليست طرقاً أصلاً ولا كاشفيّة لها ناقصاً حتّى تقوم مقام الكاشف الحقيقي، إذ {هي ليست إلّا وظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل شرعاً أو عقلاً}.

وبعبارة أوضح: أنّ الأمارات والطّرق كواشف جعليّة عن الواقع، ولذا تقوم مقام الطريق الواقعي المنجعل بنفسه - أي: العلم - بخلاف الأصول فإنّها لا طريقيّة لها، بل أحكام عمليّة للجاهل بالواقع يعمل على طبقها حين اليأس عن وصول يده إلى الواقع علماً أو علميّاً، فلو شكّ في مائع أنّه حرام أم لا؟ قالت البراءة العقليّة والشّرعيّة: إنّ مرتكبه معذور، ولا تعيّن البراءة أنّه خمر أم ليس بخمر، بخلاف خبر الواحد، فإنّه يقول: إنّه خمر أو ليس بخمر، والاستصحاب مثل الأمارات لكشفه عن الواقع ناقصاً، ولذا يقوم مقام القطع، إذ ينزل الشّكّ في البقاء منزلة التعيّن بالبقاء في ترتيب ما له من الآثار، فهو واسطة بين الأصول والأمارات، ولذا يعبّر عنه ب- : عرش الأصول وفرش الأمارات، فيقدّم على الأصول ويؤخّر عن الأمارات.

{لا يقال: إنّ الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه} أي: مقام القطع {في تنجّز التكليف} به {لو كان} تكليف في الواقع، فالاحتياط يقوم مقام القطع الطريقي، إذ كما أنّ العلم بالواقع موجب لتنجّزه فيستحقّ الثّواب على فعله والعقاب على تركه كذلك في الموارد الّتي يجب الاحتياط يترتّب عليه آثار الواقع من تنجّز التكليف به، ويترتّب الثّواب على موافقته والعقاب على مخالفته، فيكون حال الاحتياطحال الأمارات والطرق.

{فإنّه يقال}: وجوب الاحتياط إمّا بحكم العقل كأطراف الشّبهة، وإمّا بحكم

ص: 307

أمّا الاحتياط العقلي: فليس إلّا نفسَ حكم العقل بتنجّز التكليف، وصحّةِ العقوبة على مخالفته، لا شيء يقوم مقامه في هذا الحكم.

وأمّا النّقليّ:

___________________________________________

الشّرع كالشبهة البدويّة التحريميّة - على مذاق الأخباريّين - ولا يقوم شيء منهما مقام العلم {أمّا الاحتياط العقلي} أعني: حكم العقل بلزوم الاحتياط {فليس إلّا نفس حكم العقل بتنجّز التكليف وصحّة العقوبة على مخالفته} أي: مخالفة التكليف، فلا يكون قائماً مقام القطع، إذ معنى القيام مقام القطع أنّه كما يكون القطع منجّزاً للتكليف موجباً للثواب والعقاب كذلك هذا القائم مقامه، والاحتياط العقلي هو عين حكم العقل بحسن العقاب على تقدير المخالفة {لا شيء يقوم مقامه} أي: مقام القطع {في هذا الحكم} أي: الحكم بصحّة العقوبة.

وبعبارة أوضح: إنّ القطع شيء وأثره - وهو التنجّز وصحّة العقاب - شيء آخر، وكذلك الحال في الأمارة فخبر العادل شيء وأثره شيء آخر، فمعنى قيام خبر العادل مقام القطع أنّه يترتّب على خبر العادل ما يترتّب على القطع - من تنجّز التكليف وصحّة العقاب - والاحتياط العقلي ليس كذلك، إذ هو عبارة عن الأثر فقط - أعني: صحّة العقاب بحكم العقل - فليس هناك شيء هو الاحتياط وشيء هو الأثر حتّى يقال: نزل الاحتياط منزلة القطع في أنّه، كما يترتّب الأثرعلى القطع يترتّب الأثر على الاحتياط.

نعم، لو كان وجوب الاحتياط عقلاً شيئاً غير التنجّز وصحّة العقوبة بأن كانا من آثاره لصحّ القول بالتنزيل المذكور، ولكنّه ليس كذلك.

{وأمّا} الاحتياط {النّقلي} وهو حكم الشّارع بوجوب الاحتياط، فهو وإن كان يصحّ تنزيله منزلة القطع - لو كان لنا احتياط شرعي - إذ حكم الشّارع بوجوب الاحتياط يكشف عن فعليّة التكليف بالواقع، فيترتّب عليه التنجيز وصحّة العقوبة،

ص: 308

فإلزام الشّارع به وإن كان ممّا يوجب التنجّز، وصحّة العقوبة على المخالفة - كالقطع - إلّا أنّه لا نقول به في الشّبهة البدويّة، ولا يكون بنقلي في المقرونة بالعلم الإجمالي، فافهم.

ثمّ لا يخفى: أنّ دليل الاستصحاب أيضاً لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً،

___________________________________________

فهنا شيئان: [1] الواقع المكشوف بالاحتياط، [2] وأثره، كما أنّ في القطع شيئان: [1] الواقع المكشوف بالقطع، [2] وأثره.

والحاصل: أنّه لو كان احتياط شرعيّ لقام مقام القطع في كشف الواقع وترتّب أثره عليه {فإلزام الشّارع به} أي: بالاحتياط {وإن كان ممّا يوجب التنجّز وصحّة العقوبة على المخالفة كالقطع} الّذي هو موجب للتنجّز وصحّة العقوبة على المخالفة {إلّا أنّه} لا احتياط شرعيّ لنا أصلاً، إذ {لا نقول به في الشّبهة البدويّة} خلافاً للأخباري {ولا يكون بنقلي في المقرونة بالعلم الإجمالي} إذ ثبت بحكم العقل، وما ورد من الشّارع إنّما هو إرشاد إلى حكم العقل، فالاحتياطالواجب ليس بشرعيّ، والاحتياط الشّرعي ليس بواجب {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ توهّم قيام الاحتياط مقام القطع - كما ذكره المستشكل بقوله: «لا يقال» - غير مختصّ بالاحتياط، بل البراءة أيضاً تقوم مقام القطع، فإنّها تنفي التكليف، والاحتياط يثبته، وكذلك التخيير فإنّه قائم مقام القطع بالتخيير.

والحاصل: أنّه على موجب هذا التوهّم لا اختصاص للإشكال بالاحتياط، بل يمكن توهّم قيام كلّ منها مقام القطع، منتهاه أنّ البراءة قائمة مقام القطع بعدم التكليف، والاحتياط قائم مقام القطع بالتكليف، والتخيير قائم مقام القطع بالتخيير، فتدبّر.

{ثمّ لا يخفى أنّ دليل الاستصحاب أيضاً} المنزّل للشكّ منزلة القطع {لا يفي بقيامه} أي: الاستصحاب {مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً} صفتيّاً أم طريقيّاً

ص: 309

وأنّ مثل: «لا تنقض اليقين»(1)

لا بدّ من أن يكون مسوقاً: إمّا بلحاظ المتيقّن، أو بلحاظ نفس اليقين.

___________________________________________

جزءاً أم كلّاً، بل إنّما ينزل الاستصحاب منزلة القطع الطريقي المحض {وإنّ مثل: «لا تنقض اليقين} بالشكّ» {لا بدّ من أن يكون مسوقاً إمّا بلحاظ المتيقّن} فيكون استصحاب وجوب الصّلاة - في مثال: (إذا قطعت بوجوب الصّلاة وجب عليك التصدّق) - موجباً للإتيان بالصلاة فقط ولا يكون موجباً للتصدّق {أو بلحاظ نفس اليقين} حتّى يكون معنى «لا تنقض» وجوب ترتيب آثار اليقين لاالمتيقّن، فيكون استصحاب وجوب الصّلاة موجباً للتصدّق فقط لا للإتيان بالصلاة.

وإنّما نقول بلزوم كون التنزيل بأحد اللحاظين لما تقدّم من استحالة الجمع بينهما في لحاظ واحد، وإنّما نقول بالأوّل دون الثّاني لظهور كون التنزيل بلحاظ الطريقيّة والكاشفيّة لا الموضوعيّة، كما سبق بيانه.

ثمّ إنّ المصنّف(قدس سره) في حاشيته على الرّسائل بيّن وجهاً لتصحيح تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل الأمارة منزلة القطع بتنزيل واحد، وكذلك بالنسبة إلى تنزيل الاستصحاب منزلتها حتّى أن يكون خبر العادل بوجوب الصّلاة أو استصحاب وجوبها موجباً لترتيب آثار الواقع وهو وجوب الإتيان بالصلاة وأثر القطع وهو وجوب التصدّق.

وحاصل ذلك الوجه: أنّ الدليل لو نزل مؤدّى الأمارة أو الاستصحاب منزلة الواقع فقد دلّ بالالتزام العرفي على تنزيل القطع بهذا الواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي، فيكون دليل التنزيل دالّاً بالمطابقة على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، وبالالتزام على تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع، فإذا قام خبر

ص: 310


1- وسائل الشيعة 2: 356.

وما ذكرنا في الحاشية(1)

- في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع، وأنّ دليل الاعتبار إنّما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدّى منزلة الواقع، وإنّما كان تنزيل القطع في ما له دخل في الموضوع، بالملازمة بين تنزيلهما وتنزيل القطع بالواقع تنزيلاً وتعبّداً منزلةَ القطع بالواقع حقيقةً - ، لا يخلو من تكلّف، بل تعسّف؛

___________________________________________

الواحد أو الاستصحاب على وجوب الصّلاة حصل القطع بالواقع التنزيلي فيلزم ترتيب آثار القطع بوجوب الصّلاة، ففي صورة القطع واقع حقيقي وقطع بالواقع الحقيقي، وفي صورة قيام الأمارة واقع تنزيلي - قائم مقام الواقع الحقيقيّ - وقطع بالواقع التنزيلي - قائم مقام القطع بالواقع الحقيقي - .

وإلى هذا أشار بقوله: {وما ذكرنا في الحاشية} على الرّسائل {في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل} للأمارة والطريق والاستصحاب {منزلة الواقع والقطع} حتّى يترتّب عليها آثار الواقع وآثار القطع {و} ذلك ببيان {أنّ دليل الاعتبار} الّذي يعتبر الأمارة ونحوها {إنّما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدّى منزلة الواقع} وهذا التنزيل بالدلالة المطابقيّة {وإنّما كان تنزيل القطع} بالواقع التنزيلي {في ما له} أي: للقطع {دخل في الموضوع} كمثال التصدّق {بالملازمة} خبر «وإنّما كان» فيكون هذا التنزيل بالدلالة الالتزاميّة للملازمة {بين تنزيلهما} أي: المستصحب والمؤدّى {و} بين {تنزيل القطع بالواقع تنزيلاً وتعبّداً} أي: القطع بالواقع التنزيلي {منزلة القطع بالواقع حقيقة} أي: الواقع الحقيقي. والحاصل: أنّه إذا كان المؤدّى نازلاً منزلة الواقع، فالقطع بهذا المؤدّى يكون نازلاً منزلة القطع بالواقع، فيصحّ التنزيلان بتنزيل واحد {لا يخلو من تكلّف، بل تعسّف} خبر قوله: «وما ذكرناه في الحاشية».

ثمّ إنّ وجه التكليّف هو عدم الملازمة العرفيّة بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع

ص: 311


1- درر الفوائد: 29.

فإنّه

___________________________________________

وبين تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع، ووجه التعسّف هو لزوم الدور الّذي أشار إليه بقوله: {فإنّه} إذا كان الموضوع مركّباً من جزءين بحيث كان الأثر مترتّباً على هذا الموضوع المركّب، كالماء الكرّ الّذي هو موضوع للتّطهير، فإن أحرز الجزءان بالوجدان فلا إشكال، وإن أحرز أحدهما بالوجدان والجزء الآخر بالدليل - كما لو علم بمائعيّة هذا الماء وشكّ في كريّته فأجرى استصحاب الكريّة أو قامت البيّنة عليها - فلا إشكال أيضاً، أمّا لو شكّ في كلا الجزءين ففيه تفصيل، وهو أنّه إذا كان كلّ من الجزءين محرزاً بتنزيل في عرض تنزيل الجزء الآخر: إمّا لشمول دليل واحد لكليهما كما في شمول لا تنقض للمشكوك المائيّة والكريّة، أو بدليلين كما لو قامت البيّنة على المائيّة والاستصحاب على الكريّة فلا إشكال.

وأمّا إذا كان التنزيلان طوليّين بأن كان تنزيل أحد الجزءين مستلزماً لتنزيل الجزء الآخر فلا يصحّ التنزيل، للزومه الدور حينئذٍ في مقام دلالة الدليل، فإنّ إجراء الأصل أو الأمارة - لإحراز الجزء الأوّل - متوقّف على كون هذا الجزء ذا أثر لما تبيّن في موضعه من عدم إجرائهما في ما لا أثر له، وكون هذا الجزء ذا أثر يتوقّف على وجود الجزء الآخر، إذ ما لم يجتمع الجزءانِ لم يتحقّق المركّب الّذي هو ذو أثر، ووجود الجزء الآخر متوقّف على إجراء الأصل أو الأمارة - لفرض أنّ الجزء الثّاني يثبت بالجزء الأوّل المفاد للأصل والأمارة للملازمة بينهما - وهو دور ظاهر.

مثلاً: إذا كان الأثر لمقطوع الخمريّة فاستصحاب الخمريّة متوقّف على كونه ذا أثر، وكونه ذا أثر متوقّف على ثبوت الجزء الآخر الّذي هو القطع بالخمر التعبّدي، وثبوت القطع بالخمر التعبّدي موقوف على إجراء الاستصحاب في الخمر، فإجراء الاستصحاب في الخمر موقوف على إجراء الاستصحاب في الخمر بالواسطة، فهو دور مضمر.

ص: 312

لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع أو قيده - بما هو كذلك، بلحاظ أثره - إلّا في ما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزاً بالوجدان، أو تنزيله في عرضه.

فلا يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلاً على تنزيل جزء الموضوع ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر،

___________________________________________

وبهذا تبيّن أنّ الموضوع المركّب أو المقيّد على أربعة أنحاء:

الأوّل: ما أُحرز الجزءان أو المشروط والشّرط بالوجدان.

الثّاني: ما أُحرزا بالتعبّد لكن كان التعبّد بكلّ في عرض التعبّد بالآخر.

الثّالث: ما أُحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبّد، ولا إشكال في هذه الثّلاثة.

الرّابع: ما أُحرزا بالتعبّد ولكن كان التعبّد بأحدهما في عرض التعبّد بالآخر، وهذا مستلزم للدور. وما نحن فيه من تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، وتنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع من قبيل القسم الرّابع، فلا يعقل هذا النّحو من التنزيل.

وإلى هذا أشار بقوله: فإنّه {لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع} في ما كان مركّباً {أو قيده} في ما كان مقيّداً {بما هو كذلك} أي: بما هو جزء الموضوع أو قيده، مقابل ما لو كان لهذا القيد أو الجزء أثر مستقلّ آخر غير المرتّب عليه بما هو جزء أو قيد {بلحاظ أثره} متعلّق بقوله: «لا يكاد يصحّ تنزيل» {إلّا في ما كان جزؤه الآخر} في ما كان مركّباً {أو ذاته} في ما كان مقيّداً {محرزاً بالوجدان} - كما تقدّم في القسم الثّالث - {أو} كان {تنزيله} أي: تنزيل الجزء الآخر {في عرضه} أي: في عرض تنزيلالجزء الأوّل - كما تقدّم في القسم الثّاني - .

وأمّا القسم الأوّل ففي كمال الوضوح، وأمّا القسم الرّابع {فلا} يعقل، إذ لا {يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلاً على تنزيل جزء الموضوع} أو ذاته، فإنّه {ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر} أو قيده في عرض هذا التنزيل

ص: 313

في ما لم يكن محرزاً حقيقة؛ وفي ما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة - كما في ما نحن فيه على ما عرفت - لم يكن دليل الأمارة دليلاً عليه أصلاً؛ فإنّ دلالته على تنزيل المؤدّى تتوقّف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة.

___________________________________________

{في ما لم يكن} ذلك الجزء الآخر أو القيد {محرزاً حقيقة} بالوجدان {وفي ما لم يكن دليل على تنزيلهما} معاً {بالمطابقة كما في ما نحن فيه} ممّا كان الموضوع للحكم هو القطع بالشيء {على ما عرفت، لم يكن دليل الأمارة دليلاً عليه} أي: على تنزيل الجزء الأوّل {أصلاً}.

والحاصل: أنّ دليل الأمارة والاستصحاب لا يكون دليلاً على تنزيل جزء الموضوع وذاته إذا لم يكن هناك أحد هذه الثّلاثة:

الأوّل: دليل آخر على تنزيل الجزء الثّاني أو القيد منزلة الواقع.

الثّاني: إحراز الجزء الثّاني أو القيد بالوجدان.

الثّالث: شمول دليل التنزيل لكلا الجزءين أو المقيّد والقيد في عرض واحد.أقول: من المظنون عدم استقامة العبارة، إذ قوله: «لم يكن دليل الأمارة دليلاً عليه» لا يرتبط بما قبله إعراباً، فيحتمل سقوط كلمة «فإنّه» قبل قوله: «ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر» كما زدناها في الشّرح.

وكيف كان، فإنّما قلنا بعدم صحّة القسم الرّابع لاستلزامه الدور {فإنّ دلالته} أي: دلالة دليل الأمارة أو الأصل {على تنزيل المؤدّى} منزلة الواقع - كتنزيل الخمر المستصحب منزلة الخمر الواقعي - {تتوقّف على دلالته} أي: دليل الأمارة أو الأصل {على تنزيل القطع} بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع، بأن ينزل القطع بالخمر المستصحب منزلة القطع بالخمر الواقعي {بالملازمة} بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وبين تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع، والجار متعلّق

ص: 314

ولا دلالة له كذلك، إلّا بعد دلالته على تنزيل المؤدّى؛ فإنّ الملازمة إنّما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي، وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً، فإنّه لا يخلو عن دقّة.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ هذا لو تمّ لعمّ، ولا اختصاص له بما إذا كان القطع

___________________________________________

بقوله: «على دلالته» {ولا دلالة له} أي: لدليل التنزيل {كذلك} أي: على تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع {إلّا بعد دلالته على تنزيل المؤدّى} منزلة الواقع {فإنّ الملازمة إنّما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع} هذا تعليل لقوله: «ولا دلالة له كذلك إلّا بعد» الخ.

وحاصله: أنّه لولا تنزيل المؤدّى منزلة الواقع لم يكن معنىً لتنزيل القطعبالمؤدّى منزلة القطع بالواقع.

وفي بعض النّسخ مكان «فإنّ الملازمة» هذه العبارة: «فإنّ الملازمة إنّما تدّعى بين القطع بالموضوع التنزيلي والقطع بالموضوع الحقيقي، وبدون تحقّق الموضوع التنزيلي التعبّدي أوّلاً بدليل الأمارة لا قطع بالموضوع التنزيلي كي يدّعى الملازمة بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع»(1)، انتهى.

{كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً فإنّه لا يخلو عن دقّة} فإنّ تنزيل القطع بالخمر التعبّدي منزلة القطع بالخمر الحقيقي يتوقّف على تنزيل الخمر المستصحب منزلة الخمر الواقعي.

{ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذا} التوجيه الّذي ذكرناه في الحاشية لتصحيح تنزيل الخبر الواحد مثلاً منزلة القطع الطريقي الموضوعي {لو تمّ لعمّ} جميع أقسام القطع الموضوعي {ولا اختصاص له} أي: لهذا التوجيه {بما إذا كان القطع} الموضوعي

ص: 315


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 91.

مأخوذاً على نحو الكشف.

الأمر الرّابع: لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم؛ للزوم الدور، ولا مثله؛ للزوم اجتماع المثلين، ولا ضدّه؛ للزوم اجتماع الضّدّين.

نعم، يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أُخرى منه،

___________________________________________

{مأخوذاً على نحو الكشف} بل يشمل المأخوذ على نحو الصّفتيّة.

[الأمر الرّابع امتناع أخذ القطع

بحكمٍ في موضوع نفسه أو مثله أو ضده]

المقصد السّادس: في الأمارات، امتناع أخذ القطع بحكمٍ في موضوع نفسه أو مثله أو ضده

{الأمر الرّابع} في بيان القطع والظنّ الدخيلين في الموضوع: {لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم} كأن يقول: (إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة وجب عليك إقامتها) - بحيث يكون لوجوب المأخوذ متعلّقاً للقطع وحكماً له واحداً - {للزوم الدور} إذ القطع بالوجوب متوقّف على الوجوب، فلو توقّف الوجوب على القطع دار.

{و} كذا {لا} يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع {مثله} أي: مثل ذلك الحكم، كأن يقول: (إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة وجب عليك إقامتها بوجوب مثل ذلك الوجوب) بحيث يكون الوجوب المأخوذ متعلّقاً للقطع مماثلاً للوجوب المجعول حكماً له {للزوم اجتماع المثلين} في موضوع واحد؛ لأنّه يستلزم أن تكون صلاة الجمعة واجبة بوجوبين: وجوب قبل تعلّق القطع، ووجوب بعد تعلّقه.

{و} كذا {لا} يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع {ضدّه} أي: ضدّ ذلك الحكم، كأن يقول: (إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة حرم عليك إقامتها) {للزوم اجتماع الضّدّين} فيلزم أن تكون صلاة الجمعة واجبة ومحرّمة.

{نعم، يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أُخرى منه} أي: من ذلك الحكم، بأن يكون القطع بالمرتبة السّابقة موجباً لفعليّة الحكم، كأن يقول: (إذا

ص: 316

أو مثله، أو ضدّه.

وأمّا الظنّ بالحكم: فهو وإن كان كالقطع، في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون، إلّا أنّه لمّا كان معه مرتبةُ الحكم الظاهري محفوظة، كان جعلحكم آخر في مورده

___________________________________________

قطعت بالوجوب الإنشائي للجمعة وجب عليك) {أو مثله} كأن يقول: (إذا قطعت بالوجوب الإنشائي وجب عليك فعلاً) والفرق بينه وبين سابقه أنّ في الأوّل يصير نفس الوجوب الإنشائي فعليّاً، بخلاف هذا فإنّ الوجوب الفعلي غير الوجوب الإنشائي {أو ضدّه} كأن يقول: (إذا قطعت بالوجوب الإنشائيّ حرم عليك).

قال العلّامة القمّي(رحمة الله): «لا يخفى عليك أنّ هذا وإن لم يستلزم اجتماع الحكمين في المرتبة المتأخّرة - أي: المرتبة الفعليّة - إلّا أنّه يلزم ذلك اجتماع الحكمين في تلك المرتبة الّتي تعلّق بها القطع، إذ الحكم الواصل إلى المرتبة الفعليّة لا بدّ أن يترقّى من تلك المرتبة، فاجتماعهما في تلك المرتبة اجتماع للمثلين أو الضّدّين»(1)، انتهى.

{وأمّا الظّنّ بالحكم فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون} فلا يصحّ أن يقال: (إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة وجبت عليك بذاك الوجوب المظنون) وذلك لاستلزامه الدور بالتقريب الّذي ذكرناه في القطع، إذ الوجوب الواحد لا يمكن أن يكون متعلّقاً للظنّ وحكماً له {إلّا أنّه لمّا كان معه} أي: مع الظنّ بالحكم {مرتبة الحكم الظاهري محفوظة} بحيث يمكن جعل الحكم الظاهري في حال الظنّ بالحكم الواقعي، بخلاف القطع بالحكم الواقعي، فإنّه إذا قطع بالحكم الواقعي لم يعقل جعل الحكم الظاهري على خلافه {كان جعل حكم آخر في مورده} أي: مورد الظنّبالحكم الواقعي، سواء كان

ص: 317


1- حاشية الكفاية 2: 13-14.

- مثل الحكم المظنون أو ضدّه - بمكانٍ من الإمكان.

إن قلت: إن كان الحكم المتعلّق به الظنّ فعليّاً أيضاً - بأن يكون الظنّ متعلّقاً بالحكم الفعلي - لا يمكن أخذُه في موضوع حكم فعليّ آخر، مثله أو ضدّه؛ لاستلزامه الظنّ باجتماع الضّدّين أو المثلين،

___________________________________________

الحكم المجعول {مثل الحكم المظنون} كأن يقال: (إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة وجبت عليك بوجوب مماثل للوجوب المظنون) {أو ضدّه} كأن يقال: (إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة حرمت عليك) {بمكان من الإمكان} ولا يلزم اجتماع المثلين أو الضّدّين؛ لأنّ الحكم المتعلّق للظنّ في مرتبة الواقع والحكم المأخوذ في موضوعه الظنّ في مرتبة الظاهر، واجتماع الضّدّين والمثلين إنّما يمتنع في موضوع واحد، كما لا يخفى.

{إن قلت}: ما ذكرتم من إمكان أخذ الظنّ بالحكم في موضوع حكم مثله أو ضدّه إنّما يصحّ إذا كان الظنّ المأخوذ في الموضوع متعلّقاً بغير ما تعلّق به الحكم المرتّب على الظنّ، كأن يكون الظنّ بالحكم الواقعي مأخوذاً في موضوع حكم فعليّ مماثل للحكم المظنون أو مضادّ له، كأن يقال: (إذا ظننت بالوجوب الواقعي وجب عليك فعلاً أو حرم عليك فعلاً).

والحاصل: أنّ ذلك جائز مع اختلاف المرتبة، أمّا مع اتحاد المرتبة فلا، ف- {إن كان الحكم المتعلّق به الظنّ فعليّاً أيضاً} كالحكم المرتّب على الظنّ {بأن يكون الظنّ متعلّقاً بالحكم الفعلي} ف- {لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعليّ آخر مثله أو ضدّه} فلا يمكن أنيقال: (إذا ظننت بالوجوب الفعلي لصلاة الجمعة فهي عليك واجبة أو محرّمة فعلاً) {لاستلزامه الظنّ باجتماع الضّدّين أو المثلين} فإنّ المكلّف يظنّ حينئذٍ أنّ المولى حكم بحكمين فعليّين - مثلين أو ضدّين - في موضوع واحد، والظنّ باجتماع المثلين أو الضّدّين، كالقطع باجتماعهما في لزوم

ص: 318

وإنّما يصحّ أخذه في موضوع حكم آخر، كما في القطع، طابِقَ النّعل بالنّعل.

قلت:

___________________________________________

أن يكون المولى عابثاً أو مناقضاً في نظر العبد، بل قد تقرّر في موضعه أنّ احتمال اجتماع الضّدّين أو المثلين، كالقطع بذلك في الاستحالة، فلا يصحّ للمولى أن يفعل هذا الفعل {وإنّما يصحّ أخذه} أي: أخذ الظنّ بالحكم {في موضوع حكم آخر} كأن يقول: إذا ظننت بوجوب الجمعة فعلاً وجب عليك التصدّق أو حرم عليك ذلك {كما في القطع طابِقَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ} والقُذَّة بالقُذَّة.

{قلت}: للحكم الفعلي مرتبتان: الأُولى: الفعلي غير التام، والثّانية: الفعلي التام، فالظنّ كالقطع بالنسبة إلى الفعلي التام فكما لا يمكن أخذ القطع بالحكم الفعلي في موضوع مثله أو ضدّه كذلك لا يمكن أخذ الظنّ بالحكم الفعلي التامّ في موضوع مثله أو ضدّه، وأمّا الفعلي غير التام فيمكن أخذ الظنّ به في موضوع الحكم الفعلي مثله أو ضدّه.

بيان ذلك: أنّ الحكم الفعلي عبارة عمّا يصدق معه هذه القضيّة - أعني: ما لو علم لتنجّز ولا يثب على موافقته وعوقب على مخالفته - .

ثمّ إنّ الفعلي بهذا المعنى ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: ما تكون المصلحة فيه قويّة جدّاً بحيث يزيح المولى علل المكلّف، بأنيرفع جميع الموانع الحاصلة فينبّه المكلّف ويوجب عليه الاحتياط تحفّظاً على الواقع، كالشبهة البدويّة في الدماء والفروج مثلاً، وهذا يسمّى بالفعلي التام.

الثّاني: ما لا تكون المصلحة فيه كذلك فلا يرفع المولى العذر ولا يوجب الاحتياط، بل تقتضي المصلحة بجعل أصل أو أمارة يؤدّيان إليه تارة وإلى ضدّه أُخرى، كالشبهة البدويّة في سائر الأشياء مثلاً، وهذا يسمّى بالفعلي غير التام، وليس بالنسبة إلى هذا القسم من الحكم إرادة وكراهيّة فعليّة من المولى حتّى

ص: 319

يمكن أن يكون الحكم فعليّاً، بمعنى أنّه لو تعلّق به القطع - على ما هو عليه من الحال - لتنجّز، واستحقّ على مخالفته العقوبة. ومع ذلك لا يجبُ على الحاكم دفع عذر المكلّف - برفع جهله لو أمكن، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه في ما أمكن - ، بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدّية إليه تارة، وإلى ضدّه أُخرى،

___________________________________________

يلزم اجتماع الضّدّين أو المثلين، وليس كالإنشائي الصّرف حتّى لا ينجز حتّى بعد تعلّق العلم، بل هو واسطة بين الإنشائي المحض وبين الفعلي التام.

إذا عرفت هذا قلنا: الظنّ بالفعلي التام لا يمكن أن يؤخذ موضوعاً لحكم مثله أو ضدّه - كما ذكر في الإيراد - لأنّ تعلّق الإرادة والكراهة بهذا الفعلي ينافي تعلّق إرادة أو كراهة أُخرى به، ولو كان تعلّق الإرادتين أو إرادة وكراهة في نظر المكلّف لظنّه بالفعليّة التامّة، إذ كما يمتنع اجتماعهما واقعاً يمتنع ظنّاً - كما تقدّم - وأمّا الظنّ بالحكم الفعلي غير التامّ، فيمكن أن يؤخذ في موضوع مثله أو ضدّه، كما أشار إليه بقوله: {يمكن أن يكون الحكم فعليّاً، بمعنى أنّه لو تعلّق به القطع - على ما هو عليه من الحال} الّذي ليس بحيث يجب على المولى رفع عذرالمكلّف برفع جهله أو إيجاب الاحتياط عليه تحفّظاً على الواقع - {لتنجّز واستحقّ على مخالفته العقوبة} وعلى موافقته المثوبة {ومع ذلك} الّذي ذكر من أنّه لو تعلّق به العلم لتنجّز {لا يجب على} المولى {الحاكم} بهذا الحكم الفعلي {دفع عذر المكلّف برفع جهله لو أمكن} رفع جهله {أو بجعل لزوم الاحتياط عليه} تحفّظاً على الواقع {في ما أمكن} الاحتياط، كغير مورد دوران الأمر بين المحذورين {بل يجوز} مع عدم رفع عذره وعدم جعل الاحتياط عليه {جعل أصل أو أمارة مؤدّية إليه} إلى ذلك الفعلي {تارةً، وإلى ضدّه أُخرى} ووجه الترقّي أنّه قد يكله المولى إلى الأصول العقليّة بلا تصرّف جديد، وهذا أهون من جعل الأصل، كما لا يخفى.

وكيف كان، فلا يلزم اجتماع الضّدّين أو المثلين في ما لو جعل الظنّ بالحكم

ص: 320

ولا يكاد يمكن مع القطع به، جعلُ حكمٍ آخر مثله أو ضدّه، كما لا يخفى، فافهم.

إن قلت: كيف يمكن ذلك؟ وهل هو إلّا أنّه يكون مستلزماً لاجتماع المثلين أو الضّدّين؟

قلت: لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى - أي: لو قطع به من باب الاتفاق لتنجّز - مع حكم آخر فعليّ في مورده، بمقتضى الأصل أو الأمارة، أو دليل أُخذ في موضوعه الظنّ بالحكم بالخصوص به،

___________________________________________

الفعلي غير التامّ موضوعاً لحكم فعليّ مماثلاً أو مضادّاً.

{ولا يكاد يمكن مع القطع به} أي: بالحكم الفعلي{جعل حكم آخر مثله أو ضدّه، كما لا يخفى} إذ ليس مع العلم مرتبة الحكم الظاهري محفوظاً، فيلزم من جعل الحكم مع قطع العبد أن يكون المولى قد عرض نفسه بكونه عابثاً أو مناقضاً في نظر العبد، وإن لم يكن في الواقع كذلك لكون قطع العبد جهلاً مركّباً {فافهم}.

{إن قلت: كيف يمكن ذلك} الّذي ذكرتم من صحّة جعل أمارة، أو أصل في مورد الحكم الفعلي {وهل هو} الجعل {إلّا أنّه يكون مستلزماً لاجتماع} الحكمين الفعليّين {المثلين} في مورد الموافقة {أو الضّدّين} في مورد المخالفة؟

{قلت}: لا يجتمع الحكمان الفعليّان مماثلاً أو مضادّاً إذا كانا تامّين، ولكن {لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى} الّذي تقدّم أنّه غير تامّ {أي: لو قطع به من باب الاتفاق} بدون عناية من المولى لرفع جهل المكلّف أو إيجاب الاحتياط عليه {لتنجّز مع حكم آخر فعليّ في مورده بمقتضى الأصل أو الأمارة} لعدم استلزامه اجتماع إرادتين أو إرادة وكراهة، فإنّ الفعلي غير التامّ بمقتضى الواقع لا ينافي الفعلي التام بمقتضى الأمارة والأصل {أو} بمقتضى {دليل أُخذ في موضوعه الظنّ بالحكم بالخصوص به} أي: بهذا الحكم.

والحاصل: أنّ الحكم الفعلي غير التامّ لا ينافي حكم الأصل ولا حكماً أُخذ

ص: 321

على ما سيأتي(1)

من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.الأمر الخامس: هل تنجّز التكليف بالقطع - كما يقتضي موافقته عملاً - ، يقتضي موافقته التزاماً، والتسليمَ له اعتقاداً وانقياداً، كما هو اللّازم في الأصول الدينيّة والأُمور الاعتقاديّة، بحيث كان له امتثالان وطاعتان: إحداهما بحسب القلب والجنان، والأُخرى بحسب العمل بالأركان، فيستحقّ العقوبة على عدم الموافقة التزاماً، ولو مع الموافقة عملاً، أو لا يقتضي، فلا يستحقّ العقوبة عليه،

___________________________________________

في موضوعه الظنّ بالحكم الواقعي الفعلي غير التام {على ما سيأتي من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي} إن شاء اللّه - تعالى - .

[الأمر الخامس الموافقة الالتزامية]

المقصد السّادس: في الأمارات، الموافقة الالتزامية

{الأمر الخامس} في أنّ العلم بالتكليف هل يقتضي الموافقة الالتزاميّة أم لا؟ {هل تنجّز التكليف بالقطع} أو بغيره من الأمارات والأصول المعتبرة {كما يقتضي موافقته عملاً} بأن يأتي بالواجب ويترك المحرّم {يقتضي موافقته التزاماً} بأن يعقد قلبه على أنّ الشّيء الفلاني واجب والشّيء الفلاني محرّم {والتسليم له اعتقاداً وانقياداً، كما هو} أي: الانقياد وعقد القلب {اللّازم في الأصول الدينيّة والأُمور الاعتقاديّة بحيث كان له} أي: للحكم المقطوع به {امتثالان وطاعتان: إحداهما: بحسب القلب والجنان، والأُخرى: بحسب العمل بالأركان} وكذلك معصيتان ومخالفتان بحيث ينفكّ كلّ منهما عنالأُخرى {فيستحقّ العقوبة على عدم الموافقة التزاماً} كأن بنى عدم حرمة الخمر {ولو مع الموافقة عملاً} بأن لم يشرب وبالعكس، بأن بنى على الحرمة ولكن شربها {أو لا يقتضي} تنجّز التكليف الموافقة الالتزاميّة {فلا يستحقّ العقوبة عليه} أي: على عدم الموافقة

ص: 322


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 365-366.

بل إنّما يستحقّها على المخالفة العمليّة؟

الحقّ: هو الثّاني؛ لشهادة الوِجْدان - الحاكم في باب الإطاعة والعصيان - بذلك، واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيّده، إلّا المثوبة دون العقوبة، ولو لم يكن متسلّماً وملتزماً به ومعتقداً ومنقاداً له، وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيّده؛ لعدم اتصافه بما يليق أن يتّصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها، وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لأمره أو نهيه التزاماً مع موافقته عملاً، كما لا يخفى.

___________________________________________

{بل إنّما يستحقّها على المخالفة العمليّة} وكذا لا يستحقّ المثوبة على الالتزام، بل على الإطاعة فقط؟

{الحق هو الثّاني، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك} الثّاني الّذي كان عبارة عن عدم وجوب الموافقة الالتزاميّة {و} ذلك ل- {استقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيّده إلّا المثوبة دون العقوبة، ولو لم يكن} عقد قلبه على ذلك فلم يكن {متسلّماً وملتزماً} قلباً {به ومعتقداً ومنقاداً} جناناً {له، وإن كانذلك} أي: عدم التسليم والانقياد قلباً {يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيّده} المطّلع على قلبه {لعدم اتصافه بما يليق أن يتّصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها} قلباً.

{وهذا} الّذي ذكر من إيجابه التنقيص وانحطاط الدرجة {غير استحقاق العقوبة على مخالفته} الّذي هو محلّ البحث الآن {لأمره أو نهيه التزاماً مع موافقته عملاً، كما لا يخفى}.

ولكن الانصاف لزوم الالتزام شرعاً للآيات والرّوايات الكثيرة المشعرة أو المصرّحة:

منها: قوله - تعالى - : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا

ص: 323

___________________________________________

يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا}(1)، فإنّها صريحة في عدم إيمان من يجد في نفسه حرجاً من قضاء الرّسول ولو كان يوافقه عملاً، فكيف بمن لا يلتزم أصلاً به؟

ومنها: قوله - تعالى - : {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ}(2)، ومن المعلوم أنّ الإيمان بالكتاب عبارة عن الالتزام بأحكامها أُصولاً وفروعاً.

ومنها: ما عن أبي عبداللّه(علیه

السلام) أنّه تلا الآية الأُولى فقال: «لو أنّ قوماًعبدوا اللّه ووحّدوه ثمّ قالوا لشيءٍ صنعه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لِمَ صَنَعَ كذا وكذا، أو وجدوا ذلك في أنفسهم، كانوا بذلك مشركين»، ثمّ تلا الآية ثانياً وقال: «هو التسليم في الأُمور»(3).

ومنها: ما عن أبي بصير قال: سألت أبا عبداللّه عن قول اللّه - عزّ وجلّ - : {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا}(4)، قال: «الصّلاة عليه والتسليم له في كلّ شيء جاء به»(5).

ومن المعلوم أنّ أحداً لو قال: أنا لا ألتزم بأحكام النّبيّ(صلی الله علیه و آله) ولكن أُوافقه عملاً لم يكن ممّن يسلم له(صلی الله علیه و آله).

ومنها: ما عن أبي جعفر(علیه السلام) في قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ} الآية، قال: «التسليم الرِّضا والقنوع بقضائه»(6)، إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة في هذه المضامين الّتي

ص: 324


1- سورة النساء، الآية: 65.
2- سورة النساء، الآية: 136.
3- بحار الأنوار 2: 211.
4- سورة الأحزاب، الآية: 56.
5- بحار الأنوار 2: 204.
6- بحار الأنوار 2: 219.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزاميّة، لو كان المكلّف متمكّناً منها تجب - ولو في ما لا يجب عليه الموافقة القطعيّة عملاً - ولا يحرم المخالفة القطعيّة عليه كذلك أيضاً؛ لامتناعهما، - كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته - ؛ للتمكّن من الالتزام بما هو الثّابت واقعاً، والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثّابت، وإن لم يعلم أنّه

___________________________________________

يجدها الطالب في باب أنّ حديثهم(علیهم السلام) صعب مستصعب في الجزء الأوّل من كتاب البحار(1) مضافاً إلى ما قامت عليه الضّرورة من وجوب الالتزام شرعاً بجميع ما جاء به النّبيّ(صلی الله علیه و آله).

