الوصول الی کفایة الاصول المجلد 1

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السید محمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: کفایة الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: الوصول الی کفایة الاصول المجلد 1/ السید محمد الحسیني الشیرازي ؛ [برای] الشجرةالطیبه.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.= 1399.

مواصفات المظهر: 5ج.

ISBN : دوره:9789642045242 ؛ ج.2:9789642045228 ؛ ج.2:9789642045235 ؛ ج.3:9789642045259 ؛ ج.4:9789642045266 ؛ ج.5:9789642045273

حالة الاستماع: فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : هذا كتاب وصفي برکفایة الاصول، آخوند خراساني است.

موضوع : آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایة الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

موضوع :أصول الفقه الشيعي -- قرن 14

Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

المعرف المضاف: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

المعرف المضاف: الشجرةالطیبه (قم)

ترتيب الكونجرس: BP159/8

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6131319

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمة الله)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة:السابعة والأربعون، الأولى

للناشر - 1441ه .ق

-------------------

شابك (الدورة): 2204524964978

شابك (المجلد الرابع): 6204526964978

-------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم قم

المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ

الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

مالِكِ يَوْمِ الدِّين

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ

صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضَّالِّينَ

ص: 5

ص: 6

كلمة الناشر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد، فغير خفيّ ما لعلم أصول الفقه من أهميّة قصوى في استنباط الأحكام الشرعيّة، وذلك لابتناء معرفة المسائل الفقهيّة على تلك الأدلّة.

كما من المعروف مكانة كتاب كفاية الأصول، للأصولي المتبحّر المحقّق الآية الكبرى الشيخ محمّد كاظم الخراساني(قدس سره)، حيث يمثّل هذا الكتاب قمّة العطاء الأصولي، بما يتضمّنه من آخر ما توصّل إليه علم الأصول من تحقيقات وتدقيقات، ولذا تلقف العلماء هذا الكتاب من حين صدوره ولحدّ الآن بالبحث والمدارسة، فصار قطب الرحى في الحوزات العلميّة، إذ هو آخر ما يدرسه طلبة العلوم الدينيّة في مرحلة السطوح العليا، كما تدور عليه بحوث الخارج والتي هي مرحلة تخريج المجتهدين الفقهاء.

وقد علّق جمهرة من العلماء المحقّقين على هذا الكتاب بهوامش علميّة في تأييد أو مناقشة أو تطوير ما بيّنه المحقّق الخراساني، إلّا أنّ الكتاب - بما تضمّنه من تحقيقات وتدقيقات مع إيجاز عباراته - كان بحاجة إلى شرح توضيحي يفكّ رموز العبارات مع توضيح مطالبه العلميّة، فانبرى لذلك الآية العظمى السّيّد محمّد الحسيني الشيرازي - أعلى اللّه درجاته - في أوائل شبابه، فشرح الكتاب وفكّ رموزه بأسلوب شيّق جميل بعبارات واضحة وبليغة.

ص: 7

ولذلك ومنذ صدور هذا الشرح - الوصول إلى كفاية الأصول - تهافت عليه طلبة العلوم الدينيّة وأساتذة الحوزات العلميّة، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ عامّة العلماء والأساتذة قد استفادوا من هذا الشرح حين دراستهم للكتاب أو تدريسهم له، ولذا قد طُبع هذا الكتاب طبعات كثيرة لا تُحصى، متصدّراً شروح الكفاية رغم ازديادها مؤخّراً.

وحيث تطوّر علم التحقيق وعلائم التنقيط والطباعة، لذا ارتأت مؤسسة التحقيقات التابعة لمدرسة الإمام الرضا(علیه السلام) في مدينة مشهد المقدّسة - والتي أسّسها السيّد الشيرازي وقام بإدارتها ورعايتها العلّامة الشيخ علي السيّاح(رحمة الله) - إعادة تحقيق الكتاب وطباعته بحُلّة قشيبة تناسب مكانة الكتاب ومنزلة الشرح في الحوزات العلميّة.

والشكر موصول لفضيلة الحجّة الشيخ مرتضى السيّاح، ولفضيلة الحجّة الشيخ محمد المؤيّد - دام عزهما - ولغيرهما ممن ساهم في تحقيق الكتاب وصفّه وطباعته، فكانت هذه الطبعة المميّزة من جهات كثيرة لا تخفى على الناقد البصير.

نسأل اللّه تعالى أن يتقبّل عملنا وأن يرفع درجات مؤلّف الكتاب وشارحه، وأن يتغمّد الشيخ السّيّاح بواسع رحمته، وأن يوفّق مؤسّستنا للمزيد، خدمةً لعلوم أهل البيت(علیهم السلام) وتراث العلماء الأبرار، إنّه حميد مجيد.

مؤسسة الشجرة الطيبة

20/ جمادى الثّانية / 1441ه

مولد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(علیها السلام)

ص: 8

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدّين.

وبعد: فيقول العبد الرّاجي عفو ربّه الغني محمّدُ بنُ المهديّ الحسينيّ الشّيرازيّ - بصّره اللّه عيوب نفسه - : هذا مختصر في شرح لفظ الكفاية للمحقّق الكبير المولى الشّيخ محمّد كاظم الخراسانيّ - طاب ثراه - كتبته تذكِرةً لنفسي، وتبصِرةً للمبتدئ وأبتهل إلى اللّه - تعالى - في أن يقرنه برضاه، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، ويوفّقني للإتمام، ويصيّره مقدّمة للأحكام، إنّه وليّ ذلك، وهو المستعان.

ص: 9

ص: 10

المقدّمة

اشارة

ص: 11

ص: 12

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين،

___________________

قال المصنّف(رحمة الله): {بسم الله الرّحمن الرّحيم} أي: بهذا الاسم أقرأ وأعمل هذا العمل - كما في الخبر -(1).

ومن الممكن أن يكون ذكر الاسم اعتباراً للمقابلة، فإنّ المشركين كانوا يقولون: «باسم اللّات» ونحوه عند الشّروع، قال - سبحانه - حكايةً عن نبيّه: {تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ}(2).

ولا يبعد أن يكون ذكره تنويهاً لعظمة المسمّى، كما في الدّعاء: «ولاذَ الفقراءُ بجَنابك»(3)

مع أنّ اللّوذ بنفسه - تعالى - .

هذا على أن يكون متعلّق الظّرف «أستعين» - كما في الخبر(4)- أمّا لو كان الملابسة فظاهر، إذ الملابسة بالاسم دون الذّات.

{الحمد للّه ربّ العالمين} اقتداءٌ بالقرآن الكريم، ولما روي عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله)(5) من النّدب إلى تصدير الأُمور بالحمد.

ص: 13


1- تفسير الصافي 1: 80.
2- سورة المائدة، الآية: 116.
3- مفاتيح الجنان، في أعمال شهر رمضان.
4- البرهان في تفسير القرآن 1: 95.
5- وهو قوله(صلی الله علیه و آله): «كلّ أمرٍ ذي بالٍ لم يبدأ فيه بالحمد فهو أقطع» الدر المنثور 1: 12، قال ابن الأثير في النّهاية 1: 93 في لغة «بتر»: في الحديث: «كلّ أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد اللّه فهو أبتر»، أي: أقطع.

والصّلاة والسّلام على محمّدٍ وآله الطّاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدّين.

___________________

و«اللّام» في «الحمد» للجنس كما هو الظّاهر من التّبادر، ولا حاجة إلى تكلّف الاستدلال.

وفي لفظة (اللّه) كلام طويل ولقد أجاد المحقّق الشّريف(1)

حيث قال: «كما أَلِهَتِ العقول في كُنْهِ ذاته كذلك تحيّرت في لفظ اسمه»(2).

{والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين} قال اللّه - تعالى - : {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا}(3)، وذكر «الآل» لئلّا تكون الصّلاة بَتْرَاء منهيّاً عنها(4)، واختصاص لفظة «الطّاهرين» بالذّكر لكونه من أجلى صفاتهم. قال - سبحانه - : {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا}(5). ولا يخفى أنّ الصّلاة والسّلام غلب عليهما التّحيّة، وإن كانا في اللّغة وأصل الاستعمال لشيءٍ آخرَ.

{ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين} اللّعنة العَذاب والخِزْي والبُعد من الخير، وكأنّ وجه تذييل التّصليةوالتّسليم بهذه الجملة إتمام التَّوَلِّي بالتَّبَرِّي، فإنّه أحد دعائم أُصول الإيمان، وجعل يوم الدّين غايةً، كنايةً عن الدَّوام، كقوله - تعالى - : {مَا دَامَتِ ٱلسَّمَوَتُ وَٱلۡأَرۡضُ}(6) على أحد التّفسيرين، وإلّا فلا وجه للاختصاص.

ص: 14


1- هو المير سيّد شريف الجرجاني عليّ بن محمّد الحسيني الأسترآباديّ المتوفّى سنة 816ه ، كان تلميذ القطب الرّازي الإماميّ وأُستاذ المحقّق الدّواني، وعدّه القاضي نور اللّه من حكماء الشّيعة.
2- حاشية تفسير البيضاوي 1: 26.
3- سورة الأحزاب، الآية: 56.
4- عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله): «لا تصلّوا علَيّ صلاة مبتورة، بل صِلُوْا إليّ أهل بيتي». وسائل الشّيعة 7: 207.
5- سورة الأحزاب، الآية: 33.
6- سورة هود، الآية: 107 و108.

وبعد: فقد رتّبته على مقدّمة ومقاصد وخاتمة.

أمّا المقدّمة ففي بيان أُمور:

الأوّل:

___________________

{وبعد} أي: بعد التّقدمة للمقدّمة {فقد رتّبته} أي: الكتاب {على مقدّمة} في بيان موضوع العلم وغايته وحدّه - إجمالاً - وأُمور أُخَر {ومقاصد} ثمانية: الأوامر والنّواهي، والمفاهيم، والعموم ولواحقه، والمطلق ولواحقه، والقطع، والظّنّ، والبراءة ولواحقها، والتّعادل والتراجيح، {وخاتمة} في الاجتهاد والتّقليد.

{أمّا المقدّمة ففي بيان أُمور} ثلاثة عشر: موضوع العلم، والوضع، وكون المجاز بالطّبع أم لا، وإرادة اللّفظ من اللّفظ، وكون دلالة الألفاظ لا تتبع الإرادة، وأنّه هل للمركّب وضع أم لا، وعلامة الحقيقة والمجاز، وتعارض الأحوال، والحقيقة الشّرعيّة، والصّحيح والأعمّ، والمشترك، وجواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً، والمشتق.

الأمر الأوّل: [موضوع العلم ومسائله وموضوع علم الأصول وتعريفه]

اشارة

المقدمة، موضوع العلم ومسائله وموضوع علم الأصول وتعريفه

الأمر {الأوّل}: في بيان موضوع العلم عامّةً، وموضوع الأصول خاصّةً، وبيان بعض ما له مسيس بالمطلب.اعلم أنّ القدماء جعلوا أجزاءَ كلّ علمٍ ثلاثةً، وقالوا: إنّ كلّ علمٍ مركّب منها:

الأوّل: الشّيء الّذي يُبْحَث في العلم عن خصائصه والآثار المطلوبة منه. وبعبارة أُخرى: الأمر الّذي يرجع جميع أبحاث العلم إليه، وهذا هو المسمّى ب (موضوع العلم) كالكلمة والكلام في علم النّحو، وتلك الخصائص والآثار هي الأعراض الذّاتيّة كالرّفع والنّصب والجرّ في العلم المتقدّم(1).

ص: 15


1- وفي رأي البعض: الرّفع والنّصب والجرّ أعراض غريبة لا ذاتيّة - كما سيصرّح الشّارح بعد أسطر - .

___________________

الثّاني: القضايا الّتي يقع فيها البحث وهي المسمّى ب (المسائل) كقولهم: الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمضاف إليه مجرور.

ثمّ قالوا: إنّ موضوع المسألة إمّا نفس موضوع العلم، أو نوع منه، أو عَرَضٌ ذاتيّ له، أو مركّب من الموضوع والعَرَض الذّاتي.

واختلفوا في محمولات المسائل: فالمشهور منهم أنّها أعراض ذاتيّةٌ لموضوعاتها خارجة عنها.

وذهب بعضهم إلى جواز كون المحمولات بالنّسبة إلى الموضوعات أعراضاً عامّة غريبة، ومثّلوا بقول الفقهاء: (كُلُّ مُسْكِرٍ حرام)، وقول النّحاة: (كلّ فاعل مرفوع).

الثّالث: المبادئ، وهي الّتي يبتنى عليها المسائل، فإن أفادت تصوّر أطراف المسألة سُمّيت بالمبادئ التّصوّريّة، وإن أفادت التّصديق بالقضيّة المأخوذة في دليل المسألة سُمّيت بالمبادئ التّصديقيّة. ثمّ إنّ العَرَض قسمان:

الأوّل: الذّاتي وهو على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يعرض للشّيء أوّلاً وبالذّات، كعُرُوْضِ التّعجّب للإنسان.الثّاني: ما يعرض للشّيء بواسطة أمر مساوٍ للمعروض، خارجٍ عن حقيقته، كالضّحك اللّاحق للإنسان، لكونه متعجّباً.

الثّالث: ما يعرض بواسطة أمر مساوٍ، داخل في المعروض، كإدراك الكليّات العارض للإنسان، بواسطة كونه ناطقاً.

الثّاني: الغريب وهو ثلاثة أيضاً:

الأوّل: ما يعرض بواسطة أمرٍ مباينٍ، كالحرارة العارضة للماء، بواسطة النّار.

الثّاني: ما يعرض بواسطة أمرٍ خارجٍ أعمّ، كالحركة العارضة للبياض، لكونه جسماً.

ص: 16

إنّ موضوع كلّ علمٍ - وهو الّذي يبحث فيه عن عوارضه الذّاتيّة، أي: بلا واسطة في العروض -

___________________

الثّالث: ما يعرض بواسطة أمرٍ خارجٍ أخصّ، كالضّحك للحيوان، بواسطة التّعجّب.

وأمّا العارض بواسطة الأمر الأعمّ الدّاخل، كالمشي العارض للإنسان، بواسطة كونه حَيَواناً، ففيه خلاف.

موضوع العلم

والمصنّف(رحمة الله)على {أنّ موضوع كلّ علم} نفس موضوعات المسائل، لا ما تقدّم من أنّه قد يكون موضوع العلم، وقد يكون نوعاً منه... الخ. {و} اختار أنّ موضوع العلم {هو الّذي يُبْحثُ فيه عن عوارضه الذّاتيّة} لا ما سبق مِن أنّ المحمول قد يكون عرضاً غريباً.

ثمّ لا يخفى أنّ الواسطة على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الواسطة في الثّبوت، والمراد بها العلّة في وجود المعروض لعروضه،كعلّيّة التّعجّب لعروض الضّحك على الإنسان، وعلّيّة تعفّن الأخلاط لعروض الحُمّى عليه.

الثّاني: الواسطة في العروض، والمراد بها أنّ العرض يعرض ابتداءً للواسطة، ونسبته إلى المعروض من قبيل الوصف بحال المتعلّق، كاللون العارض للجسم بواسطة السّطح.

الثّالث: الواسطة في الإثبات، والمراد بها سبب العلم والتّصديق بكون المحمول للموضوع، كالتغيّر في (العالم متغيّر، وكلّ متغيّر حادث).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المصنّف(رحمة الله) جعل العرض الذّاتيّ عبارةً عن القسمين الأوّل والثّالث {أي}: العرض الّذي يعرض {بلا واسطة في العروض} سواء كان مع واسطةٍ في الثّبوت أو في الإثبات، وعليه فالعرض الغريب هو ما له واسطة في

ص: 17

هو نفسُ موضوعات مسائله عيناً، وما يتّحد معها خارجاً، وإن كان يغايُرها مفهوماً، تغايرَ الكلّي ومصاديقه، والطّبيعِيّ وأفراده.

___________________

العروض، خلافاً لما تقدّم من الميزان المشهور.

إن قلت: ما ذكرتم - من أنّ موضوع العلم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذّاتيّة - غيرُ تامٍّ، لما نرى من خروج أغلب العلوم عن هذه الضّابطة، مثلاً: الرّفع والنّصب والجرّ في النّحو أعراض غريبة بالنّسبة إلى الكلمة؛ لأنّها إنّما تلحق الكلمة بواسطة أمر أخصّ خارج، كالفاعليّة والمفعوليّة وكونها المضاف إليها، وكذلك الوجوب والحرمة إنّما يلحقان الأمر والنّهي الواردين في الكتاب والسّنّة، بواسطة أمرٍ خارجٍ أعمّ وهو كون مطلق الأمر للوجوب.

قلت: إنّ الموضوع في كلّ علم لا يكون مقيّداً بشرط شيءٍ، ولا بشرط لا، بل{هو نفس موضوعات مسائله عيناً} فيكون لا بشرط، واللّابشرط يجتمع مع ألف شرط، فالكلمة عين تلك الثّلاثة {و} هي {ما يتّحد معها خارجاً وإن كان} الفرق بين موضوع العلم وموضوعات المسألة هو أنّ موضوع العلم {يغايرها مفهوماً} فإنّ مفهوم (الكلمة) شيء، ومفهوم (الفاعل) شيء آخر، ومفهوم الأمر المطلق شيء، ومفهوم الأمر الوارد في الكتاب شيء آخر، وهكذا.

والحاصل: أنّ {تغاير} موضوع العلم وموضوعات المسائل من قبيل تغاير {الكلّي ومصاديقه و} المراد بالكلّي ليس مطلق الكلّيّ ولا المنطقيّ والعقليّ، لعدم الاتّحاد بينها وبين الأفراد قطعاً، بل المراد به الكلّي {الطّبيعي} فهو {وأفراده} متّحدان من وجهٍ ومتغايران من وجهٍ.

ثمّ إنّه قد يشكل على ما تقدّم بخروج مثل: (البدن) الموضوع لعلم الطّبّ، و(المعقولات الثّانية) الموضوع لعلم المنطق، لعدم الاتّحاد بين الموضوع وموضوعات المسائل كاليد والرّجل والقلب في الأوّل، وعدم الوجود الخارجيّ

ص: 18

والمسائل عِبارة عن جملة من قضايا متشتّتةٍ، جَمَعَها اشتراكُها في الدّخل في الغرض

___________________

للأفراد في الثّاني.

والجواب أمّا عن الأوّل: فبعدم تسليم صحّة جعل البدن موضوعاً في علم الطّبّ، بل موضوعه العضو. نعم، يصحّ ذلك على مذهب المشهور - كما تقدّم - .

وأمّا عن الثّاني: فبأنّ المراد بالخارج في قولنا: «ما يتّحد معها خارجاً» نفس الأمر الأعمّ من الخارج والذّهن.

المسائل

{و} لمّا فرغنا عن موضوع العلم مطلقاً شرعنا في الجزء الثّاني من أجزاء العلوم، وهي القضايا الّتي تطلب في العلم، المعبّر عنها ب {المسائل} فنقول:

إنّ القوم وإن صرّحوا بكون أجزاء العلوم ثلاثة: الموضوعات والمسائل والمبادئ، لكن صرّحوا أنّ حقيقة كلّ علم مسائله، ولا تنافي بينهما، فإنّ ثلاثيّة الأجزاء بالنّسبة إلى التّدوين، وأمّا بحسب الحقيقة فالعلم شيء واحد، إذ المبادئ مقدّمة للمسائل، والموضوع جهة اشتراك موضوعات المسائل، وهي {عبارة عن جملةٍ من قضايا متشتّتةٍ} متفرّقة - موضوعاً أو محمولاً - لكن حيث بيّن أنّ موضوعات مسائل العلم متّحد مع موضوع العلم، فالاختلاف في الموضوع باعتبار الخَصوصيّات المأخوذة مع الجامع، كالفاعليّة ونحوها، وحيث كانت المسائل مختلفةً، فلا بدّ وأن يكون بينها جامعة تجعلها علماً واحداً، وفي الجامع خِلاف:

فالمصنّف على أنّ الّذي {جمعها} إنّما هو {اشتراكها في الدّخل في الغرض} الواحد، مثلاً: الأمر الّذي أوجب الجمع بين قولهم: (الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمضاف إليه مجرور)، وهكذا هو أنّ جميعها معدّات وأسباب لحفظ

ص: 19

الّذي لأجله دُوِّنَ هذا العلم؛ فلذا قد يتداخل بعضُ العلوم في بعض المسائل ممّا كان له دخل في

___________________

اللّسان عن الخطأ في المقال، وهذا هو الغرض {الّذي لأجله دون هذا العلم} وجعل له كتاب خاصّ وسمّي بالنّحو، وهكذا المنطق، والهندسة، والكلام، وغيرها.ودليل المصنّف على ذلك هو: أنّ جهة تحسين العقلاء لتدوين المسائل المختلفة - موضوعاً ومحمولاً - علماً واحداً هي وحدة الغرض، لا وحدة الموضوعات أو المحمولات، ولذلك نرى أنّه لو جمع شخص بين مسائل علوم متعدّدة، وجعلها علماً، لم يحسن وإن كانت لموضوعاتها جهة وحدة وجامعة.

وأمّا المشهور، فقد جعلوا الأمر الجامع للمسائل المختلفة هو وحدة الموضوع، ولذا قالوا: «إنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات».

إن قلت: لا فرق في القولين، إذ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد، وحينئذٍ فوحدة الموضوع والغرض متلازمان.

قلت: هذه القاعدة باطلة، وقد بيّن العلّامة(رحمة الله) في شرح التّجريد(1)

وجه بطلانها، فراجع، على أنّ التّلازم لا يصحّح نسبة لازم أحدهما إلى الآخر - كما لا يخفى - .

ثمّ إنّه حيث كان تعدّد العلوم بتعدّد الأغراض {فلهذا قد يتداخل بعض العلوم} كعلم اللّغة والأصول {في بعض المسائل} كمسألة أنّ الأمر للوجوب ونحوها، فلو كان تعدّد العلوم بتعدّد الموضوع لم يصحّ جعل المسألة من علمين، لعدم تعدّد الموضوع فيها بديهةً.

وأمّا حيث إنّ التّعدّد بتعدّد الغرض - والمسألة المتقدّمة {ممّا كان له دخل في}

ص: 20


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 176.

مهمّين، لأجل كلّ منهما دُوِّنَ علمٌ على حِدَةٍ، فيصير من مسائل العلمين.

لا يقال: على هذا يمكنُ تداخل عِلمين في تمام مسائلهما، في ما كان هناك مهمّان متلازمان في التّرتّب على جملة من القضايا لا يكاد انفكاكهما.فإنّه يقال:

___________________

غرضين {مهمّين}: أحدهما: غرض العلم بأوضاع لسان العرب، والثّاني: غرض الوساطة في الاستنباط - صحّ جعل تلك المسألة من مسائل علمين - الأصول واللّغة - اللَّذَين {لأجل كلٍّ منهما دوّن علم على حِدَةٍ} وحينئذٍ {فيصير} هذه المسألة {من مسائل العلمين}.

فتحصّل ممّا تقدّم إمكان جعل مسألة من مسائل علمين - على أن يكون الجامع هو الغرض دون أن يكون هو الموضوع - .

{لا يقال}: إذا كان مصحّح جعل المسألة من علمين هو ترتّب غرضين عليه يلزم صحّة جعل جملةٍ من المسائل مندرجةً في علمين و{على هذا} المِنْوال إلى أن ينتهي إلى ما {يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما} فيكون العلمان - المدوّن لأجلهما كتابان - في الصّورة والمسائل واحداً، وذلك {في ما كان هناك} غرضان {مهمّان متلازمان في التّرتّب} أي: في هذه الجهة، أعني: ترتّبهما {على جملة من القضايا} بحيث {لا يكاد انفكاكهما}.

والحاصل: أن يكون التّلازم بين الغرضين من حيث التّرتّب، وإن لم يكن بينهما تلازم من سائر الجهات.

ثمّ إنّ هذا الإشكال يوجب عدم كون الغرض مائزاً بين العلوم - كما اختاره المصنّف - {فإنّه} لا يميّز العلمين المتداخلين في جميع المسائل، لكن يمكن أن {يقال} في الجواب: إنّه لمّا كان السّرّ في تدوين المسائل - المختلفة - علماً واحداً هو تحسين العقلاء، ولو كان الغرضان متلازمين قبحتدوين علمين عندهم،

ص: 21

- مضافاً إلى بُعْد ذلك بل امتناعه عادةً - لا يكاد يصحّ لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين، بل تدوين علمٍ واحدٍ،

___________________

نستكشف أنّ سبب تدوين علم واحد أحد الأمرين: إمّا وحدة الغرض، وإمّا تلازم غرضين، وعليه فلا يكون هناك علمان حتّى يستشكل بأنّ الغرض لا يميّز العلمين.

نعم، اختلاف الأغراض لا يستكشف عن اختلاف العلوم، وهذا ليس محلّ الإيراد، فتبيّن أنّه مع وجود الغرض المذكور لا يرد الإشكال {مضافاً إلى بُعْدِ ذلك} الفرض، لعدم اتّفاقه في الخارج - كما هو المشاهد - {بل} يمكن دعوى {امتناعه عادةً} فإنّ الممكن العادي يقع ولو مرّة.

ثمّ إنّ نسبة كلّ غرض من أغراض العلوم إلى الغرض الآخر أحد النّسب الأربعة:

الأوّل: التّباين، كالنّسبة بين الغرض من علم الطّبّ، والغرض من علم النّحو.

الثّاني: العموم المطلق، كالغرض من علم النّحو بمعناه الأعمّ، والغرض من علم الصّرف.

الثّالث: العموم من وجهٍ، كالغرض من علم الميزان والغرض من علم الحكمة.

الرّابع: التّلازم، كمعرفة المعربات والمبنيّات المرتّبتين على علم النّحو إذا فُرِضا غرضين.

أمّا القسم الرّابع، فإنّه لا شبهة في أنّه {لا يكاد يصحّ لذلك تدوين علمين} متّحدين، فيجميع المسائل {وتسميتهما باسمين} لأنّ التّدوين الأوّل كافٍ - في حصول الغرضين - ولا مدخليّةللقصد، بأن يقصِد من التّدوين الأوّل أحد الغرضين ومن التّدوين الثّاني الغرض الثّاني، {بل} اللّازم{تدوين علم واحد} أي:

ص: 22

يبحث فيه تارةً لكلا المهمّين، وأُخرى لأحدهما، وهذا بخلاف التّداخل في بعض المسائل، فإنّ حُسْنَ تدوين علمين - كانا مشتركين في مسألة أو أزيدٌ في جملة مسائلهما المختلفة - لأجل مهمّين ممّا لا يخفى.

___________________

تدوين المسائل مرّة واحدة وجعلها علماً واحداً {يبحث فيه تارة لكلا} الغرضين {المهمّين} وذلك حيث كان غرض المدوّن الغرضين معاً، {و} تارة {أُخرى} يبحث في العلم {لأحدهما} حيث كان مقصوده أحد الغرضين، وهذا على تقدير ذكر الغرض في العلم، وإلّا فالتّدوين الواحد لا يحتاج إلى هذا التّفصيل.

{وهذا} القسم {بخلاف} الأقسام الثّلاثة الأُوَل، إذ لو كان بين الغرضين تباين، فلا شبهة في وجوب تدوين علمين، إذ المفروض عدم ترتّبهما أصلاً، وكذا لو اشتركا في {التّداخل في بعض المسائل} من الطّرفين - وهو العموم من وجه - أو من طرفٍ واحدٍ - وهو العموم المطلق - {فإنّ حسن تدوين علمين} - في ما إذا {كانا} العلمان {مشتركين، في مسألةٍ، أو أزيد، في جملة مسائلهما المختلفة} سواء كان بينهما عموم مطلق أو من وجه {لأجل} غرضين {مهمّين - ممّا لا يخفى}.

المبادئ

ولمّا فرغنا عن بيان جزءين من أجزاء العلوم - أعني: الموضوعات والمسائل - نشرع في بيان الجزء الثّالث - أعني: المبادئ - فنقول: المبادئ عبارة عمّا يبتنىعليها مسائل العلم، وهي قسمان: الأوّل: المبادي التّصوّريّة، والثّاني: المبادي التّصديقيّة.

وجملة القول: إنّ المبادي عبارة عن تعاريف موضوعات المسائل إذا كان بسيطاً - كتعريف الفاعل، والمفعول، والمضاف إليه، والحال، وغيرها، في علم النّحو - .

وإذا كان الموضوع مركّباً لزم تعريف أجزاء الموضوع كالمقدار والوسط في النّسبة

ص: 23

وقد انقدح بما ذكرنا: أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الدّاعية إلى التّدوين، لا

___________________

في قولهم: «كلّ مقدار وسط في النّسبة فهو ضلع ما يحيط به الطّرفان» في علم الهندسة، وكالمصادرات، والعلوم المتعارفة، والأصول الموضوعة.

وحكى بعض الأفاضل عن ابن الحاجب للمبادئ معنىً آخر، فقال: هي ما يبدأ به قبل الشّروع في مقاصد العلم، سواء كان داخلاً في العلم، فيكون من المبادي المصطلحة السّابقة - كتصوّر الموضوع والأعراض الذّاتيّة، والتّصديقات الّتي يتألّف منها قياسات العلم - أو خارجاً عنه يتوقّف عليه الشّروع، كمعرفة الحدود، والغاية، وبيان الموضوع، والأمر سهل بعد معرفة المراد منها إجمالاً.

وحيث عرفت ذلك، فلنرجع إلى المقصود، فنقول: التّمايز بين العلوم إمّا بالأمر الجامع بين الموضوعات المسمّى بموضوع العلم، وإمّا بالأمر الجامع بين المحمولات، وإمّا بالأغراض:

أمّا الأوّل: فلا يمكن أن يكون مائزاً لما تقدّم من لزومه عدم التّداخل في مسألةٍ، فضلاً عن التّداخل في المسائل، مع لزوم كون المميّز مجهولاً إذا كان الموضوع مجهولاً، كما قاله بعض بالنّسبة إلى علم الأصول وغيره.وأمّا الثّاني: فمع أنّه لم يذكره أحد يرد الإشكالان الأوّلان عليه، فتعيّن كون المائز بين العلوم الأغراض، لا غير {وقد} أشار إليه المصنّف سابقاً بقوله: «والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتّتة جمعها اشتراكها في الدّخل في الغرض الّذي لأجله دوّن هذا العلم» وترتيب البرهان أن يقال: {انقدح بما ذكرنا أنّ تمايز العلوم إنّما هو} بالمسائل، وتمايز المسائل {باختلاف الأغراض الدّاعية إلى التّدوين} فتمايز العلوم بتمايز الأغراض و{لا} يعقل أن يكون التّمايز بموضوع العلم - كما تقدّم - .

ص: 24

الموضوعات ولا المحمولات، وإلّا كان كلّ باب - بل كلّ مسألةٍ - من كُلِّ علمٍ علماً على حِدَةٍ - كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل - ، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدّد، كما لا يكون وحدتهما سبباً لأن يكون من الواحد.

ثمّ إنّه

___________________

وما ذكره بعض - مِن أنّ الموضوع داخل في العلم، فهو أولى بأن يكون مائزاً من الغرض الّذي هو خارج عن العلم - استبعادٌ لا يرجع إلى محصّل، و{الموضوعات} للمسائل لا يصحّ جعلها مائزة.

{و} كذلك {لا} يصحّ جعل {المحمولات} مائزة {وإلّا} فإن كانت الموضوعات مائزة {كان كلّ باب} علماً على حِدَةٍ لاختلاف الموضوعات فيها، فلباب الفاعل موضوع، ولباب المفعول موضوع آخر.

وهكذا إن كانت المحمولات مائزة؛ لأنّ المحمول في باب الفاعل شيء، والمحمول في باب المفعول شيء {بل} يلزم أن يكون {كلّ مسألة من} أبواب {كلّ علم علماً على حِدَةٍ} إذ لكلّ مسألة محمولخاصّ، مثلاً: المحمول في قولهم: «المبتدأ لا يكون نكرة» مغاير للمحمول في قولهم: المبتدأ يجب تقديمه في صورة حصر الخبر {كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل}.

وعلى هذا {فلا يكون الاختلاف} بين العلوم إلّا {بحسب} اختلاف الأغراض لا بحسب {الموضوع} للعلم {أو} المسألة ولا بحسب {المحمول} للمسألة، فإنّ شيئاً منها لا يكون {موجباً للتعدّد، كما لا يكون وحدتهما} أي: وحدة الموضوع أو المحمول {سبباً لأن يكون} العلمان المختلفان من حيث الغرض المتّحدان موضوعاً أو محمولاً {من} العلم {الواحد}.

موضوع الأصول

{ثمّ إنّه} لمّا بيّن المصنّف موضوع العلوم في أوّل المقدّمة، أراد أن يبيّن موضوع

ص: 25

ربّما لا يكون لموضوع العلم - وهو الكلّيّ المتّحد مع موضوعات المسائل - عنوانٌ خاصّ واسم مخصوص، فيصحّ أن يعبّر عنه بكلّ ما دلّ عليه؛ بداهةَ عدم دخل ذلك في موضوعيّته أصلاً.

وقد انقدح بذلك: أنّ موضوع علم الأصول هو الكلّيّ المنطبقُ على موضوعات مسائله المتشتّتة،

___________________

علم الأصول، ولا بدّ في بيان ذلك من تقديم مقدّمة، وهي أنّه {ربّما لا يكون لموضوع العلم - وهو} كما تقدّم {الكلّيّ المتّحد مع موضوعات المسائل - عنوان خاصّ واسم مخصوص} وذلك لأنّ الملاك في موضوعيّة الموضوع لا يفرق بعرفان اسمه وعدمه، سواء كان الموضوع متّحداً مع موضوعات المسائل - كما اختارهالمصنّف - أو لا - كما تقدّم نقله عن المشهور - {فيصحّ} حين جهل اسم الموضوع {أن يعبّر عنه بكلّ ما دلّ عليه} كأن يقال: (موضوع العلم الفلاني هو الجامع لموضوعات مسائله) ولا يضرّ الجهل باسم الموضوع {بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيّته أصلاً} هذا أحد قسمي موضوع العلم، والقسم الثّاني هو الّذي له اسم خاصّ وعنوان مخصوص، فيعبّر عنه باسمه، كما يصحّ أن يعبّر عنه بكلّ ما دلّ عليه كالقسم الأوّل.

{و} إذا عرفت هذا قلنا {قد انقدح بذلك} المذكور في أوّل المقدّمة من تعريف موضوع مطلق العلوم {أنّ موضوع علم الأصول هو الكلّيّ المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة} ووجه الانقداح بذلك أنّ معرفة الكلّيّ مستلزم لمعرفة جزئيّاته، فمعرفة موضوع مطلق العلم مستلزم لمعرفة موضوع النّحو والصّرف والحكمة والأصول وغيرها، لكن المعرفة بوجهٍ مّا، لا بالحقيقة، إذ العامّ وجه للأفراد ولا يبيّن خَصوصيّاتها - كما لا يخفى - .

ثمّ إنّه قد اختلف في شخص موضوع علم الأصول واسمه الخاصّ، فالمصنّف

ص: 26

لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة، بل ولا بما هي هي؛ ضرورةَ أنّ البحث في غير واحدٍ من مسائله المهمّة ليس من عوارضها.

___________________

ذهب إلى أنّه غير معلوم بشخصه؛ لأنّ ما ذكروه {لا} يصلح للموضوعيّة، لعدم اتّحاده مع موضوعات مسائله، خِلافاً للمحقّق القمّي(قدس سره) حيث جعل موضوع الأصول {خصوص الأدلّة الأربعة}: الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل، فإنّه(رحمة الله) يرى هذه {بما هي أدلّة} وبوصفدليليّتها موضوعاً، وعلى هذا فيخرج البحث عن حجيّة أحدها عن الأصول، ويكون من المبادئ التّصديقيّة، وكذلك يخرج أكثر مباحث الألفاظ، كالأوامر والنّواهي والعموم.

{بل و} غيرها؛ لأنّ البحث فيها ليس بحثاً عن الأعراض الذّاتيّة للأدلّة الأربعة، إذ البحث في الأصول ليس عن خصوص الأمر الوارد في الكتاب - مثلاً - .

وحيث رأى صاحب الفصول ذلك تعذّر عنه بما {لا} يغني، فجعل الموضوع الأدلّة الأربعة {بما هي هي} أي: بذواتها من دون نظر إلى كونها أدلّة.

وهذا وإن سلم عن الإشكال الأوّل، لكن يرد عليه أمران: الأوّل: خروج مباحث الألفاظ - كما تقدّم - . والثّاني: دخول ما ليس من الأصول فيه، كالتّفسير، والتّجويد، وعلم الحديث؛ لأنّ هذه العلوم تبحث عن أحوال الكتاب والسّنّة - كما لا يخفى - .

ثمّ إنّه يرد عليهما أيضاً خروج بعض المسائل الأُخَر {ضرورة أنّ البحث في غير واحد من مسائله المهمّة ليس من عوارضها} أي: عوارض الأدلّة الأربعة، وقد تقدّم كون موضوع العلم هو ما يكون الأبحاث بحثاً عن عوارض ذاتيّة له.

وحيث كان هذا المبحث من مهامّ المباحث لزم بيانه أوّلاً حتّى يتّضح المتن فنقول: لو كان موضوع الأصول، الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة أو بما هي هي، لزم خروج عمدة مباحث التّعادل، ومبحث خبر الواحد عن الأصول، وذلك لأنّ التّرجيح

ص: 27

___________________

والتّعادل والحجّيّة من عوارض الخبر، و(الخبر) لا يكون من السّنّة، ولا من الكتاب، والإجماع، والعقل، فهو خارج عن الأصول، أمّا عدم كون (الخبر) منالثّلاثة الأخيرة فظاهر، وأمّا عدم كونه من السّنّة؛ فلأنّ السّنّة عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره، و(الخبر) حاكٍ لأحدها، وليس هو بأحدها.

إن قلت: يمكن إرجاع هذين البحثين إلى السّنّة بأن يقال: مرجع مسألة التّعادل والتّرجيح إلى أنّ السّنّة وهي قول المعصوم وفعله وتقريره، هل تثبت بهذا الخبر أو بذاك، ومرجع مسألة الخبر الواحد إلى أنّ السّنّة هل تثبت بخبر الواحد أم لا تثبت، إلّا بما يفيد القطع؟

قلت: أوّلاً إنّ بيان البحث بهذه الكيفيّة وإن كان أقلّ محذوراً، إلّا أنّ القوم لم يبيّنوه هكذا، ونحن الآن في صدد التّعرّض لما بيّنوه. وثانياً إنّ هذا البيان لا يدفع الإيراد أيضاً وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ (كان) على قسمين:

الأوّل: التّامّة وهي ما يخبر عن وجود الشّيء فقط نحو (كان اللّه) و(كان زيد) أي: وجد.

الثّاني: النّاقصة وهي ما يخبر عن أوصاف الشّيء بعد ثبوت وجوده نحو: (كان زيد قائماً)، فالوجود في الأوّل محمول، وفي الثّاني رابطة. ومثل: (كان)، (هل) وهي قسمان: الأوّل: بسيطة وهي مثل: (كان التّامّة)، الثّاني: المركّبة وهي مثل (كان النّاقصة).

إذا تمهّدت المقدّمة قلنا: إن كان المراد بالمحمول في قولكم: «إنّ السّنّة تثبت بخبر الواحد» الثّبوت الواقعي - أي: إنّ السّنّة موجودة ثابتة - فيكون مفاد (كان التّامّة) ففيه:

أوّلاً: أنّ البحث عن وجود الدّليل ليس من مباحث العلم؛ لأنّه بحث عن وجود

ص: 28

وهو واضح، لو كان المرادُ بالسّنّة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره - كما هو المصطلح فيها - ؛ لوضوح عدمالبحث في كثيرٍ من مباحثها المهمّة - كعمدة مباحث التّعادل والتّرجيح،

___________________

الموضوع، وإنّما أبحاث العلم عبارة عن مباحث أعراض الموضوع الّتي هي مفاد (كان النّاقصة).

وثانياً: أنّ السّنّة الواقعيّة معلوم الوجود، فلا معنى للبحث عنه.

وإن كان المراد بالمحمول الثّبوت التّعبّدي - أي: إنّ خبر الواحد الّذي هو سنّة تعبديّة حجّة أم لا - ففيه أنّ الحجيّة ووجوب العمل لم يعرض للسّنّة - أي: قول المعصوم وفعله وتقريره - وإنّما عرض على حاكي السّنّة، وهو الخبر الواحد، وحينئذٍ فهو عارض لغير موضوع العلم، هذا حاصل الكلام في المقام.

وإذا أحطت خُبْراً بما ذكرناه فلنرجع إلى المتن فنقول: البحث عن كثير من مباحث الأصول ليس من عوارض الأدلّة الأربعة {وهو واضح} وكفاك شاهداً في ذلك خروج مسألة خبر الواحد وأكثر مباحث التّعادل، فإنّه {لو كان المراد بالسّنّة منها} أي: السّنّة الّتي هي أحد الأربعة المجعولة موضوعاً للأُصول {هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره} وكلمة «أو» للتّقسيم نحو: (الكلمة اسم أو فعل أو حرف) لا للتّرديد {كما هو المصطلح فيها} فقد جرى اصطلاح الفقهاء على تسمية الثّلاثة بالسّنّة، وهناك معنىً آخر للسّنّة يعمّ الثّلاثة، والأخبار المرويّة - كما سيأتي - .

وإنّما خرج بعض المسائل عن الأصول على هذا الاصطلاح {لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمّة كعُمْدَةِ مباحث التّعادل والتّرجيح} عن السّنّة، فإنّ تلك المباحث لا تلحق السّنّة، كما لا تلحق الكتاب والإجماع والعقل، وإنّما خصّ الخارج بأكثر مباحثه لا الجميع؛ لأنّ بعض مباحثه يكون من مباحث الكتاب والسّنّة، مثل: تعارض الآيتين أو السّنّتين.

ص: 29

بل ومسألة حجيّة الخبر الواحد - لا عنها، ولا عن سائر الأدلّة.

ورجوعُ البحث فيهما في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت السّنّة بالخبر الواحد في مسألة حجيّة الخبر - كما أُفيد(1)

- ، وبأيّ الخبرين في باب التّعارض، فإنّه أيضاً بحث في الحقيقة عن حجيّة الخبر في هذا الحال، غيرُ مفيدٍ؛ فإنّ البحث عن ثبوت الموضوع

___________________

{بل و} يخرج أيضاً {مسألة حجيّة الخبر الواحد} عن الأصول؛ لأنّه {لا} يكون بحثاً {عنها} أي: عن السّنّة {ولا عن سائر الأدلّة و} ذلك بعين ما تقدّم من الدّليل، فيكون هذان البحثان من المبادئ التّصديقيّة، لا مسائل العلم.

فإن قلت: يمكن {رجوع البحث فيهما} إلى كيفيّة خاصّة حتّى يكونا من مباحث الأصول، إذ مرجع الكلام {في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت السّنّة بالخبر الواحد في مسألة حجيّة الخبر - كما أُفيد -} والمفيد هو شيخ الأعاظم الشّيخ المرتضى الأنصاري(قدس سره) في مسألة حجيّة خبر الواحد. هذا وجه دخول مسألة الخبر في مباحث الأصول.

{و} أمّا وجه دخول مسألة التّعادل والتّرجيح؛ فلأنّ مرجع الكلام في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت السّنّة {بأيّ الخبرين في باب التّعارض} وتغيير البحث بهذه الكيفيّه لا يضرّ بعنوان البحث في كلام القوم {فإنّه أيضاً بحث في الحقيقة عن حجيّة الخبر}.والحاصل: أنّ العبارة مختلفة والمطلب واحد، إذ كلا العنوانين بحث عن حجيّة الخبر {في هذا الحال} الّذي تعارض فيه الخبران، وبهذا التّبويب يدخل بحث حجيّة الخبر وبحث التّعادل في الأصول.

قلنا: إرجاع المبحثين إلى ما ذكرتم {غير مفيد} فيدفع الإشكال {فإنّ البحث عن ثبوت الموضوع} - أعني: السّنّة - ولا ثبوته.

ص: 30


1- فرائد الأصول 1: 238.

- وما هو مفاد كان التّامّة - ليس بحثاً عن عوارضه، فإنّها مفاد كان النّاقصة.

لا يقال: هذا في الثّبوت الواقعي، وأمّا الثّبوت التّعبّدي - كما هو المهمّ في هذه المباحث - فهو في الحقيقة يكون مفاد كان النّاقصة.

فإنّه يقال: نعم، لكنّه ممّا لا يعرضُ السّنّة، بل الخبر الحاكي لها؛

___________________

{و} بعبارة أُخرى البحث عن {ما هو مفاد كان التّامّة} وهل البسيطة، أي: وجود الشّيء ولا وجوده {ليس بحثاً عن عوارضه} الذّاتيّة حتّى يكون من المسائل، بل هو من المبادئ التّصديقيّة - كما تقدّم - {فإنّها} إنّما تكون من المباحث إذا كانت {مفاد كان النّاقصة} وهل المركّبة، أي: إثبات العوارض للموضوع.

فتحصّل: أنّ تغيير البحث إلى هاتين الكيفيّتين إنّما يخرج المسألتين عن الأجنبيّة ويجعلهما من المبادئ التّصديقيّة، فيلزم منه الاستطراد أيضاً.

{لا يقال: هذا} الّذي ذكرتم من صيرورة المسألتين من المبادئ التّصديقيّة غير صحيح؛ لأنّ كلامنا لم يكن {في الثّبوت الواقعي} الحقيقي إذ هو معلوم الوجود، فلا مجال للبحث عنه أصلاً حتّى يكون من مفاد كان التّامّة، ولا يكون من المسائل.{وأمّا} البحث عن {الثّبوت} الجعليّ {التّعبّدي} الّذي هو عبارة عن ترتيب الآثار الشّرعيّة على الخبر {كما هو المهمّ في هذه المباحث} أي: مبحث الخبر الواحد والتّعادل والتّراجيح ولواحقها {فهو في الحقيقة} بحث عن عوارض الموضوع و{يكون مفاد كان النّاقصة}، فتكون المسألتان من مسائل العلم، وحينئذٍ فيكون عنوان المسألتين هكذا: هل السّنّة التّعبديّة - أي: الخبر - يجب العمل بها؟ وهل السّنّتان التّعبّديّتان المتعارضتان يجب العمل بكلتيهما تخييراً أم بالرّاجح منهما أم تتساقطان؟

{فإنّه يقال: نعم} هذا بحث عن مفاد كان النّاقصة {لكنّه ممّا لا يعرُضُ السّنّة} حتّى يكون من المسائل {بل} يعرُضُ {الخبر الحاكي لها} أي: للسّنّة فتكون

ص: 31

فإنّ الثّبوت التّعبّدي يرجِع إلى وجوب العمل على طبق الخبر، كالسّنّة المحكيّة به، وهذا من عوارضه لا عوارضها، كما لا يخفى.

وبالجملة: الثّبوتُ الواقعيُّ ليس من العوارضِ، والتّعبّديُّ وإن كان منها إلّا أنّه ليس للسّنّة، بل للخبر، فتأمّل جيّداً.

وأمّا إذا كان المراد من السّنّة ما يَعُمُّ حكايتها،

___________________

المسألتان أيضاً خارجتين عن الأصول، وذلك {فإنّ الثّبوت التّعبّدي} الجعليّ من قبل الشّارع معناه: جعل الحجيّة والطّريقيّة للخبر، وهو {يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر} والحركة والسّكون على وَفْقه، وبهذا الجعل يكون الخبر {كالسّنّة المحكيّة به} لا يفرقان إلّا من حيث الحاكية والمحكيّة.{و} من المعلوم أنّ {هذا} أي: وجوب العمل المجعول للخبر الواحد {من عوارضه} و{لا} ربط له بالسّنّة، فلا يكون من {عوارضها} فالبحث عن هذا الوجوب لا يكون من مسائل الأصول {كما لا يخفى} على الخبير.

{وبالجملة} نقول - في جواب الشّيخ - : إن كان مرادكم بالثّبوت {الثّبوت الواقعي} فهو {ليس من العوارض} الذّاتيّة للسّنّة، لكونه مفاد كان التّامّة، فتكون المسألة من المبادئ التّصديقيّة {و} إن كان مرادكم بالثّبوت الثّبوت {التّعبّدي} فهو {وإن كان منها} أي: من العوارض الذّاتيّة {إلّا أنّه ليس} يعرض {للسّنّة} حتّى تكون من المسائل {بل} يعرض {للخبر} الحاكي، فلا يكون من المسائل ولا المبادئ {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك وتقول: إنّ الخبر سنّة تنزيليّة فالمحمول عليه محمول عليها، فيكون هذا البحث من المسائل.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ المراد من السّنّة لو كان قول المعصوم أو فعله أو تقريره ورد إشكال خروج مسألة الخبر والتّعادل عن الأصول.

{وأمّا إذا كان المراد من السّنّة ما يعمّ} قول المعصوم وفعله وتقريره و{حكايتها}

ص: 32

فلأنّ البحث في تلك المباحث وإن كان عن أحوال السّنّة بهذا المعنى، إلّا أنّ البحث في غير واحد من مسائلها - كمباحث الألفاظ وجملةٍ من غيرها - لا يخصّ الأدلّة، بل يعمّ غيرها،

___________________

أي: الخبر الواحد، فهذا وإن أوجب دخول المسألتين في علم الأصول، إذ الحجيّة ممّا تعرض الحاكي، والمفروض أنّ الحاكي من السّنّة الّتي هي أحد جزئيّات موضوع العلم، لكن فيه أنّ ظاهر المشهور كون الأدلّة الأربعة بما هيأدلّة موضوع العلم، فالبحث عن دليليّة الدّليل إنّما يكون من المبادئ التّصديقيّة، والمهمّ كون المسألتين من مسائل العلم لا مطلق الدّخول. نعم، تكونان من المسائل على قول الفصول الّذي جعل الموضوع ذوات الأدلّة.

ثمّ إنّه بقي إشكال آخر على تقدير كون الموضوع الأدلّة الأربعة، ولو ارتفع الإشكال الأوّل بجعل المراد من السّنّة معنى يشمل الخبر {فلأنّ البحث في تلك المباحث} - التّعادل، والتّرجيح، والخبر الواحد - {وإن كان عن أحوال السّنّة بهذا المعنى} فيرتفع إشكال خروج المسألتين {إلّا} أنّ أكثر المسائل يبقى خارجاً عن الأصول أيضاً، وذلك ل {أنّ البحث في غير واحد من مسائلها} المهمّة {كمباحث الألفاظ} عامّة {و} كذلك {جملة} من المباحث {من غيرها} كبعض مباحث الأدلّة العقليّة {لا يخصّ الأدلّة} الأربعة، فإنّ البحث عن الأمر، والنّهي، والعام، والخاصّ، والمطلق، والمقيّد، والمجمل، والمبيّن، والمفاهيم، في مبحث الألفاظ، ومبحث الاجتهاد والتّقليد، وبعض أقسام الإجماع، وبعض الأحكام العقليّة في الأدلّة العقليّة، لا يخصّ بالأدلّة الأربعة {بل يعمّ غيرها} فإنّ قولهم: «الأمر ظاهر في الوجوب» - مثلاً - لا يختصّ بالأمر الوارد في الكتاب أو السّنّة، وكذلك البواقي، وأمّا مثل مسألة الاجتهاد والتّقليد فخروجها بديهي.

ص: 33

وإن كان المهمّ معرفة أحوال خصوصها، كما لا يخفى.

ويؤيّد ذلك: تعريف الأصول بأنّه «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكامالشّرعيّة»(1)،

___________________

والحاصل: أنّ أغلب المسائل إمّا أجنبيّة، وإمّا أعمّ {وإن كان المهمّ معرفة أحوال خصوصها} أي: خصوص الأدلّة الأربعة حتّى تكون أعراضاً ذاتيّة، وأمّا العارض بواسطة الأعمّ، فلا يكون عرضاً ذاتيّاً.

وقد تقدّم منّا ما يشير إلى ميزان العَرَض الذّاتيّ ضمناً، وعليه فلا يرد إشكال الأعمّيّة - {كما لا يخفى} - وبما ذكر تبيّن أنّ موضوع الأصول هو الكلّيّ المنطبق على موضوعات مسائله.

تعريف الأصول

{ويؤيّد ذلك} قولهم في {تعريف} علم {الأصول} وبيان حدّه {بأنّه «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشّرعيّة»} وجه التّأييد أنّ «القواعد» جمع محلّى باللّام، فيقتضي العموم، فيكون المستفاد من هذا التّعريف أنّ كلّ مسألة يمكن أن تقع في طريق الاستنباط داخلة في علم الأصول، سواء دوّنت أم لم تدوّن، وسواء كان موضوعها أحد الأدلّة الأربعة أم لم يكن، ومن البديهيّ أنّ بين صدق هذا التّعريف وصدق موضوعيّة الأدلّة الأربعة عموماً من وجه، لإمكان الجمع بينهما في ما إذا كانت مسألةٌ موضوعها أحد الأدلّة وتقع في طريق الاستنباط، وافتراقهما في ما إذا صدق أحدهما بدون الآخر.

وأمّا ما ذكرناه من الموضوع فلا يعقل الافتراق، إذ كلّ مسألة تقع في طريق الاستنباط تكون من صغريات الكلّي المنطبق على موضوعات المسائل. هذا تعريف الأصول على مذاق القوم.

ص: 34


1- قوانين الأصول 1: 5.

وإن كان الأولى تعريفه بأنّه: «صِناعة يعرف بها القواعد الّتي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو الّتي ينتهى إليها في مقام العمل»؛ بناءً على أنّ مسألة حجيّة الظّنّ على الحكومة،

___________________

{وإن كان الأولى تعريفه بأنّه صِناعة يُعرَف بها القواعد الّتي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام} الشّرعيّة الفرعيّة {أو الّتي ينتهي إليها} الفقيه {في مقام العمل} عند يأسه عن الظّفر بالدّليل الاجتهاديّ.

وبيان أولويّة هذا التّعريف يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، وهي: أَنَّ من المسائل المبحوث عنها في علم الأصول حجيّة مطلق الظّنّ المعبّر عنها بدليل الانسداد، ولهذا الدّليل مقدّمات:

الأُولى: وجود العلم الإجمالي بتكاليف كثيرة في الشّريعة المطهّرة.

الثّانية: انسداد باب العلم والعلمي إلى كثير منها.

الثّالثة: عدم جواز إهمال تلك الأحكام.

الرّابعة: عدم وجوب الاحتياط وعدم جواز الرجوع إلى فتوى المجتهد أو الأصول العمليّة.

الخامسة: قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح، وبعد تماميّة المقدّمات يكون الظّنّ في الأحكام الشّرعيّة حجّةً.

فيقال: هل بعد المقدّمات نكشف عن جعل الشّارع الظّنّ حجّةً، أو يستقلّ العقل ويحكم بحجيّته حينئذٍ. وبعبارةٍ أُخرى حجيّة الظّنّ حينئذٍ على الكشف أو على حكومة العقل.

وإذا تمهّدت المقدّمة قلنا: الأولى ما ذكرناه من التّعريف {بناءً علىأنّ مسألة حجيّة الظّنّ على الحكومة} من الأصول؛ لأنّه يخرج هذا المبحث عن التّعريف الأوّل، فيلزم أن لا يكون من مباحث الأصول، إذ لا استنباط للحكم الشّرعيّ حينئذٍ،

ص: 35

ومسائل الأصول العمليّة في الشُّبَهَاتِ الحُكميّة، من الأصول، كما هو كذلك؛ ضرورة

___________________

بخلاف التّعريف الثّاني، فإنّه يشمل هذه المسألة؛ لأنّها ممّا ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل.

أمّا لو قلنا: إنّ مقدّمات الانسداد تنتج حجيّة الظّنّ على الكشف، فلا يخرج المبحث عن التّعريف الأوّل؛ لأنّ المقدّمات كاشفة عن جعل الشّارع الظّنّ حجّة، فيكون هذا المبحث من القواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشّرعيّ.

{و} كذلك يخرج بناءً على التّعريف الأوّل {مسائل الأصول العمليّة في الشّبهات الحكميّة من الأصول} الأصول العمليّةُ عبارة عن البراءة والاحتياط والاستصحاب والتّخيير، والشَّبهة الحكميّة عبارة عمّا كان سبب الشبهة فِقْدان النّصّ أو إجماله أو تعارض النّصّين، والشّبهة الموضوعيّة عبارة عمّا كان سبب الشّبهه فيه الأُمور الخارجيّة.

وبعبارة أُخرى: الشّبهة الّتي نحتاج في رفعها إلى استطراق باب الشّارع هي الشّبهة الحُكميّة، والشّبهة الّتي نحتاج في رفعها إلى استطراق باب اللّغة والعرف هي الشّبهة الموضوعيّة.

إذا عرفت هذا فنقول: وجه تقييد الشّبهات بالحكميّة إشارة إلى كون الجارية منها في الشّبهات الموضوعيّة ليست من المسائل الأصوليّة، بل هي من المسائل الفقهيّة، فخروجها عن تعريف الأصول غير مضرّ، وأمّا وجه خروج هذه المسائل عن تعريف المشهور، فإنّما هو لعدم وقوعها في طريق الاستنباط، بخلاف تعريف المصنّف فهي داخلة فيه، لوضوح أنّ الأصول العمليّة ممّا ينتهي إليهالفقيه في مقام العمل.

فتحصّل أنّ مسألة حجيّة الظّنّ على الحكومة وكذلك مسائل الأصول العمليّة من علم الأصول على تعريف المصنّف {كما هو كذلك} بحسب الواقع{ضرورة}

ص: 36

أنّه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمّات.

الأمر الثّاني: الوضع هو نحو اختصاص اللّفظ بالمعنى وارتباطٍ خاصّ بينهما، ناشٍ من تخصيصه به تارةً،

___________________

بخلاف تعريف القوم، فإنّ هاتين المسألتين خارجتان عنه مع {أنّه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمّات} لاعتماد كثير من الأحكام الفرعيّة الظّاهريّة عليها - كما لا يخفى على من راجع الفقه - وقد أشكل على تعريف المصنّف بما لا مجال لذكره، ولا يذهب عليك أنّه تبيّن من تعريف علم الأصول غايته أيضاً - كما هو شأن تعاريف العلوم - .

[الأمر الثّاني: الوضع وأقسامه]

اشارة

المقدّمة، الوضع وأقسامه

{الأمر الثّاني} في {الوضع} والمشهور أنّه تعيين اللّفظ للدّلالة على المعنى بنفسه، ولا وجه لقول بعضٍ:

إنّ معنى الوضع هو الموضوعيّة، إذ معنى الوضع - كما هو المأخوذ عن اللّغة والعرف - مرادف لقولنا - في الفارسيّة - : (نهادن)، وحيث أشكل على التّعريف المتقدّم بأنّه لا يشمل الوضع التّعيّنيّ عدل المصنّف عنه وعرّف الوضع بأنّه {هو نحو اختصاص اللّفظ بالمعنى} وعلقة {وارتباطٍ خاصٍّ بينهما}.

وأشكل عليه: بأنّ الوضع مصدر - كما تقدّم - فتفسيره بالاختصاص خِلافُ الظّاهر.وأُجيب: بأنّ لفظ المصدر مطلقاً مشترك بينه وبين اسمه. مثلاً (القَتْل) مشترك بين (كشتن و كشتار) و(القول) مشترك بين (گفتن و گفتار) وهكذا، فتأمّل.

ثمّ إنّ (الوضع) على قسمين: الأوّل: ما كان الارتباط بين اللّفظ والمعنى حاصلاً من جعل شخصٍ خاصٍّ اللّفظ بإزاء المعنى فهو {ناشٍ من تخصيصه به} بحيث لولا التّخصيص لم يكن بينهما ارتباط وعلاقة أصلاً. وهذا القسم يُسمّى بالوضع التّعيينيّ، ويكون {تارةً} من اللّه - تعالى - ، وأُخرى من النّاس - كما لا

ص: 37

ومن كثرة استعماله فيه أُخرى، وبهذا المعنى صحّ تقسيمه إلى التّعيينيّ والتّعيّنيّ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ

___________________

يخفى على المتتبّع - .

{و} الثّاني: ما كان الارتباط بين اللّفظ والمعنى حاصلاً {من كثرة استعماله فيه} نحو (تَأَبَّطَ شَرّاً) الّذي صار اسم رجلٍ بالغلبة، و(اِصْمِتْ) الّذي صار اسم وادٍ كذلك، وهذا القسم يُسمّى بالوضع التّعيّني، تارةً والوضع الغلبي {أُخرى} - وسيجيء قسم ثالث للوضع - .

{وبهذا المعنى} الّذي ذكرنا للوضع {صحّ تقسيمه إلى التّعيينيّ والتعيّنيّ} بخلاف المعنى الّذي ذكره المشهور، فإنّه لا يشمل الوضع التّعيّني - كما تقدّم - لكن يمكن أن يقال: إنّ تعريف المشهور شامل للثّاني أيضاً، إذ هو كما يحصل بالدّفعي يحصل بالتّدريجي {كما لا يخفى}.

ثمّ إنّه قد اختلف في هذا المقام في أمرين:

الأوّل: في منشأ الارتباط، وفيه أقوال خمسة: [1] فقال بعض: بأنّه ذاتيّ، [2]وبعض: بأنّه جعليّ، [3] وثالث جعله: بين الذّاتيّة والجعليّة، [4] والرّابع جعله: من لوازم الجعل. [5] وخامس جعله: من الأُمور الاعتباريّة، ولمّا كان الكلام فيها يحتاج إلى بسط خارج عن وضع الشّرح وكّلناه إلى مواضعه المبسوطة.

الثّاني: في تعيين الواضع: [1] فبعضهم قال: بأنّه اللّه - تعالى - ، [2] وآخرون قالوا: بأنّه البشر، [3] وفصّل ثالث فجعل: بعضه من اللّه - تعالى - وبعضه من البشر، وحيث لم يكن هناك دليل تطمئنّ إليه النّفس على أحدها تركنا تفصيلها.

{ثمّ إنّ} الوضع لمّا كان عبارة عن الارتباط بين اللّفظ والمعنى كان على الواضع ملاحظة اللّفظ والمعنى قبل الوضع، فالمعنى المتصوّر قبل الوضع يسمّى

ص: 38

الملحوظ حال الوضع إمّا يكون معنى عامّاً فيوضع اللّفظ له تارةً، ولأفراده ومصاديقه أُخرى، وإمّا يكون معنى خاصّاً

___________________

وضعاً مجازاً، إذ الوضع - كما تقدّم - عبارة عن الارتباط، وتسمية المعنى به وصف باعتبار المتعلّق، واللّفظ يسمّى موضوعاً ومعنى اللّفظ يسمّى موضوعاً له.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ الوضع بحسب التّصوّر العقلي على أقسام أربعة: لأنّ {الملحوظ حال الوضع إمّا يكون معنى عامّاً} وحينئذٍ {فيوضع اللّفظ له} أي: لذلك المعنى العام {تارةً} وهذا هو القسم الأوّل المعبّر عنه بالوضع العام والموضوع له العام. وذلك كوضع لفظ الكلّي بأزاء معناه الكلّي، مثل وضع لفظ (الحَيَوان) بإزاء النّامي المتحرّك بالإرادة.

{و} يوضع اللّفظ {لأفراده ومصاديقه} تارةً {أُخرى} وهذا هو القسم الثّاني المعبّر عنه بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، وذلك كأسماء الإشارة عند بعض. - مثلاً - المعنى الملحوظ عند الوضع هو كلّ مفرد مذكّرمشار إليه، وهذا معنىً كلّيّ عامّ لكن لفظة (هذا) لم يوضع لذاك وإلّا صحّ استعماله وإرادة ذلك المعنى الكلّي، بل إنّما وضع لأفراد هذا الكلّيّ، ومثل أسماءِ الإشارةِ، الحروفُ، والموصولاتُ، والضّمائر، ونحوها.

{وإمّا} أن {يكون} الملحوظ حال الوضع {معنى خاصّاً} وجزئيّاً حقيقيّاً وهذا أيضاً قسمان:

الأوّل: أن يوضع اللّفظ لذلك المعنى الخاصّ، وهذا هو القسم الثّالث المعبّر عنه بالوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، وذلك كالأعلام الشّخصيّة، فإنّ المعنى الملحوظ حين الوضع هو الشّخص الخاصّ، ووضع لفظ (زيد) - مثلاً - بإزائه.

الثّاني: أن يوضع اللّفظ لِمَعْنىً أعمّ من ذلك الخاصّ الملحوظ، وهذا هو القسم الرّابع المعبّر عنه بالوضع الخاصّ والموضوع له العام، وذلك مثل ما لو رأى

ص: 39

لا يكاد يصحّ إلّا وضعُ اللّفظ له دون العام؛ فتكون الأقسام ثلاثة؛ وذلك لأنّ العامّ يصلحُ لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك، فإنّه من وجوهها، ومعرفةُ وجهِ الشَّيْءِ معرفته بوجه، بخلاف الخاصّ فإنّه

___________________

شَبَحاً من بعيد، فيضع لفظ الحَيَوان - مثلاً - لجامعه القريب، فإنّ المعنى الملحوظ حال الوضع هو الشَّبَحُ المتحرّك، ووضع لفظ الحَيَوان بإزاء الأعمّ منه.

ثمّ إنّ هذا كلّه بحسب التّصوّر، وأمّا بحسب الإمكان العقلي ففيه قولان:

فبعضهم قال: بإمكان الأربعة، وبعضهم قال: بعدم إمكان القسم الرّابع، وهذا مختار المصنّف ولهذا قال: {لا يكاد يصحّ} إذا كان الملحوظ معنى خاصّاً {إلّا وضع اللّفظ له} فقط {دون} أن يوضع للمعنى {العام} وعلى هذا {فيكون الأقسام ثلاثةٌ} لا أربعة.

{و} حيث كان هنا مَظِنَّةُ سؤال الفرق بين القسم الرّابع والقسم الثّاني بأنيقال: كيف جوّزتم الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ولم تجوّزوا الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ، مع أنّ الوضع لو أمكن لغير المعنى المتصوّر جاز فيهما، ولو لم يكن لم يجز فيهما؟ بيّن الفرق بأنّ {ذلك} القسم الثّاني إنّما يجوز {لأنّ} المعنى {العام} الملحوظ حين الوضع {يصلح لأن يكون} مِرْآةً و{آلةً للحاظ أفراده ومصاديقه} لكونه كلّيّاً والكلّيّ {بما هو كذلك} عين الأفراد، فلحاظه لحاظ الأفراد كما هو شأن سائر المتّحدين، فيمكن الوضع للأفراد حين لحاظ العامّ {فإنّه من وجوهها}.

وإذا ثبتت المقدّمتان - الأولى: أنّ العامّ وجه الأفراد. {و} الثّانية: أنّ {معرفة وجه الشّيء} وصورته هي: عرفانُهُ إجمالاً و{معرفتُهُ بوجهٍ} مّا - ثبت المطلوب، وهو كفاية لحاظ العامّ في وضع اللّفظ للأفراد، وهذا {بخلاف} القسم الرّابع أي: الوضع {الخاصّ} والموضوع له العامّ {فإنّه} مع قطع النّظر عن لحاظ العامّ الّذي

ص: 40

- بما هو خاصّ - لا يكون وجهاً للعامّ، ولا لسائر الأفراد؛ فلا يكون معرفته وتصوّره معرفةً له، ولا لها أصلاً ولو بوجه.

نعم، ربّما يوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه،

___________________

في ضمنه، بل {بما هو خاصّ} ومحدود {لا} يمكن أن {يكون وجهاً للعامّ، و} مرآةً له، حتّى يتصوّر الخاصّ ويوضع للعامّ، كما أنّه {لا} يكون مِرْآةً {لسائر الأفراد} المشخّصة {فلا يكون معرفته} أي: الخاصّ {وتصوّره} بما هو خاصّ ومحدود {معرفةً له} أي: للعامّ {ولا لها} أي: لسائر الأفراد.والحاصل: أنّه لا يكون تصوّر الجزئيّ موجباً لمعرفة الجزئيّ ولا الكلّيّ {أصلاً ولو بوجه} مّا، كما لا يخفى.

هذا هو الّذي ادّعاه المصنّف من الفرق بين القسمين.

وفيه: أوّلاً: أنّ العامّ لمّا كان متّحداً مع الأفراد - كما هو المفروض، لكونه كليّاً طبيعيّاً - كان معرفة الفرد معرفته كما أنّ معرفته معرفة الفرد، فكما أنّ لحاظ العامّ كافٍ في الوضع للخاصّ كذلك لحاظ الخاصّ كافٍ في الوضع للعامّ، إذ المفروض فناء كلّ منهما في الآخر.

وثانياً: أنّه لا يعقل الوضع للخاصّ من دون لحاظه منحازاً عن لحاظ العامّ، فإنّ إرادة الوضع للأفراد عبارة عن لحاظ الأفراد بعد لحاظ العامّ، كما أنّ إرادة الوضع للعام عبارة عن لحاظ الفرد.

والحاصل: أنّ هذين القسمين في الاستحالة - من دون لحاظ ثانوي والإمكان معه - سواء، ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من الجوابين طوليّ لا عرضي.

هذا ولمّا فرغ المصنّف من بيان الفرق شرع في بيان وجه اشتباه من لم يفرق بينهما بقوله: {نعم، ربّما يوجب تصوّره} أي: الخاصّ {تصوّر العام بنفسه} وبما هو هو بأن ينتقل الذّهن من الخاصّ إلى العامّ اتّفاقاً، أو لكون المتصوّر مريداً لتصوّر

ص: 41

فيوضع له اللّفظ، فيكون الوضعُ عامّاً كما كان الموضوع له عامّاً. وهذا بخلاف ما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فإنّ الموضوع له - وهي الأفراد - لا يكون متصوّراً إلّا بوجهه وعنوانه - وهو العامّ - وفرقٌ واضح بين تصوّر الشّيء بوجهه، وتصوّره بنفسه ولو كان بسبب تصوّرِ أمرٍ آخر.ولعلّ خَفَاء ذلك على بعض الأعلام(1)، وعدم تمييزه بينهما، كان موجباً لتوهّم إمكان ثبوت قسم رابع وهو أن يكون الوضع خاصّاً مع كون الموضوع له عامّاً،

___________________

جميع الخَصُوصيّات ومنها العامّ {فيوضع له} أي: للعامّ المتصوّر {اللّفظ} وعلى هذا {فيكون الوضع} أي: المعنى المتصوّر حينه {عامّاً، كما كان الموضوع له عامّاً} لكن تصوّر الخاصّ صار سبباً لتصوّر العامّ، بخلاف الوضع العامّ والموضوع له العامّ - الّذي تقدّم سابقاً - فإنّ تصوّر العامّ كان ابتدائيّاً.

{وهذا} الّذي ذكرناه من أنّ العامّ متصوّر بنفسه وإن كان منشأ تصوّره الخاصّ {بخلاف ما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فإنّ الموضوع له} في هذا القسم - {وهي الأفراد - لا يكون متصوّراً} للواضع بتصوّر تفصيليّ ثانوي، فإنّه لم يتصوّر {إلّا بوجهه وعنوانه - و} الوجه المتصوّر {هو العام - وفرق واضح بين تصوّر الشّيء بوجهه} كما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ {و} بين {تصوّره بنفسه و} بما هو هو، كما {لو} كان الوضع عامّاً والموضوع له عامّاً، سواء {كان} تصوّر العامّ ابتداءً، أو {بسبب تصوّر أمر آخر} كالخاصّ الّذي يكون سبباً لتصوّر العامّ.

{ولعلّ خَفَاء ذلك} الفرق {على بعض الأعلام} أي: الحاج ميرزا حبيب اللّه الرّشتي(قدس سره) {وعدم تمييزه بينهما} أي: بين القسم الثّاني والرّابع، أي: بين ما إذا كان العامّ متصوّراًابتداءً، أو بواسطة الخاصّ {كان موجباً لتوهّم إمكان ثبوت قسم رابع، وهو أن يكون الوضع خاصّاً مع كون الموضوع له عامّاً} وقد بيّنّا عدم الفرق وخفائه

ص: 42


1- بدائع الأفكار: 40.

مع أنّه واضح لمن كان له أدنى تأمّل.

ثمّ إنّه لا ريب في ثبوت الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، كوضع الأعلام، وكذا الوضع العامّ والموضوع له العامّ، كوضع أسماء الأجناس.

وأمّا الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فقد توهّم(1) أنّه وضع الحروف وما أُلحق بها من الأسماء.

___________________

عليه(قدس سره) {مع أنّه واضح لمن كان له أدنى تأمّل} واللّه العالم.

{ثمّ} إنّ هذا كلّه بحسب الإمكان العقلي، وأمّا بحسب الوقوع الخارجي فنقول: {إنّه لا ريب في ثبوت} القسم الثّالث، أعني: {الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ} وذلك {كوضع الأعلام} الشّخصيّة، فإنّ المعنى المتصوّر حين الوضع جزئيّ حقيقيّ، واللّفظ موضوع بإِزاء ذلك المعنى الجزئيّ.

{وكذا} لا ريب في ثبوت القسم الأوّل، أعني: {الوضع العامّ والموضوع له العامّ} وذلك {كوضع أسماء الأجناس} فإنّ المعنى المتصوّر حين الوضع كلّيّ، واللّفظ موضوع بإِزاء ذلك المعنى، وقد تقدّم استحالة القسم الرّابع، أعني: الوضع الخاص والموضوع له العامّ، على رأي المصنّف، فلا مجال للكلام في وقوعه.

المعنى الحرفي

{وأمّا} القسم الثّاني، أعني: {الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ} ففي وقوعه خلاف {فقد توهّم أنّه وضع الحروف و} كذا {ما أُلحق بها من الأسماء} المبهمة كأسماء الإشارة والموصولات الاسميّة ونحوها، فالواضع - مثلاً - لاحظ كلّيّ المفرد المذكّر المشار إليه لكن وضع لفظة (هذا) بإزاء الأفراد، وكذلك لاحظ كلّيّ الابتداء ووضع لفظة (من) بإزاء جزئيّاته، وهذا القول ذهب إليه المحقّق الشّريف

ص: 43


1- الفصول الغرويّة: 16.

كما توهّم(1)

أيضاً أنّ المستعمل فيه فيها خاصّ مع كون الموضوع له كالوضع عامّاً.

___________________

وجماعة {كما توهّم أيضاً أنّ المستعمل فيه فيها} أي: في الحروف والمبهمات {خاصّ} للخَصوصيّة النّاشئة من الاستعمال {مع كون الموضوع له كالوضع عامّاً} فالواضع لاحظ كلّيّ الابتداء - مثلاً - ووضع لفظة (من) لذلك المعنى الكلّي، لكن حين الاستعمال يكون خاصّاً لخصوص الإشارة الّتي هي من شؤون الاستعمال، وهذا القول منسوب إلى التّفتازانيّ وجماعة.

وتوضيح الكلام في المقام يحتاج إلى بيان أمرين: الأوّل: في كيفيّة وضع الحروف، والثّاني: في امتياز معاني الحروف عن معاني الأسماء.

أمّا الأوّل: فنقول: ذهب جمع إلى أنّ الوضع والموضوع له في الحروف عامّان والمستعمل فيه خاصّ.

وحيث أشكل عليهم بلزوم المجاز بلا حقيقة، إذ الموضوع له لو كان عامّاًواستعمل في الخاصّ كان من باب استعمال الجزء في الكلّ.

ذهب آخرون إلى أنّ الوضع عامّ والموضوع له والمستعمل فيه خاصّان حتّى لا يلزم المجاز بلا حقيقة.

وحيث ورد عليهم الإشكالات الآتية عدل آخرون وقالوا بأنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه كلّها عامّة، فلا يلزم المحذور المتقدّم.

وأشكل عليه بأنّ المستعمل فيه لو كان عامّاً لزم المجاز أيضاً، إذ المراد منها الأشخاص فلو استعمل لفظة (هذا) - مثلاً - في كلّيّ المفرد المذكّر المشار إليه، فإن أُريد منه الكلّيّ لم يكن خارجيّاً وإن أُريد الخارجي لزم المجازيّة أيضاً. وردّ بأنّ الجزئيّة إنّما تكون من ناحية الإشارة الخارجيّة لا من ناحية الموضوع له أو المستعمل فيه، فكما أنّ (الرّجل) - مثلاً - موضوع لمعنى عام، والخَصوصيّة إنّما

ص: 44


1- الفصول الغرويّة: 16.

والتّحقيق: - حسب ما يؤدّي إليه النّظُر الدّقيقُ - أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيها

___________________

تكون من ناحية الإشارة كذلك لفظة (هذا) فالخَصوصيّة لا دخل لها بالموضوع له والمستعمل فيه، وإنّما هي من باب تعدّد الدّالّ والمدلول.

وأمّا الثّاني: فنقول: الأقوال فيه ثلاثة:

الأوّل: أنّه لا فرق بين مفهوم الأسماء والحروف أصلاً، لا في الوضع ولا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه، والآليّة والاستقلاليّة لا تكونان جزء المعنى أصلاً، وإنّما ذلك بحسب شرط الواضع، بأن يستعمل لفظ (الابتداء) - مثلاً - كلّما أُريد المعنى المستقلّ ولفظة (من) كلّما أُريد غيره، وقد يحكى هذا القولعن نجم الأئمّة(1).

الثّاني: أنّه لا معنى للحروف أصلاً، بل هي علامة لإرادة المعنى الخاصّ من مدخولها، فيكون حالها حال الإعراب، فكما أنّ الرّفع في (زيد) في قولك: (جاءني زيد) علامة أنّه أُريد من كلمة (زيد) المسند إليه، كذلك كلمة (في) من قولك: (زيد في الدّار) علامة أنّه أُريد من كلمة (الدّار) الأينيّة لا العينيّة.

الثّالث: الفرق بين مفاهيم الأسماء والحروف، وبيان ذلك: أنّ الوجود، إمّا استقلاليّ وهو ما كان موجوداً لنفسه وفي نفسه، كالجوهر، وإمّا رابطيّ وهو ما كان موجوداً في نفسه لغيره، كالأعراض بالنّسبة إلى موضوعاتها، وإمّا رابط وهو ما يتوقّف وجوده على وجود الطّرفين، بحيث لولاهما لم يوجد لا في الذّهن ولا في الخارج، فمفهوم الأسماء من قبيل الأوّلين، ومفهوم الحروف من قبيل الثّالث، وأمّا الأفعال فهي حرفيّة الهيئة اسميّة المادّة.

{والتّحقيق حسب ما يؤدّي إليه النّظر الدّقيق} في كيفيّة وضع الحروف ونحوها عند المصنّف {أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيها} أي: في الحروف وسائر

ص: 45


1- شرح كافية ابن الحاجب 1: 37.

حالُهما في الأسماء؛ وذلك لأنّ الخَصوصيّة المتوهّمة إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصّص بها جزئيّاً خارجيّاً، فمن الواضح أنّ كثيراً مّا لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك، بل كلّيّاً؛ ولذا التجأ بعضُ الفحول(1)

إلى جعله

___________________

المبهمات مثل {حالهما في الأسماء} فالوضع، والموضوع له، والمستعمل فيه، فيها عامّ كأسماء الأجناس.

{وذلك لأنّ الخَصوصيّة المتوهّمة} جزءاً للمعنى الموضوع له أو للمستعمل فيه - الّتي بسببها صار المعنى جزئيّاً - {إن كانت هي} الجزئيّة الخارجيّة، بأن وضع الواضع اللّفظ بإِزاء المعنى الخارجيّ، أو بإزاء المعنى المطلق لكن في حال الاستعمال يقيّد بالخارج، وبعبارة أُخرى: إن كانت الخَصوصيّة {الموجبة لكون المعنى المتخصّص بها جزئيّاً} أمراً {خارجيّاً} لا ذهنيّاً، بأن تكون كلمة (من) - مثلاً - موضوعة للابتداء المقيّد بكونه من نقطة معيّنة - مثلاً - {فمن الواضح} بطلانُهُ، إذ من البديهيّ {أنّ كثيراً ما لا يكون المستعمل فيه، فيها} أي: في الحروف ونحوها {كذلك} جزئيّاً خارجيّاً، فقول المولى لعبده: (كُنْ عَلَى السَّطْح) لا يريد نقطة خاصّة من السّطح، وكذا في غيره من الحروف الواقعة تلو الأوامر والنَّواهي، ولو كان المستعمل فيه خاصّاً لخَصوصيّة الموضوع له أو كليهما لم يحصل الامتثال إلّا في نفس ذلك الخاصّ، مع أنّا نرى أنّ المستعمل فيه لا يكون خاصّاً وجزئيّاً {بل كلّيّاً} يصحّ انطباقه على جزئيّات كثيرة، ويحصل الامتثال بكلّ جزئيّ منه.

{ولذا} الّذي ذكرنا من كلّيّة المعنى {التجأ بعض الفحول(2)} في فصوله {إلى جعله}

ص: 46


1- الفصول الغرويّة: 16.
2- هو العلّامة الأصولي الشّيخ محمّد حسين بن محمّد رحيم الإصفهاني، المتوفّى 1254، له آثار قيّمة أشهرها الفصول، الّذي قيل في حقّه: فصول الشّيخ في كُتُبِ الأصول*** بمنزلة الرّبيع من الفُصُول

جزئيّاً إضافيّاً، وهو كما ترى.

وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئيّاًذهنيّاً - حيث إنّه لا يكاد يكون المعنى حرفيّاً إلّا إذا لوحظ حالةً لمعنىً آخَرَ ومن خصوصيّاته القائمة به، ويكون حاله كحال العرض، فكما لا يكونُ في الخارج إلّا في الموضوع، كذلك هو لا يكونُ في الذّهن إلّا في مفهوم آخر؛

___________________

أي: جعل معنى الحرف وسائر المبهمات {جزئيّاً إضافيّاً، وهو} ما يكون فوقه كلّيّ أوسع، ولم يجعله جزئيّاً شخصيّاً - مثلاً - كلمة (من) في قولنا: (سِرْ من البصرة) مستعملة في جزئيّات الابتداء الحاصلة من البصرة لا من جميع العالم، لكن هذا الكلام {كما ترى} غير صحيح، إذ الجزئيّ الإضافيّ كلّيّ، فلا يفيد كلامه كون الموضوع له خاصّاً.

هذا كلّه على تقدير كون الخَصوصيّة الموجبة لجزئيّة المعنى خارجيّاً {وإن كانت} الخَصوصيّة المتوهّمة الّتي كانت {هي الموجبة لكونه جزئيّاً} أمراً {ذهنيّاً} بأن تكون كلمة (من) - مثلاً - موضوعة للابتداء الملحوظ في الذّهن، فهنا مقامان:

الأوّل: في وجه كون الجزئيّة بسبب اللّحاظ الذّهني.

والثّاني: في بطلان كون الموضوع له خاصّاً، لكونه جزئيّاً ذهنيّاً.

أمّا وجه الأوّل: {حيث إنّه لا يكاد يكون المعنى حرفيّاً} وآليّاً {إلّا إذا لُوْحِظَ حالةً لمعنىً آخر} ومبيّناً له {ومن خصوصيّاته القائمة به} كما تقدّم من أنّ كلمة (في) من خصوصيّات (الدّار) ومبيّنة لأينيّتها {و} حينئذٍ {يكون} الحرف {حاله} في الذّهن {كحال العرض} في الخارج {فكما لا يكون} العرض ولا يوجد {في الخارج إلّا في الموضوع} الخارجيّ {كذلك هو} أي: المعنى الحرفيّ {لايكون في الذّهن إلّا في مفهوم آخر} وحالةً له.

ص: 47

ولذا قيل في تعريفه بأنّه: «ما دلّ على معنىً في غيره»(1) - فالمعنى وإن كان لا محالة يصير جزئيّاً بهذا اللّحاظ، بحيث يباينه إذا لوحظ ثانياً كما لوحظ أوّلاً، ولو كان اللّاحظُ واحداً، إلّا أنّ هذا اللّحاظ لا يكاد يكون مأخوذاً في المستعمل فيه، وإلّا فلا بدّ من لحاظ آخر متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللّحاظ؛ بداهة أنّ تصوّر المستعمل فيه ممّا لا بدّ منه في استعمال الألفاظ،

___________________

{ولذا} الّذي ذكرنا من كون الحرف حالةً لغيره {قيل في تعريفه بأنّه: «ما دلّ على معنىً في غيره»} ذهناً، كالعرض في موضوعه خارجاً، وعلى هذا {فالمعنى} الحرفي {وإن كان لا محالة يصير جزئيّاً} وكان جزئيّته {بهذا اللِّحاظ} الذّهني {بحيث يباينه} أي: يباين المعنَى الملحوظَ أوّلاً المعنى {إذا لوحظ ثانياً، كما لوحظ أوّلاً، ولو كان اللّاحظ واحداً} والحاصل: أنّ اللّحاظ ولو كان سبباً لجزئيّة المعنى لو أخذ فيه {إلّا أنّ} أخذ {هذا اللّحاظ} جزءاً للمعنى باطل، وهذا هو المقام الثّاني الّذي تقدّمت الإشارة إليه.

والبطلان من وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّه {لا يكاد يكون} اللّحاظ الذّهني جزء المعنى و{مأخوذاً في المستعمل فيه} بحيث يكون المعنى الحرفيّ مركّباً من أصل المعنى ولحاظه {وإلّا} فلو كان المعنى مركّباً {فلا بدّ}للمستعمل {من لحاظ آخر} حين الاستعمال {متعلّق} بلحاظه الأوّل و{بما هو ملحوظ بهذا اللّحاظ} وهو أصل المعنى، فيلزم اجتماع لحاظين في كلّ استعمال: اللّحاظ الأوّل جزء المعنى، واللّحاظ الثّاني لأجل الاستعمال {بداهة أنّ تصوّر} المعنى {المستعمل فيه ممّا لا بدّ منه في استعمال الألفاظ} وحينئذٍ فإن كان اللّحاظ الثّاني عين اللّحاظ الأوّل لَزِمَ الدّور، إذ اللّحاظ الثّاني متوقّف على المعنى، والمعنى متوقّف على اللّحاظ الثّاني،

ص: 48


1- شرح كافية ابن الحاجب 1: 30.

وهو كما ترى.

مع أنّه يلزم أن لا يصدق على الخارجيّات؛ لامتناع صدق الكلّيّ العقلي عليها، حيث لا موطن له إلّا الذّهن، فامتنع امتثال مثل: (سِرْ من البصرة)، إلّا بالتّجريد وإلغاء الخصوصيّة، هذا.

مع أنّه ليس لحاظ المعنى حالةً لغيره في الحروف إلّا كلحاظه في نفسه في الأسماء،

___________________

وإن كان اللّحاظ الثّاني غير الأوّل، لزم تعدّد اللّحاظ في كلّ استعمال {وهو كما ترى} تكلّف من غير ضرورة {مع} أنّه خلاف البديهة، إذ المستعمل للحروف لا يلحظ إلّا مرّة واحدة كالمستعمل للأسماء من غير فرق.

الثّاني: {أنّه يلزم} على تقدير كون اللّحاظ جزءاً لمعنى الحرف {أن لا يصدق على الخارجيّات} إذ المعنى المقيّد باللّحاظ ذهنيّ، والذّهني لا يصدق على الخارجيّات {لامتناع صدق الكلّي العقلي} أي: الأمر العقلي {عليها حيث، لا موطن له} أي: للأمر العقلي {إلّا الذّهن} وعلى هذا {فامتنع} على العبد {امتثال مثل (سِرْ من البصرة)} من الأوامر والنّواهي الّتي تضمّنت حرفاً أو اسماً مبهماً، إذ الأمر المقيّد بالذّهن يمتنع إيجاده فيالخارج {إلّا بالتّجريد} عن اللّحاظ الذّهني {وإلغاء الخصوصيّة} الذّهنيّة المأخوذة في المعنى، فيكون الاستعمال مجازاً دائماً، لكونه من استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء.

وحاصل الكلام أنّ أحد الأمرين لازم: إِمّا عدم إمكان الامتثال، وهو باطل ضرورة. وإِمّا المجازيّة وهي تحتاج إلى عناية في الاستعمال، مع أنّ الاستعمالات العرفيّة ليست بتلك العناية قطعاً، وإذا بطل اللّازم بطل كون اللّحاظ جزءاً وهو المطلوب.

و{هذا} الإشكال {مع} الإشكال الأوّل جوابان حلّاً. ثمّ إنّ هنا جواباً آخر نقضيّاً وهو الثّالث من وجوه البطلان، وتقريبه: {أنّه ليس لحاظ المعنى حالةً لغيره في الحروف إلّا كلحاظه في نفسه في الأسماء} فإنّ الواضع والمستعمل يلحظان المعنى

ص: 49

وكما لا يكون هذا اللّحاظ معتبراً في المستعمل فيه فيها، كذلك ذاك اللّحاظ في الحروف، كما لا يخفى.

وبالجملة: ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ (الابتداء) - مثلاً - إلّا الابتداء؛ فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلّاً، كذلك لا يعتبر في معناها لحاظهُ في غيرها وآلةً، وكما لا يكون لحاظه فيه موجباً لجزئيّته فليكن كذلك فيها.

___________________

حين الوضع والاستعمال {وكما لا يكون هذا اللّحاظ} الذّهنيّ الاستقلالي من الواضع والمستعمل {معتبراً في المستعمل فيه، فيها} أي: في الأسماء حتّى يكون سبباً لجزئيّة المعنى {كذلك} لا يكون {ذاك اللّحاظ} الذّهني الآليّ من الواضعوالمستعمل معتبراً في المستعمل فيه {في الحروف} حتّى يكون سبباً لجزئيّة المعنى {كما لا يخفى}.

والحاصل: أنّ لحاظ المعنى لو كان سبباً لجزئيّته لزم أحد الأمرين: إمّا القول بجزئيّة معنى الاسم والحرف كليهما، مع أنّهم لا يقولون بجزئيّة المعنى الاسمي، وإمّا القول بعدم دخل اللّحاظ في المعنى أصلاً حتّى في الحرف - كما هو المطلوب - .

{وبالجملة ليس المعنى في كلمة (من)} الابتدائيّة {و} في {لفظ (الابتداء) - مثلاً - إلّا} شيئاً واحداً، وهو: مفهوم {الابتداء} مجرّداً من غير تقييد باللّحاظ في الأوّل {فكما لا يعتبر في معناه} الاسمي {لحاظه في نفسه ومستقلّاً} بحيث يكون اللّحاظ دخيلاً في المعنى {كذلك لا يعتبر في معناها} أي: معنى كلمة (من) الحرفي {لحاظه في غيرها وآلةً} بحيث يكون اللّحاظ جزءاً للمعنى {وكما لا يكون لحاظه فيه} أي: لحاظ الاستقلال في لفظ (الابتداء) {موجباً لجزئيّته} أي: لجزئيّة المعنى {فليكن} لحاظ الآليّة في لفظة من {كذلك} غير موجب لجزئيّة المعنى {فيها} أي: في كلمة (من).

ص: 50

إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى،

___________________

وحيث فرغ المصنّف من بيان كيفيّة وضع الحروف شرع في المقام الثّاني وهو بيان أنّه هل يكون امتياز بين المعنى الحرفي والاسمي، أم لا؟ فنقول: ذهب بعض محقّقي المتأخّرين إلى تمييز الأسماء من الحروف تمييزاً ذاتيّاً، فالمعاني الحرفيّة بهويّاتها وماهيّاتها مباينة لمعاني الأسماء، وأنّ قِوام المعنى الحرفي يكون بأُمورأربعة:

الأوّل: أن يكون المعنى إيجاديّاً بمعنى توقّفه على الاستعمال ووجوده به، كالهيئة والرّبط، لا إخطاريّاً بمعنى خطور المعنى بالبال بمجرّد التّلفّظ، بدون أن يذكر في طيّ تركيب من التّراكيب، كالمعنى الاسمي.

الثّاني: أن يكون المعنى قائماً بغيره لا بنفسه، بخلاف الأسماء فإنّها تدلّ على معاني تحت مفهومها.

الثّالث: أن لا يكون للمعنى موطن غير الاستعمال لا ذهناً ولا خارجاً، بخلاف الأسماء، فإنّ معانيها موجودة ذهناً أو خارجاً استعمل أم لم يستعمل.

الرّابع: أن يكون المعنى حين إيجاده مغفولاً عنه غير متوجّه إليه، كالصّور العلميّة حين التّوجّه إلى ذي الصّورة، وكنفس اللّفظ حين الاستعمال.

أمّا المصنّف(قدس سره) فقد ذهب إلى عدم الفرق بين المعاني الاسميّة والحرفيّة أصلاً، كما ذهب إلى عدم الفرق بين وضعهما.

{إن قلت: على هذا} الّذي ذكرتم - من عدم مدخليّة اللّحاظ الذّهني في المعنى الحرفي، كعدم مدخليّته في المعنى الاسميّ - {لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى}.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الإشكال خلط بين مبحثين:

فالبحث الأوّل: عن مدخليّة اللّحاظ في المعنى الحرفي.

ص: 51

ولزم كونُ مثل كلمة (من) ولفظ (الابتداء) مترادفين، صحّ استعمالُ كلّ منهما في موضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطلٌ بالضَّرورة، كما هو واضح.

قلت: الفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كُلٍّ منهما بوضعٍ، حيث إنّه وُضِعَ الاسم

___________________

والبحث الثّاني: في اختلاف المعنى الحرفي والاسمي في الآليّة والاستقلاليّة وعدمه. ومعلوم أن لا مدخليّة لأحدهما بالآخر، إذ بين البحثين عموم من وجه، فلكلّ ممّن اختار في المبحث الأوّل شيئاً أن يختار في المبحث الثّاني شيئاً، من غير تلازم بين الاختيارين، لكن المصنّف حيث قصد الاختصار أورد المبحث الثّاني بهذه الصّورة.

{و} على كلٍّ فإنّه {لزم} من عدم الفرق {كون مثل كلمة (من) ولفظ (الابتداء) مترافين} من جميع الجهات و{صحّ استعمالُ كُلِّ} واحدٍ {منهما في موضع الآخر} فيقول: (سر ابتداء بغداد انتهاء الكوفة) كما يصحّ (سر من بغداد إلى الكوفة) وكذلك العكس، فيقول: (مِنْ خيرٌ مِنْ إلى) - من دون نقلٍ إلى المعنى الاسميّ - كما يصحّ قولك: (الابتداء خير من الانتهاء).

{وهكذا} يكون حال {سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها} كالانتهاء و(إلى) والاستعلاء و(على) {وهو} أي: اللّازم المذكور {باطل بالضّرورة} من لسان العرب، فالملزوم باطل مثله {كما هو واضح} لمن له اطّلاع باللّسان.

{قلت}: نعم، لا فرق بينهما من حيث أخذ اللّحاظ، ولا من حيث الامتياز الوضعيّ، بل {الفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كلّ منهما بوضعٍ} خاصٍّ به، فوضع لفظ (الابتداء) لمفهوم الابتداء مرّةً، ووضع لفظة (من) لذلك المفهوم أُخرى {حيث إنّه وضع الاسم} لمجرّد مفهوم الابتداء مثلاً، لكن كان داعي الواضع

ص: 52

لِيُرَاد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف لِيُرَادَ منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره - كما مرّت الإشارة إليه غير مرّة - .فالاختلافُ بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر،

___________________

حين الوضع {ليراد منه معناه} استقلالاً {بما هو هو وفي نفسه} من غير نظر إلى الغير حين استعماله.

{و} وضع {الحرف} لمجرّد مفهوم الابتداء - مثلاً - أيضاً لكن كان داعي الواضع حين الوضع {ليراد منه معناه} أيضاً {لا كذلك، بل} آلةً و{بما هو حالة لغيره} ويكشف عن هذا الدّاعي اختلاف الاستعمال مع وضوح وحدة المعنى، إذ كما يفهم الابتداء من لفظ (الابتداء) يفهم من لفظة (من) ولو كانت مجرّدة، وإنكاره مكابرة، والرّواية المرويّة(1)

لا تدلّ على أزيد من الاختلاف، وهو كما يحصل بما ذكروه يحصل بما ذكرنا.

نعم، كون الاختلاف بينهما ناشئاً من اختلاف الدّاعي، أو بشرط الواضع، أو بإنشاء جديد منه، أو لغلبة الاستعمال غير معلوم، وإن كان ظاهر عبارة المصنّف مشعراً بالأوّل {كما مرّت الإشارة إليه غير مرّة} وبالنّتيجة {فالاختلاف بين} معنى {الاسم و} معنى {الحرف} في اختلاف الدّاعي {في الوضع يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر} بل قد يستعمل كما في «أُلاَمُ عَلَى لَوٍّ»(2)

وفي «ليت يقولها المحزون»(3) ونحوهما، ولاداعي إلى ما تكلّفه النّحاة من التّوجيهات،

ص: 53


1- هي ما رواها الزّجّاجيّ في أماليه مسنداً عن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنّه قال: «الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنًى ليس باسم ولا فعل».
2- بعض من بيت وتمامه: أُلاَمُ على لوٍّ وإن كنتُ عالماً ***بأذناب لَوٍّ لم تَفُتْني أوائِلُهُ
3- بعض من بيت قاله أبوطالب بن عبدالمطّلب وتمامه: ليت شعري مسافر بن أبي عم*** رو وليت يقولها المحزونُ

وإن اتّفقا في ما له الوضع. وقد عرفت - بما لا مزيد عليه - : أنّ نحو إرادة المعنى لا يكادُ يمكنُ أن يكون من خصوصيّاته ومقوّماته.

ثمّ لا يبعد أن يكون الاختلافُ في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك،

___________________

وعلى تقدير التّسليم، فهو لاختلاف الدّاعي {وإن اتفقا في ما له الوضع} أي: في المعنى الموضوع له.

{وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ نحو إرادة المعنى} وكونه استقلاليّاً أو آليّاً {لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصيّاته ومقوّماته} المأخوذة فيه. فلا اختلاف بين المعنى الحرفي والاسمي من حيث أخذ اللّحاظ، كما لا اختلاف بينهما من حيث الوضع - كما تقدّم - .

الخبر والإنشاء

{ثمّ} لا يخفى أنّ الجمل على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الجمل الخبريّة الّتي لا يمكن استعمالها في الإنشاء، نحو (ضرب زيد عمرواً) و(زيد قائم).

الثّاني: الجمل الإنشائيّة الّتي لا يمكن استعمالها في الخبر، نحو (اضرب زيداً) و(ليت زيداً قائم).

الثّالث: الجمل الّتي تستعمل تارةً في الإنشاء وتارةً في الخبر، نحو (أيّده اللّه) و(بعت) و(أنكحت) ونحوها.أمّا الأوّلان فلا خلاف في تغايرهما، لبداهة عدم استعمال أحدهما في مقام الآخر، نعم {لا يبعد أن يكون الاختلاف في} القسم الثّالث بين {الخبر والإنشاء} بالقصد، وبينهما اشتراك معنوي والجامع هو نسبة المحمول إلى الموضوع، كنسبة البيع إلى المتكلّم في (بعت) وعليه فالاختلاف بينهما مثل اختلاف الاسم والحرف {أيضاً} كما أنّ الجامع بينهما {كذلك} وقد ذهب إلى هذا المعنى جماعة

ص: 54

فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والإنشاء ليستعمل في قصد تحقّقه وثبوته، وإن اتّفقا في ما استعملا فيه، فتأمّل.

ثمّ إنّه

___________________

من شرّاح البيان، وعلى هذا {فيكون الخبر موضوعاً} لمعنى نسبة المحمول إلى الموضوع لكن {ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه} ماضياً أو مستقبلاً أو حالاً خارجاً أو ذهناً {و} يكون {الإنشاء} موضوعاً لذلك المعنى بعينه لكن {ليستعمل في قصد تحقّقه} ووجوده {وثبوته} بنفس هذا الاستعمال، فاختلفا من هذه الحيثيّة {وإن اتفقا في ما} وضعا له و{استعملا فيه} كما لا يخفى {فتأمّل} حتّى لا يرد أنّه يجب الاتّفاق بينهما في المعنى ولم قال المصنّف: «لا يبعد»؟

{ثمّ} إنّ هنا كلاماً له مسيس بما نحن فيه لا يخلو عن فائدة، وهو {أنّه} قد اشتهر في ما بين القوم أنّ الخبر هو المحتمل للصّدق والكذب، والإنشاء لا يحتملهما، وفيه إشكال مشهور أورده التّفتازانيّ في المطوّل وأجاب عنه بما لايغني(1).

ولقد أجاد بعض الأعلام في الإفصاح عنهما، وهذه عبارته تقريباً: قد ظنّ بعض أنّ بعض الإنشاءات توصف بالصّدق والكذب، كما لو استفهم شخص عن شيء يعلمه، أو سأل الغني سؤال الفقير، أو تمنّى إنسان شيئاً هو واجد له، فإنّ هؤلاء نرميهم بالكذب، وفي عين الوقت نقول للمستفهم الجاهل والسّائل الفقير والمتمنّى الفاقد اليائس أنّهم صادقون، ومن المعلوم أنّ الاستفهام والطّلب بالسّؤال والتّمنّي من أقسام الإنشاء، ولكنّا إذا دقّقنا هذه الأمثلة وأشباهها يرتفع هذا الظّنّ؛ لأنّنا نجد أنّ الاستفهام الحقيقي لا يكون إلّا عن جهل، والسّؤال لا يكون إلّا عن حاجة، والتّمنّي لا يكون إلّا عن فقدان ويأس، فهذه الإنشاءات تدلّ

ص: 55


1- المطوّل: 38.

قد انقدح ممّا حقّقناه أنّه يمكن أن يقال: إنّ المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة والضّمائر أيضاً عام، وإنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها، حيث إنّ أسماء الإشارة وُضِعَت ليشار بها إلى معانيها، وكذا بعضُ الضّمائر، وبعضُها ليخاطب بها المعنى، والإشارة والتّخاطب يستدعيان التشخّص، كما لا يخفى.

___________________

بالدلالة الالتزاميّة على الإخبار عن الجهل أو الحاجة أو اليأس، فيكون الخبر المدلول عليه بالالتزام هو الموصوف بالصّدق أو الكذب، لا ذات الإنشاء(1).

أقول: ويشهد لما ذكره أنّهم يقولون للغني المستعطي (يكذب لأنّ له مالاً)، فيعلّلون كذبه بوجدانه المال، فالتكذيب يرجع إليه لا إلى الإنشاء وهكذا غيره.و{قد انقدح ممّا حقّقناه} من عدم الفرق بين الاسم وبين الحرف وأخواته في الموضوع له {أنّه يمكن أن يقال: إنّ المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة والضّمائر} وسائر المبهمات {أيضاً عامّ} كما كان الموضوع له عامّاً {وإنّ تشخّصه} الّذي يشاهد حين الاستعمال {إنّما نشأ من قبل طور استعمالها} من دون كونه جزء الموضوع له أو المستعمل فيه.

والحاصل: أنّ اللّفظ وضع لمعنىً عامٍّ، واستعمل في ذلك المعنى العامّ أيضاً والتّشخّص إنّما يفهم من دالّ آخر. بيان ذلك: {حيث إنّ أسماء الإشارة} مثلاً {وضعت ليشار بها إلى معانيها} الكليّة، كما وضع (هذا) لأن يشار به إلى المفرد المذكّر {وكذا} وضع {بعض الضّمائر} - كضمائر الغائب - ليشار بها إلى العين الغائبة السّابقة ذكرها {وبعضها} الآخر - كضمائر المخاطب - وضع {ليخاطب بها المعنى} المراد، وبعضها الثّالث ليتكلّم بها {والإشارة والتّخاطب يستدعيان التّشخّص} في المشار إليه والمخاطب، كما أنّ التّكلّم كذلك، وذلك لأنّ الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد {كما لا يخفى} على من لاحظ معنى الوجود.

ص: 56


1- المنطق: 153.

فدعوى: أنّ المستعمل فيه في مثل: (هذا)، و(هو)، و(إيّاك)، إنّما هو المفرد المذكّر، وتشخّصه إنّما جاء من قبل الإشارة، أو التّخاطب بهذه الألفاظ إليه؛ فإنّ الإشارة أو التّخاطب لا يكاد يكونُ إلّا إلى الشّخص أو معه، غير مجازفة.

فتلخّص ممّا حقّقناه: أنّ التّشخّص النّاشئُ من قبل الاستعمالات لا يوجب تشخّص المستعمل فيه، سواء كان

___________________

وعلى هذا {فدعوى أنّ} الموضوع له و{المستعمل فيه في مثل (هذا) و(هو) و(إيّاك)} و(أنا) {إنّما هو المفرد المذكّر} فقط أو غيره: كما في ضمير المتكلّم {وتشخّصه} الموجود حين الاستعمال {إنّما جاء من قبل الإشارة أو التّخاطب} أو التّكلّم {بهذه الألفاظ} حال كون المتكلّم متوجّهاً {إليه} أي: إلى المستعمل فيه {فإنّ الإشارة أو التّخاطب} أو التّكلّم {لا يكاد يكون إلّا إلى الشّخص} في الإشارة والتّكلّم {أو معه} في التّخاطب.

والحاصل: أنّ دعوى ذلك {غير مجازفة} وإن لم يقم عليه برهان يلزم ذلك، وبهذا تبيّن معنى قولهم: «إنّ الغيبة والخطاب والتّكلّم من معاني الحروف» وذلك لما تقدّم من أنّها معان نسبيّة؛ لأنّها إشارات إلى المغايب والمخاطب ونفس المتكلّم. نعم، أخذ هذه الإشارة في المعنى حتّى يكون جزئيّاً لا دليل عليه.

إن قلت: فلم بنيت الأسماء الموضوعة لها إن لم تكن ألفاظها متضمّنة لهذه الإشارة؟

قلت: أصل كون البناء في الاسم سببه الشّباهة بالحرف، ممّا لم يقم عليه دليل، وهذه علل بعد الوقوع - كما لا يخفى - .

{فتلخّص ممّا حقّقناه} في معنى الحرف وسائر المبهمات {أنّ التّشخّص النّاشئ من قبل الاستعمالات} إنّما هو بدليل خارج عن مقام اللّفظ والمعنى، وذلك {لا يوجب تشخّص المستعمل فيه} حتّى يكون معنى جزئيّاً {سواء كان} التّشخّص النّاشئ عن

ص: 57

تشخّصاً خارجيّاً - كما في مثل أسماء الإشارة - أو ذهنيّاً - كما في أسماء الأجناس والحروف ونحوهما - ، من غير فرقٍفي ذلك أصلاً بين الحروف وأسماء الأجناس.

ولعمري هذا واضح؛

ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصّاً في الحروف عين ولا أثر، وإنّما ذهب إليه بعض من تأخّر، ولعلّه لتوهّم كون قصده

___________________

مقام الاستعمال {تشخّصاً خارجيّاً} ناشئاً من الإشارة الخارجيّة {كما في مثل أسماء الإشارة} خلافاً لمن جعل الإشارة الخارجيّة جزء معناها {أو} كان التّشخّص الاستعمالي {ذهنيّاً} ناشئاً من الإشارة الذّهنيّة {كما في أسماء الأجناس} خلافاً لمن جعل الإشارة الذّهنيّة دخيلاً فيها حين الاستعمال، فقال بأنّ (الرّجل) - مثلاً - إشارة إلى الحقيقة المعهودة من بين الحقائق الذّهنيّة، والإشارة إليه عبارة عن توجّه النّفس نحوه.

{و} كذا قيل في {الحروف} والموصولات {ونحوهما} من المبهمات كما تقدّم التّفصيل، وبما ذكرناه تبيّن عدم صحّة ذلك كلّه {من غير فرق في ذلك أصلاً بين الحروف وأسماء الأجناس} - كما لا يخفى - .

{ولعمري هذا} الّذي ذكرناه من عدم أخذ الخصوصيّة في المعنى {واضح} لمن تدبّر {ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصّاً} في المبهمات أو {في الحروف عين} يدلّ بالمطابقة {ولا أثر} يدلّ بالالتزام على ذلك {وإنّما ذهب إليه بعض من تأخّر}كما تقدّم نقله عن السّيّد الشّريف والمحقّق التّفتازانيّ وجماعة(1).

{ولعلّه} أي: لعلّ ذهاب هؤلاء إلى خصوصيّة أحدهما {لتوهّم كون قصده} أي:

ص: 58


1- الفصول الغرويّة: 16.

بما هو في غيره من خصوصيّات الموضوع له أو المستعمل فيه، والغفلةِ عن أنّ قصد المعنى من لفظه على أنحائه لا يكادُ يكونُ من شؤونه وأطواره، وإلّا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك، فتأمّل في المقام، فإنّه دقيق وقد زلّ فيه أقدام غير واحد من أهل التّحقيق والتّدقيق.

الثّالث:

___________________

قصد المعنى {بما هو في غيره} وآلة {من خصوصيّات الموضوع له} فيكون خاصّاً ويتبعه خاصيّة المستعمل فيه {أو} من خصوصيّات {المستعمل فيه} وحده {و} قد وقعت {الغفلة} منهم {عن أنّ قصد المعنى من لفظه على أنحائه} من الآليّة والاستقلاليّة {لا يكاد يكون من شؤونه} أي: شؤون المعنى {وأطواره} الدّخيلة {وإلّا} فلو كان قصد المعنى آليّاً دخيلاً في المعنى الحرفي حتّى صار بسببه جزئيّاً {فليكن قصده} استقلالاً و{بما هو هو وفي نفسه كذلك} دخيلاً في المعنى الاسمي حتّى يكون جزئيّاً أيضاً {فتأمّل في المقام فإنّه دقيق وقد زلّ فيه أقدام غير واحد من أهل التّحقيق والتّدقيق} ولا يذهب عليك أنّه لا ثمرة لهذا النّزاع غير تقوية القوّة الفكريّة - واللّه المستعان - .

[الأمر الثّالث: استعمال اللفظ في ما يناسب معناه]

المقدّمة، استعمال اللفظ في ما يناسب معناه

الأمر }الثّالث{ في كيفيّة المجاز وأنّه هل هو بالوضع أو بالطّبع؟ فنقول: للوضع طرفان - كما تقدّم - : الأوّل: الموضوع له، أي: المعنى، وقد تقدّم الكلام في أقسامه الأربعة، الثّاني: الموضوع، أي: اللّفظ والأقسام العقلي له أربعة: لأنّه إمّا أن يَلْحَظَ الواضع المادّة والهيئة معاً، وذلك كوضع الأعلام الشّخصيّة وكثير من الأسماء، فإنّ الواضع لاحظ (زاي، ياء، دال) ولاحظ التّرتيب والفتح ثمّ السّكون. ثمّ وضع لفظ (زيد) لذلك الشّخص الخاصّ.

وإمّا أن يلحظ المادّة فقط من دون ملاحظة الهيئة وذلك كوضع موادّ المشتقّات

ص: 59

صحّة استعمال اللّفظ في ما يناسب ما وضع له هل هي بالوضع أو بالطّبع؟

وجهان، بل قولان(1)،

أظهرهما أنّها بالطّبع؛ بشهادة الوِجْدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع مَنْعِ الواضع عنه،

___________________

عامّة - مثلاً - لَحَظَ الواضع (ض، ر، ب) ووضع هذا المادّة للإيلام الخاصّ من دون ملاحظة هيئة خاصّة، ولهذا يفيد «الضّرب» هذا المعنى سواء كان في هيئة (فعل) أو (يفعل) أو (فاعل) أو غيرها من الهيئات الموضوعة.

وإمّا أن يلحظ الهيئة من دون ملاحظة مادّة وذلك كوضع هيئات المشتقّات مطلقاً - مثلاً - لَحَظَ الواضع هيئة (فعل) ووضع هذه الهيئة للمنقضي عنه المبدأ، من دون ملاحظة مادّة خاصّة، ولهذا تفيد هيئة (فَعلَ) انقضاء المبدأ سواء كانت في مادّة (ق ت ل) أو (ض ر ب) أو غيرهما من الموادّ الموضوعة.

وإمّا أن لا يكون شيئاً منهما ملحوظاً، وذلك كوضع المجاز على قولٍ - مثلاً - :رخّص الواضع استعمال الألفاظ الموضوعة في غير معانيها، لكن بشرط المناسبة الطّبعيّة أو العلائق، وذلك من دون ملاحظة مادّة ولا هيئة.

وبتقسيم آخر: الوضع إمّا نوعيّ أو شخصيّ، والنّوعي هو الرّابع، والشّخصي على ثلاثة أقسام: وضع الهيئة بدون المادّة، والعكس، ووضع كليهما.

وعلى كلّ فقد اختلف في أنّ {صحّة استعمال اللّفظ في ما يناسب ما وضع له هل هي بالوضع} كما هو مذهب جماعة {أو بالطّبع} كما ذهب إليه آخرون؟ {وجهان} محتملان {بل قولان} أشهرهما الأوّل و{أظهرهما} الثّاني، وقد أقام بعض الأفاضل على {أنّها بالطبع} لا بالوضع أدلّة أربعة: أقواها عدم الدّليل على ذلك، لكن المصنّف اكتفى {بشهادة الوِجْدان} السّليم عن الشُّبُهات {بحسن الاستعمال فيه} أي: في المعنى غير الحقيقي إذا كانت هناك مناسبة {ولو مع منع الواضع عنه} كما

ص: 60


1- قوانين الأصول 1: 64؛ الفصول الغرويّة: 25.

وباستهجان الاستعمال في ما لا يناسبه ولو مع ترخيصه، ولا معنى لصحّته إلّا حسنه. والظّاهرُ أنّ صحّة استعمال اللّفظ في نوعه أو مثله من قبيله. كما تأتي الإشارة إلى تفصيله.

___________________

نرى بالبديهة حسن استعمال لفظ (زيد) العلم في شبيهه، ولو مع منع والد (زيد) الواضع عن هذا الاستعمال، ولو كانت الصّحّة بسبب وضعه لما صحّ.

{و} كذلك يشهد الوِجْدان في عكس ذلك {باستهجان الاستعمال في ما} إذا كان المعنى غير الحقيقي {لا يناسبه} كما نرى من قبح استعمال لفظ (القلب) في الإنسان {ولومع ترخيصه} أي: ترخيص الواضع بجواز استعمال لفظ الجزء في الكلّ، إذا كان الجزء من الأجزاء الرّئيسية الّتي ينتفي الكلّ بانتفائها ولو كانت الصّحّة منوطة بإجازته لم يقبح - كما لا يخفى - .

فتلخّص أنّ ما ذكره البيانيّون من أقسام العلائق، وأنّ المجاز بوضع الواضع لا يرجع إلى محصّل {و} أنّه {لا معنى لصحّته إلّا حسنه} طبعاً لا جوازه وضعاً {و} يشده لما ذكر من أنّ المناسبة طبعيّة لا وضعيّة أنّ {الظّاهر أنّ صحّة استعمال اللّفظ في نوعه} نحو (ضارب اسم فاعل) إذا أُريد منه كلّ ما كان على هيئة فاعل من هذه المادّة {أو} استعمال اللّفظ في {مثله} نحو (زيد - في ضرب زيد - فاعلٌ) إذا أُريد منه شخص القول {من قبيله} أي: من قبيل استعمال اللّفظ في ما يناسبه، للارتباط الوجوديّ التّكوينيّ بين اللّفظ ومماثله، لا أنّ ذلك بسبب العلاقة.

والحاصل: صحّة هذا الاستعمال مع عدم وضع حقيقيّ ولا نوعي، يشهد بما ذكرناه من أنّ الاستعمال المجازيّ طبعيّ لا وضعي، لكن إنّ كون هذا شاهداً مناف لكونه من صغريات تلك الكبرى الكليّة المتقدّمة، ويأتي أنّ هذا الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز {كما} هو واضح. هذا إجمال استعمال اللّفظ في اللّفظ و{يأتي الإشارة إلى تفصيله} في الأمر الرّابع إن شاء اللّه - تعالى - . ثمّ إنّه بما ذكره المصنّف من طبعيّة المجاز ينحلّ بعض ما أورد على الاستعمالات المجازيّة.

ص: 61

الرّابع: لا شبهة في صحّة إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه به، كما إذا قيل: (ضرب - مثلاً - فعلُ ماضٍ)؛ أو صنفه، كما إذا قيل: (زيدٌ - في ضَرْبَ زيد - فاعل)

___________________

[الأمر الرّابع: إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه]

الأمر {الرّابع} في استعمال اللّفظ في اللّفظ، لا يخفى أنّ استعمال اللّفظ على قسمين:

الأوّل: استعمال اللّفظ في المعنى، وهذا ينقسم إلى الحقيقة والمجاز.

الثّاني: استعمال اللّفظ في اللّفظ، وهذا على أربعة أقسام؛ لأنّه إمّا أن يستعمل اللّفظ في نوعه، وإمّا في صنفه، وإمّا في مثله، وإمّا في شخصه، كما يأتي هذا بالنّسبة إلى الإمكان في مقام التّصوّر، وأمّا الإمكان بالنّسبة إلى الوقوع الخارجي، فنقول: {لا شبهة في صحّة إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه} الشّامل لكلّ فرد من الأفراد حتّى نفس الملفوظ {به} أي: باللّفظ {كما إذا قيل}: (زيد اسم) فلفظ (زيد) استعمل في كلّ فردٍ من أفراد (زيد) المستعملة في كلّ موضعٍ، من غير فرق بين الواقع منه مبتدءاً، أو فاعلاً، أو نائباً، أو مضافاً إليه، أو غيرها، حتّى أنّه يشمل نفس الملفوظ في هذا التّركيب الواقع مبتدءاً.

وأمّا ما مثّل المصنّف(رحمة

الله) من قولنا: {ضَرَبَ} فعل ماضٍ {مثلاً}، فلفظ (ضَرَبَ) وإن استعمل في كلّ {فعل ماضٍ} من هذه المادّة سواء كان فعلاً لفاعل {أو} خبراً لمبتدء، لكنّه لا يشمل (ضَرَبَ) في هذا التّركيب، لكونه منسلخاً عن الفعليّة، لوقوعه مبتدءاً، وهذا القسم صحيح عقلاً واقع في الاستعمالات، كما أنّ إطلاق اللّفظ وإرادة {صنفه} كذلك {كما إذا قيل: (زيد - في ضَرَبَ زيدٌ - فاعلٌ)} فلفظ (زيد) استعمل في كلّ فرد من أفراد زيد المستعملة في كلّ موضع وقع (زيد) فاعلاً لفعل ضرب.

ومن المعلوم أنّ (زيداً) في هذا أخصّ من (زيد) في القسم الأوّل، وصنف من أصنافه، لكن إنّما يكون اللّفظ مستعملاً في نوعه في القسم الأوّل، وفي صنفهفي

ص: 62

إذا لم يقصد به شخص القول؛ أو مثله ك (ضرب) في المثال في ما إذا قُصِدَ.

وقد أشرنا إلى أنّ صحّة الإطلاق كذلك وحُسْنُهُ إنّما كان بالطّبع، لا بالوضع، وإلّا كانت المهملات موضوعةً لذلك؛ لصحّة الإطلاق كذلك فيها. والالتزامُ بوضعها لذلك كما ترى.

___________________

المقدّمة، إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه

القسم الثّاني {إذا لم يقصد به شخص القول} الصّادر من المتكلّم في حال التّلفّظ، إذ لو أُريد الشَّخْصُ من القسم الأوّل كان من القسم الرّابع الآتي، ولو أُريد من القسم الثّاني كان من القسم الثّالث {أو} من القسم الرّابع - كما لا يخفى - .

وكذا يصحّ استعمال اللّفظ وإرادة {مثله} كما إذا قيل: (زيد في ضرب زيد فاعل) وأُريد من (زيد) الأوّل شخص (زيد) المستعمل في الجملة لا جميع أفراد (زيد) ولا جميع أفراد (زيد) الفاعل، وقول المصنّف: {ك (ضَرَبَ) في المثال} سهو، وعلى كلٍّ فقولنا: (زيد - في ضرب زيد - فاعل) مثال للقسم الثّاني، إذا لم يقصد به شخص القول، وللقسم الثّالث {في ما إذا قصد} - كما بيّنّاه - .

{وقد أشرنا} في الأمر الثّالث {إلى أنّ صحّة الإطلاق كذلك، وحُسْنُهُ} أي: إطلاق اللّفظ وإرادة النّوع أو المثل {إنّما كان بالطّبع لا بالوضع} فحيث ما عدّه الطّبع حسناً جاز وإن لم يُجِزْه الواضِعُ {وإلّا} فلو لم يكن هذا الإطلاق بالطّبع {كانت المهملات موضوعةً لذلك} النّوع أو الصّنف أو المثل {لصحّة الإطلاق كذلك} على الثّلاثة {فيها} أي: في المهملات {والالتزام بوضعها لذلك} المستعمل فيه {كما ترى}بديهيّ البطلان.

والحاصل: أنّ هنا أمرين: الأوّل: في كون هذا الاستعمال بالطّبع أو بالوضع، الثّاني: في أنّه حقيقة أو مجاز.

أمّا الأوّل: فالظّاهر أنّه بالطّبع لا بالوضع - كما تقدّم في الأمر الثّالث - على أنّه لو كان بالوضع لزم وضع المهملات، والتّالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: أنّ المهملات قد تستعمل في النّوع والصّنف والمثل نحو: (جسق

ص: 63

وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه - كما إذا قيل: (زيد لفظ)، وأُريد منه شخصُ نفسه - ففي صحّته بدون تأويلٍ نظرٌ؛ لاستلزامه اتّحاد الدّالّ والمدلول، أو تركّب القضيّة من جُزْأَينِ كما في الفصول(1).

___________________

مهمل) و(جسق) في (جسق غير موضوع) مهمل، ولو كان الاستعمال في أحدها وضعاً لزم وضع جسق، وأمّا بيان بطلان التّالي: فلأنّه خلف، إذ المفروض كونها مهملات، فالقول بوضعها محال.

وأمّا الثّاني: فالظّاهر أنّ هذا الاستعمال ليس بحقيقةٍ ولا مجاز، أمّا أنّه ليس بحقيقةٍ، فلعدم وضع اللّفظ مشتركاً بين معناه اللّغويّ وبين نفس لفظه، ولم يدّع ذاك أحد، وأمّا أنّه ليس بمجاز، فلعدم المناسبة بين المعنى واللّفظ حتّى يستعمل اللّفظ الموضوع للمعنى في اللّفظ، فتأمّل.

وأيضاً صحّة هذا الاستعمال في المهملات - كما تقدّم - مع عدم معنى حقيقيّ لها تنفي المجازيّة.

هذا تمام الكلام في ما إذا أطلق اللّفظ وأُريد نوعه أو صنفه أو مثله.{وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه} أي: شخص اللّفظ وذلك {كما إذا قيل: (زيد لفظ) وأُريد منه} أي: من (زيد) الواقع في هذا التّركيب مبتدءاً {شخص نفسه} من دون نظر إلى (زيد) آخر يحكى هذا المبتدأ عنه {ففي صحّته} أي: صحّة هذا الإطلاق {بدون} ارتكاب {تأويل} مجوّز له {نظر} وذلك {لاستلزامه} - أي: استلزام إطلاق اللّفظ وإرادة شخصه - أحد الأمرين: إمّا {اتّحاد الدّالّ والمدلول} وهو غير معقول {أو تركّب القضيّة من جزأين}: المحمول والرّابط بدون الموضوع، وذلك خلف {كما} تقرّر في محلّه.

وهذا الإشكال أورده {في الفصول} على القسم الرّابع، وإن كان اتّحاد الدّالّ

ص: 64


1- الفصول الغرويّة: 22.

بيان ذلك: أنّه إن اعتبر دلالته على نفسه - حينئذٍ - لزم الاتّحاد، وإلّا لزم تركّبها من جزأين؛ لأنّ القضيّة اللّفظيّة على هذا إنّما تكون حاكيةً عن المحمول والنّسبة، لا الموضوع، فتكون القضيّة المحكيّة بها مركّبة من جزأين، مع امتناع التّركّب إلّا مِن الثّلاثة؛ ضرورة استحالة ثبوت النّسبة بدون المنتسبَيْنِ.

قلت: يمكنُ أن يقال: إنّه يكفى تعدّد الدّالّ والمدلول اعتباراً، وإن اتّحدا ذاتاً؛

___________________

والمدلول وارداً على القسمين الأوّلين أيضاً على تقدير أن يشمل اللّفظ نفس شخصه و{بيان} ورود {ذلك} الإشكال على القسم الرّابع {أنّه إن اعتبر دلالته} أي: دلالة لفظ (زيد) {على نفسه} بأن يكون دالّاً ومدلولاً {حينئذٍ} أي: حين إرادة شخصه {لزم} الشِقّ الأوّل منالإشكال وهو {الاتّحاد} بين الدّالّ والمدلول. {وإلّا} يعتبر دلالة اللّفظ على نفسه {لزم} الشِقّ الثّاني من الإشكال وهو {تركّبها} أي: تركّب القضيّة {من جزأين}: المحمول والرّابط {لأنّ القضيّة اللّفظيّة على هذا} التّقدير - أي: عدم دلالة اللّفظ على نفسه - وإن كانت مركّبة من الموضوع والمحمول والنّسبة لفظاً، لكنّها {إنّما تكون حاكية عن المحمول والنّسبة} فقط و{لا} تحكي عن {الموضوع} لفرض عدم المدلول له، وعليه {فتكون القضيّة} المعقولة {المحكيّة بها} أي: المحكيّة بالقضيّة اللّفظيّة {مركّبة من جزأين}: المحمول والرّابط {مع امتناع التّركّب إلّا من} الأجزاء {الثّلاثة}: الموضوع والمحمول والنّسبة، إذ التّركّب من جزءين غير معقول {ضرورة استحالة ثبوت النّسبة بدون المنتسبين}، إذ النّسبة من الأُمور الإضافيّة، ولا يعقل إلّا بين المضاف والمضاف إليه، هذا حاصل إشكال الفصول على القسم الرّابع.

{قلت}: لكن {يمكن} أن يدفع الإشكال على كلا التّقديرين، فنختار أوّلاً دلالة اللّفظ على نفسه، وما أورده(قدس سره) من لزوم اتّحاد الدّالّ والمدلول غير وارد، إذ يمكن {أن يقال: إنّه يكفي تعدّد الدّالّ والمدلول اعتباراً، وإن اتّحدا ذاتاً} إذ المتضايفان

ص: 65

فمن حيث إنّه لفظ صادرٌ عن لافظه كان دالّاً، ومن حيث إنّ نفسه وشخصه مراده كان مدلولاً.

مع أنّ حديث تركّب القضيّة من جزأين - لولا اعتبار الدّلالة في البين - إنّما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، وإلّا كان أجزاؤها الثّلاثة تامّةً، وكان المحمول فيهامنتسباً

___________________

على قسمين:

الأوّل: ما كان أحدهما مضادّاً للآخر كالعلّة والمعلول، وفي هذا لا بدّ من التّعدّد الذّاتي، ولا يعقل كفاية التّعدّد الاعتباري مع الاتّحاد الذّاتيّ.

الثّاني: ما ليس كذلك فيكفي فيه تعدّد الاعتبار، وما نحن فيه من هذا القبيل {فمن حيث إنّه لفظ صادر عن لافظه كان دالّاً} ومنشأً لأخطار نفسه في ذهن السّامع فهو مُخْطِر - بالكسر - {ومن حيث إنّ نفسه وشخصه مراده كان مدلولاً} ومُخْطَراً - بالفتح - فيكون هو الموضوع للقضيّة المعقولة.

والحاصل: أنّ الدّلالة من قبيل العالميّة والمعلوميّة والمعالجيّة والمعالجيّة ممّا يمكن اجتماعهما في ذات واحدة، وفي الدّعاء: «يا مَنْ دَلَّ على ذاتِهِ بذاتِهِ»(1).

هذا كلّه على تقدير اختيار الشِّقّ الأوّل {مع أنّ} لنا أن نختار الشِّقّ الثّاني وهو عدم دلاله اللّفظ على نفسه، وما أورده(قدس سره) عن {حديث تركّب القضيّة من جُزْأيْنِ} على هذا التّقدير غير وارد، إذ المحذور {لولا اعتبار الدّلالة في البين - إنّما يلزم إذا لم يكن} للموضوع وجود عينيّ خارجيّ، لكن {الموضوع} هنا له وجود كذلك وهو {نفس شخصه} أي: شخص (زيد) الموجود بالحروف فلا محذور.

والحاصل: أنّ تركّب القضيّة من جزءين إنّما يلزم إذا لم يكن له موضوع لا ذهناً ولا لفظاً ولا خارجاً {وإلّا} فلو كان له موضوع خارجيّ {كان أجزاؤها الثّلاثة تامّةً} وذلك كما لو ضَرَبَ الجِدارَ بيدهوقال: (ضَرَبَ) فإنّه قضيّة موضوعها خارجيّ {وكان المحمول} اللّفظيّ {فيها منتسباً} إلى ضَرْبِ الجِدارِ الخارجيّ، كما

ص: 66


1- بحار الأنوار 84: 339؛ دعاء الصّباح.

إلى شخص اللّفظ ونفسه، غاية الأمر أنّه نفس الموضوع لا الحاكي عنه فافهم، فإنّه لا يخلو عن دقّة.

وعلى هذا ليس من باب استعمال اللّفظ بشيء.

بل يمكن أن يقال: إنّه ليس أيضاً من هذا الباب ما إذا أُطلق اللّفظ وأُريد به نوعه أو صنفه؛ فإنّه فرده

___________________

أنّ المحمول في ما نحن فيه في قولنا: (زيد اسم) منتسب {إلى شخص اللّفظ ونفسه} ولا محذور فيه أصلاً {غاية الأمر أنّه} أي: الموضوع في هذه القضيّة {نفس الموضوع} الخارجيّ {لا الحاكي عنه} فهل مثل: (ضرب الجدار) المتقدّم ليس مثل الإنسان في قولنا: (الإنسان حيوان)؟ {فافهم} ذلك {فإنّه لا يخلو عن دقّة} وبهذا يعرف أنّ الإشارة إلى الشّيءِ خارجاً والحملِ عليه لفظاً من هذا القبيل.

{وعلى هذا} الّذي ذكرنا من كون المراد بالموضوع نفسه لا لفظه الحاكي عنه {ليس} الموضوع في هذه القضيّة {من باب استعمال اللّفظ بشيءٍ} إذ الاستعمال عبارة عن: إطلاق اللّفظ على المعنى بحيث يكون اللّفظ حاكياً والمعنى محكياً، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل، بل من قبيل (ضَرَبَ الجِدار) المتقدّم. هذا في استعمال اللّفظ في شخصه.

{بل يمكن أن يقال:} مثل هذا في الأقسام المتقدّمة، وحاصله {إنّه ليس أيضاً من هذا الباب} أي: باباستعمال اللّفظ في المعنى {ما إذا أُطلق اللّفظ وأُريد به نوعه أو صِنْفُهُ} بل هو من باب جعل الأمر الخارجيّ موضوعاً، ك (ضرب الجدار)، لكن ينبغي تقييده بما إذا لم يخرج النّوع عن النّوعيّة.

وأمّا إذا خرج نحو: (ضَرَبَ فِعْلٌ) فإنّ (ضَرَبَ) في المثال خرج عن النّوعيّة؛ لأنّ نوعه الفعل وهذا اسم لوقوعه مبتدءاً، فلا يكون من قبيل (ضَرَبَ الجِدار)، فتأمّل {فإنّه} أي: اللّفظ المحكوم عليه بالنّسبة إلى النّوع والصّنف {فرده} الخارجي

ص: 67

ومصداقه حقيقةً، لا لفظه وذاك معناه، كي يكون مستعملاً فيه استعمال اللّفظ في المعنى، فيكون اللّفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجاً، قد أحضر في ذهنه بلا وساطةِ حاكٍ، وقد حكم عليه ابتداءً بدون واسطة أصلاً، لا لفظه - كما لا يخفى - فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنىً، بل فرد قد حكم في القضيّة عليه بما هو مصداق لكلّيّ اللّفظ، لا بما هو خصوص جزئيّه.

___________________

{ومصداقه حقيقةً} ف (زيد) في قولنا: (زيد اسم) مصداق زيد الكلّيّ {لا لفظه} الدّال {وذاك} الكلّي مدلوله و{معناه} حتّى تكون هذه القضيّة من قبيل سائر القضايا اللّفظيّة {كي يكون} لفظ الموضوع {مستعملاً فيه} نحو {استعمال اللّفظ في المعنى} وعلى ما ذكرنا مِن أنّ هذه القضيّة من قبيل (ضَرَبَ الجِدار) {فيكون اللّفظ} الواقع موضوعاً {نفس الموضوع} الخارجيّ {المُلْقَى إلى المخاطب خارجاً} كما لو اغترف من الماءغُرْفَةً، وقال: (ماء) فهذا مِصْداق الماء الخارجيّ المُلْقَى إلى المخاطب محكوماً عليه بقوله: (ماء) و{قد أحضر في ذهنه} هذا الموضوع {بلا وَسَاطَةِ} لفظٍ {حاكٍ} عنه {وقد حكم عليه ابتداءً بدون واسطة أصلاً}.

والحاصل: أنّ هذه القضيّة مركّبة خارجيّة الموضوع لفظيّة المحمول، فلفظ (زيد) نفس الموضوع {لا لفظه} الحاكي عنه {كما لا يخفى} على المتأمّل {فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنىً، بل} الموضوع {فرد} من أفراد النّوع أو الصّنف {قد حكم في} هذه {القضيّة عليه} لا بما هو حاكٍ عن الكلّيّ، بل {بما هو مصداق لكلّيّ اللّفظ} كما يحكم بالمائيّة على الغَرْفة بما هي مصداقٌ لكلّيّ الماء {لا بما هو خصوص جزئيّه} حتّى يكون الحكم مقصوراً على هذا الفرد الواقع موضوعاً، من دون تعدٍّ إلى سائر أفراد الكلّي، فتحصّل من جميع ذلك أنّ استعمال اللّفظ في نوعه وصنفه وشخصه ليس من قبيل الاستعمال الاصطلاحيّ.

ص: 68

نعم، في ما إذا أُريد به فرد آخر مثله، كان من قبيل استعمال اللّفظ في المعنى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ لفظ (ضرب) وإن كان فرداً له، إلّا أنّه إذا قصد به حكايته وجعل عنواناً له ومرآته، كان لفظه المستعمل فيه، وكان حينئذٍ كما إذا قصد به فرد مثله.

___________________

{نعم} في القسم الثّالث وهو {في ما إذا أُريد به} أي: باللّفظ الموضوع {فرد آخر مثله} كما تقدّم من نحو قولنا: (زيد - في ضَرَبَ زيدٌ - فاعل) {كان من قبيل استعمال اللّفظ فيالمعنى} إذ (زيد) الأوّل استعمل في (زيد) الثّاني، وحيث كان المستعمل فيه أيضاً لفظاً قال: «من قبيل استعمال اللّفظ» ولم يقل: «من استعمال اللّفظ».

{اللّهمّ إلّا أن يقال} في تقريب كون استعمال اللّفظ في نوعه وصنفه من باب استعمال اللّفظ في المعنى - لا من باب جعل الأمر الخارجي موضوعاً - بما حاصله {إنّ لفظ (ضَرَبَ)} المجعول موضوعاً مراداً به النّوع في قولنا: (ضَرَبَ فعل)(1) {وإن كان فرداً له} أي: للكلّيّ، ويصحّ إرادة المصداق منه، كما مثّلنا من غَرْفَةِ الماء.

{إلّا أنّه إذا قصد به} بلفظ (ضَرَبَ) {حكايته} حكاية الكلّي {وجعل} هذا اللّفظ {عُنْواناً له} أي: للكلّي {ومرآته كان} لفظ (ضَرَبَ) في المثال {لفظه} أي: لفظَ الكلّيّ الدّالّ عليه، والكلّي {المستعمل فيه} معناه {وكان} لفظ (ضرب) الموضوع {حينئذٍ} مستعملاً في الكلّي، فيكون مثل سائر القضايا المتعارفة {كما إذا قصد به فرد مثله} الّذي تقدّم أنّه من باب استعمال اللّفظ في المعنى.

فتبيّن أنّ استعمال اللّفظ في مثله من باب الاستعمال في المعنى، والأقسام الثّلاثة الباقية يمكن أن تكون كذلك، كما يمكن أن تكون من باب (ضَرَبَ الجِدار) المتقدّم.

