الوصول الی کفایة الاصول المجلد 2

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السید محمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: کفایة الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: الوصول الی کفایة الاصول المجلد 2/ السید محمد الحسیني الشیرازي ؛ [برای] الشجرةالطیبه.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.= 1399.

مواصفات المظهر: 5ج.

ISBN : دوره:9789642045242 ؛ ج.2:9789642045228 ؛ ج.2:9789642045235 ؛ ج.3:9789642045259 ؛ ج.4:9789642045266 ؛ ج.5:9789642045273

حالة الاستماع: فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : هذا كتاب وصفي برکفایة الاصول، آخوند خراساني است.

موضوع : آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایة الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

موضوع :أصول الفقه الشيعي -- قرن 14

Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

المعرف المضاف: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

المعرف المضاف: الشجرةالطیبه (قم)

ترتيب الكونجرس: BP159/8

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6131319

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمة الله)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة:السابعة والأربعون، الأولى

للناشر - 1441ه .ق

-------------------

شابك (الدورة): 2204524964978

شابك (المجلد الرابع): 6204526964978

-------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم قم

المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

وبعد:

فهذا الجزء الثّاني من الوصول في شرح كفاية الأصول، للمحقّق آية اللّه الخراساني+ كتبته للإيضاح، واللّه أسأل التوفيق والتمام والثّواب، إنّه وليّ ذلك، وهو المستعان.

كربلاء المقدّسة

محمّد بن المهدي

ص: 3

ص: 4

المقصد الأوّل: في الأوامر، مقدّمة الواجب

اشارة

فصل في مقدّمة الواجب.

وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أُمور:

الأوّل: الظاهر أنّ المهمّ المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّمته، فتكون مسألة أُصوليّة. لا عن نفس وجوبها - كما هو المتوهّم من بعض العناوين(1) - كي تكون فرعيّة؛

___________________________________________

[الفصل الرّابع في مقدّمة الواجب]

المقصد الأوّل: في الأوامر، مقدّمة الواجب

{فصل في مقدّمة الواجب، وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أُمور}:

[الأمر الأوّل: المسألة أصولية عقلية]

الأمر {الأوّل} في كون هذه المسألة أُصوليّة أم لا، وعلى كلّ فهل هي عقليّة أو لفظيّة؟ فنقول: {الظاهر أنّ المهمّ} للأُصولي {المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّمته} وهذه الجهة تقع في طريق الاستنباط، فيقال بعد ثبوت الوجوب: هذه مقدّمة، وكلّ مقدّمة تجب للملازمة بين وجوبها ووجوب ذيها - مثلاً - {فتكون مسألة أُصوليّة} لما تقدّم من أنّ المسألة الأصوليّة ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشّرعي، و{لا} يكون البحث في هذه المسألة {عن نفسوجوبها} أي: وجوب المقدّمة - بأن يكون البحث في أنّ المقدّمة واجبة أم لا - {كما هو المتوهّم من بعض العناوين} من جعل مدار البحث وجوب المقدّمة {كي تكون} مسألة {فرعيّة} ولا تكون مربوطة بعلم الأصول.

ص: 5


1- كما في تعليقة السيد القزويني على القوانين: 99.

وذلك لوضوح أنّ البحث كذلك لا يناسب الأصوليّ، والاستطراد لا وجه له، بعد إمكان أن يكون البحث على وجهٍ تكون عن المسائل الأصوليّة.

ثمّ الظاهر أيضاً: أنّ المسألة عقليّة، والكلامَ في استقلال العقل بالملازمة وعدمِه، لا لفظيّة - كما ربما يظهر من صاحب المعالم(1)،حيث استدلّ على النّفي

___________________________________________

وإن شئت قلت: إنّ المسألة الفقهيّة موضوعها فعل المكلّف، فلو كان البحث عن الوجوب كانت مسألة فقهيّة، بخلاف ما لو كان البحث عن الملازمة، فإنّ الملازمة ليست من عوارض فعل المكلّف - كما لا يخفى - .

{و} إنّما جعلنا البحث في {ذلك} التلازم دون الوجوب {لوضوح أنّ البحث كذلك} أي: عن الوجوب الّذي يجعل المسألة فقهيّة {لا يناسب الأصولي} إذ الأصولي محطّ نظره تنقيح مسائله دون مسائل الفقه.

{و} إن قلت: يمكن جعل البحث في وجوب المقدّمة ويكون ذكره في الأصول لأجل {الاستطراد}.

قلت: ذلك ممّا {لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون عن المسائل الأصوليّة} إذ الاستطراد خلاف الأصل.هذا تمام الكلام في بيان الجهة الأُولى {ثمّ الظاهر أيضاً} كظهور كون المسألة أُصوليّة {أنّ المسألة عقليّة} وأنّ العقل يحكم بالملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّماته ولو ثبت الوجوب بالإجماع ونحوه ممّا ليس بلفظ.

{و} الحاصل: أنّ {الكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه، لا} أنّ المسألة {لفظيّة} وأنّ اللفظ الدالّ على وجوب الشّيء دالّ على وجوب مقدّماته.

{كما ربّما يظهر} كون المسألة لفظيّة {من صاحب المعالم} وإن لم يكن كلامه صريحاً في ذلك، وجه الظهور {حيث استدلّ على النّفي} أي: نفي وجوب المقدّمة

ص: 6


1- معالم الدين: 60.

بانتفاء الدلالات الثّلاث، مضافاً إلى أنّه ذكرها في مباحث الألفاظ - ؛ ضرورةَ أنّه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّمته ثبوتاً محلَّ الإشكال، فلا مجال لتحرير النّزاع في الإثبات والدلالة عليها بإحدى الدلالات الثّلاث، كما لا يخفى.

___________________________________________

{بانتفاء الدلالات الثّلاث} المطابقة والتضمّن والالتزام.

{مضافاً إلى أنّه ذكرها في مباحث الألفاظ} ووجه عدم صراحة كلامه في كون المسألة لفظيّة: احتمال أن يكون الاستدلال المذكور جزءاً للدليل، بمعنى أنّه دليل لعدم دلالة اللفظ ويحتاج إلى دليل آخر لعدم دلالة العقل.

وأمّا الذكر في مباحث الألفاظ فإنّما يكون تبعاً للقوم فلا يدلّ على شيء، كما أنّ المصنّف(رحمة الله) ذكرها في مبحث الألفاظ، مضافاً إلى أنّ المعالم ليس مبوّباً، فباب للألفاظ وباب للأدلّة العقليّة - كما لا يخفى - .

{ضرورة أنّه} تعليل لقوله: «ثمّ الظاهر أيضاً» وحاصل الدليل: أنّ وضعاللفظ للمعنى فرع ثبوت المعنى في الخارج، فإذا أردنا أن نثبت كون اللفظ موضوعاً للملازمة بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام فلا بدّ من ثبوت الملازمة في الخارج أوّلاً حتّى ينازع في أنّ اللفظ موضوع لها أم لا، و{إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّمته ثبوتاً محلّ الإشكال} بأن لم يتحقّق بعد الملازمة {فلا مجال لتحرير النّزاع في الإثبات و} البحث في أنّه هل للفظ الأمر {الدلالة عليها} أي: على الملازمة {بإحدى الدلالات الثّلاث} أم لا {كما لا يخفى}.

وقد أورد عليه المشكيني(رحمة الله) بما لفظه: «وفيه أوّلاً: أنّ إمكان المعنى لا يشترط في الوضع فضلاً عن تحقّقه الخارجي، لما ترى من حصول الوضع للممتنعات.

وثانياً: أنّ المقام ليس من قبيل تعيين الموضوع له، بل من قبيل تعيين المدلول الالتزامي، ويمكن تحقّق الدلالة الالتزاميّة مع عدم الملازمة ثبوتاً، كما في موارد

ص: 7

الأمر الثّاني: أنّه ربّما تقسّم المقدّمة إلى تقسيمات:

منها: تقسيمها إلى الداخليّة، وهي: الأجزاء المأخوذة في الماهيّة المأمور بها، والخارجيّة، وهي: الأُمور الخارجة عن ماهيّته

___________________________________________

الملازمة العرفيّة»(1)،

انتهى.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الفرق بين دلالة الالتزام اللفظي وبين اللزوم العقلي - المدّعى كونه محلّ النّزاع - ما ذكره بعض الأعلام من أنّ الدلالة الالتزاميّة يعتبرفيها إمّا اللزوم العرفي أو العقلي البيّن بالمعنى الأخصّ، بحيث يلزم من تصوّر الملزوم تصوّر اللّازم، واللزوم العقلي في كلام المصنّف أعمّ من ذلك ومن البيّن بالمعنى الأعمّ وهو ما يجب معه الحكم باللزوم عند تصوّر الطرفين، ومن غير البيّن وهو ما لا يكون كذلك.

[الأمر الثّاني:] أقسام المقدّمة

اشارة

{الأمر الثّاني} من الأُمور المذكورة قبل الخوض في المقصود {أنّه ربّما تقسم المقدّمة إلى تقسيمات} عديدة باعتبارات شتّى.

ولا يخفى أنّ (المقدّمة) مأخوذة من (مقدّمة الجيش) للجماعة المتقدّمة، ويصحّ فيها كسر الدال إذا كانت من (قدّم) بمعنى تقدّم، وفتحها إذا كانت من (قدّم) المتعدّي، وتاؤها للمح الأصل؛ لأنّها صفة للجماعة، وعلى كلّ حالٍ فالمقدّمة الّتي هي مصبّ التقسيمات المذكورة عبارة عن مطلق ما يتوقّف عليه الشّيء.

المقدّمة الداخليّة والخارجيّة

{منها: تقسيمها إلى} المقدّمة {الداخليّة وهي الأجزاء المأخوذة في الماهيّة المأمور بها} كالركوع والسّجود بالنسبة إلى الصلاة {و} إلى المقدّمة {الخارجيّة وهي الأُمور الخارجة عن ماهيّته} مع ارتباط لتلك الأُمور بالماهيّة

ص: 8


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 449.

ممّا لا يكاد يوجد بدونه.

وربّما يشكل(1) في كون الأجزاء مقدّمةً له وسابقةً عليه، بأنّ المركّب ليس إلّا نفسَ الأجزاء بأسرها.

والحلّ: أنّ المقدّمة هي نفس الأجزاء بالأسر، وذو المقدّمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع، فيحصل المغايرة بينهما.

___________________________________________

{ممّا لا يكاد يوجد بدونه} أي: من الأُمور الّتي لا يكاد يوجد المأمور به بدون تلك الأُمور، وذلك كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، وكذا غيرها من سائر الشّروط والمقتضيات والمعدّات ونحوها.

{وربّما يشكل} على ما حكي عن الشّيخ محمّد تقي صاحب الحاشية {في كون الأجزاء مقدّمة} داخليّة {له} أي: للمأمور به {و} كونها {سابقة عليه} في الوجود الذهني والخارجي، كما هو شأن المقدّمة {بأنّ المركّب ليس إلّا نفس الأجزاء بأسرها} وتمامها، فيلزم من كون الأجزاء مقدّمة للكلّ تقدّم الشّيء على نفسه، بيانه:

أنّ الأجزاء بما هي مقدّمة يلزم تقدّمها على ذيها، وبما هي نفس ذي المقدّمة يلزم تأخّرها فيلزم أن يكون الشّيء الواحد في حالة واحدة متقدّماً ومتأخّراً.

وإن شئت قلت: إنّ الأجزاء لمّا كانت نفس المركّب لم يكن اثنينيّة بينها وبين المركّب، ومن البديهي لزوم الاثنينيّة بين المقدّمة وذيها.

{والحلّ} للإشكال {أنّ المقدّمة هي نفس الأجزاء بالأسر} بمعنى لحاظها لا بشرط الانفراد ولا بشرط الاجتماع، إذ شرط الانفراد يخرجها عن المقدّمة وشرط الاجتماع موجب لكونها عين الكلّ فلا تكون مقدّمة أيضاً {وذو المقدّمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع} وبشطر الاجتماع حتّى يكون الاجتماع جزءاً.

وعلى كلّ حال {فيحصل المغايرة بينهما} أي: بين الأجزاء والكلّ ويوجب تقدّم

ص: 9


1- هداية المسترشدين 2: 164.

وبذلك ظهر: أنّه لا بدّ في اعتبار الجزئيّة أخذ الشّيء بلا شرط، كما لا بدّ في اعتبار الكليّة من اعتبار اشتراط الاجتماع.

وكونُ الأجزاء الخارجيّة - كالهيولى والصورة - هي الماهيّةالمأخوذة بشرط لا، لا ينافي ذلك؛ فإنّه إنّما يكون في مقام الفرق بين نفس الأجزاء الخارجيّة والتحليليّة - من الجنس والفصل - وأنّ الماهيّة إذا أُخذت بشرط لا، تكون هيولى أو صورة، و

___________________________________________

الجزء على الكلّ، إذ الأجزاء لا بشرط الاجتماع مغاير مع الأجزاء بشرط الاجتماع ومقدّم عليه.

{وبذلك} الّذي ذكرنا في وجه التغاير بين المقدّمة الداخليّة وذيها {ظهر أنّه لا بدّ في اعتبار الجزئيّة أخذ الشّيء بلا شرط، كما لا بدّ في اعتبار الكليّة من اعتبار اشتراط الاجتماع} وانضمام بعض الأجزاء إلى بعض.

وجه الظهور: أنّ المقدّمة الداخليّة هي الأجزاء، وحيث تبيّن الفرق بين المقدّمة الداخليّة والكليّة ظهر الفرق بين الجزء والكلّ، وبظهور الفرق بينهما ظهر خاصيّة كلّ منهما إجمالاً.

{و} إن قلت: ذكر أهل المعقول أنّ الأجزاء الخارجيّة مأخوذة بشرط لا، وهذا ينافي ما ذكرتم من أنّ الجزء مأخوذ لا بشرط.

قلت: {كون الأجزاء الخارجيّة كالهيولى} وهي محلّ الصورة النّوعيّة {والصورة} الّتي هي حالة في الهيولى {هي الماهيّة المأخوذة بشرط لا} على ما يقوله أهل المعقول {لا ينافي ذلك} الّذي ذكرناه - أعني: كون الجزء لا بشرط - فإنّ جعلهم الجزء بشرط لا في مقام، وجعلنا الجزء لا بشرط في مقام آخر {فإنّه} أي: جعلهم الجزء بشرط لا {إنّما يكون في مقام الفرق بين نفس الأجزاء الخارجيّة} من الهيولى والصورة {و} بين الأجزاء {التحليليّة من الجنس والفصل، و} مقصودهم {أنّ الماهيّةإذا أُخذت بشرط لا تكون هيولى أو صورة، و} ذلك في

ص: 10

إذا أُخذت لا بشرط تكون جنساً أو فصلاً، لا بإضافة إلى المركّب، فافهم.

ثمّ لا يخفى: أنّه ينبغي خروج الأجزاء عن محلّ النّزاع

___________________________________________

قبال ما {إذا أُخذت لا بشرط} الّتي {تكون} حينئذٍ {جنساً أو فصلاً} فالجزء الخارجي بشرط لا الاعتباري، والجزء الداخلي لا بشرط الاعتباري {لا بإضافة إلى المركّب} عطف على قوله: «إنّما يكون في مقام الفرق» الخ، يعني: إن جعلنا الجزء لا بشرط في مقام الفرق بين الكلّ والجزء فلا تنافي بين جعلهم وجعلنا، إذ التنافي إنّما يحصل إذا كان قولهم: بشرط لا، وقولنا: لا بشرط، بالنسبة إلى شيء واحد، مثلاً: كون الصلاة بالنسبة إلى الوضوء بشرط شيء لا ينافي كون قراءة القرآن بالنسبة إليه لا بشرط، وإنّما تقع المنافاة لو كان فعل الصلاة بالنسبة إلى الوضوء عند شخص لا بشرط، وعند آخر بشرط لا كما لا يخفى.

فالجزء لا بشرط بالنسبة إلى الكلّ كما نقوله، والجزء الخارجي بشرط لا بالنسبة إلى الجزء الداخلي كما يقولونه، وقد تقدّم ما يفيد المقام في التنبيه الثّاني من مبحث المشتقّ، فراجع.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ أخذ أهل المعقول الجزء بشرط لا - حتّى بالنسبة إلى الكلّ - كما نسب إلى ظاهرهم بل صريحهم، ومن البديهي أنّ كون الجزء بشرط لا بالنسبة إلى الكلّ كما يقولون ينافي كون الجزء لا بشرط بالنسبة إلى الكلّ كما نقول، والعلّامة الرّشتي ذكر عند قوله: «لا بالإضافة إلىالمركّب» ما يوضح الفرق بين المادّة والجنس، فراجع(1).

خروج الأجزاء عن المتنازع فيه

{ثمّ لا يخفى أنّه ينبغي خروج الأجزاء عن محلّ النّزاع} في وجوب المقدّمة وعدمه

ص: 11


1- شرح كفاية الأصول 1: 124.

- كما صرّح به بعض -(1)؛ وذلك لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتاً، وإنّما كانت المغايرة بينهما اعتباراً، فتكون واجبةً بعين وجوبه، ومبعوثاً إليها بنفس الأمر الباعث إليه، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر؛ لامتناع اجتماع المثلين، ولو قيل بكفاية تعدّد الجهة وجواز اجتماع الأمر والنّهي معه؛

___________________________________________

{كما صرّح به} أي: بالخروج {بعض} الأعلام، فلا يقع النّزاع في وجوب الأجزاء بالوجوب المقدّمي الغيري، بل الأجزاء واجبة بالوجوب النّفسي فقط {وذلك} أي: وجه خروج الأجزاء عن محلّ النّزاع {لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتاً} فذات الكلّ هي ذات الجزء {وإنّما كانت المغايرة بينهما اعتباراً} فقيد الاجتماع والانضمام مأخوذ في الكلّ دون الجزء وعلى هذا {فتكون} الأجزاء {واجبة بعين وجوبه} أي: وجوب الكلّ {و} تكون {مبعوثاً إليها بنفس الأمر الباعث إليه} لكونهما شيئاً واحداً كما هو المفروض، وإذا كانت الأجزاء واجبة بالوجوب النّفسي المتوجّه إلى الكلّ {فلا تكاد تكون} الأجزا {واجبة بوجوب آخر} غيريّ مقدّمي {لامتناع اجتماع المثلين} - أعني: إجماع الوجوب النّفسيوالغيري في الجزء - .

{و} إن قلت: لا مانع من اجتماع المثلين {لو قيل بكفاية تعدّد الجهة وجواز اجتماع الأمر والنّهي معه} أي: مع تعدّد الجهة، فاجتماع المثلين، كاجتماع الأمر والنّهي، فمن يقول بجواز اجتماعهما في ظرف تعدّد الجهة جاز له أن يقول بجواز اجتماع الوجهين أيضاً في ما إذا تعدّدت الجهة، وحيث إنّ في الجزء تعدّد الجهات من كونه مقدّمة للكلّ وكون الكلّ منطبقاً عليه أمكن القول بوجوبه الغيري والنّفسي.

قلت: لا يفيد هذا في ما نحن فيه ولو قلنا بجواز الاجتماع مع تعدّد الجهة

ص: 12


1- هداية المسترشدين 2: 165.

لعدم تعدّدها هاهنا؛ لأنّ الواجب بالوجوب الغيريّ - لو كان - إنّما هو نفس الأجزاء، لا عنوان مقدّميّتها والتوسّل بها إلى المركّب المأمور به؛ ضرورةَ أنّ الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشّائع مقدّمةً؛ لأنّه المتوقّف عليه، لا عنوانها. نعم، يكون هذا العنوان علّةً لترشُّحِ الوجوب على المعنون.

___________________________________________

{لعدم تعدّدها} أي: الجهة {هاهنا} في الجزء {لأنّ الواجب بالوجوب الغيري لو كان} فمصبّه {إنّما هو نفس الأجزاء لا عنوان مقدّميّتها} فإنّ المقدّميّة علّة للوجوب لا أنّ الوجوب منصبّ على المقدّمة، ومن البديهي أنّ الوجوب النّفسي أيضاً مصبّه نفس الجزء، فلم يتعدّد محلّ الوجوب وجهته المصحّح للاجتماع.

{و} الحاصل: أنّه كما أنّ الواجب بالوجوب النّفسي نفس الجزء كذلك الواجب بالوجوب الغيري، وليس الواجب بالوجوب الغيري عنوان {التوسّلبها إلى المركّب المأمور به} كما توهّم {ضرورة أنّ الواجب بهذا الوجوب} الغيري {ما كان} أي: الشّيء الّذي كان {بالحمل الشّائع مقدّمة؛ لأنّه المتوقّف عليه} الواجب النّفسي وهو نفس المقدّمة {لا عنوانها} كي يتعدّد جهة الوجوب.

{نعم، يكون هذا العنوان} أي: المقدّميّة {علّةً لترشّح الوجوب على المعنون} لكنّه غير مفيد لتعدّد الجهة المصحّح للاجتماع.

إن قلت: ما الفرق بين الجهتين اللتين في المقدّمة والجهتين اللتين في الصلاة في الدار المغصوبة، فكما أنّ على القول بالاجتماع يجتمع في الصلاة الحرمة لكونها غصباً والوجوب لكونها صلاة كذلك فليكن الجزء واجباً نفسيّاً لكونه جزءاً ومقوّماً للكلّ وواجباً غيريّاً لكونه مقدّمة داخليّة، فقول المصنّف: «لعدم تعدّدها» هاهنا غير مستقيم.

قلت: الفرق هو أنّ الوجوب والحرمة في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة منصبّان على هذين العنوانين، إذ الدليل إنّما دلّ على وجوب الصلاة وحرمة الغصب،

ص: 13

فانقدح بذلك فساد توهّم اتّصاف كلّ جزءٍ من أجزاء الواجب بالوجوب النّفسيّ والغيريّ باعتبارين؛ فباعتبار كونه في ضمن الكلّ واجبٌ نفسيّ، وباعتبار كونه ممّا يتوسّل به إلى الكلّ واجبٌ غيريّ.

___________________________________________

لا أنّه دلّ على وجوب الكون لكونه صلاة وحرمة الكون لكونه غصباً حتّى يقال: إنّ الكون واجب وحرام والجهتان تعليليّتان فتتّحد الجهة، فلا يمكن اجتماع الأمر والنّهي؛ لأنّ الاجتماع شرطه - عند القائل به - تعدّدها، بخلاف مسألة المقدّمة، فإنّ المقدّميّة جهة تعليليّة لا تقييديّة، فمصبّ الوجوب ذات المقدّمة لاعنوان المقدّميّة.

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من امتناع اجتماع المثلين الوجوب النّفسي والوجوب الغيري - ولو قلنا بكفاية تعدّد الجهة في الاجتماع - {فساد توهّم اتصاف كلّ جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النّفسي و} الوجوب {الغيري باعتبارين}:

أمّا وجه كلامه من جعله كذلك، فهو ما ذكره بقوله: {فباعتبار كونه} أي: الجزء {في ضمن الكلّ واجب نفسي} لتوجّه الوجوب إليه وانصبابه عليه {وباعتبار كونه ممّا يتوسّل به إلى الكلّ} ويتوقّف عليه الكلّ {واجب غيري}.

وأمّا وجه الفساد فلأنّه حيث لا يمكن أن يكون اعتبار المقدّميّة مصبّاً للوجوب الغيري - إذ الذات مقدّمة وواجبة لا العنوان - فلا بدّ من أن يكون نفس الذات مورداً للوجوب الغيري، ومنه يلزم اجتماع المثلين الّذي هو مستحيل.

إن قلت: أوّلاً إنّ اجتماع المثلين ليس كاجتماع الضدّين في الاستحالة.

وثانياً ليس الوجوب النّفسي مماثلاً للوجوب الغيري حتّى يلزم من اجتماعهما اجتماع المثلين.

وثالثاً على فرض المماثلة، فلا مانع لإمكان كون أحدهما تأكيداً للآخر.

قلت: أمّا استحالة اجتماع المثلين فهو من أوضح الواضحات، لبداهة أنّه لا

ص: 14

اللّهمّ إلّا أن يريد: أنّ فيه ملاك الوجوبين، وإن كان واجباً بوجوب واحد نفسيّ، لسبقه،

___________________________________________

يعقل أن يجتمع أمران مماثلان في الصفات والخصوصيّات في محلّ واحد؛ لأنّهيلزم منه اتحاد الوجودين وهو بديهي البطلان، إذ بعد الاجتماع - كأن كان ورق - مثلاً - ملوّناً ببياضين في عرض واحد - إن بقي المثلان موجودين بوجودين كان خلفاً؛ لأنّ الفرض اجتماعهما لا بقاؤهما على استقلالهما، وإن عدما كان لا شيء فلا يصحّ القول باجتماعهما أيضاً، وإن بقي أحدهما وعدم الآخر لم يكن اجتماع، بل شيء واحد، كما لا يخفى.

وأمّا عدم المماثلة بين الوجوبين فباطل، إذ معنى الوجوب - وهو المرتبة الأكيدة من الطلب - موجود فيهما، غاية الأمر أنّ في ترك الوجوب النّفسي عقاباً دون ترك الوجوب الغيري، وذلك لكون الغرض منهما واحداً فلا تعدّد في العقاب.

وأمّا إمكان كون أحدهما تأكيداً للآخر فهو - وإن كان في نفسه صحيحاً، كما ربّما يقال في صلاة الظهر بالنسبة إلى العصر فإنّها واجبة لنفسها ومقدّمة لصلاة العصر - إلّا أنّ في المقام محذوراً آخر أشرنا إليه من لزوم التقدّم والتأخّر، فتدبّر.

{اللّهمّ إلّا أن يريد} القائل بكون الجزء واجباً نفسيّاً وواجباً غيريّاً {أنّ فيه ملاك الوجوبين} لا وجوبين فعليّين {وإن كان} الجزء فعلاً {واجباً بوجوب واحد نفسي} من دون الوجوب الغيري، كما يقال: إنّ صلاة الجماعة - مثلاً - فيها ملاك الاستحباب لا أنّها مستحبّة فعلاً، بحيث يكون الآتي بها آتياً بالمستحبّ.

وإنّما قلنا بفعليّة الوجوب النّفسي {لسبقه} على الوجوب الغيري، إذ الجزء لم يمكن فيه اجتماع الوجوبين فلا بدّ من أحد الوجوبين، وحيث إنّ الوجوب النّفسي لا يتوقّف على شيء - بخلاف الوجوب الغيري، فإنّه يتوقّف على سبق وجوب - كان الجزء مصبّاً للوجوب النّفسي.

وإن شئت قلت: حيث إنّ المترشّح منه مقدّم على المترشّح عليه كان واجباً

ص: 15

فتأمّل.

هذا كلّه في المقدّمة الداخليّة.

وأمّا المقدّمة الخارجيّة: فهي ما كان خارجاً عن المأمور به، وكان له دخلٌ في تحقّقه، لا يكاد يتحقّق بدونه. وقد ذكر لها أقسام، وأُطيل الكلام في تحديدها

___________________________________________

نفسيّاً، وإذا صار واجباً نفسيّاً امتنع فيه الوجوب الغيري، لاستحالة اجتماع المثلين - كما تقدّم - .

{فتأمّل} وجهه منع كون الجزء فيه ملاك الوجوب الغيري؛ لأنّ المقدّميّة تتوقّف على تعدّد الوجود لها ولذيها، وحيث لا تعدّد لا يكون ملاكان.

وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى ما ذكرنا في وجه التأمّل بقوله: «وجهه أنّه لا يكون فيه - أيضاً - ملاك الوجوب الغيري، حيث إنّه لا وجود له» أي: للجزء «غير وجوده» أي: غير وجود نفس الجزء الّذي هو واجب نفسي «وبدونه» أي: بدون تعدّد الوجود «لا وجه لكونه» أي: الجزء «مقدّمة كي يجب» الجزء «بوجوبه» أي: الوجوب الغيري «أصلاً، كما لا يخفى.

وبالجملة لا يكاد يجدي تعدّد الاعتبار الموجب للمغايرة بين الأجزاء والكلّ في هذا الباب، وحصول ملاك الوجوب الغيري المترشّح من وجوب ذي المقدّمة عليها، لو قيل بوجوبها، فافهم»(1).

المقدّمة الخارجيّة

{هذا} الكلام {كلّه في المقدّمة الداخليّة، وأمّا المقدّمة الخارجيّة فهي ما كان خارجاً عن} حقيقة {المأمور به و} لكن {كان له دخل في تحقّقه} بحيث {لا يكاد يتحقّق بدونه} فالتّقيّد داخل والقيدخارج {وقد ذكر لها أقسام} كالشرط والسّبب والمعدّ وعدم المانع {وأُطيل الكلام في تحديدها} فقد عُرِّفَ الشّرط بأنّه: «ما يلزم

ص: 16


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 456.

بالنقض والإبرام، إلّا أنّه غير مهمّ في المقام.

___________________________________________

من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجوده» كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، فمع عدمها لا يمكن تحقّق الصلاة أمّا مع وجودها لا يلزم وجود الصلاة، كما لو تطهّر ولم يصلّ.

وعرّف السّبب بأنّه: «ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته» كالصيغة بالنسبة إلى العتق، فإنّ مع وجود الصيغة يلزم وجود العتق ومع عدمها يلزم عدمه.

وقولنا في التعريف: «لذاته» احتراز عن مقارنة وجود السّبب عدم الشّرط أو وجود المانع، فلا يلزم الوجود، أو قيام سبب آخر حالة عدم الأوّل مقامه، فلا يلزم العدم.

وعرّف المُعِدّ بأنّه: «ما يلزم من مجموع وجوده وعدمه الوجود» كالذهاب بالنسبه إلى الكون في محلّ مخصوص، فإنّ إيجاد الخطوه وإعدامها موجب للوصول.

وعرّف المانع بأنّه: «ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود» كاستدبار القبلة بالنّسبة إلى الصلاة، فإنّه يلزم من وجوده عدم الصلاة ولا يلزم من عدمه وجودها.

وقد أطالوا {بالنقض والإبرام} في هذه التحديدات، كما في التقريرات وغيره {إلّا أنّه غير مهمّ في المقام} إذ التحديد لا ربط له بالوجوب وعدمه،وقد ذكر في التقريرات(1)

بأنّ الموجب لهذا التفصيل بيان مراد المفصّل بين السّبب وغيره، يعني أنّه لا ربط له بالمقام في نفسه.

ص: 17


1- مطارح الأنظار 1: 204.

ومنها: تقسيمها إلى العقليّة، والشّرعيّة، والعاديّة:

فالعقليّة: هي ما استحيل واقعاً وجود ذي المقدّمة بدونه.

والشّرعيّة - على ما قيل - : ما استحيل وجوده بدونه شرعاً.

ولكنّه لا يخفى رجوع الشّرعيّة إلى العقليّة؛ ضرورةَ أنّه لا يكاد يكون مستحيلاً ذلك شرعاً إلّا إذا أُخذ فيه شرطاً وقيداً، واستحالة المشروط والمقيّد بدون شرطه وقيده يكون عقليّاً.

___________________________________________

المقدّمة العقليّة والشّرعيّة والعادّية

{ومنها} أي: ومن التقسيمات للمقدّمة {تقسيمها إلى العقليّة والشّرعيّة والعادّية، ف-} المقدّمة {العقليّة هي ما استحيل واقعاً} تكويناً {وجود ذي المقدّمة بدونه} أي: بدون وجود المقدّمة، ومثّل لها في القوانين(1) بالنظر المحصّل للعلم الواجب.

ولا يذهب عليك أنّ الاستحالة أعمّ من الاستحالة العقليّة، كاجتماع النّقيضين، والاستحالة الوقوعيّة، كالطّيران إلى السّماء.

{و} المقدّمة {الشّرعيّة - على ما قيل -} هي {ما استحيل وجوده} أي: وجود ذي المقدّمة {بدونه} أي: بدون وجود المقدّمة {شرعاً} كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة الّتي يستحيل وجودها بدونها {ولكنّه لا يخفى رجوع}المقدّمة {الشّرعيّة إلى} المقدّمة {العقليّة ضروره أنّه لا يكاد يكون مستحيلاً ذلك شرعاً} أي: وجود ذي المقدّمة بدون مقدّمته الشّرعيّة {إلّا إذا أُخذ} وجود المقدّمة {فيه} أي: في وجود ذي المقدّمة {شرطاً وقيداً} بحيث كان وجود الواجب مشروطاً ومقيّداً بها {و} إذا كان الواجب مقيّداً اتضح رجوع الشّرعيّة إلى العقليّة؛ لأنّ {استحالة المشروط والمقيّد بدون شرطه وقيده يكون عقليّاً} فلو توقّفت الصلاة في الشّريعة

ص: 18


1- قوانين الأصول 1: 208.

وأمّا العاديّة:

___________________________________________

على الطهارة حكم العقل بتوقّف الصلاة عليها مثل ما يحكم بتوقّف الصعود على نصب السُلَّم، نهايته أنّ الارتباط بين الصعود ونصب السُلّم ممّا لا يحتاج إلى جعل شرعي، بخلاف الارتباط بين الصلاة والطهارة فإنّه يحتاج إلى جعل شرعي، وكأنّ النّزاع لفظيّ فمن يفرق بين المقدّمة العقليّة والشّرعيّة يرى أصل الارتباط وأنّه تارة تكوينيّ وأُخرى جعليّ، ومن لا يفرّق بينهما يرى بعد الارتباط. هذا كلّه في المقدّمة العقليّة والشّرعيّة.

{وأمّا} المقدّمة {العادية} فتنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون التوقّف على الجامع عادة لا عقلاً كتوقّف الكون في محلّ بعيد على ركوب الحمار، فإنّ التوقّف على الجامع بين الحمار وغيره - أعني: مركوبٍ ما - عادي، إذ يمكن الذَّهاب بالرِّجْل.

الثّاني: أن يكون التوقّف على الخصوصيّة عادة وعلى الجامع عقلاً، كتوقّف الكون في محلّ بعيد وراء البحر على الرّكوب في سفينة خاصّة، فإنّ خصوصيّة الرّكوب في سفينة كذا عادي، وأمّا الجامع - أعني: طيّ المسافة ولو في سفينة أُخرى - عقلي.الثّالث: أن يكون التوقّف على الفرد عقلاً كنصب السُلّم ونحوه للصعود على السّطح، فهذا وإن كان عقليّاً فهو عادي أيضاً.

والحاصل: أنّ التوقّف على الفرد إمّا عقليّ وإمّا عادي، وعلى التقدير الثّاني فالتوقّف على الجامع إمّا عقليّ وإمّا عادي، فالأوّل كنصب السُلّم فجامعه الأعم من الطيران والصعود، والثّاني كالحركة مع هذه السّفينة والجامع هو العبور مع مطلق السّفن، والثّالث هو السّير مع الحمار والجامع هو السّير مع مطلق المركوب، فتدبّر.

ص: 19

فإن كانت بمعنى أن يكون التوقّف عليها بحسب العادة - بحيث يمكن تحقّق ذيها بدونها، إلّا أنّ العادة جرت على الإتيان به بواسطتها - فهي وإن كانت غير راجعة إلى العقليّة، إلّا أنّه لا ينبغي توهّم دخولها في محلّ النّزاع.

وإن كانت بمعنى أنّ التوقّف عليها وإن كان فعلاً واقعيّاً - كنصب السُلّم ونحوه للصعود على السّطح - ، إلّا أنّه لأجل عدم التمكّن عادةً من الطيران الممكن عقلاً، فهي أيضاً راجعة إلى العقليّة؛ ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النّصب عقلاً لغير الطائر فعلاً،

___________________________________________

إذا عرفت الأقسام فنقول: {فإن كانت} المقدّمة العادية المعدّة في أقسام المقدّمة من القسمين الأوّلين {بمعنى أن يكون التوقّف عليها} جامعاً أو فرداً {بحسب العادة بحيث يمكن تحقّق ذيها بدونها} كعدم التوقّف على الجامع في الأوّل وعلى الفرد في الثّاني {إلّا أنّ العادة جرت على الإتيان به} أي: بذي المقدّمة {بواسطتها} كالإتيان بواسطة جامع الرّكوب في القسم الأوّل وخصوصيّة الرّكوب في الثّاني {فهي} جواب «إن».{وإن كانت} هذه المقدّمة العادية {غير راجعة إلى العقليّة} لعدم التوقّف على الجامع في الأوّل وعلى الخصوصيّة في الثّاني {إلّا أنّه لا ينبغي توهّم دخولها} أي: دخول هذه المقدّمة العادية المنقسمة إلى القسمين الأوّلين {في محلّ النّزاع} لعدم وجوبها قطعاً {وإن كانت} المقدّمة العادية القسم الثّالث {بمعنى أنّ التوقّف عليها وإن كان فعلاً} في ظرف عدم القدرة على غيرها {واقعيّاً} بحيث لا يتحقّق ذوها بدونها {كنصب السُلّم ونحوه للصعود على السّطح}.

إذ النّصب في ظرف العجز عن الطيران واقعيّ عاديّ {إلّا أنّه} أي: التوقّف فعلاً {لأجل عدم التمكّن عادة من الطيران الممكن عقلاً} بالجناح ونحوه {فهي أيضاً راجعة إلى العقليّة} لكن على نحو الاستحالة الوقوعيّة لا الاستحالة العقليّة كما تقدّم {ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النّصب عقلاً لغير الطائر فعلاً} في ظرف

ص: 20

وإن كان طيرانه ممكناً ذاتاً، فافهم.

ومنها: تقسيمها إلى مقدّمة الوجود، ومقدّمة الصحّة، ومقدّمة الوجوب، ومقدّمة العلم.

___________________________________________

عدم إمكان الطيران {وإن كان طيرانه ممكناً ذاتاً} وليس من قبيل اجتماع النّقيضين ونحوه من المستحيلات الذاتيّة.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الفرق بين المقدّمة العقليّة والعادية هو أنّ العقليّة يستحيل ذاتاً وجود ذيها بدونها، والعادية ما يستحيل عادة مع الإمكان ذاتاً، فالنزاع بين المصنّف الملحق للمقدّمة العادية بالعقليّة وبين غيره لفظي.ويمكن أن نتحصّل من جميع هذا المبحث أنّ المقدّمة الشّرعيّة ما كان الارتباط شرعيّاً والعقليّة ما كان التوقّف عقلاً بحيث لا يمكن خلافه كاجتماع النّقيضين، والعادية ما كان التوقّف عقلاً بحيث يمكن خلافه إمكاناً ولكن لا وقوع له، فتدبّر جيّداً.

مقدّمة الوجود والصحّة والوجوب والعلم

{ومنها} أي: ومن التقسيمات للمقدّمة {تقسيمها إلى مقدّمة الوجود} وهي الّتي يتوقّف عليها وجود الواجب، كنصب السُلّم بالنسبة إلى الكون في السطح {ومقدّمة الصحّة} وهي الّتي يتوقّف عليها صحّة الواجب، كالطهارة للصلاة على القول بأنّ العبادات أسامي للأعم، فإنّ ذات الصلاة على هذا القول لا تتوقّف على الطهارة وإنّما صحّتها متوقّفة عليها.

{ومقدّمة الوجوب} وهي الّتي يتوقّف عليها وجوب الشّيء، كالنِّصاب بالنسبة إلى الزكاة {ومقدّمة العلم} وهي الّتي يتوقّف عليها العلم بوجود الواجب، كتوقّف العلم بالإتيان بالصلاة إلى القبلة عند اشتباهها على الإتيان بأكثر من صلاة واحدة.

ص: 21

لا يخفى رجوع مقدّمة الصحّة إلى مقدّمة الوجود - ولو على القول بكون الأسامي موضوعة للأعمّ - ضرورةَ أنّ الكلام في مقدّمة الواجب لا في مقدّمة المسمّى بأحدها، كما لا يخفى.

ولا إشكال في خروج مقدّمة الوجوب عن محلّ النّزاع، بداهة عدم اتّصافها بالوجوب من قِبَل الوجوب المشروط بها.

___________________________________________

و{لا يخفى رجوع مقدّمة الصحّة إلى مقدّمة الوجود ولو على القول بكون الأسامي موضوعة للأعم} من الصحيح والفاسد:

أمّا على القول بكون الأسامي موضوعة للصحيح فقط فواضح، إذ لا وجودللماهيّة إلّا وهي صحيحة، فالطهارة الّتي هي مقدّمة إن تحقّقت تحقّقت الصحّة والوجود وإن لم تتحقّق لم تكن صحّة ولا وجود، فمقدّمة الصحّة على القول بالصحيح مقدّمة للوجود، فهما أمر واحد لا أمران، فلا معنى لجعل أحدهما في قبال الآخر.

وأمّا على القول بكون الأسامي موضوعة للأعمّ، فواضح أيضاً {ضرورة أنّ الكلام في مقدّمة الواجب لا في مقدّمة المسمّى بأحدها} أي: أحد الأسامي {كما لا يخفى}.

والحاصل: أنّه - وإن كانت الطهارة مقدّمة للصحّة وليست مقدّمة للوجود - لكن الكلام حيث كان في مقدّمة الواجب وليس العمل بدون الطهارة واجباً، لم يتحقّق مورد الافتراق بأن تكون مقدّمة للصحّة دون الوجود، لتصادقها في الواجب دائماً، وبهذا كلّه سقط مقدّمة الصحّة.

{ولا إشكال في خروج مقدّمة الوجوب عن محلّ النّزاع} في مبحث مقدّمة الواجب {و} ذلك {بداهة عدم اتصافها} أي: مقدّمة الوجوب كالنِّصاب {بالوجوب} المقدّمي المترشّح {من قبل الوجوب} لذي المقدّمة {المشروط بها} أي: بهذه المقدّمة.

ص: 22

وكذلك المقدّمة العلميّة وإن استقلّ العقل بوجوبها، إلّا أنّه من باب وجوب الإطاعة إرشاداً، ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز، لا مولويّاً من باب الملازمة، وترشُّحِ الوجوب عليها من قِبَل وجوب ذي المقدّمة.

___________________________________________

والحاصل: أنّه قبل حصول النِّصاب لا وجوب للزكاة حتّى يترشّح منه الوجوب على حصول النِّصاب، وبعد وجوب الزكاة فالنِّصاب حاصل لا يعقل وجوبه بعد حصوله. وبهذا كلّه سقط مقدّمة الوجوب أيضاً.{وكذلك} ليست {المقدّمة العلميّة} محلّاً للنزاع {وإن استقلّ العقل بوجوبها إلّا أنّه} فرق بين الوجوبين، أي: وجوب المقدّمة الّذي هو محلّ البحث ووجوب الإتيان بأطراف العلم الإجمالي المسمّى بالمقدّمة العلميّة، فإنّ ملاك وجوبها غير ملاك وجوب المقدّمة لأنّ وجوب المقدّمة العلميّة {من باب وجوب الإطاعة إرشاداً} فالعقل يرى الملازمة بين الوجوبين، أي: الوجوب الإرشادي للإطاعة والوجوب المقدّمي فحكم الإطاعة عقليّ، وحيث لا يتمكّن من الإتيان على طبق هذا الوجوب العقلي يرى وجوب الإتيان بالأطراف {ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز، لا مولويّاً} عطف على «إرشاداً» يعني ليس وجوب المقدّمة العلميّة من باب أنّه مقدّمة للوجوب المولوي {من باب الملازمة} بين الوجوب المولوي النّفسي.

{و} الوجوب الغيري فليس وجوبها من باب {ترشّح الوجوب عليها} أي: على المقدّمة العلميّة {من قبل وجوب ذي المقدّمة} فتبيّن الفرق بين الملازمتين وأنّ الملازمة في المقدّمة العلميّة بين الوجوب العقلي الإرشادي والوجوب الغيري، والملازمة في مقدّمة الوجود بين المولوي والغيري. وبهذا أيضاً سقط مقدّمة العلم، فانحصرت المقدّمة المبحوث عنها في مقدّمة الوجود.

ص: 23

ومنها: تقسيمها إلى المتقدّم، والمقارن، والمتأخّر، بحسب الوجود بالإضافة إلى ذي المقدّمة.

وحيث إنّها كانت من أجزاء العلّة - ولا بدّ من تقدّمها بجميع أجزائها على المعلول - أُشكل الأمر في المقدّمة المتأخّرة، كالأغسال الليليّة

___________________________________________

تقسيم المقدّمة إلى المتقدّم والمقارن والمتأخّر

{ومنها} أي: ومن التقسيمات للمقدّمة {تقسيمها إلى المتقدّم} كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة {والمقارن} كالاستقبال لها {والمتأخّر} كغسل الليلة الآتية بالنسبة إلى صوم اليوم الماضي.

ثمّ حيث إنّ للتقدّم وأخويه كان أقساماً بيّن أنّ المراد هنا بالتقدّم والتقارن والتأخّر {بحسب الوجود} لا بالشرف والرّتبة ونحوهما، وحيث إنّها من الأُمور الإضافية المحتاجة إلى المضاف إليه قال: {بالإضافة إلى ذي المقدّمة} كالصلاة والصوم في المثال {وحيث إنّها} أي: المقدّمة {كانت من أجزاء العلّة و} قد تقرّر في المعقول أنّ العلّة {لا بدّ من تقدّمها بجميع أجزائها على المعلول} رتبة وإن وجب تقارنهما زماناً، والسّرّ في وجوب التقدّم الرّتبي أنّه لولاه لم يكن أحدهما أولى بالعلّيّة والآخر بالمعلوليّة من العكس.

ووجه وجوب التقارن الزماني ما أشار إليه العلّامة المشكيني(رحمة الله) بقوله: «والسّرّ فيه أنّه لو تقدّم زماناً أو تأخّر يكون وجود المعلول معدوماً، فحينئذٍ إن فرض عدم تأثيره فيه لزم الخلف، إذ المفروض أنّه مؤثّر، أو جزء مؤثّر، أو له دخل في التأثير، وإن فرض التأثير لزم تأثير المعدوم في الموجود، وبداهة العقل تحكم ببطلانه»(1) {أشكل الأمر} خبر «حيث» {في المقدّمة المتأخّرة كالأغسال الليليّة}

ص: 24


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 466.

المعتبرة في صحّة صوم المستحاضة عندبعض(1)، والإجازةِ في صحّة العقد على الكشف كذلك، بل في الشّرط أو المقتضي المتقدّم على المشروط زماناً، المتصرّم حينه، كالعقد في الوصيّة والصرف والسّلم، بل في كلّ عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه؛ لتصرّمها حين تأثيره،

___________________________________________

الآتية {المعتبرة في صحّة صوم المستحاضة} لليوم السّابق {عند بعض} ممّن اشترط صحّة صوم اليوم الماضي بغسل الليلة الآتية.

{و} كذلك {الإجازة} المتأخّرة {في صحّة العقد} الواقع فضولاً بناءً {على الكشف} الحقيقي، إذ بعضهم ذهب إلى النّقل وأنّ الإجازة المتأخّرة موجبة لإيجاد العلقة ابتداءً، وبعضهم ذهب إلى الكشف الحقيقي وأنّ الإجازة المتأخّرة مؤثّرة في انعقاد العقد المتقدّم، وذهب جمع من المحقّقين إلى الكشف الحكمي، والتفصيل مذكور في مكاسب الشّيخ(رحمة الله)(2) وغيره {كذلك} أي: عند بعض.

{بل} يشكل الأمر {في الشّرط أو المقتضي المتقدّم على المشروط زماناً المتصرّم} أي: المنقضي ذلك الشّرط {حينه} أي: حين المشروط {كالعقد في الوصيّة} فإنّ ملك الموصى له بعد الموت، فالعقد مقدّم والملك متأخّر {و} كذلك العقد في بيع {الصرف} وهو بيع الأثمان {و} في {السّلم} وهو مقابل النّسيئة، فإن ملك المشتري متوقف على القبض، فالعقد فيها مقدّم والملك متأخّر.{بل} يشكل الأمر {في كلّ عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه لتصرّمها} أي: انقضاء تلك الأجزاء {حين تأثيره} أي: تأثير العقد.

مثلاً: لو قال البائع للمشتري: (بعتك هذا الكتاب بدينار) فقال المشتري: (قبلت) وقع الملك بعد التاء في القبول مع أنّ ما قبلها قد انصرم ومضى، فيدور الأمر حينئذٍ بين القول بعدم تأثيره، فيلزم عدم انعقاد البيع وهو باطل، وبين الانعقاد

ص: 25


1- السرائر 1: 407؛ شرائع الإسلام 1: 197.
2- كتاب المكاسب 3: 408.

مع ضرورةِ اعتبار مقارنتها معه زماناً.

فليس إشكال انخرام القاعدة العقليّة مختصّاً بالشرط المتأخّر في الشّرعيّات - كما اشتهر في الألسنة - ، بل يعمّ الشّرطَ والمقتضي المتقدّمين المتصرّمين حين الأثر.

والتحقيق في رفع هذا الإشكال أن يقال: إنّ الموارد الّتي توهم انخرام القاعدة فيها لا تخلو: إمّا أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف، أو الوضع، أو المأمور به.

___________________________________________

فيلزم تاثير المعدوم في الموجود {مع ضرورة اعتبار مقارنتها} أي: مقارنة العلّة {معه} أي: مع الأثر {زماناً} كما تقدّم في كلام المشكيني(رحمة الله) {فليس إشكال انخرام القاعدة العقليّة} وهي لزوم تقدّم العلّة رتبة وتقارنها زماناً مع المعلول {مختصّاً بالشرط المتأخّر في الشّرعيّات، كما اشتهر} هذا الاختصاص {في الألسنة، بل يعمّ} الإشكال {الشّرط والمقتضي المتقدّمين المتصرّمين حين الأثر} كما يعمّ غير الشّرعي منهما. ولا يذهب عليك أنّه لا مجال للقول بالإمكان الشّرعي بعد ثبوت الاستحالة العقليّة، إذ المحالات التكوينيّة لا تصير ممكنة تشريعاً.{والتحقيق في رفع هذا الإشكال} عن جميع الموارد {أن يقال: إنّ الموارد الّتي توهم انخرام القاعدة فيها لا تخلو} عن ثلاثة أُمور:

لأنّه {إمّا أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف} بمعنى أنّه دخيل في أمر الآمر به {أو الوضع} بمعنى أنّه دخيل في صحّة انتزاعه لدى الحاكم بالوضع {أو المأمور به} بمعنى أنّه بسبب هذا الشّرط يحصل لمتعلّق الأمر خصوصيّة بحيث لولا هذه الخصوصيّة لم تقع متعلّقة للأمر، هذا وفي بعض نسخ الكتاب عطف «الوضع» بالواو، وهذا هو الأنسب بما سيفصّله من القسمين وجعل الوضع في الأمر الأوّل:

ص: 26

أمّا الأوّل: فكونُ أحدهما شرطاً له ليس إلّا أنّ للحاظه دخلاً في تكليف الأمِرِ، كالشرط المقارن بعينه، فكما أنّ اشتراطه بما يقارنه ليس إلّا أنّ لتصوّره دخلاً في أمره، بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر، كذلك المتقدّم أو المتأخّر.

وبالجملة: حيث كان الأمر من الأفعال الاختياريّة، كان من مبادئه - بما هو كذلك - تصوّرُ الشّيء بأطرافه، ليرغب في طلبه والأمر به،

___________________________________________

{أمّا الأوّل} وهو ما كان المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف أو الوضع {فكون أحدهما شرطاً له} أي: للتكليف {ليس إلّا أنّ للحاظه} أي: للحاظ ذلك الشّرط {دخلاً في تكليف الآمِر} بصيغة الفاعل، بمعنى أنّ الوجود العيني للشرط المتقدّم أو المتأخّر ليس دخيلاً في المشروط حتّى يستشكل بلزوم تأثير المعدوم في الموجود، بل المراد بكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً أنّ أمر الآمر إنّما تعلّق بهذه الذات لوجود ذلك الأمر المتقدّم أو المتأخّر، بحيث لو لم يكن لم تتعلّق الإرادة، فيكون الشّرط المتقدّم أوالمتأخّر {كالشرط المقارن بعينه} من غير فرق بينهما.

{فكما أنّ اشتراطه} أي: التكليف {بما يقارنه ليس إلّا} بمعنى {أنّ لتصوّره} أي: تصوّر ذلك المقارن {دخلاً في أمره} بمعنى أنّ العلم بكونه في الخارج صار سبباً للأمر بالمشروط لا أنّ وجوده يؤثّر في المشروط {بحيث لولاه} أي: لولا وجود الشّرط خارجاً {لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر كذلك} يكون حال الشّرط {المتقدّم أو المتأخّر} فالشرط الشّرعي ليس من صغريات العلّة التكوينيّة حتّى يلزم تقارنه مع المعلول زماناً، بل إنّ وجوده في الخارج كان سبباً لأمر المولى.

{وبالجملة حيث كان الأمر من الأفعال الاختياريّة} للمولى {كان من مبادئه} أي: مبادئ الأمر {بما هو كذلك} اختياري {تصوّر الشّيء} المأمور به {بأطرافه} المقدّم منه والمؤخّر والمقارن {ليرغب في طلبه} إذ بدون ملاحظة الأطراف لا يعلم الفائدة غير المزاحمة بالمفسدة، فيتوقّف الرّغبة {والأمر به} على ملاحظة الأطراف

ص: 27

بحيث لولاه لما رغب فيه، ولما أراده واختاره، فيسمّى كلّ واحد من هذه الأطراف - الّتي لتصوّرها دخلٌ في حصول الرّغبة فيه وإرادته - : شرطاً؛ لأجل دخْلِ لحاظه في حصوله، كان مقارناً له أو لم يكن كذلك، متقدّماً أو متأخّراً، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطاً، كان فيهما كذلك، فلا إشكال.

___________________________________________

{بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره} إلّا إذا كان سفيهاً {فيسمّى كلّ واحد من هذه الأطراف} الثّلاثة {الّتي لتصوّرها} أي: وجودها في الخارج المتعلّق للتصوّر {دخل في حصول الرّغبة فيه} أي:الرّغبة في الطلب {وإرادته} عطف على «حصول» {شرطاً} مفعول «يسمّى».

وإنّما يسمّى الأطراف الدخيلة شرطاً {لأجل دخل لحاظه في حصوله} أي: حصول الطلب والإرادة والرّغبة سواء {كان} ذلك المتصور في الخارج {مقارناً له} أي: للمأمور به {أو لم يكن كذلك} أي: مقارناً، وحينئذٍ كان {متقدّماً أو متأخّراً} عنه {فكما في} الشّرط {المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطاً} لا أنّ وجوده الخارجي مؤثّر في المشروط {كان فيهما} أي: المتقدّم والمتأخّر {كذلك} لحاظهما شرطاً لا وجودهما {فلا إشكال} على القاعدة العقليّة القائلة بلزوم تقارن المعلول مع العلّة. هذا كلّه في شرط التكليف إذا كان متقدّماً أو متأخّراً.

ولا يذهب عليك أنّه قد يعبّر بكون الشّرط الوجود العلمي والتصوّر الذهني، وقد يعبّر بكون الشّرط نفس الوجود الخارجي، بمعنى أنّه لولاه لم يأمر المولى، والمراد بالعبارتين واحد إذ المقصود نفي كون الشّرط علّة فاعليّة للمشروط، وهذا يؤدّي بكلّ من العبارتين وإن كان التعبير الأوّل أولى، إذ الوجود العلمي هو المدار في الأمر، بيان ذلك: أنّ المولى إنّما يأمر إذا علم بوجود ذلك الشّرط سواء كان واقعاً موجوداً أم لا، وكذلك لا يأمر إذا علم بعدم ذلك الشّرط سواء كان موجوداً واقعاً أم لا.

ص: 28

وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقاً، ولو كان مقارناً؛ فإنّ دَخْلَ شيءٍ في الحكم به، وصحّةِ انتزاعه لدى الحاكم به، ليس إلّا ما كان بلحاظه يصحّ انتزاعه، وبدونه لا يكاد يصحّ انتزاعه عنده، فيكون دخل كلّ من المقارن وغيره بتصوّره ولحاظه، وهو مقارن. فأين انخرام القاعدة العقليّة في غير المقارن؟ فتأمّل تعرف.

___________________________________________

والحاصل: أنّ بين الشّرط العلمي والشّرط الخارجي عموماً من وجه، والمدار على العلم لا على الخارج، فتدبّر.

{وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقاً} أي: {ولو كان مقارناً} للمشروط، إذ الوضع كالملكيّة والزوجيّة والطهارة والنّجاسة ونحوها اعتبارات من المعتبر، والاعتبار أيضاً فعل اختياري ينشأ عن الإرادة النّاشئة عن تصوّر المصلحة، وذلك يتحقّق بعد تحقّق الوجود العلمي للشرط {فإن دخل شيء} من الشّروط {في الحكم به} أي: بالوضع {و} في {صحّة انتزاعه لدى الحاكم به} الّذي لوضعه اعتبار عقلائي {ليس} ذلك الدخل {إلّا ما} أي: الشّرط الّذي {كان بلحاظه} ووجوده العلمي {يصحّ انتزاعه} أي: انتزاع ذلك الأمر الوضعي كالملكيّة {وبدونه} أي: بدون اللحاظ {لا يكاد يصحّ انتزاعه عنده} أي: عند الحاكم.

والحاصل: أنّ وجوده العلمي دخيل في الانتزاع، لا أنّ وجوده الخارجي علّة حتّى يشكّل لزوم تخلّف العلّة عن المعلول {فيكون دخل كلّ من} الشّرط {المقارن وغيره} من المتقدّم والمتأخّر {بتصوّره} أي: إنّ الدخيل هو تصوّر الشّرط {ولحاظه وهو} أي: اللحاظ {مقارن} للمشروط، فما كان علّة للحكم مقارن له وما كان غير مقارن ليس علّة {فأين انخرام القاعدة العقليّة} القائلة بلزوم التقارب بين العلّة والمعلول {في} الشّرط {غير المقارن} في التكليف والوضع؟ {فتأمّل} في المقام {تعرف} حقيقة المرام.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه في الجواب لا يفرق فيه بين كون المكلّف والواضع هو

ص: 29

وأمّا الثّاني: فكون شيء شرطاً للمأمور به ليس إلّا ما يحصللذات المأمور به بالإضافة إليه وجهاً وعنواناً، به يكون حسناً أو متعلّقاً للغرض، بحيث لولاها لما كان كذلك.

___________________________________________

الشّارع أو غيره. نعم، سوق الكلام في الشّارع غير سوقه في غيره.

ثمّ إنّ اللّه - سبحانه - لمّا كان منزّهاً عن التصوّر واللحاظ كان ما ذكر بالنسبة إليه - سبحانه - مثل الإرادة بالنسبة إليه - تعالى - .

{وأمّا الثّاني} وهو ما كان المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للمأمور به {فكون شيء شرطاً للمأمور به ليس} بمعنى أنّ له دخلاً في تحقّق ذات المأمور به، بحيث لولا هذا الشّرط لم يتحقّق الذات، مثل المحاذاة بالنسبة إلى الإحراق، فإنّه شرط لحصول ذات الإحراق، بل المراد بكون الشّيء شرطاً للمأمور به ليس {إلّا ما} أي: الشّيء الّذي {يحصل لذات المأمور به بالإضافة} والنّسبة {إليه} أي: إلى ذلك الشّيء {وجهاً وعنواناً به يكون حسناً} على قول العدليّة {أو} به يكون {متعلّقاً للغرض} وإن لم يكن حسن بناءً على قول الأشعري {بحيث لولاها} أي: لولا هذه الإضافة والنّسبة {لما كان} المأمور به {كذلك} حسناً ومتعلّقاً للغرض.

ثمّ إنّ هذه الإضافة الحاصلة بواسطة أمر خارج عن الشّيء - الّتي بسببها صار الشّيء حسناً ومتعلّقاً للغرض - على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أن تكون الإضافة إلى أمر متقدّم، مثل: أنّ الضرب المسمّى بالقصاص المسبوق بالاعتداء حسن، فالحسن طرأ على الضرب لإضافته إلى أمر متقدّم عليه.

الثّاني: أن تكون الإضافة إلى أمر متأخّر مثل: أنّ الغسل بماء الحمّام الملحوق بإعطاء الدرهم للحمّامي حسن، فالحسن طرأ على الغسل لإضافته إلى أمر متأخّر عنه.

الثّالث: أن تكون الإضافة إلى أمر مقارن، مثل: أنّ التطهير المقارن لصحّة البدن

ص: 30

واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات النّاشئة من الإضافات، ممّا لا شبهة فيه ولا شكّ يعتريه.

والإضافة كما تكون إلى المقارن، تكون إلى المتأخّر أو المتقدّم بلا تفاوت أصلاً، كما لا يخفى على المتأمّل.

فكما تكون إضافة شيء إلى مقارن له موجباً لكونه معنوناً بعنوان، يكون بذلك العنوان حسناً ومتعلّقاً للغرض، كذلك إضافته إلى متأخّر أو متقدّم؛

___________________________________________

حسن، فالحسن طرأ على التطهير لإضافته إلى أمر مقارن له، أعني: صحّة البدن.

{و} إن قلت: هل الحسن والقبح كما هما ذاتيّان في بعض الموارد كذلك يكونان بالوجوه والإضافات في بعض الموارد أم لا؟

قلت: {اختلاف الحسن والقبح و} كذلك اختلاف {الغرض} التابع لهما {باختلاف الوجوه والاعتبارات النّاشئة من الإضافات ممّا لا شبهة فيه ولا شكّ يعتريه} لبداهة أنّ ضرب اليتيم لغير التأديب قبيح وللتأديب حسن، مع أنّ الضرب والضارب والمضروب وآلة الضرب وزمانه ومكانه وسائر أطرافه واحد.

{و} إذا تحقّقت هاتان المقدّمتان - أعني: اختلاف الوجوه باختلاف الإضافة واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه - فنقول: {الإضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخّر أو المتقدّم} كما تقدّم من الأمثلة {بلا تفاوت} في الإضافات الثّلاثة {أصلاً} فكلّ من المتقدّم والمتأخّر والمقارن يوجب الإضافة والإضافة توجب الوجه والوجه يوجب الحسن - مثلاً -وبالحسن يتعلّق الغرض وذلك يوجب الأمر به {كما لا يخفى على المتأمّل} قليلاً.

ومن الواضح أنّه لا يفرق في ذلك المتقدّم وأخواه {فكما تكون إضافة شيء إلى} أمر {مقارن له موجباً لكونه} أي: ذلك الشّيء {معنوناً بعنوان يكون بذلك العنوان} أي: بسببه {حسناً ومتعلّقاً للغرض} الموجب للأمر به {كذلك إضافته إلى متأخّر أو متقدّم}

ص: 31

بداهةَ أنّ الإضافة إلى أحدهما ربّما توجب ذلك أيضاً، فلولا حدوث المتأخّر في محلّه لما كانت للمتقدّم تلك الإضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به، كما هو الحال في المقارن أيضاً، ولذلك أُطلق عليه الشّرط مثله، بلا انخرام للقاعدة أصلاً؛ لأنّ المتقدّم أو المتأخّر - كالمقارن - ليس إِلّا طَرَفَ الإضافةِ الموجبة للخصوصيّة الموجبة للحسن، وقد حقّق في محلّه أنّه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح أنّها تكون بالإضافات.

فمنشأ توهّم الانخرام: إطلاق الشّرط على المتأخّر،

___________________________________________

موجب لكون ذلك الشّيء موجّهاً بوجه يكون بسبب ذلك الوجه حسناً ومتعلّقاً للغرض من غير فرق {بداهة أنّ الإضافة إلى أحدهما ربّما توجب ذلك} العنوان الحسن {أيضاً، فلولا حدوث المتأخّر في محلّه} كإعطاء الدرهم للحمّامي {لما كانت للمتقدّم} كالغسل بماء الحمّام {تلك الإضافة} بأن يقال: إنّه غسل ملحوق بإعطاء الدرهم {الموجبة لحسنه} وذلك الحسن {الموجب لطلبه والأمر به} بأن يقول: (اغتسل)، {كما هوالحال في} الأمر {المقارن أيضاً} فإنّه موجب للعنوان الحسن مثلاً {ولذلك} الّذي قلنا من حصول الحسن لحصول الوجه الحاصل من الإضافة إلى المتقدّم أو المتأخّر {أُطلق عليه} أي: على كلّ واحد من المتقدّم والمتأخّر {الشّرط مثله} أي: مثل: المقارن {بلا انخرام للقاعدة} العقليّة المتقدّمة {أصلاً} كما لا يخفى، وذلك {لأنّ} الأمر {المتقدّم أو المتأخّر كالمقارن ليس} وجودها علّة فاعليّة للمأمور به حتّى يلزم التقارن الزماني، بل لا يكون كلّ واحد منها {إلّا طرف الإضافة} للمأمور به {الموجبة للخصوصيّة الموجبة} تلك الخصوصيّة {للحسن} أو القبح - مثلاً - .

{وقد حقّق في محلّه} كعلم الكلام والحكمة {أنّه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح أنّها} أي: الاعتبارات والوجوه {تكون بالإضافات} كما تقدّم في مثال التأديب وغيره {فمنشأ توهّم الانخرام} للقاعدة العقليّة {إطلاق الشّرط على المتأخّر} فيتوهّم

ص: 32

وقد عرفت أنّ إطلاقه عليه فيه - كإطلاقه على المقارن - إنّما يكون لأجل كونه طرفاً للإضافة الموجبة للوجه، الّذي يكون بذلك الوجه مرغوباً ومطلوباً، كما كان في الحكم لأجل دَخْل تصوّره فيه، كدخل تصوّر سائر الأطراف والحدود الّتي لولا لحاظُها لما حصل له الرّغبة في التكليف، أو لما صحّ عنده الوضع.

___________________________________________

أنّ المراد به العلّة {وقد عرفت} أنّه ليس كذلك و{أنّ إطلاقه} أي: الشّرط {عليه} أي: على المتأخّر {فيه} أي: في ما كان شرطاً للمأمور به {كإطلاقه} أي: الشّرط {على المقارن إنّما يكون لأجل كونه طرفاً للإضافةالموجبة للوجه الّذي يكون} الشّيء {بذلك الوجه مرغوباً ومطلوباً} فالمتقدّم أو المتأخّر ليس مؤثّراً في الذات، بل هما مؤثّران في الإضافة فقط، وحيث إنّها خفيفة المؤونة فلا بأس بكون المتأخّر او المتقدّم سبباً، لانتزاع عنوان حسن أو قبيح يوجب تعلّق الغرض به أمراً أو زجراً {كما كان} إطلاق الشّرط {في الحكم} الوضعي والتكليفي في الأمر الأوّل {لأجل دخل تصوّره} أي: ذلك المتقدّم أو المتأخّر {فيه} أي: في الحكم.

والحاصل: أنّ دخلهما في الحكم {كدخل تصوّر سائر الأطراف والحدود الّتي لولا لحاظها} حين إرادة الحكم {لما حصل له الرّغبة في التكليف أو لما صحّ عنده الوضع} وقوله: «كدخل» الخ من تتمّة المشبّه به - أعني: الحكم - لا المشبّه، - أعني: المأمور به - .

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «مثلاً إذا فرض اشتراط صوم المستحاضة بالاستحاضة الكبرى بغسل الليلة الآتية يكون دخل الغسل حينئذٍ في الصوم عبارة عن أنّه بملاحظة الغسل المزبور يحصل لصومها خصوصيّة بها يصير ذا مصلحة مقتضية، لإيجابه عليها بهذه الخَصُوصيّة، فيأمر بذلك الخاصّ، فيجب عليها الصوم في النّهار والغسل في الليلة الآتية»(1)، الخ.

ص: 33


1- شرح كفاية الأصول 1: 130.

وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الإشكال في بعض فوائدنا(1)، ولم يسبقني إليه أحد - في ما أعلم - فافهم واغتنم.

ولا يخفى: أنّها بجميع أقسامها داخلة في محلّ النّزاع، وبناءً على الملازمة يتصف اللّاحق بالوجوب، كالمقارن والسّابق؛

___________________________________________

{وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الإشكال في بعض فوائدنا} المطبوعة مع حاشيتنا على رسائل الشّيخ(رحمة الله) {ولم يسبقني إليه أحد في ما أعلم} وإن أجاب عن هذا الإشكال جماعة آخرون إلّا أنّه ليس بهذه الكيفيّة {فافهم واغتنم} ذلك.

فالمتحصّل من الإشكال: أنّ الشّرط من أجزاء العلّة الحقيقيّة، فلا يعقل تقدّمها ولا تأخّرها.

وحاصل الجواب: أنّ العلّة في التكليف والوضع الصورة الذهنيّة وهي مقارنة، وفي المأمور به الوجه والعنوان وهما مقارنان وإن كان منشأهما مقدّماً أو مؤخّراً.

{ولا يخفى أنّها} أي: شرائط المأمور به {بجميع أقسامها} من المتقدّم والمتأخّر والمقارن {داخلة في محلّ النّزاع} في أنّها واجبة أم لا؟ فمن ذهب إلى وجوب المقدّمة قال بوجوبها، ومن ذهب إلى العدم قال بعدم وجوبها.

قال المشكيني: «وأمّا شروط التكليف فلا يعقل اتصافها بالوجوب كما سيأتي، وشروط الوضع خارجة أيضاً لعدم وجوبه حتّى تتصف مقدّماته به على الملازمة. نعم، ربّما يتعلّق به الأمر، فيدخل في محلّ النّزاع»(2).

{و} من كلّ ما تقدّم ظهر أنّ مقدّمات المأمور به وشرائطه {بناءً على الملازمة يتصف اللّاحق} منها {بالوجوب كالمقارن والسّابق} فإنّها من مقدّمات المأمور به

ص: 34


1- فوائد الأصول: 59-60.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 477.

إذ بدونه لا يكاد يحصل الموافقة، ويكون سقوط الأمر بإتيان المشروط به مراعًى بإتيانه، فلولا اغتسالها في الليل - على القولبالاشتراط - لما صحّ الصوم في اليوم.

الأمر الثّالث: في تقسيمات الواجب.

منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط.

وقد ذكر لكلّ منهما تعريفات وحدود، تختلف بحسب ما أُخذ فيها من القيود،

___________________________________________

{إذ بدونه لا يكاد يحصل الموافقة} له {ويكون سقوط الأمر} المتوجّه إلى المكلّف {بإتيان} المأمور به {المشروط به} أي: بهذا الشّرط {مراعى بإتيانه} قبلاً أو بعداً أو مقارناً {فلولا اغتسالها في الليل} المتقدّم واليوم والليل الآتي {على القول بالاشتراط} بالغسل في الليل الآتي أيضاً {لما صحّ الصوم في اليوم} المتقدّم، ولولا الإجازة اللّاحقة والقبض اللّاحق لما صحّ العقد المتقدّم.

الأمر الثّالث: [في تقسيمات الواجب]

اشارة

{الأمر الثّالث} من الأمور الّتي لا بدّ من بيانها قبل الخوض في المقصود من مقدّمة الواجب {في تقسيمات الواجب} وإنّما قدّمها لدخالتها في المقصد.

قال في التقريرات: «قد عرفت تحقيق القول في تقسيم المقدّمة وما هو ينبغي أن يكون محلّاً للخلاف من تلك الأقسام، فيعرّف الآن محلّ الخلاف من الواجب الّذي أُضيف إليه لفظ المقدّمة»(1)،

انتهى.

[التقسيم الأوّل:] الواجب المطلق والمشروط

اشارة

{منها تقسيمه إلى} الواجب {المطلق والمشروط، وقدذكر لكلّ منهما تعريفات وحدود تختلف} تلك التعريفات {بحسب ما أُخذ فيها من القيود}:

فعن بعضٍ تعريف الواجب المطلق بأنّه: «ما لا يتوقّف وجوبه على أمر زائد على

ص: 35


1- مطارح الأنظار 1: 223.

وربّما أُطيل الكلام بالنقض والإبرام في النّقض على الطرد والعكس(1)، مع أنّها - كما لا يخفى - تعريفات لفظيّة لشرح الاسم، وليست بالحدّ ولا بالرسم.

___________________________________________

الأُمور المعتبرة في التكليف من العلم والعقل والقدرة والبلوغ، والمشروط بخلافه»(2)،

وقال صاحب الحاشية ما لفظه: «إنّ الواجب باعتبار ما يتوقّف عليه في الجملة قسمان:

أحدهما: أن يتوقّف وجوده عليه من غير أن يتوقّف عليه وجوبه، كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة.

وثانيهما: أن يتوقّف وجوبه عليه سواء توقّف عليه وجوده، كالعقل بالنسبة إلى العبادات الشّرعيّة، أو لم يتوقّف عليه، كالبلوغ بالنسبة إليها، بناءً على القول بصحّة عبادات الصّبيّ»(3).

وعن بعضٍ آخر: أنّ الواجب المشروط ما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده، والواجب المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده.

{وربّما أُطيل الكلام بالنّقض والإبرام في النّقض على الطرد} وعدم منع الأغيار {والعكس} بعدمجمع الأفراد. وحاصل معنى العبارة أنّهم نقضوا وأشكلوا على طرد التعاريف وعكسها، ثمّ بعض آخر أشكلوا على الإشكال وبعضهم صحّحوا الإشكال {مع} أنّه لا وقع لهذه الإشكالات أصلاً، إذ {أنّها - كما لا يخفى - تعريفات لفظيّة لشرح الاسم} إجمالاً نحو (سعدانة نبت) {وليست بالحد} المبيّن للجنس والفصل {ولا بالرسم} المبيّن للجنس والخاصّة.

ص: 36


1- مطارح الأنظار 1: 223؛ بدائع الأفكار: 304.
2- حقائق الأصول 1: 230.
3- هداية المسترشدين 2: 86.

والظّاهر: أنّه ليس لهم اصطلاح جديدٌ في لفظ المطلق والمشروط، بل يطلق كلّ منهما بما له من معناه العرفي.

كما أنّ الظاهر: أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيّان، لا حقيقيّان، وإلّا لم يكد يوجد واجب مطلق؛ ضرورة اشتراط وجوب كلّ واجب ببعض الأُمور، لا أقلّ من الشّرائط العامّة، كالبلوغ والعقل.

___________________________________________

{والظّاهر} بحسب تعريفاتهم {أنّه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط} يريدون بيان ذلك الاصطلاح بهذه التعريفات، إذ لو كان هناك اصطلاح لم يكن وقع للإشكال، إذ لا مشاحّة فيه، فتدبّر {بل يطلق كلّ منهما} في ألسنة الفقهاء والأصوليّين {بما له من معناه العرفي} المطابق للمعنى اللغوي وأحد صغرياته - أعني: ما كان الوجوب غير منوط بشيء وما كان منوطاً به - .

{كما أنّ الظاهر} بحسب تتبّع مطلقات الشّرع ومشروطاته الّتي انصبّ عليها كلام الفقهاء والأصوليّين {أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيّان} فالواجب بالنسبة إلى مقدّمةمطلق وبالنسبة إلى مقدّمة أُخرى مشروط.

مثلاً: الصلاة بالنسبة إلى الطهارة مطلق وبالنسبة إلى العقل مشروط، وكذا الحج بالنسبة إلى الاستطاعة مشروط وبالنسبة إلى السّير مطلق {لا حقيقيّان} بحيث يكون واجب مطلقاً من جميع الجهات، وواجب مشروطاً من جميع الجهات {وإلّا} يكن الوصفان إضافيّين لم يكن وجه للبحث عن الواجب المطلق أصلاً، إذ {لم يكد يوجد واجب مطلق} من جميع الجهات {ضرورة اشتراط وجوب كلّ واجب ببعض الأُمور} و{لا أقلّ من الشّرائط العامّة كالبلوغ والعقل} فإنّ كلّ واجب مشروط بالنسبة إليها. والشّرائط العامّة أربعة، وهي ما ذكره المصنّف(رحمة الله) بإضافة القدرة والعلم، فتأمّل.

ص: 37

فالحريّ أن يقال: إنّ الواجب مع كلّ شيء يلاحظ معه: إن كان وجوبه غيرَ مشروط به فهو مطلق بالإضافة إليه، وإلّا فمشروط كذلك، وإن كان بالقياس إلى شيء آخر بالعكس.

ثمّ

___________________________________________

وعلى كلّ حال {فالحريّ أن يقال: إنّ الواجب مع كلّ شيء} من مقدّماته الّذي {يلاحظ} الواجب {معه إن كان وجوبه غير مشروط به} بأن كان المولى يريد الواجب على كلّ حال {فهو مطلق بالإضافة إليه} أي: إلى ذلك الشّيء - أعني: المقدّمة - {وإلّا} يكن كذلك - بأن كان وجوب الواجب بشرط وجود تلك المقدّمة - {فمشروط كذلك} بالإضافة إلى تلك المقدّمة.

{وإن كان} كلّ من الواجبين المطلق بالإضافة والمشروط بالإضافة{بالقياس إلى شيء آخر} من المقدّمات {بالعكس} فالمطلق مشروط والمشروط مطلق، فالصلاة بالإضافة إلى الطهارة واجب مطلق والحجّ بالإضافة إلى الزاد مشروط، وإن كانت الصلاة بالإضافة إلى شيء آخر، كالوقت مشروطاً والحجّ بالإضافة إلى شيء آخر، كالسير مطلقاً.

{ثمّ} إنّ في الواجب المشروط نزاعاً بين الشّيخ الأعظم+ وبين المصنّف(رحمة الله) وبيان ذلك يتوقّف على مقدّمة، وهي: أنّ للأمر - مثلاً - هيئةً تفيد الوجوب ومادّةً هي متعلّق الوجوب، فإذا قيّد الأمر بقيد كان حتماً ظرف الفعل في زمان حصول ذلك الشّرط.

إذا تبيّن ذلك فنقول: مبنى الشّيخ(رحمة الله) على أنّ القيد ينصبّ على المادّة والهيئة تبقى على إطلاقها، فالوجوب في الحال وإنّما الواجب متأخّر، فإذا قال: (حجّ إن استطعت) وجب على المكلّف في الحال الحجّ الواقع بعد الاستطاعة، ومبنى المصنّف على أنّ القيد ينصبّ على الهيئة والمادّة تتقيّد بتبعها، فالوجوب كالواجب

ص: 38

الظاهر: أنّ الواجب المشروط - كما أشرنا إليه - نفسُ الوجوب فيه مشروط بالشرط، بحيث لا وجوب حقيقة ولا طلبَ واقعاً قبل حصول الشّرط، كما هو ظاهر الخطاب التعليقي؛ ضرورة أنّ ظاهر خطاب (إن جاءك زيد فأكرمه) كونُ الشّرط من قيود الهيئة، وأنّ طلب الإكرام وإيجابَه معلّقٌ على المجيء، لا أنّ الواجب فيه يكون مقيّداً به - بحيث يكون الطلب والإيجاب في الخطاب فعليّاً ومطلقاً، وإنّما الواجب يكون خاصّاً ومقيّداً - ، وهو

___________________________________________

متأخّر، فلا يجب في الحال وإنّما بعد الاستطاعة يجب الحج. والفرق بين القولين يظهر في بعض المواضع.وعلى هذا كان {الظاهر} عند المصنّف {أنّ الواجب المشروط كما أشرنا إليه} بقولنا: «إن كان وجوبه غير مشروط به» الخ {نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط، بحيث لا وجوب حقيقة} في الحال {ولا طلب واقعاً قبل حصول الشّرط} بل الواجب والوجوب متأخّران {كما هو ظاهر الخطاب التعليقي} الّذي يعلّق الجملة الإنشائيّة بالشرط.

{ضرورة أنّ ظاهر خطاب (إن جاءك زيد فأكرمه) كون الشّرط} أي: إن جاءك {من قيود الهيئة} الجزائيّة، أي: (أكرم) فإنّ (أكرم) عند التحليل: وجوب الإكرام.

ومن البديهي أنّه لو قيل: وجوب الإكرام مشروط بالمجيء فهم العرف منه أنّ المضاف - أعني: لفظ (وجوب) - مقيّد بالمجيء، لا أنّ المضاف إليه - أعني: لفظ (أكرم) - مقيّد به.

{و} الحاصل: الظاهر عند العرف {أنّ طلب الإكرام وإيجابه معلّق على المجيء} فمع عدم المجيء لا إيجاب ولا وجوب {لا أنّ الواجب} أي: الإكرام {فيه} أي: في هذا الطلب {يكون مقيّداً به} أي: بالمجيء {بحيث يكون الطلب والإيجاب في الخطاب} الصادر من المولى {فعليّاً ومطلقاً} كما يقول الشّيخ {وإنّما الواجب يكون خاصّاً} أي: مخصوصاً بزمان المجيء {ومقيّداً} به {وهو}

ص: 39

الإكرام على تقدير المجيء، فيكون الشّرط من قيود المادّة لا الهيئة، كما نُسب ذلك إلى شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه(1)

- مدّعياً لامتناع كون الشّرط من قيود الهيئةواقعاً، ولزومَ كونه من قيود المادّة لُبّاً، مع الاعتراف بأنّ قضيّة القواعد العربيّة أنّه من قيود الهيئة ظاهراً.

أمّا امتناع كونه من قيود الهيئة: فلأنّه لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب المتعلّق بالفعل المنشأ بالهيئة،

___________________________________________

أي: كون الواجب المقيّد {الإكرام على تقدير المجيء فيكون} على هذا {الشّرط من قيود المادّة} أي: الإكرام {لا الهيئة} أي: الوجوب {كما نسب ذلك} أي: رجوع الشّرط إلى المادّة، والنّاسب هو التقريرات {إلى شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - مدّعياً لامتناع كون الشّرط من قيود الهيئة واقعاً} في مقام الثّبوت.

{ولزوم} عطف على «امتناع» {كونه} أي: الشّرط {من قيود المادّة لُبّاً} يعني: أنّ العقل حاكم بلزوم كون الشّرط من قيود المادّة لا الهيئة، كما أشار إليه بقوله: {مع الاعتراف} من الشّيخ {بأنّ قضيّة القواعد العربيّة أنّه} أي: الشّرط {من قيود الهيئة ظاهراً} أي: بحسب ظاهر اللفظ.

وقوله: «باقتضاء القواعد العربيّة» يمكن أن يكون لما تقدّم من أنّ الأمر عند الانحلال يكون مضافاً ومضافاً إليه، والحال وسائر القيود يرجع إلى المضاف، بل لا يجوز الإتيان بالقيد للمضاف إليه إلّا مع القرينة، كما قال ابن مالك: «ولا تجز حالاً من المضاف له» الخ.

{أمّا امتناع كونه من قيود الهيئة فلأنّه} كان هذا الطلب فرداً من مطلق الطّلب، و{لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب} المطلق {المتعلّقبالفعل} أي: بالمادّة {المنشأ بالهيئة} إذ هيئة الأمر موضوعة بالوضع النّوعي العام والموضوع له الخاص لخصوصيّات أفراد الطلب، فالموضوع له والمستعمل فيه فرد خاصّ من

ص: 40


1- مطارح الأنظار 1: 237.

حتّى يصحّ القول بتقييده بشرط ونحوه، فكُلُّ ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الّذي يدلّ عليه الهيئة، فهو - عند التحقيق - راجعٌ إلى نفس المادّة.

وأمّا لزوم كونه من قيود المادّة لُبّاً: فلأنّ العاقل إذا توجّه إلى شيء والتفت إليه: فإمّا أن يتعلّق طلبه به، أو لا يتعلّق به طلبه أصلاً، لا كلام على الثّاني.

وعلى الأوّل: فإمّا أن يكون ذاك الشّيء مورداً لطلبه وأمره مطلقاً على اختلاف طوارئه، أو على تقدير خاصّ، وذلك التّقدير:

___________________________________________

الطلب ولا إطلاق فيه {حتّى يصحّ القول بتقييده بشرط ونحوه} من الغاية والصفة.

والحاصل: أنّه حال الإطلاق أي: قبل التشخّص لا طلب إنشائيّاً وبعد الطلب الإنشائي المتشخّص لا إطلاق حتّى يقيّد، وعلى هذا {فكلّ ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الّذي يدلّ عليه الهيئة} إذ مفاد الهيئة هو الطلب {فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادّة} الّتي هي متعلّق الطلب.

{وأمّا لزوم كونه من قيود المادّة لُبّاً} هذا دليل ثان على أصل الطّلب لا أنّه جزء الدليل الأوّل، إذ بعد دوران الأمر بين الرّجوع إلى المادّة أو الهيئة وامتناع الرّجوع إلى الهيئة يتعيّن الرّجوع إلى المادّة - كما لا يخفى - .ويمكن أن يجعل الدليلان طوليّين بأن يكون المدّعى أوّلاً امتناع الرّجوع إلى الهيئة، وثانياً أنّه لو فرض عدم الامتناع وكون الهيئة قابلاً للتقييد وجب أيضاً القول بتقييد المادّة {فلأنّ العاقل إذا توجّه إلى شيء} وتصوّره {والتفت إليه فإمّا أن يتعلّق طلبه به أو لا يتعلّق به طلبه أصلاً، لا كلام على الثّاني} وهو صورة عدم تعلّق الطلب، {وعلى الأوّل} - أعني: تعلّق الطلب - {فإمّا أن يكون ذاك الشّيء} المتصوّر {مورداً لطلبه وأمره مطلقاً على اختلاف طوارئه أو} لا يكون مورداً لطلبه مطلقاً بل {على تقدير خاصّ} لا كلام في ما كان مورداً للطلب مطلقاً.

{و} إنّما الكلام في ما كان مورداً للطلب على {ذلك التقدير} الخاص، وهو

ص: 41

تارةً يكون من الأُمور الاختياريّة، وأُخرى لا يكون كذلك.

وما كان من الأُمور الاختياريّة: قد يكون مأخوذاً فيه على نحوٍ يكون مورداً للتكليف، وقد لا يكون كذلك - على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه والأمر به - من غير فرقٍ في ذلك بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، والقول بعدم التبعيّة، كما لا يخفى.

هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل المقرّر لبحثه بأدنى تفاوت(1).

___________________________________________

{تارةً يكون من الأُمور الاختياريّة} كالطّهارة بالنسبة إلى الصلاة، والاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ في ما كانت اختياريّة {وأُخرىلا يكون} ذلك التقدير {كذلك} أي: من الأُمور الاختياريّة كالوقت بالنسبة إلى الصلاة، لا كلام في هذا القسم وإنّما الكلام في الأوّل.

{و} هو {ما كان من الأُمور الاختياريّة} للمكلّف، وهذا الأمر الاختياري {قد يكون مأخوذاً فيه} أي: في الطلب {على نحو يكون مورداً للتكليف} بحيث يتوجّه التكليف إلى هذا المورد الخاص، فيجب تحصيل ذلك الشّيء مقدّمةً وهو الواجب المطلق.

{وقد لا يكون كذلك} فلا يتوجّه التكليف إلى المقدّمة، بل يجب الإتيان بالواجب على تقدير حصول المقدّمة وهو الواجب المشروط {على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه والأمر به} فربّما يكون الغرض طلبه مطلقاً وربّما يكون مشروطاً {من غير فرقٍ في ذلك} الدليل الّذي ذكرناه {بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد} كما يقوله العدليّة {والقول بعدم التبعيّة} كما يقوله الأشاعرة {كما لا يخفى} إذ الفرق في وجود المصلحة وعدمها لا في تعلّق الطلب، إذ الطلب متعلّق على كلا القولين، لكن العدليّة تقول بتبعيّته للمصلحة والأشعري لا يقول بها {هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل المقرّر لبحثه بأدنى تفاوت} يظهر ذلك

ص: 42


1- مطارح الأنظار 1: 267.

ولا يخفى ما فيه:

أمّا حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة: فقد حقّقناه سابقاً(1): أنّ كلّ واحد من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكونعامّاً كوضعها، وإنّما الخصوصيّة من قبل الاستعمال كالأسماء، وإنّما الفرق بينهما أنّها وضعت لتستعمل وتقصد بها المعنى بما هو هو، والحروف وضعت لتستعمل وتقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة لمعاني المتعلّقات.

فلحاظ الآليّة - كلحاظ الاستقلاليّة - ليس من طوارئ المعنى، بل من مشخّصات الاستعمال - كما لا يخفى على أُولي الدراية والنُّهى - ، و

___________________________________________

لمن راجع التّقريرات.

{ولا يخفى ما فيه: أمّا} في الدليل الأوّل وهو {حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة} فهو مبنيّ على كون الهيئة من الحروف وكون الموضوع له في الحروف خاصّاً ولا نسلّم المقدّمة الثّانية {فقد حقّقناه سابقاً} مكرّراً {أنّ كلّ واحدٍ من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عامّاً كوضعها} الّذي هو عامّ {و} قلنا: {إنّما الخصوصيّة من قبل الاستعمال كالأسماء} الّذي كان الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عامّاً فيها {وإنّما الفرق بينهما} في شرط الواضع و{أنّها وضعت لتستعمل وتقصد بها المعنى بما هو هو} وفي نفسه {والحروف وضعت لتستعمل وتقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة} ومرآة {لمعاني المتعلّقات، فلحاظ الآليّة} في الحروف {كلحاظ الاستقلاليّة} في الأسماء {ليس من طوارئ المعنى} حتّى يكون جزئيّاً {بل من مشخّصات الاستعمال - كما لا يخفى على أُولي الدراية والنُّهى -}.وبهذا تبيّن أنّ المعنى الحرفي كلّيّ طبيعيّ قابل للتقييد كما كان المعنى الاسمي كذلك {و} حينئذٍ فنقول في جواب الشّيخ(رحمة

الله) القائل بعدم قابليّة تقييد الهيئة: أنّ

ص: 43


1- في الأمر الثّاني من الأمور المذكورة في المقدمة، راجع الوصول إلى كفاية الأصول 1: 45-54.

الطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلقٌ قابلٌ لأن يقيّد.

مع أنّه لو سلم أنّه فردٌ، فإنّما يمنع عن التّقييد لو أنشأ أوّلاً غيرَ مقيّد، لا ما إذا أنشأ من الأوّل مقيّداً، غاية الأمر قد دُلَّ عليه بدالّين، وهو غير إنشائه أوّلاً ثمّ تقييده ثانياً، فافهم.

فإن قلت: على ذلك يلزم تفكيك الإنشاء من المنشأ؛ حيث لا طلبَ قبل حصول الشّرط.

___________________________________________

{الطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق قابل لأن يقيّد} وليس بفرد حتّى لا يكون قابلاً للتقييد.

{مع} أنّ لنا جواباً آخر عن دليله الأوّل، وهو {أنّه لو سلم أنّه} أي: الطلب المفاد من الهيئة {فرد} وليس بمطلق لكن نقول: إنّ كلّ كلّيّ يقبل الإنشاء مثل الزوجيّة والطلب إذا أنشأ أوّلاً من دون لحاظ تقييد فيه، فلا يمكن عروض التقييد له ثانياً، إذ بمجرّد الإنشاء يتشخّص بتشخّص خاصّ ولا يعقل انقلاب الشّخص، بخلاف ما إذا أنشأ من أوّل الأمر مقيّداً بحيث يلحظ القيد والمقيّد، فيصبّ عليهما الإنشاء مرّة واحدة.

وهذا هو المراد بقوله: {فإنّما يمنع عن التّقييد لو أنشأ أوّلاً غير مقيّد، لا ما إذا أنشأ من الأوّل مقيّداً، غاية الأمر قد دُلَّ عليه} أي: المقيّد {بدالّين}: الأوّل الهيئة وهي تدلّ على المطلق، والثّاني الشّرط وهو يدلّ على التقييد {وهو} أي: ما ذكرنا من الإنشاء أوّلاً مقيّداً {غير} ما يرد عليه إيراد الشّيخ، إذ لا يلزم منه محذور {إنشائه أوّلاً ثمّتقييده ثانياً} الّذي سبق أنّه يلزم منه الانقلاب {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ هذين الإيرادين إنّما يردان لو كان مراد الشّيخ من الجزئيّة الذهنيّة، أمّا لو كان مراده الجزئيّة الخارجيّة - كما استظهر من كلام التقريرات - فلا يردان.

{فإن قلت: على ذلك} الّذي ذكرت من كون الشّرط قيداً للطلب {يلزم تفكيك الإنشاء من المنشأ حيث لا طلب} على قولكم {قبل حصول الشّرط} والتفكيك مستحيل؛ لأنّ الإنشاء علّة تامّة لحصول المنشأ، فلو كان الطلب مقيّداً بقيد فلازمه

ص: 44

قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله، فلا بدّ أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث، وإلّا لتخلّف عن إنشائه، وإنشاءُ أمرٍ على تقديرٍ - كالإخبار به - بمكانٍ من الإمكان، كما يشهد به الوجدان، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

حصوله بعده، فيتخلّف عن الإنشاء زماناً.

{قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله} إذ المفروض ورود الإنشاء على القيد والمقيّد جميعاً كان الأمر بعكس ما زعم {فلا بدّ أن لا يكون قبل حصوله} أي: حصول الشّرط {طلب وبعث، وإلّا} فلو كان طلب قبل حصول الشّرط {لتخلّف} المنشأ {عن إنشائه} إذ إنشاء الطلب بعد الشّرط لا قبله.

{و} إن قلت: تقييد المنشأ بالشرط يستلزم تقييد الإنشاء، والإنشاء حيث كان نحواً من الوجود لا يعقل تقييده، كالإيجاد التكويني، فكما لا يعقل الإيجاد في الحال بشرط كذا، كذلك لا يعقل الإنشاء في الحال بشرط كذا.

قلت: ليس التعليق في الإنشاء، بل هو حاليّ وإنّما التعليق في المتعلّق، إذ{إنشاء أمرٍ على تقديرٍ كالإخبار به بمكانٍ من الإمكان، كما يشهد به الوجدان} فكما يصحّ التعليق في متعلّق الإِخبار بأن يقول: (جاء زيد يكرمه عمرو) ولا يستلزمه تعليق الإخبار كذلك الإنشاء طابق النّعل بالنعل.

{فتأمّل جيّداً} يمكن أن يكون إشارة إلى إشكال وجواب: فالأوّل أنّ المنشأ إذا كان بعد حصول الشّرط يلزم تأثير المعدوم في الموجود، إذ الإنشاء حين وجود الشّرط معدوم.

والثّاني أوّلاً بالنقض، وهو أنّ المنشأ إذا كان قبل حصول الشّرط يلزم تأثير المعدوم في الموجود، إذ المفروض أنّ الشّرط أيضاً جزء من العلّة فلولاه لم يكن وجوب. وثانياً بالحلّ، وهو أنّ المنشأ أمر اعتباريّ، فيصحّ أن يكون منشؤه متقدّماً، كما تقدّم بيانه في تصوير الشّرط المتأخّر.

ص: 45

وأمّا حديث لزوم رجوع الشّرط إلى المادّة لُبّاً ففيه: أنّ الشّيء إذا توجّه إليه، وكان موافقاً للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها، كما يمكن أن يبعث فعلاً إليه ويطلبه حالاً؛ لعدم مانع عن طلبه، كذلك يمكن أن يبعث إليه معلّقاً، ويطلبه استقبالاً، على تقدير شرطٍ متوقّع الحصول، لأجل مانع عن الطلب والبعث فعلاً قبل حصوله، فلا يصحّ منه إلّا الطلبُ والبعث معلّقاً بحصوله، لا مطلقاً ولو متعلّقاً بذاك على التقدير، فيصحّ منه طلب الإكرام

___________________________________________

هذا كلّه في الجواب عن الدليل الأوّل للشيخ {وأمّا} الجواب عن دليله الثّاني وهو {حديث لزوم رجوع الشّرط إلى المادّة لُبّاً} كما تقدّم مستوفى {ففيه} أنّ صرف التوجّه لو كان كافياً صحّ ماذكر، إذ التوجّه حاصل بمجرّد الالتفات والتصوّر، ولا يعقل تقييد التوجّه بزمان حصول الشّرط فلا بدّ أن يكون المتوجّه إليه مقيّداً بزمان حصول الشّرط بأن يتوجّه في الحال إلى الأمر الاستقبالي، لكن صرف التوجّه ليس تكليفاً وإنشاءً، بل لا بدّ من البعث والطلب وهو قابل للإطلاق وللتقييد، إذ {أنّ الشّيء إذا توجّه} المولى {إليه وكان موافقاً للغرض بحسب ما فيه من المصلحة} كما يقوله العدليّة {أو غيرها} من مطلق الجهة الموجبة للطلب - كما يقوله الأشعري - {كما يمكن أن يبعث فعلاً إليه ويطلبه حالاً} من غير تقييد بشرط {لعدم مانع عن طلبه} فعلاً {كذلك يمكن أن يبعث إليه معلّقاً} بحصول الشّرط {ويطلبه استقبالاً على تقدير شرطٍ متوقّع الحصول} وإنّما لم يبعث إليه فعلاً {لأجل مانع عن الطلب والبعث فعلاً قبل حصوله} أي: حصول الشّرط {فلا يصحّ منه} أي: من المولى {إلّا الطلب والبعث معلّقاً بحصوله، لا مطلقاً} عطف على «معلّقاً» أي: لا يصحّ الطلب المطلق {ولو} كان هذا الطلب المطلق {متعلّقاً بذاك} الشّيء المأمور به {على التقدير} أي: تقدير حصول الشّرط، أي: يلزم الطلب المقيّد حينئذٍ ولا يصحّ الطلب المطلق ولو كان منصبّاً على المادّة المقيّدة {فيصحّ منه طلب الإكرام} المقيّد هذا الطلب بكونه

ص: 46

بعد مجيء زيد، ولا يصحّ منه الطلب المطلق الحالي للإكرام المقيّد بالمجيء.

هذا بناءً على تبعيّة الأحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح.وأمّا بناءً على تبعيّتها للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها فكذلك؛ ضرورة أنّ التبعيّة كذلك إنّما تكون في الأحكام الواقعيّة، بما هي واقعيّة لا بما هي فعليّة،

___________________________________________

{بعد مجيء زيد، ولا يصحّ منه الطلب المطلق الحالي للإكرام المقيّد} هذا الطلب {بالمجيء}.

ولا يذهب عليك أنّ الأقسام أربعة؛ لأنّ المصلحة إمّا مطلقاً وإمّا في الإطلاق وإمّا في التقييد، وعلى الثّالث فإمّا في التقييد قبل حصول القيد وإمّا بعده، وحكم الأقسام الأربعة واحد.

{هذا بناءً على تبعيّة الأحكام لمصالح فيها} أي: في نفس الأحكام {في غاية الوضوح} لوضوح إمكان كون المصلحة في الإطلاق وإمكان كونها في التقييد، بأن يكون مانع عن الإطلاق مثلاً {وأمّا بناءً على تبعيّتها للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها} أي: في متعلّق الأحكام {فكذلك} في غاية الوضوح، وإن كان ربّما يتوهّم أنّه بناءً على ذلك يستقيم ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) من كون القيود راجعة إلى المادّة.

وتقريره: أنّ الحكم تابع للمتعلّق وهو حسن أو قبيح بحسب ذاته فلا معنى لمنع المانع، لكن هذا توهّم فاسد {ضرورة أنّ التبعيّة كذلك} للمصلحة في المتعلّق {إنّما تكون في الأحكام الواقعيّة بما هي واقعيّة، لا} أنّ التبعيّة لمصلحة المتعلّق في الأحكام {بما هي فعليّة} بل الأحكام الفعليّة تابعة لما فيها من المصالح، وعليه فقد يمنع من فعليّة الطلب مانع فلا يكون الحكم فعليّاً، بل معلّقاً، فلا يتمّمدّعى الشّيخ(رحمة الله). وممّا يدلّ على جواز تقييد الفعليّة بوجودات متأخّرة أُمور ثلاثة

ص: 47

فإنّ المنع عن فعليّة تلك الأحكام غير عزيزٍ، كما في موارد الأصول والأمارات على خلافها، وفي بعض الأحكام في أوّل البعثة، بل إلى يوم قيام القائم(عجل الله تعالی فرجه الشریف)، مع أنّ «حلال محمّد(صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(1). ومع ذلك ربّما يكون المانع عن فعليّة بعض الأحكام باقياً مرّ الليالي والأيّام، إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع الظلام، كما يظهر من الأخبار المرويّة عن الأئمّة(علیهم السلام)(2).

___________________________________________

{فإنّ المنع عن فعليّة تلك الأحكام} الواقعيّة {غير عزيز} في الشّريعة المقدّسة.

وأمّا الأُمور الثّلاثة فقد أشار المصنّف إلى الأوّل منها بقوله: {كما في موارد الأصول والأمارات على خلافها} أي: خلاف الأحكام الواقعيّة، فإنّ مصلحة التسهيل أو غيره مانعة عن فعليّة الحكم الواقعي.

وإلى الثّاني بقوله: {وفي بعض الأحكام في أوّل البعثة} فإنّها لم تكن فعليّة لعدم استعداد المكلّفين، وقد أشار النّبيّ(صلی

الله علیه و آله) في بعض الأخبار إلى ذلك، وكذلك في بعض أخبار الخمر الدالّ على بناء اللّه تحريم الخمر إذا أكمل الدين.

وإلى الثّالث بقوله: {بل إلى يوم قيام القائم(عجل اللهتعالی فرجه الشریف)} فإنّها بعد ظهوره تكون فعليّة بعد ما لم تكن.

إِن قلت: لعلّ ذلك زمان أصل الحكم؟

قلت: ينافي هذا {مع} ما تواتر مضموناً، بل لفظاً من {أنّ «حلال محمّد(صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» ومع ذلك} الاستمرار من أوّل البعثة في الواقع {ربّما يكون المانع عن فعليّة بعض الأحكام باقياً مرّ الليالي والأيّام إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع الظّلام، كما يظهر من الأخبار المرويّة عن الأئمّة(علیهم السلام)} كما يظهر ذلك لمن راجع الأخبار.

ص: 48


1- الكافي 1: 58.
2- بحار الأنوار 52: 325.

فإن قلت: فما فائدة الإنشاء إذا لم يكن المنشأ به طلباً فعليّاً وبعثاً حاليّاً؟

قلت: كفى فائدة له أنّه يصير بعثاً فعليّاً بعد حصول الشّرط، بلا حاجة إلى خطاب آخر، بحيث لولاه لما كان فعلاً متمكّناً من الخطاب، هذا.

مع شمول الخطاب كذلك للإيجاب فعلاً بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثاً فعليّاً بالإضافة إليه، وتقديريّاً بالنسبة إلى الفاقد له،

___________________________________________

{فإن قلت}: إذا كان الطلب مطلقاً كما يقوله الشّيخ يصحّ إنشاء الطلب فعلاً قبل زمان الشّرط لما فيه من فائدة وجوب المقدّمة ونحوه، وأمّا إذا كان الطلب مقيّداً بما بعد وجود الشّرط كما تقولون به {فما فائدة الإنشاء} في الحال {إذا لم يكن المنشأ به} أي: بهذا الإنشاء {طلباً فعليّاً وبعثاً حاليّاً} بل اللّازم حينئذٍ تأخير الطلب إلى وقت وجود الشّرط؟

مثلاً: إذا كان وجوب ذهاب زيد إلى دار عمرو مقيّداً بطلوع الشّمس كان أمرالمولى في الليل له بالذهاب كذلك لغواً لعدم وجه للعجلة، بل اللّازم أمره بذلك بعد طلوع الشّمس.

{قلت}: أوّلاً بعد ما لزم الإنشاء في وقت مّا لم يكن فرق بين التقديم والتأخير، فترجيح الثّاني على الأوّل ترجيح بلا مرجّح.

وثانياً {كفى فائدة له أنّه} بالإنشاء المتقدّم {يصير بعثاً فعليّاً بعد حصول الشّرط بلا حاجة إلى خطاب آخر، بحيث لولاه لما كان} المولى {فعلاً} بعد حصول الشّرط {متمكّناً من الخطاب} بأن كان محذور في التأخير، كما يتفق كثيراً في موارد العقلاء.

{هذا مع} أنّ للتقديم فائدةً أُخرى تكثر في خطابات النّبيّ(صلی الله علیه و آله) والأئمّة(علیهم السلام) وهي {شمول الخطاب كذلك} أي: المقيّد بالشرط {للإيجاب فعلاً} في حال الخطاب {بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثاً فعليّاً بالإضافة إليه} لفرض وجود الشّرط {و} يكون بعثاً {تقديريّاً بالنسبة إلى الفاقد له} أي: للشرط في حال

ص: 49

فافهم وتأمّل جيّداً.

ثمّ الظّاهر دخول المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط في محلّ النّزاع أيضاً، فلا وجه لتخصيصه بمقدّمات الواجب المطلق، غاية الأمر تكون في الإطلاق والاشتراط تابعةً لذي المقدّمة، كأصل الوجوب، بناءً على وجوبها من باب الملازمة.

وأمّا الشّرط المعلّق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب،

___________________________________________

الخطاب، فيكون فائدة الإنشاء عدم تكرار الخطاب {فافهم وتأمّل جيّداً} وراجع التقريرات حتّى تعرف عدم ورود الكلام عليه.

{ثمّ} إذا عرفت الفرق بين الواجب المطلق وبين الواجب المشروط فاعلم: أنّ {الظّاهر دخول المقدّمات الوجوديّة} الّتي يتوقّف عليها وجود الواجب لا وجوبه {للواجب المشروط في محلّ النّزاع أيضاً} لأنّه بعد حصول مقدّمات وجوبه يكون الواجب فعليّاً فيأتي النّزاع في مقدّماته، فإذا تحقّقت الاستطاعة كان الحجّ بالنسبة إلى الذَّهَاب كالصلاة بالنسبة إلى الوضوء من غير فرق أصلاً {فلا وجه لتخصيصه} أي: تخصيص النّزاع {بمقدّمات الواجب المطلق، غاية الأمر تكون} المقدّمات الوجوديّة {في الإطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدّمة} فإن كان ذو المقدّمة مطلقاً كانت مقدّماته مطلقة وإن كان مشروطاً كانت مقدّماته مشروطة، فالصلاة مطلقة والوضوء مطلق والحجّ مشروط بالاستطاعة وشراء الزاد والرّاحلة مشروط بها {كأصل الوجوب} الّذي قد يكون مطلقاً وقد يكون مشروطاً.

والحاصل: أنّ الوجوب الغيري للمقدّمة {بناءً على وجوبها من باب الملازمة} تابع للوجوب النّفسي لذي المقدّمة، فالوجوب الغيري مطلق أو مشروط، كما أنّ الوجوب النّفسي كذلك.

هذا حال المقدّمات الوجوديّة {وأمّا} المقدّمة الوجوبيّة المعبّر عنها ب- {الشّرط المعلّق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب} كالاستطاعة المعلّق عليها وجوب الحج في

ص: 50

فخروجه ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب:

أمّا على ما هو ظاهر المشهور المنصور، فلكونه مقدّمة وجوبيّة.وأمّا على المختار لشيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - فلأنّه وإن كان من المقدّمات الوجوديّة للواجب، إلّا أنّه أخذ على نحو لا يكاد يترشّح عليه الوجوب منه؛ فإنّه جعل

___________________________________________

قوله: (حجّ إن استطعت) قال اللّه - تعالى - : {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ}(1) {فخروجه} أي: خروج هذا الشّرط - أعني: مقدّمة الوجوب عن محلّ النّزاع - {ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب} لأحد {أمّا} خروجه بناءً {على ما هو ظاهر المشهور المنصور} عندنا من رجوع القيد إلى الهيئة، أي: الوجوب، لا المادّة، أي: الواجب {فلكونه مقدّمة وجوبيّة} بمعنى أنّ الوجوب متوقّف عليه، فلا يعقل أن يكون متوقّفاً على الوجوب، وإن شئت قلت: إنّه تحصيل الحاصل.

{وأمّا} خروجه {على المختار لشيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه -} من رجوع القيد إلى المادّة لا الهيئة، بل الوجوب من حين الإنشاء {فلأنّه} أي: الشّرط {وإن كان} على هذا المبنى {من المقدّمات الوجوديّة للواجب} لا الوجوبيّة؛ إذ الوجوب حاصل بدونه وإنّما المتوقّف على هذا الشّرط وجود ذي المقدّمة {إلّا أنّه} مع ذلك الّذي ذكر أنّه مقدّمة للوجود {أخذ على نحو لا يكاد يترشّح عليه الوجوب منه} أي: من ذي المقدّمة، وليس كسائر المقدّمات الوجوديّة بحيث يجب تحصيلها بسبب ترشّح الوجوب عليها من ذيها.

فإن قلت: إذا فرض كون الشّرط من المقدّمات، فكيف لا يتعلّق به الوجوبالغيري؟

قلت: {فإنّه} الضمير للشأن {جعل} بصيغة الفعل المجهول لا المصدر،

ص: 51


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

الشّيء واجباً على تقدير حصول ذاك الشّرط، فمعه كيف يترشّح عليه الوجوب ويتعلّق به الطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل؟

نعم، على مختاره(قدس سره) لو كانت له مقدّمات وجوديّة غير معلّق عليها وجوبُه لتعلّق بها الطلب في الحال، على تقدير اتفاق وجود الشّرط في الاستقبال؛ وذلك لأنّ إيجاب ذي المقدّمة على ذلك حاليّ، والواجب إنّما هو استقباليّ - كما يأتي في الواجب المعلّق - ؛

___________________________________________

والحاصل أنّ الشّارع بعد ما جعل {الشّيء} كالحجّ مثلاً {واجباً على تقدير حصول ذاك الشّرط} كالاستطاعة {فمعه} أي: مع هذا النّحو من الجعل {كيف يترشّح عليه الوجوب ويتعلّق به الطلب} فإنّه قبل حصول الاستطاعة ليس الحجّ واجباً حتّى يجب مقدّمته {و} بعد وجوبه كانت المقدّمة حاصلة، فلا يعقل إيجاب الشّارع لها، و{هل هو إلّا طلب الحاصل؟} فتدبّر.

{نعم} بعد ما ثبت أنّه ليس فرق بين مبنى الشّيخ وبين مبنى المصنّف في مقدّمة الوجوب نقول: إنّ الفرق بين القولين يظهر في سائر المقدّمات الوجوديّة، فإنّه {على مختاره+ لو كانت له مقدّمات وجوديّة غير معلّق عليها وجوبه} كالتحفّظ على الرّاحلة الموجودة بعدم بيعها ونحوه {لتعلّق بها} أي: بتلك المقدّمات {الطلب في} هذا {الحال} الّذي لم تحصل الاستطاعة فيه {على تقدير اتّفاق وجود الشّرط في الاستقبال} فلو علم المكلّف بحصول الشرطفي المستقبل لم يجب تحصيل سائر المقدّمات في الحال على مبنى المصنّف ووجب على مبنى الشّيخ.

{وذلك} الإيجاب للمقدّمة إنّما يكون في الحال {لأنّ إيجاب ذي المقدّمة على ذلك} القول للشيخ {حاليّ والواجب إنّما هو استقباليّ، كما يأتي} بيان هذا {في الواجب المعلّق}.

فإن قلت: لا صلة بين الواجب المعلّق والواجب المشروط، إذ القيد في الأوّل للمادّة وفي الثّاني للهيئة، فقياس المشروط بالمعلّق لا وجه له؟

ص: 52

فإنّ الواجب المشروط على مختاره هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلّق، فلا تغفل.

هذا في غير المعرفة والتعلّم من المقدّمات.

وأمّا المعرفة فلا يبعد القول بوجوبها، حتّى في الواجب المشروط - بالمعنى المختار - ،

___________________________________________

قلت: ليس الأمر كذلك {فإنّ الواجب المشروط على مختاره} + {هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلّق} فالواجب المعلّق عند صاحب الفصول المراد به تقييد المادّة هو الواجب المشروط عند الشّيخ - كما تقدّم بيان مراده من المشروط - {فلا تغفل}.

ثمّ إنّ {هذا} الكلام الّذي ذكرناه من أنّ المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط كنفس الواجب مشروطة بحصول الشّرط، بحيث إنّه لولا الشّرط لم يجب ذو المقدّمة ولم تجب مقدّماتها {في غير المعرفة والتعلّم من المقدّمات} فوجوبها تابع لوجوب ذي المقدّمة {وأمّا المعرفة} أي: تعلّم مسائل الواجب ففيها إشكال على سبيلمنع الخلوّ؛ لأنّ الأمر دائر بين القول بوجوب تعلّم المسائل للحجّ مثلاً قبل حصول شرطه، فيرد عليه أنّه قبل وجوب ذي المقدّمة كيف يعقل وجوب المقدّمة، إذ المفروض ترشّح الوجوب من ذيها وبين القول بعدم وجوب تعلّم المسائل حينئذٍ، فيرد عليه أنّه كيف يجوز الترك في ما لو تأدّى ترك التعلّم إلى ترك الواجب، مثلما إذا استطاع في حال سير القافلة ولا يتمكّن من التعلّم فإنّه يفضي إلى ترك واجبات الحجّ - مثلاً - .

وقد أجابوا عن هذا الإشكال بوجوه، والمصنّف اختار الشّقّ الأوّل من الترديد ولذا قال: {فلا يبعد القول بوجوبها} أي: وجوب المعرفة {حتّى في الواجب المشروط بالمعنى المختار} له من تعلّق الوجوب بالشرط.

وأمّا على مختار الشّيخ من تعلّق الواجب وفعليّة الوجوب فلا يرد الإشكال، إذ

ص: 53

قبل حصول شرطه، لكنّه لا بالملازمة، بل من باب استقلال العقل بتنجّز الأحكام على الأنام بمجرّد قيام احتمالها، إلّا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقلّ بعده بالبراءة، وأنّ العقوبة على المخالفة بلا حجّة وبيان، والمؤاخذةَ عليها بلا برهان، فافهم.

تذنيب:

___________________________________________

الوجوب فعليّ ومنه يترشّح على المعرفة والتعلّم، فلا يلزم من الوجوب الغيري إشكال أنّه كيف يجب المقدّمة قبل ذيها، وأمّا على مختارنا فإنّا نقول بوجوب التعلّم {قبل حصول شرطه لكنّه لا بالملازمة} حتّى يقال: إنّ ذي المقدّمة بعد غير واجب {بل} وجوب المعرفة حينئذٍ {من باب استقلال العقل بتنجّز الأحكام على الأنامبمجرّد قيام احتمالها إلّا مع الفحص واليأس عن الظّفر بالدّليل على التكليف} متعلّق بالدليل.

والحاصل: أنّ الملاك الموجب للفحص عن الدليل في مقام الاحتمال هو بعينه موجود في المقام، إذ الملاك هو الاحتمال وإنّما الفرق أنّ هناك احتمال تكليف لم يطّلع على دليله وهنا احتمال حدوث تكليف بعد، والمكلّف قادر على الإطاعة في الأوّل بالفحص وفي الثّاني بتمهيد المقدّمة من الآن، وكما يجب الفحص هناك {فيستقلّ} العقل {بعده بالبراءة وأنّ العقوبة} حينئذٍ {على المخالفة بلا حجّة وبيان والمؤاخذة عليها بلا برهان} كذلك هنا يجب تعلّم المسائل حتّى يحكم العقل بالبراءة وأنّه مأمون عن العقوبة قطعاً.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ وجوب التعلّم حينئذٍ في ما علم عدم قدرته على التعلّم بعد حصول الشّرط ليس مطلقاً، إذ لو علم المكلّف بقدرته على الاحتياط لم يجب التعلّم عند من لا يعتبر قصد الوجه ونحوه.

[تذنيب]

{تذنيب} في أنّه كيف يصحّ إطلاق الواجب المشروط قبل حصول الشّرط مع

ص: 54

لا يخفى أنّ إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشّرط على الحقيقة مطلقاً.

وأمّا بلحاظ حال قبل حصوله فكذلك - على الحقيقة - على مختاره(قدس سره) في الواجب المشروط؛ لأنّ الواجب وإن كان أمراً استقباليّاً عليه، إلّا أنّ تلبّسه بالوجوب في الحال. ومجاز على المختار؛ حيث لا تلبّس بالوجوب عليه قبله، كما عنالبهائي(1) تصريحه بأنّ لفظ الواجب مجاز في المشروط بعلاقة الأَول

___________________________________________

أنّه ليس بواجب فعلاً؟ {لا يخفى أنّ إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشّرط} أعني: بعد حصول الاستطاعة مثلاً {على} نحو {الحقيقة} لما سبق في باب المشتقّ من أنّ استعمال المشتقّ بلحاظ حال التّلبّس حقيقة {مطلقاً} من غير فرق في ذلك بين مذهب المشهور، بكون القيد للهيئة، وبين مذهب الشّيخ، بكون القيد للمادّة.

{وأمّا} إطلاقه {بلحاظ حال قبل حصوله} أي: حصول الشّرط {فكذلك} كبعد الحصول {على} نحو {الحقيقة} بناءً {على مختاره(قدس سره) في الواجب المشروط} وذلك {لأنّ الواجب وإن كان أمراً استقباليّاً} معلّقاً على حصول الشّرط {عليه} أي: على مختار الشّيخ {إلّا أنّ تلبّسه بالوجوب في الحال} لفرض إطلاق الهيئة {ومجاز} عطف معنويّ على قوله: «على الحقيقة» المذكور ثانياً {على المختار} عندنا من كون الوجوب معلّقاً {حيث لا تلبس بالوجوب عليه} أي: على المختار {قبله} أي: قبل حصول الشّرط، فيكون من باب استعمال المشتقّ في المستقبل.

وهذا متفق على مجازيّته كما سبق {كما عن} الشّيخ {البهائي تصريحه بأنّ لفظ الواجب مجاز في} الواجب {المشروط بعلاقة الأَول} على وزن (القول) وهي: ما

ص: 55


1- زبدة الأصول: 46؛ مطارح الأنظار 1: 229.

أو المشارفة.وأمّا الصيغة مع الشّرط فهي حقيقةٌ على كلّ حال؛ لاستعمالها على مختاره(قدس سره) في الطلب المطلق، وعلى المختار في الطلب المقيّد، على نحو تعدّد الدالّ والمدلول. كما هو الحال في ما إذا أُريد منها المطلق المقابل للمقيّد، لا المبهم المقسم،

___________________________________________

إذا كانت المناسبة بين ذاتين، فيسمّى الذات في الحالة الأُولى باسمها في الحالة الثّانية، كأن يسمّى الإنسان تراباً بعلاقة أَوْلِهِ إليه {أو المشارفة} وهي: ما إذا كانت المناسبة بين الزمانين، بأن يُسَمَّى الشّيء - مثلاً - في هذا الحال باسمه في الحال الثّاني لتقارب الزمانين.

{وأمّا الصّيغة مع الشّرط} كما لو قال: (حجّ إن استطعت) {فهي حقيقة على كلّ حال} وذلك {لاستعمالها على مختاره(قدس سره) في الطلب المطلق} إذ الهيئة الّتي تفيد الطلب غير مقيّد بالشرط وإنّما المادّة مقيّدة به {وعلى المختار} عندنا استعملت {في الطلب المقيّد} لأنّ الهيئة مقيّدة، لكن الاستعمال {على نحو تعدّد الدالّ والمدلول}.

فصيغة الأمر تدلّ على الطلب والشّرط يدلّ على القيد {كما هو الحال} أي: تكون الصيغة حقيقة {في ما إذا أُريد منها المطلق المقابل للمقيّد} أي: المقيّد بالإطلاق والإرسال، إذ الدلالة على الإطلاق أيضاً بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، فإنّ الصيغة تدلّ على الطلب ومقدّمات الحكمة تدلّ على الإطلاق.

والحاصل: أنّ مفاد الصّيغة على كلّ حال أمر واحد - وهو أصل الطلب - مندون دلالة على الإطلاق أو التقييد، وإنّما يكونان مستفادين من دالّ آخر، فاستفادة التقييد من الشّرط ونحوه واستفادة الإطلاق من مقدّمات الحكمة ونحوها {لا المبهم المقسم} عطف على قوله: «في الطلب المقيّد» أي: إنّ الصيغة على مختارنا لم تستعمل في الطلب المبهم الّذي يكون معرضاً للإطلاق والتقييد

ص: 56

فافهم.

ومنها: تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز.

قال في الفصول: «إنّه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف، ولا يتوقّف حصوله على أمرٍ غير مقدورٍ له، كالمعرفة وليُسَمَّ: منجّزاً، وإلى ما يتعلّق وجوبه به، ويتوقّف حصوله على أمرٍ غير مقدورٍ له، وليسمّ: معلّقاً، كالحجّ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة، أو خروج الرّفقة، ويتوقّف فعله على مجيء وقته، وهو غير مقدور له.

___________________________________________

ومقسماً بالنسبة إليهما، إذ ليس الأمر في صدد الإبهام بل في صدد التقييد لكن بدالّين على نحو المجاز {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ التقييد لمّا كان يحتاج إلى قرينة لفظيّة، كان أقرب إلى المجاز.

[التقسيم الثّاني: تقسيم الواجب إلى معلّق ومنجّز]

اشارة

{ومنها} أي: من تقسيمات الواجب {تقسيمه إلى} الواجب {المعلّق و} إلى الواجب {المنجّز. قال في الفصول: «إنّه} أي: الواجب {ينقسم باعتبار آخر} غير الاعتبار الّذي به ينقسم إلى المطلق والمشروط ونحوه {إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمرٍ غير مقدورٍله} أي: المكلّف {كالمعرفة} في أُصول الدين {وليسمّ} هذا القسم {منجّزاً} لتنجيز التكليف وثبوته {وإلى ما يتعلّق وجوبه به} أي: بالمكلّف {ويتوقّف حصوله على أمرٍ غير مقدورٍ له وليسمّ} هذا القسم {معلّقاً كالحجّ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة، أو خروج الرّفقة} لا قبله كما هو مبنى المشهور، خلافاً للشيخ من تعلّق الوجوب بالمكلّف من أوّل الأمر وإنّما الظرف متأخّر كما تقدّم ذلك مستقصىً.

{و} لكن {يتوقّف فعله على مجيء وقته، وهو} أي: مجيء الوقت {غير مقدور له} أي: للمكلّف.

ص: 57

والفرق بين هذا النّوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك للوجوب، وهنا للفعل»(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

لا يخفى: أنّ شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه، حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى، وجعل الشّرط لزوماً

___________________________________________

{والفرق بين هذا النّوع} أي: الواجب المعلّق {وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك} أي: في الواجب المشروط {للوجوب} فالوجوب متوقّف على الشّرط، بحيث إنّه لا وجوب قبل حصوله {و} التوقّف {هنا} أي: في الواجب المعلّق {للفعل»} فظرف الفعل بعد حصول الشّرط وإن كان الوجوب ثابتاً من قبل {انتهى كلامه رفع مقامه}.

وعلى هذا فبين المعلّق والمشروط عموم من وجه، فيجتمعان في ما إذا كانتالمادّة والهيئة متوقّفتين على شيء كالحجّ، فالهيئة - أي: الوجوب - متوقّف على الاستطاعة، والمادة - أي: الفعل - متوقّف على الوقت.

ويفترقان فيكون الواجب مشروطاً لا معلّقاً في ما إذا كانت الهيئة - أي: الوجوب - فقط متوقّفاً، كما إذا قال المولى: (إذا جاء زيد فأكرمه) فإنّ وجوب الإكرام متوقّف على المجيء، وأمّا نفس الإكرام فلا توقّف له على شيء.

ويكون الواجب معلّقاً لا مشروطاً في ما إذا كانت المادّة - أي: الفعل - فقط متوقّفاً، كما إذا قال المولى: (يجب عليك الإكرام المتوقّف على المجيء) فإنّ الإكرام متوقّف، وأمّا الوجوب فلا توقّف له على شيء.

هذا كلّه على مبنى المشهور في الواجب المشروط منضمّاً إلى مبنى صاحب الفصول في الواجب المعلّق، و{لا يخفى أنّ شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - حيث اختار في الواجب المشروط ذلك المعنى} أعني: تقيّد المادّة {وجعل الشّرط لزوماً}

ص: 58


1- الفصول الغرويّة: 79.

من قيود المادّة ثبوتاً وإثباتاً؛ حيث ادّعى امتناع كونهِ من قيود الهيئة كذلك، أي: إثباتاً وثبوتاً، على خلاف القواعد العربيّة وظاهر المشهور، كما يشهد به ما تقدّم آنفاً عن البهائي - ، أنكر على الفصول هذا التقسيم(1)؛ ضرورة أنّ المعلّق بما فسّره يكون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلك، كما هو واضح، حيث لا يكون حينئذٍ هناك معنى آخر معقول، كان هو المعلّق المقابل للمشروط.

ومن هنا

___________________________________________

وقطعاً {من قيود المادّة ثبوتاً} أي: لبّاً وواقعاً كما هو مقتضى دليله الثّاني {وإثباتاً} أي: لفظاً ودليلاً كما هو مقتضى دليله الأوّل {حيث ادّعى امتناع كونه} أي: الشّرط {من قيود الهيئة كذلك، أي: إثباتاً وثبوتاً} مع اعتراف-ه بأنّ رجوع القيد إلى المادّة {على خلاف القواعد العربيّة و} خلاف {ظاهر المشهور كما يشهد به} أي: بأنّه خلاف ظاهر المشهور {ما تقدّم آنفاً عن} الشّيخ {البهائي} من أنّ استعمال الواجب مجاز في المشروط، ووجه الاستشهاد واضح إذ استعمال الواجب في المشروط على مبنى الشّيخ ليس بمجاز كما لا يخفى.

{أنكر} خبر «أنّ شيخنا العلّامة» الخ {على الفصول هذا التقسيم، ضرورة أنّ المعلّق بما فسّره} صاحب الفصول من تقيّد المادّة دون الهيئة {يكون من} الواجب {المشروط بما اختار} الشّيخ {له} أي: للمشروط {من المعنى} بيان «ما» {على ذلك} البيان المتقدّم في كلام الشّيخ {كما هو واضح، حيث لا يكون حينئذٍ} أي: حين تفسير المشروط بتقييد المادّة {هناك} أي: في الواجبات {معنىً آخر معقول كان هو المعلّق المقابل للمشروط}.

{ومن هنا} أي: كون الواجب المشروط بتفسير الشّيخ هو الواجب المعلّق بتفسير

ص: 59


1- مطارح الأنظار 1: 263.

انقدح: أنّه في الحقيقة إنّما أنكر الواجب المشروط بالمعنى الّذي يكون هو ظاهر المشهور والقواعد العربيّة، لا الواجبَ المعلّق بالتفسير المذكور.وحيث قد عرفت - بما لا مزيد عليه - إمكانَ رجوع الشّرط إلى الهيئة - كما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد - فلا يكون مجال لإنكاره عليه.

نعم، يمكن أن يقال: إنّه لا وقع لهذا التقسيم؛ لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط، وخصوصيّة كونه حالياً أو استقبالياً لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم، وإلّا لكثر تقسيماته؛ لكثرة الخصوصيّات، ولا اختلاف فيه؛

___________________________________________

صاحب الفصول {انقدح أنّه} أي: الشّيخ {في الحقيقة إنّما أنكر الواجب المشروط بالمعنى الّذي يكون هو ظاهر المشهور و} ظاهر {القواعد العربيّة} - أعني: تقييد الهيئة - {لا} أنّه أنكر {الواجب المعلّق بالتفسير المذكور} في كلام صاحب الفصول من تقييد المادّة.

والحاصل: أنّ الشّيخ التزم بالواجب المعلّق ولكن سمّاه مشروطاً.

{وحيث قد عرفت - بما لا مزيد عليه - إمكان رجوع الشّرط إلى الهيئة كما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد فلا يكون مجال لإنكاره} أي: المعلّق {عليه} أي: على صاحب الفصول، إذ المعلّق ما قيّد مادّته والمشروط ما قيّد هيئته.

{نعم، يمكن أن يقال} في ردّ صاحب الفصول: {إنّه لا وقع لهذا التقسيم} إلى المعلّق والمنجّز {لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط} فلا ثمرة؛ لأنّ وجوب مقدّمة المعلّق فعلاً من آثار حاليّة وجوبه لا استقباليّة الواجب،والأُولى مشتركة بين المنجّز والمعلّق {وخصوصيّة كونه} أي: الواجب {حاليّاً} في المنجّز {أو استقباليّاً} في المعلّق {لا توجبه} أي: التقسيم {ما لم توجب الاختلاف في} الأثر {المهم} أعني: وجوب المقدّمة وعدمه {وإلّا} فلو كانت كلّ خصوصيّة موجبة للتقسيم {لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيّات ولا اختلاف فيه}

ص: 60

فإنّ ما رتّبه عليه من وجوب المقدّمة فعلاً - كما يأتي - إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليّته، لا من استقباليّة الواجب، فافهم.

ثمّ إنّه ربّما حكي عن بعض أهل النّظر من أهل العصر(1) إشكالٌ في الواجب المعلّق، وهو: أنّ الطلب والإيجاب إنّما يكون بإزاء الإرادة المحرّكة للعضلات نحو المراد،

___________________________________________

أي: في المهم {فإنّ ما رتّبه} صاحب الفصول {عليه} أي: على المعلّق {من وجوب المقدّمة فعلاً - كما يأتي} بيانه - {إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه} وعدم تقييد هيئته {وحاليّته} الجامع بينه وبين غيره {لا من استقباليّة الواجب} ومن البديهي أنّ التقسيم إنّما يصحّ إذا كان فرق بين الأقسام في الأثر، وحيث لا فرق بين المعلّق والمنجّز في وجوب المقدّمة لم يكن للتقسيم وقع.

{فافهم} قال المشكيني: «وفيه أوّلاً: أنّه+ رتّب هذه الثّمرة على المعلّق في مقابل المشروط، لا مقابل المنجّز، وقسّم المطلق إلى معلّق ومنجّزدفعاً لتوهّم كون الأوّل من قبيل المشروط.

وثانياً: أنّ الثّمرة في التقسيم المذكور موجودة بين القسمين أيضاً؛ لأنّ المقدّمة المعلّق عليها غير واجبة في المعلّق بخلاف المنجّز، فإنّ جميع مقدّماته واجبة»(2).

{ثمّ إنّه ربّما حكي عن بعض أهل النّظر} وهو المحقّق النهاوندي على ما قيل {من أهل العصر إشكال} ثالث غير إشكال الشّيخ والمصنّف {في الواجب المعلّق وهو أنّ الطلب والإيجاب إنّما يكون بإزاء الإرادة المحرّكة للعضلات نحو المراد} والفرق أنّ الإرادة تكوينيّ والطلب تشريعي.

والحاصل: أنّ الإرادة التكوينيّة نحو المطلوب والإرادة التشريعيّة نوعان من

ص: 61


1- تشريح الأصول: 191.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 510.

فكما لا يكاد يكون الإرادة منفكّة عن المراد، فليكن الإيجاب غيرَ منفكّ عمّا تتعلّق به، فكيف يتعلّق بأمر استقباليّ؟ فلا يكاد يصحّ الطلب والبعث فعلاً نحوَ أمر متأخّر.

قلت: فيه أنّ الإرادة تتعلّق بأمر متأخّر استقباليّ، كما تتعلّق بأمر حالي، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل، فضلاً عن فاضل؛ ضرورة أنّ تحمّل المشاقّ في تحصيل المقدّمات - في ما إذا كان المقصود بعيدة المسافة وكثيرة المؤونة - ليس إلّا لأجل تعلّق إرادته به، وكونه مريداً له قاصداً إيّاه، لا يكاد يحمله على التحمّل إلّا ذلك.

___________________________________________

الإرادة تحتاجان إلى العلم والتصديق والميل وتحريك العضلات، ولا فرق بينهما إلّا في كون التكوينيّة متعلّقة بفعل نفس المريد والتشريعيّة متعلّقة بفعل الغير {فكما لا يكاد يكون الإرادة} التكوينيّة {منفكّة عن المراد} فلا يعقل انفكاك التحريك المنبعث عن الإرادة عن الفعل، بأن يحرّك العضلات فعلاً ويتكوّن الفعل بعداً {فليكن الإيجاب} المنبعث عن الإرادة التشريعيّة {غير منفكّ عمّا تتعلّق به فكيف يتعلّق} الإيجاب الحالي {بأمر استقبالي} حتّى يتحقّق الواجب المعلّق {فلا يكاد يصحّ الطلب والبعث فعلاً نحو أمر متأخّر} عن زمان البعث؟

{قلت}: هذا الإشكال على الواجب المعلّق غير صحيح، إذ {فيه} عدم صحّة الكلام في المقيس عليه، لوضوح {أنّ الإرادة} التكوينيّة {تتعلّق بأمر متأخّر استقبالي كما تتعلّق بأمر حالي} فقد يريد الإنسان السّفر في حال الإرادة وقد يريد في يوم آخر {وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلاً عن فاضل، ضرورة أنّ} المقصود لو كان له مقدّمات كان {تحمّل المشاقّ في تحصيل المقدّمات في ما إذا كان المقصود بعيدة المسافة وكثيرة المؤونة ليس} ذلك التحمّل {إلّا لأجل تعلّق إرادته به} أي: بذلك المقصود {وكونه} عطف على «تعلّق إرادته» {مريداً له قاصداً إيّاه لا يكاد يحمله على التحمّل} لتلك المقدّمات {إلّا ذلك} المقصود البعيد.