{ثمّ لا يذهب عليك أنّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزاميّة} كما هو الحقّ عندنا {لو كان المكلّف متمكّناً منها تجب - ولو في ما لا يجب عليه الموافقة القطعيّة عملاً - ولا يحرم المخالفة القطعيّة عليه كذلك} عملاً {أيضاً لامتناعهما} أي: المخالفة العمليّة والموافقة العمليّة {كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته} فإنّه لا يتمكّن من الموافقة العمليّة القطعيّة لعدم إمكان اجتماع النّقيضين - أي: كونه فاعلاً وتاركاً - ولا المخالفة العمليّة القطعيّة لعدم إمكان ارتفاع النّقيضين - أي: كونه غير فاعل وغير تارك - . ولا يخفى أنّ في العبارة تسامحاً، إذ لا يعقل المخالفة القطعيّة في صورة دوران الأمر بين المحذورين حتّى يقال: يحرم أو لا يحرم، والمعنى أنّه لا يمكن الموافقة القطعيّة ولا المخالفة القطعيّة. نعم، يمكن أن يكون المثال بالدوران للأوّل ويكون مثال الثّاني هو أطراف الشّبهة غير المحصورة على القول بجواز ارتكاب جميع الأطراف تدريجاً، فتأمّل.

والحاصل: أنّه لا تلازم بين الموافقتين العمليّة والالتزاميّة، فربّما لا يمكن الموافقة العمليّة مع إمكان الموافقة الالتزاميّة فتجب {للتمكّن من الالتزام بما هو الثّابت واقعاً، والانقياد له والاعتقاد به} إجمالاً {بما هو الواقعوالثّابت وإن لم يعلم أنّه}

ص: 325


1- بحار الأنوار 2: 182.

الوجوب أو الحرمة.

وإن أبيت إلّا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه؛ لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة حينئذٍ ممكنةً، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً؛ فإنّ محذور الالتزام بضدّ التكليف - عقلاً - ، ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به بداهةً، مع ضرورة أنّ التكليف - لو قيل باقتضائه للالتزام - لم يكد يقتضي إلّا الالتزام بنفسه عيناً، لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً.

ومن هنا

___________________________________________

أي: الواقع {الوجوب أو الحرمة} معيّناً.

{وإن أبيت إلّا عن لزوم الالتزام به} أي: بالحكم {بخصوص عنوانه} حتّى لا يكفي الالتزام الإجمالي {لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة حينئذٍ ممكنة} وعليه فيقع التلازم بين العمل والالتزام، فحيث أمكنت الموافقة العمليّة أمكنت الالتزاميّة وبالعكس.

{و} إن قلت: كما يكون الشّخص إمّا فاعلاً وإمّا تاركاً فأيّ مانع من أن يلتزم إمّا بالفعل أو بالترك؟

قلت: لو لم يعلم {لما وجب عليه الالتزام بواحد} من الفعل والترك {قطعاً، فإنّ محذور الالتزام بضدّ التكليف - عقلاً - ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به بداهة} إلّا أن يقال: بأنّ الالتزام بأحدهما موافقة احتماليّة وعدم الالتزام بهما مخالفة قطعيّة، والموافقة الاحتماليّة أقرب عقلاً منالمخالفة القطعيّة {مع ضرورة أنّ التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام} القلبي {لم يكد يقتضي إلّا الالتزام بنفسه عيناً لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً} في ظرف الجهل.

{ومن هنا} الّذي ذكرنا من أنّ لزوم الالتزام - لو قيل به - إنّما يكون في مورد يكون

ص: 326

انقدح: أنّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانعٌ عن إجراء الأصول - الحكميّة أو الموضوعيّة - في أطراف العلم، لو كانت جارية مع قطع النّظر عنه.

___________________________________________

التكليف معلوماً، لا ما إذا كان التكليف مردّداً {انقدح أنّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأصول الحكميّة} كأصل البراءة {أو الموضوعيّة} كأصل عدم تعلّق النّذر بالفعل في ما لو شكّ في أنّه نذر فعله أم لا {في أطراف العلم} الإجمالي {لو كانت} تلك الأصول {جارية مع قطع النّظر عنه} أي: عن لزوم الالتزام، فافهم.

توضيح المقام: أنّ الشّيخ(قدس سره) فرّق بين الأصول الحكميّة والأصول الموضوعيّة، بناءً على لزوم الالتزام بالحكم بأنّ الأصول الحكميّة لا تجرّي في أطراف العلم؛ لأنّ جريانها موجب للمخالفة العمليّة، بخلاف الأصول الموضوعيّة، فإنّها تجرّي وتخرج مجراها عن تحت وجوب الالتزام، فقال ما لفظه:

«إنّ الأصول في الموضوعات حاكمة على أدلّة التكليف، فإنّ البناء على عدم تحريم المرأة لأجل البناء بحكم الأصل على عدم تعلّق الحلف بترك وطيها، فهيخارجة عن موضوع الحكم بتحريم وطي من حلف على ترك وطيها، وكذا الحكم بعدم وجوب وطيها، لأجل البناء على عدم الحلف على وطيها، فهي خارجة عن موضوع الحكم بوجوب وطي من حلف على وطيها، وهذا بخلاف الشّبهة الحكميّة، فإنّ الأصل فيها معارض لنفس الحكم المعلوم بالإجمال، وليس مخرجاً لمجراه عن موضوعه حتّى لا ينافيه جعل الشّارع»(1)،

انتهى.

والمصنّف(رحمة الله) أشار إلى عدم الفرق؛ لأنّ لزوم الالتزام لو قيل به فإنّما هو في مورد معلوميّة الحكم، أمّا مع عدم معلوميّته فلا يجب الالتزام. نعم، لا تجري

ص: 327


1- فرائد الأصول 1: 89.

كما لا يدفع بها محذورُ عدم الالتزام به.

بل الالتزام بخلافه لو قيل بالمحذور فيه حينئذٍ أيضاً، إلّا على وجه دائر؛ لأنّ جريانها موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام اللّازم من جريانها، وهو موقوف على جريانها - حسب الفرض - .

___________________________________________

الأصول في مورد العلم الإجمالي لمنافاتها للعلم، ولهذا قال(رحمة الله): «لو كانت جارية مع قطع النّظر عنه».

ثمّ إنّه أشار إلى إشكال ثانٍ على الشّيخ(رحمة الله) القائل بأنّ الأصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي فلا موضوع للزوم الالتزام، بقوله: {كما لا يدفع بها} أي: بالأصول {محذور عدم الالتزام به} أي: بالتكليف - لو كان الالتزام واجباً حتّى في صورة عدم العلم بالتكليف معيّناً - {بل الالتزام بخلافه} أي: بخلاف التكليف، فإنّ البناء على عدم وجوب الوطي وعدم حرمته عبارة أُخرى عن الالتزام بخلاف التكليف؛ لأنّه يعلمبأحدهما قطعاً {لو قيل بالمحذور فيه} أي: في عدم الالتزام {حينئذٍ} أي: حين كان التكليف مردّداً {أيضاً} كما قيل بالمحذور في ما كان التكليف معيّناً {إلّا على وجه دائر}.

والحاصل: أنّه لو قلنا بلزوم الالتزام مطلقاً حتّى في ما كان التكليف مردّداً فإجراء الأصل في الأطراف لا يرفع حكم العقل بوجوب الالتزام - كما التزم به الشّيخ(رحمة الله) - لأنّه لو كان جريان الأصل موجباً لرفع حكم العقل بلزوم الالتزام لزم الدور {لأنّ جريانها} أي: الأصول {موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام اللّازم} صفة «عدم الالتزام» {من جريانها وهو} أي: عدم المحذور {موقوف على جريانها - حسب الفرض -} لأنّ المفروض أنّ جريان الأصل لمحذور عدم الالتزام.

توضيحه: أنّ الأصل إنّما يجري في الأطراف إذا لم يكن في عدم الالتزام محذور، إذ لو كان في عدم الالتزام محذور لم يجر الأصل لكونه لغواً حينئذٍ، فإذا

ص: 328

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ استقلال العقل بالمحذور فيه إنّما يكون في ما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام والاقتحام في الأطراف، ومعه لا محذور فيه، بل ولا في الالتزام بحكم آخر.

إلّا أنّ الشّأن حينئذٍ في جواز جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي مع عدم ترتّب أثر عمليّ عليها، مع أنّها أحكام عمليّة كسائر الأحكام الفرعيّة.

___________________________________________

أُريد إثبات عدم المحذور في عدم الالتزام بالأصل لزم الدور، فالأصل يتوقّف على عدم المحذور وعدم المحذور قد يتوقّف على الأصل، وهو دور صريح.أقول: في بعض النّسخ هكذا «كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام به».

{اللّهمّ إلّا أن يقال} في بيان عدم استلزام جريان الأصل للدور: {إِنّ استقلال العقل بالمحذور فيه} أي: في عدم الالتزام - سواء علم التكليف تفصيلاً أم إجمالاً - {إنّما يكون في ما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام والاقتحام في الأطراف، ومعه} أي: مع وجود الترخيص {لا محذور فيه} أي: في عدم الالتزام {بل ولا} محذور {في الالتزام بحكم آخر} فعليّ بمقتضى الأصل مغاير للحكم الواقعي المعلوم إجمالاً، فالعلم التفصيلي علّة تامّة للالتزام، بحيث لا يجوز عدم الالتزام في صورة العلم التفصيلي، وأمّا العلم الإجمالي فليس إلّا مقتضياً، فإذا حدث المانع بجريان الأصول فلا يلزم الالتزام {إلّا أنّ الشّأن} أي: الكلام {حينئذٍ} أي: حين تردّد الواقع {في جواز جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي} فوجوب الالتزام - وإن لم يكن مانعاً من جريان الأصول - إلّا أنّها في نفسها لا تجرّي في أطراف العلم {مع عدم ترتّب أثر عمليّ عليها} أي: على الأصول الجارية في أطراف العلم {مع} وضوح {أنّها أحكام عمليّة كسائر الأحكام الفرعيّة} ووجه عدم ترتّب الأثر واضح، إذ لا وجوب للالتزام في أطراف العلم - على ما اختاره المصنّف(رحمة الله) - حتّى يكون أثر الجريان عدم الالتزام، ولا يفيد الجريان شيئاً؛ لأنّ

ص: 329

مضافاً إلى عدم شمول أدلّتها لأطرافه؛ للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها، كما ادّعاه شيخنا العلّامة - أعلىاللّه مقامه(1) - ، وإن كان محلّ تأمّل ونظر، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

المكلّف لا يخلو من الفعل أو الترك، وهذا بخلاف الشّبهة البدويّة، فإنّ جريان الأصل موجب لنفي الاحتياط.

{مضافاً إلى عدم شمول أدلّتها} أي: أدلّة الأصول {لأطرافه} أي: أطراف العلم الإجمالي {للزوم التناقض في مدلولها} أي: مدلول الأدلّة {على تقدير شمولها كما ادّعاه شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه -} بتقريب أنّه لو شمل مثل قوله(علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه»(2)

لأطراف العلم، بأن كان كلّ واحد من المشتبهين داخلاً في صدر الرّواية لكونه مشكوك الحرمة لزم أن يكون حلالاً للشكّ في حرمته وحراماً للعلم الإجمالي بالحرمة فيشمله الذيل، وكذا لو شمل دليل الاستصحاب لأطراف العلم {وإن كان} ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) {محلّ تأمّل ونظر} لإمكان أن يكون فعليّة الأحكام الواقعيّة موقوفة على العلم التفصيلي، ويكون حال العلم الإجمالي حال الشّبهة البدويّة كما التزموا به في مورد الشّبهة غير المحصورة، فإنّه مع العلم الإجمالي بوجود الحكم قد أذن الشّارع بارتكاب الأطراف - كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه - {فتدبّر جيّداً}.

يمكن أن يكون أشار إلى عدم صحّة قوله: «مع عدم ترتّب أثر عمليّ عليها»لما أشار إليه في هامش قوله: «إلّا أنّ الشّأن حينئذٍ» بما لفظه: «والتحقيق جريانها

ص: 330


1- فرائد الأصول 3: 410.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 341؛ تهذيب الأحكام 9: 79، ومتن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»؛ وفي الكافي 6: 339: «كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».

الأمر السّادس: لا تفاوت في نظر العقل أصلاً - في ما يترتّب على القطع من الآثار عقلاً - بين أن يكون حاصلاً بنحو متعارف، ومن سبب ينبغي حصوله منه، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه - كما هو الحال غالباً في القطاع - ؛ ضرورة أنّ العقل يرى تنجّز التكليف بالقطع الحاصل ممّا لا ينبغى حصوله، وصحّة مؤاخذة قاطعه على مخالفته، وعدم صحّة الاعتذار عنها

___________________________________________

لعدم اعتبار شيء في ذلك عدا قابليّة المورد للحكم إثباتاً ونفياً، فالأصل الحكمي يثبت له الحكم تارة كأصالة الإباحة وينفيه أُخرى كاستصحاب عدم الحرمة والوجوب في ما دار بينهما فتأمّل جيّداً»(1)،

انتهى.

[الأمر السّادس حجيّة قطع القطّاع]

المقصد السّادس: في الأمارات، حجيّة قطع القطّاع

{الأمر السّادس} - في بيان حجيّة جميع أقسام القطع - : {لا تفاوت في نظر العقل أصلاً - في ما يترتّب على القطع من الآثار عقلاً -} من تنجيز التكليف وكونه منجّزاً ومعذّراً وغير ذلك {بين أن يكون حاصلاً بنحو متعارف ومن سبب ينبغي حصوله منه، أو} من سبب {غير متعارف} بحيث {لا ينبغي حصوله منه، كما هو الحال غالباً في القطاع} وهو الّذي له حالة وجدانيّة تورث كثرة قطعه.

ولا يخفى أنّ كثير القطع الّذي يكثر قطعه بسبب كثرة اطّلاعه على موجباتالقطع ليس كالقطاع المبحوث عنه، ويمكن أن يكون قوله: «غالباً» إشارة إلى إخراجه، وإن كان الأقرب إرادة إخراج القطع الّذي حصل للقطاع من الأسباب المتعارفة.

وكيف كان، فالقطع حجّة مطلقاً {ضرورة أنّ العقل يرى تنجّز التكليف بالقطع الحاصل ممّا لا ينبغي حصوله، و} كذا يرى {صحّة مؤاخذة قاطعه على مخالفته} عصياناً لو وافق الواقع وتجرّياً لو خالفه {وعدم صحّة الاعتذار عنها} أي: عن المخالفة

ص: 331


1- حقائق الأصول 2: 43.

بأنّه حصل كذلك، وعدم صحّة المؤاخذة مع القطع بخلافه، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك ولو مع التفاته إلى كيفيّة حصوله.

نعم، ربّما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعاً، والمتّبع - في عمومه وخصوصه - دلالةُ دليله في كلّ مورد، فربّما يدلّ على اختصاصه بقسم في مورد، وعدم اختصاصه به في آخر، على اختلاف الأدلّة واختلاف المقامات،

___________________________________________

{بأنّه} أي: القطع {حصل كذلك} من سبب غير عادي، فلهذا لم يرتّب عليه الأثر {وعدم صحّة المؤاخذة مع القطع بخلافه} أي: لو حصل له القطع بخلاف الواقع فعمل على طبق قطعه {وعدم حسن الاحتجاج} من المولى {عليه} أي: على العبد {بذلك} بأن يقول له: خالفت الواقع بسبب قطعك الحاصل من أسباب غير متعارفة {ولو مع التفاته} أي: العبد {إلى كيفيّة حصوله} وأنّه من أسباب غير متعارف. نعم، إذا حصل له القطع مع النّهي عن سلوك طريقه صحّ عقابه، من غير فرق بين القطاع وغيره؛ لأنّ الامتناع بالاختيارلا ينافي الاختيار. والحاصل: أنّ القطع الطريقي لا يتفاوت فيه الحال أصلاً.

{نعم، ربّما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعاً} أو التزاماً كأن ينذر أنّه إذا حصل له القطع بوجود ولده - بسبب كتابه - أن يعطي الفقير شيئاً فإنّه إذا حصل له القطع بواسطة المخبر يلزم، كما لا يخفى {والمتّبع في عمومه وخصوصه} بأنّ المأخوذ في الموضوع عامّ حتّى يشمل القطع من أيّ سبب كان، أو خاصّ بما إذا حصل من السّبب الفلاني {دلالة دليله} المأخوذ فيه القطع موضوعاً {في كلّ مورد، فربّما يدلّ} الدليل {على اختصاصه} أي: القطع المأخوذ في الموضوع {بقسم في مورد وعدم اختصاصه به في} مورد {آخر على اختلاف الأدلّة واختلاف المقامات}.

ص: 332

بحسب مناسبات الأحكام والموضوعات وغيرها من الأمارات.

وبالجملة: القطعُ في ما كان موضوعاً عقلاً لا يكادُ يتفاوتُ من حيث القاطع، ولا من حيث المورد، ولا من حيث السّبب، لا عقلاً، وهو واضح، ولا شرعاً؛ لما عرفت من أنّه لا تناله يدُ الجعل نفياً ولا إثباتاً، وإن نُسب إلى بعض الأخباريّين:(1)

«أنّه لا اعتبار بما إذا كان بمقدّمات عقليّة» إلّا أنّ مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النّسبة، بل تشهد بكذبها، وأنّها

___________________________________________

وبالجملة فأخذ القطع في الموضوع عموماً أو خصوصاً قد يفهم {بحسبمناسبات الأحكام والموضوعات، و} قد يفهم بحسب {غيرها} أي: غير هذه المناسبات {من} سائر {الأمارات} والقرائن الخارجيّة.

{وبالجملة القطع في ما كان موضوعاً عقلاً} للحجيّة(2) وهو القطع الطريقي المحض {لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع} كأن يكون قطاعاً أو غير قطاع {ولا من حيث المورد} كأن يكون في العبادات أو في المعاملات {ولا من حيث السّبب} كأن يحصل من قول الثّقة أو طيران الغراب {لا عقلاً وهو واضح} كما تقدّم {ولا شرعاً، لما عرفت من أنّه لا تناوله يد الجعل} التشريعي لا {نفياً} بأن يرفع الحجّة عنه {ولا إثباتاً} بأن يجعله حجّة {وإن نسب إلى بعض الأخباريّين} كالأمين الأسترآبادي والسّيّد الجزائري وصاحب الحدائق - قدّس سرّهم - : {«أنّه لا اعتبار بما إذا ك--ان} القطع {بمقدّم-ات عقليّة»، إلّا أنّ مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النّسبة، بل تشهد بكذبها} في العبارة ما لا ينبغي إذا أُريد بالناسب الشيخ(رحمة الله) وأضرابه {وأنّه-ا} أي: كلماتهم

ص: 333


1- منهم المحدّث الأستر آبادي في الفوائد المدنيّة: 255 والمحدّث البحراني في الحدائق الناضرة 1: 132.
2- إذ القطع الطريقي موضوع للآثار كالحجيّة والتنجّز والإعذار ونحوها.

إنّما تكونُ:

إمّا في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشّرع بوجوبه، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي عنالسّيّد الصّدر(1)

في باب الملازمة، فراجع.

وإمّا في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقليّة؛ لأنّها لا تفيد إلّا الظنّ، كما هو صريح الشّيخ المحدّث الأمين الأسترآبادي رحمه الله

___________________________________________

{إنّما تكون في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشّرع بوجوبه} ردّاً على القاعدة المشتهرة «كلّما حكم به العقل حكم به الشّرع، وكلّما حكم به الشّرع حكم به العقل» {كما ينادي به} أي: بمنع الملازمة {بأعلى صوته ما حكي عن السّيّد الصّدر في باب الملازمة، فراجع}.

وقد نقل عبارته المحقّق الشّيخ علي القمّي(رحمة الله) في الحاشية(2).

قال المشكيني(رحمة الله): «لا حاجة لذكره في هذا المقام؛ لأنّه ليس في المنسوب إليه عدم حجيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة، كما لا يخفى. نعم، هو مخالف في باب الملازمة، وأنّه لا ملازمة بين حكم العقل بحسن شيء أو قبحه، وبين حكم الشّرع بوجوبه أو حرمته»(3)

الخ.

{وإمّا في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقليّة؛ لأنّها لا تفيد إلّا الظنّ} والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً {كما هو صريح الشّيخ المحدّث الأمين الأسترآبادي رحمه الله} تعالى.قال المشكيني(رحمة الله): «وأمّا السّيّد فهو أيضاً كذلك؛ لأنّ النّسبة إليه إنّما نشأ من استحسانه كلام الأمين، وكذلك المحدّث البحراني؛ لأنّه نسب إليه من جهة

ص: 334


1- فرائد الأصول 1: 59-60.
2- حاشية الكفاية 2: 16.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 114.

حيث قال - في جملة ما استدلّ به في فوائده على انحصار مدرك ما ليس من ضروريّات الدين في السّماع عن الصّادقين عليهم السلام: «الرّابع: أنّ كلّ مسلك غير ذلك المسلك - يعني التمسّك بكلامهم عليهم الصّلاة والسّلام - إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنّ بحكم اللّه - تعالى - ، وقد أثبتنا سابقاً أنّه لا اعتماد على الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه - تعالى - أو بنفيها»(1).

وقال في جملتها أيضاً - بعد ذكر ما تفطّن بزعمه من الدقيقة - ما هذا لفظه: «وإذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشّريفة فنقول: إنّ تمسّكنا بكلامهم(علیهم السلام) فقد عُصمنا من الخطأ، وإن تمسّكنا بغيره لم نعصم عنه، ومن المعلوم أنّ العصمة من الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعاً وعقلاً،

___________________________________________

استحسانه لكلام السّيّد، فراجع»(2)، انتهى.

{حيث قال في جملة ما استدلّ به في} كتاب {فوائده} المدنيّة {على انحصار مدرك ما ليس من ضروريّات الدين في السّماع عن الصّادقين عليهم} الصّلاة و{السّلام} - ما لفظه:{«الرّابع: أنّ كلّ مسلك غير ذلك المسلك، يعني: التمسّك بكلامهم - عليهم الصّلاة والسّلام - إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنّ بحكم اللّه - تعالى - وقد أثبتنا سابقاً أنّه لا اعتماد على الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه - تعالى - أو بنفيها»} بأن يدلّ الظنّ على عدم الحكم {وقال في جملتها} أي: جملة ما استدلّ به {أيضاً بعد ذكر ما تفطّن بزعمه من الدقيقة ما هذا لفظه: «وإذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشّريفة فنقول: إن تمسّكنا بكلامهم(علیهم السلام) فقد عصمنا من الخطأ وإن تمسّكنا بغيره لم نعصم عنه، ومن المعلوم أنّ العصمة من الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعاً وعقلاً}.

ص: 335


1- الفوائد المدنيّة: 255.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 116.

ألا ترى أنّ الإماميّة استدلّوا على وجوب العصمة بأنّه لولا العصمة للزم أمره - تعالى - عبادَهُ باتّباع الخطأ، وذلك الأمر محال؛ لأنّه قبيح؟ وأنت إذا تأمّلت في هذا الدليل علمت أنّ مقتضاه أنّه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه - تعالى - »(1)

انتهى موضع الحاجة من كلامه.

وما مهّده من الدقيقة هو الّذي نقله شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - في الرّسالة(2).

___________________________________________

ثمّ استدلّ على مرغوبيّة العصمة عن الخطأ شرعاً وعقلاً بقوله: {ألا ترى أنّ الإماميّة استدلّوا على وجوب العصمة} في النّبيّ والإمام {بأنّه لولا العصمة للزم أمره - تعالى - عباده باتّباع الخطأ} لأنّه(علیه السلام) إذا لم يكن معصوماً أمكن خطاؤه فإذا أخطأ وجب على الأُمّة اتّباعه لقوله - سبحانه - : {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(3)، {وذلك الأمر} من اللّه تعالى، باتّباع الخطأ {محال؛ لأنّه قبيح} ووجه دلالة هذا الكلام على مطلوبيّة العصمة من الخطأ أنّه لو لم تكن مطلوبة لم يكن مانع عن الخطأ في النّبيّ والإمام، لكن القبح المانع عن الخطأ يدلّ على مطلوبيّة عدمه، فتدبّر.

{وأنت إذا تأمّلت في هذا الدليل علمت أنّ مقتضاه أنّه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه - تعالى - » انتهى موضع الحاجة من كلامه} فقوله: «إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنّ» وقوله: «علمت أنّ مقتضاه» الخ، يدلّان على أنّ مراده عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقليّة، لإفادتها الظنّ، كما تقدّم {وما مهّده من الدقيقة هو الّذي نقله شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - في الرّسالة} فلا حاجة إلى تكراره، وقد نقله العلّامة الرّشتي في حاشيته أيضاً.

ص: 336


1- الفوائد المدنيّة: 259.
2- فرائد الأصول 1: 52.
3- سورة النساء، الآية: 59.

وقال في فهرست فصولها أيضاً: «الأوّل: في إبطال جواز التمسّك بالاستنباطات الظنيّة في نفس أحكامه - تعالى شأنه - ووجوب التوقّف عند فقد القطع بحكم اللّه،أو بحكم ورد عنهم(علیهم السلام)»(1)،

انتهى.

وأنت ترى أنّ محلّ كلامه ومورد نقضه وإبرامه هو العقلي الغيرُ المفيد للقطع، وإنّما همّه إثبات عدم جواز اتّباع غير النّقل في ما لا قطع.

وكيف كان، فلزوم اتّباع القطع مطلقاً، وصحّةُ المؤاخذة على مخالفته عند إصابته، وكذا ترتّب سائر آثاره عليه عقلاً، ممّا لا يكاد يخفى على عاقلٍ، فضلاً عن فاضل.

فلا بدّ في ما يوهم خلاف ذلك في الشّريعة،

___________________________________________

{وقال} الأمين(رحمة الله) {في فهرست فصولها} أي: فصول الفوائد المدنيّة {أيضاً: «الأوّل: في إبطال جواز التمسّك بالاستنباطات الظنيّة في نفس أحكامه تعالى شأنه، ووجوب التوقّف عند فقد القطع بحكم اللّه أو بحكم ورد عنهم(علیهم السلام)»، انتهى} وهذا أيضاً يدلّ على المطلّب.

{وأنت ترى أنّ محلّ كلامه ومورد نقضه وإبرامه هو العقلي الغير المفيد للقطع وإنّما همّه إثبات عدم جواز اتّباع غير النّقل في ما لا قطع}.

{وكيف كان} سواء صحّت النّسبة أم لا {ف-} الصّحيح هو ما ذكرنا من أنّ {لزوم اتّباع القطع مطلقاً وصحّة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته} للمعصية وعند عدم إصابته للتجرّي {وكذا ترتّب سائر آثاره عليه عقلاً ممّا لا يكاد يخفى على عاقل،فضلاً عن فاضل} وقد بالغ الحاج النّوري(قدس سره) في تتمّة المستدرك في الذبّ عن الأخباريّين، فراجع(2) {فلا بدّ في ما يوهم خلاف ذلك في الشّريعة} المقدّسة ممّا ذكر الشّيخ المرتضى(رحمة الله) في أوّل الرّسائل كثيراً من أمثلتها

ص: 337


1- الفوائد المدنيّة: 32.
2- مستدرك الوسائل، الخاتمه 9: 301.

من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي لأجل منع بعض مقدّماته الموجبة له، ولو إجمالاً، فتدبّر جيّداً.

الأمر السّابع: أنّه قد عرفت كونَ القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علّة تامّة لتنجّزه، لا يكاد تناله يدُ الجعل إثباتاً أو نفياً، فهل القطع الإجمالي كذلك؟

فيه إشكال.

___________________________________________

{من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي} وعدم حصول العلم {لأجل منع بعض مقدّماته} أي: مقدّمات القطع {الموجبة} تلك المقدّمات {له} أي: للقطع {ولو} كان المنع {إجمالاً} كأن يقال: لا يحصل العلم إمّا لعدم شرطه الفلاني، أو لعدم شرطه الآخر، وهكذا {فتدبّر جيّداً} وراجع الرّسائل حتّى يتّضح لك(1)،

واللّه - تعالى - الموفّق.

[الأمر السّابع حجيّة العلم الإجماليّ]

المقصد السّادس: في الأمارات، حجيّة العلم الإجماليّ

{الأمر السّابع} - في العلم الإجمالي - : {أنّه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي} لا الشّأني والاقتضائي {علّة تامّة لتنجّزه} أي: تنجّز ذلك التكليففيكون معذّراً عند الخطأ ومنجّزاً عند الإصابة، وعرفت أيضاً أنّه {لا يكاد تناله يد الجعل إثباتاً} بأن يجعل المولى القطع حجّة {أو نفياً} بأن يرفع الحجيّة عنه {فهل القطع الإجمالي} بالتكليف - كأن يقطع بنجاسة أحد الإناءين - والمراد بالقطع الإجمالي هو ما كان متعلّقه مجملاً، فهو في الحقيقة مركّب من علم تفصيلي بأصل التكليف وجهل تفصيلي بمتعلّقه {كذلك} موجب للتنجّز؟ {فيه إشكال} فذهب بعضهم إلى عدم تنجّزه مطلقاً، وبعضهم إلى التنجّز كذلك، وبعض فصّل فجعله، كالقطع التفصيلي في الاقتضاء دون العليّة التامّة.

ص: 338


1- فرائد الأصول 1: 51.

لا يبعد أن يقال: إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف، وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظةً، جاز الإذنُ من الشّارع بمخالفته احتمالاً، بل قطعاً.

ومحذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً، إنّما هو محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشّبهة الغير المحصورة، بل الشّبهة البدويّة.

___________________________________________

{لا يبعد أن يقال:} إنّه ليس كالعلم التفصيلي أصلاً، ف- {إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف} بل كان مجملاً من حيث المتعلّق {وكانت مرتبة الحكم الظاهري} وهي الجهل بالتكليف الواقعي {معه} أي: مع العلم الإجمالي {محفوظة} منتهى الأمر وجود العلم الإجمالي في المقام دون الشّبهة البدويّة {جاز الإذن من الشّارع بمخالفته احتمالاً} بأن يقول: يجوز لك ارتكاب بعض أطراف المشتبه بالنجس، أو يجوز لك ترك بعض أطراف الواجب بالإجمال {بل قطعاً} بأن يبيحارتكاب تمام الأطراف في المشتبه بالحرام وترك تمام الأطراف في المشتبه بالواجب.

{و} إن قلت: لا يمكن الإذن من الشّارع بالمخالفة ل- {محذور مناقضته} أي: الإذن {مع المقطوع إجمالاً} فإنّه على الفرض لم يرفع الشّارع يده عن المعلوم بالإجمال، فلو قال: يجب عليك اجتناب الخمر المشتبهة بين الإناءين ويجوز لك شرب كليهما كان مناقضاً، وهو محال.

قلت: لا تناقض، بل {إنّما هو} من باب {محذور مناقضة الحكم الظاهري مع} الحكم {الواقعي في الشّبهة الغير المحصورة، بل الشّبهة البدويّة} فإنّه لو كان المشتبه بالشبهة البدويّة مخالفاً للواقع - مثل أن يكون مشكوك الطهارة نجساً - كان قاعدة «كلّ شيء لك نظيف» الشّاملة لهذا النّجس مستلزماً للتناقض؛ لأنّ المولى لم يرفع اليد عن نجاسته لكونه بولاً مثلاً ومع ذلك أجاز في ارتكابه، وكذا لو اشتبه النّجس بين أفراد غير محصورة وأجاز المولى ارتكاب بعض الأطراف

ص: 339

لا يقال: إنّ التكليف فيهما لا يكون بفعلي.

فإنّه يقال: كيف المقال في موارد ثبوته في أطراف غير محصورة، أو في الشّبهات البدويّة، مع القطع به

___________________________________________

وكان في الواقع هذا الطرف الّذي يرتكبه المكلّف نجساً، أو ارتكب جميع الأطراف تدريجاً - على القول بجوازه - فإنّه يوجب المناقضة.

وما أُجيب به في الشّبهة البدويّة وغير المحصورة في وجه تصحيح جعل الأمارة والطريق في قبال جعل الواقع، هو الجواب في ما نحن فيه الّذي هو عبارةعن تجويز ارتكاب أطراف الشّبهة المحصورة.

والحاصل: أنّ الشّبهة البدويّة وغير المحصورة والمحصورة كلّها من وادٍ واحدٍ، فكما يجوز إذن ارتكاب الأوّلين يجوز في الأخير وهذا بخلاف ما إذا حصل العلم التفصيلي بالواقع، فإنّه حيث لم تكن مرتبة الحكم الظاهري محفوظة لم يعقل جعل الحكم الظاهري في قبال الواقع.

{لا يقال}: فرق بين الشّبهة البدويّة وغير المحصورة وبين الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، ف- {إنّ التكليف فيهما} أي: في البدويّة وغير المحصورة {لا يكون بفعلي} بل التكليف إنشائي فقط، فلا مانع من جعل الحكم الفعلي على خلافه لعدم التنافي بين الحكم الإنشائي والحكم الفعلي، لما تقرّر في الجمع بين الحكم الظاهري الفعلي والواقعي الإنشائي، بخلاف المقرونة بالعلم الإجمالي، فإنّ التكليف الواقعي فيهما فعليّ لتعلّق العلم به الموجب لفعليّته، فلا يجتمع مع تكليف فعليّ ظاهري على خلافه لعدم إمكان اجتماع حكمين فعليّين متخالفين.

{فإنّه يقال}: لا فرق بين الموردين، فإنّه وإن كان الحكم الظاهري بلا معارض في الطرف الّذي لم يصادف الواقع، ولكن {كيف المقال في موارد ثبوته} أي: ثبوت التكليف الواقعي {في أطراف غير محصورة أو في الشّبهات البدويّة مع القطع به} أي:

ص: 340

أو احتماله، أو بدون ذلك؟ ضرورةَ عدم تفاوت في المناقضة بينهما بذلك أصلاً. فما به التفصّي عن المحذور فيهما، كان به التفصّي عنه في القطع به في الأطراف المحصورة أيضاً، كما لا يخفى. وقد أشرنا إليه سابقاً ويأتي إن شاء اللّه مفصّلاً.

نعم، كان العلم الإجمالي كالتفصيلي فيمجرّد الاقتضاء، لا في العليّة التامّة،

___________________________________________

بالتكليف كما في الشّبهة غير المحصورة {أو} مع {احتماله} كما في الشّبهة البدويّة مع التفات المكلّف إلى إمكان وجود التكليف في هذا المورد الّذي يجري الأصل فيه {أو بدون ذلك} القطع والاحتمال، كما في الشّبهة البدويّة مع غفلة المكلّف عن إمكان وجود التكليف الواقعي فيه أو علمه بعدم التكليف - جهلاً مركّباً - فما كان جواب المناقضة بين الحكم الواقعي والظاهري في الشّبهة البدويّة وغير المحصورة هو جواب المناقضة بين الحكمين في الشّبهة المحصورة.

{ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بينهما} أي: بين الشّبهة البدويّة وغير المحصورة وبين الشّبهة المقرونة بالعلم {بذلك} أي: بوجود العلم في الثّاني دون الأوّل {أصلاً، فما به التفصّي عن المحذور} أي: محذور المناقضة {فيهما} أي: في البدويّة وغير المحصورة {كان به التفصّي عنه} أي: عن المحذور {في القطع به} أي: بالتكليف {في الأطراف المحصورة أيضاً، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل {وقد أشرنا إليه} أي: إلى التفصّي عن محذور المناقضة {سابقاً} في ذيل الأمر الرّابع {ويأتي إن شاء اللّه مفصّلاً} في بيان جعل الأمارات.

وحاصل الجواب: هو أنّ الحكم الواقعي فعليّ تعليقي، بمعنى أنّه لو علم به لتنجّز فمع عدم العلم لا تنجّز، فلا يريده المولى منه فعلاً، والحكم الظاهري فعليّ حتميّ فلا مناقضة بينهما أصلاً.

{نعم} ليس العلم الإجمالي كالشبهة البدويّة وغير المحصورة مطلقاً، بل{كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء، لا في العليّة التامّة} ومعنى الاقتضاء

ص: 341

فيوجب تنجّز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلاً، كما كان في أطراف كثيرة غير محصورة، أو شرعاً، كما في ما أذن الشّارع في الاقتحام فيها، كما هو ظاهر: «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه»(1).

وبالجملة: قضيّة صحّة المؤاخذة على مخالفته، مع القطع به بين أطراف محصورة، وعدم صحّتها مع عدم حصرها، أو مع الإذن في الاقتحام فيها هو: كونُ القطع الإجمالي مقتضياً للتنجّز، لا علّة تامّة.

___________________________________________

هو لزوم العمل على طبقه لولا الإذن الشّرعي في الترك، مع إمكان الإذن في الترك بخلاف العليّة التامّة، فإنّ معناها لزوم العمل على طبق التكليف ولا يكون قابلاً للإذن الشّرعي في الترك، فالعلم الإجمالي كالتفصيلي {فيوجب} الإجمالي {تنجّز التكليف أيضاً} كالتفصيلي {لو لم يمنع عنه} أي: عن التنجّز {مانع عقلاً، كما كان} المانع العقلي عن التنجّز {في أطراف كثيرة غير محصورة} لعدم محرّكيّة التكليف: إمّا لعدم القدرة، أو لعدم الابتلاء، أو لغير ذلك، ممّا سيجيء الكلام فيه مفصّلاً - إن شاء اللّه تعالى - {أو شرعاً} أي: لم يمنع عن التنجّز - في أطراف العلم - مانع شرعي {كما في ما أذن الشّارع في الاقتحام فيها} أي: في الأطراف {كما هو} أي: أذن الشّارع في الاقتحام {ظاهر} قوله(علیه السلام): {«كلّ شيء فيه حلالوحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه»} فإنّه يشمل أطراف المعلوم بالإجمال في الشّبهة المحصورة، إلّا أن يقال بلزوم التناقض بين الصّدر والذيل في الحديث.

{وبالجملة قضيّة صحّة المؤاخذة على مخالفته} أي: مخالفة التكليف الواقعي {مع القطع به بين أطراف محصورة، وعدم صحّتها} أي: صحّة المؤاخذة على المخالفة {مع عدم حصرها} أي: حصر الأطراف - أعني: الشّبهة غير المحصورة - {أو مع الإذن في الاقتحام فيها} كالشبهة البدويّة، و{هو كون القطع الإجمالي مقتضياً للتنجّز لا علّة تامّة}

ص: 342


1- وسائل الشيعة 17: 87، مع اختلاف يسير.

___________________________________________

أمّا كونه مقتضياً فلصحّة المؤاخذة؛ لأنّه لو لم يكن مقتضياً لم تصحّ مؤاخذته، وأمّا عدم كونه علّة فلإمكان إذن الشّارع في الإقدام، فإنّه لو كان علّة تامّة لم يصحّ الإذن على خلافه. فتحصّل أنّ مقتضى الجمع بين هاتين المقدّمتين: - الأُولى صحّة المؤاخذة على المخالفة، كما يحكم العقل بذلك في المحصورة. الثّانية جواز إذن الشّارع في الإقدام، كما في البدويّة وغير المحصورة - هو أنّ العلم الإجمالي مقتضٍ لتنجّز التكليف لا علّة تامّة، فتدبّر.

وقد علّق المصنّف على هامش قوله: «كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء لا في العليّة التامّة» ما لفظه: «لكنّه لا يخفى أنّ التفصّي عن المناقضة - على ما يأتي - لما كان بعدم المنافاة والمناقضة بين الحكم الواقعي - ما لم يصر فعليّاً - والحكم الظاهري الفعلي كان الحكم الواقعي في موارد الأصول والأمارات المؤدّية إلى خلافه لا محالة غير فعلي، فحينئذٍ فلا يجوّز العقل مع القطع بالحكم الفعلي الإذن في مخالفته، بل يستقلّ مع قطعه ببعث المولى أو زجره ولو إجمالاً بلزومموافقته وإطاعته.

نعم، لو عرض بذلك عسر موجب لارتفاع فعليّته شرعاً أو عقلاً، كما إذا كان مخلّاً بالنظام فلا تنجّز حينئذٍ، لكنّه لأجل عروض الخلل في المعلوم لا لقصور العلم عن ذلك، كما كان الأمر كذلك في ما إذا أذن الشّارع في الاقتحام، فإنّه أيضاً موجب للخلل في المعلوم لا المنع عن تأثير العلم شرعاً، وقد انقدح بذلك أنّه لا مانع عن تأثيره شرعاً أيضاً، فتأمّل جدّاً»(1)، انتهى.