ص: 69


1- تقدّم الإشكال في مثال (ضرب فعل).

وبالجملة: فإذا أُطلق وأُريد به نوعه - كما إذا أُريد به فرد مثله - كان من باب استعمال اللّفظ في المعنى، وإن كان فرداً منه وقد حكم في القضيّة بما يعمّه. وإن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كلّيه ومصداقه - لا بما هو لفظه وبه حكايته فليس من هذا الباب.

لكنّ الإطلاقات المتعارفة ظاهراً ليست كذلك، كما لا يخفى، وفيها ما لا يكاد يصحّ أن يراد منه ذلك،

___________________

{وبالجملة فإذا أطلق} اللّفظ {وأُريد به نوعه} أو صنفه { - كما إذا أُريد به فرد مثله - كان} كلّ واحد من هذه الأقسام {من باب استعمال اللّفظ في المعنى} فالموضوع اللّفظيّ حاكٍ عن الموضوع العقليّ {و} هذا يصحّ و{إن كان} الموضوع في القضيّة {فرداً منه} أي: من ذلك النّوع أو الصّنف {وقد حكم في القضيّة بما يعمّه} فيشمله وغيره، فإنّ قولنا: (زيد لفظ) صحيح، وإن جعلنا (زيداً) مِرْآةً لأفراده، وكان الحكم المحمول عليه بأنّه لفظ يعمّ (زيداً) الموضوع وغيره.

{و} أمّا {إن أطلق} اللّفظ وأُريد به نوعه أو صنفه لكن {ليحكم عليه بما هو فرد كلّيّه ومصداقه} ليسري الحكم إلى الكلّي - كما مثّلنا من غَرْفَةِ الماء - {لا بما هو لفظه} ومرآته {وبه حكايته} أي: لا بعنوان أنّ اللّفظ الواقع موضوعاً حاكٍ عن الكلّي {فليس} هذا الاستعمال حينئذٍ {من هذا الباب} أي: باب استعمال اللّفظ في المعنى، بل لا يسمّى استعمالاً في الاصطلاح {لكنّ الإطلاقات المتعارفة ظاهراً} عند أهل المحاورة {ليست كذلك} أي: ممّا كان الموضوع مصداقاً، بل كلّها من باب استعمال اللّفظ في المعنى وجعل الفرد مرآتاً للكلّي {كما لا يخفى}.

بل {و} قد يكون {فيها} أي: في الإطلاقات {ما لا يكاد يصحّ أن يراد منه ذلك} المذكور، أي: الحكم على الفرد بماهو مصداق لا بما هو مرآة، وذلك إذا

ص: 70

ممّا كان الحكم في القضيّة لا يكاد يعمّ شخص اللّفظ، كما في مثل: (ضَرَبَ فعلُ ماضٍ).

الخامس:

___________________

كان الموضوع {ممّا} لا يصحّ أن يكون مصداقاً للكلّي، كما إذا {كان الحكم في القضيّة} الملفوظة {لا يكاد يعمّ شخص اللّفظ} الواقع موضوعاً {كما في مثل} قولك: {(ضَرَبَ فِعْلُ مَاضٍ)} مريداً به النّوع، وإنّ كلمة «ضَرَبَ» في هذا التّركيب ليس من مصاديق الفعل، حتّى يكون الحكم عليه بما هو مصداق وفرد حكماً على الكلّي، إذ هو مبتدأ - كما لا يخفى - والمبتدأُ اسم، والاسم لا يعقل أن يكون من مصاديق الفعل وأفراده، اللّهمّ إلّا أن يأوّل في الموضوع أو المحمول.

[الأمر الخامس: وضع الألفاظ لذوات المعاني]

المقدّمة، وضع الألفاظ لذوات المعاني

الأمر {الخامس} في أنّ الدّلالة هل تتبع الإرادة أم لا؟ وقبل الشّروع في المقصود لا بدّ من تقديم مقدّمة، وهي أنّ الإرادة - كما ذكرها بعض الأعلام - على أربعة أقسام:

الأوّل: مفهوم الإرادة الّذي هو معنى اسمي وضع له لفظ (الإرادة).

الثّاني: الإرادة الحقيقيّة الّتي هي صفة من صفات النّفس العارضة لها.

الثّالث: الإرادة الإنشائيّة الّتي وضع لها هيئة (إفْعَلْ) وما في معناه.

الرّابع: الإرادة المِصْداقيّة الذّهنيّة.

وإن شئت قلت: الإرادة قسمان:

الأوّل: الإرادة الذّهنيّة، وهي عبارة عن توجّه الذّهن نحو اللّفظ، وهذا هو القسم الرّابع.الثّاني: الإرادة الخارجيّة وهي على ضربين:

الأوّل: الصّفة القائمة بالنّفس الّتي هي سبب لتحريك العضلات نحو المطلوب، لساناً لعمل غيره، أو يداً ورجلاً لعمل نفسه، وهذا هو القسم الثّاني.

ص: 71

لا ريب في كون الألفاظ موضوعةً بإزاء معانيها من حيث هي، لا من حيث هي مرادةٌ للافظها؛ لِمَا عَرَفْتَ - بما لا مزيد عليه - مِن أنّ قصد المعنى على أنحائه من مُقَوِّماتِ الاستعمال، فلا يكاد يكون

___________________

الثّاني: الإرادة الإنشائيّة المُنْشَأَة بصيغة (إفعل) وغيره، إذ الأمور، منها ما لا يقبل الإنشاء كالجواهر، ومنها ما يقبله كالإرادة وهذا هو القسم الثّالث، ثمّ إنّ هذه الثّلاثة كلّها مصاديق لمفهوم الإرادة الّتي هي القسم الأوّل.

إذا عرفت ذلك فنقول: لا خلاف في أنّ مفهوم الإرادة ليس جزءاً لمعنى اللّفظ الموضوع، كما لا خلاف في عدم جزئيّة الإرادة الإنشائيّة والإرادة المصداقيّة الذّهنيّة، وإنّما الخلاف في دخول الإرادة الحقيقيّة.

ولا يذهب عليك أنّ الخلاف إنّما هو في مدخليّة إرادة المستعمِل لا إرادة الواضع، وقد اختار المصنّف(قدس سره) عدم المدخليّة، إذ {لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها} المجرّدة {من حيث هي} هي فالمعنى تمام الموضوع له {لا} أنّها موضوعة بإزاء المعاني {من حيث هي مرادة للافظها} حتّى يكون الموضوع له مركّباً من المعنى والإرادة، ويدلّ على ذلك وجوه خمسة:

الأوّل: لزوم تعدّد الإرادة عند الاستعمال: الأُولى: الإرادة الّتي هي جزء المعنى، والثّانية: الإرادة الّتي تستلزمها الاستعمال، وذلك باطل وِجْداناً {لماعرفت} في المعنى الحرفي {- بما لا مزيد عليه - من أنّ قصد المعنى على أنحائه} من الآليّة والاستقلاليّة والمراديّة وغيرها {من مقوّمات الاستعمال} لا من أجزاء الموضوع له.

الثّاني: عدم إمكان الإطاعة والامتثال للأوامر والنّواهي، وذلك لعدم إمكان إتيان العبد بالمعنى المقيّد بإرادة المولى في الخارج، إذ إرادة المولى ذهنيّة فلا تكون خارجيّة، كما عرفت في تحقيق المعنى الحرفي، وعليه {فلا يكاد يكون} الإرادة

ص: 72

من قيود المستعمل فيه، هذا.

مضافاً إلى ضرورة صحّة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرّفٍ في ألفاظ الأطراف، مع أنّه لو كانت موضوعةً لها بما هي مرادةٌ لَمَا صَحَّ بدونه؛ بداهةَ أنّ المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند إليه في (ضرب زيد) - مثلاً - هو نفس القِيام والضَّرْبِ، لا بما هما مرادان.

___________________

{من قيود المستعمل فيه} وقد يقرّب الإشكال الثّاني بأنّه لو كانت الإرادة جزءاً للمعنى المستعمل فيه لزم أحد أُمور ثلاثة: [1] إمّا عدم إمكان الامتثال، [2] وإمّا التّجريد حين الاستعمال، [3] وإمّا الدّور؛ لأنّه لم يجرّد المعنى عن الإرادة حين الاستعمال، فإمّا أن تكون هي الإرادة الاستعماليّة، فيلزم الدّور، وإمّا أن تكون غيرها فيلزم عدم إمكان الامتثال، فتفطّن.

الثّالث: عدم صحّة الحمل مطلقاً إلّا بالتّجريد، وذلك لأنّ (زيد قائم) حينئذٍ ينحلّ إلى ذات مرادة وصفة مرادة، والإرادتان متغايرتان حقيقةً، فلا يصحّ الحمل الخارجي إلّا بتجريد الذّات والصّفة عن الإرادة، ومن الواضح عدم التّصرّفبالتّجريد حين تركيب الجمل.

وإلى {هذا} أشار المصنّف بقوله: {مضافاً إلى ضرورة صحّة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرّفٍ} وتجريدٍ عن الإرادة {في ألفاظ الأطراف} أي: أطراف الجملة من المحكوم والمحكوم عليه {مع أنّه} أي: الشّأن {لو كانت} الألفاظ {موضوعةً لها} أي: للمعاني {بما هي مرادة} حتّى يكون المعنى الموضوع له مركّباً من أصل المعنى والإرادة {لما صحّ} الإسناد والحمل {بدونه} أي: بدون التّصرّف والتّجريد.

{بداهة أنّ المحمول على (زيد)} وهو (قائم) {في (زيد قائم) و} كذا {المسند إليه} أي: إلى (زيد) {في (ضَرَبَ زيدٌ) مثلاً} إنّما {هو نفس القِيام والضَّرْبِ، لا بما هما مرادان} ولعلّه إنّما خصّ الكلام بالمحكوم مع جريان مثله في المحكوم عليه،

ص: 73

مع أنّه يلزم كون وضع عامّة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّاً؛ لمكان اعتبار خصوص إرادة اللّافظين في ما وضع له اللّفظ، فإنّه لا مجال لتوهّم أخذ مفهوم الإرادة فيه،

___________________

كما صرّح هو(قدس سره) بأهميّة الإشكال في قوله: «بلا تصرّفٍ في ألفاظ الأطراف» لأجل أنّ المحكوم عليه في المثالين لا مدخليّة للإرادة فيه بداهةً، إذ هو عَلَمٌ لا يوضع للشّخص الخاصّ بما هو مراد، كما هو المشاهد من حال الآباء حين الوضع للأبناء. وإنّما أتى بمثالين لبيان عدم الفرق في كون الجملة اسميّة أو فعليّة، أو بين كون المحكوم اسماً أو فعلاً.هذا تمام الكلام في الإشكال الثّالث على مدخليّة الإرادة في الدّلالة {مع أنّه يلزم} إشكال آخَر، وهو الرّابع، وحاصله لزوم {كون وضع عامّة الألفاظ} الموضوعة {عامّاً والموضوع له خاصّاً}.

أمّا كون الوضع عامّاً فلما تقدّم في أسماء الأجناس.

وأمّا كون الموضوع له خاصّاً فهو {لمكان اعتبار خصوص إرادة اللّافظين} المستعملين، أي: مدخليّة إرادتهم {في ما وضع له اللّفظ} إذ اللّفظ موضوع بأزاء المعنى بقيد الإرادة، والإرادة جزئيّة فيكون المعنى المقيّد بها جزئيّاً، وعلى هذا فيلزم أن لا يكون الوضع العامّ والموضوع له العام أصلاً. وهذا وإن لم يكن مستحيلاً، إلّا أنّه خلافُ الوِجْدان، وخلافُ ما صرّحوا به، من أنّ أسماء الأجناس والمشتقّات وغيرهما من قبيل الوضع العام والموضوع له العام.

لا يقال: يمكن أن تكون الإرادة جزء المعنى الموضوع له مع بقاء الوضع العام والموضوع له العام، وذلك بأن يكون مفهوم الإرادة الكلّي جزءاً للموضوع له، لا الإرادة الحقيقيّة القائمة بنفس المستعمل اللّافظ حتّى توجب جزئيّته جزئيّة المعنى.

{فإنّه} يقال في الجواب: {لا مجال لتوهّم أخذ مفهوم الإرادة} الكلّي {فيه} أي: في المعنى الموضوع له، وذلك لأنّه لا خلاف في عدم كونه جزء الموضوع له - كما

ص: 74

كما لا يخفى.

وهكذا الحال في طرف الموضوع.

وأمّا ما حكي عن العَلَمَيْنِ: الشّيخ الرّئيس والمحقّق الطّوسيّ - من مصيرهما إلى أنّ الدّلالة تتبع الإرادة -

___________________

تقدّم في صدر المبحث - فضلاً عن أنّه خلاف الوِجْدان {كما لا يخفى} وحيث بيّن المصنّف(رحمة الله) الإشكال الثّالث بالنّسبة إلى المحمول، قال: {وهكذا الحال في طرف الموضوع} فيجري فيه الإشكال، هكذا شَرَحَ هذه العبارة بهذا المعنى بعضُ الشُّرَّاحِ.

وعلى هذا فيسقط ما ذكرناه سابقاً من التّوجيه، ولكن يمكن أن يكون هذا الكلام ناظراً إلى عدم إمكان أخذ الإرادة بالنسبة إلى الموضوع، كعدم إمكانه بالنسبة إلى الموضوع له، لجريان الإشكالات المتقدّمة فيه أيضاً لكن بأدنى تفاوت، وممّا يؤيّد هذا الّذي ذكرناه تأخير هذه العبارة عن الإشكال الرّابع، ولو كان من الإشكال الثّالث لاختلّ النّظم.

الخامس: لزوم بناء جميع الألفاظ؛ لأنّ الإرادة المأخوذة في المعنى جزئيّة وهي من المعاني الحرفيّة - كما لا يخفى - .

وأورد بعض الأفاضل(1)

على التّبعيّة إشكالاتٍ أُخَرَ لا مجال لذكرها. فتحصّل أنّ الدّلالة لا تتبع الإرادة بل تتبع الوضع، ولو كانت الإرادة جزء الموضوع له لكانت تابعة لهما.

{وأمّا ما حُكِيَ عن العَلَمَيْنِ: الشّيخ الرّئيس} أبي عليّ بن سيناء {والمحقّق الطّوسيّ} نصير الدّين(قدس سره) {من مصيرهما إلى أنّ الدّلالة تتبع الإرادة} المستلزم لكونها

ص: 75


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 114.

فليس ناظراً إلى كون الألفاظ موضوعةً للمعاني بما هي مرادة - كما توهّمه بعض الأفاضل(1)

- ، بل ناظِرٌ إلى أنّ دلالةالألفاظ على معانيها بالدّلالة التّصديقيّة - أي: دلالتها على كونها مرادةً للافظها - تتبع إرادتها منها وتتفرّع عليها

___________________

جزء الموضوع له {فليس} المحكي منافياً لما تقدّم منّا، إذ ليس كلامهما {ناظراً إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة} بحيث تكون الإرادة جزء الموضوع له {كما توهّمه بعض الأفاضل} في الفصول {بل} كلامهما ناظر إلى شيء آخر. وبيانه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، وهي أنّ الدّلالة على قسمين:

الأوّل: الدّلالة التّصوريّة: وهي عبارة عن خطور المعنى في الذّهن عند سماع اللّفظ ولو كان اللّفظ صادراً عن حَيَوانٍ أو جمادٍ، وهذه الدّلالة لا تتوقّف على شيء سوى العلم بالوضع بالنّسبة إلى السّامع ضرورةً.

الثّاني: الدّلالة التّصديقيّة، وهي نحوان:

الأوّل: تصديق السّامع بكون المعنى مراداً للمتكلّم، وهذه متوقّفة على إرادة المتكلّم، إذ لولا الإرادة لم يتمكّن السّامع من التّصديق.

الثّاني: تصديق السّامع بأنّ النّسبة الكلاميّة مطابقة للنّسبة الخارجيّة، وبعبارة أُخرى دلالة اللّفظ على معنى محقّق في الخارج، فلو أذعن السّامع ولم يكن مطابقاً كان تخيّلاً لا تصديقاً.

إذا عرفت هذه قلنا: كلامهما {ناظر إلى أنّ دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التّصديقيّة} قسمها الأوّل {أي: دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها} أي: إرادة المتكلّم المعاني {منها} أي: من تلك الألفاظ.{و} بعبارة أُخرى {تتفرّع} الدّلالة التّصديقيّة بمعناها الأوّل {عليها} أي: على

ص: 76


1- الفصول الغرويّة: 17.

- تبعيّةَ مقام الإثبات للثّبوت، وتفرّعَ الكشف على الواقع المكشوف - ؛ فإنّه لولا الثّبوت في الواقع لما كان للإثبات والكشف والدّلالة مجالٌ.

ولذا لا بدّ من إحراز كون المتكلّم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودَلاَلِتِهِ على الإرادة، وإلّا لما كانت لكلامه هذه الدّلالة، وإن كانت له الدّلالة التّصوّريّة - أي: كون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجِدار،

___________________

إرادة اللّافظ، نحو {تبعيّة مقام الإثبات} والدّلالة الظّاهريّة {للثّبوت} والواقع {و} نحو {تفرّع الكشف على الواقع المكشوف} فتصديق السّامع بكون المعنى مراداً للمتكلّم متوقّف على إرادة المتكلّم واقعاً و إحراز السّامع إرادته، فلو لم تكن للمتكلّم إرادة كان تصديق السّامع جهالةً، ولو لم يحرز السامع لم يكن تصديق أصلاً {فإنّه لولا الثّبوت في الواقع} ونفس الأمر {لما كان للإثبات والكشف والدّلالة مجال} كما لا يخفى.

{ولذا} أي: ولأجل تفرّع الإثبات على الثّبوت وتبعيّة الكشف للواقع {لا بدّ} للدّلالة التّصديقيّة {من إحراز} السّامع {كون المتكلّم بصدد الإفادة} وأنّه مريد للمعنى {في} التّكلّم حتّى يتمكّن من {إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه، و} يتمكّن من إثبات {دلالته} أي: دلالة كلام المتكلّم {على الإرادة} وهذاالإحراز يحصل ولو بأصلٍ من الأصول {وإلّا} يحرز السّامع كون المتكلّم بصدد الإفادة {لما كانت لكلامه هذه الدّلالة} التّصديقيّة، أعني: دلالته على إرادة المتكلّم {و} أمّا {إن} أحرز ولم يطابق إحرازه الواقع كان ذلك تخييلاً لا تصديقاً - كما تقدّم - .

نعم {كانت} على التّقديرين {له} أي: لكلامه {الدّلالة التّصوريّة} بالمعنى المتقدّم {أي: كون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له} وحضوره في ذهن السّامع العالم بالوضع {ولو كان} الكلام {من وراء الجِدار} فلم يعلم السّامع حال

ص: 77

أو من لافظٍ بلا شعور ولا اختيارٍ - .

إن قلت: على هذا يلزم أن لا يكون هناك دلالةٌ عند الخطأ، والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شيء ولم يكن له من اللّفظ مراد.

قلت: نعم، لا يكون حينئذٍ دلالة، بل يكون هناك جهالة وضلالة، يحسبها الجاهل دلالة.

ولَعَمْرِي ما أفاده العَلَمَانِ من التّبعيّة - على ما بيّنّاه - واضِحٌ لا محيص عنه.

___________________

المتكلّم {أو} كان صادراً {من لافظ بلا شعور ولا اختيار} كالحيوان المُعَلَّم أو النّائم، أو الآلة.

{إن قلت: على هذا} الّذي ذكرتم مِن أنّ الدّلالة التّصديقيّةَ تابعة للإرادة {يلزم أن لا يكون هناك دلالة} تصديقيّة في صورتين:

الأُولى: {عند الخطأ} من السّامع {والقطع بما ليس بمراد} كأن أراد المتكلّم من قوله: (جاءني أسد) مجيء الرّجل الشُّجَاع{أو} نحوه، وقطع السّامع بأن مراده مجيء الحيوان المفترس.

والثّانية: عندما اشتبه السّامع وكان له {الاعتقاد} خطأ {بإرادة} المتكلّم من اللّفظ خصوص {شيء، و} الحال أنّه {لم يكن له من اللفظ مراد} أصلاً، كما لو تكلّم بجملة سهواً فظنّ السّامع أنّه أراد معناها.

والفرق بين الصّورتين: أنّ المتكلّم في الأُولى أراد معنىً لكنّه يخالف ما تخيّله السّامع، وفي الثّانية لم يرد شيئاً أصلاً.

وحاصل الإشكال: أنّه على القول بالتبعيّة يلزم أن لا تكون دلالة في الصّورتين.

{قلت: نعم، لا يكون حينئذٍ دلالة، بل يكون هناك} في الصّورتين {جهالة} من السّامع {وضلالة} وقد {يحسبها الجاهل دلالة}.

هذا {ولعمري ما أفاده العَلَمَانِ} المحقّق الطُّوْسِيُّ والشّيخُ الرَّئِيْسُ {من التّبعيّة على ما بيّنّاه} من تبعيّة الدّلالة التّصديقيّة للإرادة دون التّصوريّة {واضح لا محيص عنه}

ص: 78

ولا يكاد ينقضي تعجّبي كيف رضي المتوهّم أن يجعل كلامهما ناظراً إلى ما لا ينبغي صُدُوْرُهُ عن فاضلٍ، فضلاً عمّن هو عَلَمٌ في التّحقيق والتّدقيق؟!

السّادس:

___________________

«المحيص» الهَرَب والمَهْرَب.

{ولا يكاد ينقضي تعجّبي كيف رَضِيَ المتوهّمُ أن يجعل كلامهما ناظراً إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل} من تبعيّة الدّلالة التّصوريّةللإرادة، لبديهيّة البطلان بالوِجْدَان والبُرْهان، فإنّ ذلك لا يتفوّه به أحد {فضلاً عمّن هو عَلَمٌ في التّحقيق والتّدقيق} هذا كلام المصنّف في توجيه كلام العَلَمَيْنِ، ولكلّ واحدٍ من هؤلاء الأعلام: النّائينيّ، والإصفهانيّ، والرّشتي، والسُّلطان العِراقيّ، والمشكينيّ، والقمّيّ، وغيرهم(1)

ممّن استضأنا بنور حواشيهم وشروحهم في هذا الشّرح في بيان كلامهما بحث مفصّل، فعلى الطّالب الرّجوع إليها، واللّه العالم بحقائق الأُمور.

[الأمر السّادس: وضع المركّبات]

المقدّمة، وضع المركّبات

الأمر {السّادس} في أنّه هل للمركّبات وضع مستقلّ أم لا؟ اعلم أنّ في المقام أمرين:

الأوّل: في بيان رابط الجملة، وقد اختلف فيه على أقوال:

[1] فذهب بعض إلى أنّه الضّمير بارزاً كان أو مستتراً، ورُدَّ ذلك بأنّ للضّمائر مفاهيم مستقلّة، فلا تكون رابطة بين أجزاء الجملة، وما ذكره أهل الميزان من استعارة الضّمائر غير تمام.

ص: 79


1- أجود التقريرات 1: 31؛ نهاية الدراية 1: 71؛ شرح كفاية الأصول 1: 20؛ الحاشية على كفاية الأصول 1: 91؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 116؛ حاشية الكفاية 1: 40؛ حقائق الأصول 1: 39.

لا وجه لتوهّم وضعٍ للمركّبات غير وضع المفردات؛ ضَرُوْرَةَ عدم الحاجة إليه بعد وضعها بموادّها في مثل (زيد قائم) و(ضرب عمرو بكراً)، شخصيّاً، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيّاً،

___________________

[2] وذهب آخرون إلى أنّ الرّابط الإعراب، ورُدَّ بالنّقض بالمركّب غير التّامالواقع في الجملة نحو (غلامُ زيدٍ قائِمٌ) فإنّه يلزم أن يكون مركّباً تامّاً لمكان الإعراب.

[3] وذهب ثالث إلى أنّه الهيئة التّركيبيّة، إذ لكلّ جملةٍ جُزْءٌ ماديّ وهو ألفاظ الأطراف، وجزء صوريّ هو الهيئة التّركيبيّة.

الثّاني: في أنّه هل للجمل غير وضع المسند إليه والمسند والهيئة التّركيبيّة وضع آخر للمجموع المركّب من الثّلاثة أم لا؟ والمصنّف ذهب إلى الثّاني، إذ {لا وجه لتوهّم وضعٍ للمركّبات} بحيث يكون وضع لمجموع المادّة والهيئة معاً {غير وضع المفردات} من المسند إليه والمسند والهيئة التّركيبيّة {ضرورة عدم الحاجة إليه بعد} وجود وصفين:

الأوّل: {وضعها بموادّها} المخصوصة ك (زيد) و(عمرو) و(بكر) و(قائم) و(ضرب) {في مثل (زيد قائم) و(ضرب عمرو بكراً)} إذ الأعلام موضوعة بالوضع الخاصّ والموضوع له الخاص، والمشتقّات موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام، ومعلوم أنّها موضوعة وضعاً {شخصيّاً}.

{و} الثّاني: وضعها {بهيئاتها} فإنّ هيئة (زيد قائم) موضوعةٌ جملةً اسميّةً، وهيئة (ضرب عمرو بكراً) موضوعةٌ جملةً فعليّةً، ومعلوم أنّ الهيئة موضوعة وضعاً نوعيّاً. وقد تقدّم معنى الوضع الشّخصيّ والنّوعيّ، وبعد هذين الوضعين لا حاجة إلى وضع ثالث للهيئة {المخصوصة} المركّبة من خصوص موادّ الجملة الموضوعة شخصيّاً، و{من خصوص} الهيئة الأعمّ من {إعرابها} وغيره {نوعيّاً}.

ص: 80

ومنها: خصوص هيئات المركّبات الموضوعة لخصوصيّات النِّسَبِ والإضافات، بمزاياهاالخاصّة من تأكيدٍ وحصرٍ وغيرهما نوعيّاً؛ بَدَاهَةَ أنّ وضعها كذلك وافٍ بتمام المقصود منها، كما لا يخفى، من غير حاجةٍ إلى وضع آخر لها بجملتها، مع استلزامه الدّلالة على المعنى تارةً بملاحظة وضع نفسها، وأُخرى بملاحظة وضع مفرداتها.

___________________

ولا يذهب عليك أنّ قوله: «من خصوص إعرابها» بيان لقوله: «بهيئاتها المخصوصة» أي: أنّ الهيئة المخصوصة عبارة عن الهيئة الرّفعيّة والنّصبيّة والجريّة وكلّها موضوعة وضعاً نوعيّاً، أي: بدون ملاحظة مادّه مدخولها ولا هيأته، فإنّه وضع الرّفع للفاعل - زيداً كان أو غيره - وهكذا.

{و} الحاصِلُ: أنّه لا حاجة إلى وضعٍ ثالثٍ بعد وضع الموادّ ووضع الهيئات الّتي {منها خصوص هيئات المركّبات الموضوعة لخصوصيّات النّسب} كالنّسبة إلى الفاعل والمفعول والنّائب {و} منها خصوص الهيئات الموضوعة لخصوصيّات {الإضافات بمزاياها الخاصّة من تأكيدٍ وحَصْرٍ وغيرهما} كالدّوام والثّبوت ومنها خصوص الإعراب - كما تقدّم - فإنّ جميع هذه الهيئات موضوعة {نوعيّاً} كوضع الموادّ شخصيّاً وحينئذٍ فالوضع الثّالث للمركّبات لَغْوٌ {بداهة أن وضعها كذلك} مادّةً وهيئةً {وافٍ بتمام المقصود منها - كما لا يخفى} على أُولي النّهى - {من غير حاجةٍ إلى وضعٍ آخر لها بجملتها}.

وقد يقرّر دليل عدم الوضع للمركّب هكذا: بأنّ الوضع الثّالث إمّا لفائدةٍ أو لا، والثّاني مستلزم للغويته، والأوّل إن كان لفائدة غير مترتّبة على وضع المفردات فهي مفقودة وِجْداناً، وإن كان لفائدةٍ مترتّبةٍ عليها، فهي تحصيلٌ لِلحاصل {مع استلزامه الدّلالة على المعنى}مرّتين {تارةً بملاحظة وضع نفسها، وأُخرى بملاحظة وضع مفرداتها} وهو خلاف الوِجْدان، فإنّ السّامع للمركّب لا يفهم المعنى مرّتين.

ص: 81

ولعلّ المرادَ من العِبارات الموهمة لذلك(1)، هو وضع الهيئات على حِدَةٍ غير وضع الموادّ، لا وضعها بجملتها علاوةً على وضع كلّ واحدٍ منهما.

السّابع:

___________________

{ولعلّ} النّزاع بين القوم لفظيّ: بأن يكون {المراد من العبارات الموهمة لذلك} الوضع الثّالث {هو وضع الهيئات على حِدَةٍ} - الّذي يقوله القوم - أعني: {غير وضع المواد} فيكون مرادهم بيان الوضع الثّاني، {لا} أنّ مرادهم {وضعها} أي: وضع المركّبات {بجملتها} أي: مجموع المواد والهيئات حتّى يكون وضعاً ثالثاً {علاوة على وضع كلّ واحد منهما} لكن المشكينيّ(قدس سره) مصرّ على المغايرة فلا يكون النّزاع لفظيّاً(2).

تنبيه: يمكن إنكار الوضع النّوعي للهيئة مطلقاً، فلا يكون إلّا وضع واحد للمفردات، وإنّما التّركيب بالطبع، كما ادّعاه المصنّف بالنسبة إلى المجاز، وهذا الاحتمال قريب جدّاً فتفطّن.

[الأمر السّابع: أمارات الوضع]

اشارة

المقدمة، أمارات الوضع

الأمر {السّابع} في علامات الحقيقة والمجاز، وتحقيق المقام يحتاج إلى تمهيد مقدّمةٍ، وهي أنّه لو علمنا المعنى الحقيقي والمجازي ولم نعلمالمستعمل فيه، فلا خلاف في أنّ اللّفظ يحمل على المعنى الحقيقي، وإنّما الكلام في مستند هذا الحمل، وفيه أقوال:

الأوّل: أصالة الحقيقة.

الثّاني: أصالة عدم القرينة.

الثّالث: غلبة الاستعمال في المعنى الحقيقي.

ص: 82


1- قوانين الأصول 1: 264.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 121.

لا يخفى: أنّ تبادر المعنى من اللّفظ وانسباقه إلى الذّهن - من نفسه وبلا قرينةٍ - علامةُ كونه حقيقةً فيه؛ بداهة أنّه لولا وَضْعُهُ له لما تَبَادَرَ.

___________________

الرّابع: قبح إرادة غير المعنى الحقيقي بدون نصب قرينة.

الخامس: ظهور اللّفظ في المعنى الحقيقي.

هذا، وأمّا لو لم يعرف المعنى الحقيقي والمجازي وعرف المستعمل فيه، فالسيّد المرتضى(رحمة الله) على أنّ الاستعمال علامة الحقيقة، والمشهور على أنّه أعمّ منها.

إذا عرفت هذا فنقول: العلامات الفارقة بين الحقيقة والمجاز أربعة:

التّنصيص

الأُولى: تنصيص واضع اللّغة، لكن لا طريق إلى هذه العلامة في اللّغات القديمة، وذكر بعضهم مكانه تنصيص أهل اللّغة، وأشكل عليه بأنّ أهل اللّغة ليسوا من أهل الخِبْرة بالنسبة إلى الوضع وإنّما هم أهل خِبْرة بالنسبة إلى الاستعمال، فتأمّل.

التّبادر

الثّانية: التّبادر فإنّه علامة الحقيقة، كما أنّ عدم التّبادر أو تبادر الغير علامة المجاز، إذ {لا يخفى أنّ تبادر المعنى من اللّفظ وانسباقه إلى الذّهن من نفسه وبلا قرينة}حتّى الشّهرة {علامة كونه} أي: كون اللّفظ {حقيقةً فيه} أي: في ذلك المعنى المنسبق {بداهة أنّه لولا وضعه} أي: وضع اللّفظ {له} أي: للمعنى ولو وضعاً تعيّنيّاً {لما تبادر} هذا المعنى منه، وذلك لأنّ التّبادر إثر العلقة الذّهنيّة بين اللّفظ والمعنى، والعلقة الذّهنيّة لا تكون إلّا بالوضع، فالتبادر لا يكون إلّا بالوضع، فيكون التّبادر دليلاً إنّيّاً على الوضع، وإذا ثبت الوضع ثبتت الحقيقة، إذ المعنى الحقيقي عبارة عن الموضوع له.

ص: 83

لا يقال: كيف يكون علامةً مع توقّفه على العلم بأنّه موضوع له - كما هو واضِحٌ - ، فلو كان العلم به موقوفاً عليه لدار؟

فإنّه يقال: الموقوف عليه غير الموقوف عليه؛

___________________

ولا يخفى أنّ التّبادر الوضعي - وهو ما ذكرناه - علامة الحقيقة لا التّبادر الإطلاقي الّذي هو عبارة عن انصراف الإطلاق إلى بعض الأفراد، لكثرة الوجود أو كثرة الاستعمال.

{لا يقال: كيف يكون} التّبادر {علامة} للحقيقة {مع توقّفه} أي: توقّف التّبادر {على العلم بأنّه} أي: المعنى المنسبق {موضوع له} إذ لولا العلم بأنّ المعنى هو الموضوع له لما تبادر من اللّفظ {كما هو واضح} وعلى هذا فالتّبادر موقوف على العلم بالوضع {فلو كان العلم به} أيضاً {موقوفاً عليه} أي: على التّبادر {لدار} دوراً مصرّحاً؟

وإن شئت قلت: التّبادر موقوف على العلم بالوضع، والعلمُ بالوضع موقوف على التّبادر، فالتبادر موقوف على التبادر.أمّا المقدّمة الأُولى، فلأنّه لولا العلم بالوضع لما تبادر المعنى الموضوع له، كما نرى عدم تبادر معنىً من اللّفظ في اللّغة الّتي لا نعرفها.

وأمّا المقدّمة الثّانية، فلأنّ كون التّبادر علامة الوضع معناه توقّف العلم بالوضع على التّبادر.

{فإنّه يقال} في الجواب عن إشكال الدّور: إنّ العِلْمَيْن - اللّذين توقّف أحدهما على التّبادر، وتوقّف التّبادر على الآخر - مختلفان: فالعلم {الموقوف عليه} التّبادر {غير} العلم الّذي كان التّبادر موقوفاً عليه، وإذا اختلف الموقوف و{الموقوف عليه} فلا دور، ولا يذهب عليك أنّ نائب فاعل كلمة «الموقوف» الأوّل هو التّبادر، ومرجع ضميره هو العلم، وعكسهما «الموقوف عليه» الثّاني.

ص: 84

فإنّ العلم التّفصيليّ بكونه موضوعاً له موقوفٌ على التّبادر، وهو موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي به، لا التّفصيلي، فلا دور،

___________________

ثمّ إنّ اختلاف العلمين بالإجمال والتّفصيل {فإنّ العلم التفصيلي بكونه} أي: بكون المعنى {موضوعاً له} أي: موضوعاً للفظ {موقوف على التّبادر} فلو أردنا تحصيل العلم التّفصيلي بمعنى اللّفظ احتجنا إلى التّبادر {وهو} انسباق المعنى من حاقّ اللّفظ - كما تقدّم - لكن التّبادر لا يتوقّف على العلم التّفصيلي حتّى يتّحد العلمان، بل هو {موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي به} أي: بكون المعنى موضوعاً له {لا التّفصيلي} كما تقدّم. وإذا اختلف العلمان {فلا دور}.

وتوضيحه ما ذكره العلّامة الرّشتي(قدس

سره): «إنّ الإنسان إذا راجع وِجْدانهحين ابتداء أمره وتنطّقه تعلّم ألفاظاً من الأبوين أو غيرهما تستعمل في المعاني عند الإِعراب عمّا في الضّمير، فقد علم إجمالاً ذات الموضوع له وغيره ممّا يناسبه، فإذا صار عارفاً بالمعنى الحقيقي والمجازي، فكلّما سمع لفظاً وانسبق من سماعه إلى ذهنه معنىً مع قطع النّظر عن كلّ القرائن، فيعلم كون اللّفظ حقيقة في خصوص هذا المعنى، وكلّما سمع لفظاً وانسبق من سماعه إلى ذهنه معنىً بالقرينة، فيعلم كونه مجازاً في خصوص هذا المعنى، وهذا بعينه هو الجواب عن الإشكال الوارد على كلّيّة الكبرى في الشّكل الأوّل فتذكّر»(1)،

انتهى كلامه رفع مقامه.

ولا يخفى أنّ العلم الإجمالي في هذا المقام عبارة عن الارتكاز الّذي إذا توجّه الذّهن إليه حصّله بالفكر من بين المعاني المركوزة، وهذا هو العلم الإجمالي باصطلاح أهل الميزان - كما في أوائل شرح المطالع(2) - وذلك بخلاف مصطلح الأصوليّين.

ص: 85


1- شرح كفاية الأصول 1: 21.
2- شرح المطالع: 68.

هذا إذا كان المراد به: التّبادر عند المستعلم. وأمّا إذا كان المراد به: التّبادر عند أهل المحاورة فالتّغاير أوضح من أن يخفى.

ثمّ إنّ هذا في ما لو عُلِمَ استناد الانسباق إلى نفس اللّفظ، وأمّا في ما احتمل استناده إلى قرينةٍ فلا يجدي أصالةُ عدم القرينة في إحراز كون الاستناد

___________________

ثمّ إنّ {هذا} الجواب عن الدّور {إذا كان المراد به} أي: بالتبادر {التّبادر عند} نفس {المستعلم} المريد لتمييز الحقيقة عن المجاز {وأمّا إذا كان المراد به} أي:بالتّبادر {التّبادر عند أهل المحاورة} بأن يكون التّبادر عند أهل المحاورة العالِمِيْنَ بالأوضاع علامة للحقيقة للجاهل بالمعنى الحقيقي وغيره {فالتّغاير} بين العلم المتوقّف على التّبادر، والعلم الّذي كان التّبادر متوقّفاً عليه {أوضح من أن يخفى} على أَحَدٍ، إذ العلم المتوقّف على التّبادر هو علم الجاهل، والعلم الّذي كان التّبادر متوقّفاً عليه هو علم أهل المحاورة العالمين بالأوضاع. مثلاً: من لا يعلم معنى (الأسد) إذا رأى سبق الحيوان المفترس الكذائي إلى ذهن العرب من هذا اللّفظ بدون القرينة علم أنّه معناه الحقيقي.

{ثمّ إنّ هذا} الّذي ذكرناه من كون التّبادر علامة للحقيقة {في ما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللّفظ} وحاقّه بدون معونة قرينة أصلاً، وهذا هو التّبادر المسمّى بالتبادر الوضعي {وأمّا في ما} لو {احتمل استناده إلى قرينة} ولو كانت شهرة {فلا} يكون هذا التّبادر علامة للحقيقة.

إن قلت: أصل عدم القرينة مفيد لكون التّبادر من حاقّ اللّفظ.

قلت: لا {يجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد} إلى حاقّ اللّفظ، إذ المراد بالأصل إن كان استصحاب عدم القرينة، ففيه - مع أنّه مثبت - : أنّ المستصحب ليس بحكم ولا موضوع ذي حكم.

وإن كان المراد بالأصل الأصل العقلائي الجاري في العام ونحوه حين الشّكّ

ص: 86

إليه، لا إليها - كما قيل(1) - ؛ لعدم الدّليل على اعتبارها إلّا في إحرازالمراد؛ لا الاستناد.

ثمّ إنّ

___________________

في وجود القرينة، وإجراؤُهُ مُحْرِز لكون الاستناد {إليه} أي: إلى حاق اللّفظ {لا إليها} أي: لا إلى القرينة، فهذا الأصل وإن ذكره جماعة { - كما قيل -} لكن فيه نظر {لعدم الدّليل على اعتبارها} أي: اعتبار أصالة عدم القرينة {إلّا في} مقام {إحراز المراد} بأن لا يعلم المراد من اللّفظ، فيعيّن بهذه الأصالة المراد {لا} في مقام معرفة المراد من اللّفظ، لكن شكّ في أنّه المعنى الحقيقي أو المجازي؟ إذ لا يثبت بأصل عدم القرينة كون {الاستناد} إلى حاقّ اللّفظ حتّى يكون معنى حقيقيّاً. مثلاً: لو لم يعرف المراد من لفظ (الأسد) جاز تعيين الحيوان المفترس بأصالة عدم القرينة، أمّا لو عرف كون المراد منه الحيوان المفترس، لكن لم يعلم أنّه معنى حقيقيّ للأسد أم معنى مجازيّ لم يجز تعيين كونه معنى حقيقيّاً بأصالة عدم القرينة.

صحّة السّلب

{ثمّ إنّ} العلامة الثّالثة من علامات الحقيقة والمجاز صَحَّةُ السَّلْبِ وعدمها، وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة وهي: أنّ الحمل على قسمين:

الأوّل: الحمل الأوّلي الذّاتي، وهو عبارة عمّا إذا كان الموضوع والمحمول متّحدين ماهيّة ومفهوماً، وذلك كحمل المترادفين أحدهما على الآخر، نحو (الأَسَدُ ضِرْغَامٌ) و(الإنسان بشر) أو كانا متّحدين ماهيّة فقط لا مفهوماً، نحو (الإنسان حيوان ناطق).

وإنّما يسمّى هذا القسم أوّليّاً ذاتيّاً لكونه أوّلي الصّدق والكذب، ولا يجري إلّا في الذّاتيّات.

ص: 87


1- الفصول الغرويّة: 33.

___________________

الثّاني: الحمل الشّائع الصِّناعي، وهو عبارة عمّا إذا كان الموضوع والمحمول متّحدين مصداقاً في الوجود فقط، بأن كان الموضوع من أفراد مصداق المحمول نحو: (زيد عالم).

وإنّما يسمّى هذا القسم شائعاً صِناعيّاً لشيوعه في العلوم والصِّناعات.

ثمّ إنّه ينقسم الحمل بتقسيم آخر إلى حمل المواطاة وهو حمل هو هو، وحمل الاشتقاق وهو حمل ذي هو.

قال شارح المَطَالِعِ: «وحمل المواطاة أن يكون الشّيء محمولاً على الموضوع بالحقيقة بلا واسطة، كقولنا: (الإنسان حيوان) وحمل الاشتقاق أن لا يكون محمولاً عليه بالحقيقة، بل ينسب إليه، ك (البياض) بالنسبة إلى (الإنسان) فإنّه ليس محمولاً عليه بالحقيقة، فلا يقال: (الإنسان بياض) بل بواسطة (ذو) أو الاشتقاق، فيقال: (الإنسان ذو بياض) أو (أبيض) وحينئذٍ يكون محمولاً بالمواطاة.

هكذا قال الشّيخ، وفسّر المحمول بالحقيقة بما يعطي موضوعه اسمه وحدّه، وربّما يفسّر حمل المواطاة بحمل هو هو، والاشتقاق بحمل ذو هو»(1)، انتهى كلام الشّارح، وبهذا يظهر ما في بعض التّفسيرات. وقد أشار السّبزواري(قدس سره) إلى هذه الأقسام بقوله:

الحَمْلُ بالذّاتيّ الأَوَّلِي وُصِفْ *** مفهومُهُ اتّحادُ مَفْهُوْمٍ عُرِفْ

فكلّ مفهومٍ وإن ليس وُجِدْ *** فنفسه بالأوّلي ما فُقِ-دْ

وبالصِّناعي الشّائِعِ الحَمْل صفا *** وباتّحادٍ في الوجود عُرِّفا

وبالمواطاة والاشتقاق فُهْ *** وذلك الهو هو وذا ذو هو سِمُهْ(2)

ص: 88


1- شرح المطالع: 50.
2- شرح المنظومة 2: 390.

عدم صحّة سلب اللّفظ - بمعناه المعلومالمرتكز في الذّهن إجمالاً كذلك - عن معنىً تكون علامةَ كونه حقيقةً فيه، كما أنّ صحّة سلبه عنه علامةُ كونه مجازاً في الجملة.

والتّفصيلُ: أنّ عدم صحّة السّلب عنه، وصحّةَ الحمل عليه بالحمل الأوّلي الذّاتيّ - الّذي كان ملاكه الاتحاد مفهوماً - علامةُ كونه نفس المعنى، و

___________________

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ {عدم صحّة سلب اللّفظ بمعناه المعلوم} لدى المستعلم {المرتكز في الذّهن} حال كون ذلك المعنى معلوماً {إجمالاً} كما ذكر في التّبادر {كذلك} هنا إذا لم يصحّ سلب اللّفظ {عن معنى} من المعاني {تكون علامة كونه حقيقة فيه} مثلاً إذا لم يصحّ سلب لفظ (الإنسان) عن الرّجل البليد كان ذلك علامة، لكون الإنسان حقيقة في البليد {كما أنّ صحّة سلبه} أي: سلب اللّفظ {عنه} أي: عن معنىً تكون {علامة كونه} أي: كون اللّفظ {مجازاً} في ذلك المعنى، مثلاً: إذا صحّ سلب الحمار عن الرّجل البليد كان ذلك علامة، لكون الحمار مجازاً في البليد.

ثمّ لا يخفى أنّ كونهما علامة {في الجملة} فيمكن أن يكون اللّفظ مجازاً بالنّظر إلى حمل وحقيقة بالنظر إلى آخر - كما سيجيء - .

وهكذا يمكن أن يكون المجاز في الإسناد في الكلمة كما ستعرف، هذا إجمال الكلام في هذه العلامة.

{والتّفصيل} لقولنا في الجملة هو {أنّ عدم صحّه السّلب عنه} أي: عن معنى {و} كذلك {صحّة الحمل عليه} لكن {بالحمل الأوّليّ الذّاتي} وهو {الّذيكان ملاكه الاتحاد} ماهيّة و{مفهوماً} كما تقدّم {علامة كونه} أي: كون المستعمل فيه {نفس المعنى} الحقيقي، وذلك بدليل الإِنِّ، إذ الحمل الأوّلي يكشف عن الاتّحاد المفهومي، والاتحاد المفهومي لا يكون إلّا بالوضع، والوضع يفيد الحقيقة، {و} هكذا عدم صحّة سلب اللّفظ عن المعنى المستعمل فيه.

ص: 89

بالحمل الشّائع الصِّناعيّ - الّذي ملاكه الاتحاد وجوداً بنحوٍ من أنحاء الاتحاد - علامةُ كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقيّة.

كما أنّ صحّة سلبه كذلك، علامة أنّه ليس منهما،

___________________

وبعبارةٍ أُخرى صحّة الحمل عليه {بالحمل الشّائع الصِّناعي} - وهو {الّذي} كان {ملاكه الاتحاد} خارجاً و{وجوداً بنحو من أنحاء الاتحاد -} كالاتّحاد الصّدوري، ك (زيد ضارب) أو الحلولي، ك (هذا أبيض) أو القيامي، ك (زيد قائم)، فإنّ هذا الحمل {علامة كونه} أي: كون المستعمل فيه {من مصاديقه} أي: من مصاديق المعنى {وأفراده الحقيقيّة} في ما إذا كان المحمول والمحمول عليه كليّاً وفرداً، لا في ما إذا كانا كليّين متساويّين أو غيرهما، كما لا يخفى - على ما ذكره المصنّف في تعليقه على هذا الحمل - .

وبهذا التّفصيل بين الحملين سقط ما أورده بعض على هذه العلامة، بأنّه كيف يكون صحّة الحمل علامة للحقيقة، مع أنّا نرى صحّة الحمل في الجزء اللّازم نحو (زيد ناطق) أو (ضاحك)، مع أنّهما ليسا بحقيقة كما هو ظاهر؟ و{كما أنّ صحّة} الحمل بالحمل الأوّلي الذّاتيّ علامة لكون المستعملفيه نفس المعنى، وبالحمل الشّائع الصِّناعي علامة كونه من مصاديقه، فصحّة {سلبه} أي: سلب اللّفظ بالمعنى المرتكز عن معنى {كذلك} سلباً أوّليّاً ذاتيّاً، أو شائعاً صِناعيّاً {علامة أنّه} أي: المستعمل فيه {ليس منهما} أي: ليس من مصاديق المعنى الحقيقي ولا نفسه.

والحاصل: أنّ الأقسام أربعة: [1] حمل الذّاتي، [2] وسلبه، [3] وحمل الشّائع، [4] وسلبه.

ثمّ إنّ هنا كلاماً لا بدّ من التّنبيه عليه، وهو: أنّ من أقسام المجاز ما يبتنى على التّشبيه وهو المسمّى بالاستعارة الّتي كان أصلها التّشبيه، فذكر المشبّه به وأُريد به

ص: 90

___________________

المشبّه، كقوله:

لَدَى أَسَدٍ شاكِي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ *** له لِبَدٌ أظفارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ

فإنّ لفظ (أسد) استعارة للرّجل الشّجاع، إذ الشّاعر شبّه في نفسه الرّجل الشُّجاع بالأسد للمشابهة في الشَّجَاعة، ثمّ ذكر (الأسد) - وهو المشبّه به - وأراد المشبّه، أي: الرَّجُلَ الشُّجَاعَ.

وعلماء البيان - كما في المطوّل - : «قد اختلفوا في أنّ الاستعارة مجاز لغويّ أم عقلي؟

فذهب الجمهور إلى أنّه مجاز لغوي بمعنى: أنها لفظ استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة.

والدّليل على ذلك أنّ الاستعارة ك (أسد) - مثلاً - في قولنا: (رأيت أسداً يرمي) موضوعة للمشبّه به، - أعني: السّبع المخصوص - ، لا للمشبّه، - أعني: الرّجل الشّجاع - ولا للأعمّ من المشبّه به والمشبّه كالشّجاع - مثلاً - ليكون إطلاقه علىكلّ منهما حقيقة كإطلاق الحيوان عليهما، وهذا معلوم قطعاً بالنّقل عن أئمّة اللّغة، فحينئذٍ يكون استعماله في المشبّه استعمالاً في غير ما وضع له مع قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له - أعني: المشبّه به - فيكون مجازاً لغويّاً»(1)،

إلى أن قال:

«وقيل: إنّها مجاز عقليّ بمعنى أنّ التّصرّف في أمر عقليّ لا لغوي؛ لأنّها لمّا لم تطلق على المشبّه إلّا بعد ادّعاء دخوله في جنس المشبّه به بأن جعل الرّجل الشُّجاع فرداً من أفراد (الأسد) كان استعمالها في ما وضعت له»(2). إلى أن قال(3):

ص: 91


1- المطوّل: 360.
2- المطوّل: 361.
3- وهذا الكلام وإن ذكره التّفتازاني لردّ القول الثّاني، لكنّه لمّا كان مساعداً لفهم القول الثّاني ذكرناه أيضاً.

وإن لم نقل بأنّ إطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة، بل من باب الحقيقة، وأنّ التّصرّف فيه في أمر عقليّ - كما صار إليه السّكّاكيّ(1)-

.

___________________

«وتحقيق ذلك أنّ دخوله في جنس المشبّه به مبنيّ على أنّه جعل أفراد الأسد بطريق التّأويل قسمين:

أحدهما: المتعارف وهو الّذي له غاية الجرأة ونهاية القوّة في مثل تلك الجثّة وهاتيك الصّورة والهيئة وتلك الأنياب والمخالب إلى غير ذلك.

والثّاني: غير المتعارف وهو الّذي له تلك الجرأة وتلك القوّة، لكن لا في تلك الجثّة والهيكل المخصوص»(2)،

انتهى.

ثمّ بيّن التّفتازاني في موضع آخر القول الثّاني، وهو الّذي ذهب إليه السّكّاكيّفي باب الاستعارة بقوله: «كما تقول: (في الحمّام أسد) وأنت تريد به الرّجل الشُّجَاع، مدّعياً أنّه من جنس الأُسود، فتثبت له ما يخصّ المشبّه به وهو اسم جنسه»(3)،

انتهى.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ صحّة سلب اللّفظ عن معنىً علامة أنّه ليس نفس المعنى ولا من مصاديقه {وإن لم نقل} بمجرّد هذا السّلب {بأنّ إطلاقه} أي: إطلاق هذا اللّفظ {عليه} أي: على هذا المعنى {من باب المجاز في الكلمة} كما ذهب إليه الجمهور {بل} قلنا: إنّه {من باب الحقيقة} الادّعائيّة {وأنّ التّصرّف فيه} أي: في هذا الإطلاق والحمل {في أمر عقليّ} وهو ادّعاء أنّ هذا المعنى الّذي لم يوضع اللّفظ له من أفراد المعنى الحقيقي {كما صار إليه السّكّاكيّ}.

والحاصل: أنّ سلب شيء عن شيء يدلّ على أنّه ليس بموضوع له، وإن أمكن

ص: 92


1- مفتاح العلوم: 156.
2- المطوّل: 361.
3- المطوّل: 389.

واستعلام حال اللّفظ وأنّه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما، ليس على وجهٍ دائر؛ لما عرفت في التّبادر من التّغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتّفصيل، أو الإضافة إلى المستعلم والعالم،

___________________

القول بأنّ استعماله فيه حقيقة، مثلاً سلب (الأسد) عن (زيد) بقولنا: (زيد ليس بأسد)، يشعر بأنّ (زيداً) ليس نفس معنى (الأسد) ولا من مصاديقه، وإن قلنا بأنّه - لو استعمل فيه - ليس بمجاز في الكلمة، بل حقيقة ادّعائيّة - كما سبق توضيحه - .{و} قد يقال بأنّ هذه العلامة أيضاً دوريّة، إذ {استعلام حال اللّفظ وأنّه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى} الّذي استعمل فيه {بهما} أي: بصحّة السّلب وعدم صحّة السّلب، مستلزم للدّور الصّريح.

بيانه: أنّ معرفة المعنى الحقيقي متوقّف على عدم صحّة السّلب، وعدم صحّة السّلب متوقّف على معرفة المعنى الحقيقي، أمّا الأوّل: فلأنّ معنى العلامة ما توقّف معرفة الشّيء عليها، وأمّا الثّاني: فلأنّه لو لم يعرف المعنى الحقيقي خارجاً لم يعقل الحكم بعدم صحّة السّلب، مثلاً: لو لم نعرف أنّ معنى (الأسد) هو الحَيَوان الكذائي لم نتمكّن من الحكم بعدم صحّة سلب (الأسد) عنه.

وهذا الإشكال بعينه وارد في هذه العلامة بالنّسبة إلى المجاز.

والجواب أنّه {ليس} الاستعلام بهذه العلامة {على وجه دائر} وذلك {لما عرفت في} جواب الدّور الوارد على {التّبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه} إذ العلم التّفصيلي بكون المعنى موضوعاً له متوقّف على عدم صحّة السّلب، وعدم صحّة السّلب متوقّف على العلم الإجمالي الارتكازي فيكون الفرق بين العلمين {بالإجمال والتّفصيل} كما تقدّم تقريره.

{أو} نقول في الجواب: العلم بالمعنى الحقيقي - بالنّسبة و{الإضافة إلى المستعلم} الجاهل - متوقّف على عدم صحّة السّلب، {و} صحّة الحمل عند {العالم}

ص: 93

فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّه قد ذكُر(1)

الاطّراد وعدُمه علامةً للحقيقة والمجاز أيضاً. و

___________________

باللّسان، كما تقدّم بيانه في الجواب عن الدّور الّذي أوردوه على علامية التّبادر {فتأمّل جيّداً} حتّى تكون على بصيرة.

تنبيه: قد اشتهر في ألسنة أساتيذنا أنّ كلمة «فتأمّل» مجرّداً إشارة إلى إيراد في المطلب، وأمّا مقروناً بنحو «جيّداً» فليس إشارة إلى شيء.

الاطّراد

{ثمّ} إنّ العلامة الرّابعة من علامات الحقيقة والمجاز الاطّراد وعدمه و{إنّه قد ذكر الاطّراد} علامةً للحقيقة {وعدمه} علامة للمجاز، والمراد بالاطّراد شيوع استعمال اللّفظ في المعنى بحسب المقامات، بحيث يصحّ استعماله فيه في كلّ مقام وحال، مثلاً: صحّة استعمال (ضارب) في كلّ من أوجد الضّرب كاشف عن كون (ضارب) موضوعاً لمن صدر منه الضّرب، وكذا صحّة استعمال لفظة (أسد) في كلّ حيوان كذائي كاشف عن كونه حقيقةً فيه، وذلك بخلاف المجاز، فإنّه لا يطّرد استعمال الأسد في كلّ شبيه بالأسد، فاستعماله في بعض من يشبهه - كالشُّجَاع - مجاز.

لكن قد أشكل في كونهما {علامة للحقيقة والمجاز أيضاً} وذلك لوجود الاطّراد في بعض المجازات، كما في استعمال (الأسد) في الرّجل الشُّجاع، فإنّه يطّرد استعماله فيه.

{و} الجواب: إنّ الاطّراد على قسمين:

الأوّل: الاطّراد بحسب نوع العلاقة المصحّحة للاستعمال، بحيث كلّما تحقّق هذه العلاقة بين اللّفظ والمعنى صحّ استعماله فيه، وذلك نحو استعمال العالم في

ص: 94


1- الفصول الغرويّة: 38.

لعلّه بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات، حيث لا يطّرد صحّة استعمال اللّفظ معها، وإلّا فبملاحظة خصوص ما يصحّ معه الاستعمال فالمجاز مطّرد كالحقيقة.وزيادة قيد: «من غير تأويل» أو: «على وجه الحقيقة» وإن كان موجباً لاختصاص الاطّراد كذلك

___________________

من تلبّس بالمبدأ، فإنّ استعمال العالم في الأفراد بعلاقة تلبّسهم بالمبدأ، ومعلوم أنّه كلّما تلبّس أحد بالعلم صحّ استعمال العالم فيه.

الثّاني: الاطّراد بحسب صنف العلاقة المصحّحة للاستعمال، بحيث إنّه لو تحقّق النّوع بدون الصّنف لم يصحّ الاستعمال، وذلك نحو استعمال (الأسد) في المشابه له، فالشّباهة نوع العلاقة، و(الشَّجَاعة) و(البَخَر) و(الزَّأْرُ) أصنافها، ومن المعلوم عدم صحّة الاستعمال بمجرّد نوع العلاقة ووجود الشّباهة المتحقّقة في (البخر) - مثلاً - . نعم، يصحّ الاستعمال حين وجود الصّنف الخاصّ من العلاقة - أعني: الشَّجَاعة - فكون الاطّراد علامة للحقيقة {لعلّه بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات} فكلّما صحّ الاستعمال بتحقّق النّوع كان حقيقة، و{حيث لا يطّرد صحّة استعمال اللّفظ معها} أي: مع العلاقة - أعني: نوعها - كان مجازاً كما تبيّن في القسم الأوّل {وإلّا فبملاحظة} صنف العلاقة، أي: {خصوص ما يصحّ معه الاستعمال} كالشّجاعة {فالمجاز مطّرد كالحقيقة} كما ظهر من القسم الثّاني، وحينئذٍ لا يكون الاطّراد علامةً للحقيقة.

ثمّ لا يخفى أنّ معرفة صنف العلاقة ونوعها مربوط بعلم البيان، إذ العلائق المذكور فيه كلّها أنواع، هذا ما يمكن أن يدفع به الإيراد على كون الاطّراد علامة.

{و} قد تخلّص بعض عنه ب {زيادة قيد} فقال: الاطّراد {«من غير تأويل»، أو} الاطّراد {«على وجه الحقيقة»} علامة الحقيقة.{و} هذا التّقييد و{إن كان موجباً لاختصاص الاطّراد كذلك} أي: الاطّراد المقيّد

ص: 95

بالحقيقة، إلّا أنّه حينئذٍ لا يكون علامةً لها إلّا على وجهٍ دائرٍ.

ولا يتأتّى التّفصّي عن الدَّوْر بما ذكر في التّبادر هنا؛ ضرورةَ أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجالٌ لاستعلام حال الاستعمال بالاطّراد أو بغيره.

___________________

بأحد القيدين {بالحقيقة} إذ ليس للمجاز اطّراد على وجه الحقيقة، فإنّ اطّراده على وجه التّأويل والمجاز {إلّا أنّه} أي: الاطّراد المقيّد {حينئذٍ} أي: حين التّقييد {لا يكون علامة لها} أي: للحقيقة {إلّا على وجهٍ دائرٍ} بيانه: أنّ معرفة الحقيقة موقوفة على الاطّراد على وجه الحقيقة أو بلا تأويل، والاطّراد على وجه الحقيقة أو بلا تأويل موقوف على معرفة الحقيقة، أمّا توقّف معرفة الحقيقة على الاطّراد، فلكونه علامة لها، وأمّا توقّف الاطّراد على معرفة الحقيقة، فلأنّه لا يعلم كون الاطّراد على وجه الحقيقة إلّا بعد معرفة الحقيقة وهذا دور مصرّح.

{و} إن قلت: يمكن الجواب عن هذا الدّور بما تقدّم في الجواب عن الدّور الوارد في التّبادر وصحّة السّلب، وذلك إمّا بنحو الإجمال والتّفصيل، وإمّا بنحو العالم والمستعلم.

قلت: {لا يتأتّى التّفصّي عن الدّور بما ذكر في التّبادر هنا} في الاطّراد؛ لأنّه لا بدّ في العلامة أن تكون معلومةً للمستعلم تفصيلاً حتّى ينتقل منها إلى المعنى الحقيقي، والمفروض في المقام هو كون أحد جُزْأَيِ العلامة هو الحقيقة فلا بدّ من معرفة الحقيقة تفصيلاً، وحينئذٍ تسقط فائدة العلامة {ضرورة أنّه مع العلم بكونالاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطّراد أو بغيره}.

وبعبارة أوضح مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة يكون المعنى الحقيقي معلوماً فلا مجهول حتّى يراد تحصيله بالاطّراد، أو غيره من سائر العلامات.

ص: 96

الثّامن: أنّه للّفظ أحوال خمسة، وهي: التّجوّز، والاشتراك، والتّخصيص، والنّقل، والإضمار.

___________________

[الأمر الثّامن: أحوال اللفظ]

المقدّمة، أحوال اللفظ

الأمر {الثّامن} في تعارض الأحوال، اعلم {أنّه} قد ذكر {للّفظ أحوال خمسة} بل أكثر، إلى العشرة {وهي} عبارة عن أُمور طارئة على اللّفظ مقابل للمعنى الحقيقي، والمراد بالمعنى الحقيقي هنا - كما ذكره بعض الأفاضل - هو الّذي وضع له اللّفظ مع العلم به وكان ظاهراً فيه فعلاً أو تعليقاً، وسيأتي شرحه:

الأوّل: {التّجوّز}، وهو استعمال اللّفظ في خلاف الموضوع له لعلاقة طبيعيّة أو وضعيّة، كاستعمال (الرّقبة) في الإنسان، و(الأسد) في الرّجل الشُّجَاع.

{و} الثّاني: {الاشتراك}، وهو تعدّد وضع اللّفظ ك (العين) المشترك بين الباصرة، والنّابعة، وغيرهما.

{و} الثّالث: {التّخصيص}، وهو قصر حكم العام على بعض أفراده بإخراج بعض الأفراد نحو (أكرِمِ العُلَمَاءَ إلّا الفُسَّاقَ) فهذا الاستثناء قصر حكم العام على العدول وإخراج الفسّاق.

{و} الرّابع: {النّقل}، وهو غلبة استعمال اللّفظ الموضوع لمعنىً في معنى آخر بحيث هُجِرَ المعنى الأوّل، ك (الصّلاة) الّتي كان معناها الدّعاء، ثمّ غلب استعمالها في الأركان المخصوصة بحيث صارت حقيقة فيها وهُجِرَ معناهاالأوّل.

{و} الخامس: {الإضمار}، وهو تقدير شيء يتوقّف الكلام عليه نحو:

دَعَانِي إليها القَلْبُ، إنّي لأمرِهِ *** سَمِيْعٌ، فما أدرِيْ أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا

فالتّقدير: (أم غيّ).

ولا يخفى أنّ التّخصيص والإضمار وإن كانا قسمين من المجاز لكنّه لمّا كان

ص: 97

___________________

لهما مزيد اختصاص وامتياز أفردوهما من أقسام المجاز وجعلوهما قسيماً له. وأمّا الخمسة البواقي:

فالأوّل: النَّسْخُ، وهو التّقيّد في الزّمان ك (الصَّدَقة بين يدي النَّجْوَى) الّتي كانت واجبة ثمّ نسخ هذا الحكم بقوله - تعالى - : {ءَأَشۡفَقۡتُمۡ}(1).

الثّاني: التّقييد، وهو قصر حكم المطلق على بعض أفراده بإخراج البعض منه نحو {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(2)، وقوله(علیه السلام): «لا تَبِعْ ما ليس عندك»(3)، فإنّ البيع في الآية قُيِّدَ بكونه عنده، وخرج عن حكم الحِلِّية ما ليس عنده.

الثّالث: الكِناية، وهي ذكر اللّازم وإرادة الملزوم، نحو (جَبَانُ الكَلْبِ) لكثير الضَّيْف، فإنّ لازم كثرة الضَّيْفِ جُبْنُ الكَلْبِ.

الرّابع: الاستخدام، وهو ذكر لفظ مشترك بين معنيين يراد به أحدهما ثمّ يعادعليه ضمير أو إشارة بمعناه الآخر كقوله:

إذا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ

رعيناه، وإن كانوا غِضابَا(4)

أراد ب (السّماء) المطر، وبضميره في (رعيناه) النّبات.

الخامس: التّضمين، وهو تضمين فعلٍ معنى فعلٍ آخَرَ، كقوله - تعالى - : {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}(5) فإنّه ضمّن «يخالفون» معنى يعرضون، ولهذا عُدِّيَ بكلمة «عن». هذه هي الأحوال المعروفة ذِكْرُهَا، وإلّا فالتّورية، و الإيهام، والتّجريد،

ص: 98


1- سورة المجادلة، الآية: 13.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- وسائل الشّيعة 17: 357، عن الصّادق(علیه السلام): «نهى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ... وعن بيع ما ليس عندك».
4- هو لجرير بن عطيّة بن الخطفي التّميمي. راجع المطوّل: 426.
5- سورة النّور، الآية: 63.

لا يكاد يصار إلى أحدها - في ما إذا دار الأمر بينه وبين المعنى الحقيقي - إلّا بقرينةٍ صارفةٍ عنه إليه.

وأمّا إذا دار الأمر بينها، فالأصوليّون وإن ذكروا(1)

لترجيح بعضها على بعضٍ وجوهاً،

___________________

ونحوها من هذا القبيل أيضاً.

ولا يخفى أنّه {لا يكاد يصار إلى أحدها في ما إذا دار الأمر بينه} أي: بين أحد هذه الأحوال المذكورة {وبين المعنى الحقيقي} كما لو تردّد قول القائل: (إفْعَلْ) بين كونه المعنى الحقيقي - أعني: الوجوب - أو المجازي - أي: الاستحباب - فإنّ هذا يحمل على الوجوب قطعاً، وذلك لاحتياج النَّدْبِ إلى القرينة، وكذا باقي الأحوال المذكورة، فإنّ كلّها خلاف الظّاهر، وقد تقدّم المراد بالحقيقي.

وأمّا قيوده فب «الوضع» خرج المجاز، وبقيد «العلم» خرج النّقل والاشتراك،لعدم العلم بالوضع فيهما، إذ لو عُلِمَ الوضع كان الأمر دائراً بين المعنيين، وبقيد «الظّهور» خرج ما ليس بظاهرٍ، إذا لم يكن موجباً للتّجوّز، وبقولنا: «تعليقاً» يدخل ما كان الظّهور التّعليقيّ حجّة عند العقلاء، كما في ما لو احتمل سقوط قرينة متّصلة فيه، فتأمّل. ومن أراد التّفصيل فَلْيَرْجِعْ إلى حاشية المشكينيّ(قدس سره)(2).

فتحصّل أنّه لا يُرْفَعُ اليد عن المعنى الحقيقي {إلّا بقرينةٍ صارفةٍ عنه إليه} أي: صارفة عن المعنى الحقيقي إلى أحد الخمسة، هذا في ما لو دار بين أحدها والمعنى الحقيقي {وأمّا إذا دار الأمر بينهما} كما لو دار الأمر في قوله - تعالى - : {وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ}(3) بين تقدير كلمة (أهل) المضاف، وبين المجازيّة {فالأصوليّون وإن ذكروا لترجيح بعضها} أي: بعض تلك الأحوال {على بعضٍ وجوهاً} اعتباريّةً

ص: 99


1- الفصول الغرويّة: 40.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 138.
3- سورة يوسف، الآية: 82.

إلّا أنّها استحسانيّةٌ، لا اعتبارَ بها إلّا إذا كانت موجبةً لظهور اللّفظ في المعنى؛ لعدم مساعدة دليلٍ على اعتبارها بدون ذلك، كما لا يخفى.

التّاسع: أنّه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشّرعيّة وعدمه على أقوالٍ.

___________________

- كما يجدها الطّالب في القوانين(1) وغيره - {إلّا أنّها} كلّها {استحسانيّة لا اعتبار بها} إذ غايتها إفادتها الظّنّ، وهو ليس بحجّة لا شرعاً ولا عقلاً، وقياسه بأصالة الحقيقة مع الفارق، والاستدلال لهبما ورد في الشّرع مما دل على حليّة ما يباع في أسواق المسلمين ونحوه - كما ترى - .

والحاصل: أنّ الوجوه المذكورة للتّرجيح لا اعتبارَ بها {إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللّفظ في المعنى} الرّاجح، بحيث يكون ظاهراً فيه عند العرف وإلّا فلا {لعدم مساعدة دليلٍ على اعتبارها} أي: اعتبار تلك الوجوه {بدون ذلك} الّذي ذكرناه من إيجادها الظّهور {كما لا يخفى}.

[الأمر التّاسع: الحقيقة الشرعية]

المقدّمة، الحقيقة الشرعيّة

الأمر {التّاسع} في ثبوت الحقيقة الشّرعيّة وعدمه، اعلم أنّ الموضوعات ثلاثة أقسام:

الأوّل: الموضوع الخارجي المحسوس، كالماء، والتّراب، ونحوهما.

الثّاني: الموضوع العرفيّ الانتزاعيّ، كالبيع ونحوه.

الثّالث: المخترعات الشّرعيّة، وهي الأُمور المتعلّقة بالتّكاليف، كالطّهارَةِ، والصَّوْمِ، والصَّلاَة، والثّالث هو موضوع الكلام في هذا المقام.

ثمّ {إنّه} قد {اختلفوا في ثبوت} هذا القسم، أي: {الحقيقة الشّرعيّة وعدمه على أقوالٍ}: منها الإثبات مطلقاً، ومنها النّفي مطلقاً، ومنها التّفصيل بين العبادات

ص: 100


1- قوانين الأصول 1: 32.

وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقالٍ، وهو: أنّ الوضع التّعييني كما يحصل بالتّصريح بإنشائه، كذلك يحصل باستعمال اللّفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له، بأن يقصد الحكاية عنه والدّلالة عليه بنفسه لا بالقرينة، وإن كان لا بدّ حينئذٍ

___________________

والمعاملات بالثّبوت في الأُولى والنّفي في الثّانية، ومنها الإثبات في زمان الصّادقين‘ والنّفي زمان النّبيّ(صلی الله علیه و آله).

{وقبل الخوض في تحقيق الحال} وبيان الأقوال {لا بأس بتمهيد مقال} يكون مقدّمةً للمذهب المختار {وهو أنّ الوضع} على قسمين:

الأوّل: الوضع التّعييني، وهو تعيين اللّفظ للدّلالة على المعنى بنفسه.

الثّاني: الوضع التّعيّني وهو اختصاص اللّفظ بالمعنى بسبب عُلْقَةٍ حاصلة بينهما، ناشئة من كثرة استعمال اللّفظ فيه.

والقسم الأوّل - أعني: الوضع {التّعييني - كما يحصُلُ بالتّصريح بإنشائه} كأن يعلن بوضع اللّفظ الفلاني للمعنى الفلاني بكتابة أو قول أو نحوهما {كذلك يحصُلُ} الوضع التّعييني {باستعمال اللّفظ في غير ما وضع له} أوّلاً، وذلك مثل أن يقول الوالد - حين سَمَاعِهِ بولادة ولدٍ له - : (أعطني المبارك) ويَقْصِدُ بهذا الاستعمال وضع لفظ المبارك لابنه.

والحاصل: أنّ الوضع ثلاثة أقسام: الأوّل التّعيّني، الثّاني التّعييني الابتدائي، الثّالث التّعييني الاستعمالي، وذلك {كما إذا وضع له بأن يقصِدَ} الواضع {الحكاية عنه} أي: عن الوضع {والدّلالة عليه بنفسه} أي: بنفس هذا الاستعمال {لا بالقرينة، وإن كان لا بدّ حينئذٍ} كلمة «إن» وَصْلِيّة، أي: وإن لزم حين ما أراد الواضع الوضع بمجرّد الاستعمال أن ينصب قرينة مفهمة للوضع.

إن قلت: إذا احتاج هذا القسم من الاستعمال إلى القرينة فما الفرق بينه وبين المجاز؟

ص: 101

من نصب قرينةٍ، إلّا أنّه للدّلالة على ذلك،لا على إرادة المعنى كما في المجاز، فافهم.

وكونُ استعمال اللّفظ فيه كذلك [استعمالاً] في غير ما وُضِعَ له - بلا مراعاة ما اعتُبِرَ في المجاز فلا يكون بحقيقة ولا مجاز - غيرُ ضائرٍ، بعد ما كان ممّا يقبله الطّبع ولا يستنكره. وقد عرفتَ سابقاً أنّه في الاستعمالات الشّائعة في المحاورات ما ليس بحقيقةٍ ولا مجازٍ.

___________________

قلت: الواضع وإن كان لا بدّ له {من نصب قرينةٍ إلّا أنّه} أي: نصب القرينة إنّما هو {للدّلالة على ذلك} القصد، وأنّه أراد الوضع بالاستعمال {لا} أنّ القرينة {على إرادة المعنى كما في المجاز}.

ومنه تبيّن الفرق بين القرينتين، لكن يمكن أن يقال: إنّ القرينة الدّالّة على الوضع دالّة على إرادة المعنى أيضاً، ويحتمل أن يكون قولُهُ: {فافهم} إشارةً إلى ذلك.

إن قلت: إنّ الاستعمالَ في غير ما وُضِعَ له بقصد الوضع غيرُ صحيحٍ، إذ هذا الاستعمال ليس بحقيقةٍ؛ لعدم سبقه بالوضع، ولا مجازٍ، لعدم القرينة الصّارفة عن المعنى الحقيقي، أو لعدم لحاظ العلاقة المعتبرة {و} من المعلوم {كون استعمال اللّفظ فيه} أي: في المعنى المراد {كذلك} أي: بقصد الوضع {في غير ما وضع له} اللّفظ أوّلاً {بلا مراعاة ما اعتُبِرَ في المجاز} من العلاقة والقرينة.

{فلا يكون بحقيقةٍ ولا مجازٍ} باطلاً فإن الاستعمال لا بدّ وأن يكون مسبوقاً بالوضع، وحينئذٍ فإمّا أن يستعمل اللّفظ في المعنى الموضوع له فيكون حقيقة، أم لا فيكون مجازاً.

قلت: الاستعمال كذلك {غيرُ ضائرٍ بعد ما كان ممّايقبله الطّبع ولا يستنكره} وما ذُكِرَ في وجه البُطْلانِ غيرُ مستقيمٍ، إذ لم يقم دليلٌ على الحَصْرِ لا عقلاً ولا نقلاً، {وقد عرفت سابقاً} في الأمر الثّالث والرّابع {أنّه في الاستعمالات الشّائعة في المحاورات} العرفيّة {ما ليس بحقيقةٍ ولا مجازٍ} كما إذا أطلق اللّفظ وأُريد به

ص: 102

إذا عرفت هذا، فدعوى الوضع التّعيينيّ في الألفاظ المتداولة في لسان الشّارع هكذا قريبةٌ جدّاً، ومُدَّعِي القطعِ به غير مُجَازِفٍ قطعاً.

ويدلّ عليه تبادر المعاني الشّرعيّة منها في محاوراته.

ويؤيّد ذلك:

___________________

نوعه، أو مثله، أو صنفه، أو شخصه.

{إذا عرفت هذا} الّذي ذكرناه من الأقسام الثّلاثة للوضع وإمكان القسم الثّالث وهو التّعييني الاستعمالي {فدعوى الوضع التّعييني في} جميع {الألفاظ المتداولة في لسان الشّارع هكذا} أي: بنحو الوضع التّعيينيّ الاستعماليّ بنصب القرينة على الوضع، كما لو قال: «صَلُّوْا كما رَأَيْتُمُوْنِي أُصَلِّي»(1)

ثمّ فَعَلَ(صلی الله علیه و آله) الأركان المخصوصة، أو قال: «خُذُوْا عنّي مَنَاسِكَكُمْ»(2)

ثمّ فَعَلَ الأفعال المخصوصة {قريبةٌ جدّاً} وإن لم يقم عليه دليل.

{ومدّعي القطع به} أي: بهذا النّحو من الوضع التّعييني {غيرُمجازف قطعاً} فتأمّل.

{ويدلّ عليه} أي: على هذا النّحو من الوضع التّعييني {تبادر المعاني الشّرعيّة} المجعولة {منها} أي: من هذه الألفاظ {في محاوراته}(صلی الله علیه و آله)، حيث كان الأصحاب يعملون على طبق المخترعات عقيب أمره(صلی الله علیه و آله) إيّاهم بذلك الألفاظ كما يجده المتتبّع في أحواله(صلی الله علیه و آله).

لكن لا يخفى أنّ هذا الدّليل أعمّ من المدّعى، إذ الدّليل إنّما يدلّ على مطلق الوضع، لا الوضع التّعييني الاستعمالي، والّذي يمكن أن يقال: ادّعاء الوضع التّعيّني، إذ التّعييني الدّفعي مستبعد جدّاً، والتّعييني الاستعمالي - بأن كان قصد الشّارع حين الاستعمال الوضع - أبعد {و} إن كان ربّما {يؤيّد ذلك} الوضع

ص: 103


1- غوالي اللئالي 1: 198.
2- السرائر 1: 607.

أنّه ربّما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشّرعيّة واللّغويّة، فأيّ علاقة بين الصّلاة شرعاً والصّلاة بمعنى الدّعاء؟ ومجرّد اشتمال الصّلاة على الدّعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكلّ بينهما، كما لا يخفى.

___________________

الاستعمالي {أنّه ربّما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشّرعيّة} المخترعة {واللّغويّة}.

وجه التّأييد أنّ هذه الألفاظ لو لم تكن موضوعةً للمعاني الشّرعيّة كان استعمالها فيها مجازاً، والمجاز يحتاج إلى العلاقة، وحيث لا علاقة بين المعنى الشّرعيّ واللّغوي فلا مجاز، وإذ لم يكن مجازاً فلا بدّ وأن يكون حقيقةً - كما لا يخفى - .

{فأيّ علاقة بين الصّلاة شرعاً والصّلاة} لغةً، الّتيهي {بمعنى الدّعاء}؟

{و} إن قلت: العلاقة موجودة، إذ الدّعاء جزء الصّلاة المخترعة، فاستعمال الصّلاة في المركّب من الدّعاء وغيره من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ.

قلت: {مجرّد اشتمال الصّلاة على الدّعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكلّ بينهما} إذ شرط هذه العلاقة كون الجزء ممّا ينتفي الكلّ بانتفائه، والدّعاء في الصّلاة ليس بهذه المثابة.

ثمّ إنّه إنّما جَعَلَ هذا مُؤَيِّداً ولم يَجْعَلْهُ دليلاً، لما تقدّم مِن أنّ صحّة استعمال اللّفظ في غير الموضوع له إنّما يكون بالطّبع، لا بالعلائق الّتي ذكروها {كما لا يخفى}.

وقد يرد على هذا التّأييد بأنّ العلاقة موجودة؛ لأنّ الأركان المخصوصة تشبه الدّعاء في كون كلّ منهما غايةَ الخضوع، وعلى تقدير التّسليم فهذا يؤيّد أصل الوضع لا الاستعمالي منه.

ص: 104

هذا كلّه بناءً على كون معانيها مستحدثةً في شرعنا.

وأمّا بناءً على كونها ثابتة في الشّرائع السّابقة - كما هو قضيّة غير واحدٍ من الآيات؛ مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ}(1) الخ، وقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ}(2)، وقوله تعالى: {وَأَوۡصَنِيبِٱلصَّلَوةِ وَٱلزَّكَوةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا}(3) إلى غير ذلك -

___________________

ثمّ {هذا كلّه} أي: الّذي ذكرناه من كون الألفاظ موضوعةً بالوضع التّعييني الاستعمالي {بناءً على كون معانيها مستحدثة في شرعنا} كما هو المشهور {وأمّا بناءً على كونها ثابتة في الشّرائع السّابقة} القريبة - كما ذهب إليه الباقلاني - بحيث كانت هذه الألفاظ تستعمل في هذه المعاني {كما هو قضيّةُ غيرِ واحدٍ من الآيات} المستعملة فيها هذه الألفاظ {مثل قوله - تعالى - : {كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ} عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ} {الخ} فإنّ ظاهرها شرعيّة صوم قريب من كيفيّة صوم المسلمين في الشّرائع السّابقة، إذ لو لم تكن مناسبة بين الكيفيّتين لم يكن للتّشبيه وجه.

{و} كذا {قوله - تعالى - : {وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ}} فإنّ ظاهرها: كون الحجّ أمراً معهوداً بين النّاس قبل تشريع وجوبه، على أنّه يظهر ذلك من كيفيّة إرادة النّبيّ(صلی الله علیه و آله) الحجّ.

{و} كذا {قوله - تعالى - :} حكايةً عن عيسى - على نبيّنا وآله وعليه السّلام - {{وَأَوۡصَنِي بِٱلصَّلَوةِ وَٱلزَّكَوةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا}} فإنّ الصّلاة والزّكاة ظاهرتان في المعنى القريب من معناهما في الإسلام {إلى غير ذلك} من نحو هذه الألفاظ

ص: 105


1- سورة البقرة، الآية: 183.
2- سورة الحج، الآية: 27.
3- سورة مريم، الآية: 31.

فألفاظُها حقائق لغويّة لا شرعيّة.

واختلافُ الشّرائع فيها - جزءاً وشرطاً - لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهيّة؛ إذلعلّه كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحقّقات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى.

___________________

المستعملة في الكتاب الحكيم {فألفاظها حقائق لغويّة} جواب «أمّا» {لا} تكون حينئذٍ مستحدثات {شرعيّة}.

{و} إن قلت: على فرض كون أصل هذه المعاني في الشّرائع السّابقة موجودةً لا يثبت ما ذكرتم، إذ من البديهيّ اختلافُ الشّرائع في الكيفيّة.

قلت: {اختلاف الشّرائع فيها - جزءاً وشرطاً - لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهيّة، إذ لعلّه} أي: لعلّ الاختلاف بين الشّرائع {كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحقّقات} المندرجة تحت كلّيّ واحد، وذلك لا يوجب الاختلاف في الجامع والاسم ويكون ذلك {كاختلافها} أي: كاختلاف المصاديق {بحسب الحالات في شرعنا} غير الموجب لاختلاف الحقيقة والماهيّة {كما لا يخفى}.

وقد علّق ابن المصنّف(رحمة الله)على هذا الموضع ما لفظه: «لا يخفى عليك أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الآيات هو ثبوت هذه الحقائق والماهيّات في الشّرائع السّابقة، ولا دلالة فيها على أنّ هذه الألفاظ كانت موضوعةً بإزائها فيها، ضرورةَ احتمالِ أنّ الألفاظ الموضوعة لها فيها غيرها، وإنّما وقع التّعبير بها عنها في القرآن، لأجل تداول ذلك وشيوعه في هذه الشّريعة، إمّا على نحو الحقيقة، أو المجاز، وحينئذٍ فللتأمّل في ما استفاده - دام ظلّه - من هذه الآيات الشّريفة مجال واسع، كما لا يخفى»(1).

ص: 106


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 149.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه مع هذا الاحتمال لا مجال لدعوى الوثوق - فضلاً عن القطع - بكونها حقائق شرعيّة، ولا لتوهّم دلالة الوجوه الّتي ذكروها على ثبوتها، لو سلّم دلالتها على الثّبوت لولاه.

ومنه انقدح حال دعوى الوضع التّعيّنيّ معه.

ومع الغضّ عنه، فالإنصاف، أنّ مَنْعَ حُصُوْلِهِ - في زمان الشّارع في لسانه ولسان تابعيه - مكابرةٌ. نعم، حصوله في خصوص لسانه ممنوعٌ، فتأمّل.

___________________

{ثمّ لا يذهب عليك أنّه مع هذا الاحتمال} الّذي ذكره الباقلانيّ من ثبوت هذه الحقائق في الشّرائع السّابقة {لا مجال لدعوى الوثوق، فضلاً عن} دعوى {القطع بكونها} أي: بكون ألفاظ العبادات {حقائق شرعيّة، و} كذا {لا} مجال بعد هذا الاحتمال {لتوهّم دلالة الوجوه الّتي ذكروها} الأصوليّون {على ثبوتها} أي: ثبوت الحقائق الشّرعيّة، و{لو سلّم دلالتها على الثّبوت لولاه} أي: لولا هذا الاحتمال، إذ الكلام في كونها حَقَائِقَ أو مجازاتٍ متفرّع على كونها مخترعات من الشّارع، فلو ذهب الأصل ولو بالاحتمال ذهب الفرع.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من احتمال كون هذه المعاني قديمة، لا حادثة {انقدح حال دعوى الوضع التّعيّني معه} أي: مع هذا الاحتمال {و} أمّا {مع الغضّ عنه} أي: عن هذا الاحتمال {فالإنصافُ أنّ منعَ حصولِهِ} أي: حصول الوضع التّعيّني الغلبي {في زمان الشّارع في لسانه} (صلی الله علیه و آله){ولسان تابعيه مكابرةٌ} هذا عدول عمّا اختاره سابقاً، من كونها موضوعة بالوضع التّعييني الاستعمالي - كما لا يخفى - .

{نعم، حصوله في خصوص لسانه} (صلی الله علیه و آله) {ممنوع} لعدم الدّليل عليه، والاعتبارُ لا يساعده {فتأمّل} حتّى لا تقول: إنّ هذا موجب لثبوت الحقيقة المتشرّعة لا الحقيقة الشّرعيّة - كما هو محلّ الكلام - حيث إنّ النّزاع يدور مدار الثّمرة، والثّمرة تترتّب على مطلق الوضع في زمان الشّارع، فمغايرة العنوان ومصبّ أدلّة

ص: 107

وأمّا الثّمرة بين القولين، فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشّارع - بلا قرينة - على معانيها اللّغويّة مع عدم الثّبوت، وعلى معانيها الشّرعيّة على الثّبوت، في ما إذا علم تأخّر الاستعمال.

وفي ما إذا جهل التّاريخ ففيه إشكال. وأصالةُ تأخّر الاستعمال - مع معارضتها بأصالة تأخّر الوضع - لا دليل على اعتبارها تعبّداً إلّا على القول بالأَصْلِ المُثْبِتِ.

___________________

الطّرفين غير ضائرة.

{وأمّا الثّمرة بين القولين} أي: قول المثبتين مطلقاً بأيّ نحوٍ كان، والنّافين كذلك. {فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشّارع} حيّز الطّلب ونحوه {بلا قرينة على معانيها اللّغويّة مع عدم الثّبوت} للحقيقة الشّرعيّة {وعلى معانيها الشّرعيّة على الثّبوت} إجمالاً.

والتّفصيل أنّه إمّا أن يعلم تاريخ النّقل والاستعمال، وإمّا أن يُجْهَلان، وإمّا أنيُعْلَمَ الأوّل دون الثّاني، وإمّا بالعكس، فعلى الأوّل يحمل على المعنى اللّغويّ في ما إذا علم تأخّر الوضع، وعلى المعنى الشّرعي {في ما إذا علم تأخّر الاستعمال، و} أمّا {في ما إذا جُهِلَ التّاريخ} وهي الأقسام الثّلاثة الباقية {ففيه} أي: في حمل اللّفظ الواقع في كلام الشّارع على المعنى الشّرعي أو اللّغويّ {إشكالٌ، و} تأمّل، إذ لا أصل هنا يعيّن أحدهما:

أمّا {أصالة تأخّر الاستعمال} أي: الاستصحاب الشّرعيّ، فإنّه {مع معارضتها بأصالة تأخّر الوضع} غيرُ مفيدٍ؛ لأنّها على فرض عدم المعارضة إنّما تجري في ما إذا كان للمستصحب أثر شرعيّ بلا واسطةٍ، و{لا دليل على اعتبارها تعبّداً} في ما لو كان الأثر مترتّباً، لكن بالواسطة - كما في المقام - {إلّا على القول بالأصل المُثْبِتِ} ولا نقول به - كما تقرّر في محلّه - .

ص: 108

ولم يَثْبُتْ بناءٌ من العقلاء على التّأخّر مع الشّك. وأصالةُ عدم النّقل إنّما كانت معتبرةً في ما إذا شكّ في أصل النّقل، لا في تأخّره، فتأمّل.

العاشر: أنّه وقع الخلاف في أنّ ألفاظ العبادات أسامٍ لخصوص الصّحيحة، أو الأعمّ منها؟

___________________

{و} أمّا أصالة تأخّر الاستعمال عن الوضع عقلاً، فإنّه {لم يَثْبُتْ بِناءٌ من العقلاء على التّأخّر مع الشّكّ} في كونه مؤخّراً أم لا، مع أنّها أيضاً معارض بأصالة تأخّر الوضع.

{و} أمّا {أصالة عدم النّقل} المشهورة في ألسن القوم المثبتةللمعنى اللّغويّ فلا ارتباط لها بالمقام؛ لأنّها {إنّما كانت معتبرةً في ما إذا شُكَّ في أصل النّقل} من المعنى الأوّل إلى المعنى الثّاني {لا} في مثل ما نحن فيه، ممّا علم فيه النّقل لكن شُكَّ {في تأخّره} عن الاستعمال وتقدّمه عليه {فتأمّل} يمكن أن يكون إشارةً إلى عدم الثّمرة لهذا البحث أصلاً، لعدم وجود ألفاظٍ مشكوكةٍ تقدّمها وتأخّرها عن الوضع في لسان الشّارع(صلی الله علیه و آله)، ويمكن أن يكون إشارة إلى الفرق بين صُوَرِ جَهْلِ التّاريخ، ومن أراد التّفصيل، فليرجع إلى تقريرات الميرزا(رحمة الله) وشرح السّلطان(1).

وبهذا عُلِمَ أنّ اللّفظ المشكوك مُجْمَلٌ، فلا بدّ فيه من الرّجوع إلى الأصول.

[الأمر العاشر: الصحيح والأعم]

اشارة

المقدّمة، الصحيح والأعم

الأمر {العاشر} في الصّحيح والأعمّ، اعلم {أنّه وقع الخلاف في أنّ ألفاظ العبادات} المستعملة في لسان النّبيّ والأئمّة(علیهم السلام) هل هي {أسامٍ لخصوص} العِباداتِ {الصّحيحة، أو الأعمّ منها} ومن الفاسدة؟ حتّى لو قال(علیه السلام): «لا تَنْعَقِدُ جُمْعَتانِ في أقلّ مِنْ فَرْسَخٍ»(2) لم تَصِحّ الثّانية، ولو كانتِ الأُوْلَى باطلةً، لعدم

ص: 109


1- تقريرات المجدد الشيرازي 1: 234؛ أجود التقريرات 1: 33؛ الحاشية على كفاية الأصول 1: 125.
2- ورد في الكافي 3: 419، عن أبي جعفر(علیه السلام) أنه قال: «يكون بين الجماعتين ثلاثة أميال، يعني لا يكون جمعة إلّا في ما بينه وبين ثلاثة أميال، وليس تكون جُمعة إلّا بخطبة»، قال: «فإذا كان بين الجماعتين في الجمعة ثلاثة أميال فلا بأس بأن يجمع هؤلاء ويجمع هؤلاء».

وقبل الخوض في ذكر أدلّة القولين يُذْكَرُ أُمور:

منها: أنّه لا شبهة في تأتّي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشّرعيّة. وفيجَرَيانه على القول بالعدم إشكالٌ.

وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره: أنّ النِّزاع وقع - على هذا - في أنّ الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازاً في كلام الشّارع، هو استعمالها في خصوص الصّحيحة أو الأعمّ، بمعنى أن أيّهما قد اعتبرت

___________________

استجماعها للشّرائط {وقبل الخوض في ذكر أدلّة القولين} للصّحيحيّ والأعمّيّ {يُذْكَرُ أُمورٌ} خمسةٌ:

محلّ النّزاع

{منها} في بيان تحرير محلّ النّزاع فنقول: {إنّه لا شبهة في تأتّي الخلاف} بين الصّحيحيّ والأعمّيّ {على القول بثبوت الحقيقة الشّرعيّة} فالصّحيحي يقول بأنّ الشّارع وضع الألفاظ بإِزاء الصّحيح فقط، والأعمّي يقول بوضعها بإِزاء الأعمّ.

{و} أمّا {في جريانه} أي: جريان الخلاف {على القول} الثّاني وهو القول {بالعدم} للحقيقة الشّرعيّة {إشكال} إذ لا تصادم بين الصّحيحي والأعمّي حينئذٍ، إذ كلّ منهما يعترف بصحّة الاستعمال في كلّ واحد من الصّحيح والفاسد، بل يعترف بوقوعه أيضاً، من غير فرقٍ بين أن يكون النّافي للحقيقة الشّرعيّة قائلاً بعدم المخترعات الشّرعيّة أيضاً - كما هو مذهب الباقلاني - أو يكون قائلاً بالمخترعات الشّرعيّة.

{وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره} أي: تصوير النّزاع على القول بعدم الحقيقة الشّرعيّة {أنّ النّزاع وقع على هذا} القول {في أنّ الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازاً في كلام الشّارع} هل {هو استعمالها في خصوص الصّحيحة أو الأعمّ} منهاومن الفاسدة {بمعنى أن أيّهما} أي: الصّحيح والأعمّ {قد اعتبرت}

ص: 110

العلاقة بينه وبين المعاني اللّغويّة ابتداءً، وقد استعمل في المعنى الآخر بتبعه ومناسبته، كي ينزّل كلامِه عليه مع القرينة الصّارفة عن المعاني اللّغويّة، وعدم قرينة أُخرى معيّنةٍ للآخر.

وأنت خبير بأنّه لا يكاد يصحّ هذا إلّا إذا علم أنّ العلاقة إنّما اعتبرت كذلك، وأنّ بناء الشّارع في محاوراته استقرّ - عند عدم نصب قرينةٍ أُخرى - على إرادته، بحيث كان هذا

___________________

ابتداءً {العلاقة بينه وبين المعاني اللّغويّة} بحيث إنّ الشّارع إذا صار بصدد الاستعمال في غيره لاحظ العلاقة بين المجاز الأوّل وهذا المعنى، على نحو سبك المجاز من المجاز، مثلاً: لاحظ الشّارع العلاقة بين الأركان المخصوصة الصّحيحة ومطلق الدّعاء {ابتداءً وقد استعمل في المعنى الآخر} وهو الأعمّ من الصّحيح والفاسد {بتبعه} أي: بتبع المعنى الصحيح {ومناسبته} وذلك كما لو لاحظ المستعمل العلاقة بين (زيد) و(الأسد)، ثمّ استعمل (الأسد) في (عمرو) للشّباهة بين (زيد) و(عمرو).

والحاصِلُ: أنّ الشّارع لاحظ العلاقة بين أيّهما والمعنى اللّغوي {كي ينزّل كلامه عليه مع القرينة الصّارفة عن المعاني اللّغويّة وعدم قرينة أُخرى معيّنةٍ للآخر} الّذي لم يلاحظ الشّارع العلاقة بينه وبين المعنى اللّغوي ابتداءً.

هذا كلّه بيان تصوير النّزاع في مقام الثّبوت والإمكان {وأنت خبير بأنّه لا يكاد يصحّ هذا} التّصوير في الإثبات {إلّا إذاعلم أنّ العلاقة إنّما اعتبرت كذلك} بين الصّحيح والمعنى اللّغوي على الصّحيح، وبين الأعمّ والمعنى اللّغويّ، على الأعم. {و} علم أيضاً {أنّ بناء الشّارع في محاوراته} قد {استقرّ عند عدم نصب قرينة أُخرى} صارفة عن المعنى المجازي الأوّل {على إرادته} متعلّق ب «استقر». مثلاً: استقرّ بناء الشّارع على إرادة الأعم الّذي هو المجازي الأوّل عند عدم نصب قرينة على الصّحيح الّذي هو المجازي الثّاني {بحيث كان هذا} البناء المستقر

ص: 111

قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معيّنة أُخرى، وأنّى لهم بإثبات ذلك؟

وقد انقدح بما ذكرنا تصويرُ النِّزاع على ما نُسِبَ إلى الباقلاني(1)،

وذلك بأن يكون النّزاع في أنّ قضيّةَ القرينة المضبوطة - الّتي لا يتعدّى عنها إلّا بالأُخرى، الدّالّة على أجزاء المأمور به وشرائطه - هو تمام الأجزاء والشّرائط أو هما في الجملة، فلا تغفل.

___________________

منه(صلی الله علیه و آله) {قرينة عليه} أي: على قصده(صلی الله علیه و آله) المعنى المجازي الأوّل كالأعمّ في المثال {من غير حاجةٍ} في إرادته(صلی الله علیه و آله) الأعمّ مثلاً {إلى قرينة معيّنة أُخرى} غير استقرار بنائه.

{و} بهذا الوجه يمكن تصوير النّزاع على القول بعدم الحقيقة الشّرعيّة، ولكن {أنّى لهم بإثبات ذلك} الّذي ذكر من كون الشّارع اعتبرالعلاقة ابتداءً بين الصّحيح أو الأعمّ وبين المعنى اللّغوي، إذ لا طريق لإثبات هذا الممكن؟

{وقد انقدح بما ذكرنا} من تصوير النّزاع على القول بعدم الحقيقة الشّرعيّة {تصوير النّزاع على} مذهب من ينكر استعمال تلك الألفاظ في المعاني الجديدة، إمّا لعدم اختراعها وإمّا لعدم استعمالها فيها، ك {ما نسب إلى الباقلاني} القاضي أبي بكر.

{و} بيان {ذلك بأن} يقال: {يكون} تصوير {النّزاع} على مذهبه {في أنّ} هل {قضيّة القرينة المضبوطة الّتي} اعتبرها الشّارع(صلی الله علیه و آله) بين المعنى اللّغوي وبين ما يريد(صلی الله علیه و آله) من هذه الألفاظ و{لا يتعدّى عنها إلّا بالأُخرى} أي: القرينة الأُخرى {الدّالّة على أجزاء المأمور به وشرائطه} صفة القرينة {هو تمام الأجزاء والشّرائط} حتّى يختصّ بالصحيحة {أو هما في الجملة} أعمّ من الصّحيح والفاسد حتّى يثبت الأعمّ، ولكن لا يخفى أنّ ما أورده(قدس سره) من عدم الطّريق إلى الإثبات وارد هنا أيضاً {فلا تغفل}.

ص: 112


1- الباقلاني: محمّد بن الطّيّب، القاضي أبو بكر المتكلّم الأشعري البصري، توفّي ببغداد سنة 403ه .

ومنها: أنّ الظّاهر أنّ الصّحّة عند الكلّ بمعنىً واحدٍ، وهو التّماميّة. وتفسيرها بإسقاط القضاء - كما

___________________

فتحصّل تصوير النّزاع على المذاهب الثّلاثة:

أمّا على القول بالحقيقة الشّرعيّة فبأن يقال: هل وضعت الألفاظ للصّحيح أو الأعمّ؟

وأمّا على مذهب النّافي للحقيقة الشّرعيّة وكونها مجازات فبأن يقال: هلالشّارع اعتبر العلاقة بين الصّحيح أو بينه وبين الأعمّ؟

وأمّا على مذهب الباقلاني من كون المعاني الشّرعيّة من مصاديق المعاني اللّغويّة فبأن يقال: هل الشّارع عادته الاستعمال في المصداق الصّحيح أو في المصداق الأعم.

وبعبارة أُخرى: أنّ القرينة المنضبطة تدلّ على تمام ما يكون دخيلاً في المطلوب أم تدلّ على بعضه في الجملة؟

ولا يذهب عليك أنّ القرينة على قول الباقلاني ليست قرينة المجاز، بل المراد بها المخصّصة للمراد من العام أو المطلق اللّغوي.

معنى الصّحّة

{ومنها} أي: من الأُمور المذكورة الّتي لا بدّ من بيانها قبل الخوض في البحث في بيان معنى الصّحيح والفاسد المأخوذين في عنوان المبحث، فنقول:

قد اختلف في معنى الصّحّة: فالفقهاء عرّفوا الصّحّة في العبادات بما يكون مسقطاً للقضاء والإعادة، وفي المعاملات بما يكون مثمراً لترتّب الأثر، والمتكلّمون فسّروه بما يكون موافقاً للشّريعة، ولكن {أنّ الظّاهر} عند تتبّع كلمات الأعلام {أنّ الصّحّة عند الكلّ بمعنىً واحدٍ، وهو التّماميّة و} هو المراد منها عند الإطلاق، وأمّا {تفسيرها بإسقاط القضاء} وترتّب الأثر - {كما} حُكِيَ هذا التّعريف

ص: 113

عن الفقهاء - ، أو بموافقة الشّريعة - كما عن المتكلّمين - ، أو غير ذلك إنّما هو بالمهمّ من لوازمها؛ لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الأنظار. وهذا لا يوجب تَعَدُّدَ المَعْنَى، كما لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات من السّفر والحضر، والاختيار والاضطرار إلى غير ذلك، كما لا يخفى.

___________________

{عن الفقهاء} - وبموافقة الأمر {أو بموافقة الشّريعة - كما} حكي {عن المتكلّمين} ومن حذا حذوهم - {أو غير ذلك} من سائر التّعاريف، فكلّ هذه التّفسيرات {إنّما هو} التفسير {بالمهم} الّذي يقصد الفقيه والمتكلّم {من لوازمها} لا أنّها تعريفات بما يقابل معنى التّماميّة. وحيث إنّ موضوع كلام الفقيه فعل المكلّف من حيث الأحكام الوضعيّة والتّكليفيّة كان مهمّه سقوط القضاء وترتّب الأثر، وكذا المتكلّم لمّا كان نظره إلى المبدأ - تعالى - وما يوجب الزُّلْفَى لديه كان مهمّه موافقة أوامره - تعالى - .

والحاصل: أنّ للصّحّة معنىً واحداً وآثاراً كثيرة، والتَّفَاسِيْرُ تفاسيرُ لآثارها، واختلاف العلماء في التّفسير لاختلاف أغراضهم {لوضوح اختلافه} أي: المهم {بحسب اختلاف الأنظار} - كما سبق - .

{و} معلوم أنّ {هذا} النّحو من الاختلاف {لا يوجب تعدّد المعنى} إذ تعدّد الغرض واللّازم لا يوجب تعدّد الملزوم {كما لا يوجبه اختلافها} أي: اختلاف الصّحّة {بحسب الحالات} الطّارئة على المكلّف {من السّفر والحضر والاختيار والاضطرار} والثّنائيّة والثّلاثيّة والرّباعيّة والجهر والإخفات والتّقديم والتّأخير {إلى غير ذلك} وهكذا المعاملات {كما لا يخفى} بل كذلك في سائر المركّبات الخارجيّة، وبهذا كلّه تبيّن أنّ معنى الصّحّة هو التّماميّة.

نعم، قد اختلفوا في المراد بالتّمام على أقوال خمسة:

الأوّل: التّماميّة من حيث الأجزاء.

ص: 114

ومنه ينقدح: أنّ الصّحّة والفَسَادَأمران إضافيّان، فيختلف شيءٌ واحدٌ صحّةً وفساداً بحسب الحالات، فيكون تامّاً بحسب حالةٍ، وفاسداً بحسب أُخرى، فتدبّر جيّداً.

___________________

الثّاني: من حيث الأجزاء والشّرائط.

الثّالث: من حيث الأجزاء والشّرائط وعدم المانع.

الرّابع: التّماميّة من حيث الثّلاثة وعدم النّهي عنه.

الخامس: كالرّابع بإضافة قصد القربة. قيل: ولم يعرف للقول الثّالث قائل. ثمّ في المقام كلام طويل موكول إلى التّقريرات(1).

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من أنّ الصّحّة تختلف حسب اختلاف الحالات {ينقدح أنّ الصّحّة والفساد أمران إضافيّان} لا متأصّلان حقيقيّان.

بيان الانقداح: إنّ الأمر الحقيقي لا يتطرّق إليه الاختلاف، فما يتطرّق إليه الاختلاف ليس بحقيقيّ {فيختلف شيء واحد صحّة وفساداً بحسب الحالات} بالنسبة إلى شخصٍ واحدٍ، أو بالنّسبة إلى شخصين. مثلاً: الصّلاة مع التّيمّم شيء يختلف بحسب الأشخاص والحالات {فيكون تامّاً} للشّخص الفاقد للماء، و{بحسب حالة} كالمرض {و} يكون {فاسداً} للشّخص الواجد للماء و{بحسب} حالة {أُخرى} كحالة الصّحّة - مثلاً - {فتدبّر جيّداً} حتّى لا تتوهّم أنّ المراد بكونهما إضافيّين أنّهما من مقولة الإضافة، إذ مقولة الإضافة متقوّمة بالنّسبة المتكرّرة متكافئةً - كالإخوة - أو غير - متكافئةٍ - كالأُبوّة والبنوّة - ولا تكرّر في المقام.

وكذلك ليس المراد من كونهما إضافيّين أنّ بينهما تقابل التّضايف، بل بينهماتقابل العدم والملكة، إذ الفَسَادُ عدمُ الصَّحّةِ عمّا من شأنه أن يكون صحيحاً، لا أنّه أمر وجوديّ، كما لا يخفى.

ص: 115


1- أجود التقريرات 1: 34.

ومنها: أنّه لا بدّ على كلا القولين من قدر جامع في البين، كان هو المسمّى بلفظ كذا.

ولا إشكال في وجوده بين الأفراد الصّحيحة، وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره؛

___________________

الجامع على الصّحيحيّ

{ومنها} أي: من الأُمور المذكورة قبل الخوض في البحث في بيان الجامع بين الأفراد الصّحيحة - على الصّحيح - والأفراد مطلقاً - على الأعمّ - فنقول: ذكر بعض الأفاضل(1)

أنّ الاحتمالات في المقام خمسة:

الأوّل: عدم الوضع للجامع ولا للخصوصيّات.

الثّاني: كون اللّفظ موضوعاً لكلّ واحدٍ على نحو الاشتراك اللّفظيّ.

الثّالث: كونه موضوعاً لواحدة منها ومجازاً في الباقي.

الرّابع: أن يكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.

الخامس: أن يكونا عامّين والثّلاثة الأُوَل باطلة، بما بيّن في محلّه.

ثمّ {إنّه} بناءً على الاحتمالين الأخيرين {لا بدّ على كلا القولين}: الصّحيح والأعمّ {من قدر جامع} بين الأفراد {في البين} بحيث {كان هو المسمّى بلفظ كذا} كالصّلاة والصّوم ونحوهما، فإنّه لا بدّ من قدر مشترك بين أفراد الصّلاة، بحيث يوضع اللّفظ بإِزائه أو بإِزاء خصوصيّاته، لكن الجامع على الصّحيح أضيق منه علىالأعمّ بداهةً.

{ولا إشكال في وجوده بين الأفراد الصّحيحة} ولو كان بينها غاية الاختلاف، كما بين الصّلاة الجامعة للشّرائط، وبين صلاة الغريق.

{و} لا يلزم العلم تفصيلاً بذلك الجامع، بل {إمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره} كافٍ في مقام التّفهيم والتفهّم.

ص: 116


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 159.

فإنّ الاشتراك في الأثر كاشِفٌ عن الاشتراك في جامعٍ واحدٍ، يؤثّر الكُلُّ فيه بذاك الجامع، فيصحّ تصوير المسمّى بلفظ الصّلاة - مثلاً - ب «النّاهية عن الفحشاء» و«ما هو مِعْراجُ المؤمن»(1) ونحوهما.

___________________

وحيث حَمَلَتِ الآياتُ والأخبارُ آثاراً على الصّلاة وغيرها، من سائر العبادات والمعاملات، وإنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد - على مذاق المصنّف - نستكشف أنّ المؤثّر في هذه الآثار المتحقّقة في جميع أفراد الصّلاة الصّحيحة أمر واحد. {فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد} سار في تمام المصاديق {يؤثّر الكلّ} أي: كلّ فرد {فيه} في ذلك الأثر الواحد {بذاك الجامع} الواحد.

مثلاً: حيث حملت النّهي عن الفحشاء والمنكر على الصّلاة في القرآن، نستكشف عن جامع في جميع أفراد الصّلاة، بسببه يؤثّر كلّ فرد في النّهي عن الفحشاء، وإن كانت المراتب مختلفة فبعضها أقوى من هذا الأثر من بعض.

وعلى فرض استكشاف الجامع {فيصحّ تصوير المسمّى بلفظالصّلاة مثلاً ب «النّاهية عن الفحشاء»} والمنكر {و«ما هو مِعْراج المؤمن»} و«قربان كلّ تقي»(2) {ونحوهما} ك «خير موضوع»(3)

وكذا في سائر العبادات، فالصّوم اسم لما هو «جُنّة من النّار»(4)

وهكذا.

والحاصل: أنّ الآثار الواردة عن الشّارع تجعل مرآتاً للجامع الّذي هو المسمّى.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الجامع الّذي فرضه المصنّف مبنيّ على قاعدة الواحد

ص: 117


1- سفينة البحار 2: 268؛ التفسير الكبير 1: 266.
2- الكافي 3: 265.
3- معاني الأخبار: 332؛ الخصال 2: 523.
4- الكافي 2: 19.

والإشكالُ فيه: «بأنّ الجامع لا يكاد يكون أمراً مركّباً؛ إذ كلّ ما فُرض جامعاً، يمكن أن يكون صحيحاً وفاسداً؛ لما عرفت، ولا أمراً بسيطاً؛ لأنّه لا يخلو: إمّا أن يكون هو عنوان المطلوب، أو ملزوماً مساوياً له:

والأوّل غير معقول؛ لبداهة

___________________

لا يصدر إلّا من الواحد - كما تقدّم بيانه - وهي فاسدة في نفسها، ولو سلّم فرضاً محالاً لا تجري في هذا الموضع ممّا كان من الأُمور المجعولة للّه - تعالى - كما لا يخفى، وإذا هدم المبنى سقط البناء.

{و} إن قلت: يرد {الإشكال فيه} أي: في الجامع الّذي ذكرتم {بأنّ الجامع لا يكاد يكون أمراً مركّباً} ولا أمراً بسيطاً، وعليه فلا يعقل الجامع أصلاً:

أمّا أنّه لا يكون مركّباً {إذ كلّ ما فرض جامعاً يمكنأن يكون صحيحاً وفاسداً؛ لما عرفت} من كونهما إضافيّين، فلا يبقى مركّب يصدق على جميع المراتب يكون هو المسمّى بلفظ (الصّلاة) - مثلاً - المركّب من ثلاثة أشياء لا يشمل صلاة المختار، ومن مائة جزء لا يشمل صلاة الغريق.

{و} أمّا أنّ الجامع {لا} يكون {أمراً بسيطاً} ف {لأنّه لا يخلو} عن أحد أمرين:

{إمّا أن يكون هو عنوان المطلوب} بأن تكون الصّلاة موضوعةً لمطلوب.

{أو} يكون هو {ملزوماً مساوياً له} بأن تكون الصّلاة موضوعةً لفريضة الوقت، أو لذي المصلحة ونحوهما.

{و} لكن هذان باطلان:

أمّا {الأوّل} وهو عنوان المطلوب فكونه جامعاً {غير معقول} إذ هو مستلزم للدّور {لبداهة} أنّ المطلوبيّة متأخّرة عن الأمر، والأمر متأخّر عن الموضوع، فلو أخذت المطلوبيّة في الموضوع لزم توقّف المطلوبيّة على نفسها، ومن الواضح

ص: 118

استحالة أخذ ما لا يتأتّى إلّا من قبل الطّلب في متعلّقه، مع لزوم التّرادف بين لفظة (الصّلاة) و(المطلوب)، وعدمِ جريان البراءة مع الشّكّ في أجزاء العبادات وشرائطها؛ لعدم الإجمال حينئذٍ في المأمور به فيها، وإنّما الإجمال في ما يتحقّق به، وفي مثله لا مجال لها - كما حقّق في محلّه - مع أنّ المشهورَ، القائلين بالصّحيح قائلون بها في الشّكّ فيها.

وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزومالمطلوب أيضاً»(1).

___________________

{استحالة أخذ ما لا يتأتّى إلّا من قبل الطّلب} وبعده {في متعلّقه} وموضوعه.

{مع} أنّه يلزم إشكال آخر، وهو {لزوم التّرادف بين لفظة (الصّلاة) و} لفظ {(المطلوب)} إذ المفروض أنّ الصّلاة موضوعة لمطلوب. ومن المعلوم بطلان التّرادف بينهما، ضرورة أنّه ليس معناها، لا لُغَةً ولا عُرْفاً.

{و} يلزم أيضاً إشكال ثالث، وهو {عدم جريان البراءة مع الشّكّ في أجزاء العبادات وشرائطها} إذ لو كان الموضوع له بسيطاً كان الأجزاء الخارجيّة محصّلة لها، كالطّهارة الحاصلة من أجزاء الوضوء، فلا بدّ من الالتزام بالاشتغال {لعدم الإجمال حينئذٍ في المأمور به فيها} أي: في العبادات، فإنّ المأمور به معلوم، وهو المطلوب {وإنّما الإجمال} والشّكّ في ما هو مصداق المأمور به و{في ما يتحقّق به، و} معلوم أنّ {في مثله} ممّا كان الشّكّ في الامتثال {لا مجال لها} أي: للبراءة، بل يجب الاحتياط {كما حقّق في محلّه}.

والحاصل: أنّ جامع الصّحيحي لو كان هو لفظ مطلوب، لزم الاحتياط حين الشّكّ {مع أنّ المشهور القائلين بالصّحيح} لا يقولون بالاحتياط، بل {قائلون بها} أي: بالبراءة {في} مقام {الشّكّ فيها} أي: في الأجزاء والشّرائط.

{وبهذا} الإشكال الوارد على عنوان المطلوب من الدّور والتّرادفوالاشتغال {يشكل} الشِّقّ الثّاني، وهو ما {لو كان} الجامع {البسيط هو ملزوم المطلوب أيضاً}

ص: 119


1- مطارح الأنظار 1: 4649.

مدفوع: بأنّ الجامع إنّما هو مفهومٌ واحدٌ منتزعٌ عن هذه المركّبات المختلفة - زيادةً ونقيصةً بحسب اختلاف الحالات - ، متّحدٌ معها نحوَ اتّحادٍ، وفي مثله يجري البراءة، وإنّما لا تجري في ما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجيّاً،

___________________

- كما هو واضح - .

قلت: هذا الإشكال {مدفوع} لأنّا نختار أنّ الجامع أمرٌ، واحدٌ، بسيطٌ، ملزومٌ مساوٍ لعنوان المطلوب، وحينئذٍ نقول:

إنّ الجامع البسيط إمّا له وجود ممتاز عن المركّب الخارجي بحيث كان هو المأمور به، والمركّب الخارجي محصّل له، كالطّهارة بالنّسبة إلى الغسلات، وهذا مجرى الاشتغال، إذ مرجعه إلى الشّكّ في الامتثال.

وإمّا ليس كذلك، بل وجوده عين وجود المركّب الخارجي، ومنتزع عنه بحيث كان المركّب مأموراً به حقيقة، من غير فرق بين التّامّ الأجزاء والنّاقص، ك (الإنسان) الموضوع لمفهوم بسيط صادق على الأفراد، سواء كان تامّاً أو ناقصاً، وهذا مجرى البراءة، إذ مرجعه إلى الشّكّ في أصل التّكليف الزّائد، وما نحن فيه من هذا القبيل.

فحاصل الجواب: {بأنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركّبات} الخارجيّة، كصلاة المختار، والمضطرّ، والحاضر، والمسافر وغيرها من سائر الصّلوات {المختلفة زيادةً ونقيصةً، بحسب اختلاف الحالات} ولكن هذه الأجزاء ليست محصّلة لذلك الجامع البسيط، حتّىيكون الشّكّ في الامتثال، بل البسيط {متّحد معها} أي: مع هذه المركّبات {نحو اتّحاد} الكلّي الطّبيعي مع أفراده، كما مثّلنا باتحاد الإنسان مع أفراده {وفي مثله} أي: في مثل البسيط المتحد يكون الشّكّ في اشتغال الذّمّة، و{يجري البراءة} فيه، إذ هو شكّ في أصل التّكليف {وإنّما لا تجري} البراءة {في ما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجيّاً} غير متّحد

ص: 120

مسبَّباً عن مركّبٍ مردَّدٍ بين الأقلّ والأكثر، كالطّهارة المسبَّبَة عن الغُسْلِ والوضوء في ما إذا شكّ في أجزائهما.

هذا على الصّحيح.

وأمّا على الأعمّ، فتصوير الجامع في غاية الإشكال، وما قيل في تصويره أو يقال وجوه:

أحدها: أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة،كالأركان في الصّلاة - مثلاً - و

___________________

مع الأجزاء، بل {مسبّباً عن} سبب خارجي {مركّب} من أجزاء {مردّد بين الأقلّ والأكثر} وذلك {كالطهارة} عن الحدث {المسبّبة عن الغسل والوضوء} والتّيمّم {في ما} لو قلنا: إِنّ الطّهارة أمر بسيط، لا عبارة عن نفس الغسلات والمسحات، فإنّه مجرى الاحتياط {إذا شكّ في أجزائهما} لأنّ مرجع الشّكّ حينئذٍ في الامتثال، لا في أصل التّكليف حتّى يكون مجرى للبراءة - كما لا يخفى - .

ولا يذهب عليك أنّ هذا الجواب لا يصلح لردّ الإشكالين الآخرَين من الدّور والتّرادف.نعم، يمكن دفعهما بأنّ مطابقة شيء لشيء لا يلزم التّرادف، كما أنّ الموضوع له الّذي هو قبل الأمر المتعلّق به الأمر، عنوان لا يتأتّى إلّا من قبل الأمر، فتدبّر.

الجامع على الأعمّي

ثمّ إنّ {هذا} كلّه بيان الجامع {على الصّحيح، وأمّا على الأعمّ فتصوير الجامع} الشّامل لجميع الأفراد الصّحيحة والفاسدة {في غاية الإشكال} لما يأتي في وجه إبطال كلّ جامع ذكروه. {وما قيل في تصويره، أو} يمكن أن {يقال: وجوهٌ} خمسة على ما في هذا الكتاب:

{أحدها: أن يكون} الجامع {عبارة عن جملة من أجزاء العبادة} مأخوذة لا بشرط {كالأركان في الصّلاة - مثلاً - و} ذلك بأن تكون الصّلاة اسماً لتكبيرة الإحرام، والقيام، والرّكوع، والسّجود، والنّيّة بنحو اللّابشرطيّة كي يصدق على مطلق المركّب

ص: 121

كان الزّائد عليها معتبراً في المأمور به، لا في المسمّى(1).

وفيه ما لا يخفى فإنّ التّسمية بها حقيقةً لا تدور مدارها؛ ضرورةَ صدق الصّلاة مع الإخلال ببعض الأركان، بل وعدم الصّدق عليها مع الإخلال بسائر الأجزاء والشّرائط عند الأعمّي، مع أنّه يلزم أن يكون الاستعمال في ما هو المأمور به - بأجزائه وشرائطه - مجازاً عنده، وكان

___________________

منها، سواء كان واجداً لسائر الأجزاء والشّرائط أم لا، بحيث {كان الزّائد عليها} أي: على الأركان {معتبراً فيالمأمور به} فإذا فقد فقد المأمور به {لا} أن يكون معتبراً {في المسمّى} بلفظ (الصّلاة).

{وفيه ما لا يخفى} إذ مقتضى كونها اسماً للأركان، صدقها متى وجدت، وكذبها حيث فقدت، مع أنّه ليس كذلك {فإنّ التّسمية بها} أي: بالصلاة {حقيقة لا تدور مدارها} أي: مدار الأركان لا وجوداً ولا عدماً {ضرورة صدق الصّلاة} ولو {مع الإخلال ببعض الأركان} فإنّ الصّلاة بدون النّيّة صلاة على الأعمّ، بل قد تكون الفاقدة لبعضها صحيحة أيضاً، كمن لا يتمكّن من السّجود، أو المستلقي لمرضٍ ونحوه، ودعوى عدم الصّلاة حينئذٍ غير صحيح، {بل وعدم الصّدق عليها} أي: عدم صدق الصّلاة على الأركان فقط {مع الإخلال بسائر الأجزاء والشّرائط} حتّى {عند الأعمّي} فلو نوى وكبّر وركع وسجد ثمّ ذهب لشغله لا تسمّى صلاة يقيناً.

والحاصل: أنّه قد يصدق الاسم مع عدم وجود جميع الأركان، وقد لا يصدق مع وجود جميع الأركان، {مع أنّه يلزم} على هذا الجامع إشكال آخر، وهو {أن يكون الاستعمال} للصّلاة {في ما هوالمأمور به} المشتمل على الأركان {بأجزائه وشرائطه} المطلوبة {مجازاً عنده} أي: عند الأعمى، {و} ذلك لأنّ اللّفظ {كان} موضوعاً للأركان فقط الّتي هي جزء من الصّلاة المأمور بها، فاستعمالها في الأركان

ص: 122


1- مطارح الأنظار 1: 51.

من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ، لا من باب إطلاق الكلّيّ على الفرد والجزئي - كما هو واضح - ،

___________________

مع الأجزاء والشّرائط يكون {من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ} كاستعمال (الرّقبة) في (الإنسان)، وهو مجاز - كما لا يخفى - .

فإن قلت: {لا} نسلّم أنّه من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ حتّى يلزم مجاز، بل هو {من باب إطلاق الكلّي على الفرد والجزئي} فلا يلزم المجازيّة {كما هو واضح}.

قلت: هذا غير صحيح، إذ المشخّصات الفرديّة ليست داخلةً في حقيقة الكلّي، فإنّ مشخّصات (زيد) ليست داخلةً في مفهوم (الإنسان)، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ الأعمّي يرى أنّ الصّحيحة من حقيقة الصّلاة، وإطلاق الصّلاة عليها، كإطلاقها على الفاسدة.

إن قلت: فلم لا يكون اللّفظ حين استعماله في الصّحيح أيضاً مستعملاً في نفس الأركان، ويكون غيرها من الزّوائد، كالحجر في جنب الإنسان؟

قلت: إنّ الأعمّي يقول: إنّ اللّفظ مستعمل حينئذٍ في الجميع لا في الأركان فقط.

إن قلت: إذا أخذت الأركان لا بشرط - كما تقدّم - كان استعماله في الصّحيح أيضاً استعمالاً في الموضوع له.

قلت: قد أجاب بعض الأفاضل عن هذا بما لفظه: «إنّه ينفع في ما كان المأخوذُ لا بشرطٍ عينَ ما وُجِدَ في الخارج، كالجنس بالنسبة إلى النّوع، وأمّا إذا كان مغايراً معه في الوجود الخارجي، فلا يكون إطلاق اللّفظ على المجموع حقيقةً»(1).

ص: 123


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 167.

ولا يلتزم به القائل بالأعمّ، فافهم.ثانيها: أن تكون موضوعةً لمعظم الأجزاء الّتي تدور مدارها التّسمية عرفاً؛ فصدق الاسم عليه كذلك يكشف عن وجود المسمّى، وعدم صدقه عن عدمه(1).

وفيه: - مضافاً إلى ما أورد على الأوّل أخيراً - أنّه عليه

___________________

فتحصّل أنّه لو كان الجامع هو الأركان لزم المجازيّة في ما لو استعمل اللّفظ في الصّحيح {ولا يلتزمُ به القائل بالأعم} لأنّه يرى اللُفظ حقيقةً في كلّ منهما، وإلّا لزم كونه صحيحيّاً {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى بعض ما تقدّم، أو يكون إشارة إلى ما ذكره بعض المحشّين من أنّ الإشكال الثّاني على هذا الجامع لا يختصّ بما إذا استعمل اللّفظ في الجامع للأجزاء والشّرائط، بل يرد على ما كان مشتملاً على شيء زائداً على الأركان.

{ثانيها} أي: الثّاني من الجوامع الّتي ذكروها {أن تكون} ألفاظ العبادات {موضوعة لمعظم الأجزاء} أعمّ من الأركان وغيرها، لكن لا مطلق معظم الأجزاء، بل {الّتي تدور مدارها التّسمية} بلفظ الصّلاة - مثلاً - {عرفاً، فصدق الاسم عليه} أي: على المعظم {كذلك} أي: عرفاً {يكشف عن وجود المسمّى} خارجاً {وعدم صدقه} عرفاً يكشف {عن عدمه} أي: عدم وجود المسمّى خارجاً.

{وفيه - مضافاً إلى ما أورد على} الجامع {الأوّل أخيراً} من أنّه يلزم حينئذٍ أن يكون الاستعمال في الزّائد على معظم الأجزاء مجازاً، إذ يكون من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ - {أنّه} يرد على هذا الجامع إشكال آخر:وهو أنّ المراد بكونه موضوعاً لمعظم الأجزاء إن كان وضعه لمفهوم (المعظم)، ففيه: أنّه يلزم ترادف لفظ الصّلاة مع لفظ (المعظم)، وهو باطل قطعاً.

وإن أُريد أنّه موضوع لمصداق معظم الأجزاء، ففيه: أنّ {عليه} يلزم إشكالان:

ص: 124


1- مطارح الأنظار 1: 54.

يتبادل ما هو المعتبر في المسمّى؛ فكان شيء واحد داخلاً فيه تارةً، وخارجاً عنه أُخرى، بل مردّداً بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء، وهو كما ترى، سيّما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

ثالثها: أن يكون وضعها كوضع الأعلام الشّخصيّة ك (زيد)، فكما لا يضرّ في التّسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصِّغَرِ والكِبَرِ، ونقص بعض الأجزاء وزيادته،

___________________

الأوّل: أن يكون معنى اللّفظ مختلفاً حسب المقامات، من دون مجاز ولا اشتراك، وهو باطل، إذ {يتبادل ما هو المعتبر في المسمّى} بلفظ الصّلاة - مثلاً - {فكان شيء واحد} كالتّسبيحات الأربع {داخلاً فيه تارةً} في صلاة الحاضر {وخارجاً عنه أُخرى} في صلاة المسافر {بل} والمطاردة.

الثّاني: أن يكون معنى اللّفظ في مقامٍ واحدٍ {مردّداً بين أن يكون هو الخارج} عن المعنى {أو غيره} وذلك {عند اجتماع تمام الأجزاء} حين الاستعمال.

مثلاً: لو استعمل الصّلاة في الصّحيحة، احتمل خروجُ كُلِّ واحدٍ من التّكبيرة والرّكوع والسّجود والقيام وغيرها، إذ يتحقّق معظم الأجزاء بغيرها {وهو كما ترى} من البطلان {سيّما إذا لوحظ هذا} التّبادلوالتّرديد {مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش} الحادث {بحسب} تفاوت {الحالات} بالنّسبة إلى شخص واحدٍ، أو أشخاص متعدّدة.

ولا يذهب عليك أنّ كلّ واحد من هذين الجامعين إنّما يصحّ بالنّسبة إلى العبادات المركّبة من الأجزاء.

{ثالثها} أي: الثّالث من الجوامع الّتي ذكرها الأعمّي {أن يكون} ألفاظ العبادات {وضعها كوضع الأعلام الشّخصيّة ك (زيد)} و(عمرو) و(بكر) {فكما لا يضرّ التّسمية فيها} أي: في الأعلام {تبادل الحالات المختلفة} الطّارئة على ذات زيد {من الصِّغَرِ والكِبَرِ}، والصّحّة والسُّقْم، {ونقص بعض الأجزاء وزيادته} والعلم

ص: 125

كذلك فيها.

وفيه: أنّ الأعلام إنّما تكون موضوعةً للأشخاص، والتّشخّص إنّما يكون بالوجود الخاصّ، ويكون الشّخص حقيقةً باقياً مادام وجوده باقياً، وإن تغيّرت عوارضه من الزّيادة والنّقصان وغيرهما من الحالات والكيفيّات، فكما لا يضرّ اختلافها في التّشخّص، لا يضرّ اختلافها في التّسمية.

وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات ممّا كانت موضوعةً للمركّبات والمقيّدات، ولا يكاد يكون موضوعاً له إلّا ما كان جامعاً لشتاتها

___________________

والجهل والغِنَى والفقر، {كذلك} لا يضرّ تبادل الحالات الطّارئة على ذوات العبادات في التّسمية {فيها} أي: في العبادات.

{وفيه} أنّه فرق بين ألفاظ العبادات والأعلام الشّخصيّة، إذ {أنّالأعلام} الشّخصيّة {إنّما تكون موضوعة للأشخاص} الموجودة المتشخّصة بتشخّصات خاصّة {والتّشخّص إنّما يكون} قوامه {بالوجود الخاص} الباقي إلى الموت {و} حينئذٍ {يكون الشّخص حقيقة باقياً مادام وجوده} الخاص {باقياً، وإن تغيّرت عوارضه} القائمة به، من غير فرق بين أن يكون التّغيير {من} قسم {الزّيادة والنّقصان} في الخلقة {و} بين أن يكون من {غيرهما} كالصحّة والمرض {من} سائر {الحالات والكيفيّات} الطّارئة عليه {فكما لا يضرّ اختلافها} أي: اختلاف العوارض {في التّشخّص} فإنّه لا يذهب تشخّصه الخاصّ بهذا الاختلاف كذلك {لا يضرّ اختلافها في التّسمية} إذ العلم موضوع للشّخص، فما بقى الشّخص بقى العلم، {وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات، ممّا} لم تكن موضوعة للأشخاص الخارجيّة، بل {كانت موضوعة للمركّبات والمقيّدات} بقيد التّركّب {و} التّقيّد، فإنّه إذا ذهب بعضُ الأجزاء أو زاد بعض، أو تبدّل ذهب الاسم؛ لأنّه {لا يكاد يكون} شيء {موضوعاً له} أي: للمركّب {إلّا ما كان جامعاً لشتاتها} أي: المركّبات

ص: 126

وحاوياً لمتفرّقاتها، كما عرفت في الصّحيح منها.

___________________

المختلفة {وحاوياً لمتفرّقاتها} بحيث يكون شاملاً لكلّ مركّب مركّب {كما عرفت} بيانه {في} ما تقدّم من {الصّحيح منها} أي: من الجوامع، فإنّ هناك قلنا: إنّ الجامع الموضوع له اللّفظ لا بدّ أن يكون بحيث يشمل جميع المركّبات، حتّى يصحّ إطلاق اللّفظ عليها.وللعلّامة المشكينيّ(قدس سره) في بيان هذا الجامع والجواب عنه والفرق بينه والجامعين الآتيين كلام لا يخلو إيراده من توضيح للمقام، قال(رحمة الله): «وتوضيحه بتحرير منّا، إنّ وضع المركّب في غير المقام على نحوين:

الأوّل: أن يكون الوضع له بحيث يكون لكلّ جزء من أجزائه مدخليّة في الموضوع له ويلزم من انتفائه انتفاؤه، كما في أسامي الأوزان والمعاجين.

الثّاني: أن يوضع له بحيث لا يلزم من انتفاء كلّ جزء انتفاؤه، كما في وضع الأعلام، فإنّ العلم موضوع للمركّب بلا شبهة، ولكن نقصان الأجزاء وتغيّر العوارض لا يقدح في التّسمية قطعاً، وإذا كان كذلك فليكن وضع ألفاظ العبادات من القسم الأخير.

وفيه: أنّ وضع الشّيء للمركّب بما هو مركّب يستلزم انتفاء الموضوع له بمجرّد انتفاء جزء من أجزائه بلا حاجة إلى البرهان.

والأعلام إمّا موضوعة للنّفوس النّاطقة، وهي بما هي نفوس باقية إلى الموت، أو الموجودات الخاصّة والتّشخّصات، بناءً على كونها مغايرة مع النّفوس، فهي - أيضاً - باقية إلى زمان الموت، ولا يضرّ نقصان الأجزاء أو زيادتها أو تغيّر العوارض، وإلّا فلا يعقل عدم الانتفاء عند الانتفاء إذا فرض الوضع للمركّب»(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

ص: 127


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 169.

رابعها: أنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداءً هو الصّحيح التّامّ الواجد لتمام الأجزاء والشّرائط، إلّا أنّ العرف يتسامحون - كما هو دَيْدَنُهُمْ - ويُطْلِقُوْنَ تلك الألفاظ على الفاقد للبعض، تنزيلاً له منزلة الواجد، فلا يكون مجازاً في الكلمة - على ما ذهب إليهالسّكّاكيّ(1) في الاستعارة - ، بل يمكن دعوى صيرورته حقيقةً فيه بعد الاستعمال فيه كذلك دفعةً أو

___________________

{رابعها} أي: الرّابع من الجوامع للأعم {أنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداءً هو} المركّب {الصّحيح التّام الواجد لتمام الأجزاء والشّرائط} كأن تكون الصّلاة ابتداءً موضوعة بإِزاء صلاة الظّهر للمختار الحاضر، وكذلك الحج ونحوه من ألفاظ العبادات المركّبة من الأجزاء {إلّا أنّ العرف يتسامحون} في الموضوع له {كما هو دَيْدَنُهُمْ} وعادتهم في كلّ شيء {ويطلقون تلك الألفاظ} الموضوعة للعبادات {على الفاقد للبعض} من الأجزاء والشّرائط {تنزيلاً له منزلة الواجد} الكامل، أي: الموضوع له الأوّلي، وهذا التّسامح في الإطلاق لا يوجب كون اللّفظ مجازاً في الفاقد، وذلك لأنّه تسامح في أمر عقلي، وهو ادّعاء أنّ لمعنى اللّفظ فردين بادّعاء أنّ النّاقص من جنس الكامل {فلا يكون} هذا الإطلاق {مجازاً في الكلمة} كما ذهب إليه مشهور البيانيّين، بل هو حقيقة ادّعائيّة {على ما ذهب إليه} أبو يعقوب يوسف {السّكّاكي في الاستعارة} - كما أوضحناه في علائم الحقيقة والمجاز - .

{بل يمكن دعوى صيرورته} أي: اللّفظ {حقيقةً فيه} أي: في الفاقد حتّى عند غير السّكّاكيّ، ولكن صيرورته حقيقة في الفاقد كان {بعد الاستعمال فيه كذلك} أي: تنزيلاً للفاقد منزلة الواجد، ويكون ذلك بأنحاء:الأوّل: أن يصير حقيقة في الفاقد {دفعة} وذلك بأن يستعمل فيه بقصد الوضع {أو} نحوه.

ص: 128


1- مفتاح العلوم: 156.

دفعاتٍ، من دون حاجةٍ إلى الكثرة والشُّهْرَةِ؛ للأُنس الحاصل من جهة المشابهة في الصّورة، أو المشاركة في التّأثير، كما في أسامي المعاجين الموضوعة ابتداءً لخصوص مركّبات واجدة لأجزاء خاصّة، حيث يصحّ إطلاقها على الفاقد لبعض الأجزاء المشابه له صورةً، والمشارك في المهمّ أثراً، تنزيلاً أو حقيقةً.

وفيه: أنّه

___________________

الثّاني: أن يكون لأجل الاستعمال {دفعات} متعدّدة {من دون حاجة إلى الكثرة والشّهرة}.

وكلّ من القسمين إمّا أن يكون الاستعمال فيه {للأُنس الحاصل من جهة المشابهة} بين الواجد والفاقد {في الصّورة} فإنّ صورة الفاقد يشبه صورة الواجد {أو} أن يكون للأُنس الحاصل من جهة {المشاركة} بينهما {في التّأثير} في الجملة.

هذا ويحتمل أن يكون قوله: «للأُنس» الخ علّة لعدم الاحتياج إلى الكثرة والشّهرة.