ص: 62

ولعلّ الّذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادةبالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحوَ المراد(1)، وتوهّم أنّ تحريكها نحو المتأخّر ممّا لا يكاد.

وقد غفل عن أنّ كونه محرّكاً نحوه يختلف حسب اختلافه، في كونه ممّا لا مؤونة له كحركة نفس العضلات،

___________________________________________

قال المحقّق الطوسي في التجريد: «والحركة الاختياريّة إلى مكان تتبع إرادة بحسبها، وجزئيّات تلك الحركة تتبع تخيّلات وإرادات جزئيّة يكون السّابق من هذه علّة للسابق من تلك المعدّة لحصول تخيّلات وإرادات أُخرى فتتصل الإرادات في النّفس والحركات في المسافة إلى آخرها»(2)، انتهى كلامه رفع مقامه.

فتحصّل من الجواب على هذا الإشكال: أنّ الإرادة التكوينيّة كما تنفكّ عن المراد كذلك الإرادة التشريعيّة يمكن انفكاكها عن المراد، فلا إشكال في الواجب المعلّق من هذا الحيث.

{ولعلّ الّذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد} فظنّ أنّ تحريك العضلة متصل بالفعل الّذي هو مقصود أصليّ قطعاً وإلّا لكان التحريك لغواً {وتوهّم أنّ تحريكها نحو} الأمر {المتأخّر ممّا لا يكاد} يعقل {وقد غفل عن أنّ كونه محرّكاً نحوه} لا يلزم منه التحريك نحو المراد الأصلي، بل قد يكون نحو المراد الأصلي إذا لم تكن له مقدّمات، وقد يكون نحو مقدّمات المراد - أي: المراد التبعي - في ما كان لهمقدّمات.

والحاصل: أنّه {يختلف} التحريك {حسب اختلافه} أي: اختلاف المراد {في كونه} متعلّق ب- «اختلافه» {ممّا لا مؤونة له} أصلاً {كحركة نفس العضلات}

ص: 63


1- شرح المنظومة 3: 646.
2- كشف المراد: 124؛ القول السديد: 111.

أو ممّا له مؤونة ومقدّمات قليلة أو كثيرة. فحركة العضلات تكون أعمّ من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدّمة له، والجامع أن يكون نحو المقصود.

بل مرادهم من هذا الوصف - في تعريف الإرادة - بيان مرتبة الشّوق الّذي يكون هو الإرادة، وإن لم يكن هناك فعلا تحريك؛ لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق، أمراً استقباليّاً غير محتاج إلى تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدّمة؛ ضرورةَ أنّ شوقه إليه ربّما يكون أشدّ من الشّوق المحرّك فعلاً نحو أمر حاليّ أو استقباليّ

___________________________________________

في ما لو كانت بنفسها مقصودة {أو ممّا له مؤونة ومقدّمات} سواء كانت {قليلة أو كثيرة، فحركة العضلات} في تعريف الإرادة {تكون أعمّ من أن تكون بنفسها مقصودة} فلا يكون هناك مقدّمة أصلاً {أو} تكون حركه العضلات {مقدّمة له} أي: للمقصود.

{والجامع} بين الحركتين {أن يكون نحو المقصود} سواء كان بمقدّمة أم بدونها {بل مرادهم من هذا الوصف} أي: الشّوق المؤكّد المحرّك للعضلات {في تعريف الإرادة بيان مرتبة الشّوق الّذي يكون هو الإرادة} فيريدون بيان أنّ الإرادة مرتبة أكيدة من الشّوق بحيث تبعث على حركةالعضلات نحو المراد في وقته حاليّاً كان أو استقباليّاً {وإن لم يكن هناك فعلا} في حال الإرادة {تحريك، لكون المراد و} هو {ما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمراً استقباليّاً غير محتاج إلى تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدّمة} في الزمان الحاضر، فلا يكون تحريك فعليّ لا إلى نفس المراد لكونه استقباليّاً ولا إلى مقدّماته لعدم الاحتياج إلى مقدّمة أصلاً، أو كانت المقدّمات كنفس المراد استقباليّة.

وإنّما قلنا: إِنّ الإرادة في هذا الحال موجودة، ولم لا يجوز أن يقال بعدم وجود الإرادة حال عدم التحريك {ضرورة أنّ شوقه إليه} أي: إلى المقصود الاستقبالي {ربّما يكون أشدّ من الشّوق المحرّك فعلاً نحو أمر حالي} بلا مقدّمة {أو استقبالي}

ص: 64

محتاج إلى ذلك، هذا.

مع أنّه لا يكاد يتعلّق البعث إلّا بأمر متأخّر عن زمان البعث، ضرورةَ أنّ البعث إنّما يكون لإحداث الداعي للمكلّف إلى المكلّف به، بأن يتصوّره بما يترتّب عليه من المثوبة، وعلى تركه من العقوبة، ولا يكاد يكون هذا إلّا بعد البعث بزمانٍ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخّر عنه بالزمان، ولا يتفاوت طوله وقِصَره - في ما هو ملاك الاستحالة والإمكان - في نظر العقل الحاكم في هذا الباب.

___________________________________________

مع المقدّمة الفعليّة بحيث هو {محتاج إلى ذلك} التحريك فعلا، فالإرادة لمّا كانت عين الشّوق والشّوق بالنسبة إلى المستقبل موجود قطعاً لامجال للقول بعدم الإرادة فعلاً.

{هذا} كلّه جواب العلّامة النّهاوندي {مع أنّه} يمكن جواب آخر عنه، وحاصله: منع عدم الانفكاك بين الإرادة التشريعيّة والمراد فيمكن الانفكاك بينهما وإن كان الانفكاك في الإرادة التكوينيّة محالاً، وذلك لأنّه {لا يكاد يتعلّق البعث} التشريعي {إلّا بأمر متأخّر عن زمان البعث، ضرورة أنّ البعث إنّما يكون لإحداث الداعي للمكلّف إلى المكلّف به} والداعي عبارة عن توجّه المكلّف نحو المأمور به {بأن يتصوّره بما يترتّب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة، و} من المعلوم أنّه {لا يكاد يكون هذا} التصوّر المعبّر عنه بالداعي {إلّا بعد البعث بزمان} قليل أو كثير؛ لأنّ هناك بعث ثمّ تصوّر فتصديق بالثواب والعقاب فميل فإرادة فتحريك، وبعد ذلك كلّه يفعل الفعل {فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخّر عنه بالزمان}.

{و} إن قلت: في الواجب المنجّز الزمان الفاصل بين الإرادة والفعل قصير وفي الواجب المعلّق طويل.

قلت: {لا يتفاوت طوله وقصره في ما هو ملاك الاستحالة والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب} أي: باب الإرادة، فإن أمكن التفكيك بين الإرادة والمراد جاز

ص: 65

ولعمري ما ذكرناه واضح لا سُتْرَةَ عليه، والإطناب إنّما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلّاب.

وربّما أُشكل على المعلّق أيضاً

___________________________________________

ولو مع طول الزمان، وإن لم يمكن لم يجز ولو مع قصره.

ونحن نذكر فهرس المطالب ثانياً توضيحاً، فنقول: أنكر النّهاوندي الواجب المعلّق محتجّاً بأنّ فيه تفكيك الإرادة عن المراد وكما لا يمكن التفكيك في الإرادة التكوينيّة لا يمكن في الإرادة التشريعيّة، وأشكل عليه المصنّف بإشكالات ثلاث:

الأوّل: عدم لزوم التحريك الفعلي في الإرادة التكوينيّة، فيمكن التفكيك بين الإرادة التكوينيّة والمراد فكذلك التشريعيّة، وقد أشار المصنّف إلى هذا بقوله: «بل مرادهم من هذا الوصف» الخ.

الثّاني: على فرض تسليم كون التحريك فعليّاً لا نسلّم لزوم كون التحريك نحو المراد الأصلي، بل يجوز نحو المراد التبعي، فأمكن التفكيك بين الإرادة التكوينيّة والمراد أيضاً فكذلك التشريعيّة، وأشار إليه بقوله: «وقد غفل عن أنّ كونه» الخ.

الثّالث: إذا فرض تسليم المقيس عليه وقلنا بلزوم اتصال الإرادة التكوينيّة بالمراد الأصلي، لكن لا نسلّم ذلك في الإرادة التشريعيّة، بل هي لا تتصل بالمراد دائماً، وأشار إليه بقوله: «هذا مع أنّه لا يكاد يتعلّق البعث» الخ. ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تعليقة العلّامة المشكيني(1).

{ولعمري ما ذكرناه واضح لا سُتْرَةَ عليه، والإطناب} في عبارات الكتاب {إنّما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلّاب}.

هذا {وربّما أُشكل على} الواجب {المعلّق} برابع الإشكالات {أيضاً} وذلك

ص: 66


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 515.

بعدم القدرة على المكلّف به في حال البعث، مع أنّها منالشّرائط العامّة.

وفيه: أنّ الشّرط إنّما هو القدرة على الواجب في زمانه، لا في زمان الإيجاب والتكليف، غاية الأمر يكون من باب الشّرط المتأخّر، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّه كالمقارن، من غير انخرام للقاعدة العقليّة أصلاً، فراجع.

ثمّ لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر، أُخذ على نحو لا يكون مورداً للتكليف،

___________________________________________

{بعدم القدرة على المكلّف به في حال البعث مع أنّها من الشّرائط العامّة} للتكليف {وفيه أنّ الشّرط} للتكليف ليس هو القدرة مطلقاً ولا القدرة حال الأمر، بل الشّرط {إنّما هو القدرة على الواجب في زمانه لا في زمان الإيجاب والتكليف} بل لم يشترطه أحد {غاية الأمر يكون} القدرة على التكليف في زمانه {من باب الشّرط المتأخّر} فإنّ حسن التكليف في الحال مشروط بلحاظ القدرة الاستقباليّة أو مشروط بإضافته إلى القدرة المتأخّرة، فالتكليف المتعقّب بالقدرة حسن.

{وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّه} أي: الشّرط المتأخّر {كالمقارن من غير انخرام للقاعدة العقليّة} - أعني: قاعدة تقارن العلّة مع المعلول - {أصلاً} كما لا يخفى {فراجع} ما تقدّم.

{ثمّ} إنّه يرد على ما ذكره الفصول من الواجب المعلّق إشكال خامس، وهو أنّه{لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور} كما تقدّم من عبارة الفصول {بل ينبغي تعميمه إلى} ما يتوقّف حصوله على {أمرٍ مقدورٍ متأخّرٍ} كما لو قال: (يجب عليك الآن إكرام زيد بعد زيارتك له) {أُخذ على نحو لا يكون مورداً للتكليف} اختلفت النّسخ في حذف حرف النفي - أعني: كلمة «لا» - وإثباته، والمعنى واحد على التقديرين، إذ لو كان هذا نفياً كان قوله بعدُ: «أو لا» إثباتاً؛ لأنّه نفي للنفي، وإن كان هذا إثباتاً كان قوله: «أو لا» نفياً، والمعنى أنّه لا يفرق في تعلّق

ص: 67

ويترشّح عليه الوجوب من الواجب، أو لا؛ لعدم تفاوت في ما يهمّه من وجوب تحصيل المقدّمات الّتي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب على المعلّق، دون المشروط؛ لثبوت الوجوب الحالي فيه، فيترشّح منه الوجوب على المقدّمة - بناءً على الملازمة - دونه؛ لعدم ثبوته فيه إلّا بعد الشّرط.

___________________________________________

الواجب بأمر مقدّر متأخّر بين أن لا يكون ذلك الأمر المتأخّراً مورداً للتكليف.

{ويترشّح عليه الوجوب من الواجب} بأن كان المعلّق عليه للإكرام في المثال المتقدّم الزيارة الحاصلة من باب الاتفاق، وبهذا المعنى يكون قوله: «ويترشّح» عطفاً على «يكون» أي: لا يترشّح {أو لا} يكون كذلك، بل كان مورداً للتكليف بحيث يترشّح عليه الوجوب، بأن كان المعلّق عليه للإكرام في المثال الزيارة الّتي هي واجبة مقدّمة لحصول الإكرام.

وإنّما قلنا بعدم الفرق في المعلّق بين المقدور وغيره {لعدم تفاوت في ما يهمّه} أي: يهمّ صاحب الفصول {من وجوب تحصيل المقدّمات} بيان «ما يهمّه» {الّتي لا يكاد يقدرعليها في زمان الواجب} صفة المقدّمات {على المعلّق} متعلّق ب- «تفاوت» أي: لا تفاوت على القول بالواجب المعلّق {دون} الواجب {المشروط} بين كون الأمر المتأخّر مقدوراً وبين كونه غير مقدور.

ووجه عدم الفرق ما ذكره بقوله: {لثبوت الوجوب الحالي فيه} أي: في الواجب المعلّق على تقديري القدرة وعدمها {فيترشّح منه} أي: من المعلّق {الوجوب على المقدّمة} الّتي هي قبل زمان الواجب {بناءً على الملازمة} بين وجوب المقدّمة وذيها {دونه} أي: دون الواجب المشروط، فإنّه لا يترشّح الوجوب من ذي المقدّمة على مقدّماتها قبل وجود الشّرط {لعدم ثبوته} أي: الوجوب {فيه} أي: في المشروط {إلّا بعد الشّرط} فكيف يترشّح على المقدّمة؟

والحاصل: من هذا المطلب أنّ المهم الّذي أوجب على صاحب الفصول القول

ص: 68

نعم، لو كان الشّرط على نحو الشّرط المتأخّر، وفُرِض وجوده، كان الوجوب المشروط به حاليّاً أيضاً، فيكون وجوب سائر المقدّمات الوجوديّة للواجب أيضاً حاليّاً، وليس الفرق بينه وبين المعلّق حينئذٍ إلّا كونَه مرتبطاً بالشرط، بخلافه وإن ارتبط به الواجب.

___________________________________________

بالمعلّق هو وجوب المقدّمة، وفي هذا المهم لا يفرق بين كون الأمر المتأخّر مقدوراً أو غير مقدور، فمحطّ نظره كون الواجب معلّقاً لا مشروطاً.

{نعم} قد يمكن كون الواجب مشروطاً لا معلّقاً ومع ذلك يتعدّى الوجوب إلى المقدّمات، وذلك في ما {لو كان الشّرط على نحوالشّرط المتأخّر} - بأن كان وجوب الواجب في الحال لإضافة إلى ما بعده من الشّرط مثلاً {وفرض وجوده} أي: وجود الشّرط في ظرفه، ليصحّ الإضافة - {كان الوجوب المشروط به حاليّاً} قبل زمان الواجب {أيضاً} كما كان الوجوب في المعلّق حاليّاً، وبسبب كون الوجوب حاليّاً يترشّح إلى المقدّمات الوجوديّة {فيكون وجوب سائر المقدّمات الوجوديّة} لا الوجوبيّة {للواجب أيضاً حاليّاً} كما كان أصل وجوب الواجب حاليّاً.

وحينئذٍ فمهمّ صاحب الفصول - أعني: وجوب المقدّمات قبل ظرف الواجب - يحصل بكلّ من الواجب المعلّق ومن الواجب المشروط بنحو الشّرط المتأخّر {وليس الفرق بينه} أي: بين هذا القسم من المشروط {وبين} الواجب {المعلّق حينئذٍ} أي: حين كان المشروط بنحو الشّرط المتأخّر {إلّا كونه} أي: الوجوب {مرتبطاً بالشرط} في المشروط بحيث لولا الشّرط لم يكن وجوب {بخلافه} أي: بخلاف المعلّق، فإنّ الوجوب فيه ليس مرتبطاً بالشرط {وإن ارتبط به الواجب} بحيث كان ظرف الواجب بعد حصول الشّرط.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذا الإشكال الخامس غير وارد على الفصول كما قاله بعض المحشّين(1)

وتبعه السّيّد الحكيم بقوله: «أقول صرّح في الفصول بعدم الفرق

ص: 69


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 509.

تنبيهٌ: قد انقدح - من مطاوي ما ذكرناه - : أنّ المناط في فعليّة وجوب المقدّمة الوجوديّة، وكونه في الحال بحيث يجب على المكلّف تحصيلها، هي فعليّة وجوب ذيها، ولو كان أمراً استقباليّاً -كالصوم في الغد والمناسك في الموسم - ، كان وجوبه مشروطاً - بشرط موجود أخذ فيه ولو متأخّراً - ، أو مطلقاً - منجّزاً كان أو معلّقاً - في ما إذا لم يكن مقدّمة للوجوب أيضاً، أو مأخوذة

___________________________________________

بين غير المقدور والمقدور، ومثّل للثاني بما لو توقّف الحجّ المنذور على ركوب الدابّة المغصوبة»(1)،

فراجع.

{تنبيه}: في بيان مناط وجوب المقدّمة وعدم الفرق بين أنحاء الواجب في ذلك {قد انقدح من مطاوي ما ذكرناه أنّ المناط في فعليّة وجوب المقدّمة الوجوديّة وكونه في الحال بحيث يجب على المكلّف تحصيلها} بناءً على وجوب المقدّمة {هي فعليّة وجوب ذيها} خبر «أنّ»، وتأنيث الضمير باعتبار الخبر {ولو كان} الواجب {أمراً استقباليّاً} وذلك {كالصوم في الغد} فيجب الغسل في الليل مقدّمة له {والمناسك في الموسم} فيجب طيّ الطريق مقدّمةً لها سواء {كان وجوبه} أي: وجوب الواجب {مشروطاً بشرط موجود أخذ فيه} أي: في الوجوب {ولو} كان الشّرط {متأخّراً} عن زمان الوجوب {أو مطلقاً} عطف على «مشروطاً» {منجّزاً كان} هذا الواجب المطلق - بأن كانت الهيئة والمادّة مطلقتين - {أو معلّقاً} بأن كانت المادّة مقيّدة لكن إنّما يكون وجوب الواجب فعليّاً فيتبعه وجوب المقدّمة {في ما إذا لم يكن} المقدّمة {مقدّمة للوجوب أيضاً} كما كان مقدّمة للواجب، إذ لو كانت مقدّمة للوجوب لم يكن الوجوب فعليّاً {أو مأخوذة} عطف على «مقدّمة» أي: أنّ وجوب الواجب فعليّ بشرطين:الأوّل: عدم كون المقدّمة مقدّمة للوجوب.

ص: 70


1- حقائق الأصول 1: 248.

في الواجب على نحو يستحيل أن يكون مورداً للتكليف، كما إذا أخذ عنواناً للمكلّف، كالمسافر والحاضر والمستطيع إلى غير ذلك، أو جعل الفعلُ المقيّد باتفاق حصوله وتقدير وجوده - بلا اختيار أو باختياره - مورداً للتكليف؛

___________________________________________

الثّاني: عدم كون المقدّمة مأخوذة {في الواجب على نحو يستحيل أن يكون مورداً للتكليف} ثمّ مثّل لما أخذ مورداً للتكليف بقوله: {كما إذا أخذ عنواناً للمكلّف كالمسافر والحاضر والمستطيع} في قوله: (المسافر يقصّر، والحاضر يتمّ، والمستطيع يحجّ) فإنّ السّفر والحضور والاستطاعة مقدّمات لتلك التكاليف، لكنّها أخذت مورداً لها لانصباب التكليف عليها {إلى غير ذلك} من الأمثلة الّتي أخذت المقدّمة فيها مورداً للتكليف {أو جعل} عطف على قوله: «أخذ عنواناً» الخ، يعني: أنّ المقدّمة لا تكون واجبة إذا كانت مورداً للتكليف من غير فرق بين كونها عنواناً للمكلّف وبين كونها على نحو جعل {الفعل المقيّد باتفاق حصوله وتقدير وجوده} سواء كان الحصول {بلا اختيار} للمكلّف {أو} كان {باختياره مورداً للتكليف} مفعول «جعل».

مثال الأوّل - ما لو قال المولى - : (أوجبت عليك الحجّ) على تقدير حصول الاستطاعة بالإرث.

ومثال الثّاني: (أوجبتُ عليك الحجّ) على تقدير حصول الاستطاعة بالكسب، فإنّ فيهما جعل الحجّ المقيّد باتفاق حصول الاستطاعة الّتي هي مقدّمة بلا اختيار أو باختيار مورداً للتكليف، بحيث لا تكليف بدونه.فتحصّل من عبارة المصنّف: أنّه لا تجب هذه الأقسام الأربعة للمقدّمة الوجوديّة:

الأوّل: مقدّمة الوجوب.

الثّاني: مقدّمة كانت عنواناً للمكلّف.

الثّالث: مقدّمة كانت قيداً للمادّة بوجودها الاتفاقي الّذي هو خارج عن الاختيار.

ص: 71

ضرورةَ أنّه لو كان مقدّمة الوجوب أيضاً لا يكاد يكون هناك وجوب إلّا بعد حصوله، وبعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل، كما أنّه إذا أخذ على أحد النّحوين يكون كذلك، فلو لم يحصل لما كان الفعل مورداً للتكليف، ومع حصوله لا يكاد يصحّ تعلّقه به، فافهم.

إذا عرفت ذلك

___________________________________________

الرّابع: كالثّالث مع كونها داخلة تحت الاختيار.

ثمّ إنّ المصنّف بيّن وجه قوله: «في ما إذا لم يكن» الخ، أي: وجه عدم وجوب هذه المقدّمات الأربع بقوله: {ضرورة أنّه لو كان} مقدّمة الوجود {مقدّمة الوجوب أيضاً} كما في القسم الأوّل {لا يكاد يكون هناك وجوب إلّا بعد حصوله} لفرض توقّف الوجوب عليه {وبعد الحصول} أيضاً لا تكون واجبة؛ لأنّه {يكون وجوبه} حينئذٍ {طلب الحاصل} وهو محال {كما أنّه إذا أُخذ} المقدّمة {على أحد النّحوين} المذكورين في المتن، أعني: ما أُخذ عنواناً للمكلّف وهو القسم الثّاني وما جعل الفعل المقيّد الخ، وهو المنقسم إلى الثّالث والرّابع {يكون كذلك} أي: لا يكاد يكون هناك الخ، وبيّنه بقوله: {فلو لم يحصل} هذا المورد للتكليف الّذي هو مقدّمة {لما كان الفعل مورداًللتكليف} فلا تجب مقدّمته {ومع حصوله} أي: حصول المورد بأن صار مسافراً أو مستطيعاً {لا يكاد يصحّ تعلّقه} أي: الوجوب {به} أي: بما هو مورد للتكليف الحاصل فعلاً؛ لأنّه تحصيل للحاصل وهو محال {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما ذكره المشكيني(1)،

فراجع.

{إذا عرفت ذلك} فاعلم أنّه قد قام الإجماع، بل الضرورة على وجوب بعض المقدّمات قبل زمان حضور الواجب، كالغسل في الليل للصوم في الغد، وكتحصيل الزاد والرّاحلة قبل مجيء موسم الحجّ، فوقع الإشكال من جهة أنّه كيف تجب المقدّمة قبل وجوب ذيها مع أنّ وجوبها تابع لوجوبه؟ وللعلماء وجوه في

ص: 72


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 523.

فقد عرفت: أنّه لا إشكال أصلاً في لزوم الإتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب، إذا لم يقدر عليه بعد زمانه في ما كان وجوبه حاليّاً مطلقاً، ولو كان مشروطاً بشرط متأخّر كان معلومَ الوجود في ما بعد، كما لا يخفى؛ ضرورةَ فعليّة وجوبه وتنجّزه بالقدرة عليه

___________________________________________

التخلّص من هذا الإشكال:

[1] فالشيخ ذهب إلى أنّ الشّرط من قيود المادّة لا الهيئة، فالوجوب للفعل ثابت من أوّل الأمر ومنه يترشّح إلى المقدّمة، فالصوم واجب والوجوب ثابت من الليل، ووجوب الحجّ من حين الاستطاعة، وهكذا.

[2] وصاحب الفصول ذهب إلى القول بالواجب المعلّق، كما تقدّم بيانهما، وسبق أنّ المشروط عند الشّيخ هو المعلّق عند صاحب الفصول.

[3] والمصنّف ذهب إلى القول بالواجب المشروط بنحو الشّرط المتأخّر إذاعلم وجود الشّرط في ما بعد.

{فقد عرفت} بذلك كلّه {أنّه لا إشكال أصلاً في لزوم الإتيان بالمقدّمة قبل زمان} حضور {الواجب} لكن إنّما يجب الإتيان بها قبلاً {إذا لم يقدر عليه} أي: على الإتيان بالمقدّمة {بعد زمانه} أي: زمان الواجب {في ما كان وجوبه حاليّاً} الظرف متعلّق ب-«لزوم الإتيان»، أي: يجب الإتيان بها في ما كان وجوب الواجب حاليّاً {مطلقاً} أي: حاليّة وجوب الواجب بأيّ نحو كان، سواء كان بنحو التعليق كما في الفصول أو بنحو الواجب المشروط مع حصول الشّرط، بل {ولو كان} الواجب {مشروطاً بشرط متأخّر} لكن {كان} الشّرط {معلوم الوجود في ما بعد - كما لا يخفى} على المتأمّل - فلو علم بحضور وقت الصلاة في ما بعد وعلم بفقد الماء حينه لزم عليه التحفّظ على الماء.

وإنّما قلنا لا إشكال أصلاً في لزوم الإتيان بالمقدّمة {ضرورة فعليّة وجوبه} أي: وجوب الواجب {وتنجّزه بالقدرة عليه} أي: إنّ صيروة التنجّز بسبب القدرة

ص: 73

بتمهيد مقدّمته، فيترشّح منه الوجوب عليها - على الملازمة - .

ولا يلزم منه محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها، وإنّما اللّازم الإتيان بها قبل الإتيان به، بل لزوم الإتيان بها عقلاً - ولو لم نقل بالملازمة - لا يحتاج إلى مزيد بيان ومؤونة برهان، كالإتيان بسائر المقدّمات في زمان الواجب قبل إتيانه.

فانقدح بذلك: أنّه لا ينحصر التفصّي عن هذه العويصة بالتعلّق بالتعليق، أو بمايرجع إليه،

___________________________________________

{بتمهيد مقدّمته} متعلّق ب- «القدرة» {فيترشّح منه} أي: من هذا الواجب المنجّز {الوجوب عليها} بناءً {على الملازمة} بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها {ولا يلزم منه} أي: من وجوب المقدّمة {محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها} كي يقال: كيف يترشّح الوجوب من ذي مقدّمة ليس هو بواجب؟ {وإنّما اللّازم} من وجوب المقدّمة في هذا الحال {الإتيان بها قبل الإتيان به} ولا محذور فيه أصلاً.

والحاصل: أنّ الوجوب لذي المقدّمة حالي لكنّه على نحو المشروط بالشرط المتأخّر {بل لزوم الإتيان بها} أي: بالمقدّمة حين وجوب ذيها على نحو الشّرط المتأخّر {عقلاً - ولو لم نقل بالملازمة} الشّرعيّة - كما تقدّم في المعرفة من أنّ العقل يحكم بوجوب الإتيان بهذه المقدّمة كي لا يفوته المكلّف به المنجّز ويعاقب عليه، وهذا {لا يحتاج إلى مزيد بيان ومؤونة برهان} والإتيان بهذه المقدّمة ليس إلّا {كالإتيان بسائر المقدّمات في زمان الواجب قبل إتيانه} فإنّه واجب عقلاً بلا ريب، فإنّه لو لم يأت بها فترك الواجب بسبب تركها كان معاقباً على ترك الواجب الّذي كان مقدوراً له.

{فانقدح بذلك} التقريب - أعني: كون الواجب مشروطاً بنحو الشّرط المتأخّر، فيترشّح منه الوجوب على المقدّمات - {أنّه لا ينحصر التفصّي عن هذه العويصة} أعني: إشكال لزوم المقدّمة قبل زمان الواجب {بالتعلّق} والتشبّث {بالتعليق} كما فعله الفصول {أو} التعلّق {بما يرجع إليه} أي: إلى الواجبالمعلّق

ص: 74

من جعل الشّرط من قيود المادّة في المشروط.

فانقدح بذلك: أنّه لا إشكال في الموارد الّتي يجب في الشّريعة الإتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب، كالغسل في اللّيل في شهر رمضان وغيره ممّا وجب عليه الصّوم في الغد؛ إذ يكشف به بطريق الإِنِّ عن سبق وجوب الواجب، وإنّما المتأخّر هو زمان إتيانه، ولا محذور فيه أصلاً.

ولو فرض العلم بعدم سبقه لاستحال اتّصاف مقدّمته بالوجوب الغيري، فلو نهض

___________________________________________

{من جعل الشّرط من قيود المادّة في} الواجب{المشروط} كما صنعه الشّيخ، بل لنا جواب ثالث - وهو كون الوجوب فعليّاً ومشروطاً بنحو الشّرط المتأخّر - .

{فانقدح بذلك} الجواب لنا {أنّه لا إشكال في الموارد الّتي يجب في الشّريعة} المقدّسة {الإتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب، كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره} أي: غير هذا المثال، كما تقدّم من مثال الحجّ والوضوء، أو المراد غير رمضان {ممّا وجب عليه الصوم في الغد}.

إن قلت: من أين نعلم وجوب ذي المقدّمة قبل زمانه؟ قلت: {إذ يكشف به} أي: بوجوب المقدّمة المعلوم بالضرورة والإجماع {بطريق الإِنِّ} أي: الانتقال من وجوب المقدّمة المعلول إلى وجوب ذيها {عن سَبْقِ وجوب الواجب} أي: عن وجوب ذي المقدّمة الّذي هو علّة.

والحاصل: أنّ وجوب الواجب مقدّم على زمان إتيانه {وإنّماالمتأخّر هو زمان إتيانه ولا محذور فيه} أي: في تقدّم الوجوب وتأخّر زمان الواجب {أصلاً، و} أمّا {لو فرض العلم بعدم سَبْقِهِ} أي: سبق وجوب ذي المقدّمة {لاستحالة اتصاف مقدّمته بالوجوب الغيري} لأنّ الوجوب الغيري فرع الوجوب النّفسي، فحيث لا وجوب نفسيّاً لم يكن وجوب غيري {فلو نهض} حين العلم بعدم سبق وجوب ذيها

ص: 75

دليل على وجوبها فلا محالة يكون وجوبها نفسيّاً، ولو تَهَيُّئِياً، ليتهيّأ بإتيانها واستعد لإيجاب ذي المقدّمة عليه، فلا محذور أيضاً.

إن قلت: لو كان وجوب المقدّمة في زمان كاشفاً عن سَبْقِ وجوب ذي المقدّمة لزم وجوب جميع مقدّماته ولو موسّعاً،

___________________________________________

{دليل على وجوبها، فلا محالة يكون وجوبها نفسيّاً} لذاتها أو {ولو تَهَيُئِيّاً، ليتهيّأ بإتيانها} أي: بسبب يصير متهيّأ إتيان المقدّمة {واستعدّ لإيجاب ذي المقدّمة عليه فلا محذور} في وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها {أيضاً} كما لم يكن محذور في وجوبها قبل زمان ذيها، وعن هذا الإشكال بعض أجوبة أُخرى أضربنا منها خوف التطويل.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) بعد ما أشكل على صاحب الفصول والشّيخ، بأنّه لا ينحصر التفصّي عن محذور لزوم المقدّمة قبل ذيها بعدم انحصار الجواب في ما ذكراه، أورد عليهم إشكالاً ثانياً حكاه المشكيني عن التقريرات(1)، وحاصله: «أنّه يلزم على القول بسبق الوجوب وجوب سائر مقدّمات الواجب غير المقدّمةالّتي قام الدليل على وجوبها قبل الوقت إمّا موسّعاً لو كانت مقدورة في زمان الواجب أيضاً أو مضيّقاً لو لم تكن مقدورة إلّا قبله»(2)،

فكما يجب التحفّظ على الماء قبل الظهر يجب تعيين القبلة وتحصيل السّاتر ونحو ذلك.

وقد أشار إليه بقوله: {إن قلت: لو كان وجوب المقدّمة في زمان كاشفاً عن سبق وجوب ذي المقدّمة لزم وجوب جميع مقدّماته} في ذلك الزمان {ولو} وجوباً {موسّعاً} بحيث يجوز له الإتيان بتلك المقدّمة في حال الوجوب وفي زمان الواجب، لكن التوسعة إنّما تكون في ما لو أمكن الإتيان بالمقدّمة في ظرف الواجب،

ص: 76


1- مطارح الأنظار 1: 272.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 526.

وليس كذلك، بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكّنه منها لو لم يبادر.

قلت: لا محيص عنه، إلّا إذا أخذ في الواجب - من قبل سائر المقدّمات - قدرة خاصّة، وهي: القدرة عليه بعد مجيء زمانه، لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه،

___________________________________________

كما لو أمكن العلم بالقبلة خارج الوقت وداخله، وأمّا لو لم يمكن العلم داخل الوقت لانفراده في بيداء في الوقت وجب التعلّم مضيّقاً {و} الحال أنّه {ليس كذلك} يجب تحصيل المقدّمات قبل الوقت {بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكّنه منها} أي: من تلك المقدّمة {لو لم يبادر} إذ الواجب الموسّع يتضيّق بتضيّق وقته.

{قلت: لا محيص عنه} أي: عن الالتزام بوجوب جميع المقدّمات قبل الوقت وجوباً غيريّاً، إذ وجوب المقدّمة يكشف عن وجوب ذيها،وحيث إنّ وجوب ذي المقدّمة يلازم وجوب جميع المقدّمات يكشف عن وجوب ذي المقدّمة وجوب سائر مقدّماتها، فالبرهان مركّب من الإنّيّ وهو الانتقال من وجوب هذه المقدّمة إلى وجوب ذيها، ومن اللمِّي وهو الانتقال من وجوب ذي المقدّمة إلى وجوب سائر مقدّماتها.

نعم، إن قام دليل على أنّ سائر المقدّمات إنّما تجب حين دخول الوقت نلتزم بعدم وجوبها حال الوجوب قبل الوقت، فتتبعّض المقدّمات قبل الوقت فبعضها واجبة وبعضها غير واجبة.

وإلى هذا الاستثناء أشار المصنّف بقوله: {إلّا إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدّمات} غير المقدّمة الواجبة قبل الوقت بسبب الدليل الخاصّ {قدرة خاصّة، وهي القدرة عليه} أي: على سائر المقدّمات {بعد مجيء زمانه} أي: زمان الواجب {لا} أن يكون مناط وجوب سائر المقدّمات الأُخر {القدرة عليه في زمانه} أي: زمان الواجب مبتدءاً {من زمان وجوبه} أي: قام الدليل على أنّ سائر

ص: 77

فتدبّر جيّداً.

تتمّة: قد عرفت اختلافَ القيود في وجوب التحصيل، وكونهِ مورداً للتكليف وعدمه، فإن عُلم حال قيد فلا إشكال، وإن دار أمره ثبوتاً بين أن يكون راجعاً إلى الهيئة - نحو الشّرط المتأخّر أو المقارن - ، وأن يكون راجعاً إلى المادّة - على نهجٍ يجب تحصيله أو لا يجب - ،

___________________________________________

المقدّمات ليست واجبة من زمان الوجوب، فحينئذٍ لا تجب تلك المقدّمات الأُخر {فتدبّر جيّداً} حتّى لا تقول: كيف يمكن قيام الدليل على عدم وجوبالمقدّمة في زمان وجوب ذيها، المستلزم للتفكيك بين الوجوب النّفسي والغيري؟

[تتمّة]

{تتمّة} في بيان دوران الأمر بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادّة {قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل وكونه مورداً للتكليف} عطف بيان {وعدمه} فقيد الواجب يجب تحصيله وقيد الوجوب لا يجب تحصيله {فإن علم حال قيد} وأنّه قيد الواجب أو قيد الوجوب {فلا إشكال} في لزوم اتّباعه {وإن دار أمره ثبوتاً بين أن يكون راجعاً إلى الهيئة} بأن يكون قيداً للوجوب ثمّ كونه شرطاً للوجوب يدور بين أن يكون على {نحو الشّرط المتأخّر} فيكون الوجوب فعلاً {أو} الشّرط {المقارن} فيكون الوجوب بعد حصول الشّرط {وأن يكون راجعاً إلى المادّة} عطف على «بين أن يكون راجعاً إلى الهيئة».

ثمّ رجوعه إلى المادّة بمعنى كونه شرط الواجب يدور بين أن يكون {على نهجٍ يجب تحصيله} أي: تحصيل القيد، فيكون الواجب واجباً تحصيله بعد تحصيل قيده {أو لا يجب} تحصيل ذلك القيد، فيكون الواجب واجباً تحصيله بعد فرض اتفاق حصول قيده، فلو قال المولى: (حجّ بعد أن تتحصّل الاستطاعة) فالاحتمالات أربع:

ص: 78

فإن كان في مقام الإثبات ما يعيّن حالَهُ، وأنّه راجع إلى أيّهما من القواعد العربيّة، فهو، وإلّا فالمرجع هو الأصول العمليّة.

وربّما قيل(1) - في الدوران بين الرّجوع إلى الهيئة والمادّة - ،بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة، وتقييد المادّة، بوجهين:

___________________________________________

الأوّل: أن يكون الوجوب فعلاً على نحو الشّرط المتأخّر، فيجب تحصيل المقدّمات من الزاد والرّاحلة.

الثّاني: أن يكون الوجوب بعد تحصيل الاستطاعة، فلا يجب تحصيل المقدّمات.

الثّالث: أن يكون الوجوب فعلاً والواجب متأخّراً مع أنّه يجب تحصيل الاستطاعة، والفرق بين هذا والأوّل أنّ الوجوب في الأوّل مرتبط بالشرط بحيث لولا الشّرط في موطنه لم يكن واجباً، بخلاف هذا فالوجوب غير مرتبط.

الرّابع: هو الثّالث مع أنّه لا يجب تحصيل الاستطاعة.

هذه كلّها في مقام الثّبوت {فإن كان في مقام الإثبات ما يعيّن حاله} أي: حال القيد {وأنّه راجع إلى أيّهما} المادّة أو الهيئة {من القواعد العربيّة} بيان ما يعيّن {فهو} المرجع {وإلّا} يكن ما يعيّن حال القيد {فالمرجع} لدى الشّكّ {هو الأصول العمليّة} وفي تفصيلها طول لا يناسب المقام.

{وربّما قيل} والقائل هو التقريرات على ما حكي {في} ظرف {الدوران بين الرّجوع إلى الهيئة والمادّة بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة وتقييد المادّة} الوجوب حاليّ والواجب استقباليّ، وذلك {بوجهين} على حسب الأصول اللفظيّة من دون أن تصل النّوبة إلى الأصول العمليّة:

ص: 79


1- مطارح الأنظار 1: 251.

أحدهما: أنّ إطلاق الهيئة يكون شموليّاً، كما في شمول العام لأفراده؛ فإنّ وجوب الإكرام - على تقدير الإطلاق - يشمل جميعالتّقادير الّتي يمكن أن يكون تقديراً له، وإطلاقَ المادّة يكون بدليّاً غيرَ شامل لفردين في حالة واحدة.

___________________________________________

{أحدهما: أنّ إطلاق الهيئة يكون شموليّاً، كما في شمول العام لأفراده، فإنّ وجوب الإكرام} في (أكرم زيداً إن زرته) {على تقدير الإطلاق} في الوجوب {يشمل جميع التقادير الّتي يمكن أن يكون تقديراً له} فإذا وجب إكرام زيد وشكّ في أنّ الزيارة شرط للوجوب أو للواجب، فإذا كانت قيداً للواجب وبقي الوجوب في إطلاقه - بأن كان المراد أنّ إكرام زيد المتّصف بكونه بعد الزيارة واجب - كان إطلاق الوجوب شموليّاً، بمعنى أنّ الوجوب ثابت سواء زرته أم لم تزره، فلا يختصّ بوجوب بإحدى الحالتين لا على التعيين ولا على البدل، بل يشمل الحالتين كلتيهما.

{و} أمّا لو عكسنا الأمر بأن قيّدنا الهيئة فمن الواضح أنّ {إطلاق المادّة يكون بدليّاً غير شامل لفردين في حالة واحدة} إذ لو كانت الزيارة قيداً للوجوب وبقي الواجب على إطلاقه، بأن كان المراد: يجب بعد الزيارة إكرام زيد، كان إطلاق الواجب - أي الإكرام - بدليّاً، فإنّه يدلّ على كون الواجب صرف الطبيعة، فإذا كان في حال الزيارة تحقّقت الطبيعة المأمور بها وامتنع الإتيان بفرد آخر منه قبل الزيارة.

ثمّ حيث كان الإطلاق الشّمولي أقوى من إطلاق البدلي كان التقييد ألصق بالبدلي لضعفه.

والمراد بقوله: «الّتي يمكن أن يكون تقديراً له» حالتي وجود الشّرط وعدمه سائر الحالات، واحترز بذلك عن التّقادير الّتي لا يمكن أن يكون تقديراً له كتقدير حرمة الإكرام ونحوه.

ص: 80

ثانيهما: أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلانَ محلّ الإطلاق في المادّة، ويرتفع به مورده، بخلاف العكس، وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك، كان التقييد الّذي لا يوجب بطلان الآخر أولى:

أمّا الصغرى: فلأجل أنّه لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ حاجة وبيانٍ لإطلاق المادّة؛ لأنّها لا محالة لا تنفكّ عن وجود قيد الهيئة، بخلاف تقييد المادّة، فإنّ محلّ الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.

___________________________________________

{ثانيهما} أي: الدليل الثّاني على ترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادّة {أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة ويرتفع به} أي: بتقييد الهيئة {مورده} أي: مورد إطلاق المادّة {بخلاف العكس} فإنّ تقييد المادّة لا يوجب تقييد الهيئة.

والحاصل: أنّ في تقييد الهيئة تقييد المادّة أيضاً، وفي تقييد المادّة ليس تقييد للهيئة {وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك} أحدهما موجب لتقييدين والآخر موجب لتقييد واحد {كان التقييد الّذي لا يوجب بطلان الآخر أولى} من التقييد الّذي يوجب بطلان الآخر.

{أمّا الصغرى} وهي أنّ تقييد الهيئة مبطل لإطلاق المادّة دون العكس {فلأجل أنّه لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ حاجة وبيانٍ لإطلاق المادّة؛ لأنّها} أي: المادّة {لا محالة لا تنفكّ عن وجود قيد الهيئة} فإنّه يستحيل تقييد الهيئة وجوداً بدون تقييد المادّة، فإذا كان وجوب الحجّ بعد الاستطاعة كان ظرف فعل الحجّ بعدها قطعاً، وإلّا فلو أتى بالحجّ قبلها لم يأتبالواجب {بخلاف تقييد المادّة، فإنّ محلّ الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله} فلو كان الحجّ مقيّداً بكونه بعد الاستطاعة كان الوجوب مردّداً {فيمكن الحكم} من الشّارع {بالوجوب على تقدير وجود القيد} بأن لم يكن وجوب قبل الاستطاعة، فلا تجب المقدّمات ليكون من الواجب المشروط عند المشهور {وعدمه} بأن يكون وجوب قبل الاستطاعة فتجب

ص: 81

وأمّا الكبرى: فلأنّ التقييد وإن لم يكن مجازاً، إلّا أنّه خلاف الأصل، ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الإطلاق، وبين أن يعمل عملاً يشترك مع التقييد في الأثر، وبطلانِ العمل به.

___________________________________________

المقدّمات ويكون من الواجب المعلّق مثلاً.

{وأمّا الكبرى} وهي قوله: «وكلّما دار الأمر» الخ، وحاصلها أولويّة تقييد واحد حاصل من تقييد المادّة على تقييدين حاصلين من تقييد الهيئة {فلأنّ التقييد وإن لم يكن مجازاً} على مبنى المحقّقين، إذ اسم الجنس ونحوه موضوع للماهيّة اللّابشرط المقسمي، والتقييد والإرسال كلاهما بدال آخر على نحو تعدّد الدالّ والمدلول.

فإن قلت: إذا لم يكن التقييد مجازاً فلا مانع من تعدّده؟

قلت: إنّه وإن لم يكن مجازاً {إلّا أنّه خلاف الأصل}.

قال الشّيخ - على ما في التقريرات - : «إنّ نسبة المطلق إلى الدليل المقيّد نسبة الأصل إلى الدليل؛ لأنّه إذا كان الإطلاق مستنداً إلى مقدّمات الحكمة الّتي هي كون المتكلّم في مقام البيان وعدم القرينة على التقييد، فإذا ورد الدليل المقيّد فقد دلّ على انتفاء أحدهما، فيرتفع مقتضى الإطلاق من أصله لا أنّالدليل المقيّد من قبيل المعارض»(1) الخ.

{و} إن قلت: إنّ تقييد الهيئة لا يوجب تقييد المادّة، لعدم إطلاق سابق لها فتقييد الهيئة أيضاً موجب لتقييد واحد.

قلت: {لا فرق في الحقيقة} والواقع {بين تقييد الإطلاق} بعد انعقاده {وبين أن يعمل عملاً يشترك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل به} أي: بالإطلاق، والعمل المشترك مع التقييد هو تضييق الدائرة بحيث لا يبقى شمول وسريان، وما نحن فيه كذلك إذ تقييد الهيئة موجب لبطلان إطلاق المادّة فلا شمول لها ولا سريان، إذ لا تشمل المادّة حينئذٍ حال قبل وجود الشّرط، بخلاف تقييد المادّة، فإنّ الهيئة

ص: 82


1- كما هو المحكي في حقائق الأصول 1: 558.

وما ذكرناه من الوجهين موافقٌ لما أفاده بعض مقرّري بحث الأُستاذ العلّامة - أعلى اللّه مقامه(1) - .

وأنت خبير بما فيهما:

أمّا في الأوّل: فلأنّ مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليّاً بخلاف المادّة، إلّا أنّه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها؛ لأنّه أيضاً كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، غاية الأمر أنّها تارة تقتضي العموم الشّمولي،

___________________________________________

تشمل حال قبل وجود الشّرط.

{وما ذكرناه من الوجهين} المرجّحين لتقييد المادّة دون الهيئة {موافق لما أفاده بعض مقرّري بحثالأُستاذ العلّامة} الشّيخ المرتضى الأنصاري {أعلى اللّه مقامه} وعلى تقدير تماميّة الوجهين لا تصل النّوبة إلى الأصول العمليّة، كما تقدّم.

{و} لكن {أنت خبير بما فيهما، أمّا في الأوّل} أعني: كون إطلاق الهيئة شموليّاً وإطلاق المادّة بدليّاً {فلأنّ مفاد إطلاق الهيئة - وإن كان شموليّاً بخلاف المادّة -} كما تقدّم تقريره {إلّا أنّه} كون إطلاق الهيئة شموليّاً {لا يوجب ترجيحه} أي: ترجيح إطلاق الهيئة الشّمولي {على إطلاقها} أي: إطلاق المادّة البدلي {لأنّه} أي: عموم الشّمولي للهيئة {أيضاً} كالعموم البدلي للمادّة {كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة} لا بالوضع، فالإطلاقان متساويان لاستفادة كلّ واحد منهما من مقدّمات الحكمة فلا أقوائيّة لأحدهما على الآخر. نعم، لو كان إطلاق الهيئة بالوضع وإطلاق المادّة بمقدّمات الحكمة أمكن تقديم الأوّل على الثّاني.

{غاية الأمر} في الفرق بين هذين الإطلاقين المستفادين من المقدّمات {أنّها} أي: مقدّمات الحكمة {تاره تقتضي العموم الشّمولي} بحيث يشمل جميع

ص: 83


1- مطارح الأنظار 1: 251.

وأُخرى البدلي، كما ربّما تقتضي التعيين أحياناً، كما لا يخفى.

وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل كون دلالته بالوضع، لا لكونه شموليّاً، بخلاف المطلق، فإنّه بالحكمة فيكون العام أظهر منه، فيقدّم عليه.

فلو فُرض أنّهما في ذلك على العكس

___________________________________________

الأفراد، مثل {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1)، فإنّ البيع مطلق، وحيث إنّه ورد في مقام الامتنان يستفاد منه حلية جميع أفراد البيع ما خلا المنصوص على حرمته، كالكالي بالكالي ونحوه {وأُخرى} تقتضي مقدّمات الحكمة العموم {البدلي} كغالب الطبائع الواقعة، فيحيّز الأمر نحو (أعتق رقبة) {كما} أنّ المقدّمات {ربّما تقتضي التعيين أحياناً} كما تقدّم في المبحث السّادس من أنّ إطلاق صيغة الأمر يقتضي الوجوب النّفسي التعييني العيني {كما لا يخفى}.

{و} إن قلت: إذا لم يرجّح الشّمولي على البدلي فلم نرى القوم يقدّمون العام على المطلق في ما إذا وقع التعارض بينهما، كما لو قال: (أكرم العلماء ولا تكرم الفاسق) فالعالم الفاسق الّذي هو مورد الاجتماع يلحق في الحكم بالعادل فيكرم، فتأمّل.

قلت: {ترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل كون دلالته} أي: العام {بالوضع، لا} أنّ التقديم {لكونه} أي: العام {شموليّاً بخلاف المطلق} الّذي هو بدلي.

والحاصل: أنّ المناط ليس الشّموليّة والبدليّة حتّى يتعدّى إلى ما نحن فيه، بل المناط كون أحدهما وضعيّاً والآخر بالمقدّمات {فإنّه بالحكمة} أي: إطلاق المطلق بمقدّمات الحكمة {فيكون العام أظهر منه فيقدَّم عليه. فلو فرض أنّهما} أي: العام والمطلق {في ذلك} أي: في الشّموليّة والبدليّة {على العكس} ممّا تقدّم

ص: 84


1- سورة البقرة، الآية: 275.

- فكان عامّ بالوضع دلّ على العموم البدلي، ومطلق بإطلاقه دلّعلى الشّمول - لكان العامّ يقدّم بلا كلام.

وأمّا في الثّاني: فلأنّ التقييد وإن كان خلافَ الأصل، إلّا أنّ العمل الّذي يوجب عدمَ جريان مقدّمات الحكمة، وانتفاء بعض مقدّماتها لا يكون على خلاف الأصل أصلاً؛ إذ معه لا يكون هناك إطلاق، كي يكون بطلانُ العمل به في الحقيقة مثل التقييد الّذي يكون على خلاف الأصل.

___________________________________________

{فكان عامّ بالوضع دلّ على العموم البدلي ومطلق بإطلاقه دلّ على} العموم و{الشّمول لكان العامّ يقدّم بلا كلام} فمن ذلك يتبيّن أنّ مناط التقدّم الوضع لا الشّمول.

ولكن لا يذهب عليك أنّ المناط في التقديم ليس هو الشّموليّة كما عن الشّيخ(رحمة الله)، ولا الوضعيّة كما ذهب إليه المصنّف(رحمة الله)، بل المناط هو الأظهريّة كما ذهب إليه بعض المحشّين(1).

{وأمّا الثّاني} من دليل الشّيخ {فلأنّ} ما ذكره من كون {التقييد} في الهيئة يوجب بطلان الإطلاق في المادّة وهو خلاف الأصل {وإن كان} تماماً لو كان هناك تقييد في المادّة لوضوح كون تقييد مطلق {خلاف الأصل إلّا} أنّ ما نحن فيه ليس من تقييد المطلق في شيء، بل تقييد الهيئة يوجب عدم انعقاد الإطلاق في المادّة، ومن المعلوم {أنّ العمل الّذي يوجب عدم جريان مقدّمات الحكمة وانتفاء بعض مقدّماتها} عطف بيان لقوله: «عدم جريان» الخ {لا يكون على خلاف الأصل أصلاً} فقول الشّيخ في بيان الكبرى:«ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الإطلاق وبين أن يعمل عملاً يشترك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل به» غير مستقيم {إذ معه} أي: مع انتفاء بعض مقدّمات الحكمة {لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به} أي: بالإطلاق {في الحقيقة} والواقع {مثل التقييد الّذي يكون على خلاف الأصل} فالقياس

ص: 85


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 533.

وبالجملة: لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلّا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدّمات الحكمة، ومع انتفاء المقدّمات لا يكاد ينعقد له هناك ظهور ليكون ذلك العمل - المشارك مع التقييد في الأثر، وبطلان العمل بإطلاق المطلق - مشاركاً معه في خلاف الأصل أيضاً.

وكأنّه توهّم: أنّ إطلاق المطلق كعموم العام ثابتٌ، ورفعَ اليد عن العمل به: تارة لأجل التقييد، وأُخرى بالعمل المبطل للعمل به.

___________________________________________

بينهما مع الفارق.

{وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلّا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدّمات الحكمة، و} من المعلوم أنّه {مع انتفاء المقدّمات} ولو بانتفاء بعضها {لا يكاد ينعقد له هناك ظهور} أصلاً {ليكون ذلك العمل} تفريع على «لا ينعقد».

والحاصل: أنّه حين لم ينعقد للمادّة ظهور في الإطلاق لم يكن ذلك العمل الّذي هو تقييد الهيئة الموجب لعدم إطلاق المادّة {المشارك مع التقييد} للمادّة {في الأثر} لعدم الفرق بين عدم انعقاد الإطلاقوبين التقييد {وبطلان العمل بإطلاق المطلق} عطف على «في الأثر» {مشاركاً} خبر «ليكون ذلك العمل» {معه} أي: مع التقييد {في خلاف الأصل أيضاً} كما هو مدّعى الشّيخ.

وفي بعض النّسخ - مكان قوله: «ليكون ذلك العمل» - : «كان ذلك العمل» والمراد واحد وإن كان لفظ «ليكون» أقرب إلى الصّواب.

{وكأنّه} أي: الشّيخ {توهّم أنّ إطلاق المطلق كعموم العام ثابت} على كلّ حال {ورفع اليد عن العمل به تارة لأجل التقييد} في ما انعقد الإطلاق {وأُخرى بالعمل المبطل للعمل به} أي: بالإطلاق في ما لم ينعقد الإطلاق - كما في ما نحن فيه - .

ص: 86

وهو فاسد؛ لأنّه لا يكون إطلاق إلّا في ما جرت هناك المقدّمات.

نعم، إذا كان التقييد بمنفصل، ودار الأمر بين الرّجوع إلى المادّة أو الهيئة، كان لهذا التوهّم مجال؛ حيث انعقد للمطلق إطلاق، وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة، فتأمّل.

ومنها: تقسيمه إلى النّفسي والغيري.

وحيث كان طلبُ شيء وإيجابه لا يكاد يكون بلا داعٍ، فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكاد التوصّل بدونه إليه

___________________________________________

{وهو} أي: توهّم أنّ إطلاق المطلق كالعموم {فاسد} وذلك {لأنّه لا يكون إطلاق إلّا في ما جرت هناك المقدّمات} والمفروض عدم جريانها في المادّة بعد تقييد الهيئة.

{نعم} قد يكون إطلاق العموم كعموم العام، وذلك في ما {إذا كانالتقييد} للمطلق {بمنفصل ودار الأمر بين الرّجوع إلى المادّة} الموجب لتقييد واحد {أو الهيئة} الموجب لتقييدين {كان لهذا التوهّم} الّذي هو دوران الأمر بين تقييد غير مبطل لآخر وبين تقييد مبطل {مجال حيث انعقد للمطلق إطلاق} بالنسبة إلى الهيئة والمادّة معاً {وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة} إذ لا فرق في الظهور بين كونه ناشئاً عن الوضع أو الإطلاق {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنَّ قولنا: «نعم» الخ غير صحيح، لعدم الفرق بين التّقييد بمنفصل وبين التّقييد بمتّصل.

[التقسيم الثّالث: تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري]

اشارة

{ومنها} أي: ومن تقسيمات الواجب {تقسيمه إلى} الواجب {النّفسي، و} إلى الواجب {الغيري، و} اللّازم ابتداءً تعريفهما ليعلم المراد منهما فنقول: {حيث كان طلب شيء وإيجابه لا يكاد يكون بلا داعٍ} إذا كان الطالب والموجب حكيماً {فإن كان الداعي فيه} أي: في الطلب والإيجاب {هو التوصّل به إلى واجب} متّصف بأنّه {لا يكاد التوصّل بدونه} أي: بدون هذا الواجب الأوّل {إليه} أي: إلى

ص: 87

- لتوقّفه عليه - ، فالواجب غيري،

وإلّا فهو نفسي، سواء كان الداعي محبوبيّة الواجب بنفسه، كالمعرفة باللّه، أو محبوبيّته بما له من فائدة مترتّبة عليه، كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليّات،

___________________________________________

الواجب الثّاني المذكور في العبارة صريحاً {لتوقّفه} أي: الواجب الثّاني {عليه} أي: على الواجب الأوّل {فالواجب} الموقوف عليه {غيري} لأنّه أمر به لغيره، بحيث لولا ذلك الغير لم يؤمر به - كالطهارات الثّلاث مثلاً - فإنّ الداعي في طلبها هو التوصّل بها إلى الصلاة ونحوها، فإنّه لا يكاد التوصّل بدون الطهارات إلى الصلاة لكونها متوقّفة على الطهارة - كما لا يخفى - .

{وإلّا} يكن الداعي من الإيجاب هو التوصّل به إلى الغير {فهو نفسي} لأنّه أمر به لنفسه سواء كان هناك شيء آخر أم لا، و{سواء كان الداعي} إلى إيجاب الواجب النّفسي {محبوبيّة الواجب بنفسه كالمعرفة باللّه} - سبحانه - فإنّها واجبة لذاتها، بل إليها يرجع خلق الكون وجعل التكليف، كما في الحديث القدسي المشتهر: «كنت كنزاً مخفيّاً، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف»(1)،

وإرجاعها إلى الشّكر ونحوه في غير محلّه {أو} كان الداعي {محبوبيّته بما له من فائدة مترتّبة عليه} بحيث لولا تلك الفائدة لم تجب {كأكثر الواجبات من العبادات} المشترطة بقصد القربة {و} من {التوصليّات} غير المشترطة بها، فإنّ لكلّ واحدٍ من العبادات والتوصليّات مصالح قد بيّن في الأخبار بعضها، كخطبة الصدّيقة الطاهرة وخبر الرّضا‘ وغيرهما ممّا هو مذكور في علل الشّرائع ونحوه. وإنّما قال: «كأكثر الواجبات» لأنّ غير الأكثر واجبات لكن مع كون محبوبيّته بنفسه - كما تقدّم - .

ص: 88


1- مشارق أنوار اليقين: 41.

هذا.

لكنّه لا يخفى: أنّ الداعي لو كان هو محبوبيّته كذلك - أي: بما له من الفائدة المترتّبة عليه - كان الواجب في الحقيقة واجباً غيريّاً؛ فإنّه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازماً لما دعا إلى إيجاب ذي الفائدة.

فإن قلت: نعم، وإن كان وجودها محبوباً لزوماً،

___________________________________________

{هذا} ما ذكره القوم في وجه تقسيم الواجب إلى النّفسي والغيري {لكنّه لا يخفى} ما فيه، إذ {أنّ} القسم الثّاني من الواجب النّفسي - وهو ما كان الداعي إلى إيجابه ما يترتّب عليه من الفائدة - مطابق للواجب الغيري؛ لأنّ {الداعي} من الواجب النّفسي {لو كان هو محبوبيّته كذلك - أي: بما له من الفائدة المترتّبة عليه - كان الواجب في الحقيقة واجباً غيريّاً} لا نفسيّاً، وينطبق على هذا المقسم تعريف الواجب الغيري {فإنّه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازماً لما دعا إلى إيجاب ذي الفائدة} ومنتهى الفرق بينهما أنّ الفائدة هنا لا يمكن للمكلّف الإتيان بها بخلاف الواجب الغيري، فإنّ ذيه مقدور للمكلّف.

والحاصل من إشكال المصنّف: أنّه يلزم أن يكون غالب الواجبات غيريّة على هذا التعريف.

{فإن قلت}: لا يلزم من هذا التعريف دخول الواجبات النّفسيّة في تعريف الواجب الغيري؛ لأنّا ذكرنا في تعريف الواجب الغيري أنّه ما كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى الواجب، ومن المعلوم أنّ الواجبات النّفسيّة ليست كذلك،إذ الخواصّ والآثار المترتّبة عليها ليست واجبات، لعدم دخولها تحت قدرة المكلّف، فلا يصدق على الواجب النّفسي أنّه بداعي التوصّل إلى الواجب.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: {نعم} الواجبات النّفسيّة وصلة إلى الفوائد وتلك الفوائد {وإن كان وجودها محبوباً لزوماً} بحيث كان الداعي إلى إيجاب

ص: 89

إلّا أنّه حيث كانت من الخواصّ المترتّبة على الأفعال الّتي ليست داخلة تحت قدرة المكلّف، لما كاد يتعلّق بها الإيجاب.

قلت: بل هي داخلة تحت القدرة؛ لدخول أسبابها تحتها، والقدرة على السّبب قدرةٌ على المسبّب، وهو واضح، وإلّا لما صحّ وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير ذلك من المسبّبات، مورداً لحكم من الأحكام التكليفيّة.

___________________________________________

الواجب تحصيل تلك الفوائد {إلّا أنّه حيث كانت} تلك الفوائد {من الخواصّ المترتّبة على الأفعال الّتي} صفة خواصّ {ليست داخلة تحت قدرة المكلّف} فلا يتمكّن من الإتيان بها {لما كاد يتعلّق بها} أي: بتلك الخواصّ {الإيجاب} وإذا لم يتعلّق بها الإيجاب لم يكن الأفعال واجبات غيريّة، لعدم كون الداعي من إيجاب تلك الأفعال الوصلة إلى واجبٍ - كما ذكرنا - .

{قلت}: ما ذكرتم من أنّ الواجبات ليست غيريّة - لعدم دخول الخواصّ والفوائد تحت القدرة - غير مستقيم {بل هي} أي: الخواص {داخلة تحت القدرة لدخول أسبابها} الّتي هي الأفعال {تحتها، والقدرة على السّبب قدرة علىالمسبّب، وهو واضح} ولذا قالوا: «المقدور بالواسطة مقدور» {وإلّا} فلو لم يكن القدرة على السبب قدرة على المسبّب {لما صحّ وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير ذلك من المسبّبات مورداً لحكم من الأحكام التكليفيّة} لعدم القدرة عليها ابتداءً، بل المقدور في التطهير إنّما هو الغسلات والمسحات وفي البواقي إجراء الألفاظ الخاصّة المشتملة على الشّرائط، فكما أنّ هذه الأُمور مورداً للأحكام التكليفيّة - لدخولها تحت القدرة بالواسطة - كذلك الآثار والخواصّ المترتّبة على الواجبات النّفسيّة واجبة، لدخولها تحت القدرة بالواسطة، وحيث كانت تلك الخواص واجبة صدق على الواجبات النّفسيّة تعريف الواجب الغيري؛ لأنّ الداعي فيها هو التوصّل إلى واجب.

ص: 90

فالأولى أن يقال: إنّ الأثر المترتّب عليه وإن كان لازماً، إلّا أنّ ذا الأثر لمّا كان معنوناً بعنوانٍ حسنٍ - يستقلّ العقل بمدح فاعله، بل وبذمّ تاركه - صار متعلّقاً للإيجاب بما هو كذلك، ولا ينافيه كونه مقدّمة لأمر مطلوبٍ واقعاً.

بخلاف الواجب الغيري؛ لتمحّض وجوبه في أنّه لكونه مقدّمةً لواجب نفسي، وهذا أيضاً لا ينافي أن يكون معنوناً بعنوان حسن في نفسه، إلّا أنّه لا دخل له في إيجابه الغيري.

___________________________________________

وحيث لم يتمّ إيراد «فإن قلت» على ما ذكرناه من الإشكال على تعريف الواجب النّفسي والغيري {فالأولى أن يقال} في دفع ما ذكرناه من الإشكال بقولنا: «لكنّه لا يخفى» الخ: {إنّ الأثر المترتّب عليه} أي: على الواجب النّفسي {وإن كان لازماً} في نظرالمولى بحيث يجب تحصيله {إلّا أنّ} الفعل {ذا الأثر لمّا كان} هو بنفسه مع قطع النّظر عن أثره {معنوناً بعنوانٍ حسنٍ} بحيث {يستقلّ العقل بمدح فاعله، بل وبذمّ تاركه} وإنّما أضرب ب- «بل» لأنّ استقلال العقل بالمدح أعمّ من الإيجاب {صار متعلّقاً للإيجاب بما هو كذلك} محبوب في نفسه {ولا ينافيه} أي: محبوبيّته النّفسيّة {كونه مقدّمة لأمر مطلوب واقعاً} وحينئذٍ يكون واجباً نفسيّاً وغيريّاً، وهذا {بخلاف الواجب الغيري لتمحّض وجوبه في أنّه لكونه مقدّمة لواجب نفسي، و} من المعلوم أنّ {هذا} الوجوب الغيري {أيضاً} كالوجوب النّفسي {لا ينافي أن يكون} هذا الواجب الغيري {معنوناً بعنوان حسن في نفسه إلّا أنّه} أي: ذلك العنوان الحسن {لا دخل له في إيجابه الغيري}.

والحاصل: أنّه يمكن أن يكون كلّ واحد من الواجبات النّفسيّة والواجبات الغيريّة مشتملة على جهتين:

الجهة الأُولى: محبوبيّتها النّفسيّة.

والجهة الثّانية: محبوبيّتها الغيريّة - أي: المقدّميّة - كالصلاة والطهارة.

وإنّما الفرق أنّ الواجب النّفسي كان وجوبه بملاحظة الجهة الأُولى، أي:

ص: 91

ولعلّه مراد من فسّرهما بما أمر به لنفسه، وما أمر به لأجل غيره(1).فلا يتوجّه عليه الاعتراض بأنّ جلّ الواجبات - لولا الكلّ - يلزم أن يكون من الواجبات الغيريّة؛ فإنّ المطلوب النّفسي قلّ ما يوجد في الأوامر، فإنّ جلّها مطلوبات لأجل الغايات الّتي هي خارجة عن حقيقتها، فتأمّل.

___________________________________________

محبوبيّته النّفسيّة، والواجب الغيري كان وجوبه بملاحظة الجهة الثّانية، أي: محبوبيّته الغيريّة.

{ولعلّه} أي: لعلّ ما ذكرنا من الفرق {مراد من فسّرهما بما أمر به لنفسه} في الواجب النّفسي {وما أمر به لأجل غيره} في الواجب الغيري {فلا يتوجّه عليه} أي: على هذا التعريف {الاعتراض} الّذي ذكره في التقريرات {بأنّ جلّ الواجبات لولا الكلّ يلزم أن يكون} على هذا التعريف {من الواجبات الغيريّة، فإنّ المطلوب النّفسي قلّ ما يوجد في الأوامر} كالمعرفة وقد أشكل في كونها مطلوباً لنفسها أيضاً {فإنّ جلّها} لولا الكلّ {مطلوبات لأجل الغايات الّتي هي خارجة عن حقيقتها}.

إن قلت: كيف يمكن اجتماع الوجوب النّفسي والغيري؟

قلت: لا يجتمعان بل لأحدهما ملاك وللآخر فعليّة، فالصلاة مثلاً واجب نفسي فعلاً وفيها ملاك الوجوب الغيري بالنسبة إلى المعراجيّة ونحوها، والطهارة واجب غيري فعلاً وفيها ملاك الوجوب النّفسي؛ لأنّها في حدّ نفسها معنونة بعنوان حسن.

ولكن لا يذهب عليك أنّ ما ذكره المصنّف من التقريب خلاف ظاهر القوم، مع أنّه لم يقم عليه دليل، مضافاً إلى المطالبة بوجه فعليّته النّفسيّة في بعض،وفعليّته الغيريّة في آخر مع فرض وجود الملاكين فيهما.

{فتأمّل} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ تفسير «ما أمر به لنفسه» و«ما أمر به

ص: 92


1- الفصول الغرويّة: 80.

ثمّ إنّه لا إشكال في ما إذا علم بأحد القسمين.

وأمّا إذا شكّ في واجبٍ أنّه نفسيّ أو غيريّ: فالتحقيق: أنّ الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمّها، إلّا أنّ إطلاقها يقتضي كونَه نفسيّاً؛ فإنّه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم.

___________________________________________

لأجل غيره» بما ذكره المصنّف خلاف الظاهر - كما ذكرنا - بل ظاهره أنّ الوجوب كان بملاحظة تلك الغايات، وقد ذكر في وجهه أُمور أُخر.

{ثمّ} إنّ هذا كلّه في الفرق بين الواجب النّفسي والغيري في مقام الثّبوت و{إنّه لا إشكال في ما إذا علم بأحد القسمين} في مقام الإثبات من غير فرق بين أسباب العلم {وأمّا إذا شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيري} ولم يكن هناك مبيِّن قطعيّ ففيه أقوال:

الأوّل: - الظهور في الوجوب الغيري، وهو المنسوب إلى الشّهيدين والمحقّق الثّاني، واستدلّوا بكثرة الغيري، إذ ما من واجب نفسي إلّا وله مقدّمات.

الثّاني: - الظهور في الوجوب النّفسي، ثمّ اختلفوا، فقال بعضهم بالوضع، وآخر إلى أنّه بالانصراف، وثالث إلى أنّه بسبب إطلاق الهيئة، ورابع إلى أنّه بسبب إطلاق المادّة، وقد وقع الخلاف بين المصنّف وبين التقريرات في جواز التمسّك بإطلاق الهيئة لتعيين النّفسيّة والغيريّة {فالتحقيق} عند المصنّف {أنّ الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمّها} إذ المتبادر منها ليس إلّا الطلب الحتمي وهو مشترك بين ما كان لنفسه ولغيره {إلّاأنّ إطلاقها} في ما تمّت مقدّمات الحكمة {يقتضي كونه} أي: الواجب {نفسيّاً، فإنّه لو كان} الواجب {شرطاً} ومقدّمة {لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم} الّذي هو بصدد البيان.

والحاصل: أنّ الواجب النّفسي خفيف المؤونة بالنسبة إلى الواجب الغيري، إذ في الغيري يلزم تقييد أحد الواجبين أمّا القيد بكونه قيداً أو المقيّد بكونه مقيّداً،

ص: 93

وأمّا ما قيل من: «أنّه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشّكّ المذكور، بعد كون مفادها الأفراد الّتي لا يعقل فيها التقييد. نعم، لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صحّ القول بالإطلاق. لكنّه بمراحل عن الواقع؛ إذ لا شكّ في اتّصاف الفعل بالمطلوبيّة بالطلب المستفاد من الأمر، ولا يعقل اتّصاف المطلوب بالمطلوبيّة بواسطة مفهوم الطلب؛ فإنّ الفعل يصير مراداً بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها، لا بواسطة مفهومها.

___________________________________________

وحيث لا يوجد ما يصلح لبيان التقييد لزم الأخذ بالإطلاق، وبهذا تبيّن إمكان التمسّك بالإطلاق لدفع الشّكّ.

{وأمّا ما قيل} والقائل التقريرات {من «أنّه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشّكّ المذكور} الواقع في كون الواجب نفسيّاً أو غيريّاً {بعد} ما ثبت من {كون مفادها الأفراد} يعني أنّ مفاد الهيئة أفراد الطلب الخارجيّة {الّتي لا يعقل فيها} الإطلاق و{التقييد} لما تقدّم من أنّ وضع الهيئة كوضع الحروف، فلا يقبل الإطلاق والتقييد {نعم،لو كان مفاد} هيئة {الأمر هو مفهوم الطلب} الكلّيّ الّذي هو معنى اسمي {صحّ القول بالإطلاق} إذ هو كلّيّ قابل للإطلاق والتقييد {لكنّه} أي: كون مفاد الأمر هو الطلب {بمراحل} كثيرة {عن الواقع}.

وعلّل كونه بعيداً بمراحل من الواقع بقوله: {إذ لا شكّ في اتصاف الفعل}

الّذي هو مادّة الأمر - ك- (الضّرب) مثلاً - {بالمطلوبيّة بالطلب المستفاد من} هيئة {الأمر} إذ هيئة الأمر تنصب على مادّته وتتعلّق بها وذلك يفيد مطلوبيّة المادّة.

{و} إذا ثبت هذا فنقول: الطلب المنصب على الفعل يدور أمره بين أن يكون مفهوم الطلب الّذي له إطلاق وبين أن يكون خارج الطلب الّذي لا إطلاق له لكن يتعيّن الثّاني، إذ {لا يعقل اتصاف} الفعل {المطلوب بالمطلوبيّة بواسطة مفهوم الطلب، فإنّ} - وجه لا يعقل - {الفعل يصير مراداً بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها} المنقدحة في النّفس الّتي لا يقبل الإطلاق والتقييد {لا بواسطة مفهومها}

ص: 94

وذلك واضح لا يعتريه ريب»(1).

ففيه: أنّ مفاد الهيئة - كما مرّت الإشارة إليه - ليس الأفراد، بل هو مفهوم الطلب - كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف - ، ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي، والّذي يكون بالحمل الشّائع طلباً،

___________________________________________

الّذي يقبلهما {وذلك واضح لا يعتريه ريب»} بشهادة الوجدان.

وتوضيح كلام التقريرات - بلفظ السّيّد الحكيم - : «أنّ الفعل المأمور به يتّصف بكونه مطلوباً بالطلب الّذي هو مدلول الأمر، والمطلوب بمعنى ما تعلّق به الطلب والمتعلّق بالفعل من الطلب هو الطلب الخارجي لا المفهوم، فيدلّ على أنّه مدلول الأمر لا المفهوم»(2)،

انتهى.

وبعبارة أُخرى لا إطلاق للهيئة، إذ الهيئة تفيد الطلب الشّخصي غير القابل للإطلاق والتقييد ولا تفيد الطلب المفهومي القابل لهما.

{ففيه} جواب قوله: «وأمّا ما قيل» وحاصل الجواب - بلفظ العلّامة المشكيني - : «أنّ مفاد الحروف كلّيّ ومنها هيئة الأمر، وعلى تقدير تسليم الجزئيّة في سائر الحروف فلا بدّ أن يكون كليّاً فيها؛ لأنّه لا إشكال في ورود الإنشاء عليه وهو لا يتعلّق إلّا بالمفاهيم»(3)،

إذ {أنّ مفاد الهيئة - كما مرّت الإشارة إليه - ليس الأفراد} الخارجي للطلب حتّى لا يقبل الإطلاق والتقييد {بل هو} أي: مفاد الهيئة {مفهوم الطلب} الكلّي {كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف} وذلك كلّيّ يقبلهما.

{و} على تقدير تسليم الجزئيّة في سائر الحروف فلا بدّ أن يكون الهيئة كليّاً، إذ {لا يكاد يكون} مفاد الهيئة {فرد الطلب الحقيقي، والّذي يكون بالحمل الشّائع طلباً}

ص: 95


1- مطارح الأنظار 1: 333.
2- حقائق الأصول 1: 260.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 544.

وإلّا لما صحّ إنشاؤه بها؛ ضرورةَ أنّه من الصفات الخارجيّة النّاشئة من الأسباب الخاصّة. نعم، ربّما يكون هو السّبب لإنشائه، كمايكون غيره أحياناً.

واتّصاف الفعل بالمطلوبيّة الواقعيّة والإرادة الحقيقيّة - الداعيةِ إلى إيقاع طلبه، وإنشاء إرادته بعثاً نحو مطلوبه الحقيقي، وتحريكاً إلى مراده الواقعي - لا ينافي اتصافه بالطلب الإنشائي أيضاً.

___________________________________________

عطف بيان لقوله: «فرد الطلب» الخ {وإلّا} فلو كان مفاد الهيئة فرد الطلب {لما صحّ إنشاؤه} أي: إنشاء هذا المفاد {بها} أي: بالهيئة {ضرورة أنّه} أي: فرد الطلب {من الصفات الخارجيّة النّاشئة من الأسباب} الخارجيّة المحتاجة إلى التكوين {الخاصّة} كسائر الصفات الخارجيّة، وحيث لا يعقل أن يكون مفاد الهيئة هو الطلب الخارجي - كما يقوله الشّيخ - فلا بدّ أن يكون مفادها هو الطلب المفهومي القابل للإطلاق والتقييد.

{نعم} قد يكون مناسبة بين الطلب المفهومي والطلب الخارجي، إذ {ربّما يكون هو} أي: الطلب الحقيقي القائم بالنفس خارجاً {السّبب لإنشائه} أي: إنشاء مفهوم الطلب {كما يكون} السّبب لإنشاء مفهوم الطلب {غيره} أي: غير الطلب الحقيقي كالتهديد والامتحان {أحياناً، و} أمّا ما استدلّ به الشّيخ لكون مفاد الأمر ليس هو مفهوم الطلب بقوله: «إذ لا شكّ في اتصاف» الخ. ففيه أنّ ما ذكره الشّيخ من أنّ اتصاف الفعل بالمطلوبيّة إنّما يكون بواسطة تعلّق الطلب الخارجي ليس إلّا، غيرُ مستقيمٍ، إذ {اتصاف الفعل بالمطلوبيّة الواقعيّة والإرادة الحقيقيّة} الخارجيّة - {الداعية إلى إيقاع طلبه} أي: طلب الفعل الإنشائي {و} الداعية إلى {إنشاء إرادته بعثاً} أي: لأجل بعث العبد{نحو مطلوبه الحقيقي وتحريكاً إلى مراده الواقعي - لا ينافي} ما ذكرنا من {اتصافه} أي: الفعل {بالطلب} المفهومي الكلّي {الإنشائي أيضاً} فحصر الشّيخ المطلوبيّة بما يكون الطلب فيه

ص: 96

والوجودُ الإنشائي لكلّ شيء ليس إلّا قصد حصول مفهومه بلفظه، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن، بل كان إنشاؤه بسبب آخر.

ولعلّ منشأ الخلط والاشتباه: تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق، فتوهّم منه أنّ مفاد الصيغة يكون طلباً حقيقيّاً، يصدق عليه الطلب بالحمل الشّائع.

___________________________________________

خارجيّاً فقط غير صحيح، إذ الفعل متصف بالمطلوبيّة الخارجيّة والمطلوبيّة الإنشائيّة الّتي هي معنى الأمر. وقوله: «لا ينافي» خبر لقوله: «واتصاف الفعل».

{و} إن قلت: كيف يجتمع الطلبان الحقيقي والإنشائي؟ قلت: {الوجود الإنشائي لكلّ شيء} سهل المؤونة، إذ {ليس} هو {إلّا قصد حصول مفهومه بلفظه} سواء {كان هناك طلب حقيقي} كما في موارد الجد {أو لم يكن، بل كان إنشاؤه بسبب آخر} كالتهديد أو الامتحان.

والحاصل: أنّ بين الطلبين عموماً من وجه، فيجتمعان في إنشاء الطلب بقصد الجدّ ويفترق الإنشائي عن الحقيقي في إنشاء الطلب بقصد الامتحان ويفترق الحقيقي عن الإنشائي في ما أحرز الإرادة من غير إنشاء {ولعلّ منشأ الخلط والاشتباه} من التقريرات المدّعي لحصر اتصاف المطلوببالطلب الحقيقي هو {تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق} من غير تقييد بالإنشائي، فإنّهم يقولون: «صيغة الأمر تفيد الطلب» وحيث إنّ الطلب منصرف إلى الطلب الخارجي {فتوهّم منه} أي: من هذا التعارف بضميمة ذلك الانصراف {أنّ مفاد الصيغة} هو الطلب الخارجي الّذي {يكون طلباً حقيقيّاً يصدق عليه الطلب بالحمل الشّائع}.

وصورة القياس أنّ مفاد الصيغة هو الطلب، والطلب - حين يذكر بدون تقييد - هو الخارجي، فينتج أنّ مفاد الصيغة هو الخارجي.

ص: 97

ولعمري إنّه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق، فالطلب الحقيقي إذا لم يكن قابلاً للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة قابلاً له، وإنّ تعارف تسميته بالطلب أيضاً، وعدم تقييده بالإنشائي لوضوح إرادة خصوصه، وأنّ الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها، كما لا يخفى.

___________________________________________

{ولعمري إنّه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق} إذ الطلب الحقيقي من مصاديق مفهوم الطلب، والشّيخ(رحمة الله) أجرى حكم مصداق الطلب - الّذي هو عدم إمكان تقييده - على مفهوم الطلب - الّذي هو مفاد الأمر - مع أنّ المفهوم ليس محكوماً بحكم المصداق.

أو قل: إنّ ما هو مفهوم الطلب حكم عليه بأنّه مصداق الطلب {فالطلب الحقيقي إذا لم يكن قابلاً للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة} الّذي هو مفهوم الطلب {قابلاً له} أي: للتقييد، إذ لا تلازم بين عدم إمكان التقييد فيالحقيقي وبين عدم إمكان التقييد في المفهومي.

والحاصل: أنّه لا تلازم بين حكميهما {وإنّ تعارف تسميته} أي: المفهومي {بالطلب أيضاً} كما تعارف تسمية الحقيقي بالطلب، فوحدة الاسم لا تلازم وحدة الحكم {وعدم تقييده بالإنشائي} فلا يقال: مفاد صيغة الأمر الطلب الإنشائي، وقوله: «وعدم تقييده» بالرفع عطف على «تسميته»، ويمكن أن يكون مبتدأ خبره قوله: «لوضوح» الخ.

ثمّ بيّن المصنّف(رحمة الله) وجه عدم تقييد الطلب بالإنشائي بقوله: {لوضوح إرادة خصوصه} أي: خصوص الطلب الإنشائي من الطلب المطلق في قولهم: «مفاد الصيغة هو الطلب» {و} وجه الوضوح هو {أنّ الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها} أي: بالصيغة {كما لا يخفى} إذ الأمر التكويني المتوقّف على أسبابه الخاصّ لا يعقل إنشاؤه.

ص: 98

فانقدح بذلك: صحّة تقييد مفاد الصيغة بالشرط، - كما مرّ هاهنا بعض الكلام - وقد تقدّم في مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما يجدي في المقام.

هذا إذا كان هناك إطلاق، وأمّا إذا لم يكن، فلا بدّ من الإتيان به في ما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطاً له فعليّاً؛

___________________________________________

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من كون مفاد الصيغة قابلاً للإطلاق والتقييد {صحّة تقييد مفاد الصيغة بالشرط} بأن يقول: إنّ هذا الواجب غيري ومقدّمة لذلك الواجب، وحيث أمكن التقييد فلو لم يقيّد في مقام البيان تبيّن من الإطلاق أنّ الواجب نفسيّ لا غيري {كما مرّهاهنا بعض الكلام} في كون مفاد الهيئة قابلاً للإطلاق والتقييد، {وقد تقدّم في مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما يجدي في المقام} حيث بيّنّا هناك عند بيان معنى الحمل أنّ معنى هيئة الأمر هو مفهوم الطلب الإنشائي، لا الطلب الحقيقي، كما يقوله الشّيخ(رحمة الله).

هذا، وقد رأيت في بعض الحواشي إرجاع قوله: «فانقدح» إلى الواجب المشروط، وفي آخَرَ جعل - «هنا» - إشارة إليه، وفي كليهما نظرٌ، فتبصّر.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرنا من التمسّك بالإطلاق حين الشّكّ في النّفسيّة والغيريّة إنّما يتمّ فيهما {إذا كان هناك إطلاق} بأن تمّت مقدّمات الحكمة {وأمّا إذا لم يكن} إطلاق ولو بفقد بعض المقدّمات، فالأمر يدور بين اثنين.

مثلاً: لو علم بوجوب الطهارة وشكّ في كونها واجبة لأجل الصلاة حتّى يكون غيريّاً وفي كونها واجبة مستقلّة حتّى تكون نفسيّاً، فحينئذٍ إمّا أن يعلم وجوب الصلاة أو لا {فلا بدّ من الإتيان به} أي: بهذا الواجب الّذي هو الطهارة في المثال {في ما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطاً له فعليّاً} وهي الصورة الأُولى، أي: ما علم وجوب الصلاة، ومصداق «ما» في العبارة ذو المقدّمة كالصلاة في المثال، وهو مرجع ضمير «له» ومرجع ضمير «كونه» الواجب المردّد بين كونه

ص: 99

للعلم بوجوبه فعلاً، وإن لم يعلم جهة وجوبه، وإلّا فلا؛ لصيرورة الشّكّ فيه بدويّاً، كما لا يخفى.

تذنيبان:

الأوّل: لا ريب في استحقاق الثّواب علىامتثال الأمر النّفسي وموافقته، واستحقاق العقاب على عصيانه

___________________________________________

نفسيّاً وغيريّاً، كالطهارة في المثال.

وإنّما قلنا بوجوب الطهارة في صورة العلم بوجوب الصلاة {للعلم بوجوبه} أي: بوجوب هذا الواجب، أي: الطهارة {فعلاً} لأنّها سواء كانت نفسيّة أو غيريّة فقد وجبت {وإن لم يعلم جهة وجوبه، وإلّا} فإن لم يكن التكليف بما احتمل كون الطهارة شرطاً له فعليّاً، كما لو علم بعدم وجوب الصلاة أو شكّ في وجوبها {فلا} يلزم الإتيان بالطهارة {لصيرورة الشّكّ فيه بدويّاً - كما لا يخفى -} لعدم وجوب الطهارة على تقدير كونها غيريّاً في صورة عدم وجوب الصلاة أو الشّكّ في وجوب الصلاة الّذي هو مجرى البراءة أيضاً. ولكن لا يخفى أنّ إجراء البراءة إنّما يكون في ما إذا لم يكن هناك علم إجمالي من الخارج.

[تذنيبان]

{تذنيبان} من توابع النّفسي والغيري، التذنيب {الأوّل}: في بيان الثّواب والعقاب على الأمر النّفسي، وبيان حال الغيري فنقول: {لا ريب في استحقاق الثّواب على امتثال الأمر النّفسي وموافقته} وإن أشكل فيه بأنّ الأوامر لتنظيم أُمور المأمور كأوامر الطبيب بالنسبة إلى المريض، فالأمر يستحقّ أجراً لا المأمور، مضافاً إلى أنّ العبد يلزم بحكم العقل أن يصرف جميع شؤونه في جهة مولاه، فالثواب تفضّل محض، وفي الكلام بسط ليس المقام محلّ إيراده والمتكفّل له كتب الكلام المبسوطة.

{و} لا ريب في {استحقاق العقاب على عصيانه} أي: عصيان الأمر النّفسي

ص: 100

ومخالفته عقلاً.

وأمّا استحقاقهما على امتثال الغيري ومخالفته ففيه إشكالٌ، وإن كان التّحقيق عدمَ الاستحقاق على موافقته ومخالفته بما هو موافقة ومخالفة؛ ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلّا لعقابٍ واحدٍ، أو لثوابٍ كذلك، في ما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدّماته على كثرتها، أو وافقه وأتى به بما له من المقدّمات.

نعم، لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدّمة، و

___________________________________________

{ومخالفته عقلاً} وشرعاً بلا خلاف من المحقّقين وإن خالف بعض الصوفيّة موضوعاً وحكماً، لكنّه على خلاف ضرورة العقل والشّرع {وأمّا استحقاقهما} أي: الثّواب أو العقاب {على امتثال} الأمر {الغيري ومخالفته ففيه إشكال} بل أقوال: [1] فقال قوم بالاستحقاق مطلقاً، [2] وقال آخرون بعدمه مطلقاً، [3] وفصّل ثالث فوافق الأوّل في العقاب والثّاني في الثّواب {وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق} مطلقاً، لا {على موافقته و} لا على {مخالفته بما هو موافقة ومخالفة} للأمر الغيري في قبال الأمر النّفسي، وإلّا فيمكن العقاب لأداء تركه إلى ترك النّفسي والثّواب لصيرورة النّفسي أصعب من باب أفضل الأعمال أحمزها.

وإنّما قلنا بعدم استحقاق الثّواب والعقاب {ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلّا لعقاب واحد أو لثواب كذلك} واحد {في ما خالف الواجب} النّفسي {ولم يأت بواحدة من مقدّماته على كثرتها} هذا مربوط بقوله: «إلّا لعقاب واحد» {أو وافقه} أي: الواجبالنّفسي {وأتى به بما له من المقدّمات} هذا مربوط بقوله: «أو لثواب كذلك». ومن الواضح أنّ هذا الثّواب الواحد من جهة أصل الواجب، وكذلك العقاب الواحد من جهة أصل تركه.

{نعم، لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة} للواجب النّفسي {عند ترك المقدّمة} لكن العقاب عند ترك الغيري لا على ترك الغيري {و} كذلك لا بأس

ص: 101

بزيادة المثوبة على الموافقة في ما لو أتى بالمقدّمات بما هي مقدّمات له، من باب أنّه يصير حينئذٍ من أفضل الأعمال، حيث صار أشقّها. وعليه يُنزّل ما ورد في الأخبار من الثّواب على المقدّمات(1)، أو على التفضّل، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

{بزيادة المثوبة على الموافقة} للواجب النّفسي {في ما لو أتى بالمقدّمات} لكن كان إتيانه بالمقدّمات {بما هي مقدّمات له} لا في ما إذا أتى بها لا بقصد الواجب، فإنّه لا يزداد الثّواب في صورة عدم القصد، والوجه في زيادة ثواب الواجب حينما أتى بالمقدّمات بقصده {من باب أنّه يصير} الواجب {حينئذٍ} أي: حين أتى بالمقدّمات مع القصد {من أفضل الأعمال، حيث صار} بسبب المقدّمات {أشقّها، وعليه} أي: على كون الثّواب على الواجب بسبب المشقّة {ينزّل ما ورد في الأخبار من الثّواب على المقدّمات} كما ورد في زيارة الحسين(علیه السلام) من أنّ لكلّ قدم كذا، وما ورد في الحجّ، وصلة الرّحمونحوها {أو} ينزّل {على التفضّل} لا على الاستحقاق، بل لا بدّ من التنزيل على التفضّل في ما لو لم يوفّق للواجب، كما سُئل عن الإمام(علیه السلام) في من سافر إلى الحجّ في طريق البحر وإنّه قد يغرق؟ قال(علیه السلام): «لا بأس يكفأ في الجنّة»(2)، ونحوه غيره من بعض أخبار زيارة الحسين(3)، في ما ذكره تأمّل {فتأمّل جيّداً} وراجع ما ذكره الأعلام في هذا المقام.

ص: 102


1- وسائل الشيعة 14: 380.
2- لم أعثر على الرواية، ولكن ورد عن أبي عبد اللّه× : «ضمان الحاج والمعتمر على اللّه إن أبقاه بلغه أهله، وإن أماته أدخله الجنة»، و«الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة، اللازم لهما في ضمان اللّه، إن أبقاه أداه إلى عياله، وإن أماته أدخله الجنة». الكافي 4: 253-255.
3- عن عبد اللّه بن النجار قال: قال لي أبو عبد اللّه×: «تزورون الحسين× وتركبون السفن؟» فقلت: نعم، قال: «أما علمت أنها إذا انكفت بكم نوديتم ألا طبتم وطابت لكم الجنة». كامل الزيارات: 135.

وذلك لبداهة أنّ موافقة الأمر الغيري - بما هو أمر، لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النّفسي - لا يوجب قرباً، ولا مخالفته - بما هو كذلك - بُعداً، والمثوبة والعقوبة إنّما تكونان من تبعات القرب والبعد.

___________________________________________

{وذلك} تعليل لوجوب التّنزيل وإعادة لما سبق من ضروريّة استقلال العقل {لبداهة أنّ موافقة الأمر الغيري بما هو أمر} غيري في قبال النّفسي {لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النّفسي لا يوجب قرباً} لعدم محبوبيّته في نفسه والمقرِّب إنّما هو من توابعها {و} كذلك {لا} يوجب {مخالفته بما هو كذلك} أمر غيري {بُعداً} لعدم مبغوضيّته في نفسه والبعدإنّما هو من توابعها {والمثوبة والعقوبة إنّما تكونان من تبعات القرب والبُعد} التابعين للحبّ والبغض، فمن أحبّ شيئاً أدناه ومن أبغض شيئاً أقصاه.

والّذي أظنّ في المقام التفصيل بين ما ورد في الآيات والأخبار من ثواب أو عقاب على المقدّمات، مثل قوله - تعالى - : {مَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ}(1)، وقوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ ظَمَأٞ وَلَا نَصَبٞ وَلَا مَخۡمَصَةٞ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَُٔونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ}(2) الخ، وكذلك الرّوايات الواردة من هذا القبيل. وفي طرف العقاب ما ورد من لعن غارس شجر الخمر الخ ونحوه، فاللّازم القول بكون الثّواب والعقاب فيها كالثواب والعقاب على سائر الواجبات والمحرّمات النّفسيّة طابق النّعل بالنّعل لعدم الداعي للتّنزيل، ولا فارق بين المقامين أصلاً وبين ما لم يرد فيه من الشّرع شيء، ففيه توقّف وتردّد، واللّه - تعالى - هو العالم.

ص: 103


1- سورة النّساء، الآية: 100.
2- سورة التوبة، الآية: 120.

إشكالٌ ودفع:

أمّا الأوّل: فهو أنّه إذا كان الأمر الغيري - بما هو - لا إطاعة له، ولا قُرب في موافقته، ولا مثوبة على امتثاله، فكيف حال بعض المقدّمات، كالطهارات، حيث لا شبهة في حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها؟ هذا.

مضافاً إلى أنّ الأمر الغيري لا شبهة في كونه توصليّاً، وقد اعتبرفي صحّتها إتيانها بقصد القربة.

وأمّا الثّاني: فالتحقيق أن يقال: إنّ المقدّمة فيها بنفسها مستحبّة وعبادة، وغايتها

___________________________________________

[إشكالٌ ودفع]

{إشكال ودفع} من تتمّة التذنيب الأوّل {أمّا الأوّل} أي: الإشكال {فهو أنّه إذا كان الأمر الغيري بما هو} أمر غيري {لا إطاعة له ولا قرب في موافقته ولا مثوبة على امتثاله} كما ذهبتم إليه {فكيف حال بعض المقدّمات كالطهارات} الثّلاث {حيث لا شبهة} بالإجماع والضّرورة والأخبار {في حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها؟} مع عدم الشّكّ في كونها واجبات غيريّة {هذا مضافاً إلى} أنّه يرد إشكال آخر بالنسبة إلى الطهارات الثّلاث، وهو {أنّ الأمر الغيري لا شبهة في كونه توصليّاً} والتوصّلي - كما تقدّم - لا يعتبر فيه قصد القربة {وقد اعتبر في صحّتها إتيانها بقصد القربة} والحاصل: أنّه كيف يجمع بين حصول القرب واشتراط قصد القربة وبين التوصليّة والغيريّة في الطهارات الثّلاث من الغسل والوضوء والتيمّم؟

{وأمّا الثّاني} أي: الدفع {فالتحقيق} في الجواب عن الإشكالين {أن يقال: إنّ المقدّمة فيها} أي: في الطهارات الثّلاث {بنفسها مستحبّة وعبادة} لكونها معنونة بعنوانات حسنة في حدّ نفسها {وغايتها} أي: منتهى الكلام في مقدّميّتها أنّها

ص: 104

إنّما تكون متوقّفة على إحدى هذه العبادات، فلا بدّ أن يؤتى بهاعبادةً، وإلّا فلم يؤت بما هو مقدّمة لها. فقصد القربة فيها إنّما هو لأجل كونها في نفسها أُموراً عباديّة ومستحبّات نفسيّة، لا لكونها مطلوبات غيريّة.

والاكتفاء بقصد أمرها الغيري، فإنّما هو لأجل أنّه

___________________________________________

{إنّما تكون متوقّفة} خبر «تكون» {على إحدى هذه} الطهارات {العبادات} اسم «تكون» فالقربة والمثوبة ليستا بسبب موافقة الأمر الغيري، بل هما لأجل أنّها مستحبّات شرعيّة فهي عبادات نفسيّة استحبابيّة ومقدّمات غيريّة، وجوبيّة، ولذا اجتمع فيها خاصيّة العبادة وخاصيّة المقدّميّة.

والحاصل: أنّ الأمر المقدّمي قد تعلّق في المقام بما هي عبادة في نفسها {فلا بدّ أن يؤتى بها} أي: بالطهارات {عبادة} حتّى يكون آتياً بالمقدّمة، فيتمكّن من التوصّل إلى ذيها {وإلّا} يأت بها عبادة {فلم يؤت بما هو مقدّمة لها} أي: لتلك العبادات النّفسيّة، كالصّلاة والطّواف {فقصد القربة فيها إنّما هو لأجل كونها في نفسها أُموراً عباديّة ومستحبّات نفسيّة، لا لكونها مطلوبات غيريّة} حتّى يرد أنّه كيف يجتمع الغيريّة وقصد القربة؟

{و} إن قلت: ما ذكرتم من الجواب غير كافٍ، لما ذكر في التقريرات من أنّ هذا لا يدفع الإشكال، إذ لا أقلّ من أن يكون اللّازم على ذلك التقدير هو القصد إلى الطلب النّفسي ولو في ضمن الطلب الوجوبي، والمعلوم من طريقة الفقهاء هو القول بترتّب الثّواب على الطهارات، وإن انحصر الداعي إلى إيجادها في الأمر المقدّمي على وجه لو لم يعلم باستحبابها النّفسي أيضاً يكون كافياً في ذلك.

والحاصل: أنّه لو كان بهذه الطهارات أمر نفسي بحيث كان هو الموجبلعباديّتها، فكيف يجوز الاكتفاء بقصد الأمر الغيري؟

قلت: {الاكتفاء بقصد أم-رها الغيري فإنّما ه-و لأجل أنّه} أي: الأم-ر الغيري

ص: 105

يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه، لا حيث إنّه لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدّمة، فافهم.

وقد تُفُصِّيَ عن الإشكال بوجهين آخرين:

أحدهما: ما ملخّصه: أنّ الحركات الخاصّة ربّما لا تكون محصّلة لما هو المقصود منها، من العنوان

___________________________________________

{يدعو إلى ما هو كذلك} أي: عبادة {في نفسه} فالأمر الغيري يقول: (ائت بالعبادة) فلو قصد الأمر الغيري كان قاصداً لما هو مقدّمة وهي العبادة، فقصد الغيريّة متضمّن لقصد العباديّة {لا حيث إنّه} أي: الأمر الغيري {لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدّمة} والحاصل أنّ الاكتفاء لأجل كونه طريقاً إلى قصد العباديّة {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ ما ذكرتم في الدفع من كون الطهارات الثّلاث بنفسها مستحبّة غيرُ مستقيمٍ، إذ لا استحباب للتيمّم نفسيّاً.

{وقد تُفُصِّيَ عن} هذا {الإشكال بوجهين آخرين} ذكرهما في التقريرات(1).

{أحدهما ما ملخّصه: أنّ الحركات الخاصّة} الّتي هي مقدّمة للواجب على قسمين:

الأوّل: ما يكون بذاتها مقدّمة من غير احتياج إلى قصد أصلاً، كالذَّهَاب الّذي هو مقدّمة للحجّ، فإنّه لا يحتاج إلى قصد أصلاً، بل إن حصل الذَّهاب ولو بلااختيار، أو في حال الإغماء حصلت المقدّمة.

الثّاني: ما يحتاج في كونها مقدّمة إلى قصد عنوان خاص، بحيث إنّه لولا القصد لم تحصل المقدّمة.

ثمّ إنّ هذا القسم على نحوين: فقد يكون ذلك العنوان الّذي يلزم قصده معلوماً للمكلّف فيقصده بعنوانه التفصيلي، و{ربّما} لا يكون معلوماً بعنوانه التفصيلي فيلزم الإشارة إلى عنوانه إجمالاً حتّى يكون مقدّمة، والمدّعى أنّ الطّهارات من هذا القبيل فإنّ هذه الحركات {لا تكون محصّلة لما هو المقصود منها من العنوان}

ص: 106


1- مطارح الأنظار 1: 348.

الّذي يكون بهذا العنوان مقدّمة وموقوفاً عليها، فلا بدّ في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها؛ لكونه لا يدعو إلّا إلى ما هو الموقوف عليه، فيكون عنواناً إجماليّاً ومرآةً لها، فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لأمرها، ليس لأجل أنّ أمرها المقدّمي يقضي بالإتيان كذلك، بل إنّما كان لأجل إحراز نفس العنوان، الّذي تكون بذاك العنوان موقوفاً عليها.

وفيه - مضافاً إلى أنّ ذلك لا يقتضي الإتيان بها كذلك؛

___________________________________________

بيان «ما» أي: لا تكون بذاتها محصّلة للعنوان {الّذي يكون بهذا العنوان مقدّمة} للواجب {وموقوفاً عليها} وإنّما نقول بذلك لأنّها لو كانت بذاتها مقدّمة لم يحتج إلى القصد أصلاً، وعلى هذا {فلا بدّ في إتيانها} أي: إتيان تلك الحركات {بذاك العنوان} حتّى يكون مقدّمة {من قصد أمرها} وإنّما اشترطنا قصد الأمر {لكونه} أي: الأمر {لا يدعو إلّا إلى ما هو الموقوف عليه} إذ الأمر إنّما يتوجّه إلى المقدّمة، فقصد الأمر عبارةأُخرى عن قصد المقدّمة {فيكون} هذا القصد {عنواناً إجماليّاً ومرآةً لها} أي: للمقدّمة {فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لأمرها} المقدّمي {ليس لأجل أنّ أمرها المقدّمي يقضي بالإتيان كذلك} أي: بقصد الأمر حتّى يقال: إنّ الأمر الغيري كيف يجتمع مع العباديّة؟ كما سبق في الإشكال {بل إنّما كان} إتيان الطهارات عبادة وبقصد الأمر {لأجل إحراز نفس العنوان} الواقعي المجهول {الّذي تكون} تلك الحركات {بذاك العنوان موقوفاً عليها} ومقدّمة للواجب.

{وفيه مضافاً إلى} أنّه لو كان قصد الأمر لأجل إحراز العنوان الّذي به تكون الحركات مقدّمة يلزم كفاية قصد الإتيان بالعنوان الواجب بالوجوب الغيري، وإن كان الباعث له على فعله غير الأمر الشّرعي فلا يكون عبادة، مع أنّه لا إشكال في وجوب الإتيان بالطهارات بعنوان العبادة، إذ {أنّ ذلك} الجواب الّذي ذكره الشّيخ(رحمة الله) {لا يقتضي الإتيان بها كذلك} أي: الإتيان بالحركات، بقصد الأمر

ص: 107

لإمكان الإِشارة إلى عناوينها الّتي تكون بتلك العناوين موقوفاً عليها بنحو آخر، ولو بقصد أمرها وصفاً، لا غايةً وداعياً، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأموراً بها شيئاً آخر غيرَ أمرها - ؛ أنّه غيرُ وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها، كما لا يخفى.

وثانيهما: ما محصّله: أنّ لزوم وقوع الطهارات عبادة، إنّما يكون لأجل أنّ الغرض من الأمر النّفسي بغاياتها كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرّب بموافقته،

___________________________________________

{لإمكان الإشارة إلى عناوينها} أي: عناوين تلك الحركات {الّتي تكون بتلك العناوين موقوفاً عليها بنحو آخر} متعلّق ب-«الإشارة».

{ولو بقصد أمرها وصفاً} بأن ينوي الإتيان بما هو المأمور به بالأمر الغيري بأيّ عنوان كان {لا غايةً وداعياً} بأن ينوي الإتيان بالحركات الخاصّة لكونها مأموراً بها حتّى تكون عبادة {بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأموراً بها شيئاً آخر} من الدواعي الشّهويّة أو غيرها الموجبة، لعدم كونها عبادة {غير أمرها} الموجب لكونها عبادة {أنّه غيرُ وافٍ} أي: وفيه مضافاً إلى كذا أنّ هذا الجواب - على تقدير تسليم كونه وافياً بدفع إشكال عباديّة الطهارات - لا يفي {بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها} أي: على الطهارات {كما لا يخفى} إذ غاية مفاد هذا الجواب دفع إشكال عباديّة الطهارات، فيبقى إشكال أنّه كيف يترتّب على الأمر الغيري ثواب - كما تقدّم تقريره - .

{وثانيهما} أي: الجواب الثّاني الّذي ذكره التقريرات في التفصّي عن الإشكال {ما محصّله: أنّ لزوم وقوع الطهارات عبادة} ليس لأجل أمرها الغيري حتّى يقال: إِنّ الأمر الغيري ينافي العباديّة، بل {إنّما يكون لأجل أنّ الغرض من الأمر النّفسي بغاياتها} كالأمر النّفسي المتوجّه إلى الصلاة والطواف ونحوهما ممّا يشترط بالطهارة {كما لا يكاد يحصل} ذلك الأمر النّفسي {بدون قصد التقرّب بموافقته}

ص: 108

كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها كذلك، لا باقتضاء أمرها الغيري.

وبالجملة: وجه لزوم إتيانها عبادة، إنّما هو لأجل أنّ الغرضفي الغايات لا يحصل إلّا بإتيان خصوص الطّهارات من بين مقدّماتها أيضاً بقصد الإطاعة.

وفيه أيضاً: أنّه غير وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها.

___________________________________________

أي: بموافقة الأمر النّفسي بالغايات، إذ من البديهي عدم الإطاعة لأمر الصلاة بدون قصد التقرّب {كذلك لا يحصل} ذلك الأمر بالغاية {ما لم يؤت بها} أي: بالطهارات {كذلك} أي: بقصد القربة، فلزم قصد القربة في الطهارة باقتضاء الأمر النّفسي بالصلاة {لا باقتضاء أمرها الغيري}.

{و} حاصل الجواب {بالجملة}: أنّ {وجه لزوم إتيانها عبادة إنّما هو لأجل أنّ الغرض في الغايات لا يحصل إلّا بإتيان خصوص الطهارات} الثّلاث {من بين مقدّماتها} من السّتر والاستقبال {أيضاً بقصد الإطاعة} كما يلزم الإتيان بنفس الغايات بقصد الإطاعة.

{وفيه أيضاً} ما ذكرنا في التفصّي الأوّل، من {أنّه غيرُ وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها} أي: على الطهارات، وإن كان وافياً بدفع إشكال لزوم قصد الإطاعة.

ووجه عدم وفائه بدفع إشكال ترتّب الثّواب: أنّه لا يمكن أن يكون الأمر الغيري موجباً للثواب، لكن المحكي عن التّقريرات أنّه بصدد دفع إشكال لزوم قصد الطاعة لا بصدد دفع إشكال ترتّب المثوبة.

ولا يذهب عليك أنّ لزوم قصد الإطاعة في المقدّمة لا يحتاج إلى تكلّف القول بانبساط الأمر النّفسي المتعلّق بالغاية على القيد، كانبساطه على الجزء، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ جماعةً توهّموا أنّ اعتبار الأمرين كافٍ في دفع إشكال لزوم قصدالقربة

ص: 109

وأمّا ما ربّما قيل في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات - من الالتزام بأمرين: أحدهما كان متعلّقاً بذات العمل، والثّاني بإتيانه بداعي امتثال الأوّل - لا يكاد يجدي في تصحيح اعتبارها في الطهارات؛ إذ لو لم تكن بنفسها مقدّمات لغاياتها لا يكاد يتعلّق بها أمر من قبل الأمر بالغايات، فمن أين يجيء طلب آخر من سِنخ الطلب الغيري متعلّق بذاتها، ليتمكّن به من المقدّمة في الخارج؟

___________________________________________

في الطهارة، وذلك ببيان أنّ الأمر المقدّمي توجّه ابتداءً إلى الطهارات، ومقتضى هذا الأمر الإتيان بذواتها من دون قصد الإطاعة، ثمّ توجّه أمر آخر إليها - بأن يأتي بها بقصد امتثال أمرها الأوّل - فاعتبار قصد التقرّب إنّما أتى به من ناحية هذا الأمر الثّاني لا من ناحية الأمر الأوّل المقدّمي.

وقد أشار المصنّف إلى هذا بقوله: {وأمّا ما ربّما قيل في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات} كما تقدّم في بحث التوصّلي والتعبّدي {من الالتزام بأمرين: أحدهما كان متعلّقاً بذات العمل} وهذا لا يقتضي قصد الإطاعة {والثّاني} كان متعلّقاً {بإتيانه بداعي امتثال} الأمر {الأوّل} وهذا يقتضي قصد الإطاعة {لا يكاد يجدي} القول بتعدّد الأمر {في تصحيح اعتبارها} أي: اعتبار القربة {في الطهارات} فإنّه على تقدير تصحيح قصد القربة في الأمر النّفسيّ بتعدّد الأمرين لا يمكن تصحيح القربة في الأمر الغيري بتعدّده {إذ} على تقدير لزوم اعتبار القربة في مقدّمتيها لم تكن بنفسها مقدّمة {لو لم تكن} الطهارات {بنفسها مقدّمات لغاياتها لا يكاديتعلّق} ويترشّح {بها أمر من قبل الأمر بالغايات} لأنّ ذات الطهارات ليست مقدّمة حتّى يترشّح إليها أمر غيري {فمن أين يجيء طلب آخر} غير الطلب النّفسي {من سنخ الطلب الغيري متعلّق بذاتها} أي: ذات الطهارات {ليتمكّن} المكلّف {به} أي: بسبب هذا الأمر الغيري {من المقدّمة في الخارج} أي: يكون بهذا الأمر الغيري ذوات الطهارات مقدّمة خارجيّة، ثمّ يتوجّه

ص: 110

هذا.

مع أنّ في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة، على ما عرفته مفصّلاً سابقاً، فتذكّر.

الثّاني: أنّه قد انقدح ممّا هو التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات، صحّتُها ولو لم يؤت بها بقصد التوصّل بها إلى غاية من غاياتها.

نعم، لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة فيها أمرها الغيري،

___________________________________________

إليها أمر ثانوي بحيث يصحّح قصد الإطاعة فيها.

{هذا، مع أنّ في هذا الالتزام} أي: الالتزام بتعدّد الأمر لتصحيح قصد الامتثال في الطهارات {ما} تقدّم من الإشكال {في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة، على ما عرفته مفصّلاً سابقاً} في بحث التوصّلي والتعبّدي {فتذكّر} وراجع.

التّذنيب {الثّاني} في بيان اعتبار قصد التوصّل في الطهارات وعدمه {أنّه قد انقدح ممّا هو التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة فيالطهارات} وأنّها بنفسها مستحبّة قد جعلت مع وصف عباديّتها واستحبابها مقدّمة لواجب نفسيّ عبادي {صحّتها ولو لم يؤت بها بقصد التوصّل بها إلى غاية من غاياتها}.

والحاصل: أنّ للطهارات صوراً ثلاث:

الأُولى: الإتيان بها بقصد التوصّل إلى غاية من غاياتها مع الإتيان بها في الخارج، كما لو توضّأ للتوصّل به إلى الصلاة وصلّى.

الثّانية: الصوره الأُولى مع عدم الإتيان بالغاية، كما لو توضّأ للصلاة ثمّ لم يصلّ.

الثّالثة: الإتيان بها لا بقصد التوصّل، كما لو توضّأ لكونه نوراً.

ولا يخفى أنّه على ما ذكرنا في وجه تصحيح قصد الإطاعة فيها صحّة الصور الثّلاث؛ لأنّ الطهارة مستحبّة في نفسها، والأمر الاستحبابي لا يرتبط بالغاية.

{نعم، لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة فيها} أي: في الطهارات {أمرها الغيري}

ص: 111

لكان قصد الغاية ممّا لا بدّ منه في وقوعها صحيحة؛ فإنّ الأمر الغيري لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التوصّل إلى الغير، حيث لا يكاد يصير داعياً إلّا مع هذا القصد،

___________________________________________

بأن يكون لزوم قصد القربة فيها لأجل عدم تحقّق غايتها بدون القصد مثلاً {لكان قصد الغاية ممّا لا بدّ منه في وقوعها صحيحة} في الخارج، سواء أتى بالغاية كالصورة الأُولى أم لم يأت بها كالصورة الثّانية، وجه التلازم بين ما ذكره بعد قوله: «نعم» ما أشار إليه بقوله: {فإنّ الأمر الغيري لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التوصّل إلى الغير، حيث لا يكاد يصير} الأمر الغيري {داعياً إلّا مع هذا القصد} أي:قصد التوصّل.

وحاصل بيان هذا الدليل: أنّ الأمر الّذي تعلّق بالطهارات غيريّ حسب الفرض وحيث إنّ المقصود من الوجوب الغيري التوصّل إلى الغير، فلا بدّ في ما إذا أُريد تحقّق امتثال الأمر الغيري من قصد التوصّل إلى الغير، فإنّ قصد القربة بامتثال الأمر الغيري يتوقّف على قصده على وجهه وصفته.

هذا، وقد يقرّر وجه عدم امتثال الأمر الغيري - في صورة عدم قصد التوصّل - بهذا البيان، وهو: أنّ الأمر الغيري لا إطاعة له في نفسه ولا امتثال، وحينئذٍ فلا بدّ من ضمّ قصد التوصّل إلى قصد الأمر الغيري في كونه ذا امتثال.

أمّا وجه كون الأمر الغيري لا امتثال له فلأنّ الأمر لا بدّ فيه من غاية تدعو تلك الغاية إلى الأمر، إذ بدون الغاية كان الأمر لغواً، والغاية عبارة عن إحداث الداعي في نفس المكلّف.

ومن المعلوم أنّ الداعي إلى الأمر النّفسي والغيري معاً هو إحداث الداعي في نفسه إلى إتيان المطلوب النّفسي، ومعه كيف يمكن للعبد إتيان المقدّمة بداعي أمرها المقدّمي؟ وعليه فلا امتثال للأمر المقدّمي، إذ الامتثال عبارة عن إتيان الشّيء بداعي أمره.

ص: 112

بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدّمة عبادة ولو لم يقصد أمرها، بل ولو لم نقل بتعلّق الطلب بها أصلاً.

وهذا هو السّرّ في اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة عبادة.

___________________________________________

وأمّا وجه لزوم كون الأمر الغيري ذا امتثال في الطهارات - فهو أنّه يلزم كونه ذا امتثال حتّى يتحقّق القرب الموجب للثواب لكي تكون عبادة صحيحة.

فتحصّل من قوله: «نعم» أُمور:الأوّل: أنّ الغاية - أعني: الصلاة - لا تحصل إلّا في ما كانت المقدّمة - أعني: الطهارة - عبادة.

الثّاني: أنّ عباديّتها تتوقّف على كونها امتثالاً.

الثّالث: أنّ كونها امتثالاً لا يتحقّق إلّا إذا قصد التوصّل، وحيث يلزم تحصيل الغاية يلزم قصد التوصّل في الطهارة.

أمّا وجه التلازم الأوّل فقد تقدّم في قول المصنّف: «وقد تفصّى عن الإشكال بوجهين آخرين» الخ.

وأمّا وجه التلازم الثّاني والثّالث فواضح ممّا تقدّم {بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدّمة عبادة} يعني أنّ قصد التوصّل إلى الغاية هو ملاك عباديّة المقدّمة، إذ بذلك القصد يكون الشّارع في المقدّمة، كالشارع في نفس الغاية {ولو لم يقصد أمرها} المقدّمي، إذ قصد الأمر الغيري في جنب قصد التوصّل، كالحجر في جنب الإنسان، فإنّ المحصّل للقرب هو قصد التوصّل ليس إلّا {بل ولو لم نقل بتعلّق الطلب بها أصلاً} فإنّ وجود الطلب بالنسبة إلى المقدّمة لا مدخليّة له في المقرّبيّة.

{وهذا} الّذي ذكرنا من كون الملاك لوقوع المقدّمة عبادة هو قصد التوصّل {هو السّرّ في اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة عبادة} فإنّه حيث اعتبار عباديّة

ص: 113

لا ما تُوُهِّمَ(1) مِن أنّ المقدّمة إنّما تكون مأموراً بها بعنوان المقدّمة، فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدّمة من قصد هذا العنوان، وقصدُها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصّل إلىذي المقدّمة بها.

فإنّه فاسد جدّاً؛ ضرورةَ أنّ عنوان المقدّمية ليس بموقوف عليه الواجب، ولا بالحمل الشّائع مقدّمة له، وإنّما كان المقدّمة هو نفس المعنونات بعناوينها الأوّليّة، والمقدّميّة إنّما تكون علّة لوجوبها.

___________________________________________

المقدّمة ولم تكن عبادة إلّا بقصد التوصّل لزم قصد التوصّل {لا ما توهّم} كما في التقريرات {من أنّ} السّرّ في اعتبار قصد التوصّل ضمّ أُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ {المقدّمة إنّما تكون مأموراً بها بعنوان المقدّمة} فعنوان المقدّمة مأخوذ في متعلّق الأمر الغيري، نظير عنوان الظهر في متعلّق الأمر المتعلّق بصلاة الظهر.

الثّاني: أنّ عنوان المقدّمة لمّا كان مأخوذاً {فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدّمة من قصد هذا العنوان} فلو أراد كون الطهارة مثلاً عبادة - بمعنى كونها مقربة ذات ثواب - لزم قصد عنوان متعلّق الأمر.

{و} الثّالث: أنّ {قصدها كذلك} أي: قصد المقدّمة بعنوانها {لا يكاد يكون بدون قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة بها} متعلّق ب- «قصد» أي: لا يكون بدون قد التوصّل بهذه المقدّمة إلى ذيها {فإنّه} أي: إِنّ ما ذكره التقريرات من سرّ لزوم قصد التوصّل {فاسد جدّاً، ضرورة} بطلان الأمر الأوّل، إذ {أنّ عنوان المقدّمية ليس بموقوف عليه الواجب} فإنّ المقدّمة إنّما تكون مأموراً بها بذاتها لا بعنوان المقدّمة.{و} كذلك {لا} يكون عنوان المقدّمة {بالحمل الشّائع مقدّمة له} بل ذاتها مقدّمة بالحمل الشّائع {وإنّما كان المقدّمة هو نفس المعنونات بعناوينها الأوّليّة} كذات الغسلات والمسحات {و} عنوان {المقدّميّة إنّما تكون علّة لوجوبها} أي:

ص: 114


1- مطارح الأنظار 1: 354.

الأمر الرّابع: لا شبهة في أنّ وجوب المقدّمة - بناءً على الملازمة - يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوبَ ذي المقدّمة، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا. ولا يكون مشروطاً بإرادته، كما يُوهمه ظاهرُ عبارة صاحب المعالم (رحمة الله) في بحث الضدّ، قال: «وأيضاً فحجّة القول بوجوب المقدّمة - على تقدير تسليمها - إنّما تنهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النّظر»(1).

___________________________________________

وجوب ذات المقدّمة.

[الأمر الرّابع: في ما هو الواجب في باب المقدّمة]

اشارة

{الأمر الرّابع} من الأُمور الّتي لا بدّ من بيانها في مبحث مقدّمة الواجب قبل الخوض في المقصود في بيان تبعيّة المقدّمة لذيها في الإطلاق والاشتراط، فنقول: {لا شبهة في أنّ وجوب المقدّمة بناءً على} القول ب- {الملازمة} بين المقدّمة وذيها {يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدّمة، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا} وذلك لأنّوجوب المقدّمة معلول للوجوب النّفسي المتوجّه إلى ذيها، ولو كان الوجوب النّفسي في الحال تبعه معلوله وإن كان في الاستقبال فكذلك، فلو كان وجوب الحجّ بعد الاستطاعة كان وجوب السّير بعدها، وإن كان وجوب الصلاة في الحال كان وجوب الوضوء فيها.

{ولا يكون} وجوب المقدّمة {مشروطاً بإرادته} أي: إرادة ذي المقدّمة {كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم (رحمة الله) في بحث الضدّ، قال} ما هذا لفظه: {«وأيضاً فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما تنهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها} أي: حجّة القول بالوجوب {حقّ النّظر»} وتقريبه:

أنّه لو لم يرد المكلّف فعل ذي المقدّمة كان إيجاب المقدّمة لغواً؛ لأنّ إيجابها

ص: 115


1- معالم الدين: 71.

وأنت خبير بأنّ نهوضها على التبعيّة واضح لا يكاد يخفى، وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة، كما لا يخفى.

وهل يُعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، كما يظهر ممّا نسبه إلى شيخنا العلّامة أعلى اللّه مقامه بعض أفاضل مقرّري بحثه(1)؟

أو ترتّب ذي المقدّمة عليها، بحيث لو لم يترتّب عليها يكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب،

___________________________________________

إنّما هو للتوصّل ومع الصارف لا توصّل قطعاً.{و} لكن {أنت خبير بأنّ} حجّة القول بوجوب المقدّمة {نهوضها على التبعيّة} للواجب النّفسي مطلقاً سواء أراد الإتيان بالواجب أم لا {واضح، لا يكاد يخفى} إذ الملاك في وجوب المقدّمة توقّف ذيها عليها والتوقّف مستمرّ سواء أراد الإتيان بالواجب أم لا {وإن كان نهوضها} أي: حجّة القول بالوجوب {على أصل الملازمة} بين الوجوب للمقدّمة وذيها {لم يكن بهذه المثابة} من الوضوح، كما سيأتي بيانه في الاحتجاج {كما لا يخفى}.

ثمّ إنّ هنا نزاعاً بين الشّيخ وصاحب الفصول والمصنّف رحمهم اللّه {و} هو أنّه {هل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بها إلى ذي المقدّمة؟} فلا تكون المقدّمة واجبة في ما إذا أتى بها لا بداعي التوصّل، كما لو سار إلى ناحية الجنوب، فإذن رأى نفسه عند الميقات - {كما يظهر ممّا نسبه إلى شيخنا العلّامة، أعلى اللّه مقامه، بعض أفاضل مقرّري بحثه - أو} يعتبر في اتصال المقدّمة بالوجوب {ترتّب ذي المقدّمة} خارجاً {عليها} سواء قصد التوصّل أم لا {بحيث لو لم يترتّب} ذو المقدّمة {عليها يكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب}

ص: 116


1- مطارح الأنظار 1: 354.

كما زعمه صاحب الفصول(قدس سره)(1)؟

أو لا يعتبر في وقوعها كذلك شيء منهما؟

الظّاهر: عدم الاعتبار:

أمّا عدم اعتبار قصد التوصّل: فلأجل أنّالوجوب لم يكن بحكم العقل إلّا لأجل المقدّميّة والتوقّف، وعدم دخل قصد التوصّل فيه واضحٌ،

___________________________________________

وإن قصد التوصّل حين الإتيان بها - {كما زعمه صاحب الفصول+ - أو لا يعتبر في وقوعها كذلك} أي: في وقوع المقدّمة متّصفاً بالوجوب {شيء منهما} لا قصد التوصّل ولا التوصّل الخارجي.

ثمّ إنّ الفرق بين قول صاحب المعالم وبين قول الشّيخ(رحمة الله) هو أنّ صاحب المعالم يرى الوجوب للمقدّمة مشروطاً بالإرادة، والشّيخ يرى المقدّمة الواجبة مشروطة بها، ويظهر الفرق في ما لو ترك الواجب والمقدّمة كليهما، فصاحب المعالم يراه تاركاً لواجب نفسيّ واحد، والشّيخ يراه تاركاً لواجب نفسيّ وواجب غيريّ.

وكذلك الفرق بين صاحب المعالم وبين صاحب الفصول، مع أنّ هنا فرقاً آخر، إذ بين القولين عموم من وجه، لانفراد المعالم في ما لو أراد الواجب، ففعل المقدّمة ولم يفعل الواجب، وانفراد الفصول في ما لو فعل الواجب والمقدّمة بدون إرادة الواجب حال فعل المقدّمة، واجتماعهما في ما لو أراد وفعل، فتبصّر.

و{الظاهر} عند المصنّف {عدم الاعتبار} لما اشترطه الشّيخ وصاحب الفصول {أمّا عدم اعتبار قصد التوصّل} الّذي اعتبره الشّيخ {فلأجل أنّ الوجوب لم يكن بحكم العقل إلّا لأجل المقدّميّة و} لأجل {التوقّف وعدم دخل قصد التوصّل فيه} أي: في التوقّف {واضح} فإنّ الصعود واقعاً متوقّف على نصب السُلّم ونصب السُلّم مقدّمة له سواء قصد التوصّل أم لا، بل ولو قصد عدم التوصّل أيضاً.

ص: 117


1- الفصول الغرويّة: 81.

ولذا اعترف(1) بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدّمات العباديّة؛ لحصول ذات الواجب، فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصّل من المقدّمة بلا مخصّص، فافهم.

نعم، إنّما اعتبر ذلك في الامتثال،

___________________________________________

{ولذا} الّذي ذكرنا من عدم دخل قصد التوصّل {اعترف} الشّيخ {بالاجتزاء بما} أي: بالمقدّمة المأتيّ بها الّتي {لم يقصد به} يرجع إلى «ما» {ذلك} التوصّل لكن {في غير المقدّمات العباديّة} كالسّتر بالنسبة إلى الصّلاة.

وإنّما قال بالاجتزاء هنا {لحصول ذات الواجب} وإن لم يقصد {فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصّل من المقدّمة} بيان «ما» {بلا مخصّص} إذ بعد ما تقدّم من أنّ ملاك الوجوب التوقّف، فإدخال ما ليس من شؤون التوقّف بلا وجه.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى ضعف نسبة هذا القول إلى الشّيخ، إذ ذهب في الطهارة إلى ما يوافق مذهب المصنّف حيث قال ما حاصله على ما لخّصه بعض(2):

«إنّ قصد القربة اللّازم في المقدّمات إن كان بلحاظ أمرها الغيري يلزم قصد التوصّل فيها، حيث إنّه لا يعدّ إطاعة لذلك الأمر الغيري إلّا بهذا القصد، وإن كان ذلك باعتبار رجحانها الذاتي لا بلحاظ وجوبها المقدّمي لا حاجة إلى قصد التوصّل في صحّته واتصافه بالوجوب»(3)، انتهى.

وحيث إنّ هذا الكلام مخالف لما في التقريرات، احتمل أن يكون ذلك اشتباهاً من المقرّر وإن كان من المحتمل تبدّل الرّأي، واللّه العالم.{نعم، إنّما اعتبر ذلك} أي: قصد التوصّل {في} مقام {الامتثال} يعني أنّ قصد

ص: 118


1- مطارح الأنظار 1: 354.
2- حاشية الكفاية 1: 175.
3- كتاب الطهارة 2: 60.

لما عرفت مِن أنّه لا يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلاً لأمرها، وآخذاً في امتثال الأمر بذيها، فيثاب بثواب أشقّ الأعمال. فيقع الفعل المقدّمي

___________________________________________

التوصّل يشترط في إطاعة الأمر الغيري {لما عرفت} في التذنيب الثّاني {من أنّه لا يكاد يكون الآتي بها} أي: بالمقدّمة {بدونه} أي: بدون قصد التوصّل {ممتثلاً لأمرها} المقدّمي.

{و} كذلك لا يكون بدون قصد التوصّل {آخذاً في امتثال الأمر بذيها} إذ من البديهي أنّه لو أمر المولى بالحجّ فاشترى العبد الزاد والرّاحلة لزيارة الرّضا(علیه السلام) لم يكن ممتثلاً لأمر المولى {فيثاب} أي: حتّى يثاب لأجل مشقّة المقدّمة {بثواب أشقّ الأعمال} فلو فرض أنّه ذهب بهذا الزاد والرّاحلة إلى الحجّ كان له ثواب أصل الحج.

كما أنّه لو قصد من النّجف الأشرف الذهاب إلى النّخيلة لبعض حوائجه ثمّ بعدما وصل إليها بدا له في زيارة الحسين(علیه

السلام) لم يكن لكلّ خطوة من خطاه الواقعة بين النّجف والنّخيلة ما لكلّ خطوة من زوّار الحسين(علیه السلام) بمقتضى الدليل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ مجرّد القصد إلى التوصّل لا يستلزم الامتثال، وبيان ذلك أنّ قصد التوصّل إلى الواجب على نحوين:

الأوّل: على نحو التوصيف، بأن يجعل التوصّل إلى ذي المقدّمة عنواناً لذات المقدّمة لكن كان الداعي أمراً آخر، كأن يقول: (اشترى الرّاحلة والزاد المتّصفينبالإيصال إلى الحجّ لكن بداعي زيارة الرّضا(علیه السلام)) ومن الواضح أنّ هذا ليس امتثالاً.

الثّاني: على نحو الداعويّة، كأن يشتريهما بداعي الإيصال.

ولا يخفى أنّ المعتبر عند القائلين باعتبار قصد التوصّل هو الوجه الثّاني.

{فيقع الفعل المقدّمي} هذا تفريع على أصل المقصود، وهو عدم اعتبار قصد

ص: 119

على صفة الوجوب: ولو لم يقصد به التوصّل - كسائر الواجبات التوصليّة - ، لا على حكمه السّابق الثّابت له لولا عروض صفة توقّف الواجب الفعلي المنجّز عليه.

فيقع الدخول في ملك الغير واجباً إذا كانت مقدّمةً لإنقاذ غريقٍ أو إطفاء حريقٍ واجبٍ فعليٍّ، لا

___________________________________________

التوصّل في وجوب المقدّمة {على صفة الوجوب ولو لم يقصد به التوصّل} كما لو اشترى الزاد والرّاحلة بلا قصد الحجّ سواء قصد الخلاف كزيارة الرّضا(علیه السلام) أم لا، بل كان بلا قصد أصلاً، وعلى كلا الحالين يكون واجباً وإن لم يكن طاعة وعبادة {كسائر الواجبات التوصليّة} الّتي لا يتوقّف وجوبها على القصد {لا على حكمه} عطف على قوله: «على صفة الوجوب» أي: لا يقع الفعل المقدّميّ في صورة عدم قصد التوصّل على حكمه {السّابق} من الحرمة والكراهة والإباحة والاستحباب {الثّابت له} أي: لهذا الفعل المقدّمي {لولا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجّز عليه}.

والحاصل: أنّ التقريرات ذكر أنّه لو لم يقصد الشّخص التوصّل لم يطرأ علىالفعل المقدّمي عنوان الوجوب، فيبقى على حكمه الّذي كان له سابقاً.

مثلاً: لو كان بين الشّطّ وبين الشّخص أرض مغصوبة ثمّ غرق أحد في الشّطّ، فإن مشى الشّخص في تلك الأرض بقصد التوصّل إلى إنقاذ الغريق الّذي هو واجب فعليّ منجّز عليه صار هذا المشي واجباً، فتسقط الحرمة الأوليّة بسبب عروض هذا الوجوب، وأمّا لو مشى لا بقصد التوصّل إلى إنقاذ الغريق لم يطرأ على هذا المشي عنوان الوجوب، فيبقى المشي على عنوانه الأوّلي من الحرمة.

والمصنّف أنكر على الشّيخ هذا التفصيل ويقول بوجوب المشي في الصورتين {فيقع} هذا {الدخول في ملك الغير واجباً إذا كانت مقدّمة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعلي} صفة الإنقاذ والإطفاء، و{لا} يقع هذا الدخول

ص: 120

حراماً، وإن لم يلتفت إلى التوقّف والمقدّميّة. غاية الأمر يكون حينئذٍ متجرّياً فيه.

كما أنّه مع الالتفات يتجرّى بالنّسبة إلى ذي المقدّمة، في ما لم يقصد التوصّل إليه أصلاً.

وأمّا إذا قصده ولكنّه لم يأت بها بهذا الداعي، بل بداعٍ آخَرَ أكّده بقصد التوصّل، فلا يكون متجرّياً أصلاً.

___________________________________________

{حراماً وإن لم يلتفت إلى التوقّف والمقدّميّة} سواء علم بوجوب إنقاذ الغريق أم لم يعلم ومع العلم بالوجوب سواء كان قاصداً إلى الإنقاذ، لكنّه لا يعلم توقّفه على هذا الدخول أم لم يكن قاصداً. {غاية الأمر يكون} الشّخص الداخل {حينئذٍ} أي: حين عدم الالتفات إلى التوقّف {متجرّياً فيه} أي: في هذا الدخول لأنّه باعتقاده يرتكب الحرام {كما أنّه مع الالتفات} إلى توقّفالإنقاذ على الدخول {يتجرّى بالنّسبة إلى ذي المقدّمة} أعني: الإنقاذ {في ما لم يقصد التوصّل إليه أصلاً} بأن دخل الأرض عالماً بالغريق بانياً على عدم إنقاذه ثمّ أنقذه، فإنّ بناءه كان تجرّياً.

وإنّما قلنا بأنّه أنقذه؛ لأنّه لو لم ينقذه أصلاً كان فاعلاً للحرام القطعي، وقد يجتمع التجرّي بالنّسبة إلى المقدّمة والتجرّي بالنسبة إلى ذي المقدّمة، وذلك في ما لو علم بالغريق وكان بناؤه على عدم إنقاذه ثمّ دخل الأرض ولم يكن ملتفتاً إلى توقّف الإنقاذ على الدخول وكان عالماً بغصبيّة الأرض.