وهذا رجوع عمّا في المتن وموافقة للشيخ(قدس سره)، إذ حاصله عدم الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي في أنّ كلّاً منهما علّة تامّة للتنجّز، لا كما ذكر

ص: 343


1- حقائق الأصول 2: 51؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 126.

وأمّا احتمال أنّه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعيّة، وبنحو العليّة بالنسبة إلى الموافقة الاحتماليّة وترك المخالفة القطعيّة، فضعيف جدّاً؛ ضرورة أنّ احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة،

___________________________________________

في المتن من أنّ العلم مقتضٍ للتنجّز بحيث يمكن الإذن في الاقتحام.

{وأمّا احتمال أنّه} أي: العلم الإجمالي {بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعيّة} فيجب الموافقة القطعيّة عقلاً إلّا إذا أذن الشّارع في الاقتحام في بعض الأطراف {وبنحو العليّة بالنسبة إلى الموافقة الاحتماليّة} كما ذهب إليه الشّيخ(رحمة الله) فتجب الموافقة الاحتماليّة قطعاً ولا يصحّ للشارع الإذن في ترك الموافقة الاحتماليّة - بأنيترك جميع الأطراف في الشّبهة الوجوبيّة - ويقتحم في جميع الأطراف الشّبهة التحريميّة {وترك المخالفة القطعيّة} عطف بيان للموافقة الاحتماليّة {فضعيف جدّاً، ضرورة} أنّ إذن الشّارع في أحد الأطراف مثل إذنه في جميع الأطراف، فكما يجوز له الإذن في المخالفة الاحتمالية كذلك يصحّ له الإذن في المخالفة القطعيّة بلا تفاوت أصلاً، إلّا أنّ الإذن في المخالفة الاحتماليّة مستلزم لاحتمال التناقض والإذن في المخالفة القطعيّة مستلزم لليقين بالتناقض.

ولكن هذا المقدار من التفاوت غير مستوجب للإذن في أحدهما دون الآخر لبداهة {أنّ احتمال ثبوت المتناقضين} اللّازم من المخالفة الاحتماليّة {كالقطع بثبوتهما} أي: المتناقضين اللّازم من المخالفة القطعيّة {في الاستحالة} إذ كما نقطع بأنّ المولى لا يتناقض في حكمه، كذلك لا نحتمل أن يتناقض المولى، إذ التناقض المحتمل مثل التناقض المقطوع فما كان مستلزماً لاحتمال تناقض المولى - كالإذن في المخالفة الاحتماليّة - مثل ما كان مستلزماً للقطع بتناقض المولى - كالإذن في المخالفة القطعيّة - مستحيل.

وإذ قد تبيّن أنّ التناقض المحتمل كالتناقض المتيقّن غير متصوّر صدوره عن

ص: 344

فلا يكون عدم القطع بذلك معها موجباً لجواز الإذن في الاقتحام، بل لو صحّ معها الإذن في المخالفة الاحتماليّة، صحّ في القطعيّة أيضاً، فافهم.

ولا يخفى: أنّ

___________________________________________

المولى، فاللّازم أحد أمرين:الأوّل: عدم جواز الإذن في المخالفة الاحتماليّة كعدم جوازه في المخالفة القطعيّة - كما ذهب إليه بعض - فيكون العلم الإجمالي علّة تامّة بالنسبة إلى كلّ من الموافقة الاحتماليّة والموافقة القطعيّة.

الثّاني: جواز الإذن في المخالفة القطعيّة كجوازه في المخالفة القطعيّة - كما ذهب إليه آخرون - لعدم تنجّز الواقع بالعلم الإجمالي، فيكون مقتضياً بالنسبة إلى كلّ من الموافقة القطعيّة والاحتماليّة.

والحاصل: أنّهما من واد واحد {فلا} وجه للتفصيل إذ لا {يكون عدم القطع بذلك} التناقض {معها} أي: مع المخالفة الاحتماليّة {موجباً لجواز الإذن في الاقتحام} في بعض الأطراف {بل لو صحّ معها} أي: مع المناقضة الاحتماليّة {الإذن في المخالفة الاحتماليّة صحّ} الإذن بالاقتحام {في} جميع الأطراف المستلزم للمناقضة {القطعيّة أيضاً، فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى ما ذكره في الهامش الّذي تقدّم نقله.

ويحتمل أن يكون إشارة إلى أنّ الإذن في المخالفة القطعيّة لا يقع مورداً لتصديق العبد لما يرى من المناقضة، بخلاف الإذن في المخالفة الاحتماليّة؛ لأنّ احتمال المكلّف كون الواقع في الطرف الآخر موجب لتصديقه، فالفارق بين المقامين إمكان تصديق المكلّف جواز المخالفة الاحتماليّة وعدم إمكان تصديقه جواز المخالفة القطعيّة.

{ولا يخفى أنّ} الشّيخ المرتضى(رحمة الله) ذكر في الرّسائل أنّ لتأثير العلم الإجمالي

ص: 345

المناسب للمقام هو البحث عن ذلك، كما أنّ المناسب في باب البراءة والاشتغال - بعد الفراغ هاهنا عن أنّ تأثيره في التنجّز بنحو الاقتضاء لا العليّة - هوالبحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً، وعدم ثبوته، كما لا مجال - بعد البناء على أنّه بنحو العلّيّة - للبحث عنه هناك أصلاً، كما لا يخفى.

___________________________________________

مرتبتين:

الأُولى: حرمة المخالفة القطعيّة، والثّانية: وجوب الموافقة القطعيّة، فجعل البحث عن الأُولى بباب القطع، وعن الثّانية بباب البراءة والاشتغال، والمصنّف(رحمة الله) أشار إلى أنّ {المناسب للمقام} الّذي هو مقام البحث عن أحوال القطع {هو البحث عن ذلك} وأنّه هل تأثير القطع في تنجّز التكليف بنحو العليّة المستلزم لوجوب الموافقة القطعيّة، أو بنحو الاقتضاء المستلزم لحرمة المخالفة القطعيّة، لا أن يجعل وجوب الموافقة القطعيّة في باب، وحرمة المخالفة القطعيّة في باب آخر {كما أنّ المناسب في باب البراءة والاشتغال - بعد الفراغ هاهنا} في مبحث القطع {عن أنّ تأثيره في التنجّز بنحو الاقتضاء لا العليّة - هو البحث عن ثبوت المانع} عن اقتضاء العلم الإجمالي للتنجّز {شرعاً أو عقلاً وعدم ثبوته} وإنّما كان المناسب في باب البراءة التكلّم عن المانع؛ لأنّ المانع مقتضٍ للبراءة عن بعض أطراف العلم {كما} لا يخفى.

ووجه تقييده المطلب بقوله: «بعد الفراغ» الخ، ما أشار إليه من أنّه {لا مجال بعد البناء على أنّه} أي: تأثير العلم للتنجّز {بنحو العلّيّة} التامّة {للبحث عنه} أي: عن المانع {هناك} في باب البراءة والاشتغال {أصلاً} إذ لو كان العلم علّة لا يعقل وجود المانع شرعاً أو عقلاً {كما لا يخفى}.فتحصّل أنّ المناسب في باب القطع التكلّم حول أنّ العلم الإجمالي علّة أو مقتضٍ أم ليس بأحدهما، واللّازم على العلّيّة أو عدم الاقتضاء أن لا يبحث في

ص: 346

هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجّزه به.

وأمّا سقوطه به بأن يوافقه إجمالاً: فلا إشكال فيه في التوصليّات.

___________________________________________

باب البراءة والاشتغال عنه أصلاً.

نعم، لو بنى في باب القطع على الاقتضاء كان اللّازم التكلّم في باب البراءة عن المانع الشّرعي أو العقلي عن هذا الاقتضاء.

{هذا} كلّه {بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجّزه به} أي: بالعلم الإجمالي {وأمّا} الكلام بالنسبة إلى {سقوطه} أي: سقوط التكليف {به} أي: بالعلم الإجمالي {بأن يوافقه إجمالاً} كأن يأتي بإناءين في ما علم وجوب الإتيان بأحدهما معيّناً أو يصلّي صلاتين في ما وجبت عليه صلاة واحدة {ف-} فيه تفصيل، وهو إنّه إمّا يتمكّن من الامتثال التفصيلي أم لا، لا إشكال في ما لم يتمكّن من التفصيلي، إلّا ما ربّما ينقل عن الحلّي من القول بوجوب الصّلاة عارياً حين اشتباه الثّوب(1)، وهو شاذّ.

وأمّا مع التمكّن فالمأمور به إمّا أن يكون توصّليّاً وإمّا أن يكون تعبّديّاً، والتوصّلي إمّا أن يحتاج إلى الإنشاء كالعقود والإيقاعات، وإمّا أن لا يحتاج كالتطهير ونحوه، والتعبّدي إمّا أن يحتاج إلى التكرار أم لا {لا إشكال فيه في التوصليّات} الّتي لا تحتاج إلى قصد الإنشاء؛ لأنّالمطلوب هو صدور الفعل في الخارج ولو عن غير ذي شعور، فلو ألقت الرّيح الثّوب النّجس في الماء ثمّ رفعته كفى.

وأمّا التوصليّات المحتاجة إلى قصد الإنشاء فربّما أشكل فيه من جهة عدم تمشّي قصد الإنشاء في صورة عدم العلم بوقوع المطلوب بهذه الصّيغة في ما اشتبهت صيغة العقد بين اثنتين.

ص: 347


1- السرائر 1: 185.

وأمّا في العباديّات: فكذلك في ما لا يحتاج إلى التكرار، كما إذا تردّد أمرُ عبادة بين الأقلّ والأكثر؛ لعدم الإخلال بشيء ممّا يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها - ممّا لا يمكن أن يؤخذ فيها؛ لكونه نشأ من قبل الأمر بها، كقصد الإطاعة والوجه والتمييز - في ما إذا أتى بالأكثر،

___________________________________________

والجواب: أنّ الإنشاء خفيف المؤونة فيحصل بكلّ منهما، فالمصادف للواقع من الصّيغتين موجب لانعقاد العقد والآخر لغو.

{وأمّا في العباديّات فكذلك} لا إشكال فى السّقوط بالموافقة الإجماليّة {في ما لا يحتاج إلى التكرار} بأن دار الأمر بين الأقلّ والأكثر {كما إذا تردّد أمر عبادة} كالصلاة {بين} كونها بلا سورة حتّى يكون {الأقلّ} واجباً {و} كونها مع السّورة حتّى يكون {الأكثر} واجباً، فإنّ الاحتياط بإتيان السّورة لا يوجب التكرار.

وإنّما قلنا بعدم الإشكال في جواز الاحتياط حينئذٍ {لعدم الإخلال} بواسطة الإتيان بالجزء المشكوك {بشيء ممّا يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها} أي: منهذه العبادة {ممّا لا يمكن أن يؤخذ فيها} بيان لقوله: «ممّا يعتبر» الخ.

وعلّل قوله: «لا يمكن أن يؤخذ فيها» بقوله: {لكونه} أي: لكون ذلك الأمر المعتبر أو محتمل الاعتبار {نشأ من قبل الأمر بها} ومن الواضح أنّ ما ينشأ من قبل الأمر بالعبادة لا يعقل أن يؤخذ في العبادة، كما تقدّم في مسألة الأمر {كقصد الإطاعة، والوجه} أي: الوجوب والنّدب {والتمييز} ككونها ظهراً أم غيره، أداءً أو قضاءً، عن نفسه أم عن غيره {في ما إذا أتى بالأكثر} متعلّق بقوله: «لعدم الإخلال».

والحاصل: أنّ الإتيان بالأكثر - احتياطاً - لا يخلّ بقصد الإطاعة والوجه والتمييز، إذ المفروض أنّ إتيانه بأصل الصّلاة مقترن بجميع هذه الأُمور المعتبرة

ص: 348

ولا يكون إخلالٌ حينئذٍ إلّا بعدم إتيان ما احتمل جزئيّته على تقديرها بقصدها، واحتمالُ دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النّهاية.

وأمّا في ما احتاج إلى التكرار: فربّما يشكل من جهة الإخلال بالوجه تارةً، وبالتميز أُخرى، وكونه لعباً وعبثاً ثالثة.

___________________________________________

كقصد الإطاعة، والمحتمل اعتباره كقصد الوجه والتمييز {ولا يكون إخلال حينئذٍ} أي: حين الإتيان بالأكثر {إلّا بعدم إتيان ما احتمل جزئيّته} كالسورة {على تقديرها} أي: على تقدير جزئيّتها واقعاً {بقصدها} أي: بقصد الجزئيّة.والحاصل: أنّ الإخلال المتصور هو أنّه لم يأت بالسورة بقصد الجزئيّة {و} هذا غير مخلّ قطعاً، إذ لا يخلو إمّا أن تكون السّورة جزءاً واقعاً وإمّا أن لا تكون جزءاً، لا إشكال على الثّاني بداهة، وأمّا على الأوّل فإن كان قصد الجزئيّة - حتّى في حال عدم العلم بالجزئيّة - واجباً كان مخلّاً كما توهّم لكن ليس كذلك، إذ {احتمال دخل قصدها} أي: قصد الجزئيّة {في حصول الغرض} من العبادة {ضعيف في الغاية وسخيف إلى النّهاية} فإنّه ليس على اعتباره دليل عقليّ أو شرعي.

{وأمّا في ما احتاج إلى التكرار} كما لو اشتبه القبلة بين الجوانب مع التمكّن من الفحص {فربّما يشكل} في ترك الطريقتين والعمل بالاحتياط بالتكرار {من جهة الإخلال بالوجه تارةً} لأنّه لا يدري أنّ ما بيده واجبة - لكونها مواجهة للقبلة - أم لا {وبالتمييز أُخرى} لأنّه لم يميّز المأمور به عن غيره مع أنّ قصد الوجه والتمييز معتبران في العبادة {وكونه لعباً وعبثاً ثالثة} وهو ينافي كونها إطاعة وعبادة، مثل ما لو أمر عبده بإتيان كتاب معيّن من المكتبة وكان العبد متمكّناً من تعيينه فلم يعيّنه وأتى بجميع كتب المكتبة، فإنّه يعدّ عند العقلاء لاعباً بأمر المولى مستهزءاً مستحقّاً للعقوبة، ومع هذا كيف يصدق عليه عنوان الإطاعة المعتبرة في العبادات قطعاً؟

ص: 349

وأنت خبير بعدم الإخلال بالوجه بوجهٍ في الإتيان - مثلاً - بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه، غاية الأمر أنّه لا تعيين له ولا تمييز، فالإخلال إنّما يكون به.

واحتمال اعتباره أيضاً في غاية الضّعف؛ لعدم عين منه ولا أثر في الأخبار، مع أنّه ممّا يغفل عنه غالباً، وفي مثله لا بدّ منالتنبيه على اعتباره ودخله في الغرض، وإلّا لأخلّ بالغرض، كما نبّهنا عليه سابقاً.

___________________________________________

{وأنت خبير بعدم} صحّة هذه الإشكالات لعدم {الإخلال بالوجه} لو كان معتبراً فرضاً {بوجهٍ} من الوجوه أصلاً {في الإتيان مثلاً بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه} متعلّق ب-«الإتيان»، لوضوح أنّه يأتي بالصلاة المواجهة للقبلة - المردّدة بين هاتين - لوجوبها لا لداعٍ آخر، فالغرض من الإتيان هو الوجوب والأمر المولوي، بل ربّما يقال: إنّ هذا أفضل من الآتي بنفس الصّلاة المعلومة؛ لأنّه يحرّكه الأمر وهذا يحرّكه احتمال الأمر {غاية الأمر أنّه لا تعيين له} أي: للمأمور به {ولا تمييز} عطف بيان {فالإخلال إنّما يكون به} فقط {واحتمال اعتباره} أي: التمييز {أيضاً} كاحتمال اعتبار الوجه {في غاية الضّعف لعدم عين منه ولا أثر في الأخبار}.

إن قلت: لعلّهم(علیهم السلام) اكتفوا عن الاشتراط بمركوزيّته في الأذهان، فيكون الإطلاق منصرفاً إليه.

قلت: كيف يصحّ الإيكال إلى الأذهان {مع أنّه ممّا يغفل عنه} العامّة {غالباً و} من المعلوم أنّ {في مثله} أي: مثل التمييز الّذي يغفل عنه العامّة {لا بدّ من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض} لو كان دخيلاً {وإلّا} ينبّه المولى عليه مع دخله في الغرض - في صورة غفلة العامّة - {لأخلّ بالغرض} وهو قبيح لا يصدر من الحكيم، فعدم التنبيه دليل إنّيّ يكشف عن عدم دخله {كما نبّهنا عليه سابقاً} في مبحثالأوامر.

ص: 350

وأمّا كون التكرار لعباً وعبثاً : - فمع أنّه ربّما يكون لداعٍ عقلائي - ، إنّما يضرّ إذا كان لعباً بأمر المولى، لا في كيفيّة إطاعته بعد حصول الداعي إليها، كما لا يخفى.

هذا كلّه في قبال ما إذا تمكّن من القطع تفصيلاً بالامتثال.

وأمّا إذا لم يتمكّن إلّا من الظنّ به كذلك: فلا إشكال في تقديمه

___________________________________________

{وأمّا كون التكرار لعباً وعبثاً فمع أنّه} ليس التكرار مطلقاً كذلك، إذ {ربّما يكون لداع عقلائي} كما إذا كان في بريّة واشتبه عليه القبلة ولكن يتمكّن من الرّجوع إلى البلد حتّى يصلّي صلاة واحدة إلى القبلة، وكان الرّجوع أشقّ بكثير من الصّلاة إلى الجوانب المحتملة، فإنّ التكرار لا يعدّ لعباً عند العقلاء قطعاً، و{إنّما يضرّ إذا كان لعباً بأمر المولى لا في كيفيّة إطاعته} أي: إطاعة الأمر {بعد حصول الداعي إليها} أي: إلى الإطاعة {كما لا يخفى} ومعنى كون اللعب في كيفيّة الإطاعة ضمّ ما ليس بطاعة إلى ما هو طاعة، كما تقدّم من مثال الإتيان بالكتب، وأمّا اللعب بنفس الأمر فهو عبارة عن أن يأتي بالمأمور به - بعد الإتيان به تفصيلاً - مكرّراً بداعي اللعب لا امتثالاً.

نعم، ربّما يفرّق بين قلّة الأطراف وكثرتها، فلو اشتبه القبلة في أربعة جوانب واللباس في عشرة وما يصحّ السّجود عليه في عشرين فاحتاط بثمانمائة صلاة مع التمكّن من الفحص كان لاعباً عرفاً.

{هذا كلّه في قبال ما إذا تمكّن منالقطع تفصيلاً بالامتثال} بأن كان قادراً من الامتثال بالعلم التفصيلي فتركه وأتى بالامتثال الإجمالي {وأمّا إذا لم يتمكّن إلّا من الظنّ به} أي: بالامتثال {كذلك} أي: تفصيلاً، بأن دار الأمر بين الامتثال الظنّي التفصيلي وبين الامتثال القطعي الإجمالي. وهذا على قسمين: لأنّ الظنّ إمّا أن يكون معتبراً شرعاً حتّى مع التمكّن من العلم الإجمالي أو لا، والمعتبر إمّا أن يكون بدليل الانسداد أو بدليل خاص {فلا إشكال في تقديمه} أي: الامتثال القطعي

ص: 351

على الامتثال الظنّي، لو لم يقم دليل على اعتباره إلّا في ما إذا لم يتمكّن منه.

وأمّا لو قام على اعتباره مطلقاً، فلا إشكال في الاجتزاء بالظنّ. كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي في قبال الظنّي، بالظنّ المطلق المعتبر بدليل الانسداد، بناءً على أن يكون من مقدّماته عدم وجوب الاحتياط.

___________________________________________

الإجمالي {على الامتثال الظنّي لو لم يقم دليل على اعتباره} أي: اعتبار الظنّ {إلّا في ما إذا لم يتمكّن منه} أي: من الامتثال القطعي الإجمالي، وأمّا إن قام الدليل على أنّ حجيّة الظنّ في صورة عدم التمكّن من العلم حتّى الإجمالي، فلا إشكال في عدم كفاية الامتثال الظنّي.

والحاصل: أنّ الدليل على حجيّة الظنّ على نحوين:

الأوّل: أن يصيّره حجّة مطلقاً، وحينئذٍ لا إشكال في تقدّم العلم الإجمالي عليه؛ لأنّ العلم محرز للواقع قطعاً، والظنّ حجّة على الواقع ومعذّر فقط.

الثّاني: أن يصيّره حجّة في ظرف عدم التمكّن من العلم - تفصيلاً وإجمالاً -وعليه فلا كلام في لزوم الامتثال العلمي وعدم كفاية الامتثال الظنّي لعدم حجيّة الظنّ في ظرف التمكّن من العلم حتّى الإجمالي منه.

{وأمّا لو قام} الدليل {على اعتباره} أي: الظنّ {مطلقاً} حتّى مع إمكان الامتثال القطعي الإجمالي، وهذا مقابل لقوله: «لو لم يقم» الخ، وذلك مثل خبر الواحد والظواهر وخبر العدلين ونحوها {فلا إشكال في الاجتزاء} بالامتثال الإجمالي فيصلّي الظهر والجمعة، كما يصحّ الاجتزاء {بالظنّ} التفصيلي كأن يأخذ بقول عبد الملك فيصلّي صلاة الجمعة يومها - فقط - {كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي في قبال} الامتثال {الظنّي بالظنّ المطلق المعتبر بدليل الانسداد} مقابل الظنّ الخاصّ المعتبر بالأدلّة الخاصّة {بناءً على أن يكون من مقدّماته} أي: من مقدّمات دليل الانسداد {عدم وجوب الاحتياط} فيختار إمّا الامتثال الظنّي الانسدادي أو

ص: 352

وأمّا لو كان من مقدّماته بطلانه - لاستلزامه العسر المخلّ بالنّظام، أو لأنّه ليس من وجوه الطاعة والعبادة، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى في ما إذا كان بالتكرار، كما توهّم(1)

- فالمتعيّن هو التنزّل عن القطع تفصيلاً إلى الظنّ كذلك، وعليه فلا مناص عن الذَّهَاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد وإن احتاط فيها، كما لا يخفى.

___________________________________________

العلمي الإجمالي، إذ الاحتياط ليس بواجب عليه لا أنّه ليس بجائز له.{وأمّا لو كان من مقدّماته} عدم جواز الاحتياط و{بطلانه لاستلزامه العسر المخلّ بالنظام، أو لأنّه ليس من وجوه الطاعة والعبادة، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى في ما إذا كان} الاحتياط {بالتكرار، كما توهّم} عدم جواز الاحتياط {فالمعتيّن هو التنزّل عن القطع تفصيلاً إلى الظنّ كذلك} تفصيلاً، بمعنى أنّه لا واسطة بينهما، فإنّ تمكّن المكلّف من الامتثال العلمي التفصيلي فهو، وإن لم يتمكّن وجب الامتثال التفصيلي الظنّي، ولا يجوز له الامتثال الإجمالي العلمي.

{وعليه} أي: بناءً على عدم جواز الامتثال العلمي الإجمالي {فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد وإن احتاط فيها} أي: في العبادات {كما لا يخفى}.

فتحصّل من قوله: «وأمّا إذا لم يتمكّن إلّا من الظنّ» إلى هنا أربعة أقسام:

الأوّل: أن لا يكون الظنّ حجّة في ظرف التمكّن من العلم ولو إجمالاً، وحكمه وجوب الاحتياط فقط.

الثّاني: أن يكون الظنّ الخارجي الخاص حجّة حتّى في ظرف التمكّن من العلم الإجمالي، وحكمه جواز الاحتياط وجواز الأخذ بالظن.

الثّالث: أن يكون الانسدادي حجّة وكان من مقدّماته عدم وجوب الاحتياط، وحكمه حكم الثّاني.

ص: 353


1- فرائد الأصول 2: 409.

هذا بعض الكلام في القطع ممّا يناسب المقام، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال.

فيقع المقال في ما هو المهمّ من عقد هذا المقصَد، وهو بيان ما قيل باعتبارهمن الأمارات، أو صحّ أن يقال.

وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أُمور:

___________________________________________

الرّابع: أن يكون الظنّ الانسدادي حجّة وكان من مقدّماته عدم جواز الاحتياط وحكمه وجوب العمل على طبق الظنّ فقط - عكس القسم الأوّل - .

هذا تمام الكلام في جواز الاحتياط بأقسامه - على ما ذكره القوم - .

والإنصاف أنّ الاحتياط حتّى في التوصليّات في صورة إمكان العمل على طبق حجّة معتبرة مشكل من جهة لزوم اتّباع الحجج الواردة، فربّما كان الاحتياط مضرّاً بما لا يدركه العقل.

مثلاً: لو كان غسل الثّوب الطاهر مبغوضاً للشارع ولو من جهة أنّه لا يريد إضاعة العمر بهذا المقدار، أو لأنّه يريد اتّباع كلامه فقط بلا زيادة ونقيصة حتّى بنحو الاحتياط واحتمل العقل ذلك لم يكن وجه لتجويزه، وشمول أدلّة الاحتياط الشّرعي لهذا المورد مشكل، وقد بسطنا بعض الكلام حول هذا المقام في شرحنا على العروة الوثقى، فراجع(1).

{هذا بعض الكلام في القطع ممّا يناسب المقام ويأتي بعضه الآخر} المرتبط بالعلم الإجمالي ونحوه {في مبحث البراءة والاشتغال} إن شاء اللّه - تعالى - .

[مباحث الأمارات]

المقصد السّادس: في الأمارات، عدم اقتضاء الأمارة للحجيّة ذاتاً

{فيقع المقال في ما هو المهمّ من عقد هذا المقصد، وهو بيان ما قيل باعتباره من الأمارات أو صحّ أن يقال، وقبل الخوض في ذلك} أي: ما هو المهمّ {ينبغي تقديم أُمور}

ص: 354


1- موسوعة الفقه 1: 49-68؛ وأيضاً راجع 1: 73-76.

أحدها: أنّه لا ريب في أنّ الأمارة الغير العلميّة ليست كالقطع، في كون الحجيّة من لوازمها ومقتضياتها بنحو العليّة، بل مطلقاً، وأنّ ثبوتها لها محتاج إلى جعل، أو ثبوتِ مقدّمات وطروّ حالات موجبة لاقتضائها الحجيّة عقلاً - بناءً على تقرير مقدّمات الانسداد بنحو الحكومة - ؛

___________________________________________

ثلاثة:

[عدم اقتضاء الأمارة للحجيّة ذاتاً]

{أحدها} في بيان أنّ غير العلم من الأمارات كخبر الواحد والظواهر وشهادة العدلين وغيرها لا اقتضاء فيها بالنسبة إلى الحجيّة وعدمها، فكلّ واحد منهما بالنسبة إليها ممكن، بخلاف القطع الّذي يكون الحجيّة لازم ذاته لا تنفكّ عنه، وبخلاف الشّكّ الّذي يكون عدم الحجيّة لازم ذاته لا يعقل إعطاء الحجيّة له.

إذا عرفت هذا فيقول: {أنّه لا ريب في أنّ الأمارة الغير العلميّة} أي: الظنون الطريقيّة، كالأمثلة المتقدّمة {ليست كالقطع في كون الحجيّة من لوازمها ومقتضياتها بنحو العليّة} كزوجيّة الأربعة الّتي لا تنفكّ عنها، وليست قابلة للرفع والوضع {بل} ليست الحجيّة من مقتضياتها {مطلقاً} حتّى بغير نحو العليّة، كالمعد وجزء العليّة، بل الظنّ لا اقتضاء بالنسبة إلى الحجيّة واللّاحجيّة، نظير الجسم بالنسبة إلى البياض واللّابياض {وأنّ ثبوتها} أي: الحجيّة {لها} أي: للأمارات {محتاج إلى جعل} خاصّ كأن يجعل خبر العادل حجّة {أو ثبوت مقدّمات} أي: مقدّمات الانسداد {وطروّ حالات} عطف بيان {موجبة لاقتضائها} أي: اقتضاء الأمارة {الحجيّة} بأن تكونمؤثّرة في التنجيز والإعذار {عقلاً بناءً على تقرير مقدّمات الانسداد بنحو الحكومة} بأن نقول: إنّ المقدّمات تقتضي حجيّة الظنّ المطلق، ومن مصاديقه الأمارات؛ لأنّها مورثة للظنّ نوعاً، أو بنحو الكشف بأن

ص: 355

وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجيّة بدون ذلك ثبوتاً - بلا خلاف - ولا سقوطاً، وإن كان ربّما يظهر فيه من بعض المحقّقين(1) الخلافُ، والاكتفاءُ بالظنّ بالفراغ، ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضّرر المحتمل، فتأمّل.

___________________________________________

نقول: إنّ بعد تماميّة المقدّمات يكشف العقل عن حجيّة الظنّ عند المولى، وإنّما لم يذكره المصنّف هنا لشمول قوله: «محتاج إلى جعل» له، فإنّه أيضاً جعل من المولى في حال الانسداد بناءً على الكشف.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّ الأمارات ليست كالقطع {لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجيّة} وجداناً، فإنّا إذا راجعنا وجداننا رأينا أنّه لو ظنّ بالتكليف لم يكن منجّزاً بحيث يصحّ عقابه لو خالف {بدون ذلك} أي: جعل الحجيّة شرعاً خصوصاً أو عموماً أو عقلاً {ثبوتاً} أي: لا يثبت التكليف بالظنّ {بلا خلاف} من أحد {ولا سقوطاً} بأن يكتفي بالظنّ في إسقاط التكليف المعلوم {وإن كان ربّما يظهر فيه} أي: في السّقوط {من بعض المحقّقين} كالمحقّق جمال الدين الخوانساري(رحمة الله) {الخلاف والاكتفاء بالظنّ بالفراغ} فإذا علم بوجوب صلاة الظهرعليه ثمّ ظنّ بإتيانها لا يلزم الإتيان ثانياً.

{ولعلّه} أي: لعلّ وجه اكتفائهم بالظنّ {لأجل عدم لزوم دفع الضّرر المحتمل} إذ مدرك حكم العقل في باب قاعدة الاشتغال القائلة بأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة هو وجوب دفع الضّرر المحتمل، فإذا قلنا بعدم وجوب دفع الضّرر المحتمل سقط مدرك قاعدة الاشتغال، فلا تجب البراءة اليقينيّة، بل تكفي البراءة الظنيّة {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّه لو قلنا بعدم وجوب دفع الضّرر المحتمل، فاللّازم الاكتفاء باحتمال الامتثال، ولا وجه لاشتراط الظنّ.

ص: 356


1- مشارق الشموس: 76.

ثانيها: في بيان إمكان التعبّد بالأمارة الغير العلميّة شرعاً، وعدم لزوم محال منه عقلاً، في قبال دعوى استحالته للزومه.

وليس الإمكان - بهذا المعنى، بل مطلقاً - أصل متّبع عند العقلاء في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع؛ لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشّكّ فيه،

___________________________________________

[إمكان التعبّد بالأمارات وقوعاً]

المقصد السّادس: في الأمارات، إمكان التعبّد بالأمارات وقوعاً

{ثانيها} بعد الفراغ عن أنّ الحجيّة ليست لازمة للظنّ ولا ممتنعة، بل ممكن ذاتيّ بالنسبة إليه، يقع الكلام {في بيان إمكان التعبّد بالأمارة الغير العلميّة شرعاً} بمعنى أنّه إمكان وقوعيّ بعد ثبوت الإمكان الذاتي {وعدم لزوم محال منه} أي: من التعبّد بالظنّي {عقلاً في قبال دعوى استحالته} وقوعاً على ما نسب إلى ابن قبّ-ة وغيره {للزومه} أي: لزوم المحال من التعبّد به.والحاصل: أنّ الإمكان المتنازع فيه هو الإمكان الوقوعي، إذ لا مجال لتوهّم أنّ التعبّد بالظنّ ممتنع ذاتي، كشريك الباري.

ثمّ إنّ الشّيخ المرتضى(رحمة الله) جعل الأصل هو الإمكان عند الشّكّ في الإمكان فحكم بأنّ طريقة العقلاء الحكم بإمكان الشّيء الّذي لا يجدون وجهاً لاستحالته.

{و} المصنّف لم يرتض هذا القول؛ لأنّه {ليس الإمكان بهذا المعنى} أي: الإمكان الوقوعي {بل مطلقاً} أعمّ من الإمكان الوقوعي والذاتي {أصل متّبع عند العقلاء} بحيث يرتّبون على المجهول الإمكان والاستحالة آثار الممكن {في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع} فلا يرتّبون أثر الإمكان الذاتي في مقام احتمال الاستحالة الذاتيّة، ولا أثر الإمكان الوقوعي في مقام احتمال الاستحالة الوقوعيّة، وهكذا {لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشّكّ فيه} فلو شكّ في إمكان وجود المجرّد سوى اللّه المختلف فيه لم يكن بناؤهم على ترتيب آثار

ص: 357

ومنع حجيّتها - لو سلّم ثبوتها - ؛ لعدم قيام دليل قطعيّ على اعتبارها، والظنّ به - لو كان - فالكلام الآن في إمكان التعبّد به وامتناعه، فما ظنّك به؟

لكن دليلَ وقوع التعبّد بها من طرق إثبات إمكانه؛ حيث يستكشف به عدم ترتّب محالٍ - من تالٍ باطل، فيمتنع مطلقاً، أو على الحكيم، تعالى - ، فلا حاجة معه - في دعوى الوقوع - إلى إثبات الإمكان،

___________________________________________

الإمكان عليه، بل المحقّق عندهم هو لزوم الفحص والبحث عن استحالته وإمكانه {ومنع حجيّتها} أي: حجّيّة السّيرة {لو سلّمثبوتها} وذلك {لعدم قيام دليل قطعيّ على اعتبارها} إذ السّيرة إنّما تكون حجّة في الأحكام الشّرعيّة لكشفها عن تقرير المعصوم وأمّا حجيّتها في غيرها فلا.

{والظنّ به} أي: بوجود دليل قطعيّ على اعتبار السّيرة أو الظنّ يكون السّيرة حجة {لو كان} أي: لو فرضنا أنّا ظننّا بحجيّة السّيرة {ف-} لا يفيد هذا الظنّ، إذ {الكلام الآن في إمكان التعبّد به وامتناعه} فلا يمكن أن يكون الشّيء المتنازع فيه دليلاً على المطلب، ففي ما نحن فيه حجيّة الظنّ متنازع فيه، فلا يمكن أن تجعل دليلاً ظنيّاً مستنداً لحجيّة الظنّ {فما ظنّك به} أي: بهذا الدليل الّذي هو محلّ الكلام.

{لكن} حيث أبطلنا السّيرة العقلائيّة على كون الإمكان هو الأصل في المشكوك الإمكان نقول: لنا {دليل} آخر على إمكان التعبّد بالظنّ، وهو {وقوع التعبّد بها} أي: بالأمارة غير العلميّة، فإنّ وقوع التعبّد من الحكيم الّذي لا يعبّد بالمحال {من طرق إثبات إمكانه حيث يستكشف به عدم ترتّب محال} على التعبّد {من تال باطل} ممّا سيأتي {فيمتنع مطلقاً} إذا كان محالاً ذاتيّاً، كاجتماع النّقيضين {أو على الحكيم - تعالى -} إذا كان قبيحاً {فلا حاجة معه} أي: مع وقوع التعبّد بالظنّي {في دعوى الوقوع إلى إثبات الإمكان} فإنّ أدلّ دليل على الشّيء وقوعه

ص: 358

وبدونه لا فائدة في إثباته، كما هو واضح.

وقد انقدح بذلك: ما في دعوى شيخناالعلّامة - أعلى اللّه مقامه(1)

- من كون الإمكان عند العقلاء - مع احتمال الامتناع - أصلاً.

والإمكانُ في كلام الشّيخ الرّئيس: «كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يَذُدْكَ عنه واضح البرهان»(2)،

___________________________________________

{وبدونه} أي: بدون الوقوع {لا فائدة في إثباته} أي: إثبات الإمكان {كما هو واضح} لعدم ترتّب أثر عليه.

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من عدم تماميّة الاستدلال على إمكان المشكوك إمكانه بالسيرة العقلائيّة {ما في دعوى شيخنا العلّامة} المرتضى - {أعلى اللّه مقامه - من كون الإمكان عند العقلاء - مع احتمال الامتناع - أصلاً}.

ثمّ إنّ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) من وقوع التعبّد بالأمارة غير العلميّة تامّ، فإنّ آية النّبأ ونحوها والأخبار القطعيّة الدالّة على حجيّة خبر الثّقة وشهادة العدلين ونحوها كلّها دليل على التعبّد بالأمارة الظنيّة.

لا يقال: إنّ كلام الشّيخ الرّئيس دالّ على أنّ الأصل في ما شكّ في مكانه هو الإمكان، وهذا موافق لشيخنا المرتضى ومخالف لما ذكرتم.

لأنّا نقول: أوّلاً لا نسلّم تماميّة كلام الرّئيس بعد ما عرفت من عدم معلوميّة السّيرة وعدم حجيّتها على تقدير معلوميّتها.

{و} ثانياً {الإمكان - في كلام الشّيخ الرّئيس:«كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك} أي: يمنعك {عنه واضح البرهان»} - ليس بمعنى فرض المسموع ممكناً وترتيب آثار الإمكان عليه، حتّى أنّه لو قيل: (هنالك رجل ذو

ص: 359


1- فرائد الأصول 1: 106.
2- الحكمة المتعالية 1: 364؛ شرح الإشارات 3: 418.

بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والإيقان، ومن الواضح أن لا موطن له إلّا الوِجْدان، فهو المرجع فيه بلا بيّنة ولا برهان.

وكيف كان، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبّد بغير العلم - من المحال، أو الباطل ولو لم يكن بمحال - أُمور:

أحدها: اجتماع المثلين - من إيجابين، أو تحريمين مثلاً - في ما أصاب،

___________________________________________

عشرين رأساً) يذهب لمشاهدته، أو قيل: بأنّ اللّه يريد كذا، لزم العمل به، بل كلامه {بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والإيقان} فلا يبادر الشّخص بمنع المسموع، بل يحتمل صحّته وفساده فلا يرتّب آثار العدم ولا آثار الوجود، بل يكون بين بين، وهذا بخلاف المعنى الأوّل فإنّ لازمه أن يقول الشّخص بإمكانه ويرتّب آثار الوجود عليه.

والحاصل: أنّ هناك احتمالاً في مقابل القطع بالعدم وإمكاناً في مقابل الاستحالة، والشّيخ الرّئيس يريد الاحتمال لا الإمكان.

{و} إن قلت: إنّ الاحتمال كافٍ في مقامنا الّذي هو إمكان التعبّد بالأمارة غير العلميّة، إذ ابن قبّة ينكر الاحتمال، وغيره يثبته.

قلت: ليس كذلك، إذ {من الواضح أن لا موطن له} أي: للاحتمال {إلّا الوجدان} والأمر الوجداني لا يقع في النّزاع {فهو المرجع فيه بلا بيّنة ولا برهان} وهذا بخلاف الشّيءالّذي وقع محلّاً للكلام بين الأعلام الّذي هو الإمكان الّذي يرتّب عليه آثاره.

{وكيف كان، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبّد بغير العلم من المحال أو الباطل ولو لم يكن بمحال أُمور} نذكر منها ثلاثة:

{أحدها: اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلاً في ما أصاب} أي: طابقت الأمارة للواقع، فيلزم أن يجتمع في صلاة الظهر الّتي هي واجبة واقعاً وجوب واقعي

ص: 360

أو ضدّين - من إيجاب وتحريم، ومن إرادة وكراهة، ومصلحة ومفسدة ملزمتين، بلا كسر وانكسار في البين - في ما أخطأ، أو التصويب وأن لا يكون هناك غير مؤدّيات الأمارة أحكام.

___________________________________________

ووجوب ظاهري واجتماع المثلين محال، إذ المثلان ذاتان وجوديّان واجتماع وجودين في موجود واحد غير معقول، فإنّ الوجود هو الخارجيّة ولا يعقل أن يكون لشيء واحد خارجيّة وخارجيّة. {أو} اجتماع {ضدّين من إيجاب وتحريم} في عالم الإنشاء {ومن إرادة وكراهة} في نفس المولى {ومصلحة ومفسدة} في نفس الفعل الّذي تعلّق به التحريم الواقعي والوجوب الظاهري أو بالعكس، وتكون المصلحة والمفسدة {ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين} وذلك لأنّهما لو لم تكونا ملزمتين لم يجعل وجوب أو تحريم، إذ الوجوب تابع للمصلحة الملزمة وإلّا جعل الاستحباب، والتحريم تابع للمفسدة الملزمة وإلّا جعلت الكراهة، وكذا لو كان في البين كسر وانكسار، إذ المنكسر لا يبقى على ملزميّته.فقوله: «بلا كسر وانكسار» توضيح لقوله: «ملزمتين» {في ما أخطأ} متعلّق باجتماع الضّدّين، أي: خالفت الأمارة للواقع.