والحاصِلُ: أن يكون لفظ العبادة وضع أوّلاً للجامع للشّرائط والأجزاء ثمّ استعمل في الفاقد {كما في أسامي المعاجين} والأدوية {الموضوعة} تلك الأسامي {ابتداءً، لخصوص مركّبات واجدة لأجزاء خاصّة} بحيث كان لها صورة مخصوصة وتأثير خاصّ {حيث يصحّ إطلاقها} أي: إطلاق تلك الأسامي {على الفاقد لبعض الأجزاء} المشتمل على سائر الأجزاء{المشابه له صورة والمشارك في المهمّ أثراً} بأن يكون الفاقد مشابهاً للواجد في الصّورة، ومشاركاً له في الأثر، فإنّه حينئذٍ يكون إطلاق اسم المعجون على هذا الفاقد حقيقةً إمّا {تنزيلاً} كما هو مذهب السّكّاكيّ في الاستعارة، بادّعاء أنّ الفاقد من أفراد الواجد {أو حقيقةً} حتّى عند غير السّكّاكي - كما تقدّم بيانه - .

{و} لكن {فيه} أنّ هذا الجامع غيرُ صحيحٍ، وقياسه بالمعاجين باطل، إذ {أنّه}

ص: 129

إنّما يتمّ في مثل أسامي المعاجين وسائر المركّبات الخارجيّة، ممّا يكون الموضوع له فيها ابتداءً مركّباً خاصّاً، ولا يكاد يَتِمُّ في مثل العبادات الّتي عرفت أنّ الصّحيح منها يختلف حسب اختلاف الحالات، وكون الصّحيح بحسب حالةٍ فاسداً بحسب حالةٍ أُخرى، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

___________________

أي: هذا الكلام في بيان الجامع {إنّما يَتِمُّ في مثل أسامي المعاجين وسائر المركّبات الخارجيّة} الّتي يترتّب عليها أثر خاصّ {ممّا يكون الموضوع له فيها} في تلك المركّبات {ابتداءً مركّباً خاصّاً} له أجزاء خاصّة وأثر خاصّ، ثمّ يستعمل في الفاقد لبعض تلك الأجزاء بعلاقة المشابهة أثراً أو صورةً.

{و} هذا النّحو {لا يكاد يَتِمُّ في مثل العِبادات الّتي عرفت أنّ الصّحيح منها} ابتداءً {يختلف حسب اختلاف الحالات} كصلاة الحاضر والمسافر، بل صلاة الصّبح والظّهر والمغرب، بل والنّافلة والفريضة من دون أن يكون إحداها في طول الأُخرى.

{و} كذا {كون الصّحيح بحسبِ حالةٍ} كالصّلاة مع التّيمّمفي حال فقد الماء يكون {فاسداً بحسب حالةٍ أُخرى} وهي الواجديّة للماءِ.

فحاصل الفرق: أنّ المركّب المعجوني له فرد واحد جامع للشّرائط والأجزاء ابتداءً، بحيث يكون وضع اللّفظ بإِزائه.

أمّا المركّب العبادي فليس له فرد صحيح جامع هو الموضوع له الابتدائي، إذ ليس هناك فرد وضع له اللّفظ ابتداءً حتّى يكون استعمال اللّفظ في غيره تنزيلاً، أو حقيقةً، وهذا واضح {كما لا يخفى} إلّا أن يدّعي أنّها هي صلاة الظّهر للحاضر الجامع للشّرائط؛ لأنّها أوّل صلاة أتى بها جبرئيل(علیه السلام) {فتأمّل جيّداً} هذا تمام الكلام في الرّابع من الجوامع.

ص: 130

خامسها: أن يكون حالها حال أسامي المقادير والأوزان، مثل المِثْقَال، والحُقَّة، والوزنة، إلى غير ذلك ممّا لا شبهة في كونها حقيقة في الزّائد والنّاقص في الجملة، فإنّ الواضع وإن لاحظ مقداراً خاصّاً، إلّا أنّه لم يضع له بخصوصه، بل للأعمّ منه ومن الزّائد والنّاقص، أو أنّه وإن خصّ به أوّلاً إلّا أنّه بالاستعمال كثيراً فيهما - بعناية أنّهما منه - قد صار حقيقةً في الأعمّ ثانياً.

___________________

و{خامسها: أن يكون حالها} أي: حال ألفاظ العبادات {حال أسامي المقادير والأوزان مثل المِثْقَال والحُقَّة والوزنة} والذّرع والرَّطْل {إلى غير ذلك ممّا لا شبهة في كونها حقيقةً في الزّائد والنّاقص في الجملة} فلو زيد على الرّطل درهم، أو نقص منه، سمّي رطلاً بديهةً، وكذا لو زيد على الحُقَّة مثقال أو نقص، والدّليلعلى الحقيقة التّبادر وعدم صحّة السّلب عن النّاقص والزّائد في الجملة {فإنّ الواضع وإن لاحظ مقداراً خاصّاً} حين الوضع {إلّا أنّه لَمْ يَضَعِ} اللّفظ {له} لذلك المعنى الخاص {بخصوصه، بل} وضع {للأعم منه ومن الزّائد والنّاقص} في الجملة.

وبهذا تبيّن الفرق بين هذا الجامع والجامع الرّابع، إذ الوضع في الرّابع كان متعدّداً وفي هذا يكون واحداً، وأمّا الفرق بينه وبين الجامع الثّالث فقد ظهر من كلام العلّامة المشكينيّ المتقدّم {أو أنّه وإن خصّ} الوضع {به} أي: بالمقدار الخاصّ {أوّلاً} حين الوضع {إلّا أنّه بالاستعمال كثيراً فيهما} أي: في الزّائد والنّاقص {بعناية أنّهما منه} أي: من المعنى الحقيقيّ، بجعلهما فردين ادّعائيّين - كما يقول السّكّاكيّ - {قد صار} اللّفظ {حقيقة في الأعمّ} من المعنى الأوّل، والزّائد والنّاقص {ثانياً}.

وعلى هذا الاحتمال يكون الفرق بين الخامس والرّابع عدم احتياج الجامع الرّابع إلى كثرة الاستعمال بخلاف هذا، ولذا قال المصنّف هناك: «من دون حاجة إلى الكثرة» وقال هنا: «بالاستعمال كثيراً».

ص: 131

وفيه: أنّ الصّحيح - كما عرفت في الوجه السّابق - يختلف زيادةً ونقيصةً، فلا يكون هناك ما يلحظ الزّائد والنّاقص بالقياس عليه كي يوضع اللّفظ لما هو الأعمّ، فتدبّر جيّداً.

ومنها:

___________________

{و} في هذا الجامع نظر، إذ {فيه}:

أوّلاً: عدم صحّة المقيس عليه؛ لأنّ الظّاهر عدم وضع اللّفظ للأعمّ من الزّائدوالنّاقص، لا ابتداءً ولا ثانياً، لكثرة الاستعمال، وإنّما يتسامح العرف - كما هو ديدنهم - في الإطلاق في ما علم المراد، وكان ممّا لا يعتنى بشأن الموزون والمكيل وأمثالهما، وأمّا في ما لم يعرف المراد أو عرفت الدّقّة فلا يتسامحون بديهة كما نرى في وزن التّبر، والأدوية السّامّة، ونحوهما.

وثانياً: {أنّ الصّحيح} في العبادات غير الصّحيح في الأوزان، فلا يقاس أحدهما بالآخر.

بيان ذلك: أنّ للمقادير والأوزان فرداً صحيحاً يلحظ ابتداءً، فيوضع له اللّفظ أو للأعمّ منه ومن غيره {كما عرفت} ذلك {في الوجه} الرّابع {السّابق} وهذا بخلاف العبادات، فإنّه ليس هناك فرد واحد صحيح يكون هو الملحوظ ابتداءً، إذ {يختلف} الصّحيح {زيادةً ونقيصةً، فلا يكون هناك} في باب العبادات {ما يلحظ الزّائد والنّاقص بالقياس عليه، كي} يكون كالفرد الصّحيح من المقادير، فيلحظ أوّلاً ثمّ {يوضع اللّفظ لما هو الأعمّ} ابتداءً أو ثانياً {فتدبّر جيّداً} حتّى لا تتوهّم عدم الفرق بين هذا الجامع، والجامع الرّابع على الاحتمال الثّاني، وهو قوله: «أو أنّه وإن خصّ» الخ، كما توهّمه بعض الأعلام.

وضع ألفاظ العبادات

{ومنها} أي: من الأُمور الّتي نذكرها قبل الخوض في البحث في بيان كيفيّة وضع ألفاظ العبادات فنقول: حيث بيّنّا عدم الاشتراك اللّفظيّ في ألفاظ العبادات،

ص: 132

أنّ الظّاهر أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامّين. واحتمالُ كون الموضوع له خاصّاً بعيدٌ جدّاً؛ لاستلزامه كَوْنَ استعمالها في الجامع - في مثل:«الصّلاة تنهى عن الفَحْشَاء»(1)

و«الصّلاة معراج المؤمن»(2) و«عَمُوْدُ الدّين»(3)

و«الصَّوْمُ جُنّة من النّار»(4) - مجازاً،

___________________

فلا بدّ من أن يكون الوضع عامّاً والموضوع له إمّا عامّ أو خاصّ، إلّا {أنّ الظّاهر} عند التّأمّل {أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامّين} بمعنى أنّه لوحظ كلّيّ الصّلاة ووضع لفظ الصّلاة لذلك الكلّيّ {واحتمال كون} الوضع عامّاً و{الموضوع له خاصّاً بعيد} عن ظاهر الاستعمال {جدّاً} وذلك {لاستلزامه} أي: استلزام {كون} الموضوع له خاصّاً أن يكون {استعمالها} أي: ألفاظ العبادات {في الجامع} الكلّي {في مثل «الصّلاة تنهى عن الفحشاء} والمنكر» {و«الصّلاة معراج المؤمن» و} «الصّلاة {عمود الدّين» و} نحوها، وكذا مثل {«الصّوم جنّة من النّار»} و«الصّوم لي»، ونحوهما كلّها {مجازاً}.

بيان الملازمة: أنّه لو كان الموضوع له خاصّاً كان استعمالها في العام سبباً لتجريد المعنى عن الخصوصيّة، بخلاف ما إذا كان الموضوع له عامّاً، فإنّه يكون هذا الاستعمال حقيقة قطعاً.

إن قلت: لكن يلزم أن يكون استعمالها حينئذٍ في الأفراد مجازاً.قلت: ليس كذلك؛ لأنّه من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد.

فتحصّل أنّ الموضوع له لو كان خاصّاً لزم المجاز لو استعمل في العام

ص: 133


1- إشارة لقوله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّلَوةَ تَنۡهَى عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ}، سورة العنكبوت، الآية: 45.
2- سفينة البحار 2: 268؛ التفسير الكبير 1: 266.
3- المحاسن 1: 44.
4- الكافي 2: 19.

أو مَنْعَ استعمالها فيه في مثلها. وكُلٌّ منهما بعيدٌ إلى الغاية، كما لا يخفى على أُولي النِّهَايَةِ.

ومنها: أنّ ثمرة النِّزاع إجمال الخطاب على قول الصّحيحيّ،

___________________

{أو منع استعمالها} أي: ألفاظ العبادات {فيه} أي: في الجامع {في مثلها} أي: في مثل هذه الأمثلة المتقدّمة، بأن يقال: استعملت الصّلاة في هذه الرّوايات في الأفراد لا في الجامع.

{وكلّ منهما} من المجازيّة والمنع {بعيد إلى الغاية}.

أمّا بُعْدُ المجازيّة، فلمعلوميّة عدم لحاظ العلاقة حين الاستعمال كذلك.

وأمّا بعد كون الاستعمال في الخصوصيّات لا الجامع، فلبداهة كون السّابق إلى الذّهن في مثل هذا التّركيب كلّيُّ الصّلاةِ وطبيعتها لا أفرادها، فهو مساوق لنحو (النّار مُحْرِقة) و(السُّقْمُونيا مسهل الصّفراء)، وإن شئت قلت: إنّ ثبوت المِعْراجيّة - مثلاً - إنّما هي لأجل الصّلاتيّة، لا لأجل أنّ كلّ فردٍ صلاة خاصّة {كما لا يخفى على أُولي النّهاية}.

تنبيه: قد اشتهر في ألسنة الطّلّاب كون لفظ «النّهاية» غلطاً حتّى أُبدل في بعض النّسخ بكلمة «النُّهى»، ولكن لا يخفى أنّ «النّهاية» لغةً بمعنى: غاية الشّيء، وآخره، فيكون معنى العبارة: أصحاب آخر النّظر والدّقّة، وهذا مجاز شائع، مثل (أبناء الآخرة).

ثمرة النّزاع

{ومنها} أي: من الأُمور المذكورة قبل بيان الدّليل في ثمرة هذا الاختلاف، فقد ذهب جماعة إلى {أنّ ثمرة} هذا {النِّزاع} يظهر في ما لو شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته في ما لو كان هناك إطلاق، فإنّه يلزم {إجمال الخطاب على قول الصّحيحي} إذ المأمور به هو مفهوم الصّحيح، وهو معنىً واضح، فلو لم يأت بالجزء المشكوك لم يحرز الخروج عن عهدة التّكليف، وحينئذٍ فالعقل يستقلّ بلزوم إتيانه.

ص: 134

وعدمُ جواز الرّجوع إلى إطلاقه في رفع ما إذا شُكَّ في جزئيّة شيءٍ للمأمور به وشرطيّته أصلاً؛ لاحتمال دخوله في المسمّى كما لا يخفى، وجوازُ الرّجوع إليه في ذلك على قول الأعمّي في غير ما احتمل دخوله فيه ممّا شُكَّ في جزئيّته أو شرطيّته.

نعم، لا بدّ في الرّجوع إليه في ما ذكر

___________________

{و} الحاصِلُ: يكون مرجع الصّحيحيّ الاشتغال، ل {عدم جواز الرّجوع إلى إطلاقه} أي: إطلاق الخطاب {في رفع ما إذا شكّ في جزئيّة شيء للمأمور به وشرطيّته أصلاً؛ لاحتمال دخوله} أي: دخول ذلك المشكوك {في المسمّى} بلفظ الصّلاة - مثلاً - {كما لا يخفى}.

ولا مجالَ لأن يُقَالَ: لا وجه لإجمال الخطاب بعد ورود الرِّوايات البيانيّة فعلاً وقولاً.

لأنّا نقول: إذا فرض الشّكّ في كون الخالية عن ذلك الجزء ناهية عن الفحشاء، فلا جرم يشكّ في صدق الاسم، ومع الشّكّ في أصل التّسمية كيف يتمسّك بالإطلاق في دفع المشكوك. اللّهمّ إلّا أن يحرز من الأخبار البيانيّة كون ذلك المقدار فيها ناهياً عن الفحشاء، فتأمّل.فتبيّن عدم جواز رجوع الصّحيحيّ إلى الإطلاق في الجزء المشكوك {وجواز الرّجوع إليه في ذلك على قول الأعمّي} إذ المسمّى محرز عنده، وإنّما المشكوك هو التّكليف الزّائد ومجراه البراءة، ولكن لا يخفى أنّ رجوع الأعمّي إلى الإطلاق {في غير ما احتمل دخوله فيه} أي: في المسمّى {ممّا شكّ في جزئيّته أو شرطيّته} إذ لا يكون المسمّى محرزاً حينئذٍ، ومع الشّكّ في أصل التّسمية لا يتمسّك بالإطلاق - كما تقدّم - .

{نعم} تمسّك الأعمّيّ بالإطلاق في نفي المشكوك لا يمكن مع الشّكّ في انعقاد الإطلاق، بل {لا بدّ في الرّجوع إليه} أي: إلى الإطلاق {في ما ذكر} أي: في

ص: 135

من كونه وارداً مورد البيان، كما لا بدّ منه في الرّجوع إلى سائر المطلّقات، وبدونه لا مرجع أيضاً إلّا البراءة أو الاشتغال، على الخلاف في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

___________________

نفي المشكوك {من كونه} أي: المطلق {وارداً مورد البيان} بأن تكون مقدّماتُ الحكمةِ تامّةً {كما لا بدّ منه} أي: لا بدّ من الورود مورد البيان {في} جواز {الرّجوع إلى سائر المطلقات} في أبواب العبادات والمعاملات، {و} أمّا {بدونه} بأن لا يكون المطلق وارداً مورد البيان ف {لا مرجع} للأعمى {أيضاً} كالصّحيحيّ في الجزء والشّرط المشكوكين {إلّا البراءة أو الاشتغال} ويبتنى هذا {على الخلاف} الآتي في أصل البراءة {في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين} فمن قال في تلك المسألة بالبراءة قال هنا بالبراءة، ومن قالهناك بالاشتغال قال هنا به، إذ هذه المسألة من صغريات تلك المسألة - كما لا يخفى - .

ثمّ لا بأس بالإشارة إلى مسألة الأقلّ والأكثر توضيحاً للمقام، فنقول: الشّكّ قد يكون في أصل التّكليف، كما لو شكّ في وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال، وهذا مجرى البراءة، وقد يكون في المكلّف به مع العلم بأصل التّكليف، وهو على قسمين:

الأوّل: أن يكون المكلّف به مردّداً بين المتباينين، كما لو شكّ في أنّ المكلّف به، يومَ الجمعة، صلاةُ الظّهر أو صلاةُ الجمعة، وهذا مجرى الاشتغال، فيجب الإتيان بكليهما.

الثّاني: أن يكون المكلّف به مردّداً بين الأقلّ والأكثر، وهو الّذي يندرج أقلّه تحت أكثره، وهذا أيضاً على ضربين:

الأوّل: الأقلّ والأكثر غير الارتباطيّ، وهو ما يمكن التّفكيك بين أجزائه في الامتثال، كما لو شكّ في أنّ الدّين الّذي عليه هل هو مائة أو خمسون، وهذا مجرى

ص: 136

وقد انقدح بذلك: أنّ الرّجوع إلى البراءة أو الاشتغال في موارد إجمال الخطاب أو إهماله

___________________

البراءة، فيُعْطِي المتيقّن ويُجْرِي البراءةَ عن الخمسين المشكوك.

الثّاني: الأقلّ والأكثر الارتباطيّ، وهو ما لا يمكن التّفكيك بين أجزائه في الامتثال، كما لو شكّ في أنّ أجزاء الصّلاة عشرة أو تسعة.

وفي هذه المسألة خلاف، فبعض يقول بالاشتغال، فيوجب الإتيان بالجزء العاشر أيضاً حتّى يتيقّن براءة الذّمّة، وبعض يقول بالبراءة، فيأتي بالأجزاء التّسعة المتيقّنة ويجري البراءة عن الجزء العاشر المشكوك.إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل. ولا يذهب عليك أنّ الابتناء على مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيّ إنّما يكون إذا كانت العبادة ارتباطيّة كالصلاة، فإنّها لو كانت غير ارتباطيّة لم تكن كذلك.

وحاصل الثّمرة: أنّ الصّحيحي لا يجوز له التّمسّك بالإطلاق على تقدير وجوده، ويلزمه الرّجوع إلى الاشتغال، والأعمّي يجوز له التّمسّك به في ما لا يحتمل دَخْله في التّسمية، وأمّا في ما احتمل ذلك فمرجعه الاشتغال أيضاً.

وهذا كلّه على تقدير تماميّة مقدّمات الإطلاق، وإلّا فالمرجع البراءة أو الاشتغال عند الجميع - كما تقدّم - .

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرناه - من أنّ شرط الرّجوع إلى الإطلاق عند الأعمّي تماميّة مقدّمات الحكمة - {أنّ الرّجوع إلى البراءة أو الاشتغال في موارد إجمال الخطاب} بأن كان المتكلّم في مقام إثبات الحكم للطّبيعة في الجملة مع كونه عالماً بكيفيّة تحقّقه ونفس الموضوع إلّا أنّه لم يبيّنهما لأجل مصلحة، كما في قول الطّبيب: (لا بدّ لهذا المرض من شُرْب المسهل) {أو إهماله} وهو إثبات الحكم للطّبيعة من دون علمه بالكيفيّتين، كما في قول غير الطّبيب: (لا بدّ لهذا المرض من شرب الدّواء). كذا قيل في الفرق بين الإهمال والإجمال، لكنّها أعمّ

ص: 137

على القولين؛ فلا وجه لجعل الثّمرة هو الرّجوع إلى البراءة على الأعمّ، والاشتغال على الصّحيح، ولذا ذهب المشهور إلى البراءة مع ذهابهم إلى الصّحيح.

وربّما قيل(1)

بظهور الثّمرة في النّذر أيضاً.قلت: وإن كان تظهر في ما لو نَذَرَ لمن صَلَّى إعطاءَ دِرْهمٍ في البُرْءِ - في ما لو أعطاه لمن صلّى ولو علم

___________________

من ذلك، كما لا يخفى.

والحاصِلُ: أنّ الرّجوع إلى الأصلين في مورد عدم تماميّة الإطلاق لا يختصّ بالأعمّي فقط، بل هو ثابت {على القولين} الصّحيحيّ والأعمّيّ، وهذا خبر قوله: «أنّ الرّجوع» {فلا وجه لجعل الثّمرة هو الرّجوع إلى البراءة} مطلقاً {على الأعم والاشتغال على الصّحيح} حيث إنّ المسمّى والموضوع له وإن كان مبيّناً على الأعمّ ومجملاً على الصّحيح، إلّا أنّه بعد عدم الإطلاق في المأمور به مع كونه مركّباً، يكون متعلّق الأمر مجملاً مردّداً بين الأقلّ والأكثر حتّى على الأعمّ.

{ولذا} الّذي ذكرناه - من أنّ الشّكّ في مصداق الصّحيح مرجعه الأصل - {ذهب المشهور} من العُلَماء الّذين مبناهم في الأقلّ والأكثر الارتباطي إجراءُ البراءة {إلى البراءة} في ما نحن فيه عند الشّكّ {مع ذَهَابهم إلى الصّحيح} فسقطت الثّمرة.

{وربّما قيل بظهور الثّمرة} بين الصّحيحي والأعمّي {في النّذر أيضاً} كما لو نذر إعطاء درهمٍ بمن يأتي بمسمّى الصّلاة، فإنّه يحصل للبرء بإعطاء الدّرهم لمن يرى مصلّياً على الأعمّ، بخلافه على الصّحيح، لعدم إحراز صدق الصّلاة مع الشّكّ في الصّحّة.

{قلت: وإن كان تظهر} الثّمرة على ما قالوا {في ما لو نذر} شخص {لمن صَلَّى إعطاءَ درهمٍ} مفعولُ «نذر» {في البرء} متعلّق ب «تظهر»، فإنّه يبرأ ذمّة النّاذِرُ على الأعمّ {في مالو أعطاه لمن صلّى} أي: أتى بصورة الصّلاة {ولو عَلِمَ} النّاذِرُ

ص: 138


1- قوانين الأصول 1: 43.

بفساد صلاته، لإخلاله بما لا يعتبر في الاسم - على الأعمّ، وعدم البُرْء على الصّحيح، إلّا أنّه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة؛ لما عرفت مِن أنّ ثمرة المسألة الأصوليّة هي أن يكون نتيجتها واقعةً في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة،

___________________

{بفساد صلاته} لكن بشرط أن يكون الفساد {لإخلاله بما لا يعتبر في} صدق {الاسم} إذ لو أخلّ بصدق الاسم لم تكن صلاةً، حتّى {على الأعمّ، وعدم البرء} لو أعطاه لذلك الشّخص {على الصّحيح}.

اعلم أنّ الشّكّ في الحكم الشّرعي قد يكون ناشئاً [1] من فِقدان النّصّ، أو إجماله، أو تعارض النّصّين، [2] وقد يكون ناشئاً عن اشتباه الموضوع الخارجيّ.

والقسم الأوّل: هو المسمّى بالشُّبهة الحُكْمِيّة كوجوب صلاة الجمعة، ولا يكون الحكم فيه إلّا كلّيّاً.

والقسم الثّاني: هو المسمّى بالشّبهة الموضوعيّة كوجوب وطئ إحدى الزّوجتين في مورد الحلف، ولا يكون الحكم في هذا القسم إلّا جزئيّاً، والمسألة الأصوليّة - كما عرّفوها - هي الّتي تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي، بخلاف المسألة الفقهيّة، فإنّ المستنتج منها يكون حكماً جزئيّاً.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ ما ذكروه من ظهور ثمرة النّزاع في مسألة النّذر وإن كان صحيحاً في نفسه {إلّا أنّه ليس بثمرةٍ لمثل هذه المسألة} الّتي هي من المسائل الأصوليّة، وذلك {لما عرفت} في أوّل الكتاب وما شرحناه هناك {مِن أنّ ثمرة المسألةالأصوليّة} أي: فائدة البحث الأصولي {هي أن يكون نتيجتها} الحاصلة منها {واقعة في طريق استنباط الأحكام} الكلّيّة {الفرعيّة} لا نفس المسألة الفقهيّة، ومسألة النّذر من هذا القبيل، إذ الحكم المشكوك - أعني: البرء وعدمه بإعطاء الدّرهم للمصلّي فاسداً - حكم جزئيّ فقهيّ، فالمسألة المنتجة له مسألة فقهيّة لا مسألة أُصوليّة.

ص: 139

فافهم.

وكيف كان فقد استدلّ للصّحيحي بوجوه:

أحدها: التّبادر، ودعوى أنّ المنسبق إلى الأذهان منها هو الصّحيح.

___________________

وتوضيحه: أنّ الشّكّ في الوفاء من باب اشتباه الأُمور الخارجيّة. نعم، وجوب الوفاء بالنذر مطلقاً من الأحكام الكلّيّة، فما يتوقّف عليه استنباط هذا الحكم الكلّي يكون من المسائل الأصوليّة، وبهذا البيان سقطت الثّمرة الثّانية أيضاً {فافهم} حتّى لا تشتبه عليك وتقول: إنّ النّذر تابع لقصد النّاذر، فلا مجال لتفريعه على الصّحيح والأعمّ أصلاً.

قال العلّامة الرّشتي(قدس سره): «فالتّحقيق أنّ الثّمرة هو إجمال الخطاب قطعاً على القول بالصّحيح، وعدم جواز الرّجوع إلى الإطلاق عند الشّكّ في الجزئيّة والشّرطيّة، لاحتمال دخول المشكوك في المسمّى، أو اعتباره معه وإمكان الرّجوع إلى إطلاق الخطاب عند الأعمّي، إذا لم يكونا ممّا ينتفي المسمّى بانتفائهما.

وإنّما قلنا بإمكان الرّجوع فإنّه إذا لم نحرز كون الإطلاق في مقام البيان، وبالجملة إذا لم تتمّ مقدّمات الحكمة فلا يكون إطلاق محكّم، فلا بدّ حينئذٍ منالأصل، إمّا البراءة أو الاشتغال»(1)، انتهى.

{وكيف كان} الأمر سواء صحّت الثّمرة أم لا، فلنرجع إلى أصل الكلام {فقد استدلّ للصّحيحي بوجوه} أربعة:

{أحدها: التّبادرُ ودعوى أنّ المنسبق إلى الأذهان منها} أي: من ألفاظ العبادات عند الإطلاق {هو} المعنى {الصّحيح} فقط، والتّبادر آية الحقيقة.

إن قلت: المتيقّن هو حصوله في لساننا، وهو غير مفيد، لإثباته في زمان الشّارع.

ص: 140


1- شرح كفاية الأصول 1: 39.

ولا منافاة بين دعوى ذلك، وبين كون الألفاظ على هذا القول مجملات: فإنّ المنافاة إنّما تكون في ما إذا لم يكن معانيها على هذا الوجه مبيَّنةً بوجهٍ، وقد عرفت كونها مبيّنةً بغير وجهٍ.

ثانيها: صحّة السّلب عن الفاسد بسبب الإخلال ببعض أجزائه أو شرائطه بالمداقّة،

___________________

قلت: أصالةُ عدمِ النّقلِ كافيةٌ لإثبات الحقيقة في زمان الشّارع أيضاً.

إن قلت: إنّ دعوى تبادر الصّحيح ينافي ما تقدّم في بيان الثّمرة من أنّ ألفاظ العبادات على القول الصّحيحي مجملات {و} لا يستفاد منها شيء أصلاً.

قلت: {لا منافاة بين دعوى ذلك} التّبادر {وبين كون الألفاظ على هذا القول} الصّحيحي {مجملات}.

وجه عدم المنافاة أنّه ليس المراد بالتبادر تبادر المعنى التّفصيلي حتّى ينافي كون المعنى مجملاً، بل المراد تبادر المعنى الإجمالي المشار إليه من طريق الخواصّ والآثار، فإنّه يتبادر من الصّلاة ما هو مِعْراج المؤمن، وخير موضوع، وإنكان غير مبيّن من جهة الأجزاء والشّرائط.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: {فإنّ المنافاة إنّما تكون في ما إذا لم يكن معانيها} أي: معاني ألفاظ العبادات {على هذا الوجه} الصّحيحي {مبيّنة بوجه} أصلاً، إذ لو لم تكن مبيّنة حتّى بوجه الإجمال لم يعقل التّبادر. {و} لكن {قد عرفت كونها} أي: كون المعاني {مبيّنة} إجمالاً بالخواص والآثار {بغير وجه} واحد، إذ قد عرفت وجوهاً عديدة من الآثار كلّها تشير إلى المعنى الصّحيح.

فتحصّل أنّ الإجمال بحسب الأجزاء والشّرائط لا ينافي كونها مبيّنة من طرق آثار متعدّدة ولوازم كثيرة.

{ثانيها: صحّة السّلب} أي: سلب اسم العبادة سلباً شائعاً {عن الفاسد بسبب الإخلال ببعض أجزائه أو شرائطه} فإنّه يصحّ السّلب {بالمداقّة} بحسب الواقع قطعاً

ص: 141

وإن صحّ الإطلاق عليه بالعناية.

ثالثها: الأخبار الظّاهرة في إثبات بعض الخواصّ والآثار للمسمّيات، مثل: «الصّلاة عمود الدّين»(1)

أو «معراج المؤمن»(2)

و«الصّوم جُنّة من النّار»(3) إلى غير ذلك،

___________________

{وإن صحّ الإطلاق} أي: إطلاق اسم العبادة {عليه} على الفاسد {بالعناية} مجازاً وتسامحاً بعلاقة المشابهة. هذا كلّه في لساننا ويَتِمُّفي لسان الشّارع(صلی الله علیه و آله) بأصالة عدم النّقل.

ولا يخفى أنّ صحّة السّلب في إثبات الصّحيح، إذ هو ممّا لا خلاف فيه بين الصّحيحي والأعمّي على كلّ حال، فلا نحتاج إلى إثبات عدم صحّة السّلب بالنّسبة إلى الصّحيح.

{ثالثها} الأخبار وهي طائفتان:

الأُولى: {الأخبار الظّاهرة في إثبات بعض الخواصّ والآثار للمسمّيات} أي: لما سمّي باسم العبادة، وذلك {مثل «الصّلاة عمود الدّين» أو} «الصّلاة {مِعْرَاجُ المؤمن» و«الصّوم جُنّة من النّار»} و«الصَّوْمُ لي وأنا أجزي به»(4)

{إلى غير ذلك} من الأخبار الّتي هي من هذا القبيل.

وتقريب الاستدلال: أنّ الّتي هي عمود الدّين، ومِعْرَاجُ المُؤْمِنِ، وجُنّة هي خصوصُ الصّحيح قطعاً لا الفاسد، فلو كانت هذه الألفاظ موضوعةً للأعمّ، لزم التّصرّف فيها في هذه الأخبار، بإرادة الخاصّ من العامّ، فيكون المراد الصّلاة الصّحيحة عمود، أو معراج، والصّوم الصّحيح جُنّة، وهذا التّصرّف خلاف الأصل، فتعيّن القول بأنّها موضوعة للصّحيح، حتّى لا يلزم هذا التّصرّف.

ص: 142


1- وسائل الشيعة 4: 27.
2- سفينة البحار 2: 268؛ التفسير الكبير 1: 266.
3- الكافي 2: 19.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 75.

أو نفي ماهيّتها وطبائعها، مثل: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(1)،

ونحوه ممّا كان ظاهراً في نفي الحقيقة بمجرّد فَقْدِ ما يعتبر في الصّحّة شطراً أو شرطاً.

وإرادةُ خصوص الصّحيح من الطّائفةالأُولى، ونفي الصّحّة من الثّانية - لشيوع

___________________

الطّائفة الثّانية: الأخبار الظّاهرة في نفي حقيقة العبادة {أو نفي ماهيّتها وطبائعها} بمجرّد نقصان جزء أو شرط {مثل «لا صلاةَ إلّا بفاتحة الكتاب»} في الجزء، و«لا صلاة إلّا بطهور»(2) في الشّرط {ونحوه ممّا كان ظاهراً في نفي الحقيقة بمجرّد فقد ما يعتبر في الصّحّة} سواء كان المفقود {شطراً} كالمثال الأوّل {أو شرطاً} كالمثال الثّاني.

وتقريب الاستدلال كما تقدّم: فإنّ الصّلاة لو كانت اسماً للأعمّ من الصّحيح والفاسد، لم يصحّ سلبها عن الفاسد لفقد جزء أو شرط.

إن قلتُ: لعلّ هذه الأجزاء دخيلة في الاسم.

قلتُ: فعلى هذا يلزم القول بالصّحيح، إذ الاسم العرفي مع عدم هذا الجزء باقٍ قطعاً.

{و} إن قُلْتَ: {إرادة خصوص الصّحيح من الطّائفة الأُولى ونفي الصّحّة من} الطّائفة {الثّانية} لا مانع منه، وذلك بأن يراد: الصّلاة الصّحيحة عمود الدّين، ولا صلاةَ صحيحةً إلّا بفاتحة الكتاب، ومن الواضح عدم المنافاة بين عدم الصّحّة وصدق الاسم.

ثمّ إنّ إرادة هذا المعنى لا بِدْعَ فيه {لشيوع} استعمال التّركيب الأوّل في الكامل،

ص: 143


1- غوالي اللئالي 1: 196، و 2: 218؛ مستدرك الوسائل 4: 158؛ هداية الأمة إلى أحكام الأئمة(علیهم السلام) 3: 31.
2- وسائل الشّيعة 1: 315.

استعمال هذا التّركيب في نفي مثل الصّحّة أو الكمال - خلاف الظّاهر، لا يصار إليه مع عدم نصب قرينة عليه.بل واستعمال: هذا التّركيب في نفي الصّفة ممكن المنع، حتّى في مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد»(1)

ممّا يعلم أنّ المراد: نفيُ الكمال، بدعوى استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضاً بنحوٍ من العناية، لا على الحقيقة،

___________________

كما يقال: (العالم زيد) وكثرة {استعمال هذا التّركيب} الثّاني {في نفي مثل الصّحّة أو الكمال} كما يقال: (الجبان ليس برجلٍ).

قُلْتُ: إرادة خصوص الصّحيح في الأوّل ونفي الصّحّة في الثّاني {خلاف الظّاهر} المنسبق من اللّفظ حين الإطلاق، و{لا يصار إليه} لأنّه مجاز {مع عدم نصب قرينةٍ عليه}، والشّهرة والشّيوع لم يبلغا حدّاً يصلحان للقرينيّة.

{بل و} يمكن أن يقال: إنّ {استعمال} مثل {هذا التّركيب} دائماً في نفي الحقيقة، واستعماله {في نفي الصّفة} سواء كانت صفة الصحّة أو الكمال {ممكن المنع، حتّى في مثل «لا صلاةَ لجار المسجد إلّا في المسجد» ممّا يعلم} من الخارج {أنّ المراد} منه {نفي الكمال} وذلك {بدعوى استعماله} أي: استعمال هذا التّركيب {في نفي الحقيقة في مثله} أي: في مثل ما كان المراد نفي الكمال {أيضاً} أي: كما يستعمل هذا التّركيب في نفي الحقيقة في ما كان المراد نفي الماهيّة والذّات، لكن فرق بين ما نفى الحقيقة حقيقةً، نحو«لا صلاة إلّا بطهور» وبين ما نفى الحقيقة ادّعاءً، نحو «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» فإنّ هذا {بنحو من العناية} والمجاز {لا على الحقيقة}.

والحاصِلُ: أنّ كلا المثالين نفي للحقيقة، لكن الأوّل حقيقيّ والثّاني ادّعائيّ

ص: 144


1- دعائم الإسلام 1: 148؛ مستدرك الوسائل 3: 356؛ بحار الأنوار 80: 379؛ وفي وسائل الشّيعة 5: 194؛ قال النّبيّ(صلی الله علیه و آله): «لا صلاة لجار المسجد إلّا في مسجده».

وإلّا لما دلّ على المبالغة، فافهم.

رابعها: دعوى القطع بأنّ طريقة الواضعين وديدنَهم: وضعُ الألفاظ للمركّبات التّامّة - كما هو قضيّة الحكمة الدّاعية إليه -

___________________

{وإلّا} يكن المراد في مثل: «لا صلاة لجار المسجد» نفي الحقيقة {لما دلّ على المبالغة} فإنّه لو قال: (لا صلاة كاملة) فأتت المبالغة في تشبيه غير الكاملة بعدم أصل الطّبيعة - كما لا يخفى - {فافهم} إشارة إلى أنّ الاستدلال بالطّائفة الأُولى من الأخبار نحو «الصّلاة عمود الدّين» غير تامّ، وذلك لما تقدّم من أنّه لو لم يعرف المراد كانت أصالة الحقيقة حجّةً على المراد وأمّا في ما عرف المراد ولم يعلم أنّه حقيقة أو مجاز لم يمكن التّمسّك بأصالة الحقيقة لإثبات كونه حقيقة لا مجازاً.

وقد علّق المصنّف على قوله: «فافهم» ما لفظه: «إشارة إلى أنّ الأخبار المثبتة للآثار وإن كانت ظاهرةً في ذلك لمكان أصالة الحقيقة، ولازم ذلك كون الموضوع له الأسماء هو الصّحيح، ضرورة اختصاص تلك الآثار به، إلّا أنّه لا يثبت بأصالتها - كما لا يخفى - لإجرائها العقلاء في إثبات المراد، لا في أنّه على نحو الحقيقة لا المجاز، فتأمّل جيّداً»(1)،

انتهى.{رابعها: دعوى القطع بأنّ طريقة الواضعين ودَيْدَنَهُم وضع الألفاظ} أي: ألفاظ المركّبات {للمركّبات التّامّة} للأجزاء والشّروط {كما هو} أي: الوضع للتّامّ {قضيّةُ الحكمةِ الدّاعية} إلى الوضع، فإنّ الحكمة الداعية {إليه} - وهي التّفهيم - يقتضي الوضع للتّام.

بيان ذلك: أنّ العقلاء يركّبون المركّبات لما يترتّب عليها من الثّمرات، ثمّ لأجل التّفهيم والتّفهّم يضعون اللّفظ بإِزائها طبعاً، ولذا نرى في قواميس اللّغة والطّبّ والصِّناعة وغيرها يذكرون تمام الأجزاء في معنى اللّفظ الموضوع للمركّب.

ص: 145


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 187.

والحاجةُ وإن دعت أحياناً إلى استعمالها في النّاقص أيضاً، إلّا أنّه لا يقتضي أن يكون بنحو الحقيقه، بل - ولو كان - مسامحةٌ، تنزيلاً للفاقد منزلة الواجد. والظّاهر: أنّ الشّارع غير مُتَخَطٍّ عن هذه الطّريقة.

ولا يخفى: أنّ هذه الدّعوى وإن كانت غيرَ بعيدة إلّا أنّها قابلة للمنع، فتأمّل.

وقد استدلّ للأعمّي أيضاً بوجوه:

___________________

{والحاجة وإن دعت أحياناً إلى استعمالها} أي: المركّبات {في النّاقص أيضاً إلّا أنّه} أي: الاستعمال في النّاقصِ لحاجةٍ {لا يقتضي أن يكون} هذا الاستعمال {بنحو الحقيقة} حتّى يكون اللّفظ مشتركاً معنويّاً أو لفظيّاً، فإنّ الاستعمال في النّاقص يصحّ {بل} يحسن {ولو} لم يكن على نحو الحقيقة، بل {كان مسامحة} ومجازاً {تنزيلاً للفاقد} لبعض الأجزاء {منزلة الواجد} لمشابهة في الصّورة أو الخاصيّة {والظّاهر أنّ الشّارع} في أوضاعه {غير مُتَخَطٍّ عنهذه الطّريقة} العرفيّة، فينتج كون ألفاظ العبادات موضوعة للصّحيح.

{ولا يخفى أنّ هذه الدّعوى} أي: دعوى دَيْدَنِ الواضعين ذلك واتّباع الشّارع لهم {وإن كانَتْ غيرَ بعيدةٍ} في نفسها {إلّا أنّها قابلة للمنع} إذ كون دَيْدَنِ الواضعين وضع اللّفظ بإزاء تامّ الأجزاء والشّرائط ممنوع أوّلاً، مثلاً: المفرّح الياقوتيّ الّذي له أجزاء متعدّدة يشترط في تاثيره أن يستعمل في الصّيف، فهذا الشّرط خارج عن الوضع قطعاً، وكون الشّارع مثلهم ممنوع ثانياً، إذ من العبادات ما هو اسم حتّى للفاقد كالحجّ وغيره - كما لا يخفى - {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى ما تقدّم من أنّ ألفاظ العبادات ليست من قبيل ألفاظ المركّبات، لعدم وضع لفظ العبادة للمركّب؛ لأنّه لا جامع لهذه المركّبات المختلفة، بل هو موضوع لمفهومٍ واحدٍ عَرَضَ له مَرَاتِبُ مختلفةٌ، فقياسه على المركّبات في غير محلّه.

هذا تمام الكلام في أدلّة الصّحيحي {وقد استدلّ للأعمّي أيضاً بوجوه} خمسة:

ص: 146

منها: تبادُر الأعمّ.

وفيه: أنّه قد عرفت الإشكال في تصوير الجامع الّذي لا بدّ منه، فكيف يصحّ معه دعوى التّبادر؟

ومنها: عدم صحّة السّلب عن الفاسد.

وفيه منع؛ لما عرفت.

ومنها: صحّة التّقسيم إلى الصّحيح والسّقيم.

___________________

[1] {منها: تبادر الأعمّ} من لفظ (العبادة) {وفيه: أنّه قد عرفت الإشكال في تصوير الجامع} بين الصّحيح والفاسد {الّذي لا بدّ منه} على كلّ حال، وإذا لم يكن هناك جامع فأيّ شيء يتبادر من اللّفظ، وحينئذٍ {فكيف يصحّمعه} أي: مع عدم الجامع {دعوى التّبادر؟} كما لا يخفى.

[2] {ومنها: عدم صحّة السّلب} أي: لا يصحّ سلب لفظ (العبادة) {عن الفاسد} الفاقد لبعض الأجزاء والشّرائط {وفيه: منع لما عرفت} في الجواب عن التّبادر من الإشكال في أصل الجامع، فأيّ معنى يشمل الصّحيح والفاسد حتّى لا يصحّ سلب اللّفظ عن ذلك المعنى؟

وقد يجاب عن هذين الوجهين: بأنّهما على تقدير التّسليم إنّما يفيدان كون اللّفظ حقيقة في الأعمّ في لساننا لا لسان الشّارع.

وفيه: أنّه لو تمّ كونه حقيقة في الأعمّ حينئذٍ، ثبت في لسان الشّارع أيضاً بأصالة عدم النّقل.

[3] {ومنها: صحّة التّقسيم} أي: تقسيم لفظ (العبادة) {إلى الصّحيح والسّقيم} فيقال: الصّلاة إمّا فاسدة وإمّا صحيحة، والتّقسيم علامة كون اللّفظ حقيقةً فيهما، إذ التّقسيم معناه: جعل الشّيء قسماً قسماً، ولا يصحّ جعل الشّيء نفسه وغيره، مثلاً يصحّ تقسيم الاسم إلى المعرب والمبني، ولا يصحّ تقسيمه إلى الفعل والاسم.

وإن شئت قُلْتَ: إنّ التّقسيم يدلّ على وجود قدر مشترك يكون هو المَقْسِمَ.

ص: 147

وفيه: إنّه إنّما يشهد على أنّها للأعمّ لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصّحيح، وقد عرفتها؛ فلا بدّ أن يكون التّقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللّفظ ولو بالعِناية.

ومنها: استعمال الصّلاة وغيرها في غير واحدٍ من الأخبار في الفاسدة:

كقوله عليه الصّلاة والسّلام: «بُني الإسلام على الخمس: الصّلاة والزّكاة والحجّ والصّوموالوِلاية، ولم يُنَادَ أحدٌ بشيءٍ كما نودي بالولاية، فأخذ النّاسُ بالأربع وتركوا هذه»(1)؛

«فلو أنّ أحداً صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية، لم يُقبل له صوم ولا صلاة»(2)

___________________

{وفيه: أنّه} أي: أنّ التّقسيم {إنّما يشهد على أنّها} أي: ألفاظ العبادات موضوعة {للأعمّ لو لم تكن هناك دلالة} من الخارج {على كونها موضوعة للصّحيح} فقط {وقد عرفتها} أي: الدّلالة الخارجيّة وهي الوجوه الأربعة الّتي استُدِلَّ بها للصّحيحي.

وقد عرفت أيضاً الإشكال في أصل الجامع بين الصّحيح والفاسد، فلا جامع حتّى يصحّ تقسيمه.

{فلا بدّ} حينئذٍ من {أن يكون التّقسيم} إلى الصّحيح والفاسد {بملاحظة ما يُستعمل فيه اللّفظ} أعمّ من أن يكون الاستعمال حقيقةً أو مجازاً {ولو بالعِناية}.

والحاصل: أنّ القدر المشترك المستعمل فيه لفظ (الصّلاة) حين التّقسيم معنىً مجازيٌّ على نحو عموم المجاز، والاستعمال أعمّ من الحقيقة.

[4] {ومنها: استعمال الصّلاة، وغيرها} من سائر العبادات - {في غير واحدٍ من الأخبار} الواردة عن الأئمّة الأطهار(علیهم السلام) - {في} الأعمّ من الصّحيح و{الفاسدة} وذلك {كقوله - عليه الصّلاة والسّلام - : «بُنِيَ الإِسْلاَمُ على الخمس: الصَّلاَةُ، والزّكاةُ، والحجُّ،والصّومُ، والوِلايةُ، ولَمْ يُنَادَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ كما نُوْدِيَ بالوِلاية، فَأَخَذَ النّاسُ بالأربعِ وتَرَكُوْا هذه»، «فلو أنّ أحداً صَامَ نَهَارَه وقام لَيْلَهُ وماتَ بغير وِلايةٍ، لم يُقْبَلْ له صَوْمٌ ولا صَلاَةٌ»}

ص: 148


1- الكافي 2: 18.
2- وردت بمضمونه أحاديث كثيرة، راجع بحار الأنوار 27: 166.

فإنّ الأخذ بالأربع لا يكون - بناءً على بطلان عبادات تاركي الولاية - إلّا إذا كانت أسامي للأعم.

وقوله(علیه السلام): «دَعِيْ الصَّلاَةَ أيّام أقرائك»(1)؛

___________________

وجه الاستدلال بهذه الرّواية من وجوه:

الأوّل: قوله(علیه السلام): «فأخذ النّاس بالأربع» المراد به الصّلاة، والزّكاة، والحجّ، والصّوم {فإنّ الأخذ} أي: أخذ العامّة {بالأربع، لا يكون} معقولاً لو كانت الألفاظ موضوعة للصّحيح؛ لأنّ الإيمان شرط في صحّة العبادة نصّاً وفتوىً، خلافاً لقولٍ نادرٍ.

والحاصِلُ: أنّه {بناءً على بطلان عبادات تاركي الوِلاية} لا يستقيم أخذهم بالأربع {إلّا إذا كانت} ألفاظ العبادات {أسامي للأعمّ} إذ لا يمكن للعامّة الأخذ بالصّحيح منها مع تركهم الوِلاية.

الثّاني: قوله(علیه السلام): «فلو أنّ أحداً صام نهاره» فإنّ صوم تارك الولاية لا يعقل إلّا على الأعمّ.

الثّالث: قوله(علیه السلام): «لم يقبل له صوم ولا صلاة» فإنّ المراد منهما ما كان واجداً لجميع ما كان معتبراً فيهما غير الإيمان، فيكون مستعملاً في الفاسد،ويمكن الاستدلال بقوله(علیه السلام): «بني الإسلام» الخ، فإنّه لو كان المراد منها الصّحيحة لم يلائم قوله: «فأخذ النّاس بالأربع» إلّا على طريق الاستخدام وهو خلاف الظّاهر.

تنبيه: يمكن قراءة «نهاره» و«ليله» مرفوعاً ومنصوباً.

{وقوله(علیه السلام): «دَعِي الصَّلاَةَ أيّام أقرائك»} وجه الاستدلال: أنّه لو كان المراد من الصّلاة الصّلاة الصّحيحة، لزم كون الأمر إرشاديّاً، أو أنّ الأمر تعلّق بغير المقدور، وذلك لأنّ الحائض لا تتمكّن من الصّلاة الصّحيحة، فإن أُمِرَتْ حينئذٍ

ص: 149


1- الكافي 3: 85؛ تهذيب الأحكام 1: 382.

ضرورة أنّه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لزم عدم صحّة النّهي عنها؛ لعدم قدرة الحائض على الصّحيحة منها.

وفيه: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة.

مع أنّ المراد في الرّواية الأُولى هو خصوص الصّحيح، بقرينة أنّها ممّا بني عليها الإسلام.

___________________

بتركها كان من قبيل (لا تَطِرْ)، فلا بدّ أن يراد بالصّلاة الأعمّ من الفاسدة، فيكون المعنى: «دَعِيْ الصَّلاةً» وتنطبق حينئذٍ على الفاسدة، ولأجله تكون الصّورة منهيّاً عنها {ضرورة أنّه لو لم يكن المراد منها} أي: من الصّلاة في «دَعِي الصَّلاَةَ» {الفاسدة لزم عدم صحّة النّهي عنها} إلّا إرشاديّاً، وذلك {لعدم قدرة الحائض} تكويناً {على الصّحيحة منها} كعدم قدرة الجُنُبِ من الصّلاة الصّحيحة تكويناً.

والحاصل: الأمر دائِرٌ بين أن يكون الأمر إرشاديّاً، وبين أن يكون متعلّقاً بغير المقدور، وبين أن يكون لفظ (الصَّلاَة) مستعملاً في الفاسد مجازاً، وبين أنيكون لفظ (الصّلاة) اسماً للأعم، والثّلاثة الأُوَل باطلة، فتعيّن الرّابع.

{وفيه: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة} فالقدر المسلّم استعمال اللّفظ في الرّوايتين في الأعم، لكن كون هذا الاستعمال حقيقةً لم يدلّ عليه دليلٌ.

وقد تقدّم - غيرَ مرّةٍ - أنّ التّمسّك بأصالة عدم القرينة تجري لإثبات أصل المراد، لا لإثبات أنّه على نحو الحقيقة أو المجاز {مع} أنّا لا نسلّم {أنّ المراد} بهذه الألفاظ الواقعة {في الرّواية الأُولى} هو الأعمّ، بل نقول المراد منها {هو خصوص الصّحيح} وذلك {بقرينة} قوله(علیه السلام): {إنّها ممّا بني عليها الإسلام} فإنّ البناء على الصّحيح بديهةً.

ص: 150

ولا ينافي ذلك بطلان عبادة منكري الولاية؛ إذ لعلّ أخذهم بها إنّما كان بحسب اعتقادهم، لا حقيقةً، وذلك لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو الأعمّ. والاستعمال في قوله: «فلو أنّ أحداً صام نهاره» الخ كان كذلك - أي: بحسب اعتقادهم - أو للمشابهة والمشاكلة.

___________________

{و} إن قلت: هذا ينافي قوله(علیه السلام): «فأخذ النّاس» وقوله: «لم يقبل له» وقوله: «فلو أنّ أحداً»، كما تقدّم.

قلتُ: {لا ينافي ذلك} أي: كون المراد بالرواية خصوص الصّحيح {بطلان عبادة منكري الولاية} وجه عدم المنافاة {إذ لعلّ أخذهم بها} أي: بالأربع {إنّما كان بحسب اعتقادهم، لا} في نفس الأمر {حقيقة} فالمراد هو الصّحيح لكنّه اعتقادي {وذلك لا يقتضي استعمالها في الفاسد}مجازاً {أو الأعم} ومثله قوله: «لم يقبل» الخ. وقوله: «فلو أنّ أحداً» الخ.

نعم، يبقى الاستخدام ولا ضير فيه بعد وجود القرينة وهي قوله(علیه السلام): «بني الإسلام»، كما تقدّم.

{و} بهذا تبيّن أنّ {الاستعمال في قوله} (علیه السلام): {«فلو أنّ أحداً صام نهاره» الخ كان كذلك، أي}: أنّ المراد بالصّوم الصّوم الصّحيح، لكن {بحسب اعتقادهم} لا بحسب نفس الأمر حقيقةً {أو للمشابهة والمشاكلة} يعني: أنّ إطلاق ألفاظ العبادات على عبادة العامّة للمشابهة مع الأعمال الصّحيحة.

وكلمة «أو» إمّا عطف على قوله: «بحسب اعتقادهم لا حقيقة» وإمّا عطف على قوله: «أي: بحسب اعتقادهم» والأوّل أصوب، والثّاني أقرب.

وعلى كلّ تقديرٍ، فهذا جوابٌ ثالثٌ عن الرّواية، وحاصله أن يكون الاستعمال في الفاسد، ولكن أُطلق اللّفظ الموضوع للصّحيح عليه باعتبار مشابهة عمل تاركي الولاية صورةً لعمل الآخذين بها.

ص: 151

وفي الرّواية الثّانية، النّهي للإرشاد إلى عدم القدرة على الصّلاة، وإلّا كان الإتيان بالأركان وسائر ما يعتبر في الصّلاة، بل بما يسمّى في العرف بها - ولو أخلّ بما لا يضرّ الإخلال به بالتّسمية عرفاً - محرّماً على الحائض ذاتاً، وإن لم تَقْصِد به القربة. ولا أظنّ أن يلتزم به المستدِلّ بالرّواية، فتأمّل جيّداً.

___________________

{وفي الرّواية الثّانية} أي: مع أنّ الرّواية الثّانية - وهي: «دَعِي الصَّلاَة» - نقول: إنّ الصّلاة مستعملة في الصّحيحة و{النّهيللإرشاد إلى عدم القدرة على الصّلاة} في وقت الحيض، فمفاد «دَعِيْ الصَّلاَة» عدم تمكّن الحائض منها {وإلّا} يكن النّهي للإرشاد - بل كان مولويّاً - لزم حرمة إتيانها بصورة الصّلاة، لتمرين طفلها وغيره.

وبعبارة أُخرى {كان الإتيان بالأركان} الصّلاتيّة {وسائر ما يعتبر في الصّلاة} من الأجزاء والشّرائط {بل} كان الإتيان {بما يسمّى في العرف بها} أي: بالصّلاة {ولو أخلّ بما} هو ركن، لكن بحيث {لا يضرّ الإخلال به بالتّسمية} باسم الصّلاة {عرفاً، محرّماً} خبر «كان» أي: يلزم من كون النّهي مولويّاً حرمة صورة الصّلاة {على الحائض ذاتاً، وإن لم تقصد به} أي: بإتيانها {القربة} حتّى تكون محرّماً تشريعاً.

{ولا أظنّ أن يلتزم به} أي: بكون صورة الصَّلاَة محرّمة على الحائض ذاتاً {المستدِلّ بالرّواية} للأعمّ {فتأمّل جيّداً}.

ولتوضيح المقام لا بأس بالإشارة إلى ما ذكره الشّيخ الأنصاري(قدس سره) في كتاب الطّهارة قال: «ثمّ إنّه لا إشكال في تحريم الصّلاة من حيث التّشريع، وهل هي محرّمة ذاتاً - كقراءة العزائم - أو لا حرمة فيها إلّا من جهة التّشريع بفعل الصّلاة الغير المأمور بها؟ وجهان:

[أ] من التّصريح بعدم الجواز، والأمر بالترك في النّصوص وأكثر معاقد الإجماعات.

ص: 152

ومنها: أنّه

___________________

ففي صحيحة زرارة: «إذا كانت المرأة طامثاً فلا تحلّ لها الصّلاة»(1)، وفي صحيحة أُخرى: «لا تحلّ لها الصّلاة»(2)، وفي أُخرى: «إذا دفقته - يعني الدّم - حرمت عليها الصّلاة»(3)،

ونحوها غيرها(4)،

وفي المنتهى: «يحرم على الحائض الصّلاة والصّوم، وهو مذهب عامّة أهل الإسلام»(5).

[ب] ومن أنّ الظّاهر توجّه التّحريم والأمر بالتّرك في الأدلّة على فعل الصّلاة على وجه التّعبّد والمشروعيّة، كما كانت تفعلها قبل الحيض، ولا كلام في حرمة ذلك؛ لأنّه تشريع وتعبّد بما لم يأمر به الشّارع.

وإنّما تظهر الثّمرة في حسن الاحتياط بها بفعل الصّوم والصّلاة الواجبين أو المندوبين عند الشّكّ في الحيض مع فرض عدم أصل أو عموم يرجع إليه، فإن قلنا بالتّحريم الذّاتي لم يحسن لها الاحتياط سيّما بفعل المندوبة، والأقوى عدمه، للأصل وظهور النّواهي في ما ذكرنا، مع أنّ أوامر التّرك واردة في مقام رفع الوجوب، ولذا أبدل التّحريم في المعتبر(6) والنّافع(7)

بعدم الانعقاد، فقال في المعتبر: «لا تنعقد للحائض صوم ولا صلاة، وعليه الإجماع»(8)، انتهى كلامه.

[5] {ومنها} أي: من الوجوه الّتي استدلّ بها الأعمّي {أنّه} لزم عدم الحِنْثِ والخلف على تقدير كون ألفاظ العبادة موضوعة للصّحيح، وبيان ذلك يتوقّف على

ص: 153


1- وسائل الشيعة 2: 343.
2- وسائل الشيعة 2: 345.
3- وسائل الشيعة 2: 334.
4- وسائل الشيعة 2: 368.
5- منتهى المطلب 2: 343.
6- المعتبر في شرح المختصر 1: 221.
7- المختصر النافع: 10.
8- كتاب الطهارة 3: 374.

لا شبهة في صحّة تعلّق النّذر وشبهه بترك الصّلاة في مكانٍ تَكْرَهُ فيه، وحصولِ الحنث بفعلها، ولو كانت الصّلاة المنذور تركها خصوصَ الصّحيحة لا يكاد يحصل به الحِنْثُ أصلاً؛ لفساد الصّلاة المأتي بها؛ لحرمتها، كما لا يخفى.

بل يلزم المحال؛ فإنّ النّذر - حسب الفرض - قد تعلّق بالصّحيح منها ولا تكاد تكون

___________________

تمهيد مقدّمتين:

الأُولى: أنّه {لا شبهة في صحّة تعلّق النّذر وشبهه} من العهد واليمين {بترك الصّلاة في مكان تكره} الصّلاة {فيه} كالحمّام وغيره.

{و} الثّانية: {حصول الحنث بفعلها} أي: بفعل الصّلاة في تلك الأمكنة المكروهة.

{و} إذا تمهّدت المقدّمتان قلنا: لا بدّ أن تكون الصّلاة موضوعةً للأعمّ من الصّحيح والفاسد حتّى يكون النّذر متعلّقاً بالأعم، إذ {لو كانت الصّلاة المنذور تركها خصوص الصّحيحة} ثمّ صلّى في ذلك المكان، فإمّا أن تكون صلاته صحيحةً، وإمّا أن تكون باطلةً.

أمّا الأوّل: فغير ممكن، إذ النّهي في العبادة يقتضي فسادها.

وأمّا الثّاني: فغير صحيح؛ لأنّه يوجب عدم الحنث أوّلاً، إذ المنذور ترك الصّلاة الصّحيحة وهذه باطلة، وعليه يلزم أنّه {لا يكاد يحصل به} أي: بفعل الصّلاة {الحنث أصلاً} وإنّما يلزم عدم الحنث {لفساد الصّلاة المأتي بها لحرمتها} أي: لحرمة الصّلاة {كما لا يخفى} وذلك للنّهي عنها بعد النّذر المقتضي للفساد - كما تقدّم - وعدمالحنث ينافي المقدّمة الثّانية {بل يلزم} الخلف {المحال} ثانياً، إذ الصّحّة مأخوذة في موضوع النّذر حسب الفرض، فصحّة الصّلاة مقتضية لانعقاد النّذر، وانعقاد النّذر مقتضٍ لبطلانها، لتعلّق النّهي بها {فإنّ النّذر - حسب الفرض - قد تعلّق بالصّحيح منها، ولا تكاد تكون} الصّلاة المأتي

ص: 154

معه صحيحة، وما يلزم من فرض وُجُوْدِهِ عدمُهُ محالٌ.

قلت: لا يخفى أنّه لو صحّ ذلك لا يقتضي إلّا عدم صحّه تعلّق النّذر بالصّحيح، لا عدم وضع اللّفظ له شرعاً، مع أنّ الفساد من قبل النّذر لا ينافي صحّة متعلّقه،

___________________

بها في المكان المكروه {معه} أي: مع النّذر {صحيحة} فيلزم من صحّتها عدم صحّتها {وما يلزم من فرض وجوده عدمه محال}.

وإن شئت قلت: يلزم من تعلّق الحَلْف عدم تعلّق الحَلْف، إذ الحَلْف لا يتعلّق إلّا بالصّحيحة، وحين تعلّق الحَلْف تنقلب فاسدة، للنّهي عنها حينئذٍ، وحيث فسدت لم يعقل بقاؤها متعلّقة للحَلْف.

وأمّا على الأعمّ فلا يلزم شيء من الإشكالين، إذ متعلّق النّذر على الأعمّ هي الطّبيعة المطلقة الممكنة الحصول في ضمن كلّ واحدٍ من الصّحيح والفاسد، وبعد تعلّق النّذر تكون الطّبيعة موجودةً، ويمكن الإتيان بها لكن في ضمن أحد فرديها - أعني: الفاسدة - ، ومعلوم أنّه لا يلزم من انتفاء أحد الفردين انتفاء الطّبيعة، فلو أتى بالصّلاة في الحمّام حنث، لإتيانه بالفرد ولو كانت فاسدة للنّهي عنها.

{قلت} في جواب الإشكالين: {لا يخفى أنّه لو صحّ ذلك} الاستدلال، ولزم الإشكالان على تقدير تعلّق النّذر بالصّحيح، فهو غير ضارّ، إذ {لايقتضي} الاستدلال {إلّا عدم صحّة تعلّق النّذر بالصحيح} فلو كان مراد النّاذر الصّحيح، لم ينعقد النّذر للمحال المتقدّم، {لا} أنّه يقتضي {عدم وضع اللّفظ له} أي: للصّحيح {شرعاً}.

والحاصِلُ: أنّ الإشكال يلزم على تقدير نذر الصّحيح، ولا يلزم على تقدير نذر الأعم، سواء قلنا بالصّحيح أو الأعم، فعدم صحّة تعلّق النّذر بالصّحيح لا يكشف عن عدم وضع اللّفظ للصّحيح، لعدم التّلازم بينهما. {مع أنّ} لنا جواباً آخر عن الإشكال، وهو أنّ {الفساد} الطّارئ على العبادة {من قبل النّذر} وبعده {لا ينافي صحّة متعلّقه} قبل النّذر.

ص: 155

فلا يلزم من فَرْضِ وُجُوْدِها عَدَمُهَا.

ومن هنا انقدح: أنّ حصول الحِنْث إنّما يكون لأجل الصّحّة لولا تعلّقه. نعم، لو فرض تعلّقه بترك الصّلاة المطلوبة بالفعل

___________________

وجه عدم المنافاة: أنّ رتبة الصّلاة الصّحيحة متقدّمة على رتبة الصّلاة الفاسدة، وذلك لأنّ الصّلاة الصّحيحة رتبتها قبل تعلّق النّذر، والصّلاة الفاسدة رتبتها بعد تعلّق النّذر، والمتبادر من إطلاق النّاذر إرادة ترك الصّلاة الصّحيحة لولا النّذر، وإن كانت بعد تعلّق النّذر بها فاسدة، لعموم إمكان اجتماع الأمر المتقدّم على النّذر والنّهي المتأخّر عنه.

وإشكال الخلف إنّما نشأ من الخلط بين الرّتبتين، والنّذر من قبيل سائر العناوين الثّانويّة، كالاضطرار والحرج الّتي هي متوسّطة بين الحرمة المتقدّمة والحلّيّة المتأخّرة، وبهذا تبيّن الجواب عن إشكال الخلف {فلا يلزم من فرض وجودها} أي: وجود الصّحّة {عدمها} أي: عدم الصّحّة، فإنّ عدم الصّحّة بملاحظة النّذر، لا ينافي الصّحّة بملاحظة قبل النّذر.{ومن هنا انقدح} جواب الإشكال الأوّل أيضاً وهو عدم الحِنْث. بيانُهُ: {أنّ حصول الحِنْث إنّما يكون لأجل الصّحّة لولا تعلّقه} أي: تعلّق النّذر، إذ كون الصّلاة صحيحةً في رتبةٍ سابقةٍ على النّذر يوجب إتيانُها في الحمّام الحِنْثَ، وإن كانت فاسدةً بعد تعلّق النّذر.

ولا يخفى أنّ الجواب الأوّل أيضاً يجري فيه، كما ذكره المشكيني(قدس سره)(1)، إذ عدم الحِنْث لو صحّ لا يقتضي إلّا عدم صحّة النّذر بالصّحيح، لا عدم وضع اللّفظ له شرعاً.

{نعم، لو فرض تعلّقه} أي: تعلّق النّذر {بترك الصّلاة المطلوبة بالفعل} كأن نذر

ص: 156


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 195.

لكان مَنْعُ حصول الحِنْثِ بفعلها بمكانٍ من الإمكان.

بقي أُمور:

الأوّل: أنّ أسامي المعاملات إن كانت موضوعة للمسبّبات، فلا مجال للنّزاع في كونها موضوعةً للصّحيحة أو الأعمّ؛ لعدم اتّصافها بهما، كما لا يخفى،

___________________

بأنّه لا يصلّي يوم الجمعة في الحمّام - الصّلاة المطلوبة للشّارع في يوم الجمعة - لم يصحّ هذا النّذر، لورود الإشكالين عليه؛ لأنّه يلزم وجود الصّحّة والفساد في رتبة واحدة - أعني: بعد النّذر - و{لكان منع حصول الحِنْث بفعلها} أي: بفعل الصّلاة في يوم الجمعة في الحمّام {بمكانٍ من الإمكان} لأنّه بعد تعلّق النّذر لو صلّى في الحمّام لم تكن صلاته صحيحةً، إذ النَّذْرُ مقتضٍ للنّهي المقتضي للفساد، وحيث لم تكن الصّلاة صحيحة لم يَحْنَثْ.وقد علّق المصنّف على قوله: «بالفعل» ما لفظه: «أي: ولو مع النّذر، ولكن صحّته كذلك مشكل، لعدم كون الصّلاة معه صحيحة مطلوبة، فتأمّل جيّداً»(1)، انتهى. وهذا ما أشرنا إليه بقولنا: «لم يصحّ هذا النّذر لورود الإشكالين» الخ... .

{بقي} في المقام {أُمور} ثلاثة:

{الأوّل: أنّ أسامي المعاملات} المتداولة في ألسن العرف: كالبيع، والإجارة، والرَّهْن، والنِّكاح، والظّاهر أنّ المراد بالمعاملات هنا الأعمّ من العقود والإيقاعات، بقرينة مقابلتها بالعبادات، فالكلام يشمل حتّى الطّلاق والعتق ونحوهما {إن كانت موضوعةً للمسبّبات} مثل أن يكون البيع عبارةً عن ملكيّة حاصلة من تمليك العين بِعِوَضٍ، والإجارة تمليك المنفعة كذلك، والطّلاق إزالة قيد النّكاح بلا عِوَضٍ {فلا مجال للنّزاع في كونها} أي: كون هذه الألفاظ {موضوعةً للصّحيحة أو الأعمّ} وذلك {لعدم اتصافها} أي: اتّصاف المعاملات {بهما} أي: بالصّحّة والفساد {كما لا يخفى}

ص: 157


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 195.

بل بالوجود تارةً وبالعدم أُخرى.

وأمّا إن كانت موضوعة للأسباب، فللنّزاع فيه مجالٌ.

لكنّه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصّحيحة أيضاً،

___________________

إذ أنّ الصّحّة عبارة عن: تماميّة الشّيء بحيث يترتّب عليه الأثر المطلوب منه، والفساد عبارة عن: عدم التّماميّة بحيث لا يترتّب عليه الأثر المطلوب، وهذا إنّما يتصوّر في ما كان الشّيء مركّباً، وأمّا إذا كان بسيطاً فوجوده وصحّته مساوقان، فلا يمكن فيه الوجود دون الصّحّة حتّى يطرأ عليه الفساد.مثلاً: يعقل في الصّلاة الصّحّة باعتبار اجتماع الأجزاء والشّرائط، والفساد باعتبار وجود بعض الأجزاء، وعدم وجود بعض مثلاً، أمّا كون الشّيء ل (زيد) فلا يتصوّر فيه الفساد أصلاً، إذ الشّيء إمّا ملك ل (زيدٍ) أم لا.

والحاصل: أنّ الشّيء لو كان بسيطاً لا يتّصف بالصّحّة والفساد {بل} يتّصف {بالوجود تارةً} إن كان سببه موجوداً {وبالعدم أُخرى} إن كان سببه مفقوداً.

{وأمّا إن كانت} ألفاظ المعاملات {موضوعةً للأسباب} كأن يكون البيع موضوعاً ل (بِعْتُ) والطّلاق موضوعاً لِ- (هي طالق) وكذا سائر الألفاظ {فللنّزاع فيه} أي: في كونها موضوعة للصّحيح أو الفاسد {مجال} فالصّحيحيّ يقول: إنّها أسامٍ للعقد المؤثّر الّذي هو جامع للأجزاء والشّرائط، والأعمّي يقول: إنّها أسامٍ لمطلق العقد، مؤثّراً كان أم لا، أي: سواء جمع الشّرائط والأجزاء، أم لا.

ثمّ إنّ هنا على الصّحيح احتمالاتٍ ثلاثةً:

الأوّل: أن تكون المعاملات أسامي للسّبب المؤثّر شرعاً وعرفاً.

الثّاني: أن تكون أسامي للسّبب المؤثّر عرفاً فقط.

الثّالث: أن تكون أسامي للمؤثّر شرعاً فقط {لكنّه لا يبعد دعوى كونها} أسامي {موضوعة للصّحيحة} فقط {أيضاً} كما اخترنا ذلك في ألفاظ العبادات والجامع

ص: 158

وأنّ الموضوع له هو العقد المؤثّر لأثر كذا شرعاً وعرفاً.

والاختلافُ بين الشّرع والعرف في ما يعتبر في تأثير العقد، لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى، بل الاختلافَ في المحقّقات والمصاديق،

___________________

بين الأفراد المؤثّرة الصّحيحة واضح، ولو كان الجامع بين أفراد العبادات مشكلاً، وذلك لإمكان تصوّر مفهوم إنشاء المبادلة بين العين والمال في البيع، فيوضع له اللّفظ.

ثمّ إنّ مستند القول بوضعها للصّحيح هو التّبادر من حاقّ لفظة (البيع) وسائر مشتقّاتها، وكذا سائر العقود والإيقاعات، بل يمكن جريان أدلّة الطّرفين الّتي سبق ذكرها في باب العِبادات هنا.

هذا كلّه في مقام أصل كونها للصّحيح أو الفاسد {و} أمّا الاختلاف الثّاني فالظّاهر {أنّ الموضوع له} لهذه الأسامي {هو العقد المؤثّر لأثر كذا} أي: المبادلة وغيرها {شرعاً وعرفاً} إذ الظّاهر عدم ثبوت حقيقة شرعيّة في باب المعاملات، بل كلّها من باب الإمضاء والشّارع استعملها في ما لها من المعاني العرفيّة.

{و} إن قلت: فما هذا الاختلاف الواقع بين الشّرع والعرف في بعض المعاملات، ضرورةَ صحّة المعاملة الرّبويّة، عرفاً لا شرعاً، وكذا بعض أقسام البيع المجهول، والمعاملة مع غير البالغ وغيرها.

قُلْتُ: {الاختلافُ} المُشَاهَدُ {بين الشّرع والعرف في ما} أي: في بعض الأجزاء والشّرائط الّذي {يعتبر في تأثير العقد} كأن يرى الشّارع عدم الزّيادة في الجنس الواحد والبلوغ ونحوهما شرطاً في تأثير العقد دون العرف {لا يوجب الاختلاف بينهما في} أصل {المعنى} بحيث يكون في الشّرع للصّحيح وفي العرف للأعمّ حتّى ينافي ما ادّعيناه {بل الاختلاف} بين الشّرع والعرف في بعض الموارد من باب الاختلاف {في المحقّقات} لذلك الكلّي المتّفق عليه {والمصاديق} له.

ص: 159

وتخطئةَ الشّرعِ العرفَ في تخيّل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره - مُحَقِّقاً لما هو المؤثّر، كما لا يخفى، فافهم.

___________________

والحاصِلُ: أنّه ليس اختلاف في المفهوم، بل الاختلاف في المصداق، وذلك كما إذا اتفق العرف على أنّ مفهوم الماء عبارةٌ عن: الجسم السّيّال البارد بالطّبع، ثمّ قال بعضهم: بأنّ الخَلَّ ليس بماءٍ، وقال آخر: إنّه ماء، ظنّاً منه ذلك لاتّحادهما في الصّورة، وعدم علمه بحقيقة الخَلّ وطعمه ورائحته وخاصيّته.

{و} بهذا تبيّن أنّ {تخطئة الشّرع} لأهل {العرف} في بعض المعاملات إنّما هي {في تخيّل} العرف {كون العقد بدون ما اعتبره} الشّرع من الأجزاء والشّرائط الّذي كان معتبراً {في تأثيره} واقعاً {مُحَقِّقاً} - بصيغة اسم الفاعل - يعني: يتخيّل العرف أنّ العقد بدون الشّرط يحقّق {لما هو المؤثّر} في النّقل والانتقال مثلاً، مع أنّه ليس بمؤثّر واقعاً.

وممّا ذكر تبيّن جواز التّمسّك بالإطلاقات الواردة في بيان المعاملات في ما لو شكّ في شرط أو جزء، وفي المقام كلمات للأعلام وشّحنا بها تقريرات مباحث بعض أساتيدنا - دام ظلّه - .

ثمّ إنّ بعض الأعلام ذكر في وجه التّمسّك بإطلاق المعاملات ما حاصله: أنّ المراد بالمسبّب هو الاعتبار الصّادر من البائع المظهر باللّفظ أو بغيره، والاعتبار أمر قائم بالمعتبر بالمباشرة بلا احتياج إلى سبب أو آلة، وعلى هذا فلو كان دليل الإمضاء من الشّرع وارداً في مقام إمضاء الاعتبارات الصّادرة من المتعاملين، فمقتضى إطلاقه وعدم التّقييد بمظهر خاصّ يثبت عموم الإمضاء لكلّ ما يمكن أن يكون مظهراً له، وبهذا يتمّ وجه التّمسّك بالإطلاق في المعاملات {كما لا يخفى، فافهم} لعلّه إشارة إلى بعد ما ذكره من كون الاختلاف بين الشّرع والعرف إنّما هو في المصاديق، فإنّه لا برهان عليه، بل قد يكون البرهان على خلافه، كما حقّق فيمحلّه.

ص: 160

الثّاني: أنّ كون ألفاظ المعاملات أسامي للصّحيحة لا يوجب إجمالها كألفاظ العبادات، كي لا يصحّ التّمسّك بإطلاقها عند الشّكّ في اعتبار شيء في تأثيرها شرعاً؛ وذلك لأنّ إطلاقها - لو كان مسوقاً في مقام البيان - ينزّل على أنّ المؤثّر عند الشّارع هو المؤثّر عند العرف، ولم يعتبر في تأثيره عنده غير ما اعتبر فيه عندهم،

___________________

{الثّاني} من الأُمور الثّلاثة الباقية في بيان أنّ ما ذكر من الثمرة بين الصّحيحيّ والأعمّي في باب العبادات لا تجري في باب المعاملات، إذ {إنّ كون ألفاظ المعاملات أسامي للصّحيحة لا يوجب إجمالها} بحيث لا يمكن التّمسّك بها عند الشّكّ لما تقدّم، وليست {كألفاظ العبادات} على القول بوضعها للصّحيح {كي لا يصحّ التّمسّك بإطلاقها} أي: بإطلاق ألفاظ المعاملات {عند الشّكّ في اعتبار شيء} من الأجزاء والشّرائط {في تأثيرها شرعاً}.

نعم، قد يستشكل في التّمسّك بالإطلاق بناءً على الوضع للصّحيح الشّرعي فقط، لكن تبيّن الجواب عنه ممّا تقدّم، {وذلك} أي: وجه التّمسّك بالإطلاق مع كونها أسامي للصّحيح {لأنّ إطلاقها} أي: إطلاق ألفاظ المعاملات {لو كان مسوقاً في مقام البيان} بأن تمّت مقدّمات الحكمة {ينزّل} ذلك الإطلاق {على أنّ المؤثّر عند الشّارع هو المؤثّر عند العرف} من غير اختلاف بينهما في المفهوم {و} كشف ذلك الإطلاق عن أنّه {لم يعتبر فيتأثيره} أي: تأثير المؤثّر {عنده}(صلی الله علیه و آله) {غير ما اعتبر فيه} أي: في التّأثير {عندهم} إذ لو كان شيء زائداً على المفهوم العرفي هناك، لزم عليه البيان وإلّا يكون نقضاً لغرضه.

والحاصِلُ: أنّ المعاملات لمّا كانت أُموراً عرفيّة مفهوماً ومصداقاً، يصحّ أن ينزل إطلاق كلام الشّارع على المعاني العرفيّة، وحينئذٍ يكون فهم العرف في التّعيين متّبعاً ما لم يصل من الشّارع اعتبار جزء أو شرط، ومع الاعتبار يقيّد المفهوم العرفي بمقدار ثبوت الخلاف، ويبقى الإطلاق في سائر ما شكّ في دخله

ص: 161

كما ينزّل عليه إطلاق كلام غيره، حيث إنّه منهم، ولو اعتبر في تأثيره ما شكّ في اعتباره كان عليه البيان ونصبُ القرينة عليه، وحيث لم ينصِب بَانَ عدمُ اعتبارِهِ عنده أيضاً؛ ولذا يتمسّكون بالإطلاق في أبواب المعاملات مع ذَهَابهم إلى كون ألفاظها موضوعةً للصّحيح.

___________________

بحاله متّبعاً، كما هو الشّأن في جميع المطلقات.

مثلاً: لو علم من الشّرع اشتراط البلوغ في المتعاقدين قيّد المفهوم العرفي بهذا القيد، ولو شكّ في اشتراط اللّفظ في العقد حتّى لا تصحّ المعاطاة، يتمسّك بإطلاق {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1) أو إطلاق {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(2) في نفي هذا الشّرط، فيحكم بصحّة المعاطاة.

وينزّل كلام الشّارع على الفهم العرفي {كما ينزّل عليه إطلاق كلام غيره} حين الإطلاق {حيث إنّه} (صلی الله علیه وآله) {منهم} أي: من العرف، فكلامه مثل كلامهم، إلّا في ما نصّ على خلافهم {ولو اعتبر} (صلی الله علیه و آله) {في تأثيره} أي: في تأثير العقد {ما شكّ في اعتباره} كاللفظ في البيع ونحوه {كان عليه البيان} لئلّا يكون نقضاً لغرضه {و} وجب {نَصْبُ القرينة عليه} أي: على ما اعتبره زائداً على العرف {وحيث لم ينصب} القرينة على خلاف المفهوم العرفي {بان عدم اعتباره} أي: عدم اعتبار ذلك المشكوك {عنده} (صلی الله علیه و آله) {أيضاً} أي: كما لم يعتبر عند العرف.

{ولذا} أي: ولعدم كون ألفاظ المعاملات موضوعة للصّحيح موجباً لإجمالها ترى الفقهاء من الصّدر الأوّل إلى الحال الحاضر {يتمسّكون بالإطلاق} في نفي الجزئيّة والشّرطيّة المشكوكة {في} جميع {أبواب المعاملات} الأعمّ من العقود والإيقاعات {مع ذَهَابهم} في هذه المسألة {إلى كون ألفاظها} أي: ألفاظ المعاملات {موضوعة للصّحيح} فقط.

ص: 162


1- سورة البقرة، الآية: 275.
2- سورة المائدة، الآية: 1.

نعم، لو شُكَّ في اعتبار شيءٍ فيها عرفاً، فلا مجال للتمسّك بإطلاقها في عدم اعتباره، بل لا بدّ من اعتباره؛ لأصالة عدم الأثر بدونه، فتأمّل جيّداً.

___________________

وبذلك تبيّن أنّ ما توهّمه بعض من أنّ لازم قول الصّحيحي عدم التّمسّك بالإطلاق في غير محلّه.

هذا كلّه في ما لو كان الشّكّ في اعتبار الشّارع شيئاً زائداً على العرف {نعم، لو شُكَّ في اعتبار شيءٍ فيها} أي: في المعاملة {عرفاً} كما لو شكّ في أنّ البيع في مثل الدّار والعَقَار يصدق علىالمعاطاة المجرّدة من اللّفظ أم لا {فلا مجال للتمسّك بإطلاقها} أي: بإطلاق ألفاظ المعاملات {في عدم اعتباره} أي: عدم اعتبار ذلك المشكوك، وذلك لعدم إحراز عنوان المطلق حينئذٍ، بناءً على كونه موضوعاً للصّحيح {بل لا بدّ} حين الشّكّ {من اعتباره} في المعاملة، إذ لو أجرى المعاملة بدون ذلك المشكوك، لم تؤثّر الأثر المطلوب ظاهراً {لأصالة عدم الأثر بدونه} أي: بدون ذلك المشكوك، وهذه هي أصالة الفساد المعروفة في أبواب المعاملات حين الشّكّ {فتأمّل جيّداً}.

ولا يذهب عليك أنّ أصالة الفساد في المعاملة لا تنافي أصالة الصّحّة المشهورة، ولا أصالة اللّزوم الّتي ذكرها غير واحد من العلماء تبعاً للعلّامة(قدس سره)، كما بيّنها الشّيخ(رحمة الله) في باب الخيارات من المكاسب(1).

أمّا الأوّل: فلأنّ أصالة الصّحّة إنّما تجري في الشّبهات المصداقيّة بعد وقوع الفعل، إذ دليلها «ضَعْ أمرَ أخيك على أحسنه»(2) ونحوه، وذلك كما لو عامل معاملة مع العلم بشرائط المعاملة وموانعها، ثمّ شكّ في أنّه هل كانت المعاملة في حال صِغَرِهِ، أو كان الطّرف مأذون التّصرّف ونحوه، فإنّه يجري أصالة الصّحّة،

ص: 163


1- كتاب المكاسب 5: 17.
2- وسائل الشيعة 12: 302.

الثّالث:

___________________

على إشكال في بعض الموارد، كما ذكره الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل(1)،

وأمّا أصالة الفساد فمجراها في الشّبهات المفهوميّة، كما لو شكّ في مدخليّة اللّفظفي عقد البيع ونحوه، والسّرّ فيه أنّه من باب العنوان والمحصّل على ما هو مبنى بعض الأعلام.

وأمّا الثّاني: فلأنّ أصالة اللّزوم فرع أصالة الصّحّة، وحيث انتفى الأصل انتفى الفرع، وفي المقام بحث طويل أوكلناه إلى تقريرات مباحث الأُستاذ.

{الثّالث:} من الأُمور الباقية في المقام بيان كيفيّة دخالة شيءٍ في المركّب بحيث لو انتفى ذلك انتفت التّسمية، وقبل الشّروع في المطلب لا بأس ببيان الفرق بين الجزء والشّرط، فنقول: لو دلّ الدّليل على اعتبار شيءٍ في شيءٍ يكون ذلك الشّيء جزءاً، ولو دلّ الدّليل على تقييده به يكون شرطاً.

قال العلّامة القوچاني(رحمة الله): «إنّ الجزء ما كان داخلاً في أصل قوام المركّب، والشّرط ما كان خارجاً عنه وإن كان منشأ الخَصوصيّة، ويفرق بينهما بأنّ الشّرط ما كان اعتباره لفائدة في غيره، والجزء ما كان اعتباره لفائدة متعلّقة به بذاته، وإن كان تحصيلها منه متوقّفاً على انضمام سائر الأجزاء إليه، وبأنّ الشّرط ما كان صفة وحالة، والجزء ما كان فعلاً، والكلّ متقاربة»(2)،

انتهى كلامه رفع مقامه.

ثمّ إنّه تظهر الثّمرة بين الجزئيّة والشّرطيّة بلزوم قصد القربة في أجزاء العبادة، إذ الأمرُ بالكلّ - المشروط بقصد القربة - عينُ الأمر بالأجزاء بخلاف الشّروط، إلّا أن يدلّ دليل خارج على لزوم قصد القربة في الشّرائط، كما دلّ بالنّسبة إلى الطّهارات الثّلاث، قيل: وتظهر الثمرة في جَرَيان قاعدة التّجاوز ونحوها.

ص: 164


1- فرائد الأصول 3: 353.
2- تعليقة القوچاني على كفاية الأصول 1: 105.

أنّ دَخْلَ شيءٍ وجوديٍّ أو عدميّ في المأمور به.

تارةً: بأن يكون داخلاً في ما يأتلف منه ومن غيره

___________________

ثمّ لا يخفى أنّ المركّب - كما ذكره بعض المحقّقين - على قسمين:

الأوّل: المركّب الحقيقي، وهو ما له نظام ووجود واحد مع التّركيب - كالمادّة والصّورة - وهو مقابل البسيط الحقيقي الّذي له وجود واحد بلا تركيب - كالمادّة المجرّدة - .

الثّاني: المركّب الاعتباري، وهو ما له وجودات حقيقيّة، وإنّما تركيبه ووحدته اعتباريّ، وحيث إنّ كلّ وجودين متقاربين - كالشجر الموضوع بجنب الحجر لا يسمّى مركّباً - ، فلا بدّ في إطلاق الوحدة على الوجودين من أحد أُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يكون اعتبار الوحدة من باب لحاظ الأجزاء بلحاظ واحد وتصوّر واحد، كالدار المركّبة من الغُرَف وغيرها، فاللحاظ واحد والملحوظ مستكثر.

الثّاني: أن يكون اعتبار الوحدة من باب ترتّب غرض واحد على هذه الوجودات، كالمعجون المؤتلف من أشياء متباينة الّذي له أثر كذا، فإنّ هذا المركّب يسمّى واحداً بلحاظ وحدة الأثر.

الثّالث: أن يكون اعتبار الوحدة من باب كون هذه الكثرة تعلّق بها طلب واحد، كالصّلاة الّتي تعلّق طلب واحد بالتكبير والرّكوع والسّجود وغيرها، من أجزائها الأُخر وعلى كلّ حال، فيسمّى كلّ واحد من تلك الكثرة أجزاءً.

إذا عرفت هذا فنقول: {إن دخل شيء وجوديّ} في المأمور به {أو} دخل شيء {عدميّ} فيه يكون على أنحاء، ولا يخفى أنّ المراد بدخل الشّيء العدمي أنّ وجود ذلك الشّيء يكون مخلّاً، لا أنّ العدم مؤثّر فإنّ التّأثير لا يتأتّى من العدم، وبهذا تبيّن سقوط الإشكال، بأنّه كيف يكون العدمي جزءاً أو شرطاً؟

وعلى كلّ تقدير فدخل ما له الدّخل {في المأمور به تارةً بأن يكون داخلاً في ما يأتلف} المطلوب {منه} أي: من هذا الدّخيل {ومن غيره} من سائر الأجزاء

ص: 165

وجُعِلَ جملته متعلّقاً للأمر، فيكون جزءاً له وداخلاً في قوامه.

وأُخرى: بأن يكون خارجاً عنه، لكنّه كان ممّا لا يحصل الخصوصيّة المأخوذة فيه بدونه، كما إذا أُخِذَ شيءٌ - مسبوقاً أو ملحوقاً به أو مقارناً له -

___________________

{و} ذلك حينما يكون {جعل جملته} أي: المركّب من هذا ومن غيره {متعلّقاً للأمر} كما لو أمر بالمركّب من الرّكوع والسّجود والقيام {ف} إنّه لو أمر بهذه الجملة {يكون} كلّ واحد من هذه الثّلاثة {جزءاً له} أي: للمأمور به فالجزئيّة أمر منتزع من ذلك التّكليف بالمجموع {و} يكون كلّ جزء {داخلاً في قوامه} بحيث لو انتفى بعضها انتفى المركّب إلّا بدليل آخر.

ثمّ إنّ الأجزاء قد تكون وجوديّةً، كالرّكوع، والسّجود، والتّشهّد، للصّلاة. وقد تكون عدميّةً كتروك الصّوم. وقد تكون مختلفةً كالأفعال والتّروك الدّخيلة في الحجّ.

{و} تارة {أُخرى} يكون دخل ما له الدّخل {بأن يكون خارجاً عنه} أي: عن المأمور به {لكنّه كان} ذلك المأمور به {ممّا لا يحصل الخصوصيّة المأخوذة فيه} أي: في المأمور به {بدونه} أي: بدون ذلك الخارج {كما إذا أخذ شيء} أي: المأمور به {مسبوقاً} بذلك الأمر الخارج، بأن كان تحقّق المأمور به متوقّفاً على سبق ذلك الخارج عليه، كالوضوء بالنّسبة إلى الصّلاة، فإنّها لا تتحقّق إلّا مسبوقة بالوضوء {أو} أخذ المأمور به {ملحوقاً به} بأن كان الأمر الخارج بعد المأمور به، بحيث لا يتحقّق المطلوب إلّا بشرط تحقّق ذلك الخارج بعد إتيان المكلّف به، وذلك كغسل المستحاضة فياللّيلة الآتية بالنّسبة إلى صوم اليوم المقدّم عليها، كما ذهب إليه بعض {أو} أخذ المأمور به {مقارناً له} كالصّلاة بالنّسبة إلى الطّهارة الخَبَثِيّة، والاستقبال والسِّتر، ونحوها.

ولا يخفى أنّ ما مثّلنا للقسم الأوّل - وهو الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة - إنّما هو

ص: 166

متعلّقاً للأمر، فيكون من مقدّماته لا مقوّماته.

وثالثةً: بأن يكون ممّا يتشخّص به المأمور به، بحيث يصدق على المتشخّص به عنوانُهُ، وربّما يحصل له بسببه مزيّة أو نقيصة.

ودخلُ هذا فيه أيضاً طوراً بنحو الشّطريّة، وآخر بنحو الشّرطيّة،

___________________

بناءً على أنّ الطّهارة المشترطة نفس العمل الخارجي، لا الأثر الحاصل منه، وإلّا كانت كالستر والاستقبال من المقارن.

وعلى كلّ حال فالمأخوذ سابقاً أو لاحقاً أو مقارناً يكون {متعلّقاً للأمر فيكون} ذلك الخارج المأخوذ {من مقدّماته} أي: مقدّمات المأمور به وشرائطه {لا} من {مقوّماته} وأجزائه الدّاخلة فيه.

ولا يخفى أنّ تسمية الشّرط المتأخّر مقدّمة بالعناية والمجاز.

{و} تارةً {ثالثةً} يكون دخل ما له الدّخل {بأن يكون ممّا يتشخّص به المأمور به} بأن يكون لحاظ الخصوصيّة بالإضافة إلى الفرد، أي: الحصّة المتشخّصة من الماهيّة {بحيث يصدق على} الكلّي {المتشخّص به} أي: بهذا التّشخّص {عنوانه} أي: عنوان ذلك الشّيء.

مثلاً: الجماعة ممّا يتشخّص بها الصّلاة المأمور بها، بحيث يصدق على كلّيالصّلاة المتشخّص بها عنوان الجماعة، فيقال: (صلاة الجماعة) {وربّما يحصل له} أي: للمأمور به {بسببه} أي: بسبب ما له دخل في مقام التّشخّص {مزيّة} في المأمور به {أو نقيصة} فيها {ودخل هذا} أي: ما له دخل في مقام التّشخّص {فيه} أي: في المأمور به {أيضاً} على قسمين، كما كانت الخصوصيّة الدّخيلة في أصل الماهيّة على نحوين {طوراً} يكون دخله {بنحو الشّطريّة} والجزئيّة للفرد، {و} طوراً {آخر بنحو الشّرطيّة} والخارجيّة بالنسبة إليه.

والمتحصّل من أوّل المطلب إلى هنا أنّ دَخْلَ ما له الدَّخْل على قسمين:

ص: 167

فيكون الإخلال بما له دَخْلٌ - بأحد النّحوين - في حقيقة المأمور به وماهيّته موجباً لفساده لا محالة، بخلاف ما له الدّخل في تشخّصه وتحقّقه

___________________

الأوّل: أن يكون ملحوظاً بالنسبة إلى الماهيّة.

الثّاني: أن يكون ملحوظاً بالنّسبة إلى الفرد، وكلّ من هذين على ضربين:

الأوّل: أن يكون دخيلاً بنحو الشّرطيّة.

الثّاني: أن يكون دخيلاً بنحو الجزئيّة. ثمّ إنّ الشّرط والجزء الدّخيلين في الفرد قد يكون موجباً للمزيّة، وقد يكون موجباً للنّقيصة، فالأقسام ثمانية:

الأوّل: جزء الماهيّة، ك (الحمد).

الثّاني: شرط الماهيّة المتقدّم، ك (الطّهارة).

الثّالث: شرط الماهيّة المقارن، ك (السِّتر).

الرّابع: شرط الماهيّة المتأخّر، ك (الغسل) للمستحاضة.

الخامس: جزء الفرد الموجب للمزيّة، ك (القنوت).السّادس: جزء الفرد الموجب للنّقيصة، ك (الفرقعة) في الصّلاة.

السّابع: شرط الفرد الموجب للمزيّة، ك (الجماعة).

الثّامن: شرط الفرد الموجب للمنقصة، ك (الحمامية) للصّلاة في الحمّام، فتأمّل.

{فيكون الإخلال بما له دخل بأحد النّحوين} من الشّرطيّة والجزئيّة {في حقيقة المأمور به وماهيّته} كالأربعة الأُوَل من الأقسام الثّمانية {موجباً لفساده} أي: فساد المأمور به {لا محالة} إذ الكلّ عدم عند عدم جزئه، والمشروط عدم عند عدم شرطه، إلّا أن يدلّ من الخارج دليل على الاكتفاء بالناقص في بعض المقامات، كما دلّ في بعض الأجزاء والشّرائط الذّكريّة {بخلاف ما له الدّخل في تشخّصه} أي: تشخّص المأمور به {وتحقّقه} ممّا لوحظ بالنّسبة إلى الفرد، كالأربعة

ص: 168

مطلقاً، - شرطاً كان أو شطراً - حيث لا يكون الإخلال به إلّا إخلالاً بتلك الخصوصيّة، مع تحقّق الماهيّة بخصوصيّة أُخرى غير موجبة لتلك المزيّة، بل كانت موجبة لنقصانها، كما أشرنا إليه، كالصّلاة في الحَمَّام.

ثمّ

___________________

الأخيرة من الأقسام الثّمانية، وإليه أشار بقوله: {مطلقاً} أي: سواء كان {شرطاً} بأن {كان} خارجاً {أو} كان {شطراً} وكان داخلاً، وسواء كان موجباً للمزيّة أو موجباً للمنقصة {حيث} علّة لعدم فساد الماهيّة بسبب الإخلال بالخصوصيّات الفرديّة {لا يكون الإخلال به} أي: بما له الدّخل في التّشخّص {إلّا إخلالاً بتلك الخصوصيّة} الفرديّةالموجبة للمزيّة أو المنقصة {مع تحقّق} أصل {الماهيّة} المطلوبة {بخصوصيّة أُخرى} نهايته أنّ هذه الخصوصيّة الأُخرى {غير موجبة لتلك المزيّة} الّتي كانت للماهيّة المتحقّقة في ضمن الخَصوصيّة الأُولى.

مثلاً: لو لم يأت بالصّلاة في المسجد لم تبطل الصّلاة، وانسلاخها عن خصوصيّة المسجديّة يوجب تحقّقها في ضمن خصوصيّة البيتيّة الّتي لم تكن موجبة للمزيّة ولا للمنقصة.

{بل} قد تحقّق الماهيّة في ضمن خصوصيّة ثابتة {كانت موجبة لنقصانها} عن مرتبتها {كما أشرنا إليه} بقولنا سابقاً: «وربّما يحصل له بسببه مزيّة أو نقيصة» وذلك {كالصلاة في الحمّام} مثلاً للماهيّة المجرّدة مائة درجة من الثّواب، وفي المسجد مائة وعشرة، وفي الحمّام تسعون.

{ثمّ} إنّ ما تقدّم كلّه في صورة دخل شيء في المأمور به على أحد الأنحاء الثّمانية المتقدّمة، ويتصوّر قسم آخر:

وهو أن يكون الشّيء غير دخيل في المأمور به، بل كان المأمور به دخيلاً فيه بأن كان ظرفاً له، ويكون الشّارع قد أمر بفعل ذلك الشّيء في المأمور به، إذ

ص: 169

إنّه ربّما يكون الشّيء ممّا يندب إليه فيه، بلا دخل له أصلاً - لا شطراً ولا شرطاً - في حقيقته، ولا في خصوصيّته وتشخّصه، بل له دَخْلٌ ظرفاً في مطلوبيّته، بحيث لا يكون مطلوباً إلّا إذا وقع في أثنائه، فيكون مطلوباً نفسيّاً في واجب أو مستحب. كما إذا كان مطلوباً كذلك قبل أحدهما أو بعده، فلا يكون الإخلال به موجباً للإخلال به

___________________

{إنّه ربّما يكون الشّيء} الخارج عن المأمور به {ممّا يندب إليه} أي: إلى ذلك الشيء {فيه} أي: في المأمور به بأن يجعل المأمور به ظرفاً لذلك الأمر الخارج {بلا دخل له} في المأمور به {أصلاً} بأن لا يكون دخيلاً في الماهيّة ولا في الفرد {لا شطراً ولا شرطاً} وذلك بأن يكون له دخل {في حقيقته} وماهيّته {ولا} دخل {في خصوصيّته وتشخّصه} الفرديّة.

{بل} كان {له} أي: هذا الخارج {دخل ظرفاً في مطلوبيّته} ومحبوبيّته {بحيث لا يكون} هذا الخارج {مطلوباً} للمولى {إلّا إذا وقع في أثنائه} من غير فرق بين أن يكون هذا المظروف الخارجي واجباً أو مستحبّاً {فيكون} على كلّ تقدير {مطلوباً نفسيّاً في} ضمن أمر {واجب، أو} أمر {مستحبّ} وذلك كالمضمضة والاستنشاق في ضمن الوضوء الواجب أو المستحبّ، وكردّ السّلام في ضمن الصّلاة الواجب أو المستحبّ - كذا قيل - .

وفيه نظر، إذ ردّ السّلام ليس مطلوبيّته مقيّداً بالصّلاة، وكذا المضمضة والاستنشاق جزآن لا خارجان، فتأمّل.

وقد يمثّل بنحو أدعية شهر رمضان بناءً على تقييدها بالصّائم.

وكيف كان، إذا كان شيء مطلوباً في ضمن فعل لا يكون الإخلال به موجباً للإخلال بذلك الفعل {كما إذا كان مطلوباً كذلك} نفسيّاً {قبل أحدهما} أي: قبل واجب أو مستحبّ {أو بعده} أي: بعد أحدهما {فلا يكون الإخلال به} أي: بذلك المظروف أو المعتبر قبل الواجب والمستحبّ أو بعدهما {موجباً للإخلال به}

ص: 170

ماهيّةً ولا تشخّصاً وخصوصيّة أصلاً.

إذا عرفت هذا كلّه، فلا شبهة في عدم دخل ما ندب إليه في العبادات نفسيّاً في التّسمية بأساميها، وكذا في ما له دَخْلٌ في تشخّصها

___________________

أي: بذلك المأمور به المطلوب، فلو وجب أو استحبّ مجيء (زيد) قبل مجيء القوم الواجب أو المستحبّ أو في أثناء مجيئهم أو بعده، فلم يجيء، لم يكن مخلّاً بوجوب مجيء القوم أو استحبابه، إذ لا يخلّ عدمه بذلك المطلوب لا {ماهيّة ولا تشخّصاً وخصوصيّة أصلاً}.

وبهذا كلّه تبيّن أنّ الأقسام المتصوّرة خمسة:

الأوّل: جزء الماهيّة.

الثّاني: شرطها.

الثّالث: أجزاء الفرد.

الرّابع: شرائطها.

الخامس: المطلوب في ضمن الماهيّة.

{إذا عرفت هذا كلّه} فالكلام يقع حينئذٍ في أنّ أيّ الأقسام الخمسة يكون مركزاً للنّزاع بين الصّحيحي والأعمّي.

أمّا القسم الخامس {فلا شبهة في عدم دخل ما ندب إليه} وجوباً أو استحباباً {في العبادات} الواجبة أو المستحبّة حين ما كان دخله {نفسيّاً} لا جزء الماهيّة أو الفرد وشرطهما {في التّسمية بأساميها} متعلّق بقوله: «عدم دخل».

والحاصِلُ: أنّ القسم الخامس لا دخل له بالنزاع بين الصّحيحي والأعمّي، إذ اسم العبادة غير مربوط به يقيناً، لبداهة أنّ مركز الأمر هو المسمّى وحيث لا ربطلذلك المظروف بالمسمّى فلا يقع مورداً للنّزاع.

{وكذا} لا شبهة {في ما له دخل في تشخّصها} أي: تشخّص الماهيّة أي: القسم

ص: 171

مطلقاً.

وأمّا ما له الدّخل شرطاً في أصل ماهيّتها، فيمكن الذَّهَاب أيضاً إلى عدم دخله في التّسمية بها، مع الذّهاب إلى دَخْلِ ما له الدَّخْل جزءاً فيها، فيكون الإخلال بالجزء مخلّاً بها، دون الإخلال بالشّرط، لكنّك عرفت أنّ الصّحيح

___________________

الثّالث، والرّابع، فإنّه خارج عن حريم النّزاع قطعاً، إذ جزء الفرد وشرطه الخارجان عن حقيقة الماهيّة ليسا داخلين في المسمّى بلفظ (الصّلاة) مثلاً، وإن كان الفرد متّحداً مع الماهيّة حال الوجود، فليس الإخلال بهما موجباً للإخلال ببعض ما اعتبر في الماهيّة {مطلقاً} شرطاً كان ذلك المشخّص الفردي، كالجماعة أوجزءاً كالقنوت.

{وأمّا} القسم الثّاني وهو {ما له الدّخل شرطاً في أصل ماهيّتها} أي: ماهيّة العبادة {فيمكن الذَّهَاب أيضاً} كالأقسام السّابقة {إلى عدم} كونه محلّ النّزاع بين الصّحيحي والأعمّي، لعدم {دخله في التّسمية بها} أي: بالعبادة نظراً إلى كون الشّرط خارجاً عن قوام الماهيّة {مع} أنّ الاسم موضوع للماهيّة فينتج عدم دخل الشّرط في الاسم.

وأمّا القسم الأوّل: وهو ما له الدّخل جزءاً في ماهيّة العبادة، فاللّازم {الذَّهَاب إلى} كونه دخيلاً في التّسمية، إذ انتفاء الجزء مستلزم لانتفاء الكلّ قطعاً، فإنّ {دخل ما له الدّخل جزءاً فيها} أي: فيالتّسمية من البديهيّات، فلا إشكال في جَرَيان النّزاع بين الصّحيح والأعمّ فيها {فيكون الإخلال بالجزء مخلّاً بها} أي: بالتّسمية {دون الإخلال بالشرط} فإنّه لا يخلّ بالتّسمية - كما عرفت - .

{لكنّك عرفت} في ما تقدّم {أنّ} لفظ (الصّلاة) على {الصّحيح} موضوع للجامع الّذي يُشار إليه بآثاره كقولنا: (النّاهية عن الفحشاء والمنكر) و(عمود الدّين) و(معراج المؤمن) ونحوها، وحينئذٍ يكون المسمّى بلفظ الصّلاة ملزوم

ص: 172

اعتبارهما فيها.

الحادي عشر:

___________________

النّاهي عن الفحشاء ونحوه، ومن المعلوم أنّ النّاهي عن الفحشاء لا يتحقّق إلّا بتحقّق جميع الأجزاء والشّرائط، وعلى هذا فيجري النّزاع بين الصّحيحيّ والأعمّي في {اعتبارهما} أي: الجزء والشّرط {فيها} أي: في العبادات ولا يختصّ النّزاع بالجزء فقط.

وما ذكر - من كون الشّرط خارجاً عن قوام الماهيّة، فلا دخل له في التّسمية - مردودٌ بأنّ الأدلّة الخاصّة كالتّبادر، وصحّة السّلب، والأخبار الظّاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للماهيّة.

وكذلك الأخبار الدّالّة على نفي الماهيّة بانتفاء جزء أو شرط كلّها دالّة على دخول الشّرط، كالجزء في الطّبيعة الّتي أُطلق الاسم عليها، بل قد يقال: اعتبار الشّرط في التّسمية أولى، حيث إنّ الفاقد للشّرط يكون مبايناً مع المسمّى دون الفاقد للجزء، فإنّه يكون مشتملاً على بعض المسمّى وإن لم يكن مشتملاً على تمامه.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من جريان النّزاع بالنّسبة إلى الشّرائط إنّما هو في ما لا يكون دخيلاً في التّسمية حتّى على الأعمّ، أمّا الشّرط الّذي هو كذلك،كالموالاة ونحوها لا يمكن إخراجه عن التّسمية قطعاً حتّى على الأعمّ، لانمحاء صورة الصّلاة بدونه.

[الأمر الحادي عشر: الاشتراك]

المقدّمة، الاشتراك

الأمر {الحادي عشر} في الاشتراك، اعلم أنّ الاشتراك على قسمين:

الأوّل: المعنوي، وهو ما إذا كان للفظ معنىً واحدٌ، ويكون ذلك المعنى مشتركاً بين أكثر من واحد، كما قالوا في لفظ (العلم)، فإنّ معناه الطّرف الرّاجح وهو

ص: 173

الحقُّ وقوعُ الاشتراكِ؛ للنّقل، والتّبادرِ، وعدم صحّة السّلب بالنّسبة إلى معنيين

___________________

إمّا مع المنع عن النّقيض وهو القطع، أو بدونه وهو الظّنّ، وهذا القسم ليس محلّ الكلام، وإطلاق المشترك غير منصرف إليه.

الثّاني: الاشتراك اللّفظي وهذا مقابل التّرادف، إذ الترادف هو ما يكون لفظان لمعنىً واحدٍ، ك (الأسد) و(اللّيث) للحيوان المفترس الكذائي، والاشتراك هو ما يكون معنيان للفظٍ واحدٍ، بأن يكون اللّفظ موضوعاً لِكُلِّ واحدٍ من المعنيين استقلالاً وضعيّاً تعيينيّاً أو تعيّنيّاً أو بالاختلاف، وهذا القسم هو المنصرف من لفظ المشترك، والكلام فيه، فنقول: اختلفوا في المشترك اللّفظي فذهب بعض إلى استحالته وقوعاً، وآخرون إلى وجوبه، وثالث إلى مكانه، ورابع إلى استحالته في القرآن الحكيم دون غيره، و{الحقّ وقوع الاشتراك للنّقل} من أهل اللّغة، فإنّهم لا يختلفون في أنّ (القُرْء) اسم للحيض والطّهر، وكذا أمثاله، قال التّفتازانيّ:

ده لفظ از نوادر الفاظ برشمر *** هر لفظ را دو معنى وآن ضد يكدگر

(جون) و (صريم) و (سدفه) و (ظن) است و (شفّ) و (بين)

(قرء) است و (هاجد) و (جلل) و (رهوه) اى پسر

1 - الأبيض، والأسود 2 - الصّبح، واللّيل 3 - ضياء الصّبح، والظّلمة 4 - اليقين، والشّكّ 5 - الكثير، والقليل 6 - الوصل، والفراق 7 - الطّهر، والحيض 8 - النّائم، واليقظ 9 - الكبير، والصّغير 10 - المنخفض، والمرتفع.

{والتّبادر} فإنّه يتبادر كلّ من المعنيين عن اللّفظ المشترك بدون قرينة {وعدم صحّة السّلب بالنّسبة إلى معنيين} فإنّه لا يصحّ سلب لفظ (القُرْء) عن الطُّهْر

ص: 174

أو أكثر للفظٍ واحدٍ، وإن أحاله بعض(1)؛

لإخلاله بالتّفهّم المقصود من الوضع؛ لِخَفَاء القرائن.

لمنع الإخلال أوّلاً؛ لإمكان الاتّكال على القرائن الواضحة،

___________________

والحيض، من غير فرق بين أن يكون معنيان {أو أكثر، للفظ واحد} فكما لا يصحّ سلب لفظ (القرء) عنهما، لا يصحّ سلب لفظ (العين) عن الجارية، والباصرة، وغيرهما من المعاني. وقوله: «بالنّسبة إلى معنيين» متعلّق بالنّقل، والتّبادر، وصحّة السّلب - كما لا يخفى - .

{وإن أحاله} أي: الاشتراك {بعض} مستندين إلى أنّه حين الاستعمال إمّا أن يأتي بالقرينة المعيّنة الواضحة أو لا يأتي، والأوّل: موجب للتطويل بلا طائل وهو مخالف لحكمة الواضع، والثّاني: موجب {لإخلالهبالتفهّم المقصود من الوضع} فإنّ غرض كلّ واضع تفهيم المقصود بطريق سهل، فلو وضع المشترك أخلّ بالغرض {لِخَفَاءِ القرائن} أو عدمها حسب الفرض، بل ربّما حكي عن صاحب تشريح الأصول(2) الإشكال في أصل إمكان الاشتراك بناءً على كون الوضع جعل الملازمة الذّهنيّة لا التّعهّد، فالاشتراك مستلزم لتحقّق الملازمتين الذّهنيّتين المستقلّتين وهذا محال.

لكن شيء من هذه الوجوه لا تصلح للاستحالة الوقوعي فضلاً عن الذّاتي {لمنع الإخلال} بالتفهيم {أوّلاً} وذلك {لإمكان الاتّكال} حين الاستعمال {على القرائن الواضحة} الجليّة بحيث لا يلزم نقض الغرض.

وأمّا حديث التّطويل بلا طائل، فيأتي الجواب عنه في ردّ قول المُفَصِّلِ بين القرآن وغيره.

ص: 175


1- مفاتيح الأصول: 23.
2- تشريح الأصول: 47.

ومَنْعِ كونه مخلّاً بالحكمة ثانياً؛ لتعلّق الغرض بالإجمال أحياناً.

كما أنّ استعمال المشترك في القرآن ليس بمحال - كما تُوُهِّمَ(1)

- لأجل لزوم التّطويل بلا طائلٍ مع الاتّكال على القرائن،

___________________

وبهذا سقط الإشكال الأوّل والشِّقّ الأوّل من الإشكال الثّاني {و} أمّا الشِّقّ الثّاني من الإشكال الثّاني ففيه {منع كونه} أي: الإخلال بالتفهيم {مخلّاً بالحكمة} الدّاعية إلى الوضع {ثانياً} إذ لا نسلّم كون حكمة الوضع التّفهيم مطلقاً {لتعلّق الغرض بالإجمال} وعدمتعيين المراد {أحياناً} كما لو لم يعلم المتكلّم أو يقصد الإخفاء من السّامع أو نحو ذلك.

وأمّا المحكي عن صاحب التّشريح، فجوابه عدم التّنافي في حصول المعنيين على نحو الاستقلال في الذّهن عند سماع اللّفظ المشترك، كما في حضور المدركات في الحسّ المشترك دفعةً، إذ الوضع أمر اختراعيّ جعلي، فالعلم الارتكازي بالوضع سبب لانسباق المعنى إلى الذّهن - كما لا يخفى - .

فتبيّن عدم الاستحالة، وبطلان أدلّة القائل بها {كما أنّ} قول المفصِّلِ بين القرآن وغيره باطل، فإنّ {استعمال المشترك في القرآن} الحكيم {ليس بمحالٍ كما توهّم} إذ لا وجه للاستحالة إلّا {لأجل} توهّم أحد أمرين على سبيل البدل:

الأوّل: {لزوم التّطويل بلا طائل} وفائدة {مع الاتّكال على القرائن} المعيّنة للمراد.

ولا يخفى أنّ هذا إنّما يستقيم إذا كان هناك لفظ آخر مرادف للفظ المشترك حتّى يقال: إنّه لو عدل عن اللّفظ المعيّن إلى المشترك لزم التّطويل بلا طائل، وإلّا فلا محيص عن استعماله، فلا يكون حينئذٍ تطويلاً بلا طائل، ويكون من قبيل استعمال اللّفظ الخماسي لتفهيم المراد في ما لا يكون هناك لفظ رباعي أو ثلاثي يفيد المراد.

ص: 176


1- الفصول الغرويّة: 31.

والإجمال في المقال لولا الاتّكال عليها، وكلاهما غير لائق بكلامه - تعالى جل شأنه - ، كما لايخفى.

وذلك لعدم لزوم التّطويل في ما كان الاتّكال على حالٍ أو مقالٍ أُتِي به لغرضٍ آخَرَ،

___________________

{و} الثّاني: لزوم {الإجمال في المقال} المفوِّت لغرضالتّفهيم {لولا الاتّكال عليها} أي: على القرائن.

{و} حيث كان {كلاهما} من التّطويل والإجمال {غير لائق بكلامه - تعالى جلّ شأنه -} إذ الأوّل لغو، والثّاني نقض للغرض، فاللّازم خلوّ القرآن عن المشترك {كما لا يخفى}.

وفيه ما لا يخفى {وذلك} أنّ إتيان القرينة - كما في الشِّقّ الأوّل - لا يلزم منه تطويل بلا طائلٍ؛ لأنّ نفس التّطويل قد يكون موافقاً للغرض في ما لو كان الكلام مع المخاطب مطلوباً، كما قال موسى(علیه السلام): {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مََٔارِبُ أُخۡرَى}(1).

وقد حكي في كشكول شيخنا البهائي في جواب بعض الأعراب لبعض الملوك حين سأله عمّا في يده ما يُقْضَى منه العجب(2)،

مضافاً إلى أنّه ربّما لا يكون تطويلاً ولو مع إتيان القرينة {لعدم لزوم التّطويل في ما كان الاتّكال على حال} كما لو قال لليقظ: هجد، أو قال للحائض: هل تمّ قرئك، {أو} كان الاتّكال في التّفهيم على {مقال أتي به لغرض آخر} كقوله - تعالى - : {عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ}(3) وقوله: {فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ}(4) فإنّ المراد العين الجارية بقرينة «يشرب»

ص: 177


1- سورة طه، الآية: 18.
2- الكشكول 1: 114.
3- سورة الإنسان، الآية: 6.
4- سورة البقرة، الآية: 60.

ومَنْعِ كون الإجمال غيرَ لائقٍ بكلامه - تعالى - مع كونه ممّا يتعلّق به الغرض، وإلّا لما وقع المشتبه في كلامه، وقد أخبر فيكتابه الكريم بوقوعه فيه، قال الله - تعالى - : {ءَايَتٞ مُّحۡكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٞۖ}(1).

___________________

و«انفجرت» مع أنّهما أتى بهما لداع آخر.

وبهذا سقط الشِّقّ الأوّل عن دليل المفصّل {و} يمكن {منع} الشِّقّ الثّاني أيضاً بعدم تسليم {كون الإجمال غير لائق بكلامه - تعالى -} إذ {مع كونه} أي: الإجمال {ممّا يتعلّق به الغرض} لا يكون المقصود التّفهيم حتّى يلزم نقض الغرض {وإلّا} يكن الإجمال لائقاً بكلامه - عزّ شأنه - {لما وقع المشتبه في كلامه} تعالى {وقد أخبر} جلّ وعزّ {في كتابه الكريم بوقوعه} أي: وقوع المشتبه {فيه} بالصّراحة {قال الله - تعالى -} في سورة آل عمران: {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَبَ مِنۡهُ {ءَايَتٞ مُّحۡكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٞۖ}} الآية.

وأمّا وجه وقوع المشتبه في الكتاب الحكيم، فله وجوه، قال في الصّافي في تفسير الآية {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَبَ مِنۡهُ ءَايَتٞ مُّحۡكَمَتٌ}: «أُحكمت عباراتها بأن حفظت من الإجمال {هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَبِ} أصله يردّ إليها غيرها {وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٞۖ} محتملات لا يتّضح مقصودها إلّا بالفحص والنّظر، لِيَظْهَرَ فيها فضل العلماء الرّبانيّين في استنباط معانيها وردّها إلى المحكمات، وليتوصّلوا بها إلى معرفة اللّه - تعالى - وتوحيده.

العيّاشي عن الصّادق(علیه السلام)، أنّه سئل عن المحكم والمتشابه؟ فقال:«المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما اشتبه على جاهله»(2)(3).

ص: 178


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- تفسير العياشي 1: 162.
3- تفسير الصافي 1: 317.

وربّما تُوُهِّمَ(1)

وجوبُ وقوعِ الاشتراك في اللّغات؛ لأجل عدم تناهي المعاني، وتناهي الألفاظ المركّبات، فلا بدّ من الاشتراك فيها.

وهو فاسِدٌ؛ لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني؛ لاستدعائه الأوضاع الغير المتناهية، ولو سلّم لم يكد يُجدي إلّا في مقدارٍ متناهٍ، مضافاً إلى تناهي المعاني الكليّة،

___________________

{وربّما توهّم وجوب وقوع الاشتراك في اللّغات} في قبال من توهّم امتناعه، وذلك {لأجل عدم تناهي المعاني} الجزئيّة، مثلاً لجزئيّات الرّائحة ليست أسامي خاصّة مع اختلافها غاية الاختلاف، ولهذا يكون التّفهيم لها بالإضافة إلى ذي الرّائحة، فيقولون: (رائحة الدّهن) و(رائحة اللّحم) و(رائحة الخبز) ونحوها.

والحاصِلُ: أنّ عدم تناهي المعاني {وتناهي الألفاظ المركّبات} موجب لوضع المشترك {فلا بدّ من الاشتراك فيها} أي: في الألفاظ حتّى تطابق المعاني غير المتناهية {وهو} توهّم {فاسد؛ لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني} على فرض عدم تناهيها {لاستدعائه} أي: الاشتراك {الأوضاع الغير المتناهية} وهو محال بالنسبة إلى الواضع الممكن، إذ الممكن متناهٍ - كما لا يخفى - .وقول الحكماء بعدم تناهي النّفوس النّاطقة خالٍ عن الدّليل، بل الحجّة على خلافه.

{ولو سلم} أنّ صدور غير المتناهي من الواضع ممكن - بفرض كون الواضع هو اللّه تعالى - فلا نسلّم أيضاً وضع غير المتناهي ليلزم المشترك، إذ {لم يكد يجدي} غير المتناهي {إلّا في مقدار متناه} من المعاني لعدم استعمال الممكن الأمر غير المتناهي بديهة، فالوضع في المقدار الزّائد من الممكن الاستعمال لغو، إلّا أن يقال: إنّه وضع بالنسبة إلى استعمالات نفسه - تعالى - فتدبّر.

{مضافاً إلى تناهي المعاني الكليّة} كمطلق الرّائحة في المثال المتقدّم

ص: 179


1- الفصول الغرويّة: 31.

وجزئيّاتُهَا وإن كانت غير متناهية إلّا أنّ وضع الألفاظ بإِزاء كلّيّاتها يغني عن وضع لفظٍ بإِزائها، كما لا يخفى، مع أنّ المجازَ بابٌ واسِعٌ، فافهم.

___________________

{وجزئيّاتها} أي: جزئيّات تلك الكليّات {وإن كانت غير متناهية} فرضاً {إلّا أنّ وضع الألفاظ بإِزاء كلّيّاتها} المتناهية قطعاً {يغني عن وضع لفظ بإِزائها} أي: بإِزاء جزئيّات تلك الكليّات {كما لا يخفى} على العارفين باللّسان {مع أنّ} إفهام المتكلّمين المقاصد لا يلزم أن يكون بنحو الحقيقة حتّى يحتاج إلى الوضع بل {المجاز باب واسع} فيمكن التّفهيم بنحو المجاز، ولا يثبت وجوب الاشتراك {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى جواب آخر عن الدّليل، وهو أنّ القول بتناهي الألفاظ ممنوع، إذ تناهي الحروف الهجائيّة لا يلازم تناهي المركّبات، كما في الأعداد، فكان المراد تناهيالمقدار الّذي يسهل معه تفهيم المرادات.

وأمّا ما قد يذكر من احتمال كونه إشارة إلى أنّ الموضوع له لو كان متناهياً، فالمناسب له لا يكون إلّا متناهياً، فلا يفي المجاز بجميع المعاني، فلا يخلو من نظر، إذ لا تلازم بين تناهي الموضوع له وتناهي المناسبة.

ولقد أجاد في التّقريرات حيث أضرب عن هذا البحث بالكليّة وأبدله بقوله: «لا إشكال في إمكان الاشتراك والتّرادف، ووقوعهما في لغة العرب وغيرها، ولا يعتنى ببعض التّسويلات والمغالطات الّتي فسادها غنيّ عن البيان، إنّما الإشكال في منشأهما، فالمعروف أنّه الوضع تعييناً أو تعيّناً، لكنّه يظهر من بعض المؤرّخين أنّهما حدثا من خلط بعض اللّغات ببعض. مثلاً: كان يعبّر عن معنى في لغة الحجاز بلفظ، ويعبّر عن ذلك المعنى في لغة العراق بلفظ آخر، وبذلك اللّفظ عن معنى آخر، ومن جمعهما أخيراً وجعل الكلّ لغة واحدة حدث الاشتراك والتّرادف، ولا فائدة مهمّة في تحقيق ذلك»(1)،

انتهى.

ص: 180


1- أجود التقريرات 1: 51.

الثّاني عشر: أنّه قد اختلفوا في جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً واحدٍ، على سبيل الانفراد والاستقلال - بأن يراد منه كُلُّ واحدٍ كما إذا لم يستعمل إلّا فيه - على أقوالٍ:

___________________

والظّاهر كون الحقّ مع الجانبين جزئيّاً، فبعض التّرادف والاشتراك من قبيل الأوّل وبعضهما من قبيل الثّاني.

[الأمر الثّاني عشر: استعمال اللفظ في أكثر من معنى]

المقدّمة، استعمال اللفظ في أكثر من معنى

الأمر {الثّاني عشر} في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحدمطلقاً سواء كانا حقيقيّين أو مجازيّين أو مختلفين. ثمّ إنّ الاستعمال في أكثر من معنى يتصوّر على وجوه أربعة:

الأوّل: أن يستعمل في معنى يتناول جميع المعاني، كالمشترك المعنوي.

الثّاني: أن يستعمل في الكلّ على سبيل البدل نحو النّكرة، وهذان القسمان ممّا لا خلاف فيهما صحّة ووقوعاً.

الثّالث: أن يستعمل في المجموع من حيث هو مجموع كأنّهما جزئي المعنى، فيدلّ اللّفظ على كلّ واحد بالتضمّن، وقد قيل بالخلاف فيه كالرّابع.

الرّابع: أن يستعمل في كلّ واحد على سبيل الانفراد والاستقلال.

ثمّ {إنّه قد اختلفوا في} هذا القسم وهو {جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد} حقيقيّين كانا أم مجازيّين أم مختلفين - كما تقدّم - بأن يكون كلّ واحد منهما {على سبيل الانفراد والاستقلال} ويلحظ كلّ واحد منهما لحاظاً مستقلّاً {بأن يراد منه} أي: من اللّفظ {كلّ واحد} منهما مستقلّاً بحيث يكون كلّ واحد مدلولاً مطابقيّاً {كما إذا لم يستعمل} اللّفظ {إلّا فيه} أي: في ذلك المعنى الواحد فقط، ولا يذهب عليك أنّ ذلك في ما كان الجمع ممكناً، فلو قال: (زيد هاجد) وأراد معنييه كان من المناقضة البديهيّة البطلان.

والحاصِلُ: أنّه اختلف في القسم الرّابع {على أقوالٍ}:

ص: 181

أظهرها: عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلاً.

وبيانه: أنّ حقيقة الاستعمال لَيْسَ مُجَرَّدَ جعلِ اللّفظِ علامةً لإرادة المعنى، بل جَعْلُهُ وجهاً وعُنْواناً له، بل بوجهٍ نفسُهُ كأنّه الملقى،

___________________

الأوّل: الجواز مطلقاً.

الثّاني: المنع مطلقاً.

الثّالث: الجواز في التّثنية والجمع دون المفرد.

الرّابع: الجواز في النّفي دون الإثبات.

ثمّ المجوّزون بين من قال: إنّه بطريق الحقيقة، وبين من قال: إنّه بطريق المجاز، وبين المفصّل بين التّثنية والجمع، فيكون حقيقةً، وبين المفرد فيكون مجازاً {أظهرها} عند المصنّف {عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلاً} من غير فرقٍ بين النّفي والإثبات والتّثنية والجمع، وهذا قول خامس في المسألة، إذ القول الثّاني - كما يظهر من تعبيرات القوم - في الجواز العرفي بمعنى المطابقة لقواعدهم.

{وبيانه} يتوقّف على تمهيد مقدّمةٍ، وهي: أنّ الاستعمال قد يكون بمعنى كون اللّفظ علامةً لإرادة المعنى بطريق المواضعة.

وقد يكون بمعنى جعل اللّفظ قالباً للمعنى، بحيث يوجد بينهما نحو اتحاد، وهذا هو الّذي اختاره المصنّف(رحمة الله) فقال: {إنّ حقيقة الاستعمال} ومعناه {ليس مجرّد جعل اللّفظ} حين الاستعمال {علامة لإرادة المعنى} كالنُّصَبِ الموضوعة علامة للفراسخ ونحوها من سائر العلامات حتّى يقال: كما يصحّ جعل علامة واحدة لأُمور متعدّدة كذلك يصحّ جعل اللّفظ واستعماله وإِرادة معاني متعدّدة، {بل} استعمال اللّفظ عبارة عن {جعله وجهاً وعنواناً له} أي: للمعنى {بل} اللّفظ {بوجهٍ} صحيحٍ {نفسه} أي: نفس المعنى ومن مراتب وجوده، حتّى {كأنّه} أي: المعنى هو {الملقى} إلى المخاطب.

ص: 182

ولذا يسري إليه قُبْحُهُ وحُسْنُهُ، كما لايخفى.

ولا يكاد يمكن جعل اللّفظ كذلك إلّا لمعنىً واحدٍ؛ ضرورةَ أنّ لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر؛ حيث إنّ لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانياً فيه، فناءَ الوجه في ذي الوجه، والعنوان في المعنون، ومعه

___________________

وبالجملة الاستعمال عبارة عن إيجاد المعنى بوجوده اللّفظي، كما أنّ الكتابة عبارة عن إيجاده بوجوده الكتبي {ولذا} نرى أنّ آثار وجود المعنى يترتّب على اللّفظ، فيحكم عليه بأحكام المعنى، فيقال: (زيد قائم) كما يترتّب عليه أحياناً أحكام اللّفظ فيقال: (زيد اسم أو ثلاثي) فيحكم عليه بأحكام اللّفظ و{يسري إليه} أي: إلى اللّفظ {قبحه وحسنه} أي: حسن المعنى وقبحه، فلفظ (الورد) حسن، ولفظ (العذرة) قبيح، وكذلك توجّه المتكلّم والمخاطب حين التّكلّم إلى المعنى لا إلى اللّفظ {كما لا يخفى}.

{و} إذ علمت المقدّمة قلنا: {لا يكاد يمكن جعل اللّفظ كذلك} أي: وجهاً وعنواناً {إلّا لمعنى واحد} فقط، إذ لا يعقل فناء شيء في شيئين {ضرورة أنّ لحاظه} أي: لحاظ اللّفظ {هكذا} وجهاً فانياً {في إرادة معنى} من المعاني {ينافي لحاظه} أي: لحاظ اللّفظ {كذلك} وجهاً وعنواناً وفانياً {في إرادة} المعنى {الآخر} في استعمال واحد.

وبالجملة وحدة الاستعمال تقتضي وحدة المعنى المستعمل فيه {حيث إنّ لحاظه} أي: لحاظ اللّفظ {كذلك} وجهاً وفانياً {لا يكاد يكون} عند الاستعمال {إلّا بتبع لحاظ المعنى} بأن يكون اللّفظ {فانياً فيه} أي: في المعنى نحو {فناء الوجه فيذي الوجه، و} فناء {العنوان في المعنون}.

وقد تبيّن أنّ وجود العنوان مرتبة من وجود المعنون ولكلّ معنى وجود، فلا يمكن اجتماع الوجودين في وجود واحد {ومعه} أي: مع كون اللّفظ فانياً ووجهاً

ص: 183

كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد؟ مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.

وبالجملة: لا يكاد يمكن - في حال استعمال واحد - لحاظُهُ وجهاً لمعنيين وفانياً في الاثنين، إلّا أن يكون اللّاحظ أحوَلَ العينين.

فانقدح بذلك: امتناع استعمال اللّفظ - مفرداً كان أو غيره - في أكثر من معنىً، بنحو الحقيقة أو المجاز.

___________________

{كيف يمكن إرادة} المستعمل {معنى آخر معه} أي: مع المعنى الأوّل بحيث يكون اللّفظ بالنّسبة إلى المعنى الثّاني {كذلك} فانياً فيه ووجهاً له {في استعمال واحد مع استلزامه} أي: استلزام استعمال اللّفظ في المعنى الثّاني {للحاظ آخر} بالنّسبة إليه {غير لحاظه} أي: لحاظ اللّفظ أوّلاً {كذلك} فانياً ووجهاً للمعنى الأوّل {في هذا الحال} الّذي يستعمل اللّفظ فيهما؟

{وبالجملة لا يكاد يمكن} عقلاً {في حال استعمال واحد لحاظه} أي: لحاظ اللّفظ {وجهاً لمعنيين} مستقلّين {وفانياً في الاثنين} بحيث يتّحد وجوده مع وجودهما {إلّا أن يكون اللّاحظ أحول العينين} فيرى اللّفظ الواحد اثنين، فيزعم أنّ كلّ واحد من اللّفظين فانٍفي معنىً واحدٍ من المعنيين.

{فانقدح بذلك امتناع استعمال اللّفظ مفرداً كان أو غيره في أكثر من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز}.

هذا، وقال السّيّد الخوئيّ - مدّ ظلّه - في تعليقته على أجود التّقريرات ما لفظه: «لا استحالة في الجمع بين اللّحاظين، بل هو واقع كثيراً. نعم، يستحيل الجمع بين اللِّحاظين على ملحوظٍ واحدٍ، لكن استعمال اللّفظ الواحد في معنيين لا يستلزمه، بعد ما عرفت مِن أنّ حقيقة الوضع هو التّعهّد والالتزام بأنّه متى ما أراد المتكلّم تفهيم معنى يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً، وعليه فليس شأن

ص: 184

ولولا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه؛

___________________

اللّفظ إلّا أنّه علامة للمعنى، ولا مانع من جعل علامة واحدة لشيئين - كما هو ظاهر - .

نعم، إنّ الاستعمال في أكثر من معنىً واحدٍ خلاف الظّهور العرفيّ، فلا يحمل اللّفظ عليه إلّا مع القرينة.

ثمّ إنّه إذا قام قرينة على ذلك، فإن علم كيفيّة الاستعمال فهو، وإن دار الأمر بين أن يراد من اللّفظ مجموع المعنيين على سبيل المجاز، أو كلّ واحد من المعنيين بنحو التّعدّد في الاستعمال، فإن قلنا بأنّ الاستعمال في أكثر من معنى حقيقة فلا بدّ من الحمل عليه، تقديماً لأصالة الحقيقة على المجاز، وإن قلنا بمجازيّته، فلا محالة يكون اللّفظ من المجملات، فينتهي الأمر إلى الأصول العمليّة»(1). انتهى.

ولقد أجاد في ما أفاد، إذ الوضع اللّفظي - كما أفاده بعض المحقّقين - ليسإلّا اعتبار مقولة الوضع الحقيقي، فإن جعل النُّصَب على الفراسخ علامة وضع حقيقي وجعل اللّفظ على المعنى علامة وضع اعتباريٍّ.

والإيرادُ - بأنّ لازم هذا القول تسمية المعنى موضوعاً عليه لا موضوعاً له، أو أنّ هذا المعنى ممّا لا يلتفت إليه الخواص فكيف بسائر العرف الواضعين - غيرُ سديدٍ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه بما ذكرنا يتبيّن عدم محذور في الجمع بين الإخبار والإنشاء ونحوه - كما سيأتي - .

{و} إذ قد عرفت ما ذكره المصنّف في وجه امتناع استعمال اللّفظ في معنيين، فاعلم أنّه {لولا امتناعه} عقلاً من هذه الجهة {فلا وجه لعدم جوازه} من سائر الجهات الّتي ذكرها القوم، إذ المانع:

ص: 185


1- أجود التقريرات 1: 51.

فإنّ اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع.

وكون الوضع في حال وحدة المعنى وتوقيفيّته لا يقتضي عدم الجواز، بعد ما لم تكن الوحدة قيداً للوضع ولا للموضوع له، كما لا يخفى.

___________________

إمّا ما ذكره القوانين(1)

من تحقّق الوضع حال وحدة المعنى، إذ الواضع إنّما تصوّر المعنى في حال كونه واحداً ووضع له اللّفظ، فلو استعمل في أكثر منه لزم أن يكون مستعملاً في غير الموضوع له.

وإمّا أنّ الوحدة قيد للموضوع له للتّبادر، والاستعمال المذكور موجب لإلغائها - كما سيأتي في دليل صاحب المعالم - .

وكلا الوجهين غيرُ صحيحٍ {فإنّ اعتبار الوحدة في}المعنى {الموضوع له} كما يقوله صاحب المعالم {واضح المنع} فإنّ اللّفظ موضوع لنفس المعنى، كما لا يخفى على من لاحظ وضع الأعلام وغيرها، فالوحدة الّتي ادّعى تبادرها من طوارئ الاستعمال لا من مقوّمات الموضوع له.

{و} أمّا {كون الوضع في حال وحدة المعنى} الموجب لعدم جواز الاستعمال في الأكثر، لعدم جواز التّعدّي عن كيفيّة الوضع {و} ذلك ل {توقيفيّته} كما ذكره صاحب القوانين، ففيه: أنّه {لا يقتضي عدم الجواز} إذ لا يلزم مراعاة الخصوصيّات الموجودة في المعنى حالة الوضع {بعد ما لم تكن} تلك الخصوصيّات الّتي منها {الوحدة} للمعنى {قيداً للوضع ولا للموضوع له، كما لا يخفى} كما لا يلزم مراعاة الخصوصيّات الّتي في الواضعِ، أو اللّفظِ، حالةَ الوضع، مضافاً إلى أنّ الوحدة محفوظة في المقام، إذ المفروض إرادة كلّ من المعنيين على حِدَةٍ.

فإن قلت: إذا كان حال الانضمام غير مشمول للوضع، فيلزم انتفاء الوضع في

ص: 186


1- قوانين الأصول 1: 67.

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك، فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التّثنية والجمع، وعلى نحو المجاز في المفرد، مستدلّاً على كونه بنحو الحقيقة فيهما؛ بكونهما بمنزلة تكرار اللّفظ،

___________________

هذا الحال، فيكون استعمالاً في غير الموضوع له.

قلت: عدم شمول الوضع في حال الانضمام يقتضي عدم التّرخيص في الاستعمال فيهما معاً، لا انتفاء الوضع عن ذات المعنى، ومن البيّن أنّه إذا كان الاستعمال فيهما معاً مستحسناً عند أرباب اللّسان صحّ الاستعمال ولو منع عنهالواضع، كما تقدّم تقريره في بيان المجاز.