{وأمّا إذا} التفت إلى حرمة الأرض وعلم بالغريق وبتوقّف الإنقاذ على الدخول و{قصده} أي: قصد التوصّل بهذا الدخول إلى الإنقاذ {ولكنّه لم يأت بها} أي: بالمقدّمة {بهذا الداعي} أي: بداعي الإنقاذ فقط {بل} دخل {بداعٍ آخر} كسقي زرعه، ولكن {أكّده} أي: أكّد داعي السّقي {ب-} ضمّ {قصد التوصّل فلا يكون متجرّياً أصلاً} لا بالنسبة إلى المقدّمة لالتفاته إلى التوقّف ولا بالنسبة إلى ذيها لقصده الإنقاذ.

والحاصل: أنّه كان ملتفتاً إلى الواجب وكان من قصده التوصّل إليه ولكنّه أتى

ص: 121

وبالجملة: يكون التوصّل بها إلى ذي المقدّمة من الفوائد المترتّبة على المقدّمة الواجبة، لا أن يكون قصده قيداً وشرطاً لوقوعها على صفة الوجوب؛ لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلاً، وإلّا لما حصل ذات الواجب، ولما سقط الوجوب به، كما لا يخفى.

___________________________________________

بالمقدّمة بداعي شيء آخر، بحيث كان قصد التوصّل غير مستقلّ في كونه داعياً، بل المستقلّ ذلك الأمر وقصد التوصّل مؤكّد له. وإذا تحقّق عدم التجرّي في هذه الصورة ففي صورة تساوي الداعيين وصورة مؤكّديّة الأمر الخارجي بطريق أولى.

{وبالجملة يكون التوصّل بها} أي: بهذه المقدّمة الّتي أتى بها بداعٍ آخَرَ وأكّده بقصد التوصّل {إلى ذي المقدّمة من الفوائد المترتّبة على المقدّمة الواجبة} فالمقدّمة وقعت على صفة الوجوب وإن لم يقصد التوصّل.

{لا أن يكون قصده} أي: قصد التوصّل {قيداً وشرطاً لوقوعها على صفة الوجوب} بحيث لم تكن واجبة لو لم يقصد.

وإنّما قلنا بوجوب المقدّمة وإن لم يقصد {لثبوت ملاك الوجوب} وهو عنوان المقدّميّة {في نفسها} أي: إنّ نفس المقدّمة مشتملة على ملاك الوجوب {بلا دخل له} أي: للقصد {فيه} أي: في الملاك {أصلاً، وإلّا} فلو كان للقصد مدخل في الوجوب {لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به} أي: بهذا الفعل المقدّمي الّذي لم يقصد التوصّل به {كما لا يخفى}.

قال المحقّق القمّي المحشّي(رحمة الله): «هذا وجه آخر لإبطال كلام الشّيخ، وبيانه: أنّ قصد التوصّل لو كان داخلاً في الواجب بحيث كان وقوعه في الخارج على صفة الوجوب متوقّفاً به ففي ما إذا لم يأت به كذلك لم يكن آتياً بذات الواجب، فيكون عليه الإعادة ثانياً مع التزامه بعدم لزوم الإعادة»(1)،

انتهى.

ص: 122


1- حاشية الكفاية 1: 176.

ولا يقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرّم منها؛ حيث يسقط بهالوجوب مع أنّه ليس بواجب؛ وذلك لأنّ الفرد المحرم إنّما يسقط به الوجوب لكونه كغيره في حصول الغرض به بلا تفاوت أصلاً، إلّا أنّه لأجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب.

___________________________________________

{و} إن قلت: قولكم: «وإلّا لما حصل» ألخ غيرُ تامٍّ، إذ لا تلازم بين عدم وجوب المقدّمة وبين عدم السّقوط، فيمكن أن يكون المقدّمة الّتي لم يقصد بها التوصّل غير واجبة، ومع ذلك إذا أتى بها سقط الوجوب، وممّا يوضح عدم التّلازم ما إذا كان للمقدّمة فردان: أحدهما مباح والآخر حرام، فلو أتى بالمقدّمة الّتي هي حرام سقط بها الوجوب الغيري مع أنّ المقدّمة المحرّمة ليست بواجبة.

مثلاً: لو كان لإنقاذ الغريق طريقان: الأوّل الأرض الغصبيّة، والثّاني المباحة، فذهب من الطريق الغصبي إلى الغريق فأنقذه كانت المقدّمة محرّمة قطعاً، مع أنّه يسقط وجوب المقدّمة بها، أمّا أنّها حرام فلعدم التوقّف عليها حتّى يغلب وجوبها المقدّمي على حرمتها الأوّليّة، وأمّا أنّها يسقط الوجوب، فلأنّه لا محلّ لها.

قلت: {لا يقاس} المقدّمة المأتي بها لا بقصد التوصّل {على ما إذا أتى بالفرد المحرّم منها} وجه القياس {حيث يسقط به الوجوب مع أنّه ليس بواجب، و} وجه عدم القياس أنّ الفرد المحرّم من المقدّمة لم يسر الوجوب من ذي المقدّمة إليه، بخلاف الفرد المباح، كما في ما نحن فيه فإنّه يسري الوجوب إليه، وعدم قصد التوصّل غير مانع من السّراية.

بيان {ذلك: لأنّ الفرد المحرّم} من المقدّمة، كدخول الأرض المغصوبة {إنّما يسقط به الوجوب لكونه كغيره في حصول الغرض به بلا تفاوت أصلاً} في حصول الغرض بين المحرّم وغيره {إلّا أنّه لأجلوقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب} للزوم اجتماع الأمر والنّهي الممتنع عندنا، ولا يفرق في الامتناع

ص: 123

وهذا بخلاف هاهنا، فإنّه إن كان كغيره ممّا يقصد به التوصّل في حصول الغرض، فلا بدّ أن يقع على صفة الوجوب مثله؛ لثبوت المقتضي فيه بلا مانع، وإلّا لما كان يسقط به الوجوب ضرورةً، والتالي باطل بداهةً، فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعاً، وانتظر لذلك تتمّة توضيح.

والعجب أنّه شدّد النّكير على القول بالمقدّمة الموصلة، واعتبار ترتّب ذي المقدّمة عليها

___________________________________________

بين كون الوجوب والحرمة نفسيّين أو غيريّين أو مختلفين، كما سيأتي - إن شاء اللّه تعالى - .

{وهذا بخلاف} ما {هاهنا} أعني: المقدّمة المباحة الّتي لم يقصد بها التوصّل {فإنّه إن كان كغيره} من سائر أفراد المقدّمة {ممّا يقصد به التوصّل في حصول الغرض} الظرف متعلّق بقوله: «كغيره» {فلا بدّ أن يقع} هذه الّتي لم يقصد التوصّل بها {على صفة الوجوب مثله} أي: مثل ما قصد به التوصّل، وإنّما تقع على صفة الوجوب {لثبوت المقتضي} للوجوب {فيه} وهو إمكان التوصّل {بلا مانع} من حرمة ونحوها {وإلّا} يمكن حصول الغرض به {لما كان يسقط به الوجوب ضرورة} لعدم حصول الغرض {والتالي} وهو عدم سقوط الوجوب بالمقدّمة الّتي لم يقصد بها التوصّل {باطل بداهة} لسقوط الوجوب، إذ بقاء الإيجاب لغو محض {فيكشف هذا} السّقوط {عن عدماعتبار قصده} أي: قصد التوصّل {في الوقوع} أي: وقوع المقدّمة {على صفة الوجوب قطعاً} بمقتضى التلازم المذكور {وانتظر لذلك تتمّة توضيح} في قوله: «إن قلت» وجوابه حينما يستشكل على صاحب الفصول.

{والعجب} من الشّيخ حيث {أنّه شدّد النّكير على القول بالمقدّمة الموصلة واعتبار} عطف بيان ل-«لمقدّمة الموصلة» {ترتّب ذي المقدّمة عليها} أي: على

ص: 124

في وقوعها على صفة الوجوب(1) - على ما حرّره بعض مقرّري بحثه+(2) - بما يتوجّه على اعتبار قصد التوصّل في وقوعها كذلك، فراجع تمام كلامه - زيد في علوّ مقامه - وتأمّل في نقضه وإبرامه.

وأمّا عدم اعتبار ترتّبِ ذي المقدّمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب:

___________________________________________

المقدّمة {في وقوعها على صفة الوجوب} الظرف متعلّق بالمقدّمة الموصلة {على ما حرّره بعض مقرّري بحثه+} الجارّ متعلّق ب-«شدّد النّكير» {بما}(3)

أي: أنكر الشّيخ على المقدّمة الموصلة بنفس الإشكال الّذي{يتوجّه على} قوله: من {اعتبار قصد التوصّل في وقوعها كذلك} أي: وقوع المقدّمة على صفة الوجوب، {فراجع تمام كلامه، زيد في علوّ مقامه، وتأمّل في نقضه وإبرامه}.

هذا كلّه في نقد كلام الشّيخ من القائل بلزوم قصد التوصّل حتّى تتّصف المقدّمة بالوجوب، {وأمّا} وجه بطلان ما قاله في الفصول من وجوب المقدّمة الموصلة وبيان {عدم اعتبار ترتّب ذي المقدّمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب} بمعنى أنّ المقدّمة تقع على صفة الوجوب سواء ترتّب عليها ذو المقدّمة أم لا، فهو يحتاج إلى بيان أُمور.

ص: 125


1- الفصول الغرويّة: 81.
2- مطارح الأنظار 1: 368.
3- قد علّق السّيّد الحكيم على قوله: «بما يتوجّه على اعتبار» ما لفظه: «فإنّه قد استشكل على الفصول من جهات ثلاث: ملخّص الأُولى: منها أنّ الوجه في حكم العقل بوجوب المقدّمة ليس إلّا أنّ عدمها يوجب العدم. وملخّص الثّانية: أنّ القول بوجوب المقدّمة الموصلة يوجب القول بوجوب مطلق المقدّمة؛ لأنّ الأمر بالمقيّد بقيد خارجي يستتبع الأمر بذات المقيّد. وملخّص الثّالثة: دعوى الوجدان بسقوط الطلب بعد وجودها من غير انتظار ترتّب ذي المقدّمة، ولولا أنّ لوجودها بذاتها مدخلاً في المطلوبيّة لم يكن وجه للسقوط. وهذه الجهات كما ترى واردة بعينها على دعوى اعتبار قصد التوصّل»، انتهى. حقائق الأصول 1: 274.

فلأنّه لا يكاد يعتبر في الواجب إلّا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه، والباعث على طلبه، وليس الغرض من المقدّمة إلّا حصول ما

___________________________________________

الأوّل: أنّ الأمر تابع للغرض.

الثّاني: أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة ليس نفس وجود ذيها، إذ وجود ذيها ليس أثراً لوجود المقدّمة، بل الغرض سدّ باب العدم من ناحية هذه المقدّمة، بمعنى أنّه حيث لا يمكن إيجاد ذي المقدّمة بدونها أراد المولى التمكّن منه بواسطة الإتيان بالمقدّمة.

الثّالث: أنّ الغرض الّذي دعا إلى إيجاب شيء لا بدّ وأن يحصل من ذاكالشّيء لا من غيره، مثلاً لو كان الغرض الداعي إلى إيجاب الصلاة هو المعراجيّة يلزم حصولها من نفس الصلاة لا من شيء آخر.

إذا عرفت هذه الأُمور فنقول: الغرض من المقدّمة إمّا أن يكون وجود ذيها، وهذا غير تام، إذ هذا الغرض لا يترتّب على المقدّمة بل يترتّب على الإرادة ونحوها وقد قلنا في الأمر الثّالث أنّ الغرض من إيجاب شيء لا بدّ وأن يترتّب على نفس ذلك الشّيء.

وإمّا أن يكون إمكان وجود ذيها بعدها، وعلى هذا فلا يفرق بين الموصلة وغيرها؛ لأنّ إمكان وجود ذيها كما يترتّب على الموصلة يترتّب على غيرها.

وقد اختصرنا الدليل وحذفنا بعض مقدّماته، وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {فلأنّه لا يكاد يعتبر في الواجب إلّا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه والباعث على طلبه} مثلاً: إذا كان الغرض من المقدّمة إمكان الإيصال إلى ذيها ولم يكن الغرض من المقدّمة الإيصال الخارجي، فالمعتبر في المقدّمة الواجبة إمكان الإيصال الّذي هو دخيل في الغرض، وليس المعتبر في المقدّمة الإيصال الّذي لا دخل له في الغرض وقوله: «الداعي» صفة للغرض {وليس الغرض من المقدّمة إلّا حصول ما}

ص: 126

لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة؛ ضرورة أنّه لا يكاد يكون الغرض إلّا ما يترتّب عليه من فائدته وأثره، ولا يترتّب على المقدّمة إلّا ذلك، ولا تفاوت فيه بين ما يترتّب عليه الواجب، وما لا يترتّب عليه أصلاً، وأنّه لا محالة يترتّب عليهما، كما لا يخفى.

وأمّا ترتّب الواجب، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها؛

___________________________________________

أي: حصول وجود مقدّمي بحيث {لولاه} أى: لولا هذا الوجود {لما أمكن حصول ذي المقدّمة} فالغرض من الطهارة حصول نظافة للنفس لولاها لما أمكن حصول الصلاة.

إن قلت: لم لا يكون الغرض من المقدّمة حصول نفس ذيها؟

قلت: لا يمكن ذلك {ضرورة أنّه لا يكاد يكون الغرض إلّا ما يترتّب عليه من فائدته وأثره} فالغرض من كلّ شيء ما يترتّب عليه وإلّا لكان كلّ شيء غرضاً من كلّ شيء، وهو بديهيّ البطلان {ولا يترتّب على المقدّمة إلّا ذلك} الّذي ذكرنا من التمكّن على ذيها بعدها لا وجود ذيها.

{و} إذا تمّت هذه المقدّمات فنقول: {لا تفاوت فيه} أي: في هذا الغرض - أعني: التمكّن من ذيها - {بين ما} أي: المقدّمة الّتي {يترتّب عليه الواجب} وهي الموصلة {و} بين {ما لا يترتّب} الواجب {عليه أصلاً} وهي غير الموصلة {وأنّه} أي: أثر المقدّمة والغرض منها وهو التمكّن {لا محالة يترتّب عليهما} أي: على الموصلة وغيرها {كما لا يخفى} على أحد.

{وأمّا ترتّب الواجب فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها} أي: إيجاب المقدّمة وطلبها، بمعنى أنّه لا يعقل أن يكون غرض المولى من إيجاب المقدّمة ترتّب الواجب عليها، وإذا لم يكن غرض المولى ترتّب الواجب فلا يعتبر ذلك في المقدّمة، وذلك يحتاج إلى بيان مقدّمة، وهي أنّ الفعل على قسمين:

ص: 127

فإنّه ليس بأثر تمام المقدّمات - فضلاً عن إحداها - في غالب الواجبات؛ فإنّ الواجب - إلّا ما قلّ - في الشّرعيّات والعرفيّات فعلٌاختياري يختار المكلّف تارةً إتيانه بعدَ وجود تمام مقدّماته، وأُخرى عدمَ إتيانه، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضاً من إيجاب كلّ واحدة من مقدّماته، مع عدم ترتّبه على تمامها،

___________________________________________

الأوّل: الفعل المباشري - وهو الّذي يختار الإنسان الفعل أو عدمه - بعد تمام المقدّمات، كالصلاة مثلاً، فإنّ الشّخص بعد تحصيل الطهارة الحدثيّة والخبثيّة والسّتر والاستقبال وإباحة المكان وغير ذلك إمّا أن يختار الفعل أو يختار الترك.

الثّاني: الفعل التوليدي - وهو الّذي إذا تمّت المقدّمات حصل الفعل لا محالة - كالإحراق فإنّه بعد تحصيل النّار وتجفيف الورق وإلقائه في النّار يحصل الإحراق ولا مدخليّة للاختيار بعد تماميّة المقدّمات.

إذا عرفت ذلك قلنا: قد تقدّم أنّ الغرض الداعي إلى الإيجاب لا بدّ أن يترتّب على الشّيء، وحيث لا يترتّب الفعل على المقدّمة لا يكون الغرض من إيجاب المقدّمة هو ترتّب ذيها {فإنّه} أي: ترتّب الواجب {ليس بأثر تمام المقدّمات فضلاً عن إحداها في غالب الواجبات} أي: فضلاً عن أن يكون أثر إحدى المقدّمات، وإنّما لم يكن الواجب أثر المقدّمات {فإنّ الواجب - إلّا ما قلّ في الشّرعيّات والعرفيّات - فعل اختياري} مباشري {يختار المكلّف تارةً إتيانه بعد وجود تمام مقدّماته} كما لو صلّى بعد حصول المقدّمات المذكورة {و} يختار تارة {أُخرى عدم إتيانه} كما هو شأن الأفعال المباشريّة الّتي تقدّم بيانها.

وعلى هذا فلم يترتّب الفعل على المقدّمات حتّى يكون الغرض من إيجاب المقدّمات ترتّب الفعل ليكون هذا الترتّب معتبراً في وجوب المقدّمة {فكيفيكون اختيار إتيانه} أي: إتيان ذي المقدّمة {غرضاً من إيجاب كلّ واحدة من مقدّماته مع عدم ترتّبه} أي: ترتّب ذي المقدّمة {على تمامها} أي: تمام المقدّمات

ص: 128

فضلاً عن كلّ واحدة منها؟

نعم، في ما كان الواجب من الأفعال التسببيّة والتوليديّة، كان مترتّباً - لا محالة - على تمام مقدّماته؛ لعدم تخلّف المعلول عن علّته.

ومن هنا قد انقدح: أنّ القول بالمقدّمة الموصلة يستلزم إنكارَ وجوب المقدّمة في غالب الواجبات، والقولَ بوجوب خصوص العلّة التامّة في خصوص الواجبات التوليديّة.

___________________________________________

{فضلاً عن كلّ واحدة منها}.

هذا كلّه في القسم الأوّل من الأفعال - أعني: الأفعال المباشريّة - {نعم، في ما كان الواجب} مثل الإحراق في العرفيّات والطهارات بناءً على كون الغسلات مقدّمة لها في الشّرعيّات {من الأفعال التسببيّة والتوليديّة} الّتي إنّما يأتي المكلّف بسببها ومولدها لأنفسها {كان} الفعل {مترتّباً لا محالة على تمام مقدّماته، لعدم} إمكان {تخلّف المعلول عن علّته} بل فيها أيضاً إنّما يترتّب الفعل على الجزء الأخير منها كإلقاء الحطب في النّار وإيصال اليد إلى الكعب في الرّجل اليسرى، فيصحّ القول بالمقدّمة الموصلة في هذا المورد الشّاذّ النّادر.

{ومن} قولنا: «وأمّا ترتّب الواجب فلا يعقل» إلى {هنا قد انقدح أنّ القول بالمقدّمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدّمة في غالبالواجبات} أمّا الأفعال المباشريّة فتمام مقدّماتها منفردة أو مجموعة، وأمّا التوليديّة فتمام مقدّماتها منفردة {و} يستلزم {القول بوجوب خصوص العلّة التامّة} أي: المجموع من المقدّمات {في خصوص الواجبات التوليديّة} مع أنّ صاحب الفصول يقول بوجوب تمام المقدّمات عند إيصالها إلى الواجب.

ووجه الانقداح أنّ المقدّمة الواجبة - على هذا القول - هي المقدّمة الموصلة، والمقدّمة الموصلة لا توجد في الأفعال المباشريّة أصلاً، وفي الأفعال التوليديّة لا تكون إلّا في المجموع من حيث المجموع.

ص: 129

فإن قلت: ما من واجب إلّا وله علّة تامّة؛ ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها، فالتخصيص بالواجبات التوليديّة بلا مخصّص.

قلت: نعم، وإن استحال صدور الممكن بلا علّة، إلّا أنّ مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علّته، وهي لا تكاد تتّصف بالوجوب؛ لعدم كونها بالاختيار، وإلّا لتسلسل، كما هو واضح لمن تأمّل.

___________________________________________

{فإن قلت}: ليس الأمر كما زعمتم من أنّه يلزم وجوب خصوص مقدّمات الواجبات التوليديّة على قول صاحب الفصول، إذ {ما من واجب إلّا وله علّة تامّة، ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها} فالعلّة التامّة الّتي تكون للواجبات التوليديّة وللواجبات المباشريّة هي المقدّمة الموصلة الّتي يقول صاحب الفصول بوجوبها {فالتخصيص} الّذي ذكرتم، أي: تخصيص وجوب المقدّمة {بالواجبات التوليديّة بلا مخصّص} بل لكلّ واجب مقدّمة موصلة.

{قلت: نعم، وإن استحال صدور الممكن بلاعلّة} فكلّ واجب يحتاج إلى علّة تامّة هي المقدّمة الموصلة {إلّا أنّ} الأفعال المباشريّة لا يعقل أن يكون علّتها التامّة واجبة؛ لأنّ {مبادئ اختيار الفعل الاختياري} - أعني: التصوّر والتصديق والميل والجزم والعزم والإرادة - كلّها {من أجزاء علّته} أي: اجزاء علّة الفعل الاختياري {وهي} أي: المبادئ {لا تكاد تتّصف بالوجوب، لعدم كونها بالاختيار، وإلّا} فلو كان مبادئ الاختيار أيضاً مستندة إلى الاختيار {لتسلسل} إذ الفعل الاختياري مستند إلى الإرادة، فلو كانت الإرادة أيضاً اختياريّة لاستندت إلى إرادة أُخرى، وحينئذٍ فالإرادة الثّانية لا يخلو إمّا أن تكون اختياريّة مستندة إلى إرادة ثالثة، وهكذا فيلزم التسلسل {كما هو واضح لمن تأمّل} وإمّا أن لا تكون الإرادة الثّانية اختياريّة، وهذا باطل للزوم الانفكاك بين الأشياء.

وقد تحقّق أنّ حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز سواء، مثلاً: هذا البياض

ص: 130

___________________________________________

إذا كان من طبعه القيام بغيره وكان من طبعه أيضاً عدم إمكانه انتقاله من محلّه إلى محلّ آخر، فالبياض الثّاني الّذي هو مثل هذا البياض الأوّل في ما يجوز - أعني: القيام بالغير - وفي ما لا يجوز - أعني: عدم الانتقال - سواء، وهذا حكم بضرورة العقل مع قيام البرهان عليه أيضاً في محلّه.

فتحصّل من قوله: «قلت» الخ، أنّه فرق بين الواجبات التوليديّة والواجبات المباشريّة، فالواجبات التوليديّة حيث لم تكن الإرادة دخيلة فيها، فالمجموع من المقدّمات تكون علّة تامّة وهي واجبة بالغير وتكون مقدّمة موصلة، وأمّا الواجبات المباشريّة فحيث كانت الإرادة دخيلة فيها، فالمجموع من المقدّماتالّتي في ضمنها الإرادة لا تكون واجبة؛ لأنّ الوجوب إنّما يتعلّق بالأمر الاختياري، ومجموع المقدّمات ليست اختياريّة لتضمّنها للإرادة الّتي لا يعقل اختياريّتها.

وإن شئت قلت: إنّ الموصلة من مقدّمات الأفعال المباشريّة هي الإرادة ولا يعقل وجوبها، وغيرها لا تكون موصلة حتّى يكون واجباً.

هذا تقرير كلام المصنّف+، لكنّك خبير بفساد الكلام من وجهين:

الأوّل: أنّه لو كان عدم اختياريّة بعض المقدّمات موجبة لعدم توجّه الأمر إلى مجموع المقدّمات، فما الفرق بين الأفعال التوليديّة والمباشريّة؟ إذ الإرادة ولو لم تكن بالنسبة إلى نفس الفعل التوليدي لكنّها داخلة في ضمن المقدّمات، كما لا يخفى، فاللّازم القول بعدم وجوب مقدّمة الفعل التوليدي أيضاً، مع أنّ المصنّف فرّق بينهما فقبل المقدّمة الموصلة في التوليدي دون المباشري.

الثّاني: ما تقدّم سابقاً من بطلان كون الإرادة ليست بالاختيار، بل قلنا إنّه على هذا يلزم الجبر المحال، وقد بسطنا الكلام في تقريرات بعض أساتيذنا في هذا

ص: 131

ولأنّه لو كان معتبراً فيه التّرتّب لما كان الطلب يسقط بمجرّد الإتيان بها، من دون انتظار لترتّب الواجب عليها، بحيث لا يبقى في البين إلّا طلبُه وإيجابه، كما إذا لم يكن هذه بمقدّمة، أو كانت حاصلة من الأوّل قبل إيجابه، مع أنّ الطلب لا يكاد يسقط إلّا

___________________________________________

المقام، فراجع(1).

هذا تمام الكلام في الإشكال الأوّل على صاحب الفصول القائل بالمقدّمةالموصلة {و} هنا إشكال آخر، وحاصله - كما في تعليقة القمّي - : «أنّه لا شبهة في أنّه إذا أتى بالمقدّمة وبعد لم يأت بذيها يسقط الأمر بالمقدّمة، لظهور أنّه لا يكلّف حينئذٍ بالإتيان بما أتى به فيكون حاله كحال ما إذا لم يكن هذه بمقدّمة أصلاً، وسقوط الطلب والأمر إمّا بالعصيان المعلوم أنّ مقامنا ليس منه، وإمّا بارتفاع الموضوع المقطوع أنّ الأمر ليس كذلك، فلا بدّ أن يكون بالموافقة وهو المطلوب»(2)،

انتهى.

وقد بيّن المصنّف هذا الإشكال في طيّ مقدّمتين:

الأُولى: ما أشار إليه بقوله: و{لأنّه لو كان معتبراً فيه} أي: في الوجوب الغيري للمقدّمة {الترتّب} لذي المقدّمة عليها بحيث تكون موصلة {لما كان الطلب} للمقدّمة {يسقط بمجرّد الإتيان بها من دون انتظار لترتّب الواجب عليها، بحيث} يكون الواجب الغيري ساقطاً بالمرّة، و{لا يبقى في البين إلّا طلبه} أي: طلب الواجب النّفسي {وإيجابه كما إذا لم يكن هذه} المقدّمة المأتي بها {بمقدّمة} أصلاً {أو} كما {كانت حاصلة من الأوّل قبل إيجابه} أي: قبل إيجاب الواجب النّفسي.

والمقدّمة الثّانية: ما أشار إليه بقوله: {مع أنّ الطلب لا يكاد يسقط إلّا} بأحد أُمور

ص: 132


1- مخطوطة.
2- حاشية الكفاية 1: 179.

بالموافقة، أو بالعصيان والمخالفة، أو بارتفاع موضوع التكليف - كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب غرق الميّت أحياناً أو حرقه - ، ولا يكون الإتيانبها - بالضرورة - من هذه الأُمور غير الموافقة.

إن قلت: كما يسقط الأمر بتلك الأُمور، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به في ما يحصل به الغرض منه،

___________________________________________

ثلاثة: [1] {بالموافقة} للتكليف [2] {أو بالعصيان والمخالفة} له [3] {أو بارتفاع موضوع التكليف} ومثَّل لارتفاع موضوع التكليف بقوله: {كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب} ارتفاع موضوعهما. مثل ما إذا اتفق {غرق الميّت أحياناً أو حرقه} فلا يبقى التكليف بالكفن والغسل والصلاة والدفن، لانعدام موضوع التكليف.

وهنا مقدّمة ثالثة طواها المصنّف، وهي: لكن الطلب بالمقدّمة بمجرّد الإتيان بها ساقط {ولا يكون} السّقوط بسبب {الإتيان بها بالضرورة من} أجل {هذه الأُمور} الثّلاثة المذكورة في المقدّمة الثّانية {غير الموافقة} فيكون السّقوط مستنداً إلى الموافقة وهو المطلوب.

والحاصل: أنّ المسقط للتكليف أحد أُمور ثلاثة، ولا ريب أنّ الوجوب الغيري يسقط بإتيان المقدّمة، كما لا ريب في أنّ السّقوط ليس مستنداً إلى العصيان أو انتفاء الموضوع، فتعيّن أن يكون مستنداً إلى الموافقة، وحيث لم يكن حينئذٍ إيصال، فاللّازم كون غير الموصلة أيضاً واجباً، وهو المطلوب.

{إن قلت}: سلّمنا سقوط التكليف الغيري لكن ليس سقوطه مستنداً إلى الموافقة حتّى يتمّ مطلوبكم، إذ لا ينحصر سقوط الواجب في الأُمور الثّلاثة المذكورة، بل {كما يسقط الأمر} الواجب {بتلك الأُمور} الثّلاثة {كذلك يسقط} بشيء رابع، وهناً منه، لبداهة أنّ التكليف قد يسقط{بما ليس بالمأمور به في ما يحصل به} الضّمير راجع إلى «ما» {الغرض منه} الضمير راجع إلى «المأمور به»،

ص: 133

كسقوطه في التوصليّات بفعل الغير أو المحرّمات.

قلت: نعم، ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض، من الفعل الاختياري للمكلّف متعلّقاً للطلب في ما لم يكن فيه مانع - وهو كونه بالفعل محرّماً - ؛ ضرورةَ أنّه لا يكون بينهما تفاوت أصلاً، فكيف يكون أحدهما متعلّقاً له فعلاً، دون الآخر؟

___________________________________________

يعني أنّ المسقط للتكليف قد يكون حصول الغرض {كسقوطه في التوصليّات بفعل الغير} فإنّ المولى لو أمر عبده زيداً بسقي خالد، فبادر عمرو وسقاه، سقط التكليف عن زيد، مع أنّه لم يوافق ولم يعص ولم ينتف موضوع التكليف لبقاء خالد، فتأمّل.

وإنّما المسقط هنا حصول الغرض {أو} بفعل {المحرّمات} كما لو ركب الدابّة الغصبيّة وقطع المسافة إلى الحجّ، فإنّ التكليف بالقطع ساقط قطعاً.

ولا يخفى أنّ هذا العصيان غير العصيان السّابق، إذ المراد بالعصيان في السّابق فوت وقت التكليف، كما لو لم يذهب حتّى فات الحجّ فإنّ التكليف بقطع المسافة ساقط، والمراد بالعصيان هنا إتيان المقدّمة على وجه المعصية، فتبصّر.

{قلت: نعم} إنّ التكليف قد يسقط بغير الأُمور الثّلاثة إذا كان يحصل به الغرض {ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض من الفعل الاختياري للمكلّف} بيان «ما» {متعلّقاً للطلب} خبر «يكون» {في ما لم يكنفيه مانع} متعلّق بقوله: «متعلّقاً» ثمّ بيّن المانع بقوله: {وهو كونه بالفعل محرّماً} واستدلّ لوجوب تعلّق الطلب بالفعل المحصّل للغرض بقوله: {ضرورة أنّه لا يكون بينهما} أي: بين المأمور به وبين المحصّل للغرض {تفاوت أصلاً، فكيف يكون أحدهما متعلّقاً له فعلاً دون الآخر} مع فرض كون كليهما محصّلاً للغرض؟

والحاصل: أنّ الإتيان بالمقدّمة مسقط للتكليف، وإسقاطه مستند إلى الموافقة لا إلى حصول الغرض بدون الموافقة؛ لأنّ المحصّل للغرض بدون الموافقة إنّما يتصوّر في موردين:

ص: 134

وقد استدلّ صاحب الفصول على ما ذهب إليه بوجوه، حيث قال - بعد بيان أنّ التوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها، لا من قبيل شرط الوجوب - ما هذا لفظه: «والّذي يدلّك على هذا - يعني الاشتراط بالتوصّل - أنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة،

___________________________________________

الأوّل: أن يحصل الغرض بفعل الغير، كما لو أمر زيداً بإتيان الماء فأتى به عمرو.

والثّاني: أن يحصل الغرض بفعل المحرّم، كما لو أمر السّير إلى الحجّ مقدّمة فسار بالدابّة المغصوبة، وإلّا فلو كان الفعل لنفس الشّخص ولم يكن محرّماً فمع كونه محصّلاً للغرض يلزم أن يكون مأموراً به، إذ لا ترجيح لأحد محصّلي الغرض على الآخر.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ ما نحن فيه من هذا القبيل، إذ مع عدم الفرق بين المقدّمة الموصلة وغيرها في إمكان الإتيان بذيها لم يكن وجه لوجوب الموصلةدون غيرها حتّى يقال: إنّ غير الموصلة ليست واجبة ولكنّها محصّلة للغرض، ولهذا يسقط التكليف.

{وقد استدلّ صاحب الفصول} + {على ما ذهب إليه} من القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط {بوجوهٍ، حيث قال - بعد بيان أنّ التوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب} يعني أنّه يشترط في وجود المقدّمة بعنوان المقدّميّة التوصّل بها إلى الواجب، بحيث لو أتى بذات المقدّمة بدون ذيها لم تكن تلك الذات مقدّمة، وليس وجوب المقدّمة مشروطاً بالتوصّل بحيث لو لم يتوصّل كانت مقدّمة ولم تكن واجبة، إذ لو كان وجوب المقدّمة مشروطاً بوجود ذي المقدّمة ووجود ذي المقدّمة مشروطاً بوجود المقدّمة لزم كون وجوب المقدّمة مشروطاً بوجودها وهو تحصيل الحاصل، كما لا يخفى {ما هذا لفظه: «والّذي يدلّك على هذا - يعني الاشتراط بالتوصّل - أنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة} بين

ص: 135

فالعقل لا يدلّ عليه زائداً على القدر المذكور.

وأيضاً لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: أُريد الحجّ، وأُريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الواجب، دون ما لم يتوصّل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعد مطلوبيّتها له مطلقاً، أو على تقدير التوصّل بها إليه، وذلك آيةُ عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه.

___________________________________________

المقدّمة وذيها {فالعقل لا يدلّ عليه} أي: على الوجوب {زائداً على القدر المذكور} أعني: الموصلة، إذ القدر المتيقّن من حكم العقل هو وجوب الموصلة، إمّا هي بالخصوص أو الأعمّ، فهي متيقّن الوجوب وغيرها مشكوك، فعلى المدّعي الإثبات.

{وأيضاً لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: أُريد الحجّ وأُريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الواجب، دون ما} أي: المسير الّذي {لم يتوصّل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمِر} الحكيم {بمثل ذلك، كما أنّها قاضية بقبح التصريح} من الآمِر الحكيم {بعد مطلوبيّتها له} أي: بعد مطلوبيّة المقدّمة للحجّ {مطلقاً} سواء كانت موصلة أم لا {أو على تقدير التوصّل بها إليه، وذلك} أي: عدم إباء العقل وحكم الضرورة {آية عدم الملازمة بين وجوبه} أي: وجوب الموصل من المقدّمات.

والظاهر رجوع الضمير إلى ذي المقدّمة، أي: لا تلازم بين وجوب ذي المقدّمة {و} بين {وجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه} فيظهر أنّ الواجب خصوص الموصلة دون غيرها. وإنّما أضرب بقوله: «بل الضرورة» الخ بكلمة «بل» إذ عدم إباء العقل يمكن لعدم اطّلاعه على الطرفين، بخلاف قضاء الضرورة، فإنّ ذلك بعد الاطّلاع.

ص: 136

وأيضاً حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله، فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصولُه معتبراً في مطلوبيّتها، فلا تكون مطلوبةً إذا انفكّت عنه، وصريح الوجدان قاضٍ بأنّ من يريد شيئاً بمجرّد حصول شيءٍ آخر، لا يريده إذاوقع مجرّداً عنه، ويلزم منه أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطاً بحصوله»(1)، انتهى موضعُ الحاجة من كلامه، زيد في علوّ مقامه.

وقد عرفت - بما لا مزيد عليه - أنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدّمة،

___________________________________________

{وأيضاً} إنّ الغرض الداعي إلى إيجاب المقدّمة حيث كان هو التوصّل وغير الموصلة حيث لا توصّل فيها لا تكون متعلّقة للغرض، فلا تكون واجبة. توضيحه: أنّه {حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله} عطف على «التوصّل» {فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصوله معتبراً في مطلوبيّتها}.

وعلى هذا {فلا تكون} المقدّمة {مطلوبة إذا انفكّت عنه} أي: عن التوصّل {وصريح الوجدان قاضٍ بأنّ من يريد شيئاً بمجرّد حصول شيء آخر لا يريده} خبر «أنّ» {إذا وقع مجرّداً عنه، ويلزم منه} أي: ممّا ذكرنا من صريح الوجدان {أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطاً بحصوله»} مثلاً: لو أراد السّير لحصول الحجّ كان وقوع السّير على الوجه المطلوب منوطاً بحصول الحجّ، فلو لم يحصل لم يكن السّير مطلوباً {انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علوّ مقامه}.

{و} لكن لا يخفى ما في أدلّته الثّلاثة من الخدشة: أمّا الجواب عن الدليلين الأوّلين - أعني: قوله: «والّذي يدلّك» الخ وقوله: «وأيضاً لا يأبى العقل» الخ -فلما {قد عرفت بما لا مزيد عليه} من {أنّ العقل الحاكم بالملازمة} بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها {دلّ على وجوب مطلق المقدّمة} أعمّ من الموصلة وغيرها

ص: 137


1- الفصول الغرويّة: 86، مع اختلاف يسير.

لا خصوص ما إذا ترتّب عليها الواجب، في ما لم يكن هناك مانع عن وجوبه - كما إذا كان بعض مصاديقه محكوماً فعلاً بالحرمة - ؛ لثبوت مناط الوجوب حينئذٍ في مطلقها، وعدمِ اختصاصه بالمقيّد بذلك منها.

وقد انقدح منه: أنّه ليس للآمر الحكيم - الغير المجازف بالقول - ذلك التصريح، وأنّ دعوى: أنّ الضرورة قاضية بجوازه، مجازفة. كيف يكون ذا،

___________________________________________

و{لا} يدلّ على وجوب {خصوص ما إذا ترتّب عليها الواجب} أي: الموصلة فقط {في ما لم يكن هناك مانع عن وجوبه}.

وقوله: «في ما» يتعلّق بقوله: «دلّ على وجوب» ثمّ مثل لما كان هناك مانع بقوله: {كما إذا كان بعض مصاديقه} أي: مصاديق مطلق المقدّمة {محكوماً فعلاً بالحرمة} فإنّ المحكوم بالحرمة، كالسير على الدابّة الغصبيّة لا يعقل أن يكون واجباً، لما تقدّم من لزوم اجتماع الأمر والنّهي.

وإنّما نقول بوجوب مطلق المقدّمة غير المحرّمة {لثبوت مناط الوجوب} وهو إمكان التوصّل {حينئذٍ} أي: حين عدم المانع عن الوجوب {في مطلقها} أعمّ من الموصلة وغيرها {وعدم اختصاصه} أي: المناط {بالمقيّد بذلك} الإيصال إلى الواجب {منها} أي: من المقدّمات.وبهذا كلّه تبيّن الجواب عن دليله الأوّل، وأنّ قوله: «إنّ العقل لا يدلّ على وجوب أزيد من الموصلة» باطل، بل العقل دالّ على أزيد منها.

ثمّ شرع المصنّف(رحمة الله) في الجواب عن دليله الثّاني بقوله: {وقد انقدح منه} أي: من حكم العقل بإطلاق وجوب المقدّمة {أنّه ليس للآمِرِ الحكيم الغير المجازف بالقول ذلك التصريح} بأن يقول: لا أُريد المقدّمة الّتي لا يتوصّل بها إلى الواجب {و} انقدح أيضاً {أنّ دعوى} الفصول {أنّ الضرورة قاضية بجوازه مجازفة} فإنّه تصريح بخلاف حكم العقل، و{كيف يكون ذا} التصريح من المولى جائزاً

ص: 138

مع ثبوت الملاك في الصورتين بلا تفاوت أصلاً؟ كما عرفت.

نعم، إنّما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النّفسي في إحداهما، وعدم حصوله في الأُخرى، من دون دخل لها في ذلك أصلاً، بل كان بحسن اختيار المكلّف وسوء اختياره، وجاز للآمر أن يصرّح بحصول هذا المطلوب في إحداهما، وعدم حصوله في الأُخرى.

بل من حيث إنّ الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب - وإنّما كان الواجب الغيري ملحوظاً إجمالاً بتبعه، كما يأتي أنّ وجوب المقدّمة على الملازمة تبعيّ - جاز في صورة عدم حصول المطلوب النّفسي التصريحُ

___________________________________________

{مع ثبوت الملاك} لوجوب المقدّمة {في الصورتين} الموصلة وغيرها {بلا تفاوت أصلاً؟ - كما عرفت} بما لا مزيد عليه - .

{نعم، إنّما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النّفسي في إحداهما وعدم حصوله في الأُخرى من دون دخل لها} أي:للمقدّمة {في ذلك} الحصول وعدمه {أصلاً} لأنّ ما كان من طرف المقدّمة تامّ فيهما {بل كان} حصول الواجب النّفسي وعدمه {بحسن اختيار المكلّف} حيث أتى بذيها {وسوء اختياره} حيث لم يأت {و} الحاصل عدم جواز تصريح الأمر بوجوب الموصلة دون غيرها.

نعم {جاز للآمر أن يصرّح بحصول هذا المطلوب} النّفسي {في إحداهما} وهي الموصلة {وعدم حصوله في الأُخرى} وهي غير الموصلة، وكذلك يجوز له التصريح بشيء آخر بينه بقوله: {بل من حيث إِنّ الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب} النّفسي {وإنّما كان الواجب الغيري ملحوظاً إجمالاً بتبعه} ومندرجاً في أمره {كما يأتي أنّ وجوب المقدّمة على الملازمة} بين الوجوبين {تبعيّ جاز} هذا هو مدخول «بل» أي: بل جاز كذا من حيث إنّ الملحوظ الخ، فيكون قوله: «من حيث» تعليلاً لهذا الجواز، كما لا يخفى.

والحاصل: أنّه يجوز للآمر {في صورة عدم حصول المطلوب النّفسي التصريح}

ص: 139

بعدم حصول المطلوب أصلاً؛ لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدّمة، فضلاً عن كونها مطلوبة، كما جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته لو التفت إليها، كما لا يخفى، فافهم.

إن قلت: لعلّ التفاوت بينهما في صحّة اتصاف إحداهما بعنوان الموصليّة دون الأُخرى، أوجب التفاوت بينهما في المطلوبيّة وعدمِها، وجواز التصريح بهما، وإن لم يكن بينهما تفاوت في الأثر، كما مرّ.

___________________________________________

فاعل «جاز» {بعدم حصول المطلوب أصلاً} وإنّما يجوز هذاالتصريح {لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدّمة فضلاً عن} الالتفات إلى {كونها مطلوبة} إذ مع عدم الالتفات إلى أصل الشّيء لا التفات إلى صفته {كما جاز التصريح بحصول الغيري} فقط {مع عدم فائدته لو التفت إليها} أي: إلى المقدّمة {كما لا يخفى، فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ التصريح بعدم حصول المطلوب أصلاً من باب التوسّع، إذ قد حصل المطلوب بالوجوب الغيري.

{إن قلت:} ما ذكرتم من عدم التفاوت بين ا لموصلة وغيرها غير مستقيم، ف-{لعلّ التفاوت بينهما في صحّة اتصاف إحداهما بعنوان الموصليّة دون الأُخرى أوجب} خبر «لعلّ» أي: إنّ التفاوت بين الصفتين أوجب {التفاوت بينهما} أي: بين المقدّمتين {في المطلوبيّة وعدمها}.

وقوله: {وجواز} عطف على «المطلوبيّة» أي: إنّ التفاوت بين الصفتين أوجب أمرين: الأوّل: التفاوت في المطلوبيّة، والثّاني: التفاوت في جواز {التصريح بهما}، فيصرّح المولى بأنّ الموصلة مطلوبة وغيرها ليست بمطلوبة - كما قاله الفصول - {وإن لم يكن بينهما} أي: الموصلة وغيرها {تفاوت في الأثر} الّذي صار سبباً لإيجاب المقدّمة وهو إمكان التوصّل {كما مرّ} غير مرّة.

ص: 140

قلت: إنّما يوجب ذلك تفاوتاً فيهما لوكان ذلك لأجل تفاوتٍ في ناحية المقدّمة، لا في ما إذا لم يكن في ناحيتها أصلاً، كما هاهنا؛ ضرورة أنّ الموصليّة إنّما تنتزع من وجود الواجب وترتّبه عليها، من دون اختلاف في ناحيتها وكونها في كلتا الصورتينعلى نحوٍ واحد وخصوصيّةٍ واحدة؛ ضرورةَ أنّ الإتيان بالواجب بعد الإتيان بها بالاختيار تارةً، وعدَم الإتيان به كذلك أُخرى، لا يوجب تفاوتاً فيها، كما لا يخفى.

___________________________________________

{قلت}: التفاوت في الموصليّة لا يوجب التفاوت في المطلوبيّة؛ لأنّه {إنّما يوجب ذلك} التفاوت في الموصليّة {تفاوتاً فيهما} أي: في المطلوبيّة وعدمها {لو كان ذلك} التفاوت في الموصليّة {لأجل تفاوت في ناحية المقدّمة} بحيث كان في ذات مقدّمة الموصلة خصوصيّة لم تكن في ذات غير الموصلة، و{لا} يوجب التفاوت في المطلوبيّة {في ما إذا لم يكن} تفاوت {في ناحيتها} وذاتها {أصلاً كما هاهنا، ضرورة أنّ} عنوان {الموصليّة إنّما تنتزع من وجود الواجب وترتّبه عليها} أي: على المقدّمة {من دون اختلاف في ناحيتها} فالموصليّة عنوان انتزاعي من أمر متأخّر عن المقدّمة، ومن البديهي أنّ الأُمور الانتزاعيّة لا دخل لها في ذات المعنون {وكونها} عطف على قوله: «أنّ الموصليّة»، أي: وضرورة كون المقدّمة {في كلتا الصورتين} الإيصال وعدمه {على نحو واحد وخصوصيّة واحدة} من دون تغيير في ذاتها وماهيّتها ولا في صفاتها الحقيقيّة الخارجيّة، فالإيصال وعدمه ليسا من قبيل النّاطق والنّاهق ولا من قبيل الأسود والأبيض، فليست في الموصلة خصوصيّة توجب الإيصال ولا أنّ غير الموصلة فاقدة لتلك الخصوصيّة {ضرورة أنّ الإتيان بالواجب بعد الإتيان بها} أي: بالمقدّمة{بالاختيار تارةً وعدم الإتيان به كذلك} بالاختيار تارةً {أُخرى لا يوجب تفاوتاً فيها} أي: في نفس المقدّمة {كما لا يخفى}.

ص: 141

وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ مطلوبيّة المقدّمة حيث كانت بمجرّد التوصّل بها، فلا جرم يكون التوصّل بها إلى الواجب معتبراً فيها.

ففيه: أنّه إنّما كانت مطلوبيّتها لأجل عدم التمكّن من التوصّل بدونها، لا لأجل التوصّل بها؛ لما عرفت من أنّه ليس من آثارها، بل ممّا يترتّب عليها أحياناً بالاختيار بمقدّمات أُخرى - وهي مبادئ اختياره - ، ولا يكاد يكون مثل ذا غايةً لمطلوبيّتها، وداعياً إلى إيجابها.

___________________________________________

وبهذا كلّه تبيّن الجواب عن دليله الثّاني، ثمّ شرع في الجواب عن دليله الثّالث - أعني، قوله: «وأيضاً حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل» الخ - فقال: {وأمّا ما أفاده + من أنّ مطلوبيّة المقدّمة حيث كانت بمجرّد التوصّل بها فلا جرم يكون التوصّل بها إلى الواجب معتبراً فيها} أي: في المقدّمة المتّصفة بالوجوب {ففيه أنّه} غير تامّ؛ لأنّه {إنّما كانت مطلوبيّتها لأجل عدم التمكّن من التوصّل} إلى ذيها {بدونها، لا} أنّ مطلوبيّتها {لأجل التوصّل بها} فعلاً إلى ذيها قهراً كالسبب والمسبّب، وذلك {لما عرفت من أنّه} أي: التوصّل فعلاً {ليس من آثارها} أي: آثار المقدّمة دائماً {بل} التوصّل {ممّا يترتّب عليها أحياناً} ويكون الترتّب {بالاختيار} في الفعل المباشري مصاحباً{بمقدّمات أُخرى وهي مبادئ اختياره} وفي الفعل التوليدي يكون الترتيب متوقّفاً على هذه المقدّمة الموصلة وسائر المقدّمات {ولا يكاد يكون مثل ذا} التوصّل الفعلي {غاية لمطلوبيّتها وداعياً إلى إيجابها} إذ ما لا يكون أثر الشّيء لا يكون غاية له، فالتّبريد إذا لم يكن أثراً للنار لا يكون الأمر بالنار لأجل التبريد، وحيث إنّ التوصّل لا يكون أثراً للمقدّمة لا يكون غاية من إيجابها.

قال العلّامة القمّي(رحمة الله) في توضيح هذا الجواب ما لفظه: «توضيح الدفع أنّه لا إشكال في أنّ المقدّمة ليست ممّا يلزم من وجودها الوجود، لعدم جريان الملازمة

ص: 142

وصريح الوجدان

___________________________________________

الوجوديّة إلّا في العلّة التامّة على ما تقدّم، والحكم العقلي بوجوب المقدّمة لا يكاد يكون بهذا الملاك لعدمه في الجميع مع حكمه في الجميع بالفرض، فلا بدّ أن يكون بملاك آخر جار في الجميع وليس إلّا الملازمة العدميّة، أي: ما يلزم من عدمه العدم لكون المقدّمات بحذافيرها كذلك، يعني كون عدمه علّة لعدم ذي المقدّمة.

وأمّا في طرف الوجود فليس إلّا التمكّن، إذ مع العدم لا يتمكّن من الإتيان به، فإذا كان مناط الحكم العقلي هو الملازمة العدميّة، فيجري في جميع المقدّمات دون بعض وهو الموصلة منها فقط»(1)،

انتهى.

ثمّ شرع المصنّف(رحمة الله) في وجهٍ ثانٍ لردّ الدليل الثّالث للفصول بقوله: {و} يدلّ على عدم دخل وصف الموصليّة في وجوب المقدّمة {صريحالوجدان} بيان ذلك أنّ الجهة على نحوين:

الأوّل: الجهة التعليليّة، وهي عبارة عن الجهة الّتي سبّبت اتصاف الفعل بالوجوب مثلاً، ولا تكون هذه الجهة قيداً.

الثّاني: الجهة التقييديّة، وهي عبارة عن الجهة الّتي أُخذت قيداً في الفعل، والتعليليّة لو ذهبت أمكن بقاء المعلّل لإمكان مدخليّة العليّة حدوثاً لا بقاءً، كنجاسة الماء المتغيّر، فإنّ النّجاسة مستندة إلى التغيّر، ومع ذلك لو ذهب التغيّر بقيت النّجاسة، بخلاف الحيث التقييدي، فإنّه لو ذهب القيد ذهب المقيّد، ولو شكّ بقي الحكم في التعليلي لجريان الاستصحاب دون التقييدي لتبدّل الموضوع.

إذا عرفت ذلك قلنا: لو سلّمنا كون الغرض من إيجاب المقدّمة هو التوصّل لكن

ص: 143


1- حاشية الكفاية 1: 183.

إنّما يقضى بأنّ ما أُريد لأجل غايةٍ، وتَجَرَّدَ عن الغاية - بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها - ، يقعُ على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة، كيف؟ وإلّا يلزم أن يكون وجودها من قيوده، ومقدّمةً لوقوعه على نحو تكون الملازمة بين وجوبه بذاك النّحو ووجوبها، وهو كما ترى؛ ضرورة أنّ الغاية لا تكاد تكون قيداً لذي الغاية، بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة، وإلّا

___________________________________________

نقول: هذا على نحو الجهة التعليليّة لا التقييديّة، إذ الوجدان {إنّما يقضي بأنّ ما أُريد لأجل غاية وتجرّد عن الغاية} بأن لم توجد الغاية في الخارج {بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها} أي: الغاية {يقع} خبر«بأنّ» أي: يقع ذلك المراد لأجل الغاية {على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة} فنصب السُلّم الواجب غيريّاً لأجل الكون على السطح يقع واجباً وإن لم يحصل الكون على السّطح بسبب مانع آخر.

و{كيف} يكون عدم وجود ذي المقدّمة سبباً لعدم وجوب ما أتى به من المقدّمة {وإلّا} فلوكان عدم وجود ذي المقدّمة مغيّراً للمقدّمة {يلزم أن يكون وجودها} الخارجي {من قيوده} أي: قيود ذلك الواجب الغيري المقدّمي {ومقدّمة لوقوعه على نحو تكون الملازمة بين وجوبه} أي: وجوب الواجب الغيري {بذاك النّحو} أي: بنحو الوجوب الغيري {ووجوبها} أي: وجوب الغاية.

والحاصل: أنّه لو كان وقوع الواجب في الخارج شرطاً لوجوب مقدّمته لزم الدور؛ لأنّ وجوب المقدّمة متوقّف على وجوب ذي المقدّمة، فلو كان ذو المقدّمة من قيود المقدّمة صار مقدّمة للمقدّمة، فيتوقّف وجوبه على وجوب مقدّمته {وهو كما ترى} باطل {ضرورة أنّ الغاية} أي: ذا المقدّمة {لا تكاد تكون قيداً لذي الغاية} أي: المقدّمة {بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة} كما يقوله الفصول {وإلّا} فلو كان تخلّف الغاية

ص: 144

يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده، فلا يكون وقوعه على هذه الصفة منوطاً بحصولها، كما أفاده.

ولعلّ منشأ توهّمه: خَلطُه بين الجهة التقييديّة والتعليليّة، هذا.

مع ما عرفت من عدم التخلّف هاهنا، و

___________________________________________

وعدم وجودها موجباً لسقوط المقدّمة عن الوجوب {يلزم أن تكون}الغاية {مطلوبة بطلبه} أي: بطلب ذي الغاية {كسائر قيوده} أي: قيود ذي الغاية المطلوبة بطلبه.

وهذا هو ما ذكرناه من الدور المستحيل، وحيث إنّ الدور باطل {فلا يكون وقوعه} أي: وقوع ذي الغاية وهو المقدّمة {على هذه الصفة} أي: الوجوب الغيري {منوطاً بحصولها} أي: حصول الغاية في الخارج {كما أفاده} في الفصول(1).

{ولعلّ منشأ توهّمه خلطه بين الجهة التقييديّة والتعليليّة} فالتوصّل إلى الواجب جهة تعليليّة بحيث لولاها لما أوجب المولى المقدّمة، وليس جهة تقييديّة بحيث تكون دخيلة وقيداً لوجوب المقدّمة، وقد بيّنّا سابقاً أنّ مع انتفاء الجهة التعليليّة يبقى الحكم بخلاف الجهة التقييديّة، فبانتفائها ينتفي الحكم.

وبعبارة أوضح: وجوب المقدّمة كنجاسة الماء المتغيّر والعلّة للوجوب هو التوصّل، فكما أنّه لو زال التغيّر لم تزل النّجاسة، كذلك لو زال التوصّل لم يزل الوجوب، فالمقدّمة واجبة لكونها موصلة لا أنّ المقدّمة الموصلة فعلاً واجبة، فصاحب الفصول ظنّ أنّ التوصّل جهة تقييديّة للوجوب وبانتفائها ينتفي الوجوب، والحال أنّ التوصّل جهة تعليليّة وبانتفائها لا ينتفي الوجوب.

{هذا} كلّه على تقدير تسليم أنّ جهة وجوب المقدّمة هي التوصّل {مع} أنّه غير تامّ، ل- {ما عرفت من عدم التخلّف هاهنا، و} ذلك لأنّ جهة وجوب المقدّمة

ص: 145


1- الفصول الغرويّة: 86.

أنّ الغاية إنّما هو حصول ما لولاه لما تمكّن من التوصّل إلى المطلوب النّفسي، فافهم واغتنم.ثمّ إنّه لا شهادة على الاعتبار في صحّة منع المولى من مقدّماته بأنحائها، إلّا في ما إذا رتّب عليه الواجب

___________________________________________

وغايته ليست هي التوصّل، بل {إنّ الغاية} لوجوب المقدّمة {إنّما هو حصول ما لولاه لما تمكّن من التوصّل إلى المطلوب النّفسي} وهذه الغاية في المقام موجودة.

مثلاً: لو نصب السُلّم ولم يصعد فالنصب واجب، إذ لولا النّصب لما تمكّن من الصعود الّذي هو واجب نفسي، فالغاية هي إمكان التوصّل وهي موجودة وليست الغاية التوصّل الفعلي، كما يقوله الفصول {فافهم واغتنم}.

والمتحصّل أنّ للفصول كلامين:

الأوّل: أنّ الغاية لوجوب المقدّمة هي التوصّل.

الثّاني: أنّ التوصّل غير حاصل في ما إذا لم يأت بذي المقدّمة، فلا تكون المقدّمة حينئذٍ واجبة.

والجواب عن الأوّل: أنّ الغاية هي إمكان التوصّل. وعن الثّاني: أنّه على تقدير كون الغاية هي التوصّل لكن التوصّل على نحو الجهة التعليليّة، فالمقدّمة تكون واجبة ولو لم يأت بذيها في الخارج.

{ثمّ إنّه} قد يستدلّ على اعتبار الإيصال في المقدّمة الواجبة بأنّه يصحّ أن ينهى المولى من غير الموصل من المقدّمات ولو كانت المقدّمة مطلقاً واجبة لم يصحّ النّهي؛ لأنّه يقع التزاحم بين الوجوب والحرمة.

والحاصل: أنّ صحّة النّهي عن غير الموصلة دليل على وجوب الموصلة فقط، ولكن هذا الدليل غير تامّ، إذ {لا شهادة على الاعتبار} أي: على اعتبار وجوب الموصل فقط {في} الدليل الّذي ذكرتم من {صحّة منعالمولى من مقدّماته بأنحائها، إلّا} استثناء عن المنع، أي: يمنع المولى إلّا {في ما إذا رتّب عليه الواجب} في الخارج

ص: 146

- لو سلّم - أصلاً؛ ضرورة أنّه وإن لم يكن الواجب منها حينئذٍ غيرَ الموصلة، إلّا أنّه ليس لأجل اختصاص الوجوب بها في باب المقدّمة، بل لأجل المنع من غيرها المانع من الاتصاف بالوجوب هاهنا، كما لا يخفى.

مع أنّ في صحّة المنع منه كذلك نظراً، وجهُه: أنّه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذٍ مخالفة وعصياناً؛ لعدم التمكّن شرعاً منه؛

___________________________________________

{لو سلّم} جواز هذا المنع {أصلاً} متعلّق بقوله: «لا شهادة» {ضرورة أنّه وإن لم يكن الواجب منها} أي: من المقدّمات {حينئذٍ} أي: حين منع المولى عن المقدّمات إلّا ما يترتّب عليه الواجب {غير الموصلة} لاقتضاء النّهي {إلّا أنّه} أي: أنّ اختصاص الوجوب بالموصلة حين المنع {ليس لأجل اختصاص الوجوب بها} أي: بالمقدّمة الموصلة {في باب المقدّمة} مطلقاً سواء منع عن غير الموصلة أم لا {بل} اختصاص الوجوب {لأجل المنع من غيرها المانع} صفة المنع {من الاتصاف بالوجوب هاهنا} في مورد المنع {كما لا يخفى} فإنّ المضادّة بين الوجوب والحرمة في المقام أوجبت رفع الوجوب، حيث كانت الحرمة عينيّة والوجوب تخييريّاً، فما ذكرتم من عدم وجوب المقدّمة للنهي عنها غير مرتبط بالمدّعى - وهو عدم وجوب غير الموصلة مطلقاً - .{مع أنّ في صحّة المنع منه كذلك} بأن يقول المولى أُريد الصعود ولا أُريد إلّا نصب السُلّم الّذي يترتّب عليه الصعود {نظراً} وهذا ما أشرنا إليه بقولنا: «لو سلّم» {وجهه أنّه يلزم} من منع المولى عن جميع المقدّمات غير الموصلة {أن لا يكون ترك الواجب} النّفسي {حينئذٍ} أي: حين المنع {مخالفة وعصياناً} والتالي باطل فالمقدّم مثله. بيان الملازمة: أنّه إذا كان جواز المقدّمة متوقّفاً على الإتيان بالواجب فقبل الإتيان بالواجب لا جواز للمقدّمة، وحيث لا يجوز للمقدّمة يكون ذو المقدّمة غير مقدور {لعدم التمكّن شرعاً منه} والممتنع شرعاً

ص: 147

لاختصاص جواز مقدّمته بصورة الإتيان به.

وبالجملة: يلزم أن يكون الإيجاب مختصّاً بصورة الإتيان؛ لاختصاص جواز المقدّمة بها، وهو محال، فإنّه يكون من طلب الحاصل المحال،

___________________________________________

كالممتنع عقلاً.

والحاصل: أنّ الواجب النّفسي يكون ممتنعاً شرعاً {لاختصاص جواز مقدّمته بصورة الإتيان به} أي: بالواجب، والإتيان بالواجب متوقّف على جواز المقدّمة.

إن قلت: قولكم: «لعدم التمكّن شرعاً منه» غير صحيح، إذ المكلّف متمكّن من الإتيان بالواجب بسبب الإتيان بمقدّمته الموصلة، والمقدّمة الموصلة حيث لم يمتنع عنها كانت مقدورة للمكلّف شرعاً.

قلت: ليس الأمر كذلك، وتقريره - بلفظ الرّشتي - : «أنّه على تقدير محرميّة جميع أفراد مقدّمات الواجب إلّا المقدّمة الموصلة، فإمّا أن لا يأتي المكلّفبالواجب فحينئذٍ تكون المقدّمة محرّمة حسب الفرض، فيمتنع الواجب شرعاً بامتناع مقدّمته شرعاً فلا يكون واجباً، وإمّا أن يأتي المكلّف به فحينئذٍ - وإن كانت المقدّمة غير محرّمة - إلّا أنّه لا يصحّ للمولى طلب ذي المقدّمة كي يترشّح منه الوجوب على المقدمة، ضرورة أنّه طلب الحاصل، فكأنّه قال المولى: على تقدير كونك على السّطح ليصير نصب السُلّم مقدوراً لك شرعاً فكن على السطح»(1).

{وبالجملة يلزم} من منع المولى عن جميع المقدّمات غير المقدّمة الموصلة {أن يكون الإيجاب} النّفسي {مختصّاً بصورة الإتيان} بالواجب النّفسي {لاختصاص جواز المقدّمة بها} أي: بصورة الإتيان {وهو} أي: هذا النّحو من الإيجاب {محال، فإنّه يكون من طلب الحاصل المحال}.

ص: 148


1- شرح كفاية الأصول 1: 161.

فتدبّر جيّداً.

بقي شيء: وهو أنّ ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة هو: تصحيح العبادة الّتي يتوقّف على تركها فعل الواجب، بناءً على كون ترك الضدّ ممّا يتوقّف على فعل ضدّه؛ فإنّ تركها - على هذا القول - لا يكون مطلقاً واجباً، - ليكون فعلها محرّماً، فتكون فاسدةً - ، بل في ما يترتّب عليه الضدّ الواجب،

___________________________________________

وبيانه - كما قرّره في الهامش - بما لفظه: «حيث كان الإيجاب فعلاً متوقّفاً على جواز المقدّمة شرعاً، جوازها كذلك كان متوقّفاً على إيصالها، المتوقّفعلى الإتيان بذي المقدّمة بداهة، فلا محيص إلّا عن كون إيجابه على تقدير الإتيان به، وهو من طلب الحاصل الباطل»(1)

{فتدبّر جيّداً} ولا تغفل عن أنّ في الكلام خلطاً حيث إنّ المقدّمة الجائزة هي الّتي يكون بعدها الواجب، لا أنّ المقدّمة تكون جائزة بشرط الإتيان بذيها حتّى يكون من طلب الحاصل، وأقوى الشّواهد على الإمكان مراجعة الوجدان، فإنّه لو كان في المقدّمة ضرر يتداركه نفع الواجب صحّ المنع عنها سوى الموصلة منها.

{بقي شيء: وهو أنّ ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة هو تصحيح العبادة الّتي يتوقّف على تركها فعل الواجب} كالصلاة بالنسبة إلى إزالة النّجاسة عن المسجد، لكن هذه الثّمرة {بناءً على كون ترك الضد} كالصّلاة {ممّا يتوقّف على فعل ضدّه} كإزالة النّجاسة.

والحاصل: أنّا لو قلنا بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ظهرت ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة {فإنّ تركها} أي: ترك العبادة كالصلاة {على هذا القول لا يكون مطلقاً واجباً} سواء فعل الضدّ الآخر كالإزالة أم لا {ليكون فعلها} أي: العبادة {محرّماً} مطلقاً {فتكون فاسدة، بل} ترك العبادة يكون واجباً {في ما يترتّب عليه} فعل {الضدّ الواجب} فترك الصلاة واجب في مورد يترتّب على هذا

ص: 149


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 586.

ومع الإتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتّب، فلا يكون تركها مع ذلك واجباً، فلا يكون فعلها منهيّاً عنه، فلا تكون فاسدة.

وربّما أُورد(1) على تفريع هذه الثّمرة بما حاصله:أنّ فعل الضدّ وإن لم يكن نقيضاً للترك الواجب مقدّمةً - بناءً على المقدّمة الموصلة - ،

___________________________________________

الترك فعل الإزالة {ومع} عدم الإزالة و{الإتيان بها} أي: بالعبادة كالصلاة {لا يكاد يكون هناك ترتّب} للإزالة على ترك الصلاة {فلا يكون تركها} أي: العبادة {مع ذلك} أى: مع عدم ترتّب الضدّ الواجب - أعني: الإزالة - {واجباً} ومع عدم وجوب ترك الصلاة مثلاً {فلا يكون فعلها منهيّاً عنه} وإذا لم تكن منهيّاً عنها {فلا تكون فاسدة}.

هذا كلّه على تقدير القول بوجوب المقدّمة الموصلة، وأمّا على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً فالصلاة باطلة، إذ ترك الصلاة واجب؛ لأنّ هذا الترك مقدّمة لفعل الإزالة، وحيث إنّ الترك واجب ففعل الصلاة مطلقاً منهيّ عنه، وهو يوجب الفساد إذ النّهي في العبادة مقتضٍ لفسادها.

{وربّما أورد} الشّيخ المرتضى(رحمة الله) - على ما عن التقريرات - {على تفريع هذه الثّمرة} على القول بالمقدّمة الموصلة {بما حاصله} أنّ الصلاة باطلة ولو على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط، فهي باطلة على كلّ حال، سواء قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة فقط أو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، وذلك بتقرير {أنّ فعل الضد} كالصلاة {وإن لم يكن نقيضاً للترك الواجب مقدّمة} إذ المقدّمة هي ترك الصلاة الموصل {بناءً على المقدّمة الموصلة} ونقيض هذه المقدّمة هي ترك ترك الصلاة الموصل، إذ نقيض كلّ شيء رفعه، ويدلّ على أنّ الصلاة ليست نقيضاً للترك الموصل إمكان ارتفاعهما، فلو لم يصل المكلّف ولم يزل النّجاسة لم

ص: 150


1- مطارح الأنظار 1: 378.

إلّا أنّه لازم لما هو من أفراد النّقيض؛ حيث إنّ نقيض ذاك الترك الخاص رفعُهُ، وهو أعمّ من الفعل والترك الآخر المجرّد.

وهذا يكفي في إثبات الحرمة، وإلّا لم يكن الفعل المطلق محرّماً في ما إذا كان الترك المطلق واجباً؛ لأنّ الفعل أيضاً ليس نقيضاً للترك؛ لأنّه أمر وجوديّ، ونقيض الترك إنّما هو رفعه، ورفع الترك إنّما يلازم الفعل مصداقاً، وليس عينه، فكما أنّ هذه الملازمة

___________________________________________

تكن صلاة ولا ترك موصل.

وعلى هذا فليست الصلاة نقيضاً للمقدّمة الواجب حتّى تحرم وتفسد من هذه الجهة {إلّا أنّه} أي: الضدّ الّذي هو الصلاة {لازم لما هو من أفراد النّقيض، حيث إِنّ نقيض ذاك الترك الخاص} الواجب {رفعه} خبر «أنّ» {وهو} أي: الرّفع {أعمّ من الفعل} كالصلاة {والترك الآخر المجرّد} عن الصلاة.

والحاصل: أنّ المقدّمة الواجبة لفعل الإزالة هي: «ترك الصلاة الموصل»، ونقيض هذا الترك محرّم وهو يتحقّق في ضمن أحد فردين: الأوّل الصلاة، الثّاني الترك المطلق، فكلاهما رفع لذلك الترك الواجب مقدّمة، وهو كاف في حرمتيهما.

{وهذا} أي: كون الصلاة لازماً لفرد النّقيض {يكفي في إثبات الحرمة} للصلاة، وليس يلزم في إثبات الحرمة كونه نقيضاً صريحاً {وإلّا} فلو كان مناط الحرمة كون الشّيء نقيضاً صريحاً للواجب {لم يكن الفعل المطلق محرّماً في ما إذا كان الترك المطلق واجباً} مثلاً: لو كان ترك الصلاة مطلقاً - موصلاًأم لا - واجباً لم يكن فعل الصلاة محرّماً {لأنّ الفعل أيضاً} في هذه الصورة كالصورة السّابقة {ليس نقيضاً} صريحاً {للترك؛ لأنّه} أي: الفعل {أمر وجوديّ ونقيض الترك إنّما هو رفعه، ورفع الترك إنّما يلازم الفعل مصداقاً} فكلّما رفع ترك الصلاة تحقّق فعل الصلاة {وليس} رفع الترك {عينه} أي: عين الفعل {فكما أنّ هذه الملازمة} بين

ص: 151

تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل، فكذلك تكفي في المقام. غاية الأمر أنّ ما هو النّقيض في مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه في الفعل فقط، وأمّا النّقيض للترك الخاصّ فله فردان، وذلك لا يوجب فرقاً في ما نحن بصدده، كما لا يخفى.

قلت: وأنت خبير بما بينهما من الفرق؛

___________________________________________

رفع الترك والفعل {تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل} وسرايتها من رفع الترك إلى ملازمه الّذي هو فعل الصلاة {فكذلك} الملازمة بين الصلاة ورفع الترك الموصل {تكفي في المقام} لسراية الحرمة إلى الصلاة، إذ ترك الصلاة على كلا القولين - القول بكون المقدّمة لترك المطلق للصلاة والقول بكونها الترك الموصل - مقدّمة، وفعل الصلاة على كلا القولين ملازم إمّا لرفع الترك المطلق وإمّا لرفع الترك الموصل.

{غاية الأمر أنّ ما هو النّقيض} للمقدّمة الواجبة {في} ما كانت المقدّمة {مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه} أي: مصداق النّقيض {في الفعل فقط، وأمّا النّقيض للترك الخاصّ} في ما كانت المقدّمة الترك الموصل {فله فردان}: الأوّل فعل الصلاة، الثّاني الترك المطلق بأن لا يصلّي ولايزيل النّجاسة - كما تقدّم - {وذلك} التفاوت بأن يكون للنقيض فرد أو فردان {لا يوجب فرقاً في ما نحن بصدده} من حرمة الملازمة للنقيض {كما لا يخفى}.

وبهذا كلّه تبيّن أنّ ما ذكره الفصول من ثمرة القول بوجوب المقدّمة الموصلة لم تتمّ، بل اللّازم إمّا القول بكون الصلاة منهيّاً عنها حتّى على القول بالمقدّمة الموصلة، وإمّا القول بعدم النّهي عن الصلاة حتّى على القول بوجوب مطلق المقدّمة.

{قلت}: إشكال الشّيخ(رحمة الله) على صاحب الفصول غير وارد، بل ما ذكره الفصول من الثّمرة صحيح {و} ذلك لأنّك {أنت خبير بما بينهما} أي: بين القول بوجوب الموصلة فقط وبين القول بوجوب مطلق المقدّمة {من الفرق} الواضح

ص: 152

فإنّ الفعل في الأوّل لا يكون إلّا مقارناً لما هو النّقيض، من رفع الترك المجامع معه تارةً، ومع الترك المجرّد أُخرى، ولا يكاد يسري حرمة الشّيء إلى ما يلازمه، فضلاً عمّا يقارنه أحياناً. نعم. لا بدّ أن يكون الملازم محكوماً فعلاً بحكم آخر على خلاف حكمه، لا أن يكون محكوماً بحكمه.

وهذا بخلاف الفعل في الثّاني؛ فإنّه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه، لا ملازم لمعانده ومنافيه،

___________________________________________

{فإنّ الفعل في الأوّل} الّذي كانت الموصلة واجبة {لا يكون إلّا مقارناً لما هو النّقيض} إذ المقدّمة الواجبة حينئذٍ هي ترك الصلاة الموصل إلى إزالة النّجاسة {من} المسجد، ونقيض هذه المقدّمة الواجبة عبارة عن {رفع الترك المجامع} هذا الرّفع{معه} أي: مع فعل الصلاة {تارةً، ومع الترك المجرّد} عن الصلاة تارةً {أُخرى} كما هو واضح {ولا يكاد يسري حرمة الشّيء} كرفع الترك في المثال {إلى ما يلازمه فضلاً عمّا يقارنه أحياناً} كما في ما نحن فيه، فإنّ الصلاة تقارن رفع الترك أحياناً.

{نعم} لو تحقّق التلازم بين شيئين ف- {لا بدّ أن لا يكون الملازم محكوماً فعلاً بحكم آخر على خلاف حكمه لا أن يكون محكوماً بحكمه} بل إمّا أن لا يكون له حكم أصلاً أو له حكم موافق لحكم ملازمه، وهذا غير مسألة السّراية، وسيأتي شرحه في مبحث الضدّ عند قول المصنّف(رحمة الله) - قبيل الأمر الثّالث - : «وأمّا من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم» الخ.

{وهذا} الّذي ذكرنا من مقارنة الفعل للنقيض على القول بالموصلة {بخلاف الفعل في الثّاني} الّذي كان مطلق المقدّمة واجباً {فإنّه} أي: الفعل {بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه} حقيقة، ففعل الصلاة بنفسه ضدّ للمقدّمة الواجبة الّتي هي ترك الصلاة مطلقاً {لا} أنّ فعل الصلاة {ملازم لمعانده و} ل- {منافيه} كما كان

ص: 153

فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً، لكنّه متّحد معه عيناً وخارجاً. فإذا كان الترك واجباً فلا محالة يكون الفعل منهيّاً عنه قطعاً، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

في الصورة الأُولى {فلو لم يكن} فعل الصلاة {عين ما يناقضه} أي: يناقض الترك {بحسب الاصطلاح مفهوماً} حيثإنّهم اصطلحوا على أنّ «نقيض كلّ شيء رفعه» فنقيض الترك الواجب ترك الترك لا الفعل {لكنّه} أي: الفعل {متّحد معه} أي: مع النّقيض {عيناً وخارجاً} فإنّ ترك الترك في ظرف الخارج والعين عبارة أُخرى عن الفعل {فإذا كان الترك واجباً} من باب المقدّمة {فلا محالة يكون الفعل} الّذي هو عين هذا الترك {منهيّاً عنه قطعاً} لبداهة أنّ الترك لو كان محبوباً كان الفعل مبغوضاً {فتدبّر جيّداً}.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وقوله: (فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح) إشارة إلى ما ذكره بعض المحقّقين من أنّ الرّفع المأخوذ في تعريف النّقيض في قولهم: (نقيض كلّ شيء رفعه) هو القدر المشترك بين المصدر المبني للفاعل والمصدر المبني للمفعول، أي: الرّفع بالمعنى الأعمّ من الرّفعيّة والمرفوعيّة، فعلى هذا كما يكون السّلب نقيضاً للإيجاب لكونه رفعاً له، كذلك الإيجاب نقيض للسلب حقيقة لكونه مرفوعاً به»(1)، انتهى.

قال السّبزواري(رحمة الله): «لمّا قال بعضهم: (نقيض كلّ شيء رفعه) وفهم منه التخصيص بمثل اللّاإنسان ولم يشمل عين الشّيء بدّل بعضهم هذا بقوله: (رفع كلّ شيء نقيضه) وبعضهم عمّم الرّفع بأنّ المصدر بمعنى القدر المشترك بين المبني للفاعل والمبنيّ للمفعول»(2).

ص: 154


1- شرح كفاية الأصول 1: 163.
2- شرح المنظومة 1: 266.

ومنها: تقسيمه إلى الأصلي والتبعي.

والظاهر أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعيّة في الواقع ومقامالثّبوت؛

___________________________________________

[التقسيم الرّابع: تقسيم الواجب إلى الواجب الأصلي والتبعي]

{ومنها} أي: ومن تقسيمات الواجب المذكورة في الأمر الثّالث {تقسيمه إلى} الواجب {الأصلي و} الواجب {التبعي} ولا يخفى أنّ تقسيم الواجب إليهما يمكن أن يكون بلحاظ حال الثّبوت والواقع، وأن يكون بلحاظ حال الإثبات والدليل.

والمراد بالأوّل: أنّ الواجب قد يكون مراد المولى بحيث كان المولى ملتفتاً إليه، وهذا يتصوّر في الواجب النّفسي والغيري، وقد يكون بخلاف ذلك بحيث لم يكن المولى ملتفتاً إليه، وهذا يتصوّر في الواجب الغيري فقط، إذ لو لم يكن المولى ملتفتاً إلى الواجب النّفسي لم يكن هناك وجوب أصلاً.

والمراد بالثّاني: أنّ الواجب قد يكون مستفاداً من الدليل بالاستقلال، وقد لا يفهم من الدليل كذلك، بل بالتبع، وبهذا المعنى ينقسم كلّ من الواجب النّفسي والغيري إلى الأصلي والتبعي، فالأقسام إذن سبعة: الأوّل والثّاني الواجب النّفسي الأصلي في مقام الثّبوت والإثبات، الثّالث والرّابع الواجب الغيري الأصلي في مقام الثّبوت والإثبات، الخامس والسّادس الواجب الغيري التبعي في مقام الثّبوت والإثبات، السّابع الواجب النّفسي التبعي في مقدّمات الإثبات. وأمّا القسم الثّامن - أعني: الواجب النّفسي التبعي في مقام الثبوت - فغير معقول، كما سيأتي - إن شاء اللّه - .

{و} إذا عرفت ما ذكرناه فنقول: {الظاهر أن يكون هذا التقسيم} للواجب إلى الأصلي والتبعي {بلحاظ الإصالة والتبعيّة في الواقع ومقام الثّبوت} لما سيأتي في التنبيه الأوّل.

ص: 155

حيث يكون الشّيء تارةً متعلّقاً للإرادة والطلب مستقلّاً؛ للالتفات إليه بما هو عليه ممّا يوجب طلبه، فيطلبه - كان طلبه نفسيّاً أو غيريّاً - وأُخرى متعلّقاً للإرادة تبعاً لإرادة غيره، لأجل كون إرادته لازمة لإرادته، من دون التفات إليه بما يوجب إرادته.

لا بلحاظ الأصالة والتبعيّة في مقام الدلالة والإثبات؛ فإنّه يكون في هذا المقام أيضاً تارةً مقصوداً بالإفادة، وأُخرى غير مقصود بها

___________________________________________

ثمّ بيّن+ معنى الأمرين بقوله: {حيث يكون الشّيء} في الواقع ونفس الأمر {تارة متعلّقاً للإرادة والطلب مستقلّاً} بأن يريده المولى {للالتفات إليه بما هو عليه} أي: يلتفت المولى إليه بصفته الّتي تقتضي إيجابه {ممّا يوجب طلبه} بيان لقوله: «بما هو عليه» {فيطلبه} ويأمر به، وهذا هو المسمّى بالواجب الأصلي من غير فرق بين ما {كان طلبه نفسيّاً} بأن يطلبه لنفسه {أو} كان طلبه {غيريّاً} ومقدّميّاً بأن يطلبه لغيره {وأُخرى} أي: ويكون الشّيء المطلوب تارة أُخرى {متعلّقاً للإرادة تبعاً لإرادة غيره} بأن يكون مراداً للمولى {لأجل كون إرادته} أي: إرادة هذا المطلوب التبعي {لازمة لإرادته} أي: إرادة ذلك الغير الأصلي، ولكن يكون إرادته لهذا التبعي {من دون التفات إليه، بما} أي: بنحو التفات {يوجب إرادته} مستقلّاً وأصلاً، وهذا هو المسمّى بالواجب التبعي، وله قسم واحد، إذ لا يمكن إلّا أن يكون واجباً غيريّاً، فإنّ الواجب النّفسي لا يعقل بدون الالتفات في مقام الثّبوت {لا بلحاظ الأصالة والتبعيّةفي مقام الدلالة والإثبات} هذا الكلام عطف على قوله: «والظاهر أن يكون هذا التقسيم» الخ.

فإن قلت: هل يتصوّر الأصالة والتبعيّة في مقام الإثبات؟

قلت: نعم {فإنّه} أي: الشّيء المطلوب {يكون في هذا المقام أيضاً} كمقام الثّبوت {تارة مقصوداً بالإفادة} بأن يكون سوق الكلام لإفادته، فتكون دلالة الكلام على طلبه استقلالاً {وأُخرى} يكون طلبه {غير مقصود بها} أي: بالإفادة

ص: 156

على حدة، إلّا أنّه لازم الخطاب، كما في دلالة الإشارة ونحوها.

وعلى ذلك، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما، واتصافه بالأصالة والتبعيّة كلتيهما، حيث يكون متعلّقاً للإرادة على حدة عند الالتفات إليه بما هو مقدّمة، وأُخرى لا يكون متعلّقاً لها كذلك عند عدم الالتفات إليه كذلك، فإنّه يكون لا محالة مراداً تبعاً لإرادة ذي المقدّمة على الملازمة.

كما لا شبهة في اتصاف النّفسي أيضاً بالأصالة، ولكنّه

___________________________________________

{على حدة} فلا يكون الكلام مسوقاً لإفادته {إلّا أنّه لازم الخطاب} ومستفاد من لحنه وإن لم يقصده المتكلّم استقلالاً {كما في دلالة الإشارة} وهي ما يكون المدلول فيها غير مقصود بالخطاب، كدلالة الآيتين الآتيتين على أقلّ الحمل {ونحوها} كدلالة المفاهيم - على ما قيل - وسنمثّل، إن شاء اللّه.

{وعلى ذلك} أي: بناءً على ما ذكرنا من كون التقسيم إلى الأصليوالتبعي بملاحظة حال الواقع لا بملاحظة حال الإثبات {فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما، واتصافه} أي: الغيري {بالأصالة والتبعيّة كلتيهما} فهو تارة يكون واجباً أصليّاً {حيث يكون متعلّقاً للإرادة على حدة} مستقلّاً، وذلك يكون {عند الالتفات إليه بما هو مقدّمة} لواجب نفسي.

{و} تارة {أُخرى لا يكون} الواجب المقدّمي {متعلّقاً لها} أي: للإرادة {كذلك} أي: مستقلّاً {عند عدم الالتفات إليه كذلك} أي: بما هو مقدّمة {فإنّه} وإن لم يكن ملتفتاً إليه إلّا أنّه {يكون لا محالة مراداً} للمولى {تبعاً لإرادة ذي المقدّمة} فإنّه لا ينفكّ إرادة المقدّمة ارتكازاً وإجمالاً عن إرادة ذي المقدّمة بناءً {على الملازمة} بينهما، فتحصّل من هذا كلّه أنّ الواجب الغيري يتصف بالأصالة والتبعيّة في مرحلة الواقع ومقام الثّبوت {كما لا شبهة في اتصاف} الواجب {النّفسي أيضاً} كالغيري {بالأصالة} حينما لحظ المولى الشّيء وطلبه نفسيّاً {ولكنّه} أي: النّفسي

ص: 157

لا يتصف بالتبعيّة؛ ضرورةَ أنّه لا يكاد يتعلّق به الطلب النّفسي ما لم يكن فيه المصلحة النّفسيّة، ومعها يتعلّق الطّلب بها مستقلّاً، ولو لم يكن هنا شيءٌ آخر مطلوب أصلاً، كما لا يخفى.

نعم، لو كان الاتّصاف بهما بلحاظ الدلالة، اتّصف النّفسيّ بهما أيضاً؛ ضرورة أنّه قد يكون غير مقصود بالإفادة، بل أُفيد بتبع غيره المقصود بها.

لكن الظاهر : - كما مرّ - أنّ الاتصاف بهما إنّما هو في نفسه، لا بلحاظ حالالدلالة عليه،

___________________________________________

{لا يتصف بالتبعيّة} بأن لا يكون ملحوظاً للمولى {ضرورة أنّه لا يكاد يتعلّق به الطلب النّفسي ما لم يكن فيه المصلحة النّفسيّة، ومعها} أي: مع المصلحة النّفسيّة {يتعلّق الطلب بها} أي: بهذه المصلحة النّفسيّة {مستقلّاً، ولو لم يكن هنا شيء آخر مطلوب أصلاً}.

والحاصل: أنّه إمّا أن يلتفت المولى إلى هذه المصلحة النّفسيّة. وإمّا أن لا يلتفت فعلى الأوّل يطلبه مستقلّاً لا مقدّمة لشيء آخر، وعلى الثّاني فلا طلب أصلاً، لا أصلاً ولا تبعاً {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{نعم، لو كان الاتصاف بهما بلحاظ} مقام الإثبات وحال {الدلالة اتصف} الواجب {النّفسي} كالواجب الغيري {بهما أيضاً} فيكون الأقسام أربعة {ضرورة أنّه قد يكون} الواجب النّفسي {غير مقصود بالإفادة} مستقلّاً {بل أُفيد بتبع غيره المقصود} ذلك الغير {بها} أي: بالإفادة، كما تقدّم من دلالة الإشارة ونحوها.

تنبيهان

الأوّل: قد تقدّم أنّ التقسيم إلى الأصلي والتبعي يمكن أن يكون بلحاظ حال الثّبوت ويمكن أن يكون بلحاظ حال الإثبات {لكن الظّاهر - كما مرّ} في صدر المبحث - {أنّ الاتّصاف بهما إنّما هو في نفسه} فالواجب في نفسه إمّا أصليّ وإمّا تبعيّ سواء دلّ دليل لفظيّ على هذا الواجب أم لا {لا بلحاظ حال الدلالة عليه}

ص: 158

وإلّا لما اتصف بواحد منهما إذا لم يكن بعدُ مفاد دليل، وهو كماترى.

___________________________________________

فليس المقصود من البحث أنّ الدليل الدالّ على الواجب إمّا يدلّ عليه مستقلّاً وإمّا يدلّ عليه ضمناً وإشارة {وإلّا} فلو كان المراد بالتقسيم بلحاظ حال الدلالة {لما اتصف} الواجب {بواحد منهما إذا لم يكن بعد مفاد دليل} والحال أنّ تقسيم الواجب إليهما لا يتوقّف على وجود دليل، فمن ذلك يتبيّن أنّ هذا التقسيم للواجب في مقام الثّبوت، مع قطع النّظر عن وجود دليل.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) خلاف ما يظهر من عناوينهم، قال في الفصول: «وينقسم الواجب باعتبار آخر إلى أصليّ وتبعي: فالأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقلّ، أي: غير لازم لخطاب آخر وإن كان وجوبه تابعاً لوجوب غيره، والتبعي بخلافه وهو ما فهم وجوبه تبعاً لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلّاً، كما في المفاهيم، والمراد بالخطاب هنا ما دلّ على الحكم الشّرعي فيعمّ اللفظي وغيره»(1)،

انتهى.

{وهو كما ترى} صريح في جعل محلّ الكلام في مقام الإثبات لا الثّبوت، والأولى جعل المقسم مطلق الواجب أعمّ من محلّ الإثبات والثّبوت، فتدبّر.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه كما يمكن تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي بلحاظ حال الثّبوت وبلحاظ حال الإثبات كذلك يمكن تقسيم الواجب إليهما بحسب اختلاف خصوصيّة اللحاظ من حيث كون المراد ملحوظاً تفصيلاً أو لا.

التّنبيه الثّاني: في أمثلة الأقسام السّبعة:فالواجب النّفسي الأصلي في مقام الثّبوت أن يتصوّر المولى الصلاة، وفي مقام الإثبات أن يقول: (صلّ).

والواجب الغيري الأصلي في مقام الثّبوت أن يلتفت إلى الوضوء، وفي مقام

ص: 159


1- الفصول الغرويّة: 82.

___________________________________________

الإثبات قوله - تعالى - : {إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ}(1) الخ.

والواجب النّفسي التبعي في مقام الثّبوت غير معقول، وفي مقام الإثبات نحو دلالة الآيتين على أقلّ الحمل، توضيحه ما ذكره السّيّد الأمين(رحمة الله) في كتابه عجائب أحكام أميرالمؤمنين بما لفظه: قال المفيد: روي عن يونس بن الحسن أنّ عمر أُتي بامرأة قد ولدت لستّة أشهر، فهمّ برجمها، فقال له أميرالمؤمنين: إن خاصمتك بكتاب اللّه خصمتك إنّ اللّه - تعالى - يقول: {وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ}(2)، ويقول عزّ وجلّ قائلاً: {وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ}(3). فإذا كانت مدّة الرّضاعة حولين كاملين، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً كان الحمل منها ستّة أشهر، فخلّى عمر سبيل المرأة وثبت الحكم بذلك، فعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنهم إلى يومنا هذا»(4)،

انتهى.ومثله دلالة المفهوم كقوله(علیه السلام): «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(5)، فمفهومه تنجّس الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ.

والواجب الغيري التبعي في مقام الثّبوت هي مقدّمات الواجب النّفسي الّتي لم يلتفت إليها المولى، ولو التفت إليها لطلبها كما لو أراد المولى أن يطعمه العبد غير ملتفت إلى احتياج الإطعام إلى إيقاد النّار، وفي مقام الإثبات كما لو قال: (أطعمني) ولم يتعرّض إلى مقدّماته.

ص: 160


1- سورة المائدة، الآية: 6.
2- سورة الأحقاف، الآية: 15.
3- سورة البقرة، الآية: 233.
4- عجائب أحكام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×: 59؛ عن الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد 1: 206؛ ورواه العامة أيضاً، راجع ذخائر العقبى 1: 393؛ الاستيعاب 3: 1103؛ الوافي بالوفيات 21: 179.
5- هكذا ورد في الكافي 3: 2 «إذا كان الماء قدر كرٍ لم ينجسه شيء».

ثمّ إنّه إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلّق به إرادة مستقلّة، فإذا شكّ في واجب أنّه أصليّ أو تبعيّ، فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به يثبت أنّه تبعيّ ويترتّب عليه آثاره، إذا فرض له أثر شرعي، كسائر الموضوعات المتقوّمة بأُمور عدميّة.

نعم، لو كان التبعي أمراً وجوديّاً خاصّاً غيرَ متقوّم بعدمي - وإن كان يلزمه - لما كان يثبت بها

___________________________________________

ثمّ لا يخفى أنّه لو فسّرنا التبعي في مقام الثّبوت بأنّه ما لا يلتفت إليه المولى لم يوجد شيء منه في الواجبات الشّرعيّة، إذ تعالى اللّه وأولياؤه عن مثل ذلك، ولا يذهب عليك أنّ بعض الأمثلة خارج عن المورد.

{ثمّ إنّه} يحتمل أن يكون الواجب التبعي أمراً عدميّاً، فيكون عبارة عمّا لم يتعلّق به إرادة مستقلّة، ويحتمل أن يكون أمراً وجوديّاً، فيكون نحواً من الإرادة، كما أنّ الأصلي نحو آخر منها {إذا} عرفت ما ذكرنا فنقول: إذا {كان الواجب التبعي ما لم يتعلّق به إرادة مستقلّة، فإذا شكّ في واجب أنّه أصليّ أو تبعيّ فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به}إذ التبعي على هذا أمر عدميّ موافق للأصل {يثبت أنّه تبعيّ ويترتّب عليه آثاره إذا فرض له أثر شرعي} وذلك لأنّ أصل الوجوب ثابت بالوجدان وتبعيّته ثابت بالأصل، فهو {كسائر الموضوعات المتقوّمة بأُمور عدميّة} الّتي يثبت أحد جزأيها بالوجدان والجزء الآخر بالأصل.

مثلاً: لو قلنا: (إنّ الماء غير الكرّ ينجس بملاقاة النّجاسة) ثمّ شكّ في ماء لاقى النّجس إنّه قليل أو كثير حكم بنجاسته؛ لأنّ كونه ماءً لاقى النّجس ثابت بالوجدان، وقلّته تثبت بأصل عدم الكريّة.

{نعم، لو كان التبعي أمراً وجوديّاً خاصّاً} مقابلاً للأصلي - بأن كان التبعي نحواً من الإرادة - {غير متقوّم بعدمي وإن كان} هذا الوجود الخاص {يلزمه} أي: يلزم عدم الأصلي {لما كان} التبعي {يثبت بها} أي: بأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة،

ص: 161

إلّا على القول بالأصل المثبت، كما هو واضح، فافهم.

تذنيب: في بيان الثّمرة، وهي في المسألة الأصوليّة - كما عرفت سابقاً(1) - ليست إلّا أن يكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد

___________________________________________

إذ كلّ من الأصلي والتبعي حينئذٍ خلاف الأصل، فلا يمكن أن يثبت بأصالة عدم أحدهما وجود الآخر {إلّا على القول بالأصل المثبت} فيقال: الأصل عدم تعلّق إرادة مستقلّة، فاللّازم أن تكون إرادة تبعيّة {كما هو واضح} بأدنى تأمّل {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ العدم ملازمللتبعي، فهما متلازمان، والقائل بالمثبت لا يقول إلّا بترتّب أثر اللّازم، لا أثر الملزوم، وعليه فلا يتحقّق التبعي بالأصل ولو على القول بالأصل المثبت، والّذي يهوّن الأمر عدم ترتّب أثر شرعيّ على الواجب التبعي.

ثمّ لا يخفى أنّ بين الأصلي والتبعي عموماً من وجه، كما يشعر بذلك الفصول حيث قال(رحمة الله): «ثمّ الأصالة والتبعيّة قد يفترقان بالمورد وقد يفترقان بالاعتبار، كما لو صرّح بوجوب بعض المقدّمات من الشّرائط الجعليّة وغيرها، فإنّ وجوبها من حيث كونها مستفاداً من وجوب ذي المقدّمة ولو بعد ثبوت الشّرطيّة تبعي ومن حيث كونه مصرّحاً بخطاب مستقلّ أصلي»(2)،

انتهى.

[تذنيب: في ثمرة مسألة مقدمة الواجب]

{تذنيب: في بيان الثّمرة} المترتّبة على وجوب المقدّمة {وهي في المسألة الأصوليّة كما عرفت سابقاً} في مبحث الصحيح والأعمّ حيث قال - قبل الاستدلال للصحيحي - : إنّ ثمرة المسألة الأصوليّة هي أن يكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة {ليست إلّا أن يكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد} بأن تجعل النّتيجة كبرى القياس، وتضمّ إليها صغرى من الخارج

ص: 162


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 35.
2- الفصول الغرويّة: 82.

واستنباط حكم فرعي، كما لو قيل بالملازمة في المسألة، فإنّه بضميمة مقدّمة كون شيء مقدّمة لواجب، يستنتج أنّه واجب.

ومنه قد انقدح: أنّه ليس منها مثل برء النّذر بإتيان مقدّمة واجب، عند نذر الواجب،

___________________________________________

{و} بتشكيل القياس منهما يستعان على {استنباط حكم فرعي} مجهول، ففي مسألة مقدّمة الواجب إمّا أن نقول بالملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّماته، وإمّا أن نقول بعدم الملازمة بينهما، وعلى كلّ حال تقع هذه النّتيجة كبرى القياس {كما} لا يخفى.

مثلاً: {لو قيل بالملازمة في} هذه {المسألة فإنّه بضميمة مقدّمة} وجدانيّة وهي {كون شيء مقدّمة لواجب يستنتج أنّه واجب} مثلاً يقال: المشي مقدّمة للحجّ وهو مقدّمة للواجب فهو واجب لوجود الملازمة بين الشّيء وبين مقدّماته فالمشي واجب، فالصغرى - أعني: المشي مقدّمة الخ - وجدانيّة والكبرى - أعني: وكلّ مقدّمة للواجب الخ - برهانيّة، وهي نتيجة البحث عن مقدّمة الواجب، وبتشكيل القياس منهما يستنتج الحكم الشّرعي الفرعي. ولكن العلّامة المشكيني(رحمة الله) أشكل على ذلك بأنّ المسألة الأصوليّة ليست إحدى مقدّمتي القياس بل علّة للكبرى(1)، فتدبّر.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من أنّ نتيجة المسألة الأصوليّة ما يقع في طريق الاستنباط {قد انقدح أنّه ليس منها} أي: من ثمرة مسألة مقدّمة الواجب {مثل برء النّذر بإتيان مقدّمة واجب عند نذر الواجب} كما توهّم من أنّه لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب ثمّ نذر شخص أن يفعل واجباً كان بإتيانه مقدّمة واجب موفياً بنذره، ولو قلنا بعدم وجوب مقدّمة الواجب لم يكن موفياً.

ص: 163


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 596.

وحصول الفسق بترك واجبٍ واحدٍ بمقدّماته، إذا كانت لهمقدّمات كثيرة؛ لصدق الإصرار على الحرام بذلك، وعدم جواز أخذ الأُجرة على المقدّمة.

___________________________________________

{و} كذلك ليست ثمرة هذه المسألة مثل {حصول الفسق بترك واجب واحد بمقدّماته} أي: مع ترك مقدّماته {إذا كانت له مقدّمات كثيرة} كما زعم من أنّه لو قلنا بوجوب المقدمة كان التارك للواجب والمقدّمات تاركاً لواجبات كثيرة، والتارك للواجبات فاسق {لصدق الإصرار على الحرام} الموجب للفسق {بذلك}.

ولا يخفى أنّه إنّما يتصوّر في ما كان ترك الواجب ذو المقدّمات صغيرة، أمّا لو كان تركه من الكبائر كفى الترك في الفسق ولا يحتاج إلى ضميمة ترك المقدّمات.

{و} كذلك ليست ثمرة هذه المسألة مثل {عدم جواز أخذ الأُجرة على المقدّمة} (1)

كما قيل من أنّه لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب لم يجز أخذ الأُجرة على المقدّمات، لما تقرّر في الفقه من أنّ الواجبات يحرم أخذ الأُجرة عليها.

ثمّ إنّ وجه عدم كون هذه المسائل الثّلاث ثمرةً واضحٌ؛ لأنّها لا تقع في طريق استنباط الحكم الفرعي، بل ينقح بهذه المسائل موضوعات الحكم الفرعي:

أمّا مسألة برء النّذر فلأنّه بعد ما ورد وجوب الوفاء بالنذر لا يعلم أنّ الإتيان بالمقدّمة وفاء أم لا، فبمعونة وجوب المقدّمة ينقّح أنّه وفاء، وذلك مثل ما لو علمنا وجوب إكرام (زيد) ثمّ قمنا له في المجلس وشككنا أنّ القيام إكرام أم لا، فإنّ الدليل الدالّ على أنّه إكرام منقّح للموضوع لا أنّه واقع في طريق إثباتالحكم الفرعي.

وأمّا مسألة حصول الفسق فلأنّه بعد ما ورد أنّ المصرّ فاسق لا يعلم أنّ هذا التارك للمقدّمات مصرّ أم لا، فبمعونة وجوب المقدّمة ينقّح أنّه مصرّ.

ص: 164


1- قوله: «وعدم جواز» بالجرّ عطف على «برء النّذر».

مع أنّ البرء وعدمه إنّما يتبعان قصد النّاذر، فلا برء بإتيان المقدّمة لو قصد الوجوب النّفسي - كما هو المنصرف عند إطلاقه - ولو قيل بالملازمة. وربّما يحصل البرء به لو قصد

___________________________________________

وأمّا مسألة عدم جواز أخذ الأُجرة فلأنّه بعد ما ورد عدم جواز أخذ الأُجرة لا يعلم جواز أخذ الأُجرة على المقدّمة، فبمعونة وجوب المقدّمة ينقّح أنّه أخذ الأُجرة على الواجب.

والحاصل: أنّ الحكم الفرعي الكلّي هو وجوب الوفاء وقادحيّة الإصرار في العداله وحرمة أخذ الأُجرة، وليس من الحكم الفرعي أنّ هذا وفاء، والشّخص الفلاني فاسق، وأخذ الأُجرة على الفعل الفلاني حرام. وقد أطنبنا الكلام في المقام لما رأينا من بُعْدِ مرام المصنّف(رحمة الله) عن بعض الأفهام.

{مع أنّ} في كون الثّمرات المذكورة صحيحة في نفسها إشكالاً، إذ نتيجة هذا البحث لا ينقّح موضوعات الحكم الفرعي أيضاً.

وبعبارة أُخرى: نمنع الصغرى، توضيحه: أنّا أوّلاً منعنا كون نتيجة البحث مثبتة للحكم الفرعي الكلّي، وقلنا: بل هي تنقّح موضوع الحكم الفرعي، والحال نريد منع ذلك أيضاً، فإنّ {البرء وعدمه} المذكورين في الثّمرة الأُولى {إنّما يتبعان قصد النّاذر} وليس لوجوب المقدّمة وعدمه دخل فيهما، وذلك لأنّ قصد النّاذر إمّا أن يكون الإتيان بالواجب النّفسي أو الإتيان بالواجب مطلقاً {فلا برء بإتيان المقدّمة لو قصد الوجوب النّفسي} بل وكذا لو لم يقصد شيئاً {كما هو}المتعارف، إذ {المنصرف عند إطلاقه} هو النّفسي، كما لا يخفى.

والحاصل: أنّه لا برء في الصورتين {ولو قيل بالملازمة} بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، وذلك لأنّ متعلّق النّذر هو النّفسي فلا يبرأ بالإتيان بالغيري.

{وربّما يحصل البرء به} أي: بإتيان المقدّمة {لو قصد} حين النّذر الإتيان بالواجب

ص: 165

ما يعمّ المقدّمة ولو قيل بعدمها، كما لا يخفى.

ولا يكاد يحصل الإصرارُ على الحرام بترك واجب، ولو كانت له مقدّمات غير عديدة، لحصول العصيان بترك أوّل مقدّمة لا يتمكّن معه من الواجب، فلا يكون ترك سائر المقدّمات بحرام أصلاً؛ لسقوط التّكليف حينئذٍ، كما هو واضح لا يخفى.

___________________________________________

مطلقاً، أعني: {ما يعمّ المقدّمة - ولو قيل بعدمها -} أي: بعدم الملازمة وعدم وجوب المقدّمة شرعاً، وذلك لأنّه نذر الإتيان بالواجب والمقدّمة واجبة عقلاً ولو لم تكن واجبة شرعاً {كما لا يخفى} فتبيّن أنّ برء النّذر وعدمه تابعان لقصد النّاذر، وليسا ثمرة وجوب المقدّمة وعدم وجوبها. لكن لا يخفى أنّه لو قصد النّاذر مطلق الواجب شرعاً ترتّب البرء وعدمه على مسألة المقدّمة.

وحيث فرغ المصنّف(رحمة الله) من الإشكال على الثّمرة الأُولى شرع في الإشكال على الثّمرة الثّانية بقوله: {ولا يكاد يحصل الإصرار على الحرام بترك واجب} واحد {ولو كانت له مقدّمات غير عديدة} أي: متكثّرة {لحصول العصيان} للواجب النّفسي {بترك أوّل مقدّمة} من مقدّماته الّتي {لايتمكّن} الشّخص {معه} أي: مع ترك تلك المقدّمة {من} فعل {الواجب} إذ بمجرّد ترك إحدى المقدّمات لا يتمكّن من ذي المقدّمة فيحصل عصيانه، ومع العصيان يسقط التكليف، وإذ سقط التكليف لا يكون واجب نفسي حتّى يترشّح الوجوب منه إلى سائر المقدّمات {فلا يكون ترك سائر المقدّمات بحرام أصلاً لسقوط التكليف} النّفسي والمقدّمي {حينئذٍ} أي: حين ترك إحدى المقدّمات، فلا يحصل الإصرار على المعصية {كما هو واضح لا يخفى}.

فتدبّر، إذ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) - من سقوط الأمر بالعصيان - لا يوجب عدم الإصرار، فإنّ سقوط الأمر بهذه الواجبات المتعدّدة إنّما نشأ من العصيان فتحقّق الإصرار على المعصية، غاية الأمر أنّ الإصرار دفعيّ لا تدريجي.

ص: 166

وأخذ الأُجرة على الواجب لا بأس به إذا لم يكن إيجابُه على المكلّف مجّاناً وبلا عوض، بل كان وجوده المطلق مطلوباً، كالصناعات الواجبة كفائيّة الّتي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد، ويختلّ لولاها معاش العباد، بل ربّما يجب أخذ الأُجرة عليها لذلك - أي: لزوم الاختلال وعدم الانتظام لولا أخذها - . هذا في الواجبات التوصليّة.

وأمّا الواجبات التعبديّة: فيمكن أن يقال بجواز أخذ الأُجرة على إتيانها بداعي امتثالها،

___________________________________________

{و} يرد على الثّمرة الثّانية أنّ {أخذ الأُجرة على الواجب لا بأس به إذا لم يكن إيجابه على المكلّف مجّاناً وبلا عوض} فإنّ أصل الوجوب لا ينافي أخذ الأُجرة حتّى يكون القول بوجوب المقدّمة مستلزماً لعدم جواز أخذ الأُجرة، بل حرمة أخذ الأُجرةمبنيّة على ما إذا فهم من دليل الواجب أنّ الشّارع أوجبه على المكلّف مجّاناً وبلا عوض، أمّا لو لم يفهم من دليل الواجب ذلك {بل كان وجوده المطلق} سواء بعوض أو بدونه {مطلوباً} للشارع لم يحرم أخذ الأُجرة، وذلك {كالصِّناعات الواجبة} على المكلّفين {كفائيّةً، الّتي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد ويختلّ لولاها معاش العباد} من الفلاحة والبناء ونحوها.

{بل ربّما} يقال بأنّه {يجب أخذ الأُجرة عليها} أي: على هذه الصِّناعات {لذلك} الدليل الدالّ على وجوبها الكفائي {أي: لزوم الاختلال وعدم الانتظام لولا أخذها} فكما يختلّ النِّظام لو لم يقم بهذه الصِّناعات أحد، كذلك يختلّ النِّظام لو لم يأخذ الأُجرة عليها أحد، فلو لم يأخذ الفلّاح مثلاً الأُجرة على عمله لم ينتظم معاشه.

{هذا} كلّه {في الواجبات التوصليّة} - الّتي لا تحتاج إلى قصد القربة - ظاهِرٌ وإن كان للتدبّر مجالاً.

{وأمّا الواجبات التّعبديّة} المحتاجة إلى قصد القربة {فيمكن أن يقال بجواز أخذ الأُجرة على إتيانها بداعي امتثالها} كالحجّ والصوم والصلاة الاستيجاري، وذلك بأن تكون الأُجرة داعية لإتيان العمل للّه ومتقرّباً به.

ص: 167

لا على نفس الإتيان كي ينافي عباديّتها، فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي. غاية الأمر يعتبر فيها - كغيرها - أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستأجر، كيلا تكون المعاملة سفهيّةً، وأخذ الأُجرة عليها أكلاً بالباطل.

___________________________________________

نعم {لا} يصحّ أن تكون الأُجرة {على نفس الإتيان} بأن يأتي بالعمل للأُجرة {كي ينافي} هذا الداعي {عباديّتها}.

والحاصل: أنّه يشترط في العبادات أن يكون العمل للّه - تعالى - وأمّا كون هذا العمل القربي بأيّ داعٍ فلا {فيكون} أخذ الأُجرة {من قبيل الداعي إلى الداعي} فالداعي إلى العمل التقرّب والداعي إلى هذا العمل القربي هو الأُجرة، فكما يصحّ العمل القربي بداعي الوصول إلى الجنّة أو الفرار من النّار أو سعة الرّزق، كذلك يصحّ العمل القربي بداعي الأُجرة، ولا ضير فيه.

أضف إلى ذلك ما ورد في بعض الرّوايات من جواز ذلك، كما ورد في استيجار مولانا الصادق(علیه السلام) للحجّ عن ولده إسماعيل(1)

{غاية الأمر} أنّه {يعتبر فيها} أي: في العبادات الاستيجاريّة {كغيرها} من سائر التوصليّات {أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستأجر} ولو منفعة بعيدة، كما لو استأجر أجنبيّ شخصاً لقضاء صلاة ميّت لا ربط بينهما، بل لأجل كونه مؤمناً، فيستحبّ الإحسان إليه.

وإنّما شرطنا وجود المنفعة {كيلا تكون المعاملة سفهيّة، و} لا يكون {أخذ الأُجرة عليها أكلاً} للمال {بالباطل} المنهي عنه في قوله - تعالى - : {وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ}(2)، فإنّه يشترط في كلّ معاملة اشتمالها على منفعة دنيويّة أو أُخرويّة، ولا يختصّ هذا بالواجبات التعبديّة، بل يجري في التوصليّات والمباحات والمستحبّات،وتفصيل هذا الكلام موكول إلى مكاسب الشّيخ(رحمة الله)(3)

ص: 168


1- وسائل الشيعة 11: 163 و 165.
2- سورة البقرة، الآية: 188.
3- كتاب المكاسب 2: 129-130.

وربّما يجعل من الثّمرة اجتماع الوجوب والحرمة إذا قيل بالملازمة في ما إذا كانت المقدّمة محرّمة، فيبتنى على جواز اجتماع الأمر والنّهي وعدمه، بخلاف ما لوقيل بعدمها.

وفيه أوّلاً: أنّه لا يكون من باب الاجتماع كي يكون مبتنية عليه؛

___________________________________________

ونحوه، فراجع.

{وربّما يجعل من الثّمرة} لبحث مقدّمة الواجب - والجاعل هو الوحيد البهبهاني+ على ما حكي(1)

- {اجتماع الوجوب والحرمة} في المقدّمة {إذا قيل بالملازمة} بين وجوب المقدّمة وذيها، وذلك {في ما إذا كانت المقدّمة} للواجب {محرّمة} كما لو ركب الدابّة الغصبيّة للذهاب إلى الحجّ {فيبتنى} وجوب هذه المقدّمة وعدمه {على جواز اجتماع الأمر والنّهي وعدمه} فإنّه لو قلنا بجواز الاجتماع كانت المقدّمة واجباً غيريّاً وحراماً نفسيّاً، ولو قلنا بعدم الاجتماع كان الحكم للراجح، فتأمّل.

{بخلاف ما لو قيل بعدمها} أي: بعدم الملازمة، فإنّ المقدّمة حينئذٍ حرام صرف ولا دخل لها بمسألة اجتماع الأمر والنّهي، فحاصل ثمرة مقدّمة الواجب هو اجتماع الأمر والنّهي في المقدّمة المحرّمة، بناءً على القول بوجوب المقدّمة.{وفيه أوّلاً: أنّه لا يكون من باب الاجتماع كي يكون} اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة {مبتنية عليه} أي: على جواز اجتماع الأمر والنّهي، بل ركوب الدابّة الغصبيّة بناءً على وجوب المقدّمة داخل في مسألة النّهي عن العبادة لا في مسألة اجتماع الأمر والنّهي، إذ باب الاجتماع المختلف فيه بين الأعلام هو ما إذا تعلّق الأمر بعنوان وتعلّق النّهي بعنوان آخر - كالصلاة والغصب - ثمّ تصادق العنوانان في موضوع واحد - كالصلاة في الدار المغصوبة - وباب النّهي عن العبادة هو ما

ص: 169


1- الرسائل الأصولية: 234؛ وعنه مطارح الأنظار 1: 396؛ وبدائع الأفكار: 346.

لما أشرنا إليه غير مرّة: أنّ الواجب ما هو بالحمل الشّائع مقدّمة، لا بعنوان المقدّمة، فيكون على الملازمة من باب النّهي في العبادة والمعاملة.

وثانياً: لا يكاد يلزم الاجتماع أصلاً؛

___________________________________________

إذا تعلّق النّهي بفرد من أفراد المأمور به بعنوانه، كما لو قال: (صلّ ولا تصلّ في النّجس) ومسألة المقدّمة من هذا القبيل، إذ النّهي تعلّق بعنوان الغصب الّذي هو الرّكوب، والأمر متعلّق بعنوان الرّكوب بما هو ركوب، وليس للركوب عنوان آخر به كان واجباً حتّى يكون من قبيل اجتماع الأمر والنّهي.

إن قلت: بل مسألة المقدّمة من باب اجتماع الأمر والنّهي؛ لأنّ الرّكوب بعنوان الغصبيّة محرّم وبعنوان المقدّمة واجب.

قلت: ليس كذلك {لما أشرنا إليه غير مرّة} ومنها في جواب صاحب الفصول في المقدّمة الموصلة {أنّ الواجب ما هو بالحمل الشّائع مقدّمة لا بعنوان المقدّمة} فالركوب الذى: هو بالحمل الشّائع مقدّمة واجب وليست المقدّميّة عنواناً وقيداًللموضوع، بل المقدّميّة جهة حدوث الحكم بالوجوب، فإنّها جهة تعليليّة لا تقييديّة.

والحاصل: أنّ الحرمة والوجوب متوجّهان إلى هذا الرّكوب {فيكون} بناءً {على} القول بوجوب المقدّمة، لأجل {الملازمة من باب النّهي في العبادة والمعاملة} لا من باب اجتماع الأمر والنّهي، وعليه فالركوب محرّم مطلقاً سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم قلنا بعدم وجوبها.

وبهذا كلّه تبيّن سقوط ما ذكره الوحيد من أنّه بناءً على وجوب المقدّمة يكون من باب اجتماع الأمر والنّهي، وسيأتي زيادة توضيح لهذا المقام عند التعرّض للفرق بين مسألة اجتماع الأمر والنّهي وبين مسألة النّهي في العبادة.

{وثانياً:} على تقدير تسليم كون عنواني المقدّمة والغصب كعنواني الصلاة والغصب من باب اجتماع الأمر والنّهي، ولكن {لا يكاد يلزم الاجتماع} هنا {أصلاً}

ص: 170

لاختصاص الوجوب بغير المحرّم في غير صورة الانحصار به، وفيها إمّا لا وجوب للمقدّمة، لعدم وجوب ذي المقدّمة؛ لأجل المزاحمة، وإمّا لا حرمة لها، كذلك، كما لا يخفى.

___________________________________________

إذ الرّكوب على الدابّة الغصبيّة إمّا أن يكون في حال انحصار المقدّمة فيه وإمّا أن يكون في غير حال الانحصار، أمّا لو لم يكن انحصار، فلأنّ ركوب المغصوب محرّم غير واجب {لاختصاص الوجوب} الغيري {بغير} الفرد {المحرّم} لوضوح أنّه {في غير صورة الانحصار به} كانت الحرمة مانعة عن تعلّق الوجوب بهذا الفرد من المقدّمة.

{و} أمّا {فيها} أي: في صورة انحصار المقدّمة بهذا الفرد المحرّم - كأن لا يتمكّن المستطيع من السّير إلّا بركوب الدابّة المغصوبة - فمن البديهي أنّه لايجتمع الوجوب والحرمة؛ لأنّه {إمّا لا وجوب للمقدّمة، لعدم وجوب ذي المقدّمة، لأجل المزاحمة} فإنّه يقع التزاحم بين دليل الحجّ ودليل الغصب، فلو قدّم دليل الغصب فلا وجوب للحجّ، وحيث لا وجوب للحجّ، لم تكن مقدّمته واجبة، فتبقى الحرمة بلا مزاحمة وجوب {وإمّا لا حرمة لها} أي: للمقدّمة {كذلك} أي: لأجل المزاحمة، بأن يقدّم دليل الحجّ فلا حرمة للغصب، وحينئذٍ يبقى الوجوب بلا مزاحمة الحرمة {كما لا يخفى} وهذا الجواب محتاج إلى تدبّر.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه سقط هذا الجواب عن شرح العلّامة الرّشتي(رحمة الله)، وكذلك عن شرح السّيّد الحكيم، وعن المحشّاة بحاشية الخالصي(رحمة الله)، فراجع.

ويدلّ على كونه من المصنّف(رحمة الله) غالب الكتب، كالكفاية المحشّاة بحاشية العلّامة القوچاني، والمحشّاة بحاشية العلّامة المشكيني، وكذلك هو مذكور في الشّرح الفارسي للعلّامة الخوئيني(رحمة

الله)، لكن ذكر بعضهم أنّه قد شطب عليه في

ص: 171

وثالثاً: أنّ الاجتماع

___________________________________________

الدورة الأخيرة(1).

{وثالثاً: أنّ الاجتماع} حيث إنّ هذا الجواب مجمل فاللّازم بيان المراد أوّلاً ثمّ شرح العبارة، فنقول: مراد المصنّف أنّ الاجتماعوعدمه ليسا من ثمرة هذا البحث؛ لأنّ المقدّمة إمّا توصّليّة، كالسير للحجّ، وإمّا تعبديّة، كالوضوء للصلاة، وعلى كلّ حالٍ فالمطلوب من المقدّمة هو التوصّل إلى ذي المقدّمة، ولا دخل للقول بالملازمة وعدمها في التوصّل المذكور، ففي المقدّمة التوصليّة - سواء قلنا بالاجتماع أم لا - يمكن التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، ولا يتفاوت الحال في هذا التوصّل بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه، ولا بين القول بجواز الاجتماع وعدمه، إذ أنّ الإنسان إذا أتى بالمقدّمة تمكّن من التوصّل إلى ذيها - على جميع الأقوال - وأنّ من ركب الدابّة الغصبيّة وسار إلى الحجّ توصّل بهذه المقدّمة إلى الواجب قطعاً.

وفي المقدّمة التعبديّة كالوضوء ولو أنّه يفرق فيها بين جواز الاجتماع وعدمه، إذ لو توضّأ بالماء المغصوب أمكن التوصّل بهذا الوضوء إلى الصلاة على القول بالاجتماع ولم يمكن على القول بالامتناع، لكن إمكان التوصّل على الجواز وعدمه على الامتناع من ثمرات مسألة جواز اجتماع الأمر والنّهي وعدم جواز اجتماعهما، وليس من ثمرات مسألة وجوب مقدّمة الواجب وعدم وجوبها، وذلك لما ظهر من أنّه على القول بالامتناع لا يمكن التوصّل - سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لا - وعلى القول بالاجتماع يمكن التوصّل - سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لا - .

ص: 172


1- حاصل كلام الوحيد هو: أنّ الثّمرة لزوم اجتماع الأمر والنّهي في المقدّمة المحرّمة على القول بوجوب المقدّمة، وحاصل هذا الجواب أنّ صيرورة المسألة من صغريات مسألة الاجتماع لا يصلح أن تكون ثمرة للمسألة الأصوليّة.

وعدمه لا دخل له في التوصّل بالمقدّمة المحرّمة وعدمه أصلاً؛ فإنّه يمكن التوصّل بها إن كانت توصليّة، ولو لم نقل بجواز الاجتماع، وعدمُ جواز التوصّل بها إن كانت تعبديّة على القول بالامتناع - قيل بوجوب المقدّمة أو بعدمه - ، وجوازُ التوصّل بها على القول بالجواز كذلك - أي: قيل بوجوب المقدّمة أو بعدمه - .

وبالجملة: لا يتفاوت الحال في جواز التوصّل بها وعدم جوازه أصلاً بين أن يقال بالوجوب أو يقال بعدمه، كما لا يخفى.

___________________________________________

والحاصل: أنّ اجتماع الأمر والنّهي {وعدمه لا دخل له في التوصّل بالمقدّمة المحرّمة وعدمه أصلاً} فإنّ المقدّمة إمّا توصليّة مطلقاً وإمّا تعبديّة ونقول بامتناع اجتماع الأمر والنّهي، وإمّا تعبديّة ونقول بجواز اجتماع الأمر والنّهي، وفي تمام هذه الصور الثّلاث لا دخل للملازمة وعدمها في المهمّ الّذي هو إمكان التوصّل إلى ذي المقدّمة {فإنّه يمكن التوصّل بها} إلى ذيها {إن كانت} المقدّمة {توصليّة} كالسير للحجّ {ولو لم نقل بجواز الاجتماع} وذلك لأنّ الغرض - وهو التوصّل - حاصل ولو بالمقدّمة المحرّمة المحضة.

{وعدم جواز التوصّل بها} أي: بالمقدّمة المحرّمة {إن كانت} المقدّمة {تعبديّة} كالوضوء للصلاة بناءً {على القول بالامتناع} سواء {قيل بوجوب المقدّمة، أو} قيل {بعدمه} إذ الحرمة تنافي قصد القربة {وجواز التوصّل بها} أي: بالمقدّمة المحرّمة إذا كانت تعبديّة {على القول بالجواز} أي: جواز اجتماع الأمر والنّهي {كذلك، أي:} سواء {قيل بوجوب المقدّمة أو بعدمه} كما هو واضح.

{وبالجملة لا يتفاوت الحال في جواز التوصّل بها} أي: بالمقدّمة المحرّمة {وعدم جوازه} أي: عدم جواز التوصّل بالمقدّمة المحرّمة {أصلاً} متعلّق ب- «لا يتفاوت» {بين أن يقال بالوجوب} أي: وجوب المقدّمة {أو يقال بعدمه، كما لا يخفى}.

وحقّ العبارة أن يقال: «ولا يجوز التوصّل» مكان «وعدم جواز التوصّل»وكذلك

ص: 173

في تأسيس الأصل في المسألة:

اعلم: أنّه لا أصل في محلّ البحث في المسألة؛ فإنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة وعدمها ليست لها حالة سابقة، بل تكون الملازمة أو عدمُها أزليّة.

___________________________________________

«ويجوز التوصّل» مكان «وجواز التوصّل».

[تأسيس الأصل في المسألة]

{في تأسيس الأصل في المسألة} حتّى يرجع إليه عند الشّكّ {اعلم أنّه لا أصل في محلّ البحث في} هذه {المسألة فإنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة} المقتضية للوجوب {وعدمها} أي: عدم الملازمة المقتضي لعدم وجوب المقدّمة {ليست لها حالة سابقة} حتّى تستصحب تلك الحالة {بل تكون الملازمة أو عدمها أزليّة} فليس هناك زمان يوجد فيه وجوب الشّيء ولا تكون فيه الملازمة حتّى يقال: وجوب الشّيء مسلّم والملازمة مشكوكة فالأصل عدمها، وكذلك العكس - أي: ليس هناك زمان توجد فيه الملازمة ولا يكون وجوب الشّيء حتّى يقال بعد ما وجب الشّيء: الوجوب مسلّم والملازمة مشكوكة فالأصل بقاؤها - .

والحاصل: أنّه لا يعلم أنّ وجوب الشّيء بأيّ نحو هل وجوبه ملازم لوجوب مقدّماته أم لا؟ قال العلّامة المشكيني(رحمة الله): «إذ ليست الملازمة دائرة مدار وجوب الطرفين ولا إمكانهما، بل تصدق مع الامتناع أيضاً.

وبعبارة أُخرى: هي من قبيل لوازم الماهيّة كالزوجيّة تجتمع مع الوجوبوالامتناع والإمكان والوجود والعدم، فليس لها حالة سابقة لا بنحو النّاقصة ولا بنحو التامّة لا وجوداً ولا عدماً»(1).

ص: 174


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 604.

نعم، نفس وجوب المقدّمة يكون مسبوقاً بالعدم، حيث يكون حادثاً بحدوث وجوب ذي المقدّمة، فالأصل عدم وجوبها.

وتوهّم: عدم جريانه؛ لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم الماهيّة غير مجعولة،

___________________________________________

{نعم، نفس وجوب المقدّمة} الّتي هي مسألة فرعيّة، وقد تقدّم أنّه ليس مبحوثاً عنه في المسألة {يكون مسبوقاً بالعدم} مثلاً: الزمان الّذي لم يكن الحجّ واجباً على هذا الشّخص لم يكن ركوب الدابّة الّذي هو مقدّمته واجباً، فإذا وجب الحجّ وشككنا في وجوب الرّكوب، فالأصل عدمه {حيث يكون حادثاً} وجوب المقدّمة {بحدوث وجوب ذي المقدّمة، فالأصل} أي: الاستصحاب يقتضي {عدم وجوبها} بعد وجوب ذيها {وتوهّم عدم جريانه} أي: عدم جريان الاستصحاب لرفع وجوب المقدّمة {لكون وجوبها} بناءً {على الملازمة من قبيل لوازم الماهية}.

اعلم أنّ اللّازم على قسمين:

الأوّل: لازم الماهيّة، وهو ما ينتزع عنها بدون مدخليّة للوجود الذهني أو الخارجي في هذا الانتزاع، خلافاً للعلّامة الدواني الّذي حكم بأنّ لازم الماهيّة عبارة عن لازم كلا الوجودين. وعلى كلّ حال فهو كالإمكان للماهيّة والزوجيّة للأربعة.الثّاني: لازم الوجود الخارجي، كالحرارة للنار، أو الذهني، كالكليّة للإنسان.

إذا عرفت هذا فنقول: لوازم الماهيّة {غير مجعولة} مستقلّاً بلا جعلها بجعل منشأ انتزاعها. مثلاً: ليست الأربعة مجعولة بجعلين: الأوّل جعل ذاتها، والثّاني جعل زوجيّتها، بل زوجيّتها مجعولة تبعاً بجعل ذاتها، فإنّ الجعل التأليفي لا يكون إلّا في العرضيّات المفارقة. أمّا بين الشّيء ونفسه - ك- (الإنسان إنسانٌ) وبينه وبين ذاتيّاته ك- (الإنسان حيوان) وبينه وبين عوارضه اللّازمة، ك- (الأربعة زوج) - فليس

ص: 175

ولا أثر آخرمجعول مترتّب عليه، ولو كان لم يكن بمهمّ هاهنا.

مدفوع: بأنّه وإن كان غير مجعول بالذات، - لا بالجعل البسيط الّذي هو مفاد كان التامّة، ولا بالجعل التأليفي الّذي هو مفاد كان النّاقصة - ، إلّا أنّه مجعول بالعرض، ويتبع جعل وجوب ذي المقدّمة، وهو كافٍ في جريان الأصل.

و

___________________________________________

جعل، بل الجعل فيها بسيط. وبهذا كلّه تبيّن معنى كون وجوب المقدّمة على الملازمة من قبيل لوازم الماهيّة وكونه غير مجعولة.

والحاصل: أنّ وجوب المقدّمة غير مجعول بنفسه شرعاً {ولا أثر آخر مجعول} شرعاً {مترتّب عليه} فلا يجري فيه استصحاب العدم؛ لأنّه يعتبر في مجرى الاستصحاب أن يكون إمّا أثراً شرعيّاً أو ذا أثر شرعيّ، كما هو مسلّم {ولو كان} لوجوب المقدّمة أثر شرعيّ فرضاً، كبرء النّذر {لم يكن بمهمّ هاهنا} لما تقدّم {مدفوعٌ بأنّه} أي: وجوب المقدّمة بناءً على الملازمة {وإن كان غير مجعول} مستقلّاً و{بالذات، لا بالجعل البسيط الّذي هو} عبارة عنإعطاء الوجود بشيء بأن يكون {مفاد كان التامّة} كأن يقال: (كان زيد) أي: وجد {ولا بالجعل التأليفي} المعبّر عنه بالجعل المركّب {الّذي هو} عبارة عن جعل الشّيء متصفاً بصفة بأن يكون {مفاد كان النّاقصة} ك- (كان زيد قائماً) {إلّا أنّه} أي: وجوب المقدّمة {مجعول بالعرض} أي: بسبب جعل الملزوم {ويتبع جعل وجوب ذي المقدّمة} كما أنّ الزوجيّة مجعولة بتبع جعل الأربعة {وهو} أي: هذا المقدار من الجعل {كافٍ في جريان الأصل} عندئذٍ لا يلزم في صحّة الاستصحاب كون المستصحب مجعولاً مستقلّاً، بل اللّازم كونه مجعولاً للشارع ولو تبعاً - كما قرّر في محلّه - .

{و} إن قلت: بناءً على جواز جريان استصحاب عدم وجوب المقدّمة يلزم التفكيك بين الملزوم واللّازم، إذ وجوب الحجّ مثلاً ثابت ومقدّميّة الرّكوب مقطوع

ص: 176

لزومُ التفكيك بين الوجوبين مع الشّكّ لا محالة؛ - لأصالة عدم وجوب المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة - لا ينافي الملازمة بين الواقعيّين، وإنّما ينافي الملازمة بين الفعليّين.

نعم، لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتّى في المرتبة الفعليّة، لما صحّ التمسّك بالأصل،

___________________________________________

والملازم بين وجوب الحجّ وبين وجوب المقدّمة مفروضة، فأصل عدم وجوب الرّكوب في هذا الحال مستلزم للتفكيك بين الملزوم واللّازم.

قلت: {لزوم التفكيك بين الوجوبين} أي: وجوب المقدّمة ووجوب ذيها {مع} فرض {الشّكّ} في وجوب المقدّمة {لا محالة، لأصالة عدم وجوب المقدّمة مع وجوبذي المقدّمة لا ينافي الملازمة بين} الوجوبين {الواقعيّين} فإنّه بإجراء أصالة عدم وجوب المقدّمة لا تخرج المقدّمة عن وجوبها الواقعي {وإنّما ينافي} هذا التفكيك {الملازمة بين} الوجوبين {الفعليّين} في الظاهر، ولا غرو، إذ هذا النّحو من التفكيك بين اللوازم والملزومات في الأحكام الظاهريّة كثيرة، ألا ترى أنّهم يحكمون بطهارة أعضاء الوضوء مع حكمهم بالحدث في ما لو توضّأ بأحد الإناءين المشتبهين بالنّجس لاستصحاب الطّهارة واستصحاب الحدث، مع أنّه في الواقع إمّا نجس محدث وإمّا طاهر متطهّر، وكذلك في استصحابي حياة الشّخص الغائب وعدم التحائه.

{نعم، لو كانت الدعوى} في مسألة مقدّمة الواجب {هي الملازمة المطلقة حتّى في المرتبة الفعليّة} بأن يكون وجوب ذي المقدّمة في الواقع ملازماً لوجوب المقدّمة واقعاً، ووجوب ذيها في الظاهر ملازماً لوجوبها ظاهراً {لما صحّ التّمسّك بالأصل} أي: بأصل عدم وجوب المقدّمة، إذ لا يجتمع حكمان فعليّان للزوم التّناقض.

وفي بعض النّسخ مكان «لما صحّ» الخ: «لصحّ التّمسّك بذلك» أي: بالتلازم الظاهري، «في إثبات بطلانها» أي: بطلان أصالة عدم وجوب المقدّمة

ص: 177

كما لا يخفى.

إذا عرفت ما ذكرنا: فقد تصدّى غير واحد من الأفاضل(1) لإقامة البرهان على الملازمة، وما أتى منهم بواحد خال عنالخلل.

والأَوْلى: إحالة ذلك إلى الوجدان؛ حيث إنّه أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات، أراد تلك المقدّمات

___________________________________________

{كما لا يخفى}.

أقول: قد قرّر هذا الإشكال والجواب السّيّد الحكيم - دام ظلّه - بلفظ أوضح فقال معلّقاً على قوله: «ولزوم التفكيك» الخ إشارة إلى إشكال آخر، وهو أنّ إجراء أصالة عدم وجوب المقدّمة يقتضي الحكم بعدم وجوبها، فيحصل العلم بالتفكيك بين الوجوب النّفسي والوجوب الغيري، والعلم المذكور ينافي احتمال الملازمة، فإذا فرض ثبوت احتمال الملازمة ثبت امتناع العلم بالتفكيك الحاصل من جريان الأصل، فيقتضي عدم جريانه.

ودفع الإشكال بقوله: «إنّ الأصل إنّما يوجب العلم بالانفكاك ظاهراً، وهو لا ينافي احتمال الملازمة بينهما واقعاً، وإنّما ينافي احتمال الملازمة بينهما ظاهراً، وهو غير المدّعى»(2)،

انتهى.

{إذا عرفت ما ذكرنا} من الأُمور {فقد تصدّى غير واحد من الأفاضل لإقامة البرهان على الملازمة} بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها {وما أتى} أحد {منهم ب-} برهان {واحدٍ خالٍ عن الخلل} لا داعي لإيرادها.

{والأولى إحالة ذلك إلى الوجدان حيث إنّه أقوى شاهد على} المطلب، بيانه: {أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً} وكان {له مقدّمات أراد تلكالمقدّمات} أراد غيريّة ارتكازيّة

ص: 178


1- مطارح الأنظار 1: 407، حيث نسبه إلى أبي الحسن البصري وجماعة.
2- حقائق الأصول 1: 296.