والحاصل: أنّه لو جعل المولى الأمارة لا يخلو الأمر من أن يكون هناك واقع أم لا، وعلى الأوّل فإن طابقت الأمارة للواقع لزم اجتماع المثلين، وإن خالفت الأمارة للواقع لزم ثلاثة أشياء اجتماع إيجاب وتحريم وإرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة، وعلى الثّاني - وهو أن لا يكون في مورد جعل الأمارة واقع أصلاً - يلزم التصويب، وأشار إليه بقوله: {أو التصويب، و} ذلك بمعنى {أن لا يكون هناك غير مؤدّيات الأمارة أحكام} اسم «يكون» ومن المعلوم أنّ كلّاً من هذه الخمسة - أي: اجتماع المثلين والإيجاب والتحريم والإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة والتصويب - محال.

ص: 361

وثانيها: طلب الضّدّين في ما إذا أخطأ، وأدّى إلى وجوب ضدّ الواجب.

ثالثها: تفويت المصلحة، أو الإلقاءُ في المفسدة، في ما أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام، وكونه محكوماً بسائر الأحكام.

والجواب: أنّ ما ادّعي لزومُه إمّا غيرُ لازم، أو غير باطل:

وذلك لأنّ التعبّد بطريق غير علمي

___________________________________________

{وثانيها: طلب الضّدّين في ما إذا أخطأ} كما إذا كانت الجمعة واجبة واقعاً، فقامت الأمارة على حرمتها أو استحبابها مثلاً، وكذلك في سائر الموارد الّتي تخالف الأمارة الواقع وإن كان أحدهما على الكراهة والآخر على الإباحة لتضادّ الأحكام بأسرها، فقوله: {وأدّى إلى وجوب ضدّ الواجب} إنّما هو من باب المثال.ولا يخفى الفرق بين هذا الإيراد والإيراد السّابق، إذ في صورة مخالفة الأمارة للواقع يتحقّق أربعة أشياء: الإرادة والكراهة في نفس المتكلّم، والحرمة والوجوب في صفة الفعل، والمصلحة والمفسدة في ذات الفعل، والإيجاب والتحريم في عمل المولى، والإيراد السّابق كان راجعاً إلى الثّلاثة الأُوَل والإيراد الثّاني راجع إلى الأمر الرّابع، فتأمّل.

{ثالثها: تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة} وفسّر الأوّل بقوله: {في ما أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب} كأن قامت الأمارة على عدم وجوب صلاة الجمعة الّتي هي واجبة، وفسّر الثّاني بقوله: {أو} أدّى إلى {عدم حرمة ما هو حرام} كأن أدّى إلى عدم حرمة ذبيحة اليهودي إذا سمّى {و} لا فرق في ذلك بين أن تؤدّي إلى كون الحرام واجباً، أو {كونه محكوماً بسائر الأحكام} وكان الأحسن أن تجتمع الإشكالات في إيراد واحد لكون مرجع الجميع واحداً.

{والجواب: أنّ ما ادّعي لزومه إمّا غير لازم} كالإيراد الأوّل والثّاني {أو غير باطل} كالإيراد الثّالث {وذلك لأنّ التعبّد بطريق غير علمي} ليس معناه جعل حكم

ص: 362

إنّما هو بجعل حجيّته، والحجيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفيّة بحسب ما أدّى إليه الطّريق، بل إنّما تكون موجبة لتنجّز التكليف به إذا أصاب، وصحّة الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته تجرّياً وانقياداً مع عدم إصابته،

___________________________________________

على طبقها.

مثلاً: التعبّد بالخبر الثّقة الّذي قام على حرمة صلاة الجمعة ليس معناه جعل الحرمة لها حتّى يقال بمنافاة هذا الحكم التحريمي للحكم الواقعي الإيجابي، بل التعبّد بطرق غير علمي {إنّما هو بجعل حجيّته} بمعنى أنّه منجّز للواقع إذا طابق ومعذّر إذا خالف {والحجيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفيّة بحسب ما أدّى إليه الطريق} حتّى أنّه لو أدّى الطريق إلى تحريم صلاة الظهر يوم الجمعة كان لازمه أن ينشأ المولى تحريماً لها {بل إنّما تكون} الجمعة {موجبة} لأمرين: أحدهما {لتنجّز التكليف به} أي: بسبب هذا الطريق {إذا أصاب} وطابق الواقع حتّى أنّه لو قال العبد: لم أكن أعلم بوجوب كذا، لا يقبل منه، ويقال له: قد جعلنا لك طريقاً إليه فلم خالفته؟ {وصحّة الاعتذار به} أي: بسبب هذا الطريق {إذا أخطأ} وخالف الواقع فيصحّ للعبد أن يقول: إنّما لم أفعل الواجب الواقعي لعدم علمي به وقيام الطريق الّذي جعلتموه على عدم الوجوب.

هذا أحد الأمرين المترتّبين على جعل الطريق، وهناك أمر آخر مترتّب عليه {و} هو أنّ الحجّيّة موجبة {لكون مخالفته وموافقته تجرّياً} في صورة المخالفة للطريق {وانقياداً} في صورة الموافقة للطريق {مع عدم إصابته} أي: إصابة الطريق للواقع.

مثلاً: لو كان شرب الماء مباحاً ثمّ قام الطريق على وجوبه فشرب امتثالاً كان له ثواب الانقياد، ولو لم يشرب عصياناً كان له عقاب التجرّي لو قلنا بالعقاب فيه

ص: 363

كما هو شأن الحجّة الغير المجعولة، فلا يلزم اجتماع حكمين - مثلين أو ضدّين - ، ولا طلب الضّدّين، ولا اجتماع المصلحةوالمفسدة، ولا الكراهة والإرادة، كما لا يخفى.

وأمّا تفويت مصلحة الواقع، أو الإلقاء في مفسدته، فلا محذور فيه أصلاً إذا كانت في التعبّد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

نعم، لو قيل

___________________________________________

{كما هو شأن الحجّة الغير المجعولة} وهو العلم، فكما أنّ العلم بشيء لا يوجب جعل الحكم على طبقه، بل إنّما هو منجّز ومعذّر والعامل على طبقه إذا خالف الواقع يثاب على انقياده، وإذا لم يعمل كان متجرّياً كذلك الطريق المجعول كالخبر الواحد ونحوه {فلا يلزم} من جعل الطريق {اجتماع حكمين مثلين أو ضدّين} كما قلتم في الإيراد الأوّل {ولا طلب الضّدّين} كما قلتم في الإيراد الثّاني {و} لا {اجتماع المصلحة والمفسدة ولا الكراهة والإرادة} ولا يلزم التصويب، كما قلتم في الإيراد الأوّل أيضاً {كما لا يخفى}.

{وأمّا} جواب الإشكال الثّالث وهو ما ذكرتم من {تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته ف-} هو أنّه {لا محذور فيه أصلاً إذا كانت في التعبّد به} أي: بالطريق غير العلمي {مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء} كمصلحة التسهيل ونحوه.

والحاصل: أنّ الطريق الّذي يؤدّي إلى عدم الواجب أو جواز الحرام فيه مصلحة غالبة على مصلحة الواجب الّتي تفوت عن المكلّف ومفسدة الحرام الّتي يقع فيها المكلّف، بل نقول مساواة مصلحة الطريق للمفسدة المترتّبة علىمخالفة الواقع، أو كون مصلحة الطريق أقلّ بحيث لا تكون للمفسدة المترتّبة على مخالفة الواقع زيادة ملزمة كافية في جعل الطريق، كما لا يخفى.

{نعم، لو قيل} هذا جواب آخر عن الإشكالات الثّلاثة، وحاصله: أنّا نقول بأنّ

ص: 364

باستتباع جعل الحجّيّة للأحكام التكليفيّة، أو بأنّه لا معنى لجعلها إلّا جعل تلك الأحكام، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم، إلّا أنّهما ليسا بمثلين أو ضدّين:

لأنّ أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه،

___________________________________________

جعل الطريق جعل للحكم، فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الظهر جعل المولى الوجوب لها، فهنا وجوبان وجوب واقعي ووجوب ظاهري، ولا يلزم اجتماع المثلين، إذ الوجوب الواقعي وجوب حقيقي - بمعنى أنّه إنّما جعل لمصلحة في صلاة الظهر واردة لها من المولى - والوجوب الظاهري وجوب إنشائيّ صوري - بمعنى أنّه إنّما جعل لمصلحة في نفس إنشاء الوجوب، كالأوامر الامتحانيّة - فهنا وجوب حقيقي يتبع مصلحة الصّلاة ووجوب صوري يتبع مصلحة الإنشاء بمعنى أنّ في نفس إنشاء الوجوب مصلحة، وهي أنّه منجّز عند الإصابة ومعذّر عند الخطأ، وهكذا نقول في ما خالفت الأمارة للواقع وليس هذا من اجتماع المثلين أو اجتماع الضّدّين، إذ يشترط فيهما وحدة الذات ولا وحدة هنا.

إذا عرفت هذا فنقول: لو لم يقل كون جعل الطريق ليس إلّا جعل المنجزيّة والمعذريّة، بل قيل {باستتباع جعل الحجيّة للأحكام التكليفيّة} بمعنى أنّ لازم جعل الحجيّة لقول زرارة - القائل بوجوب الظهر - جعل الوجوب لصلاة الظهر مثلاً.

{أو} قيل {بأنّه لا معنى لجعلها} أي: جعل الحجيّة{إلّا جعل تلك الأحكام} الّتي تقوم الحجّة عليها، بمعنى أنّ جعل الحجيّة لقول زرارة معناه جعل الوجوب لصلاة الظهر {فاجتماع حكمين وإن كان يلزم} إذ جعل الوجوب مرّتين: الأُولى عند جعله لها واقعاً، والثّانية عند جعل الحجيّة لقول زرارة الّتي لازمها أو معناها جعل الوجوب لصلاة الظهر {إلّا أنّهما} أي: هذين الحكمين {ليسا بمثلين أو ضدّين} وذلك {لأنّ أحدهما} وهو الوجوب الآتي من قول زرارة {طريقي عن مصلحة في نفسه} بمعنى أنّ المصلحة إنّما تكون في نفس الأمر والجعل.

ص: 365

موجبة لإنشائه الموجب للتنجّز، أو لصحّة الاعتذار بمجرّده، من دون إرادة نفسانيّة أو كراهة كذلك، متعلّقة بمتعلّقه في ما يمكن هناك انقداحهما؛ حيث إنّه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل، وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى، إلّا أنّه إذا أُوْحِيَ بالحكم - الشأني من قبل تلك المصلحة أو المفسدة - إلى النبيّ(صلی الله علیه و آله) أو أُلهِمَ به الولي، فلا محالة ينقدح في نفسه الشّريفة - بسببهما - الإرادة أو الكراهة، الموجبة للإنشاء

___________________________________________

وهذه المصلحة الّتي تحصل بمجرّد الأمر والجعل {موجبة لإنشائه الموجب} صفة «لإنشائه» {للتنجّز} إذا أصاب {أو لصحّة الاعتذار} إذا أخطأ {بمجرّده} أي: بمجرّد كونه طريقيّاً {من دون إرادة نفسانيّة أو كراهة كذلك} نفسانيّة {متعلّقة بمتعلّقه} أي: بمتعلّق هذا الحكم، فالوجوبالنّاشئ عن قول زرارة لإرادة متعلّقة بصلاة الظهر الّتي هي متعلّقة لهذا الحكم {في ما يمكن هناك انقداحهما} يريد بذلك بيان دفع توهّم، وهو أنّ ما ذكرتم من الفرق بين الحكمين بتعلّق الإرادة بمتعلّق الوجوب الواقعي دون متعلّق الوجوب الظاهري، غير تامّ إذ لا إرادة في المبدأ الأعلى الّذي هو محلّ الكلام بالنسبة إلى الأوامر الشّرعيّة.

ودفعه بأنّ الفرق بينهما بالإرادة والكراهة إنّما هو في ما يمكن انقداحهما كنفس النّبيّ(صلی الله علیه و آله) والولي، فإنّ الحكم الحقيقي يقترن بالإرادة في نفس النّبي والوصي المأمور بتبليغ الحكم، وذلك بخلاف الحكم الصّوري فلا إرادة لمتعلّق الحكم الصّوري في نفوسهما {حيث إنّه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل} كصلاة الظهر المشتملة على مصلحة ملزمة والخمر المشتملة على مفسدة ملزمة {وإن لم يحدث بسببها} أي: بسبب هذه المصلحة أو المفسدة {إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى} تعالى {إلّا أنّه إذا أوحى بالحكم الشّأني من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النّبيّ(صلی الله علیه و آله) أو ألهم به الولي فلا محالة ينقدح في نفسه الشّريفة بسببهما الإرادة أو الكراهة الموجبة للإنشاء}

ص: 366

بعثاً أو زجراً، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، بل إنّما كانت في نفس إنشاء الأمر به طريقيّاً.

والآخر واقعيّ حقيقيّ عن مصلحة أو مفسدة في متعلّقه، موجبة لإرادته أو كراهته، الموجبة لإنشائه بعثاً أو زجراً في بعض المبادئ العالية، وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلّا العلم بالمصلحة أو المفسدة -كما أشرنا - .

___________________________________________

لأنّهم(علیهم السلام) يريدون ما يجعله اللّه على العباد من الواجبات ويكرهون المحرّمات فيريدون الواجب {بعثاً أو} يكرهون الحرام {زجراً} وهذا {بخلاف ما} أي: الحكم الطريقي الّذي {ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، بل إنّما كانت في نفس إنشاء الأمر} أي: إنشاء الحكم {به} أي: بالمتعلّق {طريقيّاً} للتنجيز والإعذار، فإنّه ليس في نفسهم(علیهم السلام) إرادة أو كراهة {والآخر واقعيّ حقيقي} عطف على قوله: «لأنّ أحدهما طريقي».

والحاصل: أنّ أحد الأمرين وهو المستفاد من قول زرارة المجعول حجّة، طريقيّ لا مصلحة فيه والمصلحة في الإنشاء فقط، والأمر الآخر وهو الأمر الأوّلي بالصلاة واقعيّ حقيقيّ ناشٍ{عن مصلحة أو مفسدة في متعلّقه موجبة لإرادته أو كراهته الموجبة} تلك الإرادة والكراهة {لإنشائه بعثاً أو زجراً} وتكون الإرادة والكراهة {في بعض المبادئ العالية} كالنّبيّ والولي {وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلّا العلم بالمصلحة أو المفسدة، كما أشرنا}.

ولا يخفى أنّ ما ذكره المصنّف من كون الإرادة في الباري - تعالى - هو العلم بالصلاة والفساد هو مختار بعض المتكلّمين، كالمحقّق الطوسي(رحمة الله) وغيره، وذهب آخرون إلى أنّ الإرادة من صفات الفعل لا من صفات الذات.

والّذي لا يبعد القول به هو أنّ الإرادة والكراهة من صفات الذات، ولا يلزم أن تكونا علماً ولا من صفات الفعل، إذ تسمية العلم إرادة خلاف ظاهر الأخبار

ص: 367

فلا يلزم أيضاً اجتماع إرادة وكراهة، وإنّما لزم إنشاء حكم واقعيّ حقيقيّ -بعثاً وزجراً - وإنشاء حكم آخر طريقي، ولا مضادّة بين الإنشاءين في ما إذا اختلفا، ولا يكون من اجتماع المثلين في ما اتّفقا، ولا إرادة ولا كراهة أصلاً إلّا بالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي، فافهم.

___________________________________________

والآيات، بل والدليل أيضاً، كما أنّ جعلها من صفات الفعل خلاف ظاهرهما، فإنّ قوله - تعالى - : {وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ}(1) ونحوه ممّا دلّ على كون الإرادة سابقة على الخلق والإيجاد يعطي كونها غير الفعلي.

وأمّا الإشكال في أنّها لو كانت من صفات الذات لزم تغيّر الذات بتغيّرها.

ففيه: النّقض بالعلم فما يقال هنا يقال هناك.

والحلّ أنّ صفات اللّه - تعالى - كذاته مجهولة لنا، لكنّا نعلم أنّ هناك ليس تغيّراً وحدوثاً، وتفصيل الكلام في شرح التجريد(2) وغيره.

وكيف كان، فإذا قد عرفت أنّ أحد الحكمين واقعيّ حقيقيّ والآخر ظاهريّ صوري {فلا يلزم أيضاً اجتماع إرادة وكراهة} كما لم يلزم اجتماع الضّدّين والمثلين {وإنّما لزم إنشاء حكم واقعيّ حقيقيّ بعثاً} نحو الواجب {وزجراً} عن الحرام {وإنشاء حكم آخر طريقي} صوريّ لمصلحة في نفس الإنشاء {ولا مضادّة بين الإنشائين} الحقيقي والصّوري {في ما إذا اختلفا} كأن أدّى الطريق إلى حرمة صلاة الجمعة الّتي هي واجبة{ولا يكون من اجتماع المثلين في ما اتفقا} كأن أدّى الطريق إلى وجوبها {ولا إرادة ولا كراهة أصلاً} ولا مصلحة ولا مفسدة {إلّا بالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي، فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ هذا الجواب إنّما يدفع الإشكالين الأوّلين، أمّا الإشكال الثّالث - وهو لزوم الإلقاء في المفسدة

ص: 368


1- سورة الرعد، الآية: 11.
2- كشف المراد: 281.

نعم، يشكل الأمر في بعض الأصول العمليّة، كأصالة الإباحة الشّرعيّة؛ فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلاً، كما في ما صادف الحرام، وإن كان الإذن

___________________________________________

وتفويت المصلحة في ما خالفت الأمارة للواقع - فلا، أو إشارة إلى ما ذكرنا من الإشكال في عدم الإرادة - بمعناها - في الباري تعالى، أو غير ذلك.

{نعم، يشكل الأمر في بعض الأصول العمليّة} الّتي ظاهرها جعل الحكم حقيقة لا جعل الحكم ظاهراً {كأصالة الإباحة الشّرعيّة} المستفادة من قوله(علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم»(1)، فإنّ ظاهره كون المشكوك حلالاً واقعاً.

ووجه الإشكال واضح، إذ الجواب المتقدّم كان مبنيّاً على انّ الحكمين غير متنافيين، لكون أحدهما واقعيّاً لمصلحة في الفعل والآخر صوريّاً لمصلحة فينفس الإنشاء، وهذا الجواب لا يجري في ما نحن فيه، إذ لو شككنا في شيء وكان محرّماً واقعاً لزم كونه حلالاً واقعاً لقوله: «كلّ شيء لك حلال» وحراماً واقعاً لفرض أنّه محرّم في الواقع {فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام} في المشكوك المستفاد من دليل الحلّ {ينافي المنع فعلاً} واقعاً {كما في ما صادف الحرام} الواقعي {وإن كان الإذن} الخ، يشير بذلك إلى أنّ المباح يتصوّر على قسمين، والحليّة الظاهريّة بأيّ معنى أُخذت تنافي المنع الواقعي.

بيان ذلك: أنّ الإذن في الشّيء قد يكون لأجل مصلحة في نفس الإباحة وقد يكون يكون لأجل أنّه ليس في الفعل مصلحة ملزمة أو محبّبة - كالواجب والمستحبّ - ولا مفسدة ملزمة أو مكرهة - كالحرام والمكروه - والحليّة بأيّ معنىً كان من هذين المعنيين تنافي التحريم الواقعي، إذ التحريم الواقعي يتبع

ص: 369


1- من لا يحضره الفقيه 3: 341، وقد مرّ أنّ متن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». وفي الكافي 6: 339 «كلّ ما كان فيه حلال وحرام، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».

فيه لأجل مصلحة فيه، لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه.

فلا محيص في مثله إلّا عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضاً، كما في المبدأ الأعلى.

___________________________________________

المفسدة الملزمة، والحليّة تلازم عدم المفسدة وإن كان الإذن {فيه} أي: في الفعل {لأجل مصلحة فيه} أي: في الإذن وهو القسم الأوّل من قسمي المباح {لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة} توجب الوجوب والحرمة، ولا مصلحة أو مفسدة قليلة توجب الاستحباب والكراهة {في المأذون فيه} وهو القسم الثّاني من قسمي المباح.

لكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال الّذي ذكره بقوله: «نعم، يشكل» الخ غير وارد،إذ الظاهر من حديث «كلّ شيء لك حلال» جعل الحلّ الواقعي تعبّداً في مرحلة الشّكّ، كما لا يخفى، فتدبّر.

{فلا محيص في مثله} أي: في مثل هذه الأصول العمليّة المنافية للواقع {إلّا عن الالتزام} بجمع آخر بين الحكم الواقعي والظاهري.

وهذا جمع ثالث بين الحكمين الظاهري والواقعي يجري في موارد الأصول والأمارات على حدّ سواء، وحاصله عدم كون الأحكام الواقعيّة فعليّة فلا تكون معها إرادة أو كراهة، وذلك {بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية} كالنبيّ والولي {أيضاً، كما في المبدأ الأعلى} تعالى، فلا يلزم اجتماع إرادة وكراهة ولا إيجاب وتحريم واقعيّين.

وبهذا يرتفع الإشكال في الجمع بين الأصول والأمارات وبين الأحكام الواقعيّة المنافية لهما.

إن قلت: إذا لم يكن الحكم الواقعي فعليّاً، بل إنشائيّاً محضاً، فاللّازم القول بعدم تنجّزه بقيام الأمارة عليه، إذ الواقعي الفعلي يتنجّز بالأمارة لا الواقعي الإنشائي.

قلت: هناك ثلاث صور:

ص: 370

لكنّه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي، بمعنى كونه على صفة ونحوٍ لو علم به المكلّف لتنجّز عليه، كسائر التكاليف الفعليّة الّتي تتنجّز بسبب القطع بها. وكونه فعليّاً إنّما يوجب البعث أو الزجر في النّفس النّبويّة أو الولويّة، في ما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه.

___________________________________________

الأُولى: الإنشائي المحض.الثّانية: الإنشائي الّذي إذا تعلّق به الأمارة صار فعليّاً.

الثّالثة: الفعلي المحض والأحكام الواقعيّة من قبيل الثّانية.

وبه يندفع الإشكالان الواردان على تصوير الحكم الواقعي على نحو الصّورة الأُولى أو الثّالثة. وإلى هذا الجواب أشار بقوله: {لكنّه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي} الالتزام بكونه إنشائيّاً محضاً حتّى يرد إشكال.

إن قلت: بل كونه إنشائيّاً {بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلّف لتنجّز عليه، كسائر التكاليف الفعليّة الّتي تتنجّز بسبب القطع بها} فالتكليف الواقعي بين الإنشائي المحض والفعلي المحض، كما صوّرناه في الصّورة الثّانية.

لا يقال: هذا الجواب غير مفيد، إذ الحكم الواقعي إن كان باعثاً وزاجراً كان فعليّاً فينافي الحليّة الظاهريّة أو الحكم القائم عليه الأمارة بخلافه، وإن لم يكن باعثاً وزاجراً لم يكن العلم به موجباً لتنجّزه؛ لأنّ العلم بالباعث والزاجر منجّز لا العلم بغيره.

لأنّا نقول: نختار الشِّقّ الثّاني {و} لا يلزم عدم البعث عدم التنجّز بالعلم، إذ {كونه فعليّاً إنّما يوجب البعث أو الزجر في النّفس النّبويّة أو الولويّة في ما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه} أي: في الإذن، وأمّا إذا انقدح لم يكن بعثاً فعلاً وزاجراً كذلك، وهذا لا يلازم التصويب، بزعم أنّه لو انقدح الإذن لم يكن حكم، إذ التصويب إنّما هو عدم الحكم أصلاً في الواقع لا الإنشائي ولا الفعلي،

ص: 371

فانقدح بما ذكرنا: أنّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول والأمارات فعليّاً، كي يشكل:تارةً: بعدم لزوم الإتيان حينئذٍ بما قامت الأمارة على وجوبه؛ ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائيّة، ما لم تَصِر فعليّة ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر، ولزوم الإتيان به ممّا لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

لا يقال: لا مجال لهذا الإشكال، لو قيل بأنّها كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائيّةً؛

___________________________________________

وما نحن فيه ليس كذلك، إذ حتّى في صورة الإذن بالحليّة الظاهريّة هناك إنشائيّ قريب من الفعلي.

{فانقدح بما ذكرنا} من أنّ الحكم الواقعي بين الإنشائي والفعلي {أنّه لا يلزم الالتزام ب-} ما التزم به شيخنا المرتضى(رحمة الله) في الرّسالة في الجمع بين الحكم الظّاهري والواقعي من {عدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول والأمارات فعليّاً} بل هو إنشائيّ محض {كي يشكل تارةً بعدم لزوم الإتيان حينئذٍ بما قامت الأمارة على وجوبه، ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائيّة ما لم تصر فعليّة} إذ مرتبة الإنشائيّة لو قام عليها العلم لم يلزم امتثالها، فكيف بقيام الأمارة عليها؟ {و} ذلك لأنّ الأحكام في مرتبة الإنشاء {لم تبلغ مرتبة البعث والزجر} وما لم تبلغ تلك المرتبة لم يلزم الإتيان بها.

{و} من المعلوم {لزوم الإتيان به} أي: بالحكم القائم عليه الأمارة، فإنّه {ممّا لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان}.والحاصل: أنّ بداهة لزوم الإتيان بالحكم القائم عليه الأمارة كاشفة عن أنّ الحكم ليس شأنيّاً، وهو مناف لما ذكره الشّيخ(رحمة الله) من شأنيّة الحكم الواقعي.

{لا يقال: لا مجال لهذا الإشكال} على الشّيخ(رحمة الله) {لو قيل بأنّها كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائيّة} إذ الحكم الإنشائي على قسمين: قسم لا يصير فعليّاً بقيام

ص: 372

لأنّها بذلك تصير فعليّة تبلغ تلك المرتبة.

فإنّه يقال: لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي - لا حقيقةً ولا تعبّداً - إلّا حكم إنشائيّ تعبّداً. لا حكم إنشائيّ أدّت إليه الأمارة: أمّا حقيقةً، فواضح. وأمّا تعبّداً، فلأنّ قصارى ما هو قضيّة حجيّة الأمارة: كون مؤدّاه هو الواقع تعبّداً، لا الواقع الّذي أدّت إليه الأمارة،

___________________________________________

الأمارة عليه، وقسم يصير فعليّاً بقيام الأمارة، والأحكام الإنشائيّة في ما نحن فيه من القسم الثّاني {لأنّها} أي: تلك الأحكام الإنشائيّة {بذلك} أي: بأداء الأمارة إليها {تصير فعليّة تبلغ تلك المرتبة} الفعليّة الموجبة للعمل على طبقها؛ لأنّها تكون حينئذٍ أحكاماً إنشائيّة متّصفة بقيام الأمارة عليها، والحكم الإنشائي المتّصف بقيام الأمارة فعليّ يترتّب عليه كلّ ما يترتّب على الأحكام الفعليّة.

وإن شئت قلت: إنّ مراد الشّيخ(رحمة الله) ليس الإنشائي الصّرف، بل الإنشائي الّذي إذا أدّت إليها الأمارة يصير فعليّاً، فإذا قامت الأمارة حصل الشّرطللفعليّة فيكون فعليّاً ويجب العمل به.

{فإنّه يقال: لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي - لا حقيقة ولا تعبّداً - إلّا حكم إنشائيّ تعبّداً، لا حكم إنشائي} متّصف بكونه {أدّت إليه الأمارة} إذ غاية ما تقتضيه أدلّة حجيّة الأمارات ثبوت مؤدّى الأمارة فلو أدّت إلى حكم إنشائيّ ثبت حكم إنشائيّ ولم يثبت حكم إنشائيّ أدّت إليه الأمارة، فإنّ ثبوت حكم إنشائيّ أدّت إليه الأمارة الّذي هو موضوع للفعليّة مركّب من جزءين، وبمجرّد قيام الأمارة لا يثبت الجزءان لا حقيقة ولا تعبّداً {أمّا حقيقة فواضح} إذ الأمارة لا تفيد العلم حتّى يتحقّق علمان: علم بالحكم الإنشائي وعلم بكونه مؤدّى الأمارة {وأمّا تعبّداً} أي: ثبوت كلا الجزءين بالتنزيل {فلأنّ قصارى ما هو قضيّة حجيّة الأمارة كون مؤدّاه هو الواقع تعبّداً} وتنزيلاً {لا الواقع الّذي أدّت إليه الأمارة}

ص: 373

فافهم.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الدليل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع - الّذي صار مؤدّى لها - ، هو دليل الحجيّة بدلالة الاقتضاء، لكنّه لا يكاد يتمّ إلّا إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائيّة أَثَرٌ أصلاً، وإلّا لم يكن لتلك الدلالة مجالٌ، كما لا يخفى.

___________________________________________

فما نحن فيه كالماء الكرّ لا بدّ وأن يتحقّق جزءاه - أي: المائيّة والكريّة - إمّا علماً، أو تنزيلاً أو بالاختلاف حتّى يتحقّق موضوع المطهريّة، فإذا لم يثبت أحدهما لا حقيقة ولا تعبّداً لم يطهّر {فافهم} جيّداً.نعم، لو كان لنا دليلٌ ثانٍ ينزّل الطرق والمؤدّى منزلة الواقع ذي الطريق ثبت ما ذكره الشّيخ(رحمة الله)، لكن أنّى لنا بذلك.

{اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ} دليل تنزيل المؤدّى منزلة الواقع كافٍ في ثبوت الجزءين، إذ لو لم يكن للحكم الإنشائي الواقعي أثر أصلاً، ثمّ جعل الشّارع الأمارة القائمة على الحكم الإنشائي حجّة لحكمنا بالتنزيل الثّاني صوناً لكلام الحكيم عن اللغويّة، فإنّ {الدليل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع الّذي صار مؤدّى لها هو دليل الحجيّة بدلالة الاقتضاء} الّتي هي صون كلام الحكيم من اللغويّة، فإنّه لو نزل المولى جزءاً من مركّب منزلة الواقع فهمنا منه أنّه نزل الجزء الآخر أيضاً وإلّا كان تنزيله الأوّل لغواً {لكنّه لا يكاد يتمّ} ما ذكر من دلالة الاقتضاء {إلّا إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائيّة أثر أصلاً، وإلّا} فلو كان للأحكام الإنشائيّة أثر {لم يكن لتلك الدلالة} أي: دلالة الاقتضاء {مجال} وللأحكام الإنشائيّة أثر في مقامنا وهو النّذر ونحوه، فجعل الحجيّة للأمارة بلحاظ تلك الآثار لا بلحاظ العمل {كما لا يخفى}.

ثمّ أنّا قد ذكرنا أنّه لا يلزم من الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي مورد الأصول والأمارات فعليّاً، كي يشكل تارةً بعدم

ص: 374

وأُخرى: بأنّه كيف يكون التوفيق بذلك؟ مع احتمال أحكام فعليّة - بعثيّة أو زجريّة - في موارد الطرق والأصول العمليّة المتكفّلة لأحكام فعليّة؛ ضرورة أنّه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين، كذلك لا يمكن احتماله.فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الواقعي - الّذي يكون مورد الطرق - إنشائيّاً غيرَ فعليّ.

___________________________________________

لزوم الإتيان بمؤدّى الأمارة؛ لأنّه غير فعليّ {و} تارة {أُخرى بأنّه كيف يكون التوفيق} بين الحكم الظاهري والواقعي {بذلك} الّذي ذكرتم من كون الحكم الواقعي إنشائيّاً والحكم الظاهري فعليّاً {مع احتمال} كون ال- {أحكام} الواقعيّة {فعليّة بعثيّة} في الأوامر {أو زجريّة} في النّواهي، إذ ما ذكرتم من احتمال كون الأحكام الواقعيّة إنشائيّة لا يكفي في رفع المنافاة، إذ كما يحتمل كونها إنشائيّة يحتمل كونها فعليّة {في موارد الطرق والأصول العمليّة المتكفّلة لأحكام} ظاهريّة {فعليّة}.

وإن قلت: احتمال كون الأحكام الواقعيّة شأنيّة كافٍ في رفع التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي.

قلت: ذلك لا يكفي {ضرورة أنّه} يبقى حينئذٍ احتمال التنافي، لا احتمال كون الواقع فعليّاً و{كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين كذلك لا يمكن احتماله} فإنّ رفع المنافاة بين الحكمين يلزم أن يكون بنحو لا يبقى معه احتمال التنافي وإلّا لم يكن دفعاً للمنافاة.

نعم، لا نقطع بالمنافاة لكنّه غير كافٍ، بل اللّازم القطع بعدم المنافاة وهو غير حاصل {فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين} الواقعي والظاهري {بالتزام كون الحكم الواقعي الّذي يكون مورد الطرق إنشائيّاً غير فعليّ} والحكم الظاهري الّذي هو مورد الطرق فعليّاً.

ص: 375

كما لا يصحّ التوفيق بأنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة، بل في مرتبتين؛ ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين، وذلك لا يكاد يُجدي؛ فإنّ الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي، إلّا أنّه يكون في مرتبته أيضاً، وعلى تقدير المنافاة

___________________________________________

هذا كلّه في الإيراد على من دفع المنافاة بين الحكم الظاهري والواقعي بفعليّة أحدهما وإنشائيّة الآخر، و{كما} لم يصحّ هذا التوفيق {لا يصحّ التوفيق} الآخر الّذي ذكره بعض {بأنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة، بل في مرتبتين، ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن} الحكم {الواقعي بمرتبتين} إذ موضوع الحكم الواقعي هو الشّيء وموضوع الحكم الظاهري هو الشّكّ في الحكم الواقعي، فيلزم: أوّلاً الموضوع، ثمّ الحكم الواقعي، ثمّ الشّكّ في الحكم الواقعي، ثمّ الحكم الظاهري، ومع اختلاف موضوع الحكمين لا يلزم المنافاة بينهما، إذ من شرائط اجتماع النّقيضين أو المثلين وحدة الموضوع، وإلّا فجماديّة الحجر لا ينافي حيوانيّة الإنسان، كما أنّ بياض زيد لا ينافي بياض عمرو.

{و} إنّما قلنا: إنّ {ذلك} الجمع غير صحيح، إذ هو {لا يكاد يجدي} في رفع المنافاة {فإنّ} الحكم {الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب} الحكم {الواقعي} كما هو واضح، إذ ليس في مرتبة العلم بالحكم الواقعي أو الغفلة عن الحكم الواقعي حكم ظاهري {إلّا أنّه} أي: الحكم الواقعي {يكون في مرتبته} أي: مرتبة الحكم الظاهري {أيضاً} أي: كما أنّ الحكم الظاهري يكون في تلك المرتبة، فإنّ وجوب صلاة الجمعة الّذي هو حكم واقعيّ مثلاً ثابت لها سواءشكّ في الوجوب الّذي هو موضوع للحكم الظاهري أم لا.

{و} إن قلت: يكفي في عدم المنافاة بين الحكمين عدم اجتماعهما في مرتبة الحكم الواقعي.

قلت: هذا غير كافٍ، إذ {على تقدير المنافاة} بين الظاهري والواقعي

ص: 376

لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة.

فتأمّل في ما ذكرنا من التحقيق في التوفيق، فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق.

ثالثها: أنّ الأصل في ما لا يعلم اعتباره - بالخصوص - شرعاً، ولا يحرز التعبّد به واقعاً، عدَمَ حجيّته جزماً، بمعنى عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة

___________________________________________

{لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة} أي: مرتبة الحكم الظاهري {فتأمّل في ما ذكرنا من التحقيق في التوفيق} بين الحكم الواقعي ومؤدّى الأمارة والأصل {فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق}.

وإن شئت قلت: إنّ الوجوب لصلاة الجمعة ثابت في حال علم المكلّف بوجوبها وحال شكّه وحال غفلته وحال ظنّه، والحكم الظاهري - وهو عدم الوجوب - جعل لها في حال شكّ المكلّف، فإنّ الحكمين وإن لم يتعارضا في حال العلم والظنّ والغفلة مثلاً لكنّهما متعارضان في حال الشّكّ، إذ الحكم الواقعي موجود لفرض عموميّته أو الحكم الظاهري موجود لفرض كون موضوعه وهو الشّكّ في الحكم الواقعي موجود، فيلزم أن يريد المولى صلاة الجمعة وعدمها.

[تأسيس الأصل في المسألة]

المقصد السّادس: في الأمارات، تأسيس الأصل في المسألة

{ثالثها} أي: الثّالث من الأُمور الّتي ينبغي تقديمها قبل الخوض فيالأمارات في بيان الأصل الّذي هو المرجع عند الشّكّ في حجيّة الأمارة، فنقول: {أنّ الأصل في ما لا يعلم اعتباره - بالخصوص - شرعاً} بأن لم نعلم أنّ الشّارع جعله حجّة {ولا يحرز التعبّد به واقعاً} بأن لم نحرز قيام دليل على حجيّته، فإنّ الأمارة قد نعلم أنّ الشّارع جعلها حجّة، وقد نعلم أنّه قام دليل على حجيّتها - وإن لم نعلم بحجيّتها - وقد لا نعلم لا هذا ولا ذاك، بمعنى أنّه لا نعلم بحجيّتها ولم تقم حجّة معلومة على حجيّتها {عدم حجيّته جزماً} خبر «أنّ» {بمعنى عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة} كالتنجيز والإعذار والمدح والذمّ والثّواب والعقاب

ص: 377

عليه قطعاً؛ فإنّها لا تكاد تترتّب إلّا على ما اتّصف بالحجيّة فعلاً، ولا يكاد يكون الاتصاف بها إلّا إذا أحرز التعبّد به وجعله طريقاً متّبعاً؛ ضرورة أنّه بدونه لا يصحّ المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرّد إصابته، ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها، ولا يكون مخالفته تجرّياً، ولا موافقته - بما هي موافقة - انقياداً، وإن كانت

___________________________________________

والانقياد والتجرّي {عليه} أي: على هذا المشكوك الحجيّة {قطعاً، فإنّها} أي: الآثار المرغوبة من الحجيّة {لا تكاد تترتّب إلّا على ما اتّصف بالحجيّة فعلاً} فإنّ الحجيّة الواقعيّة غير المحرزة لا تكون منجّزة للواقع ولا مصحّحة للعقوبة.

{ولا يكاد يكون الاتصاف بها} أي: بالحجيّة الفعليّة {إلّا إذا أُحرز التعبّد به، و} أُحرز {جعله طريقاً متّبعاً} وعلى هذا فالعلم جزء للموضوع حتّى أنّه لو لم يعلملم يتحقّق الموضوع {ضرورة أنّه بدونه لا يصحّ المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرّد إصابته} الواقع {ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها} أي: مع عدم الإصابة، فالأمر المعتبر واقعاً الّذي لم يعلم به المكلّف إذا صادف الواقع لا يكون منجّزاً للتكليف بحيث تصحّ المؤاخذة بسبب ترك الواقع، وإذا خالف الواقع لا يكون عذراً للعبد حتّى يقول: بأنّي خالفت التكليف؛ لأنّ هذه الأمارة الّتي لم تصل إليّ أدّت إلى حكم مخالف للواقع. مثلاً: لو كان قول العدل الواحد طريقاً شرعاً لكن لم يعلم به المكلّف لم يكن مخالفته موجباً للعقاب في صورة إصابته الواقع ولا موافقته موجباً للثواب.