{ثمّ} إنّا {لو تنزّلنا عن ذلك} الّذي ذكرناه - من منع كون الوحدة قيداً - وسلّمنا أنّها قيد للمعنى - كما يقوله صاحب المعالم - فاللّازم القول بالمنع مطلقاً، ولا وجه للتّفصيل الآتي.

تنبيه: قال المشكينيّ: «في العبارة مسامحة، إذ لازم التّنزّل تسليم كون الوحدة قيداً للموضوع له، ومعه لا وجه للاعتراض بأنّ اللّفظ موضوع لنفس المعنى. نعم، الاعتراضات الأُخر واردة عليه بعد التّسليم المذكور»(1)،

انتهى.

وعلى كلّ {فلا وجه للتفصيل} الّذي ذكره صاحب المعالم وهو القول {بالجواز على نحو الحقيقة في} ما إذا كان اللّفظ المستعمل في أكثر من معنى هو {التّثنية والجمع} فلو قال: (عينان) وأراد الجارية والباصرة، أو قال: (أعين) وأراد الشّمس معهما كان حقيقة {وعلى نحو المجاز في المفرد} فلو قال: (عين) وأراد المعنيين كان مجازاً {مستدلّاً على} الشِّقِّ الأوّل، وهو {كونه بنحو الحقيقة فيهما} أي: في التّثنية والجمع {بكونهما بمنزلة تكرار اللّفظ} فكلمة (أعين) بمنزلة: عين، وعين، وعين، وكما أنّه يصحّ إرادة معان متعدّدة من ألفاظ متعدّدة، كذلك يجوز إرادتها ممّا هو بمنزلة ألفاظ متعدّدة.

ص: 187


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 211.

وبنحو المجاز فيه؛ بِكونه موضوعاً للمعنى بقيد الوحدة، فإذا استعمل في الأكثر لزم إلغاء قيد الوحدة، فيكون مستعملاً في جزء المعنى بعلاقة الكلّ والجزء، فيكون مجازاً(1).وذلك لوضوح أنّ الألفاظ لا تكون موضوعة إلّا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة، وإلّا لما جاز الاستعمال في الأكثر؛ لأنّ الأكثر ليس جُزْءَ المقيّد بالوحدة، بل يباينه مباينة الشّيء بشرط شيء والشّيء بشرط لا،

___________________

{و} استدلّ على الشِّقِّ الثّاني - وهو كون اللّفظ المستعمل في متعدّد {بنحو المجاز فيه} أي: في المفرد - {بكونه} أي: المفرد {موضوعاً للمعنى} الواحد {بقيد الوحدة} بحيث تكون الوحدة شرطاً للمعنى أو جزءاً له، وعلى الثّاني فالوحدة جزء، وعلى الأوّل فالتّقيّد جزء {فإذا استعمل} اللّفظ والحال هذه {في الأكثر لزم إلغاء قيد الوحدة} الّتي كانت دخيلاً في المعنى {فيكون} اللّفظ {مستعملاً في جزء المعنى} الموضوع له أوّلاً، وذلك يكون {بعلاقة الكلّ والجزء} فيستعمل اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء {فيكون} هذا الاستعمال {مجازاً}.

هذا حاصل كلام صاحب المعالم(قدس سره) في الاستدلال على مطلبه، لكنّه غير صحيح {وذلك لوضوح أنّ الألفاظ لا تكون موضوعة إلّا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة} معه جزءاً أو شرطاً، لما تقدّم من منع التّبادر المدّعى {وإلّا} يكن الأمركما قلناه، بل كان اللّفظ موضوعاً للمعنى بقيد الوحدة {لما جاز الاستعمال في الأكثر} أصلاً ولو بنحو المجازيّة {لأنّ الأكثر ليس جزء المقيّد بالوحدة} حتّى يكون الاستعمال من باب المجاز الّذي يكون من استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء.

{بل} المعنى بقيد الوحدة {يباينه} أي: يباين المعنيين، نحو{مباينة الشّيء} أي: الماهيّة المقيّدة {بشرط شيءٍ، والشّيء بشرط لا} فالموضوع له هو المعنى بشرط

ص: 188


1- معالم الدين: 39.

كما لا يخفى.

والتّثنيةُ والجمعُ وإن كانا بمنزلة التّكرار في اللّفظ، إلّا أنّ

___________________

لا، لكونه مقيّداً بالوحدة، والمستعمل فيه هو بشرط شيء لكونه مقيّداً بشرط معنى آخر، ومن البديهي أن لا علاقة بين هذين القسمين من الماهيّة، فلا علاقة مصحّحة للتجوّز {كما لا يخفى}.

هذا كلّه بالنظر إلى ما أفاده المعالم بالنسبة إلى المجازيّة في المفرد {و} أمّا ما أفاده بالنسبة إلى كون اللّفظ حقيقة في التّثنية والجمع ففيه أنّ {التّثنية والجمع وإن كانا بمنزلة التّكرار في اللّفظ إلّا أنّ} هذا لا يفيد شيئاً لما بناه عليه في المعالم، وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي:

أنّ استعمال تثنية المشترك وجمعه على أنحاء:

منها: أن يراد من لفظ التّثنية معنيان من ماهيّة واحدة، فيراد من العينين فردان من الجارية، وكذا الجمع.

ومنها: أن يراد منهن اثنان من طبيعتين، كأن يراد من العينين الجارية والذّهب، ولا خلاف في جواز هذين القسمين، لكن الأوّل حقيقة والثّاني مجاز، وجه المجازيّة: أنّ علامة التّثنية والجمع لمّا كانت مفيدة لتعدّد المدخول، وكانت العين المدخول عليها العلامة طبيعة واحدة، فلو أُريد طبيعتان لزم التّجوّز ابتداءً، بأن يراد من العين المسمّى بالعين حتّى يكون المعنى بعد العلامة المسمّيين بالعين، كي يصحّ الانطباق على طبيعتين، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ، إن شاء اللّه - تعالى - .

ومنها: أن يراد منه أربعة من طبيعة واحدة أو من طبيعتين، كأن يراد من العينينأربعة أعين جارية أو جاريتان وباصرتان.

ومنها: أن يراد منه اثنان من طبيعتين كالصورة الثّالثة لكن بلا تأويل بالمسمّى ونحوه. وقد وقع الخلاف في هذا القسم بين صاحبي المعالم والقوانين فمنعه الثّاني،

ص: 189

الظّاهر أنّ اللّفظ فيهما كأنّه كرّر، وأُريد من كلّ لفظٍ فردٌ من أفراد معناه، لا أنّه أُريد منه معنىً من معانيه. فإذا قيل مثلاً: (جئني بعينين) أُريد فردان من العين الجارية، لا العين الجارية والعين الباكية. والتّثنيةُ والجمعُ في الأعلام

___________________

وأجازه الأوّل، لما ذكره المصنّف.

إذا عرفت ما تقدّم فنقول: إنّ ما ذكره المعالم من كون التّثنية والجمع بمنزلة التّكرار، فإرادة المعنيين منهما حقيقة، غير مستقيم، إذ {الظّاهر أنّ اللّفظ فيهما كأنّه كرّر وأُريد من كلّ لفظ} من اللّفظين أو الأكثر {فرد من أفراد معناه} الواحد كما تقدّم في النّحو الأوّل، فإنّ المتبادر من العينين - مثلاً - فردان من الجارية، لا فرد من الجارية وفرد من الباصرة {لا أنّه أُريد منه} أي: من كلّ لفظ من لفظي التّثنية {معنى من معانيه} على نحو القسم الرّابع أو القسم الثّاني {فإذا قيل - مثلاً - : (جئني بعينين)} فالمتبادر أنّه {أُريد فردان من العين الجارية} كما تقدّم {لا} أنّه أُريد {العين الجارية والعين الباكية}.

وبالجملة لا بدّ في التّثنية والجمع من اتحاد المعنى وتعدّد مصاديقه، ولايكفي الاتحاد بمجرّد اللّفظ من دون معنى كلّيّ صادق على المتعدّد فيهما.

{و} إن قُلْت: لو لزم في التّثنية والجمع إرادة فردين من معنى كلّيّ صادق على المتعدّد، فكيف يجوز {التّثنية والجمع في الأعلام} مع أنّه ليس هناك كلّيّ صادق عليهما؟

لا يقال فيهما: الكلّي أيضاً موجود، فإنّ (زيدين) فردان من كلّي الإنسان.

لأنّه يقال: المراد من اشتراط وجود الكلّي في صحّة التّثنية والجمع أن يكون اللّفظ المفرد للمثنّى وللجمع بنفسه كلّيّاً له أفراد، ك (العين) فإنّه كلّيّ، بخلاف نحو لفظ (زيد) فإنّه ليس بكلّيّ، وليس المراد من الكلّي المشترط دخول الفردين تحته كلّيّاً في الجملة.

ص: 190

إنّما هما بتأويل المفرد إلى المسمّى بها.

مع أنّه لو قيل بعدم التّأويل، وكفاية الاتّحاد في اللّفظ في استعمالها حقيقةً، بحيث جاز إرادة عين جارية وعين باكية من تثنية (العين) حقيقةً، لما كان هذا من باب استعمال اللّفظ في الأكثر؛ لأنّ

___________________

قُلْتُ: {إنّما} يصحّ تثنية العلم وجمعه؛ لأنّ {هما بتأويل المفرد} الّذي يراد تثنيته أو جمعه {إلى المسمّى بها} أي: بالأعلام، فيُرَادُ من لفظ (زيد): المسمّى بزيد ومعلوم أنّ المسمّى بزيد كلّيّ يصدق على كلّ ذاتٍ اسمُهُ (زيد).

وتوضيح الجواب - بلفظ بعض الأعلام - : أنّ الأعلام المدخولة للعلامة ليست مستعملة في معانيها الحقيقيّة الّتي لا تقبل التّعدّد، وإنّما تستعمل في معنى مجازي، وهو مفهوم المسمّى بزيد مثلاً، فإذا قلت: (زيدان) فالمراد مسمّيان بزيدٍ.

وإن قُلْتَ: أيّة حاجة إلى هذا التّأويل؟قُلْتُ: تبادر ذلك، فإنّك إن قلت: (رجلان) فهم فردان من كلّيّ يصدق عليه أنّه رجل، وهكذا بالنّسبة إلى عينين وامرأتين وكتابين، ولذا قالوا في الأعلام بذلك.

{مع أنّه لو} سلّم و{قيل بعدم} الاحتياج إلى {التّأويل} بالمسمّى في لفظي التّثنية والجمع {و} بنينا على {كفاية الاتحاد في اللّفظ} فقط من دون احتياج إلى معنى كلّيّ صادق على المتعدّد {في استعمالها} فلا يكون ذلك مجازاً، بل {حقيقة بحيث جاز إرادة} (زيد) وزيد من (الزّيدين) بلا تأويل إلى المسمّى، ومن المعلوم أنّ عدم الاحتياج إلى الكلّي الجامع في التّثنية والجمع مستلزم لجواز إرادة {عين جارية وعين باكية من تثنية (العين)} وبالجملة لو سلّمنا جواز هذا الاستعمال {حقيقةً، لما كان} جواب «لو قيل» {هذا} الّذي ذكر من إرادة الجارية والباكية بلا تأويل {من باب استعمال اللّفظ في الأكثر} حتّى يثبت مدّعى صاحب المعالم(قدس

سره) من أنّ الاستعمال في التّثنية والجمع حقيقة {لأنّ} هذا خارج

ص: 191

هيئتهما إنّما تدلّ على إرادة المتعدّد ممّا يراد من مفردهما، فيكون استعمالهما وإرادة المتعدّد من معانيه استعمالاً لهما في معنىً واحدٍ، كما إذا استعملا وأُريد المتعدّد من معنىً واحدٍ منهما، كما لا يخفى.

نعم، لو أُريد - مثلاً - من (عينين): فردان من الجارية وفردان من الباكية كان من استعمال العينين في المعنيين، إلّا أنّ حديث التّكرار لا يكاد يجدي في ذلك أصلاً؛

___________________

عمّا نحن فيه، إذ {هيئتهما إنّما تدلّ على إرادة المتعدّد ممّا يراد من مفردهما} فإرادة الجارية والباكية مثل إرادة الجاريتين، فكما أنّ الثّاني ليس من باب استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، كذلك الأوّل {فيكون استعمالهما} أي: التّثنية والجمع {وإرادة المتعدّد من معانيه} أي: معاني المشترك {استعمالاً لهما في معنى واحد كما} تقدّم مِن أنّه {إذا استعملا وأُريد المتعدّد من معنى واحد منهما} - أي: من التّثنية والجمع - لا يكون من باب استعمال المشترك في أكثر {كما لا يخفى}.

والحاصِلُ: أنّ قولَ صاحب المعالم بكون استعمال المشترك في أكثر من معنىً حقيقةٌ في التّثنية والجمع مردودٌ، أوّلاً بأنّه مؤوَّل بالمسمّى، فلا يكون حقيقة، وثانياً على تقدير كونه حقيقة، ليس من باب استعمال اللّفظ المشترك في أكثر من معنى؛ لأنّ (عينين) عبارة عن: عين وعين، ولكلٍّ معنىً، فكما أنّه لو قال: (عين وعين) وأراد من كلٍّ معنىً لم يكن من باب استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، كذلك لو قال: (عينان) وأراد به معنيين؛ لأنّه بمنزلة (عين وعين).

{نعم، لو أُريد - مثلاً - من (عينين) فردان من الجارية وفردان من الباكية كان من} باب {استعمال} لفظ {العينين في المعنيين، إلّا أنّ حديث التّكرار} الّذي استدلّ به صاحب المعالم على كونه حقيقةً فيهما {لا يكاد يجدي في ذلك} الّذي أراد من كونه حقيقة {أصلاً} فإنّ العلّة الّتي كانت موجبة لمجازيّة المفرد موجودة في التّثنية

ص: 192

فإنّ فيه إلغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضاً؛ ضرورةَ أنّ التّثنية عنده إنّما تكونلمعنيين أو لفردين بقيد الوحدة.

والفرقُ بينها وبين المفرد إنّما يكون في أنّه موضوع للطّبيعة، وهي موضوعة لفردين منها أو معنيين، كما هو أوضح من أن يخفى.

___________________

والجمع حينئذٍ {فإنّ فيه} أي: في استعمالهما كذلك {إلغاء قيد الوحدة المعتبرة} في المعنى عند صاحب المعالم {أيضاً} كما كان في المفرد موجباً لإلغائه {ضرورةَ أنّ التّثنية عنده} أي: عند صاحب المعالم {إنّما تكون لمعنيين} كالجارية والباكية {أو لفردين} من كلّيّ واحد، لكن بشرط أن يكون كلّ واحد منهما {بقيد الوحدة} كما بيِّن قبلاً، والتّنافي بين هذا القيد وإرادة معنيين واضح {والفرق بينها} أي: بين التّثنية {وبين المفرد إنّما يكون في أنّه موضوع للطّبيعة} فقط {وهي} أي: التّثنية {موضوعة لفردين منها} أي: من الطّبيعة {أو معنيين} من طبيعة واحدة {كما هو أوضح من أن يخفى} وبالقياس إلى التّثنية يفهم الجمع - كما لا يخفى - .

تنبيه: جعل بعضهم استعمال اللّفظ في المعنى الحقيقي والمجازي من فروع استعمال اللّفظ المشترك في أكثر من معنىً، فمن أجازه أجازه ومن منعه منعه.

وذهب آخرون إلى أنّه لا تلازم بين المسألتين، إذ يمتنع استعمال اللّفظ في الحقيقي والمجازي ولو قلنا بالجواز في المشترك، وبيّن وجه المنع هنا بأنّ الحقيقة والمجاز وصفان متقابلان، فلا يمكن اتصاف اللّفظ الواحد بهما أوّلاً؛ ولأنّ المجاز يحتاج إلى قرينة معاندة للحقيقة، وملزوم معاند الشّيء معاند لذلكالشّيء ثانياً.

والجواب: أمّا عن الأوّل: فلأنّ اتصاف اللّفظ بوصف الحقيقة والمجاز ليس من قبيل اتصاف الجسم بالسواد والبياض، إذ هما وصفان اعتباريّان ولا مانع بتقابل

ص: 193

وهم ودفعٌ:

___________________

الاعتبار، لاختلاف الحيثيّات، كالفوقيّة والتّحتيّة بالنسبة إلى جسم واحد، فإنّهما يجتمعان لاختلاف الحيثيّة.

وأمّا عن الثّاني: فلعدم تسليم احتياج المجاز إلى قرينة معاندة للحقيقة. هذا فتبيّن أنّ المسألتين من وادٍ واحد، وقد تقدّم أنّ الظّاهر جواز كليهما عقلاً، بل استعمالهما خارجاً.

{وهم ودفع} يتعلّق بمعنى البطون للقرآن. روى المجلسي(رحمة الله) في البِحار قال أبو عبداللّه(علیه السلام): «في القرآن ما مضى وما يحدُثُ وما هو كائن» إلى أن قال: «وإنّما الاسم الواحد منه في وجوهٍ لا يحصى يعرِفُ ذلك الوُصَاة»(1).

وروى السيّد البحراني في البرهان، عن فضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر(علیه

السلام) عن هذه الرّواية «ما من آية إلّا ولها ظهر وبطن» قال: «ظَهْرٌ وبَطْنٌ، وهو تأويله منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشّمس والقمر»(2).

وفيه عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «ظَهْرُ القرآن الّذين نزل فيهم، وبطنهالّذين عملوا بمثل أعمالهم»(3).

وفي الصّافي، عن جابرٍ قال: سألت أبا جعفرٍ(علیه السلام) عن شيءٍ من تفسير القرآن فأجابني، ثمّ سألته ثانيةً فأجابني بجوابٍ آخر، فقلت: جعلت فِداك، أَجَبْتَ في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟ فقال لي: «يا جابِرُ، إنّ للقرآن بطناً وللبطن بطن وظهر، وللظّهر ظهر»(4).

وفي حديث آخر، عن أبي عبداللّه(علیه

السلام) قال: «إنّ القرآن نَزَلَ على سبعةِ

ص: 194


1- بحار الأنوار 89: 95.
2- البرهان في تفسير القرآن 1: 44.
3- البرهان في تفسير القرآن 1: 46.
4- تفسير الصافي 1: 29.

لعلّك تتوهّم: أنّ الأخبارالدّالّة على أنّ للقرآن بطوناً - سبعة(1) أو سبعين - تدلّ على وقوع استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً واحدٍ، فضلاً عن جوازه.

ولكنّك غفلت عن أنّه لا دلالة لها أصلاً على أنّ إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللّفظ،

___________________

أحرفٍ»(2)،

الحديث.

ولم أعثر على رواية من طريق الخاصّة تدلّ على سبعين بطناً. نعم، في الجواهر(3)

- عند قول المصنّف(رحمة الله): «وكذا إعرابها» في كتاب الصّلاة - نسبة ذلك الخبر. وعلى كلّ تقدير فقد اختلف في معنى سبعة أحرف على مايقرب من أربعين قولاً - كما حكاه في الصّافي(4) - .

ثمّ لا يخفى أنّه على تقدير جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً لا مانع من جواز احتمال ذلك في هذه الرّوايات، وأمّا على القول بعدم الجواز - كما اختاره المصنّف - فتوجيه هذه الرّوايات إذا كان المراد بها المعاني المتعدّدة يحتاج إلى تكلّف، وقد أشار إلى ذلك بقوله: {لعلّك تتوهّم} وتقول: {إنّ الأخبار الدّالّة على أنّ للقرآن بطوناً سبعة أو سبعين تدلّ على} خلاف ما ذهبتم إليه من منع استعمال المشترك في أكثر من معنى، وذلك لدلالتها على {وقوع استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً واحدٍ، فضلاً عن} دلالتها على {جوازه} فإنّ أدلّ الدّليل على إمكان الشّيء وقوعه {ولكنّك غفلت عن أنّه} لا تنافي تلك الأخبار، لما ذكرنا، إذ {لا دلالة لها أصلاً، على أنّ إرادتها} أي: إرادة تلك المعاني {كانت من باب إرادة المعنى من اللّفظ}

ص: 195


1- غوالي اللئالي 4: 107.
2- الكافي 2: 630.
3- جواهر الكلام 9: 295.
4- تفسير الصافي 1: 59.

فلعلّه كان بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى، لا من اللّفظ كما إذا استعمل فيها، أو كان المراد من البطون: لوازم معناه المستعمل فيه اللّفظ، وإن كان أفهامُنَا قاصرةً عن إدراكها.

___________________

حتّى يكون من باب استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً {فلعلّه} أي: لعلّ الشّأن أنّه {كان} الاستعمال {بإرادتها} أي: إرادة تلك المعاني {في أنفسها حال الاستعمال في المعنى} بأن يكون اللّفظقالباً ودالّاً على أحدها وعلامة للباقي {لا} أن يكون المراد {من اللّفظ} معانِيَ سبعةٍ، بحيث يكون اللّفظ {كما إذا استعمل فيها} مستقلّاً بأن يكون قالباً لجميعها {أو كان المراد من البطون} في تلك الأخبار {لوازم معناه} أي: معنى اللّفظ {المستعمل فيه} ذلك {اللّفظ} كالكتابة الّتي هي ذكر الملزوم وإرادة اللّازم، فالمراد أنّ لمعنى الآياتِ القرآنيّة لوازمَ ستّةً أو سبعةً أو أكثَرَ، واستفادة تلك اللّوازم مختصّة بالأذهان العالية {وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها}.

قال المشكينيّ(رحمة الله): «ثمّ إنّ هنا احتمالات أُخر:

منها: أن يكون المستعمل فيه من قبيل المشكّك له سبع مراتب أو سبعون، فلا يكون من الاستعمال في المعنيين.

ومنها: أنّ ألفاظ القرآن نزلت سبع مرّات أو سبعين وفي كلّ مرّة أُريد منها معنىً.

ومنها: أن يراد من كلّ لفظٍ معنىً قابِلُ الانطباق على سبع أو سبعين في نفسه وأُريد على سبيل الاستغراق.

ومنها: أن يراد أحد المعاني مفهوماً لا مصداقاً ولكن يراد استغراقه»(1)،

انتهى.

وذكر الفيض الكاشاني(قدس سره) في المقدّمة الرّابعة من تفسيره الصّافي(2)

كلاماً طويلاً

ص: 196


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 216.
2- تفسير الصافي 1: 28.

___________________

في هذا المقام لم نورده خوفاً من التّطويل، وقد أشار إليه العلّامة الرّشتي بقوله: «أو كان المراد أنّ المستعمل فيه وإن كان معنى واحداً، وهو الطّبيعة الكليّةالنّفس الأمريّة، إلّا أنّ له مع ذلك مراتب» إلى قوله: «مثل لفظ (الميزان) عبارة عمّا يوزن ويقدّر به الشّيء ويتميّز به عن غيره، سواء كان بالآلة المتداولة في النّشأة الأُولى، أو ولاية عليّ(علیه السلام) أو نفسه المولويّة، كما ورد في بعض فقرات زياراته: «السَّلاَمُ على ميزان الأعمال»(1)(2)،

انتهى.

أقول:

چون نيست خواجه حافظ *** معلوم نيست ما را

ولعلّ أن يكون في إبقاء هذا الكلام متشابهاً وجه، فإنّ لكلامهم(علیهم السلام) محكماً ومتشابهاً لمصالح.

ثمّ إنّ هاهنا كلاماً آخر يتفرّع على مسألة جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى، وهو أنّه هل يجوز الجمع بين الإِخبار والإنشاء أم لا؟ ومن صغرياته الجمع بين قصد إنشاء الحمد من سورة الفاتحة وبين قراءتها، وكذلك الجمع بين قراءة {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ}(3) وبين قصد الإنشاء؟

فذهب قوم إلى عدم الجواز، مستدلّاً بأنّ القراءة استعمال اللّفظ في اللّفظ، أي: استعمال اللّفظ وإرادة اللّفظ.

وبعبارة أُخرى: القراءة هي الحكاية عن اللّفظ باللّفظ المماثل، والإنشاء استعمال اللّفظ في المعنى، ولا يعقل استعمالان في استعمال واحد.

ص: 197


1- بحار الأنوار 97: 287.
2- شرح كفاية الأصول 1: 55.
3- سورة الحمد، الآية: 4.

الثّالث عشر: أنّه اختلفوا في أنّ المشتق حقيقةٌ

___________________

وبيانه: أنّه لو استعمل اللّفظ مريداً به المعنى كان إنشاءً، وإن استعمل وأراد بهاللّفظ كان قِراءةً، ففي الإنشاء يكون المحكي عنه هو المعنى، وفي القراءة يكون المحكي عنه هو اللّفظ، وعليه فلا تجتمع القراءة وطلب الهداية بجملة: {ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ}(1).

والأخبار الّتي ظاهرها طلب القارئ الهداية حين الإتيان بهذه الجملة، محمولة على أنّ المراد طلب الهداية قلباً مقارناً للقراءة.

والجوابُ: أنّا لا نسلّم أنّ القراءة عبارة عن حكاية اللّفظ والمماثل للفظ، بحيث يكون المستعمل فيه لفظاً، بل تصدق القراءة بمجرّد إيجاد اللّفظ المماثل لكلام الغير ملتفتاً إلى المماثلة من غير فرق بين إيجاد المعنى به إنشاءً أم لا.

مثلاً: من مدح محبوبه بقصيدة إمرئ القيس، يصدق عليه أنّه قرأ القصيدة، ولهذا نرى صحّة قولنا: (فلان قرأ دعاء الكميل) مع أنّه إنشاء المعنى بألفاظه، بل قد يعدّ إمكان الجمع من البديهيّات.

والحاصِلُ: أنّ القراءة ليست إخباراً حتّى يستشكل بعدم إمكان جمع الإنشاء والإخبار، مضافاً إلى أنّه لا إشكال فيه أيضاً مع القرينة، فالحقّ جواز الجمع وطلب الهداية بجملة {ٱهۡدِنَا}، ولا وجه لحمل تلك الأخبار على خلاف ظاهرها، واللّه - تعالى - العالم.

[الأمر الثّالث عشر: في المشتقّ]

اشارة

المقدّمة، المشتقّ

الأمر {الثّالث عشر} في المشتقّ وتحرير مباحثه، فنقول: {إنّه اختلفوا في أنّ المشتق} الّذي سيأتي بيان المراد منه مفصّلاً {حقيقة} في ما إذا استعمل

ص: 198


1- سورة الحمد، الآية: 5.

في خصوص ما تلبّس بالمبدأ في الحال، أوفي ما يعمّه وما انقضى عنه على أقوال(1)، بعد الاتّفاق على كونه مجازاً في ما يتلبّس به في الاستقبال.

وقبل الخوض في المسألة، وتفصيل الأقوال فيها، وبيان الاستدلال عليها ينبغي تقديم أُمور:

___________________

{في خصوص ما تلبّس بالمبدأ} الّذي اشتقّ منه {في الحال} أي: في حال النّسبة {أو} المشتقّ حقيقة {في ما يعمّه} أي: يعمّ المتلبّس في حال النّسبة، بأن يكون موضوعاً للجامع بين الذّات المتلبّسة {وما انقضى عنه} المبدأ {على أقوالٍ} كثيرة - بعد ما كانت المسألة ذات قولين - .

مثلاً: هل (الضّارب) حقيقة في خصوص المتلبّس بالضّرب حال النّسبة بحيث لو قال: (زيد ضارب) وقد انقضى عنه الضّرب يكون مجازاً، أو هو حقيقة في الأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه الضّرب حتّى يكون المثال حقيقةً {بعد الاتّفاق على كونه} أي: المشتق {مجازاً} إذا استعمل {في ما يتلبّس به} أي: بالمبدأ {في الاستقبال} فلو قال: (زيد ضارب) ولم يضرب بعد كان مجازاً.

ولا يخفى أنّه يمكن أن يقال في نحو {إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ}(2) و(إنّي ناصب زيداً عَلَماً) ونحوهما أنّها غير ظاهر فيها المجازيّة، فتأمّل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ النّزاع في المشتق في خصوص هيئته كما يرشد إليهلفظ المشتق، فلا نزاع في المادة بوجه أصلاً. {وقبل الخوض في المسألة} وبيان المختار {وتفصيل الأقوال فيها وبيان الاستدلال عليها} أي: على الأقوال {ينبغي تقديم أُمور} ستّة مهمّة:

ص: 199


1- نهاية الدراية 1: 113.
2- سورة البقرة، الآية: 40.

أحدها: أنّ المراد بالمشتقّ هاهنا ليس مطلق المشتقّات، بل خصوص ما يجري منها على الذّوات، ممّا يكون مفهومه منتزعاً من الذّات بملاحظة اتّصافِها بالمبدأ، واتّحادِها معه

___________________

المراد بالمشتقّ

{أحدها} في تنقيح موضوع البحث، فنقول: للمشتقّ إطلاقان:

الأوّل: - وهو المصطلح عند أهل العربيّة - أن يكون لفظ مأخوذاً من لفظ آخر، من غير فرق بين أن يكون المأخوذ والمأخوذ عنه اسماً، أو فعلاً، نحو (ضرب) من (الضّرب)، و(يضرب) من (ضَرَبَ)، و(ضارب) من (يَضْرِبُ)، و(ضاربان) من (ضارب).

الثّاني: - وهو المصطلح عند الأصوليّين أخيراً - أن يكون اللّفظ حاكياً عن الذّات وجارياً عليها باعتبار تلبّسه بعنوان خاصّ يسمّى ذلك العنوان المبدأ، من غير فرق بين أن يكون جامداً أو مشتقّاً، كالزوج والضّارب ونحوهما. وبين هذين القسمين عموم من وجه، لتصادقهما في نحو الضّارب، وصدق الأوّل فقط في الأفعال، والثّاني فقط في الجوامد.

ولا يخفى {أنّ المراد بالمشتقّ هاهنا} أي: في هذا المبحث الاصطلاح الثّاني و{ليس} المراد {مطلق المشتقّات} باصطلاح أهل الأدب {بل خصوص ما يجري منها} أي: من المشتقّات {على الذّوات} بحيث يحمل عليها من دون تجوّز {ممّايكون مفهومه منتزعاً من الذّات} لا عن مقام نفس الذّات، بل {بملاحظة اتّصافها} أي: اتّصاف تلك الذّات {بالمبدأ} لذلك المشتقّ {و} بملاحظة {اتّحادها} أي: اتّحاد الذّات {معه} أي: مع المبدأ.

وإنّما قيّدنا الانتزاع عن الذّات بكونه غير منتزع عن مقام نفس الذّات؛ لأنّ المفاهيم المنتزعة الحاكية عن الشّيء على قسمين:

الأوّل: ما كان منتزعاً عن مقام نفس الذّات بلا اتّصاف بأمر خارج عنها،

ص: 200

بنحوٍ من الاتّحاد، كان بنحو الحلول، أو الانتزاع، أو الصّدور والإيجاد، كأسماء الفاعلين

___________________

ك(الإنسانيّة) المنتزعة عن الإنسان والنّاطقيّة والجسميّة وغيرها، ويلحق بهذا القسم نحو الإمكانيّة والوجوبيّة والامتناعيّة.

الثّاني: ما كان منتزعاً عن مقام اتصاف الذّات بأمر خارج متّحد مع الذّات، ك(الضّاربيّة) الّتي هي منتزعة عن مقام اتصاف الذّات بمبدئها عن الضّرب، وهذا القسم هو محلّ الكلام.

أمّا القسم الأوّل فهو خارج، إذ يشترط في المشتقّ بقاء الذّات، ولا يعقل بقائها مع زوال خصوصيّاتها، كما هو شأن الجوامد، فلو ذهبت الإنسانيّة - بأن صار تراباً - لم يكن إنساناً، وكذا لو ذهب الإمكان فرضاً.

والحاصل: أنّ النّزاع في ما كان منتزعاً عن مقام اتّصاف الذّات ممّا كان متّحداً معها {بنحوٍ من} أنحاء {الاتّحاد} الحقيقي أو العرفي سواء {كان} الاتّحاد {بنحو الحلول} بأن كان المبدأ حالّاً في الذّات، كالأبيض والأسود وغيرهما من الألوان {أو} بنحو {الانتزاع} كالمالك{أو} بنحو {الصّدور} بأن يصدر المبدأ من الذّات كالضارب، فإنّ اتّحاد الذّات بالضّرب صدوري {والإيجاد} عطفه ب«الواو» يدلّ على كونه عطف بيان للصّدور، ويحتمل الفرق بينهما بأن يراد بالأوّل ما كان المبدأ فيه قائماً بغير الفاعل، وإن كان صادراً منه، كالضارب، فإنّ الضّرب صادر عن الفاعل قائم بالمفعول، وبالثّاني ما كان المبدأ قائماً بالفاعل، كالآكل، فإنّ الأكل قائم بنفسه.

ومن المحتمل أن يراد بالصدور ما كان الفاعل معدّاً، كما قيل في جميع أفعال العباد، وبالإيجاد ما كان الفاعل موجداً، كالخالق بالنسبة إلى الباري - سبحانه - .

والحاصل: أنّه لا فرق بين أنحاء الاتصاف، كما لا فرق بين أنحاء المشتق، بل النّزاع جارٍ فيه بأيّ هيئة كان {كأسماء الفاعلين} نحو ضارب

ص: 201

والمفعولين والصّفات المشبّهات، بل وصيغ المبالغة وأسماء الأزمنة والأمكنة والآلات، كما هو ظاهر العُنْوَانات، وصريح بعض المحقّقين(1).

___________________

{والمفعولين} كمضروب {والصّفات المشبّهات} كشريف {بل وصيغ المبالغة} كعلّامة {وأسماء الأزمنة والأمكنة} كمقتل {و} أسماء {الآلات} كمفتاح {كما هو} أي: عدم الفرق {ظاهر العنوانات} الّتي ذكرها القوم، فإنّ لفظ المشتقّ المأخوذ في العنوان يعمّ جميع هذه الأقسام.

{و} كذا {صريح بعض المحقّقين} العموم وإن كان بعضهم لم يسمّ إلّا اسم الفاعل والمفعول والصّفة المشبّهة كصاحب القوانين(رحمة الله)(2).وتوهّم بعض اختصاص النّزاع باسم الفاعل وما أُلحق به، واستدلّ عليه بوجهين:

الأوّل: التّمثيل باسم الفاعل في أثناء احتجاجاتهم..

الثّاني: احتجاج بعضهم على الأعمّ، بإطلاق اسم الفاعل دون إطلاق بقيّة الأسماء.

قال في الفصول ما لفظه: «فهل المراد به ما يعمّ بقيّة المشتقّات من اسمي الفاعل والمفعول والصّفة المشبّهة وما بمعناها وأسماء الزّمان والمكان والآلة وصيغ المبالغة، كما يدلّ عليه إطلاق عناوين كثير منهم، كالحاجبي وغيره، أو يختصّ باسم الفاعل وما بمعناه، كما يدلّ عليه تمثيلهم به واحتجاج بعضهم بإطلاق اسم الفاعل عليه، دون إطلاق بقيّة الأسماء على البواقي، مع إمكان التّمسّك به أيضاً؟ وجهان: أظهرهما الثّاني، لعدم ملائمةِ جميع ما أوردوه في المقام على الأوّل»(3)، انتهى كلامه(رحمة الله).

ص: 202


1- هداية المسترشدين 1: 369.
2- قوانين الأصول 1: 155.
3- الفصول الغرويّة: 60.

مع عدم صلاحيّة ما يوجب اختصاص النّزاع بالبعض إلّا التّمثيل به، وهو غير صالح، كما هو واضح.

فلا وجه لما زعمه بعض الأجلّة من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من الصّفات المشبّهة وما يلحق بها، وخروج سائر الصّفات.

ولعلّ منشأه توهّم كون ما ذكره لكلّ منها - من المعنى - ممّا اتّفق عليه الكلّ، وهو كما ترى.

___________________

ويرد عليه: أنّه يظهر من تفريع جمع من المحقّقين على المسألة كراهة الوضوء بالماء المسخّن بالشّمس بعد زوال حرارته كون النّزاع في اسم المفعول أيضاً، كماصرّح هو(قدس سره) بهذا الإيراد في الحاشية {مع عدم صلاحيّة ما يوجب اختصاص النّزاع بالبعض} الّذي ذكره - أعني: اسم الفاعل وملحقاته - {إلّا التّمثيل به} أي: بذلك البعض في كلام بعض الأعلام {وهو} أي: التّمثيل {غير صالح} للاختصاص، إذ قد جرى ديدنهم على التّمثيل ببعض المصاديق {كما هو واضح}.

وإذ قد عرفت ذلك {فلا وجه} معتدّاً به {لما زعمه بعض الأجلّة} هو صاحب الفصول كما تقدّم {من الاختصاص} للنّزاع {باسم الفاعل وما بمعناه} ممّا يكون متلبّساً بالمبدأ نحو تلبّس اسم الفاعل {من الصّفات المشبّهة} ك (شريف) و(خشن) {وما يلحق بها} كصيغ المبالغة والمصادر المستعملة بمعنى اسم الفاعل {وخروج سائر الصّفات} الجارية على الذّوات، كاسم المفعول والآلة وغيرهما.

{ولعلّ منشأه} أي: منشأ الاختصاص {توهّم كون ما ذكره} أي: صاحب الفصول {لكلّ منها} أي: لكلّ صفة من الصّفات الّتي أخرجها عن كونها محلّ النّزاع {من المعنى} بيان ما {ممّا اتّفق عليه الكلّ} فلا نزاع فيها {وهو كما ترى} إذ كلّها مصبّ النّزاع كما لا يخفى، وهذا إشارة إلى الإيراد الثّاني المتقدّم، كما ذكره المشكيني(رحمة الله).

ص: 203

واختلافُ أنحاء التّلبّسات

___________________

ثمّ قال في الجواب عنه: «إنّ الاحتجاج المذكور لا دلالة له على ذلك، مضافاً إلى أنّه على فرض الدّلالة لا حجيّة في قول هذا البعض»(1)،

انتهى.وجه عدم الحجيّة واضح، إذ عموم النّزاع وخصوصه يتبع عموم الفرض وخصوصه، لا العنوان ولا نحو سوق الأدلّة.

هذا ولا يخفى أنّ كلمات الأعلام هنا لا يخلو عن اضطراب(2).

{واختلاف أنحاء التّلبّسات} في المراد بهذا الكلام اختلاف بين المحشّين، والظّاهر أنّه وجه لقوله: «كما ترى» ومن تتمّة الرّدّ على صاحب الفصول، وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي:

أنّ النّزاع في المشتق ليس في تعيين معنى المادّة ولا في كيفيّة الاشتقاق، إذ الأوّل راجع إلى اللّغة، والثّاني راجع إلى العرف، بل النّزاع في مفاد الهيئة.

ثمّ إنّ مفاد الهيئة ربّما يختلف باختلاف الموادّ، مثلاً تارةً تطلق (الكتابة) ويراد بها ملكتها ثمّ يشتقّ منها الكاتب، ومن البيّن أنّ معناه حينئذٍ المتلبّس بالملكة فيصدق الكاتب ما دامت الملكة باقيةً وإن لم يكن كاتباً بالفعل.

وأُخرى يراد من الكتابة شأنيّتها وقوّتها ثمّ يشتقّ منها الكاتب، ومن البيّن أنّ معناه حينئذٍ المتلبّس بشأنيّة الكتابة، فيصدق الكاتب ما دامت الشّأنيّة باقية وإن كان الشّخص أُمّيّاً.

ص: 204


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 219.
2- فإنّ العلّامة الرّشتي نسب عدم الاختلاف في الصّفة المشبّهة إلى الفصول حين نقل كلام المحشّي وزعم متابعة صاحب الفصول له، والمصنّف نسب الخلاف إليه في الصّفة المشبّهة، والحكيم نسب إلى الفصول ذكر المعنى لكلّ واحدٍ من المشتقّات، والمشكيني حمل قول المصنّف: «لعلّ». الخ على ما أورده في الفصول، والفصول مجمل من بعض الحيثيّات مصرّح بالخلاف بالنسبة إلى البعض الآخر، فراجع.

حَسَبَ تفاوت مبادئ المشتقّات، بحسب الفعليّة والشّأنيّة والصِّناعة والملكة

___________________

وثالثة يراد من الكتابة الحِرْفة ثمّ يشتقّ منها الكاتب، ومن الواضح أنّ معناهحينئذٍ المتلبّس بحرفة الكتابة، فيصدق الكاتب ما دامت الحرفة باقيةً ويذهب إن ذهبت الحرفة وإن كانت الملكة موجودة.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ صاحب الفصول ذكر لكلّ واحدٍ من اسم المفعول وصيغة المبالغة واسم الزّمان واسم المكان واسم الآلة معنىً، وأخرجها عن محلّ النّزاع بزعم أنّ تلك المعاني اتّفاقية، وقال في اسم المفعول: «ثمّ قد يطلق ويتبادر منه ما يعمّ الحال والماضي كقولك: (هذا مقتول زيد أو مصنوعه أو مكتوبه) وقد يختصّ بالحال نحو (هذا مملوك زيد)»(1)

الخ.

والجواب: أنّ النّزاع - كما تقدّم - في مفاد الهيئة لا المادّة، ولا اتّفاق في هذه الخمسة، وأمّا اسم المفعول ف (المقتول) بمعنى: من أُزهِق روحه بسبب القتل، و(المصنوع) بمعنى: ما حدث فيه أثر الصّنع، و(المكتوب) بمعنى: ما وجدت فيه الكتابة، فالمشتق إنّما يصدق في هذه الأمثلة، لأجل أعمّيّة المبدأ مع الفعلي والشّأني والحرفة والملكة والصِّناعة وغيرها، فإنّ اختلاف أنحاء التّلبّس {حسب تفاوت مبادئ المشتقّات بحسب} كون المبدأ بمعنى {الفعليّة} كالقائم {والشّأنيّة} كالكاتب في قولنا: (كلّ إنسان كاتب) {والصِّناعة} كالنجّار، والحرفة كالبقّال، والفرق بينهما أنّ الصِّناعة تحتاج إلى العلم دون الحرفة {والملكة} كالمجتهد، والفرق بين الصِّناعة والملكة: أنّ قوام الأوّل بعدم الإعراض دون الثّاني، فلو أعرض النّجّار من عمله وصار فلّاحاً لا يسمّى نجّاراً، بخلاف المجتهد.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الملكة عبارة عن الكيفيّة النّفسانيّة القارّة وهي في مقابلة

ص: 205


1- الفصول الغرويّة: 59.

- حسب ما يشير إليه - لا يوجب تفاوتاً فيالمهمّ من محلّ النِّزاع هاهنا، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا يبعد أن يراد بالمشتقّ في محلّ النِّزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه جارياً على الذّات ومنتزعاً عنها، بملاحظة اتّصافها بِعَرَضٍ أو عَرَضيٍّ

___________________

الحالّ، فإنّ الكيف النّفسانيّ لو كان راسخاً سُمِّيً مَلَكَةً، وإن لم يكن راسخاً سُمِّيَ حالّاً.

مثلاً: لو مارَسَ شخصٌ قراءةَ سُوْرَةِ الحمد، بحيث يقرأها كلّما أراد، سُمِّيَ ملكة، وإن كان لم يُمَارِسْها بعد، بحيث لا يتمكّن من ذلك، سُمِّيَ حالّاً {حسب ما يشير} صاحب الفصول {إليه} أي: إلى هذا التّفاوت {لا يوجب تفاوتاً في المهم من محلّ النّزاع هاهنا} إذ الكلام في الهيئة لا في المادة {كما لا يخفى} وتقدّم منّا توضيحه.

{ثمّ} إلى هنا كان الكلام حول كون المشتق الأصولي أخصّ من وجه من المشتقّ الأدبي، وأمّا بيان {أنّه} أعمّ من وجه منه، فهو {لا يبعد أن يراد بالمشتق} المبحوث عنه {في محلّ النّزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه جارياً على الذّات ومنتزعاً عنها} سواء صدق عليه المشتقّ باصطلاح أهل العربيّة أم لا، ووجه عدم البعد ما تقدّم مِن أنّ عموم النّزاع وخصوصه يتبع عموم الغرض وخصوصه، وإنّما لم يجزم بذلك، لعدم العلم بكون ذلك مرادهم. وعلى كلٍّ فمرادنا بالمشتقّ ما كان منتزعاً عن الذّات {بملاحظة اتّصافها بِعَرَضٍ أو عَرَضِيّ}.

لا يخفى أنّ مراد المصنّف من العَرَض الأُمور المتأصّلة الّتي لها وجود فيالخارج كالبياض والسّواد، ومراده بالعَرَضِيّ الاعتبارات العقلائيّة أو الشّرعيّة غير المتأصّلة الّتي لا يحاذيها في الخارج شيء كالزوجيّة والملكيّة، كما صرّح هو بذلك في التّنبيه الثّامن من الاستصحاب قال ما لفظه: «أو من أعراضه ممّا كان محمولاً عليه بالضّميمة، كسواده مثلاً أو بياضه» إلى أن قال: «كما أنّ العرضي

ص: 206

ولو كان جامداً، كالزَّوْج والزَّوْجة والرّقّ والحرّ.

فإن أبيت إلّا عن اختصاص النّزاع المعروف بالمشتق - كما هو قضيّة الجمود على ظاهر لفظه - فهذا القسم من الجوامد أيضاً محلّ النّزاع. كما يشهد به ما عن الإيضاح

___________________

كالملكيّة والغصبيّة ونحوهما لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه»(1)،

انتهى.

ولا يخفى أنّ هذا يخالف اصطلاح أهل الميزان والمعقول. قال في المنظومة ما لفظه:

«وعَرَضِيُّ الشَّيْءِ غيرُ العَرَضِ» «ذا كالبياض» إذِ العَرَضُ مأخوذ بشرط لا، ولا يحمل على موضوعه «ذاك مثل الأبيضِ» إذِ العَرَضِيُّ يحمل على معروضه مأخوذ لا بشرط، لكن في المنطق قد يطلق العَرَضُ على العَرَضِيّ، كالعَرَضِ العامّ والعَرَض الخاصّ والعرض اللّازم والعرض المفارق، فلا يراد بها العرض بمعنى الحالّ في المحل المستغنى»(2)،

انتهى.

{ولو كان} ذلك الأمر الجاري المنتزع اسماً {جامداً} باصطلاحالأُدباء {كالزوج والزّوجة والرّقّ والحر} فلو كان شخصٌ عبداً في الزّمان الماضي، ثمّ صار حرّاً فهل يكون إطلاق العبد عليه حقيقةً أم لا، فالمتلبّس بالعبديّة حقيقة، والمنقضي عنه مختلف فيه، والّذي يكون بعداً مجاز طابق النّعل بالنّعل {فإن أبيت إلّا عن اختصاص النِّزاع المعروف} عند القوم {بالمشتقّ} باصطلاح العربيّة {كما هو قضيّة الجمود} أي: مقتضى الجمود {على ظاهر لفظه} أو لفظ المشتق {فهذا القسم من الجوامد} الجارية على الذّات {أيضاً محلّ النّزاع} بين الأعلام، وإن لم يعنونوها في باب المشتق {كما يشهد به ما} حكي {عن الإيضاح} لفخر المحقّقين

ص: 207


1- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 163164.
2- شرح المنظومة 1: 178.

في باب الرّضاع، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصّغيرة، ما هذا لفظه: «تحرم المُرْضِعة الأُولى والصّغيرة مع الدّخول بالكبيرتين. وأمّا المُرْضِعة الأُخرى ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنّف وابن إدريس تحريمها؛ لأنّ هذه يصدق عليها أُمّ زوجته؛ لأنّه لا يشترط في المشتقّ بقاء المشتق منه، هكذا هاهنا»(1).

وما عن المسالك في هذه المسألة: من ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتق(2).

___________________

ولد العلّامة الحلّي(رحمة الله) قال: {في باب الرّضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان} وزوجةصغيرة ثمّ {أرضعتا زوجته الصّغيرة} الرّضاع المحرّم {ما هذا لفظه: «تحرم المرضعة الأُولى والصّغيرة مع الدّخول بالكبيرتين} نقل العلّامة القمّي(رحمة الله) عن فوائد المصنّف والبدائع أنّهما نقلا عبارة الإيضاح هكذا: «مع الدّخول بإحدى الكبيرتين» {وأمّا} الزّوجة الكبيرة {المرضعة الأُخرى ففي تحريمها} بسبب رضاعها {خلاف} بين الأعلام {فاختار والدي} العلّامة {المصنّف} إذ الإيضاح شرح على قواعد العلّامة {و} كذا اختار {ابن إدريس تحريمها؛ لأنّ هذه} المرضعة الثّانية {يصدق عليها أُم زوجته} بمجرّد الرّضاع {لأنّه لا يشترط في المشتقّ بقاء المشتق منه} فالزّوجة الّتي هي المشتق تصدق على الصّغيرة، ولو بعد خروجها عن الزّوجيّة وتحريمها برضاع الكبيرة الأولى.

{هكذا} عبارة الإيضاح {هاهنا»، و} كذا يشهد لما ذكرنا من وقوع النّزاع في هذا القسم من الجوامد {ما} حكي {عن المسالك} للشّهيد الثّاني(قدس سره) {في هذه المسألة} الّتي عنونها فخر الدّين {من ابتناء الحكم} بالتحريم {فيها} أي: في المرضعة الثّانية {على الخلاف في مسألة المشتق} فقال ما لفظه:

«بقي الكلام في تحريم الثّانية من الكبيرتين، فقد قيل: إنّها لا تحرم، وإليه مال

ص: 208


1- إيضاح الفوائد 3: 52.
2- مسالك الأفهام 7: 268.

فعليه كلّما كان مفهومه منتزعاً من الذّات بملاحظة اتّصافها بالصفات الخارجة عن الذّاتيّات

___________________

المصنّف، حيث جعل التّحريم أولى، وهو مذهب الشّيخ، وابن الجنيد، لخروجالصّغيرة عن الزّوجيّة إلى البنتيّة، وأُمّ البنت غير محرّمة على أبيها، خصوصاً على القول باشتراط بقاء المعنى المشتقّ منه في صدق الاشتقاق، كما هو رأي جمع من الأصوليّين»، ثمّ ذكر تحريمها إلى أن قال: «لأنّ هذه يصدق عليها أُمّ زوجة وإن كان عقدها قد انفسخ؛ لأنّ الأصحّ أنّه لا يشترط في صدق المشتقّ بقاء المعنى»(1)،

انتهى.

والحاصل: إنّ إرضاع الكبيرة الأولى للصّغيرة محرّم لهما؛ لأنّ الكبيرة تصير أُمّ الزّوجة، والصّغيرة تصير بنت الزّوجة، وكلاهما مسبِّب للتحريم بعد الدّخول بالكبيرة، ثمّ إذا أرضعت هذه الصّغيرة الكبيرة الثّانية، فإن قلنا بصدق المشتق - أي: الزّوجة - على الصّغيرة بعد خروجها عن الزوجيّة، لزم حرمة الكبيرة الثّانية؛ لأنّها برضاعها للصّغيرة تكون أُمّ الزّوجة، وإن لم نقل بالصدق لم تحرم؛ لأنّها لم ترضع الزّوجة وإنّما أرضعت أجنبيّة.

واعلم أنّ الأقسام المتصوّرة في المسألة أربعة: لأنّه إمّا أن تكون كلتاهما أو إحداهما مدخولاً بها أم لا، وعلى كلّ تقدير فإمّا أن يكون اللّبن من هذا الزّوج أم لا، وحيث كانت المسألة خارجة عمّا قصدناه من شرح ألفاظ المتن لم نتعرّض لخصوصيّاتها {فعليه} أي: فعلى ما ذكرنا من وجود الملاك مؤيّداً بتعرّض الأصحاب للتعميم {كلّما كان مفهومه منتزعاً من الذّات} جامداً أو مشتقّاً ولم يكن منتزعاً عن مقام نفس الذّات كالإنسانيّة والنّاطقيّة، بل كان الانتزاع {بملاحظة اتّصافها} أي: الذّات {بالصّفات الخارجة عن الذّاتيّات} الذّاتي له إطلاقان:

[1] إطلاق في باب البرهان، [2] وإطلاق في باب الإيساغوجي - أي: الكليّات

ص: 209


1- مسالك الأفهام 1: 379.

- كانت عَرَضاً أو عَرَضِيّاً، كالزّوجيّة والرّقيّة والحريّة وغيرها من الاعتبارات والإضافات - كان محلّ النِّزاع وإن كان جامداً.

وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعاً عن مقام الذّات والذّاتيّات،

___________________

الخمس - والظّاهر أنّ مراد المصنّف كلاهما.

قال في المنظومة ما لفظه: «كذلك الذّاتي» له إطلاقان: أحدهما: «بذا المكان» أي: الذّاتي المستعمل في الكليّات الخمسة، أي: ما ليس خارجاً عن الشّيء «ليس هو الذّاتي في» كتاب البرهان إذ يراد بالذّاتيّ المستعمل هناك ما ينتزع من نفس ذات الشّيء، فيكفي ذاته في انتزاعه كما قلنا:

«من لاحقٍ لذات شَيء من حيث هي بلا توسّط لغير ذاته»

في لحوقه «فمثل الإمكان هو الذّاتيّ» فيقول الحكيم إنّ الإمكان ذاتيّ للماهيّة الإمكانيّة لا غيري بهذا المعنى، كما قلنا: «لا الذّاتي الإيساغوجي، بل ثاني» من المعنيين»(1)،

انتهى.

فالنّوعُ والفصلُ والجنسُ ذاتِيٌّ في باب الإيساغوجي، والإمكانُ والامتناعُ والوجوبُ ذاتِيٌّ في باب البُرْهان.

فتحصّل أنّ ما كان جارياً على الذّات غير الذاتيّات سواء {كانت عَرَضاً} له ما بحذاء في الخارج، كالأسود والأبيض {أو عرضيّاً} ليس له ما بحذاء {كالزوجيّة والرّقيّة والحريّة} والملكيّة والغصبيّة {وغيرها من الاعتبارات} الشّرعيّة أو العقلائيّة الّتي هي قائمة بنفس المعتبِر، ولو لم يكن تصوّرها ووجودها متوقّفاً على الغير{والإضافات} الّتي تتوقّف على الغير {كان} خبر «كلّما كان» {محلّ النِّزاع} في مبحث المشتق {وإن كان جامداً} باصطلاح الأُدباء {وهذا بخلاف ما كان} من الأسماء {مفهومه منتزعاً عن مقام الذّات} كالنّوع مثل الإنسانيّة {والذّاتيّات}

ص: 210


1- شرح المنظومة 1: 179.

فإنّه لا نزاع في كونه حقيقةً في خصوص ما إذا كانت الذَّاتُ باقيةً بذاتيّاتها.

___________________

كالفصل والجنس مثل النّاطقيّة والحيوانيّة، بل والإمكان والوجود والامتناع {فإنّه لا نزاع في كونه} أي: كون المنتزع عن مقام الذّات والذاتيّات {حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذّات باقيةً بذاتيّاتها}.

قال في تقريرات الميرزا(رحمة الله) في وجه خروج هذا عن محلّ النّزاع ما لفظه:

«لا إشكال في خروج القسم الأوّل عن محلّ النّزاع، فإنّ شيئيّة الشّيء بصورته - أي: صورته النّوعيّة - لا بمادّته، فإذا فرضنا تبدّل الإنسان بالتّراب فما هو ملاك الإنسانيّة هي الصّورة النّوعيّة(1) وقد زالت، وأمّا المادّة المشتركة الباقية الّتي هيالقوّة الصّرفة لإفاضة الصُّورَ، فهي غير متّصفة بالإنسانيّة في حال من الأحوال. وبالجملة فالمتّصف زائل والباقي غير متّصف»(2)،

انتهى.

أقول: لكن قد يطلق مسامحة، كما يخاطب العظام البالية والتّراب الباقي، فتدبّر.

والّذي يظهر من العلّامة المشكيني(قدس سره) - حيث قال: «والدّليل على خروجه اتفاق العلماء على كونه حقيقة في التلبس»(3)، انتهى - هو جواز الاستعمال مجازاً.

قال العلّامة الرّشتي: «بل قد قيل بأنّ الاستعمال حينئذٍ من الأغلاط ولا يكون

ص: 211


1- قال في المنظومة ما لفظه: «كلّ نوع من أنواع الجسم مختصّ بأحوال معيّنة، ككون بعضها حارّاً، وبعضها بارداً، وبعضها في حيّز معيّن يقتضي السّكون عند حصوله فيه، والحركة إليه عند خروجه عنه وغير ذلك، فالمقتضي لذلك الاختصاص ليس أمراً خارجاً عن ذات الجسم بالضرورة، فهو إمّا الصورة الجسميّة أو الهيولى أو صورة أُخرى طبيعيّة، والأوّلان باطلان لشركة الصّورة الجسميّة بين الأجسام كلّها، والهيولى أي: هيولى عالم العناصر مشتركة أيضاً، فيلزم اشتراك الأجسام كلّها في الآثار، مع كون شأن هذه أي: الهيولى قبولاً والقابل لا يكون فاعلاً، فتعيّن الثّالث وهو المطلوب»، انتهی؛ شرح المنظومة 4: 230.
2- أجود التّقريرات 1: 53.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 224.

ثانيها: قد عرفت أنّه لا وجه لتخصيص النِّزاع ببعض المشتقّات الجارية على الذّوات، إلّا أنّه ربّما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزّمان؛ لأنّ الذّات فيه - وهي الزّمان بنفسه - ينقضي وينصرم، فكيف يمكن أن يقع النِّزاع في أنّ الوصف الجاري عليه حقيقةٌ في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال، أو في ما يعمّ المتلبّس به في المُضِيّ؟

___________________

مجازاً بعلاقة ما كان»(1).

اسم الزّمان

{ثانيها} أي: الثّاني من الأُمور الّتي لا بدّ من تقديمها، في بيان جريان النّزاع في اسم الزّمان {قد عرفت} في الأمر الأوّل {أنّه لا وجه} معتدّاً به {لتخصيص النّزاع ببعض المشتقّات} الاسميّة{الجارية على الذّوات} بل النّزاع يعمّ جميعها، {إلّا أنّه ربّما يشكل بعدم إمكان جريانه في} المشتق الّذي هو {اسم الزّمان} ك(مقتل) بمعنى: زمان القتل، وذلك {لأنّ الذّات فيه} أي: في اسم الزّمان {وهي الزّمان، بنفسه} إذ معنى اسم الزّمان: الزّمان المتلبّس بالقتل في المقتل، وبالولادة في المولد، وهكذا {ينقضي وينصرم} عطف بيان {فكيف يمكن أن يقع النّزاع في أَنَّ الوصف الجاري عليه} ك(المقتل) و(المولد) {حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ} أي: القتل والولادة {في الحال} فقط {أو} يكون حقيقة {في ما يعمّ المتلبّس به في المضي} فيكون في ما مضى حقيقةً كالحال؟

قال العلّامة القمّي(رحمة الله): «توضيح الإشكال أنّه لا بدّ في محلّ النّزاع من المشتقّ أن يكون الذّات المتّصف بالمبدأ باقياً بعد انقضاء المبدأ، حتّى ينازع في أنّ إطلاق المشتقّ على الذّات في ظرف انقضاء المبدأ صحيح أم لا، وأمّا إذا كان الذّات ممّا لا بقاء له ولا استقرار، وكان ينتفي وينقضي مع انقضاء المبدأ فلا مجال للنّزاع في أنّ الموضوع له هو في حال الاتصاف أو الأعم. مثلاً: أسماء الزّمان

ص: 212


1- شرح كفاية الأصول 1: 57.

___________________

- مثل مقتل - موضوع للزّمان الّذي يقع فيه القتل، وهذا الزّمان لا بقاء له بعد انقضاء المبدأ حتّى يطلق اللفظ عليه، فليس منها ما يمكن الإطلاق باعتبار الانقضاء، ففي أسماء الزّمان لا يعقل أن يقال بوضعها للأعم، لعدم إمكان بقائهكذلك»(1)،

انتهى.

وكذلك لا يمكن أن يقال بجواز الإطلاق على الزّمان الثّاني مجازاً، وعلى هذا فيكون اسم الزّمان خارجاً عن محلّ النّزاع. ثمّ إنّ الأقوال في حقيقة الزّمان كثيرة:

[1] فقال بعض: إنّ الزّمان كالحركة له معنيان:

أحدهما: أمر موجود في الخارج غير منقسم، وهو مطابق للحركة بمعنى التّوسّط، ويسمّى بالآن السّيّال أيضاً.

والثّاني: أمر متوهّم لاوجود له في الخارج يعني المطابق للحركة بمعنى القطع.

[2] وقال آخر: إنّ الزّمان مقدار الحركة القطعيّة، بيانه أنّ الموجود قسمان:

الأوّل: ما هو موجود بوجود مصداقه نحو وجود الإنسان وغيره من الأعيان.

والثّاني: ما هو موجود بوجود منشأ انتزاعه، ومن هذا القبيل وجود الإضافات ونحوها، فالقطعيّة موجودة بهذا المعنى. ومن هذا القبيل أيضاً جميع المهيّات والكليّات الطّبيعيّة، فوجودها بمعنى وجود منشأ انتزاعها، أعني: الأشخاص.

[3] وقال المشهور: إنّ الزّمان تجدّد الوضع الفلكي.

[4] وقد نفى رابع الزّمان مطلقاً.

[5] وقال خامس: بأنّ الزّمان هو الحركة نفسها.

[6] وقال سادس: إنّ الزّمان هو الفلك.

ص: 213


1- حاشية الكفاية 1: 86.

ويمكن حلّ الإشكال بأنّ انحصار مفهوم عام بفرد - كما في المقام - لا يوجب أن يكون وضع اللّفظ بإزاء الفرد، دون العام، وإلّا لما وقع الخلاف في ما وضع له لفظ الجلالة، مع أنّ الواجب موضوع للمفهوم العامّ، مع انحصاره فيه تباركوتعالى.

___________________

[7] وذهب سابع إلى ما لا أُحبّ ذكره. وتفصيل الحجج والجواب عنها مذكور في المنظومة في الفريدة الثّالثة(1).

{ويمكن حلّ الإشكال} المتقدّم في اسم الزّمان {بأنّ انحصار مفهوم عامّ} كاسم الزّمان في ما نحن فيه، فإنّ المقتل معناه زمان القتل وهو كلّيّ قابل الانطباق على جزء جزء من الزّمان، فانحصاره {بفرد} في الخارج، كما لو كان زمان القتل الدّقيقة الأُولى من يوم كذا {كما في المقام} فإنّ الّذي نبحث عنه هو اختصاصه بزمان معيّن {لا يوجب} ذلك الانحصار بفرد {أن يكون وضع اللّفظ بإِزاء الفرد} من الزّمان الواقع فيه القتل {دون} أن يكون اللّفظ موضوعاً بإِزاء المعنى {العام} الكلّي.

والحاصل: عدم المنافاة بين كليّة المفهوم وانحصار الوجود الخارجي في الواحد {وإلّا} فلو كان منافاة {لما وقع الخلاف} بين الأعلام {في ما وضع له لفظ الجلالة} فإنّه وقع النّزاع في أنّ لفظ (اللّه) موضوع بإِزاء الكلّي أو علم شخصي، مع أنّه ليس في الخارج إلّا فرد واحد وهو ذاته المقدّسة - جلّ وتقدّس - ولو كان منافاة بينهما وجب الاتفاق على كونه علماً شخصيّاً {مع أنّ الواجب موضوع للمفهوم العام} عند المحقّقين {مع انحصاره} أي: الواجب {فيه - تبارك وتعالى -}.

قال في التّهذيب: «المفهوم إن امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئيّ، وإلّا فكلّيّ امتنعت أفراده، أو أمكنت ولم توجد، أو وجد الواحد فقط مع إمكان الغير،أو امتناعه»(2)،

انتهى.

ص: 214


1- شرح المنظومة 2: 473.
2- الحاشية على تهذيب المنطق: 30.

ثالثها: أنّه من الواضح خروج الأفعال

___________________

وهذا صريح في عدم التّلازم بين الوضع للكلّي وإمكان الفرد فكيف بوجوده.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ قوله: «وإلّا لما وقع» وقوله: «مع أنّ الواجب» الخ جوابان، لا جواب واحد، كما زعم.

قال العلّامة القمّي(رحمة الله): «فانظر إلى الواجب حيث إنّ هذا اللّفظ معناه ذات متّصف بوجوب الوجود وهو كلّي، مع أنّ الفرد الموجود منه منحصر في اللّه - تبارك وتعالى - ، وكذلك اختلفوا في لفظ (اللّه) في أنّه علم شخص أو اسم للذّات المتّصف بجميع صفات الكمال، فعليه يكون كليّاً مع أنّ الموجود منه في الخارج فرد خاص، فمن الممكن أن يقال: إنّ لفظ (المقتل) موضوع للزّمان المتصف بالقتل حالاً أو في ما مضى، وإن لم يتحقّق في الخارج إلّا المتصف به فعلاً»(1).

هذا وأجاب الأُستاذ في الدّرس بما يرجع إلى كلام الميرزا وبيانه: أنّا نفرض يوم الجمعة مثلاً اثنى عشرة ساعةً، ونفرض أنّ قتل زيد وقع في السّاعة الأُولى منها، فحينئذٍ نقول لكلّ ساعة اعتباران: الجزئيّة والكليّة، كما أنّ لزيد وعمرو وبكر جهات جزئيّة تختصّ بكلّ فرد، وجهة جامعة كليّة، والمعروض للقتل الزّمان الكلّي ولا إشكال في بقائه، لا الجزئي الّذي لا إشكال في زواله حتّى يقال: إنّ إطلاق (المقتل) على السّاعة الثّانية من باب إطلاق العالِم الّذي هو وصف ل (زيد) على (عمرو) الجاهل.

الأفعال والمصادر

{ثالثها} أي: الثّالث من الأُمور الّتي لا بدّ من تقديمها، في بيانخروج المصادر والأفعال عن محلّ النّزاع، وفي كيفيّة دلالة الفعل على الزّمان {أنّه من الواضح} المصرّح به في كلام القوم {خروج الأفعال} من الماضي، والمضارع،

ص: 215


1- حاشية الكفاية 1: 86.

والمصادر المزيد فيها عن حريم النِّزاع؛ لكونها غيرَ جاريةٍ على الذّوات؛ ضرورةَ أنّ المصادر المزيد فيها، كالمجرّد في الدّلالة على ما يتّصف به الذّوات ويقوم بها، كما لا يخفى.

___________________

والأمر، وسائر توابع المضارع، عن محلّ النّزاع {و} كذا لا خلاف ولا إشكال في خروج {المصادر} المجرّدة، ك (ضَرْبٍ) و(دِحْراجٍ) و{المزيد فيها} ك (الإكرام) و(الاحرنجام) {عن حريم النّزاع} أمّا المصادر المجرّدة، فلعدم كونها مشتقّات على المذهب الّذي اختاره بعض محقّقي النّحويّين، إذ المصدر على المشهور مبدأ الاشتقاق، قال ابن مالك:

المصدرُ اسمُ ما سِوَى الزَّمانِ مِنْ *** مدلولي الفعل، كَأَمْنِ من أَمِنْ

بِمِثْلِهِ أو فِعِل أو وصفٍ نُصِبْ *** وكونُهُ أصلاً لهذين انْتُخِبْ(1)

وأمّا الأفعال والمصادر المزيد فيها والمصادر المجرّدة - على القول بكون الفعل أصلاً - فخروجها عن محلّ النّزاع {لكونها غيرَ جاريةٍ على الذّوات} وقد عرفت أنّ المشتقّ المبحوث عنه في المقام هو المفهوم الجاري على الذّات المنتزع عنها، بملاحظة اتّصافها بمبدأ الاشتقاق.

ثمّ علّل امتناع جريانها على الذّات بقوله: {ضرورة أنّ المصادر المزيد فيها} الّتي هي مشتقّات اصطلاحاً {ك} المصدر {المجرّد} من غير فرقٍ، فهما سواء {في الدّلالة علىما} أي: المبدأ الّذي {يتّصف به الذّوات ويقوم} ذلك المبدأ {بها} أي: بالذات {كما لا يخفى} وليست جاريةً على الذّات الّذي هو شرط كونه محلّ النّزاع، وأيّد خروج المصادر العلّامة المشكيني بوجهٍ آخَرَ، قال: «الثّاني أنّه لمّا كان مدلوله نفس المبدأ ولا جامع بينه وبين عدمه لم يعقل كونه موضوعاً للأعمّ»(2)، انتهى.

ص: 216


1- البهجة المرضية: 197.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 226.

وأنّ الأفعال إنّما تدلّ على قيام المبادئ بها قيامَ صدورٍ أو حلولٍ، أو طلب فعلها أو تركها منها على اختلافها.

___________________

هذا وجه خروج المصادر {و} أمّا خروج الأفعال فلبداهة أنّ الفعل إنّما يدلّ على قيام المبدأ أو الطّلب، وكلّما كان كذلك فهو غير جارٍ على الذّات، وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {إنّ الأفعال إنّما تدلّ على قيام المبادئ بها} أي: بالذات، فإنّ مدلول (ضرب) نسبة المبدأ - وهو الضَّرْب - إلى الفاعل وقيامه به. من غير فرق بين أن يكون {قيام صدور} ك (ضَرَبَ) {أو حلول} ك (أحمرَّ) أو انتزاع ك(ملك) أو غيرها، من سائر أنحاء القيام.

هذا كلّه في ما إذا كان الفعل خبراً، كفعلي الماضي والمضارع {أو} يدلّ الفعل في الإنشاء على {طلب فعلها} أي: الإتيان بالمبادئ، كما في الأمر، فإنّ معنى (أضْرِبْ): طلب فعل الضَّرْب {أو} يدلّ الفعل على طلب {تركها} أي: ترك المبادئ كما في النّهي، فإنّ معنى (لا تَضْرِبْ): طلب ترك الضَّرْب الّذي هو المبدأ {منها} أي: من الذّات وهو الفاعل أو التّارك {على اختلافها}.والمراد به إمّا اختلاف الأفعال التَّرْكيّة من التّنزيهي والإرشادي والتّحريمي، والفعليّة من الوجوب والاستحباب والإباحة وغيرها.

وإمّا اختلاف مبادئ الأفعال من الملكة والشّأنيّة والفعليّة وغيرها.

وإمّا اختلاف أنحاء طلب التّرك وطلب الفعل بهيئة الأمر أو النّهي او المضارع أو الاستفهام أو غيرها، والظّاهر أنّ المراد به هو اختلاف أنحاء القيام من الصّدور، والحلول، والانتزاع، ونحوها.

قال العلّامة الرّشتي(قدس سره): «وقد فهم من كلام المصنّف هذا أنّ مدلول الأفعال هي المبادئ المنسوبة إلى فواعلها نحواً من الانتساب، وليس الزّمان جزءاً من مدلولها»(1).

ص: 217


1- شرح كفاية الأصول 1: 58.

إزاحة شبهة:

قد اشتهر في ألسِنة النُّحَاة(1):

دلالةُ الفعل على الزّمان، حتّى أخذوا الاقتران بها في تعريفه.

وهو اشتباه؛ ضرورةَ عدم دلالة الأمر ولا النّهي عليه، بل

___________________

ولذا عقّبه بقوله:

دلالة الفعل على الزّمان

{إزاحةُ شُبْهَةٍ} في مدلول الفعل {قد اشتهر في ألسِنَةِ} القُدَمَاءِ من {النُّحاة} وغيرهم {دلالة الفعل على الزّمان} قال ابن مالك: «المصدر اسم...» البيت {حتّى أخذوا الاقتران بها} أي: بالأزمنة الثّلاثة {في تعريفه} وجعلوا الفرق بينه وبين الاسم بذلك.وحجّتهم على ذلك: التّبادُر حينَ الإطلاقِ، فإنّ المنصرف عند قولنا: (ضَرَبَ زيد) أنّه وقع منه الضَّرْبُ في الزّمان الماضي، وعند قولنا: (يَضْرِبُ زيد) أنّه سيقع منه أو واقع منه في الحال، وكذلك الاطّراد، فإنّه يطّرد استعمال الماضي في ما مضى، والمضارع في ما يأتي، أو متلبّس فعلاً، ولا يطّرد العكس، وكذلك النّقل، فإنّ اللّغويّين الّذين بناؤهم ذكر محض اللّغة ذكروا ذلك.

إن قلت: اللّغويّون يذكرون الحقيقة والمجاز، فلا شاهد في قولهم.

قلت: ليس كذلك، ويدلّ عليه أنّهم لا يذكرون أشهر المجازات، فإنّه لم يعهد من لغويّ أن يذكر في معنى (الأسد) الرّجل الشّجاع، مع أنّه أشهر من الشّمس وأبين من الأمس.

وقد يؤيّد هذه الدّعوى من النُّحاة بالإجماع {وهو اشتباهٌ}.

أمّا الأفعال الإنشائيّة فلا تدلّ على الحال أصلاً {ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النّهي} فضلاً عن الاستفهام وغيره {عليه} أي: على الزّمان {بل} إنّما تدلّ هذه

ص: 218


1- شرح كافية ابن الحاجب 4: 5.

على إنشاء طلب الفعل أوالتّرك، غاية الأمر نفس الإنشاء بهما في الحال، كما هو الحال في الإخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما، كما لا يخفى.

بل يمكن منع دلالة غيرهما من الأفعال على الزّمان إلّا بالإطلاق والإسناد إلى الزمانيّات،

___________________

الثّلاثة {على إنشاء طلب الفعل} في الأوّل {أو} طلب {التّرك} في الثّاني أو طلب الفهم في الثّالث.

وقد يستدلّ بأنّ هذه الثّلاثة مشتملة على مادّة وهيئة، والمادّة لا تدلّ إلّا على نفس الماهيّة، والهيئة لا تدلّ إلّا على نفس الطّلب فمن أين الزّمان؟ {غايةالأمر نفس الإنشاء} بالاستفهام و{بهما} أي: الأمر والنّهي {في} زمان {الحال} فإنّ قولنا: (أضْرِبْ) أو (لا تَضْرِبْ) أو (هل تَضْرِبُ) يقع في زمان النّطق الّذي هو الحال النّطقي، وهو ليس مقصود النّحاة {كما هو الحال} أي: الشّأن {في الإخبار} فإنّ الخبر لكونه كلاماً يقع في زمان النّطق الّذي هو الحال، من غير فرق بين أن يكون الإخبار {بالماضي} ك (ضَرَبَ زيد) {أو المستقبل} ك (يضرب زيد) {أو بغيرهما} كالجملة الاسميّة، نحو (زيد ضارب) {كما لا يخفى}.

والتّبادر، والاطّراد، ممنوعان، والإجماع حتّى من اللّغويّين غير ثابت، كيف وقد اختلف في معنى صيغة الأمر هل أنّه للفور أو التّراخي أو لا دلالة لها أصلاً على إحداهما؟

فتحصّل أنّ زمان الحال لا يكون جزءاً لمدلول الإنشاء {بل يمكن منع دلالة غيرهما} أي: غير الأمر والنّهي، وكذا غير الاستفهام {من} سائر {الأفعال} كالماضي والمضارع {على الزّمان} مطلقاً، فلا تدلّ صيغة الماضي على الزّمان الماضي، ولا صيغة المضارع على الحال أو الاستقبال، {إلّا بالإطلاق والإسناد إلى الزّمانيّات} فلو لم يطلق الفعل - بأن كانت هناك قرينة - كما سيأتي من قوله: «يجيئني زيد بعد عام وقد ضرب قبله بأيّام» أو لم يسند إلى الزّمانيّات، بل إلى

ص: 219

وإلّا لزم القول بالمجاز والتّجريد عند الإسناد إلى غيرها من نفس الزّمان والمجرّدات.

___________________

غيرها ممّا يأتي، فلا دلالة له على الزّمان أصلاً {وإلّا} يمنع دلالة الفعل علىالزّمان، بل قلنا بدلالته عليه {لزم القول بالمجاز} في الفعل {والتّجريد} عن جزء معناه الموضوع له {عند الإسناد} أي: إسناد الفعل {إلى غيرها} أي: غير الزّمانيّات {من} غير فرق بين أن يكون غير الزّماني {نفس الزمان} نحو:

مَضَى الزَّمَانُ فقُمْ يا غُلاَمُ واملَأْ جامْ لعلّنا نتلافى سوالِفَ الأَيَّامْ

فإنّه حينئذٍ يجرّد كلمة (مَضَى) من جزء معناه الّذي هو الزّمان على قول النُّحاة، وإلّا لزم كون الزّمان في الزّمان، وكذا لو كان نفس الفعل مسنداً إلى فاعل، مع التّصريح بوقوعه في الزّمان، نحو (ذهب زيد في يوم الجمعة) أو(في الأيّام الخالية).

{و} كذا يلزم التّجريد والمجاز لو أسند الفعل إلى {المجرّدات} نحو علم اللّه، فإنّه لو كان الفعل بمعنى الزّمان لزم كون المجرّد زمانيّاً، على أنّه لا يفرّق العرف بين علم اللّه وعلم زيد من هذه الجهة، مع أنّ لازم قول النُّحاة الفرق بالعناية في الأوّل دون الثّاني.

تنبيه: قوله: «المجرّدات» لم يُعْلَم بعدُ وجودُ مجرّدٍ غيرَ اللّه - سبحانه - وتمام الكلام في الكلام.

وقد يؤيّد عدم دخول الزّمان في مفهوم الفعل بقول أميرالمؤمنين(علیه السلام) في الحديث المشهور: «الاسمُ ما أَنْبَأَ عن المُسَمَّى، والفعلُ ما أَنْبَأَ عن حركةِ المُسَمَّى، والحرفُ ما أوجد معنىً في غيره»(1)، وجه الدّلالة أنّ الإنباء عن الحركة غيرُ الزّمان وإن كان ملازماً له فتدبّر، وفي المقام كلام طويلٌ تَعَرَّضَ لبعضه العلّامة

ص: 220


1- هو الحديث الّذي مرّ سابقاً وقد رواه الزّجاجيّ في أماليه عن أبي الأسود. وراجع الفصول المختارة: 91.

نعم، لا يبعد أن يكون لكلّ من الماضي والمضارع - بحسب المعنى - خصوصيّةٌ أُخرى موجبةٌ للدّلالة على وقوع النّسبة في الزّمان الماضي في الماضي، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع، في ما كان الفاعل من الزّمانيّات.

ويؤيّده: أنّ المضارع يكون مشتركاً معنويّاً بين الحال والاستقبال،

___________________

القمّيّ(1)، والسّلطان(2)، وغيرهما.

{نعم، لا يبعد أن يكون لكلٍّ من} فعلِ {الماضي، والمضارع، بحسب المعنى خصوصيّة أُخرى} غير خصوصيّة نفس المعنى الحدثي، فلفعل الماضي خصوصيّة الدّلالة على أنّ الحدث خارج من القوّة إلى الفعل، ولفعل المضارع خصوصيّة الدّلالة على أنّ الحدث لم يخرج بعد أو خارج بالفعل.

وبعبارةٍ أحسن: إنّ خصوصيّة الماضي هو التّحقّق، وخصوصيّة المضارع هو التّرقّب، وهذه الخصوصيّة {موجبة للدّلالة على وقوع النّسبة} بين الفعل والفاعل {في الزّمان الماضي في} الفعل {الماضي، و} توجب وقوع النّسبة {في} زمان {الحال، أو الاستقبال في} فعل {المضارع، في ما} لم تكن هناك قرينة شخصيّة على الخلاف، كما سيأتي من نحو (يجيء زيد بعد عام وقد ضَرَبَ قبله بأيّام) إذا {كان الفاعل من الزّمانيّات} كالأجسام، ولم يكن الفعل مقيّداً بقيد الزّمان، نحو (ذهب زيد يوم الجمعة)فتكون الدّلالة على الزّمان بهذه الشّروط من قبيل الدّلالة الالتزاميّة، لا التّضمّنيّة الّتي هي ظاهر كلام النّحويّين.

هذا، ولا يخفى أنّ هذه التّكلّفات من قبيل: الفِرار عن المطر إلى المِيْزاب، والمستجِيْرُ من الرَّمضَاءِ بالنّار {ويؤيّده} أي: يؤيّد عدم دلالة الفعل على الزّمان {أنّ المضارع} على قول النُّحاة {يكون مشتركاً معنويّاً بين الحال والاستقبال} ولهذا

ص: 221


1- حاشية الكفاية 1: 8890.
2- الحاشية على كفاية الأصول 1: 216.

ولا معنى له إلّا أن يكون له خصوص معنى صحّ انطباقه على كُلٍّ منهما، لا أنّه يدلّ على مفهومِ زمانٍ يعمّهما، كما أنّ الجملة الاسميّة ك (زيد ضارب) يكون لها معنىً صحّ انطباقه على كلّ واحدٍ من الأزمنة، مع عدم دلالتها على واحدٍ منها أصلاً، فكانت الجملة الفعليّة

___________________

يصحّ انطباقه على كليهما {ولا معنى له} أي: للاشتراك المعنوي، إذ لا جامع بين الحال والاستقبال إلّا مفهوم الزّمان، والمفروض عدم أخذهم المفهوم في معنى الفعل؛ لأنّ مرادهم مصداق الزّمان، فإنّه الّذي يقارن الحدث لا المفهوم.

مضافاً إلى أنّه لو كان معنى المضارع مفهوم الزّمان، لزم جواز إطلاقه على الماضي {إلّا أن يكون} مرادهم أنّ {له} أي: لفعل المضارع {خصوص معنىً، صحّ انطباقه على كلّ منهما} أي: من الحال والاستقبال، و{لا} يكون مرادهم {أنّه يدلّ على مفهوم زمان يعمّهما} لما تقدّم من عدم كونه ظاهر كلامهم، مع أنّه يلزم المحذور المتقدّم {كما أنّ الجملة الاسميّة ك (زيد ضارب)} بل مطلق اسم الفاعل والمفعول {يكون لهامعنىً صحّ انطباقه} أي: انطباق ذلك المعنى {على كلّ واحد من الأزمنة} الثّلاثة الماضي والحال والمستقبل، ولصحّة انطباق ذلك المعنى صحّ انطباق الجملة المشتملة عليه.

لكن يمكن أن يقال: صحّة الانطباق ليست لأجل اشتمال الجملة على خصوصيّة صحيحة الانطباق حتّى تكون كفعل المضارع، بل صحّة الانطباق في اسم الفاعل والمفعول والجملة المركّبة من أحدهما إنّما تكون لأجل كونه معنىً حدثيّاً، فهو من باب اللّابشرط، لا من باب بشرط شيءٍ، فلا يصحّ قياس المضارع - الّذي هو بشرط شيءٍ - عليه.

{مع} أنّهم اتفقوا على {عدم دلالتها} أي: الجملة الاسميّة {على واحدٍ منها} أي: من الأزمنة الثّلاثة {أصلاً} بوجه من الوجوه.

{فكانت الجملة الفعليّة} المصدّرة بالمضارع ك (يضرب زيد) أو (زيد يضرب)

ص: 222

مثلها.

وربّما يؤيّد ذلك: أنّ الزّمان الماضي في فعله، وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع لا يكون ماضياً أو مستقبلاً حقيقةً لا محالة،

___________________

بناءً على أنّ المراد من الجملة الفعليّة الجملة المشتملة على الفعل مجازاً، أو يكون إطلاق الجملة الفعليّة على المشتملة على الفعل حقيقةً، قال ابن الحاجب - على ما في المطوّل - في نحو (زيد قام، وعمرو أكرمته) ما لفظه: «إنّ المعطوف عليه في الوجهين هو جملة (زيد قام) لأنّها ذات وجهين، فالرّفع بالنّظر إلى اسميّتها، والنّصب بالنّظر إلى فعليّتها، والمعطوف عليه في الوجهين واحد، واختلاف الإعرابين باختلاف الاعتبارين، وبهذا يحصل المناسبة».ثمّ قال التّفتازاني: «ولا يخفى على المصنّف لُطْفُ هذا الوجه ودقّته، وإن ذهل عنه الجمهور وخَفِيَ على كثيرٍ من الفُحُول»(1).

{مثلها} أي: مثل الجملة الاسميّة في اشتمالها على خصوصيّة لأجلها يصحّ الانطباق على كلّ من الحال والاستقبال، ومن الواضح أنّ صحّة الانطباق حينئذٍ للفعل لا للاسم فيثبت المطلوب.

{وربّما يؤيّد ذلك} الّذي ذكرناه من اشتمال الفعل على خصوصيّة تنطبق على الزّمان التزاماً، لا كون الزّمان جزء مدلوله تضمّناً {أنّ الزمان الماضي في فعله} أي: في فعل الماضي ك (ضرب) {وزمان الحال، أو الاستقبال في} فعل {المضارع} ك (يضرب) {لا يكون} ذلك الزّمان المدلول عليه بفعل الماضي أو المضارع {ماضياً} وذاهباً قبل زمان النّطق في فعل الماضي {أو مستقبلاً} وآتياً بعد زمان النّطق أو واقعاً في زمان النّطق {حقيقة لا محالة} أي: دائماً، وهذا قيد للمنفي.

ص: 223


1- المطوّل: 271.

بل ربّما يكون في الماضي مستقبلاً حقيقة، وفي المضارع ماضياً كذلك، وإنّما يكون ماضياً أو مستقبلاً في فعلهما بالإضافة، كما يظهر من مثل قوله: (يجيئني زيد بعدَ عامٍ، وقد ضَرَبَ قبله بأيّامٍ)، وقوله: (جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب في ذلك الوقت، أو في ما بعده في ما مضى)،

___________________

والحاصِلُ: أنّ فعل الماضي ليس زمانه قبل النّطق في جميع استعمالاته، وكذلك فعل المضارع {بل ربّما يكون} الزّمان {في} فعل {الماضي مستقبلاً} وآتياً بعد زمان النّطق {حقيقةً، و} كذلكيكون الزّمان {في} فعل {المضارع} الاصطلاحي {ماضياً كذلك} أي: حقيقة {وإنّما يكون} الزّمان {ماضياً} وذاهباً {أو مستقبلاً} وآتياً {في فعلهما} أي: فعل الماضي والمستقبل الاصطلاحي {بالإضافة} والنّسبة إلى شيء آخر، لا أن يكون الزّمان ماضياً أو مستقبلاً بالنسبة إلى زمان النّطق {كما يظهر} ذلك {من مثل قوله: (يجيئني زيد بعد عام، وقد ضرب قبله بأيّام)} فإن «ضرب» في الجملة ليس زمانه ماضياً بالنّسبة إلى حال النّطق، بل ماضٍ بالنّسبة إلى بعد عام، ومستقبل بالنّسبة إلى زمان النّطق، هذا في الفعل الماضي {وقوله: (جاء زيد في شهر كذا} قبل عام من الشّهور المنقضية {وهو يضرب في ذلك الوقت} مثال للمضارع بمعنى الحال، ومثال الاستقبال قوله: {أو} وهو يضرب {في ما بعده} أي: ما بعد وقت مجيئه. وعلى كلّ حالٍ كان الضَّرْب منه {في ما مضى)} فإنّ «يضرب» في الجملتين ليس زمانه مستقبلاً أو حالاً بالنّسبة إلى زمان النّطق، بل مستقبل أو حال بالنّسبة إلى قبل عام وماضٍ بالنّسبة إلى زمان النّطق.

قال العلّامة المشكينيّ(رحمة الله) في قوله: «ربّما يؤيّد» الخ: «وجهه أنّ مرادهم من الماضي والحال والمستقبل المأخوذة في الفعل هي الحقيقة منها، كما مرّ، فحينئذٍ يلزم التّجوّز في المثالين، وأهل المحاورة لا يلاحظون في مثلهما علاقة،

ص: 224

فتأمّل جيّداً.

ثمّ لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عمّا عداه بما يناسب المقام؛ لأجل الاطّراد في الاستطراد في تمام الأقسام:

___________________

وهذا بخلاف ما قلنا من دلالته على الزّمان من باب الإطلاق في ما أُسند إلى الزّماني، فإنّ العامل فيهما قرينة على إرادة الماضي والمستقبل الإضافيّين، فلا يجوز التّجوّز كسائر المطلقات المنصرفة - عند عدم قرينة معيّنة - إلى بعض أفرادها المستعملة في غيره بتعدّد الدّال والمدلول بقرينة معيّنة»(1).

ثمّ إنّ ذكره تأييداً لا دليلاً لاحتمال كون مرادهم من الماضي والحال والمستقبل مطلقها، لا الحقيقي منها، ولكنّه خلاف الظّاهر، فصرف الاحتمال لا يخرجه عن الدّليليّة، ولعلّه لهذا أمر بالتأمّل بقوله: {فتأمّل جيّداً} هذا تمام الكلام في دلالة الفعل على الزّمان.

امتياز الحرف عن الأمر والفعل

{ثمّ} حيث انجرّ بنا الكلام إلى هنا {لا بأس بصرف عِنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عمّا عداه} من الاسم والفعل {بما} أي: بمقدار {يناسب المقام} مع ملاحظة الاختصار، وإنّما نذكر الفرق {لأجل الاطّراد} أي: متابعة بعض الكلام بعضاً ممّا بينهما مناسبة {في الاستطراد} وسوق الكلام على وجهٍ يلزم منه كلام آخر، إذ كان المقصود بالأصالة ذكر خروج الأفعال عن عنوان النّزاع في المشتق، ثمّ استطرد ذكر الفرق بين الاسم والفعل، وأنّ الفعل يدلّ على خَصوصيّة تنطبق على الزّمان لا نفس الزمان، بخلاف الاسم، فلا خَصوصيّة فيه كذلك، ثمّ أتبع ذلك بذكر الفرق بين الحرف وغيره لِيُتِمَّ الكلامَ {في تمام الأقسام} الثّلاثة، وحيث سبق ذلك في بيان الوضع، فلا نحتاج إلى تكثير الإيضاح.

ص: 225


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 232.

فاعلم: أنّه وإن اشتهر بين الأعلام(1): أنّالحرف ما دلّ على معنىً في غيره - وقد بيّنّاه في الفوائد(2)

بما لا مزيد عليه - ،

___________________

{فاعلم أنّه وإن اشتهر بين الأعلام} من قديم الزّمان إلى هذه الأيّام {أنّ الحرف ما دلّ على معنىً في غيره} بحيث يكون وجوده آليّاً ومِرآةً لملاحظة حال الغير، حتّى أخذوا في تعريفه ذلك {وقد بيّنّاه في} كتاب {الفوائد} الّتي كتبناه في الأصول قبل الكفاية {بما لا مزيد عليه} وحيث لم يكن بيانه خالياً عن الفائدة نقلناه بلفظه قال:

«ثمّ لا بأس بصرف عِنان الكلام إلى بيان معنى الحرف في المقام استطراداً، كسائر الأقسام، ولنمهّد لذلك مقدّمة وهي: أنّ الموجود الخارجي كما أنّه تارةً يكون موجوداً في نفسه - سواء كان نفسه أو لا - كالواجب - تعالى - والجواهر، وأُخرى يكون موجوداً في غيره، كما في الأعراض، كذلك المتصوّر والموجود الذّهني: فتارةً يكون موجوداً فيه في نفسه، ومتصوّراً على استقلاله ومدركاً بحِياله، وأُخرى يكون موجوداً في غيره، ومتصوّراً بتبعيّته، ومدركاً على أنّه من خصوصيّاته وأحواله.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القسم الأوّل من الذّهني هو المعنى الاسمي المدلول عليه بالأسماء مطلقاً، مطابقة أو تضمّناً أو التزاماً، والأفعال تضمّناً.

والقسم الثّاني هو المعنى الحرفي المدلول عليه بالحروف مطابقة، والأفعال وبعض الأسماء تضمّناً، وهذا معنى أنّ الحرف يدلّ على معنى في غيره، أي: في معنىً آخر يكون قائماً به ومتصوّراً بتبعه، لا أنّه يدلّ على معنىً يكون لغير لفظه،بل للفظٍ آخَرَ كي لا يكون له معنىً، بل مجرّد علامة على دلالة الغير على معناه

ص: 226


1- شرح كافية ابن الحاجب 1: 7.
2- فوائد الأصول : 66.

إلّا أنّك عرفت في ما تقدّم عدم الفرق بينه وبين الاسم بحسب المعنى، وأنه فيهما ما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهوميّة، ولا عدم الاستقلال بها.

وإنّما الفرق هو أنّه وُضِعَ ليُستعمل وأُريد منه معناه حالةً لغيره، وبما هو

___________________

بخصوصيّاته المتقوّمة به الغير المستقلّة بالمفهوميّة - كما توهّم ذلك من كلام بعض المحقّقين - .

والحاصل: أنّ الدّلالة على المعاني الخاصّة في الخصوصيّات الغير المستقلّة بالمفهوميّة بِدَالّينِ، فيكون من باب تعدّد الدّال والمدلول، لا من وحدة الدّال وتعدّده، كيف وهو يستلزم الالتزام بالمجاز في الألفاظ المتعلّقات لو التزم باستعمالها في المعاني الخاصّة بهذه الخَصوصيّات، بداهة عدم وضعها لها، وهو بعيد لا أظنّ أن يلتزم به أحد، وإرادة الخَصوصيّات بلا دلالة لفظٍ عليه، وهو أبعد، ودلالة الحرف عليها لا يكون إلّا من باب تعدّد الدّال والمدلول وهو عين المأمول.

نعم، فرق بين الحرف وغيره، حيث إنّه لا يدلّ على معنى تحت لفظه، بل على ما تحت المتعلّقات، لما عرفت مِن أنّ معناه يكون هو الخصوصيّة المتقوّمة بغيره المتصوّرة بتبعه، فافهم واستقم»(1).

{إلّا أنّك عرفت في ما تقدّم} في الأمر الثّاني في بيان الوضع {عدم الفرق بينه} أي: بين الحرف {وبين الاسم بحسب المعنى} وإن كان بينهما فرق ما بحسب اللّفظ، حيث إنّ غالبوضع الحروف على الحرف الواحد والاثنين - كما قالوا - {وأنه} أي: المعنى {فيهما} في الاسم والحرف {ما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهوميّة} كما ادُّعِيَ في الاسم {ولا عدم الاستقلال بها} أي: بالمفهوميّة كما ادّعي في الحرف، بل المعنى في كليهما واحد {وإنّما الفرق} بينهما {هو أنّه} أي: الحرف {وضع ليستعمل وأُريد منه معناه حالةً لغيره، وبما هو} أي: المعنى

ص: 227


1- فوائد الأصول: 65.

في الغير، ووُضِعَ غيره ليستعمل وأُريد منه معناه بما هو هو.

وعليه، يكون كلّ من الاستقلال بالمفهوميّة وعدم الاستقلال بها إنّما اعتبر في جانب الاستعمال، لا في المستعمل فيه، ليكون بينهما تفاوتٌ بحسب المعنى، فلفظ (الابتداء) لو استعمل في المعنى الآليّ، ولفظة (من) في المعنى الاستقلالي، لما كان مجازاً واستعمالاً له في غير ما وُضِعَ له، وإن كان بغير ما وضع له.

___________________

{في الغير، ووضع غيره} أي: غير الحرف من الاسم والفعل {ليستعمل وأُريد منه معناه} استقلالاً {بما هو هو} وفي نفسه.

{وعليه} أي: على ما ذكرنا {يكون كلّ} واحد {من الاستقلال بالمفهوميّة} الماخوذ في الاسم والفعل {وعدم الاستقلال بها} أي: بالمفهوميّة المأخوذ في الحرف {إنّما اعتبر في جانب الاستعمال} بناءً على شرط الواضع {لا} أنّهما اعتبرا {في المستعمل فيه} ومعنى اللّفظ الموضوع له{ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى} كما يقوله النُّحاة.

والحاصل: أنّ الأسماء كافّة غير الأعلام، وكذلك الحروف موضوعات بالوضع والموضوع له العامّين للكلّيات الطّبيعيّة، من دون أن يكون اللّحاظ - سواء كان آليّاً أو استقلاليّاً - جزءاً أو قيداً للمعنى {فلفظ (الابتداء)} الّذي هو اسم {لو استعمل في المعنى} الإضافي {الآلي} المفيد لصرف الرّبط فقيل: (سرت ابتداء البصرة) مكان (سرت من البصرة).

{و} كذا لو استعمل {لفظة (من) في المعنى الاستقلالي} فقيل: (من) خير من (إلى)، مكان (الابتداء خير من الانتهاء) {لما كان} كلّ واحد من هذين الاستعمالين {مجازاً واستعمالاً له} أي: للّفظ {في غير ما وضع له} إذ الفرض تساوي الموضوع له فيهما {وإن كان} هذا الاستعمال {بغير ما} أي: بغير النّحو الّذي {وضع له} اللّفظ؛ لأنّه قد تقدّم اشتراط الواضع أن يستعمل الحروف في

ص: 228

فالمعنى في كليهما في نفسه كلّيٌّ طبيعيٌّ يصدق على كثيرين، ومقيّداً باللّحاظ الاستقلاليّ أو الآليّ كلّيٌّ عقليٌّ، وإن كان بملاحظة أنّ لِحَاظَهُ وجودُهُ ذهناً كان جزئيّاً ذهنيّاً؛

___________________

الآليّة والأسماء في الاستقلاليّة {فالمعنى} الموضوع له {في كليهما} أي: الاسم والحرف {في نفسه كلّيّ طبيعيّ} أي: نفس الطّبيعة المعروضة للكليّة بما هي طبيعة من دون نظر إلى عارضها {يصدق على كثيرين} كما هو شأن الكلّي {و} إذا لوحظ هذا المعنى الكلّي الطّبيعي في الذّهن - بأن صار موجوداً بالوجود الذّهني - سواء كان{مقيّداً} في الذّهن {باللحاظ الاستقلالي} بأن أُريد الاسم {أو} كان مقيّداً في الذّهن باللّحاظ {الآلي} - بأن أُريد الحرف - فهو {كلّيّ عقلي} أي: أمر كلّيّ مقيّد بأمر ذهني.

ولا يخفى أنّ تسمية الكلّيّ الطّبيعيّ المقيّد بأمر ذهنيّ كليّاً عقليّاً خلاف اصطلاح أهل الميزان.

قال في التّهذيب: «مفهوم الكلّي يسمّى كليّاً منطقيّاً ومعروضه طبيعيّاً والمجموع عقليّاً»(1)،

انتهى.

مثلاً: لو قلنا إنّ الإنسان كلّيّ كان موضوع هذه القضيّة الكلّي الطّبيعي ومحمولها الكلّي المنطقي ومجموع الموضوع والمحمول الكلّي العقلي. وكيف كان فالمعنى الاسمي والحرفي في نفسه كلّيّ طبيعي، وبملاحظة تقيّده بالآليّة والاستقلاليّة كلّيّ عقليّ {وإن كان بملاحظة أنّ لحاظه} عبارة عن {وجوده ذهناً} المستلزم لتشخّصه، إذ الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد لا في الخارج ولا في الذّهن، فبهذا الاعتبار {كان} المعنى الملحوظ {جزئيّاً ذهنيّاً}.

وإن شئت قلت: المعنى الطّبيعي إذا جاء في الذّهن فله اعتباران: الأوّل، اعتبار كونه كليّاً مقيّداً بأمر ذهنيّ ويسمّى حينئذٍ كليّاً عقليّاً، الثّاني: اعتبار كونه موجوداً ذهناً

ص: 229


1- الحاشية على تهذيب المنطق: 48.

فإنّ الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد، وإن كان بالوجود الذّهني.

فافهم وتأمّل في ما وقع في المقام من الأعلام من الخلط والاشتباه، وتَوَهُّمِ كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصّاً، بخلاف ما عداه، فإنّه عامّ.وليت شعري، إن كان قصد الآليّة فيها موجباً لكون المعنى جزئيّاً، فلِمَ لا يكون قصد الاستقلاليّة فيه موجباً له؟

___________________

ويسمّى حينئذٍ جزئيّاً ذهنيّاً {فإنّ} هذا الاعتبار لو ضمّ بقاعدة {الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد، وإن كان} ذلك {بالوجود الذّهني} أنتج الجزئيّة الذهنيّة، والفرق بين الاعتبارين ما أشار إليه العلّامة المشكيني(رحمة الله) بقوله: «ثمّ إنّ التّقييد باللحاظ معتبر في كون المعنى كليّاً عقليّاً، لا في كونه جزئيّاً ذهنيّاً؛ لأنّه يكفي فيه حصوله في الذّهن، سواء قيّد باللّحاظ أو لا، كما علم من الأمر الثّالث»(1)،

وهو ما ذكره قبلاً بقوله: «الثّالث: إنّ كلّ ما دخل في حيّز الوجود لا بدّ أن يكون جزئيّاً سواء وجد في الخارج أو الذّهن»، الخ.

{فافهم وتأمّل في ما وقع من المقام من الأعلام} قدّس اللّه أسرارهم {من الخلط والاشتباه}

بين ما يتولّد من الاستعمال وما هو من مقوّمات الموضوع له {وتوهّم كون الموضوع له} كما عن المحقّق الشّريف {أو المستعمل فيه} كما عن التّفتازانيّ {في الحروف} وما أُلحق بها {خاصّاً، بخلاف ما عداه} من سائر الأسماء غير الأعلام {فإنّه عامّ} وأمّا الأعلام فإنّها موضوعات للجزئيّات الطّبيعيّة، فالوضع والموضوع له والمستعمل فيه فيها خاصّة، من دون أن يكون اللّحاظ جزءاً من المعنى أو قيداً له.

هذا، ثمّ أشار المصنّف(رحمة الله) إلى وجه كون المعنى الاسمي وعدم دخل الآليّة والاستقلاليّة في المعنى بقوله: {وليت شعري، إن كان قصد الآليّة فيها} أي: في الحروف {موجباً لكونالمعنى جزئيّاً} وخاصّاً حتّى يوجب خصوص المستعمل فيه أو الموضوع له {فلم لا يكون قصد الاستقلاليّة فيه} أي: في غير الحرف {موجباً له}

ص: 230


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 235.

وهل يكون ذلك إلّا لكون هذا القصد ليس ممّا يعتبر في الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل في الاستعمال؟ فلم لا يكون فيها كذلك؟ كيف؟ وإلّا لزم أن يكون معاني المتعلّقات غير منطبقة على الجزئيّات الخارجيّة؛ لكونها - على هذا - كليّاتٍ عقليّةً، والكلّيّ العقليّ لا موطن له إلّا الذّهن، فالسّيرُ والبَصْرَةُ والكوفةُ في: (سِرْتُ من البصرةِ إلى الكوفة) لا تكاد تصدق على السّير والبصرة والكوفة، لِتَقَيُّدِها بما اعتُبِرَ فيه القَصْدُ،

___________________

أي: لكون المعنى جزئيّاً {وهل يكون ذلك} أي: عدم كون قصد الاستقلاليّة موجباً لجزئيّة المعنى {إلّا لكون هذا القصد} في الاسم {ليس ممّا يعتبر في الموضوع له، ولا} في {المستعمل فيه، بل} هذا القصد معتبر {في الاستعمال} وممّا يتولّد منه {فلم لا يكون} قصد الآليّة {فيها} أي: في الحروف {كذلك} غير مربوط بالموضوع له والمستعمل فيه، بل من ولائد الاستعمال و{كيف} لا يكون قصد الآليّة خارجاً عن المعنى الحرفي؟ {وإلّا} فلو كان اللّحاظ داخلاً {لزم أن يكون معاني المتعلّقات} للحروف {غير منطبقة على الجزئيّات الخارجيّة} وذلك بمقدّمتين:

الأُولى: أنّ اللّحاظ قيد للمعنى الحرفي، والمعنى الحرفي قيد للمعنى الاسمي وقيد القيد قيد، فاللحاظ قيد للمعنى الاسمي.الثّانية: إنّ المعنى الاسمي مقيّد بالأمر الذّهني، وكلّما كان مقيّداً بالأمر الذّهني كان ذهنيّاً، فالمعنى الاسمي ذهنيّ، ومن البديهي أنّ الأُمور الذّهنيّة غير منطبقة على الخارجيّات {لكونها} أي: معاني المتعلّقات {على هذا} الّذي ذكرناه من تقيّدها بالذهن {كليّات عقليّة} أي: أُمور عقليّة كما سبق - لا كلّيّ عقليّ اصطلاحي - .

{والكلّي العقلي لا موطن له إلّا الذّهن} ولا يعقل وجوده في الخارج {فالسّير والبصرة والكوفة في} مثال {(سرت من البصرة إلى الكوفة) لا تكاد تصدق على السّير، والبصرة، والكوفة} الخارجيّات {لتقيّدها} أي: تقيّد هذه الثّلاثة {بما} أي: بحرف وهو (من) و(إلى) {اعتبر فيه القصد} واللّحاظ حسب الفرض، ف (من)

ص: 231

فتصير عقليّة، فيستحيل انطباقُهَا على الأُمور الخارجيّة.

وبما حقّقناه يوفّق بين جزئيّة المعنى الحرفي - بل الاسمي - والصِّدْقِ على الكثيرين، وأنّ الجزئيّة باعتبار تقيّد المعنى باللّحاظ في موارد الاستعمالات - آليّاً أو استقلاليّاً - ، والكليّة بلحاظ نفس المعنى.

___________________

و(إلى) عقليّان لتقيّدهما باللّحاظ {ف} لو قيّد السّير والبصرة والكوفة بهما {تصير عقليّة} إذ المقيّد بالمقيّد، باللّحاظ، مقيّد به - كما تقدّم - {فيستحيل انطباقها} أي: الثّلاثة {على الأُمور الخارجيّة} وعليه يلزم مفسدتان:

الأُولى: كون الأخبار المشتملة على الحروف غير حاكية عن الخارج، وهوخلاف الضّرورة.

الثّانية: عدم إمكان الامتثال في الأوامر والنّواهي المشتملة على الحروف، وهو مقطوع البطلان - كما تقدّم مفصّلاً في الوضع - .

ثمّ إنّه لمّا كان هنا مَظِنَّةُ إيرادٍ - وهو التّنافي بين كون معاني الحروف جزئيّة ذهنيّة وكونها كليّات طبيعيّة الموجبة للصّدق على الكثيرين - أشار إلى دفعه بقوله: {وبما حقّقناه} من كون الموضوع له في الحروف نفس الطّبيعة والجزئيّة عارضة لها من قبل الاستعمال، لاحتياجه إلى اللّحاظ الذّهني {يوفّق بين جزئيّة المعنى الحرفي، بل} جزئيّة المعنى {الاسمي} أيضاً {و} بين {الصّدق على الكثيرين} المقابل للجزئي، إذ المفهوم إن امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئيّ وإلّا فكلّيّ {و} ذلك لما ظهر من {أنّ الجزئيّة} عارضة {باعتبار تقيّد المعنى} الكلّي الّذي هو الموضوع له {باللّحاظ} الذّهني {في موارد الاستعمالات} سواء كان لحاظه {آليّاً} كما في الحروف {أو استقلاليّاً} كما في الأسماء {والكليّة} عطف على الجزئيّة و{بلحاظ نفس المعنى} من غير فرق بين الاسم والحرف. والحاصل: أنّ جزئيّة المعنى عارضيّة وكليّته ذاتيّة.

ص: 232

ومنه ظهر عدم اختصاص الإشكال والدّفع بالحرف، بل يعمّ غيرَه. فتأمّل في المقام، فإنّه دقيق ومزالّ الأقدام للأعلام، وقد سبق في بعض الأُمور بعض الكلام، والإعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والإفادة، فافهم.

رابعها:

___________________

وأُبدل قوله: «وبما حقّقناه» إلى قوله: «ومنه ظهر» في نسخة أُخرى بهذهالعبارة: «ثمّ إنّه قد انقدح بما ذكرنا أنّ المعنى - بما هو معنى اسمي وملحوظ استقلالي، أو بما هو معنى حرفي وملحوظ آليّ - كلّيّ عقليّ في غير الأعلام الشّخصيّة، وفيها جزئي كذلك، وبما هو هو - أي: بلا أحد اللّحاظين - كلّيّ طبيعيّ، أو جزئيّ خارجيّ، وبه يوفق...»(1)،

قوله: «أو جزئيّ خارجي» أي: في الأعلام الشّخصيّة.

{ومنه} أي: ممّا حقّقناه {ظهر عدم اختصاص} هذا {الإشكال} السّابق من التّنافي بين كليّة المعنى وجزئيّته {والدّفع} الّذي ذكرناه من كون الكليّة ذاتيّة والجزئيّة عارضيّة {بالحرف} فقط {بل يعمّ غيره} أي: الاسم {فتأمّل في المقام فإنّه دقيق ومزالّ} جمع مزلّة وهي موضع الزَّلَل، أي: هنا تزِلّ {الأقدام للأعلام، وقد سبق في بعض الأُمور} وهو الأمر الثّاني {بعض الكلام} في الفرق بين الاسم والحرف {والإعادة مع ذلك} الّذي سبق {لما فيها} أي: في الإعادة {من الفائدة والإفادة} وهي بيان الإشكال والدّفع الّذي أشار إليه في بحث الوضع بقوله: «ولذا التجأ بعض الفحول» الخ {فافهم} ذلك واحفظه. وإن شئت زيادة التّوضيح فراجع كتاب الفوائد للمصنّف(رحمة الله)، فإنّه أوضح هناك الإشكال والدّفع.

اختلاف مبادئ المشتقّات

{رابعها} أي: الرّابع من الأُمور الّتي ينبغي تقديمها على البحث في بيان دفع ما

ص: 233


1- حقائق الأصول 1: 106.

أنّ اختلاف المشتقّات في المبادئ - وكون المبدأ في بعضها حِرْفةً وصِناعةً، وفيبعضها قُوَّةً ومَلَكةً، وفي بعضها فعليّاً - لا يوجب اختلافاً في دلالتها بحسب الهيئة أصلاً، ولا تفاوتاً في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى.

غاية الأمر أنّه يختلف التّلبّس به في المضيّ أو الحال، فيكون التّلبّس به فعلاً لو أُخِذَ حِرْفةً أو مَلَكةً، ولو لم يتلبّس به إلى الحال أو انقضى عنه، ويكون ممّا مضى أو يأتي لو أُخِذَ

___________________

ربّما يتوهّم من كون بعض المشتقّات حقيقةً في الأعمّ اتفاقاً، نظير الكاتب والمثمر والمجتهد. لا يخفى {أنّ اختلاف المشتقّات في المبادئ} الّتي هي مادّة المشتقّات {وكون المبدأ في بعضها حرفةً} كالبقّال {وصِناعةً} كالنّجّار {وفي بعضها قوّة} كالكاتب بالقوّة للإنسان ولو كان أُمّيّاً {وملكة} كالمجتهد والشّاعر {وفي بعضها فعليّاً} كالحيّ {لا يوجب} أي: اختلاف المواد {اختلافاً في دلالتها} أي: دلالة المشتقّات {بحسب الهيئة أصلاً} كما عن صاحب الفصول والفاضل التوني رحمهما اللّه {و} كذا {لا} يوجب ذلك {تفاوتاً في الجهة المبحوث عنها} الّتي هي كيفيّة دلالة الهيئة، وأنّها أعمّ من المتلبّس أم لا {كما لا يخفى} على المتأمّل.

{غاية الأمر أنّه يختلف التّلبّس به} أي: بالمبدأ {في المُضِي، أو الحال} بسبب اختلاف أوضاع المبادئ {فيكون التّلبّس به} أي: بالمبدأ {فعلاً} ولو لم يكن مشتغلاً بالمبدأ {لو أخذ} المبدأ {حِرْفةً أو ملكةً} فالمجتهد والبقّال متلبّسان بالمبدأ حتّى في حال النّوم، إذ ليس المراد بالبقّال بائع البَقْلِ فعلاً، ولابالمجتهد الكادح في الاستنباط حالاً، بل مَنْ حرفتُهُ بيعُ البَقْلِ ومن له قوّة الاستنباط، ومن البديهي تلبّس النّائم بهما، بل {ولو لم يتلبّس به} أي: بالاجتهاد والبيع {إلى الحال} أي: حال الإسناد {أو انقضى} المبدأ الفعلي {عنه} أي: عن ذي الملكة والحرفة بأن باع واجتهد في الزّمان السّابق {ويكون} عطف على «فيكون التّلبّس به» أي: يكون التّلبّس غير فعليّ، بل {ممّا مضى أو يأتي لو أخذ} المبدأ

ص: 234

فعليّاً، فلا يتفاوت فيها أنحاء التّلبّسات وأنواع التعلّقات، كما أشرنا إليه.

خامسها: أنّ المراد بالحال - في عنوان المسألة - هو حال التّلبّس،

___________________

{فعليّاً} ك (الضّارب) فإنّه غير متلبّس بالضَّرْب حال النّطق لو انقضى عنه الضَّرْب، أي: لم يضرب بعد {فلا يتفاوت فيها} أي: في الجهة المبحوث عنها وهي دلالة الهيئة {أنحاء التّلبّسات وأنواع التعلّقات، كما أشرنا إليه} في الأمر الأوّل، وقد تقدّم منّا هناك عند قوله: «واختلاف أنحاء التّلبّسات» ما يوضح المطلب.

قال المصنّف في الفوائد: «رابعها: أنّه ليس اختلاف المشتقّات في الدّلالة على التّلبّس بالمبدأ فعلاً تارةً، واستعداداً أو قوّةً أُخرى بحسب الهيئة، بل من حيث المادّة حيث يراد منها تارةً فعليّة المبدأ، وأُخرى قوّتُهُ واستعدادُهُ، فيراد من الكتابة في الكاتب تارةً فعليّتها، وأُخرى صنعتها وحرفتها، فلا يكون ذلك موجباً لاختلاف الهيئة بحسب الدّلالة أصلاً - كما لا يخفى - .

ومن هنا انقدح أنّ الأوصاف المأخوذة من المبادئ الّتي تكون حرفة وصنعة أو استعداداً وقوّة، كما هو الحال غالباً في أسامي الآلات وأحياناً في أسامي الأزمنةوالأمكنة حالها حال سائر الأوصاف الجارية على الذّوات في الدّلالة على التّلبّس بالمبدأ على أنحائه المختلفة - كما مرّت إليه الإشارة - .

وبالجملة اختلاف المشتقّات من حيث المبادئ أو أنحاء التّلبّسات لا يوجب تفاوتاً في الجهة المبحوث عنها فيها هاهنا، كما لا يخفى»(1).

المراد بالحال

{خامسها} أي: الخامس من الأمور الّتي ينبغي تقديمها على البحث في بيان المراد من لفظ الحال في قولهم: «إنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس بالمبدأ في الحال» فنقول: {إنّ المراد بالحال في عنوان المسألة} كما تقدّم {هو حال التّلبّس} والمراد به حال

ص: 235


1- فوائد الأصول: 68.

لا حال النّطق؛ ضرورةَ أنّ مثل: (كان زيدٌ ضارِباً أَمْسِ)،

___________________

النّسبة والجَرْي {لا} أنّ المراد بالحال {حال النّطق} - كما توهّم بعض - .

بيان ذلك - كما في حواشي بعض الأعلام - : «إذا قيل: (زيد عالم) فهناك أحوال ثلاثة: حال النّطق، وحال التّلبّس، أعني: تلبّس زيد بالعلم، وحال الجَرْي، وهو حال النّسبة الإيقاعيّة»(1)،

انتهى.

وتوضيحه: أنّ حال النّطق عبارة عن الزّمان الّذي يتفوّه الإنسان بقول: (زيد عالم) وهو الزّمان المتوسّط بين الزّمان الماضي وبين الزّمان المستقبل، وحال التّلبّس عبارة عن الوقت الّذي كان زيد متلبّساً بلباس العلم ومقترناً معه، وحال الجَرْي والنّسبة عبارة عن الوقت الّذي أراد المتكلّم جري العلم على (زيد) فيذلك الوقت.

مثلاً: لو كان زيد عالماً يوم الخميس، ثمّ قال المتكلّم في يوم السّبت: (زيد عالم أمس) فحال النُّطْق يوم السّبت، وحال الجَرْي يوم الجمعة، إذ أجرى المتكلّم العلم على زيد فيه بقرينة قوله: (أمس) وحال التّلبّس يوم الخميس إذا كان زيد متلبّساً بلباس العلم فيه.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا أجرى المتكلّم العلم على (زيد) في يوم الخميس فهو حقيقة اتفاقاً، وإذا أجراه عليه في يوم الأربعاء فهو مجاز اتفاقاً، وإذا أجراه عليه في يوم الجمعة فهو مختلف فيه(2){ضرورة أنّ مثل: (كان زيد ضارباً أمس)} إذا كان

ص: 236


1- حقائق الأصول 1: 107.
2- لا يخفى أنّ الحال في اصطلاح النُّحاة أيضاً غير الحال بمعنى الزّمان كما صرّح به جملة منهم. نعم، زعم السّخاوي - كما في المطوّل - اتحادهما، قال: «إنّك إذا قلت: (جئت وقد كتب زيد) فلا يجوز أن يكون حالاً إن كانت الكتابة قد انقضت، ويجوز أن يكون حالاً إذا شرع في الكتابة وقد قضى منها جزء إلّا أنّه متلبّس بها مستديم لها، فالانقضاء جزء منها جيء بالماضي ولتلبّسه بها ودوامه عليها صحّ أن يكون لفظ الماضي حالاً لاتّصاله بالحال»، انتهى. المطوّل: 271.

أو (سيكون غداً ضارباً) حقيقةٌ إذا كان متلبّساً بالضّرب في الأمس في المثال الأوّل، ومتلبّساً به في الغد في الثّاني، فجَرْيُ المشتقّ حيث كان بلحاظ حال التّلبّس - وإن مضى زمانه في أحدهما، ولم يأت بعدُ في الآخر - كان حقيقة بلا خلاف.

ولا ينافيه الاتّفاق على أنّ مثل: (زيد ضارب غداً) مجازٌ؛ فإنّ الظّاهر أنّه في ما إذا

___________________

متلبّساً بالضّرب فيه {أو (سيكون} زيد {غداً ضارباً)} إذا كان متلبّساً بالضَّرْب فيه {حقيقةٌ} لا مجاز {إذا كان} زيد {متلبّساًبالضَّرْب في الأمس في المثال الأوّل ومتلبّساً به} أي: بالضّرب {في الغد في} المثال {الثّاني} مع أنّه لو كان المعيار زمان النُّطْق لزم كون المثالين مجازاً، لعدم تلبّس زيد بلباس الضَّرْبِ في حال النُّطْقِ، وأمّا حيث كان المِعْيَارُ زمان الجري والمتكلّم أجرى الضَّرْبَ عليه في زمان تلبّسه الحقيقي كانا حقيقة {فجرى المشتقّ حيث كان بلحاظ حال التّلبّس} بأن أجرى المتكلّم المشتقّ على الذّات بحيث كان الجري في زمان التّلبّس {وإن مضى زمانه} أي: زمان التّلبّس {في أحدهما} أي: في أحد المثالين، وهو الأوّل {ولم يأت} زمان التّلبّس {بعد في} المثال {الآخر كان} المشتق {حقيقة} عند الكلّ {بلا خلاف} ولا إشكال {ولا} يخفى أنّ عدم الخلاف هنا ينافي ما تقدّم من البعض من كون المراد بالحال حال النّطق.

إن قلت: ما ذكرتم من عدم الخلاف في كون المثالين حقيقة {ينافيه الاتفاق} الّذي ادّعى {على أنّ مثل: (زيد ضارِبٌ غداً)} ليس بحقيقة، بل هو {مجاز}.

قلت: أوّلاً لا نسلّم الاتفاق المذكور، بل ادّعى بعض أنّ مستند هذا الإجماع توهّم أنّ المراد من الحال حال النّطق، وثانياً لا تنافي بين كون المثال حقيقة باعتبار ومجازاً باعتبار آخر {فإنّ الظّاهر أنّه} أي: الاتّفاق على كون المثال مجازاً {في ما إذا} تخلّف التّلبّس عن الجري - بأن يكون التّلبّس في الاستقبال -

ص: 237

كان الجَرْيُ في الحال - كما هو قضيّة الإطلاق - ، والغد إنّما يكون لبيان زمان التّلبّس، فيكون الجَرْيُ والاتّصافُ في الحال، والتّلبّسُ في الاستقبال.

ومن هنا ظهر الحال في مثل: (زَيْدٌ ضارِبٌ أَمْسِ) وأنّه داخل في محلّ الخلاف والإشكال.ولو كانت لفظة (أمس) أو (غد) قرينةً على تعيين زمان

___________________

و{كان الجري في الحال} بأن أجرى المتكلّم المشتقّ على الذّات فعلاً في زمان النّطق {كما هو} أي: كون الجري في الحال {قضيّة} ظاهر {الإطلاق} فإنّ من يقول: (زيد ضارب) يطلق الضّاربيّة على (زيد) في الحال {و} كلمة {(الغد) إنّما يكون لبيان زمان التّلبّس} لا الجري {فيكون الجَرْي والاتّصاف} بصفة الضّاربيّة {في الحال} بحكم الإطلاق {و} يكون {التّلبّس} بها {في الاستقبال}.

فمحصّل الجواب: أنّ (زيد ضارب غداً) يمكن فيه اعتباران:

الأوّل: أن يكون الجري في الحال، و(غداً) قرينة لوقت التّلبّس.

الثّاني: أن يكون الجري في الاستقبال، و(غداً) قرينة لوقت الجري، فعلى الأوّل يكون المشتق مجازاً، وعلى الثّاني يكون حقيقةً. فمراد القوم من المجازيّة هو التّقدير الأوّل، ومرادنا هو التّقدير الثّاني.

{ومن هنا} ارتفع المنافاة من البين و{ظهر الحال في} ما إذا كان المشتق جارياً على من تلبّس بالمبدأ في الزّمان السّابق {مثل: (زيد ضارب أمس) و} ظهر {أنّه داخل في محلّ الخلاف} بين الأعمّيّ وغيره، إذ قد يكون (أمس) قرينةً للتلبّس مع أنّ الجَرْي في الحال. وقد يكون قرينةً للجَرْي، فعلى الأوّل يكون محلّاً للخلافِ {والإشكالِ} فالأعمّيّ يراه حقيقةً، ومن يشترط التّلبّس الفعلي يراه مجازاً، وعلى الثّاني يكون حقيقةً بقولٍ واحدٍ.

{و} حاصل الكلام في المثالين: أنّه {لو كانت لفظة (أمس) أو (غد) قرينة على تعيين زمان} التّلبّس، يكونالأوّل مختلفاً فيه، والثّاني مجازاً، ولو كانت قرينة على

ص: 238

النّسبة والجَرْيِ أيضاً كان المثالان حقيقةً.

وبالجملة: لا ينبغي الإشكالُ في كون المشتق حقيقةً في ما إذا جرى على الذّات بلحاظ حال التّلبّس، ولو كان في المُضِيّ أو الاستقبال. وإنّما الخِلاف في كونه حقيقةً في خصوصه، أو في ما يعمّ ما إذا جرى عليها في الحال، بعد ما انقضى عنها التّلبّس، بعد الفراغ عن كونه مجازاً في ما إذا جرى عليها فعلاً بلحاظ حال التّلبّس في الاستقبال.

___________________

تعيين زمان {النّسبة والجَرْي أيضاً} كما يعيّن زمان التّلبّس {كان المثالان حقيقة} بالاتفاق، لاتحاد زمان الجري والتّلبّس الّذي كان معياراً لكون المشتقّ حقيقةً.

{وبالجملة} الأقسام أربعة: إذ كلّ واحد من لفظي (أمس) و(غد) إمّا أن يكون قرينة لحال الجري، وإمّا أن يكون قرينة لحال التّلبّس {لا ينبغي الإشكال في كون المشتقّ حقيقةً في} اثنين منها، وهما {ما إذا جرى} المشتقّ {على الذّات بلحاظ حال التّلبّس} بأن يكون لفظ (أمس) و(غد) قرينتين على الجري والتّلبّس معاً.

{ولو كان} التّلبّس {في المضي} كما في الأوّل {أو الاستقبال} كما في الثّاني {وإنّما الخلاف في كونه} أي: المشتق {حقيقة في خصوصه} أي: خصوص التّلبّس بالمبدأ {أو في ما يعمّ} المتلبّس والمنقضي في القسم الثّالث، وهو {ما إذا جرى} المشتقّ {عليها} أي: على الذّات {في الحال بعد ما انقضى عنها} أي: عن الذّات {التّلبّس} بالمبدأ،كما لو قال: (زيد ضارب أمس) فأجرى (الضّارب) على (زيد) في الحال، وجعل (أمس) قرينة لوقت التّلبّس {بعد الفراغ} أي: أنّ الخلاف في القسم الثّالث بعد الفراغ {عن} القسم الرّابع والحكم فيه ب {كونه} أي: المشتق {مجازاً في ما إذا جرى عليها} أي: على الذّات {فعلاً بلحاظ حال التّلبّس} الّذي يأتي {في الاستقبال} كما لو قال: (زيد ضارب غداً) فأجرى (الضّارب) على (زيد) في الحال، وجعل (غداً) قرينة لوقت التّلبّس، فالصورتان الأُوْلَيَانِ حقيقة قطعاً، والصّورة الرّابعة مجاز قطعاً، والصّورة الثّالثة مختلف فيها.

ص: 239

ويُؤَيِّدُ ذلك: اتّفاقُ أهلِ العربيّة على عدم دلالة الاسم على الزّمان، ومنه الصّفات الجارية على الذّوات.

ولا ينافيه اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال؛

___________________

{ويؤيّد ذلك} أي: كون المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التّلبّس، لا حال النّطق {اتّفاقُ أهلِ العربيّة على عدم دلالة الاسم على الزّمان} حتّى أخذوا ذلك في تعريفه فقالوا: «الاسم ما دلّ على معنى مستقلّ في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثّلاثة» {ومنه} أي: ومن الاسم {الصّفات الجارية على الذّوات} كاسم الفاعل، والمفعول، والصّفة المشبّهة، وصورة القياس هكذا: الصّفاتُ الجارِيةُ اسم، والاسم لا يدلّ على الزّمان، فهي لا تدلّ عليه.

وجه التّأييد: أنّ مرادهم بالزّمان هو الماضي والمستقبل والحال، بقرينة قولهم: «الفعل يدلّ على الزّمان» حال إرادتهم أحد الأزمنة الثّلاثة، فإنّهم صرّحوا بأنّ المراد هي الحقيقيّة من تلك الأزمنة لا المفهوم، وحيث نفى أن يكون الاسم دالّاً على الزّمان، لزم أن لا يدلّ على حال النّطق.والحاصل: أنّ الاتّفاق على عدم دلالة الاسم على الزّمان، والاتفاق على دلالة المشتقّ على الحال حقيقة مُشعر بأنّ المراد بالحال غير الزّمان، وإلّا لكان بين الاتفاقين تناقض.

ثمّ وجه كون هذا الاتفاق مؤيّداً لا دليلاً عدم كون مثل هذا الاتفاق حجّة. مضافاً إلى بعض احتمالات أُخر في الجمع ذكرها العلّامة المشكيني(رحمة الله)، فراجع(1).

{و} إن قلت: إنّ القياس السّابق أنتج أنّ الصّفات {لا} تدلّ على الزّمان و{ينافيه} ما ذكره النُّحاة من {اشتراط العمل في بعضها} كاسم الفاعل {بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال} قال ابن مالك:

ص: 240


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 243.

ضرورةَ أنّ المراد: الدّلالة على أحدهما بقرينةٍ، كيف لا، وقد اتّفقوا على كونه مجازاً في الاستقبال؟

لا يقال: يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه، كما هو الظّاهر منه عند إطلاقه،

___________________

كفعله اسم فاعل في العَمَلِ إن كان عن مُضِيِّه بِمَعْزِلِ(1)

قلت: لا تنافي بين عدم الدّلالة على الزّمان وبين اشتراط العمل بالزمان {ضرورة أنّ المراد} بهذا الشّرط {الدّلالة على أحدهما} أي: دلالة اسم الفاعل ونحوه على أحد الزّمانين {بقرينة} خارجيّة على نحو تعدّد الدّال والمدلول نحو (زيد ضارب الآن أو غداً) و{كيف لا} يكون الدّلالة على الزّمان بدالّ آخر {وقد اتّفقوا علىكونه مجازاً} في ما إذا استعمل {في الاستقبال؟} - كما تقدّم في أوّل بحث المشتق - فهذا الاتفاق يكشف عن كون الاستقبال المشروط به العمل ليس جزءاً من مدلول المشتق وإلّا لزم التّناقض.

قال في الفوائد في جواب الإشكال: «ضرورة أنّ الغرض أن يراد أحدهما بدالٍّ آخَرَ، مع أنّه لو كان بدلالته فهو أعمّ من أن يكون على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز، كيف وقد اتّفقوا على كونه مجازاً في الاستقبال»(2).

{لا يقال: يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه} أي: زمان الحال المتوسّط بين زماني الماضي والمستقبل، لا ما ادّعيتم من كون المراد بالحال حال الجَرْي والنّسبة، وذلك لوجهين:

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: {كما هو} أي: زمان الحال {الظّاهر منه عند إطلاقه} أي: إطلاق لفظ الحال، فإنّ الظّاهر من لفظ الحال هو زمان النّطق.

ص: 241


1- البهجة المرضية: 288.
2- فوائد الأصول: 68.

وادّعي(1)

أنّه الظّاهرُ في المشتقّات، إمّا لدعوى الانسباق من الإطلاق، أو بمعونة قرينة الحكمة.

لأنّا نقول: هذا الانسباق وإن كان ما لا ينكر، إلّا أنّهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتقّ، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه.

___________________

{و} الثّاني ما {ادُّعِيَ} من {أنّه الظّاهر فيالمشتقّات} إذ الظّاهر من الحال هنا هو حال النّطق. ثمّ إنّ مستند هذا الظّهور {إمّا لدعوى الانسباق من الإطلاق} فإنّ لفظ «الحال» وإن كان يشمل حال النُّطْق وحال الجَرْي إلّا أنّ المنصرف منه هو الأوّل، {أو} أنّ الإطلاق لا يشمل غير حال النّطق {بمعونة قرينة الحكمة}.

وبيانه - بلفظ العلّامة الرّشتي(رحمة الله) - : «بإجراء مقدّماتها:

[1] من كون المتكلّم بصدد البيان ظاهراً.

[2] وانتفاء القدر المتيقّن بحسب مقام التّخاطب.

[3] وانتفاء ما يدلّ على تعيين حال النّسبة، فيحمل على الزّمان المقابل للزّمانين، صوناً لكلام الحكيم عن اللّغويّة، والزّمان المخصوص المقابل للزّمانين وإن كان نحواً من التّعيين، إلّا أنّ اللّفظ قالب له مفيد إيّاه بنفسه، بخلاف النّسبة، فإنّه ليس اللّفظ بنفسه قالباً له مفيداً إيّاه، فلو كان المراد حال النّسبة لكان اللّازم إضافة لفظ الحال إليها»(2).

{لأنّا نقول: هذا الانسباق} المدّعى {وإن كان ممّا لا ينكر، إلّا} أنّه ليس بمفيدٍ، إذ {أنّهم في هذا العنوان} أي: عنوان مبحث المشتقّ {بصدد تعيين ما وضع له المشتقّ} وأنّه موضوع للمتلبّس أو المنقضي عنه {لا} في مقام {تعيين ما يراد بالقرينة منه}.

قال بعض الأعلام: «يعني: أنّ لفظ الحال يذكر في مقامين:

ص: 242


1- الفصول الغرويّة: 60.
2- شرح كفاية الأصول 1: 63.

سادسها: أنّه

___________________

أحدهما: مقام ما وضع له المشتق.وثانيهما: مقام ما يكون المشتق دالّاً عليه ولو بالقرينة. وظهور لفظ (الحال) في المقام الثّاني في حال النُّطْقِ لا يقتضي ظهور لفظ (الحال) في المقام الأوّل فيه»(1)،

انتهى.

أقول: قد أوضحنا المتن من قوله: «لا يقال» إلى هنا على مذاق بعض الشّرّاح والمحشّين، لكن الظّاهر من العبارة - مؤيّداً بما في فوائد المصنّف(رحمة الله) - عدم كون المراد ما ذكر، بل المراد من قوله: «وادُّعِيَ» الخ ظهور نفس لفظ المشتقّ في حال النّطق، وقوله: «إمّا لدعوى» الخ مستنداً لكلا الوجهين - أعني: ظهور لفظ الحال وظهور لفظ المشتقّ - وحينئذٍ فيكون حاصل الجواب عن الإشكال الثّاني: أنّنا في صدد تعيين موضوع له المشتق، لا في صدد تعيين المراد منه بقرينة الانصراف أو الحكمة. وقد أوضح العلّامة المشكيني(رحمة الله) الإشكال والجواب على النّحو الثّاني، فراجع(2).

قال في الفوائد - في مقام الجواب عن الإشكال المتقدّم - ما لفظه: «لأنّا نقول: الظّاهر أنّهم في مقام تعيين ما وضع له، لا ما ينصرف إليه بإطلاقه ولو بمؤونة مقدّمات الحكمة، فإنّه لا ننكر السّياق التّلبّس في الحال عند الإطلاق، كما أنّه غالباً قضيّة مقدّمات الحكمة، كما لا يخفى»(3)، انتهى، فتأمّل.

تأسيس الأصل

{سادسها} أي: السّادس من الأُمور الّتي ينبغي تقديمها في بيان {أنّه} هل في

ص: 243


1- حقائق الأصول 1: 109.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 244.
3- فوائد الأصول: 69.

لا أصل في نفس هذه المسألة يعوّل عليه عند الشّك.وأصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة - مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم -

___________________

المقام أصل لفظيّ أو أصل عمليّ يفيد كون المشتقّ موضوعاً لخصوص المتلبّس بالمبدأ، أو للأعمّ منه ومن المنقضي عنه أم لا؟ فنقول: {لا أصل} لفظيّاً {في نفس هذه المسألة} حتّى {يعوّل عليه عند الشّك} في معنى المشتقّ.

{و} إن قلت: لا مانع من إجراء {أصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة} التّلبسيّة حال الوضع، فيثبت كون الوضع للأعم، إذ مثبتتات الأصول اللّفظيّة حجّة.

قلت: يرد عليه اقتران الأوّل ما أشار إليه بقوله: {مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم} إذ كما أنّ الأصل عدم ملاحظة الخصوص، الأصل عدم ملاحظة العموم، فإنّ لحاظ العموم والخصوص أمران حادثان، فالأصل عدمهما.

لا يقال: الخاص متيقّن إذ الخاص موضوع له على كلّ تقدير بخلاف العام.

لأنّا نقول: إنّ القدر المتيقّن لا يفيد تعيين الموضوع له، بل مفيد لتعيين المراد وليس الكلام فيه.

لا يقال: العام متيقّن؛ لأنّه إذا كان هناك مفهومان أحدهما عامّ والآخر خاصّ، فبالنّسبة إلى العام متيقّن، وبالنسبة إلى الخاص مشكوك؛ لأنّ العامّ موضوع له إمّا استقلالاً وإمّا ضمناً بخلاف الخاصّ.

لأنّا نقول: هذا إنّما يصحّ إذا كان هناك مفهومان، أحدهما بسيط والآخر مركّب، وأمّا إذا كان كلّ واحد منهما بسيطاً - كما في ما نحن فيه - لبساطة مفهوم المشتقّ فلا؛ لأنّه يكون بينهما تباين - كما لا يخفى - وللمحقّق الإصفهاني(رحمةالله) هاهنا جواب أدقّ لا مجال لإيراده(1).

ص: 244


1- نهاية الدّراية 1: 194.

لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له.

وأمّا ترجيح الاشتراك المعنويّ على الحقيقة والمجاز - إذا دار الأمر بينهما - لأجل الغلبة، فممنوعٌ؛

___________________

الثّاني: أنّه {لا دليل على اعتبارها} أي: اعتبار أصالة العدم {في تعيين الموضوع له} وذلك لعدم إحراز بناء العقلاء، لما تقدّم مِن أنّ مجرى أصالة العدم العقلائيّة في تعيين المراد بعد العلم بالوضع، لا في تعيين كيفيّة الاستعمال وأنّه حقيقة أو مجاز بعد معلوميّة المعنى المراد.

مثلاً: لو علمنا أنّ المشتقّ موضوع للخصوص ومجاز في العموم ثمّ شككنا في أنّ مراد المتكلّم من (الضّارب) المتلبّس أو المنقضي جرت أصالة عدم القرينة، وبها يتعيّن كون المراد المتلبّس، أمّا لو علمنا أنّه أراد من (الضّارب) المنقضي، ولم نعلم أنّه حقيقة حينئذٍ أو مجاز، فلا مسرح لأصالة العدم حتّى يتعيّن كونه حقيقةً.