لو التفت إليها، بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله، ويقول مولوياً: (ادخل السّوق واشتر اللحم) - مثلاً - ؛ بداهَة أنّ الطلب المنشأ بخطاب: (ادخل) مثل المُنشأ بخطاب (اشتر) في كونه بعثاً مولويّاً، وأنّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء، ترشّحت منها له إرادة أُخرى بدخول السّوق، بعد الالتفات إليه، وأنّه يكون مقدّمة له، كما لا يخفى.

ويؤيّد الوجدانَ - بل يكون من أوضح البرهان - : وجودُ الأوامر الغيريّة في الشّرعيّات والعرفيّات؛

___________________________________________

مع عدم الالتفات وفعليّة {لو التفت إليها} أي: إلى كونها مقدّمات لمراده الأصلي {بحيث ربّما يجعلها} أي: المقدّمات {في قالب الطلب مثله} أي: مثل أصل الواجب المجعول في قالبه {ويقول مولويّاً} لا إرشاديّاً: {(ادخُل السّوق واشتر اللّحم) مثلاً} مع أنّ الواجب النّفسي المقصود ابتداءً هو اشتراء اللحم، وإنّما دخول السّوق مقدّمة وتوصل إليه.

إن قلت: ليس خطاب (ادخل) مولويّاً بل هو إرشاديّ من قبيل {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ}.

قلت: بل هو مولويّ {بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب (ادخل) مثل المنشأ بخطاب (اشتر) في كونه بعثاً مولويّاً، و} الفرق في أنّ (اشتر) ابتدائيّ بخلاف (ادخل) ف- {إنّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشّحت منها له} أي: للمولى {إرادة أُخرى بدخول السّوق بعد الالتفات إليه، و} تكون الإرادة ارتكازيّة فيصورة عدم الالتفات.

نعم، لا يكفي مجرّد الالتفات إلى ذات المقدّمة في إرادتها، بل يلزم الالتفات إلى {أنّه يكون مقدّمة له} أيضاً {كما لا يخفى} على المتأمّل.

{ويؤيّد الوجدان، بل يكون من أوضح البرهان} على إرادة المقدّمات والملازمة المذكورة {وجود الأوامر} المولويّة {الغيريّة في الشّرعيّات} كالوضوء ونحوه {والعرفيّات} الّتي لا تكاد تحصى.

ص: 179

لوضوح أنّه لا يكاد يتعلّق بمقدّمة أمرٌ غيريٌّ إلّا إذا كان فيها مناطُه. وإذا كان فيها كان في مثلها، فيصحّ تعلّقه به أيضاً؛ لتحقّق ملاكه ومناطه.

و

___________________________________________

إن قلت: وجود الأمر الغيري في بعض المقدّمات لا يلازم وجوده في تمامها.

قلت: بل وجود الأمر الغيري في البعض يلازم وجوده في الجميع.

بيانه: أنّ الأمر الغيري لا يتعلّق بشيء إلّا إذا كان فيه مناط الغيريّة والمقدّميّة، وعلى هذا كلّما توجّه الأمر الغيري إلى شيء لا بدّ وأن يكون لمقدّميّته، وحيث كان مناط الأمر الغيري المقدّميّة - والمقدّميّة موجودة في جميع المقدّمات - فاللّازم توجّه الأمر الغيري إلى جميعها، ولنوضح المطلب بمثال، وهو أنّه لو قال المولى: (أكرم زيداً) ثمّ علمنا أنّ سبب إكرامه هو علمه، فاللّازم إكرام جميع العلماء لوجود مناط وجوب الإكرام في الجميع.

وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى هذا الجواب بقوله: {لوضوح} وهذا علّة لقوله: «ويؤيّد الوجدان» {أنّه لا يكاد يتعلّق بمقدّمةأمر غيري إلّا إذا كان فيها} أي: في تلك المقدّمة {مناطه} أي: مناط الأمر الغيري، وهو توقّف المأمور به عليها {وإذا كان} المناط {فيها} أي: في هذه المقدّمة المأمور بها {كان في مثلها} من سائر المقدّمات الّتي لم يؤمر بها {فيصحّ تعلّقه} أي: الأمر {به} أي: بمثلها {أيضاً لتحقّق ملاكه ومناطه} الّذي هو التوقّف، فيثبت عموم الحكم للجميع.

{و} إن قلت: ليس مناط الوجوب في الوضوء ونحوه هو المقدّميّة حتّى يتعدّى منه إلى جميع المقدّمات، بل يحتمل أن يكون المناط في ما وجب من المقدّمات كونها سبباً أو شرطاً شرعيّاً أو نحوهما، وذلك يقتضي وجوب كلّ مقدّمة سببي أو شرط شرعي فقط، فلا يثبت مطلوبكم - أعني: وجوب المقدّمات كافّة - .

قلت: لا خصوصيّة ف-ي المقدّمة السّببي ونحوها تقتضي وجوبها فقط، فإنّ

ص: 180

التّفصيل بين السّبب وغيره(1)، والشّرط الشّرعي وغيره(2) سيأتي بطلانَه، وأنّه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدّمة ومقدّمة.

ولا بأس بذكر الاستدلال الّذي هو كالأصل لغيره ممّا ذكره الأفاضل من الاستدلالات، وهو ما ذكره أبو الحسن البصري(3)، وهو: أنّه لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها، وحينئذٍ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً.وفيه - بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشّرعي من التّالي

___________________________________________

{التفصيل بين السّبب وغيره والشّرط الشّرعي وغيره} لا وجه له أصلاً، و{سيأتي بطلانه وأنّه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدّمة ومقدّمة} بل يلزم القول بوجوب الجميع أو بعدم وجوب الجميع.

{ولا بأس بذكر الاستدلال الّذي هو كالأصل لغيره} من سائر الاستدلالات المنشعبة منه {ممّا ذكره الأفاضل من الاستدلالات} بيان «غيره» {وهو ما ذكره أبو الحسن البصري، وهو أنّه لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها، وحينئذٍ} أي: حين جواز التّرك - أو حين التّرك على ما يأتي - {فإن بقي الواجب على وجوبه} كما كان {يلزم التكليف بما لا يطاق} إذ التكليف بذي المقدّمة في ظرف عدم وجود مقدّمته غير مقدور {وإلّا} فلو لم يبق الواجب على وجوبه {خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً} وهو خلف.

والحاصل: أنّ عدم وجوب المقدّمة مستلزم لأحد محذورين: التكليف بغير المقدور أو الخلف. وحيث إنّ كليهما باطلان فعدم وجوب المقدّمة أيضاً باطل.

{وفيه بعد إصلاحه} أوّلاً {بإرادة عدم المنع الشّرعي من التالي} أي: قوله: «لجاز

ص: 181


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 83.
2- هداية المسترشدين 2: 104؛ مطارح الأنظار 1: 447.
3- حكي عنه في مطارح الأنظار 1: 407.

في الشّرطيّة الأُولى، لا الإباحة الشّرعيّة، وإلّا كانت الملازمة واضحةَ البطلان، وإرادة الترك عمّا أُضيف إليه الظرف، لا نفس الجواز، وإلّا فبمجرّد الجواز بدون الترك، لا يكاد يتوهّم صدق القضيّة الشّرطيّة الثّانية - : ما لا يخفى: فإنّ الترك بمجرّد عدم المنعشرعاً لا يوجب صدق إحدى الشّرطيّتين ولا يلزم أحد المحذورين؛

___________________________________________

تركها» {في الشّرطيّة الأُولى} وهي قوله: «لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها» فيكون المراد من الجملة الشّرطيّة الأُولى أنّه لو لم يجب المقدّمة لم يكن منع شرعيّ عن تركها، و{لا} يمكن أن يراد من جواز الترك {الإباحة الشّرعيّة} حتّى يكون هكذا: لو لم يجب لأُبيح تركه {وإلّا} فلو أُريد الإباحة {كانت الملازمة} بين المقدّم والتالي {واضحة البطلان} إذ انتفاء الوجوب الشّرعي لا يقتضي ثبوت الإباحة الشّرعيّة، بل يتردّد بين الأحكام الأربعة: الحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة {و} إصلاحه ثانياً ب- {إرادة الترك عمّا أُضيف إليه الظرف} وهو «حين» فيكون معنى «وحينئذٍ»: حين الترك كما تقدّم، و{لا} يمكن أن يكون المراد من مضاف إليه الظرف {نفس الجواز} حتّى يكون المعنى: «وحين جواز التّرك» {وإلّا} فلو أُريد جواز الترك {فبمجرّد الجواز بدون الترك لا يكاد يتوهّم صدق القضيّة الشّرطيّة الثّانية} وهي قوله: «فإن بقي الواجب» الخ.

قال العلّامة الرّشتي: «ضرورة أنّ أحد المحذورين إنّما يترتّب على ترك المقدّمة في الخارج لا على مجرّد جوازه وإن أتى بها في الخارج.

وقوله {ما لا يخفى} مبتدأ، خبره ما تقدّم من قوله: «وفيه بعد إصلاحه»(1)، انتهى.

{فإنّ الترك بمجرّد عدم المنع شرعاً لا يوجب صدق إحدى الشّرطيّتين ولا يلزم أحد المحذورين} وهما خروج الواجب عنكونه واجباً ولزوم تكليف ما لا يطاق

ص: 182


1- شرح كفاية الأصول 1: 171.

فإنّه وإن لم يبق له وجوب معه، إلّا أنّه كان ذلك بالعصيان؛ لكونه متمكّناً من الإطاعة والإتيان، وقد اختار تركه بترك مقدّمته بسوء اختياره، مع حكم العقل بلزوم، إتيانها، إرشاداً إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب.

نعم، لو كان المراد من الجواز جواز الترك شرعاً وعقلاً لزم أحد المحذورين، إلّا أنّ الملازمة على هذا

___________________________________________

{فإنّه وإن لم يبق له} أي: لذي المقدّمة {وجوب معه} أي: مع ترك المقدّمة {إلّا أنّه كان ذلك} أي: سقوط الوجوب عن ذي المقدّمة {بالعصيان لكونه متمكّناً} حين الترك {من الإطاعة والإتيان} بالمأمور به {وقد اختار تركه ب-} سبب {ترك مقدّمته بسوء اختياره} فيكون تاركاً للواجب في ظرف القدرة {مع حكم العقل بلزوم إتيانها} أي: المقدّمة {إرشاداً إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب}.

فتحصّل من الجواب: أنّ المقدّمة الأُولى - أعني: قوله: «لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها» - مسلّمة، ولكن المقدّمة الثّانية - أعني: قوله: «ولو ترك لزم إمّا الخلف أو التكليف بما لا يطاق» - غيرُ صحيحٍ، إذ بالترك يسقط التكليف عصياناً، فإنّ المقدّمة مقدورة والعقل حكم بلزوم الإتيان بها إرشاداً فلم يخرج الواجب المطلق عن كونه واجباً.

ومن هذا كلّه تحقّق أنّ جواز ترك المقدّمة شرعاً - في ظرف وجوب الإتيان بها عقلاً - غير مستلزم لأحد المحذورين.{نعم، لو كان المراد من الجواز} في الشّرطيّة الأُولى {جواز الترك شرعاً وعقلاً يلزم أحد المحذورين} من تكليف ما لا يطاق أو الخلف، ووجه لزوم أحد المحذورين حينئذٍ أنّه يكون في ترك المقدّمة معذوراً، فلا عقوبة على ترك ذي المقدّمة المستند إليه، فتأمّل.

{إلّا أنّ الملازمة} في الشّرطيّة الأُولى {على هذا} أي: على تقدير أن يكون المراد

ص: 183

في الشّرطيّة الأُولى ممنوعة؛ بداهة أنّه لو لم يجب شرعاً لا يلزم أن يكون جائزاً شرعاً وعقلاً؛ لإمكان أن لا يكون محكوماً بحكم شرعاً وإن كان واجباً عقلاً إرشاداً، وهذا واضح لا سترة عليه.

وأمّا التفصيل بين السّبب وغيره(1): فقد استدلّ على وجوب السّبب بأنّ التكليف لا يكاد يتعلّق إلّا بالمقدور، والمقدور لا يكون إلّا هو السّبب، وإنّما المسبّب من آثاره المترتّبة عليه قهراً، ولا يكون من أفعال المكلّف وحركاته أو سكناته، فلا بدّ من صرف الأمر المتوجّه إليه عنه إلى سببه.

___________________________________________

من الجواز جواز الترك شرعاً وعقلاً {في الشّرطيّة الأُولى ممنوعة، بداهة أنّه لو لم يجب شرعاً لا يلزم أن يكون جائزاً شرعاً وعقلاً} لعدم التلازم بين عدم الوجوب شرعاً وعدم الوجوب عقلاً حتّى يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر {لإمكان} وجه لا يلزم {أن لا يكون} فعل المقدّمة {محكوماً بحكم شرعاً وإن كان واجباً عقلاً إرشاداً}.فتلخّص ورود أحد الإشكالين على استدلال أبي الحسن البصري: إمّا منع الشّرطيّة الأُولى - وهي لو لم يجب لجاز تركها - لو كان المراد جواز الترك شرعاً وعقلاً، وإمّا منع الشّرطيّة الثّانية - وهي وحينئذٍ الخ - لو كان المراد جواز الترك شرعاً {وهذا واضح لا سترة عليه}.

{وأمّا التفصيل بين السّبب وغيره} والقول بوجوب المقدّمة السببيّة دون غيرها {فقد استدلّ على وجوب السّبب بأنّ التكليف} الشّرعي {لا يكاد يتعلّق إلّا بالمقدور، و} المسبّب غير مقدور، فإنّ {المقدور لا يكون إلّا هو السّبب، وإنّما المسبّب من آثاره} القهريّة {المترتّبة عليه قهراً، ولا يكون} المسبّب {من أفعال المكلّف وحركاته أو سكناته} حتّى يصحّ تعلّق الأمر به {فلا بدّ من صرف الأمر المتوجّه إليه} ظاهراً نحو «تزوّج» {عنه} أي: عن المسبّب {إلى سببه} فيلزم صرف

ص: 184


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 83.

ولا يخفى ما فيه: من أنّه ليس بدليل على التفصيل، بل على أنّ الأمر النّفسي إنّما يكون متعلّقاً بالسبب دون المسبّب، مع وضوح فساده؛ ضرورةَ أنّ المسبّب مقدور للمكلّف، وهو متمكّن عنه بواسطة السّبب، ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة - كانت بلا واسطة أو معها - كما لا يخفى.

وأمّا التفصيل بين الشّرط الشّرعي وغيره(1):

___________________________________________

الأمر المذكور إلى العقد، وكذا صرف الأمر بالإحراق والتطهّر إلى الإلقاء في النّار والغسلات والمسحات.ومن هذا كلّه تبيّن وجوب المقدّمة السّببيّة لتوجّه الأمر بالمسبّب إليها حقيقة، وأمّا غير السّبب من سائر المقدّمات، فلا دليل على وجوبه.

{ولا يخفى ما فيه} فإنّ هذا الإستدلال بنفسه غير تامّ، وعلى فرض تماميّته لا يكون تفصيلاً في المسألة بين السّبب وغيره: أمّا الثّاني فلما أشار إليه بقوله: {من أنّه ليس بدليل على التفصيل} بين السّبب وغيره {بل} هذا الدليل يدلّ {على أنّ الأمر النّفسيّ إنّما يكون متعلّقاً بالسبب دون المسبّب} فالمدّعى كون المقدّمة السّببيّة واجباً غيريّاً، والدليل يدلّ على وجوبها النّفسي، وكم فرق بينهما، كما لا يخفى.

وأمّا الأوّل فلما أشار إليه بقوله: {مع وضوح فساده} أي: فساد هذا الاستدلال بنفسه {ضرورة أنّ المسبّب مقدور للمكلّف، وهو} أي: المكلّف {متمكّن عنه بواسطة السّبب، ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة} سواء {كانت بلا واسطة} كالفعل المباشري {أو معها} كالمسبّبات {كما لا يخفى} فإنّ المقدور بالواسطة مقدور بديهة، فلا وجه للقول بأنّ التكليف بالتطهّر والتزوّج والإحراق ونحوها يرجع إلى أسبابها، بل التكليف بنفسها حقيقة.

{وأم--ّا التفصيل بين الشّرط الشّرع-ي} ك--الوضوء {وغي-ره} كالسير للحجّ

ص: 185


1- هداية المسترشدين 2: 104؛ مطارح الأنظار 1: 447.

فقد استدلّ على الوجوب في الأوّل: بأنّه لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً؛ حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادة.

وفيه - مضافاً إلى ما عرفت من رجوع الشّرط الشّرعي إلى العقلي - : أنّه لا يكاد يتعلّق الأمر الغيري إلّا بما هو مقدّمةالواجب، ولو كان مقدّميّته متوقّفة على تعلّقه بها لدار.

___________________________________________

{فقد استدلّ على الوجوب في الأوّل بأنّه لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً} للمأمور به {حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادة} بضميمة دوران الأمر بين هذه الثّلاثة، وهذا الدليل يشبه قياس الخلف الّذي هو عبارة عن إثبات المطلوب بإبطال نقيضه.

بيان ذلك: أنّ الشّرطيّة إمّا بحكم العقل وإمّا بحكم العادة وإمّا بحكم الشّرع، فإذا انتفى الأوّلان ثبت الثّالث، وإذا ثبتت الشّرطيّة الشّرعيّة نقول: لا بدّ وأن يكون الشّرط واجباً غيريّاً وإلّا لم يحكم به الشّارع.

{وفيه مضافاً إلى ما عرفت} في تقسيم المقدّمات {من رجوع الشّرط الشّرعي إلى العقلي} والفرق إنّما هو درك الشّارع له دون العقل، وبعد بيان الشّارع يكون كالعقلي في انتفاء المشروط بانتفائه.

وعلى هذا فلو كان الشّرط الشّرعي واجباً كان غير الشّرعي أيضاً واجباً لعدم التفاوت بينهما، فلا يمكن التفصيل والقول بوجوب أحدهما دون الآخر {أنّه لا يكاد يتعلّق الأمر الغيري إلّا بما هو مقدّمة الواجب، ولو كان مقدّميّته متوقّفة على تعلّقه بها لدار}.

وحاصله: الإشكال على قوله في الاستدلال: «لو لم يكن واجباً لما كان مقدّمة» توضيح الدور: أنّ هذا الدليل بضميمة مطلب آخر وجداني وهو «لو لم يكن الشّرط مقدّمة لما أمر به» ينتج الدور، إذ لا شكّ في أنّ الأمر الغيري لا يتعلّق إلّا بما هو مقدّمة ودخيل في الواجب، فلو كانت المقدّميّة والشّرطيّة متوقّفة

ص: 186

والشّرطيّة وإن كانت منتزعة عن التكليف، إلّا أنّه عن التكليف النّفسي المتعلّق بما قيّد بالشرط، لا عن الغيري، فافهم.

___________________________________________

على الأمر الغيري دار، وحيث إنّ الدور باطل لا بدّ وأن يكون إحدى المقدّمتين كاذبة. لا سبيل إلى كذب المقدّمة الوجدانيّة - أعني: لو لم يكن الشّرط مقدّمة لما أمر به - فاللّازم كذب المقدّمة المذكورة في الاستدلال - أعني: لو لم يكن واجباً لما كان مقدّمة - فلا موجب لوجوب الشّرط الشّرعي دون غيره.

إن قلت: هذا الدور بعينه وارد عليكم؛ لأنّ الشّرطيّة متوقّفة على الأمر الغيري، إذ لولا الأمر الغيري لم يعلم الشّرطيّة، والأمر الغيري متوقّف على ثبوت الشّرطيّة، إذ لولا الشّرطيّة لم يأمر المولى بالشرط {و} هذا دور صريح.

قلت: المقدّمة الأُولى ممنوعة؛ لأنّ {الشّرطيّة وإن كانت منتزعة عن التكليف} لأنّها مجعولة تبعاً لا مستقلّاً، كما هو رأى المصنّف في هذا القسم من الأحكام الوضعيّة بحيث لولا التكليف لم يصحّ انتزاعها {إلّا أنّه} أي: انتزاع الشّرطيّة {عن التكليف النّفسي المتعلّق بما قيّد بالشرط} كقوله: (صلّ عن طهارة) المنتزع منه وجوب الطهارة، و{لا} تكون الشّرطيّة منتزعة {عن} التكليف {الغيري} فلا تتوقّف الشّرطيّة على الأمر الغيري حتّى يتمّ الدور المذكور.

وقد يجاب عن الدور: بأنّ الشّرطيّة متوقّفة إثباتاً على الأمر الغيري، والأمر الغيري متوقّف ثبوتاً على الشّرطيّة، فلا دور {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قولكم: «والشّرطيّة وإن كانت» الخ لا يدفع الدور؛ لأنّ الأمر النّفسي بالصلاة مع الطهارة متوقّف على مدخليّة الطهارة ومقدّميّتها، إذ لولا المقدّميّة لم يأمر بالصلاة مع الطهارة، ومدخليّة الطهارة متوقّفة على الأمر النّفسيّ بالصلاة مع الطهارة، إذ لولا هذا الأمر لم تكن للطهارة مدخليّة، وهذا دور واضح، غاية الأمرأنّ الدور في التقرير السّابق كان مع الأمر الغيري وهاهنا كان مع الأمر النّفسي.

ص: 187

تتمّة: لا شبهة في أنّ مقدّمة المستحب كمقدّمة الواجب؛ فتكون مستحبّة لو قيل بالملازمة.

وأمّا مقدّمة الحرام والمكروه فلا تكاد تتّصف بالحرمة أو الكراهة، إذ منها ما يتمكّن معه من ترك الحرام أو المكروه اختياراً، كما كان متمكّناً قبله، فلا دَخل له أصلاً في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه، فلم يترشّح من طلبه طلب ترك مقدّمتهما.

___________________________________________

[تتمّة]

{تتمّة: لا شبهة في أنّ مقدّمة المستحب} كالمشي لزيارة الحسين(علیه السلام) أو أحد كبراء الدين(علیهم السلام) {كمقدّمة الواجب، فتكون مستحبّة لو قيل بالملازمة} في مقدّمة الواجب، وذلك لاتحاد المناط في المقامين، فإنّ الواجب كما كان متوقّفاً كذلك المستحبّ متوقّف، فلا فرق بين الطلب الوجوبي والاستحبابي عند العقل.

{وأمّا مقدّمة الحرام} كالمشي للزنا {و} مقدّمة {المكروه} كالمشي للطلاق {فلا تكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة} مطلقاً، بل فرق بين المقدّمات {إذ منها ما يتمكّن معه من ترك الحرام أو المكروه اختياراً} فلا يسلب الاختيار بفعل تلك المقدّمة {كما كان متمكّناً قبله} ففي المثال المشي وعدمه متساويان بالنسبة إلى الزنا، فإنّ من ذهب إلى دار الزانية مختار في الزنا كأن كان قبل المشي مختاراً {فلا دخل له أصلاًفي حصول ما هو المطلوب} للمولى {من ترك الحرام أو المكروه} بيان للمطلوب، وحيث لا مدخليّة للمقدّمة {فلم يترشّح من طلبه} أي: طلب ترك الحرام والمكروه {طلب ترك مقدّمتهما} إذ ترك مقدّمة واحدة كافٍ في ترك الحرام أو المكروه، فالواجب الغيري ترك مقدّمة واحدة على البدل، فالمحرّم فعل أحدها لا كلّ واحد منها، إلّا أن يقال: إنّ فعل كلّ مقدّمة إعانة على المحرّم، فيشمله قوله - تعالى - : {وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ}(1) بناءً على شمول الآية

ص: 188


1- سورة المائدة، الآية: 2.

نعم، ما لم يتمكّن معه من الترك المطلوب، لا محالة يكون مطلوبَ الترك، ويترشّح من طلب تركهما طَلَبُ تركِ خصوص هذه المقدّمة، فلو لم يكن للحرام مقدّمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدّمةٌ من مقدّماته.

لا يقال: كيف؟ ولا يكاد يكون فعل إلّا عن مقدّمة لا محالة معها يوجد؛ ضرورة أنّ الشّيء ما لم يجب لم يوجد.

___________________________________________

لفعل النّفس، فتدبّر.

{نعم، ما لم يتمكّن معه من الترك المطلوب} أي: المقدّمة الّتي هي علّة تامّة لفعل الحرام أو المكروه {لا محالة يكون مطلوب الترك} كالحرام النّفسي والمكروه النّفسيّ {ويترشّح من طلب تركهما} ترك الحرام والمكروه {طلب ترك خصوص هذه المقدّمة} الّتي هي علّة تامّة، أمّا الشّرط والمقتضي والمعدّ والسّبب من مقدّمات الحرام والمكروه، فليستبمطلوبات الترك.

وعلى هذا {فلو لم يكن للحرام مقدّمة} تكون علّة تامّة له - بحيث {لا يبقى معها اختيار تركه - لما اتّصف بالحرمة مقدّمة من مقدّماته} أصلاً؛ لأنّه مادام الاختيار باقياً لم تحصل العلّة التامّة، وغير العلّة التامّة ليس محرّماً - كما تقرّر - .

{لا يقال: كيف} قلتم بعدم اتصاف أيّ مقدّمة بالحرمة مع وجود الحرام في الخارج، فإنّ هذا يستلزم وجود الشّيء بدون علّته التامّة. {و} الحال أنّه {لا يكاد يكون فعل إلّا عن مقدّمة} هي علّة تامّة {لا محالة معها يوجد} ذلك الفعل {ضرورة أنّ الشّيء ما لم يجب} أي: ما لم يوجد علّته التامّة {لم يوجد}.

والحاصل: أنّه لمّا استفيد من آخر كلام المصنّف أنّه لو لم يكن للحرام علّة تامّة لم يكن أحد مقدّماته حراماً اعترض عليه هذا القائل بأنّه كيف يمكن أن يوجد فعل في الخارج ولا يكون له علّة تامّة والحال أنّ الشّيء ما لم يجب - بسبب وجود علّته التامّة - لم يوجد؟ وعلى هذا فلا بدّ وأن يكون لكلّ محرّم موجود علّة تامّة،

ص: 189

فإنّه يقال: نعم، لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام، لكنّه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدّمات الاختياريّة، بل من المقدّمات الغير الاختياريّة، كمبادئ الاختيار الّتي لا تكون بالاختيار، وإلّا لتسلسل، فلا تغفل وتأمّل.

___________________________________________

وتلك العلّة التامّة محرّمة.

ولكن هذا الإشكال غير وارد {فإنّه يقال} في الجواب عنه: {نعم} لا يمكن وجود شيء بلا علّة تامّة، بل {لا محالة يكونمن جملتها} أي: من جملة المقدّمات {ما يجب معه صدور الحرام} في الخارج {لكنّه لا يلزم أن يكون ذلك} الشّيء الّذي يجب معه صدور الحرام {من المقدّمات الاختياريّة} حتّى يكون قابلاً للحرمة التكليفيّة.

{بل} يمكن أن يكون الجزء الأخير من العلّة التامّة {من المقدّمات الغير الاختياريّة} وذلك {كمبادئ الاختيار} أعني: الإرادة ونحوها {الّتي لا تكون بالاختيار وإلّا لتسلسل} إذ لو كانت الإرادة اختياريّة لزم أن يكون مسبوقاً بإرادة أُخرى وهكذا، فالفعل الحرام المتوقّف على مقدّمات لا يلازم كون بعض مقدّماته محرّماً.

فتحصّل من ذلك كلّه: أنّ لكلّ حرام علّة تامّة لكنّها على قسمين:

الأوّل: أن تكون بتمامها اختياريّاً، مثل إلقاء الحطب في النّار لأجل الإحراق والعلّة التامّة في هذا القسم محرّم.

الثّاني: أن تكون مركّبة من بعض الأفعال المقدّمي والإرادة فهذا العلّة التامّة ليست محرّمة، إذ الإرادة ليست قابلة للحرمة التكليفيّة.

ولكن لا يخفى أنّه قد سبق الإشكال في عدم اختياريّة الإرادة، بل الحقّ أنّها اختياريّة {فلا تغفل} عمّا ذكرناه هناك {وتأمّل} حتّى تعلم، واللّه وليّ التوفيق.

تنبيه: لا يترشّح الإباحة من المباح إلى مقدّماته. نعم، لا يتصف ما يلازمه بغير

ص: 190

فصل: الأمر بالشيء هل يقتضي النّهي عن ضدّه أو لا؟فيه أقوال(1): وتحقيق الحال يستدعي رسم أُمور:

الأوّل: الاقتضاء في العنوان أعمّ من أن يكون بنحو العينيّة(2)، أو الجزئيّة، أو اللزوم من جهة التلازم بين طلب أحد الضدّين وطلب ترك الآخر(3)، أو المقدّميّة،

___________________________________________

الإباحة من الأحكام لعدم جواز اختلاف المتلازمين.

[الفصل الخامس الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده؟]

اشارة

المقصد الأوّل: في الأوامر، الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده؟

{فصل: الأمر بالشيء هل يقتضي النّهي عن ضدّه} بأن يقتضي الأمر بالإزالة مثلاً النّهي عن تركها أو عن الصلاة {أو لا؟ فيه أقوال، وتحقيق الحال} في هذه المسألة {يستدعي رسم أُمور} مقدّمة على المطلب:

الأمر {الأوّل: الاقتضاء في العنوان} أعني: قولهم: «يقتضي النّهي» الخ {أعمّ من أن يكون بنحو العينيّة} بأن يكون (صلّ في المسجد) - مثلاً - عين (لا تترك الصلاة في المسجد) مصداقاً {أو الجزئيّة} بأن يكون الأمر بالشيء دالّاً بالتضمّن على النّهي عن ضدّه، إذ الأمر عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك، فالنهي عن الترك - الّذي هو عبارة عن الضدّ - جزء مدلول الأمر {أو اللزوم} بأن يكون الأمر بالشيء دالّاً على النّهي عن الضدّ بالدلالة الالتزاميّة.ثمّ إنّ وجه اللزوم أحد أمرين: [1] فإمّا {من جهة التلازم بين طلب أحد الضدّين وطلب ترك} الضدّ {الآخر} ومن البديهي أنّ وجود أحد المتلازمين يستدعي وجود الملازم الآخر [2] {أو} من جهة {المقدّميّة} بمعنى أنّ ترك الضدّ من مقدّمات المأمور به بضميمة ما تقدّم من أنّ طلب شيء يلازم طلب مقدّماته

ص: 191


1- مطارح الأنظار 1: 554.
2- الفصول الغرويّة: 92.
3- قوانين الأصول 1: 108 و 113؛ مناهج الأحكام والأصول: 61.

على ما سيظهر.

كما أنّ المراد بالضدّ هاهنا هو: مطلق المعاند والمنافي، وجوديّاً كان أو عدميّاً.

الثّاني: أنّ الجهة المبحوث عنها في المسألة، وإن كانت أنّه هل يكون للأمر اقتضاء بنحو من الأنحاء المذكورة؟ إلّا أنّه لمّا كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ، إنّما ذهبوا إليه لأجل توهّم

___________________________________________

{على ما سيظهر} هذا متعلّق بقوله: «أعمّ من أن يكون» الخ.

والّذي يظهر بعد هو أنّ هذه الاحتمالات كلّها أقوال في المسألة، فلو لم يكن المراد بالاقتضاء هذا المعنى العام يلزم خروج بعض الأقوال عن محلّ النّزاع ولا داعي له {كما أنّ المراد بالضدّ هاهنا} في مصطلح الأصوليّين {هو مطلق المعاند والمنافي} للمأمور به {وجوديّاً كان} كالضدّ الخاص {أو عدميّاً} كالضدّ العام.

وليس المراد بالضدّ الضدّ المصطلح عند أهل المعقول الّذي هو عبارة عن الأمر الوجودي المقابل لأمر وجوديّ آخر بحيث لا يجتمعان في محلّ واحد.

ويدلّ على كون المراد من الضدّ مطلق المعاند إطلاقهم الضدّ العام على الترك، وإلّا فلو كان المراد به هو مصطلح المعقول لزم خروج بعض الأقوال، كما لا يخفى.وللعلّامة المشكيني(رحمة الله) على قوله: «كما أنّ المراد» الخ، تعليقة نافعة، فراجع(1).

الأمر {الثّاني: أنّ الجهة المبحوث عنها في المسألة وإن كانت} في مطلق الاقتضاء و{أنّه هل يكون للأمر اقتضاء بنحو من الأنحاء المذكورة} العينيّة والتضمّن والالتزام بنحو التلازم أو المقدّميّة، كما سبق؟ {إلّا أنّه لمّا كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ إنّما ذهبوا إليه لأجل توهّم} الاقتضاء بالنّحو الرّابع

ص: 192


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 13.

مقدّميّة ترك الضدّ، كان المهمّ صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق المقال في المقدّميّة وعدمها، فنقول - وعلى اللّه الاتكال - :

إنّ توهّم(1) توقّف الشّيء على ترك ضدّه ليس إلّا من جهة المضادّة والمعاندة بين الوجودين، وقضيّتها الممانعة بينهما، ومن الواضحات أنّ عدم المانع من المقدّمات.

وهو توهّمٌ فاسدٌ، وذلك لأنّ المعاندة والمنافرة بين الشّيئين لا يقتضي إلّا عدم اجتماعهما في التحقّق،

___________________________________________

أعني: الالتزام بنحو {مقدّميّة ترك الضدّ} لفعل المأمور به {كان المهم} جواب «لمّا» {صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق المقال في المقدّميّة وعدمها} مثلاً: هل إزالة النّجاسة عن المسجد منمقدّماتها ترك الصلاة أم لا، فلو كان مقدّمة كان مطلوباً للأمر الغيري المترشّح من الأمر بالإزالة فيكون فعل الصلاة منهيّاً عنه، وذلك بخلاف ما لم نقل بمقدّميّة ترك الصلاة للإزالة فلا تكون الصلاة منهيّاً عنها.

{فنقول وعلى اللّه الاتكال: إنّ توهّم} مقدّميّة ترك الضدّ لفعل الضدّ الآخر، أي: {توقّف الشّيء على ترك ضدّه ليس إلّا من جهة المضادّة والمعاندة بين الوجودين} كالصلاة والإزالة {وقضيّتها} أي: مقتضى المضادّة {الممانعة بينهما} أي: مانعيّة وجود كلّ منهما عن وجود الآخر {ومن الواضحات أنّ عدم المانع من المقدّمات}.

والحاصل: أنّ مقتضى التضادّ الممانعة، ومقتضى الممانعة مانعيّة كلّ عن وجود الآخر، وحيث كان عدم المانع من المقدّمات، فاللّازم وجوب عدم المانع، ففي المثال بين الإزالة والصلاة تضادّ وتمانع فترك الصلاة - لكونه عدم المانع - يكون من مقدّمات الإزالة.

{وهو توهّم فاسد، وذلك لأنّ المعاندة والمنافرة بين الشّيئين لا تقتضي إلّا عدم اجتماعهما في التحقّق} في محلّ واحد في زمان واحد، ولا يقتضي أن يكون عدم

ص: 193


1- والمتوهّم هو الحاجبي والعضدي، راجع شرح مختصر الأصول 1: 90 و 96-97 و 119.

وحيث لا منافاة أصلاً بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديلُه، بل بينهما كمال الملائمة، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة، من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر، كما لا يخفى.

فكما أنّ قضيّة المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدّمَ ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر،

___________________________________________

أحدهما مقدّمة لوجود الآخر.بل نقول: مقتضى المعاندة عدم المقدّميّة، إذ يشترك في المقدّمة التقدّم على ذي المقدّمة ولو رتبةً، وهنا ليس ترك أحد الضدّين متقدّماً على الضدّ الآخر.

{وحيث لا منافاة أصلاً بين أحد العينين} كإزالة النّجاسة {و} بين {ما هو نقيض} الضدّ {الآخر وبديله} كعدم الصلاة {بل بينهما كمال الملائمة} والموافقة {كان} متعلّق «حيث» {أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة}.

توضيحه - بلفظ العلّامة القوچاني - هو: «أنّ الملائمة بحسب الوجدان بين عدم أحدهما مع وجود الآخر في الرّتبة، النّاشئة من المعاندة بين الوجودين بلا توهّم التنافر، يكفي في إنكار المقدّميّة حيث إنّها متوقّفة على تقدّم العدم عليه؛ لأنّه بناءً عليه من أجزاء علّة الوجود، ولا إشكال في تقدّمها بجميع أجزائها على المعلول رتبة، ومع الملائمة بينهما في الاجتماع، فلا تقدّم لأحدهما على الآخر، ولا أقلّ من عدم العلم بتحقّقه، فعلى مدّعيه الإثبات»(1)،

انتهى. فكونهما في مرتبة واحدة {من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر} من أقوى الأدلّة على عدم مقدّميّة ترك أحدهما لفعل الآخر {كما لا يخفى}.

ثمّ أشار المصنّف(رحمة الله) إلى برهان آخر لردّ توهّم المقدّميّة بقوله: {فكما أنّ قضيّة المنافاة بين المتناقضين} المعبّر عنه بتقابل الإيجاب والسّلب {لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر} بل ارتفاع أحدهما وثبوت الآخر في رتبة واحدة

ص: 194


1- تعليقة القوچاني على كفاية الأصول 1: 314.

كذلك في المتضادّين.

كيف؟ ولو اقتضى التضادّ توقّف وجود الشّيء على عدم ضدّه - توقّف الشّيء على عدم مانعه - لاقتضى توقّفَ عدم الضدّ على وجود الشّيء - توقّف عدم الشّيء على مانعه - ؛

___________________________________________

{كذلك في المتضادّين} ليس ارتفاع أحدهما مقدّماً على الآخر بل في رتبته، وهذا البرهان يتوقّف على مقدّمتين: الأُولى: صحّة تنظير الضدّين بالنقيضين. والثّانية: نفي المقدّميّه في النّقيضين. ثمّ يلزم بعدهما تشكيل قياس حتّى يتمّ المطلوب:

أمّا المقدّمة الأُولى: فلأنّ مرجع الضدّين إلى النّقيضين - على ما قالوا - فإنّ تقابل البياض بالسواد من جهة أنّ البياض في قوّة اللّاسواد.

وأمّا الثّانية: فلأنّ النّقيضين في مرتبة واحدة ولا يمكن أن يكون أحدهما مقدّماً على الآخر حتّى لو فرض ذلك لزم ارتفاع النّقيضين، فهما متبادلان في التحقّق ولا يجتمعان ولا يعقل أن يرتفع أحدهما أوّلاً ثمّ يتحقّق الآخر.

إذا عرفت المقدّمتين نقول: ترك أحد الضدّين في مرتبة وجوده ووجوده في مرتبة الضدّ الآخر، فترك أحد الضدّين في مرتبة الضدّ الآخر. مثلاً: ترك الصلاة في مرتبة الصلاة، والصلاة في مرتبة الإزالة، فترك الصلاة في مرتبة الإزالة، فلا يكون ترك الصلاة مقدّمة لفعل الإزالة.

ثمّ أشار المصنّف(رحمة الله) إلى برهان آخر ذكره سلطان العلماء(رحمة الله)(1) بقوله: {كيف} يكون عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر {و} الحال أنّه {لو اقتضى التضادّ} بين شيئين {توقّف وجودالشّيء على عدم ضدّه} على نحو {توقّف الشّيء على عدم مانعه} كتوقّف الإحراق على عدم الرّطوبة {لاقتضى توقّف عدم الضدّ} أيضاً {على وجود الشّيء} على نحو {توقّف عدم الشّيء على مانعه} فكما أنّ عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر كذلك وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر

ص: 195


1- حاشية السلطان على معالم الدين: 284-285.

بداهة ثبوت المانعيّة في الطرفين، وكون المطاردة من الجانبين، وهو دور واضح.

وما قيل(1) - في التفصّي عن هذا الدور - بأنّ التوقّف من طرف الوجود فعليّ، بخلاف التوقّف من طرف العدم،

___________________________________________

{بداهة ثبوت المانعيّة في الطّرفين} أي: الوجودين أو وجود أحدهما وعدم الآخر {وكون المطاردة من الجانبين، وهو دور واضح} وحيث إنّ الدور باطل، فالتوقّف والمقدّميّة أيضاً باطل.

والحاصل: أنّه لو كانت الإزالة مثلاً متوقّفة على عدم الصلاة - إذ الصلاة مانع والشّيء موقوف على عدم مانعه - كان عدم الصلاة أيضاً موقوفاً على الإزالة - إذ الإزالة مانعة وعدم الشّيء متوقّف على وجود مانعه - . مثلاً: الرّطوبة مانعة وعدم الإحراق متوقّف على الرّطوبة.

وبهذا يحصل التوقّف من الطرفين ويكون وجود الإزالة مستحيلاً؛ لأنّه مستلزم للدور، ومن هذا يتبيّن أنّ التمانع في الوجود لا يقتضي المقدّميّة.

{وما قيل} والقائل هو المحقّق الخوانساري(رحمة الله) {في التفصّي عن هذا الدور بأنّ} الدور مسلّم لو كانت الإزالةموقوفة على عدم الصلاة فعلاً وعدم الصلاة موقوفاً على الإزالة فعلاً، ولكن ليس الأمر كذلك فإنّ هذا {التوقّف من طرف الوجود فعليّ} فالإزالة متوقّفة على عدم الصلاة فعلاً، بمعنى أنّ مقتضى وجود الإزالة موجود، وإنّما الباقي هو عدم المانع - أي: عدم الصلاة - فالإزالة فعلاً متوقّفة على عدم الصلاة {بخلاف التوقّف من طرف العدم} فليس عدم الصلاة متوقّفاً على وجود الإزالة فعلاً، بل توقّف عدم الصلاة على وجود الإزالة شأني، إذ عدم الصلاة يمكن أن يستند إلى عدم المقتضي لها بأن لا يريد المكلّف الصلاة، ويمكن أن يستند إلى المانع، كالإزالة، كما أنّ عدم الإحراق يكون تارةً لعدم النّار

ص: 196


1- مطارح الأنظار 1: 524؛ والقائل هو المحقق الخوانساري في الرسائل: 149.

فإنّه يتوقّف على فرض ثبوت المقتضي له، مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضدّه، ولعلّه كان محالاً، لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدّين - مع وجود الآخر - إلى عدم تعلّق الإرادة الأزليّة به، وتعلّقها بالآخر حَسَبَ ما اقتضته الحكمة البالغة، فيكون العدم دائماً مستنداً إلى عدم المقتضي، فلا يكاد يكون

___________________________________________

وأُخرى لرطوبة الحطب. فحاصل معنى الشّأنيّة: أنّ الإزالة لها شأنيّه المنع - أي: تكون مانعاً في صورة وجود المقتضي - وليس لها فعليّة المنع.

{فإنّه} أي: عدم الضدّ الأوّل إنّما {يتوقّف} على وجود الضدّ الآخر {على فرض ثبوت المقتضي له} أي: لوجود الضدّ الأوّل {مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضدّه} مثلاً: عدم الصلاة إنّما يتوقّف على وجود الإزالة، على فرض ثبوت المقتضي لوجود الصلاة، كالإرادة، مع وجود شرائط الصلاة، كالطهارة واللباس والنّظافة، غير أنّها لا تتحقّق لوجود ضدّها الّتي هي الإزالة، بحيث لولا الإزالة لوجدت الصلاة،ففي مثل هذا المقام يقال: عدم الصلاة متوقّف على الإزالة، بمعنى أنّ الإزالة علّة لعدم الصلاة.

{ولعلّه} أي: ثبوت المقتضي مع شراشر الشّرائط {كان محالاً} فعدم الصلاة دائماً مستند إلى عدم تماميّة المقتضي، ولا يكون متوقّفاً على الإزالة حتّى يقال: عدم الصلاة متوقّف على الإزالة وعدم الإزالة متوقّف على الصلاة، فيلزم الدور.

وإنّما كان ثبوت المقتضي مع شراشر الشّرائط محالاً {لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدّين} كعدم الصلاة {مع وجود} الضدّ {الآخر} كالإزالة {إلى عدم تعلّق الإرادة الأزليّة به} أي: بأحد الضدّين، كالصلاة {وتعلّقها بالآخر} كالإزالة {حسب ما اقتضته الحكمة البالغة} للحكم والمصالح الّتي عنده - تعالى - .

وعلى هذا {فيكون العدم} للصلاة مثلاً {دائماً مستنداً إلى عدم المقتضي} أي: عدم إرادة المكلّف المستند إلى عدم تعلّق إرادة اللّه به {فلا يكاد يكون} عدم

ص: 197

مستنداً إلى وجود المانع، كي يلزم الدور.

إن قلت: هذا إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد. وأمّا إذا كان كلّ منهما متعلّقاً لإرادة شخص، فأراد - مثلاً - أحد الشّخصين حركة شيء، وأراد الآخرُ سكونَه، فيكون المقتضي لكلّ منهما حينئذٍ موجوداً، فالعدم - لا محالة - يكون فعلاً مستنداً إلى وجود المانع.

قلت: هاهنا أيضاً

___________________________________________

الصلاة {مستنداً إلى وجود المانع} كالإزالة {كي يلزم الدور}.

فتبيّن من ذلك كلّه أنّ الإزالة متوقّفة على عدم الصلاة، ولا محذور في هذا التوقّف إلّا توهّم الدور بسبب توقّف عدم الصلاة على الإزالة، وقد أبطلناه، فتدبّر.

ولمّا كان هاهنا محلّ توهّم يرد على هذا المجيب بنفسه بيّنه المجيب وقال: {إن قلت: هذا} الّذي ذكرتم في دفع الدور من التغاير بالشأنيّة والفعليّة ليس مستقيماً في جميع الموارد، بل التغاير المذكور إنّما يكون {إذا لوحظا} أي: وجود أحد الضدّين، كالإزالة، وعدم الآخر، كعدم الصلاة {منتهيين إلى إرادة شخص واحد} فإنّ هناك يكون عدم أحدهما لعدم المقتضي، فالإزالة متوقّفة على ترك الصلاة، وترك الصلاة لعدم إرادة الفاعل لها.

{وأمّا إذا كان كلّ منهما} أي: من الضدّين {متعلّق-اً لإرادة شخص ف-أراد - مثلاً - أحد الشّخصين} كزيد مثلاً {حركة شيء وأراد الآخر} كعمرو {سكونه فيكون المقتضي لكلّ منهما} أي: من الضدّين {حينئذٍ} أي: حين كان كلّ منهما متعلّقاً لإرادة شخص {موجوداً فالعدم لا محالة يكون فعلاً} أي: لا شأناً {مستنداً إلى وجود المانع} فالحركة متوقّفة على عدم سكونه - لتوقّف الشّيء على عدم مانعه - وعدم السّكون متوقّف على الحركة، إذ المقتضي للسكون موجود وإنّما منع عنه المانع - أعني: الحركة - فيأتي الدور المذكور للتوقّف الفعلي من الطرفين.

{قلت: هاهنا} في ما أراد شخصان الضدّين {أيضاً} - كما لو انتهيا إلى إرادة

ص: 198

مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما في إرادته - وهي ممّا لا بدّ منه في وجود المراد ولا يكاد يكون بمجرّد الإرادة بدونها - ، لا إلى وجود الضدّ؛ لكونه مسبوقاً بعدم قدرته، كما لا يخفى.

غيرُ سديدٍ؛

___________________________________________

شخص - العدم {مستند} إلى عدم المقتضي وليس مستنداً {إلى} عدم المانع، إذ عدم السّكون في المثال ل- {عدم قدرة} الشّخص {المغلوب منهما في إرادته} فإنّ مقتضى السّكون الّتي هي الإرادة إنّما يكون تامّاً إذا وجد شرطه الّذي هو عدم مغلوبيّتها بسبب إرادة غيره {وهي} أي: قدرة المغلوب {ممّا لا بدّ منه في وجود المراد} فعلاً {ولا يكاد يكون} أي: يتحقّق المراد {بمجرّد الإرادة بدونها} أي: بدون القدرة.

فتحصّل: أنّ عدم أحد الضدّين مستند إلى عدم تماميّة المقتضي {لا إلى وجود الضدّ} الآخر.

إن قلت: هذا العدم يمكن استناده إلى عدم المقتضي وهي القدرة، ويمكن استناده إلى وجود المانع وهو وجود الضدّ الآخر، والقول باستناده إلى عدم القدرة ترجيح بلا مرجّح.

قلت: لا يصحّ استناده إلى المانع {لكونه} أي: وجود الضدّ {مسبوقاً بعدم قدرته} أي: قدرة الشّخص {كما لا يخفى} فإنّ تعليل العدم بعدم المقتضي أولى من تعليله بعدم المانع، فإذا كان هناك ثوب رطب ولم تكن نار يقال: (لم يحرق الثّوب لعدم النّار) ولا يصحّ أن يقال: (لم يحرق للرطوبة). وفي ما نحن فيه كذلك، فإنّ عدم السّكون لا بدّ وأن يعلّل بعدم تماميّة مقتضيه - أعني: قدرة مريد السّكون - ولا يصحّ أن يعلّل بوجودالمانع - أعني: حركة الجسم - .

فبهذا كلّه تحقّق أنّ عدم السّكون مستند إلى عدم المقتضي والحركة مستندة إلى عدم السّكون فلا دور {غير سديد} خبر لقوله: «ما قيل في التفصّي»

ص: 199

فإنّه وإن كان قد ارتفع به الدور، إلّا أنّ غائلة لزوم توقّف الشّيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه على حالها؛ لاستحالة أن يكون الشّيءُ الصالحُ لأن يكون موقوفاً عليه الشّيء، موقوفاً عليه؛ ضرورةَ أنّه لو كان في مرتبة يصلح لأن يُستند عليه لمّا كاد يصحّ أن يستند فعلاً إليه.

___________________________________________

{فإنّه وإن كان قد ارتفع به} أي: بهذا التفصّي {الدور} إذ ثبت أنّ توقّف وجود الضدّ على عدم الآخر فعلي وتوقّف عدم الآخر على وجود الضدّ شأني {إلّا أنّ غائلة لزوم توقّف الشّيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه على حالها} فإنّ عدم الصّلاة ولو لم يتوقّف فعلاً على إزالة النّجاسة لكن يصلح عدم الصلاة أن يتوقّف عليها باعتراف المتفصّي، إذ هو يسلم بأنّه لو كان للصّلاة مقتضٍ كان عدمها متوقّفاً على المانع - أي: الإزالة - والشّيء كما لا يمكن أن يكون متوقّفاً على أمر يتوقّف ذلك الأمر على ذلك الشّيء كذلك لا يمكن أن يكون متوقّفاً على أمر يصحّ أن يتوقّف ذلك الأمر على ذلك الشّيء.

وقد أشار المصنّف إلى ما ذكرناه من علّة بقاء الغائلة بقوله(1):{لاستحالة أن يكون الشّيء الصالح لأن يكون موقوفاً عليه الشّيء} «الشّيء» الثّاني اسم ل- «يكون» الثّاني، وموقوفاً خبره{موقوفاً عليه} خبر «يكون» الأوّل.

مثلاً: الإزالة الصالحة لأن يتوقّف عليها عدم الصلاة يستحيل أن تكون متوقّفة على عدم الصلاة {ضرورة أنّه لو كان في مرتبة يصلح لأن يستند عليه لما كاد يصحّ أن يستند فعلاً إليه} هذا برهان للاستحالة.

مثلاً: لو كانت الإزالة في مرتبة متقدّمة على عدم الصلاة حتّى تصلح لاستناد عدم الصلاة عليها يستحيل أن تستند هذه الإزالة المتقدّمة رتبة على عدم الصلاة فعلاً.

ص: 200


1- للقائل أن يتمثّل بقوله: «سبوح لها منها عليها شواهد». وقوله: «وما مثله في النّاس» البيت.

والمنعُ عن صلوحه لذلك بدعوى: أنّ قضيّة كون العدم مستنداً إلى وجود الضدّ - لو كان مجتمعاً مع وجود المقتضي - وإن كانت صادقة، إلّا أنّ صدقها لا يقتضي كون الضدّ صالحاً لذلك؛ لعدم اقتضاء صدق الشّرطيّة صدق طرفيها.

___________________________________________

والحاصل: أنّ الإزالة المتقدّمة شأناً لا تكون متأخّرة فعلاً.

وبعبارة أوضح: بعد الاعتراف بكون عدم الصلاة صالحاً لذي المقدّميّة لا يمكن بأن يقال: عدم الصلاة مقدّمة فعلاً، فإنّه يلزم أن يكون شيء واحد رتبة متقدّماً ومتأخّراً رتبة، وهذا بديهي الاستحالة.

{والمنع عن صلوحه لذلك} هذا إشكال على قوله: «إلّا أنّ غائلة» الخ، وحاصله منع لزوم أن يكون شيء واحد متقدّماً تارة ومتأخّراً أُخرى، فإنّا نمنع صلاحيّة عدم الصلاة لذي المقدّمة {بدعوى أنّ قضيّة كون العدم} للصلاة {مستنداً إلى وجود الضدّ} أعني: الإزالة {لو كان مجتمعاً} هذا العدم {مع وجود المقتضي} للصلاة. و«لو» وصليّة {وإن كانت صادقة} متعلّق بقوله: «قضيّة»{إلّا أنّ صدقها} في نفسها {لا يقتضي كون الضدّ} أعني: الإزالة {صالحاً لذلك} أي: لأن يستند إليه عدم الصلاة {لعدم اقتضاء صدق} القضيّة {الشّرطيّة صدق طرفيها} المقدّم والتالي.

توضيح الإشكال هو: أنّا نمنع أن يكون عدم الصلاة صالحاً لأن يكون ذا المقدّمة للإزالة، إذ أنّ القضيّة الشّرطيّة المذكورة - أعني: لو كان المقتضي لوجود الصلاة موجوداً لكان عدمها مستنداً إلى الإزالة - ولو كانت صادقة. ولكن صدق القضيّة الشّرطيّة لا يستلزم صدق المقدّم والتالي، فإنّه يصحّ أن يقال للحجر: لو كان هذا إنساناً لكان ناطقاً، مع أنّ المقدّم وهو الإنسانيّة وكذا التالي منتفيان. ففي ما نحن فيه كذلك إذ الشّرطيّة المذكورة، وهي: «لو كان المقتضي» الخ لا تستلزم صدق المقدّم والتالي، أعني: وجود المقتضي والصلاحيّة لأن يكون عدم الصلاة ذا المقدّمة.

ص: 201

مساوقٌ لمنع مانعيّة الضدّ، وهو يوجب رفع التوقّف رأساً من البين؛ ضرورةَ أنّه لا منشأ لتوهّم توقّف أحد الضدّين على عدم الآخر إلّا توهّم مانعيّة الضدّ - كما أشرنا إليه - وصلوحه لها.

___________________________________________

ومن هذا البيان ظهر توقّف الإزالة فعلاً على عدم الصلاة، وأمّا صلاحيّة توقّف عدم الصلاة على الإزالة فلم يثبت، فلا دور ولا غائلته {مساوق لمنع مانعيّة الضدّ} خبر لقوله: «والمنع عن صلوحه» وجواب عنه.

بيان ذلك: أنّ ما ذكره المستشكل من عدم توقّف صدق القضيّة الشّرطيّة على صدق المقدّم والتالي صحيح، إلّا أنّا نقول في شرطيّتنا المذكورة خصوصيّة تقتضي تلك الخصوصيّة صدق تاليها، إذ لو لم تكن الإزالة مانعة عن الصلاة - حتّى يكونعدم الصلاة مستنداً إلى الإزالة - في صورة تحقّق مقتضى الصلاة يلزم أن لا يكون الضدّ مانعاً، وإذا لم يكن الضدّ مانعاً لم يكن وجه للقول بأنّ الإزالة متوقّفة على عدم الصلاة، فلا يكون توقّف لا من طرف الوجود ولا من طرف العدم، وهذا خلف؛ لأنّ المفروض توقّف الإزالة على عدم الصلاة.

والحاصل: أنّ القول بعدم استناد عدم الصلاة إلى الإزالة في صورة وجود مقتضي الصلاة مساوٍ لمنع مانعيّة الضدّ من الطرفين {وهو} أي: هذا المنع {يوجب رفع التوقّف رأساً من البين} فلا يكون للإزالة توقّف على عدم الصلاة ولا لعدم الصلاة توقّف على الإزالة {ضرورة أنّه لا منشأ لتوهّم توقّف أحد الضدّين على عدم الآخر} كتوقّف الإزالة على عدم الصلاة {إلّا توهّم مانعيّة الضدّ} كمانعيّة الصلاة عن الإزالة {كما أشرنا} سابقاً {إليه} أي: إلى أنّه لا منشأ لتوهّم ذلك {وصلوحه لها} عطف على المستثنى، أي: إلّا توهّم صلاحيّة الضدّ للمانعيّة.

وكان من اللّازم إلحاق هذه العبارة: «وإذا لم يكن الضدّ مانعاً - بأن لم تكن الإزالة مانعة في صورة وجود المقتضي للصلاة - فلا وجه للتوقّف أصلاً، فلا توقّف

ص: 202

___________________________________________

للإزالة على عدم الصلاة».

ثمّ إنّ هذا الجواب - أعني: قوله: «مساوق» الخ - مبنيّ على تسليم الرّبط في القضيّة الشّرطيّة القائلة: بأنّه لو كان وجود المقتضي لأحد الضدّين ثابتاً لكان وجود الضدّ الآخر مانعاً عنه، ولكنّا(1) نمنع صدق هذه القضيّة؛ لأنّ المعلّق علىالشّرط في هذه القضيّة إن كان هو التأثير الفعلي، فاللّازم منه بقاء الاستحالة، وإن كان المعلّق على الشّرط أصل الصلاحيّة، ففيه أنّ الشّرط الّذي هو المقتضي يقتضي وجود مقتضاه، فكيف يقتضي استناد عدم مقتضاه إلى وجود ضدّ هذا المقتضي.

مثلاً: وجود المقتضي للصلاة - أعني: الإرادة - يقتضي وجود الصلاة لا أنّه يقتضي استناد عدم الصلاة إلى وجود ضدّها - أعني: الإزالة - فتأمّل.

وإلى هذا الجواب الثّاني أشار المصنّف(رحمة الله) في تعليقة له على قوله: «مساوق لمنع» الخ نذكرها مع شرح مختصر: «مع أنّ حديث عدم اقتضاء صدق الشّرطيّة لصدق طرفيها» الّذي ذكره المستشكل «وإن كان صحيحاً» في نفسه «إلّا أنّ الشّرطيّة هاهنا غير صحيحة» لخصوصيّة اقتضاها المقام «فإنّ وجود المقتضي للضدّ» كالإرادة المقتضية للصلاة: «لا يستلزم بوجه» من الوجوه «استناد عدمه إلى ضدّه» أي: استناد عدم الصلاة مثلاً إلى الإزالة «ولا يكون الاستناد» أي: استناد عدمه إلى ضدّه «مترتّباً على وجوده» أي: على وجود المقتضي بالكسر «ضرورة أنّ المقتضي» للصلاة، كالإرادة «لا يكاد يقتضي وجود ما يمنع عمّا يقتضيه أصلاً»

ص: 203


1- توضيح هذا الجواب مذكور في حاشية القوچاني على قوله: «مساوق لمنع»، وفي حاشية المشكيني(رحمة الله) على قوله: «والمنع عن صلوحه»، وفي حاشية الرّشتي على قوله: «والمنع عن صلوحه»، فمن أراد الزيادة على ما ذكرنا فليرجع إليها. تعليقة القوچاني على كفاية الأصول 1: 320؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 22؛ شرح كفاية الأصول 1: 179.

إن قلت: التمانع بين الضدّين كالنار على المنار، بل كالشمس في رابعة النّهار،

___________________________________________

فالإرادة للصلاة لا تقتضي وجود الإزالة المانعة عن الصلاة «كما لا يخفى» لأنّه مستلزم لاقتضاء المقتضي وجود مقتضاه وعدمه وهو محال، فتأمّل.«فليكن المقتضي لاستناد عدم الضد» كعدم الصلاة «إلى وجود ضدّه» كالإزالة «فعلاً عند ثبوت مقتضي وجوده» أي: عند ثبوت الإرادة المقتضية لوجود الصلاة «هو الخصوصيّة الّتي فيه» أي: في الضدّ الّذي هو الإزالة.

والحاصل: أنّ المانع عن الصلاة هو الخصوصيّة الموجودة في الإزالة وليس المانع عنها وجود المقتضي للصلاة الّذي هو الإزالة «الموجبة» تلك الخصوصيّة التي في الإزالة «للمنع عن اقتضاء مقتضية» أي: عن اقتضاء مقتضى الصلاة الّذي هو الإرادة «كما هو الحال في كلّ مانع» حيث إنّ خصوصيّة المانع يمنع عن الممنوع لا مقتضى وجود الممنوع «وليست في الضدّ» الّذي هو الصلاة «تلك الخصوصيّة» المانعة «كيف؟ وقد عرفت أنّه لا يكاد يكون مانعاً إلّا على وجه دائر.

نعم، إنّما المانع عن الضدّ» كالصلاة «هو العلّة التامّة لضدّه» كالإرادة «لاقتضائها ما يعانده وينافيه» أي: اقتضاء علّة الإزالة ما يعاند الصلاة «فيكون عدمه» أي: عدم الصلاة «كوجود ضدّه» أي: كوجود الإزالة «مستنداً إليها» إلى تلك العلّة «فافهم»(1)

يمكن أن يكون إشارة إلى ما ذكره المشكيني(رحمة الله) من الإشكال على هذه التعليقة في حاشية قوله: «والمنع عن صلوحه» الخ(2).

{إن قلت}: إنّ لنا مقدّمتين واضحتين، وهاتان المقدّمتان تنتجان توقّف المأمور به على ترك ضدّه، فالأولى وهو {التمانع بين الضدّين} في الوضوح {كالنار على المنار، بل كالشمس في رابعة النّهار} فإنّه كلّما تحقّق أحد الضدّين لم يكن مجال

ص: 204


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 24.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 26.

وكذا كون عدم المانع ممّا يتوقّف عليه، ممّا لا يقبل الإنكار، فليسما ذكر إلّا شبهة في مقابل البديهة.

قلت: التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، إلّا أنّه لا يقتضي إلّا امتناع الاجتماع، وعدمَ وجود أحدهما إلّا مع عدم الآخر الّذي هو بديلُ وجودِهِ المعاند له، فيكون في مرتبته، لا مقدّماً عليه ولو طبعاً.

___________________________________________

للآخر {وكذا} المقدّمة الثّانية، أعني: {كون عدم المانع ممّا يتوقّف عليه} المأمور به {ممّا لا يقبل الإنكار} فهاتان المقدّمتان تثبتان مطلوب الخصم، أي: إنّ ترك الضدّ من مقدّمات المأمور به، وإذا ثبت مقدّميّته ثبت وجوبه؛ لأنّ مقدّمة الواجب واجبة {فليس ما ذكر} من لزوم الدور، وتوقّف الشّيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه {إلّا شبهة في مقابل البديهة} ولا اعتناء بهذا النّحو من الشّبهة وإن عجز الشّخص عن جوابها.

{قلت}: لا نسلّم كليّة المقدّمة الثّانية، فإنّ عدم المانع يكون من مقدّمات المأمور به في ما لو كان متقدّماً على المأمور به، أمّا لو كان في عرض المأمور به فلا. بيان ذلك: أنّ {التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع} بين الضدّين {ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه} فكلّ واحد من الوجودين مانع عن الآخر {إلّا أنّه} أي: هذا التمانع {لا يقتضي إلّا امتناع الاجتماع و} إلّا {عدم وجود أحدهما إلّا مع عدم الآخر الّذي هو بديل وجوده المعاند له} صفة لوجوده {فيكون} الضدّ المانع {في مرتبته} أي: مرتبة الضدّ المأمور به {لا مقدّماً عليه ولوطبعاً}.

التقدّم على خمسة أقسام، والتقدّم الطبعي في مصطلح أهل المعقول هو تقدّم جزء العلّة على المعلول، أمّا تقدّم نفس العلّة فيسمّى التقدّم بالعليّة، يظهر ذلك لمن راجع شرح التجريد(1) ونحوه، فقوله: «ولو طبعاً» يعني أنّه لا يتقدّم بالعلّية ولا بالطبع.

ص: 205


1- كشف المراد: 57.

والمانع الّذي يكون موقوفاً عليه الوجود هو ما كان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره، لا ما يعاند الشّيء ويزاحمه في وجوده.

نعم، العلّة التامّة لأحد الضدّين ربّما تكون مانعاً عن الآخر، ومزاحماً لمقتضيه في تأثيره، مثلاً:

___________________________________________

{والمانع الّذي يكون موقوفاً عليه الوجود} أي: يكون وجود المأمور به موقوفاً على عدمه بحيث يكون عدمه مقدّمة {هو ما كان ينافي ويزاحم المقتضي} بالكسر {في تأثيره} بأن كان منافياً لعلّة الشّيء، فلعدمه دخل في قابليّة المقتضي للتأثير {لا ما يعاند الشّيء ويزاحمه في وجوده} أي: يزاحم وجود المقتضى بالفتح.

وبعبارة أوضح: عدم المانع الّذي هو مقدّمة في عرض المانع، إذ عدم كلّ شيء في عرض وجوده، فمقتضى كون عدم المانع مقدّماً أن يكون المانع أيضاً مقدّماً، ومعنى تقدّمه أن يكون في عرض المقتضي - بالكسر - لا أن يكون في عرض المقتضى - بالفتح - ، والفارق بين المانع والضدّ أنّ المانع لعدمه دخل في فاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل والضدّ ليس كذلك.والحاصل: أنّ عدم الضدّ ليس مقدّماً في الرّتبة، إذ الضدّ عبارة عن الصلاة في زمان الإزالة وعدم هذه الصلاة عدم المانع، أمّا الصلاة قبل زمان الإزالة، فليست مانعاً حتّى يكون عدمها عدم المانع، فما هو ضدّ عدمه مقارن فليس مقدّمة، وما يمكن أن يكون مقدّمة ليس ضدّاً.

{نعم} إذا كان مانع في رتبة المقتضي صحّ أن يعدّ عدمه من المقدّمات، مثلاً: {العلّة التامّة لأحد الضدّين ربّما تكون مانعاً عن} الضدّ {الآخر ومزاحماً لمقتضيه} بالكسر {في تأثيره} فتمنع العلّة التامّة لهذا الضدّ عن تأثير مقتضى الضدّ الآخر، وحينئذٍ يكون عدم هذه العلّة التامّة من مقدّمات الضدّ الآخر {مثلاً} إذا كان لشخص أخ و ولد وكان شفيقاً عليهما بحيث لو غرق كلّ واحد منهما أنقذه، ولكن

ص: 206

يكون شدّة الشّفقة على الولد الغريق وكثرة المحبّة له، تمنع عن أن يؤثّر ما في الأخ الغريق من المحبّة والشّفقة، لإرادة إنقاذه مع المزاحمة، فينقذ الولد دونه، فتأمّل جيّداً.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّه لا فرق بين الضدّ الموجود والمعدوم، في أنّ عدمه - الملائم للشيء المناقض

___________________________________________

كان شفقته على الولد أكثر ثمّ غرقا معاً، فحينئذٍ {يكون شدّة الشّفقة على الولد الغريق وكثرة المحبّة له تمنع عن أن يؤثّر ما في الأخ الغريق من المحبّة والشّفقة} بيان «ما» {لإرادة إنقاذه} متعلّق ب-«المحبّة والشّفقة» {مع المزاحمة} متعلّق ب- «يؤثّر» يعني محبّة الولد تمنع عن تأثير محبّة الأخ في صورة التزاحم بينهما {فينقذ الولد دونه} فإنّ إنقاذ الأخ وإنقاذ الولد ضدّان والعلّة فيهما المحبّة، وهنا تمنع العلّة التامّة لإنقاذالولد عن تأثير المحبّة المقتضية لإنقاذ الأخ، فيكون عدم محبّة الولد من مقدّمات إنقاذ الأخ، إذ المانع وهو محبّة الولد في رتبة المقتضي لإنقاذ الأخ، فعدم هذا النّحو من المانع من المقدّمات {فتأمّل جيّداً} حتّى تعرف الفرق بين عدم هذا النّحو من المانع الّذي يصحّ عدّه من المقدّمات وبين عدم مانع يكون في رتبة الضدّ الّذي لا يصحّ عدّه من المقدّمات.

{وممّا ذكرنا} من أنّ عدم الضدّ ليس من مقدّمات الضدّ الآخر {ظهر} حال الأقوال الأربعة الأُخر:

الأوّل: توقّف الفعل على الترك فقط.

الثّاني: توقّف الترك على فعل الضدّ.

الثّالث: التوقّف من الجانبين.

الرّابع: التفصيل الّذي أشار إليه المصنّف بقوله: {إنّه لا فرق بين الضدّ الموجود والمعدوم في أنّ عدمه} أي: عدم الضدّ الأوّل، والجار يتعلّق بقوله: «لا فرق» {الملائم} هذا العدم {للشيء} الّذي هو الضدّ الآخر {المناقض} ذلك العدم

ص: 207

لوجوده المعاند لذاك - لا بدّ أن يجامع معه من غير مقتضٍ لسبقه، بل قد عرفت ما يقتضي عدم سبقه.

فانقدح بذلك ما في تفصيل بعض الأعلام(1)، حيث قال بالتوقّف على رفع الضدّ الموجود، وعدمِ التوقّف على عدم الضدّ المعدوم،

___________________________________________

{لوجوده} أي: لوجود الضدّ الأوّل {المعاند} هذا الوجود الضدّ الأوّل {لذاك} الّذي هو الضدّ الآخر {لا بدّ أن يجامع} هذاالعدم {معه} أي: مع الشّيء الّذي هو الضدّ الآخر {من غير مقتض لسبقه} أي: سبق هذا العدم على وجود الضدّ الآخر - كما عرفت عدم الاقتضاء - حيث قلنا: «لأنّ المعاندة» الخ.

{بل قد عرفت ما يقتضي عدم سبقه} حيث قلنا: «كيف ولو اقتضى» الخ.

توضيح العبارة بالمثال: عدم البياض الملائم هذا العدم للسواد المناقض هذا العدم لوجود البياض المعاند وجود البياض للسواد لا بدّ أن يجامع عدم البياض مع السّواد وليس سابقاً على السّواد، وقوله: «لا بدّ أن يجامع» خبر لقوله: «في أنّ عدمه».

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من عدم الفرق {ما في تفصيل بعض الأعلام} وهو المحقّق الخوانساري(رحمة الله) على ما يحكى عنه {حيث قال بالتوقّف} أي: توقّف الضدّ {على رفع الضدّ الموجود} فرفع الضدّ الموجود مقدّمة لوجود الضدّ الآخر {وعدم التوقّف على عدم الضدّ المعدوم} فعدم الضدّ المعدوم ليس مقدّمة لوجود الضدّ الآخر.

وقد يقرّر هذا التفصيل بأنّ المحلّ، كالكاغذ، إذا حلّ فيه أحد الضدّين، كالسواد، فلا يكون قابلاً لحلول الضدّ الآخر، كالبياض، إلّا بعد ارتفاع السّواد، فعلى هذا يكون من مقدّمات وجود البياض عدم الضدّ الموجود الّذي هو السّواد، بخلاف ما إذا لم يكن واحد منهما موجوداً، بأن كان المحلّ بغير لون، فإنّ

ص: 208


1- مطارح الأنظار 1: 524؛ نقلاً عن الخوانساري في الرسائل: 149.

فتأمّل في أطراف ما ذكرناه، فإنّه دقيق، وبذلك حقيق.

فقد ظهر عدمُ حرمة الضدّ من جهة المقدّميّة.

وأمّا من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود فيالحكم،

___________________________________________

حلول البياض لا يتوقّف على عدم السّواد حينئذٍ.

والجواب عن هذا التفصيل ما تبيّن سابقاً من أنّ: ضدّ البياض هو السّواد في حال البياض وعدم السّواد ليس مقدّمة للبياض، بل عدمه في عرض البياض ومقارن له. وقد تقدّم أنّ المقارن لا يعقل أن يكون مقدّمة. نعم، المقدّمة للبياض هو عدم السّواد السّابق لكن السّواد السّابق ليس ضدّاً للبياض اللّاحق.

والحاصل: أنّ عدم السّواد المقارن - وإن كان ضدّاً - لكنّه ليس بمقدّمة، وعدم السّواد السّابق - وإن كان مقدّمة - لكنّه ليس بضدّ.

ومن هذا كلّه تبيّن أنّ الضدّ سواء كان موجوداً أو معدوماً ليس عدمه مقدّمة للضدّ الآخر {فتأمّل في أطراف ما ذكرناه فإنّه دقيق، وبذلك} التأمّل {حقيق}.

{فقد ظهر} لك {عدم حرمة الضدّ من جهة المقدّميّة} كما أشرنا إليه في الأمر الأوّل حيث قلنا: أو المقدّميّة على ما سيظهر.

{وأمّا} القول بوجوب ترك الضدّ {من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود} متعلّق ب-«المتلازمين» {في الحكم} متعلّق بال-«اختلاف»، فتوضيحه: أنّا لو سلّمنا أنّ عدم الضدّ ليس مقدّمة فلا يكون واجباً بالوجوب المقدّمي، فلا أقلّ من أنّ عدم الضدّ ملازم لوجود الضدّ الآخر الواجب، وملازم الواجب واجب.

مثلاً: عدم الصلاة في المسجد ملازم للإزالة، وحيث كانت الإزالة واجبة، فعدم الصلاة أيضاً واجب فيكون فعل الصلاة حراماً.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه لو تمّ اقتضى وجوب ترك الضدّ بالوجوب النّفسيوأمّا الوجه الأوّل فقد كان مقتضاه الوجوب الغيري.

ص: 209

فغايته أن لا يكون أحدهما فعلاً محكوماً بغير ما حكم الآخر به، لا أن يكون محكوماً بحكمه.

وعدم خلوّ الواقعة عن الحكم، فهو إنّما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي، فلا حرمة للضدّ من هذه الجهة أيضاً،

___________________________________________

والجواب عن هذا الدليل: منع الكبرى إذ الدليل كان مؤلّفاً من صغرى هي «عدم الضدّ ملازم لوجود الضدّ الآخر» ومن كبرى هي «ملازم الواجب واجب» وجه المنع ما أشار إليه المصنّف(رحمة الله) بقوله: {فغايته} أي: غاية لزوم عدم اختلاف المتلازمين {أن لا يكون أحدهما فعلاً} في الظاهر {محكوماً بغير ما حكم} الملازم {الآخر به} فلا يمكن أن تكون الإزالة واجبة وعدم الصلاة حراماً، إذ التلازم يقتضي عدم اختلاف الحكمين، و{لا} يقتضي التلازم {أن يكون} الملازم الآخر {محكوماً بحكمه} بأن يكون عدم الصلاة واجباً كالإزالة.

{و} إن قلت: عدم الصلاة لا يخلو عن ثلاثة أحوال: الأوّل: الوجوب، فيثبت المطلوب. الثّاني: غير الوجوب من سائر الأحكام، فيلزم اختلاف المتلازمين في الحكم وهو باطل. الثّالث: أن لا يكون له حكم أصلاً، وهذا غير صحيح؛ لأنّه يلزم خلوّ الواقعة عن الحكم.

قلت: نلتزم بالثّالث ونقول بخلوّ الحكم لعدم الصلاة، و{عدم خلوّ الواقعة عن الحكم فهو} غير ضارّ؛ لأنّه {إنّما يكون} مستحيلاً {بحسب الحكم الواقعي} فلكلّ واقعة حكم واقعيّ لا محالة على مذهب الخاصّة خلافاً للعامّة، و{لا} يكون خلوّ الواقعة عن الحكم الظاهري {الفعلي} بمستحيل، فعدم الصلاة ولو كان حكمهالواقعي الحرمة ولكن حيث صار ملازماً للإزالة الواجبة لا حكم لها فعلاً، وحيث لا وجوب لعدم الصلاة {فلا حرمة للضدّ} الّذي هو الصلاة {من هذه الجهة} أي: من جهة التلازم {أيضاً} كما لم تكن للصلاة الحرمة من جهة

ص: 210

بل على ما هو عليه - لولا الابتلاءُ بالمضادّة للواجب الفعلي - من الحكم الواقعي.

الأمر الثّالث: أنّه قيل بدلالة الأمر بالشيء بالتضمّن على النّهي عن الضدّ العام - بمعنى الترك - ، حيث إنّه يدلّ على الوجوب المركّب من طلب الفعل والمنع عن الترك.

والتحقيق: أنّه لا يكون الوجوب إلّا طلباً بسيطاً، ومرتبةً وحيدةً أكيدةً من الطلب، لا مركّباً من طلبين. نعم، في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها ربّما يقال: «الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترك»(1)

___________________________________________

المقدّميّة {بل} الضدّ الّذي هو الصلاة {على ما هو عليه} في الواقع {لولا الابتلاء بالمضادّة للواجب الفعلي} أعني: الإزالة {من الحكم الواقعي} بيان «ما هو عليه»، فالصلاة محبوبة واقعاً لكنّه لا يبعث المولى نحوها لأشدّيّة محبوبيّة الإزالة الّتي بعث المولى نحوها، وعلى هذا فلا حكم للصلاة فعلاً وإن كانت محكومة بالوجوب في الواقع.

{الأمر الثّالث: أنّه قيل بدلالة الأمر بالشيء بالتضمّن} أي:بالدلالة التّضمّنيّة {على النّهي عن الضدّ العام} الّذي هو {بمعنى الترك} واستدلّوا على ذلك بقولهم: {حيث إنّه} أي: الأمر {يدلّ على الوجوب المركّب من طلب الفعل والمنع عن الترك} فالمنع عن الترك جزء معنى الأمر.

{والتحقيق} بطلان هذا القول، حيث {إنّه لا يكون الوجوب} الّذي هو مدلول الأمر {إلّا طلباً بسيطاً ومرتبة وحيدة أكيدة من الطلب} و{لا} يكون {مركّباً من طلبين} طلب الفعل وطلب المنع من الترك، فالوجوب للطلب الأكيد والاستحباب للطلب الضعيف.

{نعم، في مقام تحديد تلك المرتبة} الأكيدة من الطلب {وتعيينها ربّما} يعرف باللّازم، و{يقال: «الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترك»} مقابل

ص: 211


1- معالم الدين: 64.

ويتخيّل منه أنّه يذكر له حدّاً.

فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوّماته، بل من خواصّه ولوازمه، بمعنى: أنّه لو التفت الأمر إلى الترك لما كان راضياً به لا محالة، وكان يبغضه البتّة.

ومن هنا انقدح: أنّه لا وجه لدعوى العينيّة؛ ضرورة أنّ اللزوم يقتضي الاثنينيّة لا الاتحاد والعينيّة.

نعم، لا بأس بها، بأن يكون المراد بها أنّه يكون هناك طلب واحد، وهو كما يكون حقيقة منسوباً إلى الوجود وبعثاً إليه،

___________________________________________

الاستحباب الّذي لازمه طلب الفعل مع جواز الترك {ويتخيّل منه أنّه يذكر له حدّاً} مركّباً من الجنس والفصل. ونائب فاعل «يذكر» الضمير الرّاجع إلىالتعريف المفهوم من الكلام، كما أنّ ضمير «أنّه» راجع إليه و«حداً» حال {فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوّماته} وإلّا كان قائماً بالوجود والعدم {بل من خواصّه ولوازمه} ثمّ فسّر كونه من الخواصّ بقوله: {بمعنى أنّه لو التفت الأمر إلى الترك لما كان راضياً به لا محالة وكان يبغضه البتّة} وهذا يكشف عن عدم الرّضا.

{ومن هنا} أي: ممّا ذكرنا من أنّ الوجوب بسيط ولازمه المنع من الترك {انقدح أنّه لا وجه لدعوى العينيّة} أي: كون الأمر بالشّيء عين النّهي عن ضدّه، ثمّ بيّن وجه الانقداح بقوله: {ضرورة أنّ اللزوم} أي لزوم الأمر بالشّيء للمنع عن الترك {يقتضي الاثنينيّة لا الاتّحاد والعينيّة}.

والحاصل: أنّ المنع من الترك لازم معنى الوجوب والمتلازمان لا بدّ وأن يكونا اثنين، إذ لا يعقل أن يكون الشّيء لازم نفسه.

{نعم، لا بأس بها} أي: بالعينيّة {بأن يكون المراد بها أنّه يكون هناك طلب واحد} نحو (أزل النّجاسة) {وهو كما يكون حقيقة منسوباً إلى الوجود وبعثاً إليه}

ص: 212

كذلك يصحّ أن ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز، ويكون زجراً وردعاً عنه، فافهم.

الأمر الرّابع: تظهر الثّمرة في أنّ نتيجة المسألة - وهي النّهي عن الضدّ، بناءً على الاقتضاء - بضميمة أنّ النّهي في العبادات يقتضي الفساد، يُنتج فساده إذا كان عبادة.وعن البهائي(رحمة الله)(1) أنّه أنكر الثّمرة، بدعوى أنّه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النّهي عن الضدّ، بل يكفي عدم الأمر به؛ لاحتياج العبادة إلى الأمر.

___________________________________________

فإنّ حقيقة طلب الفعل الّذي هو الإزالة {كذلك يصحّ أن ينسب} هذا الطلب {إلى الترك} فيكون معنى (أزل): لا تترك الإزالة {بالعرض والمجاز ويكون زجراً وردعاً عنه} ولكن هذا النّحو من العينيّة لا يفيد المستدلّ {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ المراد من العينيّة المصداقيّة ولا مانع منها.

{الأمر الرّابع: تظهر الثّمرة في أنّ نتيجة} هذه {المسألة - وهي النّهي عن الضدّ - بناءً على الاقتضاء} تجعل صغرى، و{بضميمة} كبرى مسلّمة وهي: {أنّ النّهي في العبادات يقتضي الفساد ينتج فساده} أي: فساد الضدّ {إذا كان عبادة} فيقال: الصلاة عبادة منهيّ عنها، لاقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن الضدّ، وكلّ عبادة منهي عنها فاسدة، فالصلاة فاسدة. وهذا بخلاف ما لو لم نقل بالاقتضاء، فالصلاة صحيحة.

{وعن} الشّيخ {البهائي(رحمة الله) أنّه أنكر} هذه {الثّمرة، بدعوى أنّه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النّهي عن الضدّ} فبطلان العبادة لا يتوقّف على القول بالاقتضاء بل العبادة فاسده ولو قلنا بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن الضدّ {بل يكفي} في الفساد {عدم الأمر به} أي: بالضدّ {لاحتياج العبادة إلى الأمر} والأمر بالنسبة إلى الصلاةلفرض وجود الأمر بضدّها - أعني: الإزالة - ولا يمكن أن يأمر بالصلاة في عرض الأمر بالإزالة.

ص: 213


1- زبدة الأصول: 118.

وفيه: أنّه يكفي مجرّد الرّجحان والمحبوبيّة للمولى، فإنّه يصحّ منه أن يتقرّب به منه، كما لا يخفى. والضدّ - بناءً على عدم حرمته - يكون كذلك؛ فإنّ المزاحمة - على هذا - لا توجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلّق به فعلاً، مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه

___________________________________________

{وفيه أنّه} لا يلزم وجود الأمر في صحّة العبادة، بل {يكفي مجرّد الرّجحان والمحبوبيّة للمولى} فلو لم يكن الأمر مقتضياً للنهي عن الضدّ كان للصلاة محبوبيّتها الذاتيّة، وهذه المحبوبيّة كافية في صحّتها {فإنّه يصحّ منه} أي: من العبد {أن يتقرّب به} أي: بهذا الضدّ كالصلاة {منه} أي: من المولى {كما لا يخفى} وسيأتي دليله في محلّه.

وهذا بخلاف ما لو قلنا بأنّ الأمر يقتضي النّهي عن ضدّه، إذ الصلاة حينئذٍ منهيّ عنها فتقع باطلة.

نعم، على قول من يقول بلزوم الأمر في صحّة العبادة كان ما ذكره الشّيخ البهائي(رحمة الله) تماماً، لكن المصنّف(رحمة الله) لم يرتض هذا القول بل بناؤه على كفاية المحبوبيّة في صحّة العبادة {والضدّ} كالصلاة - {بناءً على عدم حرمته - يكون كذلك} محبوباً غير مأمور به فيصحّ.

إن قلت: إذا ارتفع الأمر عن الصلاة فأنّى لكم بإثبات بقاء المحبوبيّة حتّى يحكم بصحّتها لبقاء المحبوبيّة؟قلت: إنّما ارتفع الأمر بسبب المزاحمة، والمزاحمة لا تقتضي ارتفاع المحبوبيّة {فإنّ المزاحمة على هذا} القول - أي: عدم اقتضاء الأمر النّهي عن الضدّ - {لا توجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلّق به} أي: بالضدّ كالصلاة {فعلاً} أي: ارتفاع الحكم الفعلي {مع بقائه} أي: الضدّ {على ما هو عليه من ملاكه} لعدم التضاد بين ملاكي الوجوب في الضدّين حتّى يرتفع ملاك الصلاة بسبب ملاك

ص: 214

من المصلحة - كما هو مذهب العدليّة - أو غيرها، أيّ شيء كان - كما هو مذهب الأشاعرة - ، وعدمِ حدوث ما يوجب مبغوضيّته وخروجَه عن قابليّة التقرّب به، كما حدث بناءً على الاقتضاء.

ثمّ إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل(1) لتصحيح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب

___________________________________________

الإزالة أو أمرها {من المصلحة} بيان الملاك {كما هو مذهب العدليّة} من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعيّة {أو غيرها} عطف على «المصلحة» {أيّ شيء كان} ذلك الغير {كما هو مذهب الأشاعرة} النّافين للمصالح والمفاسد.

والحاصل: أنّه بعد سقوط الأمر يبقى الملاك، سواء كان الملاك المصلحة والمفسدة، كما يقوله العدليّة أو كان غيرها، كما يقوله الأشاعرة، وهذا الملاك يكفي في صحّة العبادة.

{وعدم حدوث} عطف بيان لقوله: «بقائه على ما هو عليه» الخ، أي: إنّ الضدّ باق على ما هو عليه من الملاك، ولم يحدث فيه {ما يوجبمبغوضيّته، و} يوجب {خروجه عن قابليّة التقرّب به، كما حدث} ما يوجب مبغوضيّته {بناءً على} القول ب- {الاقتضاء}.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّا إمّا أن نقول باقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن الضدّ، فالعبادة باطلة، وإمّا أن نقول بعدم الاقتضاء، وعلى هذا فإمّا أن نقول بعدم كفاية المحبوبيّة كما يقوله البهائي(رحمة الله)، فالعبادة باطلة أيضاً، وإمّا أن نقول بكفاية المحبوبيّة، فالعبادة صحيحة، ولكن في بقاء المحبوبيّة ثمّ في كفايتها على تقدير البقاء إشكال، فتأمّل.

[بحث الترتب]

{ثمّ إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب} ولنوضح

ص: 215


1- جامع المقاصد 5: 12؛ كشف الغطاء 1: 171؛ تقريرات المجدد الشيرازي 2: 273.

- على العصيان وعدم إطاعة الأمر بالشيء بنحو الشّرط المتأخّر، أو البناء على المعصية بنحو الشّرط المتقدّم أو المقارن - ،

___________________________________________

المطلب أوّلاً ثمّ نشرع في شرح المتن، فنقول: على القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن الضدّ، فقال جمع بعدم صحّة العبادة لعدم الأمر، وقال جمع بصحّة العبادة لكفاية المحبوبيّة، وقال جمع بوجود الأمر على نحو الترتّب، وهذا القول عن كاشف الغطاء(رحمة الله) وغيره.

مثال ذلك: أنّ المكلّف إذا دخل المسجد وقت الصلاة، فعلى تقدير أن تكون الإزالة أهمّ توجّه إليه أمر (أَزِلِ النَّجَاسَةَ) فلو ترك الإزالة واشتغل بالصلاة كانت الصلاة عند هؤلاء صحيحة مأموراً بها على نحو الترتّب، فلكلّ واحد من الضدّين - أعني: الإزالة والصلاة - أمر، ولكن أمر الإزالة مطلق، وعلى جميع التقادير بلا شرط، وأمّا أمر الصلاة مشروط ومعلّق على عصيان أمر الإزالة على نحو الشّرطالمتأخّر مثل: (إن عصيت أمر الإزالة فصلّ) أو معلّق على إرادة المعصية على نحو الشّرط المقدّم أو المقارن مثل: (إن زعمت على عصيان أمر الإزالة فصلّ) فيكون الأمر بالضدّ الّذي هو الصلاة بنحو الترتّب {على العصيان} أي: عصيان أمر الإزالة {و} على {عدم إطاعة الأمر بالشيء} وهذا عطف بيان للعصيان {بنحو الشّرط المتأخّر} متعلّق ب- «الترتّب» أي: إنّ الترتّب يكون بنحو الشّرط المتأخّر.

وقوله: {أو البناء على المعصية بنحو الشّرط المتقدّم أو المقارن} عطف على قوله: «على العصيان» أي: إنّ الأمر بالضدّ مرتّب على البناء على المعصية.

ثمّ إنّ الضدّين إمّا أن لا يكون أحدهما أهمّ من الآخر ولا كلام فيه، وإمّا أن يكون أحدهما أهمّ من الآخر كالإزالة فرضاً، وتصوير الترتّب في هذا القسم من الضدّين على ستّة أنحاء: لأنّ الأمر بالمهمّ إمّا أن يترتّب على عصيان الأهمّ بنحو

ص: 216

___________________________________________

الشّرط المتقدّم أو المقارن أو المتأخّر، وإمّا أن يترتّب على العزم على عصيان الأمر بالأهمّ بنحو الشّرط المتقدّم أو المقارن أو المتأخّر، وتفصيل ذلك:

الأوّل: أن يكون المهمّ مرتّباً على عصيان الأهمّ بنحو الشّرط المتقدّم، كأن يقول: (أزل وإن عصيت فصلّ بعده) وهذا خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ الأمر بالضدّين في زمانين، فإنّه بعد سقوط الأمر بالأهمّ يثبت الأمر بالمهمّ.

الثّاني: أن يكون مرتّباً على عصيان الأهمّ بنحو الشّرط المقارن، كأن يقول: (أزل وإن عصيت فصلّ مقارناً للعصيان) وهذا خارج عمّا نحن فيه أيضاً، كالأوّل؛ لأنّ العصيان إذا قارن الأمر بالمهمّ كان سقوط الأمر بالمهمّ الملازم للعصيانمقارناً للأمر بالمهمّ، فلا يقترن الأمران في زمان واحد.

الثّالث: أن يكون مرتّباً على عصيان الأهمّ بنحو الشّرط المتأخّر، كأن يقول: (أزل وإن عصيت بعداً فصلّ) وهذا داخل في مسألة الترتّب، وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إليه بقوله: «بنحو الترتّب على العصيان» الخ، وحيث إنّ تحقّق العصيان مؤخّر وجوداً عن زمان الصلاة، إذ بعد الصلاة يتحقّق عصيان أمر الإزالة، فلا بدّ أن يكون العصيان بالنسبة إلى الصلاة بنحو الشّرط المتأخّر، ومرجع الشّرط المتأخّر إلى التصوّر واللحاظ للشرط، كما تقدّم، فيأمر المولى بالصلاة حيث يلحظ عصيان أمر الإزالة، كما يحكم بصحّة العقد الفضولي حيث يلحظ الإجازة المتأخّرة.

الرّابع: أن يكون المهمّ مرتّباً على بناء معصية الأهمّ بنحو الشّرط المتقدّم، كأن يقول: (أزل وإن بنيت على المعصية فصلّ بعده).

الخامس: أن يكون المهمّ مرتّباً على بناء معصية الأهمّ بنحو الشّرط المقارن كأن يقول: (أزل وإن بنيت على المعصية فصلّ مقارناً للبناء) وهذان داخلان في مسألة

ص: 217

بدعوى أنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك، - أي: بأن يكون الأمر بالأهمّ مطلقاً، والأمر بغيره معلّقاً على عصيان ذاك الأمر، أو البناء والعزم عليه - ، بل هو واقعٌ كثيراً عرفاً.

___________________________________________

الترتّب، وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إليهما بقوله: «أو البناء على المعصية» الخ.

السّادس: أن يكون المهمّ مرتّباً على بناء معصية الأهمّ بنحو الشّرط المتأخّر كأن يقول: (أزل وإن بنيت على المعصية بعد فصلّ) وهذا من الترتّب وإن لم يذكره المصنّف، وهذه الصور السّتّة مختلف فيها: فبعضهم عدّ خمسة منها منالترتّب، وبعضهم أربعة، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم اثنين، فتأمّل.

وعلى كلّ حال فالقائل بصحّة الترتّب يقول بصحّة بعضها في الجملة {بدعوى أنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك، أي: بأن يكون الأمر بالأهمّ مطلقاً} بلا شرط {والأمر بغيره} أعني: المهم {معلّقاً على عصيان ذاك الأمر} بالأهمّ {أو البناء والعزم عليه} أي: على العصيان، وذلك لأنّ الوجه في امتناع الأمر بالضدّين عدم إمكان البعث نحوهما لفرض عدم إمكان اجتماعهما بخلاف ما لو قلنا بالترتّب، فإنّ أحد الضدّين - وهو المهم - مشروط بعدم الأهمّ بالعصيان أو البناء عليه، فمادام كان الأمر بالأهمّ موجوداً لم يكن هناك أمر بالمهمّ لعدم وجود شرطه، وإذا وجد شرط الأمر بالمهمّ سقط الأمر بالأهمّ بالعصيان ونحوه.

وعلى هذا فالأمر بالضدّين بهذا النّحو ممكن {بل هو واقع كثيراً عرفاً} فإنّه يأمر المولى عبده بإنقاذ ولده الغريق فإذا علم منه المعصية أو كان العبد بانياً على العصيان يقول له المولى: (إن لم تنقذ الولد فأنقذ الأخ) مع أنّه لو أنقذ الأخ صحّ منه العقوبة على عدم إنقاذ الولد، ولا يرى العرف هذا المولى آمراً بالضدّين القبيح، ولا يعدّون تعذيبه لعدم إنقاذ الولد ظلماً وعدواناً.

ص: 218

قلت: ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرضٍ واحدٍ آتٍ في طلبهما كذلك؛ فإنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما؛ إلّا أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما، بداهة فعليّة الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة، وعدمِ سقوطه بعدُ بمجرّد المعصية في ما بعد - ما لم يعص - ، أو العزم عليها، مع فعليّةالأمر بغيره أيضاً؛ لتحقّق ما هو شرط فعليّته فرضاً.

___________________________________________

{قلت: ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرض واحد آتٍ في طلبهما كذلك} أي: على نحو الترتّب، فلا فرق بين الترتّب وغيره في عدم المعقوليّة {فإنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما} إذ الأمر بالمهمّ مشروط بالعصيان أو البناء عليه فيكون متأخّراً عنهما، والعصيان متأخّر عن الأمر بالأهمّ، فيكون هناك أمر بالأهمّ ثمّ عصيانه أو إرادة عصيانه ثمّ أمر بالمهمّ {إلّا أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره} أي: المهمّ {اجتماعهما، بداهة فعليّة الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة} أي: مرتبة الأمر بالمهمّ، إذ بتنجّز الأمر بالمهمّ لا يسقط الأمر بالأهمّ عن التنجّز، فيلزم طلب الضدّين {وعدم سقوطه} أي: الأمر بالأهمّ، وهذا عطف على قوله: «فعليّة الأمر بالأهمّ» {بعد} بالقطع عن الإضافة {بمجرّد المعصية في ما بعد} على نحو الشّرط المتأخّر {ما لم يعص} حتّى يكون ساقطاً {أو العزم عليها} عطف على قوله: «المعصية». وعليه فلا يكون الأمر بالأهمّ ساقطاً، بل كان فعليّاً {مع} فرض {فعليّة الأمر بغيره} أي: المهمّ {أيضاً لتحقّق ما هو شرط فعليّته فرضاً}.

والحاصل: أنّ مجرّد تحقّق المعصية في ما بعد أو العزم على المعصية فعلاً لا يسقط الأمر بالأهم، إذ المسقط للأمر إمّا الامتثال، وإمّا المعصية، وإمّا حصول الغرض، والأمر بالأهم لم يحصل أحد الثّلاثة بالنسبة إليه، فهو باق على حاله. هذا من طرف، والأمر بالمهم موجود حسب الفرض من طرف آخر،فيجتمعان.

ص: 219

لا يقال: نعم، ولكنّه بسوء اختيار المكلّف، حيث يعصى في ما بعدُ بالاختيار، فلولاه لما كان متوجّهاً إليه إلّا الطلب بالأهمّ، ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار.

فإنّه يقال: استحالة طلب الضدّين ليست إلّا لأجل استحالة طلب المحال، واستحالةُ طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليّته لا تختصّ بحالٍ دون حالٍ،

___________________________________________

{لا يقال: نعم} نسلّم ثبوت الأمر بالضدّين في مرتبة الأمر بالمهم {ولكنّه} لا محذور فيه؛ لأنّه كان {بسوء اختيار المكلّف حيث يعصي في ما بعد بالاختيار} أو حيث عزم على المعصية {فلولاه} أي: لولا عصيانه في ما بعد أو عزمه على المعصية {لما كان متوجّهاً إليه إلّا الطلب بالأهمّ} فقط.

والحاصل: أنّ المكلّف إنّما توجّه إليه الأمر بالأهمّ فقط، وهو بسوء اختياره أوجد شرط الأمر بالمهمّ فتوجّه إليه الأمر بالمهمّ، فالمكلّف بنفسه صار سبباً لطلب الضدّين منه {ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار} وذلك مثل أنّه لو دخل الدار المغصوبة حتّى توسّطها وحينئذٍ يتوجّه إليه (لا تغصب في الخروج عن الدار، ولا تغصب في البقاء في الدار) فيكون كلّ من بقائه وخروجه محرّماً مع أنّه لا يتمكّن إلّا من أحدهما، فتحريم كليهما تحريم للضدّين اللّذين لا ثالث لهما ممّا لا يخلو المكلّف منهما على سبيل منع الخلوّ، فكما أنّ تحريم الضدّين النّاشئ من سوء الاختيار غير مستحيل كذلك طلب الضدّين النّاشئ منه.

{فإنّه يقال: استحالة طلب الضدّين ليستإلّا لأجل استحالة طلب المحال} في نفسه - سواء كان الباعث على الطلب هو العبد أو المولى - وذلك لما ذكروا من أنّ الطلب عبارة عن البعث إلى المأمور به ولا يعقل البعث نحو المحال مطلقاً {و} ذلك لأنّ {استحالة طلبه} أي: طلب المحال {من الحكيم الملتفت إلى محاليّته لا تختصّ بحال دون حال} كأن يكون طلب المحال جائزاً في ما كان بسوء

ص: 220

وإلّا لصحّ في ما علّق على أمر اختياري في عرضٍ واحدٍ، بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتّب، مع أنّه محال بلا ريب ولا إشكال.

إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرضٍ واحد والاجتماع كذلك؛ فإنّ الطلب في كلٍّ منهما في الأوّل يطارد الآخر،

___________________________________________

اختيار العبد، وممتنعاً في ما كان من المولى ابتداءً {وإلّا} فلو جاز طلب المحال في صورة سوء اختيار العبد {لصحّ} طلب المحال {في ما علّق على أمر اختياري} كأن يقول: «إذا زرت زيداً فأكرمه وأهنه في حال واحد» {في عرض واحد} بأن يكون الأمر بالضدّ الأوّل في حال الضدّ الثّاني وبالعكس {بلا حاجة في تصحيحه} أي: تصحيح طلب الضدّين {إلى الترتّب} الّذي لا يكون الضدّان في عرض واحد، بل كان المهمّ في عرض الأهمّ ولكن الأهمّ ليس في عرض المهمّ {مع أنّه} أي: طلب الضدّين معلّقاً على أمر اختياري {محال بلا ريب ولا إشكال}.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وحديث: الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، أجنبيّ عن المقام، فإنّ معناه أنّ المكلّف في صورة تنجّز التكليف عليه لو صيّره محالاً على نفسه ولو بترك مقدّمة من مقدّماته عمداً لا يسقط عنه العقاب، وليس معناه أنّ كون الشّيء اختياريّاً على المكلّف في زمان يصحّح أمرالمولى به وإن كان فعلاً محالاً عليه»(1)،

انتهى.

ومن هذا يظهر اندفاع المثال الّذي تقدّم سابقاً في من توسّط الدار المغصوبة، فإنّه من قبيل الامتناع بالاختيار الخ، لا من قبيل ما نحن فيه، مع أنّ في هذا النّحو من التكليف بالضدّين كلاماً يأتي - إن شاء اللّه تعالى - .

{إن قلت}: إنّكم قسّمتم الترتّب على الأمر بالضدّين، والحال أنّه {فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك} على نحو الترتّب {فإنّ الطلب في كلّ منهما في الأوّل} أعني: الاجتماع في عرض واحد {يطارد} الطلب {الآخر} ويمانعه،

ص: 221


1- شرح كفاية الأصول 1: 185.

بخلافه في الثّاني؛ فإنّ الطلب بغير الأهمّ لا يطارد طلب الأهمّ؛ فإنّه يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهمّ، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه، وعدم عصيان أمره.

قلت: ليت شعري كيف لا يطارده الأمر بغير الأهمّ؟ وهل يكون طرده له إلّا من جهة فعليّته، ومضادّة متعلّقه له.

___________________________________________

فلا يمكن الأمر بهما {بخلافه} أي: الطلب {في الثّاني} أعني: الترتّب {فإنّ الطلب بغير الأهمّ} أي: المهمّ {لا يطارد طلب الأهمّ، فإنّه} أي: طلب المهمّ {يكون} مشروطاً ومعلّقاً {على تقدير عدم الإتيان بالأهم} فهو متأخّر عن الأهمّ رتبة كما سبق {فلا يكاد يريد} الآمِرُ {غيره} أي: غير الأهمّ {على تقدير إتيانه وعدم عصيان أمره} ولذلك ترى الفرق الظاهر بين قول المولى: (قم واقعد) فإنّه يعدّ في العرف أمراًبالمستحيل، وبين قوله: (قم وإن عصيت أو أردت العصيان فاقعد) فإنّه يعدّ أمراً ممكناً.

{قلت: ليت شعري كيف} يكون فرق بين طلب الضدّين ابتداءً وطلبهما على نحو الترتّب، إذ كما يكون بين الضدّين ابتداءً مطاردة كذلك بينهما على نحو الترتّب، فإنّ الأمر بالأهمّ كيف {لا يطارده الأمر بغير الأهمّ} أي: المهمّ {وهل يكون طرده} أي: المهم {له} أي: للأهم {إلّا من جهة فعليّته} أي: المهمّ {ومضادّة متعلّقه} أي: المهم {له} أي: الأهم.

والحاصل: أنّ المستشكل لمّا سلّم مطاردة الأهم للمهمّ ومنع مطاردة المهمّ للأهم أراد المصنّف(رحمة الله) ردّ هذا المنع وأنّ المهمّ أيضاً يطارد الأهمّ، فكما أنّ الأمر بالإزالة يطارد الأمر بالصلاة كذلك الأمر بالصلاة يطارد الأمر بالإزالة، وكيف يكون الأمر بالصلاة غير مطارد للأمر بالإزالة والحال أنّه تعلّق بضدّ الإزالة. ومن البديهي أنّ الأمرين اللّذين تعلّق كلّ واحد منهما بضدّ الآخر يتطاردان من الجانبين.

ص: 222

وعدم إرادة غير الأهمّ على تقدير الإتيان به، لا يوجب عدمَ طرده لطلبه، مع تحقّقه على تقدير عدم الإتيان به وعصيان أمره، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير، مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادّة بين المتعلّقين.

مع أنّه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهمّ؛

___________________________________________

{و} إن قلت: نسلّم التطارد إذا أتى الشّخص بالمهمّ، كأن صلّى - مثلاً - إذ يجتمع الأمران، وليس كذلك إذا أتى بالأهمّ كما لو أزال النّجاسة؛ لأنّه لا أمر بالمهمّ حينئذٍ فلا مطاردة.قلت: {عدم إرادة} المولى للمهمّ، أي: {غير الأهمّ على تقدير الإتيان به} أي: بالأهم {لا يوجب عدم طرده} أي: طلب المهمّ {لطلبه} أي: الأهمّ {مع تحقّقه} أي: تحقّق طلب المهمّ {على تقدير عدم الإتيان به} أي: بالأهمّ {وعصيان أمره}.

والحاصل: أنّ الإشكال على الترتّب ليس في صورة الإتيان بالأهمّ والإتيان بالمهم، بل يكفي في عدم صحّة الترتّب ورود الإشكال في صورة واحدة، وهي ما إذا أتى بالمهمّ {ف-} إنّه {يلزم اجتماعهما} أي: الطلبان {على هذا التقدير} أي: تقدير الإتيان بالمهم {مع ما هما عليه من المطاردة} والممانعة الحاصلة {من جهة المضادّة بين المتعلّقين} أي: متعلّق الطلبين كالإزالة والصلاة، فإذا أتى الشّخص بالصلاة تطارد الأمران إذ أمر الإزالة مراد على كلّ حال حسب الفرض وأمر الصلاة مراد في هذا الحال لوجود شرطه {مع أنّه} لو سلّمنا عدم مطاردة الأمر بالمهمّ للأمر بالأهمّ - حتّى في هذا الحال الّذي أتى بالمهمّ - فلنا أيضاً منع الترتّب، وذلك لأنّه {يكفي الطرد من طرف} واحد، وهو طرف {الأمر بالأهم} إذ ليست الاستحالة مبتنية على المطاردة من الطرفين، بل الاستحالة تكون لأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: المطاردة من الجانبين في جميع الأحوال، كما يكون في الأمر بالضدّين ابتداءً.

ص: 223

فإنّه - على هذا الحال - يكون طارداً لطلب الضدّ، كما كان في غير هذا الحال، فلا يكون له معه أصلاً بمحالٍ.

إن قلت: فما الحيلة في ما وقع كذلك من طلب الضدّين في العرفيّات؟

___________________________________________

الثّاني: المطاردة من الجانبين في بعض الأحوال، كما لو قلنا بذلك في الترتّب - في صورة الإتيان بالمهم - وإن تكن مطاردة في حال الإتيان بالأهم.

الثّالث: طرد أحد الجانبين للآخر في بعض الأحوال، كما في الترتّب -(1)حتّى على قول الخصم - كما لو أتى بالمهم {فإنّه} أي: الأمر بالأهم {على هذا الحال يكون طارداً لطلب الضدّ} الّذي هو المهم {كما كان} الأهم طارداً للمهم {في غير هذا الحال} أي: بمجرّد وجود الأمر بالأهم وإن لم يوجد بعد الأمر بالمهم ولم يأت المكلّف إلّا بالأهم. ومعنى طرد الأهم حينئذٍ أن يكون مانعاً لحدوث الأمر بالمهم {فلا يكون له} أي: للأمر بالمهم {معه} أي: مع الأمر بالأهم {أصلاً بمحالٍ}.

وممّا ذكرنا من معنى طرد الأهم للمهمّ ظهر لك بطلان الإشكال على المصنّف(رحمة الله) بأنّه لا يعقل أن يكون الطرد من طرف واحد.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا في تفسير العبارة أقرب ممّا ذكره بعض الشّرّاح والمحشّين، فراجع(2).

{إن قلت}: إذا منعتم الترتّب {فما الحيلة في ما وقع كذلك} على نحو الترتّب {من طلب الضدّين} بيان ل- «ما وقع» {في العرفيّات} حتّى ادّعى أنّه فوق حدّ الإحصاء، كما يقول المولى: (حجّ وإن لم تفعل فزر) ونحو ذلك؟

ص: 224


1- حيث سلّم هو طرد الأهم للمهم بقوله في «إن قلت»: «فإنّ الطلب بغير الأهمّ لا يطارد طلب الأهم» الخ.
2- حيث فسّروا قوله: «على هذا الحال» بحال الترتّب. وفسّروا قوله: «في غير هذا الحال» يعني عرض واحد، وهذان التفسيران لا يلائمان مع قوله: «مع أنّه يكفي» الخ. راجع كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 39؛ شرح كفاية الأصول 1: 186.

قلت: لا يخلو: إمّا أن يكون الأمر بغير الأهمّ بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقيقة، وإمّا أن يكون الأمر به إرشاداً إلى محبوبيّته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة، وأنّ الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة، فيذهب بها بعضُ ما استحقّه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهمّ، لا أنّه أمر مولويّ فعليّ كالأمر به، فافهم وتأمّل جيّداً.

___________________________________________

{قلت}: ما يترائى أنّه من قبيل الترتّب يلزم صرفه عن ظاهره بعد قيام الدليل العقلي على استحالته، فإنّ الظاهر يدفع بالقاطع، فحينئذٍ {لا يخلو إمّا أن يكون الأمر بغير الأهم بعد التجاوز عن الأمر به} أي: بالأهم {وطلبه حقيقة} عطف على «الأمر به» فلا يكون في البين إلّا أمر واحد بالمهم، ويكون صرف النّظر عن الأهم توسعة وتفضّلاً على العباد، ولكن هذا خارج عمّا نحن فيه، إذ المفروض عدم الإغماض عن الأهم وبقاء الأمر به كما كان كما يشهد بذلك العرف.

{وإمّا أن يكون الأمر به} أي: بالمهم {إرشاداً إلى محبوبيّته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة} بيان «ما» {والغرض لولا المزاحمة} بالأهم {وأنّ الإتيان} عطف على «محبوبيّته» {به} أي: بالمهم {يوجب استحقاق المثوبة، فيذهب بها} أي: بسبب هذه المثوبة الحاصلة من المهم {بعض ما استحقّه} العبد {من العقوبة} الّتي استوجبها {على مخالفة الأمر بالأهم} فلا يكون في البين إلّا أمر واحد بالأهم فقط، ولا يجتمع الأمران أيضاً {لا أنّه} أي: الأمر بالمهم {أمر مولويّ فعليّ كالأمر به} أي: بالأهم {فافهم وتأمّل جيّداً}.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه: لا أمر بالضدّين على نحو الأمر المولوي،لقبح أن يقول المولى: (أزل النّجاسة وإن لم تزل فصلّ) وحينئذٍ فلا بدّ من التزام وجود أمر واحد في البين، إمّا الأمر بالأهمّ فقط وإن لم يسقط المهمّ عن المحبوبيّة، وإمّا الأمر بالمهمّ مع سقوط الأمر بالأهم.

ص: 225

ثمّ إنّه لا أظنّ أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق - في صورة مخالفة الأمرين - لعقوبتين؛ ضرورةَ قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد. ولذا كان سيّدنا الأُستاذ(قدس سره) لا يلتزم به - على ما هو ببالي - ، وكنّا نورد به على الترتّب، وكان بصدد تصحيحه.

___________________________________________

وممّا يشهد لذلك في الجملة قبح العقابين في ما لو ترك العبد الأهم والمهم معاً.

ثمّ لا يخفى أنّ الترديد بين هذين الوجهين إنّما هو في المولى الملتفت، أمّا الغافل فإنّه يمكن أن ينقدح في نفسه بعثان نحو الضدّين، إلّا أنّ اللّازم على العبد حينئذٍ الأخذ بالأهم وترك المهمّ لا العكس، ويدلّ على ذلك صحّة العقوبة على ترك الأهم لو أخذ بالمهمّ دون العكس، فلو أمر المولى العبد بإنقاذ ولده العزيز واشتراء الطعام في صورة غفلته عن المزاحمة لم يصحّ للعبد اشتراء الطعام وعدم إنقاذ الولد حتّى يغرق وليس الأمر بالاشتراء معذراً له عند العقلاء.

{ثمّ إنّه لا أظنّ أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه} أي: لازم الترتّب وبعبارة أُخرى: لازم الأمرين {من الاستحقاق} بيان «ما» {في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين} متعلّق ب-«الاستحقاق» {ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد} والعقاب على غير المقدور قبيح، إلّا أن يقال: حيث إنّه كان بسوء الاختيار لا مانع منهما، فإنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فتأمّل.{ولذا} الّذي ذكرنا من عدم التزام القائل بالترتّب بما هو لازمه {كان سيّدنا الأُستاذ} آية اللّه المجدّد الحاج ميرزا حسن الحسيني الشّيرازي {+ لا يلتزم به} أي: بما هو لازم الترتّب من العقابين {على ما هو ببالي وكنّا نورد به} أي: بهذا الإشكال {على الترتّب، وكان} عليه الرّحمة {بصدد تصحيحه} أي: تصحيح الترتّب بدفع هذا الإشكال.

ص: 226

فقد ظهر: أنّه لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها إلّا ملاك الأمر.

نعم، في ما إذا كانت موسعة، وكانت مزاحمةً بالأهمّ

___________________________________________

{فقد ظهر} ممّا ذكرنا من بطلان الترتّب {أنّه} لا أمر بالمهمّ، كالصلاة، وعليه ف- {لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها} كالإزالة {إلّا} على القول بكفاية {ملاك الأمر} في صحّة العبادة، إذ ليس بالمهمّ أمر فعليّ كي يستند صحّتها إلى ذلك. أمّا من لا يقول بكفاية الملاك أو يناقش في بقائه فلا تصحّ عنده العبادة أصلاً.

قال العلّامة القمّي(رحمة الله): «في كفاية مجرّد المحبوبيّة مع عدم الأمر تأمّل، كما أنّه إذا سقط الأمر بالامتثال لا يكفي مجرّد محبوبيّة الطبيعة في امتثال عقيب الامتثال.

فإن قيل: لعلّ الطبيعة بعد سقوط الأمر بالامتثال لا يكون فيه الملاك والمحبوبيّة.

قلت: لعلّ الضدّ بعد سقوط أمره بواسطة الأمر التعييني بالضدّ الآخر لا يكون فيه الملاك.

فإن قيل: إنّما لم يؤمر حينئذٍ للمزاحمة، لا بشيء آخر دخيل في المحبوبيّة.قلت: سقوط الأمر إنّما كان للامتثال لا بشيء آخر دخيل في المحبوبيّة، والحلّ أنّ الإطاعة والامتثال إنّما يكون دائراً مدار وجود أمر المولى عقلاً وعرفاً، فتأمّل»(1).

فتحصّل أنّه لا أمر بالمهم في صورة مضادّته للأهم، فلا يمكن أن يؤتى بالمهم بداعي الأمر.

{نعم} قد يمكن أن يؤتى بالمهم بداعي الأمر بالطبيعة، وذلك {في ما إذا كانت} العبادة الّتي هي مهم {موسّعة} كالصلاة {وكانت مزاحمة بالأهم} كإنقاذ

ص: 227


1- حاشية الكفاية 1: 197.

في بعض الوقت، لا في تمامه، يمكن أن يقال: إنّه حيث كان الأمر بها على حاله - وإن صارت مضيّقة بخروج ما زاحمه الأهمّ من أفرادها من تحتها - أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الأمر، فإنّه وإن كان الفرد خارجاً عن تحتها بما هي مأمور بها، إلّا أنّه لمّا كان وافياً بغرضها - كالباقي تحتها - كان عقلاً مثله في الإتيان به في مقام الامتثال، والإتيان به بداعي ذلك الأمر، بلا تفاوت في نظره

___________________________________________

الغريق {في بعض الوقت لا في تمامه} كما لو غرق مسلم أوّل الظهر ثمّ ترك الشّخص الإنقاذ واشتغل بالصلاة حتّى هلك الغريق، فإنّه يمكن أن يأتي بالصلاة بقصد الأمر المتعلّق بها في ما بعد وقت الأهم، فإنّ أمر الصلاة إنّما سقط بمقدار الإنقاذ وأمّا بعد الهلاك فالأمر باق، ولا حاجة حينئذٍ إلى قصد الملاك.

والحاصل: أنّه {يمكن أن يقال: إنّه حيث كانالأمر بها} أي: بالعبادة المهمّة باقٍ {على حاله، وإن صارت} العبادة {مضيّقة} لأنّ وقتها كان من أوّل الزوال إلى المغرب، وحيث زاحمت الإزالة صار وقتها من بعد الزوال بنصف ساعة مثلاً {ب-} سبب {خروج ما زاحمه الأهمّ من أفرادها من تحتها} فإنّ أفراد الصلاة المخيّر بينها كانت مائة والحال صارت تسعين {أمكن} جواب «حيث» {أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الأمر} المتوجّه إلى الطبيعة الّتي لها أفراد بعد نصف ساعة من الزوال فرضاً {فإنّه وإن كان الفرد} الواقع في أوّل الزوال {خارجاً عن تحتها بما هي مأمور بها إلّا أنّه} أي: أنّ ذلك الفرد الواقع في أوّل الزوال {لمّا كان وافياً بغرضها} أي: الغرض المطلوب من العبادة {ك-} الفرد {الباقي تحتها} بلا فرق أصلاً {كان} هذا الفرد الواقع في الأوّل {عقلاً مثله} أي: مثل الباقي {في الإتيان به}.

ثمّ بيّن أنّ المماثلة في جهتين: الأُولى {في مقام الامتثال} فكما أنّ الباقي يمتثل به أمر الطبيعة كذلك بالفرد الأوّل فهما مسقطان للغرض {و} الثّانية في صحّة {الإتيان به بداعي ذلك الأمر} المتوجّه إلى الطبيعة {بلا تفاوت في نظره}

ص: 228

بينهما أصلاً.

ودعوى: أنّ الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها، وما زوحم منها بالأهمّ وإن كان من أفراد الطبيعة، لكنّه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها.

فاسدةٌ: فإنّه إنّما يوجب ذلك إذا كان خروجه عنها - بما هي كذلك - تخصيصاً، لامزاحمةً، فإنّه معها

___________________________________________

أي: نظر العقل {بينهما أصلاً}.

ومن هذا البيان ظهر الفرق بين الموسّع والمضيّق وأنّه يمكن أن يؤتى بالمهمّ بداعي الأمر إذا كان موسّعاً، وأمّا لو كان مضيّقاً فلا يمكن الإتيان به إلّا بالملاك لسقوط الأمر فيه بالمرّة. مثلاً: لو غرق ولد المولى وأخوه فأنقذ الأخ لم يكن به أمر أصلاً لفرض تزاحمه بالأهمّ مطلقاً، فتبصّر.

ولمّا كان مظنّة إيراد أشار إلى بيان دفعه بقوله: {ودعوى أنّ الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها} مثلاً: الأمر بصلاة الظهر بين الحدّين إنّما يدعو إلى الأفراد العرضيّة والطوليّة المنطبق عليها المأمور بها، ولا يكاد يدعو إلى غير تلك الأفراد. مثلاً: لا يصحّ الإتيان بصلاة الظهر قبل الوقت بداعي الأمر المتوجّه بعد الوقت {و} ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ {ما زوحم منها بالأهمّ} أي: الفرد الّذي زاحم الإزالة {وإن كان من أفراد الطبيعة} في نفسها {لكنّه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها} فلا يصحّ الإتيان بهذا الفرد بداعي الأمر {فاسدة، فإنّه} أي: خروج الفرد الأوّل عن تحت الأمر {إنّما يوجب ذلك} أي: عدم صحّة الإتيان به بداعي الأمر {إذا كان خروجه عنها} أي: عن الطبيعة {بما هي كذلك} أي: مأمور بها {تخصيصاً} حتّى لا يكون ملاك الأمر موجوداً في الفرد الخارج {لا مزاحمة} بأن يكون الملاك موجوداً {فإنّه} أي: الفرد {معها} أي: مع المزاحمة

ص: 229

وإن كان لا يعمّها الطبيعة المأمور بها، إلّا أنّه ليس لقصور فيه، بللعدم إمكان تعلّق الأمر بما يعمّه عقلاً.

وعلى كلّ حال، فالعقل لا يرى تفاوتاً - في مقام الامتثال وإطاعة الأمر بها - بين هذا الفرد وسائر الأفراد أصلاً.

هذا على القول بكون الأوامر متعلّقة بالطبائع.

وأمّا بناءً على تعلّقها بالأفراد فكذلك، وإن كان جريانه عليه أخفى، كما لا يخفى،

___________________________________________

{وإن كان لا يعمّها الطبيعة المأمور بها} حيث إنّه بملاحظة المزاحم الأهمّ يسقط الأمر المهمّ عن هذا الفرد {إلّا أنّه} أي: عدم شول الطبيعة له {ليس لقصور فيه} بل هو تامّ في نفسه محصّل للغرض {بل لعدم إمكان تعلّق الأمر بما يعمّه عقلاً} فالمصلحة والمحبوبيّة ومناط الأمر الموجودة في هذا الفرد أوجبت جواز الإتيان به بداعي الأمر - وإن لم يكن الأمر فعليّاً - .

ولا يخفى عليك أنّه مع هذا التجشّم لم يأت بمقنع، بل غاية ما ذكره سقوط الأمر لحصول الغرض، أمّا الإتيان به بداعي الأمر فلا، مضافاً إلى أنّ سقوطه للغرض وكفايته محلّ تأمّل، كما سبق.

{وعلى كلّ حال فالعقل لا يرى تفاوتاً في مقام الامتثال وإطاعة الأمر بها} أي: بالطبيعة {بين هذا الفرد} الّذي زاحمه الأهم {وسائر الأفراد أصلاً}.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرناه من جواز الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر {على القول بكون الأوامر متعلّقة بالطبائع} في كمال الظهور {وأمّا بناءً على تعلّقها بالأفراد فكذلك} ظاهر؛ لأنّ هذا الفرد الأوّل مشتركمع سائر الأفراد في تحصيل الغرض والاشتمال على المصلحة، فلا يمتنع عقلاً أن يأتي بهذا الفرد بداعي الأمر المتعلّق بسائر الأفراد {وإن كان جريانه عليه أخفى} لأنّ الأفراد حيث كانت متباينة فداعويّة الأمر به لفرد آخر أخفى من داعويّة الأمر بالطبيعة للفرد {كما لا يخفى}

ص: 230

فتأمّل.

ثمّ لا يخفى: أنّه - بناءً على إمكان الترتّب وصحّته - لا بدّ من الالتزام بوقوعه من دون انتظار دليل آخر عليه؛ وذلك لوضوح أنّ المزاحمة على صحّة الترتّب لا تقتضي عقلاً إلّا امتناع الاجتماع في عرض واحد، لا كذلك.

فلو قيل بلزوم الأمر في صحّة العبادة - ولم يكن في الملاك كفاية - كانت العبادة مع ترك الأهمّ صحيحةً، لثبوت الأمر بها في هذا الحال،

___________________________________________

للمتأمّل {فتأمّل} يمكن أن يكون إشارة إلى ما تقدّم من أنّ وجود الملاك في الفرد الخارج عن تحت الأمر لا يصحّ الإتيان بذاك الفرد بداعي الأمر المتعلّق بالطبيعة أو بفرد آخر، وليس هذا إلّا من قبيل الإتيان بصلاة الصبح بداعي الأمر المتوجّه إلى صلاة الظهر - مثلاً - لوجود الملاك وهو المعراجيّة مثلاً.

{ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على إمكان الترتّب وصحّته} عقلاً {لا بدّ من الالتزام بوقوعه من دون انتظار دليل آخر عليه} بل مجرّد الأمر بالضدّين بضميمة حكم العقل كافٍ في صحّة العبادة، فلو دلّ دليل على وجوب الصّلاة ودليل آخر على وجوب إنقاذ الغريق، فلو صلّى في صورة المزاحمة كانت الصلاة صحيحة {وذلك لوضوح أنّ المزاحمة على} تقدير{صحّة الترتّب لا تقتضي عقلاً إلّا امتناع الاجتماع في عرض واحد لا كذلك} أي: لا بنحو الترتّب.

أمّا كون أحد المتزاحمين مطلقاً والآخر مشروطاً فلا امتناع له، وحينئذٍ فحيث كان كلّ واحد من الأمر بالأهمّ والأمر بالمهم مطلقاً نرفع اليد عن المهمّ بالمقدار اللّازم في مقام الجمع بينهما، فنحكم بإطلاق الأمر المهمّ في ظرف فعل الأهم، أمّا مع عدم فعل الأهم فالأمر بالمهمّ على حاله {فو قيل بلزوم الأمر في صحّة العبادة ولم يكن في الملاك كفاية} كما هو مبنى بعض {كانت العبادة} المهمّة {مع ترك الأهمّ صحيحة لثبوت الأمر بها في هذا الحال} أي: حال ترك الأهمّ

ص: 231

كما إذا لم تكن هناك مضادّة.

فصل: لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

خلافاً لما نسب إلى أكثر مخالفينا(1)؛ ضرورة أنّه لا يكاد يكون الشّيء مع عدم علّته - كما هو المفروض هاهنا - فإنّ الشّرط من أجزائها، وانحلالُ المركّب بانحلال بعض أجزائه ممّا لا يخفى.

___________________________________________

{كما إذا لم تكن هناك مضادّة} أصلاً ولكن قد علمت أنّ الترتّب ليس بصحيح، فإنّه غير رافع لطلب الضدّين في عرض واحد، فلا أمر حينئذٍ بالمهمّ، واللّه الهادي.

[الفصل السّادس في عدم جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه]

المقصد الأوّل: في الأوامر، في عدم جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه

{فصل: لا يجوز أمر الآمر} الحكيم {مع علمهبانتفاء شرطه} يعني شرط الأمر، وليس المراد شرط وجود الأمر ابتداءً، بمعنى أنّه لو لم يكن للمولى الأمر مثلاً لا يأمر، بل المراد شرط المأمور به، فلا يصحّ للمولى أن يقول: (صلّي غداً) مع علمه بأنّها ستحيض.

ثمّ إنّ محلّ الكلام في الشّرائط غير الاختياريّة، أمّا الشّرائط الاختياريّة فإنّه يصحّ من المولى الآمر مع علمه بعدم إتيان المكلّف بشرط المأمور بلا كلام، فإنّه يصحّ تكليف الكفّار والعصاة مع العلم بعدم إرادتهم للإيمان والطاعة الّتي هي شرط لها {خلافاً لما نسب إلى أكثر مخالفينا} فإنّهم جوّزوا الأمر مع انتفاء الشّرط.

وإنّما قلنا بعدم الجواز {ضرورة أنّه لا يكاد يكون الشّيء مع عدم علّته كما هو المفروض هاهنا} إذ بانتفاء الشّرط تنتفي العلّة {فإنّ الشّرط من أجزائها} قطعاً {وانحلال المركّب} كالعلّة المركّبة في ما نحن فيه كما يكون بانتفاء المركّب رأساً كذلك يكون {بانحلال بعض أجزائه} وهذا {ممّا لا يخفى} على أحد.

والحاصل: أنّ الأمر متوقّف على تمكّن المكلّف من المأمور به، إذ مع عدم

ص: 232


1- معالم الدين: 82؛ قوانين الأصول 1: 126.

وكون الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي، بعيد عن محلّ الخلاف بين الأعلام.

نعم، لو كان المراد من لفظ (الأمر) الأمرَ ببعض مراتبه، ومن الضمير الرّاجع إليه: بعضَ مراتبه الأُخر - بأن يكون النّزاع في أنّ أمر الآمر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعليّته؟

وبعبارة أُخرى: كان النّزاع في جواز إنشائه

___________________________________________

التمكّن يكون لغواً، والتمكّن متوقّف على تماميّة علّته، والتماميّة لا تكون إلّا بالشرط، فبانتفاء الشّرط تنتفي العلّة وبانتفائها ينتفي التمكّن، فلا يصحّ الأمر.

{و} إن قلت: إنّ الأمر وإن كان لا يوجد إذا انتفى علّته التامّة إلّا أنّه ممكن ذاتاً، فإنّ الامتناع بالغير لا ينافي الإمكان الذاتي، فحينئذٍ يصحّ أن يقال: يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، بمعنى أنّه يجوز في ذاته وإن كان ممتنعاً بالنظر إلى انتفاء شرطه. وبعبارة أُخرى: إنّ الأمر في صورة انتفاء شرطه لا يكون من قبيل شريك الباري، بل من قسم الممكن المعدوم.

قلت: {كون الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي} كما ذكر {بعيد عن محلّ الخلاف بين الأعلام} لبداهة أنّ الأمر بالنظر إلى ذاته ممكن لا مانع منه عقلاً، فالمراد أنّه يمكن وقوعه وفعليته، أم لا {نعم} استثناء عن قوله: «لا يجوز أمر الآمر» الخ {لو كان المراد من لفظ (الأمر)} في العنوان {الأمر ببعض مراتبه} إذ للأمر مراتب أربع: الاقتضاء، والإنشاء، والفعليّة، والتنجّز {ومن الضمير الرّاجع إليه} في قولنا في العنوان: «بانتفاء شرطه» {بعض مراتبه الأُخر} على سبيل الاستخدام {بأن يكون النّزاع في أنّ أمر الآمر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعليّته} بأن ينشأ الحكم مع العلم بأنّه لا يصير فعليّاً بالنسبة إلى المكلّف.

{وبعبارة أُخرى كان النّزاع} في المسألة {في جواز إنشائه} أي: إنشاء الأمر

ص: 233

مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعليّة؛ لعدم شرطه - .

لكان جائزاً، وفي وقوعه في الشّرعيّات والعرفيّات غِنىً وكفايةٌ، ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان، أو مؤونة برهان.وقد عرفت سابقاً: أنّ داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث والتحريك جدّاً حقيقة، بل قد يكون صوريّاً امتحاناً، وربّما يكون

___________________________________________

{مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعليّة} والبعث {لعدم شرطه لكان جائزاً} جواب «لو» إذ شرط مرتبة الفعليّة لا يلازم شرط مرتبة الإنشاء، فيجوز وجود شرط مرتّبة الإنشاء دون شرط مرتّبة الفعليّة {وفي وقوعه} أي: وقوع الأمر الإنشائي من دون وصوله إلى الفعليّة {في الشّرعيّات} كموارد الطرق والإمارات الّتي هي على خلاف الواقع، فإنّ الواقعيّات محفوظة في مقام الإنشاء ولكنّها لم تصل إلى مرتبة الفعليّة لعدم قيام الحجّة عليها، بل وكالأحكام الإنشائيّة الّتي لم تصل إلى الفعليّة ف-ي أوائ-ل البعثة، بل إلى الآن ممّ-ا أودع عند الحجّة - صلوات اللّه عليه - {والعرفيّات} كالأوامر العامّة للحكومات الّتي تشمل بلفظها جميع الأفراد مع وصولها إلى مرتبة الفعليّة بالنسبة إلى بعض لعدم قيام الحجّة عنده {غِنىً وكفاية} لإثبات إمكان الأمر الإنشائي مع عدم الوصول إلى الفعليّة {ولا يحتاج معه} أي: مع وقوعه في الشّرعيّات والعرفيّات {إلى مزيد بيان أو مؤونة برهان} لأنّ أدلّ الدليل على الشّيء وقوعه في الخارج.

{و} إن قلت: كيف يصحّ الإنشاء مع علم الآمر بعدم وصوله إلى المرتبة الفعليّة، إذ الإنشاء إنّما هو مقدّمة، فلو علم المولى بعدم ذيها لم يصحّ الإنشاء.

قلت: {قد عرفت سابقاً أنّ داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث والتحريك جدّاً حقيقة} فليس صحّة الإنشاء دائرة مدار الفعليّة، بحيث لولا الفعليّة لم يكن إنشاء {بل قد يكون} الأمر {صوريّاً امتحاناً} فهنا إنشاء ولا فعليّة {و}كذلك {ربّما يكون}

ص: 234

غير ذلك.

ومنعُ كونه أمراً إذا لم يكن بداعي البعث جدّاً واقعاً. وإن كان في محلّه، إلّا أنّ إطلاق الأمر عليه - إذا كانت هناك قرينة على أنّه بداع آخر غير البعث - توسّعاً ممّا لا بأس به أصلاً، كما لا يخفى.

وقد ظهر بذلك حال ما ذكره الأعلام(1) في المقام من النّقض والإبرام. وربّما يقع به التصالح بين الجانبين، ويرتفع النّزاع من البين، فتأمّل جدّاً.

___________________________________________

الأمر ل- {غير ذلك} من التهديد والتعجيز والتسخير، فإنّها كلّها إنشاء ولا فعليّة.

{و} إن قلت: لنا {منع كونه} أي: الإنشاء الامتحاني ونحوه {أمراً إذا لم يكن بداعي البعث جدّاً واقعاً} فلا إنشاء للأمر حيث لا فعليّة.