{و} هكذا {لا يكون مخالفته تجرّياً ولا موافقته بما هي موافقة انقياداً} فإنّ الأمر المعتبر واقعاً - الّذي لم يعلم به العبد - إذا خالفه العبد وكان هو في الحقيقة مخالفاً للواقع لا تكون هذه المخالفة تجرّياً، وإذا وافقه العبد لا تكون هذه الموافقة انقياداً، وهذا بخلاف ما إذا سلك الطريق الّذي هو مخالف للواقع في أنّ في موافقته انقياداً وفي مخالفته تجرّياً {وإن كانت} الموافقة

ص: 378

بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك، إذا وقعت برجاء إصابته. فمع الشّكّ في التعبّد به يقطع بعدم حجيّته، وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه؛ للقطع بانتفاء الموضوع معه. ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

___________________________________________

{بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك} أي: يكون انقياداً، فإنّه لو كان في الواقع الشّهرة حجّة لكن لم يعلم المكلّف حجيّتها، ثمّقامت شهرة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فدعا المكلّف برجاء مصادفة الواقع - والحال أنّها لم تصادف الواقع - كان هذا العمل انقياداً {إذا وقعت} الموافقة للشهرة في المثال {برجاء إصابته} الواقع، لكن لا يخفى أنّ مثل هذا احتياط بخلاف ما إذا علم حجيّة الشّهرة، فإنّه يجب عليه متابعتها، وإن كانت في الواقع أدّت إلى وجوب ما ليس في الواقع واجباً.

وكيف كان {فمع الشّكّ في التعبّد به} بالشيء {يقطع بعدم حجيّته وعدم ترتيب شيء من الآثار} للحجيّة {عليه} وذلك {للقطع بانتفاء الموضوع} للحجيّة {معه} أي: مع الشّكّ، إذ الموضوع للحجيّة هو المعلوم حجيّته، فإنّ العلم جزء للموضوع، كما تقدّم {ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان}.

ثمّ إنّه بما ذكرنا ظهر أنّ أثر الحجيّة هو الثّواب على الموافقة والعقاب على المخالفة - إذا وافقت الأمارة للواقع - وأثر الحجيّة هو الانقياد على الموافقة والتجرّي على المخالفة - إذا خالفت الأمارة للواقع.

وقد ذكر شيخنا المرتضى(رحمة الله) أنّ من آثار الحجيّة أمرين آخرين:

الأوّل: صحّة الاستناد إلى اللّه - تعالى - .

والثّاني: صحّة الالتزام بما أدّى عليه من الأحكام.

وأورد المصنّف(رحمة الله) على ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) بإيرادين:

الأوّل: أنّ هذين الأثرين ليسا من آثار الحجيّة، ولذا الظنّ الانسدادي بناءً على حكومة العقل بحجيّته لا يصحّ استناده إلى اللّه - تعالى - مع أنّه حجّة، ولا يصحّ

ص: 379

وأمّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه منالأحكام، وصحّةُ نسبته إليه - تعالى - فليسا من آثارها؛ ضرورة أنّ حجيّة الظنّ عقلاً - على تقرير الحكومة في حال الانسداد - لا توجب صحّتهما، فلو فرض صحّتهما شرعاً - مع الشّكّ في التعبّد به - لما كان يُجدي في الحجيّة شيئاً، ما لم يترتّب عليه ما ذكر من آثارها، ومعه

___________________________________________

الالتزام بما أدّى إليه الظنّ الانسدادي من الأحكام، مع أنّه حجّة.

الثّاني: أنّا لو فرضنا وجود أمارة مشكوكة لكن الشّارع أجاز نسبتها إلى اللّه - تعالى - وأجاز الالتزام بمؤدّاها لم تصر بذلك حجّة.

ومنه يتبيّن أنّ الحجيّة لا تدور مدار هذين الأثرين، بخلاف ما ذكرناه، فإنّ الحجيّة تدور مدار الثّواب والعقاب والتجرّي والانقياد.

وإلى هذا الكلام أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {وأمّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام وصحّة نسبته إليه - تعالى - ف-} قد ذكر شيخنا المرتضى(رحمة الله) أنّها من آثار الحجيّة حتّى أنّهما تدوران مدار الحجيّة فكلّما ثبتت الحجيّة لأمارة كانتا وكلّما انتفت الحجيّة عن شيء انتفتا لكن فيه أنّهما {ليسا من آثارها، ضرورة} عدم دورانها مدار الحجيّة، لعدم ترتّب هذين الأمرين مع وجود الحجيّة، ف- {أنّ حجّيّة الظنّ عقلاً} بمعنى وجوب العمل على طبق الظنّ المطلق بناءً {على تقرير الحكومة في حال الانسداد لا توجب صحّتهما} فالظنّ الانسدادي الحكومي حجّة، مع أنّه لا يمكن أن ينسب مؤدّاه إلى اللّه - تعالى - ولا يمكن الالتزام بمؤدّاه، إذ العقل يقول بحجيّة هذا الظنّ لا الشّرع حتّى ينسب إلى اللّه ويلتزم بمؤدّاه {فلو فرض صحّتهما} أي: الإسناد إلى اللّه والالتزام بمؤدّاه {شرعاً مع الشّكّ في التعبّد به}أي: بالظنّ مثلاً {لما كان يجدي في الحجيّة شيئاً} فقد ترتّب الأثر مع عدم وجود الحجيّة، فإنّ الحجيّة لا تكون {ما لم يترتّب عليه ما ذكر من آثارها} من صحّة العقاب والثّواب وتحقّق التجرّي والانقياد {ومعه} أي: مع ترتّب الآثار

ص: 380

لما كان يضرّ عدم صحّتهما أصلاً، كما أشرنا إليه آنفاً.

فبيان عدم صحّة الالتزام مع الشّكّ في التعبّد، وعدم جواز الاستناد إليه - تعالى - غير مرتبط بالمقام، فلا يكون الاستدلال عليه بمهمّ، كما أتعب به شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه نفسه الزكية - بما أطنب من النّقض والإبرام(1)، فراجعه بما علّقناه عليه(2)، وتأمّل.

___________________________________________

المذكورة على شيء الكاشف عن حجيّته {لما كان يضرّ} بالحجيّة {عدم صحّتهما} أي: عدم صحّة النّسبة إليه - تعالى - وعدم صحّة الالتزام {أصلاً، كما أشرنا إليه آنفاً} في الظنّ الانسدادي الحكومي الّذي هو حجّة وإن لم يترتّب عليه الأثران {فبيان عدم صحّة الالتزام مع الشّكّ في التعبّد و} بيان {عدم جواز الاستناد إليه - تعالى -} مع الشّكّ في التعبّد {غير مرتبط بالمقام} الّذي هو بيان الدليل على حجيّة شيء {فلا يكون الاستدلال عليه بمهم}.

اعلم أنّ الشّيخ(رحمة الله) - بعد ما ذكر أنّ الأصل في الظنّ عدم الحجيّة -استدلّ عليه: بأنّه لا يمكن الالتزام به ولا يمكن نسبته إلى اللّه - تعالى - بما دلّ من الآيات والأخبار على أنّ ما لم يعلم أنّه من قبل اللّه يكون افتراءً عليه ونحو ذلك، والمصنّف(رحمة الله) لمّا أشكل على كون الأثرين من آثار الحجيّة أبطل الاستدلال على عدم حجيّة الظنّ بالآيات الدالّة على أنّه افتراء ونحوه، إذ حجيّة الظنّ وعدمه لا تدور مدار صحّة النّسبة إليه - تعالى - وصحّة الالتزام وعدمهما حتّى يستدلّ بعدمهما على عدم الحجيّة.

وإلى هذا أشار بقوله: «فلا يكون» الخ {كما أتعب به} أي: بهذا الاستدلال {شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه نفسه الزكية - بما أطنب من النّقض والإبرام، فراجعه بما علّقناه عليه، وتأمّل}لكن جماعة من العلماء تعرّضوا لعدم صحّة إيراد

ص: 381


1- فرائد الأصول 1: 131.
2- درر الفوائد: 41.

وقد انقدح بما ذكرنا: أنّ الصّواب - في ما هو المهمّ في الباب - : ما ذكرنا في تقرير الأصل، فتدبّر جيّداً.

إذا عرفت ذلك، فما خرج موضوعاً عن تحت هذا الأصل أو قيل بخروجه، يذكر في ذيل فصولٍ:

فصل: لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشّارع في تعيين مراده في الجملة؛ لاستقرار طريقة العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الرّدع عنها؛ لوضوح عدم اختراع طريقة أُخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه، كما هو واضح.

___________________________________________

المصنّف(رحمة الله) على الشّيخ(رحمة الله)، ولا مجال لنقله، فراجع الحواشيوالتعليقات(1).

{وقد انقدح بما ذكرنا أنّ الصّواب - في ما هو المهمّ في الباب - ما ذكرنا في تقرير الأصل} لعدم حجيّة ما شكّ في حجيّته {فتدبّر جيّداً} واللّه الموفّق.

{إذا عرفت ذلك} الأصل {فما خرج موضوعاً} بأن كان ظنّاً وكان حجّة {عن تحت هذا الأصل أو قيل بخروجه يذكر في ذيل فصول}:

[فصل في حجيّة الظواهر]

المقصد السّادس: في الأمارات، حجيّة الظواهر

{فصل} في حجيّة الظواهر {لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشّارع في تعيين مراده في الجملة} وأنّ قيّد عدم الشّبهة بهذا القيد، إذ المسلّم من حجيّة الظهور هو الظهور الّذي ظنّ بوفاقه لمراد المتكلّم وكان الشّخص من قصد إفهامه، أمّا مع عدم أحد القيدين فقد وقع الاختلاف في الحجيّة وعدمها، كما ياتي.

وإنّما قلنا بحجيّة الظهور {لاستقرار طريقة العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات} حتّى أنّ من يتردّد في ذلك رمي بالوسوسة والسّفاهة {مع القطع بعدم الرّدع عنها} في الشرع {لوضوح عدم اختراع} الشّارع {طريقة أُخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه} كأن يشترط كون الكلام نصّاً أو نحو ذلك {كما هو واضح}.

ص: 382


1- حقائق الأصول 2: 81-82.

والظّاهر: أنّ سيرتهم على اتّباعها من غير تقييد بإفادتها للظنّ فعلاً، ولا بعدمالظنّ كذلك على خلافها قطعاً؛ ضرورة أنّه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها: بعدم إفادتها للظنّ بالوفاق، ولا بوجود الظنّ بالخلاف.

كما أنّ الظاهر: عدم اختصاص ذلك بمن قُصد إفهامه، ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه، إذا خالف ما تضمّنه ظاهر كلام المولى، من تكليف يعمّه أو يخصّه،

___________________________________________

{و} إذ قد عرفت مسلّميّة حجيّة الظاهر في الجملة نبيّن أنّ المختار حجيّته مطلقاً، إذ {الظاهر} بل المقطوع به {أنّ سيرتهم على اتّباعها} أي: اتّباع الظواهر {من غير تقييد بإفادتها للظنّ فعلاً} فإنّهم يعملون بالظاهر وإن تردّدوا في كونه مراداً للمتكلّم، ولا يعتبرون في الاتّباع أن يظنّوا بكونه مراداً {ولا} تقييد {بعدم الظنّ كذلك} أي: فعلاً {على خلافها} أي: خلاف تلك الظواهر {قطعاً} فإنّ العبد إذا أمره المولى بأمر ثمّ لم يمتثل معتذراً بأنّه ظنّ أنّ الظاهر غير مراد لم يقبل عذره، ولامه العقلاء على ترك الطاعة واستحقّ العقاب من المولى، ولو كان حجيّة الظاهر مشروطة بعدم الظنّ على الخلاف لكان لعذره وجه.

وإلى هذا أشار بقوله: {ضرورة أنّه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها} أي: مخالفة الظواهر {بعدم إفادتها للظنّ بالوفاق} بأنّي كنت متردّداً في المراد {ولا} مجال للاعتذار عن المخالفة {بوجود الظنّ بالخلاف} بأن يقول: إنّي ظننت أنّ الظاهر ليس بمراد {كما أنّ الظاهر} بل المقطوع به {عدم اختصاص ذلك} أي: كون الظواهر حجّة {بمن قصد إفهامه} بهذا الظاهر {ولذا لا يسمع اعتذار من لايقصد إفهامه إذا خالف ما تضمّنه ظاهر كلام المولى} بأن يقول: لم يقصد المولى إفهامي، ولذا لم يكن الظاهر حجّة عندي، وعلى هذا خالفت الأمر.

وقوله: {من تكليف يعمّه أو يخصّه} بيان لقوله: «ما تضمّنه» أي: إنّه لو خالف التكليف الّذي هو عامّ بالنسبة إليه وغيره، أو التكليف الّذي كان خاصّاً به لم يسمع

ص: 383

ويصحّ به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج، كما تشهد به صحّة الشّهادة بالإقرار مِن كلّ مَن سمعه، ولو قصد عدم إفهامه، فضلاً عمّا إذا لم يكن بصدد إفهامه.

ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين، وأحاديث سيّد المرسلين والأئمّة الطاهرين، وإن ذهب بعض الأصحاب(1)

إلى عدم حجيّة ظاهر الكتاب:

إمّا بدعوى: اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، كما يشهد به ردع أبي حنيفة(2) وقتادة(3)

عن الفتوى به.

___________________________________________

عذره، والتكليف الخاصّ كأن يقول المولى لعبد يجب الفعل الفلاني على عبدي الآخر.

{ويصحّ} لكلّ من المولى إذا خالف العبد وللعبد إذا أتى {به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج، كما تشهد به صحّة الشّهادة بالإقرار من كلّ من سمعه، ولو قصد عدم إفهامه} بأن أراد المقرّ الإقرار فيالخفاء حتّى لا يعلم به أحد كي يشهد عليه {فضلاً عمّا إذا لم يكن بصدد إفهامه} كأن كان وجهة الكلام إلى شخص ولم يبال المتكلّم أفهم الشّخص الثّالث أم لا.

{ولا فرق في ذلك} أي: كون الظاهر حجّة {بين الكتاب المبين، وأحاديث سيّد المرسلين، و} أخبار {الأئمّة الطاهرين} صلوات اللّه عليهم أجمعين {وإن ذهب بعض الأصحاب} ككثير من الأخباريّين {إلى عدم حجيّة ظاهر الكتاب} وذلك لوجوه:

الأوّل: {إمّا بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به} وهم الأئمّة - عليهم الصّلاة والسّلام - {كما يشهد به} أي: باختصاص فهم القرآن بهم(علیهم السلام) {ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به} أي: بالقرآن، وقد قالوا(علیهم السلام) إنّه إنّما

ص: 384


1- الفوائد المدنيّة: 178؛ الدرر النجفيّة: 34.
2- وسائل الشيعة 27: 47.
3- الكافي 8: 311.

أو بدعوى: أنّه لأجل احتوائه على مضامين شامخة، ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أُولي الأنظار غير الرّاسخين العالمين بتأويله، كيف؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلّا الأوحديّ من الأفاضل، فما ظنّك بكلامه - تعالى - مع اشتماله على علم ما كان وما يكون، وحكم كلّ شيء؟

أو بدعوى: شمول المتشابه - الممنوع عن اتّباعه - للظاهر،

___________________________________________

يعرف القرآن من خوطب به، وإنّ اللّه لم يورث مثل أبي حنيفة وقتادة من كتابه حرفاً، فلو كان الظاهر حجّة لكان أبو حنيفة وأضرابه كسائر النّاس في جواز أنيفتوا من القرآن ويستفيدوا من ظواهره.

الثّاني: {أو بدعوى أنّه لأجل احتوائه} أي: القرآن {على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أُولي الأنظار} ففي رواية ابن الحجّاج «ليس شيء أبعد عن عقول الرّجال من القرآن»(1)،

فلا يفهم القرآن {غير الرّاسخين العالمين بتأويله} وهم الأئمّة الأطهار، و{كيف} يفهم القرآن أحد {و} الحال أنّه {لا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلّا الأوحديّ من الأفاضل، فما ظنّك بكلامه - تعالى - مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شيء؟} كما قال - تعالى - : {وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ}(2)، بناءً على تفسيره بالقرآن الحكيم، وكذا بعض الرّوايات الأُخر الدالّة على ذلك.

الثّالث: {أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر} وكيف لا يكون الظاهر متشابهاً وقد كثر فيه الخلاف، كما عرفت لا أقلّ من كون ظاهر القرآن متشابهاً لهذه الرّوايات ونحوها. وإن لم تذعن بأنّه متشابه قطعاً فنقول: إنّه

ص: 385


1- تفسير العيّاشي 1: 17 وفيه: «ليس أبعد من عقول الرجال من القرآن» وفي 1: 12: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن»، وفي وسائل الشيعة 27: 203 «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من القرآن».
2- سورة الأنعام، الآية: 59.

لا أقلّ من احتمال شموله، لتشابه المتشابه وإجماله.

أو بدعوى: أنّه وإن لم يكن منه ذاتاً، إلّا أنّه صار منه عرضاً؛ للعلم الإجماليبطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحد من ظواهره، كما هو الظاهر.

أو بدعوى: شمول الأخبار النّاهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام الظّاهر في معنىً، على إرادة هذا المعنى.

___________________________________________

{لا أقلّ من احتمال شموله} أي: شمول المتشابه للظاهر {لتشابه المتشابه وإجماله} فإنّه لم يعلم أنّ المتشابه المنهي عن اتّباعه في قوله - تعالى - : {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ}(1)، هل يشمل الظاهر أم لا؟ فاللّازم إطاعة هذا النّهي بعدم اتّباع كلّ ما يحتمل كونه متشابهاً حتّى يقطع بعدم متابعة المتشابه.

الرّابع: {أو بدعوى أنّه} أي: ظاهر القرآن {وإن لم يكن منه} أي: من المتشابه {ذاتاً} فإنّه لا تشابه فيه، بل هو من الحكم القسيم للمتشابه {إلّا أنّه صار منه} أي: من المتشابه {عرضاً} وذلك {للعلم الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحد من ظواهره} وحيث لا نعرف تلك الأُمور المخرجة للظاهر عن الحجيّة يلزم بحكم العلم الإجمالي أن لا نعمل بأيّ ظاهر من ظواهر القرآن {كما هو الظاهر} لتنجّز العلم الإجمالي.

الخامس: {أو بدعوى شمول الأخبار النّاهية عن تفسير القرآن بالرأي} كقوله(علیه السلام): «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النّار»(2)، {لحمل الكلام الظاهرفي معنىً على إرادة هذا المعنى} فلا يجوز الحمل على المعنى الظاهري؛ لأنّه من التفسرى بالرأي.

ص: 386


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- غوالي اللئالي 4: 104؛ وفي التوحيد: 91 هكذا «من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار».

ولا يخفى: أنّ النّزاع يختلف صغرويّاً وكبرويّاً بحسب الوجوه، فبحسب غير الوجه الأخير والثّالث يكون صغرويّاً. وأمّا بحسبهما فالظاهر أنّه كبرويّ، ويكون المنع عن الظاهر إمّا لأنّه من المتشابه - قطعاً أو احتمالاً - ، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي.

وكلّ هذه الدعاوي فاسدة:

أمّا الأُولى:

___________________________________________

هذه هي الوجوه الّتي أقاموها للمنع عن حجيّة ظاهر القرآن.

{ولا يخفى أنّ النّزاع يختلف صغرويّاً وكبرويّاً بحسب الوجوه} ففي بعض الوجوه النّزاع صغرويّ وأنّه ليس للقرآن ظاهر أصلاً، وفي بعض الوجوه النّزاع كبرويّ، وإنّه بعد وجود الظاهر في القرآن لا يجوز العمل به {فبحسب غير الوجه الأخير} الخامس {والثّالث} وهي الأوّل والثّاني والرّابع {يكون} النّزاع {صغرويّاً} فلا ظاهر للقرآن {وأمّا بحسبهما} أي: بحسب الوجهين الثّالث والخامس {فالظاهر أنّه} أي: النّزاع {كبرويّ} بعد تسليم الصّغرى وأنّ للقرآن ظاهراً كسائر الظواهر {ويكون المنع عن الظاهر إمّا لأنّه من المتشابه قطعاً، أو} من المتشابه {احتمالاً} كما هو مقتضى الوجه الثّالث، فللقرآن ظاهر لكن لا يجوز العمل به؛ لأنّه من المتشابه المنهي عن اتّباعه {أو لكون حملالظاهر} في القرآن {على ظاهره} والعمل به يكون {من التفسير بالرأي} كما هو مقتضى الوجه الخامس. لكن لا يخفى أنّ الوجه الرّابع يمكن أن يقرّر صغرويّاً وكبرويّاً.

{و} على {كلّ} حالٍ جميعُ {هذه الدعاوي فاسدة} فللقرآن ظاهر ويجوز العمل بهذا الظاهر {أمّا} وجه فساد الدعوى {الأُولى} القائلة باختصاص فهم

ص: 387

فإنّما المراد ممّا دلّ على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله: اختصاص فهمه بتمامه - بمتشابهاته ومحكماته - ؛ بداهة أنّ فيه ما لا يختصّ به، كما لا يخفى.

وردعُ أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به، إنّما هو لأجل الاستقلال في الفتوى، بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقاً، ولو مع الرّجوع إلى رواياتهم، والفحص عمّا ينافيه، والفتوى به مع اليأس عن الظفر به، كيف؟ وقد وقع في غير واحد من الرّوايات الإرجاعُ إلى الكتاب، والاستدلالُ بغير واحدٍ من آياته.

___________________________________________

القرآن بأهل البيت(علیهم السلام) {فإنّما المراد ممّا دلّ على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله: اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته} لا فهم كلّ شيء منه حتّى الظاهر والصّريح والقصص والعبر والأمثال {بداهة أنّ فيه} أي: في القرآن {ما لا يختصّ به} أي: بأهله الّذين هم الأئمّة(علیهم السلام) {كما لا يخفى} بعد تأمّل قليل.{و} أمّا {ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به} أي: بالقرآن ف- {إنّما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه} أي: إلى القرآن {من دون مراجعة أهله} كما كان ذلك عادة العامّة، ومن المعلوم أنّ الرّجوع إلى القرآن فقط موجب للفتوى بخلاف الحق، و{لا} يكون النّهي عن العمل بالظاهر نهياً {عن الاستدلال بظاهره مطلقاً ولو مع الرّجوع إلى رواياتهم والفحص عمّا ينافيه} من مخصّص او مقيّد أو قرينة مجاز أو نحو ذلك {والفتوى به} أي: بالقرآن {مع اليأس عن الظفر به} أي: الظفر بما ينافيه.

و{كيف} يكون الرّدع عامّاً {و} الحال أنّه {قد وقع في غير واحد من الرّوايات الإرجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته} ولو لم يكن ظاهر الكتاب حجّة لما أرجع الأئمّة الرُّوَاة إليه، ولا استدلّوا به في مقام تفهيم المخاطب أنّ هذا الحكم مستفاد من الكتاب؟

ص: 388

وأمّا الثّانية: فلأنّ احتواءه على المضامين العالية الغامضة، لا يمنع عن فهم ظواهره - المتضمّنة للأحكام - وحجيّتها، كما هو محلّ الكلام.

وأمّا الثّالثة: فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه؛ فإنّ الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل، وليس بمتشابه ولا مجمل.

وأمّا الرّابعة: فلأنّ العلم إجمالاً بطروّ إرادة خلاف الظاهر، إنّما يوجب الإجمال في ما إذا لم ينحل

___________________________________________

{وأمّا} وجه فساد الدعوى {الثّانية} القائلة بأنّ احتواء القرآنعلى المضامين العالية مانع عن العمل بظواهره {فلأنّ احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمّنة للأحكام و} لا يمنع عن {حجيّتها} أي: حجّيّة تلك الظواهر {كما هو محلّ الكلام} نعم، الأُمور العالية الغامضة مخصوصة بأهل الببيت(علیهم السلام)، وليس فيه كلام.

{وأمّا} وجه فساد الدعوى {الثّالثة} القائلة بأنّ الظاهر من المتشابه {فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه} فإنّ المتشابه ما يتشابه على السّامع والظاهر ما يظهر له، فأحدهما يقابل الآخر {فإنّ الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل} الّذي لا يعرف المراد منه لحقيقة ومجاز مشهور أو اشتراك أو نحو ذلك {وليس} لفظ المتشابه {بمتشابه} حتّى يقال: إنّ المتشابه لا يدرى هل يشمل الظاهر أم لا، فاللّازم ترك الظاهر حتّى نقطع بعدم اتّباع المتشابه المنهي عنه {ولا مجمل} بل المتشابه مبيّن ومعلوم ولا يشمل الظاهر قطعاً.

{وأمّا} وجه فساد الدعوى {الرّابعة} القائلة بأنّ العلم الإجمالي بطروّ مخالفات للظاهر مانع عن العمل بأيّ ظاهر كان لتنجيز العلم الإجمالي {فلأنّ العلم إجمالاً بطروّ إرادة خلاف الظاهر} في ظواهر الكتاب وإن كان صحيحاً، لكن هذا العلم مانع عن العمل، و{إنّما يوجب الإجمال في ما إذا لم ينحلّ} بيقين تفصيلي

ص: 389

بالظفر - في الرّوايات - بموارد إرادة خلاف الظاهر، بمقدار المعلوم بالإجمال.

مع أنّ دعوى اختصاص أطرافه بما إذاتفحّص عمّا يخالفه لظفر به، غير بعيدة، فتأمّل جيّداً.

وأمّا الخامسة: فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير؛ فإنّه كشف القناع، ولا قناعَ للظاهر.

ولو سلّم، فليس من التفسير بالرأي؛

___________________________________________

وشكّ بدوي، والحال أنّه منحلّ في المقام {ب-} سبب {الظفر في الرّوايات} الواردة عن الأئمّة(علیهم السلام) {بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال}.

لا يقال: إنّ العلم الإجمالي لا ينحل بالفحص، إذ المعلوم بالإجمال وجود مقيّدات ومخصّصات و{مع} الفحص إنّما يحصل الظفر بالمقيّدات والمخصّصات الواردة في الأخبار لا كلّ مقيّد ومخصّص.

لأنّا نقول: لا نسلّم أنّ العلم الإجمالي وسيع الدائرة ف- {أنّ دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحّص عمّا يخالفه لظفر به غير بعيدة} فإنّ العلم الإجمالي مردّد بين الأمارات الّتي لو تفحّصنا عنها لظفرنا به، لا أنّ متعلّقه مردّد بين ما بأيدينا وغير ما بأيدينا حتّى لا ينحل بعد الفحص {فتأمّل جيّداً} نعم، قبل الفحص لا يجوز التمسّك لمنع العلم الإجمالي عنه.

{وأمّا} وجه فساد الدعوى {الخامسة} القائلة بشمول الأخبار النّاهية عن تفسير القرآن بالرأي للأخذ بالظاهر {ف-} فيه أنّه {يمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير، فإنّه} أي: لأنّ التفسير عبارة عن {كشف القناع ولا قناع للظاهر، ولو سلّم} أنّه من التفسير {ف-} لا مانع أيضاً عن هذا النّحو من التفسير، إذ {ليس من التفسير بالرأي} والمحرّمهو التفسير بالرأي، وإنّما قلنا أنّه ليس من التفسير

ص: 390

إذ الظاهر أنّ المراد بالرأي هو: الاعتبار الظنّي الّذي لا اعتبار به، وإنّما كان منه حملُ اللفظ على خلاف ظاهره، لرجحانه بنظره، أو حمل المجمل على محتمله، بمجرّد مساعدة ذاك الاعتبار عليه، من دون السّؤال عن الأوصياء. وفي بعض الأخبار: «إنّما هلك النّاس في المتشابه؛ لأنّهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرّفونهم»(1)،

___________________________________________

بالرأي {إذ الظاهر أنّ المراد بالرأي هو الاعتبار الظنّي الّذي لا اعتبار به} عند العقلاء {وإنّما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره لرجحانه بنظره} هذا علّة لما يستفاد من الكلام من أنّه لو لم يكن الاعتبار الظنّي معتبراً فلم يحمل الشّخص الكلام على هذا الأمر غير المعتبر.

والجواب: أنّه إنّما يحمله على خلاف ظاهره لرجحان هذا المعنى المحمول عليه في نظر الحامل {أو حمل المجمل على محتمله} عطف على «حمل اللفظ»، يعني إنّما يحمل المجمل على أحد معانيه المحتملة {ب-} سبب {مجرّد مساعدة ذاك الاعتبار} الظنّي {عليه} أي: على هذا المعنى المحتمل {من دون السّؤال عن الأوصياء} (علیهم السلام) الّذين أُمر النّاس بمراجعتهم في فهم القرآن.

{و} يدلّ على أنّ المحضور هو حمل المجمل على محتمله وليس تفسيرالظاهر محضوراً ما ورد {في بعض الأخبار} الّذي رواه السّيّد المرتضى(رحمة الله) في رسالة المحكم والمتشابه نقلاً عن تفسير النّعماني، عن إسماعيل بن جابر، عن الصّادق(علیه السلام) أنّه قال في حديث طويل: {«إنّما هلك النّاس في المتشابه؛ لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرّفونهم} ونبذوا قول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وراء ظهورهم» الحديث.

ص: 391


1- وسائل الشيعة 27: 200.

هذا.

مع أنّه لا محيص عن حمل هذه الرّوايات النّاهية عن التفسير به على ذلك، ولو سلّم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره؛ ضرورة أنّه قضيّة التوفيق بينها وبين ما دلّ على جواز التمسّك بالقرآن، - مثل خبر الثّقلين - ،

___________________________________________

{هذا مع أنّه} لو سلّم كون هذه الطائفة من الأخبار النّاهية من التفسير بالرأي ظاهرها ما ذكره الخصم من أنّها شاملة لحمل الظاهر على ظاهره، ف- {لا محيص عن} أن نقول بوجوب تخصيص هذا الإطلاق في الأخبار النّاهية، وأنّ المراد بها حمل المجمل على أحد معانيه بقرينة ما دلّ على لزوم العمل بالكتاب.

والحاصل: أنّ في المقام طائفتين من الأخبار:

الطائفة الأُولى: ما دلّ على النّهي للتفسير.

الثّانية: ما دلّ على وجوب العمل بالقرآن والتمسّك به، وبين الطائفتين عموم مطلق، إذ الأُولى تشمل حمل الظاهر على ظاهره وحمل المجمل على أحدمعانيه، والثّانية مختصّة بحمل الظاهر على ظاهره، فتخصّص الطائفة الأُولى بالثّانية، ويبقى حمل الظاهر على ظاهره داخلاً في أخبار الجواز.

والحاصل: {حمل هذه الرّوايات النّاهية عن التفسير به} أي: بالرأي {على ذلك} الّذي ذكر من حمل المجمل على محتمله {ولو سلّم شمولها} أي: شمول تلك الأخبار {لحمل اللفظ على ظاهره} أيضاً، وإنّما حملنا الأخبار على ذلك {ضرورة أنّه} أي: هذا الحمل {قضيّة} أي: مقتضى {التوفيق بينها} أي: بين هذه الأخبار النّاهية {وبين ما دلّ على جواز التمسّك بالقرآن} والمراد بالجواز هنا المعنى الأعمّ الشّامل للوجوب {مثل خبر الثّقلين} الوارد عن الرّسول(صلی الله علیه و آله) من قوله: «إنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن

ص: 392

وما دلّ على التمسّك به والعمل بما فيه، وعرضِ الأخبار المتعارضة عليه، وردّ الشّروط المخالفة له، وغير ذلك ممّا لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره، لا خصوص نصوصه؛ ضرورة أنّ الآيات الّتي يمكن أن تكون مرجعاً في باب تعارض الرّوايات أو الشّروط،

___________________________________________

تضلّوا»(1)، {وما دلّ على التمسّك به} أي: بالقرآن {والعمل بما فيه وعرض الأخبار المتعارضة عليه وردّ الشّروط المخالفة له} بمعنى أنّ الشّرطالواقع في العقد إذا كان مخالفاً للكتاب فهو مردود، كما لو شرط محرّماً في أثناء العقد فإنّ الشّرط المحرّم المخالف للكتاب مردود، فإنّه لو لم يجز العمل بظاهر القرآن لم يكن مجال لهذه الأُمور.

{وغير ذلك} ممّا دلّ على استدلال الأئمّة(علیهم السلام) بالظواهر للاحتجاج، كقوله(علیه السلام) في رواية عبد الأعلى، في حكم من عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة: «أنّ هذا وشبهه يعرف من كتاب اللّه {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ}»(2)

ثمّ قال(علیه السلام): «امسح عليه»(3).

فإنّ إحالة الإمام(علیه السلام) حكم المسح إلى الفهم من الكتاب تدلّ على عدم الاحتياج في أشباهه إلى السّؤال لوجودها في ظاهر الكتاب إلى غير ذلك {ممّا لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره} أي: ظواهر الكتاب {لا خصوص نصوصه}.

وقد عرفت في المثال السّابق في باب المسح أنّ الكتاب لم يكن نصّاً في ذلك وإنّما هو ظاهر ظهوراً ضعيفاً {ضرورة أنّ الآيات الّتي يمكن أن تكون مرجعاً في باب تعارض الرّوايات أو} أن تكون مرجعاً في باب {الشّروط} المخالفة للكتاب

ص: 393


1- رواه المخالف والمؤالف، راجع صحيح مسلم 5: 22؛ مسند أحمد 5: 492؛ كنز العمّال 1: 878؛ الصواعق المحرقة: 230؛ تحف العقول: 34؛ الإرشاد 1: 165؛ إحقاق الحق 9: 309، و 18: 261.
2- سورة الحج، الآية: 78.
3- تفسير العياشي 1: 303 وفيه: «تعرف هذا وأشباهه...»؛ الكافي 3: 33.

أو يمكن أن يتمسّك بها ويعمل بما فيها، ليست إلّا ظاهرة في معانيها، وليس فيها ما كان نصّاً، كما لا يخفى.

ودعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه بنحوٍ: إمّا بإسقاطٍ، أو بتصحيفٍ

___________________________________________

{أو يمكن أن يتمسّك بها ويعمل بما فيها ليست إلّا ظاهرة في معانيها وليس فيها ما كان نصّاً} إلّا نادراً {كما لا يخفى} على من راجع.

{و} إن قلت: هب أنّ ظواهر الكتاب ممّا يجوز العمل بها في نفسها لكن هناك طارئ يمنع عن العمل بها والأخذ بها، ب- {دعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو} من الأنحاء {إمّا بإسقاط} بعض الآيات والجمل كما قيل بالإسقاط بين قوله - تعالى - : {وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ}(1)، وبين قوله: {فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ}(2). {أو بتصحيف} والتصحيف هو تبديل نقطة أو حركة أو ما أشبههما كقراءة (ربّنا باعد بين أسفارنا) المشتهرة بصيغة الأمر من المفاعلة مراداً بها الدعاء وقراءة (باعد) بصيغة الماضي من المفاعلة مراداً بها الإخبار.

قلت: الظاهر عندنا وفاقاً لجمهرة المحقّقين أنّ القرآن لم ينقص منه ولم يزد أصلاً، وإنّما هذا الموجود بأيدينا هو القرآن الحكيم الّذي نزل على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، بل ادّعى جماعة الإجماع على ذلك.

قال شيخ الطائفة في التبيان: «وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق به أيضاً؛ لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانه. والنّقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الّذي نصره المرتضى - رحمة اللّه عليه - وهو الظاهر في الرّوايات.

غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة، بنقصان كثير منآي

ص: 394


1- سورة النساء، الآية: 3.
2- سورة النساء، الآية: 3.

وإن كانت غيرَ بعيدةٍ - كما يشهد به بعض الأخبار، ويساعده الاعتبار - ، إلّا أنّه لا يمنع عن حجيّة ظواهره؛ لعدم العلم بوقوع الخلل فيها بذلك أصلاً.

ولو سلّم، فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام.

___________________________________________

القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد الّتي لا توجب علماً ولا عملاً، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها»(1)، انتهى.

مضافاً إلى أنّ هناك بعض الرّوايات الدالّة على أنّ المراد بتلك الرّوايات الّتي تدلّ على النّقصان في التأويل والتفسير، فإنّ قرآن الإمام(علیه

السلام) كان مع شرح بعض آياته تفسيراً وتأويلاً ممّا أنزله اللّه - تعالى - لا بعنوان القرآن، أو بيّنه الرّسول وكتبه الإمام أميرالمؤمنين(علیه

السلام)، كما يدلّ على ذلك بعض الأخبار، كما بيّنه السّيّد الوالد في كلمةٍ له حول عدم تحريف القرآن، نشرته لجنة الثّقافيّة الدينيّة في بعض أجوبتها.

هذا {وإن} سلّمنا الدعوى المذكورة وقلنا: إنّها {كانت غير بعيدة - كما يشهد به بعض الأخبار ويساعده الاعتبار -} الابتدائي حيث لا يوجد ارتباط ظاهر بين جملتين في بعض آيات القرآن ممّا يحتمل إسقاط شيء بينهما - كما تقدّم - {إلّا أنّه} أي: وقوع التحريف {لا يمنع عن حجيّة ظواهره} أي: ظواهر القرآن، وجه عدم المنع {لعدم العلم بوقوع الخلل فيها} أي: في الظواهر {بذلك} أي: بسبب التحريف {أصلاً} إذ من المحتمل وقوع التحريف في المتشابه، فيبقى ظواهرالكتاب سليمة عن الخلل {ولو سلّم} بوقوع الخلل في الظواهر أيضاً {ف-} إنّه لا يوجب عدم حجيّة الظواهر أيضاً؛ لأنّه {لا علم بوقوعه في آيات الأحكام} الّتي هي محلّ الكلام هنا، إذ حجيّة الظواهر وعدمها إنّما تنفع في استنباط الأحكام من الكتاب، فإذا لم نعلم بوقوع التحريف في آيات الأحكام - وإن علمنا بوقوعه في

ص: 395


1- التبيان في تفسير القرآن 1: 3.

والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات، غيرُ ضائرٍ بحجيّة آياتها؛ لعدم حجيّة ظاهر سائر الآيات. والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجيّتها إذا كانت كلّها حجّة، وإلّا

___________________________________________

القرآن في الجملة - لم يكن مانع عن التمسّك بآيات الأحكام في استفادة المسائل الشّرعيّة منها.

{و} إن قلت: هب أنّا لا نعلم بوقوع التحريف في آيات الأحكام، لكن {العلم} الإجمالي {بوقوعه} أي: التحريف {فيها} أي: في آيات الأحكام {أو في غيرها من الآيات} كافٍ في عدم جواز التمسّك بآيات الأحكام؛ لأنّها صارت طرفاً للعلم الإجمالي، ولا فرق في عدم جواز التمسّك بين أن نعلم وقوع التحريف في آيات الأحكام نفسها أو نعلم بوقوع التحريف في إحدى الطائفتين من آيات الأحكام أو سائر الآيات.

قلت: هذا العلم الإجمالي بوقوع التحريف في إحدى الطائفتين {غير ضائر بحجيّة آياتها} أي: آيات الأحكام؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما يؤثّر إذا كان كلّ طرف من أطراف العلم ذا أثر شرعي، أمّا إذا لم يكن أحد الطرفين ذا أثر شرعي فليس العلم منجّزاً، كما أنّه لو علمنا بوقوع نجاسة في أحد إناءين أحدهما خارج عن محلّ الابتلاء، فإنّ العلم لا يؤثّر في الاجتناب عنالطرف الّذي هو محلّ الابتلاء.

وما نحن فيه من هذا القبيل {لعدم حجيّة ظاهر سائر الآيات} الّتي ليست مرتبطة بالأحكام، وإذا لم تكن سائر الآيات حجّة كان أحد طرفي العلم بدون أثر، فلا يكون العلم منجّزاً، ويكون كما لو علمنا بوقوع تحريف في هذا الحديث أو كلام زيد الّذي لا أثر له، فإنّ هذا العلم لا يوجب سقوط الحديث عن الحجيّة.

{و} الحاصل: أنّ {العلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجيّتها} أي: حجيّة آيات الأحكام {إذا كانت} الظواهر {كلّها حجّة وإلّا} تكن كلّها حجّة فلا

ص: 396

لا يكاد ينفكّ ظاهر عن ذلك، كما لا يخفى، فافهم.

___________________________________________

يستلزم العلم الإجمالي سقوط آيات الأحكام عن الحجيّة، إذ {لا يكاد ينفكّ ظاهر عن ذلك} العلم الإجمالي، فيلزم عدم حجيّة الظواهر مطلقاً؛ لأنّا نعلم إجمالاً بوقوع تحريف في بعض الظواهر في الجملة.