هذا كلّه لو أُريد بأصالة العدم الأصل العقلائي، وأمّا لو أُريد الاستصحاب فهو أوّلاً معارض، وثانياً مثبت - كما لا يخفى - .

{وأمّا} أصل {ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز} بتقريب أنّ المشتقّ يستعمل في المنقضي وفي المتلبّس كثيراً، فالأمر دائر بين أن يكون اللّفظ حقيقةً في أحدهما ومجازاً في الآخر، وبين أن يكون مشتركاً لفظيّاً بينهما، وبين أن يكون مشتركاً معنويّاً بينهما - بأن وضع للمتلبّس بالمبدأ آناً ما الجامع بين المنقضي والمتلبّس - .ولا شكّ أنّ المشترك المعنوي خير منهما {إذا دار الأمر بينهما} أي: بين الاشتراك المعنوي وبين الحقيقة والمجاز، وذلك لما تقرّر في بحث تعارض الأحوال بأنّه متقدّم عليهما {لأجل الغلبة} فإنّ الغالب في الألفاظ المستعملة في أكثر من معنىً كونه مشتركاً معنويّاً بينهما {فممنوع} جواب «أمّا».

ص: 245

لمنع الغلبة أوّلاً، ومنعِ نهوض حجّة على التّرجيح بها ثانياً.

وأمّا الأصل العملي فيختلف في الموارد، فأصالة البراءة في مثل: (أكرِمْ كُلَّ عالمٍ)، يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب،

___________________

وبيان وجه المنع {لمنع الغلبة} المذكورة: {أوّلاً} إذ المجاز أكثر من الحقيقة، ولذا قيل: أكثر لغة العرب المجازات {ومنع نهوض حجّةٍ على التّرجيح بها} أي: بالغلبة على فرض تسليمها {ثانياً} وذلك لما سبق في الأمر الثّامن من أنّ الغلبة وغيرها - من الوجوه الّتي ذكروها لترجيح بعض الأحوال على بعض - غير مفيد؛ لأنّها وجوه استحسانيّة لا اعتبار بها، إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللّفظ في المعنى، لعدم دليل على اعتبارها بدون الظّهور العرفي.

هذا تمام الكلام في بيان الأصول الجارية لتعيين معنى المشتق.

{وأمّا} لو شكّ ولم يعلم الموضوع له فلا بدّ من الرّجوع إلى {الأصل العملي} الجاري في كلّ مقام {فيختلف في الموارد} فلو كان (زيد) في يوم الخميس عالماً ثمّ جهل، وأمر المولى يوم الجمعة بإكرام العلماء، فشكّ في أنّه هل يجب إكرام زيد - لكون المشتقّ حقيقةً في المنقضي - أم لا يجب، لكونه حقيقةً في المتلبّس فقط {فأصالة البراءة} عنوجوب إكرامه {في مثل} ما تقدّم من قول المولى: {(أكرم كلّ عالم) يقتضي عدم وجوب إكرام ما} أيّ: شخص {انقضى عنه المبدأُ قبل الإيجاب} لمكان الشّبهة البدويّة، فإنّ العلم بالوجوب منحلّ إلى يقينيّ تفصيليّ وشكّ بدوي.

فإن قلت: إذا كان مسرح للاستصحاب الموضوعي، لم تصل النّوبة إلى البراءة، فإنّ الشّكّ في وجوب إكرام زيد ناشٍ من الشّكّ في كونه مصداق العالم، وحيث كان سابقاً عالماً فاستصحاب عالميّته موجب لوجوب الإكرام.

قلت: لا يجري الاستصحاب للشّكّ في الموضوع، وإذا سقط الاستصحاب

ص: 246

كما أنّ قضيّة الاستصحاب وجوبه لو كان الإيجاب قبل الانقضاء.

فإذا عرفت ما تلونا عليك، فاعلم: أنّ الأقوال في المسألة وإن كثرت، إلّا أنّها حدثت بين المتأخّرين - بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدّمين(1)-

،

___________________

الموضوعي جرت البراءة. فتحصّل أنّه لا يجب إكرام زيد لو كان الوجوب بعد الانقضاء {كما أنّ قضيّة الاستصحاب وجوبه} أي: وجوب الإكرام {لو} انعكس الفرض الأوّل بأن {كان الإيجاب قبل الانقضاء} فأمر بوجوب إكرام العلماء يوم الخميس، وكان فيه (زيد) منهم، ثمّ جهل يوم الجمعة.

ولا يتوهّم جريان البراءة، لعدم جريانها مع وجود الاستصحاب.

والحاصل: أنّ المتّبع هو الأصل العملي الجاري في كلّ مقام.

الخلاف في المشتق

{فإذا عرفت ما تلونا عليك} من الأُمور السّتّة المتقدّمة على البحث {فاعلم أنّ الأقوال في} هذه {المسألة وإن كثرت إلّا أنّها حدثت بين المتأخّرين بعد ما كانت} المسألة {ذات قولين بين المتقدّمين} قال في القوانين ما لفظه: «والمشهور بينهم في محلّ الخلاف قولان:

[1] المجاز مطلقاً وهو مذهب أكثر الأشاعرة.

[2] والحقيقة مطلقاً وهو المشهور من الشّيعة والمعتزلة.

وهناك أقوال أُخر منتشرة - والظّاهر أنّها محدثة من إلجاء كلّ واحدٍ من الطّرفين في مقام العجز عن ردّ شبهة خصمه - :

[1] ففصل جماعة وفرّقوا بين ما كان المبدأ من المصادر السّيّالة، كالتّكلّم والإخبار وغيره، فاشترطوا البقاء فيه دون الأوّل.

[2] وأُخرى ففرّقوا بين ما لو كان المبدأ حدوثيّاً أو ثبوتيّاً، فاشترطوا البقاء في

ص: 247


1- قوانين الأصول 1: 76.

لأجل توهّم اختلاف المشتقّ باختلاف مباديه في المعنى، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال.

وقد مرّت الإشارة إلى أنّه لا يوجب التفاوت في ما نحن بصدده،

___________________

الأوّل دون الثّاني.

[3] وأُخرى ففرّقوا بين ما لو طرأ الضّدّ الوجوديّ على المحل، سواء ناقض الضّدّ الأوّل، كالحركة والسّكون، أو ضادّه وغيره، فاشترطوا البقاء في الأوّل دون الثّاني.[4] وفصّل بعضهم بين ما كان المشتقّ محكوماً عليه أو به، فاشترط في الثّاني دون الأوّل»(1)، انتهى.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه التّفاصيل نشأت من أحد أمرين:

[1] إمّا {لأجل توهّم اختلاف المشتقّ باختلاف مباديه في المعنى} كما في غير التّفصيلين الأخيرين، ونشأ من هذا التّوهّم أيضاً تفصيل آخر لم يذكره صاحب القوانين وهو الفرق بين ما كان مبادئها ملكات نحو (الخيّاط) و(الكاتب) وبين غيرها، فالمشتقّ في الأوّل حقيقة ولو انقضى عنه الخياطة والكتابة، بخلاف غيره نحو (الضّارب) و(القائم).

[2] {أو} لأجل توهّم اختلافه {بتفاوت ما يعتريه من الأحوال} كما في التّفصيلين الأخيرين {وقد مرّت الإشارة} في رابع المقدّمات وقبله {إلى أنّه} أي: اختلاف المبادئ وأنحاء التّعلّق {لا يوجب التّفاوت في ما نحن بصدده} من دلالة هيئة المشتقّ على خصوص المتلبّس أو الأعم، فكما أنّ اختلاف معنى (قتل) و(ضرب) غير موجب للتفاوت في الجهة المبحوث عنها، كذلك اختلاف نحو التّلبّس والتّعلّق.

ص: 248


1- قوانين الأصول 1: 76.

ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار، وهو اعتبار التّلبّس في الحال، وفاقاً لمتأخّري الأصحاب والأشاعرة، وخلافاً لمتقدّميهم والمعتزلة.

ويَدُلُّ عليه: تبادُرُ خصوص المُتَلَبِّس بالمبدأ في الحال.

وصحّةُ السّلب مطلقاً عمّا انقضي عنه - كالمتلبّس به في الاستقبال - ؛

___________________

{ويأتي له} أي: لعدم التّفاوت بسبب اختلاف المبادئ والحالات {مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار وهو} أي: المذهب المختار {اعتبار التّلبّس} بالمبدأ {في الحال} حتّى يكون حقيقة ولو استعمل في المنقضي كان مجازاً {وفاقاً لمتأخّري الأصحاب و} أكثر {الأشاعرة} من العامّة {وخلافاً لمتقدّميهم} أي: متقدّمي الأصحاب {والمعتزلة} كما تقدّم نقله عن صاحب القوانين(قدس

سره).

{ويدلّ عليه} أي: على كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس فقط أُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ المشتقّ بسيط - كما سيأتي - فهو عين المبدأ باختلافٍ مّا، وحيث انقضى المبدأ فلا مبدأ حتّى يحمل على الذّات، فتأمّل.

تبادر التّلبّس

الثّاني: مركّب من جزءٍ ثبوتي وجزء سلبي، فالثّبوتي هو {تبادر خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال} فإنّه إذا قال المولى لعبده: (اذهب إلى السّوق واضرِب كلّ قائم فيه، وأعطِ درهماً لكلّ قاعد) فإنّه يتبادر خصوص القائمين فعلاً حين عبوره على السّوق والقاعدين كذلك، وكذا لو قال: (جئني برجل أبيض) ونحوه ممّا لا يخفى بأدنى توجّه، وأمّا الجزء السّلبي للدّليل فهو ما أشار إليه بقوله:

صحّة السّلب عن المنقضي

{وصحّة السّلب مطلقاً} من غير تقييدٍ بزمانٍ بأن يقول: أكرم العالم في الحال أو في الزّمان الماضي أو مطلقاً {عمّا} أي: عن ذات {انقضي} المبدأ {عنه} فالمتلبّس بالمبدأ في الماضي {كالمتلبّس به في الاستقبال} من حيث المجازيّة.

ص: 249

وذلك لوضوح أنّ مثل: (القائم والضّارب والعالم) - وما يرادفها من سائر اللّغات - لا يصدق على من لم يكن متلبّساً بالمبادئ، وإن كان متلبّساً بها قبل الجري والانتساب، ويصحّ سلبها عنه، كيف؟ وما يضادّها بحسب ما ارتكز من معناها في الأذهان يصدق عليه؛ ضرورةَ صدق القاعد عليه في حال تلبّسه بالقعود بعد انقضاء تلبّسه بالقيام،

___________________

ثمّ إنّ جعلَ صحّةِ السّلب من تتمّة التّبادر، وجعل الدّليل الثّاني مركّباً منهما متينٌ - على ما قرّره بعض الأعلام - ويمكن أن يجعل كلّ واحد دليلاً مستقلّاً، فإنّ تبادر المتلبّس في الحال فقط، كما يثبت كون المشتقّ حقيقة بالنسبة إلى المتلبّس، يثبت كونه مجازاً في المنقضي، إذ لو كان فيه حقيقة أيضاً لتبادر، وكذا صحّة السّلب عن المنقضي مقتضٍ لمجازيّة المنقضي، وبضميمة دوران الأمر بين المتلبّس والمنقضي تثبت كون المتلبّس حقيقة - كما لا يخفى - .

ثمّ قد يستدلّ على وجود التّبادر بالنسبة إلى المتلبّس ووجود صحّة السّلب بالنسبة إلى المنقضي بدليلٍ {وذلك لوضوح أنّ مثل: (القائم والضّارب والعالم) وما} يشبهها من سائر الصّفات والمشتقّات، بل وما {يرادفها من سائر اللّغات} نحو (ايستاده و زننده و دانا) {لا يصدق على من لم يكن متلبّساً بالمبادئ} فعلاً، كالقيام والضّرب والعلم {وإن كان متلبّساً بها} أي: بالمبادئ {قبل الجري} والنّسبة، كما لو كان زمان التّلبّس يوم الخميس وزمان الجري {والانتساب} يوم الجمعة {ويصحّ سلبها عنه}.

و{كيف} يصدق المشتقّ على من ليس متلبّساً فعلاً {و} الحال أنّ {مايضادّها} أي: يضادّ تلك المبادئ أو يناقضها {بحسب ما ارتكز من معناها} أي: معنى تلك المبادئ {في الأذهان يصدق عليه} أي: على غير المتلبّس فعلاً {ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبّسه بالقعود بعد انقضاء تلبّسه بالقيام} هذا في الضّدّين.

ص: 250

مع وضوح التّضاد بين (القاعد والقائم) بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى.

___________________

وكذا في النّقيضين، كما لو كان عالماً ثمّ جهل، فإنّه لا يصدق عليه العالم، ضرورة أنّ نقيض العالم وهو الجاهل يصدق عليه حينئذٍ {مع وضوح التّضاد بين (القاعد والقائم)} في المثال الأوّل، و(العالم والجاهل) في المثال الثّاني {بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى} وسيظهر وجه هذا القيد.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من مثال التّناقض جرى على العرف، وإلّا فهو من قبيل العدم والملكة.

بيانه: أنّ التّقابل - وهو كون أمرين على نحو لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد في زمان واحد من جهة واحدة - على أربعة أقسام: لأنّه إمّا أن يؤخذ التّقابل باعتبار القول، وإمّا أن يؤخذ بحسب الحقائق.

والأوّل هو تقابل السّلب والإيجاب - ويسمّى بتقابل النّقيضين - كقولنا: (زيد كاتب. زيد ليس بكاتب).

والثّاني وهو ما أخذه بحسب الحقائق على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أن يكون أحدهما عدميّاً والآخر وجوديّاً، كالعمى والبصر، ويسمّى بتقابل العدم والملكة، وهذا يقارب من تقابل السّلب والإيجاب، لكن الفرقبينهما أنّ السّلب والإيجاب في الأوّل مأخوذ باعتبار مطلق، ولهذا لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، وفي الثّاني مأخوذ باعتبار شيء واحد، ولهذا يمكن ارتفاعهما، إذ الملكة هو وجود الشّيء في نفسه، والعدم هو انتفاء تلك الملكة عن شيء من شأنه أن يكون له.

الثّاني: أن يكون كلاهما وجوديّاً، وكان بحيث لا يمكن تعقّل أحدهما بدون تعقّل الآخر، كالأُبوّة والبنوّة - ويسمّى تقابل التّضايف - والمتضايفان متكافئان قوّة وفعلاً.

ص: 251

وقد يقرّر هذا وجهاً على حِدَةٍ، ويقال: لا ريب في مضادّة الصّفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادّة على ما ارتكز لها من المعاني، فلو كان المشتقّ حقيقةً في الأعمّ لما كان بينها مضادّة، بل مخالفة؛

___________________

الثّالث: أن يكون كلاهما وجوديّاً ولا يتوقّف تصوّر أحدهما على تصوّر الآخر، كالسواد والبياض - ويسمّى تقابل التّضاد - .

قال المحقّق نصير الدّين(قدس سره) في التّجريد ما لفظه: «التقابل المتنوّع إلى أنواعه الأربعة: أعني: تقابل السّلب والإيجاب - وهو راجع إلى القول والعقد - والعدم والملكة، وهو الأوّل مأخوذاً باعتبار خصوصيّة ما، وتقابل الضّدّين وهما وجوديّان إلى أن قال: وتقابل التّضايف» (1)،

انتهى. فتحصّل أنّ أقسام التّقابل أربعة: تقابل النّقيضين والضّدّين والعدم والملكة والمتضايفين.

إذا عرفت ذلك تبيّن لك أنّ قوله: «وما يضادّها» الخ من باب المثال، أو أراد المضادّة العرفيّة الشّاملة لأخواتها.{وقد يقرّر هذا} الّذي ذكرناه من مضادّة الصّفات دليلاً على التّبادر وصحّة السّلب {وجهاً على حدة} من دون ضميمة إلى الوجه الثّاني {ويقال}:

المضادة دليل الاشتراط

الثّالث: من الأدلّة الدّالّة على كون المشتق حقيقةً في المتلبّس فقط هو أنّه {لا ريب في مضادّة الصّفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادّة} ك (القائم، والقاعد، والعالم، والجاهل، والفوق، والتّحت) وغيرها، فإنّها متقابلة {على ما ارتكز لها من المعاني} في الأذهان {فلو كان المشتقّ حقيقةً في الأعم} من المتلبّس والمنقضي {لما كان بينها} أي: بين الصّفات المتقابلة {مضادّة، بل} كان بينها {مخالفة} إذ الأُمور المضادّة المتقابلة لا تتصادق أصلاً، وهذه الصّفات حسب

ص: 252


1- تجريد الاعتقاد: 129.

لتصادقها في ما انقضى عنه المبدأ وتَلَبَّسَ بالمبدأ الآخر.

ولا يرد على هذا التّقرير ما أورده بعضُ الأَجِلَّةِ من المعاصرين(1)،

___________________

الفرض ليست كذلك {لتصادقها في ما انقضى عنه المبدأ وتلبّس بالمبدأ الآخر}.

وهذا الدّليل الثّالث يشبه قياس الخلف، وهو ما يقصد فيه إثبات المطلوب بإبطال نقيضه.

وصورة القياس أنّه: لو صدقت الصّفة المنقضية على الذّات في ظرف صدقالصّفة الموجودة، مع تسلّم مضادّتهما لزم عدم مضادّتهما، لكن عدم المضادّة باطلة، فصدق الصّفة المنقضية باطل، ولا يمكن انقلاب الدّعوى، لضرورة صدق الصّفة الموجودة.

وحيث ذكر المصنّف لزوم التّخالف على تقدير عدم التّضاد، فلا بدّ من بيان معنى المخالفة، فنقول: قال في المعالم: «إنّ كلّ متغايرين إمّا أن يكونا متساويين في الصّفات النّفسيّة أو لا» إلى أن قال: «فإن تساويا فيها فمثلان كسوادين وبياضين وإلّا فإمّا أن يتنافيا بأنفسهما - بأن يمتنع اجتماعهما في محلّ واحد بالنظر إلى ذاتيهما - أو لا، فإن تنافيا كذلك فضدّان، كالسواد والبياض، وإلّا فخلافان، كالسواد والحلاوة»(2)،

انتهى.

فالمتخالفان هما الأمران اللّذان يجتمع كلّ واحد منهما مع الآخر ومع ضدّه، فإنّ الحلاوة في المثال يجتمع مع السّواد والبياض، كما أنّ السّواد يجتمع مع الحلاوة والحموضة.

{ولا يرد على هذا التّقرير} الّذي ذكرنا لبرهان التّضاد {ما أورده بعض الأجلّة من المعاصرين} وهو - كما يظهر من العلّامة القمّي(رحمة

الله) - صاحبُ البدائع، الحاج

ص: 253


1- بدائع الأفكار: 181.
2- معالم الدين: 65.

من عدم التّضادّ على القول بعدم الاشتراط؛ لما عرفت من ارتكازه بينها، كما في مبادئها.

إن قلت: لعلّ ارتكازها لأجل الانسباق من الإطلاق، لا الاشتراط.

___________________

ميرزا حبيب اللّه الرّشتي(قدس سره) {من عدم التّضاد} بين الصّفات الّتي مبدأها متضادّة {على القول بعدم الاشتراط} أي:اشتراط التّلبّس، يعني: أنّا لو اشترطنا في صدق المشتقّ التّلبّس الفعلي كان بين العالم والجاهل مثلاً مضادّة؛ لأنّ الذّات لا يتلبّس بهما فعلا.

أمّا لو لم نشترط في الصّدق التّلبّس الفعلي صدقا على الذّات معاً، فالتّضاد متوقّف على اشتراط التّلبّس، فلو استدلّ لاشتراط التّلبّس بالتضاد لزم الدّور.

لكن هذا الإيراد مدفوع {لما عرفت من ارتكازه} أي: ارتكاز التّضاد {بينها} أي: بين الصّفات الّتي مبدؤها متضادّة {كما} كان التّضاد مرتكزاً {في مبادئها} فالمضادّة الارتكازيّة تكشف عن اعتبار خصوص المتلبّس، وبهذا تبيّن عدم لزوم الدّور، إذ إنّما نشترط التّلبّس بدليل التّضاد، والتّضاد معلوم بالارتكاز وليس مستنداً إلى الاشتراط.

وإن شئت قلت: إنّ التّضاد معلوم ارتكازاً، والاشتراط مجهول ابتداءً، فنكتشف هذا المجهول بذاك المعلوم، لا أنّه نرفع اليد عن ذاك المعلوم بهذا المجهول.

{إن قلت: لعلّ ارتكازها} أي: المضادّة {لأجل الانسباق} وتبادر خصوص المتلبّس {من الإطلاق} فيكون تبادراً إطلاقيّاً وهو ليس بحجّة {لا} أنّ التّبادر لأجل {الاشتراط} أي: اشتراط التّلبّس حتّى يكون التّبادر من حاق اللّفظ ويكون علامة للوضع.

والحاصل: أنّا وإن سلّمنا كون المرتكز من معنى المشتقّ هو المتلبّس بالمبدأ في الحال، لكن لا نسلّم أنّ هذا الارتكاز علامة الوضع، لاحتمال أن يكون بسبب الانصراف.

ص: 254

قلت: لا يكاد يكون لذلك؛ لكثرة استعمال المشتقّ في موارد الانقضاء، لو لم يكن بأكثر.

إن قلت: على هذا، يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازاً، وهذا بعيد وربّما لا يلائمه حكمة الوضع. لا يقال: كيف؟ وقد قيل بأنّ أكثر المحاوراتمجازاتٌ؛

___________________

{قلت: لا يكاد يكون} الانسباق {لذلك} الّذي ذكرتم من الانصراف؛ لأنّ الانصراف لا يحصل إلّا في ما لو كان فرد كثير الوجود أو كثير الاستعمال، والمتلبّس ليس أكثر وجوداً من المنقضي، ولا استعمال المشتقّ في المتلبّس أكثر {لكثرة استعمال المشتقّ في موارد الانقضاء} فيتساوى الاستعمالان {لو لم يكن} استعماله في المنقضي {بأكثر} وحين إذ لم يكن الانسباق لغلبة الوجود ولا لغلبة الاستعمال تعيّن أن يكون من حاق اللّفظ، وهو دليل كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس فقط.

{إن قلت: على هذا} الّذي ذكرتم من كثرة استعمال المشتق في مورد الانقضاء أو أكثريّته {يلزم أن يكون} المشتق {في الغالب} بناءً على الكثرة {أو الأغلب} بناءً على الأكثريّة {مجازاً} لأنّ المنقضي غير موضوع له، {وهذا} أي: غلبة المجاز {بعيد} عن الاستعمالات العرفيّة، إذ المجاز يحتاج إلى تكلّف القرينة {وربّما لا يلائمه حكمة الوضع} إذ حكمة الوضع التّسهيل في التّفهيم والتّفهّم، فلو كان المشتقّ حقيقة في الأعمّ لم يحتج الاستعمال إلى قرينة، ولو كان لخصوص المتلبّس احتيج إلى القرينة وهو خلاف التّسهيل، بل لو كان الاستعمال في المنقضي أكثر لزم محذور آخر، إذ الوضع لما لا يحتاج إليه إلّا قليلاً، وتركه بالنسبة إلى ما هو أكثر احتياجاً ترجيح للمرجوح على الرّاجح.

ثمّ أورد هذا المستشكل على نفسه إشكالاً فقال: {لا يقال} هذا الإيراد غير مستقيم، فإنّه {كيف} يستبعد كثرة المجاز {وقد قيل بأنّ أكثر المحاورات مجازات}؟

ص: 255

فإنّ ذلك - لو سلم - فإنّما هو لأجل تعدّدالمعاني المجازيّة بالنّسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد. نعم، ربّما يتّفق ذلك بالنّسبة إلى معنى مجازي، لكثرة الحاجة إلى التّعبير عنه، لكن أين هذا ممّا إذا كان دائماً كذلك؟ فافهم.

___________________

لأنّا نقول: {فإنّ ذلك} القول {لو سلم} ولم نناقش في عدم مطابقته للواقع {فإنّما هو لأجل تعدّد المعاني المجازيّة بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد} كصيغة (إفْعَل) الّذي له معنى حقيقيّ واحد - وهو الوجوب - وأربعة عشر مجازات من التّهديد والاستحباب وغيرهما ممّا هو مذكور في حاشية المعالم(1)،

وكهمزة الاستفهام الّتي لها معنى حقيقيّ واحد - وهو طلب الفهم - وترد لثمانية معان مجازاً، كما في المغني(2)، وعلى كلّ إنّ كثرة المعنى المجازي خارج عن محلّ الكلام، إذ الكلام في كون الاستعمال في المعنى المجازي أكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي.

{نعم، ربّما يتّفق ذلك} أي: الاستعمال كثيراً {بالنسبة إلى معنى مجازي لكثرة الحاجة إلى التّعبير عنه} أي: عن ذلك المعنى المجازي {لكن أين هذا} الاتّفاق النّادر {ممّا إذا كان} الاستعمال المجازي {دائماً كذلك} كثيراً أو أكثر كما هو المدّعى؟

وحاصل «إن قلت» إلى هنا - بلفظ العلّامة القوچاني - : «إنّ ما ذكر من كثرة الاستعمال في مورد الانقضاء - على فرض كونه مجازاً - يستلزم كثرة المجاز،فينافي حكمة الوضع، ولا يجديه القول بكون أكثر لغات العرب مجازات؛ لأنّه باعتبار كثرة المعاني المجازيّة، لا في معنى مجازي واحد»(3)، انتهى {فافهم} قال

ص: 256


1- حاشية السلطان على معالم الدين: 271.
2- مغني اللبيب 1: 13.
3- تعليقة القوچاني على كفاية الأصول 1: 125.

قلت: - مضافاً إلى أنّ مجرّد الاستبعاد غيرُ ضائر بالمراد بعدَ مساعدة الوجوه المتقدّمة عليه - إنّ ذلك إنّما يلزم لو لم يكن استعماله في ما انقضى بلحاظ حال التّلبّس، مع أنّه بمكان من الإمكان، فيراد من (جاء الضّارب)، أو (الشّارب) - وقد انقضى عنه الضَّرْب والشُّرب - : جاء الّذي كان ضارباً وشارباً قبل مجيئه حالَ التّلبّس بالمبدأ، لا حينه بعد الانقضاء، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال،

___________________

العلّامة المشكيني: «لعلّه إشارة إلى أنّه إذا فرض عدم جواز مخالفة حكمة الوضع فلا فرق بين الواحد والكثير»(1).

{قلت} - في ردّ «إن قلت» {مضافاً إلى أنّ} ما ذكرتم من كون غلبة المجاز بعيداً {مجرّد الاستبعاد} وهو {غير ضائر بالمراد} أي: كون المشتق حقيقة في المتلبّس فقط {بعد مساعدة الوجوه المتقدّمة} من التّبادر وصحّة السّلب والتّضاد {عليه} أي: على المراد - : {إنّ ذلك} المذكور من غلبة المجاز {إنّما يلزم لو لم يكن استعماله في ما انقضى} المبدأ عنه {بلحاظ حال التّلبّس} بأن يتّحد زمان الجري وزمان التّلبّس {مع أنّه} أي: هذا اللّحاظ {بمكانمن الإمكان} من دون محذور أصلاً {فيراد من (جاء الضّارب)، أو} جاء {(الشّارب) - و} الحال أنّ الفاعل {قد انقضى عنه الضّرب والشّرب - : جاء الّذي} نائب الفاعل لقوله: «فيراد» أي: بأن يريد المتكلّم من المشتقّ الشّخص الّذي {كان ضارباً وشارباً قبل مجيئه} مثلاً بأن أجرى الضّرب والشّرب على الذّات {حال التّلبّس بالمبدأ} فلو ضرب يوم الجمعة وقال المتكلّم في يوم السّبت، وأراد بالضّاربِ الضّاربَ يومَ الجمعة - {لا حينه} أي: حين المجيء - كان حقيقةً، لا أن يريد إجراء الضّرب في هذا الحال {بعد الانقضاء كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال} فيكون مجازاً.

ص: 257


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 251.

وجعلُهُ معنوناً بهذا العنوان فعلاً بمجرّد تلبّسه قبل مجيئه؛ ضرورة أنّه لو كان للأعم لصحّ استعماله بلحاظ كلا الحالين.

وبالجملة كثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التّلبّس من الإطلاق؛

___________________

{و} بعبارة أُخرى: لا يريد المتكلّم {جعله} أي: الشّخص {معنوناً بهذا العنوان} الشّربي أو الضّربي {فعلاً} في زمان المتكلّم {بمجرّد تلبّسه} بالضرب والشّرب {قبل مجيئه} في الزّمان الماضي، {ضرورة أنّه} أي: المشتق {لو كان للأعم} بأن أمكن جريه بلحاظ حال التّلبّس الموجب للحقيقيّة، وبلحاظ حال التّكلّم الموجب للمجازيّة {لصحّ استعماله بلحاظ كلا الحالين} وحينئذٍ فلا يتعيّن كونه مجازاً، حتّى يرد أنّه يلزم كون المجازأكثر من الحقيقة.

{وبالجملة} فالجواب عن قولكم: «إن قلت لعلّ ارتكازها» الخ - الرّاجع إلى أنّ تبادر المتلبّس مستند إلى الانصراف لا الوضع - أنّ {كثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى} ما تقدّم من كون {انسباق خصوص حال التّلبّس} ناشٍ {من الإطلاق} والانصراف، فلا يكون تبادراً وضعيّاً حتّى يدلّ على كون المشتق حقيقةً في خصوص المتلبّس.

هذا على ما سلكه العلّامة القمّي في معنى قوله: «وبالجملة»، ثمّ أورد عليه بما لفظه: «فتأمّل في كلامه من جهة عدم انطباق الدّليل على المدّعى؛ لأنّ المدّعى عدم كون التّبادر إطلاقيّاً مع كثرة الاستعمال في ما انقضى، ودليل هذا المدّعى ووجهه أنّ الإطلاق إذا كان أكثريّاً في مورد يمكن أن يكون سبباً للتبادر، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، بل كان استعمال الأكثر في ما انقضى، وأمّا الدّليل فمفاده أنّ الاستعمال في ما انقضى لا يجب أن يكون مجازاً»، إلى أن قال: «وفي العبارة مقدّمة مطويّةٌ لم يذكرها، فاندمجت العبارة، وحقّ الكلام أن يقول: وبالجملة

ص: 258

إذ مع عموم المعنى وقابليّة كونه حقيقة في المورد - ولو بالانطباق -

___________________

فكثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التّلبّس من الإطلاق، ولا يستلزم كثرة الاستعمال كذلك مجازيّة المشتقّ في الأكثر، إذ مع عموم المعنى، الخ، فيكون التّعليل تعليلاً للمقدّمة المطويّة»(1)، انتهى. ومراده بالمقدّمة المطويّة قوله: «ولا يستلزم كثرة الاستعمال كذلكمجازيّة المشتقّ في الأكثر».

هذا، ولكن يمكن أن لا يكون قول المصنّف: «وبالجملة» الخ بياناً لجواب «إن قلت» حتّى يرد عليه هذا المحذور، بل المراد به تتميم قوله: «قلت: مضافاً» الخ، وبيانه: أنّ للمشتقّ استعمالات ثلاثة:

الأوّل: أن يطلق على المنقضي عنه بلحاظ حال التّلبّس، بأن يكون الجري في زمان التّلبّس وهذا حقيقة.

الثّاني: أن يطلق على المنقضي عنه بلحاظ حال النّسبة، بأن يكون الجري في زمان التّكلّم وهذا مختلف فيه.

الثّالث: أن يكون إطلاق المشتقّ على المتلبّس بالمبدأ في الحال، وهذا حقيقة بالاتفاق.

إذا عرفت ذلك قلنا: «وبالجملة كثرة الاستعمال في حال الانقضاء» على نحو الحقيقة تارةً والمجاز أُخرى «تمنع عن دعوى انسباق خصوص» نحوه المجازي أعني: ما كان الجري في «حال التّلبّس» حتّى يرد بأنّه لا يلائمه حكمة الوضع، بل يمكن أن يكون المراد «من» المشتقّ حين «الإطلاق» على المنقضي المعنى الحقيقي {إذ مع عموم المعنى} في المنقضي {وقابليّة كونه} أي: المشتقّ {حقيقة في المورد} الّذي انقضى عنه المبدأ {ولو بالانطباق} بأن ينطبق الجري على حال

ص: 259


1- حاشية الكفاية 1: 99.

لا وجه لملاحظة حالٍ أُخرى، كما لا يخفى. بخلاف ما إذا لم يكن له العموم، فإنّ استعماله حينئذٍ مجازاً لحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكناً، إلّا أنّه لمّا كان بلحاظ حال التّلبّس على نحو الحقيقة بمكان من الإمكان، فلا وجه لاستعماله وجريه على الذّات مجازاً وبالعناية وملاحظة العلاقة، وهذا غير استعمال اللّفظ في ما لا يصحّاستعماله فيه حقيقة،

___________________

التّلبّس {لا وجه لملاحظة حال أُخرى} الموجبة للمجازيّة في المنقضي بأن يريد الجري في زمان التّكلّم {كما لا يخفى}.

وبهذا تبيّن أنّ المجاز ليس أكثر من الحقيقة {بخلاف ما إذا لم يكن له} أي: للمشتقّ المستعمل في المنقضي {العموم} بحيث يقتضي حقيقة تارة ومجازيّة أُخرى، فإنّ المجاز حينئذٍ يكون أكثر من الحقيقة {فإنّ استعماله حينئذٍ} أي: حين كان له عموم {مجازاً لحاظ حال الانقضاء} بأن يكون الجري في حال التّلبّس بعد انقضائه {وإن كان ممكناً} لفرض جوازه {إلّا أنّه} أي: أنّ الاستعمال في المنقضي {لمّا كان بلحاظ حال التّلبّس على نحو الحقيقة} بأن يتّحد زمان الجري والتّلبّس {بمكان من الإمكان} لما تقدّم من العموم {فلا وجه لاستعماله} أي: استعمال المشتق {وجريه على الذّات} بلحاظ حال التّكلّم حتّى يكون {مجازاً وبالعناية وملاحظة العلاقة}.

والمتحصّل أنّ جواز الاستعمال على نحو الحقيقة والمجاز في المنقضي يمنع من الحمل على المجاز حتّى يكون المجاز أكثر، فيرد علينا أنّ وضع المشتق للمتلبّس الّذي هو أقلّ استعمالاً وترك الوضع المنقضي الّذي هو أكثر استعمالاً مخالف لحكمة الوضع الّتي تقتضي أن يكون اللّفظ موضوعاً لما كانت الحاجة إلى التّعبير عنه أكثر.

{وهذا} المورد الّذي يجوز فيه الحمل على الحقيقة، فيصحّ استعمال اللّفظ فيه حقيقة {غير استعمال اللّفظ في ما} أي: في معنى {لا يصحّ استعماله فيه حقيقة}

ص: 260

كما لا يخفى، فافهم.ثمّ إنّه ربّما أورد(1)

على الاستدلال بصحّة السّلب بما حاصله: أنّه إن أُريد بصحّة السّلب صحّته مطلقاً، فغير سديدٍ،

___________________

فإنّ هذا المقام لا بدّ من الالتزام بالمجاز لعدم المحيص عنه، بخلاف المقام الأوّل لجواز الحقيقة فيه {كما لا يخفى} على أُولي النُّهى {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ جواز الأمرين لا يفيد ظهور اللّفظ في الحقيقة، بل ظهوره في المجاز باقٍ بحاله.

إشكال على صحّة السّلب

{ثمّ} إنّ في المقام إشكالاً يحتاج بيانه إلى تمهيد مقدّمة، وهي: أنّه إذا توجّه قيد إلى قضيّة سالبة، فالقيد يحتمل اُموراً ثلاثة:

الأوّل: تقييد الموضوع.

الثّاني: تقييد المحمول.

الثّالث: تقييد السّلب.

فلو قيل: (زيد ليس بضارب في الحال) فهذا الظّرف يحتمل أن يكون قيداً لزيد، ومعناه: زيد الواقع في الحال ليس بضارب، ويحتمل أن يكون قيداً لضارب، فمعناه: زيد ليس متلبّساً بالضرب الحالي، ويحتمل أن يكون قيداً لمفاد كلمة (ليس) فمعناه: أنّ هذا العدم متحقّق في الحال.

إذا عرفت ذلك فاعلم {أنّه ربّما أُورد على الاستدلال} لكون المشتقّ حقيقة في المتلبّس ومجازاً في المنقضي {بصحّة السّلب} الّتي تقدّم بيانها {بما حاصله} أي: أورد بما حاصله {أنّه إن أُريد بصحّة السّلب} المجعول علامة المجازيّة المنقضي {صحّته مطلقاً} بأن يقال: زيد المنقضي عنه القيامليس بقائم لا في الماضي ولا في الحال ولا في الاستقبال {فغير سديد} إذ هو بديهي البطلان؛ لأنّ

ص: 261


1- الفصول الغرويّة: 60؛ بدائع الأفكار: 180.

وإن أُريد مقيّداً، فغيرُ مفيدٍ؛ لأنّ علامة المجاز هي صحّة السّلب المطلق.

وفيه: أنّه إن أُريد بالتّقييد تقييدُ المسلوب - الّذي يكون سلبه أعمّ من سلب المطلق، كما هو واضح - فصحّة سلبه وإن لم تكن علامةً على كون المطلق مجازاً فيه، إلّا أنّ تقييده ممنوع.

___________________

زيداً يصدق عليه القائم في الماضي {وإن أُريد} بصحّة السّلب عن المنقضي صحّة سلب المشتقّ عنه {مقيّداً} بقيد الانقضاء كأن يقال: (زيد ليس بضارب في حال الانقضاء) ونحوه {فغيرُ مفيدٍ} لكون المنقضي مجازاً {لأنّ علامة المجاز هي صحّة السّلب المطلق} مثل قولنا: (زيد ليس بتراب) وإلّا فلو كان سلب المقيّد علامة، لزم عدم صحّة سلب التّراب عنه لعدم صحّة قولنا: (زيد ليس بتراب بعد الموت أو قبل تكوّنه)، فتحصّل أنّه لا يمكن التّمسّك بصحّة السّلب لإثبات مجازيّة المنقضي.

{وفيه} أنّا نختار الشِّقّ الثّاني - أعني: صحّة السّلب مقيّداً - وقولكم: «إنّ صحّة السّلب المقيّد غير مفيدٍ» مخدوش، وجه الخدشة {أنّه إن أُريد بالتقييد تقييد المسلوب} أي: المحمول بأن يقال: (زيد ليس بضارب بالضرب الفعلي) وهذا هو {الّذي يكون سلبه أعمّ من سلب المطلق} - أعني: (زيد ليس بضارب) - ووجه الأعمّيّة إمكان صدق الأوّل دون الثّاني، فإنّه يصدق زيد ليس بضارب بالضرب الفعلي، ولا يصدق زيد ليس بضارب في الماضي والحال والاستقبال{كما هو} شأن كل مطلق ومقيد، وذلك {واضح} بأدنى تأمّل {فصحّة سلبه} أي: سلب المحمول المقيّد {وإن لم تكن علامة على كون} المحمول {المطلق مجازاً فيه} أي: في المنقضي كما قاله المورد {إلّا أنّ تقييده} أي: تقييد المحمول {ممنوع} فإنّا لا نريد بصحّه السّلب صحّته مقيّداً بهذا النّحو من القيد.

ص: 262

وإن أُريد تقييد السّلب، فغير ضائرٍ بكونها علامة؛ ضرورةَ صدق المطلق على أفراده على كلّ حالٍ، مع إمكان منع تقييده أيضاً، بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذّات الجاري عليها المشتقّ، فيصحّ سلبه مطلقاً بلحاظ هذا الحال، كما لا يصحّ سلبه بلحاظ حال التّلبّس،

___________________

{وإن أُريد} بالتقييد {تقييد السّلب} بأن يقال: (زيد ليس في حال الانقضاء بضارب) بمعنى تحقّق العدم في هذا الحال {فغير ضائرٍ} هذا التّقييد {بكونها} أي: بكون صحّة السّلب {علامة} للمجاز {ضرورة صدق المطلق} أعني: المحمول وهو المشتق {على أفراده} الحقيقيّة {على كلّ حال} فلو سلب المشتقّ بما له من المعنى عن فرد في حال تبيين عدم صدقه على ذلك الفرد في هذا الحال وذلك يوجب المجازيّة، فقولنا: (زيد ليس في حال الانقضاء بضارب) مفيد لسلب الضّاربيّة عن زيد في حال انقضاء المبدأ عنه، فيكون إطلاق الضّارب على زيد في هذا الحال مجازاً ويثبت المطلوب.

هذا ثمّ أجاب المصنّف(رحمة الله) عن الشّقّ الأوّل من الإشكال وهو قوله: «إن أُريد بصحّه السّلب صحّته مطلقاً، فغير سديد» فقال: {مع إمكان}إطلاق السّلب و{منع تقييده أيضاً} كما لم يقيّد المسلوب.

والحاصل: أن لا يجعل القيد للنّسبة السّلبيّة ولا للمحمول، بل {بأن يلحظ} قيد {حال الانقضاء في طرف} الموضوع أي: {الذّات الجاري عليها المشتق} فيقال: (زيد في حال الانقضاء ليس بقائم مطلقاً) وما ذكرتم من أنّه غير سديد، فاسدٌ، إذ لا مانع منه، {فيصحّ سلبه} أي: سلب المشتق {مطلقاً} في جميع الأزمنة الثّلاثة، لكن {بلحاظ} تقييد الموضوع ب {هذا الحال} الانقضائي، أي: يصحّ سلب القيام في الماضي والمستقبل والحال عن الذّات المقيّد بهذا الحال، إذ من البديهيّ أنّ زيداً الّذي في حال الانقضاء ليس بقائمٍ في ما قبل، وإلّا لزم اتّحاد زماني الانقضاء وعدمه {كما لا يصحّ سلبه} أي: سلب المشتق عن الذّات {بلحاظ حال التّلبّس} فلا

ص: 263

فتدبّر جيّداً.

ثمّ لا يخفى:

___________________

يصحّ أن يقال: (زيد في حال التّلبّس ليس بقائم).

فتحصّل من جميع ذلك أنّ قيد الانقضاء لو كان للموضوع صحّ سلب المشتقّ ويكون علامة للمجازيّة، وإن كان قيداً للسّلب صحّ سلب المشتق وكان علامة للمجازيّة أيضاً، وإن كان قيداً للمحمول لم يصحّ سلب المشتقّ لكنّا لا ندّعي ذلك {فتدبّر جيّداً} يمكن أن يكون إشارة إلى ما ذكره العلّامة القوچاني(رحمة الله)(1) من منع إطلاق تسليم المصنّف عدم العلاميّة على تقدير كونه قيداً للمسلوب، وتوضيحه بلفظ المشكيني:

«الرّابع: أن يكون المسلوب مقيّداً باعتبار معنى هيئته، نحو (زيد ليس بضاربفي حال الانقضاء) وهذا أيضاً صحيح وعلامة للمجازيّة، إذ لو كان للأعم لما صحّ السّلب المذكور.

الخامس: الصّورة مع كونه قيداً له باعتبار معناه المادّي، يعني إنّ زيداً ليس بضارب بالضرب الفعلي، وهو صحيح ولكن ليست علامة، لصحّته بناءً على الأعم أيضاً.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ تسليم المصنّف عدم العلاميّة على تقدير كونه قيداً للمسلوب على الإطلاق وقع في غير محلّه، لكونها علامة إذا كان ذلك باعتبار هيئته، بل هذا هو محلّ النّقض والإبرام. ويحتمل أن يكون أمره بالتدبّر إشارة إليه»(2)، انتهى كلامه.

{ثمّ لا يخفى} عليك أنّ صاحب الفصول(قدس سره) ذهب في هذه المسألة إلى التّفصيل بين المتعدّي واللّازم، فقال ما لفظه:

ص: 264


1- تعليقه القوچاني على كفاية الأصول 1: 126.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 255.

أنّه لا يتفاوت في صحّة السّلب عمّا انقضى عنه المبدأ، بين كون المشتقّ لازماً وكونه متعدّياً؛ لصحّة سلب الضّارب عمّن يكون فعلاً غير متلبّس بالضّرب، وكان متلبّساً به سابقاً.

وأمّا إطلاقه عليه في الحال، فإن كان بلحاظ حال التّلبّس فلا إشكال كما عرفت،

___________________

«الحقّ أنّ المشتقّ إن كان مأخوذاً من المبادئ المتعدية إلى الغير، كان حقيقة في الحال والماضي - أعني: في القدر المشترك بينهما - وإلّا كان حقيقة في الحال فقط. لنا على ذلك الاستقراء، فإنّ الضّارب والقاتل والسّاكب الخ ونحوها إذا أُطلق تبادر منها ما اتّصف بالمبدأ لحال الاتصاف وما بعدها، وإنّ نحو عالم وجاهل وحسن الخ إلى غير ذلك يتبادر منها المتصف بالمبدأ حال الاتصاففقط، وقد سبق أنّ التّبادر من آيات الحقيقة»(1)،

انتهى كلامه.

لكن في هذا التّفصيل نظر، ضرورةَ {أنّه لا يتفاوت في صحّة السّلب} للمشتقّ {عمّا انقضى عنه المبدأ بين كون المشتقّ لازماً} كذاهب {و} بين {كونه متعدّياً} كضارب، وذلك {لصحّة سلب الضّارب عمّن يكون فعلاً غير متلبّس بالضّرب، و} إن {كان متلبّساً به سابقاً} وكذا غير ضارب من سائر الأفعال المتعدّية.

{وأمّا} إن قلت: فكيف نرى صحّة {إطلاقه} أي: إطلاق المشتقّ {عليه} أي: على المنقضي {في الحال} فإنّه يصحّ أن نقول: (في يوم الجمعة زيد ضارب) مع أنّه كان ضارباً يوم الخميس؟

قلت: إطلاقه على المنقضي قسمان:

الأوّل: أن يكون بلحاظ حال التّلبّس.

الثّاني: أن يكون بلحاظ الحال.

{فإن كان بلحاظ حال التّلبّس فلا إشكال} في كونه حقيقة، وذلك لا يدلّ على مطلوبكم، إذ النّزاع في ما كان الإطلاق بلحاظ حال الجري {كما عرفت} سابقاً.

ص: 265


1- الفصول الغرويّة: 60.

وإن كان بلحاظ الحال فهو وإن كان صحيحاً، إلّا أنّه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة؛ لكون الاستعمال أعمّ منها، كما لا يخفى.

كما لا يتفاوت في صحّة السّلب عنه بين تلبّسه بضدّ المبدأ وعدم تلبّسه، لما عرفت من وضوح صحّته مع عدم التّلبّس أيضاً، وإن كان معه أوضح.

___________________

{و} أمّا {إن كان} الإطلاق على النّحو الثّاني - بأن يكون {بلحاظ الحال - فهو} أي: هذا الإطلاق {وإن كان صحيحاً إلّا أنّه} مجاز، و{لا دلالة} للاستعمال {على كونه بنحو الحقيقة لكون الاستعمال أعمّ منها} أي: من الحقيقة {كما لا يخفى}.

وحيث إنّا استدللنا على كونه حقيقةً في خصوص المتلبّس فقط، تعيّن أن يكون في المنقضي مجازاً، وبهذا سقط تفصيل الفصول، وظهر أنّه لا يتفاوت في محلّ البحث كون المبدأ متعدّياً أو لازماً {كما لا يتفاوت في صحّة السّلب عنه} أي: عن المنقضي {بين تلبّسه بضدّ المبدأ وعدم تلبّسه} فإنّ الشّهيد الثّاني وغيره فصّلوا بين ما لو طرأ الضّد الوجودي على الحمل وغيره، فاشترطوا البقاء في الأوّل دون الثّاني، واحتجّ لهم في القوانين(1) بأنّه لو لم يكن الصّدق مشروطاً بعدم طريان الضّدّ، لزم كون إطلاق النّائم على اليقظان والحامض على الحلو باعتبار النّوم السّابق والحموضة السّابقة حقيقة، وهو خلاف الإجماع. وأيضاً لزم أن يكون أكابر الصّحابة كفّاراً حقيقة، انتهى.

ولكن هذا التّفصيل أيضاً ساقط {لما عرفت} في ما سبق {من وضوح صحّته} أي: صحّة السّلب {مع عدم التّلبّس} بالضد {أيضاً} كما كان يصحّ السّلب مع التّلبّس بالضد {وإن كان} سلب الصّفة المنقضية عن الذّات {معه} أي: مع التّلبّس بالضد {أوضح}.

ص: 266


1- قوانين الأصول 1: 77.

وممّا ذكرنا ظهر حال كثير من التّفاصيل، فلا نطيل بذكرها على التّفصيل.

حجّة القول بعدم الاشتراط وجوه:الأوّل: التّبادر.

وقد عرفت أنّ المتبادر هو خصوص حال التّلبّس.

الثّاني: عدم صحّة السّلب في (مضروب) و(مقتول) عمّن انقضى عنه المبدأ.

___________________

والحاصل: أنّه لو زال البياض عن الجسم، لم يصحّ إطلاق أبيض عليه، سواء تلبّس بالسواد الّذي هو ضدّ البياض، أو لم يتلبّس بلون أصلاً، بأن صار عديم اللّون. نعم، صحّة السّلب في الصّورة الأُولى أوضح.

{وممّا ذكرنا} من صحّة السّلب بالنسبة إلى المنقضي {ظهر حال كثير من التّفاصيل} بل جميعها، فإنّه حيثما قيل بكون المشتقّ على نحو الحقيقة في المنقضي أجرينا صحّة السّلب {فلا نطيل} المقام {بذكرها} وبيان حججها {على التّفصيل}.

أدلّة كون المشتق حقيقة في المنقضي

هذا وأمّا {حجّة القول بعدم الاشتراط} وكون المشتقّ حقيقةً في المنقضي، كما هو حقيقة في المتلبّس فيه {وجوه} ثلاثة:

{الأوّل: التّبادر} فإنّ المشتقّ يتبادر منه الذّات المتلبّس بالمبدأ آناً ما، {وقد عرفت أنّ المتبادر هو خصوص حال التّلبّس} وهذا أمر وجداني لا يمكن إقامة الدّليل عليه، فإنّ كلّ ما بالغير ينتهي إلى ما بالذات ولو احتاج ما بالذات إلى غيره تسلسل - كما لا يخفى - والمرجع في التّبادر لدى التّشاحّ العرف لا غير.

{الثّاني} من أدلّتهم: {عدم صحّة السّلب في} مثل {(مضروب) و(مقتول)} وغيرهما {عمّن انقضى عنه المبدأ} وذلك علامة الحقيقة.

ص: 267

وفيه: أنّ عدم صحّته في مثلهما إنّما هو لأجل أنّه أُريد من المبدأ معنى يكون التّلبّس به باقياً في الحال ولو مجازاً، وقد انقدح من بعض المقدّمات: أنّه لا يتفاوت الحال - في ما هو المهمّ في محلّ البحث والكلام، ومورد النّقض والإبرام - اختلاف ما يراد من المبدأ في كونه حقيقة أو مجازاً.

___________________

{وفيه} أوّلاً أنّ عدم صحّة السّلب في بعض الموارد، لا يلازم عدم صحّة السّلب في الجميع، وإلّا لكان الدّليل منقلباً عليهم بصحّة السّلب في نحو الأبيض إذا ذهب بياضه وطرأ عليه السّواد.

وثانياً {أنّ عدم صحّته} أي: عدم صحّة السّلب {في مثلهما} أي: مثل (مضروب) و(مقتول) وما شابههما من نحو (مصنوع) و(مكتوب) {إنّما هو لأجل أنّه أُريد من المبدأ معنى} وسيع بحيث {يكون التّلبّس به باقياً} ما دامت الذّات موجودة، فصدق المشتقّ {في الحال} لأجل بقاء المبدأ {ولو مجازاً} تجوّزاً في المادة لا في الهيئة، وذلك بأن يراد من الضّرب والقتل والصّنع والكتابة لوازمها الباقية أبداً، وإلّا فإن أُريد بها المعاني الحقيقيّة صحّ السّلب، ضرورة صدق انّه ليس بمضروب الآن.

والحاصل: إنّ دعوى عدم صحّة السّلب متوقّف على ثلاثة أُمور:

[1] كون المبدأ مأخوذاً على نحو الفعليّة.

[2] وكون الجري بلحاظ حال الانقضاء لا بلحاظ حال التّلبّس.

[3] وكون الإطلاق حقيقة لا بمعونة قرينة. وأنّى لهم بإثباتها.

{وقد انقدح من بعض المقدّمات:} السّابقة وهيالرّابعة {أنّه لا يتفاوت الحال في ما هو المهم في محلّ البحث والكلام ومورد النّقض والإبرام} في المشتق {اختلاف} فاعل «لا يتفاوت» {ما يراد من المبدأ} للمشتق، فإنّ اختلاف المبادئ لا يؤثّر {في كونه حقيقة} في المنقضي {أو مجازاً}.

والحاصل: أنّا ندّعي أنّ المبدأ في مثل: (مضروب) و(مقتول) معنى عام يشمل

ص: 268

وأمّا لو أُريد منه نفس ما وقع على الذّات ممّا صدر عن الفاعل، فإنّما لا يصحّ السّلب في ما لو كان بلحاظ حال التّلبّس والوقوع - كما عرفت - ، لا بلحاظ الحال أيضاً؛ لوضوح صحّة أن يقال: (إنّه ليس بمضروبٍ الآنَ، بل كان).

الثّالث: استدلال الإمام - عليه الصّلاة والسّلام - تأسّياً بالنّبيّ - صلوات الله عليه - كما عن غير واحد من الأخبار، بقوله: {لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّلِمِينَ} على عدم لياقة مَنْ عَبَدَ صَنَماً أو وثناً لمنصِبِ الإمامة والخلافة، تعريضاً بمن تصدّى لها ممّن عبد الصّنم مُدَّةً مديدةً.

___________________

حتّى حالة انقضاء فري الأوداج والإيلام.

{وأمّا لو} سلّمنا ذلك وقلنا أنّ المبدأ {أُريد منه نفس} الإيلام وفري الأوداج فهو {ما وقع على الذّات} في الزّمان الماضي {ممّا صدر عن الفاعل} حين الفعل {فإنّما} نقول: إنّ ما ذكرتم مِن أنّه {لا يصحّ السّلب} عن المنقضي إنّما يتمّ {في ما لو كان} جري المشتقّ على الذّات {بلحاظ حال التّلبّسوالوقوع} بأن يريد من (المقتول) حالة جري القتل {كما عرفت} من أنّ المشتقّ حقيقة في المنقضي إذا كان بلحاظ حال التّلبّس.

ولكن هذا النّحو من الجري ليس محلّ الكلام {لا} عطف على «في ما لو كان» أي: ما ذكر من عدم صحّة السّلب إنّما كان بلحاظ حال التّلبّس لا {بلحاظ الحال أيضاً} بل يصحّ السّلب بلحاظ حال الانقضاء {لوضوح صحّة أن يقال: (إنّه} أي: المنقضي عنه {ليس بمضروب الآن، بل كان)} مضروباً في سالف الزّمان.

{الثّالث} من أدلّة القائلين بكون المشتقّ حقيقةً في ما انقضى: {استدلال الإمام - عليه الصّلاة والسّلام - تأسّياً بالنّبيّ - صلوات الله عليه - كما عن غير واحد من الأخبار، بقوله} - عزّ اسمه - : {{لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّلِمِينَ}(1) على عدم لياقة مَن عَبَدَ صَنَماً أو وثناً لمنصِب الإمامة والخلافة تعريضاً بمن تصدّى لها} أي: للخلافة {ممّن عبد الصّنم مُدّةً مديدةً}.

ص: 269


1- سورة البقرة، الآية: 124.

___________________

في تفسير البرهان، عن أمالي الشّيخ عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أنا دعوة أبي إبراهيم»، قلنا: يا رسول اللّه، وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: «أوحى اللّه - عزّ وجلّ - إلى إبراهيم {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ}(1) فاستخفّ إبراهيم الفرح، فقال: يا ربّ، ومن ذريّتي أئمّة مثلي؟ فأوحى اللّه - عزّ وجلّ - إليه: أنْ يا إبراهيم إنّي لا أعطيك عهداً لا أفيلك به. قال: يا ربّ، ما العهد الّذي لا تفي لي به؟ قال: لا أعطيك عهداً لظالم من ذريّتك. قال: يا ربّ، ومن الظّالم من ولدي الّذي لا ينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً، ولا يصلح أن يكون إماماً، قال إبراهيم: {وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ ٭ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ}(2)». ومن ثمّ قال النبيّ(صلی الله علیه و آله): «فانتهت الدّعوة إليّ وإلى أخي عليّ، لم يسجد أحدٌ منّا لصنم قطّ، واتّخذني اللّه نبيّاً وعليّاً وصيّاً (وليّاً - خ ل)»(3).

ومن طريق المخالفين ما رواه الشّافعي ابن المغازلي في كتاب المناقب، بإسناده يرفعه إلى عبداللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أنا دعوة أبي إبراهيم». قلت: يا رسول اللّه، وكيف صرت دعوة إبراهيم أبيك... وساق الحديث السّابق بعينه إلى قوله(صلی الله علیه و آله): «فانتهت الدّعوة إليّ وإلى عليّ(علیه السلام) لم يسجد أحدنا لصنم قطّ فاتّخذني نبيّاً واتّخذ عليّاً وصيّاً»(4)،

انتهى.

وبهذا سقط قول بعض الأعلام: «لم أظفر باستدلاله(صلی الله علیه و آله) بهذه الآية على عدم

ص: 270


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- سورة إبراهيم، الآية: 35 - 36.
3- البرهان في تفسير القرآن 1: 325؛ عن الأمالي (للشيخ الطوسي): 379.
4- مناقب علي بن أبي طالب(علیه السلام): 224.

ومن الواضح توقّف ذلك على كون المشتقّ موضوعاً للأعمّ، وإلّا لما صحّ التّعريض؛ لانقضاء تلبّسهم بالظّلم وعبادتهم للصّنم حين التّصدّي للخلافة.

___________________

نيل الظّالم للخلافة، ولكنّه لا يدلّ على عدم الوجود، وهو أعلم بما قاله»(1)، انتهى.

وأمّا استدلال الأئمّة - عليهم الصّلاة والسّلام - بذلك فكثير ففي البرهان، عن أبي منصور قال: قال أبو عبداللّه(علیه

السلام): «قد كان إبراهيم نبيّاً وليس بإمام حتّى قال اللّه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ} فقال اللّه - تعالى - : {لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّلِمِينَ}(2) من عبد صنماً أو وثناً، لا يكون إماماً»(3)، وبهذا المضمون روايات كثيرة.

ثمّ إنّ وجه الاستدلال بهذه الآية - منضمّةً إلى الرّواية على الأعمّ - ما ذكره المصنّف بقوله: {ومن الواضح توقّف ذلك} الاستدلال {على كون المشتقّ موضوعاً للأعمّ} من المتلبّس والمنقضي حتّى يشمل الخلفاء الظّالمين حال تلبّسهم بالخلافة والإمامة {وإلّا} فلو كان المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس {لما صحّ التّعريض} من الإمام(علیه السلام) بالثلاثة {لانقضاء تلبّسهم بالظّلم و} انقضاء {عبادتهم للصّنم} ظاهراً {حين التّصدّي للخلافة} فلو كان المشتقّ حقيقة فيخصوص المتلبّس، لصحّ للخصم أن يقول: لا تشملهم الآية حين الخلافة.

إن قلت: لعلّ استدلال الإمام(علیه السلام) بهذه الآية لما كان يعلمه الخواصّ من عبادتهم للصّنم خَفَاءً حتّى حين تصدّيهم، فالاستدلال يَتِمُّ وإن لم نَقُلْ بكون المشتقّ حقيقةً في المنقضي؟

قلت: استدلال الإمام(علیه السلام) في مقام الاحتجاج كما يفصح عن ذلكاستدلال النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، ومن المعلوم أنّ العامّة تنكر عبادتهم للصّنم حين التّصدّي.

ص: 271


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 260.
2- سورة البقرة، الآية: 124.
3- البرهان في تفسير القرآن 1: 325.

___________________

ثمّ لا يخفى أنّ الاستدلال بهذه الآية الشّريفة على عدم لياقتهم من وجوهٍ خمسة:

الأوّل: ما نسب إلى كفاية الموحّدين وغيره من أنّ إبراهيم(علیه السلام) أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للظّالم حين الظّلم، فلا بدّ وأن يكون سؤاله عن إمامة غير الظّالم وهو على قسمين:

الأوّل: غير الظّالم مطلقاً.

الثّاني: غير الظّالم في حال تصدّي الإمامة فقط، وحيث نفى اللّه - تعالى - الظّالم بقي الأوّل.

ولا مجال لأن يقال: كلام إبراهيم(علیه السلام) مهمل من هذا الحيث، إذ الانصراف لو كان فهذا أظهر مصاديقه وهو(علیه السلام) ملتفت حكيم قطعاً(1).

ص: 272


1- قال الطّباطبائي(قدس سره) في الميزان 1: 274: وقد سُئل بعض أساتيذنا(رحمة الله) عن تقريب دلالة الآية على عصمة الإمام. فأجاب: إنّ النّاس على أربعة أقسام: الظّالم في جميع العمر، وعكسه، والظّالم في أوّل العمر دون آخره، وعكسه، وإبراهيم(علیه السلام) أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل والرّابع من ذريّته، فبقي قسمان وقد نفى اللّه أحدهما وهو الثّالث فبقي الثّاني وهو المعصوم، انتهى ملخّصاً. وفي مواهب الرحمن 2: 13 «الناس بالنسبة إلى الظلم وعدمه على أربعة أقسام: الأوّل: من اتصف بالطاعة والارتباط مع اللّه تعالى من أول عمره إلى آخر ارتحاله. الثّاني: من اتصف بالظلم والمخالفة كذلك. الثّالث: من يكون مثل الأوّل في أول عمره، ومثل الثّاني في آخر عمره. الرّابع: من يكون مثل الثّاني في أول عمره، ومثل الأوّل في آخر عمره. ولا يليق بمنصب الغيب المكنون، والسر المصون والإمامة العظمى إلّا الأوّل، وإن إطلاق الآية الشريفة ينفي بقية الأقسام. كما أن إطلاقها يشمل جميع أقسام الظلم سواء كان شركا أو غيره، وما ورد في بعض الأخبار أنه عبادة الصنم إنما هو من التطبيق على بعض المصاديق. ومما تقدم يعلم أنه لا حاجة إلى إدخال المقام في مسألة المشتق المعنونة في الكتب الأدبية والأصولية، وأطيل القول فيها من أنه لو كان المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس بالمبدأ وما انقضى عند المبدأ، فلا يليق بالإمامة من ظلم ثم تاب، وأما إذا كان حقيقة في خصوص المتلبس فقط فلا يصح الاستدلال بالآية المباركة بالنسبة إلى من تاب وآمن»، انتهى.

والجواب: منع التّوقّف على ذلك، بل يتمّ الاستدلال ولو كان موضوعاً لخصوص المتلبّس.

وتوضيح ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ الأوصاف العنوانيّة - الّتي تؤخذ في موضوعات الأحكام - تكون على أقسام:

___________________

الثّاني: أنّ أبا بكر وعمر كانا كافرين، فيقال: كانا حال كفرهما ظالمَيْن، فوجب أن يصدق عليهما في تلك الحالة أنّهما لا ينالان الإمامة البتّة ولا في شيء من الأوقات، فثبت أنّهما لا يصلحان للإمامة.

الثّالث: أنّ من كان مذنباً في الباطن كان من الظّالمين، فإذا لم نعرف أنّهما كانا من غير الظّالمين المذنبين ظاهراً وباطناً، وجب أن لا نحكم بإمامتهما وذلك إنّما يثبت في من يثبت عصمته، ولمّا لم يكونا معصومين بالاتفاق، وجب أن لا تتحقّق إمامتهما البتّة.

الرّابع: أنّهم كانوا مشركين، وكلّ مشرك ظالم، والظّالم لا ينال عهد الإمامة، فوجب أن لا ينالوا عهد الإمامة، أمّا الأوّل فبالاتّفاق، وأمّا الثّاني فلقوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ}(1) وأمّا الثّالث فبهذه الآية، وهذه الوجوه الثّلاثة منسوبة إلى الرّازي.

الخامس: ما سيأتي من المصنّف {و} حاصل {الجواب} عن إشكال: أنّ الاستدلال يتوقّف على الأعم {منع التّوقّف على ذلك،بل يتمّ الاستدلال} بالآية على عدم لياقة الثّلاثة {ولو كان} المشتقّ {موضوعاً لخصوص المتلبّس} بالمبدأ.

{وتوضيح ذلك} الجواب {يتوقّف على تمهيد مقدّمة} مفيدة في كثير من الموارد {وهي: أنّ الأوصاف العنوانيّة الّتي} بها يعنون الموضوع و{تؤخذ في موضوعات الأحكام} الشّرعيّة والعقلائيّة {تكون على} ثلاثة {أقسام} في الغالب:

ص: 273


1- سورة لقمان، الآية: 13.

أحدها: أن يكون أخذ العنوان لمجرّد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوعٌ للحكم؛ لمعهوديّته بهذا العنوان، من دون دَخْلٍ لاتّصافه به في الحكم أصلاً.

ثانيها: أن يكون لأجل الإشارة إلى علّية المبدأ للحكم، مع كفاية مجرّد صحّة جَرْيِ المشتقّ عليه ولو في ما مضى.

___________________

{أحدها: أن يكون أخذ العنوان} في موضوع الحكم {لمجرّد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوع للحكم} وإنّما أخذ هذا العنوان {لمعهوديّته} أي: معهوديّة الموضوع {بهذا العنوان} فيكون تمام الموضوع للحكم هو المشار إليه والمعنون {من دون دَخْلٍ لاتّصافه} أي: اتصاف الموضوع {به} أي: بهذا العنوان {في الحكم أصلاً} فلا يكون العنوان دخيلاً في الموضوع ولا علّة للحكم، كما لو قال المولى لعبده: (أكرم هذا الجالس) حيث كان موضوع الإكرام ذات (زيدٍ) وعلّته علمه، وإنّما الجلوس عنوان لتفهيم العبد فقط، ومثله قول النّبيّ(صلی الله علیه و آله): «وصيّي خاصفالنّعل»(1)،

مشيراً إلى عليّ(علیه السلام) مع معلوميّة عدم دخالة هذا الوصف في الخلافة.

{ثانيها: أن يكون} أخذ العنوان في موضوع الحكم {لأجل الإشارة إلى علّية المبدأ} أي: علّية مبدأ العنوان {للحكم} المرتّب عليه، لكن {مع كفاية مجرّد صحّة جري المشتقّ عليه} بأن يكفي في الحكم مطلقاً ثبوت العنوان للموضوع {ولو} آناً ما {في ما مضى} فلا يناط بقاء الحكم ببقاء العنوان نحو (الماءُ المتغيّر بالنَّجَاسة نَجِسٌ) فإنّ عنوان التّغيّر مأخوذ في الموضوع، لأجل الإشارة إلى علّية التّغيير للنّجاسة، ومن المعلوم كفاية حدوث هذا العنوان ولو في آنٍ لإثبات الحكم

ص: 274


1- الكافي 5: 1011. وفيه: عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: سأل رجل أبي(علیه السلام) عن حروب أمير المؤمنين(علیه السلام) وكان السائل من محبينا، فقال له أبو جعفر(علیه السلام): ... قال اللّه عز وجلّ: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَى فَقَتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّى تَفِيٓءَ إِلَىٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ} فلمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنّ منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل» فسئل النبي(صلی الله علیه و آله) من هو؟ فقال: «خاصف النعل» يعني أمير المؤمنين(علیه السلام) ... .

ثالثها: أن يكون لذلك مع عدم الكفاية، بل كان الحكم دائراً مدار صحّةِ الجري عليه، واتّصافه به حدوثاً وبقاءً.

إذا عرفتَ هذا فنقول: إنّ الاستدلال بهذا الوجه إنّما يِتِمُّ لو كان أخذ العُنْوان في الآية الشّريفة على النّحو الأخير؛ ضرورةَ أنّه لو لم يكن المشتقّ للأعمّ لما تمّ،

___________________

دائماً، فلو زال التّغيّر من نفسه، بقيت النّجاسة ما لم يرفعها رافع على المشهور.{ثالثها: أن يكون} أخذ العنوان في موضوع الحكم {لذلك} أي: لأجل الإشارة إلى علّية المبدأ للحكم، ويمتاز عن القسم الثّاني بأنّه {مع عدم الكفاية} أي: عدم كفاية اتّصاف الموضوع بالعنوان لبقاء الحكم دائماً {بل كان الحكم} المترتّب على الموضوع {دائراً مدار صحّة الجري عليه} أي: جري العنوان على الموضوع، بحيث يكون جري الوصف على الذّات {واتّصافه به} أي: اتصاف الموضوع بالعنوان {حدوثاً وبقاءً} مناطاً للحكم ولا يكفي مجرّد الحدوث.

والحاصل: بقاء الحكم منوط ببقاء العنوان نحو (صلّ خلف العادل) فإنّ جواز الصّلاة خلف الشّخص منوط بالعدالة حدوثاً وبقاءً، فلا تكفي العدالة آناً ما لجواز الصّلاة دائماً ولو ذهبت العدالة.

{إذا عرفت هذا} المطلب {فنقول}: إنّ عنوان الظّالم في الآية الشّريفة مأخوذ بأحد الأنحاء الثّلاثة. ثمّ إنّه ليس مأخوذاً على النّحو الأوّل، بأن لا يكون الظّلم دخيلاً في عدم النّيل أصلاً، للعلم الضّروري بدخالة هذا العنوان في عدم النّيل، وليس على نحو الإشارة فقط، وإذا سقط الوجه الأوّل فالأمر دائر بين الاحتمالين الأخيرين، فنقول: {إنّ الاستدلال} للأعمّ {بهذا الوجه} الثّالث - أعني: آية {لَا يَنَالُ عَهۡدِي} - {إنّما يتمّ لو كان أخذ العنوان} الظّلمي {في} موضوع {الآية الشّريفة على النّحو الأخير} بأن يكون صدق الظّلم علّة لعدم النّيل، بحيث يدور عدم النّيل مداره وجوداً وعدماً {ضرورة أنّه لو لم يكن المشتق} موضوعاً {للأعمّ لما تمّ}

ص: 275

بعد عدم التّلبّس بالمبدأ ظاهراً حين التّصدّي، فلا بدّ أن يكون للأعمّ، ليكون حين التّصدّي حقيقةً من الظّالمين، ولو انقضىعنهم التّلبّس بالظّلم، وأمّا إذا كان على النّحو الثّاني، فلا، كما لا يخفى.

___________________

استدلال الإمام(علیه السلام) بالآية {بعد عدم التّلبّس} من الثّلاثة {بالمبدأ} أي: الظّلم {ظاهراً حين التّصدّي} للخلافة {فلا بدّ أن يكون للأعمّ ليكون حين التّصدّي} من الظّالمين.

والحاصل: إنّ استدلال الإمام(علیه السلام) يتوقّف على مقدّمتين:

الأُولى: أنّ هؤلاء حين التّصدّي ظالمون.

والثّانية: أنّ الظّالم لا يناله العهد. أمّا الثّانية فمسلّمة، وأمّا الأُولى فصدق الظّالم على هؤلاء حين التّصدّي إمّا لتلبّسهم بالظلم، وإمّا لصدق المشتقّ على ما انقضى حقيقة، أمّا تلبّسهم بالظلم فالخصم منكره، فتعيّن أن يكون لصدق المشتقّ على ما انقضى. هذا حاصل استدلال الأعمّي بالآية.

وحاصل جواب المصنّف: أنّ دوران المقدّمة الأُولى بين التّلبّس بالظلم وبين صدق المشتقّ على ما انقضى حقيقةً ممنوع، إذ لو كان الظّلم من قبيل القسم الثّالث - أي: ممّا هو علّة حدوثاً وبقاءً - احتجنا إلى صدق الظّلم {حقيقة} ليكون المتصدّون {من} مصاديق {الظّالمين} حين التّصدّي {ولو انقضى عنهم التّلبّس بالظلم} في الظّاهر.

{وأمّا إذا كان} أخذ العنوان الظّلمي في الآية الشّريفة {على النّحو الثّاني} ممّا يكون علّة حدوثاً لا بقاءً كالماء المتغيّر {فلا} يتمّ الاستدلال بالآية للأعمّ {كما لا يخفى} لأنّا لا نحتاج حينئذٍ إلى صدق الظّلم حقيقة في مقام الاستدلال لعدم لياقة الثّلاثة.

وإن شئت قلت: الأمر دائر بين أن يكون الظّلم من قبيل العادل في (صلّ خلف

ص: 276

ولا قرينة على أنّه على النّحو الأوّل، لو لم نقل بنهوضها على النّحو الثّاني؛ فإنّ الآية الشّريفة في بيان جلالة قدر الإمامة والخلافة، وعِظَمِ خَطَرِها، ورِفْعَةِ محلّها، وأنّ لها خصوصيّة من بين المناصب الإلهيّة، ومن المعلوم أنّ المناسب لذلك

___________________

العادل)، وبين أن يكون من قبيل المتغيّر في (الماء المتغيّر نجس).

فإن كان من قبيل الأوّل لزم كون المشتقّ حقيقةً في الأعمّ حتّى يتمّ استدلال الإمام(علیه السلام)(1).

وإن كان من قبيل الثّاني يتمّ استدلال الإمام وإن كان المشتقّ حقيقةً في خصوص المتلبّس(2).

{ولا قرينة على أنّه على النّحو الأوّل} وهو القسم الثّالث حتّى يتمّ استدلالكم بالآية على الأعمّ {لو لم نقل بنهوضها} أي: نهوض القرينة على أنّه {على النّحو الثّاني} فلا يتمّ الاستدلال على الأعمّ.

إن قلت: فما هي القرينة المعيّنة لكون ترتّب عدم النّيل على الظّلم في آنٍ مّا حتّى يكون من قبيل الماء المتغيّر؟قلت: القرينة في نفس الآية {فإنّ الآية الشّريفة في بيان جلالة قدر الإمامة} العامّة {والخلافة} الإلهيّة {وعِظَمِ خطرها ورِفْعَة محلّها وأنّ لها خصوصيّةً من بين المناصب الإلهيّة} فضلاً عن المناصب العقلائيّة {ومن المعلوم} بداهة {أنّ المناسب لذلك}

ص: 277


1- لأنّ المشتق لو كان حقيقةً في خصوص المتلبّس وقد انقضى عنهم الظّلم ظاهراً انتفى الموضوع - أي: الظّالميّة - وبانتفائه ينتفي الحكم - أي: عدم نيل العهد - ، فلا يمكن الاستدلال بالآية لو كان المشتقّ حقيقةً في خصوص المتلبّس وكان الظّلم من قبيل العدالة وكان قد انقضى عنهم الظّلم بزعم الخصم.
2- لأنّ المشتقّ لو كان حقيقة في خصوص المتلبّس أيضاً ثبت المطلوب، إذ على فرض انقضاء ظلمهم لا يصلحون للخلافة ونيل العهد لتلبّسهم بالظلم ولو في الماضي، وهو كاف في عدم النّيل إلى الأبد، كالنجاسة الكافية في ثبوتها أبداً تلبّس الماء بالتغيّر آناً ما.

هو أن لا يكون المتقمّص بها متلبّساً بالظّلم أصلاً، كما لا يخفى.

إن قلت: نعم، ولكن الظّاهر أنّ الإمام(علیه السلام) إنّما استدلّ بما هو قضيّة ظاهر العُنْوان وضعاً، لا بقرينة المقام مجازاً، فلا بدّ أن يكون للأعمّ، وإلّا لما تمّ.

قلت: لو سلّم، لم يكن يستلزم جري المشتقّ على النّحو الثّاني

___________________

المنصب الخطير {هو أن لا يكون المتقمّص بها متلبّساً بالظلم} في آنٍ من الآنات {أصلاً، كما لا يخفى}.

وقد كفانا حجّة في الرّدّ نصّ الكتاب لا ينال عهدي

{إن قلت: نعم} المناسب لكون الإمامة منصباً إلهيّاً عدم نيل الظّالم لها ولو انقضى عنه الظّلم، وبه يتمّ استدلال الإمام(علیه السلام) {ولكن} هذا الحمل مجاز، إذ على تقدير كون المشتقّ حقيقةً في المتلبّس - ثمّ أُريد المنقضي من لفظ الظّالم - يوجب المجازيّة، و{الظّاهر أنّ الإمام(علیه السلام)} تبعاً للنّبيّ(صلی الله علیه و آله) {إنّما استدلّ بما هو قضيّة ظاهر العنوان} الظّلمي {وضعاً لا بقرينة المقام} حتّى يكون المشتقّ {مجازاً} وعلى هذا {فلا بدّ أنيكون} المشتقّ {للأعمّ وإلّا لما تمّ} استدلال الإمام.

والحاصل: أنّ ما ذكرتم - من دوران الأمر بين كون الظّلم من قبيل العدالة، بضميمة كون المشتقّ للأعمّ، وبين كونه من قبيل التّغيّر بضميمة كون المشتقّ للمتلبّس - صحيح، لكن ما اخترتم من الثّاني فاسد، للزوم المجاز، وهو خلاف الظّاهر فتعيّن الأوّل، فيثبت كون المشتقّ للأعمّ وهو المطلوب.

{قلت}: أوّلاً لا نسلّم أنّ الإمام(علیه السلام) استدلّ بما هو مقتضى ظاهر العنوان وضعاً، بل هو استدلّ بالظهور الّذي هو حجّة عند العقلاء - سواء كان مستنداً إلى الوضع أو إلى القرينة الّتي عرفت وجودها - .

وثانياً {لو سلم} أنّ الإمام(علیه السلام) استدلّ بما هو الظّاهر وضعاً، لكن {لم يكن يستلزم جري المشتق على النّحو الثّاني} وهو ما كان حقيقةً في خصوص المتلبّس،

ص: 278

كونَهُ مجازاً، بل يكون حقيقةً لو كان بلحاظ حال التّلبّس - كما عرفت - فيكون معنى الآية - والله العالم - : من كان ظالماً، ولو آناً في زمانٍ سابقٍ لا ينال عهدي أبداً. ومن الواضح أنّ إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال لا بلحاظ حال التّلبّس.

ومنه قد انقدح ما في الاستدلال على التّفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به - باختيار عدم الاشتراط في الأوّل(1)

-

___________________

بضميمة كون الظّلم من قبيل التّغيّر {كونه} أي: المشتق {مجازاً، بل يكون حقيقةً لو كان} الجري {بلحاظ حال التّلبّس - كما عرفت} في ما تقدّم - فالأمر دائر بين حقيقتينوالقرينة معنىً، لا بين حقيقة ومجاز - كما زعمتم - {فيكون معنى الآية} بناءً على ما سلكناه من كون المشتق حقيقة في المتلبّس فقط، وعنوان الظّلم كاف حدوثاً لا بقاءً {والله العالم} بمراده {من كان ظالماً ولو آناً} ما {في زمانٍ سابقٍ لا ينال عهدي أبداً}.

{و} لا يخفى أنّ {من الواضح أنّ إرادة هذا المعنى} الّذي ذكرنا للآية {لا تستلزم الاستعمال} للمشتقّ بلحاظ هذا الحال {لا بلحاظ حال التّلبّس} حتّى يكون مجازاً، بل استعمل بلحاظ حال التّلبّس، فهو حقيقة من غير محذور، ومن ذلك كلّه ظهر بطلان قول من ذهب إلى أنّ المشتقّ حقيقة في الأعم.

دليل المفصّل

{ومنه} أي: ممّا تقدّم من أنحاء العناوين وكون المشتق - ولو كان حقيقةً في خصوص المتلبّس - جاز كونه حقيقةً في الماضي إذا أخذ بلحاظ التّلبّس {قد انقدح ما في الاستدلال على التّفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به} كما حكي عن الغزالي والأشنوي {باختيار عدم الاشتراط} أي: كون المشتقّ حقيقةً في الأعمّ {في الأوّل} وحقيقةً في خصوص المتلبّس في الثّاني، واستدلّ لهم

ص: 279


1- هداية المسترشدين 1: 370؛ تقريرات المجدد الشيرازي 1: 252.

بآية حدّ السّارق والسّارقة، والزّاني والزّانية.

وذلك حيث ظهر أنّه لا ينافي إرادةُ خصوص حال التّلبّس دلالَتَها على ثبوت القطع والجلد مطلقاً ولو بعد انقضاء المبدأ، مضافاً إلى وضوح بطلان تعدّد الوضع حسب وقوعه محكوماً عليه أو به، كما لا يخفى.

___________________

{بآية حدّ السّارق والسّارقة والزّاني والزّانية} وجه الاستدلال أنّه لو اشترط البقاء في المحكوم عليه لزم عدم جواز الاستدلال بمثل قوله - تعالى - : {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ}(1)، و{ٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ}(2) على وجوب إجراء الحدّ على من انقضى عنه الزّنا والسّرقة، مع بداهة أنّ وجه إجراء الحدّ ليس إلّا هذه الآية وأمثالها، فالمشتقّ في الآية أعمّ من المنقضي عنه المبدأ.

{وذلك} أي: وجه الانقداح {حيث ظهر أنّه لا ينافي إرادة خصوص حال التّلبّس} من المشتقّ مع {دلالتها} أي: الآية {على ثبوت القطع والجلد مطلقاً} في الحال والاستقبال {ولو بعد انقضاء المبدأ} أي: الزّنا والسّرقة.

والحاصل: أنّ الزّنا والسَّرِقة ونحوهما عناوين توجب حدوثها الحكم، فبمجرّد ما حدثت السّرقة وجب القطع، وما لم يجر الحدّ لا يسقط الحكم.

ثمّ إنّ استعمال (السّارق) في من انقضى عنه المبدأ حقيقة باعتبار حال التّلبّس، فلا يستلزم القولُ بالخصوص المجازيّةَ {مضافاً إلى} أنّ هذا التّفصيل موجب لتعدّد الوضع في المشتقّ، و{وضوح بطلان تعدّد الوضع حسب وقوعه محكوماً عليه، أو} محكوماً {به} غنيّ عن البيان {كما لا يخفى} لبداهة أنّ (السّارق) ونحوه له معنىً واحد وقع محكوماً عليه أو به.

ثمّ إنّ هذا التّفصيل ناقص في نفسه؛ لأنّه لم يبيّن حال المشتقّ في غير هذين

ص: 280


1- سورة النّور، الآية: 2.
2- سورة المائدة، الآية: 38.

ومن مطاوي ما ذكرنا - هاهنا وفيالمقدّمات - ظهر حال سائر الأقوال، وما ذكر لها من الاستدلال، ولا يسع المجال لتفصيلها، ومن أراد الاطّلاع عليها فعليه بالمطوّلات.

بقي أُمور:

الأوّل:

___________________

الصّورتين نحو قولك: (اقطع يد السّارق) إلّا أن يتكلّف بإرجاعه إلى أحدهما.

وقد أورد على هذا التّفصيل إشكالان آخران:

الأوّل: النّقض بمثل: (العادل يجوز الصّلاة خلفه).

الثّاني: أنّه يلزم من هذا الكلام القول بكون المشتقّ حقيقةً في المستقبل أيضاً.

{ومن مطاوي ما ذكرنا هاهنا} في حجج قول المختار وردّ غيره {و} ما ذكرنا {في المقدّمات} من عدم الفرق بين المبادئ وغير ذلك {ظهر حال سائر الأقوال} المفصّلة {و} ظهر الجواب عن {ما ذكر لها} أي: لتلك الأقوال {من الاستدلال، ولا يسع المجال لتفصيلها، ومن أراد الاطّلاع عليها فعليه بالمطوّلات} كالقوانين والفصول وغيرهما من كتب الأصول.

مفهوم المشتق

{بقي} في المقام {أُمور} مهمّة: {الأوّل} في مفهوم المشتق، ولا بدّ قبل التّعرّض للشّرح من ذكر كلام المحقّق الشّريف فنقول: قال شارح المطالع(1) ما لفظه: «والإشكال الّذي استصعبه قوم بأنّه(2) لا يتناول التّعريفَ بالفصل وحده ولا بالخاصّة وحدها، مع أنّه يصحّ التّعريف بأحدهما علىرأي المتأخّرين - حتّى غيّروا التّعريف إلى تحصيل أمرٍ، أو ترتيب أُمورٍ - فليس من تلك الصّعوبة في شيء:

ص: 281


1- في أوائل شرحه عند قول المصنّف: «وليس الكلّ من كلّ منهما ضروريّاً».
2- أي: تعريف الكلّ بأنّه ترتيب أُمور معلومة لتحصيل المجهول.

أنّ مفهوم المشتق - على ما حقّقه المحقّق الشّريف في بعض حواشيه - بسيطٌ منتزعٌ عن الذّات، باعتبار تلبّسها بالمبدأ واتّصافها به، غيرُ مركّب.

وقد أفاد في وجه ذلك: «أنّ

___________________

أمّا أوّلاً فلأنّ التّعريف بالمفردات إنّما يكون بالمشتقّات، ك (النّاطق) و(الضّاحك)، والمشتقّ وإن كان في اللّفظ مفرداً إلّا أنّ معناه شيء له المشتقّ منه، فيكون من حيث المعنى مركّباً»(1)، انتهى كلامه.

وعلّق المحقّق الشّريف على قوله: «إلّا أنّ معناه شيء له المشتقّ منه» ما لفظه: «يرد عليه أنّ مفهوم (الشّيء) لا يعتبر في معنى (النّاطق) - مثلاً - وإلّا لكان العرض العام داخلاً في الفصل، ولو اعتبر في المشتق ما صدق عليه الشّيء انقلب مادّة الإمكان الخاص ضروريّةً، فإنّ الشّيء الّذي له (الضّحك) هو الإنسان، وثبوت الشّيء لنفسه ضروريّ، فذكر الشّيء في تفسير المشتقّات بيان لما يرجع إليه الضّمير الّذي يذكر فيه»(2)،

انتهى.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: {إنّ مفهوم المشتق على ما حقّقه المحقّق الشّريف في بعض حواشيه} على شرح المطالع {بسيط منتزع عن الذّات} لكن الانتزاع {باعتبار تلبّسها} أي: تلبّس الذّات {بالمبدأ} للمشتق {واتّصافها به} من غير فرقٍ بين أن يكون المبدأ ذاتيّاً كالنطق أوعرضيّاً ك (الضحك) {غير مركّب}.

ولا يخفى أنّ المراد كون ما ذكر مفهوم كلامه، وإلّا فقد تقدّم كلامه حرفيّاً {وقد أفاد} المحقّق الشّريف {في وجه ذلك} الّذي ذكر من بساطة مفهوم المشتق {«أنّ} المشتق لو كان مركّباً فالجزء الآخر غير المبدأ إمّا أن يكون مفهوم الشّيء أو مصداقه، وكلاهما غير صحيح، وإذا بطل اللّازم بطل الملزوم. أمّا وجه

ص: 282


1- شرح المطالع: 11.
2- شرح المطالع: 11.

مفهوم (الشّيء) لا يعتبر في مفهوم (النّاطق) - مثلاً - ، وإلّا لكان العَرَضُ العامّ داخلاً في الفَصْلِ، ولو اعتبر فيه ما صدق عليه الشّيء، انقلبت مادّة الإمكان الخاصّ ضرورةً؛ فإنّ الشّيء الّذي له الضّحك هو الإنسان، وثبوتُ الشّيءِ لنفسه ضروريّ»(1).

هذا ملخّص ما أفاده الشّريف على ما لخّصه بعض الأعاظم(2).

___________________

بطلان أخذ {مفهوم (الشّيء)} في المشتقّ فلأنّه {لا يعتبر في مفهوم (النّاطق) مثلاً} وكذا غيره من سائر الفصول {وإلّا لكان العرض العام} الّذي هو عبارة عن مفهوم الشّيء العارض لجميع موجودات العالم {داخلاً في الفصل، و} هو باطل؛ لأنّ الفصل مقوّم، والعرض العام غير مقوّم والمركّب من الخارج والدّاخل خارج على اصطلاحهم.

وأمّا وجه بطلان أخذ مصداق الشّيء في المشتق فلأنّه {لو اعتبرفيه} أي: في المشتق {ما صدق عليه الشّيء} بأن يكون المراد من الضّاحك الإنسان الضّاحك {انقلبت مادّة الإمكان الخاص} إلى {ضرورة} وإنّما قال: «مادة الإمكان» لما تقرّر في المنطق من أنّ النّسبة الواقعيّة الّتي بين الموضوع والمحمول - من الضّرورة والإمكان والامتناع - تسمّى مادة القضيّة، واللّفظ الدّال على المادّة تسمّى جهة القضيّة. هذا ثمّ بيّن وجه الانقلاب بقوله: {فإنّ الشّيء الّذي له الضّحك هو الإنسان وثبوت الشّيء} كالإنسان في المثال {لنفسه ضروريّ»} فيلزم أن يصير قولنا: (الإنسان ضاحك) ضروريّة، مع أنّه ممكنة خاصّة. وإنّما خصّ الإمكان بالخاصّ، لبداهة أنّ المضادّة إنّما هي بين الإمكان الخاص والضّرورة، وإلّا فالإمكان العام مَقْسِمٌ للضّرورة وغيرها.

{هذا ملخّص ما أفاده} المحقّق {الشّريف على ما لخّصه بعض الأعاظم} والانصاف

ص: 283


1- شرح المطالع: 11.
2- الفصول الغرويّة: 61.

وقد أورد عليه في الفُصُوْل ب : «أنّه يمكن أن يختار الشِّقَّ الأوّل، ويدفع الإشكال بأنّ كون (النّاطق) - مثلاً - فصلاً مبنيٌّ على عرف المنطقيّين، حيث اعتبروه مجرّداً عن مفهوم الذّات، وذلك لا يوجب وضعه لغةً كذلك»(1).

___________________

أنّه تطويل لا تلخيص {وقد أورد عليه} الشّيخ محمّد حسين {في الفصول ب «أنّه يمكن أن يختار الشّقّ الأوّل} وهو اعتبار مفهوم الشّيء في المشتقّ {ويدفع الإشكال} المتقدّم من دخول العرض العام في الفصل {بأنّ كون (النّاطق)مثلاً} وغيره {فصلاً} للإنسان {مبنيّ على عرف المنطقيّين(2)} المتداول في ألسنتهم {حيث اعتبروه} أي: اعتبروا النّاطق {مجرّداً عن مفهوم الذّات} ومصداقه {وذلك} الاعتبار المنطقي {لا يوجب وضعه لغة كذلك»} مجرّداً عن مفهوم الذّات ومصداقه.

والحاصل: أنّ معنى النّاطق وغيره من الفصول المشتقّة عند المنطقيّين معناه عند اللّغويّين، فإنّ المنطقيّين يعتبرون النّاطق مجرّداً، واللّغويّين يعتبرونه مركّباً، وبهذا البيان يسقط الإشكال؛ لأنّ الكلام في مفهوم المشتق لغة لا اصطلاحاً.

إن قلت: هذا الجواب لا يدفع الإشكال عن شارح المطالع؛ لأنّ كلامه كان في الفصل المنطقي الّذي يكون معرّفاً.

ص: 284


1- الفصول الغرويّة: 61.
2- فذلكة: قال في شرح المطالع: 15 «وإنّما سمّي هذا الفنّ منطقاً؛ لأنّ النطق يطلق على النطق الخارجي الّذي هو اللّفظ وعلى الدّاخلي وهو إدراك الكليّات وعلى مصدر ذلك الفعل ومظهر هذا الانفعال، ولمّا كان هذا الفنّ يقوي الأوّل ويسلك بالثّاني مسلك السّداد ويحصل بسببه كمالات الثّالث لا جرم اشتقّ له اسم منه وهو المنطق» انتهى. والغرض من هذا بيان معنى المنطق ولا يخفى أنّ جعل (الناطق) فصلاً أمر صوريّ، وإلّا فمعرفة حقائق الأشياء إن لم يكن مستحيلاً ففي غاية الإشكال - كما صرّح به في الكبرى وحاشية الشّمسيّة وغيرهما - فتأمّل.

وفيه: أنّه من المقطوع أنّ مثل: (النّاطق) قد اعتبر فصلاً بلا تصرّف في معناه أصلاً، بل بما له من المعنى، كما لا يخفى.

والتّحقيق أن يقال: إنّ مثل: (النّاطق) ليس بفصلٍ حقيقيٍّ، بل لازِمُ ما هو الفصل وأظهر خواصّه،

___________________

قلت: لسنا نحن بصدد تصحيح كلام المطالع، وإنّما الغرض دفع الإشكالالوارد على المشهور من قولهم: «إنّ معنى المشتقّ ذات أو شيء له المبدأ».

قال في الفصول ما لفظه: «مفهوم المشتقّ عند بعض المحقّقين معنى بسيط منتزع عن الذّات باعتبار قيام المبدأ بها ومتّحد معها في الوجود الخارجي، فما اشتهر في العبائر والألسنة من أنّ معنى المشتق ذات أو شيء له المبدأ، فإمّا مسامحة منهم في التّعبير وتفسير للشّيء بلوازمه أو وارد على خلاف التّحقيق»(1)،

انتهى.

{وفيه} أي: في ما ذكره الفصول من الجواب نظر، إذ {أنّه من المقطوع أنّ مثل: (النّاطق)} وغيره ممّا يسمّى فصلاً {قد اعتبر} في عرف أهل الميزان {فصلاً، بلا تصرّف في معناه أصلاً} فلا اختلاف بين المعنى المنطقي واللّغوي {بل} كونه فصلاً {بما له من المعنى} اللّغوي {كما لا يخفى} لمن راجع.

{والتّحقيق} في الجواب عن الشِّقِّ الأوّل {أن يقال}: الإشكال مبنيّ على {أنّ مثل: (النّاطق)} فصل حقيقيّ، لكنّا لا نسلّم ذلك؛ لأنّه {ليس بفصل حقيقي} بحيث يكون قوام النّوع به {بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصّه}.

قال شارح المطالع - قبيل الفصل السّادس - ما لفظه: «واعلم أنّ اقتناص العلم بأجناس المهيّات المتحقّقة في الخارج وفصولها وعرضيّاتها في غاية الصّعوبة، وأمّا بالقياس إلى المعاني المعقولة الوضعيّة فسهل؛ لأنّا إذا تعقّلنا معاني ووضعنا

ص: 285


1- الفصول الغرويّة: 61.

وإنّما يكون فصلاً مشهوريّاً منطقيّاً يوضع مكانه إذا لم يُعلم نفسه، بل لا يكاديُعلم، كما حقّق في محلّه،

___________________

لجملتها اسماً كان القدر المشترك منها جنساً والقدر المميّز فصلاً والخارج عنها عرضاً»(1)،

انتهى.

وعلّق المحقّق الشّريف على قوله: «في غاية الصّعوبة» ما لفظه: «فإنّ أجناس تلك الحقائق تشتبه بأعراضِها وفصولها بخواصِّها، والتّمييزُ بينهما بما ذكر من خواصّ الذّاتيّات مشكل جدّاً، كيف؟ وأكثرها مشتركة بينهما وبين الأعراض اللّازمة، وهذا هو مراد الشّيخ من صعوبة معرفتها»(2)، انتهى. فتبيّن أنّ (النّاطق) ليس فصلاً حقيقيّاً {وإنّما يكون فصلاً مشهوريّاً منطقيّاً يوضع مكانه} أي: مكان الفصل الحقيقي {إذا لم يعلم نفسه} كما أنّ الجنس والنّوع والعرض الخاص والعام كذلك {بل لا يكاد يعلم} قال المشكيني(رحمة

الله): «وإمّا إشارة إلى ما حقّقه صدر المتألّهين من أنّ الفصول الحقيقيّة أنحاء الوجودات والوجود غير معلوم بالكنه لغير علّام الغيوب»(3)،

انتهى.

أقول: ولهذا قال السّبزواري:

«مُعَرِّفُ الوجودِ شرحُ الاسمِ *** وليس بالحَدِّ ولا بالرَّسْمِ

مفهومُهُ مِنْ أَعْرَفِ الأَشْيَاءِ *** وكُنْهَهُ في غَايَةِ الخَفَاءِ»

قال الشّيخ الرّئيس في النجاة: «إنّ الوجود لا يمكن أن يشرح بغير الاسم؛ لأنّه مبدأ أوّل لكلّ شرح، فلا شرح له، بل صورته تقوم في النّفس بلا توسّط شيء»(4)، انتهى.

{كما حقّق في محلّه} ممّا سبق بعضه، وقد بسط المحقّقالسّلطان في حاشيته

ص: 286


1- شرح المطالع: 100.
2- شرح المطالع: 100.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 274.
4- النجاة: 496؛ شرح المنظومة 2: 61.

ولذا ربّما يجعل لازمان مكانه، إذا كانا متساويي النّسبة إليه، كالحسّاس والمتحرّك بالإرادة في الحيوان.

___________________

طرفاً من الكلام، فراجع(1).

{ولذا} أي: ولأجل أنّ الأُمور المدّعى كونها فصولاً ليست بفصول حقيقيّة ترى أنّه {ربّما يجعل} فصلان لشيءٍ واحدٍ، ولو كان الأمران فصلين حقيقيّين استحال ذلك - كما سيأتي - . ومن ذلك يكشف أنّهما {لازمان مكانه} أي: مكان الفصل الحقيقي {إذا كانا}: اللّازمان {متساويي النّسبة إليه} أي: إلى الفصل الحقيقي - بأن لا يكون أحدهما في طول الآخر، بل في عرضه - وذلك {كالحسّاس والمتحرّك بالإرادة} المجهولين {في} مكان فصل {الحيوان} وأمّا وجه استحالة أن يكون لشيء واحد فصلان فيظهر بملاحظة ما نذكره.

قال في المطالع ما لفظه: «قال الشّيخ: ويجب كونه - أي: الفصل - علّة لوجودها - أي: حصّة الجنس وهو ما في النّوع - لأنّ أحدهما لمّا لم يكن علّة لوجود الآخر استغنى كلّ واحد عن صاحبه، وليس الجنس علّة للفصل وإلّا استلزمه فتعيّن العكس...» إلى أن قال: «ويتفرّع على العلّية كذا وكذا ولا يكون القريب إلّا واحداً لئلّا يتوارد علّتان على معلول واحد بالذّات»(2)، انتهى.

وقال العلّامة في كشف المراد: «قال: وكلّ فصل تامّ فهو واحد، أقول: الفصلمنه ما هو تامّ وهو كمال الجزء المميّز، ومنه غير تامّ وهو المميّز الذّاتي مطلقاً، والأوّل لا يكون إلّا واحداً؛ لأنّه لو تعدّد لزم امتياز المركّب بكلّ واحد منهما، فيستغني عن الآخر في التّميز فلا يكون فصلاً؛ ولأنّ الفصل علّة للحصّة فيلزم تعدّد العلل على المعلول الواحد وهو محال، أمّا الفصل النّاقص وهو جزء الفصل،

ص: 287


1- الحاشية على كفاية الأصول 1: 252.
2- شرح المطالع: 91.

وعليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشّيء في مثل (النّاطق)، فإنّه وإن كان عَرَضاً عامّاً، لا فصلاً مقوِّماً للإنسان، إلّا أنّه بعد تقييده بالنُّطْق واتّصافه به كان من أظهر خواصّه.

وبالجملة: لا يلزم من أخذ مفهوم الشّيء في معنى المشتقّ إلّا دخول العرض في الخاصّة الّتي هي من العرضيّ، لا في الفصل الحقيقيّ الّذي هو من الذّاتيّ، فتدبّر جيّداً.

___________________

فإنّه يكون متعدّداً»(1)، انتهى.

أقول: وفي هذه الكلمات إشكالات مذكورة في شرح المطالع وغيره، فراجع.

{وعليه} أي: بناءً على أنّ النّاطق وأمثاله ليست فصولاً حقيقة {فلا بأس بأخذ مفهوم الشّيء} ونحوه {في مثل (النّاطق)} وغيره من الفصول المشهوريّة {فإنّه} أي: مفهوم الشّيء {وإن كان عرضاً عامّاً} للإنسان وغيره {لا فصلاً مقوّماً للإنسان إلّا أنّه} أي: مفهوم الشّيء {بعد تقييده بالنطق} بأن يقال شيء له النّطق {واتصافه به} أي: اتّصاف الشّيء بالنّطق {كان} هذا المفهوم {من أظهر خواصّه} أي: خواص الإنسان.{وبالجملة} نقول في الجواب عن الشِّقِّ الأوّل من إشكال الشّريف: {لا يلزم من أخذ مفهوم الشّيء في معنى المشتق} الّذي اعتبروه فصلاً {إلّا دخول العرض} العام {في الخاصّة الّتي} ليست من الذّاتى المستلزم للمحذور، بل {هي من العرضي} والمراد بالعرضي المشتق مقابل العرض الّذي هو مبدأ الاشتقاق كما تقدّم، و{لا} يستلزم ذلك دخول العرض العام {في الفصل الحقيقي الّذي هو من الذّاتي} وعلى هذا فلا محذور أصلاً، ولا إشكال في ما اشتهر في لسان القوم، وإن كان هذا الجواب كجواب صاحب الفصول لا يرفع إشكال السّيّد الشّريف على شارح المطالع الملتزم بكون (النّاطق) فصلاً حقيقيّاً كما سبق، اللّهمّ إلّا أن يرفع اليد عن ذلك كما يلوح إليه قوله المتقدّم: «إنّ معرفة الفصولِ في كمال الصّعوبة» {فتدبّر جيّداً} حتّى لا تغفل عن عدم استقامة غالب الكلمات في هذا الباب.

ص: 288


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 94.

ثمّ قال: «إنّه يمكن أن يختار الوجه الثّاني أيضاً، ويجاب بأنّ المحمول ليس مصداق الشّيء والذّات مطلقاً، بل مقيّداً بالوصف، وليس ثبوته للموضوع حينئذٍ بالضّرورة؛ لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريّاً»(1)،

انتهى.

ويمكن أن يقال:

___________________

{ثمّ} إنّ صاحب الفصول لمّا فرغ عن جواب الشّقّ الأوّل من الإشكال شرع في الجواب عن الشِّقّ الثّاني و{قال: «إنّه يمكن أن يختار الوجه الثّاني أيضاً} بأن يقال: يعتبر في المشتقّ مصداق الشّيء {ويجاب} عن إشكال الإنقلاب {بأنّ المحمول} في مثل:(زيد كاتب) {ليس مصداق الشّيء والذّات مطلقاً} حتّى يكون ضروري الثّبوت للموضوع ويلزم الانقلاب، {بل} المحمول مصداق الشّيء {مقيّداً بالوصف} كالكتابة في المثال {و} حينئذٍ تبقى الممكنة ممكنة، إذ {ليس ثبوته} أي: ثبوت الذّات المقيّد بالوصف {للموضوع حينئذٍ بالضرورة} دائماً، بل ضروريّة المحمول وإمكانه يتّبع الوصف، ولهذا يبطل دعوى الشّريف الانقلاب مطلقاً {لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريّاً»} فنحو (زيد كاتب) ممكنة لانحلاله إلى (زيد زيد له الكتابة) ونحو (زيد ناطق) ضروريّة، لانحلاله إلى (زيد زيد له النّطق) {انتهى} كلام الفصول.

{و} لكن {يمكن أن يقال} في ردّه ما سيأتي، ويحتاج بيانه إلى تمهيد مقدّمة ذكرها المشكيني، وهي بتلخيص: إنّ حمل المشتق - بناءً على التّركيب وأخذ المصداق في معنى المشتق - يكون من قبيل حمل المقيّد، وهو بحسب التّصوير العقلي على أقسام أربعة:

الأوّل: أن يكون المحمول نفس المقيّد لا التّقييد ولا القيد. نعم، التّقييد مِرْآة وإشارة إلى تعيين المحمول كقولك: (هذا زيد الّذي سلّم عليك أمس) فإنّ الغرض

ص: 289


1- الفصول الغرويّة: 61.

إنّ عدم كون ثبوت القيد ضروريّاً لا يَضُرُّ بدعوى الانقلاب؛ فإنّ المحمول: إن كان ذات المقيّد، وكان القيد خارجاً - وإن كان التّقيّد داخلاً بما هو معنىً حرفي -

___________________

حمل (زيد) على هذا وتقييده به لمجرّد التّعيين.

الثّاني: أن يكون المحمول ذات المقيّد مع التّقييد، وهو غير صحيح؛ لأنّ التّقييد جزء ذهني لا يتّحد مع الخارجيّات، اللّهمّ إلّا أن يكون المراد منه هي الخَصوصيّة المنتزعة عن القيد الخارجي لا نفس التّقييد، فحينئذٍ يصحّ الحمل فيكون الحاصلفي المثال المذكور (الإنسان إنسان متخصّص بخصوصيّة الكتابة).

الثّالث: أن يكون القيد داخلاً في الحمل عرضاً، كقولك: (هذا حلو حامض)، فيصير معنى (الإنسان كاتب): (الإنسان إنسان وكتابة).

الرّابع: أن يكون الدّخول طوليّاً، فيكون حاصل معنى المثال: الإنسان إنسان له الكتابة، فيكون في القضيّة نسبة تامّة خبريّة، وهي: نسبة الإنسان إلى الإنسان، ونسبة ناقصة وصفيّة، وهي: نسبة له الكتابة إلى الإنسان(1).

إذا عرفت ذلك فنقول: {إنّ} ما ذكره في الفصول من {عدم كون ثبوت القيد ضروريّاً} فلا يلزم من أخذ المصداق في المشتق الانقلاب الّذي ادّعاه الشّريف غير تامّ، إذ عدم ضروريّة القيد {لا يضرّ بدعوى الانقلاب} بل يلزم الانقلاب لو لم يكن القيد ضروريّاً، {فإنّ المحمول} الّذي هو المشتقّ لا يخلو عن أحد الأُمور الأربعة الّتي تقدّم بيانها.

فهو {إن كان ذات المقيّد وكان القيد خارجاً} كالتقييد - وهو القسم الأوّل - فهذا لا يضرّ بدعوى الانقلاب، إذ المقيّد فقط عين الموضوع وضروري الثّبوت له.

وإن كان المحمول ذات المقيّد وكان القيد خارجاً {وإن كان التّقيّد داخلاً} - وهو القسم الثّاني - ومعنى دخول التّقيّد كونه جزء القضيّة {بما هو معنى حرفي} فإنّ التّقيّد

ص: 290


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 275.

فالقضيّةُ لا محالة تكون ضروريّةً؛ ضرورةَ ضروريّة ثبوت الإنسان الّذي يكون مقيّداً بالنّطق للإنسان.

وإن كان المقيّد به بما هو مقيّد - علىأن يكون القيد داخلاً - فقضيّة (الإنسان ناطق) تنحلّ - في الحقيقة - إلى قضيّتين: إحداهما: قضيّة (الإنسان إنسان) وهي ضروريّة، والأُخرى

___________________

نسبة بين القيد والمقيّد مقصود في الحمل، كسائر المعاني الحرفيّة {فالقضيّة} المركّبة من الموضوع والتّقيّد وذات المقيّد {لا محالة تكون ضروريّة} فيلزم الانقلاب {ضرورة ضروريّة ثبوت الإنسان الّذي يكون مقيّداً بالنطق للإنسان} فلم يَتِمُّ كلام الفصول.

أقول: الظّاهر أنّ كلمة (بالنطق) من سهو القلم والصّواب مكانه (بالضحك) كما يدلّ عليه سوق كلام الفصول وتصريح الشّريف، فتأمّل.

وأشكل بعض الأعلام بأنّ المقيّد بالإمكاني لا يكون إلّا إمكانيّاً، فدعوى الفصول في هذه الصّورة حقّ.

{وإن كان} المحمول هو {المقيّد بما هو مقيّد على أن يكون القيد داخلاً} كالمقيّد والتّقيّد وكان الدّخول عرضيّاً - وهو القسم الثّالث - فهذا باطل من أصله، لعدم صحّة حمل المبدأ على الذّات، فلا يكون هذا مورد كلام الفصول حتّى يضرّ بدعوى الانقلاب أو لا يضر.

وإن كان المحمول هو المقيّد بما هو مقيّد، على أن يكون القيد والمقيّد والتّقيّد كلّها داخلات، وكان دخول القيد طوليّاً - وهو القسم الرّابع - {فقضيّة (الإنسان ناطق} أو ضاحك) كما سبق {تنحلّ في الحقيقة إلى قضيّتين}:

{إحداهما} مركّبة من الموضوع وذات المحمول، وهي {قضيّة(الإنسان إنسان) وهي ضروريّة}.

{و} القضيّة {الأُخرى} مركّبة من ذات المحمول ووصف المحمول، وهي

ص: 291

قضيّة (الإنسان له النّطق)، وهي ممكنة؛ وذلك لأنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار، كما أنّ الأخبار بعد العلم بها تكون أوصافاً، فعقد الحمل ينحلّ إلى القضيّة، كما أنّ عقد الوضع

___________________

{قضيّة (الإنسان له النّطق) وهي ممكنة} وحينئذٍ فلا يتمّ كلام الفصول بعدم الانقلاب، إذ القضيّة الممكنة المحضة انقلبت إلى ضروريّة وممكنة، وإن أشكل عليه بعض الأعلام بما لا مجال لذكره في المقام.

وعلى كلّ حال ففي القسم الرّابع تنحلّ القضيّة إلى قضيّتين: فللأُولى نسبة تامّة خبريّة، وللثّانية نسبة ناقصة وصفيّة، وهي بالالتزام تدلّ على نسبة تامّة خبريّة {وذلك} أي: إنّما تنحلّ القضيّة إلى هاتين القضيّتين {لأنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار، كما أنّ الأخبار بعد العلم بها تكون أوصافاً} وتوضيحه - كما في حاشية السّلطان - : إنّه إذا لم يكن المخاطب عالماً بثبوت الوصف للموصوف، فلا جرم أنّ المتكلّم يجعله خبراً فيقول: (الإنسان شاعر) مثلاً، ومع علمه بثبوته له يجعله وصفاً، فيقول: (الإنسان الشّاعر كاتب) مثلاً، وحينئذٍ فإذا كان الوصف مشتقّاً فهو باعتبار الموضوع خبر، لعدم العلم به وباعتبار ذات المحمول وصف للعلم به.

وبهذا ظهر وجه انحلال القضيّة إلى قضيّتين، وهذا الانحلال إنّما يكون في طرف المحمول {فعقد الحمل ينحلّ إلى القضيّة} وذلك لما تقدّم من أنّ المحمول مشتمل على نسبة ناقصة مستلزمة لنسبة خبريّة{كما أنّ عقد الوضع} ينحلّ إلى قضيّة.

بيانه: - كما ذكروا في علم الميزان - : أنّا إذا قلنا: (الإنسان حيوان) فكلّ من الموضوع والمحمول ينحلّ إلى جزءين: الذّات والوصف، فمعنى (الإنسان): ذات له الإنسانيّة، ومعنى (الحيوان): ذات له الحيوانيّة، والحمل لا يعقل أن يكون بين ذات المحمول وذات الموضوع؛ لأنّ إثبات الذّات لنفسه ضروريّ، وحينئذٍ فنقول: إنّ ذات الموضوع كما يتّصف بوصف وعنوانه الّذي هو عينه أو جزؤه أو خارجه،

ص: 292

ينحلّ إلى قضيّةٍ مطلقةٍ عامّة عند الشّيخ، وقضيّةٍ ممكنة عند الفارابي(1)،

___________________

كذلك يتّصف بوصف المحمول، ويسمّى الأوّل عقد الوضع، والثّاني عقد الحمل، والأوّل تركيب تقييدي، والثّاني تركيب خبري.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أضاف إلى ذلك عقداً ثالثاً سمّاه عقد الحمل، وهو انحلال نفس المحمول إلى ذات ووصف، وهذا أيضاً تركيب تقييدي مستلزم لنسبة خبريّة.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ عقد الحمل على اصطلاح المشهور مكيّف بإحدى الكيفيّات الثّمانية - أعني: الضّروره والدّوام والإمكان وغيرها - وأمّا عقد الوضع ففيه خلاف بين الشّيخ الرّئيس أبي علي ابن سينا وبين المعلّم الثّاني أبي نصر الفارابي، فإنّه {ينحلّ إلى قضيّة مطلقة عامّة عند الشّيخ} فيلزم فيه الفعليّة، من غير فرق بين أن يكون في الماضي أو الحال أو المستقبل، حتّى أنّه لا يصحّ الحكم بالمحمول على ما لا يتّصف بوصف الموضوع دائماً {وقضيّة ممكنة عند الفارابي} فلا يلزمالفعليّة بل يكفي الإمكان.

مثلاً لو قلنا: (كلّ أبيض كذا) فعلى رأي الشّيخ إنّ الحكم بالكذائيّة على كلّ ما اتصف بالبياض في أحد الأزمنة الثّلاثة، وعلى مذهب الفارابي إنّه على كلّ ما أمكن أن يتّصف بالبياض ولو لم يتّصف به في زمن أصلاً، فعلى مذهبه يتناول الحكم الزّنوج، بخلافه على مذهب الشّيخ.

ولا يذهب عليك أنّ مراد الفارابي من الإمكان العام المقيّد بجانب الوجود المقابل للامتناع، فلا يرد عليه ما قيل: إِنّه إن أراد الإمكان الخاص خرجت القضايا الّتي كان اتصاف الموضوع بالعنوان فيها ضروريّاً، كقولنا: (كلّ إنسان حيوان) و(كلّ حجر جماد) ونظائرهما، وإن أراد به الإمكان العام لا يصدق قضيّة

ص: 293


1- شرح المطالع: 128.

فتأمّل.

لكنّه(قدس

سره) تنظّر في ما أفاده بقوله: «وفيه نظر؛ لأنّ الذّات المأخوذة مقيّدةً بالوصف - قوّة أو فعلاً - إن كانت مقيّدةً به واقعاً صَدَقَ الإيجابُ بالضّرورة، وإلّا صَدَقَ السَّلْبُ بالضّرورة،

___________________

كليّة أصلاً، لشمولها حينئذٍ الأفراد الّتي يمتنع اتصافها بالوصف العنواني. وكذا ليس المراد بالإمكان القوّة - كما توهّم - ، فلا ينتقض بلزوم صدق كلّ إنسان حيوان على النّطفة، مع أنّها ليست بحيوان بديهة.

ولا يخفى أنّ مذهب الشّيخ هو المختار؛ لأنّه المتبادر في العرف واللّغة {فتأمّل} يمكن أن يكون أمره بالتأمّل إشارة إلى ما تقدّم من الإشكال في الشّقّ الأوّل، وما أُشير إليه من الإشكال في الشّقّ الثّاني، فراجع.

{لكنّه} أي: صاحب الفصول {(قدس سره) تنظّر في ماأفاده بقوله: «وفيه نظر} وبيان ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ الموضوع قد يؤخذ بشرط المحمول، وقد يؤخذ بشرط عدم المحمول، وقد يؤخذ لا بشرط.

مثلاً قولنا: (زيد كاتب) فزيد قد يؤخذ بشرط الكتابة، فيكون المحمول ضروريّاً، لعدم تعقّل انفكاك زيد الكاتب عن الكتابة، وقد يؤخذ بشرط عدم الكتابة، فيكون سلب المحمول ضروريّاً، لعدم تعقّل اتصاف زيد اللّا كاتب بالكتابة، وقد يؤخذ لا بشرط الكتابة ولا بشرط عدمها، وهذا ممكن الاتّصاف بكلّ منهما.

إذا عرفت ذلك تبيّن لك أنّ قول صاحب الفصول: «وليس ثبوته حينئذٍ بالضرورة» في الجواب عن الشّقّ الثّاني، غير مستقيم {لأنّ الذّات المأخوذة مقيّدة بالوصف قوّة أو فعلاً إن كانت مقيّدة به واقعاً} بأن أخذ بشرط المحمول {صدق الإيجاب بالضرورة} فيصحّ الانقلاب الّذي ذكره الشّريف {وإلّا} يكن مقيّدة بالوصف بل مقيّدة بعدم الوصف {صدق السّلب بالضرورة} كما أنّه إذا أخذ لا بشرط

ص: 294

مثلاً لا يصدق: (زيد كاتب بالضّرورة) لكن يصدق: (زيد الكاتب بالقوّة أو بالفعل بالضّرورة)»(1)،

___________________

لا يصدق أحدهما {مثلاً لا يصدق (زيد كاتب بالضرورة)} لعدم أخذ المحمول في الموضوع {لكن يصدق (زيد الكاتب بالقوّة أو بالفعل بالضرورة)»} لأخذ المحمول في الموضوع.هذا مراد الفصول على مشرب بعض، ومعناه على مشرب بعض آخر هكذا: «لأنّ الذّات المأخوذة مقيّدة بالوصف» أي: وصف المحمول سواء كان الوصف «قوّة» نحو (زيد الأُمّي كاتب بالإمكان)، «أو فعلاً» من غير فرقٍ في الفعليّة بين الملكة والصّنعة والتّلبّس «إن كانت» هذه الذّات «مقيّدة به» أي: بالوصف «واقعاً» بأن أخذ الوصف مقيّداً بمادّة نسبته الواقعيّة «صدق الإيجاب بالضرورة»، مثلاً: ذات زيد إذا كانت كاتبة بالإمكان، صَدَقَ (زيد كاتب بالإمكان) ويلزم صدق (زيد الكاتب بالإمكان بالضرورة) - يعني أنّ إمكان الكتابة لزيد ضروريّ - وحينئذٍ يلزم الانقلاب الّذي ذكره الشّريف «وإلّا» تكن الذّات المقيّدة بالوصف مقيّدة به واقعاً، كأن لم تكن ذات زيد كاتبة بالإمكان «صدق السّلب بالضرورة» إذ يصدق (زيد ليس بكاتب بالإمكان) المستلزم لصدق (زيد ليس بكاتب بالإمكان بالضّرورة).

ولا يذهب عليك أنّ هذه الضّرورة في الإيجاب والسّلب بيان للصّدق وعدم الصّدق، لا بيان لكيفيّة النّسبة بين الموضوع والمحمول، ولهذا - مثلاً - لا يصدق زيد كاتب بالضرورة؛ لأنّ ظاهر كلمة «بالضّرورة» كونها بياناً للنّسبة، مع أنّ النّسبة ليست ضروريّة، و«لكن يصدق زيد الكاتب بالقوّة» في الأُمّي «أو بالفعل» في غيره «بالضّرورة» لأنّ ظاهر كلمة «الضّرورة» حينئذٍ - بعد بيان كيفيّة

ص: 295


1- الفصول الغرويّة: 61.

انتهى.

ولا يذهب عليك: أنّ صدق الإيجاب بالضّرورة - بشرط كونه مقيّداً به واقعاً - لا يصحّح دعوى الانقلاب إلى الضّروريّة؛ ضرورةَ صدق الإيجاب بالضّرورة بشرط المحمول في كُلِّ قضيّةٍ ولو كانت ممكنة،

___________________

النّسبة - كونها بياناً للصّدق، يعني: أنّ إمكان الكتابة لزيد أو فعليّتها ضروري.وبهذا تبيّن أنّ ما ثبت في نسخ الكفاية - من قوله: «زيد الكاتب بالقوّة أو بالفعل كاتب بالضرورة» - غلط، مع أنّه مخالف لعبارة الفصول، فراجع {انتهى} كلام الفصول مع تفسيريه.

ثمّ إنّ المصنّف اختار الوجه الأوّل من التّفسيرين، ولهذا أجاب بقوله: {ولا يذهب عليك أنّ صدق الإيجاب بالضرورة بشرط كونه} أي: كون الموضوع {مقيّداً به واقعاً} أي: بالمحمول - على ما تقدّم بيانه - خارج عن محلّ البحث في المقام، إذ البحث في أنّ أخذ الذّات في مفهوم المشتق يوجب انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضّروريّة أم لا؟ وأمّا ما ذكره صاحب الفصول من الانقلاب فليس من جهة أخذ الذّات في مفهوم المشتقّ، بل من جهة أخذ المحمول شرطاً في الموضوع.

والحاصل: أنّ الانقلاب الّذي ذكره الشّريف آتٍ من جهة أخذ الموضوع في المحمول، والانقلاب الّذي ذكره الفصول آتٍ من جهة أخذ المحمول في الموضوع، فمصبّهما مختلف، فلا يكون أحدهما مؤيّداً للآخر، فإنّ أخذ المحمول في الموضوع {لا يصحّح دعوى الانقلاب إلى الضّروريّة} الّذي رامه الشّريف {ضرورة صدق الإيجاب بالضّرورة بشرط المحمول في كلّ قضيّة ولو كانت ممكنة} ولو لم يؤخذ الذّات في مفهوم المشتق، بل ولو لم يكن المحمول مشتقّاً أصلاً.

ص: 296

كما لا يكاد يضرّ بها صدق السّلب كذلك بشرط عدم كونه مقيّداً به واقعاً؛ لضرورة السّلب بهذا الشّرط.

وذلك لوضوح أنّ المناط في الجهات وموادّ القضايا إنّما هو بملاحظة أنّ نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجّهة بأيّ جهةٍ منها، ومع أيّةٍ منها في نفسها صادقةٌ، لا بملاحظة ثبوتها له واقعاً أو عدم ثبوتهاله كذلك، وإلّا كانت الجهة منحصرةً بالضّرورة؛

___________________

فصدق هذه الضّرورة لا تضرّ بالممكنة {كما لا يكاد يَضُرُّ بها صدق السّلب كذلك} أي: بهذه الضّرورة {بشرط عدم كونه} أي: عدم كون الموضوع {مقيّداً به} أي: مقيّداً بالمحمول {واقعاً} والأحسن في العبارة أن يقول: «بشرط تقيّده بالعدم» فإنّه مفاد بشرط لا، وأمّا عدم التّقيّد فهو مفاد اللّابشرطيّة وكأنّ المصنّف(رحمة الله) راعى المقابلة بينه وبين قوله - في السّابق - : «بشرط كونه مقيّداً به».

وعلى كلّ تقدير فاللّازم ملاحظة الموضوع في نفسه، لا بشرط المحمول ليكون ضروري الإيجاب، ولا بشرط عدم المحمول {لضرورة السّلب بهذا الشّرط، و} وجه {ذلك} الّذي ذكرنا من عدم تصحيح الانقلاب بأخذ الموضوع بشرط المحمول في الموجبة وعدم المضرّة في السّالبة {لوضوح أنّ المناط في الجهات} اللّفظيّة(1) {وموادّ القضايا} الواقعيّة {إنّما هو بملاحظة} أخذ الموضوع لا بشرط وتصوّر {أنّ نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجّهة بأيّ جهة منها} أي: من الجهات والمواد الثّمانية، {ومع أيّة منها في نفسها صادقة، لا} أنّ المناط في الجهات {بملاحظة} أخذ الموضوع بشرط شيءٍ في الموجبة، أي: بشرط {ثبوتها} أي: ثبوت المحمولات {له} أي: للموضوع {واقعاً، أو} بملاحظة أخذ الموضوع بشرط لا في السّالبة، أي: بشرط {عدم ثبوتها له كذلك} واقعاً {وإلّا} يكن الموضوعلا بشرطٍ {كانت الجهة} في جميع القضايا {منحصرة بالضرورة} في الإيجاب

ص: 297


1- قد تقدّم أنّ كيفيّة النّسبة الواقعيّة تسمّى بالمادّة واللّفظيّة تسمّى بالجهة.

ضرورةَ صيرورة الإيجاب أو السّلب - بلحاظ الثّبوت وعدمه - واقعاً ضروريّاً، ويكون من باب الضّرورة بشرط المحمول.

وبالجملة: الدّعوى هو انقلاب مادّة الإمكان بالضّرورة في ما ليست مادّته واقعاً في نفسه وبلا شرط غيرَ الإمكان.

___________________

والسّلب {ضرورة صيرورة الإيجاب أو السّلب بلحاظ الثّبوت} أي: ثبوت المحمول في الموجبة {وعدمه واقعاً} أي: بلحاظ عدم ثبوت المحمول في السّالبة {ضروريّاً} خبر صار {ويكون} حينئذٍ {من باب الضّرورة بشرط المحمول} وهو ساقط عن درجة الاعتبار.

{وبالجملة الدّعوى} أي: دعوى الشّريف {هو انقلاب مادّة الإمكان بالضرورة} إذا أخذ في المشتق مصداق الذّات {في ما} أي: في قضيّة {ليست مادّته واقعاً في نفسه وبلا شرط} محمول {غير الإمكان} نحو (زيد كاتب) وتأييد الفصول هو انقلاب مادّة الإمكان إلى الضّروره في ما أخذ الموضوع بشرط المحمول وبينهما بون بعيد.

هذا كلّه جواب المصنّف(رحمة الله) على تقدير إرادة صاحب الفصول التّفسير الأوّل.

وأمّا على تقدير إرادته التّفسير الثّاني، فالجواب عنه - كما في حاشية بعضالأعلام(1) بتوضيح منّا - : أنّه لا دخل له بأخذ الذّات في مفهوم المشتق، إذ ليس انقلاب الممكنة إلى الضّروريّة جاء من قِبَل أخذ الذّات في مفهوم المشتق - الّذي هو المدّعى للمحقّق الشّريف - ، وإنّما جاء من قبل تقييد الوصف بمادّة نسبته واقعاً، ولذا لو فرض إخلاء القضيّة من لفظ المشتق كان اللّازم ذلك - الّذي ذكره صاحب الفصول - إذ كلّما صدق (زيد له الكتابة بالإمكان) يصدق (زيد له الكتابة الممكنة بالضرورة) وأين هذا ممّا نحن فيه، انتهى.

ولا يذهب عليك أنّ جواب المصنّف صار موقع اشتباه لبعض المحشّين، فزعم

ص: 298


1- راجع ما أفاده السلطان في الحاشية على كفاية الأصول 1: 265.

___________________

أنّ ما يقوله المصنّف وينسبه إلى صاحب الفصول من الضّرورة بشرط المحمول موافق لكلام السُّهْرَوَرْدِيّ، فلا يخلو التّنبيه عليه من فائدة، فنقول:

الممكن محفوف بوجوبين وبعدمين.

أمّا الوجوب الأوّل: فهو الوجوب السّابق الّذي يثبت من ناحية علّته، ومن هنا يقولون: «إنّ الشّيء ما لم يجب لم يوجد» أي: ما لم تصر علّته تامّة ولم ينسدّ جميع أنحاء عدمه من طرف العلّة، وإلّا لزم التّرجيح من غير مرجّح وهو محال.

وأمّا الوجوب الثّاني: فهو الوجوب اللّاحق الّذي هو الضّرورة بشرط المحمول، فإنّ الموضوع بشرط ثبوت المحمول له بحسب الواقع يمتنع ثبوت نقيضه له.

وأمّا العدم الأوّل: فهو عدمه من ناحية عدم العلّة.

وأمّا العدم الثّاني: فهو العدم محمولٍ خاصٍّ له.

ثمّ إنّ الشيخ الإشراقي شِهاب الدّين السّهرورديّ أرجع جميع الموجّهات إلى الضّروريّة وقال في محكي حكمة الإشراق ما لفظه: «لمّا كان الممكن إمكانهضروريّاً،

والممتنع امتناعه ضروريّاً، والواجب وجوبه أيضاً كذلك، فالأولى أن يجعل الجهات - من الوجوب وقسيميه - أجزاءً للمحمولات، حتّى تصير القضيّة على جميع الأحوال ضروريّة، كما تقول: (كلّ إنسان بالضرورة هو يمكن أن يكون كاتباً، أو يجب أن يكون حيواناً، أو يمتنع أن يكون حجراً)، فهذه هي الضّرورة البتّانة، فإنّا إذا طلبنا في العلوم إمكان شيء أو امتناعه فهو جزء مطلوبنا - أي: لا أنّه جهة له، بل الجهة في الكلّ هي الضّرورة المطلقة - ولا يمكننا أن نحكم حكماً جازماً إلّا ممّا نعلم أنّه بالضرورة كذا، فلا نورد من القضايا إلّا البتّانة»(1)،

انتهى.

قال السّبزواري في ردّه:

ص: 299


1- شرح المنظومة 1: 263.

___________________

«لكنّنا قد اقتفينا إثرهم إذ ذلك التّفصيل شرح ما حتم

أي: للضّرورة مراتب متفاوتة، فينبغي أن ينبّه على أنّ الضّرورة الذّاتيّة غير الضّرورة الوصفيّة وغير الضّرورة الموقّتة، وإنّ الّتي مع استحالة الانفكاك غير الّتي في ضمن الدّوام الّذي لا معها وقس عليها. نعم، مطلق الضّرورة أصل محفوظ فيها»(1)، انتهى.

إذا عرفت هذين الأمرين علمت أنّ الضّرورة بشرط المحمول الّذي ادّعاها المصنّف(رحمة الله) غير الضّرورة الّتي ادّعاها شيخ الإشراق، إذ معنى الأوّل ضرورة ثبوت المحمول للموضوع وحمله عليه، ومعنى الثّاني ضرورة إمكان المحمول للموضوع. وإنّما أطلنا الكلام في المقام لما رأينا من صعوبة بعض هذه الاصطلاحات الدّائرة في الأصول على بعض الأذهان.

وقد تحصّل من الأمر الأوّل إلى هنا كلام الشّريف بشقّيه، وإشكال الفصول علىشقّة الأوّل، وإشكال المصنّف على ردّ الفصول وجواب المصنّف عن الشّقّ الأوّل وجواب الفصول عن الشّقّ الثّاني من كلام الشّريف، وردّ المصنّف على جواب الفصول وإشكال الفصول على جوابه عن الشّقّ الثّاني، وإشكال المصنّف عليه(2).

ص: 300


1- شرح المنظومة 1: 264.
2- فالشقّ الأوّل هو قوله: «إنّ مفهوم الشّيء...»، والشّقّ الثّاني هو قوله: «ولو اعتبر فيه...»، وإشكال الفصول هو قوله: «وقد أورد عليه في الفصول...، وإشكال المصنّف على ردّ الفصول هو قوله: «وفيه أنّه من المقطوع...»، وجواب المصنّف على الشِّقّ الأوّل هو قوله: «والتّحقيق أن يقال...»، وجواب الفصول عن الشّقّ الثّاني هو قوله: «ثمّ قال إنّه يمكن أن يختار...»، وردّ المصنّف على جواب الفصول هو قوله: «ويمكن أن يقال إنّ عدم...»، وإشكال الفصول على جوابه عن الشّقّ الثّاني هو قوله: «لكن(قدس سره) تنظّر...»، وإشكال المصنّف عليه هو قوله: «ولا يذهب عليك أنّ صدق...». ثمّ إنّ هنا كلامين آخرين يأتي: الأوّل: إشكال الفصول على الشّريف بأنّه لم جعل التّالي في الشّرطيّة الثّانية خاصّاً بهما، فهذا التّالي يجري في الشّرطيّة الأُولى أيضاً، وأشار إليه بقوله: «وقد انقدح بذلك عدم نهوض...». الثّاني: جواب المصنّف عن هذا الإشكال، وأشار إليه بقوله: «فإنّ لحوق مفهوم الشّيء...» فتلك عشرة كاملة.

___________________

ولمّا تنظّر الفصول في ما أورده على الوجه الثّاني المنقول عن الشّريف أنّ الانقلاب الّذي ادّعاه الشّريف موجود، ولا يدفعه تقييد الموضوع قال ما لفظه: «ولا يذهب عليك أنّه يمكن التّمسّك بالبيان المذكور على إبطال الوجه الأوّل أيضاً؛ لأنّ لحوق مفهوم الذّات أو الشّيء لمصداقيهما أيضاً ضروريّ ولا وجه لتخصيصه بالوجه الثّاني»(1)،

انتهى(2).وحاصله: على ما أظنّ أنّه(رحمة

الله) أجرى إشكال الانقلاب الّذي أورده الشّريف على الشّقّ الثّاني في الشّقّ الأوّل، وهو ما إذا أخذ مفهوم الشّيء في معنى المشتق وهناك مقدّمة مطويّة وهي: أنّه كما يلزم من دخول الذّات في المشتق الانقلاب، كذلك يلزم من دخول المفهوم في المشتق الانقلاب، إلّا أنّ الأوّل انقلاب الضّروريّة - كالفصل - إلى الممكنة، والثّاني انقلاب الممكنة - كالكاتب - إلى الضّروريّة.

وهذا هو المراد بقوله: «ولا وجه» الخ، أي: لا وجه لتخصيص الشّريف الانقلاب بالوجه الثّاني وهو أخذ الذّات في المشتق، بل يجري الانقلاب في الوجه الأوّل وهو أخذ المفهوم في المشتق.

ص: 301


1- الفصول الغرويّة: 62.
2- وبيانه - كما في حاشية السّلطان دام بقاه - : «أنّه لو كان مفهوم الشّيء مأخوذاً في المشتق كقولنا: (الإنسان ضاحك) لزم كون هذه القضيّة ضروريّة؛ لأنّ مفهوم الشّيء وإن لم يكن ذاتيّاً للأشياء بالمعنى الإيساغوجي الّذي هو الجنس والفصل، لكنّه ذاتيّ بالمعنى المصطلح عليه في كتاب البرهان، بمعنى كونه منتزعاً عن مقام ذات الأشياء بلا واسطة، فيكون لحوقه لها ضروريّاً ولو كان مقيّداً بالضحك فضلاً عن كونه مقيّداً بالنطق فيلزم الانقلاب. وفيه ما أفاده الأستاذ من أنّ لحوق الشّيء المطلق ضروريّ لا الشّيء المقيّد بالضحك مثلاً. اللّهمّ إلّا أن يجعل المحمول قيداً للموضوع فيصير ضرورة بشرط المحمول وهذا خروج عمّا نحن فيه؛ لأنّ المدّعى انقلاب مادّة الإمكان بالضرورة في ما ليست مادّته واقعاً في نفسه - مع قطع النّظر عن الشّرط المذكور - غير الإمكان»؛ الحاشية على كفاية الأصول 1: 265.

وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده(رحمة الله) بإبطال الوجه الأوّل - كما زعمه(قدس سره) - فإنّ لحوق مفهوم الشّيء والذّات لمصاديقهما إنّما يكون ضروريّاً مع إطلاقهما، لا مطلقاً

___________________

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من ردّ قول الفصول بالانقلاب {عدم نهوض ما أفاده(رحمة الله)} صاحب الفصول من جعل الضّرورة بشرط المحمول {بإبطال الوجه الأوّل} أي: إبطال أخذ مفهوم الشّيء في المشتق {كما زعمه(قدس سره)} حيث قال: «ولا يذهب عليك أنّه يمكن» الخ(1).ووجه عدم النّهوض يحتاج إلى تمهيد مقدّمةٍ، وهي: أنّ مفهوم الشّيء الدّاخل في معنى المشتق على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: الشّيء مطلقاً الأعمّ من المطلق والمقيّد.

الثّاني: الشّيء المطلق.

الثّالث: الشّيء المقيّد.

فالأوّل لا بشرط، والثّاني بشرط لا، أي: بشرط عدم التّقييد، والثّالث بشرط شيء.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ ما زعمه الفصول - من أنّ أخذ مفهوم الشّيء في المشتقّ يوجب الانقلاب - غيرُ صحيح، {فإنّ} الفصول إن أراد من لحوق الشّيء بالمشتق {لحوق مفهوم الشّيء، و} مفهوم {الذّات لمصاديقهما} فهو {إنّما يكون ضروريّاً مع إطلاقهما} أي: إطلاق مفهوم الشّيء والذّات وهو القسم الثّاني، وحينئذٍ فضروريّته مسلّم لكن ليس محلّ الكلام، إذ لا يحمل الشّيء المطلق على الذّات، فليس معنى (الإنسان كاتب): الإنسان شيء مطلق.

والحاصل: أنّ مفهوم الشّيء المطلق ضروريّ {لا مطلقاً} أعمّ من المطلق والمقيّد

ص: 302


1- هذا على مذاق المصنّف من تفسيره لكلام الفصول ويظهر الوجه الآخر من التّفسير ممّا تقدّم، فتدبّر.

ولو مع التّقيّد، إلّا بشرط تقيّد المصاديق به أيضاً، وقد عرفت حال الشّرط، فافهم.