قلت: {وإن كان} ما ذكرتم من أنّ الامتحان ونحوه ليس بأمر حقيقي {في محلّه} إذ الأمر هو ما يكون بداعي الجدّ {إلّا أنّ إطلاق الأمر عليه - إذا كانت هناك قرينة على أنّه بداع آخر غير البعث} والجدّ - {توسّعاً} ومجازاً {ممّا لا بأس به أصلاً} وقوله: «إذا كانت» الخ شرط محقّق للموضوع، يعني أنّه يجوز إطلاق الأمر على غير ما كان بداعي الجدّ، ويتبيّن أنّه ليس بداعي الجدّ بالقرينة {كما لا يخفى} على المتأمّل.

{وقد ظهر بذلك} الّذي ذكرنا من تحرير محلّ النّزاع {حالما ذكره الأعلام في المقام من النّقض والإبرام، وربّما يقع به} أي: بما ذكرنا من أوّل الفصل إلى هنا {التصالح بين الجانبين} من يدّعي جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ومن يدّعي عدم جوازه {ويرتفع النّزاع من البين} وذلك بأن يكون مراد من منع ما ذكرناه إلى قولنا: «نعم» ومراد من أجاز ما ذكرناه بعد «نعم» {فتأمّل جيّداً} وراجع كلمات القوم حتّى تعرف أنّ هذا تصالح من غير رضى الطرفين، كما يدلّ عليه

ص: 235


1- قوانين الأصول 1: 124؛ الفصول الغرويّة: 109؛ هداية المسترشدين 2: 605.

فصل: الحقّ أنّ الأوامر والنّواهي تكون متعلّقة بالطبائع دون الأفراد.

ولا يخفى أنّ المراد: أنّ متعلّق الطلب في الأوامر هو صِرف الإيجاد، كما أنّ متعلّقه في النّواهي هو محض الترك، ومتعلّقهما هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود، والمقيّدة بقيود، تكون بها

___________________________________________

كلماتهم في المقام - واللّه العالم - .

[الفصل السابع تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع]

اشارة

المقصد الأوّل: في الأوامر، تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع

{فصل} اختلفوا في أنّ متعلّق الأوامر والنّواهي في الأحكام الشّرعيّة نحو (أقيموا الصلاة) (وكاتبوهم) و(لا تشربوا الخمر) ونحوها هل هي الطبائع الكليّة، فطبيعة الصلاة مأمور بها وطبيعة الخمر منهيّ عنها، أم متعلّق الأوامر والنّواهي هي الأفراد الشّخصيّة الخارجيّة حتّى تكون خصوصيّة الأفراد داخلة في حيّز الأمر والنّهي؟

و{الحقّ أنّ الأوامر والنّواهي تكون متعلّقة بالطبائع} الكليّة {دون الأفراد} الشّخصيّة.{ولا يخفى} أنّه ليس المراد من تعلّق الأوامر والنّواهي بالطبائع {أنّ} الطبيعة بما هي متعلّقة، إذ نفس الماهيّة ليست قابلة للجعل، فلا تكون تحت الاختيار حتّى يتعلّق بها الطلب، بل {المراد أنّ متعلّق الطلب في الأوامر هو صرف الإيجاد} فالأمر مركّب من أُمور ثلاثة وهي: طلب وجود الطبيعة. لا أنّه مركّب من أمرين، وهما: طلب الطبيعة {كما أنّ متعلّقه} أي: متعلّق الطلب {في النّواهي هو محض الترك}.

فالنهي أيضاً مركّب من ثلاثة أُمور، وهي: طلب ترك الطبيعة {ومتعلّقهما} أي: متعلّق الإيجاد في الأمر ومتعلّق الترك في النّهي {هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود} ذاتيّة كالحيوان النّاطق مثلاً بالنسبة إلى الإنسان {والمقيّدة بقيود} خارجيّة، كالضاحكيّة بالنسبة إلى الإنسان {تكون} الطبيعة {بها} أي: بسبب هذه

ص: 236

موافقةً للغرض والمقصود، من دون تعلّق غرضٍ بإحدى الخصوصيّات اللّازمة للوجودات، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكناً، لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلاً، كما هو الحال في القضيّة الطبيعيّة في غير الأحكام، بل في المحصورة على ما حقّق في غير المقام.

___________________________________________

المقوّمات والخواص {موافقة للغرض والمقصود} فلو لم يكن الإنسان ناطقاً - فرضاً - أو لم يكن ضاحكاً لم يكن موافقاً للغرض {من دون تعلّق غرض بإحدى الخصوصيّات} الفرديّة {اللّازمة للوجودات} كالطول في زيد، والقصر في عمرو، مثلاً.فقول المولى: (صلّ الظهر) لا يريد إلّا حقيقة الصلاة المحدودة بكذا والمقيّدة بقيد الظهريّة، ولا يريد الخصوصيّات الفرديّة ككونها في هذه الغرفة أو في هذا اللباس أو نحو ذلك {بحيث لو كان الانفكاك عنها} أي: عن الخصوصيّات {بأسرها ممكناً} بأن يأتي بنفس طبيعة صلاة الظهر من دون أيّ خصوصيّة {لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلاً، كما هو الحال في القضيّة الطبيعيّة في غير الأحكام} نحو (الحيوان جنس)، فإنّ المراد أنّ طبيعة الحيوان جنس ولا دخل لخصوصيّات الأفراد في الجنسيّة.

وإن شئت مثّلت له بنحو (الإنسان ناطق) فإنّ المحمول ثابت لطبيعة الإنسان في ضمن أيّ خصوصيّة كان {بل في المحصورة} وهي القسيمة للطبيعة {على ما حقّق في غير المقام} من أنّ المحصورة - أعني: المسورة - إنّما يكون المحمول فيها ثابتاً لطبيعة الموضوع، لكن الطبيعيّة هاهنا جعلت للحاظ الأفراد بحيث يسري الحكم منها إلى الأفراد، فمعنى قولنا: (كلّ إنسان ناطق) أنّ طبيعة الإنسان ذو النّطق، وإنّما الفرق بين الطبيعة والمحصورة هو أنّ الطبيعة لوحظت بشرط لا بحيث لا يسري الحكم إلى الأفراد، والمحصورة أُخذت بشرط شيء بحيث يسري الحكم إلى الأفراد.

ص: 237

وفي مراجعة الوجدان للإنسان غِنىً وكفايةٌ عن إقامة البرهان على ذلك، حيث يرى إذا راجعه أنّه لا غرض له في مطلوباته إلّا نفس الطبائع، ولا نظر له إلّا إليها، من دون نظر إلى خصوصيّاتها الخارجيّة وعوارضها العينيّة، وأنّ نفس وجودها السِّعِيّ - بما هو وجودها - تمامُ المطلوب، وإن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفكّ في الخارج عن الخصوصيّة.فانقدح بذلك

___________________________________________

والحاصل: أنّه كما يكون في الطبيعة والمحصورة على نفس الطبيعة لا الأفراد، كذلك الأوامر والنّواهي الشّرعيّة متعلّقان بالطبائع.

{وفي مراجعة الوجدان للإنسان غِنىً وكفايةٌ عن إقامة البرهان على ذلك} الّذي ذكرنا من تعلّقهما بالطبائع دون الأفراد {حيث يرى} الإنسان {إذا راجعه} أي: راجع وجدانه {أنّه لا غرض له في مطلوباته إلّا نفس الطبائع} الموجودة في ضمن الأفراد {ولا نظر له إلّا إليها} أي: إلى تلك الطبائع بأيّ وجود تحقّقت {من دون نظر إلى خصوصيّاتها الخارجيّة وعوارضها العينيّة} فلو أمر عبده بإحضار الماء مثلاً، فليس مطلوبه إلّا نفس طبيعة الماء، من دون نظر إلى خصوصيّة ظرفه وكيفيّة الإتيان به وغيرهما من سائر الخصوصيّات.

نعم، لو قيّده بقيد أراد ذلك من الخصوصيّات دون سائرها، كما لو قال: (جئني بالماء البارد) فإنّ النّظر إلى خصوصيّة البرودة فقط لا غيرها {وأنّ نفس وجودها السّعي بما هو وجودها تمام المطلوب} لا أنّه جزء المطلوب وجزؤه الآخر خصوصيّة الفرد {وإن كان ذاك الوجود} السِّعِيّ المنطبق على الأفراد {لا يكاد ينفكّ في الخارج عن الخصوصيّة} الفرديّة.

ثمّ إنّه قد استدلّ لتعلّق الأوامر والنّواهي بأدلّة أُخر كلّها مخدوشة، كما يظهر ذلك لمن راجع المفصّلات.

{فانقدح بذل-ك} الّذي ذكرن-ا من معنى تعلّق الأوام-ر والنّواهي بالطبائع

ص: 238

أنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد: أنّها بوجودها السِّعِيّ بما هووجودها - قبالاً لخصوص الوجود - متعلّقةٌ للطلب، لا أنّها بما هي هي كانت متعلّقة له - كما ربّما يتوهّم -(1)؛ فإنّها كذلك ليست إلّا هي. نعم، هي كذلك تكون متعلّقة للأمر، فإنّه طلب الوجود، فافهم.

___________________________________________

{أنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد أنّها} أي: الطبائع {بوجودها السِّعِي بما هو وجودها قبالاً لخصوص الوجود} الفردي {متعلّقة للطلب لا أنّها} أي: الطبائع {بما هي هي} طبيعة محضة عارية عن الوجود والعدم {كانت متعلّقة له} حتّى يكون المعنى طلب جعل الماهيّة ماهيّة {كما ربّما يتوهّم، فإنّها} أي: الطبيعة {كذلك} أي: بما هي هي {ليست إلّا هي} لا مطلوبة ولا مبغوضة.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ قوله: «فإنّها» الخ لا دخل له في المطلب، وإنّما الدليل على عدم تعلّق الطلب بالماهيّة ما ذكرنا من أنّه لا معنى لطلب الماهيّة بأن تجعل الماهيّة ماهيّة.

هذا على مقتضى ما ذكره القوم في شرح العبارة، والّذي يسنح بالخاطر أنّ قوله: «فإنّها كذلك»الخ من تتمّة البرهان على عدم تعلّق الطلب بالماهيّة.

توضيحه: أنّ الوجود لو كان داخلاً في معنى الماهيّة صحّ طلب الماهيّة، إذ معنى طلب الماهيّة حينئذٍ طلب وجودها لكن حيث إنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي لا موجودة ولا معدومة. فلا يصحّ طلبها، إذ معنى طلبها حينئذٍ طلب جعلها وجعل الماهيّة ماهيّة محال، كما لا يخفى.

{نعم، هي} أي: الماهيّة {كذلك} أي: من حيث هي {تكونمتعلّقة للأمر، فإنّه} أي: الأمر {طلب الوجود} فيكون معنى الأمر بالماهيّة طلب وجود الماهيّة {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّه لا فرق بين الطلب والأمر، بل الأمر إنّما يدلّ على الطلب

ص: 239


1- الفصول الغرويّة: 125.

دفعُ وهمٍ: لا يخفى أنّ كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلّقاً للطلب، إنّما يكون بمعنى أنّ الطالب يريد صدور الوجود من العبد،

___________________________________________

وليس الوجود داخلاً في معناه.

وإن قلت: إنّ الأمر بالماهيّة لمّا كان غير معقول كان ذلك قرينة عقليّة على أنّ المراد طلب وجودها.

قلنا: مثل ذلك في الطلب.

[دفع وهم]

{دفع وهم} ربّما نسب إلى صاحب الفصول(1) الفرق بين متعلّق الأمر ومتعلّق الطلب.

بيان ذلك: أنّه لا بدّ من اعتبار الوجود في الأمر، إذ لا معنى لطلب نفس الطبيعة، وحينئذٍ فالوجود الّذي لا بدّ من اعتباره إمّا أن يكون مدلول الهيئة، فيكون معنى الأمر طلب الوجود، وإمّا أن يكون مدلول المادّة، فيكون معنى الأمر الطلب فقط.

فعلى الأوّل يلزم أن يكون متعلّق الأمر الكلّي لا الفرد وإلّا لزم تحصيل الحاصل، حيث إنّ فرديّة الطبيعة إنّما هي بانضمام الوجود إليها، فيكون المعنى طلب وجود الموجود وهو محال.

وعلى الثّاني يلزم أن يكون المتعلّق الأفراد، وإلّا فكلّ من الطلب والطبيعة خالٍ عن الوجود وهو منافٍ لما تقدّم من اعتبار الوجود في الأمر.

وهذا الكلام - وإن لم ينطبق على كلام الفصول تمام الانطباق حسب ماراجعناه - ولكن حيث إنّ كلام المصنّف(رحمة الله) مشوّش وإنّما هو بصدد ردّ تحصيل الحاصل فقط لا يهمّنا تحقيق كلامه(رحمة الله).

{لا يخفى أنّ كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلّقاً للطلب إنّما يكون بمعنى أنّ الطالب يريد صدور الوجود من العبد} وإرادة صدور الوجود إمّا متعلّق بالطبيعة، أي:

ص: 240


1- الفصول الغرويّة: 126.

وجعله بسيطاً - الّذي هو مفاد كان التامّة - وإفاضته. لا أنّه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج، كي يلزم طلب الحاصل - كما توهّم -(1)، ولا جعلَ الطلب متعلّقاً بنفس الطبيعة، وقد جُعِل وجودها غاية لطلبها - .

___________________________________________

إرادة صدور وجود الطبيعة، وإمّا متعلّق بالفرد، أي: إرادة صدور وجود الفرد، على الاختلاف.

{و} الحاصل: أنّ الأمر يريد {جعله} أي: جعل المتعلّق {بسيطاً} بمعنى إيجاده قبال جعل المركّب {الّذي هو مفاد كان التامّة} الّتي هي بمعنى الوجود {وإفاضته} عطف على «جعله» فيكون معنى الأمر طلب إيجاد الطبيعة {لا أنّه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم طلب الحاصل كما توهّم} والمتوهّم هو صاحب الفصول كما تقدّم.

والمتحصّل من الجواب هو: أنّ المراد بالوجود الّذي هو مدلول الهيئة الوجود الخارجي، والمراد بالوجود الّذي في الفرد الوجود الذهني، والآمر إنّما يطلب جعل الوجود الذهني خارجيّاً - بمعنى جعل ما تصوّره ممّا كان الوجود الذهنيمرآةً له خارجيّاً - .

ثمّ لا يخفى أنّه يظهر من بعض الشّرّاح أنّ في المقام إشكالين:

الأوّل: لزوم تحصيل الحاصل على كلّ من القول بتعلّقه بالطبائع أو الأفراد.

الثّاني: لزومه على القول بتعلّقه بالفرد دون تعلّقه بالطبيعة.

{و} كذلك {لا} يريد الطالب {جعل الطلب متعلّقاً بنفس الطبيعة وقد جعل وجودها غاية لطلبها} كما اختاره من أورد تحصيل الحاصل على التقرير السّابق - أعني: ما نفيناه بقولنا: لا أنّه يريد الخ - قال: حيث إنّه يلزم لحاظ الوجود في الأمر ولحاظ الترك في النّهي، فلا بدّ أنّ الأمر إنّما يتوجّه إلى الطبيعة الموجودة والنّهي

ص: 241


1- الفصول الغرويّة: 126.

وقد عرفت: أنّ الطبيعة بما هي هي ليست إلّا هي، لا يعقل أن يتعلّق بها الطلب لتوجد أو تترك، وأنّه لا بدّ في تعلّق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها، فيلاحظ وجودها، فيطلبه ويبعث إليه كي يكون ويصدر منه.

هذا بناءً على أصالة الوجود.

___________________________________________

يتوجّه إلى الطبيعة المتروكة، وحيث إنّ هذا طلب الحاصل وهو لغو ومحال عن الحكيم فلا بدّ وأن يكون الأمر متعلّقاً بالطبيعة من حيث هي، وغاية هذا الطلب إيجاد الطبيعة، كما وأنّ النّهي متعلّق بالطبيعة وغايته تركها.

{و} هذا القول أيضاً باطل لما {قد عرفت} من {أنّ الطبيعة بما هي هي ليست إلّا هي} ف- {لا يعقل أن يتعلّق بها الطلب لتوجد} في الأوامر {أو تترك} في النّواهي.

{و} قد تقدّم وجه الاستدلال بهذه القضيّة لعدم تعلّق الطلب بالماهيّة في شرح قوله: «فإنّها كذلك ليست إلّا هي».ثمّ {إنّه} حيث بطل المذهبان - أعني: تعلّق الطلب بالماهيّة الموجودة وتعلّقه بالماهيّة المجرّدة لغاية وجودها - ف- {لا بدّ في تعلّق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها، فيلاحظ وجودها فيطلبه} على نحو ما تقدّم في شرح قوله: «كما توهّم» {ويبعث إليه كي يكون} ويوجد في الخارج {ويصدر منه}.

ولمّا كان في المقام مجال توهّم أراد المصنّف دفع ذلك فقال: {هذا} الّذي ذكرنا - من كون متعلّق الطلب هي الطبيعة بلحاظ وجودها لا الطبيعة فقط - {بناءً على} القول ب- {أصالة الوجود} ظاهر. فالطبيعة باعتبار الوجود متعلّق الطلب، ومعنى أصالة الوجود أنّ جميع الأشياء عبارة عن الوجودات فهي الصادرة عن الفاعل حقيقة والماهيّة عبارة عن حدود الوجود وأمر اعتباريّ محض، فهي مميّز للوجودات بعضها عن بعض، ومقابل هذا القول القول بأصالة الماهيّة فهي الصادر حقيقة والوجود أمر اعتباري. قال المحقّق السّبزواري عند شرح قوله:

ص: 242

وأمّا بناءً على أصالة الماهيّة، فمتعلّق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضاً، بل بما هي بنفسها في الخارج، فيطلبها كذلك، لكي يجعلها بنفسها من الخارجيّات والأعيان الثّابتات، لا بوجودها،

___________________________________________

«إنّ الوجود عندنا أصيلُ***

دليلُ مَنْ خَالَفَنَا عَليلُ»

ما لفظه: «اعلم أنّ كلّ ممكن زوج تركيبيّ له ماهيّة ووجود، والماهيّة الّتي يقال لها الكلّي الطبيعي ما يقال في جواب «ما هو» ولم يقل أحد من الحكماء بأصالتهما معاً، إذ لو كانا أصليّين لزم أن يكون كلّ شيء شيئين متباينين، ولزمالتركيب الحقيقي في الصادر الأوّل، ولزم أن لا يكون الوجود نفس تحقّق الماهيّة وكونها وغير ذلك من التوالي الفاسدة، بل اختلفوا على قولين:

أحدهما: أنّ الأصل في التحقّق هو الوجود والماهيّة اعتباريّة ومفهوم حاكٍ عنه متّحد به، وهو قول المحقّقين من المشّائيّين وهو المختار كما في النّظم: «إنّ الوجود عندنا أصيل».

وثانيهما: أنّ الأصل هو الماهيّة والوجود اعتباري، وهو مذهب شيخ الإشراق شهاب الدين السّهروردي»(1).

{وأمّا بناءً على} القول ب- {أصالة الماهيّة، فمتعلّق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضاً، بل بما هي بنفسها في الخارج} فالمطلوب هو الطبيعة لكن لا بما هي هي، بل بلحاظ خارجيّتها {فيطلبها كذلك} أي: بما هي بنفسها {لكي يجعلها بنفسها من الخارجيّات والأعيان الثّابتات}.

ولا يخفى أنّه ليس مراده بقوله: «لكي» الخ ما نفاه من عدم كون الوجود غاية، بل المراد أنّ الخارجيّة ملحوظة في متعلّق الطلب كما أنّ الوجود ملحوظ فيه، غاية الأمر أنّ الطبيعة ملحوظة بخارجيّتها {لا بوجودها} على أصالة الماهيّة

ص: 243


1- شرح المنظومة 2: 64.

كما كان الأمر بالعكس على أصالة الوجود.

وكيف كان، فيلحظ الآمِرُ ما هو المقصود من الماهيّة الخارجيّة أو الوجود، فيطلبه ويبعث نحوه، ليصدر منه، ويكون ما لم يكن، فافهم وتأمّل جيّداً.

فصل:

___________________________________________

{كما كان الأمر بالعكس} أي: إنّ الطبيعة ملحوظة بوجودها {على أصالة الوجود}.

قال العلّامة المشكيني(رحمة الله) في تعليقه على قول المصنّف: «وأمّا بناءً على أصالة الماهيّة» الخ، ما لفظه: «دفع لما قد توهّم من ابتناء كون المتعلّق للطلب الماهيّة أو الوجود على القولين من أصالة الماهيّة وأصالة الوجود، وأنّه يتعيّن على الأوّل القول بالطبيعة، وعلى الثّاني القول بالوجود.

وحاصل الدفع: أنّ كلا الفريقين متّفقان على أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي، فما لم يفض عليه الوجود أو الخارجيّة - وهي الحيثيّة المكتسبة من الجاعل - ليست مطلوبة ولا مبغوضة ولا غير ذلك، فلا وجه للقول بتعلّقه بها ولو مع كون وجودها غاية لطلبها بناءً على كلا القولين»(1).

{وكيف كان، فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهية الخارجيّة} لو كان من القائلين بأصالة الماهيّة {أو الوجود} لو كان من القائلين بأصالة الوجود {فيطلبه ويبعث نحوه ليصدر} ذلك المقصود {منه} أي: من المكلّف {ويكون} أي: ليكون في الخارج ويوجد {ما لم يكن، فافهم وتأمّل جيّداً}.

ثمّ إنّ عنوان المبحث - وإن كان في الأوامر والنّواهي - ولكن النّزاع يجري في المستحبّ والمكروه طابِقَ النَّعْلِ بالنّعل.

[الفصل الثامن هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب]

المقصد الأوّل: في الأوامر ، هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب

{فصل} اعلم أنّ المركّب يرتفع بأحد من ثلاثة أُمور: الأوّل: رفع أحدجزئيه،

ص: 244


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 64.

إذا نُسخ الوجوب فلا دلالة لدليل النّاسخ ولا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعمّ، ولا بالمعنى الأخصّ، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الأحكام؛ ضرورةَ أنّ ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية - بعد ارتفاع الوجوب واقعاً - ممكنٌ، ولا دلالةَ لواحدٍ من دليلَيِ النّاسخ والمنسوخ - بإحدى الدلالات - على تعيين واحد منها،

___________________________________________

الثّاني: جزئه الآخر، الثّالث: رفع كلا جزئيه.

إذا عرفت ذلك قلنا: ذهب جماعة إلى أنّ الوجوب إذا نسخ - كما لو أوجب إكرام العلماء ثمّ قال: (نسخت الوجوب) - كان ذاك الحكم بعد النّسخ جائزاً، واستدلّوا لذلك بأنّ الوجوب مركّب من جواز الفعل مع المنع من الترك، والنّسخ إنّما رفع المنع من الترك قطعاً، أمّا الجواز فالأصل بقاؤه، والمصنّف(رحمة الله) لم يرتض هذا المذهب؛ لأنّ الوجوب عنده بسيط كما تقدّم، ولذا قال: {إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل النّاسخ} كقول المولى: (نسخت الوجوب) {ولا} لدليل {المنسوخ} كقول المولى: (أكرم العلماء) {على بقاء الجواز بالمعنى الأعم} الّذي هو جنس للمستحبّ والمكروه والإباحة والوجوب {ولا} لبقاء الجواز {بالمعنى الأخصّ} الّذي هو الإباحة الشّرعيّة مقابل الأحكام الأربعة الأُخر {كما لا دلالة لهما} أي: للناسخ والمنسوخ {على ثبوت غيره} أي: غير الجواز {من الأحكام} الثّلاثة الأُخر، أي: الاستحباب والكراهة والحرمة {ضرورة أنّ ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب} بالنسخ {واقعاً ممكن}خبر «أنّ» {ولا دلالة لواحد من دليلي النّاسخ والمنسوخ بإحدى الدلالات} الثّلاث {على تعيين واحد منها} أي: من تلك الأحكام الأربعة:

أمّا عدم دلالة دليل النّاسخ فلأنّ النّاسخ نفي ولا دلالة للنفي على إثبات غيره، نعم، دليل النّاسخ بضميمة ما هو معلوم من عدم خلوّ الواقع عن الحكم يفيد وجود أحدها، ولكن هذا غير ما نحن فيه.

ص: 245

كما هو أوضح من أن يخفى؛ فلا بدّ للتعيين من دليل آخر.

ولا مجال لاستصحاب الجواز إلّا بناءً على جريانه في القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي،

___________________________________________

وأمّا عدم دلالة دليل المنسوخ لأنّه كان بسيطاً، وقد ارتفع ولا دلالة له على ما بعد الارتفاع، بل نقول على فرض تركيب الوجود أيضاً لا يعلم بقاء الجواز؛ لأنّ الجواز الّذي كان في ضمن الوجوب كان متقوّماً بفصله الّذي هو المنع من الترك، وبارتفاع الفصل يرتفع حصّة الجنس الّذي هو معه؛ لأنّهما موجودان بوجود واحد {كما هو أوضح من أن يخفى} فتدبّر، وحينئذٍ {فلا بدّ للتعيين من دليل آخر}.

{و} إن قلت: سلّمنا عدم دلالة دليلي النّاسخ والمنسوخ، ولكن الاستصحاب كافٍ لإثبات الجواز، فإنّ الفعل حين كان واجباً كان جائزاً، فإذا نسخ وجوبه يشكّ في ارتفاع جوازه فيستصحب بقاؤه.

قلت: {لا مجال لاستصحاب الجواز إلّا بناءً على جريانه} أي: الاستصحاب {في القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي}.

اعلم انّ الشّيخ+ ذكر في التنبيه الأوّل من تنبيهات الاستصحاب أنّاستصحاب الكلّي على ثلاثة أقسام، وإليك لفظه: «إنّ المتيقّن السّابق إذا كان كلّيّاً في ضمن فرد وشكّ في بقائه، فإمّا أن يكون الشّكّ من جهة الشّكّ في بقاء ذلك الفرد، وإمّا أن يكون من جهة الشّكّ في تعيين ذلك الفرد وتردّده بين ما هو باق جزماً وبين ما هو مرتفع كذلك، وإمّا أن يكون من جهة الشّكّ في قيام فرد آخر مقامه مع الجزم بارتفاع ذلك الفرد»(1).

ثمّ قسّم القسم الثّالث إلى قسمين بما لفظه: «فهو على قسمين؛ لأنّ الفرد الآخر

ص: 246


1- فرائد الأصول 3: 191.

وهو ما إذا شكّ في حدوث فرد كلّيّ، مقارناً لارتفاع فرده الآخر.

وقد حقّقنا في محلّه(1): أنّه لا يجري الاستصحاب فيه

___________________________________________

إمّا أن يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم حاله، وإمّا يحتمل حدوثه بعده إمّا بتبدّله إليه، وإمّا بمجرّد حدوثه مقارناً لارتفاع ذلك الفرد»(2)،

انتهى.

مثال الأوّل: ما لو كان هنا زيد ثمّ شككنا في بقاء الحيوان لشكّنا في بقاء زيد.

ومثال الثّاني: ما لو علمنا بوجود الحيوان في الدار إمّا في ضمن الفيل الّذي هو باقٍ جزماً وإمّا في ضمن البقّ الفاني جزماً، ثمّ شككنا في بقاء الحيوان من جهة عدم علمنا بذلك الفرد وتردّده بين الباقي جزماً والفاني جزماً.

ومثال الثّالث: ما لو وجد الإنسان في ضمن زيد ثمّ نعلم بذهاب زيد ونشكّ في بقاء الإنسان لاحتمال وجود عمرو حال وجود زيد.

ومثال الرّابع: ما لو وجد السّواد في ضمن السّواد الشّديد ثمّ علمنا بانعدام السّواد الشّديد وشككنا في بقاء السّواد لاحتمال حدوث سواد آخر بعد زوال ذلكالسّواد أو تبدّل ذلك السّواد الشّديد بالسواد الضعيف.

إذا عرفت ما تقدّم قلنا: إنّ إجراء الاستصحاب لإثبات الجواز غير تامّ؛ لأنّه من القسم الثّالث {وهو ما إذا شكّ في حدوث فرد} من أفراد ال- {كلّيّ مقارناً لارتفاع فرده الآخر، وقد حقّقنا في محلّه} في باب الاستصحاب من الجلد الثّاني {أنّه لا يجري الاستصحاب فيه} وما نحن فيه من استصحاب القسم الثّالث؛ لأنّ الجواز كلّيّ ولا يتحقّق إلّا في بعض أحد أفراده الأربعة - أي: الوجوب والاستحباب والإباحة والكراهة - فإذا كان ثابتاً في ضمن الوجوب ثمّ علمنا بارتفاع الوجوب واحتمل ثبوت هذا الكلّي - أي: الجواز في ضمن فرده الآخر - كالإباحة مقارناً

ص: 247


1- في التنبيه الثّالث من تنبيهات الاستصحاب راجع الوصول إلى كفاية الأصول 5: 112-113.
2- فرائد الأصول 3: 195.

ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القويّة أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع، بحيث عدّ عرفاً أنّه باقٍ، لا أنّه أمرٌ حادثٌ غيرُه.

ومن المعلوم: أنّ كلّ واحد من الأحكام مع الآخر - عقلاً وعرفاً - من المباينات والمتضادّات، غير الوجوب والاستحباب؛ فإنّه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشّدّة والضعف عقلاً، إلّا أنّهما متباينان عرفاً، فلا مجال للاستصحاب إذا شكّ في تبدّل أحدهما بالآخر؛

___________________________________________

لارتفاع الفرد الأوّل لا يجري استصحاب الكلّي حتّى يثبت الجواز.

نعم، يجري الاستصحاب في صورة من صور القسم الثّالث، وهو الّذي أشار إليه بقوله: {ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القويّة أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع}.

مثال الأوّل: ما لو جعلنا الماء المالح على النّار حتّى وصل إلى الغليان ثمّعلمنا بذهاب تلك الملوحة الضعيفة وشككنا في حدوث الملوحة الشّديدة أو زوال الملوحة أصلاً، فإنّه يستصحب بقاء الملوحة في الجملة.

ومثال الثّاني: ما تقدّم من زوال السّواد الشّديد واحتمال بقاء السّواد الضعيف {بحيث عدّ عرفاً} لا بالدقّة العقليّة {أنّه باق لا أنّه أمر حادث غيره} أي: غير المرتفع.

{ومن المعلوم أنّ كلّ واحد من الأحكام} الخمسة {مع الآخر عقلاً وعرفاً من المباينات والمتضادّات} فلو ذهب أحدها وشكّ في حدوث الآخر لم يجر استصحاب الجامع الكلّي، وهذا التباين في {غير الوجوب والاستصحاب} في كمال الظهور، وأمّا فيهما {فإنّه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشّدّة والضعف} بيان لتفاوت المرتبة {عقلاً} لأنّ العقل يرى الوجوب عبارة عن الطلب الأكيد، والاستصحاب عبارة عن الطلب الضعيف {إلّا أنّهما متباينان عرفاً فلا مجال للاستصحاب} بتوهّم كفاية حكم العقل بتفاوت مرتبتهما {إذا شكّ في تبدّل أحدهما بالآخر} كالشكّ في تبدّل الاستحباب بالوجوب أو العكس

ص: 248

فإنّ حكم العرف ونظره يكون متّبعاً في هذا الباب.

فصل:

___________________________________________

{فإنّ حكم العرف ونظره يكون متّبعاً في هذا الباب} أي: باب الاستصحاب، فالموضوع العرفي إذا كان واحداً جاز الاستصحاب دون الموضوع الشّرعي والعقلي.

تنبيه: وإن لم يكن مرتبطاً بالمقام تمام الارتباط قال في الفصول: «اعلم أنّه قد اشتهر في العبائر والألسنة أنّ الأحكام الشّرعيّة لا تبتني على التدقيقات الحكميّةوالعقليّة، بل تتنزّل على حسب الأفهام العرفيّة، ولهذا الكلام تحقيق، وهو أنّ من الأفراد والأجزاء ما يكون فرديّته وجزئيّته بحسب العقل دون العرف حتّى أنّهم يفهمون من ألفاظها في المحاورات ما عدا ذلك الفرد وذلك الجزء، كما في لون النّجس إذا تخلّف في جسم طاهر، فإنّه لا ينفكّ عن أجزاء صغار متخلّفة من ذلك في ذلك النّجس بناءً على امتناع انتقال العرض وإنّ حصوله ليس بالإعداد، وعلم ذلك في خصوص مورد، كما في الدخان المتصاعد عن النّجس والبخار الحاصل منه، فإنّهما لا ينفكّان عن أجزاء متصاغرة جدّاً من العين النّجسة عند التحقيق والتدقيق إلى غير ذلك، مع أنّ أهل العرف لا يعدّونها أجزاءً منها.

ففي مثل ذلك لا يحمل اللفظ إلّا على حسب ما يتفاهمه أهل العرف، وقس على ذلك الحال في نظائره، كوحدة الموضوع وتعدّده وبقائه وانعدامه في جريان الاستصحاب وعدمه إلى غير ذلك، وليس المراد أنّ التدقيقات العقليّة إذا قضت بامتناع شيء لم يعبأ بها لمخالفة أهل العرف لها، فإنّ ذلك ربّما يؤدّي إلى هدم أساس الشّريعة»(1)، انتهى.

[الفصل التاسع الواجب التخييري]

المقصد الأوّل: في الأوامر، الواجب التخييري

{فصل} في تحقيق الحال في الواجب التخييري، وحيث إنّ فيه إشكالاً أراد

ص: 249


1- الفصول الغرويّة: 108.

إذ تعلّق الأمر بأحد الشّيئين أو الأشياء:

ففي وجوب كلّ واحد على التخيير(1) - بمعنى عدم جواز تركه إلّا إلى بدل - .

___________________________________________

المصنّف(رحمة الله) دفع ذلك.أمّا الإشكال فهو ما أشار إليه المحقّق الرّشتي(رحمة الله) في شرح قوله: {إذا تعلّق الأمر بأحد الشّيئين أو الأشياء} بما لفظه: «فقد يستشكل هناك في متعلّق الوجوب، حيث إنّ حقيقة الوجوب متقوّمة بالمنع من الترك والواجب التخييري يجوز تركه في الجملة، كما أنّه يستشكل في الكفائي والموسّع حيث إنّه يجوز تركه لبعض المكلّفين في الأوّل وفي بعض من الزمان في الثّاني.

وتوضيح الإشكال في المسألة: أنّ متعلّق الوجوب إمّا كلّ واحد واحد من الأفعال المعيّنة، أو المجموع بما هو مجموع، أو واحد معيّن منها، أو غير معيّن، والكلّ باطل:

أمّا الأوّلان، فللزوم عدم حصول الامتثال بإتيان واحد منها، وهو باطل إجماعاً.

وأمّا الثّالث، فلاختصاص الوجوب حينئذٍ بذلك الفعل، فتعيّن الإتيان به دون غيره.

وأمّا الرّابع، فللزوم عدم حصول الامتثال بكلّ واحد من تلك الأفعال وإبهام المتعلّق حسب الفرض، فما أتى به لا يكون مأموراً به وما أمر به لم يؤت به، فلا محيص عن هذا الإشكال إلّا بتعيين متعلّق الوجوب بحيث ترفع المنافاة الّتي يترائى بين الوجوب وجواز الترك»(2)،

{ففي وجوب كلّ واحد} واحد {على التخيير، بمعنى عدم جواز تركه إلّا إلى بدل} فهو سنخ من الوجوب يتصف به كلّ واحد

ص: 250


1- العدة في أصول الفقه 1: 220.
2- شرح كفاية الأصول 1: 194.

أو وجوب الواحد لا بعينه(1).أو وجوب كلّ منهما مع السّقوط بفعل أحدهما(2).

أو وجوب المعيّن عند اللّه(3)،

___________________________________________

من الفردين أو الأفراد، ولكن ليس اتصاف كلّ واحد بالوجوب كاتصاف الواجب التعييني به، فإنّ المولى لا يرضى بترك الواجب التعييني. وأمّا هنا فالمولى لا يرضى بترك كليهما معاً ويرضى بترك أحدهما.

{أو وجوب الواحد لا بعينه} بمعنى الكلّي المنتزع الّذي يشمل كلّ واحد على نحو البدل.

والفرق بين هذا القول والقول الأوّل أنّ التخيير على هذا عقليّ والخطاب الشّرعي بالنسبة إلى الكلّي الواحد، بخلاف الأوّل، فالتخيير بينهما شرعيّ والخطاب الشّرعي بالنسبة إلى كلّ واحد منهما. مثلاً: قد يقول المولى: (جئني بإناء الماء) والحال أنّ الإناء في الخارج اثنان، فهنا خطاب واحد بالكلّي والتخيير بين فرديه عقليّ، وقد يقول: (جئني بهذا الإناء أو ذاك الإناء) فالخطاب اثنان والتخيير شرعيّ.

{أو وجوب كلّ منهما مع السّقوط بفعل أحدهما} فكلا الطرفين واجب تعيينيّ لكن المسقط أحدهما، والفرق بينه وبين الأوّلين ظاهر {أو وجوب المعيّن عند اللّه} - تعالى - .

مثلاً: يعلم اللّه أنّ زيداً يختار الإطعام، فالواجب على زيد واقعاً هو الإطعام، وهكذا يعلم انّ عمراً يختار الصيام فالواجب على عمرو واقعاً هو الصيام، ويظهر

ص: 251


1- الإحكام في أصول الأحكام 1: 100، حيث قال: إنه مذهب الفقهاء والأشاعرة.
2- وهو ما ذهب إليه السيد المرتضى في الذريعة 1: 88.
3- المحصول 2: 160.

أقوالٌ:

والتحقيق أن يقال: إنّه إن كان الأمر بأحد الشّيئين. بملاك أنّه هناك غرض واحد يقوم به كلّ واحد منهما - بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض، ولذا يسقط به الأمر - ، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليّاً لا شرعيّاً؛

___________________________________________

من بعض المحشّين تفسير هذا القول بغير ما فسّرناه.

{أقوال}: مبتدأ خبره قوله سابقاً: «ففي وجوب» الخ.

{والتحقيق} في المقام {أن يقال}: إنّ الأمر كما كان ناشئاً عن الغرض فالغرض في الواقع وإن كان واحداً كرفع العطش الحاصل بكلّ واحد من الإناءين كان الجامع بين الفردين واجباً، وإن كان الغرض متعدّداً كما لو أراد المولى رفع عطشه أو إنقاذ ولده، فالوجوب هناك سنخ غير سنخ الوجوب العيني له آثار خاصّة من جهة الترك إلى بدل ونحوه.

هذا مجمل المذهب المختار وتفصيله: {إنّه إن كان الأمر بأحد الشّيئين بملاك أنّه هناك} في الواقع {غرض واحد} كرفع العطش - مثلاً - وكان ذلك الغرض بحيث {يقوم به} ويؤتيه {كلّ واحد منهما} أي: من الواجبين التخييريّين كإناء الماء وإناء السّكنجبين {بحيث إذا أتى} المكلّف {بأحدهما حصل به تمام الغرض} بأن ارتفع عطش المولى رأساً {ولذا} أي: لحصول الغرض {يسقط به} أي: بأحدهما {الأمر} المتوجّه إليهما تخييراً {كان الواجب في الحقيقة} والواقع {هو الجامع بينهما} لا أنّ كلّ واحد منهما بخصوصه واجب في قبالالآخر {وكان التخيير بينهما بحسب الواقع} ونفس الأمر {عقليّاً لا شرعيّاً}.

والفرق بينهما أنّ التخيير الشّرعي هو الّذي أمر الشّارع بكلّ واحد منهما، بحيث لا يكون بين الفردين جامع، والتخيير العقلي هو ما كان هناك جامع واحد

ص: 252

وذلك لوضوح أنّ الواحد لا يكاد يصدر من اثنين بما هما اثنان، ما لم يكن بينهما جامع في البين؛ لاعتبار نحوٍ من السّنخيّة بين العلّة والمعلول.

___________________________________________

متعلّق للغرض والمولى أمر بذلك، فيحكم العقل بالتخيير بين أفراد ذلك الجامع، كما لو أمر المولى بعتق رقبة، فإنّ التخيير بين أفرادها عقليّ لا شرعيّ، ثمّ إنّ المولى قد يبيّن الأفراد لجهل العبد بكونها من أفراد المكلّف به، فيكون التخيير عقليّاً أيضاً والخطاب الشّرعي إرشاديّ لا مولوي، وعلى هذا فإطلاق التخيير الشّرعي على هذا القسم من التخيير مجاز، فتدبّر.

{وذلك} أي: ما ذكرنا من لزوم كون الواجب هو الجامع في مثل هذا المقام(1) {لوضوح أنّ الواحد لا يكاد يصدر من اثنين} فرفع العطش الّذي هو الغرض من الأمر لا يكاد يحصل من الماء والسّكنجبين {بما هما اثنان} لا جامع بينهما، فإنّ الاثنين {ما لم يكن بينهما جامع في البين} لا يعقل أن يؤثّرا في شيء واحد، بل لا بدّ وأن يكون بينهما جامع حتّى يكون تأثير كلّ واحد منهما في ذلك الغرض باعتبار ذلك الجامع، ككون كلّ من الماء والسّكنجبين بارداً ومائعاً.وإنّما قلنا بلزوم الجامع {لاعتبار نحو من السّنخيّة بين العلّة والمعلول}.

توضيح ذلك: أنّ المعلول الواحد على نوعين:

الأوّل: الواحد بالنوع، وهذا لا مانع من جواز استناده إلى المتعدّد، كالحرارة الحاصلة بالنار وبالحركة وبالغضب ونحوها.

الثّاني: الواحد الشّخصي، وهذا القسم من المعلول يمتنع استناده إلى علّتين مستقلّتين، وهذا على قسمين:

الأوّل: أن تكون العلّتان مجتمعتين، كأن تستند الحرارة الشّخصيّة بالنار وبالحركة بأن يؤثّر كلّ واحد منهما مستقلّاً.

ص: 253


1- الّذي كان الغرض واحداً.

وعليه فجَعَلَهُما متعلّقين للخطاب الشّرعي، لبيان أنّ الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.

___________________________________________

وجه الامتناع - كما قال بعضهم - أنّه لا بدّ من كون شيء أثراً ومعلولاً لشيء آخر من خصوصيّة كامنة في العلّة بها تستدعي العلّة معلولاً خاصّاً، وتلك الخصوصيّة هي السّنخيّة اللّازمة بين الأثر والمؤثّر، وإلّا يلزم جواز صدور كلّ شيء من كلّ شيء، والسّنخيّة بالمعنى المذكور ضروريّة عند العقل لا حاجة فيها إلى تجشّم الاستدلال عليها. وعلى هذا فلو اجتمعت العلّتان كان لكلّ منهما جزء التأثير فتخرجان عن الاستقلال، أو كان التأثير لأحدهما فقط وتكون الآخر كالحجر في جنب الإنسان.

الثّاني: أن تكون العلّتان متعاقبتين، كأن تستند الحرارة الشّخصيّة إلى النّار في السّاعة الأُولى ثمّ عند انعدام النّار يخلفها علّة أُخرى كالحركة مثلاً، وتكون الحرارة في البقاء مستندة إلى الحركة.

وجه الامتناع ما قاله البعض المتقدّم من أنّه يلزم استناد المعلول الشّخصيإلى الجامع بين العلّة المرتفعة والعلّة الحادثة، والجامع ليس من سنخ حقيقة الوجود، والمفروض أنّ المعلول من سنخ الوجود الخارجي، ولازمه كون المعلول أقوى وجوداً وتحصيلاً من العلّة، وهذا ضروريّ البطلان.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا وإن كان بعضه ضروريّاً ولكن بعضه الآخر موضع تأمّل، فتدبّر.

{وعليه} أي: بناءً على كون الواجب هو الجامع {فجعلهما متعلّقين للخطاب الشّرعي} ليس لأجل أنّ الخطاب لخصوصيّة كلّ واحد منهما، بل {لبيان أنّ الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين} وحيث إنّ العقل في كثير من الموارد لا يلتفت إلى أفراد الجامع أمر الشّارع بكلّ واحد منهما إرشاداً للعقل إلى أفراد ذلك

ص: 254

وإن كان بملاك أنّه يكون في كلّ واحد منهما غرضٌ لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه، كان كلّ واحد واجباً بنحو من الوجوب،

___________________________________________

الجامع، فليس التخيير تخييراً شرعيّاً بل تخييراً عقليّاً كشف عنه الشّارع.

ولا يخفى أنّه لو أبدل المصنّف(رحمة الله) قوله: «لبيان أنّ الواجب» الخ، بقولنا: «لأنّ العقل لا يدرك أفراد الجامع لو أمر بذلك الجامع» لكان أحسن، إذ علّة توجّه الخطاب الأفراد ليس هو بيان الجامع، بل هو لبيان الأفراد. نعم، إذا علم وحدة الغرض كان الأمر بالأفراد كاشفاً عن الجامع، فتدبّر.

هذا كلّه في ما لو كان الأمر بأحد الشّيئين بملاك غرض واحد {وإن كان} الأمر بأحدهما {بملاك أنّه يكون في كلّ واحد منهما} أي: من الفردين {غرض} غير الغرض من الآخر، كما مثّلنا من أنّالمولى يأمر بإتيان الماء لرفع عطشه أو الإتيان بالرّشا لإنقاذ ولده الغريق.

إن قلت: إذا كانت المصلحة في كلّ منهما ملزمة فلم يأمر بهما معاً، وإن كانت في أحدهما ملزمة كان الأمر بالآخر لغواً؟

قلت: المصلحة في كلّ منهما ملزمة وإنّما لم يأمر بهما لأحد أمرين:

الأوّل: أنّه كان الغرض من أحدهما {لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه} كما لو يموت المولى مع تهيئة الرّشا لإنقاذ الولد ويموت الولد مع تهيئة الماء للمولى.

الثّاني: يلاحظ مشقّة العبد كما إذا كان الغرض في كلّ منهما ملزماً في حدّ نفسه ولكن في الإتيان بهما مشقّة شديدة على العبد، وحينئذٍ يأمر بهما على نحو التخيير لعدم ترجيح أحدهما على الآخر حتّى يأمر به {كان كلّ واحد} من الشّيئين {واجباً} بخصوصه لا باعتبار الجامع {بنحوٍ من الوجوب} وهذا الوجوب التخييري الشّرعي لا التعييني، إذ الوجوب التعييني يتبع وجود الغرض

ص: 255

يستكشف عنه تبعاته، من: عدم جواز تركه إلّا إلى الآخر، وترتّب الثّواب على فعل الواحد منهما، والعقاب على تركهما.

فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقاً ولا مفهوماً، كما هو واضح،

___________________________________________

اللّازم غير المزاحم بالآخر أو بمشقّة، والمفروض هنا وجود الغرض فيهما لكن أحدهما لا يتأتّى مع الآخر أو المشقّة أوجبت عدم إيجاب كليهما تعييناً.

{يستكشف عنه} أي: عن هذا النّحو من الوجوب {تبعاته} فاعل «يستكشف» أي: إنّ آثار هذا الوجوب {من عدم جواز تركه إلّا إلى الآخر، و} من {ترتّب الثّواب على فعلالواحد منهما، و} من ترتّب {العقاب على تركهما} معاً، تدلّ(1)

على نحو هذا الوجوب وأنّه ليس من قبيل التعييني.

ثمّ هل يترتّب ثوابان على فعل كليهما أو ثواب واحد أو لا ثواب ولا عقاب أو يترتّب العقاب، وعلى تقدير ترك كليهما هل يترتّب عقابان أو عقاب واحد. والعقاب الواحد على هذا أو ذاك أو على ترك الجامع؟ احتمالات وفي تفصيلها طول.

{فلا وجه في مثله} أي: في مثل ما تعلّق التكليف بأحد الأمرين على سبيل التخيير مع تعدّد الملاك والغرض {للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقاً} أي: الفرد المنتشر {ولا مفهوماً} أي: الواحد لا بعينه المفهومي {كما هو واضح} أمّا عدم تعلّق التكليف بأحدهما المصداقي فلعدم إمكان امتثاله؛ لأنّ ما في الخارج مصداق هذا ومصداق ذاك وليس في الخارج شيء يصدق عليه أحدهما.

وأمّا عدم تعلّق التكليف بأحدهما المفهومي فلعدم كون هذا العنوان من العناوين

ص: 256


1- خبر «إنّ آثار هذا الوجوب».

___________________________________________

المحسنة، إذ الحسن هو عنوان إتيان الماء - مثلاً - لا عنوان أحدهما، مضافاً إلى أنّ هناك إشكالات أُخر مذكورة في المفصّلات.

وحيث كان هنا مظنّة إشكال دفعه المصنّف(رحمة الله) في تعليقة له على قوله: «يكون الواجب» الخ. ونحن نذكر الإشكال أوّلاً والتعليقة مع توضيح مختصرثانياً.

أمّا الإشكال فحاصله: أنّه لا مانع في كون الواجب أحدهما المفهومي؛ لأنّ المقتضي للإيجاب إنّما يقتضي إيجاب أحدهما لا بعينه لفرض ترتّب غرض على كلّ واحد منهما غير الغرض المترتّب على الآخر.

فإن قلت: الوجوب صفة معيّنة، فلا يعقل تعلّقه بأمر مبهم.

قلت: العلم مع كونه من الصفات الحقيقيّة يصحّ تعلّقه بأمر مردّد كالعلم الإجمالي، فتعلّق الوجوب الّذي هو صفة اعتباريّه بأمر مردّد بطريق أولى.

وأمّا الجواب فحاصله: أنّ مجرّد إمكان هذا النّحو من الملاك لا يصحّح تعلّق الوجوب بالمردّد، إذ البعث إلى المردّد لا يكون إلّا لإحداث الداعي في نفس العبد ليأتي بالمردّد، والمردّد لا يعقل إتيانه في الخارج.

وإلى هذا كلّه أشار المصنّف(رحمة

الله) في تعليقته بقوله: «فإنّه وإن كان» المردّد «ممّا يصحّ أن يتعلّق به بعض الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة، كالعلم» فإنّه يتعلّق بالمردّد، كأن يعلم بنجاسة أحد الإناءين «فضلاً عن الصفات الاعتباريّة المحضة كالوجوب والحرمة وغيرهما» من سائر الأحكام الخمسة «ممّا كان من الخارج المحمول» وقد سبق معنى خارج المحمول وأنّه في قبال المحمول بالضميمة «الّذي هي بحذائه في الخارج شيء غير ما هو منشأ انتزاعه» كما أنّه ليس في الخارج بحذاء الوجوب شيء «إلّا أنّه لا يكاد يصحّ البعث حقيقة إليه» أي: إلى المردّد، وإن كان يصحّ تعلّق العلم به «والتحريك

ص: 257

إلّا أن يرجع إلى ما ذكرناه في ما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأوّل، من أنّ الواجب هو الواحد الجامع بينها.

لا أحدُهما معيّناً، مع كون كلّ منهما مثل الآخر في أنّه وافٍ بالغرض.«ولا كلّ واحدٍ منهما تعييناً مع السّقوط بفعل أحدهما؛ بداهَةَ عدم السّقوط مع إمكان استيفاء ما في كلّ منهما من الغرض، وعدمِ جواز الإيجاب كذلك مع عدم إمكانه

___________________________________________

نحوه، كما لا يكاد يتحقّق الداعي لإرادته والعزم عليه» وذلك لما سبق من عدم قدرة العبد، فلا يتحقّق الداعي في نفس المولى لإرادة المردّد ولا يحرّك نحوه «ما لم يكن» الداعي للمولى «آئلاً إلى إرادة الجامع والتحريك نحوه، فتأمّل جيّداً»(1).

فتحصّل من هذا كلّه أنّه لا يمكن أن يكون الواجب أحدهما المردّد {إلّا أن يرجع إلى ما ذكرناه} من رجوع الأمر إلى الجامع، وذلك {في ما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأوّل} وبين قوله: «ما ذكرنا» بقوله: {من أنّ الواجب هو الواحد الجمع بينهما لا أحدهما معيّناً، مع كون كلّ منهما مثل الآخر في أنّه وافٍ بالغرض}.

هكذا عبارة بعض النّسخ وفي بعض النّسخ هكذا: «ولا أحدهما معيّناً» عطف على قوله: «لا وجه»، «مع» فرض «كون كلّ منهما مثل الآخر في أنّه واف بالغرض» هذا دليل لعدم كون الواجب أحدهما المعيّن {ولا كلّ واحد منهما تعييناً} هذا أيضاً معطوف على قوله: «لا وجه» {مع السّقوط بفعل أحدهما} بأن يكون كلاهما واجباً، ولكن بحيث لو فعل أحدهما سقط الآخر.

{بداهة} هذا دليل على قوله: «ولا كلّ واحد» الخ {عدم السّقوط مع إمكان استيفاء ما في كلّمنهما من الغرض وعدم جواز الإيجاب كذلك} أي: كلّ واحد واحد تعييناً {مع عدم إمكانه} أي: عدم إمكان استيفاء ما في كلّ منهما من الغرض

ص: 258


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 72.

خ ل»، فتدبّر.

بقي الكلام في أنّه هل يمكن التخيير عقلاً أو شرعاً بين الأقلّ والأكثر، أو لا؟

ربّما يقال(1): ب- «أنّه محال؛ فإنّ الأقلّ إذا وجد كان هو الواجب لا محالة، ولو كان في ضمن الأكثر؛ لحصول الغرض به، وكان الزائد عليه من أجزاء الأكثر زائداً على الواجب».

لكنّه ليس كذلك؛ فإنّه إذا فُرِضَ أنّ المحصِّل للغرض - في ما إذا وُجد الأكثر - هو الأكثر

___________________________________________

- خ ل - ، {فتدبّر} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قوله: «وعدم جواز الإيجاب» الخ غير مستقيم، إذ يجوز الإيجاب كذلك، لوجود الملاك في كلّ واحد واحد، ولا يمكن استيفاؤهما، لعدم إمكان جمعهما في الوجود الخارجي، فتأمّل.

{بقي الكلام في أنّه هل يمكن التخيير عقلاً أو شرعاً بين الأقلّ والأكثر} بأن يكون الواجب نزح ثلاثين أو أربعين، أو يكون الواجب تسبيحة واحدة أو أكثر {أو لا} يمكن ذلك، بل التخيير إنّما يعقل بين المتباينين فقط؟ {ربّما يقال ب- «أنّه محال، فإنّ الأقلّ إذا وجد كان هو الواجب لا محالة ولو كان في ضمن الأكثر} فإنّه إذا نزح ثلاثين تحقّق الواجب سواء كان المنزوح هو ثلاثين أم أربعين{لحصول الغرض} الداعي إلى إيجاب أحدهما {به} أي: بهذا الفرد الّذي هو الأقلّ {وكان الزائد عليه من أجزاء الأكثر زائداً على الواجب»} وعلى هذا فكلّما أتى بأحدهما كان الواجب هو الأقل، ولا معنى لإيجاب الأكثر أصلاً.

والحاصل: أنّ الأقلّ الواقع في ضمن الأكثر ليس بعض الواجب حتّى يكون الواجب هو الأكثر ويصحّ التخيير بينهما {لكنّه ليس كذلك} بل يصحّ التخيير بينهما {فإنّه إذا فرض أنّ المحصّل للغرض - في ما إذا وجد الأكثر - هو الأكثر} بحدّه

ص: 259


1- جواهر الكلام 10: 43.

لا الأقلّ الّذي في ضمنه - بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذٍ دخل في حصوله، وإن كان الأقلّ لو لم يكن في ضمنه كان وافياً به أيضاً - فلا محيص عن التخيير بينهما؛ إذ تخصيص الأقلّ بالوجوب حينئذٍ كان بلا مخصّص؛ فإنّ الأكثر بحدّه يكون مثله على الفرض، مثلُ أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخطّ مترتّباً على الطويل إذا رسم بما له من الحدّ، لا على القصير في ضمنه، ومعه

___________________________________________

الخاصّ به {لا الأقلّ الّذي في ضمنه} بل الأقلّ بعض المحصّل {بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذٍ} أي: حين الإتيان بالأكثر {دخل في حصوله} أي: الغرض {وإن كان الأقلّ} بحدوده {لو لم يكن في ضمنه} بل كان مستقلّاً {كان وافياً به أيضاً} كما كان الأكثر وافياً به {فلا محيص عن التخيير بينهما، إذ تخصيص الأقلّ بالوجوب حينئذٍ} أي: حين كان الأكثر بحدوده محصّلاً للغرض {كان بلا مخصّص، فإنّ الأكثر بحدّه يكون مثله} أي: مثل الأقلّ{على الفرض}.

وتوضيحه - بلفظ السّيّد الحكيم - : «يعني أنّ ما ذكرتم إنّما يتمّ لو كان الواجب صرف وجود الطبيعة؛ لأنّه يصدق على الأقلّ بمجرّد حصوله فيسقط الأمر فلا يجب الزائد عليه، أمّا إذا كان الواجب هو الوجود الخاصّ - أعني: وجوداً واحداً تامّاً من الطبيعة - فهذا المفهوم لا ينطبق على الأقلّ بمجرّد حصوله مطلقاً، بل يتوقّف على كونه تمام الفرد.

فإذا شرع في الواجب فحصلت ذات الأقلّ لم يصدق أنّه تمام الفرد حتّى ينقطع الوجود، فإن انقطع عليه كان هو الواجب وإن لم ينقطع لم يصدق الواجب إلّا على تمام الوجود إلى آخره»(1).

{مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخطّ مترتّباً على} أحد أمرين: القصير إذا رسم بشرط لا، و{الطويل إذا رسم بما له من الحدّ} الخاصّ {لا على القصير في ضمنه} أي: في ضمن الطويل {ومعه} أي: مع

ص: 260


1- حقائق الأصول 1: 335.

كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمّه؟ ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الإمكان.

إن قلت: هَبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحدٌ، لم يكن للأقلّ في ضمنه وجود على حدة - كالخطّ الطويل الّذي رُسِمَ دفعةً بلا تخلّل سكون في البين - ، لكنّه ممنوع في ما كان له في ضمنه وجود - كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث، أو خطّ طويل رُسم مع تخلّل العدم في رسمه - ،

___________________________________________

كون الغرض مترتّباً على الطويل بما هو هو {كيف يجوز تخصيصه}أي: تخصيص الوجوب {بما لا يعمّه} أي: لا يعمّ الطويل، بأن يخصّص بالقصير ويأمر به فقط؟

{ومن الواضح كون هذا الفرض} الّذي ذكر - أعني: دخل خصوصيّة الوجود في الغرض - {بمكان من الإمكان} وقد يمثّل له بما لو أمر المولى بإتيان الماء، فإنّ العبد إذا أتى بظرف كبير من الماء كان هذا الإتيان واجباً، وليس الواجب نصف هذا الماء المأتي به والنّصف الآخر مستحبّ، وإن كان لو أتى بظرف صغير يشتمل على نصف ذلك الماء كان آتياً بالواجب، وكذا لو أمر ببناء دار أو إجارتها أو فتح دكّان أو نحو ذلك ممّا لا يحصى من الأمثلة العرفيّة.

ومن هذا كلّه تبيّن إمكان التخيير بين الأقلّ والأكثر.

{إن قلت: هبه} أي: هب أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر ممكن {في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد} بأن {لم يكن للأقلّ} الّذي {في ضمنه وجود على حدة كالخطّ الطويل الّذي رسم دفعة بلا تخلّل سكون في البين} وكالإتيان بالماء دفعة {لكنّه} أي: التخيير بين الأقلّ والأكثر {ممنوع في ما كان له} أي: للأقلّ {في ضمنه} أي: ضمن الأكثر {وجود} مستقلّ، بأن كان الأكثر عبادة عن وجودات متعدّدة متباينة {كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث} وثلاثين دلواً في ضمن أربعين {أو خطّ طويل رسم مع تخلّل العدم في رسمه} بأن رسم أوّلاً قطعة من الخط

ص: 261

فإنّ الأقلّ قد وُجد بحدّه، وبه يحصل الغرض على الفرض، ومعه لا محالة يكون الزائد عليه ممّا لا دخل له في حصوله، فيكون زائداً على الواجب، لا من أجزائه.قلت: لا يكاد يختلف الحال بذلك؛ فإنّه مع الفرض لا يكاد يترتّب الغرض على الأقلّ في ضمن الأكثر،

___________________________________________

ثمّ رسم ثانياً قطعة أُخرى متّصلة بالأُولى {فإنّ الأقلّ} في متعدّد الوجود التدريجي {قد وجد بحدّه} الخاص {وبه يحصل الغرض على الفرض} لوجود الواجب بهذا الوجود الخاصّ الموجب لسقوط الأمر {ومعه} أي: مع حصول الغرض {لا محالة يكون الزائد عليه} كالتسبيحتين الأخيرتين والعشرة دلاء بعد الثّلاثين والقطعة الثّانية من الخطّ {ممّا لا دخل له في حصوله} أي: حصول الغرض {فيكون زائداً على الواجب} مستحبّاً {لا من أجزائه}.

وبهذا تبيّن أنّ الأقلّ والأكثر على قسمين:

الأوّل: أن لا يكون للأقلّ وجود مستقلّ في ضمن الأكثر، وهذا القسم يعقل فيه التخيير بين الأقلّ والأكثر.

الثّاني: أن يكون للأقلّ وجود مستقلّ في ضمن الأكثر، وهذا القسم لا يعقل فيه التخيير بين الأقلّ والأكثر بل الواجب هو الأقلّ فقط، لما تقدّم من أنّه كلّما أراد المكلّف إتيان الأكثر تحقّق الأقلّ أوّلاً وبه يسقط الواجب، فلا مجال لوجوب الأكثر أصلاً.

{قلت: لا يكاد يختلف الحال بذلك} الفرق الّذي ذكرتم، فإنّه لا فرق بين ما كان للأقلّ وجود على حدة كالتسبيحة أم لم يكن كالخطّ {فإنّه مع الفرض} الّذي فرضناه سابقاً - من أنّ الغرض قد يحصل بشرط لا وقد يحصل لا بشرط - والأقلّ من قبيل بشرط لا بأن كان خصوصيّة الوجود دخيلة في الغرض {لا يكاد يترتّب الغرضعلى الأقلّ} إذا كان {في ضمن الأكثر} بل يترتّب الغرض على الأكثر حينئذٍ

ص: 262

وإنّما يترتّب عليه بشرط عدم الانضمام، ومعه كان مترتّباً على الأكثر بالتمام.

وبالجملة: إذا كان كلّ واحد من الأقلّ والأكثر بحدّه ممّا يترتّب عليه الغرض، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما عقليّاً إن كان هناك غرض واحد، وتخييراً شرعيّاً في ما إذا كان هناك غرضان، على ما عرفت.

نعم، لو كان الغرض مترتّباً على الأقلّ

___________________________________________

{وإنّما يترتّب} الغرض {عليه} أي: على الأقل {بشرط عدم الانضمام} أي: عدم الانضمام الزائد إليه {ومعه} أي: مع انضمام الزائد {كان} الغرض {مترتّباً على الأكثر بالتمام}.

وقد يمثّل له بما لو كان هناك لون أو صبغ بمقدار درهم منه صار لون المصبوغ أصفراً، وإذا صبغ بمقدار درهمين منه صار لون المصبوغ أسوداً، وكان المطلوب للمولى أحد اللونين، فإنّه حينئذٍ يجب أحدهما تخييراً، بحيث يترتّب على الأقلّ بشرط لا تارةً وعلى الأكثر بحدّه الخاصّ أُخرى، مع أنّ خلط ذلك اللون بالماء تدريجيّ، فإنّ الغرض حينئذٍ يترتّب على الأقلّ بشرط عدم الانضمام وعلى الأكثر بالتمام، ولا يترتّب على الأقلّ في ضمن الأكثر.

{وبالجملة إذا كان كلّ واحد من الأقلّ} بحدّه {والأكثر بحدّه ممّا يترتّب عليه الغرض فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما وكان التخيير بينهما عقليّاً} لا شرعيّاً {إن كان هناك غرضواحد} وكان أمر الشّارع بهما إرشاداً إلى حكم العقل كما سبق {وتخييراً شرعيّاً في ما إذا كان هناك غرضان على ما عرفت} من غير فرق بين ما لو كان الأفراد تدريجيّ الحصول، كما لو نزح أربعين دلواً متدرّجاً، أو دفعيّ الحصول كما لو نزح الأربعين دفعة واحدة بأربعين دلاء. ثمّ إنّه لا أثر مهمّاً لكون التخيير شرعيّاً أو عقليّاً، فلا يهمّ البحث عن طريق إثباتهما.

{نعم} استثناء عن قوله: «وبالجملة» {لو كان الغرض مترتّباً على الأقلّ} فقط

ص: 263

من دون دخل للزائد، لَما كان الأكثر مثل الأقلّ وعِدْلاً له، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره - مستحبّاً كان أو غيره - ، حسب اختلاف الموارد، فتدبّر جيّداً.

فصل: في الواجب الكفائي.

___________________________________________

{من دون دخل للزائد} أصلاً لكان الواجب هو الأقلّ، سواء أتى بضميمة الزائد أم لا، و{لمّا كان} حينئذٍ {الأكثر مثل الأقلّ وعدلاً له} في الوجوب {بل كان فيه} أي: في الأكثر {اجتماع الواجب وغيره} فالأقلّ واجب والزائد عليه ليس بواجب، بل {مستحبّاً كان أو غيره} من المكروه والمباح ونحوهما {حسب اختلاف الموارد} ففي التكبيرات السّبع المفتتحة بها الصلاة تكون أحدها واجبة والباقيات مستحبّة، وفي القران بين السّورتين على القول بالكراهة تكون أحدهما واجبة والثّانية مكروهة، وفي نزح خمسين في مورد الأربعين تكون العشرة الزائدة مباحة، بل قد تكون الزائدة محرّمة، كالغسل الثّالث لأعضاء الوضوء - بناءً على كونه بدعة - ، وكالأذان الزائد الّذي اخترعه عثمان {فتدبّر جيّداً} حتّى تعرف الموارد وتميّز بعضها عن بعض، واللّهالهادي.

[الفصل العاشر في الواجب الكفائي]

المقصد الأوّل: في الأوامر، في الواجب الكفائي

{فصل: في الواجب الكفائي} وفي بعض النّسخ «في الوجوب الكفائي»، وفي بعضها «في وجوب الواجب الكفائي».

وعلى كلّ حال، فقد استشكل في الواجب الكفائي بأنّ ما يذكر له من اللّازم متضادّ.

بيان ذلك: أنّهم قالوا: «مقتضى الواجب الكفائي عصيان الكلّ لو تركوا وأداء الواجب بفعل البعض» ولازم عصيان الكلّ وجوبه على الجميع، إذ عصيان كلّ واحد ملزوم وجوبه على كلّ واحد، ولازم أداء الواجب بفعل البعض عدم وجوبه على كلّ واحد، إذ لو كان واجباً على كلّ واحد لم يعقل سقوطه بفعل البعض.

ص: 264

والتحقيق: أنّه سنخ من الوجوب، وله تعلّق بكلّ واحد، بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعاً، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم؛

وذلك لأنّه قضيّة ما إذا كان هناك غرض واحد، يحصل بفعل واحد صادر عن الكلّ أو البعض.

كما أنّ الظاهر هو: امتثال الجميع لو أتوا به دفعة، واستحقاقهم للمثوبة، وسقوط الغرض بفعل الكلّ،

___________________________________________

{والتحقيق} أن يقال: {إنّه سنخ من الوجوب وله تعلّق بكلّ واحد} من الأشخاص {بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعاً} عقاباً واحداً أو متعدّداً {وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم} وعلى هذا فالواجب الكفائي كالواجب التخييري، لكن الفرق في أنّالمكلّف به متعدّد في التخييري والمكلّف متعدّد في الكفائي.

ومن هذا ظهر الجواب عن الإشكال، فإنّ الوجوب على كلّ واحد لا يلازم لزوم إتيان كلّ واحد مستقلّاً، بل إن كان الغرض متعدّداً لزم إتيان كلّ واحد وإلّا كفى إتيان البعض.

{وذلك} أي: ما ذكرنا من معاقبه الجميع في صورة الترك والسّقوط عن الجميع بفعل شخص واحد {لأنّه قضيّة ما إذا كان هناك غرض واحد} بحيث {يحصل بفعل واحد} إمّا {صادر عن الكلّ} كما لو اجتمعوا على غسل الميّت {أو البعض} كما لو غسله بعضهم {كما أنّ الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة} إذ عدم الامتثال خلاف الواقع وامتثال بعضهم دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

{و} الظاهر أيضاً في هذه الصورة {استحقاقهم للمثوبة} وهل ثواب واحد موزّع أو مثوبات بعدد الأشخاص؟ احتمالان.

{و} أمّا {سقوط الغرض بفعل الكلّ} فلا إشكال فيه في التوصليّات وفي التعبديّات

ص: 265

كما هو قضيّة توارد العلل المتعدّدة على معلول واحد.

فصل: لا يخفى أنّه وإن كان الزمان ممّا لا بدّ منه عقلاً في الواجب، إلّا أنّه تارةً: ممّا له دخل فيه شرعاً،

___________________________________________

على الأرجح، وإن احتمل عدم السّقوط لمدخليّة وحدة الفاعل، كما قد يستأنس لذلك بما لو جعل المولى جعلاً لرفع صخرة عظيمة - لاختبار قوى عبيده - فإنّ رفع الجميع بالشركة غير مسقط للغرض، فتدبّر.

{كما هو قضيّة توارد العلل المتعدّدةعلى معلول واحد} إذ قد سبق أنّ العلل المتعدّدة لا تؤثّر إلّا مجتمعاً، لامتناع استناد الأثر إلى كلّ واحد مستقلّاً، وعليه فليس فعل أحدهم علّة فقط حتّى يختصّ به الامتثال والثّواب، فقوله: «كما هو» دليل لقوله: «كما أنّ الظاهر» - وإنّما عبّر بالظهور، لعدم القطع بالامتثال وتابعيه، لما تقدّم من الاستيناس.

ثمّ إنّ هذا كلّه في ما تواردت الأفعال على المعلول دفعة واحدة، أمّا لو تعاقبت كما لو غسل الميّت شخص ثمّ غسله شخص آخر فإنّ الثّاني لا يتّصف بالوجوب قطعاً، وإنّما هو بين الأحكام الأربعة الأُخر ولا يصار إلى أحدها إلّا بدليل خارجيّ، كما لا يخفى، واللّه - تعالى - هو العالم.

[الفصل الحادي عشر الواجب الموقّت والموسّع]

المقصد الأوّل: في الأوامر، الواجب الموقت والموسّع

{فصل} في تحقيق الحقّ في الواجب الموسّع والموقّت {لا يخفى أنّه وإن كان الزمان ممّا لا بدّ منه عقلاً في الواجب} وغيره من الأحكام، لعدم معقوليّة خلوّ الفعل عن الزمان، إذ المأمور به من الأفعال والفعل زمانيّ كما أنّه يحتاج إلى المكان عرضاً {إلّا أنّه} ليس كلامنا الآن في هذا النّحو من الزمان، بل المراد أنّ الزمان {تارة ممّا له دخل فيه} أي: في الواجب {شرعاً} بأن كان دخيلاً في مصلحة المأمور به، فأخذ في الدليل قيداً للموضوع أو الحكم فلا يجوز تأخير

ص: 266

فيكون موقّتاً، وأُخرى: لا دخل له فيه أصلاً، فهو غير موقّت.

والموقّت: إمّا أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره فمضيّق، وإمّا أن يكون أوسع منه فموسّع.

ولا يذهب عليك: أنّ الموسّع كلّيّ، كما كان له أفراد دفعيّة، كان له أفراد تدريجيّة،يكون التخيير بينها - كالتخيير بين أفراده الدفعيّة - عقليّاً.

___________________________________________

المأمور به عنه ولا تقديمه عليه {فيكون موقّتاً، وأُخرى لا دخل له فيه أصلاً} كقضاء الصلاة على القول بالتوسعة {فهو غير موقّت} من غير فرق في هذا القسم بين أن لا يؤخذ الزمان فيه أصلاً أو أُخذ ظرفاً للحكم {والموقّت إمّا أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره} كصوم رمضان {فمضيّق، وإمّا أن يكون أوسع منه} كالصلوات اليوميّة {فموسّع} وأمّا كون الزمان أضيق من الفعل، فغير ممكن.

{ولا يذهب عليك أنّ الموسّع كلّيّ} متّصف بأنّه {كما كان له أفراد دفعيّة} عرضيّة كالصلوات في الدار أو في المسجد أو في الحمّام الّتي ينطبق على كلّ منها كلّيّ الصلاة كذلك {كان له أفراد تدريجيّة} طوليّة كالصلاة أوّل الوقت ووسطه وآخره وهذه الأفراد التدريجيّة {يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفراده الدفعيّة عقليّاً} فكما يصحّ الإتيان بالصلاة في المسجد والدار والحمّام كذلك يصحّ الإتيان بها في أوّل الوقت ووسطه وآخره.

وإنّما كان التخيير عقليّاً؛ لأنّ الغرض مترتّب على نفس الطبيعة على الإطلاق من دون أخذ خصوصيّة فيها، ووجه تخصيص هذا بالموسّع ظاهر، إذ ليس للمضيّق أفراد تدريجيّة.

فإن قلت: إنّ غير الموقّت أيضاً كذلك.

قلت: نعم، ولكن لم يقع الاختلاف في كون التخيير فيه عقليّاً أو شرعيّاً.

ص: 267

ولا وجه لتوهّم أن يكون التخيير بينها شرعيّاً؛ ضرورة أنّنسبتها إلى الواجب نسبةُ أفراد الطبائع إليها، كما لا يخفى.

ووقوع الموسّع - فضلاً عن إمكانه - ممّا لا ريب فيه، ولا شبهة تعتريه، ولا اعتناء ببعض التسويلات، كما يظهر من بعض المطوّلات.

___________________________________________

{و} على كلّ حال {لا وجه لتوهّم أن يكون التخيير بينها} أي: بين الأفراد التدريجيّة في الموسّع {شرعيّاً} كالتخيير بين خصال الكفّارة، غاية الأمر أنّها أفعال مختلفة الحقيقة وهنا مختلفة الوقت، وإنّما قلنا بعدم كون التخيير شرعيّاً ل- {ضرورة أنّ} الأفراد التدريجيّة {نسبتها إلى الواجب} نحو {نسبة أفراد الطبائع إليها} فتحصّل أنّ كلّاً من الأفراد الدفعيّة والتدريجيّة عقليّة، وحال الثّاني كحال الأوّل إذ لا تفاوت في نظر العقل بينهما {كما لا يخفى}.

ثمّ إنّ جماعة من القدماء ذهبوا إلى امتناع الواجب الموسّع وافترقوا في الأوامر الظاهرة في الموسّع على ثلاثة مذاهب:

الأوّل: أنّ الوجوب مختصّ بأوّل الوقت.

الثّاني: أنّه مختصّ بآخر الوقت ولكن لو فعل في أوّل الوقت كان نفلاً يسقط به الفرض.

الثّالث: أنّه مختصّ بآخر الوقت ولو فعل في أوّل الوقت وقع مراعى ببقاء التكليف، فينكشف عن وجوبه وعدمه فينكشف عن استحبابه.

{و} لا يخفى أنّ {وقوع الموسّع فضلاً عن إمكانه ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه} فلا حاجة إلى صرف ظواهر الأدلّة إلى ما ذكر {ولا اعتناء ببعض التسويلات}والشّبهات الّتي أوردوها على توسعة الوقت {كما يظهر من بعض المطوّلات}.

فمن تلك الشّبهات أنّ الفضيلة في الوقت ممتنعة لأدائها إلى جواز ترك الواجب، فيخرج عن كونه واجباً.

ص: 268

ثمّ إنّه لا دلالة للأمر بالموقّت - بوجهٍ - على الأمر به في خارج الوقت، بعد فوته في الوقت، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به.

نعم، لو كان التوقيت بدليل منفصل

___________________________________________

والجواب: أنّ أفراد الموسّع كخصال الكفّارة فكما لا يجب إتيان جميعها كذلك لا يجب إيقاع الفعل في جميع الأزمنة، ولا يجوز له إخلاء الجميع عنه، والتعيين مفوّض إليه مادام الوقت متّسعاً فإذا تضيّق تعيّن الفعل عليه بحيث لو لم يفعل في هذا الحال كان عاصياً، فأين خروج الواجب عن وجوبه.

{ثمّ} هل يدلّ الأمر بالموقّت على وجوب الفعل خارج الوقت، على نحو تعدّد المطلوب، أو يدلّ على عدم الوجوب أو لا دلالة على شيء منهما، والمصنّف(رحمة الله) فصّل في المسألة، فذهب إلى {أنّه لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه} من الوجوه {على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت - لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به -} في ما لو كان التوقيت بدليل متصل بدليل الوجوب كقوله - تعالى - : {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ}(1)، وحينئذٍ يكون حال ما بعد الوقت حال ما قبل الوقت إذا لم يكن هناك عموم يدلّ على القضاء، كقوله(علیهالسلام): «ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك»(2).

{نعم، لو كان التوقيت بدليل منفصل} كما لو قال: (صلّ) ثمّ قال: (يجب كون الصلاة في الوقت) فهو على أربعة أقسام: لأنّه إمّا أن يكون لدليل الواجب إطلاق بحيث يشمل الوقت وما بعده أو لا يكون له إطلاق، وعلى كلا التقديرين فإمّا أن يكون للقيد إطلاق بحيث يدلّ على كون التقييد لأصل المطلوب فلا مطلوبيّة

ص: 269


1- سورة الإسراء، الآية: 78.
2- لم نعثر على حديث بهذا اللفظ، نعم، يستفاد معناه من صحيحة زرارة المذكورة في وسائل الشيعة 8: 268، ولفظه هكذا: «يقضي ما فاته كما فاته».

لم يكن له إطلاقِ على التقييد بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق، لكان قضيّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، وكونَ التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصلهِ.

وبالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب، كذلك ربّما يكون بنحو تعدّد المطلوب - بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوباً في الجملة، وإن لم يكن بتمام المطلوب - إلّا أنّه لا بدّ في إثبات أنّه بهذا النّحو من دلالةٍ، ولا يكفي الدليل على الوقت

___________________________________________

للواجب بدون هذا القيد، أو لا يدلّ بحيث كان دليل القيد مهملاً، كالإجماع وشبهه.

إذا عرفت الأقسام الأربعة قلنا: دليل القيد {لم يكن له إطلاق على التقييد} لجميع مراتب المصلحة {بالوقت} بأن كان مهملاً يفيد مطلوبيّة الوقت، وأمّا ما بعد الوقت فكان ساكتاً عنه {وكان لدليل الواجب إطلاق} يشمل حتّى ما بعد الوقت، كما لو قال: (صلّ) ثمّ دلّ الإجماع على كون الصلاة واجبة في الوقت {لكان قضيّةإطلاقه} أي: إطلاق دليل الواجب {ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت} فيجب الإتيان به بعد الوقت لو فات في الوقت {و} ذلك لأنّ منتهى دلالة القيد {كون التقييد به بحسب تمام المطلوب} أي: المطلوب التامّ {لا أصله} فأصل مطلوبيّة الفعل باقٍ ولو خرج الوقت.

{وبالجملة التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب} كصلاة العيد والجمعة، بأن كان المطلوب للمولى صِرف الطبيعة الموقّتة، بحيث تفوت بفوات الوقت {كذلك ربّما يكون بنحو تعدّد المطلوب} كالصلوات اليوميّة {بحيث كان أصل الفعل - ولو في خارج الوقت - مطلوباً في الجملة} بمرتبة ضعيفة من الطلب {وإن لم يكن بتمام المطلوب} أي: المطلوب التامّ الكامل {إلّا أنّه لا بدّ في إثبات أنّه} أي: المطلوب {بهذا النّحو} من التعدّد {من دلالة} كما أنّه لا بدّ في إثبات وحدة المطلوب من دلالة {ولا يكفي} نفس {الدليل على الوقت} لإِفادة تعدّد المطلوب

ص: 270

إلّا في ما عرفت.

ومع عدم الدلالة فقضيّة أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت. ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقّت بعد انقضاء الوقت، فتدبّر جيّداً.

فصل: الأمرُ بالأمرِ بشيءٍ، أمرٌ به لو كان الغرض

___________________________________________

{إلّا في ما عرفت} ممّا كان لدليل أصل الواجب إطلاق ولم يكن لدليل القيد إطلاق. والأظهر في إفادة المراد أن يقول: ولا يستفاد تعدّد المطلوب،إلّا ممّا عرفت.

{ومع عدم الدلالة} على تعدّد المطلوب، بأن كان أحد الأقسام الثّلاثة الأُخر أعني:

1- عدم الإطلاق لدليل الواجب، مع إطلاق دليل القيد.

2- عدم الإطلاق لدليل الواجب، مع عدم الإطلاق لدليل القيد.

3- الإطلاق لدليل الواجب، مع عدم الإطلاق لدليل القيد {فقضيّة أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت} كما لم تكن واجبة قبل الوقت {ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقّت بعد انقضاء الوقت} لأنّ الزمان كان قيداً للموضوع - حسب الفرض - فبانتفاء القيد ينتفي المقيّد، فالموضوع مرتفع وبارتفاعه لا يصحّ الاستصحاب، كما سيأتي في بابه، إن شاء اللّه - تعالى - {فتدبّر جيّداً} حتّى لا تخلط بين الأقسام الأربعة، واللّه العاصم.

[الفصل الثّاني عشر الأمر بالأمر]

المقصد الأوّل: في الأوامر، الأمر بالأمر

{فصل} اختلفوا في أنّ {الأمر بالأمر بشيء} - كأن يأمر المولى عبده زيداً بأن يأمر عمرواً بالصلاة - هل هو {أمر به} فلا فرق بينه وبين أن يأمر عمرواً ابتداءً بالصلاة أم لا؟

والمصنّف(رحمة الله) فصّل في المسألة فذهب إلى أنّه أمر به {لو كان الغرض} الباعث

ص: 271

حصوله، ولم يكن له غرضٌ في توسيط أمر الغير به إلّا تبليغ أمره به، كما هو المتعارف في أمر الرّسل بالأمر أو النّهي.

وأمّا لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذاك الشّيء - من دون تعلّق غرضه به، أو مع تعلّق غرضه به لا مطلقاً، بل بعد تعلّق أمره به -

___________________________________________

من المولى {حصوله} أي: حصول ذلك الشّيء في الخارج {ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلّا تبليغ أمره به} أي: لم يكن للآمر غرض في جعل هذه الواسطة بينه وبين الثّالث - وهي أمر الشّخص الثّاني بالأمر - إلّا تبليغ أمر الآمر بذلك الشّيء إلى الثّالث {كما هو المتعارف} أي: كون الغرض هو التبليغ {في أمر الرّسل بالأمر} كقوله - تعالى - : {وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ}(1) {أو النّهي} عطف على «الأمر».

{وأمّا لو كان الغرض من ذلك} أي: من أمر المولى الأمر {يحصل بأمره بذاك الشّيء} أي: أمر المولى الشّخص الثّاني، أو أمر الشّخص الثّاني الشّخص الثّالث.

والحاصل: أنّ المولى يريد امتحان الواسطة - مثلاً - في أنّه يطيع ويبلغ الأمر الثّالث أم لا، أو يريد امتحان الثّالث في أنّه هل يصير بصدد الإطاعة أم لا؟ {من دون تعلّق غرضه} أي: غرض المولى {به} أي: بنفس ذلك الشّيء المأمور به.

مثلاً: لا يريد الصلاة في ما لو قال لزيد: (مر عمرواً بالصّلاة) {أو مع تعلّق غرضه} أي: غرض المولى {به} أي: بالمأمور به، بأن يريد الصلاة ولكن {لا} يريده {مطلقاً} سواء كان صدوره عن الثّالث بعد أمر الثّاني أم لا {بل بعد تعلّق أمره} أي: أمر الواسطة {به} أي: بذلك الشّيء.

مثلاً: الصلاة محبوبة للمولى لكن ليس بحيث يريد صدورها عن عمرو مطلقاً، بل يريد صدورها بعد أمر زيد الواسطة، كما لو كان زيد ابنه ويريدإطاعة

ص: 272


1- سورة الأعراف، الآية: 145.

فلا يكون أمراً بذاك الشّيء، كما لا يخفى.

وقد انقدح بذلك: أنّه لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر على كونه أمراً به، ولا بدّ في الدلالة عليه من قرينة عليه.

فصل: إذا ورد أمر بشيء بعد الأمر به قبل امتثاله،

___________________________________________

عمرو له {فلا يكون} الأمر بالأمر بشيء {أمراً بذاك الشّيء} في هاتين الصورتين {كما لا يخفى} أمّا في الصورة الأُولى فلعدم تعلّق الغرض بالصلاة مثلاً أصلاً، وأمّا في الصورة الثّانية فلعدم كون الصلاة مأموراً بها، بل إنّما تكون مأموراً بها بعد أمر الواسطة.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ الصور المتصوّرة للأمر بالأمر بشيء بحسب مقام الثّبوت - على ما يستفاد من كلام المصنّف - أربعة: لأنّ غرض المولى إمّا حصول ذلك الشّيء أو لا، وعلى كلّ تقدير فإمّا أن يكون له غرض في توسيط الغير أم لا.

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرناه في مقام الثّبوت، حال مقام الإثبات، و{أنّه لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر على كونه أمراً به} لأنّ مقام الثّبوت محتمل ومقام الإثبات لا معيّن لأحد المحتملات {ولا بدّ في الدلالة عليه} أي: على كونه أمراً {من قرينة عليه} والأظهر انعقاد الظهور العرفي في كون المقصود هو الفعل وأنّه ليس غرض في التوسيط إلّا المبلغيّة.

ثمّ ذكر بعضهم أنّ فائدة هذا النّزاع كون عبادات الصبي شرعيّة أم لا، إذ لو كان الأمر بالأمر أمراً به كان قوله: «مروهم بالصلاة»(1) أمراً بصلاتهم فتكون شرعيّة، فتدبّر.

[الفصل الثّالث عشر الأمر بعد الأمر]

المقصد الأوّل: في الأوامر، الأمر بعد الأمر

{فصل: إذا ورد أمر بشيء بعد الأمر به قبل امتثاله} كأن يقول المولى: (ادع عند

ص: 273


1- بحار الأنوار 85: 133؛ الكافي 3: 409، ولفظ الحديث: «إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين».

فهل يوجب تكرار ذلك الشّيء، أو تأكيدَ الأمر الأوّل والبعثِ الحاصل به؟

قضيّة إطلاق المادّة هو التأكيد؛ فإنّ الطلب تأسيساً لا يكاد يتعلّق بطبيعة واحدة مرّتين، من دون أن يجيء تقييد لها في البين، ولو كان بمثل: (مرّة أُخرى)، كي يكون متعلّقُ كلّ منهما غيرَ متعلّق الآخر، كما لا يخفى.

___________________________________________

رؤية الهلال) ثمّ قبل أن يدعو العبد قال: (ادع عند رؤية الهلال) {فهل} هنا واجبان شرعيّان بحيث {يوجب} الأمر الثّاني الإتيان بالمأمور به ثانياً فيجب {تكرار ذلك الشّيء، أو} لا، بل الأمر الثّاني {تأكيد الأمر الأوّل} فلا يجب الفعل إلّا مرّة واحدة {والبعث الحاصل به؟} عطف على «الأمر الأوّل».

{قضيّة إطلاق المادّة} - أعني: مادّة الأمر وهي الدعاء - {هو التأكيد، فإنّ الطلب تأسيساً لا يكاد يتعلّق بطبيعة واحدة مرّتين من دون أن يجيء تقييد لها} أي: للطبيعة {في البين}.

والحاصل: أنّ مادّه الدعاء بدون تقييدها بمثل: (مرّة أُخرى) بأن لم يقل: (ادع مرّة أُخرى) متّحدة مع مادّة الأمر الأوّل، وعليه فالدعاء المأمور بها في كلا الأمرين مفهوم واحد يتحقّق بوجود واحد.

وبعبارة أُخرى: إنّ الأمر الثّاني إمّا أن يتعلّق بفرد من الدعاء غير الفرد الأوّل،وذلك يحتاج إلى قرينة، وإمّا أن يتعلّق بنفس تلك الطبيعة، وهذا لا يمكن فيه التكرار، إذ لو تعلّق بالطبيعة وجوبان مستقلّان لزم اجتماع المثلين.

{ولو كان بمثل (مرّة أُخرى)} وصليّة {كي يكون متعلّق كلّ منهما غير متعلّق الآخر} غاية لمجيء التقييد {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل، فإنّ الطبيعة لا تتكرّر إلّا بالقيود. مثلاً: الإنسان لا يتكرّر إلّا بالزنجيّة والرّوميّة أو الزيديّة والعمريّة، وإلّا فإنّ طبيعة الإنسان طبيعة واحدة.

ص: 274

والمنساق من إطلاق الهيئة وإن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده، إلّا أنّ الظاهر هو انسباق التأكيد عنها في ما كانت مسبوقة بمثلها، ولم يذكر هناك سببٌ، أو ذُكِرَ سببٌ واحد.

___________________________________________

وبهذا كلّه ظهر أنّ المادة لا تقتضي التأسيس {و} بالعكس من ذلك الهيئة، فإنّ {المنساق من إطلاق الهيئة} هو التأسيس المقتضي للتكرار، إذ لولا إرادة جديدة من المولى للفعل لم يكن داع إلى إنشائه ثانياً في صورة أنّ البعث الأوّل كاف، ولهذا قالوا: إنّ التأسيس أولى من التأكيد.

{و} لكن مع ذلك فاللّازم هو الحمل على التأكيد فإنّ إطلاق الهيئة {إن كان} المنصرف منه {هو تأسيس الطلب لا تأكيده} لما تقدّم {إلّا أنّ الظاهر هو انسباق التأكيد عنها} أي: عن الصيغة {في ما كانت مسبوقة بمثلها} كأن يقول: (ادع، ادع) {ولم يذكر هناك سبب} للدعاء مثلاً {أو ذكر سبب واحد} كأن يقول: (إذا رأيت الهلال فادع) ثمّ يقول أيضاً: (إذا رأيت الهلال فادع).

لا يقال: كيف حكمتم بانسباق التأكيد من الصيغة، مع ما تقدّم من انسباقالتأسيس من الهيئة؟

لأنّا نقول: انسباق التأكيد مستند إلى الظهور النّوعي، وانسباق التأسيس إنّما هو باعتبار ظهور الهيئة في نفسها.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من احتمال التأسيس والتأكيد إنّما هو في ما كان التكرار ممكناً، وأمّا في ما لا يمكن التكرار نحو (اقتل زيداً) فاللّازم حمل الثّاني على التأكيد بديهة. واللّه الموفّق وهو العاصم.

ص: 275

ص: 276

المقصد الثّاني: في النّواهي

اشارة

ص: 277

ص: 278

المقصد الثّاني: في النّواهي

فصل: الظّاهر أنّ النّهي بمادّته وصيغته في الدلالة على الطلب، مثلُ الأمر بمادّته وصيغته، غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما الوجود وفي الآخر العدم، فيعتبر فيه ما استظهرنا اعتباره فيه، بلا تفاوت أصلاً.

نعم، يختصّ النّهي بخلافٍ، وهو: أنّ متعلّق الطلب فيه هل هو الكفّ، أو مجرّدُ الترك وأن لا يفعل؟

___________________________________________

[المقصد الثّاني في النّواهي]

{المقصد الثّاني: في النّواهي} وفي هذا المقصود فصول:

[فصل مفاد مادة النهي وصيغته]

المقصد الثّاني: في النواهي، مفاد مادة النهي وصيغته

{فصل: الظاهر} من الانسباق {أنّ النّهي بمادّته} أي: ن، ه، ي {وصيغته} المنشأة ب- (لا تفعل) ونحوه {في الدلالة على الطلب مثل الأمر بمادّته وصيغته} فكما أنّ مادّة الأمر وصيغته للطلب الإلزامي كذلك مادّة النّهي وصيغته، ولا فرق بينهما {غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما} وهو الأمر {الوجود، وفي الآخر} وهو النّهي {العدم، فيعتبر فيه} أي: في النّهي {ما استظهرنا اعتباره فيه بلا تفاوت أصلاً} فيعتبر في النّهي العلوّ ولا يشترط الاستعلاء، وغير ذلك ممّاتقدّم.

{نعم، يختصّ النّهي بخلافٍ} لا مجال له في الأمر {وهو أنّ متعلّق الطلب فيه هل هو الكفّ} بمعنى صرف النّفس عن الفعل {أو مجرّد الترك وأن لا يفعل؟} والفرق بينهما أنّ الكفّ أمر وجوديّ بخلاف الترك، فإنّه عدم محض، وبينهما عموم

ص: 279

والظاهر هو الثّاني.

وتوهّم: أنّ الترك ومجرّد أن (لا يفعل) خارجٌ عن تحت الاختيار، فلا يصحّ أن يتعلّق به البعث والطلب.

فاسدٌ: فإنّ الترك أيضاً يكون مقدوراً، وإلّا لما كان الفعل مقدوراً

___________________________________________

مطلق، فإنّه كلّما تحقّق الكفّ تحقّق الترك ولا عكس، فإنّه يمكن تحقّق الترك بدون تحقّق الكفّ، وذلك حين الترك بدون الالتفات إلى الفعل وعدمه.

{والظاهر} بحسب المنساق عرفاً {هو الثّاني} فإنّ المولى إذا قال لعبده: (لا تفعل) فهم منه لزوم الترك لا لزوم الكفّ، واستدلّ من قال بأنّ النّهي عبارة عن الكفّ بأنّ التكليف لا يتعلّق بغير الاختياري، والعدم غير اختياري، إذ القدرة لا تتعلّق بالأعدام، فإنّ العدم أزليّ فالقدرة المتأخّرة لا تؤثّر في العدم السّابق عليها، وحيث بطل كون النّهي متعلّقاً بعدم الفعل فلا بدّ وأن يتعلّق بالكف.

ولكن هذا الاستدلال فاسد لما أشار إليه المصنّف {وتوهّم أنّ الترك ومجرّد أن (لا يفعل) خارج عن تحت الاختيار} وعليه {فلا يصحّ أن يتعلّق به البعث والطلب} لما ذكرنا {فاسد} فإنّا لا نسلّم أنّ الترك غير مقدور {فإنّالترك أيضاً} مثل الفعل {يكون مقدوراً} ولهذا يصحّ أن يقال: (اترك) كما يصحّ أن يقال: (افعل) من غير فرق ولا احتياج إلى ارتكاب التأويل {وإلّا} فلو لم يكن الترك مقدوراً {لما كان الفعل مقدوراً} إذ نسبة القدرة إلى الوجود والعدم نسبة واحدة، يعني أنّ الفعل لو كان مقدوراً كان الترك مقدوراً وبالعكس، وهكذا لو لم يكن أحدهما مقدوراً لم يكن الآخر مقدوراً لبداهة أنّ القدرة عبارة عن إمكان الفعل والترك.

وأمّا لو كان الفاعل بحيث لا يمكن صدور الفعل عنه كان امتناعاً، كامتناع صدور البرودة عن النّار، ولو كان بحيث لا يمكن صدور الترك عنه كان إيجاباً، كوجوب صدور الحرارة عن النّار.

ص: 280

وصادراً بالإرادة والاختيار.

وكون العدم الأزلي لا بالاختيار، لا يوجب أن يكون كذلك بحسب البقاء والاستمرار الّذي يكون بحسبه محلّاً للتكليف.

ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار، كما لا دلالة لصيغة الأمر، وإن كان قضيّتهما عقلاً تختلف ولو مع وحدة متعلّقهما،

___________________________________________

{و} الحاصل: أنّه لو لم يمكن صدور أحد طرفي الفعل والترك عن الفاعل لم يكن الطرف الصادر {صادراً بالإرادة والاختيار} بل بالقهر والإجبار.

{و} أمّا ما ذكرتم في الاستدلال من {كون العدم الأزلي لا بالاختيار} فمغالطة، إذ عدم اختياريّة العدم قبلاً {لا يوجب أن يكون كذلك} أي: لا بالاختيار {بحسب البقاء والاستمرار} فإنّ العدم السّابق ليس محلّاً للكلام، بل العدم الباقي{الّذي يكون بحسبه محلّاً للتكليف} فإنّ المكلّف يتمكّن من قطع استمرار العدم بأن يوجد الشّيء ويتمكّن من إبقاء العدم على حاله، وبهذا الاعتبار يكون العدم مقدوراً وبهذه القدرة يكون متعلّقاً للتكليف وقد يمثّل لذلك بأنّ العدم كالنهر الجاري فكما يتمكّن الشّخص من سدّه ومن إبقائه وبهذا الاعتبار يصحّ تعلّق التكليف بكلّ منهما كذلك العدم.

{ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته} أي: صيغة النّهي {على الدوام والتكرار، كما لا دلالة لصيغة الأمر} خلافاً لبعضهم حيث ذهب إلى دلالة النّهي على الدوام وإنّما قلنا بعدم الدلالة؛ لأنّ النّهي - كما تقدّم - عبارة عن طلب ترك الطبيعة.

وبعبارة أُخرى: المادّة تدلّ على نفس الماهيّة لا بشرط، والهيئة تدلّ على طلب الترك، فمن أين يجيء التكرار؟

أمّا القول بدلالتها على المرّة فلم يقل به أحد على الظاهر {وإن كان قضيّتهما} أي: مقتضى الأمر والنّهي {عقلاً تختلف ولو مع وحدة متعلّقهما} أي: سواء تعدّد

ص: 281

بأن يكون طبيعةٌ واحدة بذاتها وقيدها تعلّق بها الأمر مرّةً، والنّهي أُخرى: ضرورة أنّ وجودها يكون بوجود فردٍ واحدٍ، وعدَمَها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع، كما لا يخفى.

ومن ذلك يظهر: أنّ الدوام والاستمرار إنّما يكون في النّهي إذا كان متعلّقهُ طبيعة واحدة مطلقة غيرَ مقيّدة بزمان أو حال،

___________________________________________

متعلّقهما كأن يأمر بشرب الماء وينهى عن أكل لحم الخنزير، أو اتحد {بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها، وقيدها تعلّقبها الأمر مرّة والنّهي أُخرى} كأن يأمر تارةً بشرب الماء في الزمان الفلاني في المكان الفلاني، وينهى عن ذلك الشّرب تارة أُخرى {ضرورة أنّ وجودها} أي: وجود الطبيعة الواقعة في حيّز الأمر {يكون بوجود فرد واحد} فيمتثل الأمر بإتيانه {و} بخلاف ذلك {عدمها} الواقعة في حيّز النّهي فإنّ العدم {لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع} فلو قال: (لا تشرب الخمر) فلم يشرب ساعة ثمّ شرب بعد ذلك عدّ عاصياً ولا يقبل عذره بأنّي تركت بعض أفراد الشّرب {كما لا يخفى} وسرّه واضح، إذ النّهي عبارة عن كراهة الطبيعة، فتحقّق الفرد الموجب لتحقّق الطبيعة يكون مكروهاً، والأمر عبارة عن محبوبيّة الطبيعة فبتحقّق فرد يتحقّق المحبوب، وهذا التفاوت ليس بسبب دلالة الأمر والنّهي على المرّة والتكرار، بل بملاحظة حكم العقل.

{ومن ذلك} الّذي ذكرنا من أنّ عدم الطبيعة لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع {يظهر أنّ الدوام والاستمرار إنّما يكون في النّهي إذا كان متعلّقه طبيعة واحدة مطلقة} كأن يقول: (لا تشرب الخمر) {غير مقيّدة بزمان أو حال} بخلاف الطبيعة إذا كانت مقيّدة بأحدهما، كأن يقول: (لا تضرب يوم الجمعة) أو (لا تشرب في حال القيام) فإنّه لا يقتضي عدم جميع أفراد الضرب حتّى في غير يوم الجمعة أو عدم جميع أفراد الشّرب حتّى في حال الجلوس.

وجه الظهور أنّ عدم الجميع لمّا كان لازماً لعدم الطبيعة بقول مطلق فعدم الطبيعة

ص: 282

فإنّه حينئذٍ لا يكاد يكون مثلُ هذه الطبيعة معدومة إلّا بعدم جميع أفرادها الدفعيّة والتدريجيّة.وبالجملة: قضيّة النّهي ليس إلّا ترك تلك الطبيعة الّتي تكون متعلّقة له، - كانت مقيّدة أو مطلقة - ، وقضيّة تركها عقلاً إنّما هو ترك جميع أفرادها.

ثمّ إنّه لا دلالة للنهي على إرادة الترك

___________________________________________

المقيّدة لا يلزم عدم الجميع {فإنّه حينئذٍ} أي: حين إطلاق الطبيعة {لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة} المطلقة {معدومة إلّا بعدم جميع أفرادها الدفعيّة} كأن يترك شرب الخمر في الدار وفي السّوق وفي الحمّام في السّاعة الأُولى مثلاً {والتدريجيّة} كأن يترك الشّرب في السّاعة الأُولى والثّانية والثّالثة وهكذا.

{وبالجملة قضيّة النّهي ليس إلّا ترك تلك الطبيعة الّتي تكون متعلّقة له} أي: للنهي، فإن {كانت مقيّدة} كان مقتضى النّهي ترك الطبيعة المقيّدة بجميع أفرادها فلو قال: (لا تضرب يوم الجمعة) اقتضى ترك الأفراد العرضيّة والطوليّة في يوم الجمعة فقط {أو مطلقة} كان مقتضى النّهي ترك جميع الأفراد مطلقاً {و} قد تقدّم أنّ {قضيّة تركها عقلاً إنّما هو ترك جميع أفرادها}.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ مقتضى النّهي ترك الطبيعة الواقعة في حيّزها من دون دلالة له على الدوام والتكرار، وإنّما هما مستفادان من حكم العقل، كما أنّ الاكتفاء بالمرّة في الأمر كان مستفاداً من العقل.

{ثمّ} إنّ العبد لو خالف النّهي بأن أتى بالمنهي عنه فهل يحرم الإتيان به ثانياً أو لا يحرم؟ مثلاً: لو قال المولى: (لا تزن) فزنى العبد فهل يدلّ النّهي علىلزوم ترك الزنا ثانياً وهكذا. أو لا يدلّ، بل يحتاج في فهم عدم مطلوبيّته بعد المخالفة إلى دليل آخر؟ ذهب المصنّف إلى {أنّه لا دلالة للنهي على إرادة} المولى {الترك}

ص: 283

لو خولف، أو عدم إرادته، بل لا بدّ في تعيين ذلك من دلالة، ولو كان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة، ولا يكفي إطلاقها من سائر الجهات، فتدبّر جيّداً.

فصل: اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنّهي في واحد وامتناعه على أقوال، ثالثها: جوازه عقلاً وامتناعه عرفاً.

___________________________________________

ثانياً وثالثاً وهكذا {لو خولف} النّهي {أو عدم إرادته، بل لا بدّ في تعيين ذلك من دلالة} خارجيّة تدلّ على انحلال النّهي إلى نواهي متعدّدة أو على وحدة النّهي من غير فرق بين أن يكون ذلك الدليل الخارجي لفظيّاً أو لُبّيّاً، بل {ولو كان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة} بأن يكون للطبيعة الواقعة في حيّز النّهي إطلاق من جهة تعميمها ما بعد العصيان.

وبعبارة أُخرى: من حيث الوجود بعد الوجود، فنفس النّهي لا دلالة لها وإنّما الدالّ هو إطلاق الطبيعة مثلاً: شرب الخمر له إطلاق يشمل الوجود الأوّل والثّاني والثّالث وهكذا، فإذا وقع في حيّز النّفي دلّ على انتفاء جميع أفرادها {ولا يكفي إطلاقها} أي: إطلاق الطبيعة {من سائر الجهات} كالإطلاق من حيث الزمان والمكان والآلة ونحوها، إذ الإطلاق الزماني مثلاً يدلّ على الضرب في كلّ زمان لا على الضرب بعد الضرب {فتدبّر جيّداً} واللّه الموفّق.

[فصل اجتماع الأمر والنهي]

اشارة

المقصد الثّاني: في النواهي، اجتماع الأمر والنهي{فصل: اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنّهي في} شيء {واحد وامتناعه على أقوال}: أوّلها: جواز الاجتماع مطلقاً(1)، ثانيها: عدم الجواز مطلقاً(2){ثالثها: جوازه عقلاً وامتناعه عرفاً}(3)

والمراد بهذا التفصيل أنّ العقل حيث يرى المجمع

ص: 284


1- قوانين الأصول 1: 140.
2- الفصول الغرويّة: 125؛ معالم الدين: 93.
3- مجمع الفائدة والبرهان 2: 112.

وقبل الخوض في المقصود يقدّم أُمور:

الأوّل: المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين، ومندرجاً تحت عنوانين، بأحدهما كان مورداً للأمر، وبالآخر للنهي، وإن كان كليّاً مقولاً على كثيرين، كالصلاة في المغصوب.

وإنّما ذكر لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر والنّهي، ولم يجتمعا وجوداً - ولو جمعهما واحد مفهوماً، كالسجود للّه - تعالى - والسّجود للصنم مثلاً - ، لا لإخراج الواحد الجنسي

___________________________________________

اثنين لتعدّد الجهة، فلا مانع عنده من الاجتماع.

وأمّا العرف فحيث ينظرون إلى الشّيء بالنظر السّطحي والمجمع بهذا النّظر واحد، يكون الاجتماع عندهم محالاً {وقبل الخوض في المقصود يقدّم أُمور} مهمّة:

[الأوّل: معنى الواحد]

{الأوّل: المراد بالواحد} في العنوان {مطلق ما كان ذا وجهينومندرجاً تحت عنوانين} بحيث كان {بأحدهما كان مورداً للأمر، وبالآخر} مورداً {للنهي، وإن كان} ذلك الواحد واحداً بالنوع أو بالصنف أو بالجنس بأن كان {كليّاً مقولاً على كثيرين} وذلك {كالصلاة في المغصوب} من المكان أو اللباس، فإنّ هذه الحركات الكلّيّة الشّاملة لكلّ صلاة في الغصب تتعنون بعنوان الصلاة المأمور بها وبعنوان الغصب المنهي عنه.

{وإنّما ذكر} قيد الوحدة {لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر والنّهي، و} ذلك بأن {لم يجتمعا وجوداً} فإنّ ذلك من باب اجتماع الأمر والنّهي {ولو جمعهما} أي: متعلّق الأمر ومتعلّق النّهي {واحد مفهوماً} بأن يصدق عليهما مفهوم واحد {كالسجود للّه - تعالى -} المأمور به {والسّجود للصنم مثلاً} المنهي عنه فلا يصحّ أن يقال: إنّ السّجود المطلق من باب اجتماع الأمر والنّهي و{لا} يكون القيد بالواحد في العنوان {لإخراج الواحد الجنسي} كما لو أمر بإحضار حيوان ونهى عنه

ص: 285

أو النّوعي، كالحركة والسّكون الكليّين المعنونين بالصلاتيّة والغصبيّة.

الثّاني: الفرق بين هذه المسألة ومسألة النّهي في العبادات هو: أنّ الجهة المبحوث عنها فيها - الّتي بها تمتاز المسائل - هي أنّ تعدّد الوجه والعنوانِ في الواحد يوجب تعدّد متعلّق الأمر والنّهي - بحيث يرتفع به غائلةُ استحالة الاجتماع في الواحد بوجهٍ واحد -

___________________________________________

{أو النّوعي} كما لو أمر بإحضار إنسان ونهى عنه، خلافاً للعضدي، فإنّه خصّص النّزاع بالواحد الشّخصي زاعماً أنّ الواحد الجنسي ونحوه لا مانع من الاجتماع فيه.

ولا يخفى أنّ الظاهر من مثال العضدي بالسجود هو أنّ مراده عدم الامتناع في ما كان بعض الجنس مأموراً به وبعضه منهيّاً عنه لا ما كان تمام الجنس كذلك، فتدبّر.

فتحصّل من الأمر الأوّل أنّ الواحد سواء كان بالشخصي كزيد، أو بالصنف كالرومي، أو بالنوع كالإنسان، أو بالجنس {كالحركة والسّكون الكليّين المعنونين بالصلاتيّة والغصبيّة} كلّها من باب الاجتماع إذا تعلّق بها الأمر والنّهي.

[الثّاني: الفرق بين المسألتين]

{الثّاني: الفرق بين هذه المسألة ومسألة النّهي في العبادات} كالصلاة في أبوال ما لا يؤكل لحمه {هو} تعدّد الجهة لا ما ذكره صاحب الفصول ولا ما ذكره صاحب القوانين - رحمهما اللّه تعالى - .

بيان ذلك: {أنّ الجهة المبحوث عنها فيها} أي: في مسألة اجتماع الأمر والنّهي {الّتي بها تمتاز المسائل} كما سبق من أنّ امتياز مسائل العلم بعضها من بعض إنّما هو بتعدّد الجهة لا بتعدّد الموضوع أو المحمول {هي أنّ تعدّد الوجه والعنوان في} الشّيء {الواحد} هل {يوجب تعدّد متعلّق الأمر والنّهي بحيث يرتفع به} أي: بهذا التعدّد {غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بوجهٍ واحدٍ} فيكون حال العنوانين

ص: 286

أو لا يوجبه، بل يكون حاله حالَه؟

فالنزاع في سراية كلّ من الأمر والنّهي إلى متعلّق الآخر - لاتحاد متعلّقيهما وجوداً - ، وعدمِ سرايته - لتعدّدهما وجهاً - . وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الأُخرى؛ فإنّ البحث فيها في أنّ النّهي في العبادة أو المعاملة يوجب فسادها، بعد الفراغ عن التوجّه إليها.

نعم، لو قيل بالامتناع مع ترجيح جانب النّهي في مسألة الاجتماع،

___________________________________________

كحال الموضوعين، فكما لا يسري الحكم من موضوع إلى موضوع كذلك لا يسري من العنوان إلى المعنون {أو لا يوجبه، بل} الشّيء الواحد لا يجتمع فيه الأمر والنّهي سواء كان متعدّد العنوان أو متّحد العنوان، فكما لا يمكن أن لا يأمر بالصلاة وينهى عن الصلاة كذلك لا يمكن أن يأمر بهذه الحركة والسّكون لكونها صلاة وينهى عنها لكونها غصباً، ف- {يكون حاله} أي: حال متعدّد العنوان {حاله} أي: حال متّحد العنوان {فالنزاع} في مسألة الاجتماع {في سراية كلّ من الأمر والنّهي إلى متعلّق الآخر} الّذي هو متعلّق نفسه أيضاً {لاتحاد متعلّقيهما وجوداً وعدم سرايته} بل العنوانان واجب ومحرّم والمتعلّق ليس بواجب ولا حرام {لتعدّدهما وجهاً} وعنواناً {وهذا} الحيث المبحوث عنه في هذه المسألة {بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الأُخرى} أي: مسألة النّهي في العبادة {فإنّ البحث فيها في أنّ النّهي في العبادة أو المعاملة يوجب فسادها} أم لا{بعد الفراغ عن التوجّه إليها} أي: توجّه النّهي إلى تلك العبادة أو المعاملة، فمسألة الاجتماع في مرتبة صغرى مسألة النّهي في العبادة.

{نعم، لو قيل} في هذه المسألة {بالامتناع مع ترجيح جانب النّهي في مسألة الاجتماع} أي قلنا: إنّ اجتماع الأمر والنّهي ممتنع وفي مثل الصلاة في الغصب رجّحنا الحرمة على الوجوب حتّى كانت الصلاة الّتي هي عبادة متعلّقة للنهي فقط

ص: 287

يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة.

فانقدح: أنّ الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح.

وأمّا ما أفاده في الفصول من الفرق بما هذه عبارته: «ثمّ اعلم: أنّ الفرق بين المقام والمقام المتقدّم - وهو أنّ الأمر والنّهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا؟ - أمّا في المعاملات فظاهر، وأمّا في العبادات فهو أنّ النّزاع هناك في ما إذا تعلّق الأمر والنّهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة، وإن كان بينهما عموم مطلق،

___________________________________________

{يكون مثل} هذه المسألة - أعني: {الصلاة في الدار المغصوبة - من صغريات تلك المسألة} إذ بعد تحقّق سقوط الأمر عن الصلاة يتوجّه النّهي إليها فقط، وحينئذٍ يقع الكلام في أنّ النّهي المتوجّه إلى الصلاة يقتضي فسادها أم لا، وشكل القياس هذه: العبادة منهيّ عنها، وكلّ عبادة منهيّ عنها فاسدة مثلاً، فهذه العبادة فاسدة.

{فانقدح أنّ الفرق بين المسألتين} على ما ذكرنا من تعدّد الجهة {في غاية الوضوح} وبهذا تبيّن وجه تقديمهذه المسألة على مسألة النّهي في العبادة أيضاً {وأمّا ما أفاده في الفصول من الفرق} بين المسألتين بتعدّد الموضوع {بما هذه عبارته: «ثمّ اعلم أنّ الفرق بين} هذا {المقام} وهو مسألة النّهي في العبادة {و} بين {المقام المتقدّم وهو أنّ الأمر والنّهي هل يجتمعان في شيء واحد، أو لا} فيتعدّد الموضوع؟

بيان ذلك: {أمّا في المعاملات فظاهر} لعدم تعلّق الأوامر بالمعاملات إلّا نادراً، فلا يتحقّق مورد الاجتماع فيها {وأمّا في العبادات فهو} أي: الفرق {أنّ النّزاع هناك} في مسألة الاجتماع {في ما إذا تعلّق الأمر والنّهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة} إذا كان بينهما عموم من وجه كالصلاة والغصب، فإنّه يتحقّق الأوّل في الصلاة في غير الغصب، ويتحقّق الثّاني في الغصب بدون الصلاة، ويجتمعان في الصلاة مع الغصب، بل {وإن كان بينهما عموم مطلق} نحو (أكرم

ص: 288

وهنا في ما إذا اتحدتا حقيقةً وتغايرتا بمجرّد الإطلاق والتقييد، بأن تعلّق الأمر بالمطلق والنّهي بالمقيّد»(1)، انتهى موضع الحاجة.

فاسد؛ فإنّ مجرّد تعدّد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات، لا يوجب التمايزَ بين المسائل ما لم يكن هناك اختلافُ الجهات، ومعه

___________________________________________

النّاطق) و(لا تكرم الشّاعر) فإنّهما طبيعتان متغايرتان وبينهما عموم مطلق، فإنّالنّاطق يتحقّق كلّما تحقّق الشّاعر بدون العكس.

{و} النّزاع {هنا} في مسألة النّهي في العبادة {في ما إذا اتحدتا} الطبيعتان {حقيقة} بأن توجّه النّهي إلى ما توجّه به الأمر {وتغايرتا بمجرّد الإطلاق والتقييد} وذلك {بأن تعلّق الأمر بالمطلق و} تعلّق {النّهي بالمقيّد»} نحو (صلّ) و(لا تصلّ في غير المأكول).

والحاصل: أنّ موضوع مسألة الاجتماع تعدّد الطبيعة وموضوع مسألة النّهي وحدتهما فتغاير الموضوع أوجب تعدّد المسألة. هذا تمام الكلام في الفرق الّذي ذكره صاحب الفصول، وهنا فرق آخر لصاحب القوانين وهو أنّ النّسبة بين متعلّق الأمر والنّهي في مسألة الاجتماع عموم من وجه، كالصلاة والغصب، وبين متعلّقهما في مسألة النّهي في العبادة عموم مطلق، كالصلاة والصلاة في غير المأكول، وقد أشار صاحب الفصول إلى ردّ هذا الفرق بقوله: «وإن كان بينهما عموم مطلق».

ولا يخفى أنّ هذا الفرق أيضاً مبتن على كفاية تعدّد الموضوع لتعدّد المسألة {انتهى موضع الحاجة} من كلام الفصول وهو {فاسد، فإنّ مجرّد تعدّد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات لا يوجب التمايز بين المسائل} بحيث يوجب عقد مسألتين {ما ل-م يكن هناك اختلاف الجهات، ومع-ه} أي: مع اختلاف الجهات

ص: 289


1- الفصول الغرويّة: 140.

لا حاجة أصلاً إلى تعدّدها، بل لا بدّ من عقد مسألتين مع وحدة الموضوع وتعدّد الجهة المبحوث عنها، وعَقدِ مسألة واحدة في صورة العكس، كما لا يخفى.

ومن هنا انقدح أيضاً: فساد الفرق بأنّ النّزاع هنا في جواز الاجتماع عقلاً، وهناكفي دلالة النّهي لفظاً.

فإنّ مجرّد ذلك - لو لم يكن تعدّد الجهة في البين - لا يوجب إلّا تفصيلاً في المسألة الواحدة،

___________________________________________

{لا حاجة أصلاً إلى تعدّدها} أي: تعدّد الموضوعات {بل لا بدّ من عقد مسألتين مع وحدة الموضوع وتعدّد الجهة المبحوث عنها} كمسألة الأمر للفور ومسألة الأمر يقتضي الوجوب، فإن تعدّد الجهة أوجب عقد مسألتين وإن كان الموضوع واحداً {وعقد مسألة واحدة في صورة العكس} بان كانت الجهة واحدة وتعدّد الموضوع، كمسألة الاستثناء المتعقّب للجمل، فإنّ جهة البحث لمّا كانت واحدة أوجبت وحدة المسألة وإن كان الموضوع متعدّداً بحسب كون الشّرط والغاية والصفة والاستثناء والحال وغيرها كلّها محلّ البحث، كما يظهر ذلك لمن راجع تلك المسألة {كما لا يخفى}.

ومن هذا ظهر الجواب عن صاحب القوانين أيضاً.

{ومن هنا انقدح أيضاً فساد الفرق} الّذي ذكره بعضهم {بأنّ النّزاع هنا} في مسألة اجتماع الأمر والنّهي {في جواز الاجتماع عقلاً، وهناك} في مسألة النّهي في العبادة {في دلالة النّهي لفظاً} فالفرق أنّ أحدهما عقليّة والأُخرى لفظيّة {فإنّ مجرّد ذلك} الفرق {لو لم يكن تعدّد الجهة في البين لا يوجب إلّا تفصيلاً في المسألة الواحدة} بأن يعقد مبحث واحد ويتكلّم فيه تارة عن الحكم العقلي وأُخرى عن الحكم اللفظي، كأن يقال في مسألة اجتماع الأمر والنّهي: الاجتماع عقلاً جائز ولكن النّهي يدلّ لفظاً على الفساد أو بالعكس، فإنّالاختلاف بين العقل والعرف

ص: 290

لا عقدَ مسألتين، هذا.

مع عدم اختصاص النّزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ، كما سيظهر.

الثّالث: أنّه حيث كانت نتيجة هذه المسألة ممّا تقع في طريق الاستنباط، كانت المسألة من المسائل الأصوليّة، لا من مبادئها الأحكاميّة، ولا التصديقيّة،

___________________________________________

{لا} يقتضي {عقد مسألتين، هذا مع عدم اختصاص النّزاع في تلك المسألة} أي: النّهي في العبادة {بدلالة اللفظ، كما سيظهر} عن قريب إن شاء اللّه - تعالى - بأنّ مطلق الحرمة ينافي العباديّة ولو لم يكن الدالّ على الحرمة لفظاً.

[الثّالث: أصولية المسألة]

{الثّالث} في بيان كون هذه المسألة من مسائل الأصول فنقول: {إنّه حيث كانت نتيجة هذه المسألة ممّا تقع في طريق الاستنباط} بأن تقع النّتيجة وهي جواز الاجتماع أو امتناعه كبرى لصغرى وجدانيّة خارجيّة فيقال: هذه الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة ممّا اجتمع فيه الأمر والنّهي، وكلّما اجتمع فيه الأمر والنّهي فهو باطل على الامتناع، فهذه الصلاة باطلة. أو يقال: وكلّما اجتمع فيه الأمر والنّهي فهو صحيح على الجواز فهذه الصلاة صحيحة، ومن المعلوم أنّ الصحّة والبطلان من الأحكام الفرعيّة وعليه {كانت} هذه {المسألة من المسائل الأصوليّة} لما تقدّم من أنّ المسألة الأصوليّة ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي {لا من مبادئها الأحكاميّة} أي: من مبادئ المسائل، والأحكاميّة صفة المبادئ، والمبادئ الأحكاميّة عبارة عنمقدّمات الأحكام الخمسة الشّرعيّة ولوازمها ومبادئها.

مثلاً: الوجوب والحرمة لهما لوازم، كملازمة الوجوب لوجوب مقدّمته وملازمة الحرمة لحرمة مقدّمته.

{ولا} من مباديها {التصديقيّة} وهي عبارة عن الأُمور الّتي يتوقّف عليها قياسات العلم.

ص: 291

ولا من المسائل الكلاميّة، ولا من المسائل الفرعيّة، وإن كانت فيها جهاتها، كما لا يخفى؛ ضرورة أنّ مجرّد ذلك لا يوجب كونَها منها، إذا كانت فيها جهةٌ أُخرى يمكن عقدها معها

___________________________________________

مثلاً: الأمر للوجوب مسألة أُصوليّة، ومن مبادئ هذه المسألة التصديق بالفرق بين طلب العالي وطلب المساوي وطلب السّافل {ولا من المسائل الكلاميّة} وهي المسائل الباحثة عن أحوال المبدأ والمعاد، كمسألة التوحيد ومسألة كون المعاد جسمانيّاً ونحوهما {ولا من المسائل الفرعيّة} الفقهيّة، وهي الباحثة عن أحوال المكلّفين كوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر ونحوها {وإن كانت فيها} أي: في مسألة اجتماع الأمر والنّهي {جهاتها}.

أمّا كونها من المبادئ الأحكاميّة؛ فلأنّ من الأحكام الوجوب والحرمة، فالتكلّم في إمكان اجتماعهما في متعدّد الجهة وعدم إمكانه مثل التكلّم في وجوب المقدّمة للواجب وعدمه.

وأمّا كونها من المبادئ التصديقيّة للمسألة الأصوليّة؛ فلأنّ المسألة الأصوليّة هي أنّ الأمر والنّهي هل يتعارضان مع تعدّد الجهة أم لا، ومن مبادئ التصديق بهذه المسألة امتناع الاجتماع وعدمه.

وأمّا كونها من المسائل الكلاميّة؛ فلأنّه يبحث فيها عن أنّه يجوز للحكيم - تعالى -أن يأمر بشيء لجهة، وينهى عنه لجهة أُخرى، أم لا يجوز ذلك عليه - سبحانه - .

وأمّا كونها من المسائل الفرعيّة؛ فلأنّه يبحث فيها عن صحّة الصلاة الواقعة في المغصوب وعدمها {كما لا يخفى} كلّ ذلك بأدنى تأمّل.

وإنّما قلن-ا ب-أنّ المسألة أُصوليّة م-ع وجود سائر الجهات ل- {ضرورة أنّ مجرّد ذلك} أي: وجود سائر الجهات {لا يوجب كونها منها} أي: كون هذه المسألة من مسائل سائر العلوم {إذا كانت فيها جهة أُخرى يمكن عقدها معها} أي: مع تلك الجهة

ص: 292

من المسائل؛ إذ لا مجال حينئذٍ لتوهّم عقدها من غيرها في الأصول، وإن عقدت كلاميّةً في الكلام، وصحّ عقدها فرعيّةً أو غيرَها بلا كلام.

وقد عرفت في أوّل الكتاب: أنّه لا ضير في كون مسألة واحدة يبحث فيها عن جهة خاصّة من مسائل علمين؛ لانطباق جهتين عامّتين على تلك الجهة: كانت بإحداهما من مسائل علم، وبالأُخرى من آخر، فتذكّر.

الرّابع: أنّه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه: أنّ المسألة عقليّة،

___________________________________________

{من المسائل} الأصوليّة - كما تقدّم بيانه - {إذ لا مجال حينئذٍ} أي: حين وجود الجهة الأصوليّة {لتوهّم عقدها من غيرها} من سائر العلوم {في الأصول وإن عقدت كلاميّة في} علم {الكلام وصحّ عقدها فرعيّة أو غيرها بلا كلام، و} لا يرد بأنّه كيف يمكن أن تكون مسألة واحدة مشتملة على جهات علوم متعدّدة حتّى يصحّ عقدها مسألة لكلّ من تلك العلوم؟ لما {قد عرفت في أوّل الكتاب أنّه لا ضير في كونمسألة واحدة يبحث فيها عن جهة خاصّة من مسائل علمين} الظرف خبر «كان» {لانطباق جهتين عامّتين} المبحوث عنهما في ذينك العلمين {على تلك الجهة} بحيث {كانت} هذه المسألة الواحدة {بإحداهما من مسائل علم وبالأُخرى من} مسائل علم {آخر، فتذكّر}.

ولا يخفى أنّ المراد بقوله: «يبحث فيها عن جهة خاصّة» البحث الواحد، وإلّا فلو كان البحث عن جهة واحدة فقط لم يعقل انطباق جهتين متخالفتين عليه.

[الرّابع: عقلية المسألة]

{الرّابع: أنّه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه} كقولنا في صدر المبحث: «اختلفوا» الخ، وقولنا في الأمر الثّاني: «هو أنّ الجهة المبحوث عنها فيها» الخ {أنّ المسألة عقليّة} لأنّ التعبير بجواز الاجتماع وعدمه مرتبط بالعقل ولا يناسب المبحث اللفظي، ولهذا لا يصحّ أن يقال هل يجوز أن يكون الأمر للوجوب أم لا يجوز.

ص: 293

ولا اختصاص للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع فيها بما إذا كان الإيجاب والتحريم باللفظ، كما ربّما يوهمه التعبير بالأمر والنّهي الظاهرين في الطلب بالقول، إلّا أنّه لكون الدلالة عليهما غالباً بهما، كما هو أوضح من أن يخفى.

___________________________________________

ولو كان مبحث الاجتماع لفظيّاً لقيل: هل النّهي عن شيء يدلّ على عدم وجوبه أم لا؟ {ولا اختصاص للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع} عطف على الجواز {فيها} أي: في هذه المسألة وهو متعلّق بالنزاع، أي: إنّ النّزاع في هذه المسألة في أنّه يجوز الاجتماع أو لا يجوز لا اختصاص له {بما إذا كان الإيجابوالتحريم باللفظ} بل يجري النّزاع في ما إذا كانا مستفادين من الإجماع أو دليل العقل، إذ النّزاع في إمكان اجتماع الحرمة والوجوب مطلقاً لا ما إذا كانا مستفادين من اللفظ {كما(1) ربّما يوهمه التعبير بالأمر والنّهي الظاهرين في الطلب بالقول} وإن صحّ استعمالهما في الطلب بغيره {إلّا أنّه} وجه الاعتذار عن عقد المسألة في الأمر والنّهي، أي: أنّ التعبير بالأمر والنّهي إنّما هو {لكون الدلالة عليهما} أي على الحرمة والوجوب {غالباً بهما} أي: بالأمر والنّهي {كما هو أوضح من أن يخفى} لمن تأمّل.

إن قلت: لو كانت المسألة عقليّة فاللّازم ذكرها في الأدلّة العقليّة لا اللفظيّة.

قلت: هي مثل مسألة الملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّماته، فإنّ القدماء لم يكن لهم كثير عناية بنحو هذه الخصوصيّات والمتأخّرون تبعوهم في

ص: 294


1- لا يخفى أنّه من قال بأنّ هذه المسألة لفظيّة استدلّ بأمرين: الأوّل: التعبير في العنوانات بلفظ الأمر والنّهي. الثّاني: تفصيل بعض في المسألة بين العقل والعرف، والمعلوم أنّ العرف إنّما يحكم بعد إلقاء لفظ الأمر والنّهي عليه، والمصنّف أجاب عن الأوّل بقوله: «كما ربّما» الخ، وأجاب عن الثّاني بقوله: «وذهاب» الخ.

وذهاب البعض(1) إلى الجواز عقلاً والامتناع عرفاً، ليس بمعنى دلالة اللفظ، بل بدعوى أنّ الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنان، وأنّه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين، وإلّا فلا يكون معنىً محصّلاً للامتناع العرفي. غاية الأمر دعوى دلالة اللفظعلى عدم الوقوع، بعد اختيار جواز الاجتماع، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

الوضع غالباً {و} ربّما قيل بأنّ ذكرها في مبحث الألفاظ لأجل أنّ الدلالة على الحرمة والوجوب بالأمر والنّهي.

فإن قلت: إذا كانت المسألة عقليّة فما معنى {ذهاب البعض إلى الجواز عقلاً والامتناع عرفاً} مع أنّه كيف يمكن الامتناع العرفي في صورة الجواز العقلي؟

قلت: {ليس} الامتناع العرفي في كلامه {بمعنى دلالة اللفظ} على الامتناع حتّى تكون المسألة لفظيّة {بل} المقصود من هذا التفصيل الفرق بين النّظر العمقي والسّطحي {بدعوى أنّ الواحد} المتعدّد الجهة {بالنظر الدقيق العقلي اثنان وأنّه} أي: ذلك الواحد بنفسه {بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين} لأنّ نظر العرف ليس دقيقاً، ولهذا يرى العرف زوال الشّيء بزوال عينه وإن بقي لونه وريحه، مع أنّ بقاءهما يلازم بقاء أجزاء صغار بالنظر الدقّي، وعلى كلّ فهذا ليس تفصيلاً في المسألة حقيقة {وإلّا} فلو كان المراد الامتناع الحقيقي عند العرف {فلا يكون معنى محصّلاً للامتناع العرفي} إذ العقل والعرف ليسا من قبيل الألفاظ حتّى يمكن تعارضهما {غاية الأمر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع} أي: عدم وقوع اجتماع الأمر والنّهي في الخارج {بعد اختيار جواز الاجتماع} عقلاً.

وحاصله: أنّ العقل لو أجاز الاجتماع لا يحقّ للعرف منعه، وإنّما يحقّ له أن يقول بوجود دليل في مقام الإثبات على أنّه لم يقع في ظرف الوجود، إذ كثير من الممكنات العقليّة لا يكون له وقوع في ظرف الخارج {فتدبّر جيّداً}حتّى لا تقول

ص: 295


1- مجمع الفائدة والبرهان 2: 112.

الخامس: لا يخفى أنّ ملاك النّزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعمّ جميعَ أقسام الإيجاب والتحريم، كما هو قضيّة إطلاق لفظ الأمر والنّهي.

ودعوى الانصراف إلى النّفسيّين التعيينيّين العينيّين في مادّتهما، غيرُ خاليةٍ عن الاعتساف،

___________________________________________

بأنّ هذا الأمر غير مستقيم المطالب ولا مرتبط بعضها مع بعض كما احتمله بعض. وإن شئت توضيح المطلب أكثر ممّا ذكرنا، فراجع الخوئيني(1)

والمشكيني(2)،

واللّه الموفّق.

[الخامس: عمومية ملاك النزاع]

{الخامس: لا يخفى أنّ ملاك النّزاع في جواز الاجتماع} بين المتضادّين في أمر واحد لتعدّد الجهة {والامتناع، يعمّ جميع أقسام الإيجاب والتحريم} سواء كانا نفسيّين أو غيريّين تعيينيّين أو تخييريّين عينيّين أو كفائيّين أو مختلفين، بأن كان الواجب نفسيّاً والحرام غيريّاً أو بالعكس وهكذا، وأمثلة الكلّ واضحة إلّا الحرمة الكفائيّة فقد قيل بعدم وجودها، بل امتناعها، ويمكن أن يمثّل لها بما إذا قال المولى لعبيده العشرة يحرم على أحد منكم التزويج - في ما إذا كان المولى محتاجاً إلى عبد يقوم بخدمته دائماً - فإنّ التزويج محرّم كفائي، فتأمّل.

{كما هو} أي: العموم {قضيّة إطلاق لفظ الأمر و}لفظ {النّهي} فإنّ جميع أقسام الوجوب أمر، كما أنّ جميع أقسام الحرمة نهي {ودعوى} صاحب الفصول(رحمة الله) {الانصراف إلى} الأمر والنّهي {النّفسيّين التعيينيّين العينيّين في مادّتهما} يعني إذا أُطلق كلمة الأمر أو كلمة النّهي انصرف إلى ذلك {غير خالية عن الاعتساف} لأنّ منشأ الانصراف إمّا غلبة الوجود أو غلبة الاستعمال وكلاهما

ص: 296


1- شرح كفاية الأصول 2: 68.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 106.

وإن سُلّم في صيغتهما، مع أنّه فيها ممنوع أيضاً.

نعم، لا يبعدُ دعوى الظهور والانسباق من الإطلاق بمقدّمات الحكمة الغير الجارية في المقام؛ لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام، وكذا ما وقع في البين من النّقض والإبرام.

___________________________________________

ممنوعان. والحاصل: أنّ الانصراف ممنوع في مادّتهما {وإن سلم في صيغتيهما} بأن قلنا: إنّ صيغة (إفعل) حيث يطلق فالظاهر منه النّفسي العيني التعييني، وكذا صيغة (لا تفعل) {مع أنّه} أي: الانصراف {فيها} أي: في الصيغة {ممنوع أيضاً} لما تقدّم.