أقول: هذا هو بناء جماعة من الأصوليّين، فإنّهم ذهبوا إلى عدم حجيّة الظواهر الّتي لا تتعرّض للأحكام لعدم الأثر لها والحجيّة إنّما تكون في ما له أثر، لكن مبنى جماعة آخرين - وهو الظاهر عندنا - أنّ الظواهر كلّها حجّة سواء كانت متعرّضة للقصص أو أحوال المعاد أو سائر الأُمور الّتي لا ترتبط بالأحكام، بل ربّما يعدّ من ضروريّات المتشرّعة، وما استدلّوا به لعدم الحجيّة غير تامّ، فإنّ الأثر العلمي ليس كلّ ما يؤخذ به حتّى أن يكون هو المعيار، بل بناء العقلاء على لزوم الأخذ بما ثبت بالطرق العادية من كلام الموالي، أرأيت لو ثبت أن قال المولى: (إنّ دور البلدة النّائية ألف) ثمّ قال أحد عبيده: (لا أعلم كم عدد الدور)لكان عند العرف غير مبال بكلام المولى ومستحقّاً لعقاب المخالف.

وكيف كان، ففي الجواب الأوّل كفاية، مضافاً إلى أنّ أوجه التحريف - لو صحّت - معلومة مذكورة في الكتب المرتبطة بهذا الموضوع، كفصل الخطاب وغيره، فلا مورد للعلم الإجمالي أصلاً {كما لا يخفى} على من راجع {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما ذكر.

وحيث ذكر المصنّف أنّ الخلل الواقع في الآيات لا يضرّ بآيات الأحكام لدوران الخلل بين آيات الأحكام وسائر الآيات، ودوران الأمر بين الحجّة واللّاحجّة غير ضارّ بالحجّة استثنى عن هذا الإطلاق ما لو كان الخلل بحيث يضرّ بظاهر آيات الأحكام، كما لو كان هناك قرينة لم تعلم أنّها قرينة لآية الحكم أم لآية أُخرى وكانت القرينة متّصلة، فإنّها تمنع من العمل بظاهر تلك الآية الّتي للحكم لعدم انعقاد ظهور لها.

ص: 397

نعم، لو كان الخلل المحتمل فيه، أو في غيره بما اتصل به، لأخلّ بحجيّته؛ لعدم انعقاد ظهور له حينئذٍ، وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله.

ثمّ إنّ التحقيق: أنّ الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور - مثل: (يطّهرن)(1) بالتّشديد

___________________________________________

وإلى هذا أشار بقوله: {نعم، لو كان الخلل المحتمل فيه} أي: في ظاهر آية الأحكام {أو في غيره} من ظاهر سائر الآيات {بما} أي: بقرينة - والظرف متعلّق ب-«الخلل» - {اتصل} تلك القرينة - والضّمير في «اتصل» عائد إلى «ما» - {به} أي: بظاهر آية الأحكام{لأخلّ بحجيّته} أي: بحجيّة ظاهر آية الحكم {لعدم انعقاد ظهور له حينئذٍ} أي: حين اتصاله بمحتمل القرينيّة {وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله} أي: اتصال ظاهر آية الحكم بما يحتمل قرينيّته.

ومثال ذلك ما لو قال المولى: (رأيت أسداً وجئني بأسد وهو رامٍ) فإنّ احتمال رجوع الضّمير إلى كلّ من الأسدين مانع عن انعقاد الظهور في (جئني بأسد) في الحيوان المفترس، وإنّما شرط المصنّف اتصال القرينة بآية الأحكام؛ لأنّها إذا لم تتصل انعقد الظهور فلا مانع عن العمل بها، كما لا يخفى.

{ثمّ إنّ التحقيق أنّ الاختلاف في القراءة} غير مانع عن العمل بما هو المتواتر المكتوب عليه المصحف، فإنّ الظاهر أنّ هذا المكتوب عليه المصحف هو المنزل الّذي تداوله المسلمون منذ أوّل النّزول إلى يوم النّاس هذا، فإنّ توفّر دواعي المسلمين وحفظهم للقرآن من أوّل البعثة يشهدان بأنّ ما بأيدينا اليوم هو القرآن المنزل، وما يدلّ على خلاف ذلك ضعيف، كما حقّق في محلّه.

وربّما يقال: بأنّ الاختلاف في القراءة {بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل: (يطّهرن) بالتشديد} الّذي مفاده حرمة مقاربة المرأة إذا خرجت من الحيض قبل

ص: 398


1- سورة البقرة، الآية: 222.

وبالتخفيف - يوجب الإخلال بجواز التمسّك والاستدلال؛ لعدم إحراز ما هو القرآن.

ولم يثبت تواتُر القراءآت، ولا جوازُ الاستدلال بها، وإن نُسِبَ إلى المشهور تواترها(1)،

___________________________________________

الاغتسال؛ لأنّه - تعالى - قال: {وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ} {و} يطهرن {بالتخفيف} الّذي مفاده جواز المقاربة قبل الاغتسال؛ لأنّ الطهر عبارة عن النّقاء عن الحيض {يوجب الإخلال بجواز التمسّك} بالظاهر {و} بجواز {الاستدلال} فلا يمكن أن يستدلّ بهذه الآية الكريمة لجواز الوطي قبل الاغتسال ولا لحرمته قبل الاغتسال، وذلك {لعدم إحراز ما هو القرآن} المنزل من هذين اللفظين.

{و} إن قلت: قد ادّعى بعض الأعاظم - كالشهيد(رحمة الله) وغيره - تواتر القراءآت السّبع، وذلك كافٍ في جواز الاستدلال بالظاهر.

قلت: إن أُريد بتواتر القراءآت تواترها من القرّاء السّبعة فذلك غير نافع، إذ قراءة أُولئك ليست حجّة، وإن أُريد تواترها عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) وذلك بأنّ النّبيّ(صلی الله علیه و آله) قرأ الآيات بهذه الأوجه السّبعة، ففيه أنّه {لم يثبت تواتر القراءآت} بل الإنصاف أنّ الثّابت خلافه.

{و} إن قلت: فرضنا عدم تواتر القراءآت لكن يجوز الاستدلال بكلّ قراءة، لما ثبت من أنّ الأئمّة - عليهم الصّلاة والسّلام - استدلّوا بهذا القرآن، وليس القرآن إلّا المقروّ بهذه القراءآت.

قلت: هذا {لا} يصحّ لأنّه لم يثبت {جواز الاستدلال بها} وما ذكره من وجه الجواز مغالطة، إذ استدلال الأئمّة(علیهم السلام) مذكور في الكتب وليس فيه الاستدلال بالقراءآت، فالجزء السّلبي من الاستدلال في غير محلّه.

والحاصل: أنّه لا يصحّ شيء من الأمرين {وإن نسب إلى المشهور تواترها} أو

ص: 399


1- رسائل الشهيد الثّاني 1: 628.

لكنّه ممّا لا أصل له، وإنّما الثّابت جواز القراءة بها، ولا ملازمة بينهما، كما لا يخفى.

ولو فرض جواز الاستدلال بها، فلا حاجةلملاحظة الترجيح بينها، بعد كون الأصل في تعارض الأمارات، هو سقوطها عن الحجيّة في خصوص المؤدّى، بناءً على اعتبارها من باب الطريقيّة، والتخييرُ بينها بناءً على السّببيّة،

___________________________________________

قيل بجواز الاستدلال بها {لكنّه ممّا لا أصل له وإنّما الثّابت} هذه القراءة المتعارفة وجواز الاستدلال بها وحدها.

وما يقال: من {جواز القراءة بها} أي: بالقراءآت السّبع أيضاً غير معلوم {و} لو ثبت فرضاً ف- {لا ملازمة بينهما} أي: بين جواز القراءة وجواز الاستدلال {كما لا يخفى} إذ لعلّ جواز القراءة لِمَا عُلِّلَ في بعض الأحاديث أنّه لا يهيج القرآن اليوم {ولو فرض جواز الاستدلال بها} أي: بالقراءآت المختلفة {ف-} في محلّ التعارض هل نقول بحجيّة كلّ واحد من المؤدّيين تخييراً؟ أم نقول بإعمال قواعد الترجيح؟ أم نقول بسقوطهما عن الحجيّة لما دلّ على سقوط المتعارضين؟ احتمالات، والمصنّف(رحمة الله) على أنّه {لا حاجة لملاحظة الترجيح بينها} بأن يكون الأقوى من حيث القارئ أو الأوفق بالسياق والقواعد مقدّماً على غيره {بعد كون الأصل في تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجيّة في خصوص المؤدّى بناءً على اعتبارها من باب الطريقيّة، والتخيير بينها بناءً على السّببيّة} أي: إنّ الأمارات المتعارضة إن قلنا بأنّها طريق إلى الواقع كان مقتضى الأصل سقوطها جميعاً والرّجوع إلى الأصل العملي؛ لأنّ دليل الحجيّة لا يشمل الطرق المتعارضة.

وإن قلنا بأنّ لها الموضوعيّة والسّببيّة - بمعنى وجوب العمل بها حتّى في موردالتعارض؛ لأنّ في نفس الأمارة مصلحة - كان مقتضى الأصل التخيير بينها، كما في الأُمور المتزاحمة. وعلى أيّ التقديرين لا تصل النّوبة إلى الترجيح.

ومراد المصنّف(رحمة الله) بعدم الحاجة إلى الترجيح عدم وصول النّوبة إليه لا أنّه

ص: 400

مع عدم دليل على الترجيح في غير الرّوايات من سائر الأمارات، فلا بدّ من الرّجوع حينئذٍ إلى الأصل أو العموم، حسب اختلاف المقامات.

فصل: قد عرفت حجيّة ظهور الكلام في تعيين المرام:

___________________________________________

ممكن غير محتاج إليه، ولذا ترقّى(رحمة الله) عن ذلك بقوله: {مع عدم دليل على الترجيح في غير الرّوايات من سائر الأمارات} بيان «غير الرّوايات» أي: إنّ أدلّة الترجيح إنّما هي في الرّوايات المتعارضة، فسائر الأمارات المتعارضة كآيتين أو إجماعين أو ما أشبههما لا دليل لإعمال قواعد الترجيح في ما تعارض منها {فلا بدّ من الرّجوع} في القراءتين المتعارضتين {حينئذٍ} أي: حين إذ قلنا بأنّها من باب الأمارات الطريقيّة الّتي لا دليل لإعمال الترجيح فيها {إلى الأصل} العملي من براءة واستصحاب واحتياط وتخيير {أو العموم} والإطلاق {وحسب اختلاف المقامات} فإن كان عموم أو إطلاق فهو المرجع وإلّا الأصل العملي.

نعم، قد يقع الاشتباه في المرجع هل هو الأصل أو العموم، مثلاً: في مورد الكلام وهو آية {وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ}(1)، إذا نظفت من الدم ولم تغتسل هل المرجع عموم قوله - تعالى - : {نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡفَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ}(2)، أم استصحاب حالة الدم أم البراءة؟

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الأقوى عندنا إنّما هو القراءة المتعارفة قراءة واستدلالاً وتمسّكاً، فلا يصل الكلام إلى هذه الأُمور.

[فصل طرق إحراز الظهور]

المقصد السّادس: في الأمارات، طرق إحراز الظهور

{فصل} في بعض الأُمور المرتبطة بالظهور {قد عرفت حجيّة ظهور الكلام في تعيين المرام} فلو كان للّفظ ظهور في معنى ولم تنصب قرينة على خلاف ذلك

ص: 401


1- سورة البقرة، الآية: 222.
2- سورة البقرة، الآية: 223.

فإن أُحرز بالقطع، وأنّ المفهوم منه جزماً - بحسب متفاهم أهل العرف - هو ذا، فلا كلام.

وإلّا، فإن كان لأجل احتمال وجود قرينة، فلا خلاف في أنّ الأصل عدمها.

لكن

___________________________________________

الظاهر وجب الأخذ به، لكن لا بدّ من إحراز الظهور بالقطع، يعني نعلم أنّ هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى حتّى نستكشف المراد من الظاهر.

والحاصل: أنّ هنا مقامين: الأوّل: كون اللفظ ظاهراً في معنى، الثّاني: كون هذا الظاهر مراد المتكلّم. واللّازم إحراز المقام الأوّل بالقطع {فإن أُحرز بالقطع، و} ذلك بأن علم {أنّ المفهوم منه} أي: من الكلام {جزماً بحسب متفاهم أهل العرف هو ذا} المعنى {فلا كلام} في جواز استنباط مراد المولى من هذا الظاهر المقطوع ظهوره {وإلّا} يحرز الظهور بالقطع بأن شككنا في الظهور ولم نعلم هل هذا الكلام الملقى إلى العبد ظاهر في المعنى الكذائي أم لا، فمنشأ الشّكّ لا يخلوعن أحد أُمور:

الأوّل: أن يكون اللفظ ظاهراً في المعنى لكن يشكّ في الظهور لاحتمال وجود قرينة عقليّة أو لفظيّة.

الثّاني: أنّ الشّكّ في قرينيّة الموجود.

الثّالث: أن يشكّ في الموضوع له اللفظ هل هو هذا المعنى أم ذاك.

{فإن كان} الشّكّ بالسبب الأوّل، أي: {لأجل احتمال وجود قرينة} في المقام صارفة عن الظاهر ظهوره {فلا خلاف في أنّ الأصل عدمها} وذلك لأنّه لو فتح هذا الباب انسدّ باب التمسّك بالظاهر؛ لأنّه قلّما يكون ظاهر لا يحتمل وجود قرينة عقليّة أو فعليّة صارفة للظاهر.

{لكن} لا يخفى أنّ في المقام خلافاً، وهو هل أنّ العمل بالظاهر في مورد

ص: 402

الظاهر أنّه معه يبنى على المعنى الّذي لولاها كان اللفظ ظاهراً فيه ابتداءً، لا أنّه يبنى عليه بعد البناء على عدمها، كما لا يخفى، فافهم.

وإن كان لاحتمال قرينيّة الموجود، فهو وإن لم يكن بخالٍ عن الإشكال - بناءً على حجيّة أصالة الحقيقة من باب التعبّد - ،

___________________________________________

يحتمل وجود القرينة فيه إنّما يستند إلى أصالة الظهور فقط أم يستند إلى أصلين: الأوّل: أصالة عدم القرينة، والثّاني: أصالة الظهور؟ ذهب بعض إلى الثّاني وأنّه في مورد محتمل القرينة لا بدّ من إجراء أصلين، والمصنّف وغيره على الأوّل وأنّ {الظاهر} لدى أهل المحاورة {أنّه} أي: الشّأن {معه} أي: مع احتمال وجود القرينة {يبنى على المعنى الّذي لولاها}أي: لولا القرينة {كان اللفظ ظاهراً فيه ابتداءً} أي: البناء على أصالة الظهور ابتدائي، وهذه الأصالة هي الّتي تعيّن المعنى {لا أنّه يبنى عليه} أي: على المعنى {بعد البناء على عدمها} أي: على عدم القرينة، إذ العرف إنّما يفهم من الأمر مثلاً، الوجوب، لأصالة الظهور، لا لأصالة عدم القرينة، فإذا قيل لهم: لم حملت الأمر على الوجوب؟ قال: لأنّه ظاهر فيه، ولم يقل: لأنّ الأصل عدم القرينة {كما لا يخفى} لمن تدبّر قليلاً {فافهم} لعلّه إشارة أنّ أصالة عدم القرينة من المرتكزات العرفيّة، والعرف وإن لم يعرف ذلك تفصيلاً إلّا أنّ الارتكاز كافٍ في كونه مستنداً.

{وإن كان} الشّكّ في الظهور بالسبب الثّاني، أي: {لاحتمال قرينيّة الموجود} بأن كان اللفظ الظاهر في المعنى مكتنفاً بشيء يحتمل أن يكون قرينة صارفة عن ظهور الظاهر، كما لو كان الأمر واقعاً عقيب الحظر فإنّ الوقوع عقيب الحظر محتمل للقرينيّة، بأن يكون صارفاً عن ظهور الأمر في الوجوب {فهو وإن لم يكن بخالٍ عن الإشكال} للشكّ في أنّ مستند العقلاء في التمسّك بالظواهر هل يكون {بناءً على حجيّة أصالة الحقيقة من باب التعبّد} حتّى أنّ العقلاء يحملون كلّ لفظ

ص: 403

إلّا أنّ الظاهر أن يعامل معه معاملة المجمل.

وإن كان لأجل الشّكّ في ما هو الموضوع له لغة، أو المفهوم منه عرفاً، فالأصلُ يقتضي عدم حجيّة الظنّ فيه؛

___________________________________________

على معناه الحقيقي تعبّداً - أي: وإن لم يكن اللفظ ظاهراً فيه - فكأنّه تعبّد منالعقلاء في الحمل على المعنى الحقيقي ما لم يظهر خلافه، أم يكون بناءً على حجيّة أصالة الظهور وأنّه ليس في المقام تعبّد من العقلاء، بل العقلاء يحملون اللفظ على معناه الحقيقي إذا كان ظاهراً فيه.

أمّا إذا شكّ في الظهور - لاكتناف الكلام بما يحتمل القرينيّة - فلا تعبّد منهم في الحمل على المعنى الحقيقي، فإن كان الأوّل لم يعتن بالقرينة المحتملة وأُخذ بالظاهر، وإن كان الثّاني لم يؤخذ بالظاهر للشكّ فيه.

{إلّا أنّ الظاهر} من موارد الاستدلال {أن} يكون بناء العقلاء هو الثّاني وأنّهم إنّما يأخذون بالظاهر تحكيماً لأصالة الظهور لا استناداً إلى التعبّد، وعلى هذا {يعامل معه} أي: مع هذا الكلام عند احتمال قرينيّة الموجود {معاملة المجمل} فلا يؤخذ بظاهره {وإن كان} الشّكّ في الظهور بالسبب الثّالث، أي: {لأجل الشّكّ في ما هو الموضوع له لغة} بأن لم يعلم الموضوع له اللفظ، كما لو لم يعلم المعنى اللغوي للصعيد أو الوطن أو الإناء أو ما أشبهها.

{أو} كان لأجل الشّكّ في ما هو {المفهوم منه عرفاً} مع العلم بالمعنى اللغوي، كما لو ورد وجوب نزح كذا دلواً لموت الدابّة، ولم يعلم أنّ المعنى العرفي من الدابّة هو الحمار أو الفرس بعد العلم بأنّ معناها اللغوي كلّ ما يدبّ على وجه الأرض، {فالأصل يقتضي عدم حجيّة الظنّ فيه} لما تقدّم من وجوب إحراز الصّغرى بالقطع، والصّغرى هي قولنا: (هذا ظاهر) حتّى تحمل عليها الكبرى وهو قولنا: (كلّ ظاهر حجّة) فإذا لم تتمّ الصّغرى - بأن لم نعلم علماً قطعيّاً

ص: 404

فإنّه ظنّ في أنّه ظاهر، ولا دليل إلّا على حجيّة الظواهر.نعم، نسب إلى المشهور(1)

حجيّة قول اللغوي - بالخصوص - في تعيين الأوضاع.

واستدلّ لهم باتفاق العلماء - بل العقلاء - على ذلك، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله

___________________________________________

بأنّ اللفظ ظاهر في المعنى الفلاني - لم تتمّ الكبرى {فإنّه ظنّ في أنّه ظاهر ولا دليل إلّا على حجيّة الظواهر} المعلومة كونها ظاهرة.

{نعم} ربّما يقال بحجيّة بعض الظواهر المشكوكة لبعض الأدلّة الخارجيّة، فإنّه {نسب إلى المشهور حجيّة قول اللغوي بالخصوص} أي: بما هو قول اللغوي من باب الظنّ الخاصّ لا من باب الظنّ المطلق الانسدادي {في} باب {تعيين الأوضاع} فإذا قال اللغوي: إنّ معنى الصّعيد كذا، أو معنى الغناء كذا، ثبت المعنى بمجرّد قول اللغوي، من غير فرق بين إفادة قوله للظنّ وعدمها، إذ الحجيّة من باب الظنّ النّوعي - أي: أنّ نوع النّاس يحصل لهم من قول اللغوي الظنّ - وعليه فهو حجّة وإن حصل الظنّ على خلافه.

والحاصل: أنّه إن حصل القطع أو الاطمئنان العادي من قول اللغوي أو اجتمع فيه ما يعتبر في باب الشّهادة من العدد والعدالة فلا إشكال في التمسّك بقوله، وليس ذلك من باب أنّه قول اللغوي، بل من باب حصول القطع الّذي هو حجّة بنفسه وكذا الاطمئنان، أو من باب حصول شرائط الشّهادة الموجبة لحجيّة متعلّقها.

وأمّا إذا لم يحصل شيء من الأُمور المذكورة - بأن شكّ أو ظنّ على خلافه - فالمشهور حجيّة قوله أيضاً.{واستدلّ لهم باتفاق العلماء} قولاً وعملاً {بل} اتفاق {العقلاء على ذلك} أي: على الأخذ بقول اللغوي بمجرّده {حيث لا يزالون يستشهدون بقوله} أي: بقول

ص: 405


1- فرائد الأصول 1: 173.

في مقام الاحتجاج، بلا إنكار من أحد، ولو مع المخاصمة واللجاج.

وعن بعض دعوى الإجماع على ذلك.

وفيه: أنّ الاتّفاق - لو سلّم اتفاقه - فغيرُ مفيدٍ.

مع أنّ المتيقّن منه هو الرّجوع إليه مع اجتماع شرائط الشّهادة من العدد والعدالة. و

___________________________________________

اللغوي {في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد، ولو} كان الاستدلال {مع المخاصمة واللجاج} في البحث، فإنّه لو تنازع اثنان في أنّ الصّعيد هل هو مطلق وجه الأرض، أو التراب فقط، فقال أحدهما بالأوّل ثمّ تحاكما إلى اللغة وخرج المعنى ممّا يؤيّد أحدهما اقتنع الآخر، وليس ذلك إلّا لارتكاز حجيّة قول اللغوي، فإنّه لو لم يكن حجّة لم يكن وجه للتحاكم إليه ولا لاقتناع الخصم.

{وعن بعض} وهو السّيّد المرتضى(قدس سره)(1) {دعوى الإجماع على ذلك} أي: على حجيّة قول اللغوي.

أقول: المشهور هو المختار، وما ذكر له من الأدلّة لا بأس بها ومناقشات المصنّف(رحمة الله) فيها تبعاً للشيخ(رحمة الله) محلّ نظر، ولا مجال للتفصيل.

{و} على أيّ حال فالمصنّف على عدم حجيّة قول اللغوي بما هو هو لعدم تماميّة الدليل المتقدّم، إذ {فيه أنّ الاتفاق} من العلماء على الحجيّة- كما ادّعي - {لو سلّم اتفاقه} ولم ننكر أصل الاتفاق، ووجه الإنكار أنّهم إنّما اتفقوا على الأخذ بقول اللغوي في ما أورث القطع أو الاطمئنان لا مطلقاً {فغيرُ مفيدٍ} إذ لا دليل على حجيّة مثل هذا الاتفاق {مع أنّ المتيقّن منه} أي: من الاتفاق {هو الرّجوع إليه} أي: إلى قول اللغوي {مع اجتماع شرائط الشّهادة من العدد} بأن يكون اللغوي اثنين {والعدالة}.

أقول: لا يخفى أنّ سيرة العقلاء حتّى المتشرّعة منهم ليست على ذلك {و}

ص: 406


1- راجع مفاتيح الأصول: 61؛ وفرائد الأصول 1: 174.

الإجماع المحصّل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصاً في مثل المسألة، ممّا احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجلّ - لولا الكلّ - هو اعتقاد أنّه ممّا اتفق عليه العقلاء، من الرّجوع إلى أهل الخبرة من كلّ صنعة في ما اختصّ بها.

والمتيقّن من ذلك إنّما هو في ما إذا كان الرّجوع موجباً للوثوق والاطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل

___________________________________________

أمّا {الإجماع} الّذي ادّعاه السّيّد ف- {المحصّل} منه {غير حاصل} لأنّا لم نظفر بأقوال جميع العلماء على ذلك، بل رأينا في كلام بعض العلماء - كالشيخ وغيره - خلاف ما ذكره السّيّد {والمنقول منه} أي: من الإجماع {غير مقبول} لعدم دليل على حجيّة الإجماع المنقول، كما سيأتي في مبحث الإجماع {خصوصاً في مثل} هذه {المسألة} الّتي يحتمل استناد الإجماع إلى دليل آخر.وقد تقرّر في مبحث الإجماع أنّ الإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجّة وإنّما اللّازم مراجعة المستند المحتمل، وهذه المسألة لو سلّم الإجماع فيها لا يمكن الاستناد إلى الإجماع؛ لأنّه {ممّا احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجلّ لولا الكلّ هو اعتقاد أنّه ممّا اتفق عليه العقلاء} فيكون الإجماع {من} جهة بناء العقلاء على {الرّجوع إلى أهل الخبرة من كلّ صنعة} وحيث إنّ اللغوي من أهل الخبرة لمعاني الألفاظ رجعوا إليه {في ما اختصّ بها} الضّمير يعود إلى «ما» الّذي يكون المراد به «الصّنعة».

والحاصل: أنّه لا إشكال في حجيّة قول أهل الخبرة، فتوهّم أنّ اللغوي من أهل الخبرة ولذا يرجعون إليه.

{و} فيه أوّلاً: منع الكبرى بأنّ {المتيقّن من ذلك} أي: من رجوع العقلاء إلى أهل الخبرة {إنّما هو في ما إذا كان الرّجوع موجباً للوثوق والاطمئنان} وليس رجوعهم إلى أهل الخبرة مطلقاً {ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل}

ص: 407

لا يكون اللغوي من خبرة ذلك، بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال؛ بداهة أنّ همّه: ضبط موارده، لا تعيين أنّ أيّاً منها كان اللّفظ فيه حقيقة أو مجازاً، وإلّا لوضعوا لذلك علامةً. وليس ذكره أوّلاً علامة كون اللفظ حقيقةً فيه؛ للانتقاض بالمشترك.

___________________________________________

يكون قول اللغوي مهيّئاً للوثوق لدى تراكم الأقوال وتتبّع موارد الاستعمال.وثانياً: منع الصّغرى، إذ {لا يكون اللغوي من خبرة ذلك} أي: خبرة الوضع {بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أنّ همّه} أي: همّ اللغوي {ضبط موارده} أي: موارد الاستعمال {لا تعيين أنّ أيّاً منها} أي: من الاستعمالات {كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازاً، وإلّا} فلو كان همّ اللغوي تعيين الحقيقة والمجاز {لوضعوا لذلك علامة} والحال أنّهم لم يصنعوا كذلك، بل يسردون المعاني سرداً سواء كانت معاني حقيقيّة أم مجازيّة.

{و} إن قلت: لعلّ ذكر المعنى في أوّل المعاني علامة الحقيقة.

قلت: {ليس ذكره أوّلاً علامة كون اللفظ حقيقة فيه، ل-} عدم دليل على ذلك من أقوالهم أو سيرتهم، مضافاً إلى {الانتقاض بالمشترك} الّذي يسردون معانيه وكلّها حقيقة.

أقول: لكن الظاهر أنّ كلّاً من الصّغرى والكبرى تامّة، فالعقلاء يرجعون إلى أهل الخبرة مطلقاً إلّا إذا تيقّنوا الخطأ، وها هم العقلاء لا يفرّقون في لزوم الأخذ بقول الخبير بين حصول الوثوق وعدم حصوله، كما أنّ اللغوي مصداق من مصاديق أهل الخبرة، والقول بأنّه من أهل خبرة الاستعمال كافٍ، إذ الاستعمال بلا قرينة كاشف عن الوضع سواء كان تعيينيّاً أم تعيّنيّاً، ولم تجر عادة اللغويّين إلّا بذكر معاني الألفاظ لا ما يستعمل اللفظ فيه مجازاً، ولذا تراهم لا يذكرون من معاني الأسد: الرّجل الشّجاع، وإن كان هذا المجاز من أشهر المجازات وأكثرها دوراً في ألسنة أهل العلم، فالإنصاف حجيّة قول اللغوي.

ص: 408

وكونُ موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن تحصى - لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالباً، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه، وإن كانالمعنى معلوماً في الجملة - لا يوجبُ اعتبار قوله مادام انفتاح باب العلم بالأحكام، كما لا يخفى.

___________________________________________

{و} إن قلت: هب أنّ قول اللغوي ليس بحجّة من باب الظنّ الخاصّ إلّا أنّه حجّة من باب الظنّ المطلق، لانسداد باب العلم بخصوصيّات المعاني، فإذا لم نعتبر قول اللغوي حجّة لزم مخالفة الواقع كثيراً.

قلت: {كون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن تحصى} - وذلك {لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالباً، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه} مثلاً: لا يعلم أنّ الماء الكبريتي داخل في مفهوم الماء المطلق حتّى يكون مطهّراً من الحدث والخبث أم خارج حتّى لا يكون مطهّراً، وهكذا إنّ أرض الجصّ داخل في مفهوم الصّعيد حتّى يجوز التيمّم به أم خارج حتّى لا يجوز، وهكذا المصفاة داخلة في مفهوم الآنية حتّى يحرم كونها من الذهب أم لا، فإنّ هذه الأفراد مشكوكة الدخول والخروج {وإن كان المعنى معلوماً في الجملة} فإنّ مفاهيم الماء والصّعيد والآنية جليّة عند العرف - {لا يوجب} الانسداد في باب اللغة {اعتبار قوله} أي: قول اللغوي وقوله: «لا يوجب» خبر قوله: «وكون»، وإنّما لا يوجب الانسداد حجيّة قول اللغوي {مادام انفتاح باب العلم بالأحكام} يعني أنّ المعيار في حجيّة الظنّ المطلق هو انسداد باب العلم بالأحكام، سواء انفتح باب العلم بسائر الخصوصيّات المرتبطة بالأحكام، كعلم الرّجال وعلم اللغة وما أشبههما، فإذا كان باب العلم بالأحكام مفتوحاً لم يعتبر الظنّ المطلق ولو في ما انسدّ فيه باب العلم، وإذا كان باب العلم بالأحكام منسدّاً اعتبر الظنّ ولو في ما لم ينسدّ فيهباب العلم {كما لا يخفى}.

وجه ذلك: أنّ من مقدّمات العمل بالظنّ المطلق عدم جريان البراءة، لإيجابها

ص: 409

ومع الانسداد كان قوله معتبراً - إذا أفاد الظنّ - من باب حجيّة مطلق الظنّ، وإن فُرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها في ما عدا المورد.

نعم، لو كان هناك دليل على اعتباره، لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً له

___________________________________________

الخروج من الدين، وعدم جريان الاحتياط، لإيجابه العسر والحرج والإخلال بالنظام.

وعلى هذا فإن كان الأخذ بالبراءة أو الاحتياط عند انسداد باب العلم باللغة ممّا يترتّب عليه المحذوران المذكوران فقد تمّت مقدّمات الانسداد في الأحكام وجاز الأخذ بكلّ ظنّ بالحكم، سواء كان ظنّاً في المعنى اللغوي أو وثاقة النّاقل أو غيرهما، وحينئذٍ لا وجه لادّعاء حجيّة قول اللغوي بالخصوص، بل الحجيّة مطلق الظنّ وإن لم يترتّب عليه المحذوران جرت البراءة أو لزم الاحتياط، ويمتنع حينئذٍ الاعتماد على قول اللغوي.

{و} الحاصل: أنّه مع الانفتاح لا حجيّة في قول اللغوي، و{مع الانسداد كان قوله معتبراً إذا أفاد الظنّ من باب حجيّة مطلق الظنّ} الانسدادي {وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها} ف- {في ما عدا المورد} المشكوك يؤخذ بالعلم، وفي المورد المشكوك يؤخذ بالظنّ الانسدادي الحاصل من قول اللغوي، لفرض انسداد باب العلم الموجب لحجيّة مطلق الظن.{نعم} انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات يمكن أن يكون سبباً لجعل الشّارع قوله حجّة، لكن ليس هناك دليل على ذلك الجعل، كما أنّ العقل وحده لا يتمكّن من جعل الحجيّة لقول اللغوي بمجرّد هذا الانسداد، إذ لا يلزم من عدم حجيّة قوله اختلال أو عسر وحرج. وإلى هذا المطلب أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {لو كان هناك دليل على اعتباره} أي: اعتبار قول اللغوي {لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً له} أي: لاعتباره.

ص: 410

على نحو الحكمة، لا العلّة.

لا يقال: على هذا لا فائدة في الرّجوع إلى اللغة.

فإنّه يقال: مع هذا لا يكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها؛ فإنّه ربّما يوجب القطع بالمعنى، وربّما يوجب القطع بأنّ اللفظ في المورد ظاهرٌ في معنىً - بعد الظفر به وبغيره في اللغة - وإن لم يقطع بأنّه حقيقة فيه أو مجاز، كما اتفق كثيراً، وهو يكفي في الفتوى.

___________________________________________

وحقّ العبارة أن يقول: لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً لاعتبار قول اللغوي - لو وجد هناك دليل على الاعتبار - بمعنى اقتضاء الانسداد بتفاصيل اللغات وجود الدليل {على نحو الحكمة، لا العلّة} فيكون الانسداد حكمة لحجيّة قول اللغوي، ولا يلزم من وجود الحكمة وجود المسبّب وليس علّة حتّى يكون اللّازم وجود المسبّب.

{لا يقال: على هذا} الّذي ذكرتم من عدم حجيّة قول اللغوي {لا فائدة في الرّجوع إلى اللغة} وذلك خلافالبديهي من سيرة العقلاء.

{فإنّه يقال: مع هذا} الّذي ذكرتم من عدم حجيّة قول اللغوي {لا يكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها} أي: إلى كتب اللغة، إذ الفائدة ليست منحصرة في الحجيّة {فإنّه} أي: الرّجوع {ربّما يوجب القطع بالمعنى} ففائدة تكون في إيجاده القطع الّذي هو حجّة {وربّما يوجب القطع بأنّ اللفظ في المورد} الكذائي {ظاهر في معنى} خاصّ {بعد الظفر به} أي: بهذا المعنى الخاصّ {وبغيره} من سائر المعاني {في} كتب {اللغة} وهذا الظهور هو المطلوب {وإن لم يقطع بأنّه حقيقة فيه} أي: في هذا المعنى {أو مجاز، كما اتفق كثيراً} بأنّه لم يعرف الحقيقة والمجاز وإن عرف الظهور {وهو} أي: الظهور {يكفي في} مقام {الفتوى} للاستناد إلى الظهور المستفاد من اللغة.

ص: 411

فصل: الإجماع المنقول بالخبر الواحد حجّة عند كثير ممّن قال بحجيّة الخبر بالخصوص، من جهة أنّه من أفراده، من دون أن يكون عليه دليلٌ بالخصوص، فلا بدّ في اعتباره

___________________________________________

ثمّ إنّه ربّما يقال: كيف أنكر المصنّف(رحمة الله) سابقاً حصول الوثوق من قول اللغوي والحال يقول بحصول القطع من قوله؟

والجواب: أنّه لا منافاة، إذ المراد من الكلام السّابق أنّه لا يحصل الوثوق من مجرّد قول لغوي، والمراد من هذا الكلام حصول القطع أحياناً بسبب مراجعة كتب متعدّدة.

أقول: لكنّك قد عرفت عدم تماميّة ما ذكره سابقاً، بل الوثوق النّوعي حاصلمن كلام اللغوي كسائر أهل الخبرة، ومثل هذا الوثوق هو مدار الحجيّة وإن لم يحصل الاطمئنان الشّخصي، ولذا لو ظهر الخصم عدم الوثوق باللغة في ما وافقت خصمه عدّ ذلك فراراً وتعلّلاً في غير محلّه.

[فصل حجّيّة إجماع المنقول]

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، حجيّة إجماع المنقول

{فصل} ومن الظنون الخاصّة الّتي ادّعي حجيّتها بالخصوص فخرجت من عموم حرمة العمل بالظنّ {الإجماع المنقول بالخبر الواحد} كما لو ادّعى الشّيخ أو العلّامة أو الشّهيد - رحمهم اللّه - في مسألةٍ الإجماعَ، فيجوز الاستناد إليه في إثبات الحكم الشّرعي وإن لم نحقّق نحن بأنفسنا ذلك، فهو {حجّة عند كثير ممّن قال بحجيّة الخبر} الواحد {بالخصوص} لا من باب الظنّ المطلق الانسدادي، وإنّما كان حال الإجماع حال خبر الواحد عند القائل بحجيّة الخبر {من جهة أنّه} أي: الإجماع المنقول {من أفراده} أي: من أفراد الخبر {من دون أن يكون عليه} أي: على الإجماع المنقول {دليل بالخصوص} إذ لا دليل من كتاب أو سنّة أو عقل على حجيّة الإجماع المنقول {فلا بدّ في اعتباره} أي: اعتبار الإجماع المنقول

ص: 412

من شمول أدلّة اعتباره له، بعمومها أو إطلاقها.

وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أُمور:

الأوّل: أنّ وجه اعتبار الإجماع هو: القطع برأي الإمام(علیه السلام).

ومستند القطع به لحاكيه - على ما يظهر من كلماتهم - هو: علمه بدخوله(علیه السلام) في المجمعين شخصاً، ولم يعرف عيناً، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه(علیه السلام) عقلاً منباب اللطف،

___________________________________________

{من شمول أدلّة اعتباره} أي: اعتبار الخبر الواحد {له} أي: للإجماع المنقول {بعمومها أو إطلاقها} الضّميران يعودان إلى أدلّة اعتبار الخبر.

{وتحقيق القول فيه} أي: في وجه حجيّة الإجماع {يستدعي رسم أُمور} ثلاثة:

[الأمر الأوّل]

{الأوّل: أنّ} الإجماع ليس بحجّة بما هو إجماع حتّى يكون في عرض الأدلّة الثّلاثة الأُخرى: الكتاب، والسّنّة، والعقل، وإنّما {وجه اعتبار الإجماع هو القطع برأي الإمام(علیه السلام)} أو معصوم آخر عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) والصّدّيقة(علیها السلام)، بل سائر الأنبياء، وإن كان الأخير نادراً جدّاً لو فرض وجوده {ومستند القطع به} أي: برأي الإمام {لحاكيه} أي: حاكي الإجماع {على ما يظهر من كلماتهم} أحد أُمور أربعة: الدخول، واللطف، والحدس، والتشرّف.

فالأوّل: {هو علمه} أي: علم حاكي الإجماع {بدخوله(علیه السلام) في المجمعين شخصاً ولم يعرف عيناً} إذ لو عرفه عيناً كان ذلك من باب الخبر لا من باب الإجماع، وذلك في ما لو علم أنّ الإمام داخل في هؤلاء الأعلام المجتمعين في محلّ خاصّ وكلّهم أفتوا بحكم، فإنّه يعلم بدخول الإمام في الإفتاء حينئذٍ.

والثّاني: من أسباب قطع الحاكي للإجماع ما أشار إليه بقوله: {أو قطعه} أي: قطع الحاكي للإجماع {باستلزام ما يحكيه لرأيه(علیه السلام) عقلاً من باب اللطف} فلو اتفق

ص: 413

أو عادة، أو اتفاقاً من جهة الحدس برأيه، وإن لم تكن ملازمة بينهما عقلاً ولا عادة،

___________________________________________

أهل عصر على فتوى وكان حكم اللّه - تعالى - مخالفاً لذلك الرّأي وجب على الإمام إبداء الخلاف؛ لأنّه لو لم يظهر الخلاف لم يكن اللّه - تعالى - مقرّباً إلى طاعته ومبعّداً عن معصيته، والحال أنّ التقريب إلى الطاعة والتبعيد عن المعصية ببيان الأحكام للأنام لطف واجب عليه - سبحانه - كما استدلّ بهذا الدليل لإرسال الرّسل ونصب الأئمّة(علیهم السلام) فإذا اتفق أهل العصر على رأيٍ واحدٍ كشف ذلك عن رأي الإمام من باب قاعدة اللطف الّتي هي قاعدة عقليّة كما قرّرت في الكلام، وحجيّة الإجماع من هذه الجهة إنّما هو على مبنى الشّيخ(رحمة الله) وأتباعه.

والثّالث: من أسباب قطع الحاكي للإجماع ما أشار إليه بقوله: {أو} قطعه باستلزام ما يحكيه لرأي الإمام(علیه السلام) {عادة أو اتفاقاً من جهة الحدس برأيه} والحدس، هو العلم الحاصل من غير طريق الحواس الظاهرة، فيقال في تقرير وجه الحدس، إنّ العلماء الّذين يتقيّدون بالشرع ولا يخالفونه قيد شعرة إذا اجتمعوا على أنّ الحكم الكذائي هو حكم اللّه - تعالى - انتقل الذهن من هذا الإجماع إلى أنّ الإمام(علیه السلام) موافق لهم، وإلّا لم ينسبوا هذا الحكم إلى الشّرع، كما أنّ التلاميذ الّذين يتقيّدون برأي أستاذهم إذا رأيناهم اجتمعوا على رأيٍ انتقل الذهن بنا من رأيهم هذا إلى أنّه رأي أُستاذهم.