ثمّ إنّه لو جَعَلَ التّالي في الشّرطيّة الثّانية

___________________

وهو القسم الأوّل، فإنّ صاحب الفصول لو أراده كان باطلاً، إذ مفهوم الشّيءبمعناه الأوّل ليس ضروريّاً(1).

كيف والحال أنّ الشّيء مطلقاً يصدق {ولو مع التّقيّد} فإنّ المقيّد أحد افراد المطلق، ومن البديهي عدم ضروريّة المقيّد، فإنّ الشّي الكاتب ليس ضروريّاً للإنسان، وببطلان ضروريّة المطلق تبيّن بطلان ضروريّة القسم الثّالث، وهو: الشّيء بقيد الكاتب.

اللّهمّ {إلّا} أن يقال بضروريّة الشّيء المقيّد للموضوع {بشرط تقيّد المصاديق} أي: أفراد الموضوع {به} أي: بالمحمول {أيضاً} كما كان الشّيء مقيّداً به، وحينئذٍ تتحقّق الضّرورة بشرط المحمول، {و} لكن أخذ الموضوع بشرط المحمول غيرُ صحيحٍ، لما {قد عرفت} من {حال الشّرط} وأنّه لا يصحّح الانقلاب {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما تقدّم من أنّ ظاهر عبارة الفصول ليس الضّرورة بشرط المحمول، حتّى يرد عليه بأنّ الكلام ليس في هذه الضّرورة، بل ظاهر كلامه ضرورة النّسبة الواقعيّة أعمّ من الإمكان وغيره، وحينئذٍ فجوابه ما تقدّم مِن أنّ صيرورة القضيّة ضروريّةً ليست لأجل أخذ المفهوم في المشتق، بل لأجل تقيّد الموضوع بالمحمول وهو خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّ الكلام في الانقلاب إلى الضّروريّة لأجل أخذ مفهوم الشّيء.

{ثمّ إنّه} أي: الشّريف {لو جعل التّالي في الشّرطيّة الثّانية} وهو قوله: «ولو اعتبر فيه ما صدق عليه الشّيء، انقلبت مادّة الإمكان الخاص ضرورة»

ص: 303


1- والحاصل: أنّ الشّيء مطلقاً ولو كان ضروريّاً ولكن ليس محلّ الكلام، والشّيء المطلق والشّيء المقيّد هما محلّ الكلام لكنّهما ليسا بضروريّ، فالضروريّ غير محلّ الكلام ومحلّ الكلام ليس بضروريّ.

لزومَ أخذِ النَّوْعِ في الفصل - ضرورةَ أنّ مصداق الشّيء الّذي له النّطق هو الإنسان -

كان أليق بالشّرطيّة الأُولى، بل كان أولى؛لفساده مطلقاً ولو لم يكن مثل: (النّاطق) بفصلٍ حقيقيٍّ؛ ضرورةَ بطلان أخذ الشّيء في لازمه وخاصّته، فتأمّل جيّداً.

___________________

{لزوم أخذ النّوع في الفصل، ضرورة أنّ مصداق الشّيء الّذي له النّطق هو الإنسان} فلو كان الإنسان داخلاً في النّاطق لزم ما ذكر {كان} هذا التّالي {أليق ب} التّالي في {الشّرطيّة الأُولى} إذ تالي الشّرطيّة الأُولى لزوم أخذ العرض العام في الفصل، ووجه الأولويّة كون كلا المحذورين واردين في مثال واحد.

{بل كان} هذا التّالي الّذي ذكرنا {أولى} من جعل التّالي في الشّرطيّة الأُولى دخول العرض العام في الفصل {لفساده} أي: فساد ما ذكرنا من التّالي {مطلقاً} سواء كان النّاطق فصلاً حقيقيّاً أم لم يكن {و} ذلك بخلاف التّالي الّذي ذكره الشّريف، فإنّه {لو لم يكن مثل: (النّاطق) بفصل حقيقي} لم يكن التّالي باطلاً - كما تقدّم - أمّا وجه فساد ما ذكرنا من التّالي مطلقاً فل {ضرورة بطلان أخذ} مفهوم {الشّيء في لازمه وخاصّته} فإنّ النّاطق ولو لم يكن فصلاً لكنّه لازم وخاصّة للفصل يقيناً {فتأمّل جيّداً} حتّى لا تشتبه عليك الكلمات وهي عشرة كاملات - كما سبق في الحاشية - .

قال المشكيني(رحمة الله): «وقد تبيّن من جميع ما ذكرنا أنّه لا يتمّ البرهان الّذي ذكره الشّريف، أمّا الشّقّ الأوّل فلأنّ اللّازم أخذ العرض في الخاصّة، وأمّا الشّقّ الثّاني فلأنّك قد عرفت عدم الانقلاب أصلاً، على أنّك قد عرفت سابقاً أنّ المأخوذ هو المفهوم لا المصداق؛ لأنّه لا صحّة له في نفسه، ومنه يظهر عدملزوم أخذ النّوع في العرض أو هو في الفصل»(1)،

انتهى.

ص: 304


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 283.

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على البساطة بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل: (زيد الكاتب)، ولزومُهُ من التّركّب وأخذِ الشّيء - مصداقاً أو مفهوماً - في مفهومه.

إرشاد

___________________

{ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على البساطة} أي: بساطة مفهوم المشتقّ بما استدلّ به المحقّق الدّواني(1)

{بضرورة عدم تكرّر الموصوف في} المشتقّات المحمولة {مثل: (زيد الكاتب) ولزومه} أي: مع أنّه يلزم التّكرار {من التّركّب} قطعاً، إذ يكون هناك موصوف أوّل وهو المبتدأ وموصوف ثان وهو الجزء الأوّل من المحمول المركّب {و} ذلك من غير فرقٍ بين {أخذ الشّيء} - وهو الموصوف الثّاني {مصداقاً أو مفهوماً - في مفهومه} أي: في مفهوم المشتق، لوضوح أنّه لو دخل في مفهوم (الأبيض) الشّيء كان معنى قولك: (الثّوب الأبيض) الثّوب الشيء الأبيض، ولو دخل فيه مصداق الشّيء - وهو الثّوب في المثال - كان معنى الجملة الثّوب الثّوب الأبيض، وكلاهما ضروري البطلان لتبادر خلافهما.

[إرشاد]

{إرشاد} في معنى بساطة المشتق، اعلم أنّ البساطة تطلق على معنيين:

الأوّل: البساطة بحسب المفهوم، والمراد بها كون حضور المفهوم في الذّهنحضوراً لمعنى واحد ك(الإنسان)، ويقابل هذا القسم المركّب بحسب المفهوم، وهو الّذي يكون حضوره حضوراً للمتعدد نحو (رامي الحجارة).

الثّاني: البساطة بحسب الحقيقة، والمراد بها عدم انحلال المفهوم ولو بالتّعمّل العقلي، ويقابل هذا القسم المركّب بحسب الحقيقة، وهو ما ينحلّ بنظر العقل وتعمّله ولو إلى الجنس والفصل، ف(الإنسان) مركّب بهذا الاعتبار و(النّاطق)

ص: 305


1- استدلّ بهذا الدليل في حاشيته على شرح التجريد للقوشجي، كما واستدلّ به المحقّق السبزواري في تعليقته على الأسفار.

لا يخفى: أنّ معنى البساطة - بحسب المفهوم - وحدتُهُ إدراكاً وتصوّراً، بحيث لا يتصوّر عند تصوّره إلّا شيءٌ واحدٌ، لا شيئان، وإن انحلّ بتعمّل من العقل إلى شيئين، كانحلال مفهوم الحجر والشّجر إلى شيءٍ له الحجريّة أو الشجريّة، مع وضوح بساطة مفهومها.

وبالجملة لا ينثلم - بالانحلال إلى الاثنينيّة بالتّعمّل العقليّ - وحدةُ المعنى وبساطةُ المفهوم، كما لا يخفى.

___________________

بسيط - على قولهم - فالبسيط المفهومي أعمّ من البسيط الحقيقي، والمركّب الحقيقي أعمّ من المركّب المفهومي، فبين البسيطين والمركّبين عموم مطلق لكن متعاكساً.

ثمّ {لا يخفى أنّ معنى البساطة بحسب المفهوم} الّذي ندّعيه في المشتق {وحدته} أي: وحدة المعنى {إدراكاً وتصوّراً} فإنّ حضور المشتق في الذّهن حضور شيء واحد {بحيث لا يتصوّر عند تصوّره إلّا شيء واحدٌ} فتصوّر (الأبيض والأسود والضّارب) يرادف تصوّر (سفيد و سياه و زننده) في الفارسيّة، و{لا} يحضر {شيئان} بالوِجدان {وإن} كان هذا البسيط المفهومي مركّباً حقيقيّاً، بأن {انحلّ بتعمّل من العقلإلى شيئين} فلا تنافي بينهما، إذ البساطةُ في حاق الذّهن، والتّركيبُ في ظرف التحليل، وذلك {كانحلال مفهوم الحجر والشّجر} مع أنّهما بسيطان مفهوماً {إلى شيء له الحجريّة أو الشّجريّة} فهما منحلّان تعمّلاً {مع وضوح بساطة مفهومها} ذهناً.

وبهذا تبيّن الجواب عن الكلام الّذي ذكره الفصول في أوّل المبحث من التّنافي بين ما اشتهر من تركيب المشتق وبين بساطته.

والحاصل: أنّه لا منافاة بين البساطة الذّهنيّة والتّركيب العقلي، فلا يرد على البساطة ما يذكره القوم من أنّ الضّارب معناه شيء له الضّرب {وبالجملة لا ينثلم بالانحلال} أي: انحلال المشتق كغيره {إلى الاثنينيّة بالتعمّل العقلي وحدة المعنى وبساطة المفهوم} في ظرف الذّهن {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

ص: 306

وإلى ذلك يرجع الإجمال والتّفصيل الفارقان بين المحدود والحدّ، مع ما هما عليه من الاتّحاد ذاتاً، فالعقل بالتّعمّل يحلّل النّوع ويفصّله إلى جنسٍ وفَصْلٍ، بعدَ ما كان أمراً واحداً إدراكاً، وشيئاً فارداً تصوّراً، فالتّحليل يوجب فَتْقَ ما هو عليه من الجمع والرّتق.

___________________

{وإلى ذلك} الّذي ذكرنا من البساطة في حاق الذّهن والتّركيب في ظرف التّحليل العقلي {يرجع الإجمال والتفصيل الفارقان بين المحدود والحد، مع ما هما} أي: الحد والمحدود {عليه، من الاتحاد ذاتاً}.

وبهذا يرتفع الإشكال الوارد بأنّ الحد لو كان عين المحدود، لزم إحالةتعريف الشّيء على نفسه، وإن كان بجزئه كان تعريفاً بجزء نفسه الأخفى، وإن كان بخارجه، فإنّ المباين لا يصير معرّفاً، وإلّا لعرف كلّ شيء كلّ شيء.

بيان الرّفع: أنّ المحدود عين الحد ذاتاً وغيره تصوّراً {فالعقل بالتعمّل} والتّكلّف {يحلّل النّوع ويفصّله إلى جنس وفصل} فما يجتمع فيه مع مشاركاته يجعله جنساً وما يختصّ به يجعله فصلاً {بعد ما كان} النّوع {أمراً واحداً إدراكاً} أي: بسيطاً مفهوميّاً {وشيئاً فارداً تصوّراً}.

والحاصل: أنّ التّحليل العقلي في المشتق - كما في الحدّ - لا ينافي وحدة المفهوم {فالتحليل يوجب فتق} أي: تفصيل {ما} أي: المعنى الّذي {هو} أي: المحدود {عليه من الجمع والرّتق} ذهناً، قال في المنظومة:

«فالحدّ بالتركّب اقتناصه *** وذا بأن تستشرفوا أشخاصه

حتّى تروا من أيّ الأجناس العشر *** فتأخذوا مقوّماتها الأُخر

فغبّما رتّب كلّما وجد *** حملاً ومعنى ساوت المحدود حد»(1)

وقال في حاشيته في دفع التّركيب الخارجي في المحدود: «قلت: أخذهما على الوجه المذكور من الماهيّة البسيطة إنّما هو بالتعمّل العقلي، فإنّ البسيط لا

ص: 307


1- شرح المنظومة 1: 185.

الثّاني: الفرق بين المشتقّ ومبدئه مفهوماً: أنّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبّس بالمبدأ، ولا يَعْصِي عن الجري عليه؛ لما هما عليه من نحو من الاتّحاد، بخلاف المبدأ، فإنّه بمعناه يأبى عن ذلك، بل إذا قيس

___________________

مادّة له ولا صورة له إلّا بمجرّد اعتبار العقل، فالتركيب في الحد لا يوجب التّركيب في المحدود وإن كان الحد عين المحدود، إذ التّفاوت بالإجمال والتّفصيل إنّما هو في الملاحظة لا في الملحوظ، لإمكان أخذ المعاني الكثيرة من ذات واحدة»(1)، انتهى. هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل من الأُمور الباقية.

الفرق بين المشتق والمبدأ

الأمر {الثّاني}: في دفع إشكال ورد على المختار في الأمر الأوّل، وحاصله: أنّ من ذهب إلى تركيب المشتق من الذّات والمبدأ صحّ عنده الفرق بين المشتق ومبدئه، وأوجب هذا الفرق صحّة الحمل في أحدهما دون الآخر. وأمّا المصنّف(رحمة الله) وغيره ممّن يرى بساطة المشتق فقد يشكل عليهم بأنّ المشتقّ لمّا لم يكن مأخوذاً فيه الذّات كان عين المبدأ بإضافة النّسبة، فكما لا يصحّ حمل المبدأ على الذّات يلزم أن لا يصحّ حمل المشتق.

والجواب عنه يظهر بعد بيان الفرق بين المشتق والمبدأ فنقول: {الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوماً} بعد عدم اعتبار الذّات فيه {أنّه} أي: المشتق {بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما} أي: على شيء {تلبّس بالمبدأ ولا يعصي عن الجري عليه} وذلك {لما هما عليه من نحو} خاص {من الاتحاد} بحسب الذّات أو بحسب الوجود، فالمشتق موضوع للمبدأ المنتزع عن الذّات، وهذا أوجب صحّة الحمل فيه {بخلاف المبدأ فإنّه بمعناه} الموضوع له {يأبى عن ذلك} الحمل والجري على الموصوف لكونه موضوعاً لنفس المبدأ {بل} المبدأ {إذا قيس} إلى

ص: 308


1- شرح المنظومة (الطبعة الحجرية): 44؛ الشواهد الربوبيّة: 127.

ونسب إليه كان غيره، لا هو هو، وملاك الحمل والجري إنّما هو نحو من الاتّحاد والهوهويّة.

وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما مِن أنّ المشتقّ يكون لا بشرطٍ، والمبدأ يكون بشرطِ لا، أي: يكون مفهوم المشتق غيرَ آبٍ عن الحمل، ومفهوم المبدأ يكون آبياً عنه.

___________________

الموصوف {ونسب إليه كان غيره} لبداهة أنّ الضّرب غير زيد {لا هو هو، و} منتزعاً عنه حتّى يتمّ {ملاك الحمل والجري} إذ ملاك الحمل {إنّما هو نحو من الاتحاد} بين المحمول والمحمول عليه {والهوهويّة} مصدر جعلي من هو هو، فقد تبيّن بما ذكر أنّ المغايرة بينهما مغايرة وضعيّة واقعيّة، بحيث لا يصحّ جعل أحدهما مكان الآخر إلّا بورود خاصّ أو عناية خاصّة.

{وإلى هذا} الفرق الواقعي {يرجع ما ذكره أهل العقول في} مقام {الفرق بينهما من أنّ المشتق يكون لا بشرط، والمبدأ يكون بشرط لا} ومرادهم بهذا الفرق ما تقدّم {أي: يكون مفهوم المشتقّ غير آبٍ عن الحمل} فيصحّ حمله ويصحّ عدم حمله فهو لا بشرط {ومفهوم المبدأ يكون آبياً عنه} فلا يصحّ حمله فهو بشرط لا.

قال الميرزا: «إنّ وجودات الأعراض - كما ثبت في محلّه - في حدّ أنفسها عين وجوداتها لموضوعاتها، بمعنى أنّ العرض غير موجود بوجودين؛ بل وجوده النّفسي عين وجوده الرّبطي، فوجودها في الخارج هو الرّابط بين ماهيّاتها وموضوعاتها، وإلّا فالموضوعات في ذواتها أجنبيّة عن ماهيّاتها ولا رابط بينهماإلّا الوجودات العرضيّة، وحينئذٍ فقد يلاحظ العرض على واقعه بلا مؤونة أُخرى، فحيث إنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه، فلا محالة يكون مرآةً ومعرّفاً لموضوعه ونعتاً له وفانياً فيه، حيث إنّه من أطواره وشئونه، وبهذا الاعتبار يكون عرضيّاً ومشتقّاً، وأُخرى يلاحظ لا كذلك بل بإسقاط تلك الحصّة - وهي كونه

ص: 309

وصاحب الفصول(رحمة الله) - حيث توهّم أنّ مرادهم إنّما هو بيان التّفرقة بهذين الاعتبارين، بلحاظ الطّوارئ والعوارِضِ الخارجيّة مع حفظ مفهومٍ واحدٍ - أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك؛ لأجل امتناع حمل العلم والحركة على الذّات وإن اعتبرا لا بشرطٍ،

___________________

لموضوعه - ويلاحظ بما هو شيء من الأشياء الخارجيّة، فيكون عرضاً مبايناً غير محمول، حيث إنّه بهذه الملاحظة غير موضوعه، فكيف يكون عينه ويعبّر عنه بالمصدر أو اسم المصدر؟» إلى أن يقول: «ولا فرق في ما ذكرنا بين أنحاء الأعراض، فإنّ الجهة المذكورة - وهي كون وجوداتها في أنفسها وجوداً لموضوعاتها - مشتركة بين الجميع، سواء كان قيامها بنحو الصّدور أو الحلول»(1)، انتهى.

{وصاحب الفصول(رحمة الله) حيث توهّم أنّ مرادهم} من اللّابشرطيّة في المشتق وبشرط اللّائيّة في المبدأ {إنّما هو بيان التّفرقة} بين المشتق ومبدئه {بهذين الاعتبارين} من غير دخالة لهما في قوام ذاتي المشتق والمبدأ، بل الفرق {بلحاظ الطّوارئ والعوارض الخارجيّة} عن المعنى الموضوع له {مع حفظ مفهوم واحد} فيهما {أوردعليهم بعدم استقامة الفرق} بين المشتق ومبدئه {بذلك} اللّابشرطيّة وبشرط اللّائيّة الطّارئة، وذلك {لأجل} أنّه لو كان الفرق اعتباريّاً محضاً من دون دخل في قوام المعنى لجاز استعمال كلّ واحد من المشتق والمبدأ في موضع الآخر، إذا لوحظ المشتق بشرط لا والمبدأ لا بشرط.

كما أنّ وحدة المعنى في المطلق والمقيّد موجب لاستعمال كلّ في مقام الآخر إذا جرّد المطلق عن الإطلاق والمقيّد عن التّقييد، مع أنّا نرى من {امتناع حمل العلم والحركة على الذّات} فلا يقال: (زيد علم أو حركة) {وإن اعتبر لا بشرط} وكذلك في عكسه يمتنع أن يقال: (العالم من مقولة الكيف) و(المتحرّك من مقولة كذا) وإن اعتبرا بشرط لا.

ص: 310


1- أجود التّقريرات 1: 73.

وغفل عن أنّ المراد ما ذكرنا، كما يظهر منهم من بيان الفرق بين الجنس والفصل، وبين المادّة والصّورة، فراجع.

___________________

{و} لكنّه(قدس سره) {غفل عن أنّ المراد} بقولهم: «لا بشرط وبشرط لا» {ما ذكرنا} من دخالتهما في قوام المعنى، لا أنّهما طوارئ خارجة عن ذات المعنى {كما يظهر} دخالة الخصوصيّة في المعنى {منهم، من بيان الفرق بين الجنس والفصل، وبين المادّة والصّورة، فراجع}(1).

والحاصل: أنّ تمثيلهم المبدأ والمشتق بالجنس والمادّة والفصل والصّورة - مع أنّ الفرق بينهما حقيقيّ وواقعي - يدلّ على أنّ مرادهم الفرق بين المبدأ والمشتقبالفرق الحقيقي الواقعي لا الاعتباري، وتوضيح المقام يتمّ ببيان أمرين:

الأوّل: بيان الفرق بين اللّابشرط وقسيميه في الذّهن وبينها في الخارج.

الثّاني: بيان الفرق بين المادّة والجنس والفصل والصّورة.

أمّا الأوّل فنقول: قال بعض الأعلام: «اعتبارات الماهية الثّلاثة - أعني: لا بشرطٍ، وبشرط شيءٍ، وبشرطِ لا - تارةً تكون بلحاظ الخارج، كما يقال: الماء - لا بشرط، أو بشرط البرودة، أو بشرط عدم الحرارة - رافِعٌ للعطش.

وأُخرى تكون بلحاظ الاعتبار، فيكون معنى بشرط شيءٍ: الشّيء الملحوظ معه شيء، ومعنى بشرط لا: الملحوظ وحده، ومعنى لا بشرط: الشّيء الملحوظ مع تجويز كونه وحده ولا وحده»(2)،

انتهى.

وأمّا الثّاني فنقول: قال صدر المتألّهين في محكي تعليقه على الشِّفاء ما لفظه:

ص: 311


1- قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «مع وضوح إنّ الجنس من الأجزاء الذّهنيّة والمادّة من الأجزاء الخارجيّة وكذا الفصل والصّورة، وممّن صرّح بأنّ الفرق بينهما بالذات لا بالاعتبار هو الشّيخ الرّئيس في كتاب الشّفا وإن خالفه المحقّق الدّواني وتبعه سيّد المدققين»، انتهى. شرح كفاية الأصول 1: 78.
2- حقائق الأصول 1: 131.

___________________

«اعلم أنّ كلّاً من الجنس والفصل إذا أُخذ لا بشرط شيءٍ كان مبهم الوجود يحتمل أن يصير عين الآخر في الوجود، ولذلك يحملان على شيء واحد ويحمل كلّ منهما على الآخر لاتحادهما في الوجود، وأمّا إذا أُخذ كلّ منهما أو أحدهما بشرط عدم دخول الآخر في وجوده فيصير جزءاً للنّوع المركّب منهما»(1)،

انتهى.

ومراده أنّه لو لوحظ كلّ منهما بنفسه مع قطع النّظر عن الآخر كان بشرط لا، ويعبّر عنهما حينئذٍ بالنفس والبدل، ولو لوحظ كلّ منهما مبهماً، بحيث إذا أُضيف إليه الآخر كان عينه كانا لا بشرط، ويعبّر عنهما حينئذٍ بالجنس والفصل.ثمّ إنّ اعتبار المادّة والصّورة إنّما يكون بالنظر إلى كون كلّ منهما معنى تامّاً في نفسه، ومأخذ هذا الاعتبار كون المادّة قوّة والصّورة فعليّة، كما أنّ اعتبار الجنس والفصل إنّما يكون بالنظر إلى اندكاك كلّ منهما في الآخر، ومأخذ هذا الاعتبار كونهما موجودين بوجود واحد، وهكذا الحال في البياض والأبيض بالنسبة إلى الثّوب.

والحاصل: أنّ المادّة والصّورة موضوعتان للجزء فقط، والجنس والفصل موضوعان للجزء المطلق.

قال السّبزواري في حاشية قوله: «إنّ كلّاً من هاتين - المادّة والصّورة - مع كلّ من هذين - الجنس والفصل - مختلف اعتباراً» ما لفظه: «أي: المادّة متحدة مع الجنس الطّبيعي ذاتاً ومختلفة معه باعتباري بشرط لا ولا بشرط، وكذا الصّورة مع الفصل الطّبيعي»(2)،

انتهى.

ص: 312


1- الحاشية على إلهيات الشفاء: 208.
2- شرح المنظومة 2: 351.

الثّالِثُ: مِلاكُ الحمِل - كما أشرنا إليه - هو الهوهويّة والاتّحاد من وجهٍ، والمغايرة من وجهٍ آخَرَ، كما يكون بين المشتقّات والذّوات.

ولا يعتبر معه ملاحظة التّركيب بين المتغايرين، واعتبار كون مجموعهما - بما هو كذلك - واحداً، بل يكون لحاظ ذلك مخلّاً؛ لاستلزامه المغايرة بالجزئيّة والكليّة.

___________________

دفع اشتباه الفصول

{الثّالث} من الأُمور الباقية في دفع اشتباه وقع من الفصول في بيان الحمل فنقول: {ملاك الحمل} المصحّح له {كما أشرناإليه} في الأمر الثّاني {هو الهوهويّة} بأن يكون الموضوع نفس المحمول {و} أن يكون {الاتحاد} بينهما {من وجهٍ} كالاتحاد الذّاتي {والمغايرة من وجهٍ آخَرَ} كالمفهومي {كما يكون} هذا النّحو من الاتحاد والمغايرة {بين المشتقّات} المحمولة {والذّوات} الموضوعة، ففي قولنا: (زيد كاتب) ذات واحد ومفهومان، قال في المنظومة:

«بكثرة تعلّقت غيريّة *** كذاك بالوحدة هو هويّة

هذي هي الحمل وفيه اعتبر *** جهتي الوحدة والتّكثّر»(1)

ولا يفرق في هذا الحكم بين أقسام الحمل من الذّاتي والشّائع وغيرهما. نعم، يكفي المغايرة الاعتباريّة، ولهذا يقال: (الإنسان إنسان) في مقام توهّم المغايرة في مقام الجعل.

{ولا يعتبر معه} أي: مع ما ذكر من الاتحاد والمغايرة ما ذكره في الفصول من {ملاحظة التّركيب بين المتغايرين} بأن يجعل كلّ واحد من الموضوع والمحمول جزء مركّب {واعتبار كون مجموعهما بما هو كذلك} مجموع {واحداً} اعتباريّاً {بل يكون لحاظ ذلك} التّركيب {مخلّاً} بالحمل {لاستلزامه} أي: التّركيب الّذي ادّعاه الفصول {المغايرة بالجزئيّة والكليّة} فكلّ من الموضوع والمحمول جزء،

ص: 313


1- شرح المنظومة 2: 390.

ومن الواضح أنّ مِلاكَ الحَمْلِ لحاظُ بنحو الاتّحادٍ بين الموضوع والمحمول، مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التّحديدات وسائر القضايا في طرف الموضوعات، بل لا يُلحظ في طرفها إلّا نفس معانيها، كما هو الحالفي طرف المحمولات، ولا يكون حملها عليها إلّا بملاحظة ما هما عليه من نحوٍ من الاتّحاد، مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحوٍ من الاعتبار.

___________________

وكلاهما كلّ، ومن البديهي عدم صحّة حمل أحد جزئي المركّب على الآخر، فإنّه لا يصحّ حمل الماء على اللّحم ولا العكس في المركّب منهما {ومن الواضح أنّ ملاك الحمل لحاظ} الطّرفين {بنحو الاتحاد بين الموضوع والمحمول} كما سبق.

هذا {مع} أنّ التّركيب خلاف الوجدان، ل {وضوح عدم لحاظ ذلك} التّركيب {في التّحديدات} أي: المعرّفات، بل {وسائر القضايا} المستعملة، فإنّ التّركيب غير ملحوظ {في طرف الموضوعات} الواقعة في التّحديدات وغيرها {بل لا يلحظ في طرفها إلّا نفس معانيها} الحاصلة قبل التّركيب، فالإنسان بما له من المعنى موضوع في قولنا: (الإنسان حيوان ناطق) {كما هو الحال في طرف المحمولات} إذ المفرد بما له من المعنى يقع محمولاً {ولا يكون حملها} أي: المحمولات {عليها} أي: على الموضوعات {إلّا بملاحظة ما هما عليه من نحو من الاتحاد} الوجودي في الحمل الشّائع، والماهوي في الحمل الأوّلي {مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحو من الاعتبار} فالتغاير في الحمل الشّائع في المفهوم والمعنى، وفي الحمل الأوّلي مفهوميّ فقط ولو اعتباراً ولهذا قيل: إنّ الموضوع في (زيد إنسان) هو زيد المنخلع عنه الإنسانيّة الملحوظ فيه الجسميّة حتّى لا يلزم حمل الشّيء على نفسه.قال المصنّف(رحمة الله) في الفوائد: «ثمّ لا يخفى تحقّق ملاك الحمل وهو الاتحاد من وجه والمغايرة من آخَرَ بين المشتقّات والذّوات المتصفة بالمبادئ، ولا يعتبر

ص: 314

___________________

معه ملاحظة التّركيب بين المتغايرين كذلك، واعتبار كون المجموع منهما بما هو مجموع واحداً، بل يكفي ملاحظة اتحادهما ذاتاً، كما في حمل الذّاتيّات واتحادهما وجوداً، كما في حمل العرضيّات. كيف؟ ولو كان الملحوظ في طرف الموضوع أخذ المجموع من حيث المجموع واحداً لا ذات المجموع، لما كان الحدّ التّامّ في ما إذا حمل على المحدود مساوياً أجزاءً، ولزم زيادة جزء اعتباريّ في المحدود، وهو ملاحظة مجموعهما من حيث المجموع واحداً في طرفه، مع بداهة لزوم مساواة الحد ومحدوده.

هذا مضافاً إلى وضوح أنّ الموضوع في التّحديدات وغيرها من القضايا ليس إلّا نفس معاني ألفاظها ومن المعلوم أنّها ليس إلّا ذاتها لا مع لحاظ اتحادها وتركيبها مع محمولاتها.

وبالجملة المعتبر في الحمل مع المغايرة من وجه الاتحاد ذاتاً، كما في الحمل الأوّلي الذّاتي، أو وجوداً، كما في الحمل الشّائع الصّناعي، والتّركيب الاعتباري لو لم يخلّ بالاتحاد المعتبر - لاستلزامه المغايرة بالجزئيّة والكليّة - لا دخل له في حصوله وتحقّقه»(1)،

انتهى.

فالمتحصّل من إشكالات المصنّف على الفصول في كتابيه ثلاثة:

الأوّل: ما أشار إليه من أنّ الحمل يقتضي الاتحاد الخ، إذ بعد الاتحاد الحقيقي لا حاجة إلى ملاحظة التّركيب الاعتباري.الثّاني: ما أشار إليه بقوله: «بل يكون لحاظ ذلك مخلّاً الخ، إذ هذا اللّحاظ مستلزم لكون الموضوع والمحمول جُزْأَي مركّبٍ، ومن البديهي عدم جواز حمل أحد الجزأين على الآخر.

ص: 315


1- فوائد الأصول: 76.

فانقدح بذلك فساد ما جعله في الفصول(1) تحقيقاً للمقام. وفي كلامه مواردُ للنّظر تظهر بالتّأمّل وإمعان النّظر.

الرّابع: لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ

___________________

الثّالث: ما أشار إليه بقوله: «مع وضوح عدم» الخ، وهذا منحلّ إلى إشكالين:

الأوّل: أنّه خلاف الوجدان، إذ المفرد بما له من المعنى موضوع أو محمول، لا أنّ المفرد الّذي له مزيّة التّركيب كذلك.

الثّاني: ما بيانه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة وهي: أنّ الأمرين إذا تركّبا حصل هناك أربعة أمور: ذاتا الجزأين وهما حقيقيّان، ومزيّتا الجزأين الحاصلتان بسبب التّركيب وهما اعتباريّان.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّه إذا اعتبر التّركيب في الحد والمحدود لزم عدم مساواتهما؛ لأنّ المحدود حينئذٍ الذّات مع الجزء الاعتباري، والحد هو الذّات فقط إذ جزؤه الاعتباري ليس بحدٍّ، فإنّ الحيوان النّاطق المنسلخ عن جميع الخصوصيّات حدّ للإنسان لا المقيّد بالتركيب، وإلى هذا أشار في الفوائد بقوله: «كيف ولو كان الملحوظ» الخ، فتأمّل.

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من بطلان مملاحظة التّركيب في الحمل {فساد ما جعله} الشّيخ محمّد حسين(قدس سره) {في الفصول تحقيقاً للمقام} من ملاحظة التّركيب {وفي كلامه} (قدس سره) {موارد للنّظر تظهر بالتأمّلوإمعان النّظر} وحيث ذكره - بما فيه - غالبُ الشّرّاح والمحشّين أضربنا عن تفصيله صفحاً.

كيفيّة جري الصّفات على اللّه تعالى

{الرّابع:} من الأُمور الباقية في دفع اشتباه وقع من الفصول في كيفيّة جري الصّفات على اللّه تعالى سبحانه، فنقول: {لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ} للمشتق

ص: 316


1- الفصول الغرويّة: 62.

مع ما يجري المشتق عليه مفهوماً، وإن اتّحدا عيناً وخارجاً، فصِدْقُ الصِّفَاتِ - مثل: العالِمِ والقادِرِ والرّحيم والكريم إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال

___________________

{مع ما يجري المشتق عليه} من الموصوف {مفهوماً، وإن اتحدا} أي: الموصوف ومبدأ المشتق {عيناً وخارجاً} بأن كان المبدأ عين الموصوف وبالعكس {فصدق الصّفات} الثّبوتيّة للّه - تعالى - {مثل: العالم والقادر} والحي والمريد والمدرك {والرّحيم والكريم، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال}.

قال في حقّ اليقين - للسّيّد الشّبّر(رحمة

الله) - ما لفظه: «قال بعض العارفين: «إِنّ الأسماء تنقسم باعتبار الهيئة إلى جماليّة، كاللّطيف والغفّار، وجلاليّة، كالمنتقم والقهّار»(1)،

انتهى، فكأنّ المصنّف جرى على هذا الاصطلاح، واللّه العالم.

قال العلّامة المشكيني: «لا يخفى أنّ صفات الجلال هي الصّفات السّلبيّة، وهي ليست عين الذّات، فالظاهر أنّه تفسير للكمال، وليس المراد منه ما هوالمصطلح»(2)،

انتهى.

أقول: توضيحه أنّه قد جرى اصطلاح المتكلّمين على تقسيم صفات اللّه - تعالى - إلى قسمين:

الأوّل: الصّفات الثّبوتيّة، وهي ما اجتمع في قوله:

عالم وقادر وحىّ است و مريد و مدرك *** هم قديم و ازلى، دان متكلّم، صادق

ويعبّر عن هذه بصفات الكمال لكونها كمالاً للمتّصف بها.

الثّاني: الصّفات السّلبيّة وهي ما اجتمع في قوله:

ص: 317


1- حقّ اليقين في معرفة أصول الدين 1: 53.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 292.

عليه تعالى - على ما ذهب إليه أهل الحق من عينيّة صفاته - يكون على الحقيقة،

___________________

نه مركّب بود و جسم نه مرئى نه محل *** بى شريك است و معانى، تو غنى دان خالق

ويعبّر عن هذه بصفات الجلال، لكون المتّصف أجلّ وأقدس من أن يتّصف بها.

ولا يخفى أنّ حصر الصّفات في هذه المذكورات صدرت عن المتكلّمين؛ لأنّ مقصودهم بيان الحق من الصّفات المختلف فيها، لا بيان كلّ صفة من صفاته - تعالى - وعلى هذا فصفات الجلال سلوب، ولا معنى لاتحاد السّلب مع الذّات، ولهذا حمل كلامه على خلاف المصطلح.

وعلى كلّ حال، فصدق الصّفات {عليه - تعالى - على ما ذهب إليه أهل الحق} من الشّيعة ومن تبِعهم في هذهالمسألة {من عينيّة صفاته يكون على الحقيقة}.

قال السّيّد الشَّبّر في حقّ اليقين ما لفظه: «الصّفات الكماليّة - كالعلم والقدرة والاختيار والحياة والإرادة والكراهة والسّمع والبصر والسّرمديّة ونحوها - هي عين ذاته - تعالى - وجوداً وعيناً وفعلاً وتأثيراً، بمعنى أنّ ذاته - تعالى - بذاته يترتّب عليه آثار جميع الكمالات، ويكون هو من حيث ذاته مبدءاً لانتزاعها منه ومصداقاً لحملها عليه، وإن كانت هي غيره من حيث المفهوم والمعنى، وذلك لجواز أن يوجد الأشياء المختلفة والحقائق المتباينة بوجود واحد، ونظير ذلك للأفهامِ المخلوقُ، فإنّه مع كونه واحداً يصدق عليه أنّه مقدور ومعلوم ومحييً ومراد ومخلوق ومرزوق باعتبارات متعدّدة وحيثيّات مختلفة.

وبالجملة فليست صفاته - تعالى - مغايرة للذّات كما في صفاتنا، فإنّ علمنا وقدرتنا وحياتنا مثلاً غير ذواتنا، بل زائدة عليها ضرورة، فإنّا كنّا معدومين ثمّ وجدنا، وكنّا جاهلين فعلمنا، وكنّا عاجزين فقدرنا وهكذا».

ص: 318

فإنّ المبدأ فيها وإن كان عين ذاته تعالى خارجاً، إلّا أنّه غيرُ ذاته مفهوماً.

ومنه قد انقدح ما في الفصول من الالتزام بالنّقل أو التّجوّز في ألفاظ الصّفات الجارية عليه تعالى

___________________

ثمّ أقام أدلّة عقليّة وغيرها على ذلك، إلى أن قال: «ونعم ما يقول:

عباراتنا شتّى وحسنك واحد *** وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

قال أميرالمؤمنين(علیه السلام): «من وصف اللّه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله»(1)،

يعني من وصف اللّه - تعالى - بصفة مغايرة لذاته، فقد جعله مقارناً لغيره وهو الصّفة، ومن جعله مغايراً لغيره منالصّفة فقد ثنّاه، إذ الموصوف أوّل والوصف ثان، ومن ثنّاه فقد جزّأه، أي: جعله ذات جزء مركّب من ذات وصفة، ومن قال بأنّه ذا جزء لم يعرفه؛ لأنّ اللّه واحد أحد»(2)،

انتهى.

{فإنّ المبدأ فيها} أي: في صفاته كالعلم والقدرة والحياة {وإن كان عين ذاته - تعالى - خارجاً} بحيث إنّه سميع بما يبصر وبصير بما يسمع {إلّا أنّه} أي: المبدأ {غير ذاته مفهوماً} إذ المفهوم من العلم غير المفهوم من الذّات، كما أنّ - في المثال المتقدّم - مفهوم المعلوم غير مفهوم المخلوق، وإن كانت الذّات واحدة.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من كفاية المغايرة مفهوماً {قد انقدح} فساد {ما} ذهب إليه {في الفصول من الالتزام بالنقل أو التّجوّز في ألفاظ الصّفات الجارية عليه - تعالى -} فإنّه بعد ما اشترط قيام مبدأ الاشتقاق بالموصوف في صدق المشتق قال:

«وخالف في ذلك جماعة فلم يعتبروا قيام المبدأ في صدق المشتق...» إلى أن قال: «وانتصر لهم بعض أفاضل المتأخّرين بصدق العالم والقادر ونحوهما عليه

ص: 319


1- نهج البلاغة، الخطبة الأُولى.
2- حقّ اليقين في معرفة أصول الدين 1: 3436.

- بِناءً على الحقّ من العينيّة - لعدم المغايرة المعتبرة بالاتّفاق.

وذلك لِمَا عَرَفْتَ من كفاية المغايرة مفهوماً، ولا اتّفاق على اعتبار غيرها، إن لم نقل بحصول الاتّفاق على عدم اعتباره، كما لا يخفى. وقد عرفت ثبوت المغايرة كذلكبين الذّات

___________________

- تعالى - مع عينيّة صفاته - تعالى - كما هو الحقّ»(1)،

ثمّ أجاب عن هذا الانتصار بقوله: «الظّاهر إطباق الفريقين على أنّ المبدأ لا بدّ أن يكون مغايراً لذي المبدأ، وإنّما اختلفوا في وجوب قيامه به وعدمه، فالوجه التزام وقوع النّقل في تلك الألفاظ بالنسبة إليه - تعالى - {بِناءً على الحقّ من العينيّة} وإنّما قال بالنقل {لعدم المغايرة المعتبرة} بين المبدأ والذّات {بالاتفاق}.

والحاصل: أنّه بعد التزامه بوجوب المغايرة بين المبدأ والموصوف حقيقةً والتزامه بما هو الحقّ من العينيّة لم يتمكّن إلّا من الالتزام بكون إطلاق العالم ونحوه على اللّه - تعالى - ليس حقيقة أوّليّاً، بل الألفاظ منقولة عن معناها اللّغوي، وإنّما أضاف المصنّف(رحمة الله) المجازيّة لما فهمه من ملاك كلام الفصول {و} لكن نحن في مندوحة عن هذا الالتزام و{ذلك لما عرفت} في أوّل هذا الأمر {من كفاية المغايرة} بين الذّات والمبدأ {مفهوماً} فقط، وإن كان اتحاد في العين {و} أمّا ما ادّعاه الفصول من الاتّفاق على لزوم المغايرة بقوله: «الظّاهر إطباق الفريقين» الخ، فغير مسلّم، إذ {لا اتفاق على اعتبار غيرها} أي: غير المغايرة الاعتباريّة، فلا دليل على وجوب المغايرة الحقيقيّة {إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره} أي: على عدم اعتبار غير المغايرة المفهوميّة {كما لا يخفى} على من راجع كلماتهم في الحمل.

{و} حينئذٍ فإطلاق الصّفات عليه - تعالى - يكون من دون نقل ولا تجوّز،لما {قد عرفت} من {ثبوت المغايرة كذلك} أي: الاعتباريّة المفهوميّة {بين الذّات} للّه

ص: 320


1- الفصول الغرويّة: 62.

ومبادئ الصّفات.

الخامس:

___________________

- تعالى - {ومبادئ الصّفات} كالعلم والقدرة وغيرهما كما هو بديهي.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ نظر الأصولي في هذه المسألة إلى إمكان اتصاف الذّات بتلك المفاهيم بمعانيها العامّة، لكي يتوصّل إلى جواز إجراء أسماء اللّه المشتقّة عليه - تعالى - بما لها من المعاني، ونظر المتكلّم إلى إثبات كونها بأيّ معنىً صفةُ كمالٍ لائقة به - تعالى - .

كيفيّة قيام المبادئ بالذات

{الخامس:} من الأُمور الباقية في تحقيق الحق الّذي وقع فيه النّزاع بين الأشاعرة والمعتزلة في كيفيّة قيام المبادئ بالذات لصدق المشتق عليها. واعلم أنّ الأقوال في المسألة أربعة:

الأوّل: ما ذهب إليه الأشعري من اعتبار القيام الحلولي، وبهذا السّبب قالوا: إنّ صفات اللّه - تعالى - زائدة عليه، ونقل عنهم في محكي المواقف ما لفظه: «لا شكّ أنّ علّة كون الشّيء عالماً هي العلم، وحدّ العالم من قام به العلم، وشرط صدق المشتق على واحد منّا ثبوت أصله له، فكذا شرطه في من غاب وهكذا سائر الصّفات»(1)،

انتهى، وبهذا الدّليل نفسه خرجوا الكلام على النّفس لمنافاة الكلام الخارجي الحادث لذاته - تعالى - .

الثّاني: ما ذهب إليه المعتزلي من عدم اعتبار القيام الحلولي، ولهذا ذهبوا إلىنفي الصّفات الزّائدة عن اللّه - جلّ وعلا - واستدلّ لهم بصدق الضّارب والمؤلم

على الفاعل مع قيام الضّرب والإيلام بالمضروب والمؤلم، وجعلوا من هذا لباب إطلاق المتكلّم عليه - تعالى - حيث إنّ الكلام مخلوق في الهواء.

ص: 321


1- شرح المواقف 8: 44.

أنّه وقع الخلاف - بعد الاتّفاق على اعتبار المغايرة كما عرفت بين المبدأ وما يجري عليه المشتق - في اعتبار قيام المبدأ به في صدقه على نحو الحقيقة.

وقد استدلّ من قال بعدم الاعتبار بصدق (الضّارب) و(المُؤْلِمِ) مع قيام الضَّرْبِ والأَلَمِ بالمضروب والمُؤْلَم - بالفتح - .

والتّحقيق: أنّه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أُولي الألباب، في أنّه يعتبر في صدق المشتقّ على الذّات وجريه عليها

___________________

الثّالث: ما ذهب إليه في الفصول من التّفصيل بين ما كان المبدأ ذاتاً، فلا يعتبر فيه القيام، وبين ما لم يكن المبدأ ذاتاً، فيعتبر فيه القيام بالمعنى الأعمّ من الحلول والصّدور وغيرهما.

الرّابع: ما اختاره المصنّف(رحمة الله) من اعتبار قيام المبدأ، لكن أنحاء القيام مختلفة، كما سيأتي.

وإلى ما ذكر أشار بقوله: {أنّه وقع الخلاف} المذكور {بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة} في الجملة {كما عرفت} في الأمر الرّابع {بين المبدأ وما يجري عليه المشتق} من الذّوات {في اعتبار قيام المبدأ} الظّرف يتعلّق ب «الخلاف».

والحاصل: أنّهم بعد ما اتفقوا على اعتبار المغايرة بين المبدأ وما يجري على المشتق، اختلفوا في أنّه هل يعتبر قيام المبدأ {به} أي: بما يجري عليه المشتق{في صدقه} أي: صدق المشتق {على نحو الحقيقة} أم لا يعتبر القيام في الصّدق {وقد استدلّ من قال بعدم الاعتبار} وهو القول الثّاني {بصدق (الضّارب) و(المؤلم)} على الفاعل {مع قيام} المبدأ - وهو {الضّرب والألم - بالمضروب والمؤْلَم - بالفتح -} وهو المفعول.

{والتّحقيق أنّه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أُولي الألباب في} بطلان هذا القول، بل {إنّه يعتبر في صدق المشتق على الذّات وجريه عليها} أيّ نحوٍ كان المشتق، وأيّ

ص: 322

من التَّلَبُّسِ بالمبدأ بنحوٍ خاصٍّ، على اختلاف أنحائه - النّاشئة من اختلاف الموادّ تارةً، واختلاف الهيئات أُخرى - من القيام صدوراً، أو حلولاً، أو وقوعاً عليه أو فيه، أو انتزاعه

___________________

قسم كان الذّات، وأيّ شيء كان المبدأ {من التّلبّس بالمبدأ بنحو خاص على اختلاف أنحائه} أي: أنحاء التّلبّس {النّاشئة} هذه الأنحاء {من اختلاف المواد} والمبادئ {تارة} فإنّ المصدر قد يكون بمعنى القوّة، وقد يكون بمعنى الملكة، وقد يكون بمعنى الصّفة، وقد يكون بمعنى الفعليّة، كما تقدّم من مثال الكاتب، فإنّه إذا كان بمعنى القوّة لزم تلبّس المبدأ به قوّة ولو كان الشّخص أُميّاً، فيصحّ أن يقال: (زيد كاتب) ولا يصحّ أن يقال: (الحمار كاتب)، وإذا كان بمعنى الملكة لزم تلبّس المبدأ به ملكة، فلا يصحّ إطلاق الكاتب بالنسبة إلى الأُمّي، ويصحّ بالنسبة إلى من له ملكته، وإن لم تكن صفته ولا فعلاً مشغولاً بها، وهكذا الصّفة والفعليّة.

{و} من {اختلاف الهيئات} تارة {أُخرى} فإنّ التّلبّس يختلفعلى حسب اختلاف هيئة المشتق، وإن اتحدت المادّة {من القيام} أي: قيام المبدأ بالذات {صدوراً} نحو (المميت) {أو} قيام المبدأ {حلولاً} في الذّات نحو (الميّت) {أو} قيامه {وقوعاً عليه} نحو (الممات) {أو} قيامه وقوعاً {فيه} (كالممات) بمعنى زمان الموت.

هذا معنى العبارة على تقدير أن يكون قوله: «من القيام» الخ بياناً، لاختلاف الهيئة وهو الظّاهر، ويحتمل أن يكون بياناً للأمرين، فيكون قوله: «صدوراً كالضارب وحلولاً كالأبيض» بالنسبة إلى اختلاف المواد {أو انتزاعه} الظّاهر من سوق العبارة أن يكون عطفاً على قوله: «صدوراً» الخ، فيكون المعنى: أنّ بعض المواد يفيد التّلبّس بالمبدأ على انتزاع المبدأ عن الذّات، ومن المحتمل بعيداً أن يكون عطفاً على «اختلاف المواد» الخ، ويكون حاصله أنّه يجب التّلبّس بالمبدأ ولا يؤثّر فيه اختلاف المواد ولا اختلاف الهيئات ولا اختلاف الذّوات، فإنّ

ص: 323

عنه مفهوماً، مع اتحاده معه خارجاً، كما في صفاته تعالى - على ما أشرنا إليه آنفاً - ، أو مع عدم تَحَقُّقٍ إلّا للمنتزع عنه، كما في الإضافات والاعتبارات

___________________

التّلبّس يختلف حسب اختلاف الذّات، ففي صفاته - عزّ اسمه - يكون الاتّصاف بنحو العينيّة، وفي غيره - تعالى - بنحو الغيريّة.

والحاصل: أنّه قد يختلف التّلبّس باختلاف الهيئة، مع وحدة الذّات والمادّة نحو (ضارب) و(مضروب) بالنسبة إلى شخص واحد، وقد يختلف التّلبّس باختلاف المادّة مع وحدة الهيئة والذّات نحو (المالك) و(الضّارب) وقد يختلف التّلبّس باختلاف الذّات مع وحدة الهيئة والمادّة، نحو (العالم) بالنسبة إلى اللّه - سبحانه - وبالنسبة إلى غيره.ونحن نسوق العبارة على ظاهرها فنقول: «أو انتزاعه» أي: انتزاع المبدأ {عنه} أي: عن الموصوف وهو الذّات {مفهوماً} أي: انتزاعاً مفهوميّاً، بأن يكون الذّات لبعض الاعتبارات ينتزع عنها المشتق {مع اتحاده} أي: المبدأ {معه} أي: الموصوف {خارجاً} وعيناً {كما في صفاته - تعالى} وتقدّس - {على ما أشرنا إليه آنفاً} في الأمر الرّابع وأوضحناه {أو مع عدم} عطف على «مع اتحاده».

والحاصل: أنّ الانتزاع على قسمين:

الأوّل: أن يكون المشتق منتزعاً، بمعنى أنّ الذّات تكون منشأً لانتزاع المبدأ منها مفهوماً مع كونه عينها وجوداً، كما في صفات اللّه - سبحانه - .

الثّاني: أن يكون المشتق منتزعاً، بمعنى أنّ الذّات تكون منشأً لانتزاع المبدأ، ولكن لا تحقّق للمبدأ أصلاً، بمعنى أنّه ليس ما بحذاء المبدأ شيء، كالأُمور الاعتباريّة مثل الملكيّة والزّوجيّة ونحوهما، فإنّه لا {تحقّق} في الخارج {إلّا للمنتزع عنه} هذا المبدأ الاعتباري، أي: الموصوف {كما في الإضافات} الّتي لا بدّ في تحقّقها من طرفين {والاعتبارات} الّتي يكفي فيها طرف واحد، ويمكن الفرق:

ص: 324

الّتي لا تحقّق لها، ولا يكون بحذائها في الخارج شَيْءٌ، وتكون من الخارج المحمول لا المحمول بالضّميمة.

ففي صفاته الجارية عليه - تعالى - يكون المبدأ مغايراً له - تعالى - مفهوماً، وقائماً به عيناً، لكنّه بنحوٍ من القيام، لا بأن يكون هناك

___________________

بأنّ الأوّل له تحقّق من دون اعتبار المُعْتَبِرِ، والثّاني تحقّقه بالاعتبار، والجامعبينهما أنّها الأُمور {الّتي لا تحقّق لها} في الكون {ولا يكون بحذائها في} ظرف {الخارج} العين {شيء، وتكون} هذه المشتقّات الاعتباريّة الّتي لا تحقّق لها في الخارج {من الخارج المحمول} أي: المحمولات المعبّر عنها بخارج المحمول {لا المحمول بالضميمة}.

قال في المنظومة: «والخارج المحمول من صميمه» متعلّق بالخارج، أي: خارج من حاق ذات المعروض «يغاير المحمول بالضّميمة» أي: قد يقال: العرضي، ويراد به أنّه خارج عن الشّيء ومحمول عليه، كالوجود والموجود، والوحدة والتّشخّص، ونحوها ممّا يقال أنّها عرضيّات لمعروضاتها، فإنّ مفاهيمها خارجة عنها، وليست محمولات بالضّمائم، وقد يقال: العَرَضِيّ، ويراد به المحمول بالضميمة، كالأبيض والأسود في الأجسام والعالم المدرك في النّفوس»(1)، انتهى.

ومحصّله: أنّ العارض الاعتباري يسمّى بالخارج المحمول والعارض المتأصّل يسمّى بالمحمول بالضميمة.

{ففي صفاته الجارية عليه - تعالى} وتقدّس - {يكون المبدأ مغايراً له - تعالى - مفهوماً} فمفهوم العلم غير مفهوم الذّات، فإنّ ما يفهم من أحدهما غير ما يفهم من الآخر {و} إن كان المبدأ {قائماً به} تعالى {عيناً} وخارجاً {لكنّه} يكون {بنحو من القيام} الاعتباري، والتّعبير بالقيام من باب ضيق اللّفظ {لا بأن يكون هناك}

ص: 325


1- شرح المنظومة 1: 179.

اثنينيّة، وكان ما بحذائه غير الذّات، بل بنحو الاتّحاد والعينيّة، وكان ما بحذائه عين الذّات.وعدم اطّلاع العرف على مثل هذا التّلبّس من الأُمور الخفيّة، لا يضرّ بصدقها عليه - تعالى - على نحو الحقيقة، إذا كان لها مفهومٌ صادِقٌ عليه - تعالى - حقيقةً ولو بتأمّل وتعمّل من العقل. والعرف إنّما يكون مرجعاً في تعيين المفاهيم، لا في تطبيقها على مصاديقها.

___________________

قيام حقيقي و{اثنينيّة} واقعيّة أي: الذّات {و} الصّفة بحيث {كان ما بحذائه} أي: ما بحذاء الوصف {غير الذّات} البسيط {بل} يكون القيام {بنحو الاتحاد} بين الذّات والصّفة {والعينيّة وكان ما بحذائه} أي: الوصف {عين الذّات} فصفات اللّه - تعالى - ليست من قبيل الزّوجيّة الّتي لا ما بحذاء لها أصلاً، وليست من قبيل صفاتنا، كالعلم الّذي له ما بحذاء مغاير للذّات.

{و} إن قلت: المرجع في الألفاظ العرف، وهو إمّا أن يعتبر القيام أو لا يعتبر، وعلى الأوّل فيكون إجراء الصّفات على اللّه - تعالى - مجازاً، لعدم قيام المبدأ به - تعالى - حقيقةً، وعلى الثّاني فلا يعتبر القيام مطلقاً، فكيف يمكن الجمع بين قولكم: باعتبار القيام، وبين قولكم: بأنّ إجراء صفات اللّه - تعالى - حقيقة؟

قلت: نلتزم باعتبار القيام و{عدم اطلاع العرف على مثل هذا التّلبّس} والقيام العيني {من الأُمور الخفيّة لا يضرّ بصدقها} أي: صدق الصّفات {عليه - تعالى - على نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه - تعالى - حقيقةً، ولو} لم يكن القيام خارجاً بل كان {بتأمّل وتعمّل من العقل. و} ما ذكرتم من أنّ العرف هو المرجع مخدوش، فإنّ {العرف إنّما يكونمرجعاً في تعيين المفاهيم} بأن يقول: المشتقّ هو الذّات المتلبّس بالعلم فعلاً، و{لا} يكون مرجعاً {في تطبيقها على مصاديقها} بأن يقول: هنا يصدق العالم حقيقة للتلبّس والمغايرة الحقيقيّة، وهنا لا يصدق لعدم التّغاير.

ص: 326

وبالجملة: يكون مثل: (العالم والعادل) وغيرهما من الصّفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره، جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد، وإن اختلفا في ما يعتبر في الجري من الاتّحاد وكيفيّة التّلبّس بالمبدأ، حيث إنّه بنحو العينيّة فيه - تعالى - ، وبنحو الحلول أو الصّدور في غيره.

فلا وجه لما التزم به في الفصول(1) من نَقْلِ الصّفات الجارية عليه - تعالى - عمّا هي عليها من المعنى،

___________________

وعلى هذا فلو لم ير العرف التّغاير في ذات الباري - تعالى - وصفاته لم يكن له حقّ في أن يقول: إطلاق الصّفات من باب المجاز.

والحاصل: أنّ العرف مرجع في تحديد المفهوم لا في تحديد المصداق، بل لا بدّ في تحديد المصداق من المداقّة العقليّة ومراعاة الواقع.

{وبالجملة يكون مثل: (العالم، والعادل) وغيرهما، من} سائر {الصّفات الجارية عليه - تعالى} وتقدّس - {وعلى غيره} من سائر الذّوات {جارية عليهما بمفهومٍ واحدٍ ومعنىً فاردٍ} فالعالم المنكشف لديه الأشياء مطلقاً {وإناختلفا} أي: اللّه سبحانه وسائر الممكنات {في ما يعتبر في الجري من الاتحاد} بيان «ما»، أي: وإن اختلفا في ما هو شرط جري المشتق {و} هو الاتحاد بين الذّات والمبدأ حيث إنّ {كيفيّة التّلبّس بالمبدأ} مختلف فيهما {حيث إنّه} أي: التّلبّس {بنحو العينيّة فيه - تعالى} وتقدّس - {وبنحو الحلول} كالمريض {أو الصّدور} كالضارب {في غيره} - تعالى - من سائر الممكنات، وبهذا تبيّن أنّ إطلاق العالم على اللّه حقيقة كإطلاقه على غيره وإنّما التّلبّس مختلف {فلا وجه لما التزم به في الفصول من نقل الصّفات} المشتقّة {الجارية عليه - تعالى - عمّا هي} أي: تلك {عليها من المعنى} اللّغوي والعرفي. وبرهانه على النّقل أمران:

ص: 327


1- الفصول الغرويّة: 62.

كما لا يخفى. كيف؟ ولو كانت بغير معانيها العامّة جاريةً عليه - تعالى - كانت صرف لقلقة اللّسان وألفاظ بلا معنىً، فإنّ غير تلك المفاهيم العامّة الجارية على غيره - تعالى - غيرُ مفهومٍ ولا معلومٍ إلّا بما يقابلها، ففي مثل ما إذا قلنا: (إنّه - تعالى - عالم) إمّا أن نعني أنّه من ينكشف لديه الشّيء، فهو ذاك المعنى العامّ، أو أنّه مصداق لما يقابل ذاك المعنى، فتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

___________________

الأوّل: عدم القيام المعتبر في الحمل.

الثّاني: عدم المغايرة بين المبدأ والذّات.

والجواب أمّا عن الأوّل: فبوجود القيام العيني، وأمّا عن الثّاني: فبوجودالمغايرة المفهوميّة، وهذا المقدار من القيام والمغايرة كافٍ في كونه حقيقةً {كما لا يخفى} وتقدّم بيانه.

ونزيد جواباً آخر عنه وهو: أنّه {كيف} يكون إطلاق المشتقّات مجازاً عليه - تعالى - لكونها بغير معناها العرفي {و} الحال أنّها {لو كانت بغير معانيها العامّة} المعروفة {جارية عليه - تعالى - كانت صرف لقلقة اللّسان وألفاظ} مقولة {بلا} فهم {معنى، فإنّ غير تلك المفاهيم العامّة} كالعلم والقدرة والحياة وغيرها {الجارية على غيره - تعالى -} من سائر الممكنات {غير مفهوم ولا معلوم إلّا بما يقابلها} من الجهل والعجز والموت وغيرها، وحينئذٍ فتنعقد قضيّة منفصلة حقيقيّة في ردّ الفصول وهي هذه {ففي مثل ما إذا قلنا: (إنّه - تعالى} وتقدّس - {عالم) إمّا أن نعني أنّه من ينكشف لديه الشّيء فهو ذاك المعنى العام} المفهوم في الممكن، وعليه يبطل كلام الفصول مِن أنّه بالنسبة إلى اللّه - تعالى - منقول، ويثبت مطلوبنا وهو أنّ المعنى في الواجب والممكن واحد {أو} نعني من العالم فيه - تعالى - {أنّه} جلّ شأنه {مصداق لما} أي: لوصف {يقابل ذاك المعنى} الانكشافي، فيراد من العالم الجاهل {فتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً} اللّه لا إله إلّا

ص: 328

وإمّا أن لا نعني شيئاً، فتكون - كما قلناه - من كونها صرف اللّقلقة وكونها بلا معنى، كما لا يخفى.

والعجب أنّه جعل ذلك علّةً لعدم صدقِها في حقّ غيره، وهو كما ترى.

وبالتّأمّل في ما ذكرنا ظهر الخَلَلُ في مااستُدِلّ من الجانبين

___________________

هو عالم الغيب ولا يعزب عنه شيء.

{وإمّا أن لا نعني} من قولنا: العالم {شيئاً} معلوماً لنا {فتكون كما قلناه} قبيل هذا {من كونها} أي: كون الألفاظ المشتقّة {صرف اللّقلقة وكونها بلا معنى} مفهوم {كما لا يخفى} وحيث إنّ الفصول لا يقول بالشقّين الأخيرين من هذه المنفصلة فلا بدّ له من الالتزام بالشّقّ الأوّل، وهو مبطل لكلامه ومثبت لمطلوبنا - كما تقدّم بيانه - .

{والعجب أنّه} أي: صاحب الفصول {جعل ذلك} النّقل بالنسبة إليه - تعالى - {علّة لعدم صدقها} أي: صدق الصّفات بما لها من المعنى حين إطلاقها على اللّه - تعالى - {في حقّ غيره} - تعالى - أي: لا تصدق في حقّ غيره بالنحو الّذي تصدق به في حقّه - سبحانه - .

والحاصل: أنّ العالم - مثلاً - يطلق على اللّه وعلى غيره، وبمعناه المطلق على اللّه لا يطلق على غيره، وبمعناه المطلق على غيره لا يطلق على اللّه، ووجه العجب ما تقدّم مِن أنّ الإطلاق بمعنى واحد {وهو كما ترى} أي: عدم جواز الإطلاق في حقّ غيره بمعناه المطلق عليه - تعالى - .

{وبالتّأمّل في ما ذكرنا ظهر الخلل في ما استدلّ من الجانبين} أي: جانب صاحب الفصول المفصّل، وجانب من قال بعدم اعتبار القيام مطلقاً، أو المراد: القائلين باعتبار القيام مطلقاً كالأشعري والقائلين بعدمه كالمعتزلي(1)

ص: 329


1- أو أنّ من اعتبر قيام المبدأ إن أراد ما يعمّ القيام بنحو العينيّة فهو صحيح، وإن أراد القيام مع التّغاير فغير صحيح.

والمحاكمة بين الطّرفين، فتأمّل.

___________________

{والمحاكمة بين الطّرفين} إمّا عطف على الخلل، أي: ظهر من كلامنا المحاكمة بين النّافي والمثبت، وتوضيحه: أنّه لو أراد النّافي لاعتبار القيام نفي القيام مع المغايرة بين المبدأ والذّات فالحقّ معه، وإن أراد نفي القيام مطلقاً - بمعنى نفي اعتبار التّلبّس بالمرّة - فالحقّ مع المثبت.

وإمّا عطف على لفظة «ما استدلّ»(1) أي: ظهر الخلل في المحاكمة، فيكون المعنى ظهر خلل محاكمة صاحب الفصول بين النّافي والمثبت بما فصّله، وتوضيحه ما تقدّم من الجواب عن صاحب الفصول {فتأمّل}.

قال العلّامة المشكيني(رحمة الله) ما لفظه: «لعلّه إشارة إلى ضعف المحاكمة - وهذا بناءً على المعنى الأوّل كما لا يخفى - بأن يقال: إنّ مراد القائلين بالاعتبار اعتباره بمعنى التّلبّس، ومراد القائلين بعدم اعتباره هو عدم اعتباره بمعنى الحلول؛ لأنّ كلام الأشعري ظاهر بل صريح في اعتبار القيام الحلولي، ولذا التجأوا إلى إثبات الكلام النّفسي فالنزاع معنويّ بينهما»(2)،

انتهى.

ولا بدّ هنا من التّنبيه على أمر مهمّ جدّاً، وهو أنّه: قد قامت البراهين العقليّة والنّقليّه الكثيرة على أنّه لا يمكن معرفة كنه ذات اللّه وصفاته ولا يجوز إطلاق اسم أو وصف عليه - تعالى - لم يرد في كتاب أو سنّة، حتّى أنّ بعضاً منع من إطلاق كلمة الواجب أو واجب الوجود عليه - تعالى - وإن كان معناه حاصلاً، كما أنّه لا يجوز إطلاق المنبت والزّارع عليه تقدّس مع قوله: {أَنۢبَتۡنَا}(3)وقوله:

ص: 330


1- ويؤيّد هذا الوجه قول المصنّف(قدس سره) في الفوائد: 78 «فقد انقدح بما حقّقناه ما في الاستدلال من الجانبين وفي المحاكمة بين الطّرفين».
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 88.
3- سورة الحجر، الآية: 19؛ سورة الشّعراء، الآية: 7؛ سورة النّمل، الآية: 60؛ سورة لقمان، الآية: 10؛ سورة الصّافّات، الآية: 146.

___________________

{أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّرِعُونَ}(1) وهكذا، فهو يأبى الحدّ والتّوصيف والتّفكّر في كنه ذاته.

قال السّيّد الشّبّر - قدّس اللّه سرّه - في حقّ اليقين ما لفظه: «اعلم أنّه لا سبيل للمخلوق إلى معرفة كنه الخالق وحقيقته والإحاطة به، جلّ شأنه، كما قال - عزّ وجلّ - : {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِۦ عِلۡمٗا}(2) وقال - تعالى - : {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ}(3) في الدّعاء: «سبحان من لا يعلم ما هو إلّا هو»، وقال أميرالمؤمنين(علیه السلام): «لا تقدّر عظمة اللّه على قدر عقلك فتكون من الهالكين...»(4) إلى أن قال: «وقال(صلی الله علیه و آله): «إنّ اللّه احتجب عن العقول، كما احتجب عن الأبصار، وإنّ الملأ الأعلى يطلبونه، كما تطلبونه أنتم»(5).

أقول: وروى ثقة الإسلام في الكافي، عن أبي بصير، عن الباقر(علیه السلام) قال: «تكلّموا في خلق اللّه ولا تتكلّموا في اللّه - تعالى - فإنّ الكلام في اللّه لا يزداد صاحبه إلّا تحيّراً»(6).

وعن الصّادق(علیه السلام) قال: «إنّ اللّه يقول: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَٱلۡمُنتَهَى}(7) فإذا انتهى الكلام إلى اللّه فأمسكوا»(8).

وعن محمّد بن مسلم قال: قال أبو عبداللّه(علیه السلام): «يا محمّد، إنّ النّاس لا يزال

ص: 331


1- سورة الواقعة، الآية: 64.
2- سورة طه، الآية: 110.
3- سورة الأنعام، الآية: 91.
4- تفسير العياشي 1: 163.
5- بحار الأنوار 66: 292.
6- الكافي 1: 92.
7- سورة النّجم، الآية: 42.
8- الكافي 1: 92.

___________________

بهم المنّطق حتّى يتكلّموا في اللّه، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إله إلّا اللّه الّذي ليس كمثله شيء»(1).

وعن محمّد بن مسلم عن الباقر(علیه السلام) قال: «إيّاكم والتّفكّر في اللّه، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه(2)...» إلى أن قال: «وأمّا اتساع المعرفة فإنّما يكون في معرفة أسمائه وصفاته، وبها تتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفة اللّه - عزّ وجلّ - فليس من يعلم أنّه قادر عالم على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السّماوات والأرض وخلق الأرواح والأجساد واطّلع على بدائع المملكة وغرائب الصّنعة...» إلى أن قال: «وللّه درّ من قال:

واللّه لا موسى ولا *** عيسى المسيح ولا محمّد

علموا ولا جبريل وه ***و إلى محلّ القدس يصعد

كلّا ولا الّنفس البسي ***طة لا ولا العقل المجرّد

من كنه ذاتك، غير أَنْ*** نَكَ أوحديّ الذّات سرمد»

إلى أن قال: «وكما يمتنع على غير اللّه - تعالى - معرفة كنه ذاته فكذا يمتنعمعرفة كنه صفاته؛ لأنّ صفاته، تعالى - كما عرفت - عين ذاته، وكلّما وصفه به العقلاء فإنّما هو على قدر أفهامهم وبحسب وسعهم، فإنّهم إنّما يصفونه بالصفات الّتي ألفوها وشاهدوها في أنفسهم، مع سلب النّقائص النّاشئة عن انتسابها إليهم بنوع من المقايسة، ولو ذكر لهم من صفاته - عزّ وجلّ - ما ليس لهم ما يناسبه بعض المناسبة لم يفهموه، ككونه - تعالى - لا أوّل له، ولا آخر ولا

ص: 332


1- الكافي 1: 92.
2- الكافي 1: 93.

___________________

جزء له، وليس في مكان ولا زمان، وكان ولم يكن معه شيء، من زمان أو مكان أو ليل أو نهار أو ظلمة أو ضياء لحاروا وتحيّروا وعجزوا ولم يفهموا شيئاً، فتوصيفهم إيّاه - سبحانه - بأشرف طرفي النّقيض كالعلم والجهل والقدرة والعجز والحياة والموت، إنّما هو على قدرهم لا قدره وبحسبهم لا بحسبه، فسبحانه عمّا يصفون وتعالى شأنه عمّا يقولون.

ولذا قال باقر العلوم(علیه السلام): «هل سمّي عالماً قادراً إلّا لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين، وكلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم» والباري - تعالى - واهب الحياة ومقدّر الموت «ولعلّ النّمل الصّغار تتوهّم أنّ للّه زُبَانَيَيْنِ - أي: قرنين - فإنّهما كمالها، وتتصوّر أنّ عدمهما نقصان لمن لا يكونان له»(1)،

ولعلّ حال كثير من العقلاء كذلك في ما يصفون اللّه - تعالى - به {سُبۡحَنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}(2)، ولذا ورد النّهي عن وصفه - تعالى - بغير ما وصف به نفسه».

ثمّ قال: «اعلم أنّ كلّما تطلق عليه - سبحانه - وعلى غيره، فإنّما تطلق عليهمابمعنيين مختلفين ليسا في درجة واحدة، حتّى أنّ الوجود الّذي هو أعمّ الأشياء اشتراكاً لا يشمله وغيره على نهج واحد...».

إلى أن قال: «وهكذا في سائر صفاته، كالعلم والقدرة والإرادة...».

إلى أن قال: «وواضع اللّغات وضع هذه الأسامي أوّلاً للخلق؛ لأنّها أسبق إلى العقول والأفهام، وفهم معانيها في حقّه - تعالى - عسر جدّاً وبيانها أعسر منه، بل كلّما قيل في تقريبها إلى الأفهام فهو تبعيد له من وجه، كما تقدّم في كلام

ص: 333


1- بحار الأنوار 66: 293.
2- سورة الصّافّات، الآية: 180.

السّادس:

___________________

أميرالمؤمنين(علیه السلام)، إن قيل كان ففي تأويل أزليّة الوجود وإن قيل لم يزل فعلى تأويل نفي العدم»(1)،

انتهى كلامه رفع مقامه.

وعلى هذا فالكفّ عن هذا البحث كسائر الأُمور الّتي ذكرها المصنّف(رحمة الله) بقوله: «بقي أُمور» أليق؛ لأنّها لا ترتبط بالأصول.

في الإسناد المجازي للمشتق

{السّادس:} من الأُمور الباقية في دفع اشتباه وقع من الفصول وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي:

أنّه لو استند المشتق إلى شيء كان هناك ثلاثة أُمور يصلح كلّ واحد منها أن يكون حقيقة ويصلح أن يكون مجازاً:

الأوّل: الإسناد.

الثّاني: معنى المشتق.

الثّالث: فعليّة المشتق.

مثلاً لو قلنا: (الماءُ جارٍ) وكان فعلاً جارياً كانت الثّلاثة حقيقة، وإن لم يكنفعلاً جارياً كان المشتق مجازاً بالنسبة إلى الثّالث، وحقيقة بالنسبة إلى الأوّلين، ولو قلنا للماء الرّاكد: (الماء جار) لمشابهته بالماء الجاري بواسطة تموّجه فعلاً بالرياح، كان المشتق بالنسبة إلى الأوّل والثّالث حقيقة وبالنسبة إلى الثّاني مجازاً لعدم استعمال الجاري في معناه، ولو قلنا في حين جريان المطر من الميزاب: (الميزاب جار) كان المشتق حقيقة بالنسبة إلى الثّاني والثّالث؛ لأنّه أُريد نفس الجريان الحقيقي فعلاً، ومجازاً بالنسبة إلى الأوّل؛ لأنّه إسناد إلى غير ما هو له.

ص: 334


1- حقّ اليقين في معرفة أصول الدين 1: 4448.

الظّاهر أنّه لا يعتبر في صدق المشتقّ وجريه على الذّات حقيقةً، التّلبّسُ بالمبدأ حقيقةً، وبلا واسطةٍ في العُرُوْضِ - كما في الماء الجاري - بل يكفي التّلبّس به ولو مجازاً ومع هذه الواسطة، كما في الميزاب الجاري، فإسناد الجريان إلى الميزاب وإن كان إسناداً إلى غير ما هو له وبالمجاز، إلّا أنّه في الإسناد، لا في الكلمة. فالمشتق في مثل المثال بما هو مشتقّ قد استعمل في معناه الحقيقي، وإن كان مبدؤه مسنداً إلى الميزاب بالإسناد المجازي، ولا منافاة بينهما أصلاً، كما لا يخفى.

___________________

إذا عرفت ذلك قلنا: محلّ الكلام في مسألة المشتق في المجاز في الكلمة - أعني: الثّاني - لا في المجاز في الإسناد - أي: الأوّل - فإنّ {الظّاهر أنّه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذّات حقيقة التّلبّس} أي: تلبّس المشتق {بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض} فلا يشترط أن يكون {كما في الماء الجاري} الّذي كان المشتق حقيقةً، لأجلقيام الجَرَيان بالماء حقيقةً {بل يكفي} في صدق المشتق على نحو الحقيقة {التّلبّس به} أي: تلبّس الذّات بالمبدأ {ولو} كان تلبّسها به {مجازاً، و} كان {مع هذه الواسطة} أي: الواسطة في العروض {كما في الميزاب الجاري} فإنّ الجاري هنا حقيقة قيام مبدئه - وهو الجريان - بالذات الّتي هي الميزاب وإن كان قيامه بها بواسطة الماء {فإسناد الجريان إلى الميزاب وإن كان إسناداً إلى غير ما هو له وبالمجاز} كما هو ظاهر {إلّا أنّه} مجاز {في الإسناد} نحو (أنبت الرّبيع البقل) {لا} أنه مجاز {في الكلمة} نحو (أسد يرمي) {فالمشتق} كالجاري {في مثل} هذا {المثال بما هو مشتقّ} وكلمة {قد استعمل في معناه الحقيقي} الموضوع له لغة، إذ معنى الجاري هنا ذات ثبت لها الجري {وإن كان مبدؤه} وهو الجريان {مسنداً إلى الميزاب بالإسناد المجازي} الّذي يسمّى بالمجاز العقلي في علم البلاغة {ولا منافاة بينهما} أي: بين كون الكلمة حقيقةً والإسناد مجازاً {أصلاً، كما لا يخفى}

ص: 335

ولكن ظاهر الفصول - بل صريحه - اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقةً، وكأنّه من باب الخلط بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة، وهو - هاهنا -

___________________

بأدنى تأمّل، فإنّ كلّ واحد من الحقيقة العقليّة والمجاز العقلي ينقسم باعتبار الطّرفين إلى أربعة أقسام:

حقيقيّة كلٍّ منهما لغةً نحو (أنبت الرّبيع) و(أنبت اللّه).ومجازيّتهما نحو (أحيى شباب الزّمان) و(أحيى أمر اللّه).

وحقيقيّة الأوّل مع مجازيّة الثّاني نحو (أنبت شباب الزّمان) و(أنبت أمر اللّه).

وبالعكس نحو (أحيى الرّبيع) و(أحيى اللّه).

{ولكن ظاهر الفصول - بل صريحه - اعتبار الإسناد الحقيقي} بين مبدأ المشتق والذّات {في} ما إذا أُريد {صدق المشتق حقيقة} فإنّه قال ما لفظه: «الثّالث يشترط في صدق المشتق على شيءٍ حقيقةً قيامُ مبدأ الاشتقاق به من دون واسطة في العروض». ثمّ قال: «وإنّما قلنا: من دون واسطةٍ، في المقام، احترازاً عن القائم بواسطة، فإنّه لا يصدق إلّا مجازاً، كالشدّة والسّرعة القائمتين بالجسم بواسطة الحركة واللّون، فإنّه يقال: الحركة سريعة واللّون شديد، ولا يقال: الجسم سريع أو شديد»(1)، انتهى.

{وكأنّه} أي: اشتراط الفصول {من باب الخلط بين المجاز في الإسناد} الّذي لا يضرّ بكون الكلمة حقيقة {و} بين {المجاز في الكلمة}.

والحاصل: أنّه لم يفرق بين المقام الأوّل والثّاني، فجعل مجازيّة المقام الأوّل موجباً لمجازيّة الثّاني {وهو} أي: المجاز في الكلمة {هاهنا} أي: في بحث

ص: 336


1- الفصول الغرويّة: 62.

محلّ الكلام بين الأعلام، والحمد للّه، وهو خير خِتام.

___________________

المشتق {محلّ الكلام بين الأعلام} لا المجاز في الإسناد(1)

{والحمد للّه} ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين، واللّعنة على أعدائهم أجمعين {وهو خير ختام}.

ص: 337


1- قال العلّامة المشكيني(رحمة الله): «فهنا مقامان الأوّل: استعمال المشتق في مفهومه، الثّاني: تطبيقه على الموضوع الّذي هو عبارة عن الإسناد والصّدق، فالظاهر أنّ النّزاع بينهما في المقام الأوّل، فالحقّ مع المصنّف؛ لأنّ كون الإسناد والتّطبيق مجازاً لا يستلزم تجوّزاً في الكلمة». كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 300.

ص: 338

المقصد الأوّل: في الأوامر

اشارة

ص: 339

ص: 340

المقصد الأوّل: في الأوامر وفيه فصول:

الأوّل: في ما يتعلّق بمادّة الأمر من الجِهَاتِ، وهي عديدة:

الأُولى: أنّه قد ذكر للفظ الأمر معانٍ متعدّدةٌ:

منها: الطّلب، كما يقال: (أمره بكذا).

ومنها: الشّأن، كما يقال: (شغله أمرُ كذا).

ومنها: الفعل، كما في قوله تعالى: {وَمَآ أَمۡرُ فِرۡعَوۡنَ بِرَشِيدٖ}(1).

___________________

[المقصد الأوّل في الأوامر وفيه فصول]

{المقصد الأوّل في الأوامر وفيه فصول:}

[الفصل الأوّل في ما يتعلّق بمادّة الأمر]

اشارة

الفصل {الأوّل في ما يتعلّق بمادّة الأمر} أي: أ، م، ر {من الجهات وهي عديدة} والمذكور منها هنا أربعة:

[معنى مادة الأمر]

اشارة

المقصد الأوّل: في الأوامر، ما يتعلق بمادة الأمر

الجهة {الأُولى} في معاني لفظ الأمر. اعلم {أنّه قد ذكر للفظ الأمر معانٍ متعدّدةٌ: منها الطّلب} بحيث يكون معنى (أَمَرَ): طَلَبَ {كما يقال: (أمَرَهُ بكذا)} بمعنىطَلَبَهُ منه، {ومنها الشّأن} ومعناه بديهيّ، وقد يفسّر بالحال {كما يقال: (شغله أمر كذا)} أي: شأنه.

{ومنها: الفعل} مطلقاً بمعناه اللّغوي {كما في قوله - تعالى - : {وَمَآ أَمۡرُ فِرۡعَوۡنَ بِرَشِيدٖ}}

ص: 341


1- سورة هود، الآية: 97.

ومنها: الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}(1).

ومنها: الشّيء، كما تقول: (رأيتُ اليَوْمَ أمراً عجيباً).

ومنها: الحادثة.

ومنها: الغرض، كما تقول: (جاء زيدٌ لأمر كذا).

ولا يخفى: أنّ عدّ بعضِها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم؛ ضرورةَ أنّ الأمر في (جاء زيدٌ لأمرِ كذا) ما استعمل في معنى الغرض، بل (اللّام) قد دلّ على الغرض،

___________________

أي: فعله، {ومنها الفعل العجيب} وهو أخصّ ممّا قبله {كما في قوله - تعالى - : {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}} أي: فعلنا العجيب، {ومنها الشّيء} مطلقاً {كما تقول: (رأيت اليوم أمراً عجيباً)} أي: شيئاً عجيباً {ومنها الحادثة} نحو (وقع في البلد أمر) أي: حادثة، {ومنها الغرض، كما تقول: (جاء زيد لأمر كذا)} أي: للغرض الفلاني.{ولا يخفى أن عدّ بعضها من معانيه من} باب {اشتباه المصداق بالمفهوم} المصداق ما يصدق عليه اللّفظ. والمفهوم ما يفهم من اللّفظ، أي: معناه، فلو قيل: (جاءني رجل) كان المفهوم من لفظة (رجل) فرد من أفراد الإنسان المذكّر المرادف لقولنا في الفارسيّة: (مرد)، ومصداقه أي: الّذي جاء خارجاً يمكن أن يكون زيداً أو غيره.

إذا عرفت ذلك فنقول: الرّجل مستعمل في هذا المصداق الخاص، ولا يلزم منه أن يكون مفهوم الرّجل زيداً، فلو عدّ أحد من معاني الرّجل زيداً كان خطأ؛ لأنّه جعل المصداق مكان المفهوم، وفي ما نحن فيه كذلك {ضرورة أنّ} لفظ {الأمر في} مثال {(جاء زيد لأمر كذا)} الّذي تقدّم {ما استعمل} أي: لم يستعمل {في معنى الغرض، بل (اللّام) قد دلّ على} مفهوم {الغرض} والأمر مستعمل بمعنى الشّيء.

ص: 342


1- سورة هود، الآية: 66، 82.

نعم، يكون مدخوله مصداقه،فافهم.

وهكذا الحال في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}(1)، يكون مصداقاً للتّعجّب، لا مستعملاً في مفهومه. وكذا في الحادثة والشّأن.

وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول(2)

من كون لفظ الأمر حقيقةً في المعنيين الأوّلين.

ولا يبعد دعوى كونه حقيقةً في

___________________

{نعم، يكون مدخوله} أي: مدخول اللّام {مصداقه} أي: مصداق الغرض، فلو قال: (جئت لأمر) وكان جائياً للزّيارة، فالزّيارة مصداقالغرض الكلّي.

والحاصل: أنّ هنا كليّاً هو الغرض الصّادق على جزئيّات الأغراض، ومصداقاً وهو الزّيارة، ولفظ الأمر في المثال مستعمل في الفرد لا في الكلّي {فافهم}.

قال العلّامة القوچاني: «لعلّه إشارة إلى أنّه كذلك إذا استعمل بلا إضافة إلى شيء، وأمّا إذا استعمل معها كقولك: (جئتك لأمر كذا) فلا يبعد استعماله في مفهوم الغرض؛ لأنّه بمنزلة أن يقال: (لغرض كذا)»(3)، انتهى.

{وهكذا الحال في قوله - تعالى - : {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}} الّذي ادعي أنّه بمعنى الفعل العجيب، فإنّه غير صحيح، إذ الأمر في الآية {يكون مصداقاً للتعجّب} أي: ما يتعجّب منه {لا مستعملاً في مفهومه} كما توهّم {وكذا} الحال {في الحادثة والشّأن} فإنّ عدّهما من معاني الأمر من باب اشتباه المفهوم بالمصداق {وبذلك} الّذي ذكرنا من الفرق بين المفهوم والمصداق {ظهر ما في دعوى الفصول من كون لفظ الأمر حقيقةً في المعنيين الأوّلين} فقط، أي: الطّلب والشّأن، وقد ادّعي التّبادر والنّقل عن اللّغويّين بالنسبة إليهما {ولا يبعد} بقرينة التّبادر {دعوى كونه حقيقة في}

ص: 343


1- سورة هود، الآية: 66، 82.
2- الفصول الغرويّة: 62.
3- تعليقة القوچاني على كفاية الأصول 1: 153.

الطّلب - في الجملة - والشّيء.

هذا بحسب العرف واللّغة.

وأمّا بحسب الاصطلاح، فقد نُقِلَ الاتّفاق على أنّه حقيقةٌ في القول المخصوص، ومجازٌ فيغيره(1).

ولا يخفى: أنّه عليه لا يمكن منه الاشتقاق؛

___________________

معنيين: الأوّل: {الطّلب} وهو المعنى الأوّل لكن لا مطلقاً، بل {في الجملة} بحسب الخصوصيّات الّتي سنذكرها من كون الطّلب بالصيغة ونحوه.

{و} الثّاني: {الشّيء} من غير فرق بين أن يكون غرضاً أو حادثة أو غيرهما، وأمّا بقيّة المعاني الّتي أنهاها بعضهم إلى أربعة عشر - كما عن البدائع(2)

وغيره - فإن دخل تحت أحد هذين فهو وإلّا كان مجازاً.

و{هذا} الّذي ذكرنا من اختصاصه بهذين المعنيين إنّما هو {بحسب العرف واللّغة} فتأمّل.

{وأمّا} معنى الأمر {بحسب الاصطلاح} المتداول في ألسنة الفقهاء والأصوليّين {فقد نقل الاتفاق على أنّه حقيقة في القول المخصوص} وهي صيغة (إفعل) {ومجاز في غيره} مطلقاً.

{ولا يخفى} عليك {أنّه عليه} أي: أنّ الأمر بناءً على كونه موضوعاً للقول المخصوص {لا يمكن منه الاشتقاق} كأن يقال - مثلاً - : (أمر) بمعنى: قال القول المخصوص، و(يأمر) بمعنى: يقول القول المخصوص، وهكذا.

هذا إذا كان المراد وضعه للقول بمعنى المصدر، أي: التّلفّظ بالصيغة واضح؛أنّه حينئذٍ يكون من قبيل الإعلام فكما لا يمكن الاشتقاق من (زيد) و(عمرو)

ص: 344


1- الفصول الغرويّة: 63.
2- بدائع الأفكار: 198.

فإنّ معناه حينئذٍ لا يكون معنى حدثيّاً، مع أنّ الاشتقاقات منه - ظاهراً - تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم، لا بالمعنى الآخر، فتدبّر.

___________________

كذلك من الأمر.

وأمّا إذا كان المراد وضعه للقول بمعنى اسم المصدر - وهو مجرّد اللّفظ الخاص - فوجه عدم الاشتقاق أوضح، إذ يكون حال لفظ الأمر حال لفظ الاسم والفعل والحرف حيث يكون اسماً، كسائر أسماء الأجناس، فكما لا يصحّ الاشتقاق من لفظ الاسم بالنسبة إلى من تلفّظ أو يتلفّظ به، كذلك لا يصحّ الاشتقاق من لفظ الأمر بالنسبة إلى من يتلفّظ أو تلفّظ به، {فإنّ معناه} أي: معنى الأمر {حينئذٍ} أي: حين وضعه للقول المخصوص {لا يكون معنى حدثيّاً} وكلّ غير حدثيّ لا يشتقّ منه بداهة {مع} أنّ ما ذكر غير مستقيم، لبداهة صحّة الاشتقاق من الأمر.

والحاصل: أنّ الأمر لو كان موضوعاً للقول المخصوص لزم عدم الاشتقاق منه، لكن اللّازم باطل، فالملزوم مثله، بيان بطلان اللّازم: {أنّ الاشتقاقات منه} أي: من لفظ الأمر {ظاهراً تكون} من الأمر الّذي هو {بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم} فإنّهم إذا قالوا: (أمر) أرادوا أنّه تلفّظ بالقول المخصوص، وهكذا، و{لا} يكون الاشتقاقات من الأمر {بالمعنى الآخر} غير المصطلح {فتدبّر}.

قال المشكيني(رحمة الله): «فيه منع الظّهور المذكور أوّلاً، وظهور كونالاشتقاق منه بما له من المعنى العرفي ثانياً»(1)،

انتهى. ويمكن أن يكون وجهه أنّ لفظ الأمر المصطلح مصدر، بمعنى: التّلفّظ بلفظ دالّ على الطّلب من حيث صدوره من المتكلّم، فيكون معنى لفظ الأمر معنى حدثيّاً قابلاً للاشتقاق منه، وتفصيل ذلك موكول إلى حاشية السُّلْطَان.

ص: 345


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 309.

ويمكن أن يكون مرادهم به هو: الطّلب بالقول، لا نفسه - تعبيراً عنه بما يدلّ عليه - . نعم، القول المخصوص - أي: صيغة الأمر - إذا أراد العالي بها الطّلب يكون من مصاديق الأمر، لكنّه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.

___________________

{و} لكن {يمكن} الجواب عمّا تقدّم من أنّه لو كان موضوعاً للقول كيف يصحّ الاشتقاق منه؟ بما حاصله: {أن يكون مرادهم به} أي: بما ذكروا من كون لفظ الأمر موضوعاً للقول {هو الطّلب بالقول} فهو مدلول الأمر {لا نفسه} أي: نفس القول حتّى يكون جامداً، وإنّما ذكروا القول مكان الطّلب بالقول {تعبيراً عنه} أي: عن الطّلب {بما} أي: القول {يدلّ عليه} أي: على الطّلب، فذكروا القول الّذي يدلّ على الطّلب وأرادوا الطّلب.

وحيث بيّن أنّ معنى الأمر اصطلاحاً هو الطّلب بالقول استدرك بقوله: {نعم} قد يطلق الأمر على نفس {القول المخصوص، أي: صيغة الأمر} ك (إضرب) مثلاً، لكن {إذا أراد} الشّخص {العالي بها} أي: بهذه الصّيغة {الطّلب} من السّافل، ولا يخفى أنّ إطلاق الأمر حينئذٍ على القول؛ لأنّه {يكون من مصاديقالأمر} كما هو من مصاديق الطّلب.

والحاصل: أنّه لمّا وضع الأمر للطّلب بالقول كان مصداق الطّلب مصداقاً للأمر، لبداهة أنّ مصداق أحد المتساويين مصداق للآخر.

{لكنّه} أي: لكن هذا القول المخصوص يكون من مصاديق الأمر {بما هو} مصداق من مصاديق {طلب مطلق} من غير نظر إلى جهة علوّ الطّالب {أو} بما هو مصداق من مصاديق طلب {مخصوص} بالنظر إلى طلب العالي، وقوله: «بما هو» الخ أي: صدق الأمر عليه بما هو طلب، لا بما هو قول مخصوص؛ لأنّا أنكرنا كون الأمر موضوعاً للقول، ومثال ذلك: أنّه لو وضع العالم للمتلبّس بالعلم، فصدق العالم على زيد إنّما هو بملاحظة تلبّسه بالعلم، لا بما هو زيد،

ص: 346

وكيف كان، فالأمر سَهْلٌ لو ثبت النّقل، ولا مشاحّة في الاصطلاح، وإنّما المُهِمُّ بيان ما هو معناه عرفاً ولغةً ليحمل عليه في ما إذا ورد بلا قرينة.

وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسّنّة، ولا حجّة على أنّه على نحو الاشتراك اللّفظيّ أو المعنويّ أو الحقيقة والمجاز.

وما ذكر في التّرجيح عند تعارض هذه الأحوال - لو سلّم،

___________________

لعدم وضع العالِمِ لزيد، فتبصّر.

{وكيف كان، فالأمر سهل لو ثبت النّقل} عن معناه العرفي واللّغوي إلى الاصطلاحي كما تقدّم {ولا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح} لو ثبت، ووجه سهولة الأمر عدم الاهتمام بمعناه الاصطلاحي، لعدم ترتّب فائدة عليه {وإنّما المهم} الّذي يجب البحث عنه{بيان ما هو معناه عرفاً ولغة} إذ محطّ النّظر هو الخِطابات الشّرعيّة الّتي وردت على مقتضى العرف حسب قوله - تعالى - : {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1) فاللّازم أن يبيّن معنى الأمر في عرف الشّارع {ليحمل عليه} أي: على ذلك المعنى {في ما إذا ورد} الأمر {بلا قرينة} تفيد المراد منه {و} نحن بعد التّتبّع وجدنا أنّه {قد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب} الحكيم {والسّنّة} المقدّسة.

{ولا حجّة على أنّه على نحو الاشتراك اللّفظي} بأن يكون اللّفظ موضوعاً لكلّ واحد من تلك المعاني ابتداءً {أو} الاشتراك {المعنوي} بأن يكون اللّفظ موضوعاً لمعنى واحد جامع بين تلك المعاني {أو} أنّ اللّفظ بنحو {الحقيقة} في بعض {والمجاز} في بعض آخر {وما ذكر في} الأمر الثّامن من {التّرجيح عند تعارض هذه الأحوال} الثّلاثة وغيرها {لو سلم} كونها مرجّحة في نفسها

ص: 347


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

ولم يعارَض بمثله - فلا دليل على التّرجيح به، فلا بدّ مع التّعارض من الرّجوع إلى الأصل في مقام العمل.

نعم، لو علم ظهوره في أحد معانيه - ولو احتمل أنّه كان للانسباق من الإطلاق - فليحمل عليه، وإن لم يعلم أنّه حقيقة فيه بالخصوص أو في ما يعمّه، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأوّل.

الجهة الثّانية:

___________________

{ولم يعارض بمثله} كما تقدّم بيانه {فلا دليل على التّرجيح به} ما لم يوجب ظهور اللّفظ {فلا بدّ من التّعارض} بين احتمالي الحقيقية والمجاز، أو الاشتراك اللّفظي والمعنوي {من الرّجوع إلى الأصل في مقام العمل} من البراءة والاستصحاب وغيرهما حسب اختلاف المقامات.

{نعم، لو علم ظهوره} أي: ظهور لفظ الأمر {في أحد معانيه ولو احتمل أنّه} أي: الظّهور {كان للانسباق من الإطلاق} بأن لم يعلم أنّ هذا الظّهور ناش من الوضع، أو ناش من الانصراف لكثرة الاستعمال، مع عدم كون اللّفظ موضوعاً له بالخصوص {فليحمل} اللّفظ {عليه} أي: على ذلك المعنى الظّاهر لكون الظّهور حجّة، وحينئذٍ فلا مجال للأصل العملي {وإن لم يعلم أنّه} أي: الأمر {حقيقة فيه} أي: في هذا المعنى الظّاهر {بالخصوص أو} حقيقة {في ما يعمّه} بل ولو احتمل كون الظّهور لأجل قرينة عامّة، بأن كان اللّفظ مجازاً فيه {كما لا يبعد أن يكون} لفظ الأمر {كذلك} أي: ظاهراً {في المعنى الأوّل} وهو الطّلب.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الكلام ظاهر التّنافي لما تقدّم منه(قدس سره) من قوله: «ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطّلب في الجملة والشّيء»، فتأمّل.

اعتبار العلو

{الجهة الثّانية} في أنّ الطّلب الّذي هو معنى الأمر يعتبر فيه كونه من العالي أم

ص: 348

الظّاهر: اعتبار العلوّ في معنى الأمر، فلا يكون الطّلب من السّافل أو المساوي أمراً، ولو أُطلق عليه كان بنحوٍ من العناية.كما أنّ الظّاهر: عدم اعتبار الاستعلاء، فيكون الطّلب من العالي أمراً، ولو كان مستخفضاً لِجَنَاحِهِ.

وأمّا احتمال اعتبار أحدهما(1)

___________________

لا؟ و{الظّاهر} بقرينة التّبادر {اعتبار العلو في معنى الأمر} فإنّه إذا قيل: (أمر زيد عمرواً بكذا) فهم منه أنّ زيداً عالٍ - ولو كان السّامع لا يعرف زيداً ولا عمرواً - فملاك صدق الأمر وجود جهة العلو في الأمر بأن يصدر الطّلب منه {فلا يكون الطّلب من} الشّخص {السّافل أو المساوي} بالنسبة إلى المطلوب منه {أمراً} في الاصطلاح {ولو أُطلق عليه} أي: على طلبهما لفظ الأمر {كان بنحو من العناية} والمجاز، وذلك للمشابهة في الصّورة لكن قد جرى اصطلاح النّحاة على تسمية مطلق ما كان بصيغة (إفعل) بالأمر - كما لا يخفى - .

ثمّ هل يعتبر في صدق الأمر علاوة على علوّ الطّالب استعلاؤه، بأن يطلب بعنوان المولويّة والسّيادة {كما} اعتبر علوّه أم لا يعتبر؟ {إنّ الظّاهر} بقرينة التّبادر أيضاً {عدم اعتبار الاستعلاء} نعم، يعتبر عدم كونه على نحو الإرشاد والشّفاعة، وعلى هذا {فيكون الطّلب من} الشّخص {العالي أمراً ولو، كان} في مقام الطّلب {مستخفضاً لِجَنَاحِهِ}.

فائدة: استخفاض الجناح كنايةٌ عن التّذلّل والخضوع، وهو مأخوذ من خضوع الطّائر لأُمّه بخفض جناحه.

ثمّ إنّه تحصّل ممّا تقدّم اعتبار العلوّ في الأمر، لا الاستعلاء {وأمّااحتمال اعتبار أحدهما} على سبيل منع الخلو، بأن يكون الشّرط في صدق الأمر إمّا اعتبار العلوّ

ص: 349


1- قوانين الأصول 1: 81؛ هداية المسترشدين 1: 577.

فضعيف، وتقبيحُ الطّالب السّافل من العالي المستعلى عليه وتوبيخه - بمثل: (إنّك لِمَ تَأْمُرُه؟) - إنّما هو على استعلائه، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه، وإنّما يكون إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضيّة استعلائه.

وكيف كان، ففي صحّة سلب الأمر عن طلب السّافل - ولو كان مستعلياً - كفايةٌ.

___________________

ولو استخفض الطّالب، وإمّا الاستعلاء ولو لم يكن عالياً - كما ذهب إليه بعض الأساطين - بدليل تقبيح السّافل المستعلي بقولهم لم تأمره؟ فيعلم من ذلك كفاية الاستعلاء في صدق الأمر {فضعيف} لم يقم عليه دليل، بل صحّة السّلب دليل عدمه.

{و} أمّا ما استدلّ به من {تقبيح} العقلاء فعل {الطّالب السّافل من العالي} حين كان بصورة {المستعلى عليه وتوبيخه بمثل (إنّك لم تأمره؟)} فغير صحيح وبيانه يحتاج إلى مقدّمة، وهي: أنّ موضع الاستدلال بهذا الدّليل أمران:

الأوّل: تقبيح العقلاء، وجه الدّلالة أنّ التّقبيح إمّا راجع إلى المادّة وعدم قبحها بديهيّ، وإمّا راجع إلى الهيئة، وهي إمّا أمر أو التماس، وحيث لا قبح في الثّاني فلا بدّ أن يكون في الأوّل.

الثّاني: تسمية العقلاء هذا الطّلب أمراً.

إذا عرفت ذلك قلنا: هذا الاستدلال غير مستقيم، أمّا التّقبيح ف {إنّما هو على استعلائه لا على أمره حقيقة بعد استعلائه} فلا يكون دليلاً على صدق الأمر.{و} أمّا تسمية العقلاء ذلك الطّلب أمراً فنقول: {إنّما يكون إطلاق الأمر على طلبه} مجازاً لا حقيقة {بحسب ما هو قضيّة} أي: مقتضى {استعلائه} وعلاقة المجاز المشابهة بين العالي والمستعلي، مع أنّه لو لم نعلم كون لفظ الأمر هنا حقيقة أو مجازاً لم يمكن التّمسّك به لإثبات الحقيقة، إذ الاستعمال أعمّ.

{وكيف كان} المطلب {ففي صحّة سلب الأمرعن طلب} الشّخص {السّافل ولو كان مستعلياً} في مقام الطّلب {كفاية} لإثبات مجازيّة إطلاق الأمر عليه.

ص: 350

الجهة الثّالثة: لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقةً في الوجوب؛ لانسباقه عنه عند إطلاقه.

ويؤيّده قوله - تعالى - : {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}(1)؛

___________________

إفادة الأمر الوجوب

{الجهة الثّالثة} في معنى مادّة الأمر {لا يبعد كون لفظ الأمر} أي: أ، م، ر {حقيقة في الوجوب} فقط، فلو قال: (أمره) كان المعنى: أوجب عليه، وذلك {لانسباقه} أي: الوجوب {عنه} أي: عن لفظ الأمر {عند إطلاقه} من دون قرينة، بل وصحّة الحمل - كما قيل - .

{ويؤيّده} أي: كون الأمر للوجوب بعض الاستعمالات نحو {قوله - تعالى - : {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}}.وجه الدّلالة ما ذكره في المعالم من قوله: «حيث هدّد سبحانه مخالف الأمر، والتّهديد دليل الوجوب.

فإن قيل: الآية إنّما دلّت على أنّ مخالف الأمر مأمور بالحذر، ولا دلالة في ذلك على وجوبه إلّا بتقدير كون الأمر للوجوب وهو عين المتنازع فيه.

قلنا: هذا الأمر للإيجاب والإلزام قطعاً، إذ لا معنى لندب الحذر عن العذاب أو إباحته، ومع التّنزّل عن كونه للوجوب فلا أقلّ من دلالته على حسن الحذر، ولا ريب إنّه إنّما يحسن عند قيام المقتضي للعذاب، إذ لو لم يوجد المقتضي لكان الحذر عنه سفهاً وعبثاً، وذلك محال على اللّه - سبحانه - وإذا ثبت وجود المقتضي ثبت أنّ الأمر للوجوب؛ لأنّ المقتضي للعذاب هو مخالفة الواجب لا المندوب»(2)،

انتهى.

ثمّ إنّ وجه كون الآية مؤيّدة لا دليلاً أنّ غاية ما يدلّ أنّه استعمل الأمر للوجوب

ص: 351


1- سورة النّور، الآية: 63.
2- معالم الدين: 47.

وقوله(صلی الله علیه و آله): «لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسِّواك»(1)؛ وقوله(صلی الله علیه و آله) لبريرة

___________________

والاستعمال أعمّ من الحقيقة - كما لا يخفى - بل قد عرفت أنّ فهم الوجوب هنا بقرينة مادّة (الحذر).

{وقوله(صلی الله علیه و آله)} في الحديث المشهور: {«لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسواك»} وجه الدّلالة أنّ المشقّة إنّما تكون في الإلزام لا في النّدب، فلو لم يكن الأمر للوجوب لم تكنالمشقّة مانعة عنه، ووجه عدم كونه دليلاً أنّه استعمال وهو أعمّ كما تقدّم، مع أنّه فهم الوجوب بقرينة المشقّة.

{وقوله(صلی الله علیه و آله)} أيضاً {لبريرة} في ما رواه في مستدرك الوسائل في الباب السّادس والثّلاثين من أبواب نكاح العبيد والإماء، عن غَوَالي اللّئالي ما لفظه: «روى ابن عبّاس أنّ زوج بريرة كان عبداً أسود، يقال له: مغيث، كأنّي أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تجري على لحيته.

فقال النّبيّ(صلی الله علیه و آله) للعبّاس: يا عبّاس، ألا تعجب من حبّ مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثاً؟ فقال لها النّبيّ(صلی الله علیه و آله): لو راجعته فإنّه أبو ولدك. فقالت: يا رسول اللّه تأمرني؟ قال: لا، إنّما أنا شفيع. فقالت: لا حاجة لي فيه»(2)، انتهى.

وقصّة بريرة - كما رواها في الوسائل - أنّ بريرة كانت عند زوج لها وهي مملوكة، فاشترتها عائشة وأعتقتها، فخيّرها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقال: «إن شاءت أن تقرّ عند زوجها وإن شاءت فارقته»(3)،

انتهى.

أقول: إنّما خيّرها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لأنّ الأمة إذا كانت زوجة العبد ثمّ أُعتقت، تخيّرت في فسخ عقدها وعدمه.

ص: 352


1- الكافي 3: 22.
2- غوالي اللّئالي 3: 349.
3- وسائل الشّيعة 21: 162.

- بعد قولها: أتأمرني يا رسول الله؟ - : «لا، بل إنّما أنا شافع»(1)

إلى غير ذلك؛ وصحّةُ الاحتجاج على العبد ومؤاخذتِهِ بمجرّد مخالفة أمره، وتوبيخه على مجرّد مخالفته، كما

___________________

ثمّ إنّ وجه الاستدلال بهذا الحديث أنّ قوله(صلی الله علیه و آله) لبريرة {بعد قولها: أتأمرني يا رسول الله؟ - : «لا، بل إنّما أنا شافع»} أو: لا إنّما أنا شافع - كما في لفظ الرّواية تدلّ على أنّ الأمر للوجوب، إذ لو لم يكن للوجوب ما كان لاستفهام بريرة معنىً، وكذلك لقول النّبيّ(صلی الله علیه و آله): لا، ووجه كونه مؤيّداً لا دليلاً - بعد كون الاستعمال أعمّ من الحقيقة - وجود القرينة وهي مقابلته بالشفاعة ثمّ إنّ الشّفاعة طلب يرجع فائدته إلى ثالث، وجعلها بعضهم مقابلاً للأمر والالتماس والسّؤال، نظراً إلى عدم انحصارها في العالي أو الدّاني أو المساوي الّتي كانت شرائط للثّلاثة الأُوَل(2){إلى غير ذلك}.

فإن قلت: ما وجه جعلكم الأدلّة الثّلاثة مؤيّدات مع أنّ أصالة عدم القرينة تفيد الحقيقة؟

قلت: أصالة عدم القرينة إنّما تكون لتعيين المراد، لا لكون الاستعمال بعد معلوميّة المراد على وجه الحقيقة أو المجاز {وصحّة الاحتجاج} عطف على «لانسباقه» وعلى هذا يكون دليلاً، والظّاهر أنّه عطف على قوله: «قوله - تعالى - {فَلۡيَحۡذَرِ}» فيكون مؤيّداً، أي: يدلّ على كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب صحّة احتجاج المولى {على العبد ومؤاخذته بمجرّد مخالفة أمره} في ما لو طلب منه شيئاً بلفظ الأمر فلم يفعل فإنّه يحسن عند العقلاء عقوبته {وتوبيخه على مجرّد مخالفته} ولو لم يكن قرينة أصلاً {كما} ترى أنّ اللّه - سبحانه - لامإبليس

ص: 353


1- مستدرك الوسائل 15: 32.
2- قال العلّامة المشكيني: «ربّما يقال بسلامة خبر بريرة عنها؛ لأنّ الاستشهاد فيه بفهم النبيّ(صلی الله علیه و آله) للوجوب من إطلاقه لا بأصالة عدم القرينة، والظاهر كون فهمه(صلی الله علیه و آله) مستنداً إلى حاق اللفظ»، انتهى. كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 319.

في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ}(1).

___________________

{في قوله - تعالى - : {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ}} وجه الدّلالة أنّه - تعالى - رتّب الذّمّ على مجرّد مخالفة الأمر ولو كان الأمر أعمّ من الوجوب لم يكن مرتّباً، فإنّ ما يرتّب على الخاصّ لا يصحّ ترتّبه على العامّ إلّا مجازاً.

مثلاً: لو كان المحظور إدخال الإنسان في الدّار لم يصحّ في مقام المؤاخذة أن يقول المولى لعبده: (لم أدخلت الحيوان) إلّا توسّعاً، ووجه كونه مؤيّداً لا دليلاً ما تقدّم من كون الاستعمال أعمّ مضافاً إلى وجود القرينة.

ثمّ إنّ وجه الاستدلال بهذه الآية على كون المادّة للوجوب - كما هنا - غير الاستدلال على كون الصّيغة للوجوب كما في المعالم(2).

تنبيه: قال في المغني في باب اللّام: «الثّالث: لا الزّائدة الدّاخلة في الكلام لمجرّد تقويته وتوكيده، نحو: {مَا مَنَعَكَ إِذۡ رَأَيۡتَهُمۡ ضَلُّوٓاْ ٭ أَلَّا تَتَّبِعَنِۖ}(3)، {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ}(4). وتوضحه الآية الأُخرى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ}»(5)(6)،

انتهى.وقال في الغنية - بعد نقله الإشكال عن الرّازي في زيادة اللّام - : «فأوّل على أنّ ما استفهاميّة للإنكار، معناه: أيّ شيء منعك عن السّجود، أو على أنّه ذكر المنع وأُريد الدّاعي، فكأنّه قيل: ما دعاك إلى أن لا تسجد».

ص: 354


1- سورة الأعراف، الآية: 12.
2- معالم الدين: 47.
3- سورة طه، الآية: 92 - 93.
4- سورة الأعراف، الآية: 12.
5- سورة ص، الآية: 75.
6- مغني اللبيب 1: 248.

وتقسيمُه إلى الإيجاب والاستحباب إنّما يكون قرينةً على إرادة المعنى الأعمّ منه في مقام تقسيمه، وصحّة الاستعمال في معنى أَعَمُّ من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى.

وأمّا ما أُفيد من أنّ الاستعمال فيهما ثابت، فلو لم يكن موضوعاً للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز(1)، فهو غير مفيد؛ لما مرّت الإشارة إليه في الجهة الأُولى،

___________________

{و} اعلم أنّه قد ذهب جماعة إلى أنّ الأمر حقيقة في الأعم من الوجوب والاستحباب على نحو الاشتراك المعنوي، واستدلّوا لذلك بصحّة {تقسيمه إلى الإيجاب والاستحباب} بأن يقال: الأمر إمّا واجب أو مستحب، ولولا أنّه كان مشتركاً لم يصحّ التّقسيم، إذ تقسيم الشّيء إلى نفسه وغيره محال، وفيه أنّه {إنّما يكون قرينة على إرادة المعنى الأعمّ منه} أي: من الإيجاب {في مقام تقسيمه، و} هذا لا يوجب كونه مشتركاً، إذ هذا التّقسيم إنّما يثبت {صحّة الاستعمال في معنى} مشترك، وصحّة الاستعمال {أعمّ من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى} ومرّ غير مرّة. نعم، إذا أحرز أنّ التّقسيم بلا عناية كان مفيداً، وأنّى لهم بإثبات ذلك.{وأمّا ما أُفيد} في وجه الاشتراك المعنوي {من أنّ الاستعمال فيهما} أي: الوجوب والنّدب {ثابت} قطعاً {فلو لم يكن موضوعاً للقدر المشترك بينهما لزم} أحد أمرين: {الاشتراك} اللّفظي، إذا كان لكلّ واحدٍ منهما وضع على حدّه. {أو} الحقيقة و{المجاز} إذا كان الوضع لأحدهما فقط، وحين دار الأمر بين هذه الثّلاثة فالاشتراك المعنوي خير من قسيميه - كما تقرّر في بحث تعارض الأحوال - فلا بدّ من الاشتراك المعنوي ترجيحاً للرّاجح على المرجوح {فهو غير مفيد} جواب «أمّا» {لما مرّت الإشارة إليه في الجهة الأُولى} من قوله: «وما ذكرت في

ص: 355


1- مبادئ الأصول: 93.

وفي تعارض الأحوال، فراجع.

والاستدلالُ بأنّ فعل المندوب طاعة، وكلّ طاعة فهو فعل المأمور به(1)،

فيه ما لا يخفى من منع الكبرى لو أُريد من المأمور به معناه الحقيقي، وإلّا لا يفيد المدّعى.

___________________

التّرجيح عند تعارض هذه الأحوال» الخ {وفي} الأمر الثّامن في بحث {تعارض الأحوال} من أنّ هذه الوجوه الاستحسانيّة لا تثبت الوضع، وإنّما الملاك هو حصول الظّهور {فراجع} وتذكّر.

{و} أمّا ما ذكروا أيضاً من {الاستدلال} على الاشتراك المعنوي {بأنّ فعل المندوب طاعة وكلّ طاعة فهو فعل المأمور به} فالمندوب مأمور به بعد حذف المضافين، فيرد عليه بأنّ {فيه ما لا يخفى من} الإشكال، إذ لنا {منع الكبرى}أي: قوله: «وكلّ طاعة» الخ {لو أُريد من المأمور به معناه الحقيقي} إذ لا نسلّم أنّ كلّ طاعة فهو فعل المأمور به الحقيقي، فإنّ بين الطّاعة وبينه عموماً مطلقاً {وإلّا} يرد من المأمور به معناه الحقيقي، بل أُريد معنى يساوي الطّاعة ف {لا يفيد المدّعي} أي: الاشتراك المعنوي؛ لأنّ صدق المأمور به بالمعنى الأعم على المندوب لا يلزم صدق المأمور به الحقيقي عليه، إذ ليس كلّما صدق العام صدق الخاص - كما لا يخفى - .

تنبيه: ذكر بعض المحقّقين: «أنّ العلوّ والاستعلاء والالتماس والسّؤال، عناوين منتزعة من أحوال الطّالبين علوّاً ودنوّاً وتساوياً، والوجوب والنّدب ونحوهما، منتزعة من نفس الطّلب المدلول عليه بالصيغة، وتقابل الالتماس والدّعاء للعلوّ ليس باعتبار الإلزام وعدمه، لوضوح أنّ الملتمس والسّائل ربّما لا يرضون بترك المطلوب، كما أنّ العالي ربّما لا يكون مقصوده الإيجاب والإلزام»(2)،

انتهى.

ص: 356


1- قوانين الأصول 1: 82.
2- الحاشية على كفاية الأصول 2: 9.

الجهة الرّابعة: الظّاهر أنّ الطّلب الّذي يكون هو معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقيّ - الّذي يكون طلباً بالحمل الشّائع الصِّناعي - ، بل الطّلب الإنشائيّ - الّذي لا يكون بهذا الحمل طلباً مطلقاً، بل طلباً إنشائيّاً - ،

___________________

الطّلب والإرادة

{الجهة الرّابعة} في الطّلب والإرادة وبيان الحقّ في أنّ الطّلب هل هو عين الإرادة - كما نسب إلى العدليّة من الشّيعة والمعتزلة - أو أنّ الطّلب غير الإرادة - كما نسب إلى الأشاعرة - ؟مقدّمة: اعلم أنّ الطّلب مقول بالاشتراك على ثلاثة أنواع:

الأوّل: الطّلب الّذي يكون من صفات النّفس الّتي له وجود في الخارج وهو من الكيفيّات النّفسانيّة.

الثّاني: الطّلب الإنشائي المنتزع عن مقام إظهار الإرادة باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة، مثلاً صيغة (إفعل) طلب إنشائي لكونه مظهراً للإرادة.

الثّالث: مفهوم الطّلب الجامع بين النّوعين الأوّلين.

إذا عرفت ذلك، فاعلم {الظّاهر أنّ الطّلب الّذي يكون هو معنى} مادّة {الأمر} لغة وعرفاً، ولذا لو قال: (آمرك بكذا) فسّره العرف بأنّه طلب منه {ليس هو الطّلب الحقيقي} القائم بالنفس ومن صفاتها الخارجيّة، أي: النّوع الأوّل {الّذي يكون طلباً بالحمل الشّائع الصِّناعي} الّذي تقدّم أنّ ملاكه الاتحاد بحسب الوجود، وأمّا عدم كونه طلباً بالحمل الأوّلي الذّاتي الّذي ملاكه الاتحاد المفهومي فبديهيّ لا يخفى.

وكذا ليس الطّلب الّذي هو معنى الأمر النّوع الثّالث - أعني: مفهوم الطّلب الجامع بين النّوعين - {بل} معنى مادّة الأمر هو {الطّلب الإنشائي} أي: النّوع الثّاني {الّذي لا يكون بهذا الحمل} الشّائع {طلباً مطلقاً} من غير تقييد {بل} كان {طلباً إنشائيّاً}.

ص: 357

سواء أنشأ بصيغة (إفْعَل)، أو بمادّة الطّلب، أو بمادّة الأمر، أو بغيرها.

___________________

والحاصل: أنّ قولهم: «الأمر معناه الطّلب» يراد منه أنّ الأمر معناه الطّلب الإنشائي، ولا يراد منه أنّ الأمر معناه الطّلب الحقيقي، أو الطّلب المفهومي الجامع.والدّليل على ما ذكر أنّ الطّلب الحقيقي إنّما يوجد بأسبابه الخاصّة، كما أنّ العلم يوجد بأسبابه الخاصّة، وأمّا الطّلب الإنشائي فإنّه يوجد باللفظ، فما يوجد بلفظ الأمر لا يمكن أن يكون طلباً حقيقيّاً، ولذا ترى أنّ المولى قد يأمر عبده من غير قيام طلب حقيقيّ بنفسه، وأمّا النّوع الثّالث - أعني: مفهوم الطّلب - فإنّه لا يوجد إلّا بأحد فرديه - كما لا يخفى - وعليه فلا يمكن أن يكون لفظ الأمر الموضوع لأحد فرديه أعني: الإنشائي دالّاً عليه.

تنبيه: قول المصنّف: «الّذي يكون طلباً بالحمل» الخ، وقوله: «الّذي لا يكون بهذا الحمل طلباً» الخ، فيه مسامحة، إذ الحمل لا بدّ له من محمول ومحمول عليه، والطّلب حقيقيّة وإنشائيّة لا يحملان على شيء، فالأحسن أن يقول: «المعبّر عنه بلفظ الطّلب مطلقاً» عوض العبارة الأُولى، ويقول: «الّذي لا يعبّر عنه بلفظ الطّلب مطلقاً، بل يعبّر عنه بلفظ الطّلب الإنشائي» عوض العبارة الثّانية، فتأمّل(1).

ولا يذهب عليك أنّ الطّلب إذا لم يكن مفهوميّاً ولا حقيقيّاً كان إنشائيّاً {سواء أنشأ بصيغة (إفعل)} ك (إضرب) {أو} أُنشأ {بمادّة الطّلب} نحو (اطلب) {أو} أنشأ {بمادّة الأمر} الّذي هو محلّ الكلام نحو (أمر) {أو} أنشأ {بغيرها} كالإشارة والكتابة.

ص: 358


1- راجع حاشية المشكيني مع قول المصنّف: «إنّ الطّلب الّذي يكون هو معنى الأمر». كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 321.

ولو أبيت إلّا عن كونه موضوعاً للطّلب، فلا أقلّ من كونه منصرفاً إلى الإنشائي منه عند إطلاقه، كما هو الحال في لفظ الطّلب أيضاً، وذلك لكثرة الاستعمال في الطّلب الإنشائي.

كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكسلفظ الطّلب،

___________________

{ولو أبيت إلّا عن كونه} أي: كون لفظ الأمر {موضوعاً للطّلب} بقول مطلق من غير تقييد بالإنشائي {فلا أقلّ من كونه} أي: الأمر {منصرفاً إلى الإنشائي منه} أي: من الطّلب {عند إطلاقه} أي: إطلاق الأمر، ولذا ترى أنّ الشّوق المؤكّد القائم بنفس المولى - الّذي هو طلب حقيقي - لا يسمّى أمراً {كما هو الحال في لفظ الطّلب} فإنّه - وإن كان موضوعاً للمفهومي الجامع بين قسمي الطّلب الإنشائي والحقيقي {أيضاً} - لكنّه حين الإطلاق ينصرف من: (طلب فلان من فلان شيئاً) الطّلب الإنشائي فتأمّل {وذلك} الانصراف في لفظ الأمر إنّما كان {لكثرة الاستعمال في الإنشائي}.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وممّا يدلّ على ما ذكر صحّة سلب الأمر عن الكيفيّة القائمة بالنفس الموجودة بوجود سببها ما لم ينشأ المولى بصيغة (إفعل) أو ما هو بمعناها، ضرورة أنّه عند الشّوق المتأكّد الموجود في نفس المولى وعدم إنشائه بعد، يصحّ أن يقال أنّه ليس بآمر والعبد ليس بمأمور وتلك الكيفيّة ليست بأمر»(1)، انتهى.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه يوجب الحقيقة الثّانويّة، وخروج المعنى الأوّل عن الحقيقة، والظّاهر أنّ مراد المصنّف(رحمة الله) ليس ذلك.

فتحصّل ممّا تقدّم أنّ لفظ الطّلب منصرف إلى الإنشائي {كما أنّ الأمر} أي: الشّأن {في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطّلب} فإنّ الإرادة - وإن كانت على ثلاثة أنواع: المفهومي الجامع،والحقيقي، والإنشائي - .

ص: 359


1- شرح كفاية الأصول 1: 87.

والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة.

واختلافُهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا(1)

إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطّلب والإرادة، خلافاً لقاطبة أهل الحقّ والمعتزلة من اتّحادهما(2).

___________________

{و} لكن {المنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة} القائمة بالنفس، بل يمكن ادّعاء صحّة سلب الإرادة عن الإنشائي منها، لبداهة أنّ المولى إذا أمر عبده من دون إرادة قلبيّة يصحّ أن يقال أنّه ليس بمريد، فتدبّر.

وهذا أوان الشّروع في ما هو خارج عن البحث من بيان معنى الطّلب والإرادة وكان الأولى طرح هذا عن الكتاب إلى أوّل الفصل الثّاني: {واختلافهما} أي: الطّلب والإرادة {في ذلك} الانصراف المذكور صار سبباً لاشتباه بعض، قال المشكيني: «حيث إنّهم تخيّلوا أنّ المتبادر من كلّ منهما معنى حقيقيّ له، ولا شبهة في تغاير الطّلب الإنشائي مع الإرادة الحقيقيّة، ولم يتفطّنوا أنّه من باب الانصراف، وأنّ المدّعى هو الاتحاد مع حفظ المرتبة، كما سيأتي بيانه»(3).

والحاصل: أنّ الانصراف {ألجأ بعض أصحابنا} كالسيّد في المحصول وشيخ المحقّقين في هداية المسترشدين {إلى الميلإلى ما ذهب إليه الأشاعرة}(4)

من العامّة {من المغايرة بين الطّلب والإرادة} حقيقة {خلافاً لقاطبة أهل الحق} وهم الشّيعة {والمعتزلة من} العامّة، فإنّهم ذهبوا إلى {اتحادهما}.

ص: 360


1- هداية المسترشدين 1: 586.
2- كشف المراد: 223.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 326.
4- لا يخفى أنّ العامّة في الأصول على مذهبين: الأشعري والمعتزلي، وفي الفروع على أربعة مذاهب: الحنفي والحنبلي والمالكي والشّافعي، وقد يقال: إنّ أقربهم إلى الشّيعة في الأصول المعتزلة وفي الفروع الشّافعيّة.

فلا بأس بصرف عِنان الكلام إلى بيان ما هو الحقّ في المقام، وإن حقّقناه في بعض فوائدنا(1)

إلّا أنّ الحوالة لمّا لم تكن عن المحذور خالية، والإعادة ليست بلا فائدة ولا إفادة، كان المناسب هو التّعرّض هاهنا أيضاً.

فاعلم: أنّ الحقّ كما عليه أهله - وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة - هو اتّحاد الطّلب والإرادة، بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بإِزاء مفهوم واحد، وما بإِزاء أحدهما في الخارج يكون بإِزاء الآخر، والطّلب المُنْشَأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة.

___________________

وحيث انجرّ بنا البحث إلى هذا المقام {فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحقّ} من الاتحاد وعدمه {في} هذا {المقام، وإن حقّقناه في بعض فوائدنا} المطبوعة مع حواشي الفرائد {إلّا أنّ الحوالة} على ذلك الكتاب {لمّا لم تكن عن المحذور خالية}لإجمال عبارة الفوائد أو عدم حضور نسختها عند كلّ أحد {والإعادة} عطف على «الحوالة» {ليست بلا فائدة} بالنسبة إلى العالم {ولا إفادة} بالنسبة إلى المتعلّم {كان المناسب هو التّعرّض هاهنا أيضاً: فاعلم أنّ الحقّ - كما عليه أهله} أي: الشّيعة {وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة - هو اتحاد الطّلب والإرادة} معنىً {بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بإِزاء مفهوم واحد} فهما مترادفان {و} يكون {ما بإِزاء أحدهما في} العقل وفي {الخارج} هو الّذي {يكون بإِزاء الآخر} كما هو شأن كلّ أمرين مترادفين.

{و} على هذا فيكون {الطّلب المنشأ بلفظه} أي: بلفظ الطّلب، نحو (اطلب) {أو بغيره} نحو (مُرْ، وإضْرِبْ، وليفعل) {عين الإرادة الإنشائيّة} فالفرد الخارجي لأحدهما هو الفرد الخارجي للآخر، فمصداق أحدهما مجمع العنوانين.

ص: 361


1- فوائد الأصول: 23.

وبالجملة: هما متّحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، لا أنّ الطّلب الإنشائي الّذي هو المنصرف إليه إطلاقه - كما عرفت - متّحد مع الإرادة الحقيقيّة الّتي ينصرف إليها إطلاقها أيضاً؛ ضرورةَ أنّ المغايرة بينهما أظهر من الشّمس، وأبين من الأمس.

فإذا عرفت المراد من حديث العينيّة والاتّحاد، ففي

___________________

{وبالجملة هما} أي: الطّلب والإرادة {متّحدان مفهوماً} أي: مفهومهما الجامع بين الأقسام الثّلاثة الآتية {وإنشاءً}فإنشاء الطّلب هو إنشاء الإرادة {وخارجاً} فإنّ الصّفة القائمة بالنفس الّتي تسمّى بالإرادة هي الطّلب، وذهناً فإنّ تصوّر الطّلب هو تصوّر الإرادة.

ولا يخفى أنّ بين المفهوم وبين الثّلاثة الأُخر عموماً مطلقاً، فكلّ واحد من الثّلاثة يصدق عليه مفهوم الطّلب ولا عكس {لا أنّ الطّلب} عطف على قوله: «إنّ لفظيهما موضوعان» الخ.

والحاصل: أنّ كلّ مرتبة من مراتب الطّلب متّحدة مع تلك المرتبة من مراتب الإرادة فالطلب الحقيقي متّحد مع الإرادة الحقيقيّة، والطّلب الإنشائي متّحد مع الإرادة الإنشائيّة، لا أنّ الطّلب {الإنشائي الّذي هو المنصرف إليه إطلاقه} أي: إطلاق الطّلب {كما عرفت} سابقاً {متّحد مع الإرادة الحقيقيّة الّتي ينصرف إليها إطلاقها} أي: إطلاق الإرادة - كما تقدّم - {أيضاً} ووجه عدم الاتحاد بين الطّلب والإرادة مع اختلاف المرتبة في كمال الوضوح.

{ضرورة أنّ المغايرة بينهما} حينئذٍ {أظهر من الشّمس وأبين من الأمس} فإنّ الإرادة الحقيقيّة - كما في المثال - أمر متأصّل خارجيّ قائم بالنفس لها أسباب خاصّة، والطّلب الإنشائي أمر غير متأصّل ولا قائم بالنفس له أسباب مغايرة لأسباب الإرادة.

{فإذا عرفت المراد من حديث العينيّة والاتحاد} بين الطّلب والإرادة {ففي} مقام

ص: 362

مراجعة الوِجْدان - عند طلب شيء والأمر به حقيقةً - كفايةٌ، فلا يحتاج إلى مزيد بيانٍ وإقامة برهانٍ؛ فإنّ الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنّفس صفةً أُخرى قائمةً بها يكون هو الطّلب غيرها، سوى ما هو مقدّمةُ تحقّقها عند خطور الشّيء، والميل وهيجان الرّغبة إليه، والتّصديق لفائدته،وهو الجزم بدفع ما يوجب توقّفه عن طلبه لأجلها.

___________________

الدّليل لذلك نقول في {مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة} لا امتحاناً {كفاية} فإنّ الصّفة القائمة بالنفس واحدة ويعبّر عنها بالإرادة تارة وبالطلب أُخرى {فلا يحتاج} في إثبات العينيّة والاتحاد بعد الوجدان الّذي هو أدلّ دليل على الشّيء {إلى مزيد بيان وإقامة برهان}.

ثمّ بيّن دلالة الوجدان بقوله: {فإنّ الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنّفس صفة أُخرى قائمة بها} أي: بالنّفس {يكون هو الطّلب غيرها} أي: غير الإرادة، خلافاً للأشاعرة القائلين بمغايرة الطّلب للإرادة {سوى ما هو مقدّمة تحقّقها عند خطور الشّيء}.

والحاصل: أنّا لا نجد سوى الإرادة ومقدّماتها صفةً تسمّى بالطّلب، وأمّا مقدّمات الإرادة فهي خمسة:

الأُولى: ما أشار إليه بقوله: «عند خطور الشّيء» وبعبارة أُخرى: العلم بالشّيء.

{و} الثّالثة: {الميل} إلى الشّيء.

{و} الرّابعة والخامسة: {هَيَجان الرّغبة إليه} المنحلّ إلى الجزم والعزم على اصطلاحهم.

{و} الثّانية: {التّصديق لفائدته} وإنّما أخّرنا الثّانية تبعاً للمصنّف(رحمة الله) {وهو} أي: ما هو مقدّمة تحقّقها عبارة عن {الجزم بدفع ما يوجب توقّفه} أي: توقّف المريد {عن طلبه} أي: طلب المراد {لأجلها} أي: لأجل الإرادة.

ص: 363

وبالجملة: لا يكاد يكون غير الصّفات المعروفة

___________________

ولا يخفى أنّ في الإرادة بحثاً طويلاً لا بأس بالإشارة إلى ما هو مربوط بالمطلب قال السّبزواريّ: «إنّ الإرادة فينا شوق مؤكّد يحصل عقيب داع هو إدراك الشّيء الملائم إدراكاً يقينيّاً أو ظنيّاً أو تخيّليّاً موجباً لتحريك الأعضاء لأجل تحصيل ذلك الشّيء»(1).

وقال في الحاشية: «قد عرّفت بتعريفات شتّى: فقيل: إنّها اعتقاد المنفعة، وقيل: إنّها ميل يتبع اعتقاد المنفعة، وقيل: إنّها صفة مخصّصة لأحد المقدورين، وقيل: إنّها القصد المتعقّب للعزم المتعقّب للجزم وتوطين النّفس على الفعل المتعقّب للميل المتعقّب للتصديق بالغاية المتعقّب لتصوّر الفعل»(2)،

انتهى.

وذكر في درر الفوائد ما حاصله: أنّ بيان مصداق الإرادة في الممكنات يحتاج إلى تفصيل، فأوّل ما يحتاج إليه في الفعل الاختياري هو العلم المسمّى بالداعي، كما قال الشّاعر:

بلى اين حرف نقش هر خَيَال است

كه نادانسته را جستن محال است

ثمّ الشّوق المؤكّد نحو وجوده إن كان ملائماً بطبع الفاعل المسمّى بالإرادة، ثمّ تصميم النّفس نحو فعله بعد حصول التّحيّر والتّردّد برفع التّحيّر والبناء على إيجاده بترجيح جانب وجوده ومقتضيات وجوده على عدمه، وهذا هو المسمّى بالإجماع، ثمّ حركة العضل فالفعل مترتّب على حركة العضل، بل هو نفس حركة العضل، وعند تمام هذه المقدّمات يقال: إنّه فعل بالإرادة.{وبالجملة لا يكاد يكون غير الصّفات المعروفة} الّتي هي مقدّمات الإرادة

ص: 364


1- شرح المنظومة 3: 648.
2- شرح المنظومة 3: 647.

والإرادة هناك صفة أُخرى قائمة بها يكون هو الطّلب، فلا محيص إلّا عن اتّحاد الإرادة والطّلب، وأن يكون ذاك الشّوق المؤكّد - المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لأمر عبيده به في ما لو أراده لا كذلك - مسمّىً بالطّلب والإرادة، كما يعبّر به تارةً وبها أُخرى، كما لا يخفى.

وكذا الحال في سائر الصّيغ الإنشائيّة

___________________

{و} غير {الإرادة هناك} في صقع النّفس {صفة أُخرى قائمة بها} بحيث {يكون هو الطّلب} وحيث لم يكن كذلك {فلا محيص إلّا عن اتّحاد الإرادة والطّلب} حقيقةً.

{و} على هذا فلا بدّ و{أن يكون ذاك الشّوق المؤكّد} الحاصل في النّفس {المستتبع لتحريك العضلات} نحو المطلوب {في إرادة} الشّخص {فعله} أي: فعل نفسه {بالمباشرة، أو} الشّوق المؤكّد {المستتبع لأمر عبيده به} أي: بالمطلوب المستفاد من الكلام {في ما لو أراده لا كذلك} أي: لا بالمباشرة {مسمّى بالطلب والإرادة} خبر «يكون».

والحاصل: أنّ الشّوق المؤكّد على قسميه يسمّى بالطلب تارةً وبالإرادة أُخرى، فيكونان من قبيل المترادفين {كما} تقدّم، ولهذا {يعبّر} عن هذا الشّوق {به} أي: بالطلب {تارةً، وبها} أي: بالإرادة تارة {أُخرى،كما لا يخفى} هذا حاصل البرهان الوجداني على اتحاد الطّلب والإرادة.

ولا يذهب عليك أنّ النّزاع في اتحاد الطّلب والإرادة وعدمه ليس بحثاً لغويّاً راجعاً إلى أنّهما لفظان مترادفان لمعنىً واحدٍ أم لا، بل النّزاع معنوي راجع إلى المعنى أوّلاً وبالذات وإلى اللّفظ ثانياً وبالعرض، فالنزاع واقع في أنّه هل هناك وصفان حقيقيّان متغايران ولو من وجه قد وضع لأحدهما الطّلب وللآخر الإرادة أم لا، بل ليس في النّفس إلّا صفة واحدة؟

{وكذا الحال في سائر الصّيغ الإنشائيّة} سواء كانت طلبيّة كالنهي والاستفهام أو

ص: 365

والجُمَل الخبريّة، فإنّه لا يكون غير الصّفات المعروفة القائمة بالنّفس - من التّرجّي والتّمنّي والعلم إلى غير ذلك - صفة أُخرى، كانت قائمة بالنّفس وقد دلّ اللّفظ عليها، كما قيل:

إنّ الكلام لفي الفُؤَادِ وإنّما جُعِلَ اللِّسانُ على الفُؤادِ دليلاً(1)

___________________

غير طلبيّة، كالتمنّي والتّرجّي والمدح والذّمّ والدّعاء والعقود والإيقاعات، وسائر الإنشاءات، كالسخريّة ونحوها.

{و} كذلك {الجمل الخبريّة} من الاسميّة والفعليّة والظّرفيّة والشّرطيّة والماضويّة والحاليّة والاستقباليّة، فإنّ بين الأشعري وغيره في جميع ذلك خلافاً، فالأشعري يرى أنّ غير العلم في الأخبار وغير التّمنّي والتّرجّي الخ في الإنشاء يكون هناك صفة قائمة بالنفس، ويعبّر عنها بالكلام النّفسي، وغير الأشعري ينكر ذلك {فإنّه لا يكون غير الصّفاتالمعروفة القائمة بالنفس من التّرجّي والتّمنّي} في الإنشاء {والعلم} في الإخبار {إلى غير ذلك} من سائر الصّفات القائمة بالنفس من المدح والذّمّ وسائر ما ذكر {صفة أُخرى} خبر «يكون» بحيث {كانت} تلك الصّفة {قائمة بالنفس وقد دلّ اللّفظ عليها} أي: على الصّفة {كما} يقوله الأشعري.

و{قيل} نظماً في بيان الكلام النّفسي:

{إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جعل اللّسان على الفؤاد دليلاً}

فقد استدلّ الأشاعرة بهذا البيت على الكلام النّفسي، وفيه - مع أنّه لا يستشهد بمثله - أنّه من القريب جدّاً أنّ مراد الشّاعر أنّ الكلام اللّفظي كاشف بالالتزام عن قيام الصّفات الحقيقيّة بالنفس، فقول القائل: (اضرب) أو (ليت كذا) أو (زيد قائم) يكشف عن قيام الطّلب والتّمنّي والعلم بنفسه، ولهذا يكذب في مقاله إذا ظهر عدم قيام تلك الصّفات بنفسه، كما لا يخفى.

ص: 366


1- القائل هو الأخطل النّصرانيّ شاعر الأمويين - لعنهم اللّه - .