{نعم، لا يبعد دعوى الظهور والانسباق من الإطلاق بمقدّمات الحكمة} على ما مرّ في مبحث الأمر.

وحاصله: أنّه لمّا كان كلّ من الغيري والتخييري والكفائي يحتاج إلى مؤونة زائدة، فإنّ الغيري محتاج إلى جعله مقدّمة لواجب نفسي والتخييري محتاج إلى جعل عدل له، والكفائي محتاج إلى تقييده بعدم فعل الغير، فحيث لم يكن في البين أحد القيود الثّلاثة وكان المولى في مقام البيان، فاللّازم حمل صيغة الأمر على النّفسي العيني التعييني، ولا يذهب عليك أنّ الانصراف غير الإطلاق، إذالانصراف مستند إلى الوضع، والإطلاق مستند إلى مقدّمات الحكمة.

هذا كلّه في الصيغة، وأمّا مادّة الأمر والنّهي فلا إطلاق لهما في النّفسي العيني التعييني، كما لا انصراف لهما على ما سبق، إذ الإطلاق محتاج إلى مقدّمات الحكمة {الغير الجارية في المقام} لأنّ من مقدّمات الإطلاق عدم قرينة - ولو عقليّة - على خلاف الإطلاق، وهنا قرينة عقليّة للعموم {لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام} فإنّ ملاك هذا النّزاع هو استحالة اجتماع المتضادّين في واحد ذي جهتين أو جوازه.

وهذا لا يختصّ بقسم دون قسم من الواجب والحرام {وكذا ما وقع في البين من النّقض والإبرام} لا يختصّ بقسم دون قسم، وهذا عطف على قوله: «لما قد عرفت».

ص: 297

مثلاً: إذا أمر بالصلاة أو الصوم تخييراً بينهما، وكذلك نهى عن التصرّف في الدار، والمجالسة مع الأغيار، فصلّى فيها مع مجالستهم، كان حالُ الصلاة فيها حالَها كما إذا أمر بها تعييناً، ونهى عن التصرّف فيها كذلك، في جريان النّزاع في الجواز والامتناع ومجيء أدلّة الطرفين، وما وقع من النّقض والإبرام في البين، فتفطّن.

السّادس: أنّه ربّما يؤخذ في محلّ النّزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال(1).

___________________________________________

والحاصل: أنّ المانع من انعقاد الإطلاق أمران: الأوّل: عموم الملاك، والثّاني: عموم كلام العلماء المستفاد من النّقض والإبرام الواقع بينهم.ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) مثّل لاجتماع الواجب والحرام التخييريّين مثالاً فقال: {مثلاً إذا أمر} المولى {بالصلاة أو الصوم تخييراً بينهما، وكذلك نهى عن التصرّف في الدار والمجالسة مع الأغيار} تخييراً بينهما، ومعنى الحرام التخييريّ حرمة أحدهما على سبيل البدل بحيث لا يجوز الجمع بينهما، كما أنّ معنى الوجوب التخييري وجوب أحدهما على سبيل البدل {فصلّى فيها مع مجالستهم} فقد اجتمع هنا الواجب التخييري - وهو الصلاة - والمحرّم التخييري - أعني: التصرّف والمجالسة - فإنّ الحرام التخييري إنّما يتحقّق بالجمع بينهما، فحينئذٍ {كان حال الصلاة فيها حالها، كما إذا أمر بها تعييناً ونهى عن التصرّف فيها كذلك} تعييناً {في جريان النّزاع في الجواز والامتناع} الظرف الأوّل متعلّق ب- «حالها» والظرف الثّاني متعلّق ب- «النّزاع» {و} في {مجيء أدلّة الطرفين وما وقع من النّقض والإبرام في البين} وكذا إذا اجتمع في شيء عنوان المقدّميّة للواجب وللحرام، فإنّه يجتمع حينئذٍ في الواجب والحرام الغيري {فتفطّن} وقس على ذلك غيره.

[السّادس: هل المندوحة معتبرة؟]

{السّادس: أنّه يربّما يؤخذ في محلّ النّزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال} يعني:

ص: 298


1- قوانين الأصول 1: 140 و 142 و 153؛ الفصول الغرويّة: 124.

بل ربّما قيل(1) بأنّ الإطلاق إنّما هو للاتكال على الوضوح؛ إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال.ولكن التحقيق - مع ذلك - : عدمُ اعتبارها في ما هو المهمّ في محلّ النّزاع

___________________________________________

أنّ النّزاع في اجتماع الأمر والنّهي إنّما هو في ما كان للمكلّف مفرّ وطريق امتثال لإيجاد الصلاة في غير الدار المغصوبة بأن لم يكن مكانه منحصراً في الغصب بأن كان له مكان مباح يمكنه الصلاة فيه، إذ لو لم يكن له مفرّ كان الأمر بالصلاة تكليفاً بالمحال، وعلى هذا ففي ما لم يكن له مكان مباح يكون خارجاً عن مسألة اجتماع الأمر والنّهي.

{بل ربّما قيل بأنّ الإطلاق} أي: إطلاق العلماء جواز الاجتماع أو امتناعه وعدم تقييدهم بقيد المندوحة {إنّما هو للاتكال على الوضوح، إذ بدونها} أي: بدون المندوحة {يلزم التكليف بالمحال} وحيث إنّ العدليّة لا يجوّزون التكليف بالمحال، فلا بدّ من تقييد كلامهم بالمندوحة حتّى لا يخالف مبناهم.

{ولكن التحقيق مع ذلك} كلّه {عدم اعتبارها} أي: المندوحة {في ما هو المهمّ في محلّ النّزاع} فإنّ المهمّ في هذا الباب أنّه هل يرتفع التضادّ بين الأمر والنّهي بتعدّد الجهة أم التضادّ باق على حاله؟

توضيح ذلك أنّ الكلام في باب الاجتماع الأمر والنّهي يمكن أن يقع في مقامين:

الأوّل: أنّه هل يستحيل اجتماعهما في متعدّد العنوان أم لا؟

الثّاني: أنّه هل يجوز التكليف بالأمر والنّهي في متعدّد العنوان أم لا؟

مثلاً: قد تتكلّم في أنّ الطيران إلى السّماء مستحيل أم لا، وقد نتكلّم في أنّ التكليف بالطيران جائز أم لا.

ص: 299


1- الفصول الغرويّة: 124.

من: لزوم المحال، - وهو اجتماع الحكمين المتضادّين، وعدمِ الجدوى في كون موردهما موجّهاً بوجهين في دفع غائلة اجتماع الضدّين - ، أو عدم لزومه، وأن تعدّد الوجه يجدي في دفعها، ولا يتفاوت في ذلك أصلاً وجودُ المندوحة وعدمها. ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخرُ، لا دخلَ له بهذا النّزاع.

نعم، لا بدّ من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلاً،

___________________________________________

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ النّزاع في المقام الأوّل والمندوحة لا ربط لها بهذا المقام، بل هي مربوطة بالمقام الثّاني الّذي هو مقام التكليف(1).

والحاصل: أنّ المندوحة غير مرتبط بما هو المهمّ {من لزوم المحال، وهو اجتماع الحكمين المتضادّين وعدم الجدوى} أي: عدم الكفائيّة {في} رفع التضاد {كون موردهما} أي: الأمر والنّهي {موجّهاً بوجهين} فإنّ تعدّد الجهة غير كافٍ {في دفع غائلة اجتماع الضدّين} في الواحد الحقيقي {أو عدم لزومه} عطف على «لزوم المحال»، وبيّن هذا بقوله: {وإن تعدّد الوجه يجدي في دفعها} أي: دفع الغائلة.

{و} من المعلوم أنّه {لا يتفاوت في ذلك} المقام {أصلاً وجود المندوحة وعدمها} بل تقييد هذا المقام بقيد المندوحة، مثل أن يقال: إنّ الطيران إلى السّماء محال إذا كان هناك مندوحة، وهذا كما ترى في كمال السّخافة {ولزوم التكليف بالمحالبدونها} أي: بدون المندوحة {محذور آخر لا دخل له بهذا النّزاع} المرتبط بنفس استحالة الاجتماع.

{نعم، لا بدّ من اعتبارها} أي: المندوحة {في الحكم بالجواز فعلاً} أي: إنّ الذهاب إلى كفاية تعدّد الجهة في اجتماع الوجوب والحرمة لا بدّ وأن يعتبر المندوحة في صحّة التكليف، إذ لولا المندوحة كان التكليف بالصلاة مثلاً تكليفاً

ص: 300


1- وسيأتي لهذا مزيد توضيح في الأمر الأوّل من الأُمور الّتي يقدّمها المصنّف على مذهبه المختار عن قريب إن شاء الله - تعالى - . راجع الصفحة 322-323.

لمن يرى التكليف بالمحال محذوراً ومحالاً، كما ربّما لا بدّ من اعتبار أمر آخر في الحكم به كذلك أيضاً.

وبالجملة: لا وجه لاعتبارها إلّا لأجل اعتبار القدرة على الامتثال، وعدم لزوم التكليف بالمحال، ولا دخل له بما هو المحذور في المقام من التكليف المحال. فافهم واغتنم.

السّابع: أنّه ربّما يتوهّم:

تارةً: أنّ النّزاع في الجواز والامتناع يبتني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع.

___________________________________________

بالمحال وهو غير جائز {لمن يرى التكليف بالمحال محذوراً ومحالاً} كالعدليّة.

فتحصّل أنّه إذا قال أحد في المقام الأوّل بالإمكان وعدم لزوم التضادّ فلا بدّ وأن يخصّ الجواز في المقام الثّاني بوجود المندوحة {كما ربّما لا بدّ من اعتبار أمر آخر} من البلوغ والعقل ونحوهما {في الحكم به} أي: بالجواز {كذلك} أي: فعلاً {أيضاً} كما كانت المندوحة شرطاً في الفعليّة.

{وبالجملة لا وجه لاعتبارها إلّا لأجل اعتبار القدرة علىالامتثال وعدم لزوم التكليف بالمحال} فهي مرتبطة بالمقام الثّاني {ولا دخل له} أي: لاعتبار المندوحة {بما هو المحذور في المقام} الأوّل الّذي هو محلّ الكلام {من التكليف المحال} بيان «ما» {فافهم واغتنم} واللّه المنعم.

[السابع: عدم ارتباط المسألة بمسألة تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد]

{السّابع: أنّه ربّما يتوهّم تارة أنّ النّزاع في الجواز والامتناع يبتنى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع} إذ عليه تكون طبيعة الصلاة المتعلّقة للأمر غير طبيعة الغصب المتعلّقة للنهي، فيكون مجال للنزاع في إمكان الاجتماع وامتناعه، إذ القائل بالجواز ينظر إلى تعدّد الطبيعة والقائل بالامتناع ينظر إلى وحدة الوجود، إذ الطبيعتان إنّما توجدان بوجود واحد.

ص: 301

وأمّا الامتناع على القول بتعلّقها بالأفراد فلا يكاد يخفى؛ ضرورة لزوم تعلّق الحكمين بواحد شخصي - ولو كان ذا وجهين - على هذا القول.

وأُخرى: أنّ القول بالجواز مبنيّ على القول بالطبائع؛ لتعدّد متعلّق الأمر والنّهي ذاتاً عليه، وإن اتّحدا وجوداً، والقولَ بالامتناع على القول بالأفراد؛ لاتّحاد متعلّقهما شخصاً خارجاً، وكونهِ فرداً واحداً.

وأنت خبير بفساد كلا التوهّمين؛

___________________________________________

{وأمّا الامتناع على القول بتعلّقها} أي: تعلّق الأحكام {بالأفراد فلا يكاد يخفى} على أحد {ضرورة لزوم تعلّق الحكمين بواحد شخصي} إذالحكمان تعلّقا بالطبيعة الشّخصيّة، والمفروض في ظرف الاجتماع أنّ شخصاً واحداً صار متعلّقاً لهما، وهو أمر واحد حقيقة ووجوداً، فيلزم اجتماع الضدّين في واحد شخصي.

{ولو كان ذا وجهين على هذا القول} أي: القول بتعلّق الأحكام بالأفراد، والظرف متعلّق بقوله: «تعلّق الحكمين» {و} ربّما يتوهّم تارة {أُخرى} ب- {أنّ القول بالجواز مبنيّ على القول} بتعلّق الأحكام {بالطبائع لتعدّد متعلّق الأمر والنّهي ذاتاً عليه} أي: على هذا القول {وإن اتّحدا} أي: المتعلّقان للأمر والنّهي {وجوداً} كما هو المفروض {والقول بالامتناع} مبنيّ {على القول} بتعلّق الأوامر والنّواهي {بالأفراد لاتحاد متعلّقهما شخصاً خارجاً وكونه فرداً واحداً}.

والحاصل: أنّ هذه المسألة تبتني على تلك المسألة.

{و} لكن {أنت خبير بفساد كلا التوهّمين} وعدم ارتباط لهذه المسألة بمسألة الطبائع والأفراد، إذ لا شكّ أنّ المجمع شيء واحد شخصيّ ولا شكّ أنّ له وجهين، ولا شكّ أنّ الوجود الواحد لا يتغيّر بالقول بالطبائع أو الأفراد، وحينئذٍ فاللّازم التكلّم في أنّ تعدّد الوجه يجدي في رفع التناقض أم لا؟

ص: 302

فإنّ تعدُّدَ الوجه إن كان يُجدي - بحيث لا يضرّ معه الاتّحاد بحسب الوجود والإيجاد - ، لكان يُجدي ولو على القول بالأفراد؛ فإنّ الموجود الخارجي الموجّه بوجهين يكون فرداً لكلّ من الطبيعتين، فيكون مجمعاً لفردين موجودين بوجودٍ واحدٍ، فكما لا يضرّ وحدة الوجودبتعدّد الطبيعتين، كذلك لا يضرّ بكون المجمع اثنين بما هو مصداق وفرد لكلّ من الطبيعتين،

___________________________________________

{فإنّ تعدّد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضرّ معه الاتّحاد بحسب الوجود} الخارجي {والإيجاد لكان يجدي ولو على القول} بتعلّق الأوامر والنّواهي {بالأفراد، فإنّ الموجود الخارجي الموجّه بوجهين} كجهة الصلاتيّة وجهة الغصبيّة {يكون} هذا الموجود {فرداً لكلّ من الطبيعتين} طبيعة الصلاة المأمور بها وطبيعة الغصب المنهي عنها {فيكون مجمعاً لفردين موجودين بوجود واحد} وحينئذٍ لا يتمّ التوهّم الأوّل، إذ تعلّق الأمر بفرد وتعلّق النّهي بفرد آخر، منتهى الأمر أنّ هذين الفردين اتّحدا في الوجود.

وإن قلت: كيف يمكن أن يكون وجوداً واحداً مجمعاً لفردين، فإنّ اللّازم أن يكون لكلّ فرد وجود مستقلّ منحاز عن الآخر؟

قلت: لا فرق بين اتّحاد الطبيعتين وبين اتّحاد الفردين {فكما لا يضرّ وحدة الوجود بتعدّد الطبيعتين} بأن يكون وجود واحد مجمعاً لطبيعتين {كذلك لا يضرّ} وحدة الوجود {بِكَوْنِ المجمع اثنين} أي: فردين، بأن يكون وجود واحد مجمعاً لفردين {بما هو} أي: مجمعيّته لفردين بسبب أنّه {مصداق وفرد لكلّ من الطبيعتين}.

وإنّما قلنا بعدم الفرق؟ لأنّ العقل لا يرى تفاوتاً بين كون المطلوب بالفعل والترك هو الوجود السّعي - أعني: الطبيعة - بحيث كانت الخصوصيّات من لوازمالمطلوب، وبين كون المطلوب هو الوجود الخاص - أعني: الفرد - بحيث كانت الخصوصيّات داخلة في المطلوب، إذ الموضوع للحكمين على كلّ تقدير ليس إلّا

ص: 303

وإلّا لما كان يجدي أصلاً حتّى على القول، بالطبائع كما لا يخفى؛ لوحدة الطبيعتين وجوداً واتحادهما خارجاً.

فكما أنّ وحدة الصلاتيّة والغصبيّة - في الصلاة في الدار المغصوبة - وجوداً، غيرُ ضائر بتعدّدهما وكونِهما طبيعتين، كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيّات الصلاة فيها

___________________________________________

هذا الوجود المجمع.

وتوضيحه - بلفظ العلّامة الرّشتي(رحمة الله) - : «قد عرفت في مسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد أنّ الحكم والطلب لا يتعلّق بالطبيعة المجرّدة عن الوجود، بل إنّما يتعلّق بها من حيث إيجاد المكلّف إيّاها أو إبقائها على عدمها، وهذا القدر مسلّم بين الفريقين هناك، إلّا أنّ القائلين بتعلّقها بالأفراد ذهبوا إلى أنّ وجود تلك الطبيعة بجميع قيودها وحدودها مطلوبة، والقائلين بتعلّقها بالطبائع ذهبوا إلى أنّ وجودها السِّعي من دون نظر إلى الحدود المكتنفة بها مطلوبة، فحينئذٍ لا يعقل الفرق بين أن يكون الموجود ذا وجهين بحيث يكون بوجه فرداً لماهيّة وبوجه آخر فرداً لماهيّة أُخرى، أو يكون ذا وجهين يكون بأحدهما طبيعة مأموراً بها، وبالآخر طبيعة أُخرى منهيّاً عنها، فافهم»(1).

{وإلّا} يكن تعدّد الوجه مجدياً {لما كان} التعدّد {يجدي أصلاً حتّى على القول بالطبائع، كما لايخفى} بأدنى تأمّل {لوحدة الطبيعتين وجوداً واتحادهما خارجاً} إذ الطبيعتان وإن تعدّدتا ذهناً ولكنّهما متّحدان خارجاً، فيلزم اجتماع الأمر والنّهي في شيء واحد وهو اجتماع الضدّين {فكما أنّ وحدة الصلاتيّة والغصبيّة - في الصلاة في الدار المغصوبة - وجوداً غير ضائر بتعدّدهما وكونهما طبيعتين} عطف على «تعدّدهما» {كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيّات الصلاة} بيان «ما وقع» {فيه-ا} أي: في الصلاة في الدار المغصوبة

ص: 304


1- شرح كفاية الأصول 1: 214.

وجوداً، غيرُ ضائر بكونه فرداً للصلاة، فيكون مأموراً به، وفرداً للغصب، فيكون منهيّاً عنه، فهو - على وحدته وجوداً - يكون اثنين؛ لكونه مصداقاً للطبيعتين، فلا تغفل.

الثّامن: أنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع، إلّا إذا كان في كلّ واحد من متعلّقي الإيجاب والتحريم مناطُ حكمه مطلقاً، حتّى في مورد التصادق والاجتماع، كي يحكم على الجواز

___________________________________________

{وجوداً غير ضائر بكونه فرداً للصلاة فيكون مأموراً به وفرداً للغصب فيكون منهيّاً عنه، فهو} أي: ما وقع في الخارج {على وحدته وجوداً يكون اثنين} من حيث الطبيعة، كما هو واضح ومن حيث الفرد {لكونه مصداقاً للطبيعتين}.

وقوله: «فكما» الخ، بيان لعدم الفرق بين اتّحاد الطبيعتين واتّحاد الفردين، فهو مثال لقوله: «فإنّ تعدّد الوجه» الخ، وليس مثالاً لقوله: «وإلّا لما كان» كما لايخفى {فلا تغفل} وتأمّل حتّى تجد الفرق الواضح بين الأمرين.

[الثامن: اشتراط التزاحم في مسألة الاجتماع]

{الثّامن:} في بيان الفرق بين مسألة اجتماع الأمر والنّهي الّذي هو من باب التزاحم وبين باب التعارض، وأنّه لم يرجع إلى المرجّحات في الثّاني دون الأوّل، حيث إنّهم يرجعون في مثل: (أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق) إلى المرجّحات، ولا يرجعون إليها في مثل: (صلّ ولا تغصب) مع أنّ المثالين سيّان في كون العموم من وجه بين طرفيهما.

ولا يخفى أنّه قد يفرق بين البابين من حيث الثّبوت والواقع، وقد يفرق بينهما من حيث الإثبات والدليل، وقدّم المصنّف(رحمة الله) الأوّل وقال: {إنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلّا إذا كان في كلّ واحد من متعلّقي الإيجاب} في (صلّ) {والتحريم} في (لا تغصب) {مناط حكمه} بأن يكون ملاك الأمر في تمام أفراد الصلاة وملاك النّهي في تمام أفراد الغصب {مطلقاً} أي: {حتّى في مورد التصادق والاجتماع} فتكون الصلاة في الدار المغصوبة ذات ملاكين فعليّين {كي يحكم على الجواز}

ص: 305

بكونه فعلاً محكوماً بالحكمين، وعلى الامتناع بكونه محكوماً بأقوى المناطين، أو بحكم آخر غير الحكمين في ما لم يكن هناك أحدهما أقوى، كما يأتي تفصيله.

وأمّا إذا لم يكن للمتعلّقين مناط كذلك، فلا يكون من هذا الباب، ولا يكون مورد الاجتماع محكوماً إلّا بحكم واحد منهما إذا كان له مناطه، أو حكم آخر غيرهما في ما لم يكن

___________________________________________

أي: جواز اجتماع الأمر والنّهي {بكونه} أي: المجمع {فعلاً محكوماً بالحكمين، و} بناءً {على الامتناع بكونه محكوماً بأقوى المناطين} الإلزامي إذا كان هناك بعد التزاحم أحد الملاكين أقوى {أو} يكون المجمع فعلاً محكوماً {بحكم آخر غير الحكمين في ما لم يكن هناك أحدهما أقوى} بأن تساويا أو كانت القوّة الموجودة في أحدهما غير ملزمة {كما يأتي تفصيله} في باب التعادل والتراجيح.

والحاصل: أنّه لو كان للحكمين المجتمعين الملاك والمصلحة كأن يكون للصلاة في مورد الاجتماع ملاكها، بحيث لم يكن فرق بين هذه الصلاة وبين سائر الصلوات وكذلك كان للغصب في مورد الاجتماع ملاك حرمة الغصب، بحيث لم يكن فرق بين هذا الغصب وبين سائر أفراده كان هذا من باب التزاحم واجتماع الأمر والنّهي، والترجيح هنا بالأهميّة لا بالمرجّحات.

{وأمّا إذا لم يكن للمتعلّقين مناط كذلك} أي: مطلقاً حتّى في مورد الاجتماع - بأن كان الملاك قاصراً - وإنّما يشمل مورد الافتراق فقط {فلا يكون} المجمع {من هذا الباب} أي: باب التزاحم {ولا يكون مورد الاجتماع محكوماً إلّا بحكم واحد منهما إذا كان له} أي: لأحد الحكمين {مناطه}.

مثلاً: إذا وجب إكرام العلماء وحرم إكرام الفسّاق، ففي (العالم الفاسق) - إذا لم يكن للحكمين ملاكاً - إمّا أن يكون لأحد الحكمين ملاك {أو} لا، فإن كان لأحدهما ملاك بقي ذلك الحكم وحده {حكم آخر غيرهما فيما لم يكن} ملاك

ص: 306

لواحدٍ منهما، قيل بالجواز أو الامتناع.

هذا بحسب مقام الثّبوت.

وأمّا بحسب مقام الدلالة والإثبات: فالروايتان الدالّتان على الحكمين متعارضتان، إذا أُحرز أنّ المناط من قبيل الثّاني. فلا بدّ من عمل المعارضة حينئذٍ بينهما من الترجيح والتخيير، وإلّا فلا تعارض في البين، بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين.

___________________________________________

{لواحد منهما} سواء {قيل بالجواز، أو} قيل ب-{الامتناع}.

ولا يخفى أنّ هذا كما لا يكون من باب التزاحم لا يكون من باب التعارض، كما نبّه عليه بعض المحشّين، إذ التعارض إنّما يكون في مقام الإثبات، والكلام الآن في مقام الثّبوت.

{هذا} كلّه {بحسب مقام الثّبوت} والواقع {وأمّا بحسب مقام الدلالة والإثبات فالروايتان الدالّتان على الحكمين متعارضتان إذا أُحرز أنّ المناط من قبيل الثّاني} وهو ما كان المناط واحداً - كأن علمنا بأنّ إكرام العالم الفاسق إمّا واجب وإمّا حرام - {فلا بدّ من عمل المعارضة حينئذٍ بينهما من الترجيح} بالمرجّحات المذكورة {والتخيير} إن لم يكن مرجّح أو كان وقلنا بعدم لزومه، كما هو مبنى المصنّف(رحمة الله) في باب التعادل والتراجيح، وإعمال المعارضة هنا لا يتوقّف على القول بالجواز أو الامتناع، كما لا يخفى.

{وإلّا} يحرز أنّ المناط من قبيل الثّاني، بل احتمل كونه من قبيل الأوّل وهووجود المناط في كلّ من الحكمين حتّى في مورد الاجتماع {فلا تعارض في البين} إذ التعارض فرع العلم بكذب أحدهما، والمفروض هنا عدم العلم بذلك، بل يحتمل صدقهما معاً {بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين} على القول بامتناع اجتماع الأمر والنّهي، وأمّا على القول بالجواز فليس من باب التزاحم؛ لأنّ باب التزاحم إنّما هو في ما لا يمكن الجمع بينهما كالغريقين اللّذين لا يمكن

ص: 307

فربّما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلاً؛ لكونه أقوى مناطاً، فلا مجال حينئذٍ لملاحظة مرجّحات الرّوايات أصلاً، بل لا بدّ من مرجّحات المقتضيات المتزاحمات، كما يأتي الإشارة إليها.

نعم، لو كان كلّ منهما متكفّلاً للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض، فلا بدّ من

___________________________________________

إنقاذ كليهما، وبناءً على جواز اجتماع الأمر والنّهي يمكن الجمع بين الصلاة والغصب.

وعلى كلّ حال إذا كان الباب من التزاحم لزم إعمال مرجّحات هذا الباب {فربّما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلاً لكونه أقوى مناطاً} وأهميّة في نظر الشّارع. مثلاً: لو وَرَدَ وجوب إنقاذ المؤمن الغريق ثمّ ورد وجوب إنقاذ النّبي الغريق ففي مقام التزاحم يقدّم الثّاني وإن كان أضعف سنداً أو دلالة من الأوّل، فإنّ النّظر في باب التزاحم إلى الأهميّة لا إلى السّند والدلالة بخلاف باب التعارض {فلا مجال حينئذٍ} أي: حين كان المقام من التزاحم {لملاحظة مرجّحات الرّوايات} من المرجّحات السّنديّة والدلاليّة والخارجيّة {أصلاً، بل لا بدّ من مرجّحات المقتضيات المتزاحمات} أي: الملاكات الّتي أوجبت الحكم على طبقها، كملاكوجوب إنقاذ المؤمن وملاك وجوب إنقاذ النّبي {كما يأتي الإشارة إليها} في باب التعاد والترجيح - إن شاء اللّه تعالى - .

{نعم، لو كان كلّ منهما} أي: الدليلين في باب التزاحم {متكفّلاً للحكم الفعلي} بأن كانا ظاهرين في فعليّة مؤدّاهما حتّى في مورد الاجتماع، كأن يقول دليل إنقاذ المؤمن: يجب عليك إنقاذه حتّى في صورة غرق النّبي، ويقول دليل إنقاذ النّبي: يجب عليك إنقاذه حتّى في صورة غرق المؤمن {لوقع بينهما التعارض} من جهة فعليّة كلا المقتضيين لا أنّه يخرج من باب التزاحم.

وحينئذٍ {فلا بدّ من} ارتكاب أحد الوجهين:

ص: 308

ملاحظة مرجّحات باب المعارضة، لو لم يوفّق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجّحات باب المزاحمة، فتفطّن.

التّاسع: أنّه قد عرفت: أنّ المعتبر في هذا الباب أن يكون كلّ واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهي عنها مشتملة على مناط الحكم مطلقاً، حتّى في حال الاجتماع.

فلو كان هناك ما دلّ على ذلك من إجماع أو غير فلا إشكال.

___________________________________________

الأوّل: أن نحمل غير الأهمّ منهما - كإنقاذ المؤمن - على الحكم الاقتضائي ويكون الأهم فقط فعليّاً.

الثّاني: {ملاحظة مرجّحات باب المعارضة} بأن نرجع إلى الأقوى سنداً أو دلالة إن كان وإلّا فالتخيير، وإنّما يصار إلى هذا {لو لم يوفّق بينهما} على النّحو الأوّل {بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي} والآخر على الحكم الفعلي {بملاحظةمرجّحات باب المزاحمة} متعلّق بقوله: «لم يوفّق» أي: إنّ الوجه في الجمع بينهما بحمل أحدهما على الاقتضائي هو أنّ المقتضي فيه أضعف من الآخر فاختلاف المقتضي يكشف عن اختلاف الحكم {فتفطّن}.

[التاسع: طريق إحراز المناط في الجمع]

{التاسع: أنّه} بعد ما {قد عرفت} الفرق بين التعارض والتزاحم بحسب مقام الثّبوت والإثبات وعرفت أنّ اجتماع الأمر والنّهي من باب التزاحم لا التعارض، وعرفت {أنّ المعتبر في هذا الباب} أي: باب اجتماع الأمر والنّهي {أن يكون كلّ واحد من الطبيعة المأمور بها، و} الطبيعة {المنهي عنها مشتملة على مناط الحكم مطلقاً} وبين قوله: «مطلقاً» بقوله: {حتّى في حال الاجتماع} بأن يكون مناط وجوب الصلاة ومناط حرمة الغصب موجودين حتّى في الصلاة في الغصب.

{فلو كان هناك ما دلّ على ذلك} أي: وجود المناط فيها مطلقاً {من إجماع أو غيره فلا إشكال} في كونه من مسألة اجتماع الأمر والنّهي.

ص: 309

ولو لم يكن إلّا إطلاق دليلَي الحكمين ففيه تفصيل، وهو:

أنّ الإطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي لكان دليلاً على ثبوت المقتضي والمناط في مورد الاجتماع، فيكون من هذا الباب.

___________________________________________

{و} أمّا {لو لم يكن} في البين دليل على وجود المناطين {إلّا إطلاق دليلي الحكمين} كإطلاق (صلّ) وإطلاق (لا تغصب) الشّامل كلّ واحد منهما لمورد الاجتماع الكاشف هذا الشّمول عن وجود المناط- في عالم الثّبوت - {ففيه تفصيل} ينتج لحوق المجتمعين تارةً بباب التزاحم فيكون من مسألة اجتماع الأمر والنّهي، وتارة بباب التعارض فلا يكون من مسألة الاجتماع {وهو أنّ الإطلاق} قد يكون في مقام بيان الحكم الاقتضائي.

وقد يكون في مقام بيان الحكم الفعلي ف- {لو كان في} مقام {بيان الحكم الاقتضائي} بمعنى بيان المقتضي لوجوب الصلاة ولحرمة الغصب حتّى في مورد الاجتماع {لكان دليلاً على ثبوت المقتضي} لكلا الحكمين.

{و} ثبوت {المناط} لهما {في مورد الاجتماع} إذ المصلحة والمفسدة لازمتان لنفس وجود الطبيعة حينئذٍ، وحيث وجدت الطبيعتان في مورد الاجتماع فلا بدّ وأن يكون المناطان موجودين {فيكون} الدليلان المتكفّلان لبيان الحرمة والوجوب {من هذا الباب} أي: باب التزاحم واجتماع الأمر والنّهي لا باب التعارض، من غير فرق بين القول بجواز الاجتماع أو بامتناعه.

أمّا على القول بالجواز فلأنّ الحكمين الفعليّين إذا أمكن اجتماعهما وكان من باب التزاحم فبالطريق الأولى الحكمان الاقتضائيّان.

وأمّا على القول بالامتناع؛ فلأنّ الحكمين إنّما يتعارضان إذا كانا فعليّين وأمّا إذا كانا اقتضائيّين فلا منافاة بينهما صدقاً.

فتحصّل أنّ الإطلاق يدلّ على ثبوت الحكمين إذا كانا اقتضائيّين، من غير فرق

ص: 310

ولو كان بصدد الحكم الفعلي فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز، إلّا إذا علم إجمالاًبكذب أحد الدليلين، فيعامل معهما معاملة المتعارضين.

وأمّا على القول بالامتناع فالإطلاقان متنافيان،

___________________________________________

بين القول بالجواز أو الامتناع، فيعامل مع هذين الدليلين معامله التزاحم لا التعارض.

{ولو كان} الإطلاق {بصدد} بيان {الحكم الفعلي} فله ثلاث صور:

الأُولى: على القول باجتماع الأمر والنّهي، مع عدم العلم بكذب أحدهما.

الثّانية: على القول بالاجتماع، مع العلم بكذب أحدهما.

الثّالثة: على القول بالامتناع.

إذا عرفت ذلك {ف-} نقول: {لا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي} والمناط {في الحكمين على القول بالجواز} وعدم العلم بكذب أحدهما، فيكون من باب اجتماع الأمر والنّهي، وذلك لأنّ الإطلاق كاشف عن ثبوت المقتضي للحكمين ولا تنافي بينهما في مقام الفعليّة على الجواز.

هذا تمام الكلام في الصورة الأُولى وأشار إلى الصورة الثّانية بقوله: {إلّا إذا علم إجمالاً بكذب} إطلاق {أحد الدليلين} مع القول بجواز الاجتماع أيضاً {فيعامل معهما معاملة المتعارضين} ويخرج عن باب اجتماع الأمر والنّهي؛ لأنّ باب الاجتماع - كما تقدّم - في ما لو يعلم بكذب أحد المناطين في مورد الاجتماع.

{وأمّا} الصورة الثّالثة - وهي ما لو تصادق الدليلان الفعليّان - {على القول بالامتناع، فالإطلاقان متنافيان} لامتناع صدقهما معاً على هذا القول، فإنّ تعدّد الجهة لا يرفع المنافاة فوجود الحكمين الفعليّين في مورد الاجتماع مستحيل فلا بدّ وأن يبقى أحدهما على الفعليّةوينتفي الآخر.

ثمّ إنتفاء أحد الحكمين إمّا لعدم المقتضي والمناط له في ظرف الاجتماع، وإمّا

ص: 311

من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلاً؛ فإنّ انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن أن يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي له، يمكن أن يكون لأجل انتفائه.

إلّا أن يقال: إنّ قضيّة التوفيق بينهما هو: حمل كلّ منهما على الحكم الاقتضائي لو لم يكن أحدهما أظهر، وإلّا فخصوص الظاهر منهما.

فتلخّص أنّ كلّما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين، كان من مسألة الاجتماع،

___________________________________________

لوجود المانع عن فعليّة المقتضي {من غير دلالة} أي: إنّ انتفاء الحكمين الفعليّين لا يدلّ {على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلاً} فلا يكون دليل على كونه من باب التزاحم حتّى يكون من مسألة اجتماع الأمر والنّهي {فإنّ انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن أن يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي له} حتّى يكون من باب التزاحم.

ومسألة الاجتماع كذلك {يمكن أن يكون لأجل انتفائه} أي: انتفاء المقتضي فيكون من باب التعارض للعلم بكذب أحدهما {إلّا أن يقال} في تصحيح كون انتفاء أحد الحكمين لأجل المانع مع ثبوت المقتضي: {إنّ قضيّة التوفيق بينهما} أي: بين الحكمين {هو حمل كلّ منهما على الحكم الاقتضائي لو لم يكن أحدهما أظهر} من الآخر، وحين حملناهما على الاقتضائي فإن كان أحدهما أهمّ كان من باب التزاحم - وقدّم الأهمّ - وإن لم يكن أحدهما أهمّفليس كذلك {وإلّا} يكن كذلك بأن كان أحدهما أظهر {ف-} يحمل {خصوص الظاهر منهما} على الاقتضائي ويبقى الأظهر حجّة في الفعليّة، وقد تقدّم في الأمر السّابق أنّه لو تصادم حكمان فعليّان فاللّازم أحد الأمرين الرّجوع إلى المرجّحات ثمّ التخيير أو حملهما على الاقتضائي الخ.

{فتلخّص} من جميع ما ذكرنا في الأمر التاسع {أنّه كلّما كانت هناك} في الدليلين المجتمعين {دلالة} تدلّ {على ثبوت المقتضي في الحكمين كان من مسألة الاجتماع}

ص: 312

وكلّما لم يكن هناك دلالة عليه، فهو من باب التعارض مطلقاً، إذا كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو على الجواز، وإلّا فعلى الامتناع.

العاشر: أنّه لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقاً،

___________________________________________

وباب التزاحم على كلا القولين {وكلّما لم يكن هناك دلالة عليه} أي: على ثبوت المقتضيين {فهو من باب التعارض} ولا يكون من مسألة اجتماع الأمر والنّهي {مطلقاً} سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنّهي أم بامتناعه {إذا كانت هناك دلالة على انتفائه} أي: المقتضي {في أحدهما بلا تعيين} إذ مع التعيين يسقط ذلك المعيّن رأساً ويبقى الآخر بلا معارض ولا مزاحم.

وقوله: {ولو على الجواز} بيان لقوله: «مطلقاً» {وإلّا} تكن دلالة على انتفاء المقتضي في أحدهما - في صورة عدم الدليل على وجود المقتضيين - {ف-} هو من باب التعارض {على} القول ب- {الامتناع}وأمّا على القول بالجواز فهو من باب التزاحم لعدم المنافاة بينهما.

فتحصّل من صور المخلص أنّه إمّا أن يكون دليل على ثبوت المقتضيين أو لا، وعلى الثّاني فإمّا أن يكون دليل على انتفاء المقتضي في أحدهما أو لا، وعلى الثّاني فإمّا أن نقول بجواز اجتماع الأمر والنّهي أو لا، فالصور أربعة. ولكن لا يخفى أنّ الصور أكثر من هذا وإنّ تداخل بعضها في الأحكام، واللّه الهادي.

[العاشر: ثمرة البحث]

{العاشر} في بيان ثمرة النّزاع في هذه المسألة، وأنّه أين يصحّ المجمع وأين لا يصحّ؟ فنقول: {إنّه لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع} بشرط أن يكون إتيانه {بداعي الأمر} المتوجّه إلى متعلّقه، كأن يأتي بالصلاة في الدار المغصوبة بداعي الأمر المتوجّه إلى الصلاة {على} القول ب- {الجواز مطلقاً}

ص: 313

- ولو في العبادات - ، وإن كان معصية للنهي أيضاً.

وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر، إلّا أنّه لا معصية عليه.

وأمّا عليه وترجيح جانب النّهي: فيسقط به الأمر به مطلقاً في غير العبادات؛ لحصول الغرض الموجب له.

وأمّا فيها فلا، مع الالتفات إلى الحرمة،

___________________________________________

وبين قوله: «مطلقاً» بقوله: {ولو في العبادات} كما لا يخفى {وإن كان} هذا الإتيان {معصية للنهي أيضاً} فإنّ الشّيء ذو الجهتين مثل الشّيئين، فكما أنّه لو غصب مستقلّاً وصلّى مستقلّاً كان مطيعاً وعاصياً كذلك لو جمعهما في فعل واحد فهو مطيع لجهة الصلاة وعاص لحرمة الغصب.{وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر} لأنّ الأمر يقدّم - بأقوائيّته - على النّهي، فيسقط النّهي ويبقى الأمر، فيكون امتثالاً حتّى في العبادات {إلّا أنّه لا معصية عليه} حينئذٍ لفرض سقوط النّهي، كما تقدّم.

{وأمّا} بناءً {عليه} أي: على الامتناع {وترجيح جانب النّهي} لأقوائيّته ففيه تفصيل؛ لأنّه إمّا أن يكون من التوصليّات، كحفر القبر بالآلة المغصوبة، وإمّا أن يكون من العباديّات.

وعلى الثّاني فإمّا أن يلتفت حين الفعل إلى الحرمة أم لا، وعلى الثّاني فإمّا أن يكون عن قصور وإمّا أن يكون عن تقصير {فيسقط به} أي: بإتيان المجمع {الأمر به مطلقاً} من غير فرق بين أن يلتفت حين الفعل إلى الحرمة أو لا، وعدم التفاته كان عن قصور أو تقصير {في غير العبادات} إذ التوصليّ يحصل بوجوده في الخارج ولو من غير المكلّف. كما لو جرف السّيل فأحدث قبراً {لحصول الغرض الموجب له} أي: للأمر {وأمّا فيها} أي: في العبادات، كما لو صلّى في الدار المغصوبة، أو اغتسل بالماء المغصوب {فلا} يسقط الأمر {مع الالتفات إلى الحرمة} لفرض ترجيح

ص: 314

أو بدونه تقصيراً؛ فإنّه وإن كان متمكّناً - مع عدم الالتفات - من قصد القربة، وقد قَصَدها، إلّا أنّه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب به أصلاً، فلا يقع مقرّباً، وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادةً، كما لا يخفى.

وأمّا إذا لم يلتفت إليها قصوراً، وقد قصد القربة بإتيانه، فالأمر يسقط؛ لقصد التقرّب بما يصلح أن يتقرّب به؛

___________________________________________

النّهي وعدم مصحّح للعبادة {أو بدونه} أي: وكذا لا يسقط الأمر إذا أتى بالمجمع بدون الالتفات {تقصيراً} بأن كان مقصّراً في عدم التفاته إلى الحرمة.

فإن قلت: المقوّم لعباديّة العبادة هو قصد القربة وقد قصدها المكلّف فلم لا تكون امتثالاً؟

قلت: {فإنّه وإن كان متمكّناً مع عدم الالتفات} إلى الحرمة {من قصد القربة وقد قصدها إلّا أنّه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب به} أي: بالمجمع {أصلاً} لأنّ الفعل صار معصية لسبب التقصير فلا يصلح للمقربيّة، فإنّ قصد القربة وحدها غير كافٍ في كون الفعل امتثالاً، فإنّ الجاهل المقصّر هو والعامد سواء، فكما أنّ العامد لا يصحّ منه الفعل كذلك الجاهل.

ثمّ إنّه لا فرق في البطلان بين كون الجهل بالحكم، كأن لم يعلم بحرمة الغصب، أو بالموضوع، كأن لم يعلم بكون هذا غصباً، فتأمّل.

والحاصل: أنّه حيث كان مع التقصير {فلا يقع مقرّباً، وبدونه} أي: بدون كونه مقرّباً {لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة، كما لا يخفى}.

هذا كلّه في ما لم يلتفت إلى الحرمة تقصيراً {وأمّا إذا لم يلتفت إليها قصوراً، و} الحال أنّه {قد قصد القربة بإتيانه} أي: بإتيان المجمع {فالأمر يسقط لقصد التقرّب بما يصلح أن يتقرّب به}.

إن قلت: إذا كانت المفسدة أكثر من المصلحة حسب الفرض فكيف يصلح

ص: 315

لاشتماله على المصلحة مع صدوره حَسَناً؛ لأجل الجهل بحرمتهقصوراً، فيحصل به الغرض من الأمر، فيسقط به قطعاً وإن لم يكن امتثالاً له، بناءً على تبعيّة الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً، لا لما هو المؤثّر منها فعلاً للحسن أو القبح؛ لكونهما تابعين لما علم منهما، كما حقّق في محلّه.

___________________________________________

أن يتقرّب به؟

قلت: المفسدة غالبة على الحسن الفعلي، وأمّا الحسن الفاعلي فهو غالب، ولذا يمدح العقلاء هذا الفاعل {لاشتماله على المصلحة} في الجملة {مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً} وقوله: «لاشتماله» الخ علّة لقوله: «بما يصلح أن يتقرّب به» {فيحصل} على هذا {به} أي: بهذا الفعل {الغرض من الأمر، فيسقط به قطعاً وإن لم يكن امتثالاً له} أي: للأمر، فالصلاة في الدار المغصوبة في حال الجهل بالموضوع أو الحكم إذا كانت بقصد القربة صحيحة ومسقطة للأمر ولكنّها ليست امتثالاً للأمر، إذ لا أمر بها في الواقع بملاحظة أنّ المفسدة الواقعيّة غالبة على مصلحتها الواقعيّة في مقام التأثير، فلا بدّ وأن تكون هذه الصلاة محرّمة في الواقع {بناءً على تبعيّة الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً} فإن كان في الفعل مصلحة ملزمة بدون مفسدة كان واجباً، وإن كان فيه مفسدة ملزمة بدون مصلحة كان حراماً، وإن كان فيه مصلحة ومفسدة فهو على ثلاثة أقسام:

لأنّ المفسدة إمّا غالبة بحدّ الإلزام فهو حرام، والمصلحة إمّا غالبة بحدّ الإلزام فهو واجب، وإمّا أن لا يكون كذلك، فإن تساويا كان مباحاً وإن غلبت المفسدة لا بحدّ الإلزام كان مكروهاً، وإن غلبت المصلحة لا بحدّ الإلزام كان مستحبّاً،فالأقسام سبعة {لا لما هو المؤثّر منها} أي: من المصالح والمفاسد {فعلاً للحسن أو القبح} بدون نظر إلى الواقع {لكونهما تابعين لما علم منهما} علّة لقول من يقول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد المؤثّرة فعلاً للحسن والقبح {كما حقّق في محلّه} أنّ

ص: 316

___________________________________________

الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة.

توضيح المقام: أنّ الأحكام إمّا أن لا تكون تابعة للمصالح والمفاسد والحسن والقبح، كما يقوله الأشعري، وإمّا أن تكون تابعة لهما، كما هو الحقّ. ثمّ إنّ القائلين بالتبعيّة افترقوا على مسلكين:

الأوّل: أنّها تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة من غير تقييد بالعلم والجهل، فالشيء ذو المصلحة واجب وإن جهل المكلّف وجوبه، والشّيء ذو المفسدة حرام وإن جهل المكلّف حرمته، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة كان الحكم تابعاً للأقوى منهما وإن جهله المكلّف.

الثّاني: أنّها ليست تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة وإنّما هي تابعة للحسن والقبح الفعلين.

مثلاً: لو اجتمعت المصلحة والمفسدة وكانت المفسدة أقوى من المصلحة ولكن المكلّف جهل ذلك وفعله باعتبار ما علمه من المصلحة فيه كان واجباً لاشتماله على الحسن النّاشئ من علم المكلّف.

وكذا العكس بأن كانت المصلحة أقوى ولكن المكلّف جهل ذلك ولم يفعله باعتبار ما علمه من المفسدة فيه، فإنّه يكون حراماً لاشتماله على القبح النّاشئ من علم المكلّف.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ ما تترجّح مفسدته على مصلحته في الواقع محرّم علىالقول الأوّل، وإن جهل المكلّف ذلك فلا أمر به ولو فعله المكلّف لم يكن امتثالاً كما سبق، بخلاف القول الثّاني فإنّ الفعل يكون مأموراً به، إذ المؤثّر حينئذٍ هي المصلحة للعلم بها.

فتحصّل أنّ الصلاة في الدار المغصوبة - مثلاً - في صورة جهل المكلّف قصوراً صحيحة مجزية، أمّا بناءً على القول الأوّل فلكونها محصّلة للغرض وإن لم تكن

ص: 317

مع أنّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك؛ فإنّ العقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين سائر الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها، وإن لم تعمّه بما هي مأمور بها، لكنّه لوجود المانع، لا لعدم المقتضي.

ومن هنا انقدح: أنّه يجزئ ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحّة العبادة، وعدم كفاية الإتيان بمجرّد المحبوبيّة، كما يكون كذلك في ضدّ الواجب، حيث لا يكون هناك أمرٌ يقصد أصلاً.

وبالجملة: مع الجهل - قصوراً - بالحرمة موضوعاً أو حكماً،

___________________________________________

امتثالاً، وأمّا بناءً على القول الثّاني فلكونها مأموراً بها.

{مع أنّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك} أي: مع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة، كما هو مقتضى القول الأوّل {فإنّ العقل لا يرى تفاوتاً بينه} أي: بين هذا الفرد المجمع {وبين سائر الأفراد} غير المجامعة مع المحرّم {في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها} فإنّ الصلاة المجامعة مع الغصب مثل الصلاة المجرّدة في كونها محصّلة للغرض {وإن} كانت الطبيعة المأمور بها {لمتعمّه} أي: لا تشمل هذا الفرد المجامع مع الغصب {بما هي مأمور بها، لكنّه} أي: عدم الشّمول {لوجود المانع لا لعدم المقتضي} وقد تقدّم الكلام في بحث الضدّ فيه وفي ما فيه، فراجع.

{ومن هنا انقدح أنّه يجزئ} المجمع {ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحّة العبادة} ب- {عدم كفاية الإتيان بمجرّد المحبوبيّة} عطف على «باعتبار» ولذا أدخلنا الباء عليه {كما يكون كذلك} بدون الأمر مجزياً {في ضدّ الواجب} كالصلاة الّتي هي ضدّ الإزالة {حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلاً} ومع ذلك تصحّ الصلاة وتقع مجزية في صورة الجهل قصوراً.

{وبالجملة مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً} كأن لم يعلم بالغصب {أو حكماً}

ص: 318

يكون الإتيان بالمجمع امتثالاً، وبداعي الأمر بالطبيعة لا محالة. غاية الأمر أنّه لا يكون ممّا يسعه بما هي مأمور بها، لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للأحكام الواقعيّة. وأمّا لو قيل بعدم التزاحم إلّا في مقام فعليّة الأحكام، لكان ممّا يسعه، وامتثالاً لأمرها بلا كلام.

وقد انقدح بذلك: الفرقُ بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين،

___________________________________________

كأن لم يعلم بحرمته {يكون الإتيان بالمجمع امتثالاً وبداعي الأمر بالطبيعة لا محالة} عطف بيان على «امتثالاً» {غاية الأمر} في الفرق بين هذا الفرد من الصلاة المبتلى بالضدّ، وبين غيره من سائر الأفراد {أنّه لا يكون} هذا المبتلى بالضدّ{ممّا يسعه} الطبيعة {بما هي مأمور بها} إذ الطبيعة المأمور بها منحصرة في غير هذا الفرد {لو قيل بتزاحم الجهات} أي: المصلحة والمفسدة {في مقام تأثيرها للأحكام الواقعيّة}الجار يتعلّق ب- «الجهات» أي: إنّ جهات الأحكام تتزاحم في مقام التأثير، فيتقدّم الحكم بالحرمة في المجمع، فلا يشمله الأمر المتوجّه إلى الطبيعة.

هذا بناء على المسلك الأوّل {وأمّا لو قيل بعدم التزاحم إلّا في مقام فعليّة الأحكام} بمعنى أنّه لا يتّصف بالحسن والقبح الفعليّين، بل لو علم بالحرمة كان قبيحاً فعليّاً وإن كانت المصلحة غالبة في الواقع، ولو علم بالوجوب كان حسناً فعليّاً وإن كانت المفسدة غالبة في الواقع كما هو بناء المسلك الثّاني {لكان} هذا الفرد المبتلى {ممّا يسعه} الطبيعة، فيكون هذا الفرد مأموراً به {و} ذلك لأنّه يكون {امتثالاً لأمرها} أي: لأمر الطبيعة {بلا كلام} لما تقدّم من أنّ الحكم لمّا كان تابعاً للحسن والقبح الفعليين النّاشئين من علم المكلّف كان معلوم الحسن حسناً وإن كانت المفسدة الواقعيّة أغلب، فتذكّر.

{وقد انقدح بذلك} المذكور سابقاً من الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم، وأنّ في باب التعارض لا ملاك لأحدهما، بخلاف باب التزاحم {الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين} بأن لم يكن ملاك في أحدهما

ص: 319

وقُدّم دليلُ الحرمة تخييراً أو ترجيحاً، حيث لا يكون معه مجالٌ للصحّة أصلاً، وبين ما إذا كان من باب الاجتماع، وقيل بالامتناع، وتقديم جانب الحرمة، حيث يقع صحيحاً في غير مورد من موارد الجهل والنّسيان؛ لموافقته للغرض، بل للأمر.

ومن هنا عُلم: أنّ الثّواب عليه من قبيلالثّواب على الإطاعة، لا الانقياد ومجرّد اعتقاد الموافقة.

و

___________________________________________

{وقدّم دليل الحرمة تخييراً} إذا لم يكن في البين ترجيح، أو كان ولكن لم نقل بلزوم الترجيح في المتعارضين {أو ترجيحاً} وذلك لأنّه حينئذٍ يختصّ الملاك بالحرمة فقط {حيث لا يكون معه} أي: مع تقديم دليل الحرمة {مجال للصحّة أصلاً} لعدم الملاك للوجوب {وبين ما إذا كان من باب الاجتماع} بأن كانا من باب التزاحم {وقيل بالامتناع وتقديم جانب الحرمة} لأجل أهميّة ملاكها {حيث يقع} الفرد المجمع {صحيحاً في غير مورد من موارد الجهل والنّسيان} وهو ما إذا كان الجهل قصوراً والنّسيان عذريّاً، وأمّا نسيان الغاصب غير المبالي فلا {لموافقته للغرض، بل للأمر} علّة لصحّته.

{ومن هنا} أي: ممّا قلنا من أنّ المجمع موافق للغرض والأمر {علم أنّ الثّواب عليه من قبيل الثّواب على الإطاعة، لا} من قبيل الثّواب على {الانقياد، ومجرّد اعتقاد الموافقة} عطف على «الانقياد» والمراد بالانقياد هنا مقابل التجرّي الّذي هو عبارة عن الإتيان بمخالف الواقع برجاء المحبوبيّة، وإن كان الانقياد قد يطلق على الطاعة أيضاً.

{و} إن قلت: المتحصّل من صور اجتماع الأمر والنّهي خمسة:

الأوّل: التعارض مع تقديم الأمر فتصحّ العبادة.

الثّاني: التعارض مع تقديم النّهي فتبطل.

الثّالث: التزاحم مع القول بالامتناع وتقديم الأمر فتصح.

ص: 320

قد ظهر بما ذكرناه، وجهُ حكم الأصحاب بصحّةالصلاة في الدار المغصوبة مع النّسيان أو الجهل بالموضوع، بل أو الحكم، إذا كان عن قصور، مع أنّ الجُلَّ - لولا الكلّ - قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر. فلتكن من ذلك على ذُكر.

إذا عرفت هذه الأُمور فالحقّ هو: القول بالامتناع كما ذهب إليه المشهور(1). وتحقيقه - على وجه يتّضح به فساد ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الاستدلال لسائر الأقوال - يتوقّف على:

تمهيد مقدّمات:

___________________________________________

الرّابع: التزاحم مع القول بالامتناع وتقديم النّهي والنّسيان فتبطل.

الخامس: التزاحم مع القول بجواز الاجتماع فتصحّ.

وعلى هذا فاللّازم القول بصحّة العبادة مطلقاً أو بطلانها مطلقاً، ولا وجه للتفصيل في المسألة كما ينسب إلى الأصحاب.

قلت: {قد ظهر بما ذكرناه} من الفرق بين صورة العمد والتقصير وبين صورة القصور {وجه حكم الأصحاب بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة مع النّسيان، أو الجهل بالموضوع، بل أو} الجهل ب- {الحكم إذا كان} الجهل {عن قصور، مع أنّ الجهل لولا الكلّ قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر} كالعمد والتقصير.

وبهذا تبيّن أنّ القول بالبطلان في الصورة الخامسة مطلقاً - سواء كان عن عذر أم لا - غير مستقيم، فتبصّر {فلتكن من ذلك على ذكر}.{إذا عرفت هذه الأُمور} العشرة فنشرع في المطلب {فالحقّ هو القول بالامتناع كما ذهب إليه المشهور، وتحقيقه على وجه يتّضح به فساد ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الاستدلال لسائر الأقوال يتوقّف على تمهيد مقدّمات} أربعة:

ص: 321


1- الفصول الغرويّة: 125؛ معالم الدين: 93؛ قوانين الأصول 1: 140.

إحداها: أنّه لا ريب في أنّ الأحكام الخمسة متضادّة في مقام فعليّتها، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر؛ ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامّة بين البعث نحوَ واحدٍ في زمانٍ، والزجر عنه في ذلك الزمان، وإن لم تكن بينها مضادّة ما لم تبلغ إلى تلك المرتبة؛ لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الإنشائيّة قبل البلوغ إليها، كما لا يخفى.

___________________________________________

{إحداها: أنّه لا ريب في أنّ الأحكام الخمسة} كلّها {متضادّة في مقام فعليّتها} وذلك لأنّه قد تقدّم منّا أنّ الحكم له مراتب أربع على قول المصنّف:

الأُولى: مرتبة الاقتضاء بمعنى الصلاح والفساد.

الثّانية: مرتبة الإنشاء.

الثّالثة: مرتبة الفعليّة، أي: البعث والتحريك.

الرّابعة: مرتبة التنجّز، وهذه المرتبة مشروطة بالبلوغ - أي: علم العبد بالحكم - ففي هذه المرتبة أعني: الفعليّة {وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر} يقع التضاد {ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامّة بين البعث نحو} شيء {واحد في زمانٍ، والزجر عنه فيذلك الزمان} بحيث يكون يراد من العبد فعله وتركه {وإن لم تكن بينها مضادّة ما لم تبلغ إلى تلك المرتبة} الفعليّة

{لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الإنشائيّة قبل البلوغ إليها} أي: إلى الفعليّة، وذلك لأنّ الأحكام الإنشائيّة تتبع مقتضياتها وملاكاتها، فإذا كان في الشّيء ملاك الوجوب أنشأ المولى له وجوباً وإن كان فيه ملاك التحريم أنشأ له حرمة.

وهذا النّحو من الإنشاء لا يكون على مرتبة الفعليّة - في ما لو اقترن بالمانع - كما لو كان الملاكان متزاحمين، فإنّه ينشأ للشيء الواحد الوجوب والحرمة ولكن لا يصل إلى الفعليّة إلّا أحدهما {كما لا يخفى}.

ولكن أنت خبير بلزوم لغويّة الإنشاءين حينئذٍ، فمرتبة الإنشاء كمرتبة الفعليّة

ص: 322

فاستحالة اجتماع الأمر والنّهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال، بل من جهة أنّه بنفسه محال، فلا يجوز عند من يجوز التكليف بغير المقدور أيضاً.

ثانيتها: أنّه لا شبهة في أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف، وما هو في الخارج يصدر عنه، وهو فاعله وجاعله، لا ما هو اسمه - وهو واضح - ، ولا ما هو عنوانه ممّا قد انتزاع عنه

___________________________________________

لا يمكن التضادّ فيها {فاستحالة اجتماع الأمر والنّهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال} مع كون نفس التكليف ممكناً في نفسه، كالتكليف بالطيران إلى السّماء فإنّ المكلّف به مستحيل ولكن التكليف ممكن، إذ يمكن إرادة المولى لطيران عبده{بل من جهة أنّه بنفسه محال} لعدم تعقّل اجتماع إرادة الفعل وإرادة الترك بالنسبة إلى شيء واحد {فلا يجوز} التكليف المحال حتّى {عند من يجوز التكليف بغير المقدور أيضاً} كالأشاعرة.

فتحصّل أنّ الاستحالة قد تكون صفة للتكليف وقد تكون صفة للمكلّف به، والمتنازع فيه بين الأشاعرة وغيرهم في ما هو صفة للمكلّف به، وأمّا ما هو صفة التكليف فلا شبهة لأحد في استحالته.

{ثانيتها} في بيان تعلّق التكاليف بالمعنونات لا بالعناوين، فنقول: {إنّه لا شبهة في أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما هو في الخارج يصدر عنه} فيكلّف بإصداره وإيجاده في الخارج، لا أنّ الأمر الخارجي متعلّق التكليف حتّى يلزم التكليف بالمحال.

{و} الحاصل: أنّ التكليف يتعلّق بما {هو فاعله وجاعله لا ما هو اسمه، وهو واضح} أي: ليس اسم الفعل الصادر من المكلّف متعلّقاً للتكليف، فالمتعلّق هو المسمّى لا الاسم {و} كذا {لا} يكون متعلّق التكليف {ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه} ولا يخفى أنّ بين الاسم والعنوان عموماً من وجه.

ص: 323

- بحيث لولا انتزاعه تصوّراً واختراعه ذهناً، لما كان بحذائه شيءٌ خارجاً - ويكون خارج المحمول،

___________________________________________

مثلاً: التصرّف في دار الغير بالبيع يشتمل على معنونٍ هو التصرّف الكذائي، وعنوانٍ هو الغصب، واسمٍ هو البيع، فالمحرّم بالحقيقة هو التصرّف لا اسم البيع ولا عنوان الغصب ممّا قد انتزع عنه {بحيث لولا انتزاعهتصوّراً واختراعه} أي: اختراع هذا العنوان كعنوان الغصب {ذهناً لما كان بحذائه شيء خارجاً} فليس في الخارج بحذاء الغصب شيء آخر غير التصرّف، فإنّ الفرق بين الأُمور المتأصّلة والأُمور الانتزاعيّة أنّ بحذاء الأوّل شيء في الخارج دون الثّاني.

مثلاً: الماهيّة من الأُمور الانتزاعيّة، فإنّه ليس في الخارج شيء هو ماهيّة وإنّما هو منتزع عن مثل الإنسان والحيوان والفرس - كما في شرح التجريد(1)

وغيره - .

ثمّ لا يخفى أنّه قد فرّق البعض بين الأُمور الاعتباريّة والأُمور الانتزاعيّة، ولا يهمّنا التعرّض له.

وعلى كلّ حال فالأُمور الانتزاعيّة على أقسام: لأنّها إمّا أن تكون منتزعة عن شيء له خارج عيني أم لا، فالثّاني، كالأحكام الخمسة، والأوّل إمّا أن تكون عن الذات بملاحظة تلبسها بمبدأ حقيقي، كالضارب ونحوه، وإمّا أن تكون منتزعة عن الذات بملاحظة تلبسها بمبدأ اعتباريّ، كالزوج، فإنّه منتزع عن الذات بملاحظة تلبسها بالزوجيّة الّتي هي مبدأ اعتباري.

ولا يخفى أنّ في هذا المقام اختلافات يرجع حاصلها إلى اختلاف الاصطلاح {ويكون خارج المحمول} لا المحمول بالضميمة، وقد تقدّم الفرق بينهما بما حاصله: أنّ خارج المحمول هو العرض المحمول على الشّيء بملاحظة أمر خارج عنه، كالوحدة والتشخّص، والمحمول بالضميمة هو العرض

ص: 324


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 466.

كالملكيّة والزوجيّة والرّقيّة والحريّة والمغصوبيّة إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات؛ ضرورة أنّ البعث ليس نحوَه، والزجرَ لا يكون عنه، وإنّما يؤخذ في متعلّق الأحكام آلة للحاظ متعلّقاتها،والإشارة إليها بمقدار الغرض منها والحاجة إليها، لا بما هو هو وبنفسه، وعلى استقلاله وحياله.

ثالثتها: أنّه لا يوجب تعدّد الوجه والعنوان تعدّد المعنون، ولا تنثلم به وحدتُه؛ فإنّ المفاهيم المتعدّدة والعناوين الكثيرة ربّما تنطبق على الواحد، و

___________________________________________

المحمول على الشّيء بملاحظة أمر داخل فيه، كالأبيض والأسود والعالم ونحوها {كالملكيّة والزوجيّة والرّقيّة والحريّة والمغصوبيّة إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات} وقد يفرّق بينهما بما لا يهمّ ذكره.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) قد استدلّ لكون المتعلّق هو المعنون لا الاسم والعنوان بقوله: {ضرورة أنّ البعث ليس نحوه والزجر لا يكون عنه، وإنّما يؤخذ} الاسم أو العنوان {في متعلّق الأحكام آلة للحاظ متعلّقاتها، والإشارة إليها} عطف على «اللحاظ» {بمقدار الغرض منها} أي: بمقدار الغرض من المتعلّقات.

مثلاً: لو كان الغرض حرمة كلّ غيبة قال: (يحرم الغيبة) وإن كان الغرض حرمة غيبة المسلم قال: (يحرم غيبة المسلم) فيخصّ العنوان ويعمّ بمقدار خصوص الغرض وعمومه {والحاجة إليها لا بما هو هو وبنفسه وعلى استقلاله وحياله} بل في الجمل الخبريّة وغيرها يؤخذ العنوان مرآةً وآلة، لا مستقلّاً، ولا يختصّ هذا بالأُمور الانتزاعيّة، كما لا يخفى، واللّه العالم.

{ثالثتها} في بيان أنّ تعداد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون، فنقول: {إنّه لا يوجب تعدّد الوجه والعنوان تعدّدالمعنون، ولا تنثلم به} أي: بتعدّد العنوان {وحدته} أي: وحدة المعنون {فإنّ المفاهيم المتعدّدة والعناوين الكثيرة} كالناطق والضاحك والماشي ونحوها {ربّما تنطبق على الواحد} كالإنسان {و} هكذا غيره.

ص: 325

تصدق على الفارد الّذي لا كثرة فيه من جهة، بل بسيطٌ من جميع الجهات، ليس فيه حيثٌ غير حيثٍ، وجهة مغايرة لجهةٍ أصلاً، كالواجب - تبارك وتعالى - ، فهو على بساطته ووحدته وأحديّته، تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلاليّة والجماليّة، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا، لكنّها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد.

عباراتنا شتّى

وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك الجمال

يشير

___________________________________________

بل قد {تصدق} العناوين الكثيرة {على} الشّيء {الفارد الّذي لا كثرة فيه من جهة} أصلاً {بل بسيط من جميع الجهات} بحيث {ليس فيه حيث غير حيث وجهة مغايرة لجهةٍ أصلاً، كالواجب - تبارك وتعالى - فهو على بساطته ووحدته وأحديّته} هي مرادفة مع البساطة كما قيل {تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلاليّة} السّلبيّة {والجماليّة} الثّبوتيّة {له الأسماء الحسنى والأمثال العليا} أي: الأمثلة الحسنة العليّة، كقوله - تعالى - : {ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ}(1) الآية، وقوله - تعالى - :{هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ}(2)، وقوله - تعالى - : {وَرَجُلٗا سَلَمٗا لِّرَجُلٍ}(3) {لكنّها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد} كما قال الشّاعر:

{عباراتنا شتّى

وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك

الجمال يشير}

والحاصل: أنّه كما لا يوجب تعدّد صفات اللّه - سبحانه - وأسمائه وعناوينه تعدّد ذاته، بل ذاته واحد وإن تعدّدت الصفات والأسماء، كذلك تعدّد أسماء شيء وعناوينه لا يوجب تعدّد المعنون.

ولا يخفى أنّ جعل هذا برهاناً للمطلب غير خال عن المناقشة، كما يظهر من

ص: 326


1- سورة النّور، الآية: 35.
2- سورة النّحل، الآية: 76.
3- سورة الزمر، الآية: 29.

رابعتها: أنّه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد إلّا ماهيّةً واحدةً وحقيقةً فاردةً، لا يقع في جواب السّؤال عن حقيقته بما هو إلّا تلك الماهيّة، فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كلّ منهما ماهيّة وحقيقة، كانت

___________________________________________

شرح الخوئيني(رحمة الله)(1)، والأولى إحالة المطلب على الوجدان؛ لوضوح أنّ العنوان حاك عن المعنون ومرآة له، وتعدّد الحاكي لا يستلزم تعدّد المحكي.

{رابعتها} في دفع توهّم صدر من الفصول حاصله ابتناء القول بجواز اجتماع الأمر والنّهي على القول بأصالة الماهيّة، والقول بامتناعه على القول بأصالة الوجود، فنقول: {إنّه لا يكاد يكون للموجودبوجود واحد إلّا ماهيّة واحدة وحقيقة فاردة} وذلك لتباين الماهيّات، إذ قوام الماهيّة بالجنس والفصل.

ومن البديهي أنّ الماهيّتين تتباينان بتباين الفصول، وإذا تحقّق تباينهما فلا يمكن اجتماعهما تحت وجود واحد، ولهذا {لا يقع في جواب السّؤال عن حقيقته بما هو إلّا تلك الماهيّة} فيقال في جواب الإنسان ما هو: (حيوان ناطق).

ولا يذهب عليك أنّ ملاك الاستحالة ما ذكر، لا ما ذكره العلّامة الرّشتي من أنّه قد تقرّر في علم الميزان امتناع أن يكون لماهيّةٍ واحدة جنسان قريبان في مرتبة واحدة وكذلك فصلان قريبان الخ(2)؛ لأنّه لم يثبت هذا في علم الميزان، بل ذكر في شرح الشّمسيّة بطلان هذا الكلام(3)، فراجع.

وعلى كلّ تقدير {فالمفهومان} كالصلاة والغصب {المتصادقان على ذاك} الموجود بوجود واحد {لا يكاد يكون كلّ منهما ماهيّة وحقيقة} بحيث {كانت}

ص: 327


1- شرح كفاية الأصول 2: 95-96.
2- شرح كفاية الأصول 1: 222.
3- شروح الشمسيّة: 271 في بحث الفصل القريب والبعيد، ولكن في شرح المطالع: 93 في بحث فروع عليّة الفصل قال باستحالة فصلين قريبين للماهيّة الواحدة، وكذلك التجريد، كما لا يخفى على من راجعهما.

عينه في الخارج، كما هو شأن الطبيعي وفرده، فيكون الواحد وجوداً واحداً، ماهيّة وذاتاً لا محالة، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلّقا الأمر والنّهي، إلّا أنّه كما يكون واحداً وجوداً، يكون واحداً ماهيّة وذاتاً، ولا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهيّة.

___________________________________________

تلك الماهيّة {عينه} أي: عين ذلك الموجود بوجود واحد {في الخارج} ظرف العين {كما هو} أي: اتحاد الماهيّة مع الوجود {شأن الطبيعي وفرده} فإنّ الكلّي الطبيعي عين فرده في الخارج {فيكون الواحد وجوداً واحداً ماهيّة وذاتاً لا محالة} إمّا تفريع على قوله: «كما هو شأن الطبيعي» الخ، وإمّا تفريع على أوّل المطلب {فالمجمع وإن تصادق عليه متعلّقا الأمر والنّهي، إلّا أنّه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهيّة وذاتاً} لا أنّ كلّ واحد من الصلاة والغصب ماهيّة على حدة لكنّها اتحدا في الوجود حتّى يكون الوجود واحداً والماهيّة متعدّدة، بل كلا الأمرين عنوان وحاك لذاك التصرّف الخاصّ.

ومن هنا يعلم أنّه لو تصادق شيئان على موجود واحد كان على ثلاثة أنحاء على سبيل منع الخلوّ:

الأوّل: أن يكونا خارجين عن حقيقته، كصدق الكاتب والعالم على زيد.

الثّاني: أن يكونا داخلين في حقيقته، بأن كان أحدهما جنساً والآخر فصلاً، كالحيوان والنّاطق الصادق على الإنسان.

الثّالث: أن يكون أحدهما خارجاً والآخر داخلاً، كالكاتب والنّاطق الصادق على زيد. هذا كلّه إذا كان العنوان في العرض، وأمّا إذا كان طولاً فتصدق الأجناس والفصول المتعدّدة على شيء واحد، كما لا يخفى.

{و} بما ذكرنا من استحالة تعدّد الماهيّة مع وحدة الوجود تبيّن أنّه {لا يتفاوت فيه} أي: في هذا الحكم {القول بأصالة الوجود، أو أصالة الماهيّة} وقد تقدّم بيان ذلك بماحاصله: أنّ بعض الحكماء ذهبوا إلى كون الوجود هو المتحقّق

ص: 328

ومنه ظهر: عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة على القولين في تلك المسألة، كما توهّم في الفصول(1).

كما ظهر: عدم الابتناء على تعدّد وجود الجنس والفصل في الخارج، وعدمِ تعدّده؛

___________________________________________

في الخارج والماهيّة أمر انتزاعي، وبعضهم ذهبوا إلى أنّ الماهيّة هي المتحقّقة في الخارج والوجود منتزع عنها. وعلى كلّ حال فلو كان الوجود أصلاً فإذا كان واحداً كانت الماهيّة واحدة ولو كان الماهيّة أصلاً فإذا كانت واحدة كان الوجود واحداً.

{ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في} هذه {المسألة على القولين} أصالة الوجود وأصالة الماهيّة {في تلك المسألة، كما توهّم} الابتناء {في الفصول} ببيان أنّا لو قلنا بأصالة الماهيّة جاز الاجتماع؛ لأنّ موضوع الأمر ماهيّة وموضوع النّهي ماهيّة أُخرى، فلا يكون متعلّقهما أمراً واحداً حتّى يستحيل اجتماعهما، ولو قلنا بأصالة الوجود امتنع الاجتماع؛ لأنّ موضوع الأمر والنّهي شيء واحد وهو الوجود، فيلزم الجمع بين المتنافيين وهو مستحيل.

قال العلّامة المشكيني(رحمة الله): «ولكنّي راجعت الفصول فلم أجد ابتناء الامتناع على أصالة الوجود والجواز على أصالة الماهيّة»(2)، ثمّ ساق حاصل كلام الفصول، الخ.

ووجه ظهور عدم الابتناء ما تقدّم من أنّ الوجود الواحد له ماهيّة واحدة وبالعكس {كما ظهر عدم الابتناء على تعدّدوجود الجنس والفصل في الخارج وعدم تعدّده} ببيان أنّا لو قلنا بتعدّد وجودهما جاز الاجتماع؛ لأنّ الأمر يتعلّق بأحدهما والنّهي يتعلّق بالآخر، ولو قلنا بوحدة وجودهما امتنع الاجتماع؛ لأنّ هناك ليس إلّا وجود واحد ولا يمكن أن يتعلّق به الأمر والنّهي كلاهما، وجه الظهور ما ذكره

ص: 329


1- الفصول الغرويّة: 126.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 138.

ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس والفصل له، وأنّ مثل الحركة في دار - من أيّ مقولة كانت - لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها ويتخلّف ذاتيّاتها، وقعت جزءاً للصلاة، أو لا، كانت تلك الدار مغصوبة، أو لا.

إذا عرفت ما مهّدناه عرفت:

أنّ المجمع حيث كان وَاحِداً وجوداً وذاتاً،

___________________________________________

بقوله: {ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين} كالصلاة والغصب {عليه} أي: على المجمع {من قبيل الجنس والفصل له، و} ذلك ل- {أنّ مثل الحركة في دار من أيّ مقولة} من المقولات العشر {كانت لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها و} لا يكاد {يتخلّف ذاتيّاتها} سواء {وقعت جزءاً للصلاة أو لا} وسواء {كانت تلك الدار مغصوبة أو لا} ولو كان الغصب والصلاة من قبيل الجنس والفصل للحركة لاختلفت باختلاف جنسها أو فصلها، كما أنّ الشّيء يختلف حقيقته باختلاف جنسه، كالحيوان والشّجر، وفصله، كالناطق والنّاهق.

وقد علّق المصنّف هنا ما لفظه مع شرح مختصر: «وقد عرفت أنّ صدق العناوين المتعدّدة لا تكاد تنثلم به» أي: بالصدق «وحدة المعنون لا ذاتاً» وماهيّة «ولا وجوداً غايته أن تكون له» أي: للشيء «خصوصيّة بها يستحقّالاتّصاف بها» أي: بهذه العناوين «ومحدود بحدود موجبة لانطباقها» أي: انطباق تلك العناوين «عليه» ككونه محدوداً بالعلم والكتابة ونحوهما ممّا أوجب انطباق العالم والكاتب ونحوهما عليه «كما لا يخفى، وحدوده ومخصّصاته لا يوجب تعدّده بوجه أصلاً، فتدبّر جيّداً»(1).

{إذا عرفت ما مهّدناه عرفت أنّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً وذاتاً} أي: ماهيّة

ص: 330


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 139.

كان تعلّق الأمر والنّهي به محالاً، ولو كان تعلّقهما به بعنوانين؛ لما عرفت من كون فعل المكلّف - بحقيقته وواقعيّته الصادرة عنه - متعلّقاً للأحكام، لا بعناوينه الطارئة عليه.

وأنّ غائلة اجتماع الضدّين فيه لا تكاد ترتفع بكون الأحكام تتعلّق بالطبائع لا الأفراد؛ فإنّ غاية تقريبه أن يقال:

إنّ الطبائع من حيث هي هي وإن كانت ليست إلّا هي، ولا يتعلّق بها الأحكام الشّرعيّة - كالآثار العادية والعقليّة - ،

___________________________________________

{كان تعلّق الأمر والنّهي به محالاً، ولو كان تعلّقهما به} أي: بالمجمع {بعنوانين} بأن كان الأمر تعلّق بهذا التصرّف بعنوان الصلاتيّة والنّهي تعلّق به بعنوان الغصبيّة {لما عرفت من كون فعل المكلّف بحقيقته وواقعيّته الصادرة عنه متعلّقاً للأحكام} كما تقدّم بيانه في الأمر الثّاني من أنّ متعلّق التكاليف هو الفعل بما هو شيء خارجي {لا بعناوينه الطارئة عليه} ككونه صلاة وغصباً ونحوهما.{و} قد عرفت {أنّ غائلة اجتماع الضدّين} اللّازم من القول بالجواز {فيه} أي: في المجمع {لا تكاد ترتفع بكون الأحكام تتعلّق بالطبائع لا الأفراد} كما تقدّم شطر من الكلام فيه في الأمر السّابع {فإنّ غاية تقريبه} أي: تقريب تصحيح الاجتماع على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع {أن يقال: إنّ الطبائع من حيث هي هي وإن كانت ليست إلّا هي} لا موجودة ولا معدومة، لا واحدة ولا متكثّرة، وهكذا، لبداهة أنّ كلّ شيء هو هو مع أنّ الطبيعة لو كانت متّصفة بأحد المتقابلات لم يعقل أن تتّصف بغيرها.

مثلاً: لو كانت الطبيعة موجودة لم يعقل عدمها ولو كانت واحدة لم يعقل تكثّرها بمعنى أنّه لو كان أحدها داخلاً في حقيقتها لم يعقل انقلابها، كما لا يخفى.

{و} على هذا {لا} يمكن أن {يتعلّق بها الأحكام الشّرعيّة ك-} ما لا يتعلّق بها {الآثار العادية والعقليّة} مثلاً الأثر العادي لطبيعة الرّجل الالتحاء، والأثر العقلي

ص: 331

إلّا أنّها مقيّدةً بالوجود - بحيث كان القيد خارجاً والتقيّد داخلاً - صالحةٌ لتعلّق الأحكام بها.

ومتعلّقا الأمر والنّهي على هذا لا يكونان متّحدين أصلاً، لا في مقام تعلّق البعث والزجر، ولا في مقام عصيان النّهي وإطاعة الأمر بإتيان المجمع بسوء الاختيار:

أمّا في المقام الأوّل: فلتعدّدهما بما هما متعلّقان لهما، وإن كانا متّحدين في ما هو خارج عنهما بما هما كذلك.

___________________________________________

للنار الحرارة. ومن الواضح أنّ الطبيعة من حيث هي بدون الوجود لا يترتّبعليها الالتحاء والحرارة، وهكذا الطبيعة من حيث هي لا يتعلّق بها الوجوب، فإنّه لا يجب الطبيعة من حيث هي بل الواجب هو إيجاد الطبيعة {إلّا أنّها} أي: الطبائع {مقيّدة بالوجود، بحيث كان القيد خارجاً والتقيّد داخلاً} بأن يكون الطبيعة بقيد الوجود مأموراً بها، لا أنّ الطبيعة الموجودة مأمور بها {صالحة لتعلّق الأحكام بها} كما سبق تفصيله {ومتعلّقا الأمر والنّهي على هذا} الّذي ذكرنا من تعلّق الأحكام بالطبائع {لا يكونان متّحدين أصلاً لا في مقام تعلّق البعث والزجر} المتوجّهين من قبل المولى {ولا في مقام عصيان النّهي وإطاعة الأمر بإتيان المجمع بسوء الاختيار} فإنّ موضوع العصيان هو موضوع الزجر، وموضوع الإطاعة هو موضوع الأمر، وهما مختلفان حسب الفرض.

وبهذا البيان لا يلزم جمع الضدّين ولا اجتماع الإرادة والكراهة بالنسبة إلى شيء واحد.

{أمّا} عدم الاتحاد {في المقام الأوّل} وهو مقام تعلّق البعث والزجر {فلتعدّدهما} أي: الطبيعتين {بما هما متعلّقان لهما} أي: للأمر والنّهي {وإن كانا} أي: المتعلّقان {متّحدين في ما هو خارج عنهما} أي: في الوجود {بما هما كذلك} أي: بما هما متعلّقان للأمر والزجر.

ص: 332

وأمّا في المقام الثّاني: فلسقوط أحدهما بالإطاعة، والآخر بالعصيان بمجرّد الإتيان، ففي أيّ مقام اجتمع الحكمان في واحد؟

وأنت خبير: بأنّه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت من أنّ تعدّدالعنوان لا يوجب تعدّد المعنون، لا وجوداً ولا ماهية، ولا تنثلم به وحدتُه أصلاً، وأنّ المتعلّق للأحكام هو المعنونات لا العنوانات، وأنّها إنّما تؤخذ في المتعلّقات بما هي حاكيات - كالعبادات - ،

___________________________________________

والحاصل: أنّ الاتحاد في غير متعلّق الأمر والنّهي، فالمتعلّق متعدّد والمتّحد غير المتعلّق.

{وأمّا} عدم الاتحاد في {المقام الثّاني} وهو مقام عصيان النّهي وإطاعة الأمر - أي: مقام الامتثال - {فلسقوط أحدهما} أي: أحد الحكمين وهو الأمر {بالإطاعة و} سقوط {الآخر} وهو النّهي {بالعصيان} إذ النّهي كما يسقط بالإطاعة والترك كذلك يسقط بالعصيان والفعل، فلو قال: (لا تجلس في المسجد إلى الظهر) فإنّه سواء لم يجلس أو جلس يسقط النّهي بعد الظهر، كما لا يخفى.

وعلى كلّ ف- {بمجرّد الإتيان} بالمجمع يسقطان {ففي أيّ مقام اجتمع الحكمان في واحد} حتّى يلزم اجتماع الضدّين وغيره من المحاذير؟

إن قلت: كيف يأمر المولى بشيء يستلزم وجوده العصيان، فإنّ هذا قبيح؟

قلت: المولى أمر بطبيعة كليّة تصدق على المجمع وإنّما العبد بسوء اختياره أتى بما يستلزم العصيان، فالذمّ ليس متوجّهاً إلى المولى، بل إلى العبد، كما لا يخفى.

{و} لكن {أنت خبير بأنّه لا يكاد يجدي} تعدّد العنوان {بعد ما عرفت من أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون لا وجوداً ولا ماهيّة} بل المعنون الواحد له وجود واحد وماهيّة واحدة {ولا تنثلم به وحدته أصلاً،و} هذه المقدّمة إذا ضممنا إليها مقدّمة أُخرى وهي {أنّ المتعلّق للأحكام هو المعنونات لا العنوانات، وأنّها} أي: العنوانات {إنّما تؤخذ في المتعلّقات بما هي حاكيات كالعبادات} والألفاظ

ص: 333

لا بما هي على حِيالها واستقلالها.

___________________________________________

{لا بما هي على حيالها واستقلالها} أنتج امتناع الاجتماع.

وبهذا كلّه تبيّن أنّ القول بتعلّق الأحكام بالطبائع لا يدفع غائلة اجتماع الضدّين، وقد سبق ذلك ولكن المصنّف(رحمة الله) كرّره تثبيتاً؛ ولأنّه بعد ما ذكر دليل الامتناع أراد الإشاره إلى دليل الجواز، وما ذكر كان هو الوجه الأوّل للجواز.

الوجه الثّاني: ما ذكره المحقّق القمّي+ بما لفظه: «أنّ الحكم إنّما تعلّق بالطبيعة على ما أسلفنا لك تحقيقه، فمتعلّق الأمر طبيعة الصلاة ومتعلّق النّهي طبيعة الغصب، وقد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شخص واحد، ولا يرد من ذلك قبح على الأمر لتغاير متعلّق المتضادّين، فلا يلزم التكليف بالمتضادّين ولا كون الشّيء محبوباً ومبغوضاً من جهة واحدة»(1).

ثمّ أشكل على نفسه بما حاصله: أنّ الكلّي لمّا لم يكن موجوداً في الخارج كان الأمر والنّهي متوجّهين إلى الفرد، فيلزم اجتماع الضدّين.

وأجاب بما حاصله: أنّ الكلّي موجود في الخارج في ضمن الفرد، فالفرد مقدّمة لوجود الكلّي في الخارج(2)، فليس الفرد بما هو مأموراً به أو منهيّاً عنه.

والحاصل: أنّ الكلّي الّذي هو ذو المقدّمة منه واجب ومنه حرام، وأمّا الفردالّذي هو مقدّمة فليس بواجب ولا حرام نفسي، فلا يلزم الاجتماع في الفرد.

إن قلت: الفرد حيث كان مقدّمة للواجب ومقدّمة للحرام يلزم اجتماعهما أيضاً.

قلت: المقدّمة محرّمة فقط ولا ضير فيها لإمكان كون المقدّمة المحرّمة آلة في الإيصال إلى الواجب كالركوب على الدابّة المغصوبة مقدّمة للحج.

هذا ما وصل إليه فهمي في توضيح كلام القوانين مع تلخيصه. وقد أشار المصنّف

ص: 334


1- قوانين الأصول 1: 140.
2- وجه كون الفرد مقدّمة: كون الكلّي موجوداً في ضمن المركّب عن الكلّي الطبيعي والمشخّصات الخارجيّة من الكمّ والكيف وغيرهما.

كما ظهر ممّا حقّقناه: أنّه لا يكاد يُجدي أيضاً كون الفرد مقدّمةً لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه، وأنّه لا ضير في كون المقدّمة محرّمةً في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار، وذلك - مضافاً إلى وضوح فساده، وأنّ الفرد هو عين الطبيعي في الخارج، كيف؟ والمقدّميّة تقتضي الاثنينيّة بحسب الوجود، ولا تعدّد كما هو واضح - أنّه إنّما يجدي لو لم يكن المجمع واحداً ماهيّة،

___________________________________________

إلى هذا الدليل بقوله: {كما ظهر ممّا حقّقناه} في بطلان الوجه الأوّل {أنّه لا يكاد يجدي أيضاً كون الفرد مقدّمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه} فالواجب طبيعة الصلاة غير الموجودة، والحرام طبيعة الغصب غير الموجود، والفرد مقدّمة فلم يجتمع فيه الوجوب والحرمة حتّى يلزم التضاد.

{و} لو قلت: بأنّ الفرد مقدّمة لهما ومقدّمة الواجب واجب ومقدّمة الحرام حرام، فيلزم اجتماعهما فيه، غاية الأمر أنّه يجتمع فيه الوجوب والحرمة الغيريّان وهو مستحيل أيضاً.

قلت: بعد ما صارت المقدّمة محرّمة لا تكون واجبة مع أنّها سبب لسقوطالواجب، ف- {أنّه لا ضير في كون المقدّمة محرّمة في صورة عدم الانحصار} وإنّما قيّده بهذه الصورة؛ لأنّها إذا كانت محرّمة في صورة الانحصار لم يكن ذوها واجباً {بسوء الاختيار} متعلّق بقوله: «كون المقدّمة» {وذلك} أي: وجه ظهور فساد هذا الدليل {مضافاً إلى وضوح فساده، وأنّ الفرد هو عين الطبيعي في الخارج} وليس بينهما تغاير وتعدّد، ولهذا يحمل الكلّي على الفرد فيقال: (زيد إنسان) ولو كان مقدّمة لم يصحّ ولهذا لا يقال: (الوضوء صلاة).

و{كيف} يكون الفرد مقدّمة {و} الحال أنّ {المقدّميّة تقتضي الاثنينيّة بحسب الوجود} وبحسب الماهيّة {ولا تعدّد} يتصوّر بين الكلّي والفرد {كما هو واضح أنّه} خبر «ذلك» {إنّما يجدي لو لم يكن المجمع واحداً ماهيّة} بأن كان الفرد مشتملاً

ص: 335

وقد عرفت - بما لا مزيد عليه - أنّه بحسبها أيضاً واحد.

ثمّ إنّه قد استدلّ على الجواز بأُمور:

منها: أنّه لو لم يجز اجتماع الأمر والنّهي لما وقع نظيرُه، وقد وقع، كما في العبادات المكروهة، كالصلاة في مواضع التهمة وفي الحمّام، والصيام في السّفر وفي بعض الأيّام.

بيان الملازمة:

___________________________________________

على ماهيّتين إحداهما موضوع للأمر والآخر موضوع للنهي {وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّه} أي: المجمع {بحسبها} أي:بحسب الماهيّة {أيضاً واحد} كما أنّه بحسب الوجود واحد.

لا يخفى أنّه لو سلّمنا كون الفرد مقدّمة وأنّه حرام فقط لكنّه يسقط به الواجب لم يكن مجال لهذا الجواب الثّاني، وإن أردت زيادة التوضيح فراجع القوانين(1) أوّلاً، ثمّ شرح السّلطان(2) والخوئيني(3) رحمهم اللّه ثانياً.

{ثمّ إنّه قد استدلّ على} القول ب- {الجواز} مضافاً إلى الدليلين السّابقين {بأُمور: منها} ما ذكره في القوانين أيضاً(4)

وهو {أنّه لو لم يجز اجتماع الأمر والنّهي لما وقع نظيره} في الشّرع {و} لكن {قد وقع} نظيره فيجوز {كما في العبادات المكروهة كالصلاة في مواضع التهمة، وفي الحمّام} وفي بعض الأمكنة الخاصّة كوادي ضجنان {والصيام في السّفر} على بعض الأقوال.

{وفي بعض الأيّام} كيوم عاشوراء {بيان الملازمة} بين عدم جواز الاجتماع وعدم

ص: 336


1- قوانين الأصول 1: 142.
2- الحاشية على كفاية الأصول 3: 79.
3- شرح كفاية الأصول 2: 104.
4- قوانين الأصول 1: 142.

أنّه لو لم يكن تعدّد الجهة مجدياً في إمكان اجتماعهما، لما جاز اجتماع حكمين آخرين في مورد مع تعدّدها؛ لعدم اختصاصهما من بين الأحكام بما يوجب الامتناع من التضادّ؛ بداهة تضادّها بأسرها، والتالي باطل؛ لوقوع اجتماع الكراهة والإيجاب أو الاستحباب في مثل الصلاة في الحمّام، والصيام في السّفر وفي العاشوراء - ولو في الحضر - واجتماعِالوجوب أو الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب في مثل الصلاة في المسجد أو الدار.

___________________________________________

وقوع نظيره {أنّه لو لم يكن تعدّد الجهة مجدياً في إمكان اجتماعهما لما جاز اجتماع حكمين آخرين} من الأحكام الخمسة {في مورد مع تعدّدها} أي: تعدّد الجهة {لعدم اختصاصهما} أي: الوجوب والحرمة {من بين الأحكام بما} أي: بخصوصيّة {يوجب الامتناع من التضاد} بيان «ما» {بداهة تضادّها} أي: الأحكام الخمسة {بأسرها، والتالي} وهو عدم اجتماع حكمين آخرين {باطل، لوقوع اجتماع الكراهة والإيجاب، أو} الكراهة و{الاستحباب في مثل الصلاة} الفريضة أو النّافلة {في الحمّام، والصيام في السّفر} بل {و} الصيام {في العاشوراء ولو في الحضر، و} كذا {اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب في مثل الصلاة} الواجبة أو المستحبّة {في المسجد أو الدار}.

والحاصل: أنّا نرى في الشّريعة موارد اجتمع فيها حكمان من الأحكام الخمسة، وذلك دليل جواز اجتماع الوجوب والحرمة، إذ لا فرق بين هذين الحكمين وسائر الأحكام في كون جميعها متضادّة، بل قال في القوانين: «مع أنّ هذا يدلّ على المطلوب بطريق أولى، إذ النّهي في المكروهات تعلّق بالعبادات دون ما نحن فيه.

وبعبارة أُخرى: المنهي عنه بالنهي التنزيهي أخصّ من المأمور به مطلقاً، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ النّسبة بينهما في ما نحن فيه عموم من وجه»(1)،انتهى.

ص: 337


1- قوانين الأصول 1: 142.

والجواب عنه:

أمّا إجمالاً: فبأنّه لا بدّ من التصرّف والتأويل في ما وقع في الشّريعة ممّا ظاهره الاجتماع، بعد قيام الدليل على الامتناع؛ ضرورةَ أنّ الظهور لا يصادم البرهان.

مع أنّ قضيّة ظهور تلك الموارد: اجتماعُ الحكمين فيها بعنوانٍ واحدٍ، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين. فهو أيضاً لا بدّ من التفصّي عن إشكال الاجتماع فيها، لا سيّما إذا لم يكن هناك مندوحة،

___________________________________________

ثمّ لا يذهب عليك أنّ اجتماع استحبابين، كالصلاة النّافلة في المسجد مبنيّ على القولين، إذ القائل بكفاية تعدّد الجهة يرى أنّه ليس من الجمع بين المثلين في واحد، والقائل بعدم الكفاية يرى أنّه من الجمع بين المثلين المستحيل فيلزم تأويله.

{والجواب عنه أمّا إجمالاً فبأنّه لا بدّ من التصرّف والتأويل في ما وقع في الشّريعة ممّا ظاهره الاجتماع} بين المثلين أو الضدّين {بعد قيام الدليل على الامتناع، ضرورة أنّ الظهور لا يصادم البرهان} والوجدان كما تأوّل ما ظاهره التجسّم في باب الذات المقدّسة بالأدلّة العقليّة النّافية له {مع} أنّا لو قلنا بجواز الاجتماع كان اللّازم أيضاً تأويل هذه الظواهر، ل- {أنّ قضيّة ظهور تلك الموارد اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد} لأنّ النّهي وقع عن نفس الصلاة الواجبة أو المستحبّة{ولا يقول الخصم بجوازه كذلك} أي: بجواز الاجتماع بعنوان واحد {بل} الخصم قائل {بالامتناع ما لم يكن} توجّه الأمر والنّهي {بعنوانين وبوجهين، فهو} أي: الخصم {أيضاً لا بدّ} له {من التفصّي عن إشكال الاجتماع فيها} أي: في هذه الموارد الّتي توجّه النّهي إلى ما توجّه إليه الأمر {لا سيّما إذا لم يكن هناك مندوحة} بأن لم يكن هناك مورد يتمكّن من الصلاة بلا اجتماعها مع جهة الكراهة.

ص: 338

كما في العبادات المكروهة الّتي لا بدل لها، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلاً، كما لا يخفى.

وأمّا تفصيلاً: فقد أُجيب عنه بوجوه(1)

يوجب ذكرها بما فيها من النّقض والإبرام طولَ الكلام بما لا يسعه المقام.

فالأولى: الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادّة الإشكال، فيقال - وعلى اللّه الاتّكال - :

إنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:

___________________________________________

وقد مثل لعدم المندوحة بقوله: {كما في العبادات المكروهة الّتي لا بدل لها} كصوم يوم عاشوراء الّذي لا بَدَلَ له، بحيث يتمكّن العبد من تركه والإتيان ببدله، إذ صوم باقي الأيّام مستحبّ بنفسه لا أنّه بدل، مثلاً يستحبّ الصوم في اليوم الحادي عشر فلا يقع صومه بدل صوم يوم العاشر. وجه الخصوصيّة أنّ تشريع الكراهة في العبادة إذا كان للعبد مناص عنها - بأن كان للعبادة فردان مكروه وغير مكروه - أهون من تشريع الكراهةفي ما لا مناص عنها، وجه أقوائيّة المحذور في ما لا مناص: أنّ معنى الكراهة منافٍ لمعنى المحبوبيّة، كما لا يخفى {فلا يبقى له} أي: للخصم {مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها} أي: في هذه الموارد {على جوازه} أي: جواز اجتماع الأمر والنّهي {أصلاً، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{وأمّا} الجواب {تفصيلاً فقد أُجيب عنه بوجوه يوجب ذكرها بما فيها من النّقض والإبرام طول الكلام بما لا يسعه المقام، فالأولى الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادّة الإشكال، فيقال وعلى اللّه الاتّكال: إنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام} وبتوضيح الكلام في العبادات المكروهة يتّضح الجواب عن إشكال اجتماع المثلين في العبادات - الّتي اجتمع فيها استحبابان - :

ص: 339


1- الفصول الغرويّة: 128؛ مطارح الأنظار 1: 617.

أحدها: ما تعلّق به النّهي بعنوانه وذاته، ولا بدل له، كصوم يوم العاشوراء، أو النّوافل المبتدئة في بعض الأوقات.

ثانيها: ما تعلّق به النّهي كذلك، ويكون له البدل، كالنهي عن الصلاة في الحمّام.

ثالثها: ما تعلّق النّهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً، أو ملازم له خارجاً، كالصلاة في مواضع التهمة، بناءً على كون النّهي عنها لأجل اتّحادها مع الكون في مواضعها.

___________________________________________

{أحدها: ما تعلّق به النّهي بعنوانه وذاته} أي: بذات ما تعلّق به الوجوب أو الاستحباب، بأنّ توجّه النّهي إلى العنوان الّذي توجّه إليه الأمر {و} الحال أنّه {لا بدل له} بحيث يتركه في الوقت المكروه ويأتي به غير مقترن بالكراهة {كصوم يومالعاشوراء أو النّوافل المبتدئة في بعض الأوقات} كعند طلوع الشّمس وعند غروبها وبعد صلاتي الصبح والعصر ونحوها على القول بالكراهة.

{ثانيها: ما تعلّق به النّهي كذلك} أي: بعنوانه وذاته {ويكون له البدل} بحيث يمكن أن يؤتى بذلك الشّيء غير مقترن بالكراهة {كالنهي عن الصلاة} الواجبة أو المستحبّة {في الحمّام} فإنّه يتمكّن المكلّف من إتيان صلاة الظهر أو نافلتها - مثلاً - في خارج الحمّام.

{ثالثها: ما تعلّق النّهي به} ولكن {لا بذاته} وعنوانه {بل بما هو} أي: بعنوان {مجامع معه} أي: مع المأمور به {وجوداً، أو ملازم له خارجاً} والفرق بينهما واضح، فإنّ المجامع ما كان العنوانان صادقين على وجود واحد، بخلاف الملازم فإنّ معنى الملازمة إنّما يصدق في ما كانا متغايرين {كالصلاة في مواضع التهمة، بناءً على كون النّهي عنها} في تلك المواضع {لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها} فلو كان الكون متّحداً مع الصلاة بملاحظة أنّ الصلاة عبارة عن الأكوان والأفعال، فالنهي تعلّق بشيء متحد الوجود مع الصلاة. وكان هذا مثالاً لقوله: «مجامع معه

ص: 340

أمّا القسم الأوّل: فالنهي تنزيهاً عنه - بعد الإجماع على أنّه يقع صحيحاً(1)، ومع ذلك يكون تركه أرجح كما يظهر من مداومة الأئمّة(علیهم السلام) على التّرك - :

إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة علىالترك،

___________________________________________

وجوداً» ولو كان الكون من مقدّمات الأفعال بملاحظة أنّ الصلاة عبارة عن الأفعال فقط والكون ليس داخلاً في الصلاة، فالنهي تعلّق بشيء ملازم مع الصلاة، وكان هذا مثالاً لقوله: «ملازم له خارجاً».

وإنّما قال: «لأجل اتّحادها» الخ، ليحصل الفرق بين القسم الثّالث والأوّلين.

والحاصل: أنّ القسم الثّالث هو ما تعلّق النّهي بعنوان العبادة لكن علم من الخارج أنّ متعلّق النّهي عنوان آخر متّحد أو ملازم مع عنوان العبادة، وهذا بخلاف القسمين الأوّلين فإنّ النّهي فيهما تعلّق بنفس عنوان العبادة. وبهذا ظهر وجه الحصر في الثّلاثة.

بيانه: أنّ النّهي المتعلّق بعنوان العبادة إمّا تعلّق بذاته أو لا، وما تعلّق بذاته إمّا أن يكون له البدل أو لا:

{أمّا القسم الأوّل} وهو ما تعلّق النّهي بذات العبادة مع عدم البدل {فالنهي تنزيهاً} لا تحريماً {عنه بعد الإجماع على أنّه يقع صحيحاً، ومع ذلك يكون تركه أرجح، كما يظهر} أرجحيّة الترك {من مداومة الأئمّة(علیهم السلام) على الترك، إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك} قوله: «إمّا لأجل» خبر للنهي عنه، أي: إنّ النّهي بعد ثبوت مقدّمتين لأحد أمرين إمّا فلان وإمّا فلان. أمّا المقدّمتان:

فالأُولى: الإجماع على صحّة العبادة ووقوعها مقرّباً، كالصوم في عاشوراء، إذ لولا صحّته لم يقع مقرّباً وكان باطلاً.

والثّانية: الالتزام بكون الفعل مرجوحاً وكون الترك أرجح منه لمداومة الأئمّة(علیهم السلام)

ص: 341


1- جواهر الكلام 17: 108.

فيكون الترك - كالفعل - ذا مصلحة موافقة للغرض، وإن كانمصلحة الترك أكثر، فهما حينئذٍ يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهمّ في البين، وإلّا فيتعيّن الأهمّ، وإن كان الآخر يقع صحيحاً؛ حيث إنّه كان راجحاً وموافقاً للغرض، كما هو الحال في سائر المستحبّات المتزاحمات،

___________________________________________

على الترك، ولو كان الفعل راجحاً لم يداوموا(علیهم السلام) على الترك، فبعد ثبوت هاتين المقدّمتين نقول النّهي عن هذه العبادة لأحد أمرين إمّا أنّه ينطبق على ترك الصوم عنوان ذي مصلحة {فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض وإن كان مصلحة الترك أكثر} ولذا يكون الترك أرجح.

مثلاً: صوم يوم عاشوراء ذو مصلحة وينطبق على تركه عنوان مخالفة بني أُميّة، فيكون تركه أيضاً ذا مصلحة إلّا أنّ ذلك العنوان لما كان أرجح كان الترك أفضل.

إن قلت: مع تزاحم الرّجحانين يلزم أن يكون مباحاً.

قلت: المباح هو ما يكون كلّ واحد من الفعل والترك خالياً عن المصلحة وطرف الفعل والترك هنا ليس كذلك {فهما حينئذٍ يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما} كما لو كان هناك غريقان فإنّه يحكم بالتخيير في إنقاذهما {لو لم يكن أهمّ في البين، وإلّا} فلو كان أحدهما أهمّ من الآخر {فيتعيّن الأهمّ} ثمّ إن كانت الأهميّة تعيينيّة لم يكن للمهمّ أمر، وإنّما يصحّ الإتيان به بالملاك، كما سبق في ما لو ترك الإزالة واشتغل بالصلاة، فإنّ الصلاة صحيحة لا للترتّب بل لوجود الملاك، ولو لم تكن الأهميّة تعيينيّة كان الأهمّ راجحاً {وإن كان الآخر} الّذي هو مهمّ {يقع صحيحاً حيث إنّه كان راجحاً} في نفسه{وموافقاً للغرض كما هو الحال في سائر المستحبّات المتزاحمات} مع أرجحيّة بعضها.

مثلاً: الصوم النّدبي مستحبّ وإجابة المؤمن مستحبّة، فلو تزاحما - بأن طلب

ص: 342

بل الواجبات.

وأرجحيّة الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلاً، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته، ولذا لا يقع صحيحاً على الامتناع؛ فإنّ الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحيّة التقرّب به، بخلاف المقام، فإنّه على ما هو عليه من الرّجحان وموافقة الغرض

___________________________________________

المؤمن الإفطار - كان ترك الصوم أرجح لا لنفسه، بل لانطباق عنوان ذي مصلحة راجحة على هذا الترك، وهكذا الصوم في يوم عرفة إذا كان مضعفاً عن الدعاء.

{بل} وكذلك {الواجبات} المتزاحمات كإنقاذ الغريق للتساوي، أو الإزالة والصلاة للأرجحيّة.

{و} إن قلت: إنّ أرجحيّة الترك من الفعل يوجب حزازة في الفعل ومعها لا أمر بالفعل فلا يقع صحيحاً.

قلت: {أرجحيّة الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه} أي: في الفعل {أصلاً} وليس هذا إلّا كما لو دار الأمر بين الحجّ النّدبي وبين زيارة بعض المؤمنين، فإنّ الزيارة وإن كانت أقلّ ثواباً إلّا أنّه لو فعلها لم يكن في الفعل حزازة {كما} لا يخفى.

نعم {يوجبها} أي: الحزازة {ما إذا كان فيه} أي: في الفعل {مفسدة غالبة على مصلحته} كالصلاة المزاحمةلفعل الإزالة، فإنّ الصلاة ذات مصلحة قليلة ومفسدة كثيرة، فتكون الصلاة حينئذٍ ذات حزازة {ولذا لا يقع صحيحاً على} القول ب- {الامتناع فإنّ الحزازة والمنقصة} الكائنة {فيه مانعة عن صلاحيّة التقرّب به} أي: بهذا الفعل، وهذا {بخلاف المقام} ممّا لم يكن في أحد طرفي الفعل والترك حزازة بل كان كلّ منهما راجحاً، غاية الأمر رجحان أحد الطرفين على الآخر {فإنّه على ما هو عليه من الرّجحان وموافقة الغرض} فإنّ الصوم في يوم عاشوراء

ص: 343

- كما إذا لم يكن تركه راجحاً - بلا حدوث حزازة فيه أصلاً.

___________________________________________

كالصوم في غيره فيكون {كما إذا لم يكن تركه راجحاً بلا حدوث حزازة فيه أصلاً} وإنّما يكون الترك منطبقاً لعنوان راجح، فتدبّر.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) على قوله: «لا توجب حزازة» الخ ما لفظه: «ربّما يقال إنّ أرجحيّة الترك وإن لم توجب منقصة وحزازة في الفعل أصلاً، إلّا أنّه يوجب المنع منه فعلاً والبعث إلى الترك قطعاً، كما لا يخفى، ولذا كان ضدّ الواجب» كالصلاة «بناءً على كونه مقدّمة له» أي: على القول بكون ترك الصلاة الّتي هي ضدّ مقدّمة للواجب الّذي هو الإزالة «حراماً ويفسد» هذا الضدّ «لو كان عبادة، مع أنّه لا حزازة في فعله وإنّما كان النّهي عنه وطلب تركه لما فيه من المقدّميّة له وهو» أي: الضد «على ما هو عليه من المصلحة، فالمنع عنه لذلك» أي: لكون تركه مقدّمة «كافٍ في فساده لو كان عبادة».

وبهذا تبيّن أنّ فساد العبادة لأحد أمرين:

الأوّل: كونها ذات مفسدة غالبة.والثّاني: كونها مزاحمة لشيء أهم.

وصوم يوم عاشوراء وإن لم يكن فيه مفسدة ولكنّه مزاحم لما هو أهمّ.

«قلت: يمكن أن يقال: إنّ النّهي التحريمي لذلك» أي: لكونه مزاحماً للأهمّ «وإن كان كافياً في ذلك» أي: فساد المنهي عنه «بلا إشكال إلّا أنّ» النّهي «التنزيهي غير كاف» في الفساد «إلّا إذا كان» النّهي التنزيهي «عن حزازة فيه» والحاصل: أنّ النّهي التحريمي الموجب للفساد يكون للحزازة أو للمزاحمة للأهم.

وأمّا النّهي التنزيهي فلا يوجب الفساد إلّا إذا كان في الفعل حزازة «وذلك لبداهة عدم قابليّة الفعل للتقرّب منه تعالى، مع المنع عنه وعدم ترخيصه في ارتكابه،

ص: 344

وإمّا لأجل ملازمة الترك لعنوانٍ كذلك من دون انطباقه عليه، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت، إلّا في أنّ الطلب المتعلّق به حينئذٍ ليس بحقيقي، بل بالعَرض والمجاز، وإنّما يكون في الحقيقة متعلّقاً بما يلازمه من العنوان. بخلاف صورة الانطباق؛ لتعلّقه به حقيقةً، كما في سائر المكروهات من غير فرق،

___________________________________________

بخلاف التنزيهي عنه إذا كان» النّهي «لا لحزازة فيه، بل لما في الترك من المصلحة الرّاجحة حيث إنّه معه» أي: الفعل مع النّهي التنزيهي الصادر للمزاحمة «مرخوص فيه وهو على ما هو عليه من الرّجحان والمحبوبيّة له - تعالى - ولذلك لم تفسد العبادة إذا كانت ضدّاً لمستحبّ أهمّ» كما مثلّلنا من مزاحمة الحجّ النّدبي لزيارة بعض المؤمنين «اتفاقاً فتأمّل»(1)،

انتهى، ولكن يمكن الفرق بين الضدّ المنهي عنه وغيره.{وإمّا} أن يكون النّهي عن العبادة {لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك} ذي مصلحة {من دون انطباقه عليه} أي: ليس النّهي لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، كما في القسم الأوّل {فيكون} هذا القسم الثّاني {كما إذا انطبق} عنوان ذو مصلحة {عليه} أي: على الترك {من غير تفاوت} بينهما أصلاً.

مثلاً: قد ينهى عن مجيء زيد لانطباق الفاسق عليه، وقد ينهى عن مجيئه لكون مجيئه ملازماً لمجيء عمرو الفاسق {إلّا في أنّ الطلب المتعلّق به} أي: بهذا الترك {حينئذٍ} أي: حين كان النّهي لأجل ملازمته الترك لعنوان ذي مصلحة {ليس بحقيقي، بل بالعرض والمجاز، وإنّما يكون} النّهي {في الحقيقة متعلّقاً بما يلازمه من العنوان} فإنّ المكروه في الحقيقة في المثال مجيء عمرو، وإنّما نهى عن مجيء زيد بالملازمة إيّاه {بخلاف صورة الانطباق لتعلّقه به حقيقة، كما في سائر المكروهات} الّتي تعلّق النّهي بها، لا بعنوان ملازم لها {من غير فرق} بين

ص: 345


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 150.

إلّا أنّ منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل، وفيه رجحان في الترك، من دون حزازة في الفعل أصلاً، غاية الأمر كون الترك أرجح.

نعم، يمكن أن يحمل النّهي - في كلا القسمين - على الإرشاد إلى الترك الّذي هو أرجح من الفعل، أو ملازمٌ لما هو الأرجح وأكثر ثواباً لذلك، وعليه يكون النّهي على نحو الحقيقة لا بالعرض والمجاز، فلا تغفل.

___________________________________________

هذا القسم وسائر المكروهات {إلّا أنّ منشأه} أي: منشأ النّهي {فيها} أي: في سائر المكروهات {حزازة ومنقصة في نفس الفعل، و} منشأ النّهي {فيه} أي: في الفعل المستحبّ، كصوم يوم عاشوراء {رجحان في الترك من دون حزازة في الفعل أصلاً، غاية الأمر كون الترك} لكونه معنوناً بعنوان مخالفة بني أُميّة {أرجح} من الفعل. مثلاً: ثواب الترك مائة وثواب الفعل تسعون.

{نعم} استثناء عن قوله أوّلاً: «فالنهي تنزيهاً عنه» - إذ ظاهره كون النّهي مولويّاً - والحال يريد أن يبيّن أنّه {يمكن أن يحمل النّهي في كلا القسمين} أي: ما كان النّهي لانطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، وما كان النّهي لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة {على الإرشاد إلى الترك الّذي هو أرجح من الفعل} في القسم الأوّل {أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثواباً لذلك} أي: في القسم الثّاني {وعليه} أي: بناءً على حمل النّهي على الإرشاد {يكون النّهي} في القسم الثّاني {على نحو الحقيقة} إرشاديّاً {لا بالعرض والمجاز} مولويّاً {فلا تغفل}.

وعلى أيّ حال فالنهي الإرشادي لا ينافي الأمر المولوي، ولا فرق بين ما كان النّهي لعنوان منطبق أو عنوان ملازم، غاية الأمر أنّ المرشد إليه تارة نفس الشّيء ذي المصلحة وتارة ملازم لذي المصلحة، كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ النّهي في القسم الأوّل على أربعة أقسام: لأنّه إمّا مولويّ، وإمّا إرشاديّ، وعلى كلّ تقدير فإمّا لانطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، وإمّا لأجل

ص: 346

وأمّا القسم الثّاني: فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأوّل طابِقَ النّعل بالنّعل.

كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها، لأجل تشخّصها في هذا القسم بمشخّص غير ملائم لها، كما في الصلاة في الحمّام؛ فإنّ تشخّصها بتشخّص وقوعها فيه لا يناسب كونها معراجاً، وإن لم يكن نفس الكون في الحمّام بمكروهٍ، ولا حزازة فيه أصلاً، بل كان راجحاً، كما لا يخفى.

___________________________________________

ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة. هذا تمام الكلام في القسم الأوّل.

{وأمّا القسم الثّاني} - وهو ما تعلّق النّهي بعنوان العبادة وذاته مع وجود البدل، كالصلاة في الحمّام - {فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأوّل طابق النّعل بالنعل} فيكون النّهي تنزيهاً عن الصلاة في الحمّام، إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، وإمّا لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة {كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في} نفس {الطبيعة المأمور بها} وإنّما حصل النّقص {لأجل تشخّصها في هذا القسم بمشخّص غير ملائم لها، كما في الصلاة في الحمّام، فإنّ} طبيعة الصلاة وإن كانت راجحة في نفسها إلّا أنّ {تشخّصها بتشخّص وقوعها فيه لا يناسب كونها معراجاً، وإن لم يكن نفس الكون في الحمّام بمكروه ولا حزازة فيه أصلاً، بل كان راجحاً، كما لا يخفى}.ثمّ لا يخفى أنّه يلزم تقييد هذا بما لم يكن مقدار النّقص موجباً لتفويت قدر من العبادة ممّا لا بدّ منه في تحصيل الغرض، وإلّا فلو فرضنا أنّ صلاة الظهر - مثلاً - إنّما تكون محصّلة للغرض في صورة ما إذا كانت وافية بمائة درجة من الثّواب والصلاة في الحمّام كانت تفي بتسعين، فتدبّر.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أشار إلى الجواب عن إشكال جمع المثلين في مثل صلاة النّافلة في المسجد، وعن إشكال جمع الوجوب والاستحباب في مثل صلاة الفريضة

ص: 347

وربّما يحصل لها - لأجل تخصّصها بخصوصيّة شديد الملائمة معها - مزيّةٌ فيها، كما في الصلاة في المسجد والأمكنة الشّريفة؛ وذلك لأنّ الطبيعة المأمور بها في حدّ نفسها - إذا كانت مع تشخّص لا يكون معه شدّة الملائمة، ولا عدم الملائمة - لها مقدار من المصلحة والمزيّة، كالصلاة في الدار - مثلاً - ، ويزداد تلك المزيّة في ما كان تشخّصه بما له شدّة الملائمة، وتنقص في ما إذا لم تكن له ملائمة. ولذلك ينقص ثوابها تارةً، ويزيد أُخرى.

ويكون النّهي فيه - لحدوث نقصان في مزيّتها فيه -

___________________________________________

فيه فقال: {وربّما يحصل لها لأجل تخصّصها بخصوصيّة شديد الملائمة معها مزيّة} فاعل «يحصل» {فيها} توجب مزيد الثّواب على أصل الطبيعة {كما في الصلاة في المسجد والأمكنة الشّريفة} كمشاهد الأئمّة(علیهم السلام) {وذلك لأنّ الطبيعة المأمور بها في حدّ نفسها - إذا كانت مع تشخّص} ووصف التشخّص بقوله: {لا يكون معه شدّة الملائمة} مع العبادة {ولا عدم الملائمة - لها مقدار منالمصلحة والمزيّة} قوله: «مقدار» اسم «كان»، وقوله: «لها» خبر «كان» أي: إذا كان مقدار من المصلحة للطبيعة المتشخّصة بخصوصيّة بحيث لم تكن تلك الخصوصيّة ملائمة ولا منافرة {كالصّلاة في الدار مثلاً، ويزداد تلك المزيّة في ما كان تشخّصه بما له شدّة الملائمة} كالصلاة في المسجد {وتنقص} المزيّة {في ما إذا لم تكن له ملائمة} بل كان للتشخّص منافرة {ولذلك ينقص ثوابها تارة ويزيد أُخرى}.

فالصّلاة في نفسها لها مائة درجة من الثّواب، والصلاة في الحمّام لها تسعون، والصلاة في المسجد لها مائة وعشرة مثلاً.

وبهذا يتّضح أنّه لم يلزم اجتماع المثلين في نحو النّافلة في المسجد، ولم يلزم اجتماع الوجوب والاستحباب، أو الوجوب والكراهة، أو الاستحباب والكراهة، في نحو الصلاة الفريضة في المسجد، أو الحمّام، أو الصلاة النّافلة في الحمّام.

{و} بهذا تبيّن أنّه إنّما {يكون النّهي فيه لحدوث نقصان في مزيّتها فيه} أي: في

ص: 348

إرشاداً إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد، ويكون أكثر ثواباً منه.

وليكن هذا مراد من قال: «إنّ الكراهة في العبادة تكون بمعنى أنّها تكون أقلّ ثواباً».

ولا يرد عليه(1): بلزوم اتصاف العبادة الّتي تكون أقلّ ثواباً من الأُخرى بالكراهة،

___________________________________________

ما كانت العبادة متشخّصة بخصوصيّة لم تكن ملائمة للعبادة، فيكون النّهي{إرشاداً إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد} ولا تنافي بين النّهي الإرشادي والأمر المولوي، كما سبق، إذ النّهي حينئذٍ غير موجب لحزازة في الفعل {ويكون} ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد {أكثر ثواباً منه} أي: ممّا فيه نقصان، فالنواهي المذكورة المتعلّقة بالعبادات ليست على ظواهرها من المولويّة حتّى يكون الفعل مرجوحاً والترك راجحاً، بل جميعها إرشاد إلى الأفضل، وعلى هذا فلا يكون في إطاعتها ثواب ولا في معصيتها عقاب أو نحوه، كما هو شأن الأوامر والنّواهي الإرشاديّة، على ما ذكروا، فتذكّر.

{وليكن هذا} الّذي ذكرنا من كون المراد من أقليّة الثّواب أقليّته بالنسبة إلى الفرد العادي من نفس تلك الطبيعة {مراد من قال: «إنّ الكراهة في العبادة تكون بمعنى أنّها تكون أقلّ ثواباً»}. والحاصل: أنّ من قال: إنّ العبادة المكروهة عبارة عن العبادة الّتي تكون أقلّ ثواباً، مراده: أنّه لو كان هناك طبيعة لها مقدار من الثّواب في نفسها ثمّ كان بعض أفراد تلك الطبيعة أقلّ ثواباً، باعتبار تشخّص تلك الأفراد بخصوصيّة غير ملائمة كانت تلك الأفراد النّاقصة مكروهة، وليس مرادهم أنّ كلّ عبادة أقلّ ثواباً من ثواب غيرها تكون مكروهة.

{و} بما ذكرنا اتّضح أنّه {لا يرد عليه} أي: على هذا التفسير ما ذكره الفصول(2) {بلزوم اتصاف العبادة الّتي تكون أقلّ ثواباً من الأُخرى بالكراهة}

ص: 349


1- قوانين الأصول 1: 143.
2- الفصول الغروية: 131.

ولزوم اتصاف ما لا مزية فيه ولا منقصة بالاستحباب؛ لأنّه أكثر ثواباً ممّا فيه المنقصة.لما عرفت من أنّ المراد من كونه أقلّ ثواباً، إنّما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المشخّصة، بما لا يحدث معه مزيّة لها ولا منقصة من المشخّصات، وكذا كونه أكثر ثواباً.

___________________________________________

أولاً {ولزوم اتصاف ما لا مزيد فيه ولا منقصة بالاستحباب؛ لأنّه} أي: ما لا مزيد ولا منقصة {أكثر ثواباً ممّا فيه المنقصة} ثانياً. فمثل الصوم بالنسبة إلى الصلاة يلزم أن يكون مكروهاً؛ لأنّ الصوم أقلّ ثواباً من الصلاة، وكذلك يلزم أن تكون الصلاة في الدار بالنسبة إلى الصلاة في الحمّام مستحبّاً؛ لأنّ الصلاة في الدار لها مزيّة على الصلاة في الحمّام.

أقول: وكذا يلزم أن تكون الصلاة في الدار مكروهة بالنسبة إلى الصلاة في المسجد؛ لأنّها أقلّ ثواباً منها، فيلزم أن تكون الكراهة والاستحباب نسبيّين؛ لأنّ الصلاة في الدار مستحبّة بالنسبة إلى الصلاة في الحمّام ومكروهة بالنسبة إلى الصلاة في المسجد، ولكن لا يرد شيء من هذه الإشكالات على تفسير العبادة المكروهة بأقلّيّة الثّواب {لما عرفت من أنّ المراد من كونه أقلّ ثواباً} ليس الأقليّة المطلقة.

وكذا ليس المراد بأكثريّة الثّواب في طرف الاستحباب الأكثريّة المطلقة، بل كلّ واحد من الأقليّة والأكثريّة {إنّما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المشخّصة بما} أي: المشخّصة بتشخيص {لا يحدث معه} أي: مع ذلك التشخّص {مزيّة لها ولا منقصة} فالمقيس عليه هو فرد متوسّط من الطبيعة عارية {من المشخّصات} الملائمة والمنافرة، فما كان أقلّ ثواباً منها كان مكروهاً وما كان أكثر ثواباً منها كان مستحبّاً، فتبيّن معنى كونه أقلّ ثواباً {وكذا كونه أكثر ثواباً} فتفطّن.

ص: 350

ولا يخفى: أنّ النّهي في هذا القسم لا يصلح إلّا للإرشاد، بخلاف القسم الأوّل، فإنّه يكون فيه مولويّاً، وإن كان حمله على الإرشاد بمكان من الإمكان.

وأمّا القسم الثّالث: فيمكن أن يكون النّهي فيه عن العبادة - المتّحدة مع ذاك العنوان، أو الملازمة له - بالعرض والمجاز، وكان المنهي عنه به حقيقةً ذاك العنوان.

___________________________________________

{ولا يخفى أنّ النّهي في هذا القسم} الثّاني من العبادات المكروهة {لا يصلح إلّا للإرشاد} بناءً على هذا الجواب - أعني: قوله: «كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة» الخ - وأمّا بالنظر إلى توجيه هذا القسم بما مرّ في القسم الأوّل، فلا يلزم كونه للإرشاد، بل يحتمل الإرشاد وعدمه.

وإنّما حكمنا بكونه للإرشاد لأنّ كونه مولويّاً يتوقّف على ثبوت مفسدة في المنهي عنه والمفروض عدم المفسدة، كما لا يخفى {بخلاف} النّهي في {القسم الأوّل فإنّه يكون فيه مولويّاً} لفرض المفسدة فيه {وإن كان حمله على الإرشاد} إلى ترجيح الترك على الفعل {بمكان من الإمكان} كما تقدّم.

{وأمّا القسم الثّالث} وهو ما تعلّق النّهي لا بذات العبادة، بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً كالصلاة في مواضع التهمة {فيمكن أن يكون النّهي فيه} أي: في هذا القسم {عن العبادة المتّحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز} أمّا إذا كان النّهي بعنوان مجامع مع المأمور به وجوداً فإنّ النّهي - وإن كان متعلّقاً بالكون في موضعالتهمة مثلاً، وهو متّحد مع الكون الصلاتي - {و} لكن {كان المنهي عنه به} أي: بهذا النّهي {حقيقة ذاك العنوان} لا عنوان المأمور به، فإنّ لهذا الكون جهتين جهة الصلاتيّة وجهة موضع التهمة، والنّهي أوّلاً وبالذات ليس متوجّهاً إلى الأوّل، حتّى أنّ (لا تصل فيها) مجاز في نظر العرف. وأمّا إذا كان النّهي بعنوان ملازم للمأمور به فهو أظهر من أن يخفى؛ لأنّ النّهي للملازم لا للمأمور به.

ص: 351

ويمكن أن يكون - على الحقيقة - إرشاداً إلى غيرها من سائر الأفراد، ممّا لا يكون متّحداً معه أو ملازماً له؛ إذ المفروض: التمكّن من استيفاء مزيّة العبادة بلا ابتلاءٍ بحزازةِ ذاك العنوان أصلاً.

هذا على القول بجواز الاجتماع. وأمّا على الامتناع: فكذلك في صورة الملازمة، وأمّا في صورة الاتّحاد وترجيح جانب الأمر - كما هو المفروض،

___________________________________________

هذا كلّه بناءً على كون النّهي مولويّاً {ويمكن أن يكون} النّهي {على الحقيقة} متوجّهاً إلى المأمور به، فلا يكون حينئذٍ مولويّاً، بل يكون {إرشاداً إلى غيرها من سائر الأفراد ممّا لا يكون متّحداً معه} أي: مع النّهي عنه {أو ملازماً له}.

والحاصل: أنّ النّهي عن العبادة في القسم الثّالث يمكن أن يكون عرضيّاً مولويّاً، ويمكن أن يكون حقيقيّاً إرشاديّاً، كأن يكون النّهي عن الصلاة في مواضع التهمة للإرشاد إلى الصلاة في غيرها {إذ المفروض التمكّن من استيفاء مزيّة العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان} المتّحد أو الملازم {أصلاً} فيأتيبالصلاة في غير موضع التهمة، فلا تكون الصلاة مبتلاة بحزازة موضع التهمة.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرنا من كون العبادة بنفسها مأموراً بها وذاك العنوان منهيّ عنها إنّما يصحّ {على القول بجواز الاجتماع} بين الأمر والنّهي، لأنّ حكم أحد العنوانين لا يسري إلى الآخر، فالصلاة مأمور بها والكون في موضع التهمة منهيّ عنها {وأمّا على} القول ب- {الامتناع فكذلك} لا تنافي بين الأمر والنّهي {في صورة الملازمة} بأن كان المنهي عنه ملازماً للمأمور به؛ لأنّ القائل بالامتناع إنّما يرى امتناع اجتماع الأمر والنّهي في الشّيء الواحد ولا يرى الامتناع في الشّيئين المتلازمين، ولكنّه أيضاً مشكل لعدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم، كما سبق.

{وأمّا في صورة الاتحاد} بأن كان عنوان المنهي عنه متّحداً مع عنوان المأمور به وقلنا بامتناع الاجتماع {وترجيح جانب الأمر كما هو المفروض} وبيّن كون المفروض

ص: 352

حيث إنّه صحّت العبادة - فيكون حال النّهي فيه حاله في القسم الثّاني، فيحمل على ما حُمِل عليه فيه، طابِقَ النّعل بالنّعل، حيث إنّه بالدقّة يرجع إليه؛ إذ على الامتناع ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلّا من مخصّصاته ومشخّصاته، الّتي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزيّة - زيادة ونقيصة - بحسب اختلافها في الملائمة، كما عرفت.

وقد انقدح بما ذكرناه: أنّه لا مجال أصلاً لتفسير الكراهة في العبادة بأقليّة الثّواب في القسم الأوّل

___________________________________________

ترجيح جانب الأمر بقوله: {حيث إنّه صحّت(1)

العبادة}المكروهة بالإجماع {فيكون حال النّهي فيه حاله في القسم الثّاني} فيكون النّهي فيه إرشاداً إلى نقص في مصلحتها، ولا يكون النّهي مولويّاً، إذ النّهي المولوي ينافي الصحّة، فتأمّل.

{فيحمل} النّهي في هذا القسم الثّالث {على ما حمل عليه فيه} أي: في القسم الثّاني {طابق النّعل بالنّعل، حيث إنّه بالدقّة يرجع إليه} فيكون حال الصلاة في مواضع التهمة حال الصلاة في الحمّام، فكما أنّ الصلاة في الحمّام اجتمع فيها الأمر المولوي والنّهي الإرشادي كذلك حال الصلاة في مواضع التهمة {إذ على الامتناع ليس الاتحاد} للصلاة {مع العنوان الآخر} الّذي هو الكون في مواضع التهمة {إلّا من مخصّصاته} أي: مخصّصات المأمور به {ومشخّصاته الّتي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزيّة زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملائمة، كما عرفت} في القسم الثّاني، من أنّ اتحاد الصلاة مع الكون في الحمّام من مخصّصاتها الّتي تختلف طبيعة الصلاة بحسب اتحاده معها وعدم اتحاده.

{وقد انقدح بما ذكرناه} من الأجوبة التفصيليّة لأقسام العبادة المكروهة {أنّه لا مجال أصلاً لتفسير الكراهة في العبادة بأقليّة الثّواب في القسم الأوّل} كصوم يوم

ص: 353


1- وفي بعض النّسخ «حيث إنّه صحّة العبادة»، فيكون المعنى حيث إنّ المفروض صحّة العبادة، فالضمير في «أنّه» راجع إلى «المفروض».

مطلقاً، وفي هذا القسم على القول بالجواز.

___________________________________________

عاشوراء {مطلقاً} سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنّهي أم قلنا بامتناعه، وذلك لما تقدّم من أنّ القائلين بجواز اجتماع الأمر والنّهي يلزم عليهم الجوابعن هذا القسم من العبادات المكروهة الّتي لا بدل لها، إذ اجتماع الأمر والنّهي في هذا النّحو من العبادات بعنوان واحد لا بعنوانين، ووجه عدم كون الكراهة بمعنى أقليّة الثّواب أنّ فرد الطبيعة منحصر في هذا المكروه، فلا فرد متوسّط للطبيعة حتّى يقاس عليه كثرة الثّواب وقلّته في سائر الأفراد.

وبهذا تبيّن أنّه لا يكون النّهي إرشاداً، إذ ليس هناك أفراد أُخرى حتّى يكون النّهي عن هذا الفرد إرشاداً إلى تلك الأفراد. نعم، النّهي إرشاد إلى أفضليّة الترك، كما تقدّم.

{و} كذا انقدح ممّا تقدّم أنّه لا مجال أصلاً لتفسير الكراهة في العبادة بأقليّة الثّواب {في هذا القسم} الثّالث بناءً {على القول بالجواز} أمّا إذا كان النّهي بعنوان متّحد مع المأمور به؛ فلأنّ النّهي تعلّق بجهة الكون في موضوع التهمة والأمر تعلّق بجهة الصلاتيّة، ولا مانع من اجتماع الأمر والنّهي المولويّين على الجواز فكون العبادة مكروهة لا مانع منه، فلا يحتاج القائل بجواز الاجتماع إلى توجيهها.

وأمّا إذا كان النّهي بعنوان ملازم مع المأمور به فأوضح، إذ النّهي تعلّق بشيء والأمر تعلّق بشيء آخر فلا حاجة إلى التأويل.

هذا على القول بجواز الاجتماع، وأمّا على القول بامتناع الاجتماع فلا بدّ من التزام أقليّة الثّواب، إذ تعدّد الجهة لا يكفي في اجتماع الأمر والنّهي، فلا بدّ أن يكون النّهي إرشاداً إلى سائر الأفراد ويكون هذا الفرد المنهي عنه أقلّ ثواباً من غيره، فتأمّل.

ص: 354

كما انقدح حالُ اجتماع الوجوب والاستحباب فيها، وأنّ الأمر الاستحبابي يكون على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقاً على نحو الحقيقة،

___________________________________________

وأمّا القسم الثّاني - وهو ما تعلّق النّهي بعنوان العبادة مع وجود بدل كالنهي عن الصلاة في الحمّام - فاللّازم حمل النّهي على أقليّة الثّواب، من غير فرق بين القول باجتماع الأمر والنّهي وامتناعه؛ لأنّ هناك للطبيعة فرداً متوسّطاً، وهي الصلاة في الدار، فالنهي عن الصلاة في الحمّام إرشاد إلى سائر الأفراد الّتي ليست مثل الصلاة في الحمّام في قلّة الثّواب.

وأمّا كون الاجتماعي كالامتناعي فلما تقدّم من أنّه ليس هنا جهتان حتّى يستريح القائل بالاجتماع.

فتحصّل أنّ القسم الأوّل ليس بمعنى أقليّة الثّواب، والقسم الثّاني بمعنى أقليّة الثّواب مطلقاً، والقسم الثّالث بمعنى أقليّة الثّواب على الامتناع، وليس بمعنى أقليّة الثّواب على الجواز وفي كثير من المذكورات نظر، فتبصّر.

{كما انقدح} ممّا ذكرنا أيضاً {حال اجتماع الوجوب والاستحباب} وأنّ هذا الاجتماع لا يكون دليلاً لجواز اجتماع الأمر والنّهي كما توهّم، إذ في اجتماع الوجوب والاستحباب ليس تعدّد الجهة، مع أنّ القائلين بجواز اجتماع الأمر والنّهي إنّما يقولون به في متعدّد الجهة، فكلّ من القائل بالاجتماع والقائل بالامتناع لا بدّ وأن يؤول اجتماع الوجوب والاستحباب {فيها} أي: في العبادة.