والفرق بين العادة والاتّفاق أنّ الأوّل غالبي - بمعنى أنّه معتاد عند النّاس - والثّاني أحياني {وإن لم تكن ملازمة بينهما} أي: بين الإجماع وبين رأي الإمام {عقلاً} لعدم قولنا باللطف {ولا عادة} ولامنافاة بين الحدس عادةً وعدم الملازمة عادةً، إذ التلازم وليد علّيّة أو اشتراك في العلّيّة، ولا نريد أن نقول بعلّيّة قول الإمام للإجماع ولا كونهما معلولين لعلّة ثالثة، وإنّما نريد أن نقول: إنّ عادة النّاس جرت باستكشاف رأي الإمام من رأي المجمعين حدساً، كما لا يخفى.

ص: 414

كما هو طريقة المتأخّرين في دعوى الإجماع، حيث إنّهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقليّة ولا الملازمة العادية غالباً، وعدمِ العلم بدخول جَنَابه(علیه السلام) في المجمعين عادةً، يحكون الإجماع كثيراً.

___________________________________________

ثمّ إنّ استكشاف رأي الإمام من الإجماع بطريق الحدس هو الأقرب في غالب الإجماعات {كما هو طريقة المتأخّرين في دعوى الإجماع، حيث إنّهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقليّة} من باب اللطف - كما كان مبنى الشّيخ وأتباعه رحمهم اللّه - {ولا} الاعتقاد ب- {الملازمة العادية} كما كان مبنى بعض {غالباً} قيد «عدم الاعتقاد» {وعدم العلم بدخول جَنَابه(علیه السلام) في المجمعين عادة} الّذي كان أوّل الأسباب الّتي ذكرناها وجهاً لقطع مدّعي الإجماع {يحكون الإجماع كثيراً} فلا وجه له بالسير والتقسيم إلّا الحدس، إذ الرّابع من الأقسام وهو التشرّف - كما يأتي - ليس قطعاً، فلا بدّ وأن يكون الحدس.

لا يقال: الحدس أيضاً غير تامّ، إذ الغالب وجود دليل لفظي أو عقلي في المسألة، فلعلّ مستندهم هذا الدليل، وإذا جاء هذا الاحتمال لم يكن وجه لأن نجعل هذه الإجماعات من باب الحدس.

لأنّا نقول: قد تقرّر في محلّه أنّ الإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجّة، فإذاكان هناك إجماع ولم يكن محتمل الاستناد - بأن لم يكن في المسألة دليل أصلاً ولم يكن أحد الوجوه المذكورة من اللطف والتشرّف والدخول محتملاً - كان اللّازم القول بأنّ الحجيّة من باب الحدس، لكن الإنصاف أنّه لم نجد إجماعاً غير محتمل الاستناد، حتّى أنّ ما يقال - من الإجماع على حرمة نكاح الزاني المخلوقة من مائه، وأنّ المستند هو ذاك؛ لأنّها ليست بنتاً شرعاً حتّى تحرم من باب دخولها في عنوان البنت فلا مستند محتمل للإجماع - قد يتأمّل فيه من جهة الأدلّة الدالّة على حرمة البنت ونحوها، كالأُمّ والخالة والعمّة وأُمّ الزوجة ومن

ص: 415

كما أنّه يظهر ممّن اعتذر عن وجود المخالف بأنّه معلوم النّسب، أنّه استند في دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله(علیه السلام)، وممّن اعتذر عنه بانقراض عصره، أنّه استند إلى قاعدة اللطف، هذا. مضافاً إلى تصريحاتهم بذلك، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم.

___________________________________________

إليهنّ، وما دلّ على أنّ «للعاهر الحجر»(1)

لا يصلح مقيّداً لهذا الإطلاق.

وكيف كان فلو أُريد من اعتقاد المتأخّرين بالإجماع من باب الحدس على سبيل حكاية نظرهم فلا بأس به، وإن أُريد كون الحدس أقرب الوجوه ففيه نظر {كما أنّه يظهر ممّن} يدّعي الإجماع في مسألة فيستشكل عليه بأنّه كيف يدّعي الإجماع والحال أنّ بعض العلماء مخالفون؟ فنراه {اعتذر عن وجود المخالف بأنّه معلوم النّسب} وأنّ معلوم النّسب لا يضرّ بالإجماع؛ لأنّه ليس إماماً قطعاً حتّى يضرّ خروجه عنالمجمعين.

أقول: يظهر ممّن يعتذر هكذا {أنّه استند في دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله(علیه السلام)} وأنّه ممّن يرى حجيّة الإجماع من باب الدخول لا من باب اللطف والحدس والتشرّف {و} كذلك يظهر {ممّن} يدّعي الإجماع، فإذا استشكل عليه وجود المخالف {اعتذر عنه} أي: عن وجود المخالف {بانقراض عصره} أي: قال: إنّ المخالف قد مات ولم يخالف بعده أحد وقد تحقّق الإجماع بعد ذلك المخالف {أنّه استند إلى قاعدة اللطف} إذ شرط اللطف عدم وجود المخالف ولو في عصر واحد، فإذا رأينا مدّعي الإجماع يحاول بيان اتفاق الكلمة في عصر واحد وأنّه لا يبالي بالمخالف في سائر العصور علمنا أنّه يستند في حجيّة الإجماع إلى قاعدة اللطف.

ثمّ إنّ {هذا} الاستكشاف من اعتذاراتهم ليس وحده دليلاً على مشاربهم في وجه حجيّة الإجماع، بل إنّه يدلّ على تلك المشارب {مضافاً إلى تصريحاتهم بذلك على ما يشهد به مراجعة كلماتهم} المذكورة في باب الإجماع.

ص: 416


1- الكافي 5: 491.

وربّما يتفق لبعض الأوحدي وجه آخر، من تشرّفه برؤيته(علیه السلام) وأخذه الفتوى من جنابه، وإنّما لم ينقل عنه، بل يحكى الإجماع لبعض دواعي الإخفاء.

الأمر الثّاني: أنّه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع:

فتارةً: ينقل رأيه(علیه السلام) في ضمن نقله حدساً - كما هو الغالب -

___________________________________________

{و} الرّابع من أسباب قطع المدّعى للإجماع برأي الإمام(علیه السلام) ما أشار إليه بقوله: {ربّما يتفق لبعض الأوحدي وجه آخرمن تشرّفه برؤيته(علیه السلام)} في زمان الغيبة {وأخذه الفتوى من جنابه} كما ينقل ذلك عن المقدّس الأردبيلي(قدس سره)، بل احتمل مثله في بعض إجماعات السّيّد بحر العلوم - رحمة اللّه تعالى عليه - {وإنّما لم ينقل عنه} (علیه السلام) {بل يحكي الإجماع لبعض دواعي الإخفاء} لما يروى من تكذيب مدّعى الرّؤية في زمان الغيبة، أو لأنّه لو فتح هذا الباب لدخل الطامعون منه وثلموا في الأحكام، ولعلّ هذه الرّواية الآمرة بتكذيب المدّعي إنّما صدرت لهذه المصلحة، فإنّ تكذيب الصّادق في موارد قليلة خير من أن تفتح أبواب الكذب والتزوير في الأحكام الإلهيّة، والأمر بالتكذيب ونحوه لا ينافي صدق المدّعي واقعاً.

والحاصل: أنّ لرواية التكذيب محامل منها هذا الّذي ذكرناه.

[الأمر الثّاني]

{الأمر الثّاني} من الأُمور المرتبطة بالإجماع المنقول فيه طرفان:

الطرف الأوّل: {أنّه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع} وإنّه قد يكون نقلاً للسبب والمسبّب وقد يكون نقلاً للسبب فقط، والمراد بالسبب هو قول العلماء الّذي يكشف عن قول الإمام، والمراد بالمسبّب هو قول المعصوم {فتارة ينقل} السّبب والمسبّب، وذلك بنقل {رأيه(علیه السلام) في ضمن نقله} للإجماع ويكون هذا النّقل لرأي الإمام {حدساً كما هو الغالب} بأن يكون ناقل الإجماع استكشف رأي الإمام(علیه السلام)

ص: 417

أو حسّاً - وهو نادر جدّاً - .

وأُخرى: لا ينقل إلّا ما هو السّبب عند ناقله، عقلاً أو عادةً أو اتفاقاً.

___________________________________________

عن قاعدة اللطف أو التقرير أو الحدس، كما تقدّم أقسامه في الأمر الأوّل، فإنّ هذه الطرق الثّلاثة كلّها غير حسّي، بمعنى أنّه لم يشاهد الإمام(علیه السلام) ولم يشاهد رأيه وإن اطمئنّ بذلك من جهة قاعدة اللطف أو من جهة اتفاق الآراء أو ما أشبه.

{أو} يكون هذا النّقل لرأي الإمام {حسّاً وهو نادر جدّاً} إذ من النّادر أن يكون النّاقل رأى الإمام بعينه يفتي بكذا، أو يكون رأى فتواه(علیه السلام) في ضمن الفتاوى ثمّ نقل الإجماع.

ثمّ إنّ الإجماع هكذا - بأن ينقل السّبب والمسبّب - مثل أن يقول: اتفق المسلمون جميعاً، أو يقول: أجمع علماء المسلمين بعد الرّسول(صلی الله علیه و آله) إلى هذا اليوم، أو يقول: اتفق من يؤخذ برأيه من علماء الإسلام، أو ما أشبه ذلك ممّا يكون شاملاً للإمام(علیه السلام) {وأُخرى لا ينقل إلّا ما هو السّبب عند ناقله} فلا تكون عبارة الإجماع شاملة للمعصوم، بل تشمل من عداه فقط، كأن يقول: اتّفق علماء الإماميّة، أو أجمع علماء الشّيعة، أو ما أشبه ذلك ممّا يكون شاملاً للإمام(علیه السلام).

ثمّ إنّ سببيّة هذا النّقل لقول الإمام على أقسام ثلاثة:

إمّا {عقلاً} بسبب قاعدة اللطف، فيكون قول علماء الشّيعة كاشفاً عن قول الإمام لهذه القاعدة العقليّة.

{أو عادة} بسبب الحدس، فإنّ العلماء الّذين لا يقولون إلّا الحكم الشّرعي إذا اتفقوا على حكم ولم يظهر دليله كشف ذلك حدساً عادياً عن قول الإمام(علیه السلام).

{أو اتفاقاً} إذا لم نقل بقاعدة اللطف ولا قلنا بالحدس لكن كان في المقام قرائن تدلّ على أنّ قول العلماء لا يكون إلّا عن قول الإمام، وكان هذاالاستكشاف من باب الاتفاق.

ص: 418

واختلاف ألفاظ النّقل أيضاً، صراحةً وظهوراً وإجمالاً في ذلك، أي: في أنّه نقل السّبب، أو نقل السّبب والمسبّب.

الأمر الثّالث: أنّه لا إشكال في حجيّة الإجماع المنقول بأدلّة حجيّة الخبر، إذا كان نقله متضمّناً لنقل السّبب والمسبّب عن حسّ،

___________________________________________

{و} الطّرف الثّاني: في ألفاظ النّقل، بمعنى أنّ لفظ النّقل مختلف، وذلك ب- {اختلاف ألفاظ النّقل أيضاً} وهذا عطف على قوله: «اختلاف نقل الإجماع» {صراحة} بأن يكون اللفظ صريحاً في أنّه نقل للسبب والمسبّب، كأن يقول: أجمع جميع الأُمّة من المعصوم وغيره، أو نقل للسبب فقط، كما لو قال: أجمع غير المعصوم من العلماء {وظهوراً} في أنّه نقل للسبب والمسبّب، كما لو قال: أجمعت أُمّة محمّد(صلی الله علیه و آله)، أو نقل للسبب فقط، كما لو قال: أجمع الأصحاب، فإنّه ظاهر في غير الإمام(علیه

السلام) {وإجمالاً} بأن لم يعلم أنّه نقل للأمرين أو نقل للسبب فقط، كما لو قال أجمع فقهاؤنا، ممّا لم يعلم أنّ المراد الفقهاء أعمّ من المعصوم أم الفقهاء غيره(علیه

السلام)، فإنّ نقل الإجماع يختلف {في ذلك، أي: في أنّه نقل السّبب} فقط {أو نقل السّبب والمسبّب} ولا يخفى ترتّب بعض الفوائد على هذه الأقسام الخمسة.

[الأمر الثّالث]

{الأمر الثّالث} من الأُمور المرتبطة بالإجماع المنقول في بيان موارد حجيّة الإجماع المنقول {أنّه لا إشكال في حجيّة الإجماع المنقول ب-} عين {أدلّة حجيّة الخبر}الواحد، فما دلّ على حجيّة الخبر الواحد من الآيات والرّوايات والسّيرة وبناء العقلاء يدلّ على حجيّة الإجماع المنقول {إذا كان نقله} أي: نقل الإجماع {متضمّناً لنقل السّبب والمسبّب} وكان ذلك {عن حسّ} من النّاقل.

كما لو قال الصّدوق(رحمة الله) - مثلاً - : إنّ على مسألة كذا إجماع علماء الإسلام من المعصوم وغير المعصوم وحصل ذلك لي بالحس، فإنّ هذه الدعوى متضمّنة

ص: 419

لو لم نقل بأنّ نقله كذلك في زمان الغيبة موهون جدّاً.

وكذا إذا لم يكن متضمّناً له، بل كان ممحّضاً لنقل السّبب عن حسّ، إلّا أنّه كان سبباً بنظر المنقول إليه أيضاً - عقلاً أو عادة أو اتفاقاً - ، فيعامل حينئذٍ مع المنقول معاملة المحصّل، في الالتزام بمسبّبه،

___________________________________________

لنقل السّبب الّذي هو إجماع العلماء والمسبّب الّذي هو قول الإمام، وهذا النّقل عن حسّ وليس بحدس.

ووجه شمول أدلّة الخبر الواحد لهذا أنّه نقل لقول المعصوم، فيشمله ما يدلّ على حجيّة قول الثّقة {لو لم نقل بأنّ نقله} أي: نقل الإجماع {كذلك} سبباً ومسبّباً عن حسّ {في زمان الغيبة موهون جدّاً} إذ الاطّلاع الحسّي على رأي الإمام(علیه السلام) لا يحصل في هذا الزمان إلّا للنادر جدّاً، فإذا رأينا مثل هذا النّقل في كلام العادي من العلماء لا بدّ وأن نقول إنّه ليس بحسّيّ وإنّما هو حدسيّ.

{وكذا} لا إشكال في حجيّة الإجماع المنقول {إذا لم يكن} النّقل {متضمّناً له} أي: المسبب {بل كان ممحّضاً لنقلالسّبب عن حسّ} كما لو قال: أجمع فقهاء الإماميّة على كذا {إلّا أنّه} ليس حجيّة مثل هذا الإجماع مطلقاً، بل إنّما يكون حجّة إذا {كان سبباً بنظر المنقول إليه أيضاً}.

إذ ليس كلّ عالم يرى الملازمة بين أقوال الفقهاء وقول الإمام(علیه السلام)، فحجيّة مثل هذا الإجماع إنّما هو بالنسبة إلى من يرى الملازمة بين قول الفقهاء وقول الإمام {عقلاً} من باب اللطف {أو عادة} من جهة أنّه يرى التلازم بين قول التلاميذ وقول الأُستاذ، كما تقدّم تقريره {أو اتفاقاً} كما لو حصل للمنقول إليه بعض القرائن الدالّة على أنّه ما لم يقل الإمام ذلك الحكم لم يكن الفقهاء بأجمعهم يذهبون إلى الفتوى به {فيعامل حينئذٍ مع} الإجماع {المنقول معاملة} الإجماع {المحصّل} الّذي حصله المنقول إليه بنفسه {في الالتزام بمسبّبه} أي:

ص: 420

بأحكامه وآثاره.

وأمّا إذا كان نقله للمسبّب لا عن حسّ، بل بملازمة ثابتة عند النّاقل بوجهٍ، دون المنقول إليه، ففيه إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الأدلّة على حجيّته؛ إذ المتيقّن من بناء العقلاء غير ذلك،

___________________________________________

بمسبّب الإجماع الّذي هو قول الإمام {بأحكامه وآثاره} بدل اشتمال عن قوله: «بمسبّبه» أي: في الالتزام بآثار قول الإمام وأحكام قول الإمام المكشوف عن الإجماع.

{وأمّا إذا كان نقله} أي: نقل مدّعي الإجماع {للمسبّب} الّذي هو قول الإمام {لا عن حسّ، بل بملازمة} قول الفقهاء لقول الإمام، وكانت هذه الملازمة {ثابتة عندالنّاقل بوجهٍ دون المنقول إليه} كأن كان النّاقل يرى التلازم بين قول الفقهاء وقول الإمام لقاعدة اللطف مثلاً ولم يكن يرى المنقول إليه هذا التلازم {ففيه} أي: في شمول أدلّه حجيّة الخبر لمثل هذا الإجماع {إشكال} إذ هذا الإجماع ليس نقلاً لقول المعصوم عند المنقول إليه حتّى يشمله دليل حجيّة الخبر الواحد.

لا يخفى أنّه يكفي في الحجيّة عند المنقول إليه أحد وجوه الملازمة وإن كانت غير مطابقة لما عند النّاقل، فلم ير النّاقل التلازم من باب اللطف ورأى المنقول إليه التلازم من باب الحدس أو حصل له التلازم اتفاقاً كفى في حجيّة الإجماع عنده لأنّه - وإن لم ير الحجيّة من ذلك الوجه - لكنّه يرى الحجيّة من وجه آخر {أظهره عدم نهوض تلك الأدلّة على حجيّته} أي: حجيّة الإجماع المنقول الّذي كان غير مستند إلى الحسّ، إذا لم تكن الملازمة ثابتة عند المنقول إليه {إذ المتيقّن من بناء العقلاء غير ذلك} أي: غير الخبر الحدسي، فإنّ العقلاء إنّما يرون حجيّة خبر الثّقة إذا كان عن حسّ، لا ما إذا كان عن حدس، كما في ما نحن فيه.

إذ النّاقل باعتقاده الملازمة بين قول المجمعين وقول الإمام يخبر عن قول الإمام

ص: 421

كما أنّ المنصرف من الآيات والرّوايات - على تقدير دلالتهما - ذلك، خصوصاً في ما إذا رأى المنقول إليه خطأ النّاقل في اعتقاد الملازمة. هذا في ما انكشف الحال.

وأمّا في ما اشتبه الحال، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار؛ فإنّ عمدة أدلّة حجيّة الأخبار هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثّقة إذا علم أنّه عن حسّ، يعملون به في ما يحتمل كونه عن حدس؛ حيث إنّهليس بناؤهم - إذا أُخبروا بشيء - على التوقّف والتفتيش عن أنّه عن حدس أو حسّ، بل العمل على طبقه، والجري على وفقه بدون ذلك.

___________________________________________

ولم يجر بناء العقلاء على اعتبار مثل هذا الخبر {كما أنّ المنصرف من الآيات والرّوايات على تقدير دلالتهما} على حجيّة خبر الواحد {ذلك} الّذي ذكرنا من حجيّة الخبر عن حسّ لا عن حدس {خصوصاً في ما إذا رأى المنقول إليه خطأ النّاقل في اعتقاد الملازمة} كما لو رأى النّاقل الملازمة من باب اللطف بين قول الفقهاء وقول الإمام ورأى المنقول إليه خطأ قاعدة اللطف.

{هذا} كلّه {في ما انكشف الحال} وأنّه نقل لقول الإمام عن حدس أو عن حسّ {وأمّا في ما اشتبه الحال} ولم ندر أنّ النّاقل للإجماع الّذي ينقل رأي الإمام هل هو عن حسّ أو عن حدس {فلا يبعد أن يقال بالاعتبار} وأنّه يصحّ الأخذ بقوله وترتيب آثار قول الإمام على نقله {فإنّ عمدة أدلّة حجيّة الأخبار هو بناء العقلاء} على حجيّة خبر الثّقة {وهم كما يعملون بخبر الثّقة إذا علم أنّه عن حسّ} كذلك {يعملون به} أي: بخبر الثّقة {في ما يحتمل} الأمرين {كونه عن حدس} أو عن حسّ {حيث إنّه ليس بناؤهم إذا أُخبروا بشيء على التوقّف والتفتيش عن أنّه عن حدس أو حسّ} ليأخذ بالثّاني دون الأوّل {بل} استقرّ بناؤهم في هذه الأخبار المحتملة، للأمرين على {العمل على طبقه والجري على وفقه} فيرتّبونالأثر عليه {بدون ذلك} التفتيش.

ص: 422

نعم، لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك، في ما لا يكون هناك أمارة على الحدس، أو اعتقاد الملازمة في ما لا يرون هناك ملازمة، هذا.

لكنّ الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب - غالباً - مبنيّة على حدس النّاقل، أو اعتقادِ الملازمة عقلاً، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أنّ نقل السّبب كان مستنداً إلى الحسّ.

___________________________________________

{نعم} ليس بناء العقلاء على الأخذ بالخبر المحتمل للأمرين مطلقاً، بل {لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك في ما لا يكون هناك أمارة على الحدس} أمّا إذا كان الخبر بحيث يكون مقترناً بالأمارة الدالّة على أنّه حدسيّ لا حسّيّ، فليس بناؤهم على الأخذ به حتّى يحقّقوا عن ذلك {أو} على {اعتقاد الملازمة في ما لا يرون هناك ملازمة} فإذا كان أمارة على أنّ الخبر إنّما صدر لاعتقاد النّاقل بالملازمة ولم ير المنقول إليه الملازمة فليس بناء العقلاء على الأخذ بمثل هذا الخبر حتّى يحقّقوا عن أنّه حدسيّ أو حسّي.

وإذا تحقّق {هذا} الّذي ذكرناه من عدم بناء العقلاء على الأخذ بالخبر المحتمل إذا كان هناك أمارة على الحدس أو أمارة على اعتقاد النّاقل بالملازمة إذا لم ير العقلاء الملازمة نقول: {لكن} ما نحن فيه - وهو الإجماع المنقول المشكوك كونه عن حدس برأي الإمام أو عن حسّ من هذا القبيل - فلا يؤخذ به فإنّ {الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالباً} خصوصاً في ما لم يكن عصر النّاقل مقارناً لعصر الإمام أو غيبته الصّغرى {مبنيّة على حدس النّاقل} من أقوال الفقهاء قولالإمام(علیه السلام) {أو} مبنيّة على {اعتقاد} النّاقل {الملازمة} بين قول الفقهاء وقول الإمام {عقلاً} من باب قاعدة اللطف {فلا اعتبار لها} أي: لتلك الإجماعات عند من لا يعتبر الملازمة العقليّة والحدس {ما لم ينكشف أنّ نقل السّبب كان مستنداً إلى الحسّ} ودون ذلك خرط القتاد، فإنّ أيّ إجماع في زمان الغيبة الكبرى ينكشف فيه أنّ ناقله كشف عن قول الإمام بالدخول أو التشرّف.

ص: 423

فلا بدّ في الإجماعات المنقولة - بألفاظها المختلفة - من استظهار مقدار دلالة ألفاظها، ولو بملاحظة حال النّاقل، وخصوص موضع النّقل، فيؤخذ بذلك المقدار ويعامل معه كأنّه المحصّل، فإن كان بمقدار تمام السّبب،

___________________________________________

وكيف كان، فإذا فرغنا عن بيان أيّ نقل إجماع كاشف عن قول المعصوم وأنّ أيّ إجماع لا يكشف نأتي إلى مقادير دلالة ألفاظ الإجماع وإنّه قد يكون الإجماع المنقول بمقدار كلّ السّبب وقد يكون بمقدار بعض السّبب - مع قطع النّظر عن كاشفيّته عن قول الإمام وعدمه - {فلا بدّ في الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة} ك- «أجمعت أُمّة محمّد» و«أجمع المسلمون» و«أجمع العلماء» و«أجمع فقهاء الإسلام» و«أجمع فقهاء الشّيعة» و«أجمع فقهاء الإماميّة» و«اتفق» و«بلا خلاف» و«عليه جمهرة العلماء» وما أشبه هذه الألفاظ {من استظهار} المنقول إليه {مقدار دلالة ألفاظها} وأنّها هل تدلّ على اتفاق الكلّ أو اتفاق البعض {ولو بملاحظة حال النّاقل} من أنّه من أهل الاطلاع والتتبّع التام لأقوال الفقهاء، أم يعتمد في نقله الإجماع إلى ما يراه فيكتب المشهور، أو يعتمد فيه إلى بعض أُصول وقواعد يظنّ أنّها مسلّم بها عند الجميع، فيدّعي الإجماع استناداً إلى ذلك الأصل أو تلك القاعدة أو نحو ذلك من سرعة اطمئنان النّاقل وبطؤه أو نحو هذه الأُمور ممّا له مدخليّة في إجماعاته المنقولة.

{و} بملاحظة {خصوص موضع النّقل} إذ المسألة المنقول فيها الإجماع قد تكون مسألة كثيرة الدوران في كتب العلماء محتمل ذكرهم جميعهم لها، وقد تكون مسألة لم يذكرها إلّا النّادر لعدم كونها محلّ البحث والدوران {فيؤخذ بذلك المقدار} الّذي استظهر دلالة لفظ الإجماع المنقول عليه {ويعامل معه كأنّه المحصّل} لحجيّة خبرالثّقة الّذي أخبر بذلك المقدار {فإن كان بمقدار تمام السّبب} الكاشف عن قول الإمام(علیه السلام) فقد حصل المنقول إليه على دليل للحكم

ص: 424

وإلّا فلا يجدي ما لم يضمّ إليه - ممّا حصّله، أو نُقِلَ له من سائر الأقوال، أو سائر الأمارات - ما به تمّ، فافهم.

فتلخّص بما ذكرناه: أنّ الإجماع المنقول بالخبر الواحد، من جهة حكايته رأي الإمام - بالتضمّن أو الالتزام - كالخبر الواحد في الاعتبار - إذا كان مَن نقل إليه ممّن يرى الملازمة بين رأيه(علیه السلام)، وما نقله من الأقوال،

___________________________________________

{وإلّا} يكن بمقدار تمام السّبب {فلا يجدي} في الحجيّة {ما لم يضمّ إليه ممّا حصله} هو بنفسه {أو نقل له من سائر الأقوال أو سائر الأمارات ما به تمّ} لفظة «ما» مفعول «يضمّ» أي: إذا حصل هذا الشّخص المنقول له الإجماع أحدأُمور ثلاثة من تحصيله هو بنفسه أقوالاً أخر أو تحصيله نقلاً للأقوال أو تحصيله بعض الأمارات بحيث إذا ضمّه إلى الإجماع المنقول كان كافياً في الاستكشاف عن قول المعصوم كفى في الحجيّة، وإلّا فمجرّد المنقول الّذي لا يستكشف منه قول الإمام ليس بكاف.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى صعوبة ما ذكر، فإنّ هذه التقييدات في حجيّة الإجماع المنقول عبارة أُخرى عن عدم حجيّته، فإنّ أيّ إجماع منقول في كتب الفقهاء تتوفّر فيه هذه الشّروط الّتي ذكرت؟

{فتلخّص بما ذكرناه} أمران:

الأوّل: {أنّ الإجماع المنقول بالخبر الواحد من جهة حكايته} أي: حكاية الإجماع المنقول {رأي الإمام بالتضمّن} إذا كان الإجماع نقلاً للسبب والمسبّب، كما لو قال: أجمعت أُمّة محمّد(صلی الله علیه و آله) المعصوم وغيره {أو الالتزام} إذا كان نقلاً للسبب الّذي يلزمه قول الإمام لقاعدة اللطف أو الحدس أو لازمه اتفاقاً {كالخبر الواحد في الاعتبار} والحجيّة {إذا كان من نقل إليه ممّن يرى الملازمة بين رأيه(علیه السلام) وما نقله من الأقوال} هذا شرط بالنسبة إلى ما كان نقلاً للسبب فقط، أمّا إذا كان

ص: 425

بنحو الجملة والإجمال - وتعمّه أدلّة اعتباره، وينقسم بأقسامه، ويشاركه في أحكامه، وإلّا لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية.

وأمّا من جهة نقل السّبب:

___________________________________________

نقلاً للمسبّب فلا اشتراط، إذ هو نقل صريح لكلام الإمام(علیه السلام).

والحاصل: أنّ نقل السّبب إنّما يفيد المنقول إليه إذا كان يرى أنّ الأقوالالمنقولة {بنحو الجملة} إذ لا يذكر كلّ قول قول {والإجمال} إذ لا يذكر مبيّناً، وإنّما يذكر لفظ (الإجماع) الّذي هو عبارة إجماليّة عن كلّ قول قول تلازم قول الإمام، أمّا إذا كان يرى أنّ تلك الأقوال لا تلازم قول الإمام فلا تفيد {و} حين كان الإجماع - كالخبر الواحد - {تعمّه} أي: تعمّ الإجماع {أدلّة اعتباره} أي: أدلّة اعتبار خبر الواحد {وينقسم} الإجماع المنقول على هذا {بأقسامه} أي: أقسام الخبر من صحيح أعلائي وموثّق وضعيف وما أشبه {ويشاركه} أي: يشارك الإجماع الخبر الواحد {في أحكامه} في وجوب الأخذ به وحكم تعارضه مع إجماع آخر {وإلّا} يكن المنقول إليه يرى الملازمة بين الإجماع ورأي الإمام في ما كان النّاقل إنّما نقل السّبب فقط {لم يكن} الإجماع {مثله} أي: مثل الخبر {في الاعتبار من جهة الحكاية} إذ لم ينقل قول الإمام تضمّناً ولا ملازمة بنظر المنقول إليه، فمن أين الاعتبار؟

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على نقل قول الإمام تضمّناً أو الملازمة بنظر المنقول إليه إنّما يكون حال الإجماع حال الخبر المنقول بالمعنى، مثل أن يفتي المجتهد ثمّ يقول: (وبه رواية صحيحة) حيث إنّه لم ينقل ألفاظ الخبر، وحينئذٍ فاللّازم كون النّاقل ممّن يؤخذ بنقله للمعنى، كما لا يخفى.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأمر الأوّل - وهو حجيّة الإجماع المنقول والأخذ به - {وأمّا} الأمر الثّاني، أي: {من جهة نقل السّبب} وأنّه لو نقل النّاقل الإجماع ولم

ص: 426

فهو - في الاعتبار - بالنسبة إلى مقدار من الأقوال الّتي نقلت إليه على الإجمال بألفاظ نقل الإجماع، مثل ما إذا نقلت على التفصيل، فلو ضُمّ إليه - ممّا حصّله أو نقل له من أقوال السّائرين، أو سائرالأمارات - مقدارٌ كان المجموع منه وما نقل - بلفظ الإجماع - بمقدار السّبب التامّ، كان المجموع كالمحصّل،

___________________________________________

يكن متضمّناً لقول الإمام ولم ير المنقول إليه الملازمة بين الأقوال وبين رأيه(علیه السلام) {فهو} أي: الإجماع {في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الأقوال الّتي نقلت إليه} أي: إلى الشّخص المنقول إليه {على الإجمال} إذ لم تذكر الأقوال تفصيلاً وإنّما ذكرت بلفظ (الإجماع) على سبيل الإجمال {بألفاظ نقل الإجماع} متعلّق بقوله: «نقلت» {مثل ما إذا نقلت على التفصيل} خبر قوله: «فهو» أي: إنّ المنقول إليه يمكن أن يعتمد على هذا النّقل ويكون قول النّاقل: إجماع في المسألة، بمنزلة أن يقول: قال الشّيخ والمفيد والمحقّق والعلّامة والشهيدان الخ {فلو ضمّ إليه} أي: إلى هذا المقدار المنقول {ممّا حصله} نفس المنقول إليه من الأقوال {أو} ممّا {نقل له من أقوال السّائرين، أو} حصل له من {سائر الأمارات مقدار} نائب فاعل «ضمّ»، ووصف قوله: «مقدار» بقوله: {كان} الخ، أي: حصل المنقول إليه بالإضافة إلى الإجماع مقدار آخر من الأقوال بحيث كان {المجموع منه} أي: ممّا حصله بنفسه {و} من {ما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السّبب التام} حينئذٍ {كان المجموع كالمحصّل} جواب «لو ضمّ» إذ حصل بعض السّبب بالخبر المعتبر من ناقل الإجماع وبعض السّبب بتتبّعه بنفسه في سائر الأقوال أو سائر الأمارات.

مثلاً: لو كان المنقول إليه يرى وجوب اتفاق جميع الأُمّة في الاستكشاف عن رأي الإمام، ثمّ رأى الشّهيد نقل الإجماع وتتبّع هو بنفسه فحصل على أقوال منتأخّر من الشّهيد كان ذلك سبباً تامّاً لكشف قول المعصوم، أو لو كان المنقول إليه يرى حجيّة قول جميع الأُمّة في عصر واحد، ثمّ رأى الشّهيد نقل الإجماع وعلم

ص: 427

ويكون حاله كما إذا كان كلّه منقولاً.

ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه، أو ما له دخل فيه، وبه قوامه، كما يشهد به حجيّته بلا ريب في تعيين حال السّائل،

___________________________________________

أنّه لا يحكي أقوال علماء الهند لبعده عنهم، ثمّ تتبّع هو أقوالهم حتّى حصل على جميع الأقوال في عصر واحد، بعضها نقلاً عن الشّهيد، وبعضها وجداناً كان ذلك سبباً لكشفه قول المعصوم.

ومثل ذلك في ما لو ضمّ إلى الإجماع المنقول سائر الأمارات ممّا تتمّ بها حجيّته، كما لو قلنا بأنّ السّيرة المستمرّة بين المسلمين ممّا لم تردع بآراء الفقهاء حجّة لكشفها عن قول المعصوم، فرأينا في المسألة سيرة مستمرّة، ثمّ نقل لنا الإجماع على طبقها، كان الإجماع المنقول المنضمّ إلى السّيرة كاشفاً عن رأي الإمام {ويكون} إجماع الأقوال الّذي نقل بعضها وحصلنا على بعضها {حاله كما إذا كان كلّه منقولاً} أو كلّه محصّلاً.

{و} لا يستشكل بأنّه لا شبه لهذا الإجماع المبعّض في باب الأخبار، إذ ليس هناك خبر بعضه منقول وبعضه مسموع.

لأنّا نقول: {لا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه أو} بعضه من {ما له دخل فيه} أي: في الخبر {وبه} أي: بذاك البعض، والضّمير عائد إلى «ما» {قوامه} أي: قوام الخبر {كما يشهد به} أي: بالذيذكرنا من عدم التفاوت {حجيّته} أي: حجيّة الخبر {بلا ريب في} هذه الموارد:

الأوّل: {تعيين حال السّائل} كما لو أخبر زيد عن الإمام ثمّ أخبرنا عدل أنّ زيداً الواقع في سند هذا الخبر ثقة، أو كان الرّاوي عن الإمام(علیه السلام) محمّد فأخبرنا العدل أنّ محمّداً هذا هو ابن مسلم، أو أخبر الثّقة أنّ البطائني الّذي يروي عن الإمام إنّما روى هذا الخبر في حال استقامته.

ص: 428

وخصوصيّة القضيّة الواقعة المسؤول عنها، وغير ذلك ممّا له دخل في تعيين مرامه(علیه السلام) من كلامه.

وينبغي التنبيه على أُمور:

الأوّل: أنّه قد مرّ: أنّ مبنى دعوى الإجماع - غالباً - هو: اعتقاد الملازمة عقلاً؛ - لقاعدة اللطف - ،

___________________________________________

{و} الثّاني: {خصوصيّة القضيّة الواقعة المسؤول عنها} كما إذا روي النّهي عن أكل لحوم الحمر الأهليّة، ثمّ أخبر الثّقة بأنّ ذلك كان في الغزوة الفلانيّة وإنّما منع لئلّا يقلّ المركوب حين سُئل عن ذلك.

{و} الثّالث: {غير ذلك} كما لو سمع الرّاوي قوله: (أكرم العلماء) ثمّ لم يسمع التتمّة فأخبره ثقة بأنّها كانت (إلّا زيداً) {ممّا له دخل في تعيين مرامه(علیه السلام) من كلامه} فإنّ أدلّة حجيّة الخبر تشمل جميع ذلك وإذا ثبتت الحجيّة في الخبر المبعّض ثبتت في الإجماع المبعّض الّذي بعضه منقول وبعضه محصّل، أو بعضه منقول وبعضه أمارة إذا اجتمعت معه أفاد المجموع الحجيّة.

[تنبيهات]

{وينبغي التنبيه على أُمور} ثلاثة:

الأمر {الأوّل}: في أنّ نقل الإجماع لا يفيد إلّا بالمقدار الّذي يدلّ عليه اللفظ من باب نقل السّبب فقط، أمّا رأي الإمام(علیه السلام) فلا يستكشف من الإجماعات المنقولة، وذلك {أنّه قد مرّ} في الأمر الأوّل من الفصل السّابق {أنّ مبنى دعوى الإجماع غالباً هو} أحد أمرين: {اعتقاد الملازمة عقلاً} بين رأي العلماء ورأي الإمام {لقاعدة اللطف} الّتي هي عبارة عن فعل اللّه - تعالى - كلّ ما هو مقرّب للعبد إلى الطاعة ومبعّد لهم عن المعصية.

بيان ذلك: أنّ الغرض من الخلقة العبادة كما قال - سبحانه - : {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ

ص: 429

وهي باطلة،

___________________________________________

وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ}(1)، والعبادة لا تتحقّق إلّا بإرشاد اللّه - سبحانه - إلى مواقع الأمر والنّهي، فإذا كان الغرض ذلك - والمفروض أنّ العقل لا يدرك تلك المواقع - لزم على اللّه - سبحانه - بمقتضى الحكمة هداية العباد إليها، فإذا لم يفعل كان نقضاً للغرض وهو قبيح على الحكيم إذاً، فإذا اتفقت العلماء على شيء وكان حكم اللّه خلافه لزم بمقتضى قاعدة اللطف أن ينبّه اللّه - سبحانه - العباد على الحقّ، ولا يكون ذلك إلّا بإيجاد الخلاف بينهم حتّى يكون مجال للواقع ولا يضلّ العباد، فإذا لم يفعل ذلك كشف عن أنّه يطابق الحكم الواقعي.

وقد يرتّب القياس هكذا: لو اتفق آراء العلماء على حكم لزم إمّا مطابقته لحكم اللّه الواقعي وإمّا بطلان قاعدة اللطف، لكن قاعدة اللطف صحيحة، فالحكم المتّفق عليه هوحكم اللّه الواقعي.{و} هذه القاعدة وإن كانت {هي} صحيحة في الجملة، إذ لولاها لزم العبث القبيح المستحيل في حقّه - سبحانه - لكنّها في المقام {باطلة} إذ القاعدة لا تدلّ على أكثر من وجوب إرشاد اللّه - سبحانه - عباده في الجملة حتّى لا يلزم نقض الغرض، إمّا أن تكون القاعدة عامّة بحيث تقتضي كلّ إرشاد فلا، للنقض أوّلاً لمن لم تتمّ عليه الحجّة، كما في كثير من أهل البلاد البعيدة، ومن يموت في الفترة بين الرّسل.

وثانياً: بأنّ إلقاء الخلاف لا يكفي في هداية الكلّ، إذ العلماء المخالفون ومن يأخذ برأيهم لا يرون الرّأي الواقعي، وأيّ فرق بين وقوع الجميع في الخلاف وبين وقوع البعض؟ ولو كانت قاعدة اللطف عامّة لزم عدم إرشاد الكلّ لا البعض.

وثالثاً: بأنّ الإجماعين في عصرين يخالف أحدهما الآخر ممّا يوجد في الفقه، فما يقال في ذلك يقال بالنسبة إلى الإجماع في العصر الواحد.

ص: 430


1- سورة الذاريات، الآية: 56.

- أو اتفاقاً؛ - بحدس رأيه(علیه السلام) من فتوى جماعة - ، وهي غالباً غير مسلّمة.

وأمّا كون المبنى: العلمَ بدخول الإمام بشخصه في الجماعة، أو العلم برأيه؛ - للاطّلاع بما يلازمه عادة من الفتاوى - ، فقليل جدّاً في الإجماعات المتداولة في ألسنة الأصحاب، كما لا يخفى.