وقد انقدح بما حقّقناه ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة - بالأمر مع عدم الإرادة، كما في صورتَي الاختبار والاعتذار -

___________________

تذنيب: الإنشاء ضربان: الأوّل: الطّلب، والثّاني: غير الطّلب وهو كأفعال المقاربة وأفعال المدح والذّمّ وصيغ العقود والإيقاعات والقسم و(لعلّ) و(رُبّ) و(كم) الخبريّة ونحو ذلك. وأمّا الطّلب فهو خمسة أقسام، ووجه الحصر أنّه إمّا أن يقتضي كون مطلوبه ممكناً أو لا، الثّاني التّمنّي، والأوّلُ إن كان المطلوب به حصول أمرٍ في ذهن الطّالب فهو الاستفهام، وإن كان المطلوب به حصول الأمر في الخارج فإن كان ذلك الأمر انتفاء فعلٍ فهو النّهي، وإن كان ثبوته فإن كان بإحدى حروفالنّداء فهو النّداء، وإلّا فهو الأمر، هذا ما ذكره في المطوّل(1)، وفيه مواقع للنّظر.

ثمّ إنّ ما ادّعاه الأشاعرة من المغايرة بين الطّلب والإرادة، تارةً قرّروه من طريق الالتزام بالكلام النّفسي وسيأتي بما فيه، وأُخرى قرّروه من طريق افتراق الطّلب عن الإرادة مورداً ولو لم يكن هناك كلام نفسي {وقد انقدح ممّا حقّقناه} من اتّحاد الطّلب والإرادة {ما في استدلال الأشاعرة على} ما ادّعوه من {المغايرة} بين الطّلب والإرادة {بالأمر مع عدم الإرادة، كما في صورتَي الاختبار والاعتذار} فإنّ فيهما طلباً ولا إرادة، وهذا هو الدّليل الثّاني، وتوضيحه: أنّ الأمر قد يكون مع إرادة الآمر للفعل، وقد يكون بلا إرادة للفعل، وهذا على قسمين:

الأوّل: الأمر الاختباري المعبّر عنه بالامتحاني، وهذا القسم من الأمر يصدر لاستخبار حال العبد في كونه مطيعاً أو عاصياً مع عدم إرادة الفعل.

الثّاني: الأمر الاعتذاري وهذا يصدر لتسجيل العصيان على العبد، فيجعل المولى مخالفة العبد عذراً حتّى يحسن عقوبته، والحاصل: أنّ في المقامين طلباً ولا إرادة.

ص: 367


1- المطوّل: 224.

من الخلل؛ فإنّه كما لا إرادة حقيقةً في الصّورتين لا طلب كذلك فيهما، والّذي يكون فيهما، إنّما هو الطّلب الإنشائيّ الإيقاعيّ الّذي هو مدلول الصّيغة أو المادّة، ولم يكن بيّناً ولا مبيّناً في الاستدلال مغايرتُهُ مع الإرادة الإنشائيّة.

وبالجملة: الّذي يتكفّله الدّليل ليس إلّا الانفكاك بين الإرادة الحقيقيّة والطّلب المنشأ بالصّيغة، الكاشف عن مغايرتهما،وهو ممّا لا محيصَ عن الالتزام به - كما عرفت - ،

___________________

ثمّ ذكروا بعض الموارد الّتي تكون الإرادة بلا طلب. قال التّفتازاني في محكي شرح المقاصد - في بيان مغايرة الطّلب للإرادة - : «بأنّ السّيّد قد يأمر العبد بالفعل ويطلبه منه ولا يريده، وذلك عند الاعتذار من ضربه بأنّه يعصيه»(1)، انتهى.

ولكن لا يخفى ما في هذا الدّليل {من الخلل، فإنّه كما لا إرادة حقيقة في الصّورتين} الاختبار والاعتذار {لا طلب كذلك} حقيقة {فيهما} إذ لا صفة قائمة بالنفس تصدق عليه الإرادة والطّلب {و} الطّلب {الّذي يكون فيهما} لا ينافي ما ذكر؛ لأنّه {إنّما هو الطّلب الإنشائي الإيقاعيّ الّذي هو مدلول الصّيغة} إذ أُنْشِئَ الطّلب بصيغة (إفعل) {أو} مدلول {المادّة} في ما أُنْشِئَ الطلب بمادّة الأمر.

{و} الحاصل: أنّ الطّلب الموجود هو الإنشائي وهو متّحد مع الإرادة الإنشائيّة وهو المطلوب، و{لم يكن بيّناً ولا مبيّناً في الاستدلال} المذكور {مغايرته} أي: الطّلب الإنشائي {مع الإرادة الإنشائيّة} كما هو مطلوب الأشاعرة.

{وبالجملة الّذي يتكفّله} هذا {الدّليل} للأشاعرة {ليس إلّا الانفكاك بين الإرادة الحقيقيّة والطّلّب المنشأ بالصّيغة الكاشف} صفة «الانفكاك»، أي: إنّ هذا الانفكاك إنّما يكشف {عن مغايرتهما} أي: الإرادة الحقيقيّة والطّلب الإنشائي {وهو ممّا لا محيص عنالالتزام به} وذلك لا يفيد مدّعى الأشاعرة {كما عرفت} لأنّهم في صدد

ص: 368


1- شرح المقاصد 2: 101.

ولكنّه لا يضرّ بدعوى الاتّحاد أصلاً؛ لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطّلب الحقيقيّ والإنشائيّ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه يمكن - ممّا حقّقناه - أن يقع الصّلح بين الطّرفين، ولم يكن نزاع في البين، بأن يكون المراد بحديث الاتّحاد ما عرفت من العينيّة مفهوماً ووجوداً، حقيقيّاً وإنشائيّاً، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينيّة هو اثنينيّة الإنشائي من الطّلب - كما هو كثيراً مّا يراد من إطلاق لفظه - والحقيقيّ من الإرادة - كما هو المراد غالباً منها حين إطلاقها - ،

___________________

تغاير الإرادة الحقيقيّة والطّلب الحقيقي {ولكنّه لا يضرّ بدعوى الاتّحاد أصلاً؛ لمكان} أي: لكون وجود {هذه المغايرة والانفكاك} ثابت {بين الطّلب الحقيقي و} الطّلب {الإنشائي، كما لا يخفى} فكما أنّ مغايرة الطّلب الحقيقي للطّلب الإنشائي غير مضرّ، ولا يلزم منه سلب الشّيء عن نفسه، لتعدّد المرتبة، كذلك مغايرة الطّلب الإنشائي والإرادة الحقيقيّة غير مضرّ بدعوى الاتحاد، لتعدّد المرتبة.

{ثمّ إنّه يمكن ممّا حقّقناه} من تعدّد مراتب الطّلب والإرادة {أن يقع الصّلح بين الطّرفين} العدليّة والأشاعرة {و} ذلك بأن يحمل مراد كلّ طرف على شيء بحيث {لم يكن نزاع} معنويّ {في البين} فيرجع النّزاع لفظيّاً {بأن يكونالمراد بحديث الاتحاد} بين الطّلب والإرادة الّذي تدّعيه العدليّة {ما عرفت من العينيّة مفهوماً ووجوداً حقيقيّاً} الّذي هو صفة النّفس {و} وجوداً {إنشائيّاً} ووجوداً ذهنيّاً - كما تقدّم - .

والحاصل: أنّ كلّ مرتبة من الإرادة متّحدة مع تلك المرتبة من الطّلب {ويكون المراد بالمغايرة والاثنينيّة} الّتي تدّعيها الأشاعرة {هو اثنينيّة الإنشائي من الطّلب، كما هو} أي: الإنشائي {كثيراً ما يراد من إطلاق لفظه} أي: لفظ الطّلب {والحقيقي من الإرادة كما هو} أي: الحقيقي {المراد غالباً منها} أي: من الإرادة {حين إطلاقها} بدون قرينة - كما تقدّم في أوائل هذا المبحث - .

ص: 369

فيرجِعُ النِّزاعُ لفظيّاً، فافهم.

___________________

والحاصل: أنّ كلّ مرتبة من الإرادة مغايرة لمرتبة أُخرى من الطّلب {فيرجع النّزاع لفظيّاً} لتسليم كلّ فريق مراد الآخر {فافهم} إشارة إلى عدم كون النّزاع لفظيّاً والصّلح من غير رضا الطّرفين، فإنّ المحكي عن العلّامة(قدس سره) أنّ الطّلب الّذي هو مدلول الأمر هي الإرادة الواقعيّة، والأشعري قائل بأنّ مدلول الصّيغة طلب حاصل في النّفس سواء كان هناك إرادة أم لا.

ثمّ إنّ أدلّة الطّرفين والتّفاريع المتفرّعة على القولين من أقوى الشّواهد على معنويّة النّزاع، فراجع.

هذا تمام الكلام في الدّليل الثّاني للأشاعرة الّذي استدلّوا به على مغايرة الطّلب والإرادة، وقد عرفت الجواب عنه، وأمّا الكلام في الدّليل الأوّل لهم - وهو إثباتالمغايرة من طريق الالتزام بالكلام النّفسي(1) - فبيانه يحتاج إلى تمهيد مقدّمةٍ، وهي: أنّ من صفات اللّه - تعالى - المسلّمة عند الكلّ كونه - تعالى - متكلّماً.

قال العلّامة (رحمة الله) في الباب الحادي عشر: «السّابعة: أنّه - تعالى - متكلّم بالإجماع»(2)،

انتهى.

ثمّ إنّه قد اختلف في كلامه - تعالى - في مقامات:

ص: 370


1- قال العلّامة القمّي(رحمة الله): «قد اختلف تعبيرات القائلين بالكلام النّفسيّ، ففسّر تارةً بمدلول الكلام اللّفظي، وتارةً بالقضيّة المعقولة، وتارةً بحديث النّفس، وتارةً بالكلام القائم بالذات الأزليّة المدلول عليه بالخطاب اللّفظي، وتارةً بالنسبة الخبريّة والإنشائيّة، هذا مع تصريحهم بأنّه غير العلم والقدرة والإرادة وسائر الصّفات النّفسانيّة المعروفة»، انتهى. حاشية الكفاية 1: 113. ولا يخفى أنّ للسيّد علي(رحمة الله) كلاماً في حاشية القوانين أوضح فيه الكلام النّفسي وردّه في الجملة تركنا ذكره. ثمّ إنّ استحالة الكلام النّفسي بالنسبة إلى اللّه - تعالى - لا يلزم منه استحالة مطلق الكلام النّفسي، كما لا يخفى.
2- الباب الحادي عشر: 4.

___________________

الأوّل: في كونه متكلّماً عقليّ أو سمعيّ، والحق الثّاني لعدم دليل عقليّ على ذلك، وقوله - تعالى - : {وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَى تَكۡلِيمٗا}(1).

الثّاني: في ماهية كلامه - تعالى - فالأشاعرة على أنّه معنى قديم قائم بذاته مغاير للعلم والقدرة وليس بحرف ولا صوت ولا أمر ولا نهي ولا خبر ولا إنشاء، والشّيعة على أنّ كلامه - تعالى - عبارة عن خلق الأصوات والحروف.

الثّالث: في أنّ كلامه حادث أو قديم، فالأشاعرة على قدمه، والشّيعة على حدوثه.

الرّابع: في ما يقوم به الكلام، فالأشاعرة على أنّه قائم بذاته - تعالى - والشّيعة على أنّه قائم بغيره كما أوجد الكلام في الشّجرة فسمعه موسى(علیه السلام).إذا عرفت هذا فنقول: إنّ الأشاعرة اصطلحوا على تسمية هذا النّحو من الكلام بالكلام النّفسيّ، وجعلوا الكلام النّفسي المرتّب في ذهن أحدنا لدى إرادته التّكلّم الّذي يمتاز عن العلم والإرادة طريقاً إلى إثباته له - تعالى - ومن هنا التزموا بمغايرة الطّلب والإرادة، ودليلهم على مغايرتهما من طريق الكلام النّفسي ما ذكره التّفتازاني في محكي شرح المقاصد بما لفظه: «إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك يجد في نفسه - معاني ثمّ يعبّر عنها بالألفاظ الّتي نسمّيها بالكلام الحسّي، فالمعنى الّذي يجده في نفسه - ويدور في خَلَده ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات، يقصد المتكلّم حصولها في نفس السّامع ليجري على موجبها، هو الّذي نسمّيه كلام النّفس وحديثها، وربّما يعترف به أبو هاشم ويسمّيها الخواطر، ومغايرته للعلم والإرادة سيّما في الإخبار والإنشاء الغير الطّلبي في غاية الظّهور. نعم، قد يتوهّم أنّ الطّلب النّفسي هو الإرادة وأنّ قولنا: (أُريد منك هذا الفعل ولا أطلبه) أو (أطلب

ص: 371


1- سورة النّساء، الآية: 164.

دفع وهم: لا يخفى أنّه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة من نفي غير الصّفات المشهورة، - وأنّه ليس صفة أُخرى قائمة بالنّفس، كانت كلاماً نفسيّاً مدلولاً للكلام اللّفظيّ، كما يقول به

___________________

منك الفعل ولا أُريده) تناقض، وسيأتي في فصل الأفعال»(1)،

انتهى.

والحاصل: أنّ الأشاعره حيث ذهبوا إلى الكلام النّفسي، وأنّه معنى قائم بذات اللّه - تعالى - قديم معه، ثمّ لم يتمكّنوا من جعله العلم أو الإرادة ونحوهما - لبداهة أنّ هذه الصّفات ليست كلاماً، ولا يصحّ إطلاقه عليها - اضطرّوا إلى القول بأنّالكلام النّفسي الخبري هو النّسبة، والكلام النّفسي الإنشائي هو الطّلب القائمان بالنّفس، ومن هنا تشكّل القياس بأنّ الطّلب هو الكلام النّفسي، والكلام النّفسي غير الإرادة، فالطّلب غير الإرادة.

هذا ولكن الكلام النّفسي باطل، وما ذكروا من الأدلّة لإثباته مردود، كما بيّن في محلّه في الكتب الكلاميّة وغيرها.

[دفع وهم]

{دفع وهم} ربّما يرد من ردّ الأصحاب للكلام النّفسي، وتوضيح الوهم: أنّ للكلام اللّفظي لا بدّ أن يكون مدلولاً، فإن كان هو الكلام النّفسي ثبت مدّعى الأشاعرة، وإن كان غيره لزم أن يكون إحدى الصّفات المشهورة، لكن كون الصّفة مدلولة للكلام باطل، فيثبت الكلام النّفسي. وتوضيح الدّفع ما {لا يخفى} من {أنّه ليس غرض الأصحاب} رضوان اللّه عليهم {والمعتزلة} من العامّة - {من نفي غير الصّفات المشهورة} من العلم والإرادة ونحوهما {و} كذا ليس غرضهم حيث ذهبوا إلى {أنّه ليس صفة أُخرى قائمة بالنّفس} بحيث {كانت كلاماً نفسيّاً مدلولاً للكلام اللّفظي، كما يقول به} أي: بالكلام النّفسي

ص: 372


1- شرح المقاصد 2: 101.

الأشاعرة - أنّ هذه الصّفات المشهورة مدلولات للكلام.

إن قلت: فماذا يكون مدلولاً عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟

قلت: أمّا الجمل الخبريّة فهي دالّة على ثبوت النّسبة بين طرفيها، أو نفيها في نفس الأمر من ذهنٍ أوخارجٍ، ك (الإنساننوع) أو (كاتب). وأمّا الصّيغ الإنشائيّة فهي - على ما حقّقناه في بعض فوائدنا(1)

- مُوْجِدَةٌ لمعانيها في نفس الأمر

___________________

{الأشاعرة} من العامّة - {أنّ هذه الصّفات} خبر قوله: «ليس غرض الأصحاب» أي: أنّ الأصحاب لا يقولون بأنّ الصّفات {المشهورة} القائمة بالنفس {مدلولات للكلام} اللّفظي.

{إن قلت}: إذا أنكر الأصحاب الكلام النّفسي رأساً، وأنكروا كون الصّفات القائمة بالنفس مدلولات للكلام اللّفظي {فماذا يكون مدلولاً عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟}.

والحاصل: أنّ الأشاعرة استراحوا إلى جعل الكلام النّفسي مدلولاً للكلام اللّفظي، وأمّا المنكر للكلام النّفسي فماذا يكون عنده مدلولاً للفظي؟

{قلت: أمّا الجمل الخبريّة فهي دالّة على ثبوت النّسبة بين طرفيها} المحكوم عليه والمحكوم به هذا في القضيّة الموجبة {أو} تدلّ على {نفيها} أي: نفي النّسبة بين الطّرفين في القضيّة السّالبة {في نفس الأمر} متعلّق بثبوت النّسبة أو نفيها {من ذهن أو خارج} بيان نفس الأمر {ك (الإنسان نوع)} فإنّ هذه الجملة تدلّ على ثبوت النّسبة بين النّوع والإنسان في الذّهن {أو} (الإنسان {كاتب)} فإنّ الجملة تدلّ على ثبوت النّسبة بينهما في الخارج، وكذا قولنا: (ليس الإنسان بحجر) في الخارجيّة، و(ليست النّار بمحرقة) في الذّهنيّة، ولا يذهب عليك أنّ بين الذّهنيّة والخارجيّة عموماً من وجه.

{وأمّا الصّيغ الإنشائيّة} لا تدلّ على شيء أصلاً، بل {فهي على ما حقّقناه في بعض فوائدنا} تكون{موجدة لمعانيها في نفس الأمر}.

ص: 373


1- فوائد الأصول: 17.

- أي: قصد ثبوت معانيها وتحقّقها بها - ، وهذا نحوٌ من الوجود،

___________________

قال في الفوائد: «اعلم أنّ الإنشاء هو القول الّذي يقصد به إيجاد المعنى في نفس الأمر، لا الحكاية عن ثبوته وتحقّقه في موطنه من ذهن أو خارج، ولهذا لا يتّصف بصدق ولا كذب، بخلاف الخبر، فإنّه تقرير للثّابت في موطنه، وحكاية عن ثبوته في ظرفه ومحلّه، فيتّصف بأحدهما لا محالة، والمراد من وجوده في نفس الأمر هو ما لا يكون بمجرّد فرض الفارض، لا ما يكون بحذائه شيء من الخارج، بل بأن يكون منشأ انتزاعه فيه، مثلاً: ملكيّة المشتري للمبيع قبل إنشاء التّمليك، والبيع بصيغته لم يكن لها ثبوت أصلاً، إلّا بالفرض كفرض الإنسان جماداً أو الجماد إنساناً، وبعد ما حصل لها خرجت عن مجرّد الفرض وحصلت لها واقعيّة ما كانت لها بدونه، وبالجملة لا نعني من وجودها بالصيغة إلّا مجرّد التّحقّق الإنشائي لها الموجب مع الشّرائط لنحو وجودها الحاصل بغيرها من الأسباب الاختياريّة، كحيازة المباحات، أو الاضطراريّة، كالإرث وغيرها»(1).

وقال في موضع آخر: «فالمدلول بها إنّما هو ثبوت المعاني في نفس الأمر الّذي هو مفاد كان التّامّة إثباتاً وإيجاداً، لا ثبوت شيءٍ لشيءٍ الّذي هو مفاد كان النّاقصة تقريراً وحكاية، ومن هنا ظهر الفرق بين الإنشاء والخبر من وجهين:

أحدهما: أنّ مفاد الإنشاء مفاد كان التّامّة لا مفاد كان النّاقصة.

ثانيهما: أنّ مفاد الإنشاء يوجد ويحدث بعد أن لم يكن، ومفاد الخبر يحكى به بعد أن كان أو يكون»(2)، انتهى.

فتبيّن معنى الخبر والإنشاء وأنّ الأوّل حاكٍ والثّاني موجد {أي: قصد}بالبناء المفعول {ثبوت معانيها وتحقّقها} أي: تحقّق المعاني {بها} أي: بالصّيغ الإنشائيّة {وهذا} الوجود الإنشائي {نحو من الوجود} غير الوجود الذّهني والخارجي

ص: 374


1- فوائد الأصول: 17.
2- فوائد الأصول: 26.

وربّما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبارٍ مترتب عليه - شرعاً أو عرفاً - آثارٌ، كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات.

نعم، لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطّلب والاستفهام والتّرجّي والتّمنّي - بالدّلالة الالتزاميّة - على ثبوت هذه الصّفات حقيقةً، إمّا لأجل وضعها لإيقاعها - في ما إذا كان الدّاعي إليه ثبوت هذه الصّفات - ، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصّورة، فلو لم تكن هناك قرينة كان إنشاء الطّلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها لأجل قيام الطّلب

___________________

{وربّما يكون هذا} الوجود الإنشائي {منشأ لانتزاع اعتبار مترتّب عليه} أي: مترتّب على هذا الوجود {شرعاً أو عرفاً} على سبيل منع الخلو {آثار} فاعل «مترتّب» أي: يترتّب عليه آثار شرعيّة أو عرفيّة {كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات} والفرقُ بينهما: أنّ الأوّل ما توقّف على الطّرفين، كالبيع والنِّكاح ونحوهما، والثّاني: ما توقّف على طرف واحد كالطلاق والعتق، وهكذا الحال في باب الأوامر والنّواهي، فإنّها صيغ إنشائيّة تترتّب عليها آثار شرعيّة أو عرفيّة.

{نعم} كما أنّ الجملة الخبريّة دالّة بالالتزام على حصول العلم لقائلها، كذلك {لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطّلب والاستفهام والتّرجّي والتّمنّي} وغيرها من سائرالإنشاءات {بالدلالة الالتزاميّة على ثبوت هذه الصّفات} أي: الطّلب الحقيقي في الأمر والنّهي والاستفهام والرّجاء الحقيقي والميل الحقيقي {حقيقة} حتّى أنّه لو طلب من دون الطّلب الحقيقي كان خارجاً عن متفاهم العرف.

ثمّ إنّ هذه الدّلالة {إمّا لأجل وضعها} أي: وضع صيغ الإنشائيّة {لإيقاعها} واستعمالها {في ما إذا كان الدّاعي إليه} إلى الإيقاع {ثبوت هذه الصّفات} بحيث يكون قيداً للوضع {أو} لأجل {انصراف إطلاقها} أي: إطلاق الصّيغ بدون قرينة {إلى هذه الصّورة} وهي صورة قيام الصّفات بالنفس حقيقة {فلو لم تكن هناك قرينة} صارفة عن هذا الظّهور {كان إنشاء الطّلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها لأجل قيام الطّلب}

ص: 375

والاستفهام وغيرهما بالنّفس وضعاً، أو إطلاقاً.

إشكال ودفع: أمّا الإشكال فهو: أنّه يلزم - بناءً على اتّحاد الطّلب والإرادة - في تكليف الكفّار بالإيمان، بل مطلق أهل العِصْيان في العمل بالأركان، إمّا أن لا يكون هناك تكليف جدّيّ، إن لم يكن هنا إرادة؛ حيث إنّه لا يكون حينئذٍ طلبٌ حقيقيٌّ، واعتباره في الطّلب الجدّيّ ربّما يكون من البديهيّ، وإن كان هناك إرادة فكيف تتخلّف

___________________

التّكويني {والاستفهام وغيرهما} من سائر الصّفات {بالنفس واضعاً أو إطلاقاً} بسبب الانصراف.

والحاصل: أنّ هذه الإنشاءات تكشف عن قيام الصّفات بالنفس كشفاً وضعيّاًأو انصرافيّاً، وهذا غير ما يقوله الأشاعرة من الكلام النّفسي.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه قد يقال: أنّ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) من الفَرْقِ بين الخبر والإنشاء هنا ينافي ما ذكره في مبحث الإنشاء والخبر ثانياً، فراجع وتبصّر.

[إشكال ودفع]

{إشكال ودفع} في ما يقوله الأصحاب والمعتزلة من اتّحاد الطّلب والإرادة {أمّا الإشكال فهو أنّه يلزم - بناءً على اتحاد الطّلب والإرادة - في} مورد {تكليف الكفّار بالإيمان} وكذا بسائر الفروع {بل} تكليف {مطلق أهل العصيان} ولو كان من أهل الإيمان {في العمل بالأركان} متعلّق بال«تكليف»، أي: تكليفهم بالنسبة إلى العمل الجوارحي {إمّا أن لا يكون هناك} لدى الأمر {تكليف جدّي} وطلب حقيقي {إن لم يكن هنا إرادة} للإيمان أو العمل {حيث إنّه} أي: الشّأن {لا يكون حينئذٍ} أي: حين عدم الإرادة {طلب حقيقي، و} من المعلوم أنّه يشترط {اعتباره} أي: الطّلب الحقيقي {في الطّلب الجدّي} بل {ربّما يكون} هذا الشّرط {من البديهي} الّذي لا يحتاج إلى برهان {وإن كان هناك} بالنسبة إلى أمر الكفّار والعصاة {إرادة} الإيمان والإطاعة من البارئ - سبحانه - {فكيف} تقع المخالفة و{تتخلّف} إرادته - سبحانه -

ص: 376

عن المراد؟ ولا يكاد يختلف، إذا أراد الله شيئاً يقول له: كن، فيكون.

وأمّا الدّفع فهو:

___________________

{عن المراد؟ و} الحال أنّه {لا يكاد يتخلّف} بالعقل والنّقل {إذا أراد الله شيئاً يقول له كن فيكون}.والحاصل: أنّ طلب اللّه - سبحانه - عن الكافر الإيمان إمّا أن يكون بدون إرادة، فهذا ينافي ما قلتم من اتحاد الطّلب والإرادة، وإمّا أن يكون مع الإرادة وهذا ينافي ما ثبت بالضرورة من أنّ إرادته - سبحانه - لا تتخلّف عن المراد، وأمّا الأشاعرة فإنّهم في مندوحة عن هذا الإشكال إذ يلتزمون بالشِّقِّ الأوّل، لكن يرد عليهم إشكال آخر وهو أنّه لو كان في تكليف الكافر طلب بدون إرادة، وقد ثبت أنّ شيئاً لا يقع إلّا بإرادة البارئ - سبحانه - يلزم التّكليف بالمحال ويكون كما قال الشّاعر:

ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له *** إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء

لكنّهم حيث بنوا مذهبهم على إنكار الحسن والقبح، لا يقبّحون التّكليف بالمحال، كما ثبت في محلّه.

{وأمّا الدّفع فهو} يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ الإرادة - كما بيّنّاها في بعض متفرّقاتنا - في المخلوق من أوضح الواضحات ومن الوِجْدانيّات وقد تقدّم شطر من الكلام فيها، وأمّا الإرادة الّتي هي أحد صفات اللّه - سبحانه - الثّبوتيّة ففيها أقوال، والمشهور بين المتكلّمين أنّها عبارة عن علمه الخاص، وذهب جمع - منهم صاحب كفاية الموحّدين - إلى أنّ الإرادة عبارة عن الإيجاد والإحداث، واستدلّ على ذلك بأخبار.

ولكن لي بعد في كلا المعنيين تأمّلاً، إذ الظّاهر من قوله - تعالى - : {إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ}(1)، وقوله: {وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ

ص: 377


1- سورة يس، الآية: 82.

___________________

قَرۡيَةً}(1)، ونحوهما من أمثال هذه الآيات والرّوايات الّتي دلّت على تعقّبالإيجاد وكونه بعد الإرادة أنّ الإرادة غير العلم وغير الإيجاد، أمّا كونها غير العلم؛ فلأنّ الإرادة لو كانت هي العلم الخاص - كما ذكروا - لم يصحّ تعليق الإيجاد بالإرادة وتعليق الإهلاك بها، إذ من البديهي أنّه لا يصحّ أن يقال: إذا علم شيئاً بالعلم الخاص قال له كن، إذ العلم الخاص أزليّ لكونه عين الذّات، كالعلم المطلق، فلو كان العلم هو العلّة للإيجاد لزم وجود الأشياء من الأزل إلى الأبد.

لا يقال: العلم الخاص سبب لوجود الشّيء في وقت المصلحة وموطنها لا مطلقاً؟

لأنّا نقول: ظاهر قوله - تعالى - : {إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا} الآية، تعقّب القول للإرادة لا انفصاله عنها، وأمّا كونها غير الإيجاد فلأنّ ظاهر الآية الكريمة أنّ الإرادة مقدّمة على قول: {كُن} أو ما هو بمنزلته المقدّم على {فَيَكُونُ}، وعلى تقدير كون الإرادة هي الإيجاد كما ادّعى يلزم اتصال الإرادة لقوله: {فَيَكُونُ}.

والحاصل: أنّ ظاهر الآية أنّ هناك أُموراً ثلاثة: [1] الإرادة، [2] وقول: {كُن}، [3] والوجود المعبّر عنه بقوله: {فَيَكُونُ}. أمّا لو كانت هي الإيجاد كان هناك أمران: [1] الإرادة، أي: الإيجاد، [2] والوجود.

أضف إلى ذلك أنّ ظاهر الإرادة هي المعنى المعلوم منها المتفاهم لدى العرف، وقوله - سبحانه - : {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(2) يدلّ على إرادة المعاني المتعارفة من تلك الآيات المباركات وأمثالها، كما لا يخفى.

ثمّ من البديهي عدم استقامة إذا أوجد شيئاً أن يقول له كن، ومثل هذا الكلام

ص: 378


1- سورة الإسراء، الآية: 16.
2- سورة إبراهيم، الآية: 4.

___________________

بعينه جارٍ في {وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً}(1) والّذي أرى - وإن كان بعد يحتاج إلى التّأمّل - أنّ الإرادة صفة على حِيالها معنىً - كالعلم - لا يلزم تغيّرها بتغيّر الأشياء وليست بعلم ولا بإيجاد.

نعم، إنّا لا نتمكّن من تعقّل حقيقتها، ولا بدع فإنّ الذّات والصّفات كلّها غير ممكن التّعقّل ولا يلزم من عدم التّعقّل إرجاعها إلى شيء آخر.

والحاصل: أنّ العقل والنّقل متطابقان على كون اللّه - سبحانه - مريداً، ولا خلاف في أنّها غير الموجودات، وأمّا أنّها هي العلم أو الإيجاد فخلاف ظواهر الآيات والأخبار ففي حديث بكير بن أعين عن الصّادق(علیه السلام) فقال: «العلم ليس هو المشيئة»(2)، الحديث.

وما ورد في بعض الأخبار مِن أنّ إرادة اللّه إيجاده كقول الصّادق(علیه السلام): «وأمّا من اللّه - عزّ وجلّ - فالإرادة للفعل إحداثه»(3)

الحديث، فاللّازم حمله على ما لا ينافي ظواهر تلك الآيات، كأن يقال: إِنّ المراد عدم الهمامة والتّصوّر والتّصديق ونحوها، كما قال الصّادق(علیه السلام) في ذيل الحديث المتقدّم: «إنّما يقول له كن فيكون بلا تَعَبٍ ولا كيف».

والحاصِلُ: أَنَّ هذا الخبر كقول الباقر(علیه السلام): «هل سمّي عالماً قادراً إلّا لأنّه وَهَبَ العلم للعُلَمَاء»(4)،

الحديث يلزم توجيهه بما لا ينافي ما تقدّم. نعم، إنّ كون اللّه - سبحانه - مريداً من الأزل بديهي البطلان، والّذي أظنّ أنّ الأئمّة - صلوات اللّه عليهم أجمعين - إنّما تكلّموا على قدر فهم الرُّوَاة، فإنّهم(علیهمالسلام) مأمورون بأن يكلّموا

ص: 379


1- سورة الإسراء، الآية: 16.
2- الكافي 1: 109.
3- بحار الأنوار 3: 196.
4- عوالم العلوم 19: 207.

___________________

النّاس على قدر عقولهم(1).

ثمّ إنّ ما ذكره جمع من المتكلّمين وغيرهم من تقسيم الإرادة إلى التّكوينيّة والتّشريعيّة ممّا لم أجد به نصّاً لهذا التعبير. نعم، يشعر به بعض الأخبار، والمقصود بالإرادة التّكوينيّة الإرادة المتعلّقة بتكوين الأشياء وإيجادها، وبالإرادة التّشريعيّة الإرادة المتعلّقة بأفعال العباد فعلاً أو تركاً، والمقصود بهذه الإرادة الأمر بها والنّهي عنها.

ثمّ لا بأسَ بالإشارة إلى معنى حبّ اللّه وبغضه ورضاه وسخطه لأجل الاطّراد في الاستطراد، فنقول: قد اشتهر بين المتكلّمين أنّ المراد بهذه الصّفات نتائجها، ولذا قيل: «خذ الغايات واترك المبادئ» فمعنى رِضى اللّه بالفعل الكذائي أنّ اللّه - سبحانه - يعامل فاعله معاملة الرّاضي من الإحسان والإكرام، وكذا معنى سخطه معاملة السّاخط، وذلك لاستحاطة طروّ العوارض عليه - سبحانه - وهكذا المراد بالرحمانيّة والعطوفة.

وقد استدلّوا لذلك بأمرين:

الأوّل: ظواهر بعض الأخبار الدّالّة على إرادة الغايات من هذه الصّفات.

الثّاني: أنّ هذه الصّفات حوادث، واللّه - سبحانه - منزَّه عنها.

ولكنّ لي في هذا المعنى تأمّلاً، إذ الظّاهر من الآيات والأخبار كون هذه الصّفات أُموراً سابقة على غاياتها: قال - سبحانه - في الحديث القدسي: «كنتُ كنزاً مخفيّاً، فأحببت أن أُعرَف، فخلقت الخلق لكي أُعرَف»(2)، فإنّ الصّريحمنه

ص: 380


1- الكافي 1: 23.
2- الحديث بنحو الإرسال معروف، راجع مشارق أنوار اليقين: 41؛ وفي كتاب التوحيد عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى لا تقدر قدرته، ولا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كنه علمه، ولا مبلغ عظمته، وليس شي ء غيره، هو نور ليس فيه ظلمة، وصدق ليس فيه كذب، وعدل ليس فيه جور، وحق ليس فيه باطل، كذلك لم يزل ولا يزال أبد الآبدين، وكذلك كان، إذ لم يكن أرض ولا سماء، ولا ليل ولا نهار، ولا شمس ولا قمر، ولا نجوم ولا سحاب، ولا مطر ولا رياح، ثم إن اللّه تبارك وتعالى أحب أن يخلق خلقاً يعظمون عظمته، ويكبرون كبرياءه، ويجلون جلاله، فقال: كونا ظلّين، فكانا كما قال اللّه تبارك وتعالى». التوحيد: 128.

أنّ استحاله التّخلّف إنّما تكون في الإرادة التّكوينيّة - وهو العلم بالنّظام على النّحو الكامل التّام -

___________________

أنّ محبّة العرفان قبل الخلق لا أنّها هي الخلق ولو كان معنى «فأحببت» فخلقت؛ لأنّ الخلقة غاية الحبّ، وعدم استقامة هذا المعنى بديهيّ، ونحوه قوله - تعالى - : {فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ}(1)، فإنّ الظّاهر أنّ الانتقام بعد الإيساف وحصوله.

وما ورد في بعض الرّوايات عن الصّادق(علیه السلام) في تفسير الآية من قوله: «إنّ اللّه لا يأسف كأسفنا، ولكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون»(2)

الحديث، فهو محمول على ما تقدّم بشهادة قوله: «كأسفنا».

والحاصل: أنّ المقصود من هذه الأحاديث نفي أن يكون صفاته - تعالى - كصفاتنا، وربّما يستأنس لما ذكرنا بقوله(صلی الله علیه و آله): «إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»(3)،

فإنّ فاطمة إحدى الأولياء، فلو كان المراد من رضا اللّه رضا فاطمة لزم أن يكون المعنى أنّ فاطمة ترضى لرضى فاطمة.

والمتحصّل أنّ للّه إرادةً ورِضىً وسخطاً بحيث لا يلزم كونه محلّاً للحوادث وما في الأخبار لوازم تلك الصّفات، فتدبّر.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول: {إنّ} ما ذكرتم من {استحالةالتّخلّف إنّما تكون في الإرادة التّكوينيّة} فلا يعقل إرادة اللّه - تعالى - شيئاً ثمّ لا يكون، {و} قد عرفت أنّ الإرادة وقع في معناها الاختلاف، والّذي ذهب إليه جمع أنّها {هو العلم} الخاص {بالنِّظام على النّحو الكامل التّامّ} قال الفاضل السّيوري - بعد إبطال كون الإرادة القدرة أو العلم المطلق أو باقي الصّفات - ما لفظه: «فإذن المخصّص هو

ص: 381


1- سورة الزّخرف، الآية: 55.
2- الكافي 1: 144؛ التوحيد: 168؛ معاني الأخبار: 19.
3- معاني الأخبار: 303.

دون الإرادة التشريعيّة - وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف - وما لا محيصَ عنه في التّكليف إنّما هو هذه الإرادة التّشريعيّة، لا التّكوينيّة،

___________________

علم خاصّ مقتضى لتعيين الممكن ووجوب صدوره عنه، وهو العلم باشتماله على مصلحة لا تحصل إلّا في ذلك الوقت أو على ذلك الوجه، وذلك المخصّص هو الإرادة »(1)، انتهى.

ولكنّك قد عرفت ما فيه وعلى كلّ حال فتخلّف الإرادة التّكوينيّة عن المراد محال {دون الإرادة التّشريعيّة} فإنّ تخلّفها عن المكلّف غير مستحيل، أمّا على تقدير كونها عبارة عن الأمر والنّهي والرِّضا والغضب فعدم استحالة التّخلّف بديهيّ، إذ الأمر التّشريعي لا يكون موجباً للكون.

{و} أمّا على تقدير أن تكون {هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف} فأوضح، فإنّ العلم بالمصلحة التّقديريّة لا يلازم التّقدير {وما لا محيص عنه في التّكليف إنّما هو هذه الإرادة التّشريعيّة} فلا يعقل التّكليف بدونها إلّا امتحاناً و{لا} يشترط في التّكليف الإرادة {التّكوينيّة}.فتحصّل من هذا الدّفع أنّ ما ذكرتم من أنّه «لو كان في تكليف الكافر إرادة لزم تخلّف الإرادة عن المراد وهو محال» غير صحيح، إذ الإرادة المدّعاة اتحادها مع الطّلب هي الإرادة التّشريعيّة وتخلّفها عن الفعل غير مستحيل.

ثمّ إنّ الإرادة قد تتعلّق بوجود شيء، وقد تتعلّق بعدمه، وقد لا تتعلّق أصلاً، وهذا ظاهر في المخلوق، فإنّ النّفس إذا توجّهت إلى الشّيء فإمّا أن تريده وإمّا أن لا تريده، وإذا سهت عن الشّيء فهو عدم الإرادة، وإن شئت قلت: إنّ الإرادة إمّا أن تكون موجودة أو لا، والأوّل إمّا أن تكون متعلّقة بالفعل أو متعلّقة بالترك.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ اللّه - سبحانه - قد يريد وجود شيء تكويناً، وحينئذٍ فلا بدّ

ص: 382


1- شرح الباب الحادي عشر: 15.

فإذا توافقتا فلا بدّ من الإطاعة والإيمان، وإذا تخالفتا فلا محيصَ عن أن يختار الكفر والعِصْيان.

إن قلت: إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان بإرادته - تعالى - الّتي لا تكاد تتخلّف عن المراد، فلا يصحّ أن يتعلّق بها التّكليف؛ لكونها

___________________

أن يوجد، وقد يريد عدم شيء، وحينئذٍ فلا بدّ أن يعدم، أي: لا يوجد، وقد لا تتعلّق إرادته بشيء لا وجوداً ولا عدماً، وذلك كأفعال العباد، فإنّ اللّه - تعالى - أراد صدورها أو عدم صدورها عن اختيارهم، لا أنّه يريد صدورها إلجاءً ولا أنّه يريد عدم صدورها جبراً.

وبعبارةٍ أُخرى: الإرادة التّكوينيّة بالنسبة إلى أفعال العباد من باب لا بشرط، لا من باب بشرط شيء، أو بشرط لا، وبهذا التّقرير ينحسم مادّة الإشكال الآتي، إذ هو مبنيّ على المنفصلة الّتي ذكرها المصنّف دائرة بين تخالف الإرادتين وتوافقهما والمنفصلة لها شقّ ثالث - كما بيّنّا - .نعم، على فرض الانحصار فيهما محالاً {فإذا توافقتا} أي: الإرادة التّكوينيّة والتّشريعيّة، بأن كان الواجب الشّرعي مراداً بالإرادة التّكوينيّة {فلا بدّ من الإطاعة والإيمان} لأنّ الإرادة التّكوينيّة على مذاق المصنّف هو العلم الخاص، ولا يعقل تخلّف علمه - سبحانه - عن المعلوم، وأمّا على مذاق من يقول: إِنّ الإرادة هي الإيجاد فأوضح {وإذا تخالفتا} بأن كانت الإرادة التّكوينيّة مخالفة للإرادة التّشريعيّة {فلا محيص عن أن يختار} المكلّف {الكفر والعصيان} وإلّا لزم تخلّف العلم عن المعلوم أو الإيجاد عن الموجود.

{إن قلت: إذا كان الكفر والعصيان} في الكافر والعاصي {والإطاعة والإيمان} في المؤمن والمطيع {بإرادته - تعالى -} التّكوينيّة {الّتي لا تكاد تتخلّف عن المراد} كما سبق {فلا يصحّ أن يتعلّق بها} أي: بالإطاعة {التّكليف} التّشريعي {لكونها}

ص: 383

خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلاً.

قلت: إنّما يخرج بذلك عن الاختيار لو لم يكن تعلّق الإرادة بها مسبوقةً بمقدّماتها الاختياريّة، وإلّا فلا بدّ من صدورها بالاختيار،

___________________

أي: الإطاعة {خارجة عن الاختيار} الّذي كان هو {المعتبر فيه} أي: في التّكليف {عقلاً}.

والحاصل: أنّ الإرادة التّشريعيّة بعد تعلّقها بالإطاعة والإيمان لا يخلو إمّا أن تتعلّق الإرادة التّكوينيّة أيضاً بها - ولا كلام فيه - وإمّا أن لا تتعلّق الإرادة التّكوينيّة، كما في الكافر والعاصي، وحينئذٍ كانت المعصية خارجة عن قدرةالعبد وعليه، فلا يصحّ العقاب.

{قلت}: الصّحيح في الجواب ما تقدّم من أنّ أفعال العباد لا تتعلّق بها الإرادة التّكوينيّة لا وجوداً ولا عدماً، بل تعلّق الإرادة التّكوينيّة يجعل صفة الاختيار في العبد بحيث إنّه يفعله باختياره أو يتركه باختياره، وأمّا على قول من يجعل الإرادة التّكوينيّة هي الإيجاد، فالأمر أوضح، إذ اللّه - سبحانه - لا يوجد فعل العبد، ولا يمنع عن فعل العبد.

وأمّا على مذاق المصنّف فنقول: فعل المعصية {إنّما يخرج بذلك} التّخالف بين الإرادة التّشريعيّة والتّكوينيّة {عن الاختيار لو لم يكن تعلّق الإرادة} التّكوينيّة من اللّه - سبحانه - {بها} أي: بالمعصية {مسبوقة بمقدّماتها الاختياريّة} من العبد {وإلّا} فإن كان تعلّق إرادته - تعالى - بها مسبوقة بمقدّماتها الاختياريّة {فلا بدّ من صدورها بالاختيار} من العبد.

وتوضيحه بلفظ بعض الأعلام: أنّ تعلّق الإرادة التّكوينيّة بالعناوين المذكورة يكون على نحوين:

أحدهما: أن تتعلّق بها بلا توسّط إرادة العبد، كتعلّقها بسائرالممكنات الموجودة.

ص: 384

وإلّا لزم تخلّف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

إن قلت: إنّ الكفر والعِصْيان - من الكافر والعاصي - ولو كانا

___________________

وثانيهما: أن تتعلّق بها بتوسّط إرادة العبد - مثلاً - يكون خصوص الكفر الصّادر عن إرادة الكافر متعلّقاً للإرادة التّكوينيّة الإلهيّة لا مطلق الكفر، فإن كانالتّعلّق على النّحو الأوّل أوجب كون صدور العناوين المذكورة من العباد بلا اختيار منهم - كما ذكر في الإشكال - أمّا لو كان التّعلّق على النّحو الثّاني وجب أن يكون صدورها عن إرادة العبد واختياره {وإلّا} فلو كان إرادة اللّه صدور الكفر باختيار العبد ثمّ لم يحصل باختياره {لزم تخلّف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً}.

لكن في هذا الجواب نظر، إذ لم يعلم إرادة اللّه صدور الكفر خاصّة عن الكافر باختياره. نعم، يعلم اللّه ذلك علماً تابعاً للمعلوم لا سبباً له، وهذا مراد المحقّق نصير الدّين(قدس سره) حيث قال في جواب الخيّام البيتين المعروفين(1).

{إن قلت}: هذا الجواب إنّما يدلّ على {أنّ الكفر والعصيان من الكافر والعاصي} مسبوقان بإرادتهما، ونحن نسلّم ذلك ولكن نقول: إنّهما {ولو كانا} أي:

ص: 385


1- قال الخيّام: من مى خورم و هر كه چه من اهل بود *** مى خوردن من بنزد او سهل بود مى خوردن من حق زازل مى دانست *** گر مى نخورم علم خدا جهل بود وقال المحقّق في جوابه: اين نكته نگويد آنكه او اهل بود *** زيرا كه جواب شبهه اش سهل بود علم ازلى علّت عصيان كردن *** نزد عقلا زغايت جهل بود وأيضاً قال أبو سعيد: آن كس كه زروی علم و دين اهل بود *** داند كه جواب شبهه بس سهل بود علم ازلی علت عصيان بودن *** پيش حكما زغايت جهل بود

مسبوقين بإرادتهما، إلّا أنّهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف؟ وقد سبقهما الإرادةُ الأزليّة والمشيئة الإلهيّة، ومعهكيف تصحّ المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار؟

قلت: العِقابُ إنّما يتبع الكفر والعِصْيان التّابعين للاختيار، النّاشئ عن مقدّماته، النّاشئة عن شقاوتهما الذّاتيّة

___________________

الكفر والعصيان {مسبوقين بإرادتهما} أي: إرادة الكافر والعاصي {إلّا أنّهما منتهيان إلى} إرادة اللّه التّكوينيّة الّتي هي من {ما لا بالاختيار} و{كيف} لا ينتهي الكفر والعصيان إلى شيء ليس باختيار المكلّف {وقد سبقهما الإرادة} التّكوينيّة {الأزليّة} كما هو مذاق المصنّف {والمشيّة الإلهيّة؟ ومعه} أي: مع سبق الإرادة التّكوينيّة {كيف تصحّ المؤاخذة على} العصيان الّذي هو من {ما يكون بالآخرة بلا اختيار} العاصي؟

وحاصل هذا الإشكال: أنّ العصيان تابع لإرادة العبد، وإرادةُ العبد لكونها ممكناً - وكلّ ممكن يلزم أن ينتهي إلى الواجب؛ لأنّ كلّ ما بالغير لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات - تابعة للإرادة التّكوينيّة للباري - تعالى - وهذا مستلزم للجبر.

{قلت}: إنّ الإرادة صفة كمال أودعها اللّه في الإنسان، وبهذه الصّفة يتحقّق الاختيار ويحسن الثّواب والعقاب، أمّا أنّ الإرادة مسبوقة بإرادة اللّه - تعالى - فهو باطل.

أمّا على ما تقدّم منّا، فلعدم تعلّق الإرادة من اللّه - سبحانه - لا بالفعل ولا بالترك وإنّما يكون من جانب اللّه هو الأمر والنّهي.

وأمّا على قول من يجعل الإرادة التّكوينيّة عبارة عن الإيجاد - كما تقدّم عن صاحب كفاية الموحّدين وغيره - فأوضح؛ لأنّ اللّه لم يخلق أفعال العباد ولا خلق ما يلجأهم إليه.

وأمّا ما ذكره المصنّف في الجواب من أنّ {العقاب إنّما يتبع الكفر والعصيان التّابعين للاختيارالنّاشئ} هذا الاختيار {عن مقدّماته النّاشئة} تلك المقدّمات {عن شقاوتهما الذّاتيّة} فغير مستقيم، إذ حاصل جوابه(رحمة الله) أنّ العقاب ليس ناشئاً عن

ص: 386

اللّازمة لخصوص ذاتهما، فإنّ السَّعِيْدَ سَعِيْدٌ في بطن أُمّه والشَّقِيّ شقيّ في بطن أُمّه(1)،

___________________

الاستحقاق حتّى يقال: «استحقاق العقاب على ما لا يكون بالاختيار قبيح» بل العقاب من توابع الشّقاوة الّتي هي من اللّوازم الذّاتيّة للذّات، كلزوم الزّوجيّة، وحينئذٍ فترتّب العقاب من باب ترتّب المعلول على علّته.

ووجه عدم استقامته أنّ العقاب إنّما يكون بالاستحقاق، وأنّ الشّقاوة ليست من لوازم الذّات بالضرورة، وإلّا لبطل التّكليف ولم يكن فرق بين الاختيار والاضطرار.

وبما ذكر تبيّن بطلان جعل الشّقاوة من الأُمور {اللّازمة لخصوص ذاتهما} أي: ذات الكافر والعاصي {فإنّ} الذّات ليست علّة لشيء من السّعادة والشّقاوة، وما ورد من الأخبار بمضمون أنّ {السّعيد سعيد في بطن أُمّه والشّقيّ شقيّ في بطن أُمّه} فهو مفسَّر في الأحاديث بما لا ينافي الاختيار، ففي المجلّد الثّالث من البحار، عن التّوحيد بإسناده عن ابن أبي عمير قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر(علیه السلام) عن معنى قول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) «الشّقيّ من شقيّ في بطن أُمّه والسّعيد من سعد في بطن أُمّه»، فقال: «الشّقيّ من علم اللّه وهو في بطن أُمّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء، والسّعيد من علم اللّه وهو في بطن أُمّه أنّه سيعمل أعمال السّعداء».

قلت له: فما معنى قوله(صلی الله علیه و آله): «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلقله»؟ فقال: إنّ اللّه - عزّ وجلّ - خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه، وذلك قوله - عزّ وجلّ - : {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ}(2)، فيسّر كلّاً لما خلق له، فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى»(3)، انتهى. وبهذا المضمون أحاديثُ أُخر، فراجع.

ص: 387


1- ورد بهذا المضمون في التوحيد: 356357.
2- سورة الذّاريات، الآية: 56.
3- التّوحيد: 356؛ بحار الأنوار 5: 157.

و«النّاسَ معادِنُ كمعادن الذّهب والفضّة» - كما في الخبر(1)

- والذّاتيّ لا يعلّل،

___________________

{و} مثل هذا الحديث ما ورد في حديث آخر من أنّ {«النّاس معادن كمعادن الذّهب والفضّة»} مع أنّه لو أُريد ظاهره لم يكن به بأساً فإنّه لا ربط له بالعصيان، بل بيّن فيه استعدادات الأشخاص بالنسبة إلى الخيرات، كما أنّ الذّهب والفضّة كليهما خير، بل هذا الحديث يناقض الشّقاوة الذّاتيّة وإلّا لزم أن يقول: معادن كمعادن الذّهب والقير.

قال في مجمع البحرين في معنى الحديث: «إنّ النّاس يتفاوتون في مكارم الأخلاق ومحاسن الصّفات وفي ما يذكر عنهم من المآثر على حسب الاستعدادات ومقدار الشّرف تفاوتَ المعادِنِ، فيها الرّدي والجيّد»(2)،

انتهى.

والحاصل: أنّ ما في هذا الخبر {كما في الخبر} الأوّل لا يثبت مطلوب المصنّف.

{و} بما ذكرنا ظهر ضعف الاستشهاد لهذا المقام بما ذكره العلماء من أنّ {الذّاتي لا يعلّل} لأنّه ممنوع صغرى وكبرى.ولا بدّ في توضيح ذلك من بيان الكلام في مقامات ثلاث:

المقام الأوّل: في المراد بهذه الجملة، قال السّبزواري في منظومته ما لفظه: «ذاتيّ شيء لم يكن معلّلا» حتّى عرف الذّاتي بما لا يعلّل والعرضي بما يعلّل «وكان» خاصّته الأُخرى «أنّه ما يسبقه تعقّلا»(3)،

انتهى.

وقال شارح الإشارات في بيان خواص الذّاتي: «وثانيها أنّ الشّيء لا يحتاج في اتصافه بما هو ذاتيّ له إلى علّة مغايرة لذاته، فإنّ السّواد هو لون لذاته لا شيء آخر يجعله لوناً، فإنّ ما جعله سواداً جعله أوّلاً لوناً» إلى أن قال: «فإنّ الاثنين لا

ص: 388


1- الكافي 8: 177.
2- مجمع البحرين 6: 281.
3- شرح المنظومة 1: 177.

___________________

يحتاج في اتّصافه بالزوجيّة إلى علّة غير ذاته»(1)، انتهى.

المقام الثّاني: في بيان بطلان أنّ الذّاتي لا يعلّل، أي: منع الكبرى، وذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ الحكماء ذهبوا إلى أنّ اللّه - سبحانه - لم يجعل الماهيّة ماهيّة، بل أوجدها. والماهيّة مختلفة فبعضها مظلمة وبعضها مضيئة، وبعد الوجود يعمل كلّ على مقتضى فطرته ثمّ يعاقب بمقتضى ذاته. قال بعض: «فمن أساء عمله وأظلم جوهر نفسه وكدّر مرآة فطرته وأخطأ في اعتقاده واحتجب عن مراده بحسب مقتضى أصل استعداده، فقد ظلم نفسه بظلمة جوهره وبطلان استعداده فكان أهلاً للشّقاوة»(2)،

الخ.

إذا عرفت المقدّمة قلنا: هذا الكلام باطل بداهة ونكتفي في بيان بطلانه بعد الضّرورة بما ذكره المجلسي(رحمة الله) في المجلّد الرّابع عشر من كتاب بحارالأنوار قال بما لفظه: «اعلم أنّ الّذي يستفاد من الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة هو أنّ تأثيره - سبحانه - في الممكنات لا يتوقّف على المواد والاستعدادات و{إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ}(3) وهو - سبحانه - جعل للأشياء منافع وتأثيرات وخواصّ أودعها فيها وتأثيراتها مشروطة بإذن اللّه - تعالى - وعدم تعلّق إرادته القاهرة بخلافها، كما أنّه أجرى عادته بخلق الإنسان من اجتماع الذّكر والأُنثى وتولّد النّطفة منهما وقرارها في رحم الأُنثى وتدرّجها علقة ومضغة وهكذا، فإذا أراد غير ذلك فهو قادر على أن يخلق من غير أب كعيسى، ومن غير أُمّ أيضاً كآدم وحوّاء، وكخفّاش عيسى وطير إبراهيم، وغير ذلك من المعجزات

ص: 389


1- شرح الإشارات والتنبيهات 1: 4041.
2- شرح كفاية الأصول 1: 93.
3- سورة يس، الآية: 82.

فانقطع سؤال: أنّه لِمَ جُعِلَ السّعيدُ سعيداً والشّقيّ شقيّاً؟ فإنّ السّعيد سعيد بنفسه والشّقيّ شقيّ كذلك، وإنّما أوجدهما الله - تعالى - .

___________________

المتواترات عن الأنبياء في إحياء الموتى، وجعل الإحراق في النّار، فلمّا أراد غير ذلك قال للنّار: {كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَمًا عَلَىٓ إِبۡرَهِيمَ}(1)، وجعل الثّقيل يرسب في الماء وينحدر من الهواء، فأظهر قدرته بمشي كثير على الماء ورفعهم إلى السّماء، وجعل في طبع الماء الانحدار فأجرى حكمه عليه بأن تقف أمثال الجبال منه في الهواء، حتّى تعبر بنو إسرائيل من البحر، ومع عدم القول بذلك لا يمكن تصديق شيء من المعجزات اليقينيّة المتواترة عن الأنبياء والأوصياء، وكذا أجرى عادته على انعقاد الجواهر في المعادن بأسباب من المؤثّرات الأرضيّة والسّماويّة لبعض المصالح، فإذا أراد إظهار كمال قدرته ورفعشأن وليّه يجعل الحصى في كفّه دفعة جوهراً ثميناً، والحديد في يد نبيّه عجيناً، ويخرج الأجساد البالية من التّراب في يوم الحساب، فهذه كلّها وأمثالها لا تستقيم مع الإذعان بقواعدهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة»(2)، انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

المقام الثّالث: في بيان منع الصّغرى فنقول: على تقدير أن تتمّ الكبرى ويصحّ أنّ الذّاتي لا يعلّل، ولا يمكن الانقلاب منه كما زعموا، فالصغرى ممنوعة، إذ لا نسلّم أنّ السّعادة والشّقاوة من الذّاتيّات، بل هما من قبيل سائر العوارض الّتي لا ربط لها بالذات، فإنّ كونهما ذاتيّاً لم يقم عليه برهان، بل قام الدّليل من العقل والنّقل على خلافه، وبهذا ظهر ضعف ما أخذه المصنّف نتيجة للكلام بقوله: {فانقطع سؤال: أنّه لم جُعِلَ السّعيد سعيداً والشّقيّ شقيّاً؟ فإنّ} علّة انقطاع السّؤال {السّعيد سعيد بنفسه والشّقيّ شقيّ كذلك} بنفسه {وإنّما أوجدهما الله - تعالى -}.

ص: 390


1- سورة الأنبياء، الآية: 69.
2- بحار الأنوار 57: 187.

قلم اينجا رسيد و سر بشكست(1).

قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربّما لا يسعه كثير من الأفهام، ومن الله الرّشد والهداية، وبه الاعتصام.

___________________

وحيث تفرّع على هذا القول بطلان بعض الأصول مع أنّه كان مسلماً عنده(قدس

سره) قال:

{قلم اينجا رسيد و سر بشكست} چون كهبيرون زحد خود بنوشت

{قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربّما لا يسعه كثير من الأفهام} خصوصاً بمثل ما قرّبه المصنّف(رحمة الله) {ومن الله الرّشد والهداية وبه الاعتصام}.

ولا بأس بالإشارة إلى ما كتبته في حاشية هذا المقام في غابر الأيّام لرفع الإشكال وهو أنّ اللّه خلق العبد وأودع فيه الاختيار، كما خلقه وأودع فيه البصر والشّمّ والذّوق والسّمع واللّمس وغيرها من القوى، ولا ماهيّة متحقّقة حتّى يكون الخلق للماهيّة كتبييض الجدار، بل جعل الماهيّة وخلقها وكونها عين إيجادها، فقول المصنّف: «إنّما أوجدهما اللّه» غير مستقيم، فإنّ الماهيّة من المعقولات الثّانية الّتي ليس لها في الخارج ما بحذاء، بل الماهيّة مفهوم ذهناً وصورة خياليّة.

والحاصل: ليست الماهيّات كالزجاجات المتلوّنة في الظّلمة حتّى يكون الوجود بالنسبة إليها، كضوء الشّمس بالنسبة إليها حتّى لا يكون الألوان من قبل الضّوء وطرفه ويكون لون الزّجاج الأسود من نفسه وبتلألئه بالسّواد من خبيث ذاته - كما زعموا - ، بل كلّ ما كان فهو من اللّه - تعالى - الأصل والفرع واللّازم والملزوم، ومن البديهي أنّه لو كان الشّقاء لازم الماهيّة كان العذاب من أقبح الظّلم، تعالى عن ذلك ربّنا علوّاً كبيراً، ولهذا ترى العلماء يأوّلون بعض الأخبار الواردة في الطّينة المتشابهة.

ص: 391


1- البيت من الخاقاني الشّروانيّ حيث يقول: قصّ-ه اى مى نوشت خاقانى قلم اينجا رسيد و سر بشكست

___________________

ولا يخفى أنّ الانطباع على بعض الصّفات مع وجود الإرادة والاختيار - كما هو المشاهد - لا يكون سبباً للإلجاء والاضطرار، كما هو بديهيّ لدى الوجدان، بل غالب الصّفات قابلة للتغيير بالمجاهدة، كما برهن عليه في أوّل جامعالسّعادات(1)

وسائر كتب الأخلاق.

وبناءً على ما ذكرنا اختيار شخص للعصيان وشخص آخر للطّاعة إنّما يكون بسبب الإرادة والاختيار الّتي زمامها بيد الشّخص {إِنَّا هَدَيۡنَهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا}(2)، وليس هناك أمر في النّفس يلزمه الإطاعة أو العصيان كلزوم الزوجية والفرديّة للواحد والاثنين، واختيار الشّخص لهما بعين اختياره المأكل والملبس والمشرب والمسكن وغيرها، وكما لا يصحّ لعاقل أن يحكم بأنّ اختيار زيد في هذا اليوم اللّحم بسبب أمر ذاتيّ، فكذلك ليس اختياره للزّنا بسبب أمر ذاتي، ولو كانت الأُمور مستندة إلى الذّات لم يعقل اختيار الكافر الإيمان ولا العاصي الإطاعة وكذلك العكس مع ضرورة ذلك.

بقي أمران لا بدّ من التّنبيه عليهما:

الأوّل: أنّ ما ذكره المصنّف من الإشكال جمع بين إشكالين:

الأوّل: استناد المعصية إلى الإرادة التّكوينيّة.

الثّاني: استنادها إلى الذّات. وقد تبيّن الجواب عنهما.

الأمر الثّاني: إنّ ما ذكره المصنّف هنا وفي بعض مباحث الجلد الثّاني ممّا يشمّ منه بعض الأُمور ليس موجباً للقدح في عقائده أصلاً، إذ مع العلم بمبناه في الأصول الشّرعيّة يؤوّل ما كان متشابهاً من كلامه، مع أنّ العصمة من الزّلل مختصّة

ص: 392


1- جامع السعادات 1: 41.
2- سورة الإنسان، الآية: 3.

وهمٌ ودفعٌ: لعلّك تقول: إذا كانت الإرادة التّشريعيّة منه - تعالى - عين علمه بصلاح الفعل لزم - بناءً على أنتكون عين الطّلب - كونُ المنشأ بالصّيغة في الخطابات الإلهيّة هو العلم، وهو بمكانٍ من البُطْلاَن.

___________________

بمن عصمه اللّه - تعالى - واللّه المستعان.

[وهم ودفع]

{وهم ودفع} أورد على كون المقصود بالإرادة التّشريعيّة العلم الخاص {لعلّك تقول: إذا كانت الإرادة التّشريعيّة منه} أي: من اللّه - سبحانه و{تعالى - عين علمه بصلاح الفعل} في الواجب وصلاح التّرك في المحرّم {لزم بناءً على أن تكون} الإرادة {عين الطّلب} تالٍ فاسد، وهو {كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهيّة هو العلم} وذلك لتشكيل قياس بهذه الصّورة: المنشأ بالصيغة هو الطّلب، والطّلب هو الإرادة، فالمنشأ بالصيغة هو الإرادة ثمّ نجعل هذه النّتيجة صغرى ونقول: المنشأ بالصيغة هو الإرادة، والإرادة هو العلم، فالمنشأ بالصيغة هو العلم {وهو بمكان من البطلان} إذ المنشأ بالصّيغة قابلة للإنشاء، والعلم غير قابل للإنشاء، بيان ذلك أنّ المفهوم على أربعة أقسام: لأنّه إمّا أن يكون له أفراد متأصّلة في الخارج، كالجوهر وبعض أقسام العرض أم لا، وكلّ من القسمين إمّا أن يكون قابلاً للإنشاء أم لا:

الأوّل: ما له أفراد متأصّلة وقابل للإنشاء، ومن هذا القسم مفهوم الطّلب، فإنّ الشّوق المؤكّد القائم بالنفس أمر متأصّل، مع أنّه قابل للإنشاء أيضاً.

الثّاني: ما له أفراد متأصّلة وليس قابلاً للإنشاء، ومن هذا القسم الجواهر كلّها، فالإنسان - مثلاً - له أفراد في الخارج، وليس قابلاً للإنشاء، فلا يعقل إنشاء الإنسان بكلمة (صر)، وكذا كلّما قيل: (جعلت هذا الشّيء أسود أو رطباً) لايصير كذلك.

ص: 393

لكنّك غفلت عن أنّ اتّحاد الإرادة مع العلم بالصلاح إنّما يكون خارجاً لا مفهوماً، وقد عرفت: أنّ المنشأ ليس إلّا المفهوم، لا الطّلب الخارجيّ، ولا غَرْوَ أصلاً في اتّحاد الإرادة والعلم عيناً وخارجاً، بل لا محيصَ عنه

___________________

الثّالث: ما ليس له أفراد متأصّلة ويقبل الإنشاء، ومن هذا القسم كافّة الأُمور الاعتباريّة، كالملكيّة والزّوجيّة والولاية والقضاء والوكالة ونحوها، فإنّه لو قال: (بعتك) الخ صار ملكاً للمشتري، وكذا لو قال: (جعلت فلاناً قاضياً). ومن البديهي، لزوم قابليّة المنشئ لذلك شرعاً أو عرفاً.

الرّابع: ما ليس له أفراد متأصّلة ولا يقبل الإنشاء، وذلك كالاعتبارات الّتي لها أسباب تكوينيّة، وليس له ما بحذاء في الخارج، كالأُبوّة والبنوّة والأُخوّة والفوقيّة والتّحتيّة، إذا عرفت ذلك علمت أنّ العلم من القسم الثّاني، فلا يوجد العلم بالإنشاء التّشريعي.

هذا هو الوهم وأمّا الدّفع فقد أشار إليه بقوله: {لكنّك غفلت عن أنّ اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح إنّما يكون خارجاً لا مفهوماً} لأنّ صفاته - سبحانه - عين ذاته في الخارج، وأمّا المفاهيم فهي متغايرة {وقد عرفت} في أوائل البحث {أنّ المنشأ ليس إلّا المفهوم لا الطّلب الخارجي} والحاصل: أنّا نمنع إحدى المقدّمتين المذكورتين في القياس.

أمّا قولكم: «المنشأ بالصيغة هو الطّلب» إن أُريد بالطلب القائم بالنفس لبداهة أنّ الصّفة النّفسانيّة غير قابلة للإنشاء.

وأمّا قولكم: «والإرادة هو العلم» إن كان المقصود بالإرادة مفهوم الإرادة،لبداهة أنّ مفهوم الإرادة ليس هو العلم للتغاير المفهومي بينهما.

نعم، حكي عن كثير من المعتزلة القول بذلك وهو في كمال السّخافة. {ولا غرو أصلاً في اتحاد الإرادة والعلم عيناً وخارجاً} مع المغايرة مفهوماً {بل لا محيص عنه}

ص: 394

في جميع صفاته - تعالى - ؛ لرجوع الصّفات إلى ذاته المقدّسة. قال أميرالمؤمنين(علیه السلام): «وكمالُ توحيده الإخلاصُ له، وكمالُ الإخلاص له نفيُ الصّفاتِ عنه»(1).

الفصل الثّاني، في ما يتعلّق بصيغة الأمر، وفيه مباحث:

الأوّل: أنّه ربّما يذكر للصّيغة معانٍ قد استعملت فيها، وقد عُدّ منها: التّرجّي، والتّمنّي، والتهديد، والإنذار، والإهانة، والاحتقار، والتّعجيز، والتّسخير إلى غير ذلك.

___________________

على المذهب الصّحيح {في جميع صفاته - تعالى -} وذلك {لرجوع الصّفات إلى ذاته المقدّسة} فالصفات لكونها عين الذّات كان بعضها عين بعض، كما تواترت بذلك الرّوايات، ودلّ البرهان القطعي عليه، وكفاك ما {قال أميرالمؤمنين(علیه السلام)} كما في أوّل خطبة ذكرها في نهج البلاغة: {«وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه} لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة، فمن وصف اللّه - سبحانه - فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه»، الخطبة.

[الفصل الثّاني في ما يتعلّق بصيغة الأمر]

اشارة

المقصد الأوّل: في الأوامر، ما يتعلق بصيغة الأمر

{الفصل الثّاني: في ما يتعلّق بصيغة الأمر، وفيه مباحث} تسعة:

[المبحث الأوّل: معنى صيغة الأمر]

اشارة

المبحث {الأوّل} في معاني صيغة الأمر، فاعلم {أنّه ربّما يذكر للصّيغة معانٍ} أنهاها بعضهم إلى نيّف وعشرين، و{قد استعملت} الصّيغة {فيها، وقد عدّ منها التّرجّي والتّمنّي والتّهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتّعجيز والتّسخير إلى غير ذلك} من المعاني.

قال العلّامة المولى صالح(رحمة الله) في حاشية المعالم ما لفظه: «صيغة (إفعل) تستعمل في خمسة عشر معنىً:

ص: 395


1- نهج البلاغة، الخطبة الأُولى.

___________________

(1) الوجوب، نحو: {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوةَ}(1).

(2) النّدب، نحو: {فَكَاتِبُوهُمۡ}(2)، فإنّ الكتابة لمّا كانت مقتضية للثّواب وليس في تركها عقاب كانت مندوبة.

(3) الإباحة، نحو: {كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ}(3).

(4) التّهديد، نحو: {ٱعۡمَلُواْ مَا شِئۡتُمۡ}(4)، ويقرب منه الإنذار،نحو: {قُلۡ تَمَتَّعُواْ}(5)، وبعضهم جعله قسماً على حدة.

(5) الإرشاد، نحو: {وَٱسۡتَشۡهِدُواْ}(6)، فإنّ اللّه - تعالى - أرشد العباد عند المداينة إلى الاستشهاد رعاية لمصلحتهم، قيل: الفرق بينه وبين النّدب أنّ النّدب لثواب الآخرة والاستشهاد لمنافع الدّنيا، إذ لا ينقص الثّواب بترك الإشهاد في المداينة ولا يزيد بفعله.

(6) الامتنان، نحو: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ}(7)، بالأمر يدلّ على الامتنان عليهم.

(7) الإكرام للمأمور، نحو: {ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَمٍ ءَامِنِينَ}(8)، فإنّ ضمّ السّلامة والأمن عند الأمر بدخول الجنّة قرينة الإكرام.

ص: 396


1- سورة البقرة، الآية: 110.
2- سورة النور، الآية: 33.
3- سورة البقرة، الآية: 60.
4- سورة فصّلت، الآية: 40.
5- سورة إبراهيم، الآية: 30.
6- سورة البقرة، الآية: 282.
7- سورة المائدة، الآية: 88.
8- سورة الحجر، الآية: 46.

وهذا كما ترى؛ ضرورةَ أنّ الصّيغة ما استعملت في واحدٍ منها،

___________________

(8) التّسخير، نحو: {كُونُواْ قِرَدَةً خَسِِٔينَ}(1)، لأنّ مخاطبتهم بذلك في معرض تذليلهم.

(9) التّعجيز، نحو: {فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ}(2)، عجّزهم بطلب المعارضة عن الإتيان بمثله.

(10) الإهانة، نحو: {ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡكَرِيمُ}(3).(11) التّسوية، نحو: {فَٱصۡبِرُوٓاْ أَوۡ لَا تَصۡبِرُواْ}(4)، فإنّه أُريد التّسوية في عدم النّفع بين الصّبر وعدمه.

(12) الدّعاء، نحو: (اللّهمّ اغفر لي).

(13) التّمنّي، نحو: (ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلي)، فإنّ السّاهر لمّا عدّ اللّيل الطّويل مستحيل الانجلاء يتمنّى انجلاءه.

(14) الاحتقار، نحو: {أَلۡقُواْ مَآ أَنتُم مُّلۡقُونَ}(5)، بقرينة مقابلة سحرهم بالمعجزة.

(15) التّكوين وهو الإيجاد، نحو: {كُن فَيَكُونُۚ}»(6)،

انتهى(7).

{وهذا} المطلب وهو أن يكون هذه المعاني للصّيغة {كما ترى} غير مستقيم {ضرورة أنّ الصّيغة ما استعملت في واحد منها} على نحو الحقيقة أو المجاز بأن

ص: 397


1- سورة البقرة، الآية: 65.
2- سورة البقرة، الآية: 23.
3- سورة الدّخان، الآية: 49.
4- سورة الطّور، الآية: 16.
5- سورة يونس، الآية: 80.
6- سورة الأنعام، الآية: 73.
7- حاشية معالم الدين: 56.

بل لم تستعمل إلّا في إنشاء الطّلب، إلّا أنّ الدّاعي إلى ذلك كما يكون تارةً هو البعث والتّحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون أُخرى أحد هذه الأُمور، كما لا يخفى.

وقُصَارَى ما يمكن أن يُدَّعَى أن تكون الصّيغة موضوعةً لإنشاء الطّلب في ما إذا كان بداعي البعث والتّحريك، لا بِدَاعٍ آخَرَ منها، فيكون إنشاء الطّلب بها بعثاً حقيقةً، وإنشاؤه بها تهديداً مجازاً. وهذا غير كونها مستعملةً في التّهديد وغيره،

___________________

يكون معنى الصّيغة في {ٱعۡمَلُواْ مَا شِئۡتُمۡ} - مثلاً - التّهديد وهكذا غيره {بل لم تستعمل} الصّيغة {إلّا في إنشاء الطّلب} فالمستعمل فيه هو الطّلب الإنشائي {إلّا أنّ الدّاعي إلى ذلك} الاستعمال {كما يكون تارةً هو البعث والتّحريك} للعبد {نحو المطلوب الواقعي} نحو {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوةَ} المحرّك نحو الصّلاة كذلك {يكون} الدّاعي من الاستعمال تارةً {أُخرى أحد هذه الأُمور} المذكورة {كما لا يخفى}.

والحاصل: أنّ الدّاعي مختلف لا أنّ مدلول الصّيغة مختلف، فالصيغة في الجميع مستعملة في الطّلب، لكن الدّاعي قد يكون التّمنّي وقد يكون التّرجّي وقد يكون التّهديد إلى آخر ما ذكر.

{وقُصَارَى ما يمكن أن يدّعى} في وجه مجازيّة ما عدا ما إذا كان المطلوب بها التّحريك هو {أن تكون الصّيغة موضوعة لإنشاء الطّلب} لكن لا مطلقاً حتّى يكون جميع المعاني حقيقةً، بل {في ما إذا كان} الاستعمال {بداعي البعث والتّحريك} للعبد نحو المطلوب {لا} إذا استعملت {بداع آخر منها} أي: من تلك الدّواعي، وعلى هذا {فيكون إنشاء الطّلب بها} أي: بالصيغة {بعثاً} أي: لأجل البعث والتّحريك {حقيقة} خبر «يكون» {وإنشاؤه بها تهديداً} أي: لأجل التّهديد {مجازاً} كغير التّهديد من سائر المعاني المذكورة.

{وهذا} الّذي ذكرنا من كون المستعمل فيه هو الطّلب دائماً وتلك الأُمور دواعي للإنشاء {غير كونها} أي: الصّيغة {مستعملة في التّهديد وغيره} كما ذكره

ص: 398

فلا تغفل.

إيقاظ: لا يخفى: أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر جارٍ في سائر الصّيغ الإنشائيّة، فكما يكون الدّاعي إلى إنشاء التّمنّي أو التّرجّي أو الاستفهام بصيغها تارةً هو ثبوت هذه الصّفات حقيقةً، يكون الدّاعي غيرَها أُخرى.

فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها واستعمالها في غيرها، إذا وقعت في كلامه تعالى - لاستحالة مثل هذه المعاني في حقّه تبارك وتعالى، ممّا لازمه العجز أو الجهل - ،

___________________

القوم {فلا تغفل} هذا تمام الكلام في صيغة الأمر، ولا بأس بالإشارة إلى حال سائر الإنشاءات، فنقول:

[إيقاظ]

{إيقاظ: لا يخفى أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر} من كون المعنى واحداً وإنّما الدّواعي مختلفة {جارٍ في سائر الصّيغ الإنشائيّة} خلافاً للقوم، حيث زعموا أنّ تلك الصّيغ تستعمل في معاني متعدّدة، ولكن الصّحيح هو أنّ المعنى واحد والدّاعي متعدّد {فكما يكون الدّاعي إلى إنشاء التّمنّي أو التّرجّي أو الاستفهام} أو غيرها {بصيغها} الموضوعة لها {تارةً هو ثبوت هذه الصّفات} في النّفس {حقيقة} كذلك {يكون الدّاعي غيرها} أي: غير هذه الصّفات تارةً {أُخرى} مع أنّ المعنى واحد فيهما {فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها} وألفاظها {عنها} أي: عن معانيها الموضوعة لها {واستعمالها} أي: الصّيغ {في غيرها} أي: غير المعاني {إذا وقعت في كلامه - تعالى -} وإنّما التزم القوم بالانسلاخ في كلامه - تعالى - {لاستحالةمثل هذه المعاني} من التّمنّي والتّرجّي والاستفهام والتّعجّب وغيرها {في حقّه - تبارك وتعالى -} لبداهة أنّ هذه الأُمور {ممّا لازمه العجز أو الجهل} أو كونه - تعالى - محلّاً للحوادث.

بيان ذلك: أنّ التّمنّي - كما في المطوّل(1) - هو طلب محال أو ممكن لا طماعية

ص: 399


1- المطوّل: 226.

وأنّه لا وجه له؛ فإنّ المستحيل إنّما هو الحقيقيّ منها، لا الإنشائي الإيقاعي الّذي يكون بمجرّد قصد حصوله بالصّيغة، كما عرفت.

ففي كلامه - تعالى - قد استعملت في معانيها الإيقاعيّة الإنشائيّة أيضاً، لا لإظهار ثبوتها حقيقةً، بل

___________________

في وقوعه، والتّرجّي هو ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله، والاستفهام طلب حضوره في الذّهن، والتّعجّب هو انفعال نفساني يعتري الشّخص عند استعظامه أو استطرافه أو إنكاره ما يرد عليه.

ومن الواضح أنّ التّمنّي مستلزم للعجز، فإنّ القادر يفعل متمنّاه، والتّرجّي والاستفهام مستلزمان للجهل، إذ العالم يعلم حصول الشّيء وحاصل لديه المعلوم، والتّعجّب يستلزم تبديل الحال، وجميع اللّوازم محال في حقّه - تعالى - . {وأنّه لا وجه له} تأكيد لقوله: «فلا وجه للالتزام» ومن البعيد أن يكون المراد أنّ ما لازمه العجز والجهل لا وجه له بالنسبة إلى الباري - سبحانه - .

ثمّ بيّن المصنّف وجه عدم الانسلاخ بقوله: {فإنّ المستحيل} في حقّه - تعالى - {إنّما هو الحقيقي منها} أي: من التّمنّيوالتّرجّي والاستفهام {لا الإنشائي الإيقاعي} أي: إنشاء مفهوم التّمنّي - مثلاً - وإيقاع هذه النّسبة خاصّة {الّذي يكون بمجرّد قصد حصوله بالصيغة} ولكن بدواعي مختلفة غير إظهار ثبوت حقيقة هذه الصّفات {كما عرفت} غير مرّة.

{ف} الحاصل: أنّ هذه الصّيغ الواقعة {في كلامه - تعالى - قد استعملت في معانيها الإيقاعيّة الإنشائيّة أيضاً} كما هي مستعملة في كلام غيره - تعالى - وإنّما الفرق أنّ الدّاعي في غيره يمكن أن يكون إظهار ثبوت هذه الصّفات حقيقة، ويمكن أن يكون غيره، وفي كلامه - تعالى - {لا} يستعمل {لإظهار ثبوتها} أي: الصّفات {حقيقةً} بحيث تكون الصّفة موجودة في ذاته {بل} الاستعمال

ص: 400

لأمرٍ آخَرَ - حَسَبَ ما يقتضيه الحال - من إظهار المحبّة أو الإنكار أو التّقرير إلى غير ذلك.

___________________

{لأمر آخر حسب ما يقتضيه الحال} وعيّن ذلك بالقرينة {من إظهار المحبّة}.

قال المحقّق السّلطان: «كقوله - تعالى - : {وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَمُوسَى}(1)، فإنّ تنزيل المتكلّم نفسه منزلة المتردّد الشّاكّ في ما يكون بمرأىً منه ومن المخاطب يستلزم حبّ المكالمة معه المستلزم لكون المخاطب محبوباً عنده، ومن البيّن أنّه لا فرق في ذلك بين العالم بحقائق الأشياء وبين غيره في هذا التّنزيل إذا كان ذلك الشّيء معلوماً عنده وعند مخاطبه {أو} إظهار {الإنكار}».وقال أيضاً: «كقوله - تعالى - : {أَءِلَهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ}(2)، وإنكار الشّيء كراهة والنفرة عن وقوعه وادّعاء أنّه ممّا لا ينبغي أن يقع أصلاً، وهذا مما يستلزم عدم توجّه الذّهن إليه، وبهذا الاعتبار ينزل المتكلّم نفسه منزلة المتردّد الشّاك {أو التّقرير}».

وقال أيضاً: «فالمقصود منه جعل المخاطب مقرّاً لكي يأخذه بإقراره، فينزل المتكلّم العالم بالواقعة نفسه منزلة المتردّد الشّاكّ لكي يتوصّل إلى ذلك المقصود، ومن ثَمّ يجب إيلاء المُقَرِّبه للأداة كما في قوله - تعالى - : {ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَذَا بَِٔالِهَتِنَا يَٓإِبۡرَهِيمُ}(3)، بناءً على علمهم سابقاً بما يفعله بقوله - تعالى - : {وَتَٱللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصۡنَمَكُم}(4) {إلى غير ذلك} من المعاني المذكورة في الإنشاءات، وما ذكرنا من الأمثلة وإن كان للاستفهام إلّا أنّ حال التّمنّي والتّرجّي كذلك».

ص: 401


1- سورة طه، الآية: 17.
2- سورة النّمل، الآية: 60، 61، 62، 63، 64.
3- سورة الأنبياء، الآية: 62.
4- سورة الأنبياء، الآية: 57.

ومنه ظهر: أنّ ما ذُكِرَ من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضاً.

المبحث الثّاني: في أنّ الصّيغة حقيقةٌ في الوجوب، أو في النّدب، أو فيهما، أو في المشترك بينهما؟ وجوهٌ، بل أقوالٌ.

___________________

{ومنه} أي: من هذا الإيقاظ {ظهر أنّ ما ذكر من المعاني الكثيرة} الثّمانية - كما في المغني - أو أكثر {لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضاً} كما لم يكن ما ذكر للأمر من المعنى على ما ينبغي.ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ذكره المصنّف(رحمة

الله) في هذا الباب ممّا تعرّض له بعض أهل البيان، قال ابو القاسم المحشّي على المطوّل معلِّقاً على قول الخطيب القزويني: «ثمّ هذه الكلمات كثيراً ما تستعمل في غير الاستفهام» ما لفظه: «القول باستعمال هذه الكلمات في المولّدات المذكورة حتّى يكون مجازات محلّ إشكال...» إلى أن قال: «اللّهمّ إلّا أن يقال اللّفظ مستعمل في ما وضع له لكن لا لذاته، بل لحصول هذه المولّدات، والقرينة إنّما تمنع عن إرادة ما وضع لذاته»(1)، انتهى.

ومن أراد الاطّلاع على علائق المجازيّة فيها فليرجع إلى تعليقة الشّريف وغيره على المطوّل في بحث الإنشاء(2).

[المبحث الثّاني: الصيغة حقيقة في الوجوب]

{المبحث الثّاني} من الفصل الثّاني {في أنّ الصّيغة حقيقة} في أيّ شيء {في الوجوب} فقط {أو في النّدب} فقط {أو فيهما} على نحو الاشتراك اللّفظي، بأن وضع اللّفظ مرّة لهذا ومرّة لذاك {أو في} القدر {المشترك بينهما} على نحو الاشتراك المعنوي بأن يكون موضوعاً لرجحان الفعل مطلقاً؟ {وجوه، بل أقوال} لا يهمّنا التّعرّض لتفصيلها.

ص: 402


1- المطوّل: 235.
2- المطوّل: 224.

ولا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة. ويؤيّده: عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة النّدب، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحالٍ أو مقالٍ.

وكثرةُ الاستعمال

___________________

{و} المختار الأوّل، إذ {لا يبعد تبادر الوجوب} منها {عند استعمالها بلا قرينة} على الوجوب ولا على غيره. ومن المحتمل أن يكون وجه عدم جزم المصنّف بذلك ما ذكره بعض من أنّ الأمر إنّما يظهر إرادة المريد للفعل وإرادته الفعل أعمّ من التّرخيص في التّرك المساوق للاستحباب وعدمه المساوق للوجوب.

قال في الدّرر - بعد ما اختار أنّ الصّيغة مشتركة بين الوجوب والنّدب اشتراكاً معنويّاً - ما لفظه: «ولكنّها عند الإطلاق تحمل على الأوّل، ولعلّ السّرّ في ذلك أنّ الإرادة المتوجّهة إلى الفعل تقتضي وجوده ليس إلّا، والنّدب إنّما يأتي من قبل الإذن في التّرك منضمّاً إلى الإرادة المذكورة، فاحتاج النّدب إلى قيد زائد بخلاف الوجوب، فإنّه يكفي فيه تحقّق الإرادة وعدم انضمام الرّخصة في التّرك إليها»(1)،

انتهى.

{ويؤيّده} أي: تبادر الوجوب بلا قرينة {عدم صحّة الاعتذار} من العبد {عن المخالفة} لأمرالمولى {باحتمال} متعلّق بالاعتذار {إرادة النّدب مع الاعتراف} من العبد {بعدم دلالته عليه} أي: دلالة الأمر على النّدب {بحال أو مقال}.

والحاصل: أنّ العبد مع اعترافه بعدم وجود القرينة على النّدب لا يصحّ منه الاعتذار لتركه أمر المولى باحتماله النّدب ولو كان مشتركاً صحّ منه الاعتذار.

وإنّما جعل هذا الوجه مؤيّداً ولم يجعله دليلاً، لاحتمال أن يكون عدم صحّة الاعتذار مستنداً إلى ما قاله في الدّرر، لا كونه للوجوب فقط.

{وكثرة الاستعمال} قال صاحب المعالم - بعد ما اختار أنّالأمر حقيقة في

ص: 403


1- درر الفوائد: 75.

فيه في الكتاب والسّنّة وغيرهما لا توجب نَقْلَهُ إليه، أو حَمْلَهُ عليه؛ لكثرة استعماله في الوجوب أيضاً، مع أنّ الاستعمال وإن كثر فيه إلّا أنّه كان مع القرينة المصحوبة، وكثرةُ الاستعمال كذلك

___________________

الوجوب - ما لفظه: «فائدة: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمّة - عليهم الصّلاة والسّلام - أنّ استعمال صيغة الأمر في النّدب كان شائعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الرّاجحة المساوي احتمالها من اللّفظ لاحتمال الحقيقة، عند انتفاء المرجّح الخارجي، فيشكل التّعلّق في إثبات وجود أمر بمجرّد ورود الأمر منهم(علیهم السلام)»(1)،

انتهى.

وهذا الكلام من المصنّف إشارة إلى جوابه، إذ كثرة استعمال الأمر {فيه} أي: في النّدب {في الكتاب والسّنّة وغيرهما} من الاستعمالات المولويّة {لا توجب نقله} أي: الأمر {إليه} إلى النّدب {أو حمله عليه} والفرق بين النّقل والحمل أنّ الأوّل موجب لصيرورة الاستحباب معنى حقيقيّاً، والثّاني موجب لكون الاستحباب مجازاً مشهوراً، وصاحب المعالم إنّما ادّعى الثّاني لا الأوّل.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أجاب عن كلامه بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ كثرة الاستعمال في النّدب لا يوجب ما ذكره {لكثرة استعماله في الوجوب أيضاً} وحاصله: أنّ المحقّق كثرة الاستعمال في النّدب وكثرة الاستعمال كذلك لا توجب الشّهرة، بل إذا لم يكن الاستعمال في المعنى الحقيقي أيضاً كثيراً وهو ممنوع لكثرة الاستعمال فيالوجوب.

الثّاني: ما ذكره بقوله: {مع أنّ الاستعمال وإن كثر فيه} أي: في النّدب {إلّا أنّه} إنّما يفيد إذا لم يكن مع القرينة، أمّا إذا {كان مع القرينة المصحوبة} للاستعمال فلا يفيد الشّهرة الموجبة للوقف {و} ذلك لأنّ {كثرة الاستعمال كذلك} مع القرينة

ص: 404


1- معالم الدين: 53.

في المعنى المجازيّ لا توجب صيرورته مشهوراً فيه، ليرجّح أو يتوقّف - على الخلاف في المجاز المشهور - كيف؟ وقد كُثر استعمال العامّ في الخاصّ حتّى قيل: «ما مِنْ عامٍّ إلّا وقَدْ خُصَّ» ولم ينثلم به ظهورُه في العموم، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.

___________________

{في المعنى المجازي لا توجب صيرورته} أي: اللّفظ {مشهوراً فيه} أي: في ذلك المعنى المجازي {ليرجّح} المجاز على الحقيقة حينما استعمل اللّفظ {أو يتوقّف} في أنّه ما هو المراد {على الخلاف في المجاز المشهور} من أنّه موجب للوقف أو التّرجيح.

الثّالث: النّقض بصيغة العموم وهو ما أشار إليه بقوله: {كيف} يكون كثرة الاستعمال موجباً للوقف أو ترجيح المجاز {و} الحال أنّه {قد كثر استعمال العام في الخاص حتّى قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خُصَّ»} حتّى نفس هذا العموم {و} الحال أنّه {لم ينثلم به} أي: بهذا الاستعمال الكثير في الخصوص {ظهوره في العموم} الموضوع له {بل يحمل} العام {عليه} أي: على العموم {ما لم تقم قرينةبالخصوص} سوى كثرة الاستعمال {على إرادة} المتكلّم من العام {الخصوص} وبهذا كلّه سقط كلام المعالم فاللّازم التّمسّك بظاهر الصّيغة ما لم يقم دليل خاصّ يفيد النّدب، كما هو بناء الفقهاء في الأوامر الواردة في أبواب الفقه.

نعم، وردت جملة كثيرة من الأوامر بحيث تساوي الأوامر الوجوبيّة أو تزيد عليها حَمَلَهَا الفقهاءُ على النّدب بلا وجود قرينة صارفة، كما يظهر ذلك لمن راجع الأخبار الّتي جمعها المجلسي(رحمة الله) في كتاب حلية المتقين وبعض مجلّدات البحار وكذا غيره، اللّهمّ إلّا أن يقال بعدم صحّة سندها أو إعراض العلماء عن ظاهرها.

ثمّ إنّ جماعةً استدلّوا لكون الأمر للوجوب بأُمور: منها قوله - تعالى - : {مَا مَنَعَكَ

ص: 405

المبحث الثّالث: هل الجمل الخبريّة الّتي تستعمل في مقام الطّلب والبعث - مثل: (يغتسل) و(يتوضّأ) و(يعيد) - ظاهرةٌ في الوجوب، أو لا؟؛ لتعدّد المجازات فيها، وليس الوجوب بأقواها، بعدَ تَعَذُّرِ حملها على معناها من الإخبار بثبوت النّسبة، والحكاية

___________________

أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ}(1)، ومنها قوله - تعالى - : {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}(2)، ومنها قوله - تعالى - : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا يَرۡكَعُونَ}(3)، ومنها غير ذلك، والكلّ كماترى إذ بعضها خلط وبعضها لا دلالة فيها.

نعم، إذا ثبت التّلازم بين الصّيغة وبين مادّة الأمر كانت الأدلّة الدّالّة على كون المادّة للوجوب دالّة على كون الصّيغة للوجوب.

[المبحث الثّالث: الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب ظاهرة في الوجوب]

{المبحث الثّالث} في حال الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الطّلب {هل الجمل الخبريّة الّتي تستعمل في مقام الطّلب والبعث مثل} كلمة {(يغتسل) و(يتوضّأ) و(يعيد)} الصّلاة، ونحوها المستعملات في مقام طلب الغسل والوضوء والإعادة {ظاهرة في الوجوب} كما كانت الصّيغة كذلك {أو لا} تكون ظاهرة في الوجوب؟ وذلك لأنّ للجملة الخبريّة معنى حقيقي وهو الإخبار عن النّسبة وإذا لم يُرَدْ ذلك منها كانت مجملة {لتعدّد المجازات فيها} من النّدب ومطلق الطّلب والوجوب {و} لا يمكن القول بأنّه إذا تعذّرت الحقيقة حملت على أقوى المجازات وهو الوجوب، إذ {ليس الوجوب بأقواها} وأقربها إلى الحقيقة {بعد تعذّر حملها} أي: الجملة {على معناها} الحقيقي.

ثمّ بيّن معنى الحقيقي للجملة بقوله: {من الإخبار بثبوت النّسبة والحكاية} عطف

ص: 406


1- سورة الأعراف، الآية: 12.
2- سورة النّور، الآية: 63.
3- سورة المرسلات، الآية: 48.

عن وقوعها:

الظّاهر: الأوّل، بل يكون أظهر من الصّيغة.

ولكنّه لا يخفى: أنّه ليست الجمل الخبريّة الواقعة في ذلك المقام - أي: الطّلب - مستعملةً في غير معناها، بل تكون مستعملةً فيه، إلّا أنّه ليس بداعي الإعلام، بل بداعي البعث بنحوٍ الآكد؛ حيث إنّهأخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه، إظهاراً بأنّه لا يرضى إلّا بوقوعه، فيكون آكَدَ في البعث من الصّيغة،

___________________

على الإخبار {عن وقوعها} أي: النّسبة {الظّاهر} هو {الأوّل} وهو ظهور الجملة في الوجوب، وذلك لانسباق الوجوب من الإطلاق عند تعذّر الحقيقة {بل يكون} الجملة {أظهر من الصّيغة} في إفادة الوجوب {ولكنّه لا يخفى أنّه ليست الجمل الخبريّة الواقعة في ذلك المقام - أي: الطّلب - مستعملةً في} مفهوم الطّلب الّتي هي {غير معناها} الحقيقي كما ذهب إليه المشهور.

{بل} التّحقيق أنّ الجمل حينئذٍ {تكون مستعملة فيه} أي: في معناها الحقيقي {إلّا أنّه ليس} الاستعمال {بداعي الإعلام، بل بداعي البعث} نحو المطلوب {بنحو الآكد} من صيغة الأمر.

والحاصل: أنّ المستعمل فيه واحد والدّاعي مختلف وإنّما كان الطّلب بالجملة الخبريّة آكد من صيغة الطّلب {حيث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام} يريد {طلبه إظهاراً} أي: لأجل الإظهار {بأنّه لا يرضى إلّا بوقوعه} لأنّ الإخبار بوقوع المطلوب في الخارج يدلّ على عدم تطرّق نقيضه عند الأمر {فيكون آكد في البعث من الصّيغة}.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من إقامة الجملة الخبريّة مقام الإنشاء لا يفرق فيه بين الفعل الماضي - كما إذا سُئِل عن الإمام(علیه السلام) عن الشّكّ في عدد الرّكعات في الثّنائيّة فقال: «أعاد» - وبين الفعل المضارع - كما تقدّم - .

ص: 407

كما هو الحال في الصّيغ الإنشائيّة - علىما عرفت من أنّها أبداً تستعمل في معانيها الإيقاعيّة لكن بدواعٍ أُخَرَ - ، كما مرّ.

___________________

نعم، ليس من محلّ الكلام ما إذا كانت الجملة مشتملة على لفظ (الطّلب) أو (الوجوب) نحو (الصّلاة واجبة) أو (أطلب منك الفعل) أو (آمرك بكذا) لأنّ ذلك كلّه حكاية عن الأمر.

ثمّ إنّ استعمال الجملة في مقام الطّلب من البلاغة بمنزلة رفيعة. قال في المطوّل: «ثمّ الخبر قد يقع موقع الإنشاء، إمّا للتفأل بلفظ الماضي على أنّه من الأُمور الحاصلة الّتي حقّها أن يخبر عنها بأفعال ماضية كقولك: (وفّقك اللّه للتقوى) أو لإظهار الحرص في وقوعه...» إلى أن قال: «أو لحمل المخاطب على المطلوب بأن يكون المخاطب ممّن لا يحبّ أن يكذّب الطّالب - أي: ينسب إلى الكذب - كقولك. - لصاحبك الّذي لا يحبّ تكذيبك - : (تأتيني غداً) مقام (ائتني) تحمله بألطفِ وجهٍ على الإتيان؛ لأنّه إن لم يأتك غداً صرتَ كاذباً من حيث الظّاهر، لكون كلامك في صورة الخبر...» إلى أن قال: «ومن الاعتبارات المناسبة لإيقاع الخبر موقع الإنشاء القصد إلى المبالغة في الطّلب حتّى كأنّ المخاطب سارع في الامتثال»(1)،

انتهى.

ثمّ إنّ استعمال الجملة لغير داعي الإعلام {كما هو الحال في الصّيغ الإنشائيّة} المستعملة لغير داعي معناها الأصلي كالاستفهام المستعمل لغير داعي الفهم، والأمر المستعمل لغير داعي الجِدّ، وإن كانا مستعملين في معناهما {على ما عرفت من أنّها} أي: الصّيغ الإنشائيّة {أبداً تستعمل في معانيهاالإيقاعيّة لكن بدواعٍ أُخَرَ} غير الدّاعي الأصلي {كما مرّ} تفصيله.

ص: 408


1- المطوّل: 246.

لا يقال: كيف؟ ويلزم الكذب كثيراً؛ لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج، تعالى الله وأوليائه عن ذلك علوّاً كبيراً.

فإنّه يقال: إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام، لا لداعي البعث. كيف؟ وإلّا يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل: (زيد كثير الرّماد) أو(مهزول الفصيل) لا يكون كذباً إذا قيل كنايةً عن جُوْدِهِ،

___________________

{لا يقال: كيف} يجوز الإخبار بوقوع المطلوب في مقام الطّلب {و} الحال أنّه {يلزم الكذب كثيراً} وذلك {لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك} أي: بالطلب التّشريعي، بخلاف الطّلب التّكويني المنشأ بلفظ الخبر، فإنّ المطلوب به يقع لا محالة {في الخارج} وعدم وقوع المطلوب التّشريعي في ظرف الإخبار به ممّا {تعالى الله وأوليائه عن ذلك علوّاً كبيراً} إذ الكذب ملزوم العجز أو الجهل المنفيَين عنهم؟

{فإنّه يقال: إنّما يلزم الكذب} في صورة عدم الوقوع {إذا أتى بها} أي: بالجملة {بداعي الإخبار والإعلام} عن النّسبة في الخارج {لا} إذا أتى بالجملة {لداعي البعث} نحو المطلوب إنشاءً، فإنّ الإنشاء ممّا لا يتطرّق إليه الصّدق والكذب و{كيف} تكون الجملة في صورة عدم الوقوع كذباً {وإلّا يلزم الكذب في غالب الكنايات} المستعملة لإفادة الملزوم فقطلا اللّازم والملزوم معاً، فإنّه جائز عند أهل البيان، وقد جعلوا جواز الجمع بينهما فارقاً بين الكناية والمجاز عندهم ملزوم قرينة معاندة للحقيقة بخلاف الكناية، فراجع {فمثل (زيد كثير الرّماد) أو} (جبان الكلب) أو {(مهزول الفصيل)} ونحوها {لا يكون كذباً إذا قيل كنايةً عن جوده}.

تذكرة: إنّما تكون هذه الأمثلة الثّلاثة كناية عن الجود.

أمّا الأوّل، فلأنّ الجود مستلزم لكثرة الأضياف المستلزم لكثرة الطّبخ المستلزم لكثرة الرّماد.

ص: 409

وإن لم يكن له رَمَادٌ أو فصيلٌ أصلاً، وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد، فيكون الطّلب بالخبر في مقام التّأكيد أبلغ؛ فإنّه مقال بمقتضى الحال،

___________________

وأمّا الثّاني، فلأنّ الجود مستلزم لكثرة الأضياف المستلزم لكثرة زجر الكلب المستلزم لجبنه، إذ من لا يمرّ عليه الضّيف يكون كلبه جريئاً.

وأمّا الثّالث، فلأنّ الجود مستلزم لكثرة الضّيف المستلزم لإعطاء لبن النّاقة للأضياف المستلزم لهزال فصيلها.

والحاصل: أنّ هذه الجمل صادقة {وإن لم يكن له رماد، أو} كلب، أو {فصيل، أصلاً، وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد} الّذي هو المقصود من الكلام، أو لم يكن له هذه الثّلاثة وقد استعمل اللّفظ في اللّازم والملزوم كما تقدّم، أو لم يستعمل بداعي التّهكّم من باب استعمال الضّدّ في الضّدّ لقصد الاستهزاء.

فتبيّن أنّ النّسبة الأوليّة في الجملة الخبريّة إنّما تتصف بالصدق والكذب بشرطين:الأوّل: عدم الإتيان بها بداعي الإنشاء، فلو أتى بها بداعي الطّلب أو التّهكّم أو المدح والذّمّ وأمثالها لم تتصف بهما.

الثّاني: عدم الإتيان بها بداعي الكناية في الجملة، فلو أتى بها بداعي الكناية فقط لم تتصف بالنسبة الأوليّة بهما وإنّما المتصف حينئذٍ المعنى المقصود الكنائي - كما عرفت - .

{ف} قد تحصل من جميع ما تقدّم أنّه {يكون الطّلب بالخبر في مقام التّأكيد} لمضمون الطّلب {أبلغ} وذلك {فإنّه مقال بمقتضى الحال} (1)

إذن الطّلب المؤكّد في الخارج أقرب إلى الصّدور، فكأنّه مستلزم للصّدور، والصّدور مضمون الجملة، فذكر الجملة وإرادة الطّلب يكون من باب ذكر اللّازم وإرادة الملزوم،

ص: 410


1- مقتضى الحال تأكيد الطّلب والمقال المطابق له الكناية.

هذا.

مع أنّه إذا أتى بها في مقام البيان فمقدّمات الحكمة مقتضيةٌ لحملها على الوجوب؛ فإنّ تلك النّكتة إن لم تكن موجبةً لظهورها فيه فلا أقلّ من كونها موجبةً لِتَعَيُّنِهِ من بين محتملات ما هو بصدده، فإنّ شدّة مناسبة الإِخبار بالوقوع مع الوجوب، موجبةٌ لتعيُّنِ إرادته إذا كان

___________________

وهذا هو الكناية الّتي هي أبلغ من التّصريح.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ وجه كون الكناية أبلغ أنّ الكناية تضمن ذكر المدّعى مع الدّليل، فإنّ من يقول: (زيد كثير الرّماد) فهو بمنزلة أن يقول: زيد كريم بدليل كثرة رماده، فكانت كذكر الشّيء ببيّنة وبرهان، ولا يخفى لطفه.{هذا مع أنّه} لو سلّمنا أنّ الجملة حين عدم إرادة الإخبار منها ليست ظاهرةً في الوجوب، فنقول: إنّ القرينة العامّة قائمة على إفادتها الوجوب حينئذٍ. بيان ذلك: أنّه {إذا أتى} المولى {بها} أي: بالجملة الخبريّة {في مقام البيان فمقدّمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب} إذ الأمر دائر حين عدم إرادة الإعلام بين إرادة مطلق الطّلب أو الوجوب أو النّدب، لا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّ مطلق الطّلب مساوق لعدم البيان، والمفروض أنّ المولى في مقام البيان، وحينئذٍ يدور الأمر بين الوجوب والنّدب والأوّل مقدّم {فإنّ تلك النّكتة} الّتي تقدّمت من صيانة الكلام عن الكذب {إن لم تكن موجبة لظهورها} أي: الجملة {فيه} أي: في وجوب {فلا أقلّ من كونها} أي: تلك النّكتة {موجبة لتعيّنه} أي: الوجوب {من بين محتملات ما هو بصدده} أي: محتملات الطّلب، وهي الوجوب والنّدب الّتي كان المولى بصدد بيان ذلك الطّلب، ووجه تقديم الوجوب على النّدب ما ذكره بقوله: {فإنّ} الحقيقة حينما تعذّرت كانت {شدّة مناسبة الإخبار بالوقوع} الّذي هو المعنى الحقيقي {مع الوجوب} دون النّدب {موجبة لتعيّن إرادته إذا كان} المولى

ص: 411

بصدد البيان، مع عدم نصب قرينة خاصّة على غيره، فافهم.

المبحث الرّابع: أنّه إذا سلّم أنّ الصّيغة لا تكون حقيقةً في الوجوب، هل لا تكون ظاهرةً فيه أيضاً، أو تكون؟

قيل بظهورها فيه؛ إمّا لغلبة الاستعمال فيه، أو لغلبة وجوده، أو أكمليّته.

___________________

{بصدد البيان} للحكم {مع عدم نصب قرينة خاصّة على غيره} أي: غير الوجوب. وإنّما كان الوجوب أشدّ مناسبة لمعنى الجملة الّتي هي مفيدة للوقوع؛ لأنّ الوجوب أقرب إلى الوقوع من النّدب، كما لا يخفى {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الأمر دائر مدار الظّهور العرفي، ونحو هذه الاستحسانات لا تكون سبباً له.

ثمّ لا يخفى أنّ الكلام في النّواهي الصّادرة بلفظ الخبر نحو (لا يعيد) كالكلام في الأوامر.

[المبحث الرّابع: ظهور صيغة الأمر في الوجوب]

{المبحث الرّابع} في دلالة صيغة الأمر على الوجوب من غير طريق الوضع له، والأولى تقديم هذا المبحث على المبحث الثّالث؛ لأنّه من تتمّة المبحث الثّاني، وعلى كلّ حال فاعلم {أنّه إذا سلم أنّ الصّيغة لا تكون حقيقة في الوجوب} فقط بأن كانت حقيقة في النّدب فقط أو مشتركة بينهما لفظاً أو معنى، فحينئذٍ {هل لا تكون ظاهرة فيه} أي: في الوجوب {أيضاً} كما لا تكون حقيقة في الوجوب فقط {أو تكون} ظاهرة في الوجوب؟ {قيل بظهورها} أي: الصّيغة {فيه} وذلك الظّهور {إمّا لغلبة الاستعمال فيه أو لغلبة وجوده أو أكمليّته} الضّمائر راجعة إلى «الوجوب».

ولا يخفى أنّ بين هذه الثّلاثة عموماً من وجه، كالعادل والأبيض والعالم لاجتماعها في العالم الأبيض العادل، وافتراق الأوّل في العادل الأسود الجاهل، والثّاني في الأبيض الفاسق الجاهل، والثّالث في العالم الأسود الفاسق، وحينئذٍ فلو

ص: 412

والكلّ كما ترى؛ ضرورةَ أنّ الاستعمال في النّدب، وكذا وجوده ليس بأقلّ لو لم يكن بأكثر.

وأمّا الأكمليّةُ فغيرُ موجبةٍ للظّهور؛ إذ الظّهور لا يكاد يكون إلّا لشدّة أُنس اللّفظ بالمعنى، بحيث يصير وجهاً له، ومجرّد الأكمليّة لا يوجبه،

___________________

فرض وضع الجسم لكلّ واحد منها وكان الأوّل أكمل أفراده والثّاني أغلب أفراده وجوداً والثّالث أغلبها استعمالاً فيه كان، كما نحن فيه.

{و} لكن {الكلّ كما ترى} غير صحيح، أمّا غلبة الوجود فل {ضرورة أنّ الاستعمال في النّدب وكذا وجوده ليس بأقلّ} من الاستعمال في الوجوب ووجوده {لو لم يكن بأكثر} فإنّ استعمال الصّيغة في النّدب، وكذا وجود النّدب، ولو لم يكن مستفاداً من الصّيغة، بل من الجملة الخبريّة ونحوها كثير في الأخبار جدّاً، كما يظهر ذلك لمن راجعها.

{وأمّا الأكمليّة} ففيه: أوّلاً أنّ كون الوجوب أكمل ممنوع، إذ معنى الأكمليّة الطّلب الأكيد بالنسبة إلى الاستحباب الّذي هو طلب ضعيف، فالوجوب بالنسبة إليه كاللون الشّديد بالنسبة إلى اللّون الضّعيف، وهذا غير مستقيم، إذ الفارق بينهما جواز التّرك وعدمه لا الشّدّة والضّعف، فتأمّل.

وثانياً على تقدير تسليم الأكمليّة {فغير موجبة للظّهور} في الوجوب عند الإطلاق {إذ الظّهور لا يكاد يكون إلّا لشدّة أُنس اللّفظ بالمعنى بحيث يصير} اللّفظ مرآة و{وجهاً له} أي: للمعنى حتّى يرى صورة المعنى في اللّفظ.

{و} من المعلوم أنّ {مجرّد الأكمليّة لا يوجبه} أي: لايوجب هذا النّحو من الظّهور، كيف ولو كان كذلك لزم تبادر المراتب الشّديدة من الألوان عند إطلاق اسمها؟ والسّرّ في ذلك ما ذكره العلّامة المشكيني(رحمة الله) بقوله: «لأنّ المسلّم كما له ثبوتاً لا إثباتاً والتّشكيك الثّبوتي لا يستلزم التّشكيك اللّفظي الحاصل من شدّة

ص: 413

كما لا يخفى.

نعم، في ما كان الآمِر بصدد البيان فقضيّة مقدّمات الحكمة هو الحمل على الوجوب؛ فإنّ النّدب كأنّه يحتاج إلى مؤونة بيان التّحديد،

___________________

الأُنس في مقام القابليّة»(1) {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{نعم، في ما} تمّت مقدّمات الحكمة بأن {كان الآمر بصدد البيان} ولم ينصب قرينة على الطّرف المقابل {فقضيّة مقدّمات الحكمة هو الحمل على الوجوب} سواء قلنا بالاشتراك أو بوضع الصّيغة للنّدب {فإنّ النّدب كأنّه يحتاج إلى مؤونة بيان التّحديد} وقد أفاده الميرزا المجدّد الشّيرازي(قدس

سره) في محكي كلامه بقوله: «إنّ حقيقة الوجوب إنّما هو الطّلب الخالص عن شوب الرّجوع، وحقيقة النّدب إنّما هي الطّلب المشوب بالرجوع والإذن في التّرك، إذ لا ريب أنّ الإذن فيه بعد الطّلب رجوع عن الطّلب، إذ ليس الطّلب إلّا البعث والتّحريك، وهو ينافي الإذن في التّرك، إذ معه لم يبق الطّلب بحاله، وإنّما الباقي مجرّد الميل إلى الفعل.

والحاصل: أنّ في الطّلب النّدبي أمرين: الطّلب والإذن في التّرك، ولا ريب أنّ الصّيغة بنفسها لا تنهض على إفادة الثّاني، بل لا بدّ في ذلك من إيراد دالّ آخرمن القرائن، وهذا بخلاف ما لو أمر به بالأمر الوجوبي، فإنّ القصد حينئذٍ إنّما هو الطّلب مع عدم قصد الرّجوع عنه، فيكون مفاد الصّيغة حينئذٍ هو الطّلب الخالص عن شوب الإذن في التّرك، ولا ريب أنّه يكفي في إفادة الصّيغة بنفسها فإذا أُطلقت الصّيغة فهي تفيد الطّلب، ومع عدم نصب القرينة على الإذن في التّرك يكون مفادها هو الطّلب الخالص وهو الوجوب»(2)، انتهى.

ص: 414


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 354.
2- تقريرات المجدد الشيرازي 2: 29.

والتّقييد بعدم المنع من التّرك، بخلاف الوجوب، فإنّه لا تحديد فيه للطّلب ولا تقييد، فإطلاقُ اللّفظ وعدم تقييده مع كون المُطْلِقِ في مقام البيان كافٍ في بيانه، فافهم.

المبحث الخامس:

___________________

{و} الحاصل: أنّ إطلاق الصّيغة منزَّل على الوجوب؛ لأنّ النّدب يحتاج إلى {التّقييد بعدم المنع من التّرك} وحيث لا تحديد ولا تقييد فلا ندب، وذلك {بخلاف الوجوب فإنّه لا تحديد فيه للطّلب ولا تقييد} فإنّه محض الطّلب.

وعلى هذا {فإطلاق اللّفظ وعدم تقييده} بالإذن في التّرك {مع كون المطلق في مقام البيان كافٍ في بيانه} أي: بيان الوجوب {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ الطّلب لمّا كان مشتركاً بين الوجوب والاستحباب والوجوب يحتاج إلى أمر زائد وهو شدّة الطّلب، فمقتضى الأخذ بالمتيقّن الّذي هو الطّلب وترك المشكوك الّذي هو الشّدّة، أن يحمل الأمر المطلق على النّدب، إلّا أن يدلّ دليل على الوجوب هذا إذا قيل بالاشتراك، ولو قيل بوضع الصّيغة للنّدب فقط والوجوب مجازاً فالأمرأظهر، إذ لا يعدل عن الحقيقة إلّا بدليل.

ولا يخفى أنّ الكلام في الجملة الخبريّة المفاد بها الطّلب، كالكلام في أصل دلالة الأمر، والكلام في النّهي، كالكلام في الأمر.

[المبحث الخامس: ما تقتضيه الصيغة من التوصلية أو التعبدية]

{المبحث الخامس} في التّعبديّة والتّوصليّة، والكلام في هذا المبحث يقع في مواضع أربعة:

الأوّل: مقتضى الأصل اللّفظي بالنسبة إلى الصّيغة.

الثّاني: مقتضى الأصل اللّفظي بالنسبة إلى غير الصّيغة من الأدلّة.

الثّالث: مقتضى الأصل العملي بالنسبة إلى الصّيغة.

الرّابع: مقتضى الأصل العملي بالنسبة إلى غير الصّيغة.

ص: 415

أنّ إطلاق الصّيغة هل يقتضي كون الوجوب توصّليّاً - فيُجْزِي إتيانه مطلقاً، ولو بدون قصد القربة - أو لا - فلا بدّ من الرّجوع في ما شكّ في تعبديّته وتوصليّته إلى الأصل - ؟

___________________

وحيث إنّ المصنّف(رحمة الله) تعرّض لما عدا الثّاني، فالأنسب التّعرّض الإجمالي له ثمّ الشّروع في الشّرح.

قال شيخنا المرتضى - قدّس اللّه سرّه - في الطّهارة في هذا المقام ما لفظه: «وقد اشتهر الاستدلال على ذلك - قبل الإجماع - بقوله - تعالى - : {وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ}(1)،وقوله(صلی الله علیه و آله): «إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئ ما نوى»(2)، وقوله(علیه السلام): «لا عمل إلّا بنيّة»(3)،

والآية ظاهرة في التّوحيد ونفي الشّرك من وجوه»، ثمّ ذكر الوجوه، إلى أن قال: «وأمّا الأخبار فحملها على ظاهرها ممتنع وعلى نفي الصّحّة - بمعنى ترتّب الأثر - موجب للتخصيص الملحق للكلام بالهزل»(4)، الخ.

وأمّا المقام الأوّل فنقول: {إنّ إطلاق الصّيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليّاً فيجزي إتيانه} أي: الواجب {مطلقاً} أي: {ولو بدون قصد القربة} فلو أمر بوجوب غسل الجنابة هل يجزي غسل الأعضاء ولو كان غافلاً عن وجوب الغسل عليه أو اغتسل في ماء مغصوب أو كان نائماً فوقع في الماء؟ والحاصل: أنّ حاله حال تطهير النّجس {أو لا} إطلاق للصّيغة من جهة قصد القربة، ولو قلنا بعدم الإطلاق فما كان من الأوامر معلوم حاله، وأنّه مشروط بقصد القربة أو غير مشروط فهو، وإلّا {فلا بدّ من الرّجوع في ما شكّ في تعبديّته وتوصليّته إلى الأصل}

ص: 416


1- سورة البيّنة، الآية: 5.
2- وسائل الشيعة 1: 49.
3- وسائل الشّيعة 1: 46.
4- كتاب الطهارة 2: 1113.

لا بدّ في تحقيق ذلك من تمهيد مقدّمات:

إحداها: الوجوبُ التّوصّلي هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب، ويسقط بمجرّد وجوده، بخلاف التّعبّدي، فإنّ الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لا بدّ - في سقوطه وحصول غرضه - من الإتيان به متقرّباً به منه - تعالى - .

___________________

العملي من البراءة أو الاشتغال على ما يأتي تفصيله؟ و{لا بدّ في تحقيق ذلك من تمهيد مقدّمات} ثلاثة:

{إحداها} أنّ الوجوب من حيث اعتبار قصد القربة في الواجب وعدمه ينقسم إلى قسمين: الأوّل: التّوصّلي، والثّاني: التّعبّدي، و{الوجوب التوصّلي} قد عرف بتعاريف أظهرها أنّه {هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب ويسقط} الغرض {بمجرّد وجوده} من دون أن يكون قصد القربة دخيلاً فيه وإن كان إتيانه بقصد القربة ممكناً، بل موجباً لمزيد الثّواب.

والحاصل: أنّ الواجب التّوصّلي ما يكون مسلوباً عنه الخصوصيّات الزّائدة عن أصل وجوده، بحيث لا يكون المقصود منه إلّا أصل وجوده في الخارج، سواء وقع من الفاعل أو من غيره باختيار أو بدونه بقصد القربة أو بدونها، وذلك كتطهير النّجس مقدّمة للصّلاة، فإنّه واجب سواء وقع من المصلّي أم غيره ولو من الرّيح، ولو وقع من المصلّي لا يفرق فيه بين وقوعه عن اختيار أم لا كما لو وقع في الماء، وإذا وقع بالاختيار لا يفرق فيه بين قصد القربة وعدمه {بخلاف} الواجب {التّعبّدي} كالصلاة {فإنّ الغرض منه} الدّاعي إلى إيجابه {لا يكاد يحصل بذلك} أي: بمجرّد وجوده في الخارج {بل لا بدّ في سقوطه} أي: الواجب التّعبّدي {وحصول غرضه من الإتيان به} من شخص الفاعل بالاختيار {متقرّباً به منه - تعالى} شأنه - .

ثمّ إنّ التّوصّلي والتّعبّدي لها إطلاقات لا حاجة لنا في إيرادها.

ص: 417

ثانيتها: إنّ التّقرّب المعتبر في التّعبّديّ إن كان بمعنى قصد الامتثال، والإتيان بالواجب بداعي أمره، كان

___________________

ولا يذهب عليك أنّ التّسمية بالتوصّلي لأجل كون الواجب جعل وصلة إلى الغرض من دون ملاحظة شيء آخر، وبالتعبّدي لأجل كون الواجب عبادة بمعناها الاصطلاحي(1)،

والعبادة مأخوذ فيها قصد القربة بالإجماع وبعض الأدلّة المتقدّمة على القول بدلالتها، وإلّا فكلّ ممّا اعتبر فيه قصد القربة وغيره يصلح تسميته بالتوصّلي والتّعبّدي - كما لا يخفى - .

ثمّ إنّ القربة عبارة عمّا يترتّب على الإطاعة من القرب المعنوي والمحبوبيّة عند اللّه - تعالى - .

{ثانيتها: إنّ التّقرّب المعتبر في التّعبّدي} عبارة عن إتيانه بنحو قربي، وذلك يتصوّر على وجوه:

الأوّل: كون الفعل ناشئاً عن داعي أمره، فالصلاة - مثلاً - لا يترتّب عليها القرب إلّا إذا أتى بها بداعي امتثال الأمر المتعلّق بها.

الثّاني: إتيانه بداعي حسنه.

الثّالث: إتيانه بداعي كونه ذا مصلحة.

الرّابع: إتيانه للّه - تعالى - إلى غير ذلك.

ثمّ {إن كان} المراد من التّقرّب المعنى الأوّل {بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره كان} هذا التّقسيم إلى التّوصّلي والتّعبّدي تقسيماً بعد تعلّق الأمر لا تقسيماً لموضوع الأمر، وذلك يتّضح ببيان مقدّمة وهي: أنّ المولى لو قال: (يجب عليك الصّلاة) فهنا أمران: الأوّل الموضوع وهو الصّلاة، والثّاني الحكم وهو الوجوب، ورتبة الأوّل مقدّم على الثّاني، بمعنى أنّ العقل يرى توقّف

ص: 418


1- وأمّا معناها اللّغوي فالعبادة مأخوذة من العبوديّة المأخوذة من العبد.

ممّا يعتبر في الطّاعة عقلاً، لا ممّا أُخِذ في نفس العبادة شرعاً؛ وذلك لاستحالة أخذ مالا يكاد يتأتّى إلّا مِن قِبَل الأمر بشيءٍ في متعلّق ذاك الأمر مطلقاً - شرطاً أو شطراً - . فما لم تكن نفس الصّلاة متعلّقةً للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.

___________________

الثّاني على الأوّل، كتوقّف الضّوء على الشّعلة وإن اتحدا زماناً. ثمّ إنّه بعد ما أوجب الشّارع الصّلاة يحكم العقل بوجوب الإطاعة، ومعنى حكم العقل - على مبنى بعض المحقّقين - رؤية الحسن والثّواب في الفعل والقبح والعقاب في التّرك، فالعقل كالعين لكن يرى المعقولات والعين ترى المحسوسات.

إذا عرفت ذلك قلنا: قد يطرأ التّقسيم على الموضوع - أعني: الصّلاة - وقد يطرأ التّقسيم على الإطاعة، والانقسام إلى التّعبّدي والتّوصّلي ممّا يطرأ على الثّاني وقصد الامتثال الّذي هو محلّ الكلام {ممّا يعتبر في الطّاعة عقلاً} وكان ممّا يحكم به العقل لأجل تحصيل غرض المولى {لا ممّا أخذ في نفس العبادة شرعاً} بأن يكون دخيلاً في الموضوع، بل لا يمكن أخذ قصد الامتثال في جانب الموضوع، {وذلك} لأنّ قصد امتثال الأمر متوقّف على الأمر، والأمر متوقّف على الموضوع فلا يمكن أخذه في الموضوع، بمعنى تعلّق الأمر بالصلاة المقيّدة بقصد الامتثال {لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلّا مِن قِبَل الأمر بشيء في متعلّق ذاك الأمر مطلقاً} أي: سواء أخذ {شرطاً أو شطراً} فلا يعقل أن يقول: (الصّلاة بشرط الامتثال واجبة) أو (الصّلاة مع قصد الامتثال واجبة).

والحاصل: أنّ قصد الامتثال بعد الأمر، والأمر بعد الصّلاة، فلا يمكن أن يكون قصد الامتثال في مرتبة الصّلاة بحيث يتعلّق الأمر بمجموعهما؛ لأنّ ذلك دور، فإنّ قصد الامتثال لكونه متولّداً من الأمر يتوقّف على الأمر، ولكونه فيموضوع الأمر يتوقّف الأمر عليه {فما لم تكن نفس الصّلاة متعلّقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها}.

ص: 419

وتَوَهُّمُ إمكان تعلّق الأمر بفعل الصّلاة بداعي الأمر، وإمكان الإتيان بها بهذا الدّاعي؛ - ضرورةَ إمكان تصوّر الآمِرِ لها مقيّدةً، والتّمكّن من إتيانها كذلك بعد تَعَلُّقِ الأمر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً في صحّة الأمر إنّما هو في حال الامتثال، لا حال الأمر - .

___________________

قال بعض الأعلام: «إنّ هذا الكلام إشارة إلى محذور آخر، وهو أنّ الأمر إذا لم يتعلّق بذات المأمور به بل بها مقيّدة بداعي الأمر امتنع الإتيان بها لأمرها لعدم الأمر بها، فيكون التّكليف بها لأمرها تكليفاً بغير المقدور»(1)، انتهى.

ويتّضح هذا بما لو قال زيد لعبده: (جئني بالماء بداعي أمر عمرو) فإنّ العبد يمتنع في حقّه الإتيان بالماء بهذا الدّاعي إذا لم يكن عمرو أمره.

{و} قد حاول بعض الجواب عن الإشكالين: أمّا عن الأوّل - أي: لزوم الدّور - فب {توهّم إمكان تعلّق الأمر بفعل الصّلاة بداعي الأمر} لما سيأتي.

{و} أمّا عن الثّاني - أي: لزوم التّكليف بغير المقدور - فبتوهّم {إمكان الإتيان بها} أي: بالعبادة {بهذا الدّاعي} أي: داعي امتثال الأمر.

واحتجّ للأوّل بأنّ المولى كما يتصوّر موضوع حكمه بسائر أجزائه وشرائطه كذلك يتصوّر هذا الشّرط {ضرورة إمكان تصوّر الأمربها} أي: بالعبادة {مقيّدة} بشرط قصد الامتثال. مثلاً: يتصوّر الصّلاة مع الطّهارة والسّتر والقبلة بشرط قصد الامتثال ثمّ يأمر بها، وهذا لا محذور فيه، إذ التّصوّر خفيف المؤونة.

{و} احتجّ للثّاني بأنّا نمنع كون التّقييد بقصد الامتثال يوجب عدم قدرة العبد، إذ له {التّمكّن من إتيانها كذلك} مقيّدة {بعد تعلّق الأمر بها، و} ذلك لأنّ {المعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً في صحّة الأمر إنّما هو} القدرة {في حال الامتثال} والمفروض أنّ العبد قادر، و{لا} يعتبر القدرة {حال الأمر} فإنّه يصحّ أن

ص: 420


1- حقائق الأصول 1: 167.

واضِحُ الفساد؛ ضرورةَ أنّه وإن كان تصوّرها كذلك بمكانٍ من الإمكان، إلّا أنّه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها؛ لعدم الأمر بها، فإنّ الأمر حسب الفرض تَعَلَّقَ بها مقيّدةً بداعي الأمر، ولا يكاد يدعو الأمر إلّا إلى ما تعلّق به، لا إلى غيره.

___________________

يأمر المولى فاقد الماء قبل الزّوال بالتوضّي بعد الزوال إذا كان واجداً للماء.

والحاصل: أنّ بعد أمر المولى بالصلاة المقيّدة تكون الصّلاة مأموراً بها، فيتمكّن العبد من الإتيان بالصلاة المأمور بها، وإن كان حال الأمر لم تكن الصّلاة مأموراً بها.

ولكن كلا التّوهّمين {واضح الفساد، ضرورة أنّه وإن كان تصوّرها كذلك} مقيّدة بمفهوم امتثال أمرها بالنسبة إلى المولى وإتيانها بعد تصوّر هذا المفهوم بالنسبة إلى العبد {بمكانٍ من الإمكان} فيتصوّر المولى الصّلاة المقيّدة، ثمّ يقول: (ائت بها) ثمّ يتصوّرالعبد (إنّي آتي بالصّلاة المقيّدة) ثمّ يأتي بها {إلّا} أنّ التّصوّر غير مفيد في دفع ما ذكرنا من الإشكالين:

أمّا إشكال الدّور؛ فلأنّ الداعي الّذي هو قيد للإيجاد والامتثال المترتّب على الحكم لا يكاد يمكن دخله في المأمور به، إذ لا معنى لتعقّل المولى الصّلاة المقيّدة امتثالها بداعي أمره ثمّ يأمر بها، فتأمّل.

والمصنّف(رحمة الله) أضرب عن دفع الإشكال الأوّل للمتوهّم واشتغل بدفع الثّاني - أعني: توهّم قدرة العبد - ، وحاصله {أنّه لا يكاد يمكن الإتيان بها} أي: بذات العبادة {بداعي أمرها لعدم الأمر بها} أي: بذات العبادة مجرّدة {فإنّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيّدة بداعي الأمر، و} ذلك لأنّ المفروض أنّ المولى أوجب الصّلاة بداعي الأمر لا الصّلاة المجرّدة، فالأمر تعلّق بشيئين ذات الصّلاة مع الدّاعي، فالأمر يدعو إليهما معاً لا إلى أحدهما مجرّداً، إذ {لا يكاد يدعو الأمر إلّا إلى ما تعلّق به} وهو المركّب أو المقيّد و{لا} يدعو {إلى غيره} وهو ذات العبادة

ص: 421

إن قلت: نعم، ولكن نفس الصّلاة أيضاً صارت مأموراً بها بالأمر بها مقيّدةً.

قلت: كلّا؛ لأنّ ذات المقيّد لا تكون مأموراً بها؛ فإنّ الجزء التّحليليّ العقليّ لا يتّصف بالوجوب أصلاً، فإنّه ليس إلّا وجودٌ واحدٌ واجبٌ بالوجوب النّفسيّ، كما ربّما يأتي في باب المقدّمة.

___________________

بدون الدّاعي، وبما ذكر تبيّن عدم قدرة العبد إلى الأبد.

والحاصل: أنّ العبد إمّا أن يأتي بالصلاة مع أجزائها وشروطها الّتي منها داعيالأمر، وإمّا أن يأتي بالصلاة فقط بداعي الأمر، والأوّل غير ممكن، لأنّ داعي الأمر إنّما كان متعلّقاً بذات الصّلاة لا بالصلاة مع الدّاعي، اللّهمّ إلّا أن يكون هناك أمران كما سيأتي، والثّاني غير مقدور؛ لأنّ الصّلاة فقط لم تكن واجبة حتّى يأتي بها بداعي أمرها.

{إن قلت: نعم} الصّلاة فقط لم تكن واجبة {ولكن} يمكن الإتيان بها بداعي أمرها؛ لأنّ {نفس الصّلاة} حيث كانت جزءاً من المأمور به تعلّق الأمر بها {أيضاً} كما تعلّق بالكلّ، وبهذا {صارت مأموراً بها} لكن لا بالأمر الاستقلالي، بل {بالأمر بها مقيّدة} فإنّ جزء المأمور به مأمور به.

{قلت: كلّا} ليس جزء المأمور به مأموراً به {لأنّ ذات المقيّد لا تكون مأموراً بها} مستقلّاً حتّى يكون الآتي بها آتياً بجزء المأمور به، ألا ترى لو أمر المولى بعتق رقبة مؤمنة فأعتق الرّقبة المجرّدة لم يكن آتياً بشيء من المأمور به أصلاً {فإنّ الجزء التّحليلي العقلي} كذات المقيّد {لا يتّصف بالوجوب أصلاً} نعم، توهّم بعض اتصافه بالوجوب المقدّمي حيث كان في ضمن الكلّ {فإنّه} أي: المأمور به {ليس إلّا وجود واحد واجب بالوجوب النّفسي} الواحد {كما ربّما يأتي في باب المقدّمة} توضيحه إن شاء اللّه - تعالى - .

ص: 422

إن قلت: نعم، لكنّه إذا أُخِذ قصد الامتثال شرطاً، وأمّا إذا أُخِذ شطراً فلا محالة نفس الفعل الّذي تعلّق الوجوبُ به مع هذا القصد يكون متعلّقاً للوجوب؛ إذ المركّب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر، ويكون تَعَلُّقُهُ بكلٍّ بعين تعلّقه بالكلّ، ويصحّ أنيؤتى به بداعي ذاك الوجوب. ضرورة صحّة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.

___________________

{إن قلت: نعم} إنّ ذات المقيّد لا تتصف بالوجوب بدون القيد، فالصلاة لا تكون مأموراً بها {لكنّه} إنّما تكون غير مأمور بها {إذا أخذ قصد الامتثال شرطاً} حتّى يكون من باب المقيّد والقيد {وأمّا إذا أخذ} قصد الامتثال {شطراً} وجزءاً {فلا محالة} تكون ذات العبادة جزءاً، ويكون من باب الكلّ والجزء لا المقيّد والقيد، ف {نفس الفعل الّذي تعلّق الوجوب به مع هذا القصد} أي: قصد الامتثال {يكون متعلّقاً للوجوب} بحيث يرد عليهما وجوب منبسط {إذ المركّب} المتعلّق للوجوب {ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر} وبالتمام {ويكون تعلّقه} أي: الوجوب حين التّركيب {بكلٍّ} من جزئيه {بعين تعلّقه بالكلّ} من حيث هو كلّ، والحاصل: أنّ المأمور به لو كان مركّباً ينحلّ الأمر بالكلّ إلى أوامر ضمنيّة يتعلّق كلّ واحد منها بواحد من الأجزاء.

{و} على هذا {يصحّ أن يؤتى به} أي: بالفعل نفسه {بداعي ذاك الوجوب} الّذي تعلّق بهذا الجزء {ضرورة صحّة الإتيان بأجزاء الواجب} بنحو أن يأتي بكلّ جزء {بداعي وجوبه} ومن هذا يمكن تشكيل القياس هكذا: ذات الفعل جزء من الواجب، وكلّ جزء من أجزاء الواجب يجوز إتيانه بداعي وجوب نفسه، فينتج: أنّ ذات الفعل يجوز إتيانها بداعي وجوب نفسها.

ولا يخفى أنّ الصّغرى متوقّفة على إثبات كون ذات الفعل جزءاً لا قيداً، والكبرى متوقّفة على تماميّة كليّتها، بأن يثبت أنّ كلّ جزء سواء كان مستقلّاً أو في ضمنالواجب يجوز إتيانه بقصد وجوب نفسه. وحيث إنّ المصنّف(رحمة الله) سلّم الصّغرى

ص: 423

قلت: مع امتناع اعتباره كذلك؛ فإنّه يوجب تعلّق الوجوب بأمرٍ غير اختياريٍّ؛ فإنّ الفعل وإن كان بالإرادة اختياريّاً إلّا أنّ إرادته - حيث لا تكون بإرادة أُخرى، وإلّا لتسلسلت - ليست باختياريّة، - كما لا يخفى - إنّما يصحّ

___________________

أبطل كليّة الكبرى، كما ستعرف.

{قلت}: لا يمكن أن يكون الوجوب تعلّق بذات الواجب {مع} قصد الامتثال معاً على نحو التّركيب؛ لأنّ قصد الامتثال عبارة عن إرادة الفعل النّاشئ عن الأمر، فمعنى تعلّق الوجوب بقصد الامتثال تعلّقه بالإرادة، و{امتناع اعتباره} أي: قصد الامتثال، أي: الإرادة {كذلك} أي: جزءاً ومتعلّقاً للوجوب واضح {فإنّه} أي: كون الإرادة جزءاً {يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري} للمكلّف {فإنّ الفعل} وهو ذات الواجب {وإن كان بالإرادة} أي: بسبب إرادته {اختياريّاً} ولهذا يحسن الأمر بالفعل {إلّا أنّ إرادته} الّتي هي الجزء الآخر للمركّب الواجب حسب الفرض {حيث لا تكون بإرادة أُخرى - وإلّا} فإن كانت بإرادة أُخرى {لتسلسلت - ليست باختياريّة} وعلى هذا فلا يمكن تعلّق الأمر بها، فلا يكون الواجب مركّباً.

وبعبارة أوضح: إنّ الأمر إنّما يتعلّق بما هو اختياري للمكلّف وقصد الامتثال غير اختياريٍّ للمكلّف، فلا يتعلّق به الأمر، أمّا الصّغرى فواضح وأمّا الكبرى؛ فلأنّ القصد عبارة عن الإرادة غير اختياريّة. ويدلّ على كون الإرادة غير اختياريّةأنّ كلّ أمر اختياري مسبوق بإرادة والمسبوق بإرادة اختياريّة يلزم كونها مسبوقاً بإرادة أُخرى وحيث إنّ الإرادة المتقدّمة أيضاً اختياريّة لزم سبقها بإرادة ثالثة إلى غير النّهاية، وذلك مستلزم للتسلسل(1){كما لا يخفى} فتأمّل {إنّما يصحّ} متعلّق

ص: 424


1- في هذا الكلام نظر؛ لأنّ كون الإرادة اختياريّة لا يلازم سبقها بإرادة أُخرى، فإنّ اختياريّة كلّ شيء بالإرادة، واختياريّة الإرادة بنفسها، كما أنّ ضوء كلّ شيء بالنور، وضوء النّور بنفسه، فتأمّل. مع أنّه كما إذا تعلّق التّكليف بالفعل أراده العبد كذلك إذا تعلّق بالإرادة أرادها الشّخص، ولا يلازم التّسلسل أصلاً، بل ينقطع بانقطاع الاعتبار، فتدبّر.

الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الدّاعي، ولا يكاد يمكن الإتيانُ بالمركّب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره.

___________________

بقوله: «مع امتناع» وهذا جواب آخر عن الإشكال، وحاصله منع الكبرى المتقدّمة، بيانه: أنّ ما ذكرتم من جواز الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه لا يصحّ على إطلاقه، بل إنّما يصحّ {الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه} أي: تمام الواجب {بهذا الدّاعي} كأن يأتي بغسل الوجه بداعي وجوبه في ضمن الإتيان بتمام الوضوء بداعي وجوبه، وأمّا إذا لم يمكن الإتيان بجميع أجزاء الواجب بداعي الوجوب أو أمكن ولم يرد المكلّف إلّا الإتيان بالبعض، فلا يصحّ الإتيان بجزء الواجب بداعي الوجوب {و} ما نحن فيه من قبيل الأوّل، إذ {لا يكاد يمكن الإتيان بالمركّب} الّذي تركّب {من قصد الامتثال} ومن ذات الفعل {بداعي امتثال أمره} أي: أمر ذلك المركّب، وإذا لم يمكن الإتيان بالمركّب لم يمكن الإتيان بجزئه الّذيهو أصل الفعل في ضمن الكلّ بداعي وجوبه.