{و} حاصل التأويل: {أنّ الأمر الاستحبابي يكون على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد} فيكون الأمر بالصلاة في المسجد أو مع الجماعة إرشاداً إلى أنّها أفضل ممّا ليس في المسجد أو ليس مع الجماعة {مطلقاً} سواء قلنا باجتماع الأمر والنّهي أم قلنا بامتناعه، وإذا كان الأمر إرشاديّاً فهو متوجّه إلى الطبيعة {على نحو الحقيقة} لا على نحو المجاز، فالأمر الوجوبي مولويّ والأمر الاستحبابيإرشاديّ،

ص: 355

ومولويّاً اقتضائيّاً كذلك، وفعليّاً بالعرض والمجاز في ما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحبّ، أو متّحد معه على القول بالجواز.

___________________________________________

ولا يلزم اجتماع الحكمين.

{و} يمكن أن يكون الأمر الاستحبابي {مولويّاً} لا إرشاديّاً لكن بشرط أن يكون {اقتضائيّاً} بمعنى وجود مصلحة الاستحباب في هذا الفرد، ولا يكون أمراً فعليّاً حينئذٍ، ولا مانع من اجتماع الوجوب الفعلي والاستحباب الاقتضائي، إذ الممنوع اجتماع حكمين فعليّين.

ثمّ على تقدير أن يكون الأمر الاستحبابي مولويّاً اقتضائيّاً يكون على نحو الحقيقة {كذلك} أي: كالإرشادي متوجّهاً إلى نفس المأمور به بالأمر الوجوبي {و} يمكن أن يكون الأمر الاستحبابي مولويّاً {فعليّاً} لا إرشاديّاً كالأوّل ولا مولويّاً اقتضائيّاً كالثّاني، ولكن يكون توجّه هذا الأمر الاستحبابي إلى الطبيعة حينئذٍ {بالعرض والمجاز} وإنّما يتصوّر هذا{في ما كان ملاكه} أي: ملاك الأمر الاستحبابي {ملازمتها} أي: ملازمة الطبيعة الواجبة {لما هو مستحب(1)} فيكون هناك عنوانان متلازمان: أحدهما واجب، والآخر مستحبّ، فالأمر الاستحبابي بتلك الطبيعة الواجبة يكون مجازاً، مثلاً: إذا كان الحجّ واجباً وتأليف قلوب العامّة مستحبّاً، وكان الحجّ ملازماً لتأليف قلوبهم فهنا الحجّ واجب فعليّ مولوي ومستحبّ فعليّ مولوي، ولكن استحبابه بالعرض والمجاز لا بالحقيقة {أو متّحد معه علىالقول بالجواز} أي: يمكن أن يكون الأمر الاستحبابي بالطبيعة لا بالعرض والمجاز، بل بالحقيقة في ما كان ملاك الأمر الاستحبابي مع الفعل الواجب على القول بجواز الاجتماع، فالصلاة الواجبة في المسجد يتّحد فيها

ص: 356


1- أي: إنّ العبادة الواجبة تكون مستحبّة لوجود ملاك الاستحباب فيها، والملاك عبارة عن ملازمتها لعنوان مستحبّ.

ولا يخفى: أنّه لا يكاد يأتي القسم الأوّل هاهنا؛ فإنّ انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الّذي لا بدل له إنّما يؤكّد إيجابه، لا أنّه يوجب استحبابه أصلاً، ولو بالعرض والمجاز،

___________________________________________

عنوانان، فمن حيث الصلاتيّة واجبة ومن حيث المسجديّة مستحبّة ولا تنافي بينهما لتعدّد الجهة، والتعدّد مُجْدٍ بناءً على جواز الاجتماع، وامّا بناءً على القول بامتناع اجتماع الأمر والنّهي فلا يمكن أن نقول بكون هذه الصلاة واجبة ومستحبّة مولويّاً حقيقيّاً.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ في العبارة اغتشاشاً من حيث المعنى والإعراب، أمّا من حيث المعنى؛ فلأنّ «متّحد» عطف على «ملازمتها» فيكون المتّحد كالملازم مجازاً، مع أنّه حقيقة، كما لا يخفى.

وأمّا من حيث الإعراب؛ فلأنّ المعطوف عليه وهو «ملازمتها» منصوب خبراً لكان و«متّحد» مرفوع، فتبصّر.

{ولا يخفى أنّه لا يكاد يأتي} الجواب الّذي ذكرناه في {القسم الأوّل} وهو الّذي لا بدل له من العبادات المكروهة، كصوم عاشوراء {هاهنا} أي: في ما تعلّق الوجوب والاستحباب بالموضوع المتعدّد العنوان، وجه عدم جريان ذاك الجواب أنّ صوم عاشوراء كان في كلّ من تركه وفعله مصلحة، وهذا يوجب إنشاء الحكم على طبق كلّ منهما، وما نحن فيه ليس كذلك، إذ لا ملزم لإنشاء الحكم على طبق المصلحة الوجوبيّة والمصلحةالاستحبابيّة، وإنّما يلزم إنشاء الحكم المؤكّد {فإنّ انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الّذي لا بدل له إنّما يؤكّد إيجابه} فيكون واجباً بوجوب أكيد؛ لأنّه مشتمل على مصلحتي الواجب والرّاجح {لا أنّه} أي: انطباق عنوان راجح {يوجب استحبابه أصلاً} فلا يكون الواجب مستحبّاً {ولو بالعرض والمجاز} لأنّ العرض والمجاز إنّما يتصوّر في ما

ص: 357

إلّا على القول بالجواز. وكذا في ما إذا لازم مثل هذا العنوان، فإنّه لو لم يؤكّد الإيجاب لما يصحّح الاستحباب إلّا اقتضائيّاً

___________________________________________

كان هناك شيئان متلازمان أحدهما واجب والآخر مستحبّ، فيكون نسبة الاستحباب إلى الواجب مجازاً من باب نسبة صفة أحد المتلازمين إلى الآخر، وفي المقام ليس إلّا شيء واحد.

ومن الواضح امتناع اجتماع الضدّين في موضوع واحد ولو بعنوانين {إلّا على القول بالجواز} بأن يكون تعدّد الوجه كافياً في اجتماع الحكمين المتضادّين، فعلى هذا القول يمتنع القول بتأكيد الوجوب، إذ للوجوب موضوع وللاستحباب موضوع آخر، ومن البديهي أنّ صفة أحد الموضوعين لا تكون مؤكّدة لصفة الموضوع الآخر.

{وكذا} لا يجري جواب القسم الأوّل {في ما إذا لازم} الواجب {مثل هذا العنوان} الرّاجح ولم يكن متّحداً معه {فإنّه لو لم يؤكّد الإيجاب لما يصحّح الاستحباب إلّا اقتضائيّاً} يعني أنّه إذا كان هناك عنوانان متلازمان أحدهما واجب والآخر مستحبّ، فإنّ أمر الاستحباب دائر بين أُمور ثلاثة:الأوّل: اجتماعه مع الوجوب، وهذا غير تامّ حتّى على القول بالاجتماع، إذ لكلّ واحد منهما موضوع خاصّ به، فلا معنى لسراية أحدهما إلى موضوع الآخر.

الثّاني: أن يكون الاستحباب مؤكّداً للوجوب حتّى يكون واجباً مؤكّداً، وظاهر عبارة المصنّف التردّد في هذا مع أنّه غير صحيح؛ لأنّ استحباب موضوع لا يوجب تأكيد رجحان واجب آخر.

الثّالث: أن يكون أحد المتلازمين واجباً فقط والآخر مستحبّاً فقط، ولا يخفى أنّ الاستحباب في هذا الحال لا يكون فعليّاً، لامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم، فيكون هناك وجوب فعليّ واستحباب اقتضائي، فيكون نسبة الاستحباب

ص: 358

بالعرض والمجاز، فتفطّن.

ومنها: أنّ أهل العرف يعدّون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم، مطيعاً وعاصياً من وجهين، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب، ونهاه عن الكون في مكان خاصّ - كما مثّل به الحاجبي والعضدي(1) - فلو خاطه في ذاك المكان، عدّ مطيعاً لأمر الخياطة، وعاصياً للنهي عن الكون في ذلك المكان.

وفيه: - مضافاً إلى المناقشة في المثال بأنّه ليس من باب الاجتماع؛ ضرورة أنّ الكون المنهي عنه غير متّحد مع الخياطة وجوداً أصلاً، كما لا يخفى -

___________________________________________

إلى الملازم {بالعرض والمجاز} لا بالحقيقة {فتفطّن} كي تعرف أنّه فرق بين القول بالاجتماع - فيجوز اختلاف المتلازمين في الحكم - فيكون الاستحباب فعليّاً، وبين القول بالامتناع - فلا يجوز اختلافهما - فيكونالاستحباب مجازاً، وهذا المقام يحتاج إلى تنقيح كثير وإلّا فالمطالب، كالعبارات مضطربة.

{ومنها} أي: من الأدلّة على جواز اجتماع الأمر والنّهي {أنّ أهل العرف} بما فيهم من العقلاء وأهل النّظر {يعدّون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم مطيعاً وعاصياً من وجهين} وإن لم يكن إلّا شيء واحد في البين، مثلاً {فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص - كما مثّل به الحاجبي والعضدي - فلو خاطه في ذاك المكان عُدّ} في العرف {مطيعاً لأمر الخياطة، وعاصياً للنهي عن الكون في ذلك المكان} فهذا يدلّ على أنّ هذا الموجود الخارجي محرّم وواجب وإلّا لم يصدق كلاهما.

{وفيه - مضافاً إلى المناقشة في} هذا {المثال} الّذي ذكراه {بأنّه ليس من باب الاجتماع، ضرورة أنّ الكون المنهي عنه غير متّحد مع الخياطة} المأمور بها {وجوداً أصلاً، كما لا يخفى -} فإنّ الكون من مقولة الأين والخياطة من مقولة الفعل

ص: 359


1- شرح مختصر الأصول: 92-93.

المنعُ إلّا عن صدق أحدهما: إمّا الإطاعة بمعنى الامتثال في ما غلب جانب الأمر، أو العصيان في ما غلب جانب النّهي؛ لما عرفت من البرهان على الامتناع.

نعم، لا بأس بصدق الإطاعة - بمعنى حصول الغرض - والعصيان في التوصليّات. وأمّا في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها إلّا في ما صدر من المكلّف فعلاً غير محرّم وغير مبغوض عليه، كما تقدّم.

___________________________________________

واتّحاد المقولتين غير معقول، فهو نظير الصلاة في حال النّظر إلى الأجنبيّة، اللّهمّ إلّا أن يكون المقصود من هذا المثال - كما هو الظاهر - النّهي عن التصرّف في ذلك المكان، أيّ: تصرّف حتّى يشمل الخياطة، فيكون من مقولة الفعل لا الأين فقط {المنعُ إلّا عن صدق أحدهما} مربوط بقوله: «وفيه مضافاً».

والحاصل: أنّا لا نسلّم صدق الإطاعة والمعصية كليهما بل المتحقّق {إمّا الإطاعة بمعنى الامتثال في ما غلب جانب الأمر} على النّهي، وإنّما قال: «بمعنى الامتثال» قبال الإطاعة بمعنى حصول الغرض {أو العصيان في ما غلب جانب النّهي} على الأمر، وإنّما منعنا صدقهما معاً {لما عرفت من البرهان على الامتناع} والنّظر السّطحي العرفي لا يقاوم البرهان العقلي.

{نعم، لا بأس بصدق الإطاعة بمعنى حصول الغرض، و} صدق {العصيان} معاً {في التوصليّات} فلو أمر المولى عبده بمشي مائة خطوة لتحليل غذائه، ونهاه عن التصرّف في الغصب، فمشى في الغصب المقدار المعيّن، حصل الغرض من المشي ولو لم يكن حينئذٍ إطاعة {وأمّا في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها} أي: من العبادة إذا اقترنت مع المحرّم {إلّا في ما صدر} العبادة {من المكلّف فعلاً غير محرّم وغير مبغوض عليه} كما لو كان جاهلاً أو ناسياً عذراً، لا مثل غير المبالي، ووجه عدم حصول الغرض أنّها غير مأمور بها بهذا النّحو والغرض إنّما يترتّب على المأمور بها {كما تقدّم} في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة.

ص: 360

بقي الكلام في حال التفصيل من بعضالأعلام(1)، والقول بالجواز عقلاً، والامتناع عرفاً.

وفيه: أنّه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلّا طريق العقل، فلا معنى لهذا التفصيل إلّا ما أشرنا إليه من النّظر المسامحي الغير المبتني على التدقيق والتحقيق. وأنت خبير بعدم العبرة به، بعد الاطّلاع على خلافه بالنظر الدقيق.

___________________________________________

{بقي الكلام في حال التفصيل من بعض الأعلام} كالسيّد الطباطبائي وغيره - على ما حُكِي - {و} هذا التفصيل عبارة عن {القول بالجواز عقلاً} لأنّ العقل يرى تعدّد الجهة مجدياً في رفع التضادّ {والامتناع عرفاً} فإنّ تعدّد الجهة في نظر العرف لا يرفع التضاد، فالصلاة في الدار المغصوبة في نظرهم شيء واحد.

{وفيه أنّه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلّا طريق العقل} إذ المسائل على قسمين:

الأوّل: ما هو مربوط بالعقل ابتداءً، كغالب مسائل الهندسة والمنطق ونحوهما.

الثّاني: ما هو مربوط بالعرف ابتداءً، كباب الموضوعات ومداليل الألفاظ، فإنّ العرف معيّن لهذا وذاك، فكما أنّ العقل لا مدخل له في القسم الثّاني وإذا أراد الحكم فيها كان اللّازم عليه الرّجوع إلى العرف، كذلك العرف لا مدخل له في القسم الأوّل وإذا أراد الحكم فيها كان اللّازم عليه الرّجوع إلى العقل، فأهل العرف إنّما يحكمون في مسألة الاجتماع بما هم عقلاء.

{فلا معنى لهذا التفصيل} والتفكيك بين العقل والعرف{إلّا ما أشرنا إليه من} أنّ العرف إنّما يحكمون بالجواز ب- {النّظر المسامحي} المعبّر عنه بالنظرة غير الدقيقة {الغير المبتني على التدقيق والتحقيق} ولذا يمكن أن يكون ما ينظر العقل شيئين بنظر العرف شيئاً واحداً، ولهذا الاعتماد على هذا النّظر العرفي {وأنت خبير بعدم العبرة به بعد الاطّلاع على خلافه بالنظر الدقيق}.

ص: 361


1- مجمع الفائدة والبرهان 2: 112.

وقد عرفت في ما تقدّم: أنّ النّزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر والنّهي، بل في الأعم، فلا مجال لأن يتوهّم أنّ العرف هو المحكّم في تعيين المداليل، ولعلّه كان بين مدلوليهما - حسب تعيينه - تنافٍ لا يجتمعان في واحد ولو بعنوانين، وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين، فتدبّر.

___________________________________________

{و} إن قلت: إنّ النّزاع في هذا الباب في أمرين:

الأوّل: في أمر عرفي، وهو التنافي بين مدلول الأمر والنّهي وعدمه، وهذا مرتبط بالعرف.

الثّاني: في أمر عقلي، وهو جواز اجتماع حكمين من الأحكام الخمسة في موضوع واحد، وهذا مرتبط بالعقل فلا مانع في هذا التفصيل بين العقل والعرف.

قلت: {قد عرفت في ما تقدّم أنّ النّزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر والنّهي} حتّى يكون تعيين المدلول مربوطاً بالعرف {بل في الأعمّ} من الأمر والنّهي وغيرها {فلا مجال لأن يتوهّم أنّ العرف هو المحكّم في} هذا المقام؛ لأنّه من باب {تعيينالمداليل} اللفظيّة المربوط بالعرف {ولعلّه} من تتمّة التوهّم {كان بين مدلوليهما} أي: مدلول الأمر والنّهي {حسب تعيينه تنافٍ} بحيث {لا يجتمعان في واحد، ولو} كان الاجتماع {بعنوانين، وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين، فتدبّر} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّه وإن كانت المسألة عقليّة بملاحظة أنّ النّزاع في اجتماع مطلق الوجوب والحرمة، ولكن حيث أنّ غالب الأحكام الشّرعيّة مستفادة من لفظي الأمر والنّهي، وللعرف حقّ في أن يحكم بامتناع الاجتماع وإن كان العقل يرى عدم امتناعه، فإنّ الأحكام الشّرعيّة ملقاة إلى العرف فاللّازم الرّجوع إليه، كما أنّ العقل يرى بقاء النّجاسة ببقاء اللون أو الرّيح، ولكن العرف يرى عدم البقاء وهو المتّبع.

ص: 362

وينبغي التنبيه على أُمور:

الأوّل: أنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاعَ حرمته والعقوبة عليه، مع بقاء ملاك وجوبه - لو كان - مؤثّراً له، كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام،

___________________________________________

[تنبيهات بحث الاجتماع]

اشارة

{وينبغي التنبيه على أُمور:}

[التنبيه الأوّل]

الأمر {الأوّل} في بيان ما لو اجتمع ملاك الحرمة والوجوب، كأن اضطرّ الشّخص في توسّط الدار المغصوبة، فالخروج منها حرام باعتبار التصرّف في الغصب، وواجب لكونه مقدّمة للتخلّص من الغصب، فنقول: {إنّالاضطرار إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاع حرمته، و} ارتفاع {العقوبة عليه} ورفع الاضطرار للحكم ممّا دلّ عليه الأدلّة الأربعة، فمن الكتاب قوله - تعالى - : {إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ}(1)، ومن السّنّة حديث الرّفع(2)،

والإجماع واضح، وأمّا العقل فلقبح التكليف حال الاضطرار، إذ التكليف إنّما هو لإحداث الداعي في العبد حتّى يوافق، وذلك غير معقول بالنسبة إلى غير المتمكّن من الموافقة {مع بقاء ملاك وجوبه} من باب المقدّميّة {لو كان} ذلك الملاك موجوداً، فإنّه بعد سقوط التحريم بالاضطرار يبقى ملاك الوجوب في حال كونه {مؤثّراً له} أي: للوجوب، إذ بعد سقوط ملاك التحريم لا مزاحم لملاك الوجوب فيؤثّر أثره {كما إذا لم يكن بحرام} من أوّل الأمر {بلا كلام} متعلّق بقوله: «مع بقاء».

ص: 363


1- سورة الأنعام، الآية: 119.
2- الخصال 2: 417.

إلّا أنّه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، - بأن يختار ما يؤدّي إليه لا محالة - ، فإنّ الخطاب بالزجر عنه حينئذٍ وإن كان ساقطاً، إلّا أنّه حيث يصدر عنه مبغوضاً عليه، وعصياناً لذاك الخطاب، ومستحقّاً عليه العقاب، لا يصلح لأن يتعلّق به الإيجاب.

وهذا في الجملة ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب.

___________________________________________

{إلّا أنّه} أي: ما ذكرنا من رفع الاضطرار للحرمة إنّما يتمّ في ما {إذا لم يكن الاضطرار بسوء الاختيار} كأنّ حبسه الجائر في محلّ مغصوب ثمّ أطلقه، فإنّ الخروج حينئذٍ واجب وليس بحرام، وهذابخلاف ما إذا كان بسوء الاختيار {بأن يختار ما يؤدّي إليه لا محالة} كأن توسّط الدار المغصوبة باختيار مع علمه بأنّه بعد الدخول يضطرّ إلى الخروج {فإنّ الخطاب بالزجر عنه} بأن يقال له - {حينئذٍ} بعد الدخول - : (لا تغصب) {وإن كان ساقطاً} لكونه لغواً، إذ الزجر إنّما يصحّ إذا تمكّن المكلّف من الانزجار، فمع عدم تمكّنه يقع الزجر لغواً {إلّا أنّه حيث} يكون في هذا الخروج ملاك الحرمة، و{يصدر عنه مبغوضاً عليه، وعصياناً لذاك الخطاب} المتوجّه إليه قبل الدخول {ومستحقّاً عليه العقاب} لكونه بسوء اختياره {لا يصلح} هذا الخروج {لأن يتعلّق به الإيجاب} المقدّمي.

والحاصل: أنّه لمّا كان في أوّل الأمر قبل الدخول في الدار المغصوبة قادراً على حفظ نفسه، بأن لا يرتكب الدخول ولا الخروج، فلو لم يحفظ نفسه كان معاقباً على كليهما، أمّا على الدخول فلأنّه مختار فيه، وأمّا على الخروج فلأنّه وإن كان مضطرّاً إليه إلّا أنّه بسوء الاختيار. وبهذا كلّه تبيّن أنّه لو لم يكن الخروج بسوء الاختيار كان واجباً ولم يكن بحرام، ولو كان بسوء الاختيار لم يكن واجباً وكان فيه ملاك الحرمة.

{وهذا في الجملة ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب} وقوله: «في الجملة» مقابل للصورة

ص: 364

وإنّما الإشكال في ما إذا كان ما اضطرّ إليه بسوء اختياره، ممّا ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام - كالخروج عن الدار المغصوبة في ما إذا توسّطها بالاختيار - في كونه منهيّاً عنه أومأموراً به، مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه، فيه أقوال(1).

هذا على الامتناع.

وأمّا على القول بالجواز:

___________________________________________

الآتية المشار إليها بقوله: {وإنّما الإشكال في ما إذا كان ما اضطرّ إليه} من الغصب في حال الخروج {بسوء اختياره ممّا ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام} بأن لم يكن هناك مندوحة، وذلك {كالخروج عن الدار المغصوبة في ما إذا توسّطها بالاختيار} والفرق بين هذه الصورة والصورة السّابقة أنّ الصورة السّابقة كانت في ما له مندوحة كأن يكون للدار طريق مباح يمكن الخروج منها، وهذه الصورة إنّما تفرض في ما ينحصر الطريق للخروج في المغصوب.

ولا يخفى أنّ العبارة مشوّشة، إذ عنون المصنّف(رحمة الله) الصورة السّابقة في موضوع الاضطرار، فتأمّل.

وكيف كان فنقول: إنّه لو لم يكن هناك الطريق منحصراً بالحرام واختار الحرام كان معاقباً ولم يكن واجباً، وإن كان الطريق منحصراً بالحرام فإمّا أن نقول بامتناع اجتماع الأمر والنّهي وإمّا أن نقول بالجواز، فعلى الامتناع اختلف {في كونه} أي: الخروج {منهيّاً عنه} فقط {أو مأموراً به مع جريان حكم المعصية عليه} يعني لا نهي فعلاً عن الخروج، ولكنّه يعاقب عليه بملاحظة النّهي السّابق قبل الدخول {أو} مأموراً به {بدونه} أي: بدون جريان حكم المعصية {فيه أقوال} ثلاثة.

{هذا} كلّه {على الامتناع، وأمّا على القول بالجواز} فقد اختلفأيضاً

ص: 365


1- إشارات الأصول: 113؛ مطارح الأنظار 1: 707.

فعن أبي هاشم(1) «أنّه مأمور به ومنهيّ عنه». واختاره الفاضل القمّي(2)، ناسباً له إلى أكثر المتأخّرين وظاهرِ الفقهاء.

والحقّ: أنّه منهيّ عنه بالنهي السّابق السّاقط بحدوث الاضطرار إليه، وعصيانٌ له بسوء الاختيار. ولا يكاد يكون مأموراً به - كما إذا لم يكن هناك توقّف عليه، أو بلا انحصار به - ؛

___________________________________________

{فعن أبي هاشم «أنّه مأمور به} لكونه مقدّمة للواجب {ومنهي عنه»} لكونه غصباً بسوء الاختيار {واختاره الفاضل القمّي} صاحب القوانين(رحمة الله) {ناسباً له إلى أكثر المتأخّرين وظاهر الفقهاء}.

هذا {و} لكن {الحق} عند المصنّف {أنّه منهيّ عنه بالنهي السّابق السّاقط بحدوث الاضطرار إليه} وجه السّقوط عدم جواز التكليف بالمحال، بأن يقول: (لا تخرج ولا تبق).

ولو كان الدخول بسوء الاختيار {وعصيان له} أي: للنهي، وهذا عطف على قوله: «منهي عنه» {بسوء الاختيار} إذ كان يمكنه عدم الدخول حتّى لا يضطرّ إلى الخروج المحرّم {ولا يكاد يكون} هذا الخروج {مأموراً به} لكونه مقدّمة للتخلّص الواجب {كما إذا لم يكن هناك توقّف عليه أو بلا انحصار به} أي: ليس هذا الخروج واجباً وإن كان مقدّمة للتخلّص وكان الطريق منحصراً به،بل مثل هذا الخروج مثل الخروج الّذي لم يكن مقدّمة أو كان مقدّمة ولكن لم يكن مقدّمة منحصرة، فكما أنّ الخروج في هذين الموردين ليس بواجب كذلك الخروج في المورد الأوّل ليس بواجب.

ص: 366


1- مطارح الأنظار 1: 707، وفيه: «فالأقوال فيه ثلاثة: فقيل بالجواز، وهو المحكي عن أبي هاشم».
2- قوانين الأصول 1: 153.

وذلك ضرورة أنّه حيث كان قادراً على ترك الحرام رأساً، لا يكون عقلاً معذوراً في مخالفته في ما اضطرّ إلى ارتكابه

___________________________________________

وقد علّق المصنّف على قوله: «هناك توقّف» ما لفظه: «لا يخفى أنّه لا توقّف هاهنا حقيقة، بداهة أنّ الخروج إنّما هو مقدّمة للكون في خارج الدار، لا مقدّمة لترك الكون فيها الواجب، لكونه ترك الحرام.

نعم، بينهما ملازمة لأجل التضادّ بين الكونين، ووضوح الملازمة بين وجود الشّيء وعدم ضدّه، فيجب الكون في خارج الدار عرضاً لوجوب ملازمه حقيقة، فتجب مقدّمة كذلك، وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على أنّ مثل الخروج يكون مقدّمة لما هو الواجب عن ترك الحرام، فافهم»(1).

وحاصله: أنّ الخروج مطلقاً - ولو لم يعارضه جهة محرّمة - ليس بواجب، إذ هو مقدّمة للكون في الخارج والكون في الخارج ليس من الواجبات حتّى يكون مقدّمته واجبة.

ثمّ على فرض كون الخروج في نفسه واجباً لكونه مقدّمة للتخلّص الواجب ليس هذا الخروج واجباً لوجود ملاك الحرام فيه، ولا يمكن الجمع بين ملاك الوجوب والحرمة.

{وذلك} الّذي ذكرنا من كون هذا الخروج منهيّاً عنه {ضرورة أنّه} أي: المكلّف {حيث كان قادراً على ترك الحرام رأساً} بترك الدخولالموجب لترك التصرّف الدخولي والتصرّف الخارجي {لا يكون عقلاً معذوراً في مخالفته} أي: مخالفة النّهي.

أمّا عدم المعذوريّة في الدخول، فواضح؛ لأنّه بالاختيار، وأمّا {في ما اضطرّ إلى ارتكابه} من الخروج؛ فلأنّه وإن كان مضطرّاً إلى هذا الخروج، لكونه أقلّ حرمة

ص: 367


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 167.

بسوء اختياره، ويكون معاقباً عليه - كما إذا كان ذلك بلا توقّف عليه، أو مع عدم الانحصار به - .

ولا يكاد يجدي توقّف انحصار التخلّص عن الحرام به؛ لكونه بسوء الاختيار.

إن قلت: كيف

___________________________________________

من البقاء، ولكن حيث كان {بسوء اختياره} لم يكن معذوراً، فإنّ الاضطرار إنّما يكون عذراً في ما كان مقدّماته خارجة عن الاختيار، كما لو وقع في الدار بلا اختيار، أمّا لو كان مقدّماته بالاختيار فلا يكون هذا الاضطرار عذراً {ويكون} المكلّف {معاقباً عليه}.

إن قلت: إطلاق أدلّة الاضطرار أو عمومها يشمل حتّى ما لو كان الاضطرار بمقدّمات اختياريّة.

قلت: المنصرف من الأدلّة هو ما كان اضطرار حتّى في المقدّمات، ألا ترى أنّه لو غلّ يده ورجله باختياره مع علمه بأنّه لا يتمكّن بعد من إطاعة أمر المولى كان للمولى حقّ العقوبة في ما إذا لم يطعه ولا يقبل منه عذره بأنّه غير متمكّن.

وعلى كلّ حالٍ، فهذا الخروج محرّم {كما إذا كان ذلك} الخروج {بلا توقّف} للتخلّص {عليه، أو} كان التخلّص متوقّفاً عليه ولكن {مع عدم الانحصار به}.

والحاصل: أنّ صورة عدم التوقّف رأساً، والتوقّف مع عدم الانحصار، والتوقّفمع الانحصار - إذا كان بسوء الاختيار - سواء في الحرمة والعقاب {ولا يكاد يجدي} في رفع الحرمة {توقّف انحصار التخلّص عن الحرام به} أي: بهذا الخروج. وجه عدم الجدوى ما ذكره بقوله: {لكونه بسوء الاختيار} كما لا يخفى.

ثمّ إنّ القول بكون هذا الخروج مأموراً به فقط محكيّ عن التقريرات وقد استدلّ له بوجهين أشار المصنّف(رحمة الله) إلى الأوّل بقوله:

{إن قلت: كيف} وإلى الثّاني بقوله: «إن قلت: إنّ التصرّف»، وحاصل استدلال

ص: 368

لا يجديه، ومقدّمة الواجب واجبة؟

قلت: إنّما يجب المقدّمة لو لم تكن محرّمة، ولذا لا يترشّح الوجوب من الواجب إلّا على ما هو المباح من المقدّمات، دون المحرّمة، مع اشتراكهما في المقدّميّة.

___________________________________________

الأوّل أنّ الخروج مقدّمة لترك البقاء الّذي هو واجب أهمّ، فكيف {لا يجديه} أي: لا يجدي المقدّمة في رفع حرمته {و} الحال أنّ {مقدّمة الواجب واجبة} فالخروج واجب غير محرّم؟

{قلت: إنّما يجب المقدّمة لو لم تكن محرّمة، ولذا لا يترشّح الوجوب من الواجب إلّا على ما هو المباح من المقدّمات، دون} المقدّمة {المحرّمة مع اشتراكهما} أي: المباح والمحرّم {في المقدّميّة}.

مثلاً: يمكن السّير إلى الحجّ مع الدابّة الغصبيّة كما يمكن السّير مع الدابّة المباحة، فكما لا تقولون بوجوب السّير مع الغصبيّة كذلك اللّازم القول بعدم وجوب الخروج المحرّم، والقول بالفرق بين المقدّمة المحرّمة المنحصرة وبينالمحرّمة غير المنحصرة مجازفة، إذ الحرمة الّتي هي مانع شرعي كالمانع العقلي، فكما لا يفرق الأمر في المانع العقلي كذلك لا يفرق في المانع الشّرعي.

توضيح المقام: أنّ المقدّمة على أربعة أقسام:

الأوّل: المقدّمة المباحة، وهذه واجبة.

الثّاني: المقدّمة المحرّمة مع وجود المباحة، وهذه لا تكون واجبة.

الثّالث: المقدّمة المنحصرة المحرّمة مع عدم سوء الاختيار، كما لو توقّف التطهير على طيّ الأرض المغصوبة، فهنا إن كان الواجب أهمّ كانت المقدّمة واجبة وإن كان الحرام أهمّ كانت المقدّمة محرّمة وإن كانا متساويين كانت المقدّمة مباحة واختار العبد بين الترك والفعل.

الرّابع: المقدّمة المنحصرة المحرّمة مع سوء الاختيار - كما لو توسّط الدار

ص: 369

وإطلاق الوجوب بحيث ربّما يترشّح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدّمة بها، إنّما هو في ما إذا كان الواجب أهمّ من ترك المقدّمة المحرّمة، والمفروض هاهنا وإن كان ذلك، إلّا أنّه كان بسوء الاختيار، ومعه لا يتغيّر عمّا هو عليه من الحرمة والمبغوضيّة،

___________________________________________

المغصوبة - فالمقدّمة حينئذٍ تبقى على حرمتها، وعلّل ذلك العلّامة المشكيني(رحمة الله) بقوله: «وذلك لأنّه لو ارتفعت الحرمة للزم الخلف؛ لأنّه لا يكون بسوء الاختيار مع أنّه فرض كذلك؛ ولأنّه يلزم دوران الحرمة مدار اختيار المكلّف، فإنّه مخيّر بين عدم الحصر، فتكون هذه المقدّمة حراماً، وبين الحصر، فتكون مباحاً، وهو منافٍ لغرض المولى؛ ولأنّ الوجدان حاكم بمانعيّة الحرمة فيالفرض»(1).

{و} إن قلت: إنّ الواجبات مختلفة، فبعضها يسقط عن الوجوب إذا كانت مقدّمته منحصرة في المحرّم، وبعضها يقتضي وجوب مقدّمته المحرّمة، لأهميّته في نظر الشّارع، كما لو توقّف حفظ النّفس على توسّط المغصوب، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ التخلّص عن الغصب أهمّ من الغصب في الخروج.

قلت: {إطلاق الوجوب} في ذي المقدّمة {بحيث ربّما يترشّح منه الوجوب عليها} أي: على المقدّمة المحرّمة {مع انحصار المقدّمة بها إنّما هو في ما إذا كان الواجب أهمّ من ترك المقدّمة المحرّمة} ولم يكن بسوء اختيار المكلّف، فإنّه مع اجتماع هذه الشّروط الثّلاثة: أهميّة الواجب، وانحصار المقدّمة في المحرّمة، وعدم كونه بسوء الاختيار تنقلب المقدّمة المحرّمة واجبة.

{والمفروض هاهنا} في الخروج عن الدار {وإن كان ذلك} فإنّ الواجب أهمّ مع انحصار المقدّمة {إلّا} أنّ الشّرط الثّالث مفقود في المقام {أنّه كان بسوء الاختيار} حسب الفرض {ومعه} أي: مع كونه بسوء الاختيار {لا يتغيّر عمّا هو عليه من الحرمة والمبغوضيّة} وكذلك نقول في ما لو كان الطريق إلى إنقاذ الغريق

ص: 370


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 168.

وإلّا لكان الحرمة معلّقة على إرادة المكلّف واختياره لغيره، وعدم حرمته مع اختياره له، وهو كما ترى، مع أنّه خلاف الفرض، وأنّ الاضطرار يكون بسوء الاختيار.

___________________________________________

اثنين أحدهما مغصوب والآخر مباح، فسدّ الشّخص المباح على نفسه حتّى انحصر في المحرّم، فإنّه يبقى على حرمته وعقوبته وإن كان العقل يلزمه بالتزام أقلّ العقوبتين، - أعني: الغصب - .

{وإلّا} فلو انقلبت المقدّمة عن الحرمة إلى الوجوب حتّى في صورة سوء الاختيار {لكان الحرمة معلّقة على إرادة المكلّف واختياره} لأنّه يلزم حرمة التصرّف الخروجي في المغصوب إذا لم يرد الشّخص الدخول ولم يدخل وحلّيّته إذا أراد الشّخص الدخول ودخل، ومن البديهي أنّ تعليق الحكم على الإرادة باطل.

وقوله: {لغيره} متعلّق بقوله: «اختياره» يعني يلزم أن يكون الحرمة معلّقة على اختيار المكلّف لغير الدخول {وعدم حرمته} عطف على قوله: «الحرمة معلّقة» أي: يكون عدم الحرمة {مع اختياره له} أي: للدخول، ولا وجه لإرجاع الضمير إلى «الخروج» كما في بعض الحواشي {وهو كما ترى} أي: تعليق الحرمة على الإرادة باطل، إذ التعليق موجب للغوية الحكم، فإنّ الحرمة الّتي يترتّب على الإرادة لا ثمرة لها {مع أنّه} أي: تعليق الحرمة على الإرادة {خلاف الفرض} إذ المفروض أنّ الخروج لمّا صار مقدّمة انقلب حرمته إلى الوجوب، لا أنّ الانقلاب صار بسبب إرادة المكلّف للدخول {وأنّ الاضطرار يكون بسوء الاختيار} بيان للفرض.

والحاصل: أنّ صدق كون الاضطرار بسوء الاختيار يتوقّف على حرمة الخروج، فلو صار الخروج بالإرادة غير محرّم ولا اضطرار بالحرام حتّى يصدق كون الاضطرار بسوء الاختيار، فتدبّر.

وحيث فرغ المصنّف(رحمة الله) عن جواب الاستدلال الأوّل للتقريرات على عدم حرمة الخروج شرع في ذكر الدليل الثّاني فقال:

ص: 371

إن قلت(1): إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام بلا إشكال ولا كلام. وأمّا التصرّف بالخروج الّذي يترتّب عليه رفع الظلم، ويتوقّف عليه التخلّص عن التصرّف الحرام، فهو ليس بحرام في حال من الحالات، بل حاله مثل حال شرب الخمر، المتوقّف عليه النّجاة من الهلاك، في الاتصاف بالوجوب في جميع الأوقات.

ومنه ظهر المنع عن كون جميع أنحاء التصرّف في أرض الغير - مثلاً - حراماً قبل الدخول، وأنّه يتمكّن من ترك الجميع حتّى الخروج؛ وذلك لأنّه لو لم يدخل لمّا كان متمكّناً من الخروج وتركه.

___________________________________________

{إن قلت: إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه} على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: التصرّف {بالدخول}.

{و} الثّاني: التصرّف ب- {البقاء} وهذان {حرام بلا إشكال ولا كلام}.

{وأمّا} الثّالث: وهو {التصرّف بالخروج الّذي يترتّب عليه رفع الظلم ويتوقّف عليه التخلّص عن التصرّف الحرام فهو ليس بحرام في حال من الحالات} لا قبل الدخول، ولا بعد الدخول، ولا حين الدخول {بل حاله} أي: الخروج {مثل حال شرب الخمر المتوقّف عليه النّجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الأوقات} فكما أنّ شربالخمر المتوقّف عليه النّجاة واجب وليس بحرام، كذلك الخروج المتوقّف عليه التخلّص من الغصب ليس بحرام.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من كون الخروج واجباً في جميع الأحوال {ظهر المنع عن} ما ذكرتم من {كون جميع أنحاء التصرّف في أرض الغير - مثلاً - حراماً قبل الدخول، و} بطل أيضاً ما ذكرتم من {أنّه يتمكّن من ترك الجميع حتّى الخروج، وذلك} بيان لبطلان القول بأنّ المكلّف متمكّن من ترك الجميع قبل الدخول {لأنّه لو لم يدخل لما كان متمكّناً من الخروج وتركه} يعني: أنّ النّهي عن الخروج

ص: 372


1- القائل هو الشيخ الأعظم على ما في مطارح الأنظار 1: 709.

وترك الخروج بترك الدخول رأساً ليس في الحقيقة إلّا ترك الدخول.

فمن لم يشرب الخمر؛ لعدم وقوعه في المهلكة الّتي يعالجها به - مثلاً - لم يصدق عليه إلّا: أنّه لم يقع في المهلكة، لا: أنّه ما شرب الخمر فيها، إلّا على نحو السّالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، كما لا يخفى.

___________________________________________

نوع من التكليف، ومن البديهي أنّ التكليف مشروط بالقدرة، وحيث إنّه قبل الدخول لا قدرة على الخروج لم يصحّ الزجر والنّهي عنه، فقولكم: «إنّ الخروج منهيّ عنه قبل الدخول» ساقط.

{و} إن قلت: {ترك الخروج} مقدور قبل الدخول، إذ الشّخص يقدر على ترك الخروج {بترك الدخول رأساً} فلا وجه لدعوى عدم القدرة عليه.

قلت: المقدور {ليس في الحقيقة إلّا ترك الدخول} وأمّا ترك الخروج فليس بمقدور، إذ نسبة القدرة إلى الوجود والعدم نسبة واحدة،فكما لا يقدر الشّخص على الخروج قبل الدخول كذلك لا يقدر على تركه.

ولنوضح المطلب بمثالٍ، فنقول: إنّ عدم شرب الخمر له صورتان: الأُولى: عدم الشّرب في صورة عدم الوقوع في التّهلكة. الثّانية: عدم الشّرب في صورة الوقوع فيها {فمن لم يشرب الخمر} مع وقوعه في التهلكة يصدق عليه أنّه ما شرب الخمر في التهلكة، وأمّا من لم يشرب {لعدم وقوعه في المهلكة الّتي يعالجها به - مثلاً - لم يصدق عليه إلّا أنّه لم يقع في المهلكة} و{لا} يصدق عليه {أنّه ما شرب الخمر فيها} وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ عدم الخروج قد يكون في صورة الدخول وقد يكون في صورة عدم الدخول، ففي الصورة الأُولى يصدق عليه عدم الخروج، وفي الصورة الثّانية لا يصدق عليه إلّا أنّه لم يدخل، أمّا أن يصدق عليه أنّه ممّن لم يخرج فلا {إلّا على نحو السّالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

ص: 373

وبالجملة: لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقاً للتخلّص عن الحرام وسبباً له - إلّا مطلوباً ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبيّة، ويحكم عليه بغير المطلوبيّة.

قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلص مأموراً به. وهو موافق لما أفاده شيخنا العلّامة أعلى اللّه مقامه - على ما في تقريرات بعض الأجلّة(1) - .

لكنّه لا يخفى: أنّ ما به التخلّص عن ترك الحرام أو ترك الواجب، إنّما يكون حسناً عقلاً، ومطلوباً شرعاً بالفعل - وإن كان قبيحاً ذاتاً - إذا لم يتمكّن المكلّف منالتخلّص بدونه، ولم يقع بسوء اختياره:

___________________________________________

{وبالجملة لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقاً للتخلّص عن الحرام وسبباً له - إلّا مطلوباً} وقوله: «بملاحظة» علّة للمطلوبيّة، يعني: أنّ الخروج دائماً مطلوب للمولى لكونه سبباً للتخلّص من الحرام، كما أنّ شرب الخمر المنجي دائماً مطلوب {ويستحيل أن يتّصف} الخروج {بغير المحبوبيّة ويحكم عليه بغير المطلوبيّة} وبهذا كلّه تبيّن أنّ الخروج قبل الدخول غير محكوم بحكم أصلاً لعدم القدرة عليه، وبعد الدخول محكوم بالوجوب لكونه تخلّصاً عن الحرام.

{قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلّص} كالخروج في المثال {مأموراً به، وهو موافق لما أفاده شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - على ما في تقريرات بعض الأجلّة}.

{لكنّه لا يخفى} ما فيه، إذ {أنّ ما به التخلّص عن ترك الحرام، أو} ما به التخلّص عن {ترك الواجب، إنّما يكون حسناً عقلاً ومطلوباً شرعاً بالفعل وإن كان قبيحاً ذاتاً إذا لم يتمكّن المكلّف من التخلّص بدونه ولم يقع بسوء اختياره} كما لو وقع الحريق في بيت طفلٍ، فإنّ الدخول وإن كان محرّماً ذاتاً ولكن هذا الدخول

ص: 374


1- مطارح الأنظار 1: 709.

إمّا في الاقتحام في ترك الواجب، أو فعل الحرام، وإمّا في الإقدام بما هو قبيح وحرام، لولا به التخلّص بلا كلام، كما هو المفروض في المقام؛ ضرورة تمكّنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره.

___________________________________________

حيث صار ممّا به التخلّص عن ترك الحرام، يكون مطلوباً لوجود شرطيه، إذ لميكن الحريق بسوء اختيار المكلّف، مع عدم إمكان التخلّص بدون الدخول.

والحاصل: أنّ انقلاب المحرّم إلى الواجب مشروط بشرطين:

الأوّل: أن يكون التخلّص منحصراً بهذا المحرّم، فلو كان هناك طريق آخر - كما لو كان للدار المغصوبة طريق مباح - لم يصر المحرّم واجباً.

الثّاني: أن لا يكون بسوء الاختيار، فلو كان بسوء الاختيار - كما لو دخل المغصوبة مع العلم بانحصار طريق الخروج في المحرّم - لم يصر المحرّم واجباً أيضاً.

ثمّ فسّر المصنّف سوء الاختيار بأنّه عبارة عن إيقاع النّفس في أمر لا محيص له عن ارتكاب أحد محرّمين.

{إمّا في الاقتحام في ترك الواجب، أو فعل المحرّم} كالبقاء في الدار المغصوبة الّذي هو محرّم.

{وإمّا في الإقدام بما هو قبيح وحرام، لولا به التخلّص بلا كلام} وهو الخروج عن الدار الّذي هو تصرّف آخر في المغصوب، وهو محرّم أيضاً {كما هو} أي: الوقوع في أحد المحرّمين بسوء الاختيار {المفروض في المقام(1)}.

وإنّما قلنا بأنّ الخروج محرّم إذا كان الدخول بسوء الاختيار ل- {ضرورة تمكّنه منه} أي: من الخروج {قبل اقتحامه فيه} الصادر هذا الاقتحام {بسوء اختياره}

ص: 375


1- يعني: أنّ الخروج حرام بلا كلام من أحد في صورة ما إذا لم يكن تخلّص، وإنّما وقع النّزاع في حرمته وعدمه في ما إذا كان تخلّصاً.

وبالجملة: كان قبل ذلك متمكّناً من التصرّف خروجاً، كما يتمكّن منه دخولاً، غاية الأمر يتمكّن منه بلا واسطة، ومنهبالواسطة. ومجرّدُ عدم التمكّن منه إلّا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدوراً، كما هو الحال في البقاء، فكما يكون تركه مطلوباً في جميع الأوقات، فكذلك الخروج، مع أنّه مثله في الفرعيّة على الدخول، فكما لا تكون الفرعيّة مانعة عن مطلوبيّته قبلَه وبعده، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيّته، وإن كان العقل يحكم بلزومه، إرشاداً إلى اختيار أقلّ المحذورين وأخفّ القبيحين.

___________________________________________

فقولكم: «إنّ الخروج قبل الدخول غير متمكّن منه فلا يعقل تعلّق الحرمة به» ساقط.

{وبالجملة كان} المكلّف {قبل ذلك} الدخول {متمكّناً من التصرّف خروجاً كما يتمكّن منه} أي: من التصرّف {دخولاً، غاية الأمر} في الفرق بين التمكّنين أنّ المكلّف {يتمكّن منه} أي: من الدخول {بلا واسطة، و} يتمكّن {منه} أي: من الخروج {بالواسطة، و} من الواضح أنّ {مجرّد عدم التمكّن منه} أي: من الخروج {إلّا بواسطةٍ لا يخرجه عن كونه مقدوراً} إذ المقدور بالواسطة مقدور.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أجاب عن استدلال الشّيخ بأربعة أُمور:

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: {كما هو الحال في البقاء} في الدار المغصوبة، فإنّ كلّاً من البقاء في الدار المغصوبة والخروج منها متوقّف على الدخول {فكما يكون تركه} أي: البقاء {مطلوباً في جميع الأوقات، فكذلك الخروج، مع أنّه} أي: الخروج {مثله} أي: مثل البقاء {في الفرعيّة على الدخول، فكما لا تكون الفرعيّة} للبقاء {مانعة عن مطلوبيّته} أي: مطلوبيّة ترك البقاء {قبله} أي: قبل الدخول{وبعده} فهو مطلوب التّرك مطلقاً {كذلك} فرعيّة الخروج {لم تكن مانعة عن مطلوبيّته} أي: مطلوبيّة ترك الخروج {وإن كان} بين البقاء والخروج فرق من حيث آخر، فإنّ {العقل يحكم بلزومه} أي: الخروج {إرشاداً إلى اختيار أقلّ المحذورين} من البقاء والخروج {وأخفّ القبيحين}.

ص: 376

ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجاً وتخلّصاً عن المهلكة، وأنّه إنّما يكون مطلوباً على كلّ حالٍ لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، وإلّا فهو على ما هو عليه من الحرمة، وإن كان العقل يلزمه، إرشاداً إلى ما هو أهمّ وأولى بالرعاية من تركه؛ لكون الغرض فيه أعظم.

___________________________________________

ولكن هذا غير فارق في ما نحن فيه من حرمة كليهما، ومثل ذلك ما لو خيّر الجائر بين قطع الرّأس وقطع اليد، فإنّ العقل يرشد إلى التزام أخفّ المحذورين الّذي هو عبارة عن قطع اليد، وهذا الحكم العقلي لا ينافي كراهة كلا الأمرين.

{ومن هنا} الّذي اشترطنا في انقلاب الحرمة إلى الوجوب عدم كون الشّيء بسوء الاختيار {ظهر حال} ما استشهد به الشّيخ(رحمة الله)(1) من مثال الخمر، فإنّا لا نسلّم شرب الخمر الّذي يكون به التخلّص عن المهلكة واجباً، فإنّ {شرب الخمر علاجاً وتخلّصاً عن المهلكة} له صورتان {وأنّه إنّما يكون مطلوباً على كلّ حال} قبل الوقوع في المهلكة وبعده في صورة واحدة، وهي ما {لو لم يكن الاضطرار إليه} أي: إلى الشّرب {بسوءالاختيار} كما لو أوقع نفسه متعمّداً في مرضٍ، لا علاج له إلّا الشّرب {وإلّا} في الصورة الأُخرى، وهي ما أوقع نفسه في المرض بسوء الاختيار {فهو} أي: الشّرب {على ما هو عليه من الحرمة وإن كان العقل يلزمه} بالشّرب في صورة سوء الاختيار أيضاً {إرشاداً إلى ما هو أهمّ} أعني: حفظ النّفس {وأولى بالرعاية من تركه} أي: ترك الشّرب، فإنّ المكلّف بعد سوء الاختيار وإيقاع نفسه في المهلكة يتردّد بين حرامين: [1] ترك الشّرب المؤدّي إلى الهلكة المحرّمة، [2] والشّرب المحرّم الموجب لعدم الهلكة، والعقل يلزمه الشّرب إبقاءً على النّفس {لكون الغرض فيه أعظم} من العكس.

ص: 377


1- مطارح الأنظار 1: 718.

فمن ترك الاقتحام في ما يؤدّي إلى هلاك النّفس، أو شَرِبَ الخمر لئلّا يقع في أشدّ المحذورين منهما، يصدق أنّه تركهما، ولو بتركه ما لو فعله لأدّى - لا محالة - إلى أحدهما، كسائر الأفعال التوليديّة، حيث يكون العمدُ إليها بالعمد إلى أسبابها، واختيارُ تركها بعدم العمد إلى الأسباب، وهذا

___________________________________________

ثمّ أشار إلى جواب ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) بقوله: (فمن لم يشرب الخمر) الخ بقوله: {فمن ترك الاقتحام في ما يؤدّي إلى هلاك النّفس أو شرب الخمر لئلّا يقع في أشدّ المحذورين منهما يصدق أنّه تركهما} يعني: أنّ ما ذكرتم من عدم صدق (ما شرب الخمر) على من لم يقع في المهلكة غير تامّ، لبداهة أنّه إذا ترك الشّخص المهلكة بأن لم يعرض نفسه للهلاك يصدق عليه أنّه تارك للهلاك وتارك لشرب الخمر {ولو بتركه} الشّخص {ما لوفعله} أعني: التعريض للهلاك {لأدّى لا محالة إلى أحدهما}.

والحاصل: أنّ ترك شرب الخمر يصدق مع عدم التعريض أصلاً، كما يصدق مع الوقوع في المهلكة.

ثمّ أشار المصنّف(رحمة الله) إلى الجواب الثّاني، وحاصله: النّقض بالأفعال التوليديّة الّتي تتولّد من الأفعال المباشريّة، كالإحراق فإنّه ليس فعلاً مباشريّاً للمكلّف، بل يتولّد من الإلقاء في النّار، فإنّ الخروج وشرب الخمر {كسائر الأفعال التوليديّة حيث يكون العمد إليها} أي: إلى تلك الأفعال {بالعمد إلى أسبابها واختيار تركها بعدم العمد إلى الأسباب} فكما يحرم الإحراق قبل الإلقاء في النّار يحرم الخروج قبل الدخول، وكما لا يصحّ أن يقال: الإحراق قبل الإلقاء ليس مقدوراً للعبد فلا يحرم، كذلك لا يصحّ أن يقال الخروج قبل الدخول ليس مقدوراً للعبد فلا يحرم، وهكذا حال شرب الخمر قبل الوقوع في المهلكة.

{وهذا} القدر من القدرة - أعني: القدرة على عدم تعريض النّفس للهلاك حتّى

ص: 378

يكفي في استحقاق العقاب على الشّرب للعلاج، وإن كان لازماً عقلاً، للفرار عمّا هو أكثر عقوبة.

ولو سُلم عدم الصدق إلّا بنحو السّالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، فهو غير ضائرٍ، بعدَ تمكّنه من الترك - ولو على نحو هذه السّالبة - ، ومن الفعل بواسطة تمكّنه ممّا هو من قبيل الموضوع في هذه السّالبة، فيوقع نفسه - بالاختيار - في المهلكة، أو يدخل الدار،

___________________________________________

لا يهلك ولا يحتاج إلى شرب الخمر - {يكفي في استحقاق العقاب على الشّرب للعلاج، وإن كان} هذا الشّرب بعد ما أوقع نفسه في المهلكة {لازماً عقلاً للفرار عمّا هو أكثر عقوبة} أعني: الموت، فالإلزام العقلي لا ينافي التحريم الشّرعي.

ثمّ أشار المصنّف بقوله: {ولو سلم} المفيد لعدم التسليم أوّلاً إلى الجواب الثّالث، وحاصله: أنّ الحاكم بالمقدوريّة في باب التكاليف العقل، فإنّ العقل يحكم بلزوم كون المأمور به مقدوراً للعبد، وهو لا يحكم بأزيد من مطلق المقدوريّة سواء كان بلا واسطة أو مع الواسطة، وليس ذلك من قبيل السّالبة بانتفاء الموضوع، غاية الأمر أنّ سبب الترك هو ترك الدخول، ومن المعلوم أنّ الدخول ليس من قبيل الموضوع للخروج، ولو سلم {عدم الصدق} أي: عدم صدق ترك الخروج {إلّا بنحو السّالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، ف-} نجيب بالجواب الرّابع: و{هو} أنّ كونه من باب السّالبة بانتفاء الموضوع {غير ضائر بعد تمكّنه} أي: المكلّف {من الترك} للخروج بترك الدخول {ولو على نحو هذه السّالبة، و} تمكّنه {من الفعل بواسطة تمكّنه ممّا هو من قبيل الموضوع في هذه السّالبة} أي: الدخول، فهو قادر من الفعل والترك، وهذا المقدار من القدرة كافٍ في التكليف.

وبهذا تبيّن أنّ كلّاً من شرب الخمر والخروج تحت القدرة فعلاً وتركاً {فيوقع} المكلّف {نفسه بالاختيار في المهلكة، أو يدخل الدار} فيتحقّق الموضوع

ص: 379

فيعالج بشرب الخمر، ويتخلّص بالخروج، أو يختار ترك الدخول والوقوع فيها، لئلّا يحتاج إلى التخلّص والعلاج.فإن قلت: كيف يقع مثل الخروج والشّرب ممنوعاً عنه شرعاً، ومعاقباً عليه عقلاً، مع بقاء ما يتوقّف عليه على وجوبه، ووضوح سقوط الوجوب مع امتناع المقدّمة المنحصرة، ولو كان بسوء الاختيار، والعقلُ قد استقلّ بأنّ الممنوع شرعاً كالممتنع عادة أو عقلاً؟

___________________________________________

للفعلين الشّرب والخروج {فيعالج بشرب الخمر} في الأوّل {ويتخلّص بالخروج} في الثّاني {أو يختار ترك الدخول، و} ترك {الوقوع فيها} أي: المهلكة {لئلّا يحتاج إلى التخلّص} بالخروج المحرّم {والعلاج} بشرب الخمر.

{فإن قلت: كيف يقع مثل الخروج والشّرب ممنوعاً عنه شرعاً، ومعاقباً عليه عقلاً، مع} تسليم أُمور ثلاثة:

الأوّل: {بقاء ما يتوقّف عليه} أي: ما يتوقّف على الخروج والشّرب - أعني: التخلّص عن الغصب وعن الهلاك - {على وجوبه}.

{و} الثّاني: {وضوح سقوط الوجوب} عن ذي المقدّمة {مع امتناع المقدّمة المنحصرة، ولو كان} الامتناع {بسوء الاختيار}.

{و} الثّالث: {العقل قد استقلّ بأنّ الممنوع شرعاً كالممتنع عادة أو عقلاً؟} فإذا امتنع الخروج شرعاً على قولكم كان كالممتنع عقلاً، مع كونها منحصرة سقط الوجوب عنها، وإذا لم تكن المقدّمة واجبة كشفت عن عدم وجوب ذيها، فالقول بوجوب ذي المقدّمة وعدم وجوب مقدّمته المنحصرة متنافيان، فلا يمكن أن يكون التخلّص عن الغصب والمرض واجباً ويكون شرب الخمر والخروج حراماً، فأمّا أن يكونا واجبين أو محرّمين، وحيث لا يمكن القولبحرمة التخلّص يجب القول بوجوب الشّرب والخروج.

ص: 380

قلت: أوّلاً: إنّما كان الممنوع كالممتنع، إذا لم يحكم العقل بلزومه، إرشاداً إلى ما هو أقلّ المحذورين، وقد عرفت لزومَه بحكمه؛ فإنّه مع لزوم الإتيان بالمقدّمة عقلاً، لا بأس في بقاء ذي المقدّمة على وجوبه، فإنّه حينئذٍ ليس من التكليف بالممتنع، كما إذا كانت المقدّمة ممتنعة.

وثانياً: لو سلم، فالساقط إنّما هو الخطاب فعلاً بالبعث والإيجاب، لا لزوم إتيانه عقلاً؛ - خروجاً عن عهدة ما تنجّز عليه سابقاً - ؛

___________________________________________

{قلت: أوّلاً} نمنع المقدّمة الثّالثة، فإنّه {إنّما كان الممنوع كالممتنع} في المقدّمة {إذا لم يحكم العقل بلزومه} أي: لزوم المقدّمة الممنوعة شرعاً {إرشاداً إلى ما هو أقلّ المحذورين} أمّا إذا لزم العقل بلزوم الإتيان بالمقدّمة المحرّمة شرعاً فلا نسلّم أنّ الممنوع شرعاً في هذه الصورة كالممتنع عقلاً {وقد عرفت لزومه} أي: لزوم هذا الممنوع شرعاً، كالشرب والخروج {بحكمه} أي: بحكم العقل أخذاً بأقلّ المحذورين {فإنّه مع لزوم الإتيان بالمقدّمة عقلاً لا بأس في بقاء ذي المقدّمة على وجوبه} والسّرّ في الفرق أنّ المنع الشّرعي موجب لمنع العقل، وفي ظرف المنع العقلي عن المقدّمة لا يترتّب البعث العقلي على التكليف بذيها لتضادّهما، كما لو كانت المقدّمة ممتنعة عقلاً، وهذا لا يوجد في ما إذا ألزم العقل بالإتيان بالمقدّمة {فإنّه حينئذٍ ليس من التكليف بالممتنع} وليس هذا {كما إذا كانت المقدّمة ممتنعة} كما هو واضح.{وثانياً: لو سلم} أنّ بقاء وجوب ذي المقدّمة مع حرمة المقدّمة متنافيان مطلقاً حتّى في ما إذا حكم العقل بوجوب المقدّمة {ف-} نقول: {السّاقط} في ظرف التعارض {إنّما هو الخطاب} بذي المقدّمة - أعني: التخلّص عن الغصب والهلاك - {فعلاً بالبعث والإيجاب} و{لا} يسقط {لزوم إتيانه عقلاً خروجاً عن عهدة ما تنجّز عليه سابقاً} من التكليف بحفظ النّفس وعدم الغصب

ص: 381

ضرورة أنّه لو لم يأت به لوقع في المحذور الأشدّ، ونقض الغرض الأهمّ، حيث إنّه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبيّة، بلا حدوث قصورٍ أو طروّ فتورٍ فيه أصلاً، وإنّما كان سقوط الخطاب لأجل المانع، وإلزامُ العقل به لذلك إرشاداً كافٍ، لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والإيجاب له فعلاً، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

{ضرورة أنّه لو لم يأت به} لملاحظة حرمة الخروج وحرمة الشّرب {لوقع في المحذور الأشدّ ونقض الغرض الأهم} بخلاف ما لو أتى فإنّه تحفّظ على حفظ النّفس وعلى حرمة البقاء ووقع في المحذور الأخف.

لا يقال: إذا سقط الخطاب بحفظ النّفس وبالتخلّص من الغصب لم يكن في تركهما مفسدة، مع أنّ الترك موجب لعدم ارتكاب المحرّم من الشّرب والخروج.

لأنّا نقول: سقوط الخطاب لا ينافي بقاء الغرض {حيث إنّه الآن} بعد ما أوقع نفسه في المهلكة ودخل المغصوبة {كما كان عليه من الملاك والمحبوبيّة بلا حدوث قصور أو طروّ فتور فيه} أي: في ملاك حفظ النّفس والتخلّص من الغصب {أصلاً،وإنّما كان سقوط الخطاب} بهما {لأجل المانع} من الخطاب وهو حرمة المقدّمة المنافية لوجوب ذيها {وإلزام العقل به} أي: بذي المقدّمة {لذلك} أي: لبقاء الملاك {إرشاداً} إلى عدم الوقوع في المحذور الأشدّ {كافٍ} في وجوب ذي المقدّمة واستحقاق العقاب على تركه {لا حاجة معه} أي: مع الإلزام العقلي {إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والإيجاب له فعلاً} فالوجوب السّابق الكاشف عن الملاك القطعي بضميمة الإلزام العقلي الفعلي يكفي في تنجّز التكليف.

ومن جميع ما ذكرنا ظهر أنّ الخروج عن الدار المغصوبة، مع أنّه المقدّمة المنحصرة للواجب باقٍ على حرمته شرعاً ومعاقب عليه، ويكون حاله بعد الاضطرار كحاله قبله {فتدبّر جيّداً}.

ولا يخفى أنّ قوله: «إن قلت: كيف يقع» الخ، ليس من أدلّة التقريرات على مطلبه.

ص: 382

وقد ظهر ممّا حقّقناه: فساد القول بكونه مأموراً به، مع إجراء حكم المعصية عليه، نظراً إلى النّهي السّابق.

مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة.

ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والإيجاب قبل الدخول وبعده - كما في الفصول(1) - ، مع اتحاد زمان الفعل المتعلّق لهما،

___________________________________________

وحيث فرغ المصنّف(رحمة الله) عن قول الشّيخ(رحمة الله) - القائل بأنّ الخروج مأمور به - شرع في ردّ الفصول القائل بكونه مأموراً به مع جريان حكمالمعصية عليه من العقاب وغيره بملاحظة النّهي السّابق، فإنّه قبل الاضطرار كان كلّ من الدخول والبقاء والخروج حراماً وبالاضطرار سقطت الحرمة وبقي تبعاتها.

{وقد ظهر ممّا حقّقناه} في جواب الشّيخ(رحمة الله) {فساد القول بكونه مأموراً به مع إجراء حكم المعصية عليه} أمّا كونه مأموراً به نظراً إلى كونه مقدّمة لواجب وأمّا إجراء حكم المعصية {نظراً إلى النّهي السّابق} قبل الاضطرار، وجه الظهور ما تقدّم من أنّ الخروج باقٍ على حرمته، وليس مأموراً به، لكون الاضطرار بسوء الاختيار، وإنّما العقل ملزم للإتيان به {مع ما فيه} أي: في هذا القول {من لزوم اتّصاف فعلٍ واحدٍ بعنوانٍ واحدٍ بالوجوب والحرمة} الوجوب لمقدّميّته والحرمة لكونه من أفراد الغصب.

ثمّ إنّ صاحب الفصول+ التفت إلى ورود هذا الإشكال عليه، وأجاب عنه بأنّ المستحيل إنّما هو اجتماع الوجوب والحرمة في زمان واحد والخروج ليس كذلك، فإنّه قبل الدخول كان حراماً وبعد الدخول واجباً، فلا تنافي بينهما.

{و} لكنّك خبير بأنّه {لا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والإيجاب قبل الدخول} للتحريم {وبعده} للوجوب {كما في الفصول} إذ {مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما} يستلزم التناقض.

ص: 383


1- الفصول الغرويّة: 138.

وإنّما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما. وهذا أوضح من أن يخفى، كيف؟ ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول عصياناً للنهي السّابق، وإطاعةً للأمر اللّاحق فعلاً، مبغوضاً

___________________________________________

مثلاً: لو أمر المولى صبحاً بإكرام زيد في يوم الجمعة ونهى عصراً عن إكرام زيد في يوم الجمعة كان متناقضاً مع أنّ زمان الإيجاب غير زمان التحريم.

والحاصل: أنّ التناقض باختلاف زمان الأمر والنّهي {وإنّما المفيد} الرّافع للتناقض {اختلاف زمانه} أي: زمان الفعل {ولو مع اتحاد زمانهما} أي: زمان الإيجاب والتحريم، فلو قال المولى: (أمرتك بإكرام زيد يوم الجمعة ونهيتك عن إكرام زيد يوم السّبت) لم يكن تناقضاً، ولو كان تلفّظه بهذا الأمر والنّهي في وقتٍ واحدٍ.

وبعبارة أُخرى: اجتماع الوجوب والحرمة في شيءٍ واحدٍ في زمانٍ واحدٍ مستحيل، وإن اختلف زمان الأمر والنّهي، وبالعكس لا يستحيل اجتماع الأمر والنّهي في زمانٍ واحدٍ لو كان متعلّق الأمر في زمانٍ ومتعلّق النّهي في زمانٍ آخَرَ.

{وهذا أوضح من أن يخفى} وعليه فلو نهى المولى قبل الدخول عن الخروج وأمر بعد الدخول بالخروج كان متناقضاً لاتحاد متعلّق الأمر والنّهي، فالخروج بعد الدخول حرام للنهي السّابق وواجب للأمر اللّاحق.

إن قلت: لعلّ نظر الفصول إلى اختلاف متعلّق الإيجاب والتحريم حتّى يكون الخروج قبل الدخول حراماً فقط، وإذا دخل انقلبت تلك الحرمة إلى الوجوب، فحينئذٍ يكون الخروج واجباً فقط.

قلت: أوّلاً: هذا مستلزم للغوية النّهي عن الخروج دائماً، إذ قبل الدخول غير مقدور وبعد الدخول غير محرّم. وثانياً: أنّ هذا ينافي قوله بإجراء حكم المعصية عليه، فتأمّل.

و{كيف} كان، فهذا القول باطل {ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول عصياناً للنّهي السّابق} على الدخول {وإطاعة للأمر اللّاحق فعلاً} بعد ما دخل، و{مبغوضاً}

ص: 384

ومحبوباً كذلك بعنوان واحد، وهذا ممّا لا يرضى به القائل بالجواز، فضلاً عن القائل بالامتناع.

كما لا يُجدي في رفع هذه الغائلة: كونُ النّهي مطلقاً وعلى كلّ حالٍ، وكونُ الأمر مشروطاً بالدخول؛ ضرورةَ منافاة حرمة شيء كذلك مع وجوبه في بعض الأحوال.

___________________________________________

للنهي السّابق {ومحبوباً كذلك} للأمر اللّاحق {بعنوان واحد}.

لا يقال: ليس بعنوان واحد، إذ حرمته بعنوان أنّه غصب ووجوبه بعنوان أنّه مقدّمة.

لأنّا نقول: قد تقدّم سابقاً أنّ الأمر لا يتوجّه إلى عنوان المقدّميّة، بل يتوجّه إلى نفس الشّيء بعلّة كونه مقدّمة.

{وهذا} الّذي ذكر من توجّه الأمر والنّهي إلى شيءٍ بعنوانٍ واحدٍ {ممّا لا يرضى به القائل بالجواز} لأنّه يقول بالجواز مع اختلاف العنوان {فضلاً عن القائل بالامتناع}.

ثمّ إنّ الفصول في مقام تحقيق اختلاف زمان الحكمين ذكر كلاماً آخر، حاصله عدم التنافي بين النّهي عن الخروج والأمر به، إذ النّهي مطلق وليس مشروطاً بالدخول والأمر مشروط بالدخول، فهما من قبيل المطلق والمقيّد يلزم تقييد المطلق به، فيكون للخروج باعتبار ما قبل الدخول وما بعده حكمان متضادّان أحدهما: مطلق وهو النّهي، والآخر: مشروط بالدخول وهو يلزم الجمع بين الضدّين.

وأجاب المصنّف(رحمة الله) عن هذا بقوله: {كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة كون النّهي مطلقاً وعلى كلّ حال} فليس مشروطاً بالدخول {وكون الأمر مشروطاًبالدخول}.

وإنّما لا يجدي هذا ل- {ضرورة منافاة حرمة شيء كذلك} مطلقاً {مع وجوبه في بعض الأحوال} مشروطاً، وجه المنافاة أنّه إذا كان الغصب حراماً حالتي الدخول

ص: 385

وأمّا القول بكونه مأموراً به ومنهيّاً عنه: ففيه - مضافاً إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع في ما إذا كان بعنوانين، فضلاً عمّا إذا كان بعنوان واحد، كما في المقام، حيث كان الخروج بعنوانه سبباً للتخلّص، وكان بغير إذن المالك، وليس التخلّص إلّا منتزعاً عن ترك الحرام المسبّب عن الخروج، لا عنواناً له - :

___________________________________________

وعدمه، فكيف يجتمع مع الوجوب المشروط بالدخول؟ فتدبّر.

{وأمّا القول} الرّابع المنسوب إلى المشهور، وذهب إليه أبو هاشم القائل {بكونه} أي: الخروج {مأموراً به ومنهيّاً عنه، ففيه - مضافاً إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع} بين الأمر والنّهي {في ما إذا كان بعنوانين} كالصلاة والغصب {فضلاً عمّا إذا كان} الاجتماع {بعنوان واحد، كما في المقام} وسائر أمثاله ممّا اجتمع الحرمة مع الوجوب المقدّمي {حيث كان الخروج بعنوانه} الأوّلي {سبباً للتخلّص وكان بغير إذن المالك، وليس التخلّص إلّا منتزعاً عن ترك الحرام المسبّب عن الخروج لا عنواناً له -}.

حاصله: - أنّا وإن سلّمنا جواز اجتماع الأمر والنّهي - لكنّا نقول: إنّما يجوز الاجتماع في ما كان هناك عنوانان، أمّا في ما نحن فيه فليس كذلك، إذ الخروج بما هو غصب حرام، وبما هو خروج واجب، فالخروج صار مصبّاً للأمر والنّهي وليس هناك عنوانان، وهو غير جائز حتّى على القول بجواز الاجتماع.إن قلت: الواجب هو الخروج بعنوان التخلّص، والحرام هو الخروج بعنوان الغصب، فكيف قلتم بعدم وجود عنوانين في المقام؟

قلت: التخلّص ليس عنواناً للخروج، بل لمّا كان الخروج سبباً لترك البقاء المحرّم انتزع عن هذا الترك عنوان التخلّص، وبعبارة أُخرى: الخروج سبب لترك البقاء، والتخلّص منتزع عن المسبّب ولا ربط له بالسبب.

ثمّ لو سلّمنا أنّ التخلّص عنوان للخروج فالخروج بما هو واجب لا بما هو

ص: 386

أنّ الاجتماع هاهنا لو سلّم أنّه لا يكون بمحالٍ - لتعدّد العنوان، وكونه مجدياً في رفع غائلة التضادّ - كان محالاً؛ لأجل كونه طلب المحال، حيث لا مندوحة هنا؛

___________________________________________

تخلّص، لما تقدّم من أنّ المقدّميّة جهة تعليليّة لا تقييديّة، فتذكّر.

وقد علّق المصنّف في الهامش ما لفظه بتوضيح: «قد عرفت ممّا علّقت على الهامش» في أوائل هذا التنبيه «أنّ ترك الحرام غير مسبّب عن الخروج حقيقة، وإنّما المسبّب عنه هو الملازم له، وهو الكون في خارج الدار» فالخروج سبب للكون خارج الدار وليس سبباً لترك البقاء.

«نعم، يكون» ترك البقاء «مسبّباً عنه» أي: عن الخروج «مسامحة وعرضاً» إذ ترك البقاء والكون خارج الدار متلازمان «وقد انقدح بذلك أنّه لا دليل في البين إلّا على حرمة الغصب المقتضي، لاستقلال العقل بلزوم الخروج من باب أنّه أقلّ المحذورين، وأنّه لا دليل على وجوبه» أي: الخروج «بعنوان آخر، فحينئذٍ» أي: لا دليل على الوجوب حتّى يقال بأنّه «يجب إعماله أيضاً» كما يجب إعمال دليل الحرمة «على القول بجواز الاجتماع كاحتمال النّهي عن الغصب» لدليلوجوب يجب إعماله «ليكون الخروج مأموراً به ومنهيّاً عنه، فافهم»(1).

{أنّ الاجتماع هاهنا} في مسألة الخروج {لو سلّم أنّه لا يكون بمحال لتعدّد العنوان، و} سلّم {كونه} أي: تعدّد العنوان {مجدياً في رفع غائلة التضادّ، كان} الاجتماع {محالاً(2) لأجل كونه طلب المحال حيث لا مندوحة هنا} بخلاف باب الصلاة والغصب فإنّه يتمكّن من التخلّص عن الحرام وإتيان الصلاة في مكان مباح، ولا مندوحة في مسألة الخروج، إذ المفروض أنّه مضطرّ بالخروج، ولهذا

ص: 387


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 181.
2- أي: إنّ هذا الطلب طلب المحال وإن لم يكن نفس الطلب بمحال، وتقدّم الفرق بين الطلب المحال وطلب المحال، فراجع.

وذلك لضرورة عدم صحّة تعلّق الطلب والبعث حقيقةً بفعل واجب أو ممتنع، أو ترك كذلك، ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار.

وما قيل: «إِنّ الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار»، إنّما هو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بأنّ الأفعال غير اختياريّة بقضيّة: «أنّ الشّيء ما لم يجب لم يُوجد».

___________________________________________

لو لم يكن للشّخص مندوحة في باب الصلاة لم يلتزم أحد باجتماع الأمر والنّهي، بل يؤلون بسقوط وجوب الصلاة أو سقوط حرمة الغصب، إذ التكليف بالضدّين في مورد عدم المندوحة قبيح عقلاً ومحال صدوره عن الحكيم {وذلك لضرورة عدم صحّة تعلّق الطلب والبعث حقيقةبفعل واجب أو ممتنع أو ترك كذلك} واجب أو ممتنع {ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار} فتكليف المولى الحكيم عبده بما لا يطاق غير جائز ولو كان مستنداً إلى سوء اختيار العبد.

{و} إن قلت: يصحّ التكليف بالمحال ولا يقبح عقلاً في ما إذا استند إلى سوء اختيار العبد، وذلك ل- {ما قيل} من{«أنّ الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار(1)»} فالعبد لمّا كان قادراً على ترك الدخول حتّى لا يضطرّ إلى الخروج المحرّم، فلو دخل باختياره كان تكليفه بعدم الخروج وعدم البقاء غير قبيح.

والحاصل: أنّ التكليف بما لا يطاق إن نشأ من سوء اختيار العبد لم يكن قبيحاً؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، وإن نشأ بغير اختياره كان محالاً وقبيحاً.

قلت: هذا القول ليس محلّه ما نحن فيه، بل {إنّما هو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بأنّ الأفعال غير اختياريّة بقضيّة «أنّ الشّيء ما لم يجب لم يوجد»} وتوضيح المقام يحتاج إلى بيان أُمور ثلاثة:

ص: 388


1- يعني: أنّ الامتناع أو الإيجاب إذا كان له مقدّمة اختياريّة لم يكن خارجاً عن الاختيار.

___________________________________________

الأوّل: نقل كلام الأشاعرة.

الثّاني: جواب الأصحاب عنهم.

الثّالث: وجه أجنبيّة قاعدة الامتناع بالاختيار عمّا نحن فيه، فنقول:

أمّا الأوّل: فقد ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الأفعال كلّها غير اختياريّة، بل العباد مجبورون في الأفعال، واستدلّوا لذلك بقاعدة مسلّمة عند الحكماء وهي: «أنّالشّيء ما لم يجب لم يوجد» ومعنى القاعدة أنّ كلّ ممكن ما لم تتمّ علّته التامّة لم يوجد في الخارج، فإن وجدت العلّه التامّة وجد الممكن وإلّا فلا يوجد.

ووجه استدلالهم بهذه القاعدة أنّ كلّ فعل يصدر من فاعل لا بدّ وأن توجد علّته التامّة، وإذا وجدت كان ذلك الفعل واجب الوجود بالعرض، وإذا وجب الفعل لم يكن العبد مختاراً فيه، وبهذه المقدّمات تمسّكوا لكون العباد مجبورين في جميع الأفعال.

وأمّا الثّاني: فنقول: أبطل علماؤنا هذه الشّبهة، بأنّا لا نسلّم أنّ الفعل بعد وجود علّته التامّة واجب، ولكنّا نقول: إنّ العبد إنّما يوجد علّة الفعل بالإرادة، فإن أراد الفعل وسائر مقدّماته وجب وإن لم يرد لم يجب، فإيجاب الفعل وعدمه تحت اختيار المكلّف، ومن البديهي أنّ الإيجاب والامتناع - أي: إيجاب الفعل بإرادة مقدّماته وامتناعه بعدم إرادة مقدّماته - إذا كانا متوقّفين على مقدّمة اختياريّة لا ينافيان مع الاختيار، وبهذا تبيّن أنّ العباد ليسوا بمجبورين في الأفعال، واتّضح أيضاً أنّ قاعدة الامتناع الخ في قبال استدلال الأشاعرة للجبر.

وأمّا الثّالث: فنقول: قد عرفت أنّ هذه القاعدة لبطلان القول بمجبوريّة العباد في الأفعال ولا ربط لها بتكليف ما لا يطاق، إذ التكليف بغير المقدور قبيح على كلّ حال سواء نشأ من سوء الاختيار أم لا، وذلك لأنّ التكليف إنّما يحسن إذا كان

ص: 389

فانقدح بذلك: فساد الاستدلال(1) لهذا القول بأنّ الأمر بالتخلّص والنّهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما، ولا موجب للتقييد عقلاً؛ لعدم استحالة كون الخروج واجباً وحراماً باعتبارين مختلفين؛ إذ منشأ الاستحالة: إمّا لزوم اجتماع الضدّين، وهو غيرلازم مع تعدّد الجهة،

___________________________________________

باعثيّته للمكلّف نحو المكلّف به ممكناً، فمع عدم إمكانه لا يحسن.

ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بحفظ نفسه - بعد ما أوقع نفسه من شاهق - كان هذا التكليف عند العقلاء لغواً، لعدم إمكان العبد على حفظ نفسه. نعم، يصحّ العقاب لمخالفة النّهي السّابق وإن لم يصحّ الخطاب، وقد سبق في بحث الترتّب أنّه لو كان هذا النّحو من التكليف صحيحاً لصحّ التكليف بالمستحيل معلّقاً على مقدّمة اختياريّة، كأن يقول: (لو ذهبت إلى دار زيد يجب عليك الطيران)، فراجع وتأمّل في المقام، واللّه - تعالى - العالم، وهو الهادي.

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من امتناع اجتماع الضدّين ولو مع تعدّد الجهة أوّلاً، وأنّ التكليف بما لا يطاق ولو مع سوء الاختيار قبيح ثانياً {فساد الاستدلال} المحكي عن القوانين {لهذا القول} الّذي يقول: إنّ الخروج مأمور به ومنهيّ عنه {بأنّ الأمر بالتخلّص والنّهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما} والأخذ بمقتضي كلّ منهما {ولا موجب للتقييد} في أحدهما {عقلاً} كأن يقيّد دليل حرمة الغصب بغير مثل الخروج الّذي هو مقدّمة أو يقيّد دليل وجوب المقدّمة بغير مثل الغصب الّذي هو حرام {لعدم استحالة كون الخروج واجباً وحراماً باعتبارين مختلفين} الوجوب باعتبار المقدّميّة والحرمة باعتبار الغصبيّة.

{إذ منشأ} توهّم {الاستحالة} في هذا الاجتماع لا يخلو عن أحد أمرين: {إمّا لزوم اجتماع الضدّين} في شيء واحد شخصي {وهو غير لازم مع تعدّد الجهة} كما

ص: 390


1- قوانين الأصول 1: 153.

وإمّا لزوم التكليف بما لا يطاق، وهو ليس بمحال إذا كان مسبّباًعن سوء الاختيار.

وذلك لما عرفت من ثبوت الموجب للتقييد عقلاً ولو كانا بعنوانين، وأنّ اجتماع الضدّين لازمٌ ولو مع تعدّد الجهة، مع عدم تعدّدها هاهنا. والتكليف بما لا يطاق محال على كلّ حال. نعم، لو كان بسوء الاختيار

___________________________________________

تقدّم في أدلّة القول بالجواز {وإمّا لزوم التكليف بما لا يطاق} لفرض عدم المندوحة {وهو} أي: التكليف بما لا يطاق {ليس بمحال، إذا كان مسبّباً عن سوء الاختيار}.

هذا حاصل الكلام لاستدلال من يقول باجتماع الوجوب والحرمة في الخروج عن الغصب، ولكنّه باطل {وذلك لما عرفت من ثبوت الموجب للتقييد} للأمر أو النّهي {عقلاً ولو كانا} الوجوب والحرمة {بعنوانين} لعدم فائدة تعدّد الجهة مع وحدة المعنون {وأنّ اجتماع الضدّين لازم ولو مع تعدّد الجهة} فالمقيّد العقلي لأحد من الوجوب والحرمة موجود واللّازم تقييد أحدهما، إمّا تقييد دليل الغصب والقول بوجوب الخروج فقط، وإمّا تقييد دليل المقدّمة والقول بحرمة الخروج فقط.

هذا، لو قلنا بتعدّد الجهة في المقام فكيف {مع عدم تعدّدها هاهنا} في مسألة الخروج، إذ تقدّم أنّ الواجب ليس عنوان المقدّميّة والحرام عنوان الغصب، بل الواجب هوالخروج، إذ عنوان المقدّميّة حيث تعليلي لا تقييدي، فالقائل بجواز اجتماع الأمر والنّهي في متعدّد الجهة لا يجوزه في مثل المقام.

{و} لما عرفت أيضاً من أنّ {التكليف بما لا يطاقمحال على كلّ حال} سواء كان بسوء اختيار العبد أم لا، لما تقدّم من عدم معقوليّة الانبعاث نحو المستحيل، فيكون البعث لغواً يقبح صدوره من الحكيم.

{نعم، لو كان} عدم إطاعة العبد للتكليف {بسوء الاختيار} كما لو أراق الماء المنحصر في الوقت وهو يعلم بعدم تمكّنه بعد من الصلاة بالطهارة المائيّة

ص: 391

لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الإيجاب.

ثمّ لا يخفى: أنّه لا إشكال في صحّة الصلاة مطلقاً في الدار المغصوبة، على القول بالاجتماع.

وأمّا على القول بالامتناع، فكذلك، مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار،

___________________________________________

{لا يسقط العقاب بسقوط التكليف} فالتكليف {بالتحريم أو الإيجاب} ساقط والعقاب باقٍ، فتحقّق أنّ قولهم: «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» ليس مستقيماً حتّى بالنسبة إلى الخطاب، بل اللّازم تقييده بأن يقال: «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» عقاباً ولكن ينافيه خطاباً، فالمضطرّ بالاختيار لا يخاطب ولكن يعاقب.

{ثمّ} إنّ بعضهم أورد إشكالاً على المشهور، حيث إنّهم أفتوا بصحّة الصلاة في حال الضّيق وببطلانها في حال السّعة في ما كان محلّ الصلاة غصباً. وجه الإشكال أنّهم إن كانوا من المجوّزين للاجتماع، فلازمه صحّة الصلاة مطلقاً، وإن كانوا من المانعين فإن قدّموا الأمر، فاللّازم أيضاً صحّة الصلاة مطلقاً، وإن قدّموا النّهي أو رأوا تساويهما، فاللّازم بطلان الصلاة مطلقاً، فلا وجه للقول بالصحّة في بعض الأحوال والبطلان في بعض.

هذا وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى جواب هذا الإشكال، ومنه يعلم ثمرةالأقوال بقوله: {لا يخفى أنّه لا إشكال في صحّة الصلاة مطلقاً} في حالتي الاضطرار والاختيار {في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع} هذا مقتضى القاعدة، اللّهمّ إلّا أن ينعقد إجماع على بطلان الصلاة في الغصب كما حكي {وأمّا على القول بالامتناع فكذلك} تصحّ الصلاة {مع} وجود بعض الشّروط، وذلك في صور:

الأُولى: إذا كان {الاضطرار إلى الغصب} مع كونه {لا بسوء الاختيار} كما لو حبسه الظالم في دار مغصوبة، وإنّما تصحّ الصلاة في هذه الصورة؛ لأنّ النّهي

ص: 392

أو معه ولكنّها وقعت في حال الخروج، على القول بكونه مأموراً به بدون إجراء حكم المعصية عليه، أو مع غلبة ملاك الأمر على النّهي مع ضيق الوقت.

أمّا الصلاة فيها

___________________________________________

سقط بواسطة الاضطرار، فيبقى الأمر بالصلاة بلا مانع.

الثّانية: ما أشار إليه بقوله: {أو معه} أي: كان الاضطرار إلى الغصب مع سوء الاختيار، كما لو ذهب إلى محلّ مغصوب {ولكنّها} أي: الصّلاة {وقعت في حال الخروج} بناءً {على القول بكونه} أي: الخروج {مأموراً به بدون إجراء حكم المعصية عليه}.

وإنّما تصحّ الصلاة في هذه الصورة؛ لأنّ الأمر بالصلاة في حال الخروج لا مانع منه، إذ لا حرمة للخروج على هذا القول حتّى يقع التزاحم بين حرمة الغصب ووجوب الصلاة.وهذا بخلاف ما لو أجرينا حكم المعصية على الخروج، إذ عليه يقع الخروج مبغوضاً للمولى، ولا يعقل التقرّب بالعمل المبغوض.

الثّالثة: ما أشار إليه بقوله: {أو مع} أي: كان الاضطرار إلى الغصب بسوء الاختيار ولم تقع الصلاة في حال الخروج، فإنّ الصّلاة تقع صحيحة بشرطين:

الأوّل: {غلبة ملاك الأمر على النّهي} إذ تتعارض المصلحة الأمريّة والمفسدة النّهييّة ويقدّم الأقوى منهما، فإنّه إذا لم نقدّم المصلحة لم يكن وجه لصحّة الصلاة {مع} فرض القول بامتناع الاجتماع.

الثّاني: كون الصلاة في {ضيق الوقت} أمّا لو كان في السّعة فلا تصحّ هذه الصلاة؛ لأنّه يكون حين السّعة أمر بغير هذه الصلاة في غير هذا المكان، والأمر بتلك الصلاة لا بدّ وأن يكون أهمّ من هذا الأمر.

وإلى تفصيل ما ذكر أشار بقوله: {أمّا الصّلاة فيها} أي: في الدار المغصوبة

ص: 393

في سعة الوقت فالصحّة وعدمها مبنيان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ واقتضائه؛ فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة وإن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة، إلّا أنّه لا شبهة في أنّ الصلاة في غيرها تُضادّها، بناءً على أنّه لا يبقى مجال مع إحداهما للأُخرى، مع كونها أهمّ منها؛ لخلوّها من المنقصة النّاشئة من قبل اتحادها مع الغصب.

___________________________________________

{في سعة الوقت، فالصحّة وعدمها مبنيّان على عدم اقتضاء الأمر بالشّيء للنهي عن الضدّ واقتضائه} فإن قلنا بعدم الاقتضاء تكون الصلاة صحيحة، وإن قلنا بالاقتضاء تكون باطلة {فإنّ الصلاة في الدارالمغصوبة} في حال السّعة {وإن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة} فتقتضي صحّة الصلاة {إلّا أنّه لا شبهة في أنّ الصلاة في غيرها} أي: غير الدار المغصوبة {تضادّها} أي: تضادّ الصلاة في الدار المغصوبة، وإنّما يكون التضادّ بين هذين الفردين الفرد الواقع في الغصب والفرد الواقع في المباح {بناءً على أنّه لا يبقى مجال مع إحداهما للأُخرى} إذ يسقط الغرض، ويحصل الامتثال بهذا الفرد الغصبي، فلا يبقى مجال للفرد المباحي {مع كونها} أي: إحداهما - وهي الصلاة في المباح - {أهمّ منها} أي: من الأُخرى وهي الصلاة في الغصب، وإنّما كانت أهمّ {لخلوّها من المنقصة النّاشئة من قبل اتحادها مع الغصب} والحاصل: أنّ الصلاة - بناءً على أقوائيّة ملاكها في ملاك الغصب - إذا وقعت في المغصوب في سعة الوقت تبطل على الامتناع بشرطين:

الأوّل: أن نقول باقتضاء الأمر بالشّيء للنّهي عن الضّدّ.

الثّاني: أن يكون كلّ فرد من الصلاة مضادّاً مع الفرد الآخر.

وجه البطلان: أنّ الصلاة في المغصوب تكون في سعة الوقت والصلاة في المباح ممكن فعلاً مع أنّها مأمور بها، والأمر بها يقتضي النّهي عن ضدّها وهو

ص: 394

لكنّه عرفت: عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه، فالصلاة في الغصب اختياراً في سعة الوقت صحيحة، وإن لم تكن مأموراً بها.

الأمر الثّاني:

___________________________________________

الفرد الواقع في الغصب وتوجّه النّهي إلى الصلاة في الغصب يقتضي بطلانها{لكنّه} إذا لم نلتزم بأحد الشّرطين، كما لو منعنا الشّرط الأوّل، لما قد {عرفت} في باب اقتضاء الأمر بالشّيء للنّهي عن الضدّ {عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه} أو منعنا الشّرط الثّاني؛ لأنّ مسألة الأمر بالشيء إنّما هي في ما لو كان واجبان متضادّان أحدهما أهمّ، كالصلاة والإزالة، وما نحن فيه ليس كذلك، إذ الصلاة في الغصب والصلاة في خارجه فردان لواجب واحد بلا تضادّ بينهما {فالصلاة في الغصب اختياراً في سعة الوقت صحيحة} بناءً على تقدير كون مصلحة الأمر غالبة على مفسدة النّهي {وإن لم تكن مأموراً بها} لأنّ الأمر بالفرد الخارج من الغصب يوجب عدم الأمر بالفرد الداخل فيه، كما سبق أنّ الصلاة إذا زاحمت مع الإزالة تكون صحيحة للملاك غير مأمور بها لوجود الأمر بالإزالة.

وبهذا كلّه تحصل الرّابعة من صورة صحّة الصلاة في الغصب، وهي الصلاة في سعة الوقت إذا قلنا بأقوائيّة ملاكها عن ملاك الغصب، وصحّة الصلاة في بعض هذه الموارد لا يخلو من تأمّل أو منع، كما لا يخفى.

[التنبيه الثّاني]

{الأمر الثّاني} قال العلّامة المشكيني(رحمة الله): «لا يخفى أنّه بيّن في هذا المقام أُموراً ثلاثة: الأوّل: أنّ باب الاجتماع من باب التزاحم.

الثّاني: أنّ تخصيص الأضعف لا يوجب البطلان في موارد الأعذار.

الثّالث: بيان المرجّحات النّوعيّة للنهي»(1).

ص: 395


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 186.

قد مرّ - في بعض المقدّمات - : أنّه لا تعارض بين مثل خطاب (صلّ) وخطاب (لا تغصب) - على الامتناع - تعارُضَ الدليلين بماهما دليلان حاكيان، كي يقدّم الأقوى منهما دلالة أو سنداً، بل إنّما هو من باب تزاحم المؤثرين والمقتضيين، فيقدّم الغالب منهما، وإن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه.

هذا في ما إذا أحرز الغالب منهما، وإلّا كان بين الخطابين تعارضٌ، فيقدّم الأقوى منهما دلالة أو سنداً،

___________________________________________

وقد تقدّم الأوّل في الأمر التاسع والثّاني في العاشر فلا وجه للتكرار، فالأولى له ذكر الأخير فقط {قد مرّ في بعض المقدّمات أنّه لا تعارض بين مثل خطاب (صلّ) وخطاب (لا تغصب) على الامتناع} نحو {تعارض الدليلين بما هما دليلان حاكيان} عن المناط في كلّ واحد منهما {كي} يرجع فيهما إلى مرجّحات باب التعارض بأن {يقدّم الأقوى منهما دلالة} إذا أمكن الجمع الدلالي {أو} يقدّم الأقوى {سنداً} إذا لم يمكن الجمع الدلالي، وإذا لم يكن مرجّح يحكم بالتخيير، كما هو شأن كلّ خبرين متعارضين {بل إنّما هو من باب تزاحم المؤثرين والمقتضيين} فاللّازم الرّجوع إلى مرجّحات باب التزاحم {فيقدّم الغالب منهما} في التأثير والاقتضاء {وإن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه} أي: مقتضى الأوّل.

مثلاً: لو ورد بسند صحيح ودلالة ظاهرة (أنقذ المؤمن) وورد بدليل آخر ضعيف السّند والدلالة وجوب إنقاذ النّبي(صلی

الله علیه و آله)، فإنّه يقدّم إنقاذ النّبي(صلی

الله علیه و آله) على المؤمن لكون ملاك إنقاذ النّبي(صلی

الله علیه و آله) أقوى،وهذا بخلاف باب التعارض، فإنّه لو علمنا بعدم المقتضي لأحد الدليلين لزم ترجيح الأقوى دلالة ثمّ سنداً ثمّ التخيير كما تقدّم.

{هذا} كلّه {في ما إذا أحرز الغالب منهما} أي: من المقتضيين {وإلّا} فإن لم يحرز قوّة المناط في أحدهما مع دلالة كلّ منهما على وجود المقتضي {كان بين الخطابين تعارض، فيقدّم الأقوى منهما دلالة أو سنداً} حسب التفصيل المذكور في

ص: 396

وبطريق الإنّ يحرز به أنّ مدلوله أقوى مقتضياً.

هذا لو كان كلّ من الخطابين متكفّلاً لحكم فعلي، وإلّا فلا بدّ من الأخذ بالمتكفّل لذلك منهما لو كان، وإلّا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما يقتضيه الأصول العمليّة.

___________________________________________

باب التعادل والتراجيح {وبطريق الإنّ} وكشف العلّة من المعلول {يحرز به} أي: بالأقوى سنداً أو دلالة {أنّ مدلوله أقوى مقتضياً} وفيه نظر بيّن لا يخفى.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرناه من الرّجوع في المتزاحمين إلى المرجّحات السّندي والدلالي إنّما يتمّ في ما {لو كان كلّ من الخطابين متكفّلاً لحكم فعلي، وإلّا} فلو لم يكن كلاهما بصدد بيان الحكم الفعلي، بل أحدهما كان بصدد بيان الحكم الاقتضائي {فلا بدّ من الأخذ بالمتكفّل لذلك} أي: للحكم الفعلي {منهما}.

وبهذا يجمع بين هذين الحكمين فلا يقع التعارض، ولكن إنّما يجمع بينهما بهذا النّحو {لو كان} أحدهما فعليّاً والآخر اقتضائيّاً {وإلّا} فلو لم يعلم أهميّة أحدهما ولا كان أقوى دلالة أو سنداً في البين، ولا كان أحدهما اقتضائيّاًوالآخر فعليّاً - بأن كان كلاهما اقتضائيّاً بلا ترجيح - {فلا محيص عن الانتهاء إلى ما يقتضيه الأصول العمليّة} إذ الدليلان يتساقطان بعد التعارض، وحيث لا دليل على حكم الواقعة فالمرجع الأصول.

وبالجملة لا يخلو الأمر عن ثلاثة أحوال:

الأوّل: أن يكون كلا الدليلين متكفّلاً للحكم الفعلي، واللّازم هاهنا:

1 - الأخذ بالأهمّ.

2 - وإن لم يعلم الأهمّ يلزم الرّجوع إلى المرجّحات الدلاليّة والسّنديّة.

3 - فإن لم يكن مرجّح كان الحكم التخيير بينهما.

الثّاني: أن يكون كلاهما متكفّلاً للحكم الاقتضائي، ويلزم الرّجوع حينئذٍ إلى الأصل العملي لعدم الحكم الفعلي في الواقعة.

ص: 397

ثمّ لا يخفى: أنّ ترجيح أحد الدليلين وتخصيصَ الآخر به في المسألة، لا يوجب خروجَ مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأساً، كما هو قضيّة التقييد والتخصيص في غيرها، ممّا لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين،

___________________________________________

الثّالث: أن يكون أحد الدليلين متكفّلاً للحكم الفعلي والدليل الآخر متكفّلاً للحكم الاقتضائي، واللّازم حينئذٍ الأخذ بالحكم الفعلي وترك الحكم الاقتضائي، فتدبّر.

{ثمّ لا يخفى} أنّه فرق بين تخصيص أحد الدليلين في مسألتنا الّتي هي من باب التزاحم وبين تخصيصه في باب التعارض ل- {أنّ ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به في المسألة} أي: مسألة اجتماع الأمر والنّهي الّتي هي من مسائل بابالتزاحم {لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت} الدليل {الآخر رأساً}.

مثلاً: لو قدّمنا دليل (لا تغصب) على دليل (صلّ) كانت الصلاة في الغصب غير محكومة بالوجوب فعلاً، بل محرّمة باطلة، ولكن المصلحة الصلاتيّة موجودة فيها {كما هو قضيّة} جميع موارد باب التزاحم.

مثلاً: لو غرق نبيّ ومؤمن يكون إنقاذ المؤمن ذا مصلحة وإن كان الحكم الفعلي وجوب إنقاذ النّبي، وهذا بخلاف {التقييد والتخصيص في غيرهما} أي: غير هذه المسألة، وأشباهها من موارد التزاحم {ممّا لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين} بأن كان من باب التعارض، فإنّه لو خصّص أحد الدليلين بالآخر كان مورد الاجتماع خارجاً رأساً بحيث لا يكون فيه ملاك أصلاً.

مثلاً: لو قال المولى: (أكرم العلماء، ولا تكرم الفسّاق) وخصّصنا وجوب الإكرام بغير الفاسق كان العالم الفاسق خارجاً عن وجوب الإكرام حتّى ملاكاً، فلا يكون فيه مقتضى الإكرام رأساً لا فعلاً ولا شأناً.

ص: 398

بل قضيّته ليس إلّا خروجه في ما كان الحكم الّذي هو مفاد الآخر فعليّاً؛ وذلك لثبوت المقتضي في كلّ واحد من الحكمين فيها، فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثّراً لها - لاضطرارٍ أو جهل أو نسيان ٍ - كان المقتضي لصحّة الصلاة مؤثّراً لها فعلاً، كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى، أو لم يكن واحد من الدليلين دالّاً على الفعليّة أصلاً.

___________________________________________

ووجه الفرق بين هذين البابين ظاهر، فإنّ التزاحم إنّما يكون في ما كان لكلا الحكمين ملاك، وإنّما يقدّم أحدهما للأهميّة، بخلاف التعارض فإنّه لا يكون إلّاملاك واحد والآخر ليس فيه ملاك، كما تقدّم شطر من الكلام في هذا الباب.

{بل قضيّته} أي: مقتضى تخصيص أحد الدليلين بالآخر في باب التزاحم {ليس إلّا خروجه} أي: خروج المجمع {في ما كان الحكم الّذي هو مفاد الآخر فعليّاً} بأن كان المكلّف عالماً قادراً {وذلك} الّذي ذكرنا من عدم خروج مورد الاجتماع رأساً وإنّما يكون خارجاً في ظرف الفعليّة {لثبوت المقتضي في كلّ واحد من الحكمين} حتّى في مورد الاجتماع {فيها} أي: في مسألة اجتماع الأمر والنّهي، كسائر مسائل باب التزاحم.

ثمّ إنّ هذا الفرق بين باب التزاحم وباب التعارض مثمر في موارد العذر، فإنّه لو جهل حرمة إكرام العالم الفاسق وأكرمه لم يكن فيه إلّا المفسدة، بخلاف باب التزاحم {فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب} الواقعيّة {مؤثّراً لها} أي: للحرمة الفعليّة - {لاضطرار} إلى الغصب كالمحبوس {أو جهل أو نسيان - كان المقتضي لصحّة الصلاة مؤثّراً لها فعلاً} فتكون صحيحة كافية ذات مصلحة ملزمة ويكون حال هذه الصلاة في الصحّة والمصلحة {كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى} بل كان دليل الوجوب أقوى، أو كانا متساويين مع العذر {أو لم يكن واحد من الدليلين دالّاً على الفعليّة أصلاً} بل كانا في مقام بيان الحكم الاقتضائي فقط كما سبق.

ولا يذهب عليك أنّ الجهل والنّسيان ليسا عذراً على الإطلاق - كما نبّه عليه

ص: 399

فانقدح بذلك: فساد الإشكال في صحّة الصلاة - في صورة الجهل أو النّسيان ونحوهما - ، في ما إذا قدّم خطاب (لا تغصب)،كما هو الحال في ما إذا كان الخطابان من أوّل الأمر متعارضين، ولم يكونا من باب الاجتماع أصلاً؛ وذلك لثبوت المقتضي في هذا الباب، كما إذا لم يقع بينهما تعارضٌ، ولم يكونا متكفّلين للحكم الفعلي.

فيكون وزانُ التخصيص في مورد الاجتماع، وزانَ التخصيص العقلي النّاشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلاً،

___________________________________________

بعض الأعلام - بل ما كان منهما يعدّ عذراً عند العقلاء، فالغاصب غير المبالي إذا نسي وصلّى كان في صحّة صلاته نظر، إذ لا مجال له للاعتذار بأنّه كان ناسياً، بل النّسيان عذر لمن لم يكن يصلّي في المغصوب إذا كان ملتفتاً وحيث إنّ حديث الرّفع وارد في مورد الأعذار العقلائيّة كان المنصرف منه ما ذكر، فتدبر.

وكيف كان {ف-} قد {انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من صحّة الصلاة في موارد العذر لوجود ملاك الأمر بلا مزاحم {فساد الإشكال في صحّة الصلاة في صورة الجهل أو النّسيان ونحوهما} من سائر موارد العذر {في ما إذا قدّم خطاب (لا تغصب)} على خطاب (صلّ) {كما هو الحال} تمثيل للإشكال، يعني: أنّ المستشكل {في} صحّة الصلاة مثل ما نحن فيه بباب التعارض، أعني: {ما إذا كان الخطابان من أوّل الأمر متعارضين} بأن لم يكن ملاك إلّا في أحدهما {ولم يكونا من باب الاجتماع أصلاً} ولكن فساد هذا الإشكال غنيّ عن البيان {وذلك لثبوت المقتضي في هذا الباب} أي: باب الاجتماع ويكون المقتضي في المجمع عند التعارض {ك-} وجوده في {ما إذا لم يقع بينهما تعارض}أصلاً {ولم يكونا متكفّلين للحكم الفعلي}.

والحاصل: أنّه لو وجد مانع عن الأهمّ فعلاً فلا بدّ وأن يكون غير الأهمّ فعليّاً فيقع صحيحاً مجزياً، وعلى هذا {فيكون وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي النّاشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلاً} بحيث يكون

ص: 400

المختصّ بما إذا لم يمنع عن تأثيره مانع، المقتضي لصحّة مورد الاجتماع مع الأمر، أو بدونه في ما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي له، أو عن فعليّته، كما مرّ تفصيله.

وكيف كان، فلا بدّ في ترجيح أحد الحكمين من مرجّح، وقد ذكروا(1) لترجيح النّهي وجوهاً:

منها: أنّه أقوى دلالة؛ لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد، بخلاف الأمر.

___________________________________________

تخصيصاً في الفعليّة {المختصّ} ذلك التخصيص العقلي {بما إذا لم يمنع عن تأثيره مانع} وهذا وجه المماثلة بين التخصيص العقلي والتخصيص في مورد الاجتماع {المقتضي} هذا النّحو من التخصيص {لصحّة مورد الاجتماع مع الأمر أو بدونه} أي: بدون الأمر {في ما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي له} الضمير راجع ل- «النّهي» أي: إذا كان مانع للنهي، بحيث إنّ المقتضي له لم يؤثّر يكون مورد الاجتماع صحيحاً مع وجود الأمر {أو عن فعليّته} عطف على «تأثير المقتضي» أي: وإن كان مانع عن فعليّة النّهي يكون مورد الاجتماع صحيحاً بدون الأمر.وقوله: «في ما كان» الخ تفصيل لقوله: «مع الأمر أو بدونه» على نحو اللفّ والنّشر المرتّب {كما مرّ تفصيله} في الأمر العاشر.

{وكيف كان، فلا بدّ في ترجيح أحد الحكمين} الأمر والنّهي {من مرجّح} حتّى يحكم بصحّة مورد الاجتماع وعدمها {وقد ذكروا لترجيح النّهي وجوهاً}.

{منها}: ما حكي عن الإشارات(2)

من {أنّه} أي: النّهي {أقوى دلالة} من الأمر {لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد بخلاف الأمر} فإنّه يمتثل بإتيان فرد واحد.

مثلاً: النّهي عن الغصب لا يمتثل إلّا بترك جميع أفراد الطبيعة، بخلاف الأمر

ص: 401


1- قوانين الأصول 1: 152؛ الفصول الغرويّة: 127؛ مطارح الأنظار 1: 701.
2- إشارات الأصول: 226.

وقد أُورد عليه: بأنّ ذلك فيه من جهة إطلاق متعلّقه بقرينة الحكمة، لدلالة الأمر على الاجتزاء بأيّ فرد كان.

وقد أُورد عليه: بأنّه لو كان العموم المستفاد من النّهي بالإطلاق بمقدّمات الحكمة، وغيرَ مستند إلى دلالته عليه بالالتزام،

___________________________________________

بالصلاة، فإنّه يمتثل بإتيان فرد واحد.

{وقد أُورد عليه بأنّ ذلك} العموم {فيه} أي: في النّهي {من جهة إطلاق متعلّقه} أي: متعلّق النّهي، وهذا الإطلاق {بقرينة} مقدّمات {الحكمة} وعلى هذا فيكون دلالة النّهي {لدلالة الأمر على} العموم البدلي و{الاجتزاء بأيّ فرد كان} بمعونة مقدّمات الحكمة.والحاصل: أنّ ذات النّهي لا تدلّ على العموم، بل إذا كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة ولم يكن هناك قدر متيقّن فقال: (لا تغصب) أفادت المقدّمات حرمة جميع أفراد الطبيعة، بخلاف ما إذا لم يكن المولى في مقام البيان أو قال: (لا تغصب مال زيد) أو كان هناك قدر متيقّن، فإنّه لا يفهم العموم من النّهي.

وإذا ثبت أنّ العموم في النّهي مستفاد من الإطلاق فالأمر مثله. مثلاً: لو قال المولى: (صلّ) وتمّت مقدّمات الحكمة فهم جواز الإتيان بكلّ فرد من أفراد الطبيعة، منتهى الفرق أنّ النّهي للعموم الشّمولي والأمر للعموم البدلي، وحينئذٍ فهما سيّان في قوّة الدلالة وضعفها ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

{وقد أُورد عليه} أي: على هذا الإيراد {بأنّه} لا نسلّم أنّ العموم في النّهي مستفاد من مقدّمات الحكمة بل العموم مستفاد من ذات النّهي، إذ {لو كان العموم المستفاد من النّهي بالإطلاق بمقدّمات الحكمة وغير مستند إلى دلالته} أي: النّهي {عليه} أي: على العموم {بالالتزام} وإنّما قال: «بالالتزام» لأنّ النّهي يدلّ على

ص: 402

لكان استعمال مثل: (لا تغصب) في بعض أفراد الغصب حقيقةً، وهذا واضح الفساد، فتكون دلالته على العموم من جهة أنّ وقوع الطبيعة في حيّز النّفي أو النّهي يقتضي عقلاً سريانَ الحكم إلى جميع الأفراد؛ ضرورة عدم الانتهاء عنها أو انتفائها إلّا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه.

قلت: دلالتهما على العموم والاستيعاب - ظاهراً - ممّا لا يُنكر، لكنّه من الواضح: أنّ العموم المستفاد منهما

___________________________________________

ترك الطبيعة، والطبيعة حيث كانت متحقّقة في جميع الأفراد فهو دالّ مطابقةً على الأوّل، والتزاماً على الثّاني {لكان استعمال مثل: (لا تغصب) في بعض أفراد الغصب حقيقةً} حيث لا تكون مقدّمات الحكمة {وهذا} أي: كون الاستعمال في البعض حقيقة {واضح الفساد} إذ استعمال النّهي مطلقاً وبلا قرينة وإرادة الخصوصيّة ممّا لا يظهر من لفظ النّهي، بل الظاهر منه الإطلاق، فيكون إرادة البعض مجازاً.

وعلى هذا {فتكون دلالته على العموم} لا بالمقدّمات، بل بذاته {من جهة أنّ وقوع الطبيعة} العارية عن القرينة {في حيّز النّفي أو النّهي يقتضي عقلاً سريان الحكم إلى جميع الأفراد} على نحو الاستيعاب.

وإنّما قلنا بالسريان عقلاً ل- {ضرورة عدم الانتهاء عنها} أي: عن الطبيعة في النّهي {أو انتفائها} في النّفي {إلّا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه}.

وبهذا يظهر الفرق بين الأمر والنّهي، ويتبيّن أقوائيّة دلالة النّهي، فيقدّم على الأمر في مرحلة التعارض، وتكون الصلاة في الدار المغصوبة باطلاً.

{قلت}: هذا الرّدّ على ردّ كلام الإشارات باطل، إذ {دلالتهما} أي: النّفي والنّهي {على العموم والاستيعاب ظاهراً} وإن كان {ممّا لا ينكر، لكنّه} يقع الكلام في أنّ هذا العموم مستفاد من الإطلاق فقط أو من العقل فقط أو من مجموعهما؟ والحقّ هو الأخير، إذ {من الواضح أنّ العموم المستفاد منهما} أي: من النّفي والنّهي

ص: 403

كذلك، إنّما هو بحسب ما يراد من متعلّقهما، فيختلف سعة وضيقاً، فلا يكاد يدلّ على استيعاب جميع الأفراد، إلّا إذاأُريد منه الطبيعة مطلقة وبلا قيدٍ، ولا يكاد يستظهر ذلك - مع عدم دلالته عليه بالخصوص - إلّا بالإطلاق وقرينة الحكمة، بحيث لو لم يكن هناك قرينتها - بأن يكون الإطلاق في غير مقام البيان - لم يكد يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة،

___________________________________________

{كذلك} أي: على نحو الاستيعاب {إنّما هو بحسب ما يراد من متعلّقهما، ف-} لهذا {يختلف} هذا العموم {سعة وضيقاً} بحسب سعة المتعلّق وضيقه. مثلاً: لو قال: (لا تغصب يوم الجمعة) كان العموم المستفاد منه أضيق ممّا لو قال: (لا تغصب شهر محرّم) وهكذا.

وعلى هذا {فلا يكاد يدلّ} النّهي {على استيعاب جميع الأفراد إلّا إذا أُريد منه} أي: من المتعلّق نفس {الطبيعة مطلقة وبلا قيد} بأن لا تكون مهملة ولا مقيّدة {ولا يكاد يستظهر ذلك} الإطلاق والشّمول لجميع الأفراد {مع} فرض {عدم دلالته عليه بالخصوص إلّا بالإطلاق وقرينة الحكمة} يعني بعد ما لم يكن العموم في متعلّق النّهي لفظيّاً، فلا بدّ وأن يستفاد العموم من مقدّمات الحكمة {بحيث لو لم يكن هناك قرينتها} أي: قرينة الحكمة {بأن يكون الإطلاق في غير مقام البيان لم يكد يستفاد} من اللفظ {استيعاب أفراد الطبيعة} أصلاً.

وتوضيح المقام: أنّ العموم المستفاد من النّهي إنّما هو بأمرين: الإطلاق والعقل إذ لو لم يكن المتعلّق مطلقاً - بأن كان مهملاً أو مقيّداً - لم يحكم العقل إلّا بانتفاء أفراد ذاك المهمل أو المقيّد - لا العموم.

مثلاً: (لا تغصب في يوم الجمعة) لا يدلّ عقلاً إلّا على استيعاب أفراد الطبيعةالمقيّدة بيوم الجمعة، وبهذا تبيّن أنّ دلالة العقل وحدها غير كافية في الحكم بعموم المتعلّق وإنّما يحتاج العموم إلى الإطلاق علاوة على العقل، فكون النّهي عن المطلق يفهم من المقدّمات، وكون المطلق يستلزم الاستيعاب يفهم من دلالة

ص: 404

وذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلّق؛ إذ الفرض عدم الدلالة على أنّه المقيّد أو المطلق.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ في دلالتهما على الاستيعاب كفايةً ودلالةً على أنّ المراد من المتعلّق هو المطلق

___________________________________________

العقل بالسراية.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّه لو لم نحرز الإطلاق من المقدّمات لا يكون عموم {لا ينافي دلالتهما} أي: النّهي والنّفي لغة وعرفاً {على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلّق} وجه المنافاة أنّ بعد وضعهما للعموم كيف نحتاج إلى مقدّمات الحكمة، ووجه عدم المنافاة أنّهما إنّما وضعا لاستيعاب ما أُريد من المتعلّق فلو أُريد من المتعلّق قسم خاصّ أفادا الاستيعاب في ذلك القسم الخاصّ، وإن أُريد من المتعلّق الطبيعة أفاد الاستيعاب في تمام الطبيعة.

والحاصل: أنّهما لا يجعلان المتعلّق عامّاً وإنّما يستوعبان ما أُريد به {إذ الفرض عدم الدلالة} للنهي والنّفي {على أنّه} أي: المتعلّق {المقيّد أو المطلق} فحالهما حال (كلّ)، فكما أنّه لا يتكفّل عموم المدخول، بل يتكفّل التعميم في المدخول. مثلاً: لو قال: (أكرم كلّ عالم) فإنّ (كلّ) يشمل أفراد العالم، لا أنّه يعمّم المدخول حتّى يشمل جميع أفراد الإنسان، كذلك النّهي والنّفي إنّما يتكفّلان شمول أفراد المتعلّق ولا يتكفّلانتعميمه حتّى يشمل جميع أفراد الطبيعة.

{اللّهمّ إلّا أن يقال}: لا نحتاج في عموم المتعلّق إلى قرينة الحكمة، بل {إنّ في دلالتهما} أي: النّهي والنّفي {على الاستيعاب كفاية} فوقوع الطبيعة في حيّزهما كافٍ في إفادة العموم من غير احتياج إلى شيء آخر، إذ كما أنّ مقدّمات الحكمة من قرائن الإطلاق كذلك الوقوع في سياق النّفي أو النّهي من قرائن الإطلاق.

{و}

الحاصل: أنّ في نفس الوقوع في حيّزهما {دلالة على أنّ المراد من المتعلّق هو المطلق}

ص: 405

- كما ربّما يدّعى(1) ذلك في مثل: (كلّ رجل) - وأنّ مثل لفظة (كلّ) يدلّ على استيعاب جميع أفراد الرّجل، من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة، بل يكفي إرادة ما هو معناه - من الطبيعة المهملة ولا بشرط - في دلالته على الاستيعاب، وإن كان لا يلزم مجاز أصلاً لو أُريد منه خاصّ بالقرينة، لا فيه؛

___________________________________________

الشّمولي {كما ربّما يدّعى ذلك في مثل: (كلّ رجل) و} توضيحه {أنّ مثل لفظة (كلّ) يدلّ على استيعاب جميع أفراد الرّجل} وكذا الألف واللّام الاستغراقي، فإنّه أيضاً بنفسه يدلّ على عموم المتعلّق {من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة}.

إن قلت: الطبيعة الّتي هي مدخول (كلّ) لا تخلو عن ثلاثة أحوال:

الأوّل: الإطلاق.

الثّاني: التقييد.الثّالث: الإهمال، فإن أُريد منها قبل دخول (كلّ) الإطلاق تمّت مقدّمات الحكمة ولا مجال للقول بإفادة (كلّ) له، وإن أُريد التقييد فلا إطلاق حتّى يقع الكلام في ما يفيده، وإن أُريد الإهمال فأين الإطلاق المستفاد من (كلّ).

قلت: {بل} المراد من المتعلّق هو الطبيعة المهملة، و{يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة ولا بشرط في دلالته على الاستيعاب} فالطبيعة قبل دخول (كلّ) مهملة وببركة دخوله ينعقد لها الإطلاق، كما أنّ قبل تماميّة مقدّمات الحكمة يكون اللفظ مهملاً ولا بشرط وبعد تماميّتها ينعقد الإطلاق.

{و} إن قلت: {إن كان} المتعلّق بنفس كونه في حيّز (كلّ) مفيداً للعموم لزم أو أُريد منه الخصوص، كما تقدّم.

قلت: {لا يلزم مجاز أصلاً لو أُريد منه خاصّ بالقرينة لا فيه} أي: في لفظ (كلّ)

ص: 406


1- الفصول الغرويّة: 161؛ قوانین الأصول 1: 197.

لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول، ولا فيه إذا كان بنحو تعدّد الدالّ والمدلول؛ لعدم استعماله إلّا في ما وضع له، والخصوصيّةُ مستفادة من دالّ آخر، فتدبّر.

ومنها: أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وقد أورد عليه - في القوانين(1) - بأنّه مطلقاً ممنوع؛

___________________________________________

{لدلالته على استيعاب افراد ما يراد من المدخول} وفي المقام يفيد ذلك، فإنّ (كلّ رجل عالم) يراد منه استيعاب أفراد العالم {ولا فيه} أي: في المدخول {إذا كان} إرادة الخاصّ{بنحو تعدّد الدالّ والمدلول} كأن يراد من (رجل) معناه الموضوع له، ويراد من (العالم) معناه الموضوع له، لا أن يراد من (الرّجل) القسم الخاصّ منه، حتّى يستلزم استعمال المطلق في المقيّد ويكون مجازاً، وسيأتي أنّ غالب استعمال المطلقات في المقيّدات من هذا النّحو وأنّه ليس بمجاز {لعدم استعماله} أي: المدخول {إلّا في ما وضع له، والخصوصيّة مستفادة من دالّ آخر} وهكذا نقول في متعلّق الأمر والنّهي، فإنّ الدلالة على العموم بنفس كونه في حيّزهما لا يستلزم المجازيّة في ما أُريد منه خاصّ بالقرينة {فتدبّر} لعلّه إشارة إلى عدم كون ما في حيّز النّفي والنّهي مثل مدخول (كلّ)، واللّه العالم.

{ومنها} أي: من الأُمور الّتي ذكروها لترجيح النّهي على الأمر {أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة} فإذا دار الأمر بين الصلاة في الغصب الموجبة لجلب المفسدة والضرر الغصبي وجلب المنفعة والمصلحة الصلاتيّة وبين ترك الصلاة الموجب لدفع المفسدة - أي: عدم ارتكابها - وعدم الوصول إلى المنفعة الصلاتيّة، فاللّازم ترك الصلاة دفعاً للمفسدة لا إتيان الصلاة جلباً للمصلحة.

{وقد أورد عليه - في القوانين - بأنّه} أي: كون فعل الواجب لجلب المنفعة {مطلقاً} أي: سواء كان له أفراد أُخر أم لا {ممنوع} وجه المنع ما ذكره بقوله:

ص: 407


1- قوانين الأصول 1: 153.

لأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا تعيّن.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنّ الواجب - ولو كان معيّناً - ليس إلّا لأجل أنّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها، من دون أن يكون في تركه مفسدة، كما أنّ الحرام ليس إلّا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه.

___________________________________________

{لأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا تعيّن} الواجب في فرد، فإن كان الواجب ذا أفراد عقليّاً كانت الأفراد أم شرعيّاً لم يكن في ترك البعض مفسدة، أمّا إذا تعيّن الواجب عقلاً وشرعاً في فرد، كما إذا كان في ضيق الوقت بحيث لا يتمكّن إلّا من إتيان فرد فقط، فإنّه حينئذٍ يكون في ترك هذا الفرد مفسدة، ويدور الأمر حينئذٍ بين مفسدتين:

إمّا ملاحظة الغصب وترك الصلاة فيكون قد وقع في مفسدة ترك الصلاة.

وإمّا ملاحظة الصلاة وفعل الغصب فيكون قد وقع في مفسدة الغصب. بل قد يقال: إنّ الثّاني أولى لإحرازه مصلحة الصلاة بخلاف الأوّل، إذ لا مصلحة فيه أصلاً.

{و} لكن {لا يخفى ما فيه} فإنّا لا نسلّم أنّ في ترك الواجب مفسدة {فإنّ الواجب ولو كان معيّناً} في فرد {ليس إلّا لأجل أنّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة} ولو سمّي بذلك لكان مسامحة في التعبير، ولذا ترى أنّه لا حكم على الترك، إذ لا ينشأ حكمان على طرفي الشّيء بأن ينشأ الإيجاب على الفعل، والتحريم على الترك. نعم، في الترك عقوبة {كما أنّ الحرام ليس إلّا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه} موجبة لإنشاء الوجوب.

ولنا في هذا الكلام تأمّل، إذ الإيجاب والتحريم تابعان للثواب والعقاب أو المصلحة والمفسدة، لا أنّهما تابعان للإرادة، إذ لا تنقدح الإرادة في الباري - جلّ وعلا - . وعلى هذا فلا مانع من إنشاء حكمين على طرفي أمر واحد، لوجود

ص: 408

ولكن يرد عليه: أنّ الأولويّة مطلقاً ممنوعة، بل ربّما يكونالعكس أولى، كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرّمات مع ترك بعض الواجبات، خصوصاً مثل الصلاة وما يتلو تلوها.

___________________________________________

المصلحة والثّواب في فعله والمفسدة والعقاب في تركه أو بالعكس.

مثلاً: إذا كان في شرب الخمر عقاب وفي تركه ثواب، لا مانع من إنشاء التحريم على الفعل والإيجاب على الترك.

إن قلت: لا احتياج إلى الإنشاء الثّاني، فإنّ الأوّل كاف في الباعثيّة.

قلت: بل يحتاج إليه، إذ من النّاس من يستهين بترك المصلحة في ما لو كان في الواجب مصلحة فقط بدون أن يكون في تركه مفسدة، فإنشاء التحريم في الطرف الآخر الكاشف عن المفسدة باعث نحو العمل أو مؤكّد له، كما لا يخفى، فتدبّر.

{ولكن يرد عليه} أي: على هذا المرجّح الّذي ذكروه من أنّ دفع المفسدة أولى {أنّ الأولويّة} لدفع المفسدة على جلب المنفعة {مطلقاً} في جميع المقامات {ممنوعة، بل ربّما يكون العكس} أي: جلب المنفعة {أولى} من دفع المفسدة {كما يشهد به} أي: بكون العكس أولى {مقايسة فعل بعض المحرّمات مع ترك بعض الواجبات} في الشّرع والعرف، فإنّا لا نشكّ في أنّ جلب منفعة ألف دينار للرجل الفقير أولى من دفع مفسدة أَرَقِ ليلةٍ، وكذا في الشّرعيّات {خصوصاً مثل الصلاة وما يتلو تلوها} في الأهميّة كالزكاة والحجّ، فلو دار الأمر بين فعل الصّلاة واستماع الغناء وبين ترك الصلاة ودفع مفسدة الاستماع، فلا شكّ في أولويّة الأوّل.

وبهذا تحقّق أنّ بين الأولويّتين تبادل فقد يكون جلب المنفعة أولى، وقديكون دفع المفسدة أولى.

ص: 409

ولو سلّم فهو أجنبيّ عن المقام؛ فإنّه في ما إذا دار الأمر بين الواجب والحرام.

___________________________________________

{ولو سلّم} كليّة الكبرى وأنّ دفع المفسدة مطلقاً أولى {فهو} أي: ضابط أنّ دفع المفسدة أولى {أجنبيّ عن المقام، فإنّه في ما إذا دار الأمر بين الواجب والحرام} بأن يكون هناك شيء واحد لا يعلم أنّه واجب أو حرام.

كما لو تردّدت المرأة بين الأجنبيّة الّتي يحرم وطيها وبين الزوجة رأس أربعة أشهر الّتي يجب وطيها، فإنّ ترك الوطي الّذي فيه دفع مفسدة الزنا المحتمل أولى من الوطي الّذي فيه جلب منفعة الوجوب المحتمل.

هذا مثال للشبهة الموضوعيّة، وأمّا الشّبهة الحكميّه، فكما لو تردّدت صلاة الجمعة بين الوجوب والحرمة.

وعلى كلٍّ فهذه القاعدة إنّما هي في مثل هذه الموارد، لا في ما قام دليلان للوجوب والحرمة، وحكم العقل بامتناع الاجتماع، ولم يعلم ترجيح أحدهما على الآخر من الخارج.

وفيه تأمّل، إذ هذه الصلاة في الغصب أيضاً أمرها دائر بين الوجوب والحرمة، فعدم انطباق القاعدة عليها غير معلوم.

وقد علّل المصنّف(رحمة الله) عدم انطباق القاعدة على ما نحن فيه في الهامش بما لفظه: «فإنّ الترجيح به» أي: بضابط دفع المفسدة أولى «إنّما يناسب ترجيح المكلّف واختياره للفعل أو الترك بما هو أوفق بغرضه» فعند وجود المصلحة والمفسدة في كلّ من الفعل أو الترك يلزم ترجيح دفع المفسدة على جلب المنفعة و«لا» يناسب هذه القاعدة «المقام» الّذي نحن فيه «وهو» مقام«جعل الأحكام» من المولى «فإنّ المرجّح هناك ليس إلّا حسنها وقبحها العقليّان» إذ عند المولى لا يكون إلّا وجوب أو تحريم في المجمع لأجل الكسور والانكسار

واضمحلال أحدهما «لا موافقة الأغراض ومخالفتها، كما لا يخفى» ولكن

ص: 410

ولو سلّم فإنّما يُجدي في ما لو حصل القطع.

ولو سلّم أنّه يجدي ولو لم يحصل، فإنّما يجري في ما لا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال، كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيّين، لا في ما يجري، كما في محلّ الاجتماع؛

___________________________________________

«تأمّل» حتّى «تعرف» عدم صحّة هذا الفرق(1).

{ولو سلّم} أنّ مقامنا من صغريات القاعدة {فإنّما يجدي} التمسّك بقاعدة الأولويّة {في ما لو حصل القطع} بالأولويّة، وأمّا ما نحن فيه فإنّما يحصل الظنّ بها والأولويّة الظنيّة لا يصحّ الاعتماد عليها في الترجيح {ولو سلّم أنّه} أي: الظنّ بالأولويّة {يجدي} في مقام الترجيح {ولو لم يحصل} القطع {فإنّما يجري في ما لا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال} وقد مثّل لما لا يكون فيه مجال لأصالة البراءة والاشتغال بقوله: {كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيّين} مثل ما لو لم يعلم بحرمة صلاة الجمعة أو وجوبها، فإنّهلا مجال لأصل البراءة للعلم بالتكليف الإلزامي.

وإنّما تجري البراءة في ما لم يعلم بالإلزام أصلاً. وكذلك لا مجال لأصالة الاشتغال والاحتياط لعدم التمكّن من الموافقة القطعيّة، وإنّما يجري الاشتغال في ما يمكن فيه الموافقة القطعيّة، وحيث دار الأمر بين المحذورين بلا قاعدة شرعيّة في المقام فالعقل يحكم بالتخيير بين الفعل والترك ما لم يحتمل الأهميّة في أحد الطرفين، ولو احتملت بموافقة محتمل الأهميّة لدوران الأمر بين التعيين والتخيير.

فتحصّل: أنّ التقديم بالأولويّة الظنيّة إنّما يكون في ما لا يجري فيه الأصلان {لا في ما يجري، كما في محلّ الاجتماع} بين الصلاة والغصب.

ص: 411


1- راجع حاشية السّيّد الحكيم مدّ ظلّه، حقائق الأصول 1: 414؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 194.

لأصالة البراءة عن حرمته، فيحكم بصحّته، ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشّكّ في الأجزاء والشّرائط، فإنّه لا مانع عقلاً إلّا فعليّة الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلاً ونقلاً.

___________________________________________

قال السّيّد الحكيم: «والفرقُ بينه وبين مورد الدوران بين الوجوب والحرمة أنّه في ذلك المورد يعلم بثبوت أحد الحكمين واقعاً والشّكّ في الثّابت منهما، وفي المقام لا يعلم بذلك، بل يحتمل أن يكون أحدهما أقوى مقتضياً فيثبت، وأن يكونا متساويين فيسقطان معاً لعدم المرجّح، فحيث لم يعلم الإلزام كان احتمال ثبوت الحرمة لغلبة مقتضيها مجرى {لأصالة البراءة»(1) عن حرمته فيحكم بصحّته}.

إن قلت: أصالة البراءة عن الحرمة معارضة بأصالة عدم الوجوب، فتتساقطان ويكون المقام من باب الدوران لعدم جريان أصل معتبر فيه.قلت: لا معنى لأصالة عدم الوجوب؛ لأنّا نعلم بوجوب الصلاة تخييراً بين الأفراد، فتدبّر.

{و} إن قلت: {لو قيل بقاعدة الاشتغال في الشّكّ في الأجزاء والشّرائط} كان ما نحن فيه مجرى للاشتغال لا للبراءة، فاللّازم الحكم ببطلان الصلاة في المجمع.

قلت: فرق بين ما نحن فيه وبين الشّكّ في الأجزاء والشّرائط {فإنّه} في ما نحن فيه {لا مانع عقلاً} عن صحّة الصلاة {إلّا فعليّة الحرمة} للغصب {المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلاً ونقلاً} فلا مانع عن صحّة الصلاة، بخلاف الشّكّ في الجزئيّة والشّرطيّة فإنّ إجراء البراءة عن المشكوك لا يوجب العلم بصحّة باقي الأجزاء، فيلزم الإتيان بالجزء المحتمل تحصيلاً لليقين بالبراءة.

وبعبارة أُخرى: إنّه لو أجرينا البراءة في الجزء المشكوك لا نتيقّن بالصحّة لاحتمال أن يكون جزءاً واقعاً، بخلاف ما لو أجرينا البراءة عن الحرمة في المجمع

ص: 412


1- حقائق الأصول 1: 415.

نعم، لو قيل بأنّ المفسدة الواقعيّة الغالبة مؤثّرة في المبغوضيّة ولو لم يكن الغلبة بمحرزة، فأصالة البراءة غير مجدية، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب - لو كان عبادة - محكمةً، ولو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء والشّرائط؛ لعدم تأتّي قصدِ القربة مع الشّكّ في المبغوضيّة،

___________________________________________

فإنّه نتيقّن بالصحّة، إذ مع فرض الحرمة الواقعيّة لا تؤثّر في البطلان، فإنّ المانع من صحّة المجمع هي الحرمة الفعليّة ولا حرمة فعليّة حينئذٍ لفرض جريان البراءة، فتدبّر.{نعم، لو قيل بأنّ المفسدة الواقعيّة} في الغصب {الغالبة} على مصلحة الأمر {مؤثّرة في المبغوضيّة ولو لم يكن الغلبة بمحرزة} للفاعل {فأصالة البراءة غير مجدية} وفي صحّة العبادة المأتي بها {بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب - لو كان عبادة - محكّمة} فتكون الصلاة باطلة {ولو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء والشّرائط}.

إن قلت: إذا قلنا بأصالة البراءة في الشّكّ والأجزاء والشّرائط فلا وجه للقول بأصالة الاشتغال في الصلاة الواقعة في المغصوب، إذ هما من واد واحد.

قلت: فرق بينهما {لعدم تأتّي قصد القربة مع الشّكّ في المبغوضيّة} في الصلاة الواقعة في الغصب؛ لأنّه مع احتمال غلبة المفسدة كيف يتمكّن المكلّف من قصد القربة، بخلاف الشّكّ في الجزئيّة والشّرطيّة.

وبعبارة أوضح: الشّكّ في الجزئيّة مسبّب عن الشّكّ في تعلّق التكليف، فإذا ارتفع بالبراءة حكم بصحّة الصلاة، بخلاف الشّكّ في صحّة الصلاة النّاشئ عن الشّكّ في غلبة أيّ واحد من المفسدة والمصلحة، فإنّه لا مجال لإجراء البراءة عن المفسدة، وإذا بقي الشّكّ في غلبة المفسدة أو المصلحة لم يتمكّن المكلّف من قصد القربة.

ص: 413

فتأمّل.

___________________________________________

وهذا المقال يحتاج إلى تنقيح لا يسعه المقام، فإنّه قد يقال بأنّ صحة الصلاة وفسادها مبتنية على مسألة الشّكّ في الأقلّ والأكثر، وقد يقال بصحّة الصلاة مطلقاً ولو قيل في تلك المسألة بالاشتغال، وقد يقال ببطلان الصلاة ولو قيل هناك بالبراءة.