___________________________________________

وبالجملة: إنّ القاعدة وإن كانت صحيحة في الجملة لكنّها لا تعمّ ما نحن فيه، أمّا ما عن بعض من الإشكال في القاعدة الكليّة، فكأنّه ناشٍ عن عدم وضوح مراد القائلين بها لديهم.

وكيف كان، فمبنى دعوى الإجماع غالباً إمّا اعتقاد الملازمة عقلاً الّتي عرفت حالها {أو} اعتقاد الملازمة {اتّفاقاً} وذلك {بحدس رأيه(علیه السلام) من فتوى جماعة} من الفقهاء، كما تقدّم وجه الحدس {وهي} أي: الملازمة الاتفاقيّة النّاشئة عن الحدس {غالباً غير مسلّمة} إذالحدس الّذي يراد به هنا هو الحدس القطعي الّذي هو من أسباب البرهان، كالحدس باكتساب نور القمر من نور الشّمس، كما تقرّر في المنطق.

ومثل هذا الحدس نادر جدّاً في ما نحن فيه، إذ مع هذه الاستنادات الموجودة في مختلف أبواب الفقه كيف يمكن أن نقطع بأنّ فتوى المجمعين ليس إلّا لفتوى الإمام؟ مع أنّ الغالب أنّا نرى استنادهم - قدّس اللّه أسرارهم - إلى الأصول اللفظيّة أو العمليّة في الأحكام الّتي لا دليل صريح فيها.

{وأمّا كون المبنى} للذي يدّعي الإجماع {العلم بدخول الإمام بشخصه في الجماعة} المفتين المعبّر عنه بالإجماع الدخولي {أو} كون مبنى مدّعي الإجماع {العلم برأيه} (علیه السلام) {للاطّلاع بما يلازمه} أي: ما يلازم رأي الإمام {عادة من الفتاوى} بيان «ما» والفرق بين هذا الوجه والوجه السّابق الّذي ذكره بقوله: «أو اتفاقاً بحدس رأيه» الخ، أنّ هذا حدس عادي وذلك حدس اتفاقي {فقليل جدّاً في الإجماعات المتداولة في ألسنة الأصحاب، كما لا يخفى} على من راجع كلماتهم

ص: 431

بل لا يكاد يتّفق العلم بدخوله(علیه السلام) على نحو الإجمال في الجماعة في زمان الغيبة، وإن احتمل تشرّف بعض الأوحدي بخدمته ومعرفته أحياناً.

فلا يكاد يجدي نقل الإجماع إلّا من باب نقل السّبب، بالمقدار الّذي أُحرز من لفظه، بما اكتنف به من حال أو مقال، ويعامل معه معاملة المحصّل.

___________________________________________

واطّلع على مواضع دعواهم للإجماع.{بل لا يكاد يتّفق العلم بدخوله(علیه السلام) على نحو الإجمال} لعدم معرفة شخصه وإن عرف أنّه(علیه السلام) فيهم {في الجماعة} المفتين لهذه الفتوى {في زمان الغيبة وإن احتمل} وجود القسم الخامس من الإجماع في زمان الغيبة، وذلك ب- {تشرّف بعض الأوحدي بخدمته} (علیه السلام) {ومعرفته أحياناً} كما تقدّم نقله بالنسبة إلى الأردبيلي وبحرالعلوم قدس سرهما.

{ف-} على هذا الّذي ذكرنا من قلّة الأقسام أو استحالة بعضها بالنسبة إلى المسبّب الّذي هو رأي الإمام {لا يكاد يجدي نقل الإجماع إلّا من باب نقل السّبب بالمقدار الّذي أُحرز من لفظه} أي: من لفظ النّقل، فالشخص المنقول إليه الإجماع يكون كأنّه هو الّذي تتبّع أقوال الفقهاء، فإذا كان الإجماع المنقول {بما اكتنف به من حال أو مقال} يدلّان على مقدار الأقوال الّتي يكون هذا الإجماع مرآة لها، مثل مرآة لأقوال مائة من الفقهاء فكأنّ المنقول إليه حصل بنفسه على أقوال مائة من الفقهاء {ويعامل معه} أي: مع هذا الإجماع {معاملة المحصّل} فإن أفاد شيئاً فهو، وإلّا فلا يكشف عن قول المعصوم الّذي هو مدار الحجيّة.

نعم، إذا قام الإجماع على أحد الخبرين المتعارضين أو قلنا باطّراد العلّة في قوله(علیه السلام) في باب الترجيح «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(1) أفاد هذا الإجماع

ص: 432


1- الكافي 1: 67؛ من لا يحضره الفقيه 3: 10.

الثّاني: أنّه لا يخفى: أنّ الإجماعاتالمنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعارض إلّا بحسب المسبّب، وأمّا بحسب السّبب فلا تعارض في البين؛ لاحتمال صدق الكلّ.

___________________________________________

بعد تحقّق موضوعه الحجيّة، كما لا يخفى، لكن الثّاني محلّ كلام بين الأعلام.

الأمر {الثّاني}: ممّا ينبغي التنبيه عليه في تعارض الإجماعين المنقولين، فإنّه كثيراً ما يدّعي نفران من الفقهاء إجماعين على حكمين متضادّين {أنّه لا يخفى أنّ الإجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر} من الاثنين - كأن ادّعى بعض الإجماع على حرمة صلاة الجمعة، وبعض الإجماع على الوجوب، وبعض الإجماع على الاستحباب - فالأمر لا يخلو من أربعة أحوال:

لأنّ الإجماعين إمّا يحكيان عن الحكم الواقعي، أو عن قول المعصوم، وعلى كلّ تقديرٍ فالمراد بالإجماع إمّا اتفاق الكلّ أو البعض.

فإن كان الإجماعان حاكيين عن الواقع وقع التعارض في المسبّب، إذ لا يمكن حكمان واقعان متضادّان.

وإن كان المراد بالإجماعين اتفاق الكلّ وقع التعارض في السّبب، إذ لا يمكن اتفاق الكلّ على أمر وعلى ضدّه.

وحيث إنّ المصنّف(رحمة الله) بنى على أنّ الإجماع هو اتفاق البعض - في الجملة - وعلى أنّ الإجماع يحكى عن الحكم الواقعي رتّب المباحث الآتية بما يلازم ذلك {ف-} إذا تعارض إجماعان {لا يكون التعارض إلّا بحسب المسبّب} الّذي هو الحكم الواقعي، إذ لا يعقل حكمان واقعيّان متضادّان، فيحصل العلم الإجمالي للمنقول إليه بكذب أحد المنقولين.

{وأمّا بحسب السّبب} الّذي هو فتوى جماعة من الفقهاء {فلاتعارض في البين لاحتمال صدق الكلّ} بأن رأى كلّ واحد من النّاقلين رأي جماعة من الفقهاء علم

ص: 433

لكن نقل الفتاوى - على الإجمال - بلفظ الإجماع حينئذٍ لا يصلحُ لأن يكون سبباً، ولا جزء سبب؛ لثبوت الخلاف فيها، إلّا إذا كان في أحد المتعارضين خصوصيّة موجبة لقطع المنقول إليه برأيه(علیه السلام) لو اطّلع عليها، ولو مع اطّلاعه على الخلاف.

___________________________________________

من باب اللطف أو الحدس العادي أو الحدس الاتفاقي ملازمته لرأي الإمام فادّعى الإجماع.

{لكن نقل الفتاوى على الإجمال} الّذي هو المفروض، إذ لم يعد ناقل الفتاوى مفصّلاً وإنّما جعل مرآة لها حيث أتى بها {بلفظ الإجماع} الّذي هو عبارة إجماليّة عن كلّ فتوى فتوى {حينئذٍ} أي: حين التعارض {لا يصلح لأن يكون سبباً} لكشف رأي الإمام {ولا جزء سبب} حتّى ينضمّ إليه ما يكون مع الإجماع المنقول كاشفاً عن رأيه.

وإنّما لا يصلح حينئذٍ للسببيّة ولا لجزء السّبب لأنّ الأصل تساقط الطريقين المتعارضين، كما هو المقرّر عندهم، ولا ترجيح في البين لأحدهما، ولا فرق في سقوط الطريق بين أن يكون تمام الطريق أو جزءه.

والحاصل: أنّه لا يصلح بشيء من الفتاوى المنقولة بالإجماعين للكاشفيّة {لثبوت الخلاف فيها} أي: في الفتاوى أو في الإجماعات المنقولة {إلّا إذا كان في أحد المتعارضين خصوصيّة موجبة لقطع المنقول إليه برأيه(علیه السلام) لو اطّلع عليها} فهذه الخصوصيّة توجب ترجيح الإجماع ذيالخصوصيّة عند المنقول إليه {ولو مع اطّلاعه على الخلاف}.

وربّما يناقش في العبارة بأنّ قوله: «لو اطّلع عليها» يستفاد منه عدم الاطّلاع الفعلي على تلك الخصوصيّة، ومع عدم الاطّلاع الفعلي على الخصوصيّة يكون وجودها وعدمها سواءً، لكن الظّاهر أنّ قوله: «لو اطّلع» لبيان الموضوع، أي: إنّ في أحد الإجماعين خصوصيّة زائدة تكون مع الاطّلاع عليها موجبة للقطع برأي الإمام.

ص: 434

وهو وإن لم يكن - مع الاطّلاع على الفتاوى على اختلافها مفصّلاً - ببعيد، إلّا أنّه مع عدم الاطّلاع عليها كذلك إلّا مجملاً بعيدٌ، فافهم.

الثّالث: أنّه ينقدح ممّا ذكرنا في نقل الإجماع حال نقل التواتر،

___________________________________________

{وهو} أي: اشتمال أحد الإجماعين على خصوصيّة موجبة للقطع {وإن لم يكن مع الاطّلاع على الفتاوى - على اختلافها - مفصّلاً ببعيد} إذ لعلّه إذا اطّلع على كلّ فتوى فتوى وجد في تلك الفتاوى على فتوى ابن بابويه الّذي يجعل متون الرّوايات في فتاويه، أو وجد فيها على فتاوى زمرة من العلماء القدماء الّذين يطمئنّ الإنسان بأنّهم لا يفتون حسب الأصول والقواعد وإنّما يفتون بما يظفرون من الرّوايات. أو ما أشبه ذلك ممّا يورثه الاطّلاع على الفتاوى بصورة تفصيليّة {إلّا أنّه مع عدم الاطّلاع عليها} أي: على الفتاوى {كذلك} مفصّلاً {إلّا مجملاً} عطف بيان لقوله: «كذلك» أي: مع عدم الاطّلاع على الفتاوى إلّا مجملاً، بأن يطّلع على لفظة (الإجماع) الّذي هو مرآة الفتاوى المفصّلة {بعيد} إذ لا يعلم المنقول إليه أنّ لفظة الإجماع الّذي هو حاكٍ عن فتاوى متعدّدة هل تلك الفتاوى مشتملة على مثل فتاوى ابن بابويه وأضرابها أم لا؟ فلا يعلم مقدار قيمة تلك الفتاوى من جهة كاشفيّتها لقول الإمام(علیهالسلام)، {فافهم} إذ من الممكن تحصيل خصوصيّة في أحد الإجماعين - من غير جهة الفتاوى - كافية لكشف المنقول إليه رأي الإمام(علیه السلام)، فإنّ الخصوصيّة لا تنحصر في ما ذكر.

الأمر {الثّالث} - ممّا ينبغي التنبيه عليه في نقل التواتر - : {أنّه ينقدح ممّا ذكرنا في نقل الإجماع} من أنّ ناقل الإجماع قد ينقل السّبب والمسبّب وقد ينقل السّبب فقط، وممّا يتفرّع على كلا النّقلين {حال نقل التواتر} وأنّ ناقل التواتر قد ينقل السّبب الّذي هو إخبار جماعة يفيد قولهم العلم ويمتنع تواطئهم على الكذب، وقد ينقل السّبب والمسبّب الّذي هو عبارة عن الأمر المخبر به، فلو قال: (الأئمّة

ص: 435

وأنّه - من حيث المسبّب - لا بدّ في اعتباره من كون الإخبار به إخباراً على الإجمال، بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به، لو علم به،

___________________________________________

قالوا: الماء إذا بلغ قدر كلّ لم ينجّسه شيء وقد وصل ذلك إليّ بالتواتر) كان نقلاً للسبب الّذي هو إخبار الجماعة والمسبّب الّذي هو قول الأئمّة(علیهم السلام)، ولو قال: (تواترت القراءآت عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)) كان نقلاً للسبب الّذي هو التواتر.

{و} كما يعرف تقسيم نقل التواتر إلى هذين القسمين من تقسيم الإجماع سابقاً إليهما، كذلك يعرف ممّا تقدّم في مبحث الإجماع {أنّه} أي: نقل التواتر بالنسبة إلى المنقول إليه له جانبان:

الأوّل: من حيث إنّه هل يثبت للمنقول إليه أنّ الأئمّة(علیهم السلام) قالوا كذا أو الرّسول(صلی الله علیه و آله) قال كذا؟

الثّاني: من حيث إنّه هل يثبت المنقول إليه أنّ في البين تواتراً على هذه المقالةأم لا؟ ويكون حال النّقل مثل حال النّقل في ما لو قال ثقة: (حدّثني زرارة أنّ الصّادق(علیه السلام) قال: التقيّة ديني) فإنّ خبر هذا الثّقة له جانبان:

الأوّل: أنّه هل يثبت أنّ الصّادق(علیه السلام) قال هذه المقالة؟

الثّاني: أنّه هل يثبت أنّ زرارة روى هذا الحديث عن الصّادق(علیه السلام)؟

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ نقل التواتر {من حيث المسبّب} الّذي هو مقالة الرّسول(صلی الله علیه و آله) مثلاً {لا بدّ في اعتباره} أي: اعتبار نقل التواتر {من كون الإخبار به} أي: بالتواتر {إخباراً على الإجمال} فإنّ قول النّاقل تواتر هذا الكلام عن الرّسول(صلی الله علیه و آله) إجمال لأن يقول: روى زيد وعمرو وبكر وخالد وفلان وفلان الخ عن الرّسول(صلی الله علیه و آله) {بمقدار} من الإخبار {يوجب} ذلك المقدار {قطع المنقول إليه بما أخبر به} الّذي فرضناه قول الرّسول(صلی الله علیه و آله) مثلاً {لو علم} المنقول إليه {به} أي: بذلك المقدار، فلو علم بكر المنقول إليه بأقوال ألف نفر رووا حديث المنزلة، لقطع بأنّه من كلام الرّسول

ص: 436

ومن حيث السّبب يثبت به كلّ مقدار كان إخباره بالتواتر دالّاً عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل. فربّما لا يكون إلّا دون حدّ التواتر، فلا بدّ في معاملته معه معاملته، من لحوق مقدار آخر من الأخبار يبلغ المجموع ذاك الحد.

___________________________________________

مثلاً، لكنّه لا يعلم وجداناً بقول الألف وإنّما يسمع عن زيدٍ أنّ ألفاً رووا ذلك.

وإنّما قلنا بلزوم كون إخبار ناقل التواتر بمقدار يوجب قطع المنقول إليه؛ لأنّه لو لم يكن بهذا المقدار لم يفد شيئاً بالنسبة إلى المنقول إليه حتّى لو علم المنقول إليه تفصيلاً، فلو قال زيد: تواترت الأخبار بأنّ الماء لا ينجّسه شيء،وعلمنا أنّ مراده بالتواتر أخبار ثلاثة ممّا لو ظفرنا بأخبارهم تفصيلاً لم يحصل لنا علم لم يفد نقله التواتر لنا شيئاً، كما لا يخفى.

هذا كلّه من حيث المسبّب {و} أمّا {من حيث السّبب} الّذي هو دعواه التواتر - لما تقدّم من أنّ التواتر سبب وثبوت كلام الرّسول(صلی الله علیه و آله) مسبّب - فإنّه {يثبت به} أي: بنقل التواتر {كلّ مقدار كان إخباره بالتواتر دالّاً عليه} ويكون حال نقله الإجمالي للإخبار بلفظ التواتر {كما إذا أخبر به على التفصيل} فيكون قوله: تواترت الأخبار عن الرّسول، مثل قوله: روى زيد وعمرو وبكر الخ عن الرّسول، وإنّما الفرق أنّ الأوّل إجماليّ والثّاني تفصيلي {فربّما لا يكون} ما ادّعى التواتر فيه {إلّا دون حدّ التواتر} عند المنقول إليه، كما لو كان النّاقل يعتقد حصول التواتر بإخبار عشرة والمنقول إليه لا يرى حصول التواتر بأقلّ من مائة {فلا بدّ في معاملته} أي: معاملة المنقول إليه {معه} أي: مع التواتر المنقول إجمالاً {معاملته} أي: معاملة الخبر التفصيلي، إذ خبره الإجمالي بلفظ التواتر ليس إلّا مرآة لأخبار تفصيليّة، فلا يفيد الخبر الإجمالي أكثر ممّا يفيده الخبر التفصيلي، وإذا أردنا أن نتعامل مع خبره بالتواتر معاملة التواتر الحقيقي فلا بدّ {من لحوق مقدار آخر من الأخبار يبلغ المجموع ذاك الحدّ} المفيد للعلم، فلو كان إخباره الإجمالي بالتواتر مرآة لقول

ص: 437

نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة - ولو عند المخبِر - لوجب ترتيبه عليه، ولو لم يدلّ على ما بحدّ التواتر من المقدار.

فصل:

___________________________________________

عشرة وكان المنقول إليه لا يرى حصول التواتر إلّا بإخبار مائة لزم أن يلحق إخبارتسعين آخرين إلى إخباره بالتواتر حتّى يفيد العلم عنده.

{نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة} كما لو ندب الشّارع حفظ الخبر الّذي سمّي متواتراً {ولو عند المخبر} بأن كان اسم التواتر على خبر كافياً في ترتيب أثر خاصّ عليه ولو لم يكن متواتراً عند المنقول إليه {لوجب ترتيبه} أي: ترتيب ذاك الأثر {عليه} أي: على هذا الخبر الّذي هو متواتر عند النّاقل وليس متواتراً عند المنقول إليه {ولو لم يدلّ} خبره {على ما بحدّ التواتر من المقدار} بل دلّ على خلاف ذلك، بأن كان خبره الإجمالي مرآة لإخبار عشرة وكان التواتر لا يحصل إلّا بإخبار مائة مثلاً.

[فصل عدم حجيّة الشهرة الفتوائيّة]

المقصد السّادس: في الأمارات، عدم حجيّة الشهرة الفتوائيّة

{فصل} في الشّهرة، وهي في الفقه على نوعين: الأوّل: الشّهرة في الرّواية، بأن تكون الرّواية مشهورة بين الأصحاب، وهذا النّحو من الشّهرة توجب ترجيح الرّواية على الرّواية الشّاذّة النّادرة نصّاً وفتوى.

الثّاني: الشّهرة في الفتوى، والمراد بها فتوى الجلّ سواء عرف الخلاف أم لم يعرف الخلاف والوفاق، أمّا فتوى الكلّ فهو إجماع، كما لا يخفى.

والمشكيني(رحمة الله) جعل الأولى أن يكون محلّ النّزاع أعمّ من ذلك، بأن يقال إنّ محلّ ذلك هي الفتاوى المحقّقة غير المفيدة للعلم، لا بالواقع ولا بوجود دليل معتبر سنداً ودلالة وجهة، إذ لا فرق في ملاك النّزاع بين ما ذكر وبين الإجماع

ص: 438

ممّا قيل باعتباره بالخصوص: الشّهرةُ في الفتوى، ولا يساعده دليل.

و

___________________________________________

السّكوتي والاتفاقات غير المفيدة للعلم(1).

وكيف كان، ف- {ممّا قيل باعتباره بالخصوص} فهو من الظنون الخاصّة الخارجة عن عموم حرمة العمل بالظنّ لا من الظنون الانسداديّة {الشّهرة في الفتوى} كما لو رأينا أنّ جماعة كثيرة من العلماء أفتوا بشيء ولم نجد له دليلاً من الكتاب أو السّنّة أو ما أشبههما {و} لكن {لا يساعده دليل} يدلّ على حجيّتها مطلقاً، فإنّ الأقوال في المسألة الحجيّة مطلقاً وعدمها مطلقاً، والتفصيل بين الشّهرة قبل الشّيخ فهي حجّة والشّهره بعده فليست بحجّة، والتفصيل بين الشّهرة المطابقة للخبر فحجّة ولو علم عدم استنادها إليه وبين غيرها فليست بحجّة.

{و} قد استدلّ لحجيّة الشّهرة مطلقاً بأمرين:

الأوّل: ما دلّ على حجيّة الخبر الواحد.

الثّاني: ما دلّ على الأخذ بما اشتهر بين الأصحاب في مورد تعارض الخبرين.

كما أنّه استدلّ للتفصيل الأوّل بأنّ الشّهرة قبل الشّيخ لا تكون إلّا للظفر على دليل معتبر، إذ الفقهاء قبل الشّيخ كانوا مقيّدين بالأخبار بخلاف الفقهاء بعده، فإنّهم يحكمون حسب الأصول والقواعد.

واستدلّ للتفصيل الثّاني بأنّ الشّهرة إذا طابقت الخبر دخلت في قوله(علیه السلام): «خذ بما اشتهر بين أصحابك»(2) بخلاف الشّهرة إذا لم تطابقه.

وحيث إنّ دليل التفصيلين ضعيف لم يتعرّض للجواب عنهما المصنّف(رحمة الله)

ص: 439


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 255.
2- غوالي اللئالي 4: 133.

توهّم(1): «دلالة أدلّة حجيّة الخبر الواحد عليه بالفحوى؛ لكون الظنّ الّذي تفيده أقوى ممّا يفيده الخبر».

فيه ما لا يخفى؛ ضرورة عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته الظنّ، غايته تنقيح ذلك بالظنّ، وهو لا يوجب إلّا الظنّ بأنّها أولى بالاعتبار، ولا اعتبار به.

___________________________________________

وإنّما اكتفى بالجواب عن دليلي القائل بالحجيّة مطلقاً بقوله: و{توهّم «دلالة أدلّة حجيّة الخبر الواحد عليه} أي: على اعتبار الشّهرة {بالفحوى} أي: بمفهوم الموافقة، فإنّ مناط حجيّة الخبر الواحد هو الظنّ النّوعي الحاصل منه، والظنّ الحاصل من الشّهرة أولى بالعمل على طبقه {لكون الظنّ الّذي تفيده} الشّهرة {أقوى ممّا يفيده الخبر»} فإذا صار الظنّ الأضعف حجّة كان الظنّ الأقوى أولى بالحجيّة {فيه ما لا يخفى} خبر قوله: «وتوهّم»، وذلك ل- {ضرورة عدم دلالتها} أي: دلالة أدلّة حجيّة الخبر الواحد {على كون مناط اعتباره} أي: اعتبار الخبر {إفادته الظنّ} فإنّه ليس في أدلّة حجيّة الخبر أنّ وجه ذلك حصول الظنّ النّوعي منه حتّى يتعدّى إلى الشّهرة بسبب العلّة المطّردة {غايته} أي: غاية الأمر {تنقيح ذلك بالظنّ} أي: إنّما نظنّ أنّ وجه اعتبار الخبر الواحد حصول الظنّ النّوعي منه {وهو} أي: هذا التنقيح الظنّي {لا يوجب إلّا الظنّ بأنّها} أي: الشّهرة {أولى بالاعتبار} من الخبر الواحد {ولا اعتبار به} أي: بما أفاده التنقيح من الأولويّةالاعتباريّة، ولا اعتبار بالظنّ.

والحاصل: أنّ القطع بكون اعتبار الخبر من باب الظنّ ممنوع، بل غاية الأمر أنّ المظنون كون اعتبار الخبر من باب الظنّ، ولا اعتبار بهذا المناط المظنون، فإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.

ص: 440


1- مفاتيح الأصول: 480 و 499.

مع أنّ دعوى القطع بأنّه ليس بمناط(1) غيرُ مجازفة.

وأضعفُ منه توهّم دلالةِ الرّواية المشهورة والمقبولة عليه؛

___________________________________________

هذا {مع أنّ دعوى القطع بأنّه} أي: حصول الظنّ {ليس بمناط غير مجازفة} إذ لو كان المناط الظنّ لزم دوران الحجيّة مداره، ومن المعلوم أنّ حجيّة الخبر لا يدور مدار الظنّ، ولذا لو لم يحصل الظنّ على طبق الخبر، بل لو حصل الظنّ على خلافه لم يسقط عن الحجيّة.

لكن ربّما يقال: بأنّ هذا الجواب الثّاني في غير محلّه إذ المراد بكون مناط حجيّة الخبر الظنّ إنّما هو الظنّ النّوعي، والظنّ النّوعي يحصل من الخبر كما يحصل من الشّهرة، لكن يبقى عليه أنّ كون الظنّ النّوعي الحاصل من الشّهرة أقوى من الظنّ النّوعي الحاصل من الخبر غير تام، إذ كثيراً يكون الظنّ الحاصل من الخبر أقوى من الظنّ الحاصل من الشّهرة، فتأمّل.

هذا تمام الكلام في الدليل الأوّل للقائل بحجيّة الشّهرة، وقد عرفت عدم تماميّته.

{وأضعف منه} أي: من التوهّم الأوّل دليلهم الثّاني، وهو {توهّمدلالة الرّواية المشهورة والمقبولة عليه} أي: على اعتبار الشّهرة.

وحاصل استدلالهم: أنّ بعض النّصوص يدلّ على حجيّة الشّهرة بالخصوص، كالرواية المشهورة بين الأصحاب الّتي رواها ابن أبي جمهور في كتاب غوالي اللئالي، عن العلّامة(رحمة الله) مرفوعاً إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيّهما آخذ؟ فقال: «يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشّاذّ النّادر»(2)،

الحديث.

ص: 441


1- فرائد الأصول 1: 232.
2- غوالي اللئالي 4: 133.

لوضوح أنّ المراد بالموصول في قوله في الأُولى: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»(1)،

وفي الثّانية: «ينظر إلى ما كان في روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به»(2) هو الرّواية،

___________________________________________

فإنّ تعليق الحكم على وصف الاشتهار يدلّ على أنّ المناط هو الشّهرة، فإذا كانت الشّهرة مناطاً لم يفرّق فيها بين شهرة الرّواية وشهرة الفتوى.

وكالرواية المقبولة الّتي تلقّتها الأصحاب بالقبول الّتي رواها المشايخ الثّلاثة، عن عمر بن حنظلة، الواردة في روايتين متعارضتين، قال(علیه السلام): «ينظر في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به، ويترك الشّاذ الّذيليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(3)،

الحديث. فإنّ قوله(علیه السلام): «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» الّذي يراد به المشهور - كما يدلّ عليه صدر الحديث - علّة صريحة في حجيّة الشّهرة، فيتعدّى عن مورد المقبولة - الّذي هو الرّوايتان المتعارضتان - إلى كلّ مشهور، سواء كان فتوى أو عملاً أو غيرهما، لكن لا يخفى ما في هذا الاستدلال أيضاً {لوضوح أنّ المراد بالموصول في قوله} (علیه السلام) {في} الرّواية المشهورة {الأُولى: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»، و} قوله(علیه السلام) {في} الرّواية المقبولة {الثّانية: «ينظر إلى ما كان في روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به»} الحديث {هو الرّواية} فقط.

فالمراد من الرّواية المقبولة والمشهورة أنّ الرّواية المشهورة حجّة لا أنّ كلّ شهرة حجّة، ومن الواضح الفرق بين حجيّة شيء لأجل الشّهرة وبين حجيّة الشّهرة، فإنّه لا تلازم بين تأييد الشّهرة ما فيه قدر من الحجيّة وبين حجيّة الشّهرة

ص: 442


1- غوالي اللئالي 4: 133.
2- وسائل الشيعة 27: 106.
3- الكافي 1: 67؛ من لا يحضره الفقيه 3: 10؛ تهذيب الأحكام 6: 302.

لا ما يعمّ الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى.

نعم، بناءً على حجيّة الخبر ببناء العقلاء لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيّته، بل على حجيّة كلّ أمارة مفيدة للظنّ أو الاطمئنان، لكن دون إثبات ذلك خَرْطُ القَتَاد.

___________________________________________

رأساً، ولا إطلاق للموصول حتّى يعمّ الفتوى، كما أنّ تعليق الحكم على الوصف ليس ظاهراً في أنّه تمام العلّة.

أمّا التعليل في الخبر الثّاني بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه لا يستفاد منه أكثر من عدم الرّيب في المجمع عليه ممّا فيه مقتضى الحجيّة لا المجمع عليه مطلقاً.

والحاصل: أنّ المشهورة والمقبولة خاصّة بالرواية {لا ما يعمّ الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى}.

وأمّا الجواب بضعف السّند - كما ذكره البعض - ففيه أنّ المفروض حجيّتهما فلا مجال لردّهما بضعف السّند.

{نعم، بناءً على حجيّة الخبر} الواحد {ب-} سبب {بناء العقلاء لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيّته} أي: حجيّة الخبر الواحد فقط {بل على حجيّة كلّ أمارة مفيدة للظنّ أو الاطمئنان} ومن تلك الأمارات الشّهرة {لكن} الإنصاف أنّ وجه الحجيّة لو كان بناء العقلاء أيضاً لما كفى في حجيّته الشّهرة، إذ الخبر الواحد يعدّ عند العقلاء شيء له استناد إلى حجّة ذاتيّة، بخلاف الشّهرة فإنّها لا استناد لها بعد كثرة استناد أقوال المشهور إلى وجوه اجتهاديّة.

هذا مضافاً إلى أنّ {دون إثبات ذلك} القول وهو كون حجيّة الخبر من باب بناء العقلاء {خرط القتاد} إذ حجيّة الخبر الواحد إنّما هي من باب التواتر الإجمالي المستفاد من السّنّة في حجيّة الخبر.

ص: 443

___________________________________________

لكن سيأتي من المصنّف(رحمة الله) أنّه يستند في الحجيّة إلى بناء العقلاء،فهذا الكلام منه هنا مناف لما يأتي منه.

فتحصّل: أنّ وجه حجيّة الشّهرة أحد الأُمور المذكورة من أدلّة حجيّة الخبر الواحد أو المشهورة والمقبولة أو بناء العقلاء، لكن شيئاً منها لا تصلح للاستناد لما عرفت من المناقشة في الجميع، ومع ذلك فلو لم يوجد في المسألة دليل يصحّ الاستناد إليه ممّا يكون محتملاً لاستناد المشهور وقامت الشّهرة على الفتوى بشيء أشكل الفتوى على خلاف ذلك مستنداً إلى الأصل العملي أو ما أشبه، إذ الغالب حصول الاطمئنان بوجود دليل معتبر في المسألة لم تصل إليه اليد خصوصاً إذا كانت الشّهرة شهرة القدماء.

ص: 444

فهرس المحتويات

المقصد الثّالث: في المفاهيم

المقصد الثّالث: في المفاهيم... 5

تعريف المفهوم........ 7

هل المفهوم من صفات المدلول أو الدلالة........ 10

فصل: مفهوم الشرط... 12

أدلة القائلين بمفهوم الشرط...... 15

أدلة المنكرين لمفهوم الشرط.... 26

أمور في مفهوم الشرط...... 31

الأمر الأوّل: المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم عند انتفاء الشرط..... 31

إشكال ودفع: توهم أنّ المعلّق على الشرط هو شخص الحكم لا سنخه.. 34

الأمر الثّاني: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فلا بد من التصرّف في ظهور الجملة........ 41

الأمر الثّالث: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل يلتزم بتعدد الجزاء أم بتداخله؟........ 46

التفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الجنس وعدمه والجواب عنه.... 60

القول بالتداخل في ما إذا لم يكن الموضوع قابلاً للتعدد...... 62

فصل: مفهوم الوصف....... 63

تذنيب: جريان النزاع في الوصف الأخص... 69

هل الغاية داخلة في المغيّى أم لا؟.... 76

فصل: مفهوم الغاية.... 72

فصل: مفهوم الاستثناء...... 79

مفاد كلمة التوحيد ... 81

هل دلالة الاستثناء على الانتفاء بالمنطوق أم بالمفهوم؟..... 84

ص: 445

دلالة (إنما) على الحصر........ 85

مفاد كلمة (بل) الإضرابية....... 86

دلالة المسند إليه المعرّف باللام....... 88

فصل: مفهوم اللقب والعدد........ 90

بعض ما استدل لمفهوم اللقب... 92

المقصد الرّابع: في العام والخاص

المقصد الرّابع: في العام والخاص...... 95

فصل: تعريف العام وأقسامه...... 97

أقسام العام بحسب عروض الحكم عليه ....... 100

أسماء الأعداد ليست من أفراد العام....... 102

فصل: هل للعموم صيغة تخصّه أم لا؟...... 103

فصل: الألفاظ الدالة على العموم...... 106

دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم... 106

دلالة المحلّى باللام...... 109

فصل: حجيّة العام المخصَّص في الباقي.... 111

فصل: هل يسري إجمال الخاص إلى العام؟...... 121

المخصّص اللفظي المجمل مفهوماً ....... 122

المخصّص اللفظي المجمل مصداقاً....... 126

المخصّص اللبّي المجمل مصداقاً ........ 129

إيقاظ: إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي ...... 135

وهم وإزاحة: توهم جواز التمسك بالعام في غير الشك في التخصيص 137

الكلام في صحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بالنذر ..... 142

الكلام في التمسك بأصالة العموم لإحراز عدم فردية المشتبه ........ 145

فصل: العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص........ 147

الكلام في مقدار الفحص اللازم .... 150

عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل ... 151

ص: 446

إيقاظ: الفرق في الفحص بين الأصول اللفظية والعمليّة ... 152

فصل: هل الخطابات الشفاهيّة تعمّ غير الحاضرين؟... 153

الكلام في ما وضعت له أدوات الخطاب ....... 158

فصل: ثمرة عموم الخطابات الشفاهيّة..... 165

الثمرة الأولى ..... 165

الثمرة الثّانية ...... 167

فصل: تعقب العام بضميرٍ يرجع إلى بعض أفراده...... 172

فصل: التخصيص بالمفهوم المخالف....... 177

لزوم الأخذ بالأظهر وإلّا فالرجوع إلى الأصل العملي .... 178

فصل: الاستثناء المتعقّب لجُمَلٍ متعاطفة... 181

لا ظهور للاستثناء في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة .... 183

فصل: تخصيص الكتاب بخبر الواحد....... 185

الدليل على جواز التخصيص ...... 186

أدلة المانعين من التخصيص ....... 186

فصل: العام والخاص المتخالفان...... 191

صور التخالف وأحكامها...... 191

حقيقة النسخ ....... 197

النسخ لا يستلزم البداء المحال ..... 198

حقيقة البداء ....... 201

الثمرة بين التخصيص والنسخ ..... 207

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن.... 209

فصل: ألفاظ المطلق........ 211

تعريف المطلق .... 211

اسم الجنس ........ 212

علم الجنس ........ 216

ص: 447

المفرد المعرّف باللام ... 218

الجمع المعرّف باللام ... 223

النكرة ....... 225

فصل: مقدّمات الحكمة..... 230

الأصل عند الشك في كون المتكلم في مقام البيان ... 236

الانصراف ومراتبه ..... 238

إذا كان للمطلق جهات عديدة ....... 240

فصل: المطلق والمقيّد المتنافيان..... 242

المطلق والمقيّد المتخالفان .... 243

المطلق والمقيّد المتوافقان .... 243

الوجه في عدم حمل المطلق على المقيّد في المستحبات ........ 247

لا فرق في الحمل على المقيّد بين الحكم التكليفي والوضعي ... 249

اختلاف نتيجة مقدمات الحكمة ..... 250

فصل: في المجمل والمبيّن...... 255

تعريف المجمل والمبيّن ...... 255

موارد الاشتباه والخلاف في الإجمال والبيان ........ 256

الإجمال والبيان وصفان إضافيان ........ 258

المقصد السّادس: في الأمارات

المقصد السّادس: في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً..... 259

مباحث القطع... 262خروج مباحث القطع عن علم الأصول ........ 262

أقسام حالات البالغ الذي وضع عليه قلم التكليف .... 263

تقسيم آخر ... 268

أحكام القطع..... 270

الأمر الأوّل: لزوم العمل بالقطع عقلاً....... 270

الحجيّة ذاتية للقطع ..... 271

ص: 448

الأمر الثّاني: التجرّي والانقياد........ 275

استحقاق المتجرّي للعقاب .... 276

القطع غير المصيب لا يحدث تغييراً في الواقع ..... 279

شهادة الآيات والروايات على استحقاق المتجرّي للعقاب ....... 288

توهم استحقاق المتجرّي عقابين متداخلين ..... 292

الأمر الثّالث: أقسام القطع....... 294

القطع الطريقي .... 294

القطع الموضوعي وأقسامه ........ 294

قيام الأمارات مقام القطع الطريقي وعدم قيامها مقام القطع الموضوعي 298

عدم قيام الأصول مقام القطع الطريقي إلّا الاستصحاب ........ 306

عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ...... 309

الأمر الرّابع: امتناع أخذ القطع بحكمٍ في موضوع نفسه أو مثله أو ضده 316

الأمر الخامس: الموافقة الالتزامية... 322

عدم وجوب الموافقة الالتزامية .... 323

عدم الملازمة بين وجوب الموافقة الالتزامية ووجوب الموافقة العمليّة 325

الالتزام غير مانع عن جريان الأصول في أطراف العلم ....... 326

الأمر السّادس: حجيّة قطع القطّاع.... 331

تبعية القطع الموضوعي لدليل الاعتبار ........ 332

عموم حجيّة القطع الطريقي ........ 333

الأمر السّابع: حجيّة العلم الإجماليّ... 338

اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة ....... 339

كفاية الامتثال الإجمالي في التوصليات والتعبديات غير المستلزم للتكرار 347

الكلام في الامتثال الإجمالي المستلزم للتكرار في العبادات .... 349

الامتثال الظني التفصيلي في العبادات ... 351

مباحث الأمارات...... 354

عدم اقتضاء الأمارة للحجيّة ذاتاً.... 355

ص: 449

إمكان التعبّد بالأمارات وقوعاً....... 357

المقصود من الإمكان في كلام الشيخ الرئيس ....... 359

محاذير التعبد بالأمارات ...... 360

الجواب عن المحاذير، وبيان وجوه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري 362

الوجه الأوّل ....... 362

الوجه الثّاني ...... 364

الوجه الثّالث ...... 370

الوجه الرّابع ...... 372

الوجه الخامس .... 376

تأسيس الأصل في المسألة.... 377

فصل: في حجيّة الظواهر........ 382

حجيّة الظواهر مطلقاً ... 383

التفصيل بين من قصد إفهامه وغيره .... 383

التفصيل بين ظواهر الكتاب وغيرها والأدلة على ذلك ... 384

اختلاف القراءات وأثره في التمسك بظواهر الكتاب ...... 398

فصل: طرق إحراز الظهور...... 401

الشك في وجود القرينة ....... 402

الشك في قرينية الموجود ..... 403

الشك في ما هو الموضوع له لغة وحكمه ..... 404

الاستدلال على حجيّة قول اللغوي .... 405

الدليل الأوّل ....... 405

الدليل الثّاني ....... 409

فائدة الرجوع إلى قول اللغوي ..... 411

فصل: حجّيّة إجماع المنقول..... 412

الأمر الأوّل: الملاك في حجيّة الإجماع ..... 413

الأمر الثّاني: اختلاف نقل الإجماع واختلاف ألفاظه ........ 417

ص: 450

الأمر الثّالث: صور نقل الإجماع ..... 419

أن يكون النقل متضمناً لنقل السبب والمسبب عن حسّ ... 419

أن يكون نقل الإجماع سبباً حسياً في نظر الناقل والمنقول إليه ....... 420

أن يكون نقل الإجماع سبباً حسياً بنظر الناقل فقط ... 421

إذا اشتبه أن نقل المسبب عن حس أو حدس ... 422

خلاصة الكلام في حجيّة الإجماع المنقول ..... 425تنبيهات... 429

هل المستندات المتقدمة كاشفة عن رأي المعصوم(علیه السلام) ...... 429

تعارض الإجماعات المنقولة ....... 433

نقل التواتر بخبر الواحد ...... 435

فصل: عدم حجيّة الشهرة الفتوائيّة... 438

فهرس المحتويات.... 445

ص: 451

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.