وللمصنّف(رحمة الله) تعليقة على قوله: «نعم، لو قيل» وهذا لفظه: «كما هوغير بعيد كلّه، بتقريب أنّ إحراز المفسدة والعلم بالحرمة الذاتيّة كافٍ في تأثيرها بما لها من المرتبة، ولا يتوقّف تأثيرها كذلك على إحرازها بمرتبتها، ولذا كان العلم بمجرّد حرمة شيء موجباً لتنجّز حرمته على ما هي عليه من المرتبة ولو كانت في أقوى مراتبها ولاستحقاق العقوبة الشّديدة على مخالفتها حسب شدّتها، كما لا يخفى.

هذا لكنّه إنّما يكون إذا لم يحرز أيضاً ما يحتمل أن يزاحمها ويمنع عن تأثيرها المبغوضيّة، وأمّا معه فيكون الفعل كما إذا لم يحرز أنّه ذو مصلحة أو مفسدة ممّا لا يستقلّ العقل بحسنه أو قبحه، وحينئذٍ يمكن أن يقال بصحّة عبادة لو أتى بها بداعي الأمر المتعلّق بما عليه من الطبيعة، بناءً على عدم اعتبار أزيد من إتيان العمل قُرْبِيّاً في العبادة وامتثالاً للأمر بالطبيعة وعدم اعتبار كونه ذاتاً راجحاً.

كيف ويمكن أن لا يكون جلّ العبادات ذاتاً راجحاً، بل إنّما يكون كذلك في ما إذا أتى بها على نحو قربيٍّ؟.

نعم، المعتبر في صحّة العبادة إنّما هو أن لا يقع منه مبغوضاً عليه، كما لا يخفى، وقولنا: {فتأمّل} إشارة إلى ذلك»(1)، انتهى.

وحاصله - بلفظ العلّامة المشكيني(رحمة

الله) - : «أنّ العبادة إنّما يشترط فيها عدم

ص: 414


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 201.

ومنها: الاستقراء، فإنّه يقتضي ترجيحَ جانب الحرمة على جانب الوجوب، كحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار، وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين.

___________________________________________

المبغوضيّة، وأمّا الحسن فعلاً أو ذاتاً فلا، إذ ربّما يتعلّق أمر عباديّ بشيء من دونرجحان في متعلّقه، لكون الغرض متعلّقاً بإتيانه بداعي الأمر، لا أنّ في الفعل مصلحة موجبة لحسنه ذاتاً أو فعلاً، والمبغوضيّة مقطوعة العدم بواسطة البراءة»(1)،

انتهى.

ولا يخفى أنّه لو تمّ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) في الهامش يكون مؤيّداً للقول بصحّة العبادة في المجمع حتّى على القول بالاشتغال في الأقلّ والأكثر، ولكنّه غير تامّ.

{ومنها}: أي: من الأُمور الّتي ذكروها لترجيح النّهي على الأمر في المجمع {الاستقراء، فإنّه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب} فإنّه كلّما تتبّعنا كلمات الشّارع رأينا أنّه حرّم الفعل الّذي يدور أمره بين الوجوب والحرمة {كحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار} وهي الأيّام الّتي ترى المرأة الدم بعد تمام العادة قبل العشرة.

مثلاً: لو كانت عادة المرأة في كلّ شهر ثلاثة أيّام، ثمّ رأت الدم بعدها، فبين الثّلاثة والعشرة تسمّى بأيّام الاستظهار، وهذا الدم المرئي في أيّام الاستظهار إن تجاوز العشرة كان استحاضة وإن انقطع عليها كان حيضاً، فيدور أمر الصلاة في هذه الأيّام بين الحرمة، لاحتمال الحيضيّة، وبين الوجوب؛ لاحتمال الاستحاضيّة، والشّارع حكم بعدم الصلاة فيها، وهكذا غيرها من سائر أيّام الاستظهار.

{وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين} أحدهما طاهر والآخر نجس، فإنّ الشّارع أمر بإراقتهما مع انحصار الماء فيهما، والتيمّم للصلاة مع دوران الأمر بين

ص: 415


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 200.

وفيه: أنّه لا دليل على اعتبار الاستقراء ما لم يُفد القطع.ولو سلّم فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار.

ولوسلّم فليس حرمة الصلاة في تلك الأيّام، ولا عدمُ جواز الوضوء منهما مربوطاً بالمقام؛ لأنّ حرمة الصلاة فيها إنّما تكون لقاعدة الإمكان

___________________________________________

وجوب الوضوء مقدّمة للصلاة وحرمته لنجاسة الماء.

{وفيه أنّه لا دليل على اعتبار الاستقراء ما لم يفد القطع} بل الأدلّة النّاهية عن العمل على الظنّ تدلّ على حرمة الأخذ به.

{ولو سلّم} حجيّة الاستقراء ولو لم يفد القطع {فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار} إذ أقلّ ما يعتبر في الاستقراء ملاحظة غالب الجزئيّات حتّى نصل إلى حكم الكلّي، وفي ما نحن فيه ليس كذلك فإنّه لم نجد في الشّريعة إلّا هذين المثالين.

{ولو سلّم} أنّ الاستقراء يثبت ولو بملاحظة حال شيئين أو ثلاثة {ف-} نقول: لم نجد في ما بأيدينا من الأحكام حتّى مورداً واحداً دار أمره بين الوجوب والحرمة وقدّم الشّارع الحرمة، والمثالان المذكوران ليسا ممّا نحن فيه، إذ {ليس حرمة الصلاة في تلك الأيّام} أي: أيّام الاستظهار {ولا عدم جواز الوضوء منهما} أي: من الإناءين المشتبهين {مربوطاً بالمقام}.

أمّا مسألة ترك الصلاة في أيّام الاستظهار فلوجوه ثلاثة:

الأوّل: {لأنّ حرمة الصلاة فيها} أي: في أيّام الاستظهار {إنّما تكون لقاعدة الإمكان} وهي قاعدة مسلّمة في الفقه مدلول عليها بالأخبار، وهي: كلّما أمكن أن يكون حيضاً فهو حيض، فالحكمبترك الصلاة مستند إلى هذا الدليل فهو خارج عن محلّ الكلام، إذ محلّ الكلام ما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة الذاتيّة، مع عدم أمارة أو أصل في أحد الطرفين.

ص: 416

والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضاً، فيحكم بجميع أحكامه، ومنها حرمة الصلاة عليها، لا لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدّعى.

هذا لو قيل بحرمتها الذاتيّة في أيّام الحيض، وإلّا فهو خارج عن محلّ الكلام.

___________________________________________

{و} أيضاً يستند ترك الصلاة في بعض صور الاستظهار إلى {الاستصحاب} والقاعدة كليهما {المثبتين لكون الدم حيضاً} وإذا ثبت كون الدم حيضاً {فيحكم بجميع أحكامه، ومنها} أي: من تلك الأحكام {حرمة الصلاة عليها} أي: على الحائض.

والحاصل: أنّ ترك الصلاة في بعض صور أيّام الاستظهار مستند إلى القاعدة فقط كاستظهار المبتدئة، وفي بعض صورها يستند إلى استصحاب الحيض والقاعدة كليهما، كالاستظهار بعد العادة قبل العشرة، و{لا} يكون ترك الصلاة {لأجل تغليب جانب الحرمة} على جانب الوجوب {كما هو المدّعى}.

الثّاني: ما أشار إليه بقوله: {هذا لو قيل بحرمتها الذاتيّة في أيّام الحيض} بحيث تكون الصلاة فيها مثل سائر المحرّمات، كشرب الخمر ونحوه {وإلّا} نقل بحرمتها الذاتيّة بل قلنا بحرمتها التشريعيّة - بمعنى استناد العمل إلى أمر الشّارع - {فهو} أي: فهذاالمثال {خارج عن محلّ الكلام} لما تقدّم من أنّ الكلام في الحرمة الذاتيّة(1).

الثّالث: ما أشار إليه المشكيني(رحمة الله): «من أنّ وجوب ترك العبادة ليس أمراً مسلّماً، بل المشهور على استحباب الاستظهار في ما بعد أيّام العادة»(2)،

انتهى.

ص: 417


1- أي: إذا كانت حرمة صلاة الحائض حرمة تشريعيّة لا يدور حال الفعل بين الحرمة والوجوب، بل تكون في صورة عدم قصد التشريع بل قصد الاحتياط غير محرّم قطعاً، وفي صورة قصد التشريع غير واجب قطعاً، بل محرّم قطعاً؛ لأنّه نسبة ما لم يعلم أنّه من الشّارع إليه، فتدبّر جيّداً.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 203.

ومن هنا انقدح: أنّه ليس منه ترك الوضوء من الإناءين؛ فإنّ حرمة الوضوء من الماء النّجس ليس إلّا تشريعيّاً، ولا تشريع في ما لو توضّأ منهما احتياطاً، فلا حرمة في البين غُلّب جانبها. فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك، - بل إراقتهما كما في النّصّ - ليس إلّا من باب التعبّد، أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب؛

___________________________________________

{ومن هنا} أي: ممّا ذكرنا أنّه إذا كانت الحرمة تشريعيّة، فهو خارج عن محلّ الكلام {انقدح} خروج مثال الإناءين المشتبهين عن محلّ الكلام، و{أنّه ليس منه} أي: من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة {ترك الوضوء من الإناءين} وقد بيّن وجه الانقداح بقوله: {فإنّ حرمة الوضوء من الماء النّجس ليس إلّا تشريعيّاً} إذ قصد التعبّد بالوضوء بالماء الّذي لم يعلم طهارته تشريع، بدليل أنّه إذا لم يقصد التعبّد لم يكن محرّماً قطعاً.{و} على هذا ف- {لا تشريع في ما لو توضّأ منهما احتياطاً} فلو قصد التشريع كان محرّماً قطعاً بلا وجوب أصلاً ولو لم يقصد التشريع وقصد الاحتياط لم يكن محرّماً {ف-} لا دوران بين الوجوب والحرمة، و{لا حرمة في البين غلب جانبها} على جانب الوجوب {فعدم جواز الوضوء منهما} أي: من الإناءين {ولو كذلك} أي: بقصد الاحتياط {بل إراقتهما} والتيمّم للصلاة {كما في النّصّ} وهو حديث سماعة وعمّار: قال عمّار: سُئل الصادق(علیه السلام) عن رجل معه إناآن فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيرهما؟ قال(علیه السلام): «يهريقهما ويتيمّم»(1)،

{ليس إلّا من باب التعبّد} فهو خارج عن محلّ الكلام، لما تقدّم من أنّ الكلام في ما لم يكن أمارة أو أصل في أحد الطرفين {أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب} وإنّما قال: «ظاهراً» لأنّ الماء الأوّل لو كان نجساً واقعاً لم يكن في الواقع بدنه نجساً.

ص: 418


1- تهذيب الأحكام 1: 249.

للقطع بحصول النّجاسة حال ملاقاة المتوضّأ من الإناء الثّانية: إمّا بملاقاتها، أو بملاقاة الأُولى وعدم استعمال مطهّر بعدَه، ولو طهّر بالثّانية مواضع الملاقاة بالأُولى.

نعم، لو طهُرت - على تقدير نجاستها - بمجرّد ملاقاتها، - بلا حاجةٍ إلى التعدّد أو انفصال الغسالة - لا يعلم تفصيلاً بنجاستها،

___________________________________________

وأمّا وجه استصحاب النّجاسة فلما ذكره بقوله: {للقطع بحصول النّجاسة حال ملاقاة} بدن {المتوضّأ من الإناءالثّانية} فإنّه حين صبّ الماء على وجهه قبل انفصال الغسالة يقطع بنجاسة وجهه {إمّا بملاقاتها} أي: بملاقاة الإناء الثّانية {أو بملاقاة} الإناء {الأُولى وعدم استعمال مطهّر بعده}.

إن قلت: {ولو طهر بالثّانية مواضع الملاقاة بالأُولى} ثمّ توضّأ لم يكن له استصحاب النّجاسة، إذ الأمر دائر بين نجاسة الأُولى المرتفعة وبين نجاسة الثّانية المشكوك فيها، فلا يعلم بعد الوضوء بالماء الثّاني نجاسة بدنه.

قلت: لا فائدة في ذلك؛ لأنّه إذا توضّأ من أحدهما أوّلاً ثمّ غسل مواضع الوضوء بالثّاني، ثمّ توضّأ بما بقي من الإناء الثّاني، فعند غسل الموضع يحصل العلم بنجاسته، إمّا لنجاسة الماء الأوّل ولم يطهّر بعد لعدم حصول الطهارة بالماء القليل بمجرّد الصبّ، وإمّا لنجاسة الماء الثّاني، فاستصحاب النّجاسة المتيقّنة حال صبّ الماء الثّاني جارية من غير مزاحم.

{نعم، لو طهرت} مواضع الملاقاة بالإناء بالأُولى {- على تقدير نجاستها - بمجرّد ملاقاتها} أي: ملاقاة الإناء الثّانية {بلا حاجة إلى التعدّد أو انفصال الغسالة} كالماء الجاري، فإنّه حينئذٍ {لا يعلم تفصيلاً بنجاستها} أي: نجاسة الأعضاء؛ لأنّه حين ملاقاة الماء الأوّل لا يعلم بنجاسة الأعضاء، وحين ملاقاة الماء الثّاني يتردّد بين أمرين:

الأوّل: نجاسة المواضع بالماء الأوّل وطهرها بملاقاة الماء الثّاني.

ص: 419

وإن علم بنجاستها حين ملاقاة الأُولى أو الثّانية إجمالاً، ولا مجال لاستصحابها، بل كانت قاعدة الطهارة محكّمة.

الأمر الثّالث:

___________________________________________

الثّاني: طهارة المواضع حين استعمال الماء الأوّل ونجاستها بملاقاة الماء الثّاني، فلا يعلم تفصيلاً بعد الفراغ بنجاسة الأعضاء، إذ ليس هناك وقت تيقّن فيه بالنجاسة حتّى تستصحب، كما لا يخفى.

{وإن علم بنجاستها} أي: الأعضاء في أحد زمانين {حين ملاقاة الأُولى أو الثّانية إجمالاً} ولكن هذا العلم الإجمالي غير مثمر {ولا مجال لاستصحابها} أي: النّجاسة لما تقدّم من أنّه لم يكن وقت يعلم بنجاسة الأعضاء {بل كانت} حينئذٍ {قاعدة الطهارة محكّمة} فتأمّل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه بعد هذا التفصيل في الجواب عن الاستقراء لم يأت بمقنع، إذ بعد تسليم ثبوت الاستقراء بهذا المقدار ليس ما ذكره المصنّف(رحمة الله) ردّاً لكلام المستدلّ؛ لأنّه ادّعى أنّه كلّما دار الأمر بين الوجوب والحرمة مطلقاً(1)

قدّم الشّارع الحرمة ولو بنصب أمارة، كقاعدة الإمكان أو النّصّ في المشتبه، فتدبّر.

[التنبيه الثّالث]

{الأمر الثّالث} ذكر العلّامة الرّشتي(رحمة الله) أنّ الأصوليّين قد عاملوا في مثل: (أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق) معاملة العموم من وجه مطلقاً من غير ابتناء له على امتناع الاجتماع، أو على عدم وجود المقتضي لأحد الحكمين، ويظهر من معاملتهم هذه أنّ أمثال ما ذكر خارج عن موضوع مسألة الاجتماع، ولعلّه لأجل توهّم أنّ مجرّد تعدّد الإضافة مع الاتحاد بحسب الحقيقة لا يوجب تعدّد العنوان، وموضوع مسألة الاجتماع ما كان كذلك، أي: يجب أن يكون فيه متعلّق

ص: 420


1- سواء كانت الحرمة تشريعيّة أم ذاتيّة، وسواء كان هناك أمارة أم لا.

الظاهر لحوق تعدّد الإضافات بتعدّد العنوانات والجهات، في أنّه لو كان تعدّد الجهة والعنوان كافياً - مع وحدة المعنون وجوداً - في جواز الاجتماع، كان تعدّد الإضافات مجدياً؛ ضرورة أنّه يوجب أيضاً اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة، والحسن والقبح عقلاً، وبحسب الوجوب والحرمة شرعاً.

فيكون مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق) من باب الاجتماع، ك- (صلّ) و(لا تغضب)،

___________________________________________

الأمر والنّهي متعدّداً بحسب العنوان، كالصلاة والغصب، وإن كان بينهما عموم مطلق، كالحركة وعدم التداني إلى دار كذا(1)،

فأشار المصنّف(رحمة الله) إلى فساد هذا التوهّم بقوله: {الظاهر} من سوق كلام القوم في الاستدلال لجواز الاجتماع وامتناعه {لحوق تعدّد الإضافات} كالإكرام المضاف إلى العالم تارةً، وإلى الفاسق أُخرى {بتعدّد العنوانات} كالصلاة والغصب {والجهات} عطف بيان للعنوانات {في أنّه لو كان تعدّد الجهة والعنوان كافياً مع وحدة المعنون وجوداً في جواز الاجتماع} بين الأمر والنّهي {كان تعدّد الإضافات مجدياً} أيضاً في اجتماع الأمر والنّهي {ضرورة أنّه} كما يوجب تعدّد العنوان اختلاف المعنون بحسب المصلحة والمفسدة كذلك {يوجب} تعدّد الإضافة {أيضاً اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة} فكما أنّ الأكوان الخاصّة بما هي صلاة تكون ذات مصلحة، وبما هي غصب تكون ذات مفسدة، كذلك إكرام الرّجل الخاصّ، كزيد - مثلاً - بما هو مضاف إلى العالم يكون ذا مصلحة، وبما هومضاف إلى الفاسق يكون ذا مفسدة.

{و} على هذا يختلف بحسب {الحسن والقبح عقلاً} فهو حسن من جهة وقبيح من جهة {وبحسب الوجوب والحرمة شرعاً، فيكون مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق) من باب الاجتماع ك- (صلّ) و(لا تغصب)} فالعالم الفاسق مجمع لوجوب

ص: 421


1- شرح كفاية الأصول 1: 250.

لا من باب التعارض، إلّا إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين في مورد الاجتماع مقتض، كما هو الحال أيضاً في تعدّد العنوانين.

في ما يتراءى منهم - من المعاملة مع مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفُسّاق) معاملة تعارُضِ العموم من وجه - إنّما يكون بناءً على الامتناع، أو عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

___________________________________________

الإكرام لإضافته إلى العالم، ولحرمة الإكرام لإضافته إلى الفاسق، كالصلاة في المغصوب طابق النّعل بالنعل {لا من باب التعارض} أي: لا يكون مورد اجتماع العلم والفسق من باب التعارض حتّى يرجع فيه إلى مرجّحات هذا الباب، بل من باب التزاحم لوجود الملاكين: ملاك وجوب الإكرام، وملاك حرمته، وحين كان من باب التزاحم فإن قلنا بجواز الاجتماع فهو، وإلّا فاللّازم الرّجوع إلى مرجّحات باب التزاحم {إلّا إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين} خطاب (أكرم) وخطاب (لا تكرم) {في مورد الاجتماع مقتض} اسم «لم يكن»، فاللّازم حينئذٍ الرّجوع إلى مرجّحات باب التعارض {كما هو الحال أيضاً في تعدّد العنوانين}.

فإنّه لو لم يكن لأحد الحكمين ملاك كان المرجع مرجّحات باب التعارض من غير فرق بين الاجتماعي والامتناعي، وإن كان لكليهما ملاك فالاجتماعييحكم بحرمته ووجوبه والامتناعي لا بدّ وأن يرجع إلى مرجّحات باب التزاحم {في ما يتراءى منهم} أي: من العلماء {من المعاملة مع مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق) معاملة تعارض العموم من وجه} من إعمال المرجّحات {إنّما يكون بناءً على الامتناع، أو} على الجواز مع {عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع}.

وأمّا بناءً على الجواز مع وجود المقتضي لكلا الحكمين، فلا تعارض في البين، واللّه سبحانه العالم.

ص: 422

فصل: في أنّ النّهي عن الشّيء هل يقتضي فساده أم لا؟

وليقدّم أُمور:

الأوّل: إنّه قد عرفت في المسألة السّابقة الفرق بينها وبين هذه المسألة، وأنّه لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما بما هو جهة البحث في الأُخرى، وأنّ البحث في هذه المسألة في دلالة النّهي - بوجه يأتي تفصيله - على الفساد، بخلاف تلك المسألة، فإنّ البحث فيها في أنّ تعدّد الجهة يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنّهي في مورد الاجتماع أم لا؟

___________________________________________

[فصل في أنّ النّهي عن الشّيء هل يقتضي فساده أم لا؟]

اشارة

المقصد الثّاني: في النواهي، النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا

{فصل: في أنّ النّهي عن الشّيء هل يقتضي فساده أم لا؟} مثلاً: لو قال: (لا تصلّ في النّجس) فلو صلّى هل تكون صلاته باطلة أم لا؟

{وليقدّم أُمور} مهمّة:

[الأمر الأوّل]

الأمر {الأوّل: أنّه قد عرفت في المسألة السّابقة} أي: مسألة اجتماع الأمر والنّهي {الفرق بينها وبين هذه المسألة} أي: مسألة أنّ النّهي هل يقتضي الفساد أم لا؟ {و} ذلك لما تقدّم من {أنّه} تتعدّد المسألة بتعدّد الجهة، وما نحن فيه كذلك، إذ {لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما بما هو جهة البحث في الأُخرى، وأنّ البحث في هذه المسألة} بعد تسليم تعلّق النّهي بمتعلّق الأمر {في دلالة النّهي بوجهٍ يأتي تفصيله} في المقام الأوّل والمقام الثّاني {على الفساد بخلاف تلك المسألة، فإنّ البحث فيها في أنّ تعدّد الجهة} بأن كان جهة تعلّق الأمر غير جهة تعلّق النّهي {يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنّهي} بحيث لا يلزم اجتماع الضدّين {في مورد الاجتماع} كالصلاة في الغصب {أم لا} يجدي؟ فالكلام في اجتماع الأمر والنّهي في أصل إمكان التعلّق، وفي مسألتنا في أنّه بعد التعلّق يكون الشّيء فاسداً أم لا؟

ص: 423

الثّاني: أنّه لا يخفى أنّ عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ، إنّما هو لأجل أنّه في الأقوال قولٌ بدلالته على الفساد في المعاملات، مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة الّتي هي مفاده فيها.

ولا ينافي ذلك: أنّ الملازمة على تقدير ثبوتها في العبادة إنّما تكون بينه وبين الحرمة ولو لم تكن مدلولة بالصيغة، وعلى تقدير عدمها

___________________________________________

[الأمر الثّاني]

الأمر {الثّاني: أنّه لا يخفى أنّ} إمكان {عدّ هذه المسألة} عقليّة بملاحظة أنّ النّزاع فيها في أنّه هل يكون تلازم بين الحرمة والفساد مطلقاً، أم لا يكون تلازم مطلقاً، أم يكون التلازم في العبادات لا في المعاملات، ولا فرق في ما ذكر بين استفادة النّهي من اللفظ أو من غيره، وأمّا عدّ المسألة {من مباحث الألفاظ} ف- {إنّما هو لأجل أنّه في الأقوال قول بدلالته} أي: النّهي {على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه} أي: بين الفساد {وبين الحرمة الّتي هي} أي: الحرمة {مفاده} أي: مفاد النّهي {فيها} أي: في المعاملات.

ومن المعلوم أنّ محلّ النّزاع على هذا القول في دلالة النّهي وعليه تكون المسألة لفظيّة، فاللّازم جعل المسألة بحيث تجري فيها الأقوال.

والحاصل: أنّ من ينكر الملازمة ويقول بدلالة النّهي لفظاً على الفساد معدود في القائلين بالإثبات، ولو كان مدار البحث إثباتاً ونفياً هو الملازمة، فاللّازم عدّ هذا القائل من النّافين، ولكن لا يخفى أنّ عدّ المسألة لفظيّة يوجب الاستطراد في ما إذا استفاد النّهي من إجماع ونحوه ولا وجه له.

{و} إن قلت: {لا} يمكن تخصيص المسألة بباب الألفاظ؛ لأنّه {ينافي ذلك} أي: ينافي عدّ المسألة من باب الألفاظ {أنّ الملازمة على تقدير ثبوتها في العبادة إنّما تكون بينه} أي: بين الفساد {وبين الحرمة، ولو لم تكن مدلولة بالصيغة وعلى تقدير عدمها}

ص: 424

تكون منتفية بينهما؛ لإمكان أن يكون البحث معه في دلالة الصيغة بما تعمّ دلالتها بالالتزام، فلا يقاس بتلك المسألة الّتي لايكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

أي: عدم الملازمة {تكون} الملازمة {منتفية بينهما} أي: بين الفساد والحرمة.

والحاصل: أنّه في المعاملات يوجد قول بعدم الملازمة بين الحرمة والفساد وإنّما النّهي اللفظي يدلّ على الفساد، وأمّا في العبادات فنظر العلماء إلى الملازمة بين الحرمة والفساد وإن استفيدت الحرمة من غير اللفظ، فكيف يمكن تخصيص المسألة بباب الألفاظ.

وبعبارة أُخرى: مدار الكلام في العبادة على وجود الملازمة وعدمها، فكيف تكون المسألة من باب الألفاظ؟

قلت: لا تنافي بين كون النّزاع في العبادة من جهة الملازمة وبين عدّ المسألة لفظيّة {لإمكان أن يكون البحث معه} أي: مع القائل بدلالة لفظ النّهي للفساد في المعاملة وإن لم تكن ملازمة {في دلالة الصيغة بما} أي: بنحو {تعمّ دلالتها بالالتزام} فالنزاع في اللفظ وأنّه هل للفظ دلالة - ولو التزاميّة ناشئة من الملازمة العقليّة - على الفساد أم لا؟ وعلى هذا فتجتمع الأقوال: فالعلماء يقولون بوجود الدلالة الالتزاميّة في العبادات، وهذا القائل يقول بعدمها ويدّعي الدلالة في المعاملات لا بنحو الالتزام، فتدبّر.

وكيف كان {فلا يقاس} مسألة اقتضاء النّهي للفساد الممكن عدّها لفظيّة {بتلك المسألة} أي: مسألة اجتماع الأمر والنّهي {الّتي} كان الكلام فيها في إمكان الاجتماع وعدمه عقلاً، بحيث {لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس} أصلاً {فتأمّل جيّداً} حتّى تعرف أنّه يمكن عقد مسألة الاجتماع لفظيّة أيضاً.

ص: 425

الثّالث: ظاهر لفظ النّهي وإن كان هو النّهي التحريمي، إلّا أنّ ملاك البحث يعمّ التنزيهي. ومعه لا وجه لتخصيص العنوان. واختصاص عموم ملاكه بالعبادات

___________________________________________

[الأمر الثّالث]

الأمر {الثّالث}: في بيان أمرين:

الأوّل: أنّ النّهي الّذي هو محلّ الكلام أعمّ من النّهي التحريمي الدالّ على حرمة الشّيء والنّهي التنزيهي الدالّ على مرجوحيّه الشّيء بدون الحرمة، خلافاً للمحكي عن التقريرات من تخصيصه النّزاع بالتحريمي(1).

الثّاني: أنّ النّهي في محلّ الكلام أعمّ من النّفسي ومن الغيري، والغيري أعمّ من التبعي والأصلي، خلافاً لما عن القوانين(2) حيث ذهب إلى عدم اقتضاء التبعي للفساد قطعاً، فلا يكون داخلاً في محلّ النّزاع.

وكيف كان فنقول: {ظاهر لفظ النّهي وإن كان هو النّهي التحريمي} لتبادر التحريمي من النّهي عند الإطلاق، كما عرفت سابقاً {إلّا أنّ ملاك البحث} أي: الجهه المقصودة بالبحث، وهي منافاة النّهي للصحّة {يعمّ التنزيهي} فإنّ النّهي التنزيهي يدلّ على المرجوحيّة، والعبادة لا يعقل أن تكون مرجوحة، فالنهي عنها يكشف عن فسادها، وقد تقدّم أنّ عموم البحث وخصوصه دائر مدار الملاك لا مدار العنوان {ومعه} أي: مع كون الملاك أعمّ {لا وجه لتخصيص العنوان} بالنهي التحريمي فقط.

{و} إن قلت: لا وجه لتعميم النّهي حتّى يشمل التنزيهي {اختصاصعموم ملاكه} أي: ملاك البحث {بالعبادات} فقط.

وبعبارة أوضح: إنّ النّهي على قسمين كما تقدّم، والمنهي عنه على قسمين

ص: 426


1- مطارح الأنظار 1: 728.
2- قوانين الأصول 1: 102.

لا يوجب التخصيص به، كما لا يخفى.

كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي، فيعمّ الغيري إذا كان أصليّاً. وأمّا إذا كان تبعيّاً فهو وإن كان خارجاً عن محلّ البحث - ؛ لما عرفت أنّه

___________________________________________

العبادة والمعاملة، فالأقسام أربعة:

الأوّل: العبادة المنهي عنها بالتحريمي.

الثّاني: العبادة المنهي عنها بالتنزيهي.

الثّالث: المعاملة المنهي عنها بالتحريمي.

الرّابع: المعاملة المنهي عنها بالتنزيهي.

ومنافاة النّهي التنزيهي للصحّة إنّما هي في العبادة، وأمّا المعاملة فلا، إذ المعاملة المكروهة صحيحة قطعاً، فالنزاع في التنزيهي خاصّ بالعبادة.

وعليه فالأولى أن نقول بكون المراد من النّهي، التحريمي فقط حتّى يعمّ النّزاع المعاملة والعبادة.

قلت: اختصاص عموم الملاك بالعبادة {لا يوجب التخصيص} أي: تخصيص النّهي {به} أي: بالنّهي التحريمي {كما لا يخفى} إذ اللّازم التكلّم في جميع أنحاء النّهي عن العبادة تحريميّاً كان أم تنزيهيّاً {كما لا وجه لتخصيصه} أي: تخصيص النّهي {بالنفسي} وإن كان ظاهر النّهي النّفسي {فيعمّ الغيري إذا كان أصليّاً} أي: مدلولاً للخطاب، كأن يقول: (لا تصلّ في المسجد إذا رأيت النّجاسة فيه) بحيثكان النّهي غيريّاً مقدّمة للإزالة الواجبة. وإنّما قلنا بتعميم النّهي بالنسبة إلى الغيري لما تقدّم من عموم الملاك وإنّه هل ينافي النّهي الغيري الصحّة أم لا؟

{وأمّا إذا كان} النّهي الغيري {تبعيّاً} بأن لم يكن مدلولاً للخطاب، بل لازم للمراد باللزوم العقلي، كما لو أمر بإزالة النّجاسة وقلنا: إنّ من مقدّماته ترك الصلاة، فتكون الصلاة منهيّاً عنها تبعاً {فهو وإن كان خارجاً عن محلّ البحث، لما عرفت أنّه}

ص: 427

في دلالة النّهي، والتبعي منه من مقولة المعنى - ، إلّا أنّه داخل في ما هو ملاكه؛ فإنّ دلالته على الفساد - على القول به في ما لم يكن للإرشاد إليه - إنّما يكون لدلالته على الحرمة، من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك، كما توهّمه القمّي(1).

___________________________________________

أي: البحث {في دلالة النّهي} على الفساد {والتبعي منه} من النّهي، أي: النّهي التبعي {من مقولة المعنى} المستفاد من حكم العقل، ولا نهي هناك لفظاً حتّى يدلّ على الفساد مثلاً {إلّا أنّه} أي: التبعي {داخل في ما هو ملاكه} أي: ملاك البحث، لما تقدّم من أنّ ملاك المسألة أنّه هل ينافي النّهي الصحّة، أم لا؟

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) علّل(2) دخول التبعي ملاكاً بقوله: {فإنّ دلالته} أي: النّهي {على الفساد على القول به} أي: بكون النّهي مفيداً للفساد {في ما لم يكن للإرشادإليه} أي: إلى الفساد(3)

{إنّما يكون لدلالته على الحرمة} والحرمة موجودة في النّهي الغيري التبعي، كما هي موجودة في النّفسي {من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك} أي: في الدلالة على الفساد، حتّى قال: إنّ العقوبة منتفية في النّهي التبعي، فلا يكون داخلاً في محلّ النّزاع.

والحاصل: أنّ مدار النّزاع على التحريم وهو موجود في التبعي، وليس مدار النّزاع على العقوبة حتّى يخرج التبعي {كما توهّمه} المحقّق {القمّي} حيث حكي عنه عدم دلالة النّهي التبعي على الفساد، كما تقدّم.

ص: 428


1- قوانين الأصول 1: 102.
2- هذا المعنى موافق لبعض الحواشي مخالف لبعضها الآخر.
3- قال السّيّد الحكيم: «أمّا لو كان إرشاداً إلى الفساد كالنواهي الواردة في مقام بيان شرح الماهيّات بشروطها وموانعها فدلالته على الفساد ممّا لا كلام فيها وإلّا كان خلفاً». حقائق الأصول 1: 423.

ويؤيّد ذلك: أنّه جُعل ثمرة النّزاع في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه: فسادُه إذا كان عبادةً، فتدبّر جيّداً.

الرّابع: ما يتعلّق به النّهيُ: إمّا أن يكون عبادة أو غيرَها. والمراد بالعبادة هاهنا ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له - تعالى - ، موجباً بذاته للتقرّب من حضرته - لولا حرمته - ،

___________________________________________

{ويؤيّد ذلك} أي: كون النّهي التبعي داخلاً في كلام الأعلام {أنّه جعل ثمرة النّزاع في} مسألة {أنّ الأمر بالشيء يقتضي النّهي عن ضدّه} أم لا {فساده إذا كان} المنهي عنه {عبادة}.

وجه التأييد: أنّ النّهي المتوجّه إلى الصلاة في ما إذا أمر بالإزالة نهي تبعي،ومع ذلك حكم العلماء باقتضائه فساد الصلاة على القول باقتضاء النّهي للفساد.

ولو كان مدار النّزاع في الفساد وعدمه على العقوبة - كما زعمه القمّي - لم يكن وجه لبطلان الصلاة، إذ النّهي المتوجّه إليها ليس موجباً للعقوبة؛ لأنّه نهي غيري وهو لا يوجب العقوبة {فتدبّر جيّداً} وقس على ما ذكر سائر أقسام النّهي من العيني والكفائي والتعييني والتخييري وغيرهما، فكلّما كان ملاك البحث موجوداً جرى فيه النّزاع وكلّما لم يكن فيه الملاك موجوداً لم يجر فيه النّزاع.

[الأمر الرّابع]

الأمر {الرّابع}: أنّ {ما يتعلّق به النّهي إمّا أن يكون عبادة أو غيرها} من المعاملات وغيرها {والمراد بالعبادة هاهنا} أحد الأمرين:

الأوّل: {ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له - تعالى -} سواء أمر به أو نهى عنه أم لا؟ نعم، يكون {موجباً بذاته للتقرّب من حضرته لولا حرمته} فإنّ القرب يدور مدار المحبوبيّة، فلا يكون التقرّب بشيء محرّم مبغوض.

والحاصل: أنّ الحرمة مانعة عن التقرّب، وأمّا عن صدق العبادة فلا، وذلك

ص: 429

كالسجود والخضوع والخشوع له وتسبيحه وتقديسه، أو ما لو تعلّق الأمر به كان أمره أمراً عباديّاً، لا يكاد يسقط إلّا إذا أتى به بنحو قربيّ، كسائر أمثاله، نحو صوم العيدين والصلاة في أيّام العادة. لا ما أمر به لأجل التعبّد به، ولا ما يتوقّف صحّته على النّيّة، ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء - كما عرّف بكلّ منها العبادة - :

___________________________________________

{كالسجود والخضوع والخشوع له} تعالى {وتسبيحه وتقديسه، أو} نحو ذلك.

الثّاني: العبادة التعليقيّة واللولائيّة وهي الّتي {ما لو تعلّق الأمر به كان أمره أمراً عباديّاً} بحيث {لا يكاد يسقط} الأمر {إلّا إذا أتى به بنحو قربيّ ك-} ما هو الحال في {سائر أمثاله} - أعني: العبادات - فإنّها لا يسقط الأمر المتعلّق بها إلّا إذا أتى بنحو قربي، فمعنى النّهي عن العبادة في هذا القسم النّهي عن شيء لو تعلّق الأمر به لكان عبادة، وذلك {نحو صوم العيدين} الفطر والأضحى {والصلاة في أيّام العادة} فإنّها لو أمر بها كانت عبادة، والمراد بالصلاة المجموع من حيث المجموع وإلّا فبعض أجزائها داخل في القسم الأوّل الّذي هو عبادة بنفسه وعنوانه كالسجود، كما تقدّم.

والحاصل: أنّه لا بدّ أن يراد بالعبادة في هذا المقام العبادة الذاتيّة أو التقديريّة حتّى يصحّ تعلّق النّهي بها مع كونها عبادة، وإلّا فلو لم يقصد هذان لم يصحّ تعلّق النّهي مع فرض عباديّتها.

و{لا} يمكن أن يكون المراد بالعبادة {ما أمر به لأجل التعبّد به} كما عن تقريرات الشّيخ(1)

{ولا ما يتوقّف صحّته على النّيّة} كما عن غير واحد {ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء} كما عن صاحب القوانين(2)

{كما عرّف بكلّ منها} أي: من هذه التعاريف{العبادة} وإنّما لا يصحّ تعريفها بتلك التعاريف

ص: 430


1- مطارح الأنظار 1: 729.
2- قوانين الأصول 1: 154.

ضرورةَ أنّها بواحدٍ منها لا يكاد يمكن أن يتعلّق بها النّهي.

مع ما أُورد عليها بالانتقاض طرداً أو عكساً، أوبغيره - كما يظهر من مراجعة المطوّلات - .

___________________________________________

{ضرورة أنّها} أي: العبادة {بواحد منها} أي: من هذه التعريفات {لا يكاد يمكن أن يتعلّق بها النّهي} إذ لا يصدق شيء من هذه التعريفات على الصلاة في حال الحيض وأمثالها ممّا نهي عنها.

أمّا التعريف الأوّل: فلأنّه لم يأمر بالصلاة في الحيض حتّى يصدق عليها أنّها ممّا أمر بها لأجل التعبّد.

وأمّا التعريف الثّاني: فلأنّ المراد بالنيّة قصد القربة ولا يمكن قصد القربة بالصلاة في حال الحيض.

وإن شئت قلت: المراد بالنيّة قصد امتثال الأمر، وهو فرع تحقّق الأمر وحيث لا أمر لا تصحّ النّيّة فلا تصدق العبادة.

وأمّا التعريف الثّالث: فلأنّ عدم العلم بانحصار المصلحة فرع المصلحة، والصلاة في حال الحيض لا مصلحة فيها أصلاً، بل الموجود فيها هو المفسدة فقط، فكيف ينطبق عليها هذا التعريف؟

فتحصّل: أنّ هذه التعريفات لا تشمل ما نحن فيه {مع ما أُورد عليها بالانتقاض طرداً أو عكساً أو بغيره} أي: غير الانتقاض، والمراد به الدور {كما يظهر من مراجعة المطوّلات}.

أمّا التعريف الأوّل: فلما ذكره السّيّد الحكيم من «شموله لجميع الواجباتالتّوصليّة، إذ كلّ أمر بشيء ليس الغرض منه إلّا التحريك إلى متعلّقه وهو عين التعبّد خارجاً، وسقوط الأمر في التوصليّات بمجرّد حصول الفعل - ولولا بداعي الامتثال - لا ينافي ذلك، كما لعلّه ظاهر في التأمّل»(1)،

انتهى.

ص: 431


1- حقائق الأصول 1: 425.

وان كان الإشكال بذلك فيها في غير محلّه؛ لأجل كون مثلها من التعريفات ليس بحدٍّ ولا برسمٍ، بل من قبيل شرح الاسم، كما نبّهنا عليه غير مرّة، فلا وجه لإطالة الكلام بالنقض والإبرام في تعريف العبادة، ولا في تعريف غيرها كما هو العادة.

___________________________________________

وأمّا التعريف الثّاني: فلما ذكره في التقريرات(1) بأنّ الصحّة إن كان المراد بها الامتثال فيدخل جميع أفراد العبادة بالمعنى الأعمّ، وإن كان المراد بها ما يوجب سقوط الفعل ثانياً، فيخرج العبادات الّتي لا يجب فعلها ثانياً، ولو فرض اشتماله لها بنوع من العناية.

ويرد عليه الدور أيضاً، وحاصله: أنّ معرفة العبادة موقوفة على معرفة الصحّة - لوقوعها جزءاً لحدّها - ومعرفة الصحّة موقوفة على معرفة العبادة - لأنّ الصحّة في العبادات معناها سقوط القضاء - .

وأمّا التعريف الثّالث: فلما ذكره في التقريرات بقوله: «واعترض عليه بعض الأجلّة - وهو صاحب الفصول كما حكي - تارة بانتقاض طرده بتوجيه الميّت إلى القبلة، فإنّه ليس من العبادات قطعاً، مع أنّ مصلحة الفعل المأمور به غير معلوم انحصارها في شيء، وأُخرى بانتقاض عكسه بنحو الوضوء، فإنّ مصلحته معلومة - وهي الطهارة لأجل الدخول في المشروط بها - مع أنّه من العبادات قطعاً»(2).{وإن كان الإشكال بذلك} أي: الانتقاض وغيره {فيها} أي: في هذه التعريفات {في غير محلّه، لأجل كون مثلها من التعريفات ليس بحدّ ولا برسم، بل من قبيل شرح الاسم} الّذي هو تبديل لفظ بلفظ أقرب إلى الذهن {كما نبّهنا عليه غير مرّة} فيجوز أن يكون بالأعم والأخص، ولا يجب مراعاة شرائط الحدود {فلا وجه لإطالة الكلام، بالنقض والإبرام في تعريف العبادة، ولا في تعريف غيرها كما هو العادة} ولكن

ص: 432


1- مطارح الأنظار 1: 729.
2- مطارح الأنظار 1: 730.

الخامس: أنّه لا يدخل في عنوان النّزاع إلّا ما كان قابلاً للاتّصاف بالصحّة والفساد، بأن يكون تارة تامّاً، يترتّب عليه ما يترقّب عنه من الأثر، وأُخرى لا كذلك؛ لاختلال بعض ما يعتبر في ترتّبه.

أمّا ما لا أثر له شرعاً، أو

___________________________________________

لا يخفى أنّ جريان ديدن القوم على النّقض والإبرام في التعريفات يدلّ على كونهم بصدد بيان الحدّ الحقيقي، وإلّا لما هدموا تعريفات من قبلهم وبنوا أساساً جديداً، مع أنّ للمحقّق الشّيخ محمّد حسين الإصفهاني(رحمة الله) كلاماً في هذا الباب مرتبطاً ب- (ما) الشّارحة والحقيقيّة(1)، لا مجال لذكره.

[الأمر الخامس]

الأمر {الخامس}: أنّ الأشياء على قسمين:

الأوّل: ما يكون أمره دائراً بين الوجود والعدم، فيؤثّر كلّما وجد ولا يؤثّر كلّما عدم، بحيث لا يعقل فيها الصحّة والفساد، مثلاً الملكيّة إمّا موجودة أو معدومةولا يعقل ملكيّة صحيحة أو فاسدة وهكذا الزوجيّة وأنحاؤها.

الثّاني: ما يتصوّر فيه الصحّة والفساد كالمركّبات، فإنّ للموجود منها قسمين صحيح وفاسد، كالبيع، فإنّه إن اجتمع شرائطه كان صحيحاً وإلّا كان فاسداً.

إذا عرفت ما ذكرنا قلنا {إنّه لا يدخل في عنوان النّزاع} - أعني: قولنا: «النّهي عن الشّيء يقتضي الفساد» - {إلّا ما كان قابلاً للاتصاف بالصحّة والفساد، بأن يكون} من القسم الثّاني {تارة تامّاً يترتّب عليه ما يترقّب عنه من الأثر} بيان «ما» {وأُخرى لا} يترتّب عليه ما يترقّب عنه من الأثر {كذلك} وعدم الترتّب {لاختلال بعض ما يعتبر في ترتّبه} من الشّرائط والأجزاء.

{أمّا ما لا أثر له شرعاً} أصلاً كالغلبة في باب القمار {أو} كان من القسم الأوّل،

ص: 433


1- نهاية الدراية 1: 326.

كان له أثره ممّا لا يكاد ينفكّ عنه - كبعض أسباب الضمان - فلا يدخل في عنوان النّزاع؛ لعدم طروّ الفساد عليه، كي ينازع في أنّ النّهي عنه يقتضيه أو لا.

فالمراد بالشيء - في العنوان - هو: العبادة بالمعنى الّذي تقدّم، والمعاملة بالمعنى الأعمّ، ممّا يتّصف بالصحّة والفساد، عقداً كان أو إيقاعاً أو غيرهما، فافهم.

السّادس:

___________________________________________

بأن {كان أثره ممّا لا يكاد ينفكّ عنه} إذا وجد {كبعض أسباب الضمان} كإتلاف مال الغير والغصب {فلا يدخل في عنوان النّزاع} وذلك {لعدم طروّ الفساد عليه} أصلاً {كي ينازع في أنّ النّهي عنهيقتضيه} أي: الفساد {أو لا، فالمراد بالشيء في العنوان} أعني: قولنا: «النّهي عن الشّيء» {هو العبادة بالمعنى الّذي تقدّم} في الأمر الرّابع {والمعاملة بالمعنى الأعمّ} الشّامل للصحيح والفاسد - أعني: كلّ أمر يترتّب عليه الأثر لو اجتمع فيه الشّرائط - {ممّا يتّصف بالصحّة} تارة {والفساد} أُخرى {عقداً كان} كالبيع {أو إيقاعاً} كالطلاق {أو غيرهما} كالرضاع، فإنّ صحيحه ما يترتّب عليه الحرمة وفاسده ما لا يترتّب، كما أنّ البيع صحيحه ما يترتّب عليه الملك وفاسده ما لا يترتّب {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ هناك قسماً ثالثاً يصحّ اتصافه بالصحّة والفساد باعتبارٍ، وإن لم يصحّ اتصافه بهما باعتبارٍ آخَرَ، وذلك مثل الشّيء الّذي لو أمر به لصحّ اتصافه بالعباديّة، فإنّه باعتبار أثره التعبّدي يتصف بهما وباعتبار أثره التوصلي لا يتصف بهما - بالصحّة والفساد - بل بالوجود مرّة والعدم أُخرى.

[الأمر السّادس]

الأمر {السّادس}: في بيان معنى الصحّة والفساد وأنّ مفهومهما بالنسبة إلى العبادة والمعاملة واحد، وإنّما الاختلاف في المصاديق فنقول:

ص: 434

أنّ الصحّة والفساد وصفان إضافيّان، يختلفان بحسب الآثار والأنظار، فربّما يكون شيء واحد صحيحاً بحب أثر أو نظر، وفاسداً بحسب آخر.

ومن هنا صحّ أن يقال: إنّ الصحّة في العبادة والمعاملة لا تختلف، بل فيهما بمعنى واحد - وهو التماميّة - وإنّما الاختلاف في ما هو المرغوب منهما، من الآثار الّتي بالقياس عليها تتصفبالتماميّة وعدمها.

___________________________________________

{إنّ الصحّة والفساد وصفان إضافيّان} كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما {يختلفان بحسب الآثار والأنظار، فربّما يكون شيء واحد صحيحاً بحسب أثر أو نظر، وفاسداً بحسب} نظر أو أثر {آخر}.

مثلاً: العقد بالفارسي صحيحٌ بنظر فقيهٍ وفاسدٌ بنظر فقيهٍ، وكذلك الصوم الّذي أفطر فيه في بعض الصور، فاسد بحسب القضاء فيحتاج إليها، وصحيح بحسب الكفّارة فلا يحتاج إليها، فإنّ الصحيح المطلق ما لا يحتاج إليهما والفاسد المطلق ما يحتاج إليهما، كما لا يخفى. والحاصل: أنّهما ليسا من الأُمور الخارجيّة المتأصّلة وإلّا لم يعقل الاختلاف.

{ومن هنا} الّذي ذكرنا من كونهما إضافيّين {صحّ أن يقال: إنّ الصحّة في العبادة والمعاملة لا تختلف} مفهوماً {بل فيهما بمعنى واحد - وهو التماميّة -} فصحّة العبادة بمعنى تماميّتها، كما أنّ صحّة المعاملة بمعنى تماميّتها، وكذلك في جانب الفساد {وإنّما الاختلاف} بين العبادة والمعاملة {في} المصداق - أعني: {ما هو المرغوب منهما من الآثار الّتي بالقياس عليها} أي: على تلك الآثار - {تتصف بالتماميّة وعدمها} ففي العبادات تكون الصحّة عبارة عن حصول الامتثال وسقوط القضاء والكفّارة، وفي المعاملات عن حصول الأثر المطلوب، كالزوجيّة في النّكاح، والانتقال في البيع، وقطع العلقة في الطلاق، وهكذا.

ص: 435

وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلّم في صحّة العبادة إنّما يكون لأجل الاختلاف في ما هو المهمّ لكلٍّ منهما من الأثر - بعدالاتّفاق ظاهراً على أنّها بمعنى التماميّة كما هي معناها لغة وعرفاً - !

فلمّا كان غرض الفقيه هو: وجوب القضاء أو الإعادة، أو عدمُ الوجوب، فَسّر صحّة العبادة بسقوطهما. وكان غرض المتكلّم هو: حصول الامتثال - الموجب عقلاً لاستحقاق المثوبة - فَسّرها بما يوافق الأمر تارة، وبما يوافق الشّريعة أُخرى.

وحيث

___________________________________________

{وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلّم} في معنى الصحّة والفساد ليس اختلافاً في المفهوم، بل راجع إلى الاختلاف في التعبير عن المعنى الواحد المسلّم بين الطائفتين، فكلّ عرّف الصحّة والفساد بأثره المرغوب فيه عنده، لا أنّه عرفهما بمفهومهما حتّى يقع الاختلاف.

والحاصل: أنّ الاختلاف بينهما {في صحّة العبادة إنّما يكون لأجل الاختلاف في ما هو المهمّ لكلّ منهما من الأثر} بيان «ما» {بعد الاتفاق ظاهراً} بينهما {على أنّها} أي: الصحّة {بمعنى التمامية} والفساد بمعنى عدم التمامية {كما هي} أي: التمامية {معناها} أي: الصحة {لغة وعرفاً} وعدم التماميّة معنى الفساد كذلك {فلمّا كان غرض الفقيه هو وجوب القضاء أو الإعادة أو عدم الوجوب} أو الكفّارة في مثل الصوم {فسّرصحّة العبادة بسقوطهما} والفساد بثبوتهما {وكان غرض المتكلّم هو حصول الامتثال الموجب عقلاً لاستحقاق المثوبة فسّرها} أي: الصحّة {بما يوافق الأمر تارة وبما يوافق الشّريعة أُخرى و} بالعكس بالنسبة إلى الفساد، وبهذا تحقّق أنّه لا اختلاف بين الفقيه والمتكلّم في معنى الصحّة والفساد.ثمّ شرع المصنّف في بيان النّسبة بين تعريف الفقهاء والمتكلّمين، فإنّه ربّما يقال بأنّ النّسبة بينهما عموم مطلق {حيث} إنّ كلّما يسقط القضاء والإعادة يوافق

ص: 436

إنّ الأمر في الشّريعة يكون على أقسام - من الواقعي الأوّلي والثّانوي، والظاهري - ، والأنظار تختلف في أنّ الأخيرين يفيدان الإجزاء، أو لا يفيدان، كان الإتيان بعبادةٍ موافقةً لأمر، ومخالفةً لآخر، أو مسقطاً للقضاء والإعادة بنظرٍ، وغيرَ مسقطٍ لهما بنظر آخر.

فالعبادة الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند المتكلّم والفقيه، بناءً على أنّ

___________________________________________

الأمر ولا عكس، فإنّه ليس كلّ موافق للأمر مسقطاً للقضاء والإعادة، كما لو استصحب وجوب صلاة الجمعة، فإنّه موافق للأمر الظاهري، مع أنّه ليس مسقطاً واقعاً.

ولكن لا يخفى عدم صحّة هذا القول وبيان ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمتين:

الأُولى {أنّ الأمر في الشّريعة يكون على أقسام} ثلاثة {من الواقعي الأوّلي} كالأمر بصلاة الظهر {و} الواقعي {الثّانوي} كالأمر بالوضوء المنكوس في ظرف التقيّة وبالصلاة قاعداً في ظرف الاضطرار {والظاهري} كالأمر بصلاة الجمعة النّاشئ من استصحاب الوجوب في ظرف يكون الواقع هو صلاة الظهر.

{و} الثّانية: أنّ {الأنظار تختلف في أنّ الأخيرين يفيدان الإجزاء} عن الواقع بأن لا يجب على المصلّي متكتّفاً تقيّةأو جمعة استصحاباً إعادة الصلاة بعد رفع التقيّة ومعلوميّة الواقع {أو لا يفيدان} بل يجب الإعادة.

إذا عرفت المقدّمتين قلنا: حيث {كان الإتيان بعبادة موافقة لأمر ومخالفة لآخر أو مسقطاً للقضاء والإعادة بنظر وغير مسقط لهما بنظر آخر} فقد يكون بين نظر الفقيه والمتكلّم تساوياً وقد يكون نظر الفقيه أعمّ مطلقاً وقد يكون نظر المتكلّم أعمّ مطلقاً {فالعبادة الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند المتكلّم والفقيه} بحيث يكون بينهما تساوياً مطلقاً {بناءً على أنّ} مراد المتكلّم

ص: 437

الأمر - في تفسير الصحّة بموافقة الأمر، أعمُّ من الظّاهري مع اقتضائه للإجزاء، وعدمُ اتصافها بها عند الفقيه بموافقته، بناءً على عدم الإجزاء، وكونُه مراعى بموافقة الأمر الواقعي - وعند المتكلّم - بناءً على كون الأمر في تفسيرها خصوص الواقعي.

___________________________________________

من {الأمر - في تفسير الصحّة بموافقة الأمر - أعمّ من الظاهري} والواقعي {مع} قول الفقيه ب- {اقتضائه} أي: الأمر مطلقاً {للإجزاء} فإنّه كلّما كان الفعل موافقاً للأمر كان مجزئاً وبالعكس، وحينئذٍ يتحقّق التساوي بين النّظرين لا العموم المطلق، كما ادّعاه بعض.

وكذا يتحقّق التساوي بين القولين لو كان مراد المتكلّم من الأمر خصوص الأمر الواقعي ولم يقل الفقيه بالإجزاء إلّا في الأمر الواقعي، إذ كلّما وافق الأمر الواقعي كان مجزئاً، وكلّما لم يوافق لم يكن مجزئاً.

وحيث بيّنّا صورة التساوي نصرف الكلام إلى صورة العموم المطلق مع كونالعموم من طرف المتكلّم {وعدم اتصافها} أي: العبادة {بها} أي: بالصحّة {عند الفقيه بموافقته} أي: موافقة الأمر الظاهري {بناءً على} قول الفقيه ب- {عدم الإجزاء} في الأمر الظاهري {وكونه} أي: الإجزاء {مراعى بموافقة الأمر الواقعي} مع قول المتكلّم بأنّ الأمر - في تفسير الصحّة بموافقة الأمر - أعمّ من الظاهري وغيره، فإنّه كلّما أجزأ كان موافقاً للأمر وليس كلّما وافق الأمر كان مجزئاً، فالإجزاء - وهو قول الفقيه - أخصّ من موافقة الأمر، وهو قول المتكلّم.

{و} أمّا الصّورة الثّالثة - وهي أن يكون بين النّظرين عموماً مطلقاً مع كون العموم من طرف الفقيه - فهي عدم اتصاف العبادة بالصحّة {عند المتكلّم} مع اتصافها بها عند الفقيه {بناء على كون الأمر في تفسيرها} أي: تفسير الصحّة {خصوص} الأمر {الواقعي} مع كون الفقيه يقول بالإجزاء في مطلق الأمر، إذ كلّما كان موافقاً للأمركان مجزئاً وليس كلّما كان مجزئاً كان موافقاً للأمر.

ص: 438

تنبيه: وهو أنّه لا شبهة في أنّ الصحّة والفساد عند المتكلّم وصفان اعتباريّان، ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها.

وأمّا الصحّة - بمعنى سقوط القضاء والإعادة - عند الفقيه: فهي من لوازم الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي عقلاً، حيث لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة أو القضاء معه جزماً.

فالصحّة بهذا المعنى فيه

___________________________________________

فتحصّل من جميع ذلك أنّ الفقيه لو قال بعموم الإجزاء والمتكلّم بعمومالأمر، أو قال كلّ بالخصوص تحقّق التساوي بين القولين، ولو قال الفقيه بالعموم والمتكلّم بالخصوص أو بالعكس تحقّق العموم المطلق. ثمّ لا يذهب عليك خروج العبارة إلى الإجمال بسبب بعض ما وقع فيها من مخالفة القواعد الأدبيّة.

{تنبيه}: في تحقيق أنّ صفتي الصحّة والفساد من الأحكام الشّرعيّة أو العقليّة أو من الأُمور الانتزاعيّة، والحقّ في ذلك التفصيل {وهو أنّه لا شبهة في أنّ الصحّة والفساد عند المتكلّم} المفسّر للصحّة بما يوافق الأمر وللفساد بما لا يوافقه {وصفان اعتباريّان ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به} في الصحّة {وعدمها} في الفساد، فليسا من المجعولات الشّرعيّة؛ لأنّ الموافقة منتزعة من الأفعال التكوينيّة للعبد لا ترتبط بالمولى أصلاً، فبمجرّد إتيان العبد للفعل ينتزع أحد الوصفين {وأمّا الصحّة بمعنى سقوط القضاء والإعادة} أي: عدم ثبوتهما كما هو المفسّر {عند الفقيه فهي من لوازم الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي عقلاً} قيد لقوله: «من لوازم» {حيث لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة أو القضاء معه} أي: مع الإتيان بالمأمور به {جزماً} فإنّه لو أتى ثانياً فإمّا أن يحصل عين الأوّل فهو تحصيل الحاصل أو غيره فهو غير المأمور به.

{فالصحّة بهذا المعنى} أي: بمعنى سقوط القضاء والإعادة {فيه} أي: في المأمور

ص: 439

وإن كان ليس بحكمٍ وضعيٍّ مجعول بنفسه أو بتبع تكليف، إلّا أنّه ليس بأمر اعتباريّ يُنتزع - كما توهّم(1) - بل ممّا يستقلّ به العقل، كما يستقلّ باستحقاق المثوبة به.وفي غيره، فالسقوط ربّما يكون مجعولاً، وكان الحكم به تخفيفاً ومنّة على العباد، مع ثبوت المقتضي لثبوتهما

___________________________________________

به بالأمر الواقعي الأوّلي {وإن كان ليس بحكم وضعي مجعول بنفسه، أو بتبع تكليف} الحكم الوضعي المجعول بنفسه، كالملكيّة والزوجيّة، والمجعول بتبع التكليف، كالنجاسة المجعول بتبع الأمر بالاجتناب مثلاً {إلّا أنّه ليس بأمر اعتباري ينتزع} كالصحّة عند المتكلّم الّتي كانت اعتباريّة انتزاعيّة {كما توهّم} في محكي التقريرات {بل ممّا يستقلّ به العقل كما يستقلّ باستحقاق المثوبة به} حين الموافقة، فحيث يرى العقل الموافقة يحكم بسقوط الأمر وبسبب سقوطه يسقط القضاء والإعادة، وهذا كسائر الأحكام العقليّة نحو حسن الإحسان والعدل وقبح الظلم والجور، ولكن لا يخفى أنّ استقلال العقل بذلك لا ينافي كونه اعتباريّاً، فتأمّل.

{و} أمّا الصحّة بمعنى سقوط القضاء والإعادة {في غيره} أي: غير المأمور به بالأمر الواقعي، بل المأمور به بالأمر الاضطراري والظاهري {ف-} الصحة المستلزمة ل-{السقوط ربما يكون مجعولاً} وربما لا يكون مجعولاً. بيان ذلك: إن إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري والظاهري مسقط للقضاء والإعادة بالنسبة إلى أمرهما قطعاً، وهذا ليس بمجعول، بل من لوازم الإتيان عقلاً، كما أنّ إسقاط الإتيان بالمأمور به الواقعي مسقط لأمره عقلاً، كما تقدّم.

وأمّا مسقطيّة الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي فهو مجعول {وكان الحكم به} أي: بسقوط القضاء والإعادة بالنسبة إلى الأمر الواقعي {تخفيفاً ومنّة على العباد مع ثبوتالمقتضي لثبوتهما} أي: ثبوت القضاء والإعادة

ص: 440


1- مطارح الأنظار 1: 737.

- كما عرفت في مسألة الإجزاء - كما ربّما يحكم بثبوتهما، فيكون الصّحّة والفساد فيه حكمين مجعولين، لا وصفين انتزاعيّين.

___________________________________________

{كما عرفت في مسألة الإجزاء} تفصيله.

نعم، قد لا يبقى محلّ للمأمور به الواقعي بعد الإتيان الظاهري والاضطراري، كأن لا يبقى شيء معتدّ به من المصلحة بحيث يقبل التدارك، فيكون سقوط القضاء والإعادة بالنسبة إلى الواقعي حكماً عقليّاً غير مجعول، كما في ما لو كان الوضوء المنكوس في حال التقيّة وافياً بغالب مصلحة الوضوء الصحيح، بحيث لا يبقى للوضوء بقيّة مصلحة يمكن تداركها، فإنّه يسقط الوضوء التقيي أمر الواقعي عقلاً لا شرعاً.

قد تحصل ممّا ذكرنا في الأوامر الظاهريّة والاضطراريّة أنّ إسقاطهما على ثلاثة أقسام:

الأوّل: إسقاط أمرهما، وهذا عقلي.

الثّاني: إسقاط الأمر الواقعي في صورة عدم وفائهما بمعظم مصلحة الواقع، وهذا شرعيّ امتناني.

الثّالث: إسقاط الأمر الواقعي في صورة وفائهما بمعظم مصلحة الواقع، بحيث لا يبقى مقدار قابل للتدارك، وهذا عقليّ أيضاً {كما ربّما يحكم بثبوتهما} أي: ثبوت القضاء والإعادة بالنسبة إلى الأمر الواقعي - في ما إذا أتى بالأمر الظاهري والاضطراري - {فيكون الصحّة والفساد فيه} أي: في غير الأوامر الواقعيّة - أعني: الاضطراريّة والظاهريّة - {حكمين مجعولين} قال السّيّد الحكيم: «إذ الصحّة عين سقوطالإعادة والقضاء، والفساد عين ثبوتهما وهما شرعيّان»(1) {لا وصفين انتزاعيين}، فتدبّر.

ص: 441


1- حقائق الأصول 1: 430.

نعم، الصّحّة والفساد في الموارد الخاصّة لا يكاد يكونان مجعولين، بل إنّما هي تتّصف بهما بمجرّد الانطباق على ما هو المأمور به.

هذا في العبادات.

وأمّا الصحّة في المعاملات:

___________________________________________

ثمّ إنّه كان الكلام إلى هنا في الكليّات، بمعنى أنّه يحكم الشّرع أو العقل بالصحّة في ما لو توافق المأتي به - بعنوانه الكلّي - للمأمور به، ويحكمان بالفساد في صورة عدم الموافقة، أمّا شخص هذه الصلاة الخارجيّة الّتي هي فرد من أفراد المأتي به الكلّي، فالمدار في صحّتها وفسادها ما أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {نعم، الصحّة والفساد في الموارد الخاصّة} الشّخصيّة الخارجيّة الّتي يوجدها المكلّف {لا يكاد يكونان مجعولين} شرعاً {بل إنّما هي} أي: الموارد الخاصّة {تتصف بهما} أي: بالصحّة والفساد {بمجرّد الانطباق على ما هو المأمور به} فحيث انطبق الكلّي على هذا الفرد الخارجي كان صحيحاً ومتى لم ينطبق كان فاسداً، ومن البديهي أنّ انطباق الكلّي على الفرد وعدمه ليس بمجعول شرعي، بل هو أمر قهري، واتصاف الموارد الشّخصيّة بهما ليس أمراً مستقلّاً في قبال اتصاف الكلّي، كما لا يخفى.

وقد أورد العلّامة المشكيني(رحمة

الله) على قوله: «نعم» الخ: «بأنّ الشّخص لهحيثيّتان: حيثيّة وجود الجامع في ضمنه بهذا الاعتبار عين الكلّي، وحيثيّة خصوصيّته الفرديّة، وبهذا لا يتصف بالصحّة والفساد، فقوله: «نعم» الخ مستدرك»(1).

{هذا} تمام الكلام {في العبادات، وأمّا الصحّة} والفساد {في المعاملات} في كونها مجعولة بجعل مستقلّ تشريعي، أو بتبع التكليف، أو أمراً اعتباريّاً، وجوه:

والأقوى عند المصنّف التفصيل بين صحّة الكلّي وفساده وبين صحّة الشّخص

ص: 442


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 227.

فهي تكون مجعولةً؛ حيث كان ترتّب الأثر على معاملة إنّما هو بجعل الشّارع، وترتيبه عليها ولو إمضاءً؛ ضرورة أنّه لولا جعله لما كان يترتّب عليه؛ لأصالة الفساد.

نعم، صحّة كلّ معاملة شخصيّةٍ وفسادُها ليس إلّا لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سبباً وعدمه، كما هو الحال في التكليفيّة من الأحكام؛ ضرورة أنّ اتصاف المأتيّ به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما، ليس إلّا لانطباقه مع ما هو الواجب أو الحرام.

___________________________________________

وفساده.

أمّا صحّة الكلّي: {فهي تكون مجعولة، حيث كان ترتّب الأثر على معاملة إنّما هو بجعل الشّارع وترتيبه} أي: الأثر {عليها} أي: على المعاملة {ولو إمضاءً} للمعاملة العرفيّة.

وإنّما قلنا بتوقّف صحّة المعاملة على جعل الشّارع {ضرورة أنّه لولا جعله} ولو بنحو الإمضاء {لما كان يترتّب} الأثر{عليه} أي: على العقد أو الإيقاع المعاملي {لأصالة الفساد} فإنّ الأصل بقاء مال زيد السّائغ على ملكيّته وكذا الثّمن، وهكذا سائر العقود والإيقاعات - كما قرّره الشّيخ(رحمة

الله) في أوّل كتاب البيع - .

وأمّا صحّة المعاملة الشّخصيّة الخارجيّة وفسادها فهي على ما أشار إليه المصنّف(رحمة الله) بقوله: {نعم، صحّة كلّ معاملة شخصيّة وفسادها} ليست أمراً شرعيّاً مجعولاً بل هي أمر عقلي، إذ {ليس إلّا لأجل انطباقها مع ما هو} أي: الكلّي {المجعول سبباً وعدمه} فالكلّي مجعول دون الجزئي {كما هو الحال في التكليفيّة من الأحكام} حيث تقدّم أنّ الكلّي سواء كان مجعولاً شرعاً أو عقلاً كان الجزئي عقليّاً {ضرورة أنّ اتصاف} الفرد الشّخصي الخارجي {المأتي به بالوجوب أو الحرمة} في العبادات وبعض المعاملات وبالصحّة والفساد في جميعها {أو غيرهما} كالكراهة والاستحباب والإباحة {ليس إلّا لانطباقه} أي: انطباق هذا الفرد {مع ما} أي: الكلّي الّذي {هو الواجب أو الحرام} أو غيرهما، وقد تقدّم

ص: 443

السّابع: لا يخفى: أنّه لا أصل في المسألة يعوّل عليه لو شكّ في دلالة النّهي على الفساد. نعم، كان الأصل في المسألة الفرعيّة: الفساد، لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحّة في المعاملة.

___________________________________________

الإشكال في هذا الاستدراك، واللّه تعالى العالم.

[الأمر السّابع]

{السّابع}: لو شكّ في دلالة النّهي على الفساد في العباداتوالمعاملات ولم يتمّ دليل القول بالفساد وغيره فهل هناك أصل في المقام يدلّ على الفساد أو الصحّة أم لا أصل في البين؟

{لا يخفى أنّه لا أصل في المسألة يعوّل عليه لو شكّ في دلالة النّهي على الفساد}.

إن قلت: أصالة عدم دلالة النّهي على الفساد لا مانع منها.

قلت: جريان هذا الأصل متوقّف على الشّكّ في الدلالة ولا شكّ فيها، وحيث لا يجري الأصل في هذه المسألة فلا بدّ وأن ننقل الكلام إلى متعلّق النّهي - أعني: العبادة والمعاملة - .

{نعم، كان الأصل في المسألة الفرعيّة الفساد} إذ الأصل عدم ترتّب الأثر على هذه المعاملة المشكوك فيها، وهذا الأصل يجري في جميع أبواب العقود والإيقاعات، ولكن إنّما يجري {لو لم يكن هناك} في المعاملة {إطلاق} نحو {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1) {أو عموم} نحو {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(2) بحيث {يقتضي الصحّة في المعاملة} حتّى في مورد النّهي، وأمّا لو كان عموم أو إطلاق فهو مقدّم على الأصل، إذ لا شكّ حينئذٍ.

ص: 444


1- سورة البقرة، الآية: 275.
2- سورة المائدة، الآية: 1.

وأمّا العبادة فكذلك؛ لعدم الأمر بها مع النّهي عنها، كما لا يخفى.

الثّامن: أنّ متعلّق النّهي: إمّا أن يكون نفس العبادة، أو جزئها، أو شرطَها الخارج عنها، أو وصفَها الملازم لها، كالجهر والإخفات للقراءة،

___________________________________________

هذا تمام الكلام في المعاملة {وأمّا العبادة فكذلك} الأصل فيها الفساد {لعدم الأمر بها مع النّهي عنها} اللّهمّ إلّا أن يقال بكفاية ملاك الأمر في صحّة العبادة، كما تقدّم بيان ذلك في بعض المباحث السّابقة.

ولكن لا يخفى أنّ أصالة الفساد إنّما تجري في العبادة في ما لو كان الشّكّ من حيث الشّكّ في أصل الأمر، أو من حيث الشّكّ في مطابقة المأتي به للمأمور به، أمّا لو كان شكّ من جهة الشّبهة الحكميّة - أعني: الشّكّ في الأجزاء والشّرائط - فالبراءة حاكمة على هذا الأصل {كما لا يخفى} وتحقيق الكلام يحتاج إلى بسط لا يسعه المقام.

[الأمر الثّامن]

اشارة

{الثّامن: أنّ متعلّق النّهي} على أقسام: لأنّه {إمّا أن يكون} النّهي متعلّقاً ب- {نفس العبادة} كالصلاة في أيّام الحيض والصوم يوم العيد {أو جزئها} كقراءة سورة العزيمة في الصلاة أو السّجود رياءً فيها {أو شرطها الخارج عنها} قيداً وإن كان داخلاً تقيّداً، كالصلاة في السّاتر النّجس أو الحرير {أو وصفها الملازم لها} بحيث لا توجد العبادة بدونه {كالجهر والإخفات للقراءة} فإنّ الجهر الّذي هو وصف ملازم في الجملة منهيّ عنه في الصلوات الإخفاتيّة، والإخفات كذلك في الصلوات الجهريّة.

قال المصنّف في حاشية هذا المقام: «فإنّ كلّ واحد منهما لا يكاد ينفكّ عن القراءة وإن كانت هي تنفكّ عن أحدهما، فالنهي عن أيّهما يكون مساوقاً للنهي عنها، كما لا يخفى»(1)،

انتهى.

ص: 445


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 232.

أو وصفَها الغيرَ الملازم، كالغصبيّة لأكوان الصلاة المنفكّة عنها.

لا ريب في دخول القسم الأوّل في محلّ النّزاع، وكذا القسم الثّاني، بلحاظ أنّ جزء العبادة عبادة، إلّا أنّ بطلان الجزء لا يوجب بطلانها إلّا مع الاقتصار عليه، لا مع الإتيان بغيره ممّا لا نهي عنه،

___________________________________________

{أو وصفها الغير الملازم} بحيث يكون بين المنهي عنه والمأمور به عموم من وجه {كالغصبيّة لأكوان الصلاة المنفكّة عنها} فإنّه قد تتحقّق الصلاة بدون الغصب، وقد يتحقّق الغصب بدون الصلاة، وقد يجتمعان، وعلى كلّ تقدير فالغصبيّة غير ملازم.

إن قلت: ما الفرق بين هذا وبين الجهر والإخفات، إذ بين كلّ منهما وبين العبادة أيضاً عموم من وجه، فقد يتحقّقان بدون القراءة كالجهر والإخفات بالشعر والنّثر ونحوهما، وتتحقّق القراءة بدون الجهر أو بدون الإخفات.

والحاصل: أنّ بين كلّ من الجهر والقراءة والإخفات والقراءة عموماً من وجه.

قلت: الأمر كما ذكر، ولكن المصنّف قيد الجهر والإخفات بالقراءة، إذ ربّما يكون النّهي عن مطلق الجهر كما لو كان هناك مريض نائماً يتأذّى من الجهر، وقد يكون النّهي عن الجهر في القراءة، كما تقدّم.

وكيف كان، فتحصّل أنّ أقسام النّهي عن العبادة خمسة {لا ريب في دخول القسم الأوّل في محلّ النّزاع} وأنّه هل النّهي عن صلاة الحائض موجب لفسادها أم لا {وكذا القسم الثّاني} الّذي تعلّق النّهي بجزء العبادة، وذلك {بلحاظ أنّ جزء العبادة عبادة} فالنهي عنه نهي عن العبادة {إلّا أنّ} هذا الدخول إنّما يوجب {بطلان الجزء} لو قلنا بأنّ النّهي عن العبادة موجبللفساد، و{لا يوجب بطلانها} أي: بطلان الصلاة بتمامها {إلّا مع} أحد فرضين:

الأوّل: {الاقتصار عليه} أي: على ذلك الجزء، كأن يأتي بسورة العزيمة في الصلاة {لا مع الإتيان بغيره} أي: بغير هذا الجزء المنهي عنه {ممّا لا نهي عنه} بأن

ص: 446

إلّا أن يستلزم محذوراً آخر.

وأمّا القسم الثّالث: فلا يكون حرمة الشّرط والنّهي عنه موجباً لفساد العبادة إلّا في ما كان عبادة، كي يكون حرمته موجباً لفساده، المستلزم لفسادِ المشروط به.

___________________________________________

لا يأتي بسورة أُخرى مع سورة العزيمة.

ووجه بطلان العبادة في هذه الصورة واضح، إذ انتفاء الجزء موجب لانتفاء الكلّ.

الثّاني: أن لا يقتصر عليه، بل يأتي بالجزء الحقيقي معه أيضاً {إلّا أن يستلزم محذوراً آخر} غير ترك الجزء كأن كانت الزيادة مخلّة.

والحاصل: أنّ الإتيان بالجزء المنهي عنه له ثلاث صور:

الأُولى: أن يقترن بعدم إتيان الجزء الصحيح فتفسد العبادة.

الثّانية: أن يأتي بالجزء أيضاً ولكن كانت الزيادة مخلّة، فتفسد أيضاً.

الثّالثة: أن يأتي بالجزء ولا تكون الزيادة مخلّة، فتصحّ.

{وأمّا القسم الثّالث}: وهو الّذي تعلّق النّهي بشرطها الخارج عنها {فلا يكون حرمة الشّرط والنّهي عنه موجباً لفساد العبادة} مطلقاً، بل الشّرط على نوعين:

الأوّل: أن تكون في نفسه عبادة كالطهارات الثّلاث.الثّاني: أن لا يكون عبادة كالستر في الصلاة، والنّهي عن الشّرط لا يوجب فساد المشروط {إلّا في} النّوع الأوّل وهو {ما كان عبادة} كما لو نهى عن الوضوء بالمغصوب.

وإنّما خصّصنا الفساد بهذا النّوع {كي يكون حرمته موجباً لفساده} لأنّه عبادة والنّهي فيها يقتضي الفساد {المستلزم لفساد المشروط به} لأنّه يصير حينئذٍ فاقداً للشرط.

وأمّا النّوع الثّاني فالنهي عنه لا يوجب فساد المشروط، فإنّه لو نهى عن الصلاة

ص: 447

وبالجملة: لا يكاد يكون النّهي عن الشّرط موجباً لفساد العبادة المشروطة به لو لم يكن موجباً لفساده، كما إذا كانت عبادةً.

وأمّا القسم الرّابع: فالنّهي عن الوصف اللّازم مساوقٌ للنهي عن موصوفه، فيكون النّهي عن الجهر في القراءة - مثلاً - مساوقاً للنهي عنها؛ لاستحالة كون القراءة الّتي يجهرُ بها مأموراً بها، مع كون الجهر بها منهيّاً عنه فعلاً،

___________________________________________

في الحرير ثمّ صلّى المكلّف فيه لم تبطل صلاته إلّا أن يرجع النّهي إلى عدم جعله ستراً شرعيّاً مع اشتراط الصلاة بالستر الشّرعي، فيكون بطلان الصلاة حينئذٍ لفقدانها الشّرط، فتدبّر.

{وبالجملة لا يكاد يكون النّهي عن الشّرط موجباً لفساد العبادة المشروطة به لو لم يكن} النّهي عن الشّرط {موجباً لفساده} أي: فساد نفس الشّرط {كما إذا كانت} الشّروط {عبادة} فإنّ النّهي عنها يقتضي فسادها وبفسادها يفسد المشروط به لعدموجدانه لشرطه.

وإن شئت قلت: إنّ الشّرط على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما كان عبادة فالنهي عنها يوجب فساد المشروط.

الثّاني: ما كان توصليّاً ولكن وجوده متّحد مع وجود المشروط وهذا، كالأوّل في بطلان الشّروط.

الثّالث: ما كان توصليّاً مع عدم اتحاد الوجود، وهذا لا يوجب البطلان.

{وأمّا القسم الرّابع}: وهو ما كان النّهي عن وصفها الملازم لها {فالنهي عن الوصف اللّازم مساوق للنهي عن موصوفه} لا من جهة وجوب اتحاد المتلازمين في الحكم بل لما سيأتي {فيكون النّهي عن الجهر في القراءة - مثلاً - مساوقاً} ومساوياً {للنهي عنها} أي: عن نفس القراءة، وذلك {لاستحالة كون القراءة الّتي يجهر بها مأموراً بها مع كون الجهر بها منهيّاً عنه فعلاً} إذ لا يمكن عند العقل أن يكون أحد

ص: 448

كما لا يخفى.

وهذا بخلاف ما إذا كان مفارقاً - كما في القسم الخامس - ؛ فإنّ النّهي عنه لا يسري إلى الموصوف إلّا في ما إذا اتحد معه وجوداً، بناءً على امتناع الاجتماع. وأمّا بناءً على الجواز فلا يسري إليه،

___________________________________________

المتلازمين واجباً والآخر حراماً {كما لا يخفى} لكن حيث يبقى ملاك الوجوب في القراءة يمكن القول بصحّة العبادة، كما تقدّم الإشارة إليه في مسألة اجتماع الأمر والنّهي، فراجع.

{وهذا} الّذي ذكرنا من سراية النّهي عن الوصف بمعنى استحالة كونهمأموراً به {بخلاف ما إذا كان} الوصف غير ملازم، بل {مفارقاً كما في القسم الخامس} كالغصبيّة لا كون الصلاة المنفكّة عنها {فإنّ النّهي عنه} أي: عن الوصف {لا يسري إلى الموصوف} إذ الأمر قد تعلّق بغير ما تعلّق به النّهي فلا وجه لسراية أحدهما إلى متعلّق الآخر {إلّا في ما اتحد} الوصف {معه} أي: مع الموصوف {وجوداً} فإنّه يسري النّهي إلى متعلّق الأمر {بناءً على امتناع الاجتماع}.

{وأمّا} لو لم يتّحد الوصف مع الموصوف وجوداً، أو اتحدا ولكن {بناءً على الجواز، فلا يسري} النّهي عن الوصف {إليه} أي: إلى الموصوف.

أمّا في صورة عدم الاتحاد، فلوضوح أنّ الصلاة - مثلاً - واجبة والغصب غير المرتبط بها محرّم.

وأمّا في صورة الاتحاد بناءً على الجواز؛ فلأنّ العبادة حينئذٍ قد تعنونت بعنوانين وهو كافٍ في رفع التّضاد.

إن قلت: ما الفرق بين الصلاة في المغصوب حيث قلتم بصحّتها على القول بالجواز وبين الجهر في القراءة حيث قلتم ببطلانها حتّى على الجواز؟

قلت: الفرق هو تعدّد العنوان في الأوّل، فإنّ الواجب هو الصلاة والمحرّم هو

ص: 449

كما عرفت في المسألة السّابقة.

هذا حال النّهي المتعلّق بالجزء أو الشّرط أو الوصف.

وأمّا النّهي عن العبادة لأجل أحد هذه الأُمور: فحاله حال النّهي عن أحدها إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلّق،وبعبارة أُخرى: كان النّهي عنها بالعَرض.

وإن كان النّهي عنها على نحو الحقيقة والوصف بحاله - وإن كان بواسطة أحدها، إلّا أنّه

___________________________________________

الغصب بخلاف الثّاني فإنّ النّهي تعلّق بعين ما تعلّق به الأمر، إذ الأمر بالقراءة والنّهي عن القراءة الجهريّة، والقائلين بالجواز إنّما يقولون به في صورة تعدّد العنوان {كما عرفت في المسألة السّابقة} فتأمّل.

{هذا} كلّه {حال النّهي المتعلّق بالجزء} كالقراءة للعزائم {أو الشّرط} كالصلاة في الحرير للرجال {أو الوصف} كالجهر بالقراءة في الصلوات الإخفاتيّة {وأمّا} إذا كان {النّهي عن} نفس {العبادة لأجل أحد هذه الأُمور} كأن ينهي عن الصلاة لأجل قراءة العزيمة أو لبس الحرير أو الجهر في قراءتها، فكم فرق بين أن يقول: (لا تصلّ مع لباس الحرير) وبين أن يقول: (لا تلبس الحرير في الصلاة) {فحاله} أي: حال النّهي عن ذات العبادة لأجلها {حال النّهي عن أحدها إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلّق} نحو (زيد قائم أبوه) فكما أنّ الوصف ولو كان في الصورة راجعاً إلى الموصوف لكن في الحقيقة راجع إلى المتعلّق، كذلك النّهي وإن كان في الصورة راجعاً إلى الصلاة، لكن في الحقيقة يرجع إلى ذلك الجزء أو الشّرط أو الوصف.

{وبعبارة أُخرى: كان النّهي عنها} أي: عن العبادة {بالعرض} والمجاز {وإن كان النّهي عنها} أي: عن العبادة {على نحو الحقيقة والوصف بحاله} أي: بحال نفس الموصوف، نحو (زيد قائم) {وإن كان}النّهي عن ذات العبادة {بواسطة أحدها} أي: الجزء والوصف والشّرط {إلّا أنّه} أي: أحد الثّلاثة

ص: 450

من قبيل الواسطة في الثّبوت، لا العروض - كان حالُه حالَ النّهي في القسم الأوّل، فلا تغفل.

وممّا ذكرنا في بيان أقسام النّهي في العبادة يظهر حال الأقسام في المعاملة، فلا يكون بيانها على حِدَة بمهمّ.

___________________________________________

{من قبيل الواسطة في الثّبوت، لا} الواسطة في {العروض، كان حاله} أي: حال النّهي عن ذات العبادة {حال النّهي في القسم الأوّل} الّذي كان متعلّق النّهي نفس العبادة.

والنّتيجة بين كون النّهي من قبيل الوصف بحال المتعلّق وبين كونه من قبيل الوصف بحال الموصوف تظهر في بعض الموارد: مثل ما لو أتى بالعزيمة في الصلاة مع سورة أُخرى، ولم نقل بكون الزيادة مبطلة، فإنّه لو كان النّهي عن الصلاة المشتمل عليها على نحو الأوّل لم تبطل، بخلاف ما لو كان النّهي من قبيل الثّاني فإنّها تبطل.

ثمّ إنّ كون النّهي على أيّ النّحوين إنّما يستفاد من الظاهر، ولو شكّ فالمرجع هي الأصول العمليّة {فلا تغفل} وتدبّر.

{وممّا ذكرنا في بيان أقسام النّهي في العبادة يظهر حال الأقسام في المعاملة} وأنّ النّهي إمّا لنفسها أو لجزئها أو لشرطها أو لوصفها غير الملازم، وقد ظهر ممّا تقدّم حكم كلّ من هذه الأقسام الخمسة {فلا يكون بيانها على حدة بمهمّ}.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وأمّا الأمثلة في المعاملات على حذو أمثلةالعبادات، كنكاح الخامسة لمن عنده أربع، وبيع العبد والسّفيه في المنهي عنه لذاته، وبيع الغاصب مع جهل المشتري - على القول بأنّ البيع هو الإيجاب والقبول النّاقلين - في المنهي عنه لجزئه، وكبيع الملاقيح في المنهي عنه لشرطه، فإنّ القدرة على التسليم شرط في البيع، وكبيع الحصاة في المنهي عنه لوصفه اللّازم، فإنّ تعيين المبين بالحصاة لازم لهذا البيع، وكبيع مال الغير وبيع العنب ليعمل خمراً في المنهي عنه لوصفه المفارق، وإن كان ربّما يناقش في بعض

ص: 451

كما أنّ تفصيل الأقوال في الدلالة على الفساد وعدمها - الّتي ربّما تزيد على العشرة على ما قيل(1) - كذلك.

إنّما المهمّ بيان ما هو الحقّ في المسألة، ولا بدّ في تحقيقه - على نحوٍ يظهر الحال في الأقوال - من بسط المقال في مقامين:

الأوّل: في العبادات فنقول - وعلى اللّه الاتكال - : إنّ النّهي المتعلّق بالعبادة بنفسها، ولو كانت جزء عبادة بما هو عبادة - كما عرفت - مقتضٍ لفسادها؛

___________________________________________

الأمثلة»(2)،

انتهى.

{كما أنّ تفصيل الأقوال في} المسألة من {الدلالة على الفساد} مطلقاً {وعدمها} مطلقاً والتفاصيل المذكورة في بعض المطوّلات(3){الّتي ربّما تزيد على العشرة على ما قيل كذلك}ليس بمهم.

{إنّما المهم بيان ما هو الحقّ في المسألة، ولا بدّ في تحقيقه على نحو يظهر الحال في} سائر {الأقوال} من الصحّة والبطلان {من بسط المقال في مقامين}:

[المقام الأوّل: اقتضاء النهي عن العبادة للفساد]

المقام {الأوّل: في العبادات، فنقول - وعلى اللّه الاتكال - : إنّ النّهي المتعلّق بالعبادة بنفسها ولو كانت جزء عبادة} كالنهي عن صلاة الحائض، والنّهي عن قراءة العزيمة في الصلاة {بما هو عبادة} قيد لجزء العبادة، ويدلّ عليه تذكير الضمير، كالتكتّف في الصلاة، فإنّ النّهي عنه بما هو عبادة لا مطلقاً، ولذا أفتى بعضهم بعدم حرمة التكتّف إذا لم يكن بعنوان العباديّة، بل بداعي آخر، فتدبّر {كما عرفت مقتض لفسادها}.

ص: 452


1- مطارح الأنظار 1: 749.
2- شرح كفاية الأصول 1: 261.
3- كما في حاشية الشّيخ محمّد على القمّي(رحمة الله) على هذا الموضع. حاشية الكفاية 1: 245.

لدلالته على حرمتها ذاتاً، ولا يكاد يمكن اجتماع الصحّة - بمعنى موافقة الأمر أو الشّريعة - مع الحرمة، وكذا بمعنى سقوط الإعادة؛ فإنّه مترتّب على إتيانها بقصد القربة، وكانت ممّا يصلح لأن يتقرّب بها، ومع الحرمة لا تكاد تصلح لذلك، ويتأتّى قصدها من الملتفِت إلى حرمتها،

___________________________________________

أمّا في جزء العبادة فلأنّ الجزء إذا فسد للنهي يفسد الكلّ، إذ الكلّ عدم عند عدم جزئه، ولكن إنّما يكون ذلك في صورتين:

الأُولى: الاكتفاء بذلك الجزء بأن لا يتداركه.الثّانية: مع التدارك ولكن إذا كانت الزيادة مخلّة.

وأمّا في نفس العبادة ف- {لدلالته} أي: النّهي {على حرمتها} أي: حرمة العبادة {ذاتاً} لا تشريعاً، كما أنّ النّهي عن شرب الخمر والكذب ونحوهما يدلّ على الحرمه الذاتيّة {ولا يكاد يمكن اجتماع الصحّة - بمعنى موافقة الأمر أو الشّريعة - مع الحرمة} إذ معنى الحرمة مخالفة الشّريعة، فالجمع بينهما جمع بين الضدّين، كما لا يخفى.

{وكذا} لا يجتمع الصحّة - {بمعنى سقوط الإعادة} والقضاء - مع الحرمة {فإنّه} أي: سقوط الإعادة {مترتّب على إتيانها} أي: العبادة {بقصد القربة وكانت ممّا يصلح لأن يتقرّب بها، و} من الواضح أنّه {مع الحرمة لا تكاد} العبادة {تصلح لذلك} أي: للتقرّب بها سواء كان الشّخص ملتفتاً إلى حرمتها أم لا {و} لا يكاد {يتأتّى قصدها} أي: القربة {من الملتفت إلى حرمتها}.

والحاصل: أنّ الصحّة - بمعنى سقوط القضاء والإعادة - تتوقّف على أمرين:

الأوّل: كون الشّيء ممّا يصلح للتقرّب به.

الثّاني: أن يقصد المكلّف القربة حين الإتيان، ومع النّهي لا يجتمع الشّرطان بل يفقدان جميعاً في ما كان الآتي ملتفتاً إلى الحرمة ويفقد الصلوح في ما لم يكن

ص: 453

كما لا يخفى.

لا يقال: هذا لو كان النّهي عنها دالّاً على الحرمة الذاتيّة، ولا يكاد يتصف بها العبادة؛ لعدم الحرمة بدون قصد القربة، وعدم القدرة عليها مع قصد القربة بها إلّا تشريعاً، ومعه تكون محرّمة بالحرمةالتشريعيّة لا محالة، ومعه لا تتصف بحرمة أُخرى؛ لامتناع اجتماع المثلين كالضدّين.

فإنّه يقال:

___________________________________________

ملتفتاً {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل، فحيث لم يكن هذا المأتي به موافقاً للشريعة والأمر ولا مسقطاً للقضاء والإعادة لم يكن صحيحاً.

{لا يقال: هذا} الّذي ذكرتم من دلالة النّهي على الفساد إنّما يتمّ في ما {لو كان النّهي عنها} أي: عن العبادة {دالّاً على الحرمة الذاتيّة} فيكون حال الصلاة في حال الحيض حال شرب الخمر مثلاً {و} لكن النّهي في العبادة لا يمكن أن يكون دالّاً عليها، إذ {لا يكاد يتّصف بها} أي: بالحرمة الذاتيّة {العبادة، لعدم الحرمة بدون قصد القربة} كأن تأتي بصورة الصلاة، كما يأتي الشّخص بصورتها لتعليم غيره، ووجه عدم الحرمة حينئذٍ عدم كونها عبادة {وعدم القدرة عليها} أي: على العبادة {مع قصد القربة بها} إذ ما ليس بعبادة لا يعقل جعلها عبادة ولو أتي بها بقصد القربة، وحينئذٍ فلا يحرم {إلّا تشريعاً} لأنّه نسب إلى الشّارع ما ليس منه {ومعه} أي: مع قصد القربة {تكون محرّمة بالحرمة التشريعيّة لا محالة، ومعه} أي: مع اتصافها بالحرمة التشريعيّة {لا تتصف بحرمة أُخرى} أي: الحرمة الذاتيّة {لامتناع اجتماع المثلين ك-} امتناع اجتماع {الضدّين}.

{فإنّه يقال:} نمنع قولكم: «لعدم الحرمة بدون قصد القربة» إذ العبادة المأخوذة في عنوان المسألة في قولنا: «النّهي في العبادة يدلّ على الفساد أم لا» لا يراد بها ما يعتبر فيه قصد القربة، حتّى يرد ما ذكرتم من أنّ العبادة بهذا المعنى

ص: 454

لا ضير في اتصاف ما يقع عبادةً - لو كان مأموراً به - بالحرمة الذاتيّة، مثلاً: صوم العيدين كان عبادة منهيّاً عنها، بمعنى أنّه لو أمر به كان عبادة، لا يسقط الأمر به إلّا إذا أتى به بقصد القربة، كصوم سائر الأيّام.

هذا في ما إذا لم يكن ذاتاً عبادة، كالسجود للّه - تعالى - ونحوه، وإلّا كان محرّماً مع كونه فعلاً عبادةً، مثلاً: إذا نُهِيَ الجنبُ والحائض عن السّجود له - تبارك وتعالى - ، كان عبادةً محرّمةً ذاتاً حينئذٍ؛ لما فيه من المفسدة والمبغوضيّة في هذا الحال.

مع أنّه لا ضير في اتصافه بهذه الحرمة مع الحرمة التشريعيّة، بناءً على أنّ الفعل فيها

___________________________________________

لا تجتمع مع الحرمة، بل المراد بالعبادة الشّيء الّذي لو أمر به لكان عبادة، وعلى هذا ف- {لا ضير في اتصاف ما يقع عبادة لو كان مأموراً به بالحرمة الذاتيّة} فيحرم ذاتاً ولو لم يقصد القربة {مثلاً صوم العيدين كان عبادة منهيّاً عنها، بمعنى أنّه لو أمر به} أي: بصوم العيدين {كان عبادة لا يسقط الأمر به إلّا إذا أتى به بقصد القربة كصوم سائر الأيّام} حيث إنّها لا يسقط الأمر الوجوبي أو الاستحبابي المتوجّه إليها إلّا إذا أُتي بقصد تقربه.

وبهذا كلّه ظهر سقوط قول المستشكل: «لعدم الحرمة» الخ.

{هذا في ما إذا لم يكن} المنهي عنه {ذاتاً عبادة} بأن كانت عباديّته متوقّفة على الأمر {كالسجود للّه -تعالى - ونحوه} مثال للعبادة الذاتيّة {وإلّا} فلو كانت عبادة ذاتيّة {كان محرّماً مع كونه فعلاً عبادة} فيسقط قول المستشكل: «لعدم الحرمة» الخ أيضاً.

{مثلاً: إذا نهي الجنب والحائض عن السّجود له - تبارك وتعالى - كان} السّجود {عبادة محرّمة ذاتاً حينئذٍ} أي: حين النّهي {لما فيه من المفسدة والمبغوضيّة في هذا الحال، مع} أنّ لنا أن نمنع قولكم: «وعدم القدرة عليها» الخ، ف- {أنّه لا ضير في اتصافه} أي: الشّيء {بهذه الحرمة} الذاتيّة {مع الحرمة التشريعيّة} ولا يلزم اجتماع الضدّين المستحيل لاختلاف الموضوعين {بناءً على أنّ الفعل فيها} أي:

ص: 455

لا يكون في الحقيقة متصفاً بالحرمة، بل إنّما يكون المتصف بها ما هو من أفعال القلب، كما هو الحال في التجرّي والانقياد، فافهم، هذا.

مع أنّه لو لم يكن النّهي فيها دالّاً على الحرمة لكان دالّاً على الفساد؛ لدلالته على الحرمة التشريعيّة،

___________________________________________

في العبادة المحرّمة بالحرمة التشريعيّة {لا يكون في الحقيقة متصفاً بالحرمة} التشريعيّة {بل إنّما يكون المتصف بها ما هو من أفعال القلب} إذ التشريع عبارة عن البناء على كون حكم الواقعة كذا {كما هو الحال في التجرّي والانقياد} فإنّ الأوّل عصيان قلبي والثّاني طاعة قلبيّة.

وعلى هذا فلا يجتمع التحريم الذاتي والتشريعي في موضوع واحد، بل موضوع الحرمة الذاتيّة هو الفعل وموضوع الحرمة التشريعيّة هو القصد القلبي{فافهم} إشارة إلى أنّ الحرمة التشريعيّة - وإن كانت متقوّمة بالقصد - إلّا أنّ الفعل يتصف بها، فيجتمع المثلان، كما ذكره المستشكل.

{هذا} ويمكن أن يقال: إنّه على تقدير تسليم اجتماع الضدّين ليس بمستحيل، إذ اجتماعهما يوجب تأكّد الحرمة، فلو شرب الخمر بعنوان التشريع كان محرّماً مؤكّداً، كما في اجتماع الوجوبين، مثل ما لو نذر أداء صلاة الظهر.

ومن ذلك كلّه ظهر لك أنّ المصنّف(رحمة الله) أجاب عن المستشكل بثلاثة أجوبة:

الأوّل: قوله: «لا ضير».

الثّاني: قوله: «هذا في ما إذا لم يكن».

الثّالث: قوله: «مع أنّه لا ضير».

وهنا جواب رابع أشار إليه: {مع أنّه لو لم يكن النّهي فيها} أي: في العبادة المنهي عنها، كالصلاة في حال الحيض {دالّاً على الحرمة} الذاتيّة {لكان} على الأقلّ {دالّاً على الفساد لدلالته على الحرمة التشريعيّة} وهي كافية في فساد العبادة

ص: 456

فإنّه لا أقلّ من دلالته على أنّها ليست بمأمور بها، وإن عمّها إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه.

نعم، لو لم يكن النّهي عنها إلّا عَرَضاً، كما إذا نُهِيَ عنها في ما كانت ضدّ الواجب - مثلاً - لا يكون مقتضياً للفساد، بناءً على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ إلّا كذلك - أي: عرضاً - ، فيخصّص به أو يقيّد.

___________________________________________

{فإنّه لا أقلّ من دلالته} أي: النّهي {على أنّهاليست بمأمور بها} وحيث لا أمر لا وجه للصحّة {وإن عمّها} أي: عمّ هذه العبادة المنهي عنها {إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه}.

والحاصل: أنّ النّهي عن الصلاة في حال الحيض يدلّ على خروجها عن عمومات وإطلاقات وجوب الصلاة واستحبابها، وحيث لا تشملها لا يمكن قصد القربة فيها، إذ لا رجحان ذاتي لها فإنّه بعد التخصيص يكون المقام من باب التعارض لا التزاحم.

وبهذا ظهر أنّه لا تصحّ هذه الصلاة على كلا القولين: قول من يقول باحتياج العبادة إلى الأمر، وقول من يقول بكفاية الملاك، إذ لا أمر لها ولا رجحان ذاتي فيها.

{نعم} على مبنى من يقول بكفاية الملاك في صحّة العبادة من غير احتياج إلى الأمر قد يتصوّر وجود النّهي عن العبادة مع صحّتها، وذلك في ما {لو لم يكن النّهي عنها إلّا عرضاً} بأن كان في الواقع متعلّقاً بشيء آخر وإنّما يتعلّق بالعبادة مجازاً {كما إذا نهى عنها في ما كانت} العبادة {ضدّ الواجب مثلاً} كالنهي عن الصلاة الّتي هي ضدّ الإزالة {لا يكون} النّهي حينئذٍ {مقتضياً للفساد} إذ النّهي في الحقيقة متعلّق بترك الإزالة لا بالصلاة الّتي هي مقارنة لترك الإزالة، ونسبة النّهي إلى الصلاة من باب نسبة حكم أحد المتقارنين إلى المقارن الآخر.

ولكن إنّما يستقيم هذا {بناءً على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ إلّا كذلك، - أي: عرضاً} وتبعاً - {ف-} حينئذٍ {يخصّص} عموم دليل الصلاة أو إطلاقه {به} أي: بهذا النّهي الّذي كان عن العبادة حقيقة، لا ما كان عنها عرضاً {أو يقيّد}

ص: 457

المقام الثّاني: في المعاملات.

ونخبة القول: أنّ النّهي الدالّ على حرمتها لا يقتضي الفساد؛ لعدم الملازمةفيها - لغة ولا عرفاً - بين حرمتها وفسادها أصلاً: كانت الحرمة متعلّقة بنفس المعاملة بما هو فعلٌ بالمباشرة، أو بمضمونها بما هو فعلٌ بالتسبيب، أو بالتسبّب بها إليه، وإن لم يكن السّبب ولا المسبّب - بما هو فعل من الأفعال - بحرام.

___________________________________________

به الإطلاق، وقوله: «فيخصّص» الخ تفريع على ما قبل «نعم» لا ما بعده، فتدبّر.

[المقام الثّاني: عدم اقتضاء النهي عن المعاملة للفساد]

{المقام الثّاني: في المعاملات، ونخبة القول أنّ النّهي الدالّ على حرمتها} أي: حرمة المعاملة {لا يقتضي الفساد لعدم الملازمة فيها} أي: في المعاملة {لغة ولا عرفاً بين حرمتها وفسادها أصلاً} إذ المراد من الصحّة في باب المعاملة ترتّب الأثر، كالملكيّة والزوجيّة والحريّة ونحوها، ولا منافاة بين حرمة إيجاد أسباب هذه الأشياء مع حصول هذه الآثار في الخارج سواء {كانت الحرمة متعلّقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة} بمعنى أنّ العقد المعاملي يحرم على المكلّف مباشرته كالبيع وقت النّداء، فإنّه يحرم إيجاد العقد - أي: التلفّظ به وقت النّداء - .

ولا ينافي ذلك وقوع النّقل والانتقال في الخارج {أو} كانت الحرمة متعلّقة {بمضمونها بما هو فعل بالتسبيب} بمعنى تعلّق الحرمة بمضمون المعاملة كالملكيّة في النّهي عن بيع المصحف للكافر، فإنّ العقد واللفظ ليس مبغوضاً، كالأوّل، بل حصول الملكيّة في الخارج مبغوض {أو} كانت الحرمة متعلّقة {بالتسبّب بها} أي: بهذه المعاملة {إليه} أي: إلى هذا الأثر، كما في الظاهر، فإنّ جعل هذا اللفظ الخاصّ سبباً للفرقة محرّماً {وإن لم يكن السّبب} أعني: التلفّظ {ولاالمسبّب} أعني: مطلق الفرقة {بما هو فعل من الأفعال} متعلّق بقوله: «وإن لم يكن السّبب» {بحرام}.

ص: 458

وإنّما يقتضي الفساد في ما إذا كان دالّاً على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحّتها، مثل النّهي عن أكل الثّمن أو المثمن في بيع، أو بيع شيء.

___________________________________________

توضيح المقام: أنّ النّهي قد يكون لمجرّد التلفّظ، مثلاً لو كان التكلّم مضرّاً ونهى المولى عن المعاملة لهذا السّبب كان النّهي في الحقيقة عن التلفّظ.

وقد يكون لحصول الأثر في الخارج، مثلاً لا يحبّ المولى انتقال مال العبد إلى عدوّه فينهاه عن المعاملة معه، فإنّ النّهي في الحقيقة عن الأثر.

وقد يكون لجعل هذا اللفظ مؤثّراً لهذا الأثر فاللفظ بما هو لفظ ليس بمبغوض والأثر بما هو أثر ليس بمبغوض، وإنّما المبغوض جعل هذا اللفظ مؤثّراً لهذا الأثر.

مثلاً: انتقال المال إلى زيد ليس بمبغوض والتكلّم بما هو تكلّم ليس مضرّاً، وإنّما المبغوض جعل اللفظ بالنحو المنهي سبباً لانتقال المال {وإنّما يقتضي} النّهي {الفساد في ما إذا كان دالّاً على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحّتها} أي: صحّة المعاملة، بمعنى أنّ الشّارع نهى عن شيء وكان ذلك بحيث يلزم من تحريمه فساد المعاملة، ولا يعقل صحّة المعاملة مع تحريم ذلك الشّيء لأجل التلازم الواقع بين حرمته وفساد المعاملة، إمّا تلازماً حقيقيّاً أو تلازماً عرفيّاً أو تلازماً شرعيّاً.

فالنهي حينئذٍ يدلّ على الفساد بضميمة ذلك التلازم المعلوم خارجاً {مثل النّهي عن أكل الثّمن أو المثمن في بيع}كقولهم(علیهم السلام): «ثمن العذرة سحت»(1)،

وقولهم(علیهم السلام) في ثمن الجارية المغنية: «كثمن الكلب»(2)، ونحو ذلك {أو} النّهي عن {بيع شيء} كقوله(صلی الله علیه و آله): «لا تبع ما ليس عندك»(3).

ص: 459


1- تهذيب الأحكام 6: 372، وفيه: «ثمن العذرة من السُّحت».
2- جامع أحاديث الشيعة 22: 406.
3- تهذيب الأحكام 7: 230، وفيه: «نهى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)... عن بيع ما ليس عندك».

نعم، لا يبعد دعوى ظهور النّهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها، كما أنّ الأمر بها يكون ظاهراً في الإرشاد إلى صحّتها، من دون دلالته على إيجابها أو استحبابها

___________________________________________

وكيف كان، فالوجه في دلالة هذا القسم من النّهي على الفساد أنّه لو كان بيع العذرة والجارية المغنيّة والبيع الرّبوي صحيحاً لكان ثمنه ملكاً للبائع ومثمنه ملكاً للمشتري، للتلازم بين الصحّة والمملوكيّة ويترتّب عليه جواز التصرّف، وحيث علم من النّهي عدم جواز التصرّف كشف عن فساد البيع. فتحصّل من جميع ذلك أنّ النّهي على خمسة أقسام:

الأوّل: النّهي عن السّبب.

الثّاني: النّهي عن المسبّب.

الثّالث: النّهي عن جعل شيء خاصّ سبباً لمسبّب خاصّ، وهذه الثلاثة لا تدلّ على الفساد.

الرّابع: النّهي الدالّ على حرمة الثّمن.

الخامس: النّهي الدالّ على حرمة المثمن، وهذان يدلّان على الفساد، وقد تتداخل الأقسام، كما لا يخفى.{نعم، لا يبعد} تفصيل آخر في مسألة النّهي عن المعاملة، وحاصله أنّ المعاملة على قسمين:

الأوّل: العقود والإيقاعات.

الثّاني: غيرها ممّا ليس عبادة.

ففي الأوّل نقول بدلالة النّهي على الفساد ل- {دعوى ظهور النّهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها} وعدم ترتّب الأثر المطلوب عليها من دون دلالة للنهي على حرمتها أو كراهتها {كما أنّ الأمر بها} أي: بالمعاملة {يكون ظاهراً في الإرشاد إلى صحّتها} وترتّب الأثر عليها {من دون دلالته} أي: الأمر بالمعاملة {على إيجابها أو استحبابها} فقوله(علیه السلام): «لا تبع ما ليس عندك» يدلّ على الفساد، كما أنّ قوله

ص: 460

كما لا يخفى. لكنّه في المعاملات بمعنى العقود والإيقاعات، لا المعاملات بالمعنى الأعمّ المقابل للعبادات.

فالمعوّل هو: ملاحظة القرائن في خصوص المقامات، ومع عدمها لا محيص عن الأخذ بما هو قضيّة صيغة النّهي من الحرمة، وقد عرفت أنّها غير مستتبعة للفساد لا لغة ولا عرفاً.

نعم، ربّما يتوهّم استتباعها له شرعاً من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه:

___________________________________________

- تعالى - {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ} يدلّ على الصحّة، وفيه تأمّل {كما لا يخفى}.

{لكنّه} على تقدير التسليم إنّما يكون ذلك {في} القسم الأوّل، أي: {المعاملات بمعنى العقود والإيقاعات، لا} القسمالثّاني، أي: {المعاملات بالمعنى الأعمّ المقابل للعبادات} أعني: ما لا يعتبر فيه قصد القربة، أو ما لو أمر به لكان توصليّاً، إذ لا ظهور للأوامر والنّواهي المتعلّقة بهذا القسم من المعاملة في الإرشاد.

{فالمعوّل} حينئذٍ في القسم الثّاني {هو ملاحظة القرائن} الحاليّة أو المقاليّة {في خصوص المقامات} فالأمر في قوله - تعالى - {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(1) إرشادي، والنّهي في قوله - تعالى - : {لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ}(2) تحريمي {ومع عدمها} أي: عدم القرينة المفيدة لكون النّهي والأمر إرشاديّاً أو تحريميّاً {لا محيص عن الأخذ بما هو قضيّة} أي: مقتضى {صيغة النّهي عن الحرمة} لما مرّ في بحث النّواهي من ظهورها في التحريم.

{و} لكن على تقدير حملها على التحريم {قد عرفت أنّها غير مستتبعة للفساد لا لغة ولا عرفاً} ولا شرعاً.

{نعم، ربّما يتوهّم استتباعها} أي: صيغة النّهي {له} أي: للفساد {شرعاً من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه:} فمن هذه الأخبار المتفرّقة يستفاد الملازمة

ص: 461


1- سورة المائدة، الآية: 4.
2- سورة المائدة، الآية: 95.

منها: ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر(علیه السلام): سألته عن مملوك تزوّجَ بغير إذن سيّده، فقال: «ذلك إلى سيّده، إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما». قلت: - أصلحك اللّه تعالى - إنّ حكم بن عتيبة وإبراهيمَ النّخعي وأصحابَهما يقولون: «إنّ أصل النّكاح فاسدٌ ولا يحلّ إجازة السّيّد له». فقال أبو جعفر(علیه السلام): «إنّه لم يعصِ اللّه، إنّما عصى سيّده، فإذا أجاز فهو له جائز»(1)؛ حيث دلّ بظاهره أنّ النّكاح لو كان ممّا حرّمه اللّه - تعالى - عليه كان فاسداً.

ولا يخفى:

___________________________________________

الدائميّة الشّرعيّة بين النّهي والفساد.

{منها ما رواه} ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني - قدّس اللّه روحه - {في الكافي و} كذا رواه الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه(رحمة الله) في كتاب من لا يحضره {الفقيه عن زرارة عن الباقر(علیه السلام): سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده؟ فقال: «ذلك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما».

قلت: أصلحك اللّه تعالى، إنّ حكم بن عتيبة وإبراهيم النّخعي وأصحابهما يقولون: «إنّ أصل النّكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السّيّد له». فقال أبو جعفر(علیه السلام): «إنّه لم يعص اللّه إنّما عصى سيّده، فإذا أجاز فهو له جائز»}.

وجه الدلالة ما أشار إليه بقوله: {حيث دلّ} قوله(علیه السلام): «إنّه لم يعص اللّه» {بظاهره} أي: مفهومه {أنّ النّكاح لو كان ممّا حرّمه - تعالى - عليه كان فاسداً} ونحو هذه الرّواية بعض الرّوايات الأُخر في نحو هذا الحكم.{و} لكن {لا يخفى} أنّ الاستدلال بنحو هذه الرّواية للمطلب فاسدٌ صغرى وكبرى.

أمّا كبرىً فلأنّه مع فرض الدلالة لا يثبت بمثل هذه الموارد الجزئيّة كبرى كليّة في

ص: 462


1- الكافي 5: 478؛ من لا يحضره الفقيه 3: 541.

أنّ الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا: أنّ النّكاح ليس ممّا لم يمضه اللّه ولم يُشرّعه كي يقع فاسداً، ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى للفساد، كما لا يخفى.

___________________________________________

جميع أبواب العقود والإيقاعات وسائر التوصليّات على تلازم النّهي والفساد شرعاً.

وأمّا صغرى فلعدم دلالة هذه الرّواية على المدّعى، ل- {أنّ الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا} أي: قوله(علیه السلام): «لم يعص اللّه» {أنّ النّكاح ليس ممّا لم يمضه اللّه ولم يشرّعه كي يقع فاسداً} سواء أجاز المولى أم لم يجز {ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى} أي: بمعنى عدم إمضاء اللّه - سبحانه - وتشريعه، لا بمعنى نهي اللّه عنه {للفساد، كما لا يخفى}.

توضيح المقام: أنّ العصيان على قسمين:

الأوّل: العصيان التابع لعدم الإمضاء والإجازة، مثلاً: لو لم يجز اللّه - تعالى - ولم يمض جعل العقد المعلّق على شرط سبباً لحليّة الفرج، ثمّ جعل شخص ذلك سبباً كان عاصياً له - تعالى - .

الثّاني: العصيان التابع للنهي، مثلاً: لو نهى اللّه - سبحانه - عن المعاملة الرّبويّة، ثمّ عامل شخص بهذه المعاملة كان عاصياً له - تعالى - وكذا معصية العبد لسيّده على نحوين.إذا عرفت هذا قلنا: إنّ قول الرّاوي: «تزوّج بغير إذن سيّده» ظاهر في القسم الأوّل من العصيان، وعلى هذا فالظاهر أنّ المعصية المنفية في قوله: «لم يعص اللّه» والمعصية المثبتة في قوله: «وإنّما عصى سيّده» من مساق واحد، أعني: معصية وضعيّة، أي: العمل بدون الإجازة والإمضاء، لا معصية تكليفيّة، أي: العمل بعد النّهي، فمعنى «لم يعص اللّه» إجازة اللّه - سبحانه - هذا النّكاح، ومفهومه أنّه لو كان ممّا لم يجزه اللّه ولم يمضه كان فاسداً. ولا نزاع في هذا، بل النّزاع في مخالفة النّهي.

ص: 463

ولا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه اللّه ولم يأذن به، كما أُطلق عليه بمجرّد عدم إذن السّيّد فيه أنّه معصية.

___________________________________________

والحاصل: أنّ الرّواية تدلّ بمفهومها على أنّ العصيان النّاشئ عن عدم الإجازة موجب للفساد، ولا تدلّ على محلّ البحث وهو أنّ العصيان النّاشئ عن النّهي موجب للفساد، وإن لم تكتف بما ذكرناه من التوضيح فراجع شرح الخوئيني(1) والرّشتي(2)

- رحمهما اللّه - .

إن قلت: ظاهر المعصية عصيان النّهي فقوله(علیه السلام): «لم يعص اللّه» مفهومه لو خالف النّهي، وحينئذٍ يثبت المطلوب.

قلت: نعم {و} لكن {لا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه اللّه ولم يأذن به، كما أُطلق عليه} أي: على العمل {بمجرّد عدم إذن السّيّد فيه أنّه معصية} نائب فاعل «أُطلق».

وعلّل المصنّف(رحمة الله) في الهامش صحّة إطلاق المعصية بمجرّد عدم الإذن بقوله: «وجه ذلك أنّ العبوديّة تقتضي عدم صدور العبد إلّا عن أمر سيّدهوإذنه، حيث إنّه كَلٌّ عليه لا يقدر على شيء» إشارة إلى قوله - تعالى - : {عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ}(3)، {وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ}(4) «فإذا استقلّ بأمر كان عاصياً حيث أتى بما ينافيه مقام عبوديّته، لا سيّما مثل التزوّج الّذي كان خطيراً» لأنّه يشغل العبد ويذهب ببعض قواه وماله.

«وأمّا وجه أنّه لم يعص اللّه فيه فلأجل كون التزوّج بالنسبة إليه أيضاً كان مشروعاً مطلقاً» بلا شرط وقيد إلّا شرطاً واحداً أشار إليه بقوله: «غايته أنّه يعتبر في تحقّقه

ص: 464


1- شرح كفاية الأصول 2: 215.
2- شرح كفاية الأصول 1: 265.
3- سورة النّحل، الآية: 75.
4- سورة النّحل، الآية: 76.

وبالجملة: لو لم يكن ظاهراً في ذلك، لما كان ظاهراً في ما توهّم.

وهكذا حال سائر الأخبار الواردة في هذا الباب، فراجع وتأمّل.

تذنيب: حُكي(1) عن أبي حنيفة والشّيباني: دلالة النّهي على الصحّة، وعن الفخر: أنّه وافقهما في ذلك(2).

والتحقيق: أنّه في المعاملات كذلك، إذا كان عن المسبّب

___________________________________________

إذن سيّده ورضاه وليس كالنكاح في العدّة غير مشروع من أصله، فإن أجاز» المولى «ما صدر عنه بدون إذنه فقد وجد شرط نفوذه وارتفع محذور عصيانه، فعصيانه لسيّده»(3)

فقط لا للّه - سبحانه - .

{وبالجملة لو لم يكن} هذا الحديث {ظاهراً فيذلك} الّذي ذكرنا من كون العصيان ناشئاً من عدم الإجازة لا من النّهي {لما كان ظاهراً في ما توهّم} من دلالة النّهي على الفساد {وهكذا حال سائر الأخبار الواردة في هذا الباب} فإنّها لا تدلّ على إفادة النّهي للفساد {فراجع وتأمّل} واللّه - تعالى - الموفّق.

{تذنيب}: في دفع وهم {حكي عن أبي حنيفة و} تلميذه محمّد بن الحسن {الشّيباني دلالة النّهي على الصحّة، وعن الفخر} أي: فخر المحقّقين(رحمة الله) نجل العلّامة الحلّي(رحمة الله) {أنّه وافقهما في ذلك} لأنّ النّهي تكليف، والتكليف مشروط بالقدرة، فالنهي عن المعاملة يتوقّف على القدرة على إتيان تلك المعاملة صحيحاً، وإلّا فلو لم يكن المكلّف قادراً على إتيانها كان النّهي لغواً.

{والتحقيق} في ذلك التفصيل و{أنّه في المعاملات كذلك} يدلّ على الصحّة {إذا كان عن المسبّب} كالنهي عن بيع المصحف للكافر الرّاجع إلى مبغوضيّة تملّكه له

ص: 465


1- قوانين الأصول 1: 213؛ مطارح الأنظار 1: 763.
2- مطارح الأنظار 1: 763، حيث قال: «ووافقهما فخر المحقّقين في نهاية المأمول...».
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 254.

أو التسبيب؛ لاعتبار القدرة في متعلّق النّهي، كالأمر، ولا يكاد يقدر عليهما إلّا في ما كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة.

وأمّا إذا كان عن السّبب، فلا؛ لكونه مقدوراً وإن لم يكن صحيحاً. نعم، قد عرفت أنّ النّهي عنه لا ينافيها.

وأمّا العبادات: فما كان منها عبادة ذاتيّة - كالسجود والرّكوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى - فمع النّهي عنه يكون مقدوراً، كما إذا كان مأموراً به.

___________________________________________

{أو التسبيب} أي: جعل هذا الشّيء سبباً لهذا الأثر، كما تقدّم في مثال الظهار.

وإنّما قلنا بدلالة النّهي على صحّة هذين القسمين {لاعتبار القدرة في متعلّق النّهي ك-} اعتبارها في متعلّق {الأمر ولا يكاد يقدر عليهما} أي: على المسبّب والتسبيب {إلّا في ما كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة} إذ لو كانت فاسدة لم يقدر على المسبّب في الأوّل وعلى التسبيب في الثّاني.

{وأمّا إذا كان} النّهي {عن السّبب} كالنهي عن البيع وقت النّداء الرّاجع إلى النّهي عن العقد واللفظ في هذا الوقت {فلا} يدلّ النّهي على صحّتها {لكونه} أي: السّبب وهو اللفظ أمراً {مقدوراً} للمكلّف {وإن لم يكن صحيحاً} ومؤثّراً للأثر.

{نعم} لا يدلّ النّهي في هذا القسم على الفساد، كما لا يدلّ على الصحّة، لما {قد عرفت} من {أنّ النّهي عنه لا ينافيها} أي: لا ينافي الصحّة حتّى يدلّ على الفساد.

هذا تمام الكلام في المعاملات، وقد ظهر أنّها على ثلاثة أقسام، وأنّ النّهي في قسمين، منها يدلّ على الصحّة، وفي قسم منها لا يدلّ على شيء أصلاً، لا على الصحّة ولا على الفساد.

{وأمّا} النّهي في {العبادات ف-} فيه تفصيل، إذ {ما كان منها عبادة ذاتيّة} بحيث تقع عبادة ولو لم يقصد بها القربة {كالسجود والرّكوع والخشوع والخضوع له - تبارك وتعالى - فمع النّهي عنه يكون مقدوراً}للمكلّف {كما إذا كان مأموراً به}

ص: 466

وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأموراً به، فلا يكاد يقدر عليه إلّا إذا قيل باجتماع الأمر والنّهي في شيء ولو بعنوان واحد، وهو محال. وقد عرفت: أنّ النّهي في هذا القسم إنّما يكون نهياً عن العبادة، بمعنى أنّه لو كان مأموراً به، كان الأمرَ به أمر عبادة

___________________________________________

وفي هذا القسم لا يكشف النّهي عن الصحّة، فإنّ النّهي وإن كان مشروطاً بالقدرة، لكن القدرة لا تلازم الصحّة، فهذا السّجود مثلاً يقع باطلاً محتاجاً إلى القضاء والإعادة مع أنّه مقدور للمكلّف.

{وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأموراً به} بحيث كانت عباديّته تدور مدار قصد القربة - كالصلاة - {فلا يكاد يقدر عليه} المكلّف مع النّهي، إذ إيجادها عبادة يتوقّف على قصد القربة، وقصد القربة موقوف على الأمر، والأمر والنّهي لا يجتمعان في شيء واحد بعنوان واحد {إلّا إذا قيل باجتماع الأمر والنّهي في شيء} واحد {ولو بعنوان واحد، وهو محال} لما عرفت من أنّ المجوّزين للاجتماع إنّما يجوّزونه في ما إذا كان تعلّق الأمر والنّهي بعنوانين.

وفي هذا القسم يكشف النّهي عن الصحّة، فإنّ النّهي مشروط بالقدرة على العبادة، وكونها عبادة يتوقّف على قصد القربة المتوقّف على الأمر الملازم للصحّة.

وبعبارة أُخرى: إنّ الصلاة المنهي عنها لو كانت باطلة لم تكن عبادة فعليّة، والمفروض تعلّق النّهي بالعبادة الفعليّة. والحاصل: أنّ النّهي عن العبادة الفعليّة يدلّ على صحّتها.{و} لكن {قد عرفت} سابقاً {أنّ النّهي في هذا القسم} من العبادة المحتاجة في عباديّتها إلى قصد القربة لا يتعلّق بالعبادة الفعليّة حتّى يدلّ على صحّتها، ويلزم منه اجتماع الأمر والنّهي في شيء واحد بعنوان واحد، بل {إنّما يكون نهياً عن العبادة} الشّأنيّة {بمعنى أنّه لو كان مأموراً به كان الأمر به أمر عبادة} أي:

ص: 467

لا يسقط إلّا بقصد القربة،

___________________________________________

{لا يسقط إلّا بقصد القربة} فالنهي لا يكشف عن صحّتها، إذ النّهي وإن كان مشروطاً بالقدرة لكن القدرة على العبادة الشّأنيّة لا يتوقّف على قصد القربة حتّى يتوقّف على الأمر الملازم للصحّة.

فتحصّل: من تحقيق المصنّف(رحمة الله) في هذا الباب أنّ كلّاً من المعاملات والعبادات على ثلاثة أقسام، والنّهي في المعاملات يدلّ على الصحّة في ما كان متعلّقاً بالمسبّب أو التسبيب ولا يدلّ على الصحّة في ما كان متعلّقاً بالسبب، وفي العبادات لا يدلّ على الصحّة في ما كان متعلّقاً بالعبادة الذاتيّة كالسجود أو بالعبادة الشّأنيّة الّتي لو أمر بها لكان عبادة كالصلاة قبل الأمر بها، ويدلّ على الصحّة في ما كان متعلّقاً بالعبادة الفعليّة، كالصلاة بعد الأمر بها، ولكن تعلّق النّهي بهذا القسم من العبادة مستحيل للزومه اجتماع الأمر والنّهي المحال، فالنهي يدلّ على الصحّة في أقسام ثلاثة ولا يدلّ عليها في أقسام ثلاثة.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش على قوله: «والتحقيق أنّه في المعاملات كذلك» الخ ما لفظه: «ملخّصه» أي: ملخّص التحقيق «إنّ الكبرى وهي: أنّ النّهي حقيقة» لا بالعرض «إذا تعلّق بشيء ذي أثر كان دالّاً على صحّته وترتّب أثره عليه لاعتبار القدرة في ما تعلّق به النّهي كذلك» أي: حقيقة «وإنكانت مسلّمة، إلّا أنّ النّهي كذلك» حقيقة «لا يكاد يتعلّق بالعبادات» الفعليّة «ضرورة امتناع تعلّق النّهي كذلك» حقيقة «بما تعلّق به الأمر كذلك» حقيقة، إذ لا يجتمع الأمر والنّهي في شيء واحد بعنوان واحد «وتعلّقه» أي: النّهي «بالعبادات بالمعنى الأوّل» أي: العبادة الذاتيّة كالسجود «وإن كان ممكناً إلّا أنّ أثر المرغوب منها عقلاً أو شرعاً» من استحقاق الثواب وسقوط القضاء والإعادة ونحوها «غير مرتب عليها مطلقا» أي: سواء كان محرّماً أم لا، وفسّره بقوله: «بل

ص: 468

فافهم.

___________________________________________

على خصوص ما ليس بحرام منها، وهكذا الحال في المعاملات، فإن كان الأثر في معاملة مترتّباً عليها ولازماً لوجودها» كالحرمة في الظهار «كان النّهي عنها دالّاً على ترتّبه عليها، لما عرفت»(1) من أنّه لو لم يكن مترتّباً عليها لم يكن وجه للنهي عنها.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ النّهي في المعاملات حتّى ما كان عن المسبّب أو التسبيب لا يدلّ على الصحّة، لاحتمال أن يكون إرشاداً إلى عدم ترتّب الأثر، بمعنى أنّ هذه العرفيّة الّتي يرتّبون عليها الأثر لا يترتّب عليها الأثر في نظر الشّارع، بل يمكن أن يكون إشارة إلى لزوم التناقض لو دلّ النّهي على الصحّة؛ لأنّ الصحّة ملازمة للإمضاء الشّرعي والنّهي ملازم لعدم الإمضاء.

ص: 469


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 256.

ص: 470

فهرس المحتويات

الفصل الرّابع: في مقدّمة ا لواجب........ 5

الأمر الأوّل: المسألة أصولية عقلية...... 5

الأمر الثّاني: أقسام المقدّمة... 8

المقدّمة الداخليّة والخارجيّة..... 8

خروج الأجزاء عن المتنازع فيه.... 11

المقدّمة الخارجيّة........ 16

المقدّمة العقليّة والشّرعيّة والعادية........ 18

مقدّمة الوجود والصحّة والوجوب والعلم....... 21

تقسيم المقدّمة إلى المتقدّم والمقارن والمتأخّر........ 24

الأمر الثّالث: في تقسيمات الواجب...... 35

التقسيم الأوّل: الواجب المطلق والمشروط... 35

رجوع الشرط في الواجب المشروط إلى نفس الوجوب... 38

فائدة إنشاء الوجوب المشروط...... 49

وجوب التعلّم...... 53

تذنيب:

هل إطلاق الواجب على الواجب المشروط على نحو الحقيقة أو المجاز؟... 54

التقسيم الثّاني: تقسيم الواجب إلى معلّق ومنجّز... 57

المناط في فعليّة وجوب المقدّمة هو فعليّة وجوب ذيها..... 70

وجوب المقدّمات قبل الوقت ووجوه دفع الإشكال فيها..... 72

تتمّة:

دوران الأمر بين رجوع القيد إلى المادة أو الهيئة...... 78

وجهان لترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادة..... 79

التقسيم الثّالث: تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري..... 87

ص: 471

حكم الشك في النفسيّة والغيريّة..... 93

تذنيبان:

في استحقاق الثواب والعقاب على امتثال الأمر الغيري ومخالفته........ 100

إشكالٌ ودفع....... 104

هل يعتبر في الطهارات قصد التوصّل إلى

غاياتها؟...... 111

الأمر الرّابع: في ما هو الواجب في باب المقدّمة........ 115

هل يعتبر قصد التوصّل في المقدمة أو ترتب ذي المقدمة عليها؟.... 116

ثمرة القول بالمقدمة الموصلة ..... 149

التقسيم الرّابع: تقسيم الواجب إلى الواجب الأصلي والتبعي........ 155

الواجب النفسي يتصف بالأصالة دون التبعية....... 157

تنبيهان..... 158

تذنيب: في ثمرة مسألة مقدمة الواجب....... 162

تأسيس الأصل في المسألة... 174

تتمّة: مقدمة المستحب والحرام والمكروه........ 188

الفصل الخامس: الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده؟....... 191

المراد من الاقتضاء والضد........ 191

توهم مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر ...... 192

الكلام في دلالة الأمر تضمّناً على النهي عن الضد العام....... 211

ثمرة المسألة ..... 213

بحث الترتب...... 215

إمكان الترتب مساوق لوقوعه..... 231

الفصل السّادس: في عدم جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه..... 232

الفصل السابع: تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع........ 236

المراد بتعلق الأوامر بالطبائع..... 238

دفع وهم.... 240

الفصل الثامن: هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب..... 244

ص: 472

الفصل التاسع: الواجب التخييري....... 249

التخيير العقلي.... 252

التخيير الشرعي....... 255

الكلام في التخيير بين الأقل والأكثر.... 259

الفصل العاشر: في الواجب الكفائي.... 264

الفصل الحادي عشر: الواجب الموقّت والموسّع........ 266

التخيير بين أفراد الموسع عقلي لا شرعي... 267

هل القضاء تابعٌ للأداء....... 269

الفصل الثّاني عشر: الأمر بالأمر....... 271

الفصل الثّالث عشر: الأمر بعد الأمر... 273

المقصد الثّاني: في النواهي

المقصد الثّاني: في النّواهي...... 277

فصل: مفاد مادة النهي وصيغته....... 279

هل متعلق الطلب في النهي هو الكف أو مجرّد الترك... 279

عدم دلالة صيغة النهي على التكرار.... 281

عدم دلالة النهي على استمراره أو سقوطه في فرض العصيان..... 283

فصل: اجتماع الأمر والنهي...... 284

يقدم أمورٌ........ 285

الأوّل: معنى الواحد... 285

الثّاني: الفرق بين المسألتين....... 286

الثّالث:أصولية المسألة...... 291

الرّابع:عقلية المسألة........ 293

الخامس:عمومية ملاك النزاع.... 296

السّادس:هل المندوحة معتبرة؟... 298

السابع:عدم ارتباط المسألة بمسألة تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد........ 301

ص: 473

الثامن:اشتراط التزاحم في مسألة الاجتماع........ 305

التاسع:طريق إحراز المناط في الجمع....... 309

العاشر:ثمرة البحث... 313

تضادالأحكام الخمسة....... 322

تعلّق الأحكام بأفعال المكلّفين لا بعناوينها..... 323

تعددالعنوان لا يوجب تعدد المعنون وجوداً........ 325

الواحد وجوداً واحدٌ ماهية... 327

تقريردليل الامتناع... 330

أدله القول بجواز الاجتماع....... 336

الدليل الأوّل...... 336

أقسام العبادات المكروهة.... 339

الدليل الثّاني...... 359

القول بالجواز عقلاً والامتناع عرفاً والمناقشة فيه........ 361

تنبيهات بحث الاجتماع..... 363

التنبيه الأوّل: مناط الاضطرار الرافع للحرمة..... 363

حكم الاضطرار بسوء الاختيار بناءً على الجواز والامتناع... 365حكم

شرب الخمر علاجاً.... 377

ثمرة الأقوال في المسألة.... 392

التنبيه الثّاني: صغروية المقام لكبرى التزاحم أو التعارض........ 395

وجوه ترجيح النهي على الأمر.... 401

النهي أقوى دلالة من الأمر........ 401

دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة..... 407

الاستقراء... 415

التنبيه الثّالث: لحوق تعدد الإضافات بتعدد الجهات.... 420

فصل:في أنّ النّهي عن الشّيء هل يقتضي فساده أم لا؟.... 423

ص: 474

الأمر الأوّل: الفرق بين هذه المسألة ومسألة الاجتماع... 423

الأمرالثّاني: الوجه في عدّ المسألة من مباحث الألفاظ........ 424

الأمرالثّالث: شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي والغيري... 426

الأمر الرّابع: المراد من العبادة في محل النزاع... 429

الأمر الخامس: تحرير محل النزاع..... 433

الأمر السّادس: اختلاف الصحة والفساد بحسب الآثار والأنظار..... 434

هل الصحة والفساد من الأمور المجعولة أو العقلية أو الأعتبارية... 439

الأمر السّابع: لا أصل في المسألة...... 444

الأمر الثّامن: أقسام متعلق النهي في العبادات وأحکامها....... 445

المقام الأوّل: اقتضاء النهي عن العبادة للفساد...... 452

المقام الثّاني: عدم اقتضاء النهي عن المعاملة للفساد..... 458

الكلام في دلالة النهي على الصحة..... 465

فهرس المحتويات..... 471

ص: 475

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.