والحاصل: أنّ الإتيان بالصلاة بداعي الأمر لا يمكن؛ لأنّه إمّا أن يؤتى بها مجرّدة عن الجزء الآخر، فيكون كإتيان غسل الوجه فقط بداعي الوجوب وهو باطل قطعاً، وإمّا أن يؤتى بها مع جزئها الآخر بهذا الدّاعي - بأن يقول: (إفعل الصّلاة بداعي الأمر) - بحيث يتعلّق الدّاعي بأصل الصّلاة وداعيها، وهذا أيضاً باطل؛ لأنّ الدّاعي لا يتعلّق بالداعي وإلّا تسلسل.

إن قلت: إذا لم يمكن تعلّق الأمر بأحد الجزأين لا محذور في تعلّقه بالجزء الآخر - أعني: ذات الفعل - .

قلت: الأمر بالكلّ لا يصير داعياً إلى البعض عند عدم كونه داعياً إلى البعض الآخر ولا يصحّ التّفكيك بين الجزأين بأن يكون الفعل تعبّديّاً والجزء الآخر توصّليّاً.

ص: 425

إن قلت: نعم، لكن هذا كلّه إذا كان اعتباره في المأمور به بأمرٍ واحدٍ، وأمّا إذا كان بأمرين - تعلّق أحدهما بذات الفعل، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره - فلا محذور أصلاً، كما لا يخفى، فللآمر أن يتوسّل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده بلا منعة.

قلتُ: - مضافاً إلى القطع بأنّه ليس في العبادات إلّا أمر واحد، كغيرها من الواجبات والمستحبّات، غاية الأمر يدور مدار الامتثال وجوداً وعدماً فيها المثوبات والعقوبات، بخلاف ما عداها،

___________________

{إن قلت(1): نعم} لا يمكن أخذ التّقرّب في المأمور به شرعاً بماقدّمتم من البيان {لكن هذا كلّه إذا كان اعتباره} أي: التّقرّب {في المأمور به بأمر واحد، وأمّا إذا كان} اعتبار القربة {بأمرين: تعلّق أحدهما بذات الفعل} فتحقّق به أصل وجوبه {و} تعلّق {ثانيهما بإتيانه} أي: الفعل {بداعي أمره} الأوّل، فيتحقّق به وجوب إتيانه بقصد القربة {فلا محذور أصلاً} في جعل التّقرّب بمعنى قصد امتثال الأمر معتبراً في المأمور به شرعاً {كما لا يخفى} فيأمر أوّلاً بإتيانها بداعي أمرها الأوّل {فللآمر أن يتوسّل بذلك} أي: بتعدّد الأمر {في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده} الّذي لا يحصل بأصل إتيان الفعل مجرّداً عن قصد القربة، وبهذا يحصل مقصده {بلا منعة} وتبعة.

{قلت: مضافاً إلى القطع بأنّه ليس في العبادات} واجبها ومستحبّها {إلّا أمر واحد كغيرها من الواجبات والمستحبّات} التّوصليّة {غاية الأمر} في الفرق بين التّوصّلي والتّعبّدي أنّه {يدور مدار الامتثال وجوداً وعدماً فيها} أي: في التّعبديّات {المثوبات والعقوبات} فاعل «يدور» فإذا أتى بالفعل بقصد الامتثال كان مثاباً وإذا لم يأت بالفعل بقصد الامتثال كان معاقباً، سواء لم يأت بأصل الفعل أو لم يأت بقصد الامتثال مع إتيانه بأصل الفعل {بخلاف ما عداها} أي: ما عدا العبادات

ص: 426


1- هذا راجع إلى أصل المطلب لا إلى ما تقدّمه من الجواب، كما لا يخفى.

فيدور فيه خصوص المثوبات، وأمّا العقوبة فمترتّبة على ترك الطّاعة ومطلق الموافقة - إنّ الأمر الأوّل:

إن كان يسقط بمجرّد موافقته ولو لميقصد به الامتثال - كما هو قضيّة الأمر الثّاني - فلا يبقى مجال لموافقة الثّاني، مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله، فلا يتوسّل الآمِرُ إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة، وإن لم يكد يسقط

___________________

من التّوصليّات {فيدور فيه} أي: في ما عداها {خصوص المثوبات} فلو أُمِر بكفن الميّت فكفّنه بقصد الامتثال كان مثاباً ولو لم يقصد الامتثال لم يكن مثاباً، مع أنّه في كلا الحالين أتى بالواجب وأمن من تبعة العقاب {وأمّا العقوبة} في الواجب التّوصّلي {فمترتّبة على ترك الطّاعة} بأن لم يكفّن الميّت أصلاً {و} ترك {مطلق الموافقة} فهذا هو الفرق بين التّوصّلي والتّعبّدي، لا أنّ التّعبّدي فيه أمران وفي التّوصّلي أمر واحد.

ولا يخفى أنّ ما ذكره من الفرق في مسئلة العقاب مختصّ بالواجب لا المستحب {إنّ الأمر الأوّل} مفعول «قلت» والمراد بالأمر الأوّل هو المتعلّق بذات العبادة {إن كان يسقط بمجرّد موافقته} بأن أتى بذات الصّلاة {ولو لم يقصد به الامتثال} كسائر التّوصليّات {كما هو قضيّة الأمر الثّاني} أي: مقتضى الأمر الثّاني سقوطه إذا أتى به بقصد الامتثال لا بمجرّد موافقته، وعلى هذا {فلا يبقى مجال لموافقة} الأمر {الثّاني مع موافقة} الأمر {الأوّل بدون قصد امتثاله} أي: بدون قصد امتثال الأمر الأوّل، ووجه عدم بقاء مجال الموافقة عدم بقاء الموضوع بعد إتيانه {فلا يتوسّل} المولى {الآمر إلى غرضه} الّذي هو الإتيان بالفعل بداعي القربة {بهذه الحيلة والوسيلة} أعني: تعدّد الأمر.والحاصل: أنّه إذا أتى العبد بمتعلّق الأمر الأوّل بدون قصد القربة، فإن سقط غرض المولى فلا مجال للأمر الثّاني وكان لغواً {وإن لم يكد يسقط} الأمر الأوّل

ص: 427

بذلك، فلا يكاد يكون له وجهٌ إلّا عدمُ حصول غرضه بذلك من أمره، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله،

وإلّا لما كان موجباً لحدوثه، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدّد الأمر؛ لاستقلال العقل - مع عدم حصول غرض الآمر بمجرّد موافقة الأمر - بوجوب الموافقة على نحوٍ يحصل به غرضه، فيسقط أمره.

___________________

{بذلك} أي: بمجرّد موافقته {فلا يكاد يكون له} أي: لعدم السّقوط {وجه إلّا عدم حصول غرضه} الباعث للأمر {بذلك} أي: بمجرّد الموافقة {من أمره} ثمّ علّل عدم سقوط الأمر في صورة عدم حصول الغرض بقوله: {لاستحالة سقوطه} أي: الأمر الأوّل {مع عدم حصوله} أي: عدم حصول الغرض من مجرّد موافقته {وإلّا} فلو سقط الأمر مع عدم حصول الغرض {لما كان} الغرض {موجباً لحدوثه} أي: حدوث الأمر، إذ الأمر إنّما ينشأ من المصلحة الملزمة فلو كانت باقية لا يعقل عدم الأمر، فعدم الأمر مع بقاء المصلحة كاشف عن ضعف المصلحة وأنّها ليست بحيث يوجب الأمر.

{وعليه} أي: على التّقدير الثّاني - وهو عدم سقوط الأمر الأوّل بمجرّد موافقته لعدم حصول غرضه - {فلا حاجة} للمولى {في الوصول إلى غرضه} الّذي هو الإتيان بداعي القربة {إلى وسيلة تعدّد الأمر} وإنّما لا يحتاج إلى تعدّد الأمر {لاستقلال العقلمع عدم حصول غرض} المولى {الآمر بمجرّد موافقة الأمر} الأوّل {بوجوب} متعلّق بالاستقلال، أي: إنّ العقل يستقلّ حينئذٍ بوجوب {الموافقة} والإتيان بالواجب {على نحو يحصل به} أي: بذلك الإتيان - المفهوم من الموافقة - {غرضه} وإذا أتى العبد بهذا النّحو للفعل {فيسقط أمره} لحصول غرضه ولا يبقى مجال للأمر الثّاني.

قال السّيّد الحكيم معلِّقاً على قوله: «وإن لم يكد» ما لفظه: «يعني إذا كان الأمر

ص: 428

هذا كلّه إذا كان التّقرّب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال.

وأمّا إذا كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه، أو كونه ذا مصلحةٍ، أو له - تعالى - فاعتباره في متعلّق الأمر وإن كان بمكانٍ من الإمكان، إلّا أنّه غير معتبر فيه قطعاً، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال،

___________________

لا يسقط بمجرّد موافقته، فلا بدّ أن يكون بقاؤه لأجل عدم حصول الغرض، وحينئذٍ لا حاجة إلى الأمر الثّاني، لكفاية حكم العقل بوجوب تحصيل الغرض ولو بالإتيان بالمأمور به بداعي أمره.

أقول: هذا يتمّ مع العلم بعدم حصول الغرض، وكذا مع الشّكّ لو قيل بحكم العقل بالاحتياط، أمّا لو قيل بحكمه بالبرائة في المقام - كما سيأتي - فلا مانع من الأمر الثّاني مولويّاً ليكون رافعاً لحكم العقل، كما في سائر موارده»(1)، انتهى.

{هذا} الكلام {كلّه} من أوّل قوله: «ثانيتها» إلى هنا كان في بيان عدمإمكان أخذ التّقرّب في العبادة شرعاً في ما {إذا كان التّقرّب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال} - كما سبق - .

{وأمّا إذا كان} التّقرّب المعتبر في العبادة {بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه} كأن يقول: (أصوم) لكونه حسناً {أو كونه ذا مصلحة أو له - تعالى -} كما تقدّم في أوّل البحث من تفسير القربة بها {فاعتباره} أي: التّقرّب بهذا المعنى {في متعلّق الأمر} وموضوعه {وإن كان بمكانٍ من الإمكان} لعدم لزوم الإشكالين المتقدّمين - أعني: الدّور وعدم قدرة المكلّف - {إلّا أنّه غير معتبر فيه قطعاً} لأنّ كلّ واحد من الأُمور المذكورة إمّا يعتبر تعييناً أو يعتبر تخييراً بينه وبين قصد الامتثال، والأوّل باطل قطعاً {لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال} في مقام العمل بلا خلاف، والثّاني باطل أيضا؛ لأنّ قصد الامتثال كما لا يمكن أخذه تعييناً لا يمكن

ص: 429


1- حقائق الأصول 1: 172.

الّذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه بديهة.

تأمّل في ما ذكرنا في المقام، تعرف حقيقة المرام، كيلا تقع في ما وقع فيه من الاشتباه بعضُ الأعلام.

ثالثتها: أنّه إذا عرفت - بما لا مزيد عليه - عدمَ إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلاً، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه - ولو كان مسوقاً في مقام البيان - على عدم اعتباره، كما هو أوضح من أن يخفى، فلا يكاد يصحّ التّمسّك به إلّا في ما يمكن اعتباره فيه.

___________________

أخذه تخييراً، فأخذه بأيّ وجه كان موجب لعود المحذور {الّذي عرفت}من الدّور وعدم قدرة المكلّف الموجبين ل {عدم إمكان أخذه فيه} أي: في متعلّق التّكليف {بديهة} كما تقدّم {تأمّل في ما ذكرناه في المقام تعرف حقيقة المرام} وكيفيّة النّقض والإبرام {كيلا تقع في ما وقع فيه من الاشتباه} بيان «ما» {بعضُ الأعلام}.

هذا كلّه في بيان إمكان أخذ التّقرّب في متعلّق التّكليف شرعاً وعدمه، وحيث ثبت عدم إمكانه في مقام الثّبوت، لا مجال للبحث عنه في مقام الإثبات، إذ مقام الإثبات فرع الثّبوت، كما هو بديهيّ. هذا تمام الكلام في المقدّمة الثّانية.

{ثالثتها} في عدم جواز التّمسّك بإطلاق الصّيغة لإثبات التّوصليّة {أنّه إذا عرفت بما لا مزيد عليه عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلاً} وكذا سائر القصود الّتي فسّرنا التّقرّب بها {فلا مجال للاستدلال بإطلاقه} أي: إطلاق المأمور به {ولو كان مسوقاً في مقام البيان} وتمّت مقدّمات الحكمة {على عدم اعتباره} متعلّق باستدلال {كما هو أوضح من أن يخفى}.

وسرّه أنّ الإطلاق والتّقييد من باب العدم والملكة، وهما - كما قرّر في موضعه - يحتاجان إلى الموضوع القابل، ومتعلّق التّكليف حيث لم يكن قابلاً للإطلاق {فلا يكاد يصحّ التّمسّك به} أي: بإطلاق دليل المأمور به {إلّا في ما} أي: جزء أو شرط {يمكن اعتباره فيه} أي: في المأمور به.

ص: 430

فانقدح بذلك: أنّه لا وجه لاستظهار التّوصّليّة من إطلاق الصّيغة بمادّتها، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه - ممّا هوناشٍ من قِبَل الأمر - من إطلاق المادّة في العبادة

___________________

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من عدم جواز التّمسّك بالإطلاق {أنّه لا وجه لاستظهار التّوصليّة من إطلاق الصّيغة بمادّتها} وإنّما قال: «بمادّتها» لأنّ المادّة هي متعلّق التّكليف.

بيانه: أنّ التّكليف قد يستفاد من الجملة الخبريّة نحو (يجب عليك الصّلاة) ونحوها، وقد عرفت أنّ المكلّف به هي (الصّلاة) الّتي قد يطلق عليها الموضوع، وقد يطلق عليها متعلّق التّكليف(1).

وقد يستفاد التّكليف من صيغة الأمر ونحوها كقوله: (صلِّ)، فالوجوب أو الحرمة المستفادان من الهيئة حكم، والمادّة الّتي تعلّق بها الهيئة وطولبت من العبد، كالصلاة في المثال موضوع ومتعلّق للتكليف.

ثمّ إنّ الإطلاق والتّقييد قد يكونان بالنسبة إلى الهيئة فإنّ (صلّ) مطلق و(حجّ إن استطعت) مقيّد، إذ الوجوب في الأوّل لم يقيّد بالاستطاعة وفي الثّاني قيّد بها.

وقد يكونان بالنسبة إلى المادّة، فنحو (صلّ الظّهر مع الطّهارة) مقيّد، و(صلّ للميّت) مطلق، إذ المادّة - أعني: الصّلاة في الأوّل - مقيّدة بالطهارة، فالصلاة مع الطّهارة واجبة، وفي الثّاني مطلق من حيث الطّهارة.

{و} كما لا وجه لاستظهار التّوصليّة من إطلاق المادّة كذا {لا} وجه {لاستظهار عدم اعتبار مثل} قصد {الوجه} أعني:قصد الوجوب والنّدب وغيره {ممّا هو ناشٍ من قِبَل الأمر} أي: بعده رتبة {من إطلاق المادّة في العبادة} المعلوم

ص: 431


1- لا يذهب عليك أنّه قد يفرّق بين الموضوع والمتعلّق بأنّ الموضوع هو الذي أخذ مفروض الوجود في متعلّق الحكم كالعاقل البالغ، والمتعلّق هو ما يطالب العبد به من الفعل أو الترك كالصلاة والزنا.

لو شكّ في اعتباره فيها.

نعم،

___________________

كونها عبادة من الخارج {لو شكّ في اعتباره} أي: اعتبار مثل الوجه {فيها} أي: في العبادات.

والحاصل: أنّ كُلَّ ما كان مترتّباً على الأمر ومنتزعاً منه لا يعقل أن يؤخذ إثباتاً أو نفياً في الموضوع، للزوم الدّور المتقدّم. مثلاً: قصد الوجوب لو اعتبر في موضوع الحكم لزم الدّور؛ لأنّ هذا القصد متوقّف على الحكم؛ لأنّه ناشٍ منه، والحكم متوقّف عليه؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه.

{نعم} يمكن التّمسّك لعدم اعتبار قصد الوجه والامتثال في المأمور به بوجهٍ آخر قرّره العلّامة الكاظمي(قدس سره) بما لفظه:

«نعم، لو كان للأمر إطلاق أمكن تعيين المأمور به من نفس الإطلاق حسب ما يقتضيه مقدّمات الحكمة، والمفروض أنّه ليس للأمر إطلاق بالنسبة إلى قصد الامتثال، لامتناع التّقييد به الملازم لامتناع الإطلاق - كما تقدّم - فالأمر من هذه الجهة يكون مهملاً لا إطلاق فيه ولا تقييد، كما كان بالنسبة إلى العلم والجهل مهملاً لا إطلاق فيه ولا تقييد. هذا بحسب عالم الجعل والتّشريع، وأمّا بحسب الثّبوت والواقع، فلا بدّ إمّا من نتيجة الإطلاق، وإمّا من نتيجة التّقييد، والسّرّ في ذلك هو أنّه في الواقع وفي عالم الثّبوت إمّا أن يكون ملاك الحكم والجعل محفوظاً في كلتا حالتي العلم والجهل وكلتا حالتي قصد الامتثال وعدمه، وإمّا أن يكون مختصّاً في أحد الحالين، فالأوّل يكون نتيجة الإطلاق، والثّاني يكون نتيجة التّقييد. وليس مرادنا من الإهمال هو الإهمال بحسب الملاك، فإنّ ذلكغير معقول، بل المراد الإهمال في مقام الجعل والتّشريع حيث لا يمكن فيه الإطلاق والتّقييد - كماتقدّم - .

ص: 432

___________________

إذا عرفت ذلك كلّه، فيقع الكلام في كيفيّة اعتبار قصد الامتثال على وجه نتيجة التّقييد من دون أن يستلزم فيه محذوراً، وكيفيّة استكشاف نتيجة الإطلاق وعدم اختيار قصد الامتثال، فنقول: أمّا طريق استكشاف نتيجة الإطلاق فليس هو على حذو طريق استكشاف الإطلاق في سائر المقامات بالنسبة إلى الانقسامات السّابقة على الحكم، فإنّ استكشاف الإطلاق في تلك المقامات إنّما هو لمكان السّكوت في مقام البيان بعد ورود الحكم على المقسم، كقوله: (أعتق رقبة) الّتي تكون مقسماً للإيمان وغيره، فحيث ورد الحكم على نفس المقسم وسكت عن بيان خصوص أحد القسمين - مع أنّه كان في مقام البيان - فلا بدّ أن يكون مراده نفس المقسم من دون اعتبار خصوص أحد القسمين، وهو معنى الإطلاق.

ولكن هذا البيان في المقام لا يجري، إذ الحكم لم يرد على المقسم؛ لأنّ انقسام الصّلاة إلى ما يقصد بها امتثال الأمر وما لا يقصد بها ذلك إنّما يكون بعد الأمر بها، فليست الصّلاة مع قطع النّظر عن الأمر مقسماً لهذين القسمين حتّى يكون السّكوت وعدم التّعرّض لأحد القسمين دليلاً على الإطلاق.

نعم، سكوته عن اعتبار قصد الامتثال في مرتبة تحقّق الانقسام يستكشف منه نتيجة الإطلاق.

وبعبارة أُخرى: عدم ذكر متمّم الجعل - على ما سيأتي بيانه - في المرتبة القابلة لجعل المتمّم يكون دليلاً على نتيجة الإطلاق، والفرق بين استكشاف نتيجة الإطلاق في المقام واستكشاف الإطلاق في سائر المقامات هو أنّ من عدم ذكر القيد في سائر المقامات يستكشف أنّ مراده من الأمر هو الإطلاق، وهذابخلاف المقام، فإنّ من عدم ذكر متمّم الجعل لا يستكشف أنّ مراده من الأمر هو الإطلاق، لما عرفت من أنّه لا يمكن أن يكون مراده من الأمر الإطلاق، بل من

ص: 433

___________________

عدم ذكر متمّم الجعل يستكشف أنّه ليس له مراد آخر سوى ما تعلّق به الأمر.

وبعبارة أُخرى: من عدم ذكر متمّم الجعل في مرتبة وصول النّوبة إليه يستكشف أنّ الملاك لا يختصّ بصورة قصد الامتثال، بل يعمّ الحالين، فيحصل نتيجة الإطلاق»(1).

إلى أن قال: «وحينئذٍ يبقى الكلام في كيفيّة تعلّق الجعل والأمر المولوي باعتبار قصد الامتثال على وجه يسلم عن كلّ محذور.

والتّحقيق في المقام: أنّه ينحصر كيفيّة الاعتبار بمتمّم الجعل ولا علاج له سوى ذلك، فلا بدّ للمولى الّذي لا يحصل غرضه إلّا بقصد الامتثال من تعدّد الأمر، بعد ما لا يمكن أن يستوفي غرضه بأمر واحد، فيحتال في الوصول إلى غرضه، وليس هذان الأمران عن ملاك يخصّ بكلّ واحد منهما حتّى يكون من قبيل الواجب في واجب، بل هناك ملاك واحد لا يمكن أن يستوفي بأمر واحد.

ومن هنا اصطلحنا عليه بمتمّم الجعل، فإنّ معناه هو تتميم الجعل الأُولى الّذي لم يستوف تمام غرض المولى فليس للأمرين إلّا امتثال واحد وعقاب واحد...»(2).

إلى أن قال: «ثمّ إنّ متمّم الجعل تارة ينتج نتيجة الإطلاق وأُخرى ينتج نتيجةالتّقييد، فالأوّل كمسألة اشتراك الأحكام بالنسبة إلى العالم والجاهل، حيث حكي تواتر الأخبار على الاشتراك، والثّاني، كمسألة قصد الامتثال في موارد اعتباره»(3)،

انتهى كلامه رفع مقامه. وإنّما نقلناه بطوله لكثرة فوائده.

ص: 434


1- فوائد الأصول 1: 158 - 160.
2- فوائد الأصول 1: 161 - 162.
3- فوائد الأصول 1: 162.

إذا كان الآمِرُ في مقامٍ بصدد بيان تمام ما له دَخْلٌ في حصول غرضه، وإن لم يكن له دَخْلٌ في متعلّق أمره، ومعه سكت في المقام، ولم ينصب دلالةً على دَخْلِ قصد الامتثال في حصوله، كان هذا قرينةً على عدم دخله في غرضه، وإلّا لكان سكوته نقضاً له وخلافَ الحكمة.

فلا بدّ عند الشّكّ وعدم إحراز هذا المقام من الرّجوع إلى ما يقتضيه الأصل، ويستقلّ به العقل.

فاعلم: أنّه لا مجال هاهنا إلّا لأصالة الاشتغال

___________________

فإذا عرفت ذلك، فلنرجع إلى شرح المتن، فنقول: {إذا كان الآمر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه} من الأمر {وإن لم يكن له} أي: لما له دخل في الغرض {دخل في متعلّق أمره} كقصد الامتثال في المثال، فإنّه دخيل في الغرض لا في المتعلّق {ومعه} أي: مع كونه في مقام البيان {سكت في المقام ولم ينصب دلالة على دخل قصد} الوجه و{الامتثال في حصوله} أي: حصول الغرض {كان هذا} السّكوت وعدم نصب الدّلالة {قرينة على عدم دخله في غرضه} من الأمر {وإلّا} فلو كان لذلك القصد مدخلاً فيحصول غرض المولى {لكان سكوته} في مقام البيان {نقضاً له وخلاف الحكمة} ونقض الغرض قبيح.

هذا كلّه إذا أحرز أنّ المولى في مقام البيان وإلّا {فلا بدّ عند الشّكّ وعدم إحراز هذا المقام من الرّجوع إلى ما يقتضيه الأصل} العملي {ويستقلّ به العقل} فنشرع حينئذٍ في الموضوع الثّالث والرّابع اللّذين أشرنا إليهما في أوّل المبحث، - أعني: ما يقتضيه الأصل بالنسبة إلى الصّيغة وغيرها في ما إذا لم يكن المولى في مقام البيان أو شكّ كونه في مقام البيان أم لا - {فاعلم أنّه لا مجال هاهنا} في ما لم يعلم كون الأمر بصدد البيان {إلّا لأصالة الاشتغال} فيلزم أن يؤتى بما يحتمل دخله في حصول الغرض.

ص: 435

- ولو قيل بأصالة البراءة في ما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين - : وذلك لأنّ الشّكّ هاهنا في الخروج عن عهدة التّكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقابُ - مع الشّكّ وعدم إحراز الخروج - عقاباً بلا بيان، والمؤاخذة عليه بلا برهان؛

___________________

{ولو} كان الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر، و{قيل بأصالة البراءة في ما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين} فالكلام حينئذٍ يقع في وجه عدم كون هذه المسألة من صغريات مسئلة الأقلّ والأكثر، مع أنّه بحسب الظّاهر كذلك، إذ أجزاء العبادة غير قصد الوجه - مثلاً - متيقّن، وقصد الوجه مشكوك، فيلزم جريان البراءة عنه {و} بيان {ذلك} يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، وهي أنّ الشّكّ على قسمين:

الأوّل: الشّكّ في نفس التّكليف، كأن يتردّد أمر الصّلاة بين كونها مع السّورة أو بدونها.الثّاني: الشّكّ في الامتثال، كأن يعلم بوجوب الصّلاة وخصوصيّاتها ثمّ يشكّ في أنّه هل امتثلها أم لا.

والأوّل مجرى البراءة؛ لأنّ الشّكّ في الحقيقة راجع إلى الشّكّ في وجوب الجزء أو الشّرط المشكوك، كالسورة في المثال المتقدّم.

والثّاني مجرى الاحتياط؛ لأنّ التّكليف معلوم وإنّما الشّكّ في سقوطه، ومقامنا من القسم الثّاني {لأنّ الشّكّ هاهنا في الخروج عن عهدة التّكليف المعلوم مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها} وليس الشّكّ في أصل ثبوت التّكليف؛ لأنّه يعلم بأنّه مكلّف بالصلاة - مثلاً - ولا يدري أنّه لو صلّى بغير قصد الوجه خرج عن عهدة التّكليف أم لا؟! إذ الاشتغال اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة {فلا يكون العقاب مع الشّك} في حصول الامتثال {وعدم إحراز الخروج} عن عهدة التّكليف {عقاباً بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان} حتّى يكون مورداً لأدلّة البراءة

ص: 436

ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف تصحّ المؤاخذة على المخالفة، وعدم الخروج عن العهدة، لو اتّفق عدم الخروج عنها بمجرّد الموافقة بلا قصد القربة.

وهكذا الحال في كلّ ما شكّ دَخْلُهُ في الطّاعة والخروج به عن العُهْدَة، ممّا لا يمكن اعتباره في المأمور به، كالوجه والتّمييز.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ كلّما يحتمل بدواً دخله في امتثال أمرٍ، وكان ممّا يغفل عنه غالباً العامّةُ، كان على الآمر بيانه ونصب قرينةٍ على دَخْلِهِ واقعاً، وإلّا لأخلّ بما هو همّه وغرضه، أمّا إذا لم يَنْصِبْدلالةً على دخله كَشَفَ عن عدم دخله.

___________________

{ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف تصحّ المؤاخذة على المخالفة و} على {عدم الخروج عن العهدة لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرّد الموافقة} لأصل التّكليف {بلا قصد القربة} بأيّ معنىً فسّر.

{وهكذا الحال في كلّ ما} أي: كلّ شرط أو جزء {شكّ دخله في الطّاعة} ومقام الامتثال {والخروج به عن العهدة} فيجب الاحتياط فيه بإتيانه إذا كان {ممّا لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه والتّمييز} ممّا هو ناشٍ عن مقام الأمر، فلا يمكن أخذه في متعلّقه.

{نعم} لنا منع إطلاق لزوم الإتيان بالمشكوك ولو كان الشّكّ في مقام الامتثال، إذ {يمكن} التّفصيل في المقام ب {أن يقال: إنّ كلّما يحتمل بدواً دخله في امتثال أمر} بحيث لم يكن مقروناً بالعلم الإجمالي {وكان} ذلك المشكوك {ممّا يغفل عنه غالباً العامّةُ} فاعل «يغفل» {كان على} المولى {الآمر بيانه ونصب قرينة على دخله} في حصول الغرض {واقعاً} ومقام الثّبوت وإن كان لم يمكن بيانه في مقام التّشريع ومتعلّق التّكليف {وإلّا} فلو كان دخيلاً ولم يبيّن المولى في فرض غفلة العامّة {لأخلّ بما هو همّه وغرضه} والإخلال بالغرض قبيح، كما تقدّم {وأمّا إذا لم ينصب دلالة على دخله كشف} عدم النّصب {عن عدم دخله} في

ص: 437

وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتّمييز في الطّاعة بالعبادة، حيث ليسمنهما عينٌ ولا أثر في الأخبار والآثار، وكانا ممّا تغفل عنه العامّة، وإن احتمل اعتبارَه بعضُ الخاصّة(1)،

فتدبّر جيّداً.

ثمّ

___________________

الغرض واقعاً كشفاً إنيّاً، وهذا هو الإطلاق المقامي المشتهر في ألسنة الأصوليّين، وقد تقدّم توضيحه في كلام الكاظمي(رحمة الله).

{وبذلك} الّذي ذكرناه من كشف عدم البيان عن عدم الدّخل {يمكن القطع بعدم دخل} قصد {الوجه والتّمييز} ونحوهما {في الطّاعة بالعبادة} كما أنّه لا دخل لهما في الطّاعة بالتوصّلي. وفي بعض النّسخ: «في الإطاعه بالعبادة» وإنّما نقول بعدم دخلها {حيث ليس منهما عين ولا أثر في الأخبار والآثار} الواردة عن الأئمّة الأطهار {وكانا ممّا يغفل عنه العامّة} ضمير «عنه» راجع إلى «ما» وإن كان مصداقه المثنّى، إذ يجوز في ضمير «من» و«ما» مراعاة اللّفظ والمعنى - كما لا يخفى - {وإن احتمل اعتباره} الضّمير أيضاً راجع إلى «ما» {بعض الخاصّة} من المتكلّمين وغيرهم.

هذا كلّه في ما يغفل عنه العامّة وأمّا ما ليس تغفل عنه فلا مجال لإطلاق المقام، لاحتمال إحالة الشّارع ذلك بما هو مركوز في الأذهان {فتدبّر جيّداً} حتّى تعرف ما تغفل عنه عمّا لا تغفل عنه.

{ثمّ} لا يذهب عليك أنّ المصنّف(رحمة الله) اختار في باب الأقلّ والأكثر الاحتياط عقلاً والبراءة شرعاً، قال:

«الثّاني: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، والحقّ أنّ العلمبثبوت التّكليف بينهما أيضاً يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر»(2).

ص: 438


1- مفتاح الكرامة 2: 314؛ جواهر الكلام 9: 160163.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 368.

إنّه لا أظنّك أن تتوهّم وتقول: «إنّ أدلّة البراءة الشّرعيّة مقتضية لعدم الاعتبار، وإن كان قضيّة الاشتغال عقلاً هو الاعتبار» لوضوح أنّه لا بدّ في عمومها

___________________

ثمّ شرع في الاستدلال إلى أن قال: «وأمّا النّقل فالظّاهر أنّ عموم مثل حديث الرّفع قاضٍ برفع جزئيّة ما شكّ في جزئيّته» إلى أن قال: «إنّه ظهر ممّا مرّ حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه»(1)،

انتهى.

وحيث كان المقام محلّ توهّم جريان البراءة الشّرعيّة، كما اختاره هناك دفعه بقوله: {إنّه لا أظنّك أن تتوهّم وتقول إنّ أدلّة البراءة الشّرعيّة} ك «رفع ما لا يعلمون»(2)،

و«النّاس في سعة ما لا يعلمون»(3)، و«ما حجب اللّه عن العباد فهو موضوع عنهم»(4)، وغيرها {مقتضية لعدم الاعتبار} للمشكوك فلا يلزم الإتيان به {وإن كان قضيّة الاشتغال} أي: مقتضى قاعدة الاشتغال {عقلاً} كما تقدّم مِن أنّه شكّ في سقوط التّكليف {هو الاعتبار} للأمر المشكوك، فلا يجب الإتيان به لكفاية أدلّة البراءة في الإِعذار، وقاعدة الاشتغال العقلي غير منجّز حينئذٍ {لوضوح} تعليل لقوله: «لا أظنّك» وبيان وجه عدم جريان البراءة الشّرعيّة هو {أنّه لا بدّ في عمومها}أي: شمول البراءة الشّرعيّة للمقام من ثلاثة أُمور:

الأوّل: كون الشّيء مجهولاً.

الثّاني: كونه قابلاً للوضع والرّفع.

الثّالث: كون رفعه امتناناً وبانتفاء كلّ واحد من الأُمور المذكورة تنتفي البراءة الشّرعيّة، وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى الأمر الثّاني لكونه محلّ الكلام فقال: لا بدّ في

ص: 439


1- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 386.
2- الخصال 2: 417؛ التّوحيد: 353.
3- جامع أحاديث الشيعة 30: 546، وفيه: «إن الناس في سعة ما لم يعلموا».
4- الكافي 1: 164.

من شَيْءٍ قابلٍ للرّفع والوضع شرعاً، وليس هاهنا؛ فإن دَخْلَ قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعيّ، بل واقعيٌّ.

ودَخْلُ الجزء والشّرط فيه وإن كان كذلك، إلّا أنّهما قابلان للوضع والرّفع شرعاً،

___________________

عمومها {من شيءٍ قابل للرّفع والوضع شرعاً} بأن كان رفعه ووضعه بيد الشّارع بما هو شارع {وليس هاهنا} في مقامنا كذلك {فإنّ} المشكوك هو التّقرّب، ومعلوم أنّ {دخل قصد القربة ونحوها} من الوجه والتّمييز {في} حصول {الغرض ليس بشرعيّ} يتبع الجعل الشّرعي {بل} هو {واقعيّ}.

والحاصل: أنّ قصد القربة إمّا أن يكون دخيلاً في المأمور به، وإمّا أن يكون دخيلاً في الغرض:

أمّا الأوّل: فقد عرفت أنّه غير معقول.

وأمّا الثّاني: فإنّه - وإن كان ممكناً - إلّا أنّ البراءة الشّرعيّة غير شاملة له، إذ الدّخول حينئذٍ من قبيل دخل العلّة في المعلول فهو داخل واقعيّ ليس بيد الشّارع، وقد تقدّم اشتراط جريان البراءة بكون وضعه ورفعه بيد الشّارع.

{و} إن قلت: إذا كان {دخل} شيء في شيء واقعيّاً موجباً لعدم جريان أدلّةالبراءة فيه فكيف تجرون البراءة في {الجزء والشّرط} المشكوكين مع أنّ دخلهما {فيه} أي: في الغرض واقعيّ، كما هو مبنى المصنّف(رحمة الله)؟

قلت: {وإن كان} دخلهما في الغرض {كذلك} واقعيّ لا شرعيّ {إلّا أنّهما قابلان للوضع والرّفع شرعاً} تبعاً لمنشأ انتزاعهما، أي: إذا شمل حديث الرّفع - مثلاً - للجزء أو الشّرط المشكوك فرفعه كشف ذلك الرّفع كشفاً إنّيّاً عن عدم دخالة ذلك المشكوك في الغرض.

إن قلت: فليكن مقامنا كذلك، فشمول أدلّة الرّفع لقصد التّقرّب كاشف عن عدم دخله في الغرض إنّاً.

ص: 440

فبدليل الرّفع - ولو كان أصلاً - يُكشف أنّه ليس هناك أمر فعليّ بما يعتبر فيه المشكوك، يجب الخروج عن عهدته عقلاً، بخلاف المقام، فإنّه علم بثبوت الأمر الفعليّ، كما عرفت، فافهم.

___________________

قلت: قد تقدّم أنّه ليس جعل قصد القربة دخيلاً في المأمور به بيد الشّارع حتّى يكون رفعه بيده فيشمله أدلّة الرّفع، بخلاف الجزء والشّرط لأنّهما كانا بيد الشّارع.

{فبدليل الرّفع ولو كان أصلاً} عمليّاً {يكشف أنّه ليس هناك أمر فعليّ بما} أي: بكلّ {يعتبر فيه المشكوك} بحيث لو أتى بغير المشكوك لم يكن مُجْزِياً ومعذّراً حتّى {يجب الخروج عن عهدته} أي: عهدة ذلك الأمر بالكلّ {عقلاً} وذلك {بخلاف المقام} ممّا شكّ في ما لا يمكن أخذه في متعلّق التّكليف {فإنّه علم بثبوت الأمر الفعلي} ولا يمكنه الخروج عن عهدته يقيناً إلّا بإتيان المشكوك - أعني: قصد الامتثال - {كماعرفت} الفرق بينهما سابقاً {فافهم} يحتمل أن يكون إشارة إلى أنّ الفرق في أدلّة البراءة بين الشّرعيّة والعقليّة في الجزء والشّرط لا وجه له أصلاً.

قال السّيّد الخوئيّ - دام بقاه - في تعليقته على التّقريرات ما لفظه: «ولكن التّحقيق عدم صحّة التّفرقة المزبورة، فإنّا إذا بنينا على عدم جريان البراءة العقليّة في مسألة الأقلّ والأكثر من جهة حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض، فلا يبقى مجال للرّجوع إلى البراءة الشّرعيّة فيها بعد فرض أنّه لا يثبت بها ترتّب الغرض على الأقل، كما أنّه إذا بنينا على جريان البراءة العقليّة في تلك المسألة، كما هو الصّحيح من جهة أنّه لا يلزم من تحصيل الغرض بحكم العقل إلّا المقدار الواصل إلى المكلّف وما تصدّى المولى لبيانه، فالعقاب على ترك ما يحتمل دخله في غرض المولى واقعاً مع عدم قيام الحجّة عليه لا يكون محتملاً من جهة استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، فلا بدّ من القول بالبراءة في المقام أيضاً».

ثمّ أشكل على نفسه بأنّ المولى لا يتمكّن من البيان في المقام، فلا تجري البراءة.

ص: 441

المبحث السّادس: قضيّة إطلاق الصّيغة كون الوجوب نفسيّاً، تَعْيِيْنيّاً، عينيّاً؛ لكون كلّ واحد ممّا يقابلها يكون فيه تقيّد الوجوب وتضيّق دائرته.

___________________

وأجاب بأنّ المفروض عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر، وأمّا بيان دخل قصد القربة في الغرض فهو ممكن(1)،

انتهى.

[المبحث السّادس:] مقتضى إطلاق الصّيغة

{المبحث السّادس} في ما يستفاد من إطلاق الصّيغة {قضيّة إطلاق الصّيغة} وسعة الطّلب الإنشائي من غير تقييد بالجواز بوجهأصلاً، وليس المراد من الإطلاق الإطلاق المفهومي، بمعنى الشّمول للأفراد في مقابلة التّقييد كإطلاق العالم الشّامل للعادل وغيره مقابل تقييده بالعادل.

والحاصل: أنّ مقتضى عدم ثبوت الوجوب بالجواز {كون الوجوب نفسيّاً} لا غيريّاً {تعيينيّاً} لا تخييريّاً {عينيّاً} لا كفائيّاً {لكون كلّ واحد ممّا يقابلها يكون فيه تقيّد الوجوب وتضيّق دائرته}.

فإنّ الواجب النّفسي: هو الّذي يجب لنفسه لا مقدّمةً لغيره، كالصّلاة الواجبة بنفسها.

والواجب الغيري: هو الّذي يجب لغيره مقدّمةً له لا لنفسه، كالطّهارة بالنّسبة إلى الصّلاة.

والواجب التّعييني: هو الّذي يجب معيّناً ولا بدّ من الإتيان لشخصه لا به أو بدله، كصوم شهر رمضان.

والواجب التّخييري: هو الّذي يجب هو أو بدله، فيلزم على المكلّف الإتيان بأحدهما نحو: كفّارة الإفطار في شهر رمضان المخيّرة بين العتق والصّيام والإطعام.

ص: 442


1- أجود التّقريرات 1: 118.

فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً عليه، فالحكمة تقتضي كونَه مطلقاً، وجب هناك شَيْءٌ آخر أو لا، أتى بشيءٍ آخر أو لا، أتى به آخَرُ أو لا،

___________________

والواجب العيني: هو الّذي يجب على شخص المكلّف فيلزم عليه الإتيان به بنفسه، ولا يكون بحيث إن أتى به شخص آخر سقط عن المكلّف وذلك، كالصلاة اليوميّة.

والواجب الكفائي: هو الّذي لا يجب على شخص المكلّف فقط، بل يجبعلى المكلّفين على سبيل البدل، فإن أتى به شخص آخر سقط عن هذا المكلّف، كصلاة الميّت.

ومن الواضح أنّ كلّ واحد من الثّلاثة الأُخر أضيق دائرة من الثّلاثة الأُوَل، فإنّ الواجب الغيري مقيّد بوجوب الغير - أعني: ذا المقدّمة - والواجب التّخييري مقيّد بعدم الإتيان ببدله الآخر، والواجب الكفائي مقيّد بعدم إتيان شخص آخر بالواجب - كما لا يخفى - .

{فإذا كان} المولى {في مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه} أي: على تقيّد الوجوب بالغيريّة والتّخييريّة والكفائيّة {فالحكمة تقتضي كونه} أو الوجوب {مطلقاً} أي: إنّ هذا المدلول للصّيغة واجب بعينه على هذا المكلّف المخاطب من غير فرق بين أن يكون {وجب هناك شيء آخر} حتّى يكون مدلول الصّيغة مقدّمة له {أو لا} ولا بين أن يكون {أتى} المكلّف {بشيء آخر} حتّى يكون المدلول معيّناً عليه {أو لا} ولا بين أن يكون {أتى به} أي: بالواجب شخص {آخر} حتّى يكون عينيّاً {أو لا} بل ادّعى بعض المحشّين عدم الحاجة إلى مقدّمات الحكمة بعد تعارف التّعبير عن الواجب المطلق عرفاً بالصيغة المجرّدة عن القيود، فكأنّها عبارة عنها وضعاً بلا مؤونة.

ولا يذهب عليك أنّ هذا النّحو من الإطلاق أيضاً تكون في الاستحباب، فظاهر

ص: 443

كما هو واضح لا يخفى.

المبحث السّابع: أنّه اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب - وضعاً أو إطلاقاً - في ما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهّمه

___________________

الأمر المندوب كونه نفسيّاً عينيّاً تعيينيّاً {كما هو واضح لا يخفى} بل يمكن تصويره في النّهي أيضاً تحريماً وتنزيهاً. نعم، إذا لم يكن هناك إطلاق فالمرجع الأصل العملي وهو يختلف بحسب الموارد، فتدبّر جيّداً.

[المبحث السّابع:] الأمر عقيب الحظر

{المبحث السّابع} في الأمر الواقع عقيب الحظر. اعلم {أنّه} قد {اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب وضعاً} يعني أنّها موضوعة للوجوب {أو إطلاقاً} يعني أنّ الصّيغة منصرفة إليه - كما تقدّم - {في ما} متعلّق ب «اختلف» {إذا وقع} الأمر {عقيب الحظر أو في مقام توهّمه}.

فالأوّل: نحو قوله - تعالى - {وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ}(1) بعد قوله - تعالى - : {يَٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ}(2)، فإنّ الأمر بالاصطياد واقع عقيب حرمة الاصطياد في حال الإحرام.

والثّاني: كما لو سئل العبد عن حلّيّة فعل فقال المولى: (إفعل). ولا يخفى أنّ التّمثيل بقوله: {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ}(3) الآية للأمر الواقع عقيب الحظر محلّ تأمّل.

قال المحقّق السّلطان: «والمراد من الأمر الواقع عقيب الحظر هو الأمر المتجدّد بعد النّهي، لا الأمر الباقي الحاصل قبل النّهي الشّامل بعمومه أو إطلاقه لما بعد

ص: 444


1- سورة المائدة، الآية: 2.
2- سورة المائدة، الآية: 95.
3- سورة التّوبة، الآية: 5.

على أقوال: نسب إلى المشهور: ظهورها فيالإباحة(1). وإلى بعض العامّة: ظهورها في الوجوب(2). وإلى بعض: تبعيّتها لما قبل النّهي إن علّق الأمر بزوال علّة النّهي،

___________________

النّهي، بحيث يكون نسبة النّهي إلى ذلك الأمر نسبة التّخصيص أو التّقييد فيخرج من محلّ النّزاع، نحو قوله - تعالى - : {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ}(3) فإنّ عموم قوله - تعالى - : {وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ}(4) مخصّص بحرمة القتل في الأشهر الحرم بناء على كون العموم عموماً أزمانيّاً»(5)، انتهى {على أقوال} والمذكور منها هنا ثلاثة:

الأوّل: - وهو الّذي {نسب إلى المشهور - : ظهورها} حينئذٍ {في الإباحة} فالوقوع عقيب الحظر أو في مقام توهّمه قرينة عامّة صارفة عن معناها الحقيقي الّذي هو الوجوب. وهذه القرينة تعيّن أحد المجازات وهو الإباحة.

{و} القول الثّاني: - وهو الّذي نسب {إلى بعض العامّة - : ظهورها في الوجوب} كما لو لم تقع في مقام توهم الحظر.

{و} القول الثّالث: - وهو الّذي نسب {إلى بعض} وهو العضدي(6) - : {تبعيّتها} أي: صيغة الأمر في إفادة الوجوب أو غيره {لما قبلالنّهي} فإن كان حكم ما قبل النّهي الوجوب كان الأمر الوارد بعد النّهي مفيداً للوجوب، وإن كان الحكم الإباحة كان مفيداً للإباحة، ولكن ليس مطلقاً، بل {إن علّق الأمر} الوارد بعد الحظر {بزوال علّة النّهي}

ص: 445


1- العدة في أصول الفقه 1: 183.
2- المحصول 2: 96.
3- سورة التوبة، الآية: 5.
4- سورة النساء، الآية: 89.
5- الحاشية على كفاية الأصول 2: 105.
6- شرح مختصر الأصول: 205.

إلى غير ذلك.

والتّحقيق: أنّه لا مجال للتّشبّث بموارد الاستعمال؛ فإنّه قلّ مورد منها يكون خالياً عن قرينةٍ على الوجوب، أو الإباحة أو التّبعيّة. ومع فرض التّجريد عنها لم يظهر بعدُ كونّها عقيب الحظر موجباً لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه،

___________________

ومثل له بعض بقوله - تعالى - : {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ}(1) حيث علّق أمر «اقتلوا» بزوال علّة التّحريم - أعني: وجود الأشهر الحرم - فتأمّل(2).

ولا يذهب عليك أنّ هذا التّفصيل إنّما هو في ما إذا كان الحظر محقّقاً، أمّا إذا كان توهّم الحظر فلا يستقيم هذا التّفصيل، فتدبّر.

ثمّ إنّه إذا لم يكن الأمر الوارد عقيب الحظر معلّقاً بزوال علّة التّحريم، فهو ظاهر في الوجوب لدى هذا المفصّل - كما لا يخفى - {إلى غير ذلك} من التّفاصيل المذكورة في المقام.

{والتّحقيق أنّه لا مجال} للاستدلال على المطلب بما ورد من الاستعمالات - كما قد تشبّث بها القائلون بتلك الأقوال - ، إذ لا مسرح {للتشبّث بموارد الاستعمال} في أيّ مقام، فإنّ الاستعمال أعمّ من الظّهور المطلوب وضعاً أو بالقرينة العامّة وما نحن فيه كذلك {فإنّهقلّ مورد منها يكون خالياً عن قرينة على الوجوب أو الإباحة أو التّبعيّة} لما قبل النّهي كما يشهد بذلك الأمثلة الّتي استدلّوا بها على المطلب {ومع فرض التّجريد عنها} أي: تجريد تلك الموارد عن القرينة المعيّنة {لم يظهر} لنا {بعد} هذا أن {كونها عقيب الحظر موجباً لظهورها} أي: الصّيغة {في غير ما تكون ظاهرة فيه} حينما كان مجرّداً عن الوقوع عقيب الحظر.

والحاصل: أنّ في تلك الأوامر الواقعة عقيب الحظر إمّا أن توجد القرينة على

ص: 446


1- سورة التّوبة، الآية: 5.
2- وجهه ما نقلناه عن السّلطان.

غاية الأمر يكون موجباً لإجمالها، غيرُ ظاهرةٍ في واحدٍ منها إلّا بقرينة أُخرى، كما أشرنا.

المبحث الثّامن:

___________________

معنىً أم لا.

وعلى الأوّل: فالظهور مستند إلى القرينة ولا يفيد هذا النّحو من الظّهور للمستدلّ شيئاً.

وعلى الثّاني: فلا نسلّم عدم ظهور الصّيغة في الوجوب، وعلى فرض تسليم عدم ظهورها في الوجوب فلا نسلّم ظهورها في غيره، إذ {غاية الأمر يكون} الوقوع عقيب الحظر {موجباً لإجمالها} لاحتفاف الكلام بما يحتمل القرينيّة، فلا تجرى أصاله عدم القرينة؛ لأنّ موضع هذه الأصالة هو الشّكّ في وجود القرينة لا في قرينيّة الموجود - كما لا يخفى - .

وعلى هذا فتكون الصّيغة {غير ظاهرة في واحد منها} أي: من المعاني المذكورة {إلّا بقرينة أُخرى} تعيّن المراد {كما أشرنا} إلى وجود القرينة في موارد الاستعمالات.قال المحقّق السّلطان: «ثمّ مع الشّكّ في الوجوب فالأصل البراءة، إلّا أنّه يمكن أن يقال: في ما إذا علم الحالة السّابقة قبل النّهي إنّه يجري الاستصحاب بناءً على جريانه في الكلّي من القسم الثّاني نظراً إلى احتمال كون النّهي بالنسبة إلى الحكم السّابق تخصيصاً أو تقييداً، فيكون شخص ذلك الحكم باقياً ولو كان النّهي نسخاً له لم يكن باقياً. وتمام الكلام موكول إلى محلّه. نعم، لو كان الدّوران بين الوجوب والإباحة خاصّة كان مجرى البراءة»(1)،

انتهى.

[المبحث الثّامن:] المرّة والتّكرار

اشارة

{المبحث الثّامن} في المرّة والتّكرار، وقد اختلفوا في هذا المبحث على أقوالٍ:

ص: 447


1- الحاشية على كفاية الأصول 2: 109.

الحقّ أنّ صيغة الأمر مطلقاً لا دلالة لها على المرّة ولا التّكرار؛ فإنّ المنصرف عنها ليس إلّا طلب إيجاد الطّبيعة المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها ولا بمادتها.

والاكتفاء بالمرّة فإنّما هو لحصول الامتثال بها في الأمر بالطّبيعة، كما لا يخفى.

___________________

فذهب جمع من المحقّقين إلى عدم دلالة الصّيغة على أحدهما، وآخرون إلى أنّها تفيد التّكرار، وثالث إلى المرّة، ورابع إلى اشتراكها بينهما، وخامس إلى الوقف. وحيث إنّ هذه الأقوال الأربعة الأخيرة بمعزِلٍ عن التّحقيق أضرب المصنّف عنها وبيّن ما هو الحقّ عنده فقال: {الحقّ أنّ صيغة الأمر مطلقاً} بدون القرينة والتّقييد بالمرّة أو التّكرار {لا دلالة لها} لا بمادّتها ولا بهيئتها {على المرّة ولا التّكرار}، والمرادبالتكرار ما فوق المرّة سواء كان إلى الأبد كما هو قول أم لا {فإنّ المنصرف عنها ليس إلّا طلب إيجاد الطّبيعة المأمور بها} أي: طلب إيجاد المادّة في الخارج {فلا دلالة لها على أحدهما} أي: المرّة أو التّكرار، ولا دلالة في ما أقاموه من الأدلّة على أحدهما كما لا يخفى لمن راجعها {لا بهيئتها} إذ هي موضوعة لإفادة نسبة الطّلب إلى المخاطب {ولا بمادّتها} إذ هي موضوعة لصرف الماهيّة لا بشرط، ومن الواضح عدم مدخليّة المرّة والتّكرار في أحدهما.

{و} إن قلت: الصّيغة موضوعة للمرّة والدّليل على ذلك {الاكتفاء} في مقام الطّاعة بها وإلّا فلا وجه للإتيان {بالمرّة} الواحدة.

قلت: الاكتفاء {فإنّما هو لحصول الامتثال بها} أي: بالمرّة {في الأمر بالطبيعة} فإنّ الطّبيعة تتحقّق بالمرّة {كما لا يخفى}.

لا يقال: لو كان المرّة خارجة عن مدلول الأمر وكان الطّلب منصبّاً على صرف الطّبيعة جاز الإتيان بالطبيعة مرّة ثانية، مع أنّا نرى أنّه لو أمر المولى عبده بشيء بحيث لم يعرف من القرينة الخارجيّة إرادته المرّة ومع ذلك أتى العبد بالطّبيعة أكثر من مرّة كان عند العقلاء مستحقّاً للذّم، بل في العبادات كان تشريعاً عند أهل

ص: 448

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ الاتّفاق على أنّ المصدر المجرّد عن اللّام والتّنوين لا يدلّ إلّا على الماهيّة - على ما حكاه السّكّاكيّ(1) - لا يوجب كون النّزاع هاهنافي الهيئة - كما

___________________

الشّرع؛ لأنّا نقول: الظّاهر من الطّلب هو الطّبيعة كما تقدّم، وحيث أتى العبد بالطبيعة سقط الطّلب لفرض وجود متعلّقه، وعلى هذا فلا طلب بعد المرّة، ولذلك كان العبد مذموماً ومشرعاً، فتدبّر.

{ثمّ} إنّ صاحب الفصول(قدس سره) جعل هذا النّزاع في هيئة الأمر، يعني أنّ الاختلاف واقع في أنّ هيئة (إفعل) تدلّ على المرّة أو التّكرار - كما أنّ الخلاف في المشتق واقع في هيئته وأنّها دالّة على خصوص المتلبّس أو الأعم - واستدلّ(رحمة الله) لكون النّزاع في الهيئة لا في المادّة بثلاثة أُمور:

الأوّل: نصّ جماعة من العلماء عليه.

الثّاني: أنّ الأكثر حرّروا النّزاع في الصّيغة، وصريح كون النّزاع في الصّيغة أنّه نزاع في الهيئة إذ الصّيغة عبارة عن الهيئة.

الثّالث: أنّ السّكّاكي حكى اتفاق العلماء على أنّ المادّة - وهي المصدر المجرّد عن اللّام والتّنوين - لا تدلّ إلّا على الماهيّة من حيث هي هي، ومن البديهي أنّ المرّة والتّكرار خارجان عن الماهيّة، إذ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي.

و{لا يذهب عليك أنّ} هذه الأدلّة لا تفي بمقصوده: أمّا الأوّل والثّاني فلعدم الحجيّة فيهما، وأمّا الدّليل الثّالث وهو {الاتفاق على أنّ المصدر المجرّد عن اللّام والتّنوين لا يدلّ إلّا على الماهيّة} المجرّدة {على ما حكاه السّكّاكي} فلأنّه {لا يوجب كون النّزاع هاهنا} في مسألة المرّة والتّكرار {في الهيئة} لا في المادّة {كما}

ص: 449


1- مفتاح العلوم: 93.

في الفصول(1) - ، فإنّه غفلة وذهول عن أنّ كون المصدر كذلك لا يوجب الاتّفاق على أنّ مادّة الصّيغة لا تدلّ إلّا على الماهيّة، ضرورةَ أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات، بل هو صيغة مثلها. كيف؟ وقد عرفت في باب المشتق(2)

مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى،

___________________

زعم التّلازم أو الاتحاد {في الفصول} وسبق بيانه {فإنّه غفلة وذهول عن أنّ كون المصدر كذلك} أي: لا يدلّ إلّا على الماهيّة {لا يوجب الاتفاق على أنّ مادّة الصّيغة لا تدلّ إلّا على الماهيّة} إذ لا تلازم بين المصدر وبين مادّة الصّيغة، ولا اتحاد حتّى يكون مفاد المادّة مفاد المصدر، أمّا عدم التّلازم بينهما؛ فلأنّ ما زعم في وجه التّلازم هو أنّ المصدر إذا لم يدلّ على المرّة والتّكرار دلّ ذلك على عدم دلالة مادّة عليهما، فيصحّ للاستدلال به على عدم دلالة مادّة (إفعل) عليهما.

وفيه: أنّ عدم دلالة المصدر لا يلزم منه عدم دلالة مطلق المادّة، إذ من الممكن ذهاب هيئة المصدر ببعض مدلولات مادّة نفسه، كما أنّ المادّة لا بشرط والهيئة تذهب بها.

وأمّا عدم الاتحاد فل {ضرورة أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات} حتّى يكون متّحداً معها ويكون مفاده مفادها {بل هو صيغة مثلها} لأنّ له هيئة مستقلّةً والمادّة يلزم أن لا يكون لها هيئة، إذ المادّتان المقترنتان بالهيئة لا أولويّة في جعل أحدهما مادّةللأُخرى من العكس.

بل {كيف} يكون المصدر مادّة لصيغة (إفعل) أو غيرها {وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى} إذ قلنا هناك أنّ معنى المصدر هو بشرط لا عن الحمل فلا يحمل على شيء، ومعنى المشتقّات هو اللّابشرطيّة،

ص: 450


1- الفصول الغرويّة: 71.
2- في ثاني تنبيهات المشتق (راجع الصفحة 308).

فكيف بمعناه يكون مادّة لها؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة والتّكرار في مادّتها، كما لا يخفى.

إن قلت: فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلاً في الكلام؟

قلت: - مع أنّه محلّ الخلاف - معناه: أنّ الّذي وضع أوّلاً بالوضع الشّخصي، ثمّ بملاحظته وُضِعَ - نوعيّاً أو شخصيّاً

___________________

فلذا يحمل، ومن البديهي مباينة لا بشرط مع بشرط لا {فكيف} المصدر {بمعناه} المباين {يكون مادّةً لها} أي: للمشتقّات أو لصيغة (إفعل)؟ {فعليه} أي: بناءً على تغاير المصدر ومادّة (إفعل) {يمكن دعوى اعتبار المرّة والتّكرار في مادّتها} وإن كان المصدر لا مرّة ولا تكرار له {كما لا يخفى} لكن الانصاف ظهور التّلازم بينهما إن لم يكن اتحاد، وقد ذكرنا في بعض المباحث وجود الاتّحاد، فراجع.

{إن قلت}: إذا لم يكن المصدر مادّة للمشتقّات {فما معنى ما اشتهر} في ألسنة غير الكوفيّين {من كون المصدر أصلاً في الكلام} فإنّ معنى كونه أصلاً كونه مبدءاً ومادّة لسائر المشتقّات؟

{قلت: مع أنّه محلّ الخلاف} إذ الكوفيّون بنوا على كونالفعل أصلاً، واستدلّوا لذلك بعمل الفعل في المصدر نحو (قعدت قعوداً) إذ العامل قبل المعمول فالشهرة مع عدم حجيّتها ليست حاصلة في المقام {معناه أنّ الّذي وضع أوّلاً بالوضع الشّخصي} مادّة وهيئة {ثمّ بملاحظته} أي: بملاحظة ذلك الموضوع أوّلاً {وضع نوعيّاً أو شخصيّاً} كلمة «أو» بمعنى (الواو). قال ابن مالك:

أو ربّما عاقبتِ الواوَ إذا

لم

يُلْفِ ذو النّطقِ لِلَبْسِ منفذا(1)

قال المشكيني(رحمة الله): «الأوّل بالنسبة إلى المادّة والثّاني بالنسبة إلى الهيئة»(2)،

انتهى.

ص: 451


1- البهجة المرضية: 355.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 392.

- سائرُ الصِّيغ الّتي تناسبه - ممّا جمعه معه مادّةُ لفظٍ متصوّرةٌ في كلٍّ منها ومنه بصورةٍ، ومعنى كذلك - هو المصدر أو الفعل،

___________________

فالواضع بعد ما وضع (الضّرب) وغيره من المصادر وضع هيئة الفاعل الشّخصي لكلّ من تلبّس بأحد الموادّ المذكورة، فالهيئة موضوعة شخصيّاً؛ لأنّها عبارة عن هيئة (فاعل) لا غير، والمادّة موضوعة نوعيّاً؛ لأنّها عبارة عن كلّ مادّة وضع مصدرها ك (الضّرب) و(الشّرب) و(الأكل) وغيرها {سائر الصّيغ} نائب عن فاعل «وضع» {الّتي تناسبه} أي: تناسب سائرالصّيغ ما وضع أوّلاً {ممّا جمعه} بيان سائر الصّيغ الّتي جمعها {معه} أي: مع ما وضع أوّلاً {مادّة لفظ متصوّرة} فاعل «جمعه» أي: كانت الجهة الجامعة بين الموضوع أوّلاً وسائر الصّيغ مادّة اللّفظ، فهما مشتركان فيها.

لكن الفرق بين المادّتين أنّ كلّاً من المادّتين متصوّرة {في كلّ} واحد{منها ومنه} أي: من الصّيغ والموضوع أوّلاً {بصورة} إذ صورة الموضوع أوّلاً غير صورة سائر الصّيغ {ومعنىً كذلك} عطف على «مادّة لفظ» يعنى: أنّ سائر الصيغ مجتمعة مع الموضوع أوّلاً في مادّة اللّفظ وفي المعنى، يعني: أنّ المعنى نحو (زدن) في معنى الضّرب متّحد في الموضوع أوّلاً وسائر الصّيغ.

والأصل اجتماعهما في مادّة اللّفظ ومعنى اللّفظ {هو المصدر أو الفعل} خبر قوله: «إنّ الّذي وضع أوّلاً».

والحاصل بلفظ العلّامة الرّشتي: «أنّ المصدر هو اللّفظ الّذي وضع أوّلاً بالوضع الشّخصي لمعنىً، ثمّ بملاحظته وضع شخصيّاً أو نوعيّاً سائر الألفاظ الّتي لها هيئات خاصّة أُخرى غير هيئة المصدر، لكن تناسبه في المادّة والمعنى»(1)،

انتهى.

ص: 452


1- شرح كفاية الأصول 1: 110.

فافهم.

ثمّ

___________________

والأصوب أن يقال(1):

إنّ أيّاً من المصدر والفعل هو اللّفظ الّذي، الخ.

أقول: ليس كلام المصنّف(رحمة الله) بأقلّ في التّعقيد من قوله:

وما مثله في النّاس إلّا مملّكاً

أبو أُمّه حيّ أبوه يقاربه(2)

بل الشّعر أسهل من العبارة بكثير {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قولهم: الأصل هو المصدر أو الفعل، لا يعنون به ما ذكر من المعنى، بل ظاهر قولهم هو الاشتقاق الحقيقي، كما يُرشد إليه كلمات شارح الأمثلة وغيره فيكيفيّة الاشتقاق، فراجع.

المراد بالتّكرار

{ثمّ} لا يذهب عليك أنّه فرق بين الفرد والأفراد والدّفعة والدّفعات، إذ الفرد: عبارة عن وقوع الفعل غير متعدّد - سواء كان في زمان واحد أو في أزمنة متعدّدة، كما في الفرد الممتد - .

والأفراد: عبارة عن وقوع الفعل متعدّداً من غير فرق في الزّمان بين الواحد والمتعدّد أيضاً.

والدّفعة: عبارة عن وقوع الفعل في زمان واحد متعدّداً كان الفعل أم غير متعدّد.

والدّفعات: عبارة عن وقوع الفعل في أزمنة متعدّدة سواء كان فعلاً واحداً أم متعدّداً.

وعلى هذا تحقّق أنّ بين كلّ من الدّفعة والفرد وكلّ من الأفراد والدّفعات عموماً

ص: 453


1- مكان قوله: «إنّ الّذي وضع أوّلاً» الخ، ثمّ يسقط قوله: «أخيراً هو المصدر أو الفعل».
2- هو من أبيات الفرزدق المتوفّى 110، يمدح بها إبراهيم بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك.

المراد بالمرّة والتّكرار هل هو الدّفعة والدّفعات، أو الفرد والأفراد؟

والتّحقيق: أن يقعا بكلا المعنيين محلّ النّزاع، وإن كان لفظهما ظاهراً في المعنى الأوّل.

وتَوَهُّمُ: أنّه لو أُريد بالمرّة الفرد

___________________

من وجهٍ، فلو جاء بإنائين في زمانين تحقّق الفردان والدّفعتان، ولو جاء بإنائين في زمان واحد تحقّق الفردان دون الدّفعتين، ولو جاء بإناء واحد في زمان ممتدّ تحقّق الدّفعتان دون الفردين، وفيه تأمّل، بل الظّاهر أنّ الدّفعة أعمّ من الفرد مطلقاً، والأفراد أعمّ من الدّفعات مطلقاً، فتدبّر.

وعلى كلّ حال {المراد بالمرّة والتّكرار} في موردالخلاف {هل هو الدّفعة والدّفعات أو الفرد والأفراد؟} والفرق ظهر ممّا تقدّم {والتّحقيق أن يقعا} المرّة والتّكرار {بكلا المعنيين محلّ النّزاع} في هذا المبحث {وإن كان لفظهما ظاهراً في المعنى الأوّل} فإنّه إذا قيل: (إضرب زيداً مرّة) كان ظاهراً في الدّفعة، حتّى لو ضربه بفردين من الضّرب لم يكن معاقباً، وكذا التّكرار.

{وتوهُّمُ أنّه لو أُريد بالمرّة الفرد} إشارة إلى قول صاحب الفصول(رحمة الله) حيث ذهب إلى كون النّزاع في المرّة والتّكرار بمعنى الدّفعة والدّفعات لا فقط بمعنى الفرد والأفراد، فقال ما لفظه:

«ثمّ هل المراد بالمرّة الفردُ الواحد وبالتكرار الأفراد، أو المراد بها الدّفعة الواحدة وبالتكرار الدّفعات؟ وجهان استظهر الأوّل منها بعض المعاصرين ولم نقف له على مأخذ، والتّحقيق عندي هو الثّاني لمساعدة ظاهر اللّفظين عليه، فإنّه لا يقال لمن ضرب بسوطين دفعةً: إنّه ضرب مرّتين أو مكرّراً، بل مرّة واحدة».

ثمّ ذكر بعض الشّواهد على ما ادّعاه إلى أن قال: «مع أنّهم لو أرادوا بالمرّة الفرد

ص: 454

«لكان الأنسب، - بل اللّازم - أن يجعل هذا المبحث تتمّةً للمبحث الآتي: مِن أنّ الأمر هل يتعلّق بالطّبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك: «وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التّعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّد، أو لا يقتضي شيئاً منهما؟ ولم يحتج إلى إِفراد كلٍّ منهما بالبحث كما فعلوه».

وأمّا لو أُريد بها الدّفعة فلا عُلْقَةَ بين المسألتين، كما لا يخفى.فاسِدٌ؛ لعدم العُلْقَةِ بينهما

___________________

{لكان الأنسب - بل اللّازم - أن يجعل هذا المبحث تتمّة للمبحث الآتي مِن أنّ الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التّعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّد أو لا يقتضي شيئاً منهما؟ ولم يحتج إلى إِفراد كلّ منهما بالبحث كما فعلوه، وأمّا لو أُريد بها الدّفعة فلا علقة بين المسألتين، كما لا يخفى}»(1)،

انتهى كلام الفصول. وحاصله: الاستدلال على مطلبه بأمرين:

الأوّل: ظهور المرّة والتّكرار في الدّفعة والدّفعات، والثّاني: أنّ كلّ مسألة لا بدّ وأن تجري على جميع تقارير المسألة الأُخرى بأن يكون بينهما عموم من وجه وبين الدّفعة والمسألة الآتية كذلك، إذ كلّ من القائل بالدفعة والدّفعات يمكن أن يقول بالطبيعة وبالفرد وبالعكس، وليس كذلك لو كان المراد من هذه المسألة الفرد، إذ على تقدير أن يقال في هذه المسألة بالفرد لا يمكن أن يقال في المسألة الآتية بالطبيعة، ولكن كلّ من الدّليلين {فاسد}:

أمّا الأوّل؛ فلأنّ ظهور لفظٍ في أمرٍ لا يقتضي اختصاص الكلام به لما تقدّم من وقوعهما بكلا المعنيين محلّ النّزاع.

وأمّا الثّاني؛ فلأنّ ما زعمه من عدم العلقة بين المسألتين لو أُريد الدّفعة بخلاف ما لو أُريد الفرد غير صحيح {لعدم العلقة بينهما} أي: بين مسألة المرّة والتّكرار

ص: 455


1- الفصول الغرويّة: 71.

لو أُريد بها الفرد أيضاً، فإنّ الطّلب - على القول بالطّبيعة - إنّما يتعلّق بهاباعتبار وجودها في الخارج؛ ضرورةَ أنّ الطّبيعة من حيث هي ليست إلّا هي، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة.

وبهذا الاعتبار كانت مردّدة بين المرّة والتّكرار بكلا المعنيين. فيصحّ النّزاع في دلالة الصّيغة على المرّة والتّكرار بالمعنيين وعدمها:

أمّا بالمعنى الأوّل فواضِحٌ.

___________________

ومسألة الطّبيعة والفرد {لو أُريد بها} أي: المسألة الأُولى {الفرد أيضاً} لا الدّفعة، {فإنّ الطّلب على القول بالطبيعة} في المسألة الآتية {إنّما يتعلّق بها باعتبار وجودها في الخارج} لا من حيث إنّها طبيعة محضة ومجرّدة عن ظرف الخارج {ضرورة أنّ الطّبيعة من حيث هي} طبيعة {ليست إلّا هي} أي: تكون مجرّدة عن جميع الخصوصيّات لا موجودة ولا معدومة لا واحدة ولا متعدّدة {لا مطلوبة ولا غير مطلوبة} والبرهان لتجرّد الطّبيعة عن جميع الخصوصيّات أنّها تنقسم إليها، فلو كانت الطّبيعة موجودة - مثلاً - لم يعقل تقسيمها إلى الموجودة والمعدومة، ولو كانت مطلوبة لم يعقل تقسيمها إلى المطلوبة وغير المطلوبة، وذلك لبداهة أنّه يلزم منه تقسيم الشّيء إلى نفسه وغيره حينئذٍ.

{وبهذا الاعتبار} الّذي ذكرنا من تعلّق الطّلب بالطبيعة باعتبار وجودها الخارجي {كانت} الطّبيعة {مردّدة بين المرّة والتّكرار بكلا المعنيين} الفرد والأفراد والدّفعة والدّفعات {فيصحّ النّزاع} على القول بالطبيعة {في دلالة الصّيغة على المرّة والتّكرار بالمعنيين وعدمها} أي: عدم دلالة الصّيغة على أحدهما، بل الصّيغة لا مرّة فيها ولا تكرار - كما اختارهالمصنّف(رحمة الله) في أوّل البحث - . {أمّا} تأتّي النّزاع على القول بالمرّة والتّكرار {بالمعنى الأوّل} أي: الدّفعة والدّفعات {فواضح} إذ يقال: بعد ما اخترنا في المسألة الآتية أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة لا الفرد

ص: 456

وأمّا بالمعنى الثّاني فلوضوح أنّ المراد من الفرد أو الأفراد وجودٌ واحدٌ أو وجودات، وإنّما عُبِّرَ بالفرد؛ لأنّ وجود الطّبيعة في الخارج هو الفرد، غاية الأمر خصوصيّته وتشخّصه - على القول بتعلّق الأمر بالطّبائع - يلازم المطلوب وخارجٌ عنه، بخلاف القول بتعلّقه بالأفراد، فإنّه ممّا يقوّمه.

___________________

هل يجب الإتيان بالطبيعة دفعة واحدة أو دفعات.

{وأمّا} تأتّي النِّزاع على القول بالمرّة والتّكرار {بالمعنى الثّاني} أي: الفرد والأفراد، وهذا هو محلّ إشكال صاحب الفصول {فلوضوح أنّ المراد من الفرد أو الأفراد} في مسألة المرّة والتّكرار غير المراد من الفرد في مسألة الطّبيعة والفرد لا أنّ المراد بهما واحد حتّى لا يتأتّى نزاع الفرد والأفراد على القول بالطبيعة.

بيان ذلك: أنّ المراد بالفرد في مقابل الطّبيعة أنّ الخصوصيّات الفرديّة داخلة تحت الطّلب أم لا، والمراد بالفرد والأفراد هنا {وجود واحد أو وجودات} متعدّدة، ومن البديهي أنّه على القول بخروج الخصوصيّات الفرديّة عن الطّلب - أي: القول بالطبيعة - يمكن أن يقع النّزاع في أنّه هل يكفي الإتيان بالطبيعة في ضمن وجود واحد أو يلزم الإتيان بها في ضمن وجودات متعدّدة {وإنّما عبّر} عن الوجود الواحد {بالفرد} وعن الوجودات بالأفراد {لأنّ وجود الطّبيعة في الخارج هو الفرد} فلا يفرق التّعبير عنه بالفرد أو الوجود {غاية الأمر} في الفرق بين تعلّق الأمربالطبيعة وبين تعلّق الأمر بالفرد، كما في المسألة الآتية أنّ {خصوصيّته} أي: خصوصيّة الفرد {وتشخّصه} الفرديّة {على القول بتعلّق الأمر بالطبائع يلازم المطلوب، و} ذلك لعدم إمكان وجود الطّبيعة بدون تشخّص ما، فإنّ الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد ولكن هذا التّشخّص {خارج عنه} أي: عن المطلوب لعدم كونه في حيّز الطّلب {بخلاف القول بتعلّقه} أي: الأمر {بالأفراد فإنّه} أي: التّشخّص {ممّا يقوّمه} أي: المطلوب، إذ أحد التّشخّصات على سبيل البدل واقع في حيّز الطّلب.

ص: 457

تنبيه: لا إشكال بناءً على القول بالمرّة في الامتثال، وأنّه لا مجال للإتيان بالمأمور به ثانياً على أن يكون أيضاً به الامتثال؛ فإنّه من الامتثال بعد الامتثال.

وأمّا على المختار - من دلالته على طلب الطّبيعة من دون دلالة على المرّة ولا على التّكرار - فلا يخلو الحالُ: إمّا أن لا يكون هناك إطلاق الصّيغة في مقام البيان - بل في مقام الإهمال أو الإجمال - ، فالمرجع هو الأصل،

___________________

فتحصّل أنّه لا فرق بين القول بتعلّق الأمر بالطبيعة وبين القول بتعلّقه بالفرد في إتيان الخلاف في أنّ الأمر يدلّ على المرّة أو التّكرار بكلا المعنيين، وإنّما الفرق في كون التّشخّص الفردي خارج عن الطّلب أو في حيّز الطّلب.

في ما يحصل به الامتثال

{تنبيه}: في قدر ما يحصل به الامتثال {لا إشكال بناءً على القول بالمرّة} أي: بدلالة الصّيغة على المرّة {في} حصول {الامتثال} إذا أتى بالمأمور به مرّة واحدة {وأنّه لا مجال للإتيان بالمأمور به ثانياً على أنيكون} الثّاني {أيضاً} كالأوّل ممّا يحصل {به الامتثال فإنّه} غير معقول، إذ هو {من الامتثال بعد الامتثال} وحيث كان بالامتثال الأوّل سقط الأمر، فلا أمر حتّى يكون الامتثال الثّاني امتثالاً حقيقة، وبهذا اتضح أنّ تسميته امتثالاً مجاز.

{وأمّا} بناءً {على المختار} عندنا {من دلالته على طلب} صرف {الطّبيعة من دون دلالة} له {على المرّة ولا} دلالة له {على التّكرار} كما تقدّم {فلا يخلو الحال} من أحد أمرين: لأنّه {إمّا أن لا يكون هناك إطلاق الصّيغة في مقام البيان، بل} كان المولى {في مقام الإهمال أو الإجمال} وقد تقدّم الفرق بينهما، وقد يفرق بينهما بأنّ الأوّل ما لا يتعلّق الغرض لا ببيانه ولا بإخفائه، والثّاني ما يتعلّق الغرض بإخفائه، وحينئذٍ {فالمرجع هو الأصل} العملي بالنسبة إلى الزّائد عن المرّة الواحدة الموجدة للطّبيعة، إذ هي معلومة والزّائد مشكوك، فيجري الأصل

ص: 458

وإمّا أن يكون إطلاقها في ذلك المقام، فلا إشكال في الاكتفاء بالمرّة في الامتثال.

وإنّما الإشكال في جواز أن لا يقتصر عليها، فإنّ لازم إطلاق الطّبيعة المأمور بها هو الإتيان بها مرّة أو مراراً، لا لزوم الاقتصار على المرّة، كما لا يخفى.

والتّحقيق: أنّ قضيّة الإطلاق إنّما هو جواز الإتيان بها مرّة في ضمن فرد أو أفراد،

___________________

والغالب هو أصل البراءة، كما لا يخفى.

{وإمّا أن يكون إطلاقها} أي: الصّيغة {في ذلكالمقام} أي: مقام البيان - بأن تمّت مقدّمات الحكمة - {فلا إشكال} حينئذٍ على ما اخترناه {في الاكتفاء بالمرّة في} حصول {الامتثال} إذ لو أُريد غيرها لزم البيان، فالسكوت كاشف عن عدمه {وإنّما الإشكال في جواز أن لا يقتصر عليها} فيأتي بالطبيعة مرّة أُخرى فقد توهّم جواز الإتيان بالطبيعة أكثر من مرّة بقصد الامتثال {فإنّ لازم إطلاق الطّبيعة} الملقاة على المخاطب {المأمور بها هو الإتيان بها مرّة} واحدة {أو مراراً} عديدة؛ لأنّ جميع الأفراد أفراد الطّبيعة والمفروض أنّ الطّبيعة مأمور بها فالأفراد مشمولة للأمر، و{لا} حجر في الزّائد على المرّة لعدم {لزوم الاقتصار على المرّة، كما لا يخفى} ومثل ذلك ما لو أمر المولى بإتيان الماء، فكما يجوز للعبد الإتيان برطل من الماء، مع جواز الإتيان بنصفه لتحقّق الطّبيعة بكلّ واحد منهما، والمفروض أنّ النّصف الزّائد منضمّاً إلى النّصف الأوّل امتثال، فكذا في ما كان الزّائد مستقلّاً. والحاصل: عدم الفرق بين الانضمام والاستقلال، فكما يجوز الانضمام يجوز الاستقلال، وكما يكون المنضمّ امتثالاً فكذا يكون المستقلّ امتثالاً.

هذا غاية ما يمكن أن يوجّه به هذا القول {و} لكن {التّحقيق} خلافه و{أنّ} مع الإتيان الأوّل لا يبقى مجال للثّاني، إذ {قضيّة الإطلاق} أي: إطلاق الطّبيعة وعدم تقييدها بالمرّة {إنّما هو جواز الإتيان بها مرّةً} واحدةً. نعم، هو مخيَّر في الإتيان بها {في ضمن فرد أو أفراد} في ما يمكن جمع أفرادها في الوجود، كما لو أمر

ص: 459

فيكون إيجادها في ضمنها نحواً من الامتثال، كإيجادها في ضمن الواحد، لا جواز الإتيان بها مرّةً ومرّاتٍ؛ فإنّه مع الإتيان بها مرّةً لا محالة يحصل الامتثال،ويسقط به الأمر، في ما إذا كان امتثال الأمر علّةً تامّةً لحصول الغرض الأقصى، بحيث يحصل بمجرّده، فلا يبقى معه

___________________

المولى بإطعام الفقير فأطعم في وقت واحد فقراء متعدّدة فإنّ كلّها امتثال، إذ لا أولويّة لكون بعض امتثالاً دون بعض {فيكون إيجادها في ضمنها} أي: إيجاد الطّبيعة في ضمن الأفراد العرضيّة {نحواً من الامتثال كإيجادها في ضمن} الفرد {الواحد} مع أنّ فيه أيضاً مناقشة، إذ كون الجميع امتثالاً غير معلوم بل الواحد على سبيل البدل {لا جواز الإتيان بها مرّةً ومرّاتٍ} تدريجاً، سواء كانت ممّا يمكن اجتماعها كالإطعام أو لا كالصيام، فلو أمر المولى بإطعام فقير أو صيام يوم ففعل ذلك مرّةً لم يبق مجال للامتثال الثّاني {فإنّه مع الإتيان بها} أي: بالطبيعة {مرّةً لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الأمر} لما تقدّم من أنّ الامتثال ملازم لسقوط الغرض الملازم لسقوط الأمر.

هذا {في ما إذا كان امتثال الأمر} أي: الإتيان بالمأمور به {علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى} وإنّما عبّر بالغرض الأقصى لأنّ الغرض على قسمين:

الأوّل: الغرض الابتدائي الّذي هو أوّل في التّصوّر وآخر في العمل.

الثّاني: الغرض الّذي هو مقدّمة لذلك الغرض.

مثلاً: الغرض المقدّمي للمولى من أمره بإحضار الماء هو حضور الماء عنده وغرضه الأقصى هو رفع عطشه، فإحضار العبد في هذا المثال ليس يترتّب عليه الغرض الأقصى بنحو العليّة، إذ هو متوقّف على ما هو خارج عن يد العبد - أعني: شرب المولى - وهذا بخلاف ما لو كان غرضه إيلام زيد فأمر عبده بضربه، فإنّالضّرب علّةٌ تامّة لحصول هذا الغرض {بحيث يحصل بمجرّده، فلا يبقى معه} أي:

ص: 460

مجال لإتيانه ثانياً بداعي امتثال آخر، أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالاً واحداً؛ لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها، وسقوط الغرض معها، وسقوط الأمر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلاً.

وأمّا إذا لم يكن الامتثال علّةً تامّةً لحصول الغرض، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضّأ، فأُتِيَ به ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلاً، فلا يبعد صحّة تبديل الامتثال بإتيان فردٍ آخَرَ أحسنَ منه، بل مطلقاً، كما كان له ذلك قبله، على ما يأتي بيانه في الإجزاء.

___________________

مع حصول الغرض {مجال لإتيانه} أي: إتيان الفعل المأمور به، كالضرب في المثال {ثانياً بداعي امتثال آخر} أو بداعي أن يكون الثّاني امتثالاً دون الأوّل {أو بداعي أن يكون} كلّ واحد من الإتيانين جزء الامتثال بحيث يسقط نصف الامتثال الأوّل عن كونه امتثالاً، فيكون {الإتيانان امتثالاً واحداً} وذلك {لما عرفت من حصول الموافقة} للأمر {بإتيانها} أي: الصّيغة {وسقوط الغرض معها} أي: مع الموافقة {وسقوط الأمر بسقوطه} أي: بسقوط الغرض {فلا يبقى مجال لامتثاله أصلاً} بعد سقوط الأمر لحصول الطّبيعة.

{وأمّا إذا لم يكن الامتثال} بالإتيان بالمأمور به {علّة تامّة لحصول الغرض} الأقصى {كما إذاأمر} المولى {بالماء ليشرب أو يتوضّأ} أو غيرهما ممّا يكون شيء آخر فاصلاً بين الامتثال وبين حصول الغرض الأقصى {فأتى} العبد {به} أي: بالماء {ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلاً} بحيث يحصل الغرض {فلا يبعد صحّة تبديل الامتثال} بأن يذهب بهذا الماء المأتي به ثمّ يبدله {بإتيان فرد آخر} من الطّبيعة {أحسن منه} أي: من الفرد الأوّل {بل مطلقاً} ولو كان مساوياً أو أدون {كما كان له} أي: للعبد {ذلك} أي: إتيان أيّ: فرد شاء {قبله} أي: قبل الإتيان بالفرد الأوّل {على ما يأتي بيانه في الإجزاء} إن شاء اللّه - تعالى - .

ص: 461

___________________

وإنّما قيّدنا صحّة التّبديل بصورة الذّهاب بالماء الأوّل؛ لأنّ في صورة عدمه لا يكون الثّاني امتثالاً، لما عرفت من أنّ الامتثال لا يكون بدون الأمر، أمّا مع الذّهاب به، فإنّه يعود الأمر لعود الغرض.

ثمّ إنّ هذا كلّه في مقام الثّبوت، وأمّا الإثبات فلا يمكن قصد التّبديل سواء أبطل الأوّل أم لا إلّا مع القطع بالغرض والقطع بعدم مضرّية إبطال الأوّل لاحتمال كونه مضرّاً، ألا ترى أنّه لو أمر المولى بضرب زيد فضربه ثمّ رآه العبد غير مؤدّب فاحتمل كون الأمر بالضرب للتأديب وبقاء غرض المولى لم يجز له الضّرب ثانياً تحصيلاً للغرض، فلو ضربه كان معاقباً إذا لم يكن الغرض التّأديب.

قال الفقيه الحاج آقا رضا الهمداني(قدس

سره) في كتاب الصّلاة: يجوز الاحتياط بقضاء صلاة احتمل اشتمالها على خلل ولو مع وجود دليل اجتهادي قاضٍ بصحّتها، أو احتمل بعد خروج الوقت فوتها أو شكّ في صحّتها بعد الفراغ، فإنّ رعاية الاحتياط بتحصيل القطع بالفراغ عمّا هو تكليفه في الواقع وإن كان معذوراً فيمخالفته في الظّاهر راجح عقلاً وشرعاً جزماً. ثمّ أورد على نفسه احتمال كونه تشريعاً، ودفعه بأنّه من باب الاحتياط، ثمّ استشهد بإعادة المنفرد صلاته جماعة الخ(1).

لكن للتوقّف في ذلك مجالاً، إذ مع احتمال ما تقدّم من المضرّية لا مجال للاحتياط مع أنّ العبادات توقيفيّة، وقد ورد النّهي في كثير من الموارد كتسمية النّبيّ(صلی

الله علیه و آله) بعض من صام في السّفر من العصاة(2)،

وكنهي الإمام(علیه السلام) عمّن زاد في الدّعاء كلمة و«الإبصار» بعد «يا مقلّب القلوب»(3)،

وكقول الحجّة(علیه السلام) في الرّدع:

ص: 462


1- مصباح الفقيه 10: 136.
2- وسائل الشّيعة 10: 200.
3- كمال الدين 2: 352.

المبحث التّاسع: الحقّ أنّه لا دلالة للصّيغة على الفور ولا على التّراخي. نعم، قضيّة إطلاقها جواز التّراخي.

والدّليل عليه: تبادُرُ طَلَبِ إيجاد الطّبيعة منها بلا دلالةٍ على تقييدها بأحدهما،

___________________

«لا لأمره تعقلون ولا من أوليائه تقبلون»(1)

الخ، مع بداهة أنّ كلّاً من هؤلاء كانوا يحتملون المحبوبيّة وفعلوا ما فعلوا رجاء الثّواب وإدراك الواقع، والاستشهاد بإعادة المنفرد بعد هذا الاحتمال المقرون بالشواهد المذكورة لا مجال له، فتدبّر، وللكلام مقام آخر.

[المبحث التّاسع:]

اشارة

الفور والتّراخي{المبحث التّاسع} اختلفوا في دلالة الأمر على الفور والتّراخي فذهب الشّيخ إلى الأوّل وجماعة إلى التّوقّف والسّيّد إلى الاشتراك بينهما، ثمّ اختلف أهل الوقف فبعض قال: يلزم التّقديم تحصيلاً للبراءة القطعيّة، وآخر قال بعكس ذلك، و{الحقّ} بطلان الجميع و{أنّه لا دلالة للصّيغة لا على الفور ولا على التّراخي} لا من جهة الاشتراك، بل لأنّها تدلّ على طلب الطّبيعة المجرّدة، كما تقدّم في بحث المرّة والتّكرار.

ثمّ النّزاع بيننا وبين صاحب الفصول في كون النّزاع في الهيئة أم لا كما تقدّم {نعم، قضيّة إطلاقها} وعدم تقييدها بأحدهما {جواز التّراخي} إذ لو كان المراد الفور كان على المولى البيان، فإنّ الفور قيد زائد على أصل الطّبيعة المدلولة للأمر فإنّ الطّبيعة كما تقدّم خالية عن جميع القيود {والدّليل عليه} أي: على عدم دلالة الصّيغة على أحدهما {تبادر طلب إيجاد الطّبيعة} فقط {منها بلا دلالة على تقييدها} أي: تقييد الطّبيعة {بأحدهما} من الفور والتّراخي، وحينما كانت الصّيغة

ص: 463


1- بحار الأنوار 53: 171.

فلا بدّ في التّقييد من دلالةٍ أُخرى، كما ادُّعِيَ دلالةُ غيرِ واحدٍ من الآيات على الفوريّة. وفيه منع؛ ضرورةَ أنّ سياق آية {وَسَارِعُوٓاْ إِلَى مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ}(1) وكذا آية {فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَتِۚ}(2) إنّما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة

___________________

غير دالّة على أحدهما {فلا بدّ في التّقييد} أي: لا بدّ لمن يدّعي كون الصّيغة تدلّ على الفور أو على التّراخي {من} إقامة {دلالة أُخرى} وبرهان من الخارج، بحيث يفيد ذلك البرهان على أنّ كلّ ما ورد من الأوامر الشّرعيّة يراد بها الفور أو يراد بها التّراخي.

والحاصل: أنّ المدّعي لأحدهما قد يتمسّك بظهور الصّيغة، وهذا مردود بما تقدّم من أنّ المتبادر صرف الطّبيعة، وقد يتمسّك بالأدلّة الخارجيّة {كما} أنّه تمسّك و{ادّعى دلالة غير واحد من الآيات على الفوريّة} قال في المعالم في عداد أدلّة القائلين بالفور: «الرّابع قوله - تعالى - : {وَسَارِعُوٓاْ إِلَى مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ} فإنّ المراد بالمغفرة سببها وهو فعل المأمور به لا حقيقتها؛ لأنّها فعل اللّه - سبحانه - فيستحيل مسارعة العبد إليها، وحينئذٍ فيجب المسارعة إلى فعل المأمور به.

وقوله - تعالى - : {فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَتِۚ} فإنّ فعل المأمور به من الخيرات فيجب الاستباق إليه، وإنّما يتحقّق المسارعة والاستباق بأن يفعل بالفور»(3).

{و} لكن {فيه} أي: في هذا المدّعى {منع} ظاهر {ضرورة أنّ سياق آية {وَسَارِعُوٓاْ إِلَى مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ} وكذا آية {فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَتِۚ} إنّما هو البعث} للعبد {نحو المسارعة إلى} سبب {المغفرة} الّذي هو أمران: التّوبة وفعل المأمور به.

ص: 464


1- سورة آل عمران، الآية: 133.
2- سورة البقرة، الآية: 148؛ سورة المائدة، الآية: 48.
3- معالم الدين: 57.

والاستباق إلى الخير، من دون استتباع تركهما للغضب والشّرّ؛ ضرورةَ أنّ تركهما لو كان مستتبعاً للغضب والشّرّ كان البعثبالتحذير عنهما أنسب، كما لا يخفى، فافهم.

مع لزوم كثرة تخصيصه

___________________

{و} كذا الآية الثّانية فإنّ سياقها البعث نحو {الاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشّرّ} فغاية ما تدلّ عليه الآيتان استحباب السّرعة والاستباق {ضرورة أنّ تركهما لو كان} سبباً للعقاب و{مستتبعاً للغضب والشّرّ كان البعث بالتحذير عنهما} أي: عن ترك المسارعة والاستباق {أنسب} كأن يقول: فليحذر الّذين لا يسارعون، و: فليخش الّذين لا يستبقون.

ووجه كون هذا أنسب يحتاج إلى مقدّمة مسلّمة عند المتأخّرين تقريباً، وهي: أنّ المولى لمّا وجب عليه بحكم العقل تقريب النّاس إلى الطّاعة وتبعيدهم عن المعصية ببيان التّكاليف - كما تقرّر ذلك في بيان قاعدة اللّطف - فاللّازم حينئذٍ بيان الأحكام بنحو مقرِّب، ففي المستحبّات يلزم بيان الثّواب لترغب النّفوس نحو تحصيله، وفي المحرّمات يلزم بيان العقاب أو عدم بيان شيء لتحذر النّفوس عن اقترافه، فمهما ورد أمر ذكر فيه بيان الثّواب فقط دلّ على الاستحباب لو لم يقع إجماع أو غيره على الوجوب وهكذا في طرف المكروه والمحرّم.

إذا عرفت ذلك اتضح لك أنّ الآيتين لمّا ذكر فيهما المغفرة والخيرات ناسبتا الاستحباب {كما لا يخفى} لدى التّأمّل {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ المقدّمة المذكورة غير تامّة، إذ كثيراً ما ورد الأمر الواجب مقروناً بالثواب والأمر الاستحبابي مجرّداً عن ذكره، ولو كان المناط ذكر الثّواب وعدمه لسقط ظهور الأمر في الوجوب - كما لا يخفى - .

{مع} أنّه لو كانت دلالة في الآيتين على الفور في مطلق الأمر لزمالاستهجان، بداهة {لزوم كثرة تخصيصه} أي: تخصيص ما استفيد من الآيتين

ص: 465

في المستحبّات وكثير من الواجبات، بل أكثرها، فلا بدّ من حمل الصّيغة فيهما على خصوص النَّدْبِ أو مطلق الطّلب.

ولا يبعد دعوى: استقلال العقل بحُسن المسارعة والاستباق، وكان ما ورد من الآيات والرّوايات الواردة في مقام البعث نحوه إرشاداً إلى ذلك - كالآيات والرّوايات الواردة في الحثّ على أصل الإطاعة - ، فيكون الأمر فيها لما يترتّب على المادّة بنفسها،

___________________

{في المستحبّات} الموسّعة والمضيّقة {وكثير من الواجبات، بل أكثرها} إذ الغالب عدم لزوم الفور {فلا بدّ} فراراً عن محذور الاستهجان {من حمل الصّيغة فيهما} أي: في الآيتين {على خصوص النّدب} فلا يفيد وجوب الفور الّذي هو مطلوب المستدل {أو} الحمل على {مطلق الطّلب} حتّى يطابق وجوب الفور في الواجبات المضيّقة واستحباب الفور في الواجبات الموسّعة والمستحبّات مضيّقها وموسّعها، وهذا أيضاً لا يفيد المستدل.

{ولا يبعد دعوى} كون الأمر في الآيتين للإرشاد لا للوجوب ولا للاستحباب لضرورة {استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق، و} المبادرة نحو الخير، فإنّ خير الخير ما كان عاجله.

وعلى هذا {كان ما ورد من الآيات والرّوايات الواردة في مقام البعث نحوه} أي: نحو الاستباق والمسارعة {إرشاداً} خبر «كان» {إلى ذلك} الحكم العقليفتكون هاتان الآيتان {كالآيات والرّوايات الواردة في الحثّ على أصل الإطاعة} كقوله - تعالى - : {يَٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(1) {فيكون الأمر فيها} أي: في تلك الآيات والرّوايات الواردة في الحثّ على المسارعة {لما يترتّب على المادّة بنفسها} مع قطع النّظر عن تعلّق الأمر بها

ص: 466


1- سورة النساء، الآية: 59.

ولو لم يكن هناك أمرٌ بها، كما هو الشّأن في الأوامر الإرشاديّة، فافهم.

___________________

{ولو لم يكن هناك أمر بها} أي: بالمادّة {كما هو الشّأن في الأوامر الإرشاديّة} فإنّ مادّتها لو كانت واجبة أفادت الوجوب ولو كانت مستحبّة كانت للاستحباب من دون مدخليّة للهيئة فيها {فافهم} إشارة إلى أنّ استقلال العقل بالحسن لا يكفي في كون الأمر للإرشاد.

ثمّ إنّ هذا المقام يتّضح ببيان أُمور ثلاثة:

الأوّل: توضيح الأمر الإرشادي وبيان الفرق بينه وبين الأمر المولوي.

الثّاني: بيان كون أوامر الإطاعة من الإرشاديّة لا المولويّة.

الثّالث: كون أوامر الاستباق كأوامر الطّاعة إرشاديّة.

أمّا المقام الأوّل، فنقول: للأمر مادّة وهي السّارية في جميع المشتقّات وهيئة تختصّ به، والمادّة تفيد متعلّق الإيجاب والهيئة تفيد الإيجاب، فلو قال المولى لعبده: (إضرب) أفاد وجوب الضّرب.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الأمر على قسمين: الأوّل الأمر المولوي، والثّاني الأمرالإرشادي.

فالأوّل: هو الّذي يترتّب على مخالفته العقاب وعلى إطاعته الثّواب، بحيث إنّه لولا الأمر لم يكن ثواب ولا عقاب.

والثّاني: هو الّذي لا يترتّب على موافقته الثواب ولا على مخالفته العقاب، بحيث إنّ وجود الأمر كعدمه، وإنّما يترتّب المصلحة على فعل المادّة والمفسدة على تركها، وذلك نحو قول الطّبيب للمريض: (إشرب المسهل) فإنّه لو لم يشرب لم يكن هناك عقاب، ولو شرب لم يكن هناك ثواب، وإنّما يترتّب على الشّرب مصلحة الصّحّة وعلى التّرك مفسدة المرض.

نعم، قد يجتمع المولويّة لهيئة الأمر والإرشاديّة لمادّته، كما لو قال المولى لعبده

ص: 467

___________________

المريض: (إشرب الدّواء) مع إيجابه عليه، فإنّه يترتّب على الشّرب الصّحّة والثّواب، وعلى التّرك المرض والعقاب.

ثمّ إنّه لو شكّ في أنّ الأمر مولويّ أو إرشاديّ لزم حمله على المولويّة - كما تقرّر في الكتب المفصّلة - .

ولا يذهب عليك أنّ الأمر الإرشادي يمكن أن يكون مع علم المأمور بمصلحة المادّة، كما في ما لو علم بمصلحة شرب الدّواء ولكن لا يشربه ويمكن أن يكون مع جهله.

ثمّ إنّ الأمر الإرشادي مستعمل في الطّلب لكن أُريد منه إفادة كون الفعل ذا مصلحة عائدة على المخاطب بطريق الكناية، نظراً إلى أنّ لازم كون الشّيء مطلوباً كونه ذا مصلحة، فهو من أقسام الإنشاء لا الإخبار.

وأمّا المقام الثّاني - وهو كون أوامر الطّاعة للإرشاديّة لا للمولويّة - فنقول:الأمر المولوي لا بدّ أن يكون باعثاً شأنيّاً للمكلّف نحو المادّة مع ترتّب الثّواب على الهيئة - كما تقدّم - فلو اختلّ أحد الشّرطين انقلب إلى الإرشاد، وأوامر الطّاعة حيث لا يترتّب على هيئتها الثّواب، ولا يكون لها باعثيّة فلا تكون مولويّة.

أمّا عدم ترتّب الثّواب على موافقتها، فلبداهة أنّ فعل الطّاعة كالصلاة - مثلاً - لا يكون له ثوابان ثواب أصل الصّلاة، - أعني: المرتّب على قوله: {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوةَ} - وثواب إطاعة الصّلاة، - أعني: المرتّب على قوله: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ} - .

وأمّا عدم باعثيّتها فلضرورة أنّ الأمر بالصلاة إن كان باعثاً لم يحتج إلى أمر آخر وكان لغواً، وإن لم يكن باعثاً لعصيان المكلّف لم يكن الأمر بالطاعة أيضاً باعثاً.

ولكن لي في هذين الكلامين تأمّلاً:

أمّا الأوّل: فلعدم محذور في ترتّب الثّوابين على أنّ الأدلّة الشّرعيّة تساعد ذلك،

ص: 468

تتمّة: بناءً على القول بالفور، فهل قضيّة الأمر الإتيان فوراً ففوراً - بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به فوراً أيضاً في الزّمان الثّاني - أو لا؟ وجهان مبنيّان على أنّ مفاد الصّيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب،

___________________

فقد ذكر الصّدوق - عليه الرّحمة - في كتاب ثواب الأعمال وعقابها(1)

رواية تدلّ على أنّ المطيع يعطى أجراً لكونه مطيعاً علاوة على أجر أصل الفعل، ولا يحضرني الآن حتّى أنقلها بلفظها.وأمّا الثّاني: فلإمكان الباعثيّة، إذ نرى في العرف أنّ المأمور قد لا ينبعث بمجرّد الأمر الأوّل ويحتاج إلى التّكرار، فتأمّل.

وأمّا المقام الثّالث - وهو كون أوامر الاستباق للإرشاد - : فلمّا ذكره المصنّف(رحمة الله) من أنّ العقل يحكم بحسن المسارعة كما يحكم بوجوب الإطاعة، فالأمر الوارد في مثله في الإرشاديّة.

وفي هذا أيضاً نظر، إذ الحكم العقلي بقبح شيء أو حسنه لا ينافي ورود الحكم الشّرعي على طبقه، كما نرى في الأمر بالإحسان والنّهي عن الظّلم، كما لا يخفى.

الإتيان فوراً ففوراً

{تتمّة} للقول بدلالة الأمر على الفور {بناءً على القول بالفور فهل قضيّة الأمر} أي: مقتضاه {الإتيان} بالفعل {فوراً ففوراً بحيث لو عصى} في الزّمان الأوّل {لوجب عليه} بمقتضى نفس الأمر الأوّل {الإتيان به فوراً أيضاً} كالزمان الأوّل {في الزّمان الثّاني} وهكذا بالنسبة إلى الزّمان الثّالث والرّابع {أو لا} يقتضي الأمر إلّا الإتيان فوراً، فلو عصى لم يجب الإتيان في الزّمان الثّاني أصلاً؟ {وجهان} بل قولان {مبنيّان على أنّ مفاد الصّيغة على هذا القول} أي: القول بالفور {هو وحدة المطلوب}

ص: 469


1- ورد: «... من قرأ كثيراً وتعاهده من شدّة حفظه، أعطاه اللّه أجر هذا مرّتين»، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: 101.

أو تعدّده؟

ولا يخفى: أنّه لو قيل بدلالتها على الفوريّة لما كان لها دلالةٌ على نحو المطلوب من وحدته أو تعدّده، فتدبّر جيّداً.

___________________

وهذا هو وجه القول الثّاني.وحاصله: أنّ الفوريّة مقوّمة لأصل المصلحة، فبفوات الفوريّة تفوت المصلحة؛ لأنّ معنى (إفعل) حينئذٍ: إفعل في الآن المتصل بزمان التّكلّم، فحين انقضاء ذلك الآن لا أمر فلا إطاعة {أو تعدّده} وهذا هو وجه القول الأوّل.

وحاصله: أنّ هناك مصلحتين: الأُولى: قائمة بذات الفعل في أيّ وقت وجد، والثّانية: قائمة بالفوريّة في الزّمان الأوّل، وحين انقضاء الزّمان الأوّل إنّما تفوت المصلحة الثّانية والمصلحة الأُولى باقية بحالها، فيجب تداركها، فتأمّل(1).

وقد يستدلّ لذلك: بأنّ الأمر يقتضي كون المأمور فاعلاً على الإطلاق، وذلك يوجب استمرار الأمر، وهناك احتمال ثالث وهو كون الأمر في أوّل الأزمنة يقتضي الفوريّة، فلو عصى كان مكلّفاً بالإتيان به في ما بعد، لا على الفور كما هو مقتضى القول الأوّل، ولا أنّه يسقط الأمر بالمرّة، كما هو مقتضى القول الثّاني.

{ولا يخفى أنّه لو قيل بدلالتها} أي: الصّيغة {على الفوريّة لما كان} جواب «لو» {لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته} الّذي هو مقتضى القول الثّاني {أو تعدّده} مع كونه في الآن الثّاني فوريّاً، أي: فوراً ففوراً كما هو مقتضى القول الأوّل، أو تعدّده مع كونه في الآن الثّاني مطلقاً، كما هو مقتضى القول الثّالث، وعلى هذا فالمرجع عند الشّكّ هو الأصول العمليّة إن لم تفد مقدّمات الحكمة شيئاً، والتّفصيل موكول إلى المفصّلات {فتدبّر جيّداً}.

ص: 470


1- وجه التّأمّل: أنّ وحدة المطلوب وتعدّده لا ترتبط بالفوريّة في الزّمان الثّاني، وإنّما ترتبط بأصل الفعل في الزّمان الثّاني.

الفصل الثّالث: الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة.وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النّقض والإبرام ينبغي تقديم أُمور:

أحدها: الظّاهر أنّ المراد من «وجهه» - في العنوان - هو النّهج الّذي ينبغي أن يؤتى به على ذلك النّهج شرعاً وعقلاً، مثل أن يؤتى به بقصد التّقرّب في العبادة.

___________________

[الفصل الثّالث] الإجزاء

اشارة

المقصد الأوّل: في الأوامر، الإجزاء

{الفصل الثّالث} من الفصول المذكورة في المقصد الأوّل المتعلّق بمباحث الأوامر، وفي هذا الفصل يبحث عن مسألة الإجزاء.

فاعلم أنّ {الإتيان بالمأمور به على وجهه} متعلّق بالإتيان {يقتضي الإجزاء في الجملة} إمّا متعلّق ب «يقتضي» فيكون المعنى اقتضاؤه في الجملة، أي: في بعض الموارد، فلا يقتضي الإجزاء في بعض الموارد الأُخر أصلاً.

وإمّا متعلّق بالإجزاء فيكون المعنى إجزاؤه في الجملة بالنسبة إلى مورد الإجزاء، بحيث إنّ الإتيان يكفي عن بعض الملاك ويبقى بعض الملاك غير حاصل، فتدبّر.

ثمّ إنّ اقتضاء الإتيان بالمأمور به الإجزاء في الجملة {بلا شبهة} من أحد، وإنّما الاختلاف في التّفاصيل، كما سيبيّن {وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النّقض والإبرام ينبغي تقديم أُمور} مهمّة:

{أحدها} في تفسير عنوان المبحث - أي: الكلمات الواقعة فيه - فنقول: {الظّاهر} أي: المكتشف لدى التّأمّل في هذا المبحث {أنّ المراد من} كلمة {«وجهه» في العنوان} المتقدّم {هو النّهج الّذي ينبغي} لزوماً {أن يؤتى به} أي:بالمأمور به {على ذلك النّهج شرعاً} من أجزاء المأمور به وشرائطه وغير ذلك ممّا اعتبره الشّارع مقوّماً له {وعقلاً} من الخصوصيّات المعتبرة لدى العقل {مثل أن يؤتى به} أي: بالمأمور به {بقصد التّقرّب في العبادة} وهذا مثال لما اعتبر عقلاً، وذلك

ص: 471

لا خصوص الكيفيّة المعتبرة في المأمور به شرعاً، فإنّه عليه يكون «على وجهه» قيداً توضيحيّاً، وهو بعيدٌ، مع أنّه يلزم خروج التّعبّديّات عن حريم النّزاع، بِناءً على المختار - كما تقدّم - من أنّ قصد القربة من كيفيّات الإطاعة عقلاً، لا من قيود المأمور به شرعاً.

___________________

لما تقدّم من أنّ قصد التّقرّب لا يمكن أخذه في المأمور به {لا} أنّ المراد بكلمة «وجهه» {خصوص الكيفيّة المعتبرة في المأمور به شرعاً} فقط بحيث لا يشمل الخصوصيّات العقليّة {فإنّه} علّة لقوله: «لا خصوص» الخ {عليه} أي: على أن يكون المراد ب «وجهه» خصوص الكيفيّات الشّرعيّة {يكون} قيد {«على وجهه» قيداً توضيحيّاً} فيكون تأكيداً، بخلاف ما لو كان قيد «على وجهه» أعمّ؛ لأنّه يكون حينئذٍ تأسيساً، والتّأسيس خير من التّأكيد.

وجه ذلك: أنّ ذكر المأمور به يشمل قيوده الشّرعيّة، فلو كان قيد «على وجهه» لإفادة هذا فقط كان مستغنى عنه، بخلاف القيود العقليّة فإنّ ذكر المأمور به لا يغني عنها {وهو} أي: كون القيد توضيحيّاً {بعيد} لا يصار إليه بدون ضرورة {مع أنّه} بناءً على كون المراد من القيد الكيفيّات الشّرعيّة فقط {يلزم} محذور آخر وهو {خروج التّعبديّات عن حريم} هذا {النّزاع} الواقع في الإجزاء {بناءً على} المذهب{المختار - كما تقدّم - من أنّ قصد القربة من كيفيّات الإطاعة عقلاً لا من قيود المأمور به شرعاً} وذلك لأنّ الآتي بالمأمور به العبادي مع جميع الأجزاء والشّرائط الشّرعيّة يصدق أنّه أتى بالمأمور به «على وجهه» مع أنّ هذا لا يقتضي الإجزاء قطعاً إذا كان بدون قصد التّقرّب، وإذا لم يكن مقتضياً للإجزاء إجماعاً لا معنى لكونه محلّ النّزاع بين القوم في الإجزاء وعدمه.

إن قلت: لا يلزم خروج التّعبديّات مطلقاً؛ لأنّه يبقى في مورد النّزاع ما كان مع قصد التّقرّب.

قلت: المفروض كون مصبّ النّزاع هو الإتيان بالمأمور به على وجهه فقط من

ص: 472

ولا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب(1)، فإنّه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلّا في خصوص العبادات، لا مطلق الواجبات - لا وجه لاختصاصه بالذّكر على تقدير الاعتبار؛

___________________

دون ضمّ شيء خارجي.

ثمّ إنّما قيّده المصنّف بقوله: «على المختار» لأنّه على قول من يرى كون قصد التّقرّب من كيفيّة المأمور به تكون العبادة داخلة في مورد النّزاع لشمول العنوان لها {ولا الوجه} عطف على قوله: «لا خصوص الكيفيّة» الخ، يعني ليس المراد من كلمة «وجهه» في العنوان خصوص الوجه {المعتبر عند بعض الأصحاب} أي: الوجوب والنّدب {فإنّه مع عدم اعتباره عند المعظم} فلا وجه لأخذه في عنوان النّزاع الواقعبين الكلّ، إذ لو كان المراد من الوجه الوجوب والنّدب كان هذا القيد في العنوان زائداً عند من لا يشترط قصدهما في العبادة وموجباً لتخصيص النّزاع بما إذا أتى بالعبادة بقصدهما، فيخرج عن مورد النّزاع ما إذا أتى بالعبادة بدونها مع أنّه من موضع النّزاع.

{و} مع {عدم اعتباره عند من اعتبره إلّا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات} هذا إشكالٌ ثانٍ على كون المراد من كلمة «وجهه» في العنوان الوجوب والنّدب.

وحاصله أنّه لو كان المراد من «وجهه» خصوصهما لزم خروج التّوصليّات عن محلّ النّزاع، إذ يصير النّزاع خاصّاً بالعبادة؛ لأنّ معنى العنوان حينئذٍ الإتيان بالمأمور به مع قصد الوجوب أو النّدب مقتضي للإجزاء، ومن البديهي أنّه حينئذٍ يكون المأمور به الّذي لا يقصد فيه أحدهما خارجاً {لا وجه لاختصاصه بالذكر} خبر قوله: «فإنّه مع» الخ وهذا إشكال ثالث، وحاصله أنّ ذكر هذا القيد {على تقدير الاعتبار} أي: اعتبار قصد الوجه في العبادة دون سائر القيود من القربة وغيرها

ص: 473


1- مفتاح الكرامة 2: 314.

فلا بدّ من إرادة ما يندرج فيه من المعنى، وهو ما ذكرناه، كما لا يخفى.

ثانيها: الظّاهر أنّ المراد من «الاقتضاء» هاهنا الاقتضاء بنحو العليّة والتّأثير، لا بنحو الكشف والدّلالة، ولذا نُسِبَ إلى الإتيان، لا إلى الصّيغة.

___________________

لا وجه له، وحين أبطلنا كون المراد من قيد ل«وجهه» خصوص الكيفيّة الشّرعيّة وكون المراد منه خصوص الوجوب والنّدب {فلا بدّ من إرادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه} فيعمّ جميع القيود الشّرعيّة والعقليّة ويعمّ العنوان العبادات والتّوصليّات، وفيهذا الكلام مواقع للنّظر {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ثانيها} في تفسير كلمة «الاقتضاء» الواقعة في عنوان المبحث {الظّاهر أنّ المراد من «الاقتضاء» هاهنا} في العنوان {الاقتضاء بنحو العليّة والتّأثير} فيكون الإتيان علّة تامّة للسّقوط {لا} أنّ المراد من الاقتضاء الاقتضاء {بنحو الكشف والدّلالة} فيكون الإتيان علّة للعلم بسقوطه {ولذا} لمّا كان الاقتضاء بنحو العليّة {نسب} اقتضاء الإجزاء {إلى الإتيان} فإن يقتضي خبر «الإتيان» {لا إلى الصّيغة} فلم يقل الصّيغة تقتضي الإجزاء، مع أنّه لو كان المراد من الاقتضاء الكشف والدّلالة لزم نسبة الاقتضاء إلى الصّيغة. توضيح ذلك أنّ للاقتضاء إطلاقين:

الأوّل: الاقتضاء بنحو الكشف، كما يقال: إنّ الآية الفلانيّة تقتضي الوجوب، يعني تكشف عن وجوب الحكم على المكلّف.

الثّاني: الاقتضاء بنحو العليّة كما يقال: النّار تقتضي الإحراق، والصّيغة حيث لا معنى لتأثيرها في الإجزاء فلا بدّ من حملها على الدّلالة، بخلاف الإتيان فإنّه حيث لا معنى لدلالته فلا بدّ من حمله على التّأثير.

قال السّيّد الحكيم: «وحيث إنّه لا معنى لتأثير الأمر في الإجزاء وجب حمله على الدّلالة، يعنى يدلّ الأمر على أنّ موضوعه وافٍ بتمام المصلحة، بخلاف الإتيان فإنّ تأثيره في الإجزاء ظاهر، إذ لولا كونه علّة لحصول الغرض لما كان

ص: 474

إن قلت: هذا إنّما يكون كذلك بالنّسبة إلى أمره، وأمّا بالنسبة إلى أمرٍ آخر - كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظّاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي - فالنّزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما علىاعتباره، بنحوٍ يفيد الإجزاء، أو بنحوٍ آخر لا يفيده.

___________________

مأموراً به»(1).

{إن قلت: هذا} الّذي ذكرتم من كون الاقتضاء بمعنى العليّة {إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره} إذ الإتيان علّة ومقتضي لسقوط الأمر المتعلّق بالمأتي به، مثلاً الإتيان بالفعل الاختياري مقتضي وعلّة لسقوط الأمر الاختياري والإتيان بالأمر الاضطراري علّةٌ لسقوط الأمر الاضطراري.

{وأمّا} الاقتضاء {بالنسبة إلى أمر آخر كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري، أو} الإتيان بالمأمور به بالأمر {الظّاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي} كأن يقال: الإتيان بالمأمور به بالأمر الظّاهري أو الاضطراري يقتضي الإجزاء أم لا؟ {فالنزاع} هنا ليس في الاقتضاء بمعنى العليّة بل محلّ الكلام {في الحقيقة في دلالة دليلهما} وأنّه هل يكشف الأمر الاضطراري والظّاهري {على اعتباره} أي: اعتبار دليلهما {بنحو يفيد الإجزاء} عن الأمر الواقعي {أو بنحو آخر لا يفيده} أي: لا يفيد الإجزاء، وتظهر الثّمرة في القضاء والإعادة، فلو صلّى بمقتضى استصحاب الطّهارة عن الخبث الّذي هو حكم ظاهري، أو صلّى بالصلاة الاضطراريّة بمقتضى أمره ثمّ تبيّن نجاسة ثوبه أو رفع الاضطرار، فعلى القول بالإجزاء وأنّ الأمر الظّاهري والاضطراري يكفي عن الأمر الواقعي لا يلزم القضاء والإعادة، وعلى القول بعدمالإجزاء يجب القضاء والإعادة، هذا مع قطع النّظر عن قاعدة الفراغ ونحوها.

ص: 475


1- حقائق الأصول 1: 192.

قلت: نعم، لكنّه لا ينافي كون النّزاع فيهما كان في الاقتضاء بمعنى المتقدّم، غايتُهُ

___________________

فتحصّل من هذا الإشكال: أنّ «الاقتضاء» في العنوان ليس بمعنى العليّة مطلقاً، بل يكون أعمّ من العليّة والكشف.

{قلت: نعم} إنّ النّزاع قد يكون في دلالة الدّليل. توضيحه: أنّ هنا مقامات أربعة حسب الحصر العقلي:

الأوّل: أنّ الإتيان بالأمر الواقعي علّة للإجزاء عن الأمر الواقعي.

الثّاني: أنّ الإتيان بالأمر غير الواقعي من الاضطراري والظّاهري علّة للإجزاء عن الأمر غير الواقعي، والاقتضاء في هذين المقامين بمعنى العليّة والنّزاع فيهما كبروي.

الثّالث: أنّ الأمر الواقعي كاشف عن أنّ موضوعه وافٍ بتمام مصلحة الأمر غير الواقعي من الاضطراري والظّاهري، أو وافٍ لمقدار لا يبقى مجال لاستيفاء الباقي.

الرّابع: أنّ الأمر غير الواقعي كاشف عن أنّ موضوعه وافٍ بتمام مصلحة الأمر الواقعي أو وافٍ لمقدار الخ، والاقتضاء في هذين المقامين بمعنى الكشف والدّلالة والنّزاع فيهما صغرويّ. وصورة القياس أنّ الأمر سواء كان واقعيّاً أم لا كاشف عن كون موضوعه وافٍ بتمام المصلحة أو بمقدار لا يبقى مجال لاستيفاء الباقي، وكلّ كاشف كذلك علّة للإجزاء.

إذا عرفت هذا قلنا: لم يقع النّزاع في المقام الثّالث أصلاً، فالنزاع في الأمر الواقعي كبرويّ فقط وهو المقام الأوّل، وفي الأمر غير الواقعي صغرويّ وهو المقام الرّابع وكبرويّ وهو المقام الثّاني.

ثمّ إنّ النّزاع في الصّغرى بالنسبة إلى الأمر الظّاهري والاضطراري وإن كانواقعاً {لكنّه لا ينافي كون النّزاع فيهما} كبرويّاً أيضاً بأن {كان في الاقتضاء بمعنى المتقدّم} أي: العليّة، فكون الاقتضاء بمعنى العليّة يكون في الأمر الظّاهري والاضطراري، كما يكون في الأمر الواقعي {غايته} أي: غاية المطلب أنّ النّزاع

ص: 476

أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما - هل أنّه على نحو يستقلّ العقل بأنّ الإتيان به موجب للإجزاء ويؤثّر فيه - وعدم دلالته، ويكون النّزاع فيه صغرويّاً أيضاً. بخلافه في الإجزاء بالإضافة إلى أمره، فإنّه لا يكون إلّا كبرويّاً لو كان هناك نزاع، كما نُقِلَ عن بعضٍ(1)،

___________________

الكبروي فيهما ناشٍ عن النّزاع الصّغروي، إذ {أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما} أي: في الأمر الظّاهري والاضطراري {إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما} فيبتنى النّزاع في الكبرى: أعني: الإجزاء - على النّزاع في الصّغرى - أعني: دلالة دليلهما {هل أنّه} أي: دليلهما {على نحوٍ يستقلّ العقل بأنّ الإتيان به موجب للإجزاء} بحيث لا يحتاج إلى الإعادة والقضاء {ويؤثّر فيه} أي: في الإجزاء {وعدم دلالته} أي: دليلهما للإجزاء.

والحاصل: أنّ إجزاء الأمر الاضطراري والظّاهري - وهو الكبرى - موقوف على إحراز الاشتمال على تمام مصلحة الواقع أو مقدار كافٍ منها بدلالة دليل الأمرين وهو الصّغرى {ويكون النّزاع فيه} أي: في إجزاء الأمر غير الواقعيبالنسبة إلى الأمر الواقعي {صغرويّاً} أي: في دلالة الدّليل {أيضاً} كما أنّه كبرويّ - أي: علّة لسقوط التّكليف بالواقع - {بخلافه} أي: بخلاف النّزاع {في الإجزاء} أي: إجزاء الأمر غير الواقعي {بالإضافة إلى أمره} بأن يكون الآتي بالأمر الاضطراري أو الظّاهري كافياً عن الإتيان بنفسه ثانياً {فإنّه لا يكون} النّزاع فيه {إلّا} في العليّة للسّقوط فيكون {كبرويّاً} فقط {لو كان هناك} في الكبرى {نزاع، كما نقل عن بعض}.

وهذا إشارة إلى أنّ النّزاع في الكبرى غير مهمّ، إذ العقل حاكم بأنّ الإتيان بمتعلّق كلّ أمرٍ مُجْزٍ بالنسبة إلى أمر نفسه ولا يحتاج إلى الإتيان ثانياً، نعم، خالف بعض العامّة هنا أيضاً ولا يعتدّ به.

ص: 477


1- مفاتيح الأصول: 126.

فافهم.

ثالثها: الظّاهر: أنّ «الإجزاء» هاهنا بمعناه لغةً؛ وهو الكفاية، وإن كان يختلف ما يكفي عنه؛ فإنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يكفي، فيسقط به التّعبّد به ثانياً، وبالأمر الاضطراري أو الظّاهري الجعلي فيسقط به القضاء،

___________________

ثمّ لا يذهب عليك أنّ النّزاع في الصّغرى ليس شأن الأصولي، فعلى تقدير تسليم كون النّزاع في الأمر الظّاهري والاضطراري في دلالة دليلهما لا يكون الاقتضاء في العنوان بمعنى الدّلالة؛ لأنّ الدّلالة مربوطة بالصّغرى، فلا يرد إيراد المستشكل على كلّ حالٍ، ويمكن أن يكون قوله: {فافهم} إشارة إلى هذا.

ثمّ لا يخفى أنّ خروج المقام الثّالث عن محلّ النّزاع ممّا لا وجه له لعدم معلوميّة إجزاء الإتيان بالأمر الواقعي عن الاضطراري، كما استشكل بعض في مسألة الوقوف بعرفات يوم التّاسع في ما اختلفت العامّة والخاصّة في الهلال،وكذا بعض المسائل الأُخر في التّقيّة، فراجع.

{ثالثها} أي: ثالث الأُمور الّتي نقدّمها على البحث في معنى كلمة «الإجزاء» في العنوان. {الظّاهر أنّ الإجزاء هاهنا} في عنوان البحث {بمعناه} المعروف {لغةً} وعرفاً {وهو الكفاية} وليس له معنى اصطلاحي، فيكون بمعنى سقوط القضاء أو سقوط التّعبّد، كما زعم {وإن كان يختلف ما يكفي عنه} الّذي هو متعلّق الكفاية والإجزاء {فإنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي} والظّاهري والاضطراري {يكفي} في مقام الامتثال {فيسقط به التّعبّد به ثانياً} فلا يجب الإتيان بالوضوء الظّاهري والاضطراري ثانياً، كما لا يجب الإتيان بالوضوء الواقعي ثانياً.

{و} الإتيان بالمأمور به {بالأمر الاضطراري أو الظّاهري الجعلي} يكفي {فيسقط به} أي: بهذا الإتيان {القضاء} وإنّما عبّر المصنّف في الأوّل بقوله: «فيسقط التّعبّد به» وفي الثّاني بقوله: «فيسقط به القضاء» مع أنّ سقوط التّعبّد والقضاء مشترك

ص: 478

لا أنّه يكون هاهنا اصطلاحاً - بمعنى إسقاط التّعبّد أو القضاء - ، فإنّه بعيد جدّاً.

___________________

بينهما؛ لأنّ الكلام في الأوّل كان في كفاية الإتيان بالأمر عن نفسه، ومن المعلوم أنّه لو أتى بالمأمور به سقط الغرض الباعث على الأمر، ولسقوط الغرض يسقط الأمر، وإذا سقط الأمر لم يكن مجال لإعادة الفعل إلّا بالتعبّد ثانياً، والمفروض أنّ الغرض حاصل فلا تعبّد ثانياً، وحيث لم يكن التّعبّد الثّانوي لم يكن مجال للقضاء أصلاً، إذ القضاء فرع التّعبّد الّذي هو فرع لبقاء الغرض.

والحاصل: أنّه مع ذكر سقوط التّعبّد لا يحتاج إلى ذكر سقوط القضاء.

هذا وجه الأوّل، وأمّا وجه الثّاني فلأنّ الكلام في كفاية الأمر غير الواقعي عنالأمر الواقعي، ومعلوم أنّ الكفاية ليست لأجل حصول الغرض بالتمام وإلّا لكان واجباً تخييراً من أوّل الأمر بين الواقعي وغيره، وحين لم يمكن استيفاء الغرض في حال الضّرورة وحالة التّكليف بالظاهر، فلو كان هناك شيء لكان عبارة عن القضاء الأعمّ من القضاء والإعادة، وأمّا التّعبّد ثانياً فلغو محض؛ لأنّه مع التّمكّن في الوقت وعدم حصول الغرض كانت الإعادة بالأمر الأوّل، ومعهما في خارج الوقت كان قضاءً لعدم حصول الغرض، ومع حصول الغرض لم تكن إعادة ولا قضاء، وعلى كلّ تقدير لم يكن تعبّد ثانٍ.

والحاصل: أنّه لا مجال للتعبّد الثّانوي في مقام الأمر الاضطراري والظّاهري، فتأمّل.

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ الاختلاف في ما عنه الكفاية {لا أنّه} اختلاف في نفس الكفاية فلا {يكون} الإجزاء {هاهنا} في صدر العنوان {اصطلاحاً} جديداً {بمعنى إسقاط التّعبّد، أو} بمعنى إسقاط {القضاء} الأعمّ من الإعادة {فإنّه بعيد جدّاً} إذ إرادة معنى جديد يحتاج إلى نقل ولا أقلّ من كونه مجازاً، وكلاهما خلاف الأصل - كما لا يخفى - .

ص: 479

رابعها: الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرّة والتّكرار لا يكاد يخفى؛ فإنّ البحث هاهنا في أنّ الإتيان بما هو المأمور به يجزي عقلاً؟ بخلافه في تلك المسألة، فإنّه في تعيين ما هو المأمور به شرعاً بحسب دلالة الصّيغة بنفسها، أو بدلالة أُخرى. نعم، كان التّكرار عملاً موافقاً لعدم الإجزاء، لكنّه لا بملاكه.

___________________

{رابعها} في بيان الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة المرّة والتّكرار دفعاًلتوهّم أنّ الإجزاء هو القول بالمرّة وعدم الإجزاء هو القول بالتكرار، ولكن هذا التّوهّم في كمال الفساد، إذ {الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرّة والتّكرار لا يكاد يخفى} بأدنى التفات {فإنّ البحث هاهنا} في مسألة الإجزاء {في} الأمر العقلي و{أنّ الإتيان بما هو المأمور به يجزي عقلاً} أم لا؟ {بخلافه في تلك المسألة، فإنّه} بحث لفظي، إذ الكلام في مسألة المرّة والتّكرار {في تعيين ما هو المأمور به شرعاً}.

والحاصل: أنّ النّزاع في بحث المرّة والتّكرار من صغريات بحث الإجزاء، وذلك أنّه سواء قلنا إنّ الأمر للمرّة أو قلنا إنّ الأمر للتكرار يلزم التّكلّم في أنّ إتيان الفعل مرّة أو مكرّراً مجزٍ أم لا، فللقائل بالمرّة في تلك المسألة أن يقول بالإجزاء وبعدمه في هذه المسألة، وكذا يقول بالتكرار جاز له القول بالإجزاء وعدمه في هذه المسألة، وإنّما قلنا من صغريات بحث الإجزاء؛ لأنّ الكلام في بحث المرّة والتّكرار {بحسب دلالة الصّيغة} على أحدهما {بنفسها أو بدلالة أُخرى} وقرينة خارجيّة عامّة، ومن البديهي أنّه لو لم يكن هناك لفظ أصلاً بأن استفيد الطّلب من الإجماع جرت مسألة الإجزاء.

{نعم، كان التّكرار عملاً موافقاً لعدم الإجزاء} لأنّه لو أجزأت المرأة الواحدة لم يكن مجال للتكرار، فالتكرار وعدم الإجزاء من حيث العمل سواء {لكنّه لا بملاكه} أي: لكن التّكرار ليس بملاك عدم الإجزاء، فإنّ ملاك التّكرار ظهور الأمر وملاك عدم الإجزاء حكم العقل.

ص: 480

وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعيّة القضاء للأداء؛ فإنّ البحث في تلكالمسألة في دلالة الصّيغة على التّبعيّة وعدمها. بخلاف هذه المسألة، فإنّه - كما عرفت - في أنّ الإتيان بالمأمور به يجزي عقلاً عن إتيانه ثانياً

___________________

قال في التّقريرات في الفرق بين المسألتين: «الكلام في مسألة المرّة والتّكرار إنّما هو في تشخيص مدلول الأمر من الدّلالة على المرّة والتّكرار أو عدم الدّلالة على شيء منهما، والكلام في المقام إنّما هو في أنّ الإتيان بمدلول الأمر على القول بالمرّة أو التّكرار أو الماهيّة هل يقتضي الكفاية والإجزاء عن الإتيان به على الوجوه ثانياً أو لا؟ فلا ربط بين المسألتين مفهوماً، وأمّا مصداقاً فقد يكون القول بعدم الإجزاء ملازماً للقول بالتكرار»(1).

{وهكذا الفرق بينها} أي: بين مسألة الإجزاء {وبين مسألة تبعيّة القضاء للأداء} لا يكاد يخفى وليس اتحاد بين المسألتين، كما زعم {فإنّ البحث في تلك المسألة في دلالة الصّيغة على التّبعيّة وعدمها} فالقائل بالتبعيّة يقول بتعدّد المطلوب وإنّ صيغة (إفعل) بمنزلة أن يقول المولى: (إفعل المطلوب في داخل الوقت، فإن فاتك فأت به في خارج الوقت) فالمطلوب متعدّد:

الأوّل: أصل الفعل في أيّ وقت اتفق، والثّاني: إتيان هذا المطلوب المطلق في حدّ ذاته داخل الوقت، وذلك حيث كان هناك غرض في أصل الفعل وغرض آخر في وقته.

والقائل بعدم التّبعيّة يقول بوحدة المطلوب وإنّ صيغة (إفعل) لا تدلّ إلّا على الإتيان بالمأمور به داخل الوقت فقط {بخلاف هذه المسألة} فإنّ مسألة الإجزاء بمنزلة الكبرى بالنسبة إلى مسألة التّبعيّة {فإنّه} أي: البحث{كما عرفت} سابقاً {في أنّ الإتيان بالمأمور به} سواء كان على نحو تعدّد المطلوب أو على نحو وحدة المطلوب {يجزي عقلاً عن إتيانه ثانياً} فبعد الإتيان الأوّل لا يجب إتيان آخر

ص: 481


1- مطارح الأنظار 1: 113.

- أداءً أو قضاءً - أو لا يجزي؟ فلا عُلْقَةَ بين المسألة والمسألتين أصلاً.

إذا عرفت هذه الأُمور، فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين:

الأوّل: إنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ، - بل بالأمر الاضطراري أو الظّاهري أيضاً - يُجزي عن التّعبّد به ثانياً؛

___________________

{أداءً} في داخل الوقت {أو قضاءً} في خارجه {أو لا يجزي} فيجب الإتيان ثانياً.

قال في التّقريرات: و«أمّا الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعيّة القضاء للأداء، فلا يكاد يخفى، إذ من المعلوم أنّ المراد بالقضاء في المقام هو الإتيان بالفعل ثانياً - سواء كان في الوقت أو في خارجه - بعد الإتيان به أوّلاً في الوقت، والمراد منه في تلك المسألة هو الإتيان بالفعل الفائت في الوقت، فما أبعد إحدى المسألتين من الأُخرى»(1)،

انتهى.

وبهذا كلّه ظهر افتراق المباحث الثّلاثة {فلا علقة بين المسألة} الإجزائيّة {و} بين {المسألتين} مسألة المرّة والتّكرار ومسألة التّبعيّة {أصلاً} وتبيّن أنّ النّسبة عموم من وجه اختياراً(2).{إذا عرفت هذه الأُمور} الأربعة {فتحقيق المقام} في الإجزاء وعدمه {يستدعي البحث والكلام في موضعين}:

الموضع {الأوّل}: في بيان كفاية كلّ ما أتى به عن أمر نفسه، وبذلك يسقط الغرض وبسقوط الغرض لا مجال للتعبّد ثانياً، فنقول: {إنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي، بل بالأمر الاضطراري أو الظّاهري أيضاً} كالأمر الواقعي {يجزي عن التّعبّد به ثانياً} وحيث لا تعبد فلا يجب الإتيان به ثانياً؛ لأنّ الأمر الأوّل ساقط حسب الفرض، والأمر الثّاني غير متحقّق فلا يلزم الفعل ثانياً، هذا كلّه بالنسبة

ص: 482


1- مطارح الأنظار 1: 114.
2- أي: من حيث صحّة اختيار كلّ شخص طرفاً من كلّ مسألة بلا تلازم أصلاً.

لاستقلال العقل بأنّه لا مجال - مع موافقة الأمر بإتيان المأمور به على وجهه - لاقتضاء التّعبّد به ثانياً.

نعم، لا يبعد أن يقال بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتّعبّد ثانياً، بدلاً عن التّعبّد به أوّلاً، لا منضمّاً إليه - كما أشرنا إليه في المسألة السّابقة - . وذلك في ما علم أنّ مجرّد امتثاله لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض،

___________________

إلى أمر نفسه، يعني لو أتى بالفعل الواقعي لا يلزم الإتيان بالفعل الواقعي ثانياً، وكذا لو أتى بالفعل الاضطراري أو الظّاهري لا يلزم الإتيان بالفعل كذلك ثانياً.

وإنّما أتى بكلمة «بل» فيهما لاحتمال التّوهّم البدوي بعدم الإجزاء فيهما دون الأمر الواقعي، فالإجزاء قطعيّ بديهيّ.

ولا يذهب عليك أنّ الكلام في ما لم يكن هناك غرض ثان وأمر ثان، وإلّا لكان هناك أمران ويلزمهما امتثالان، وهو خارج عن محلّ الكلام.ثمّ إنّا نقول بالإجزاء في الموارد المذكورة {لاستقلال العقل بأنّه لا مجال مع موافقة الأمر} الموجبة لحصول الغرض {بإتيان المأمور به على وجهه} المعتبر عقلاً وشرعاً، والجار الأوّل متعلّق بالموافقة والثّاني بالإتيان {لاقتضاء التّعبّد به} أي: بالمأمور به {ثانياً} وقوله: «لاقتضاء» متعلّق بقوله: «لا مجال».

والحاصل: أنّ الأمر مفروض السّقوط، ولا مجال للإتيان الثّاني لعدم بقاء الغرض.

{نعم، لا يبعد أن يقال بأنّه يكون للعبد} ويجوز له {تبديل} الفرد الّذي جاء به على وجه {الامتثال} بفرد آخر في ما أمكن {و} يكون {التّعبّد ثانياً بدلاً عن التّعبّد به أوّلاً} لعدم حصول الغرض {لا منضمّاً إليه} حتّى يكون امتثالان {كما أشرنا إليه} أي: إلى جواز تبديل الامتثال {في المسألة السّابقة} في التّنبيه المذكور في المبحث الثّامن {وذلك} التّبديل إنّما يجوز {في ما علم} من الخارج {أنّ مجرّد امتثاله} أي: امتثال الأمر {لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض} أو على نحو آخر بحيث

ص: 483

وإن كان وافياً به لو اكتفى به، كما إذا أتى بماءٍ أَمَرَ به مولاه ليشربه فلم يشربه بعدُ؛ فإنّ الأمر بحقيقته وملاكه فلم يسقط بعدُ، ولذا لو أُهرق الماء واطّلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً، كما إذا لم يأت به أوّلاً؛ ضرورةَ بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الدّاعي إليه، وإلّا لما أوجب حدوثه، فحينئذٍ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر

___________________

لا يمكن تبديله {وإن كان} وصليّة، أي: لا يكون الفعل علّة تامّة وإن كان {وافياً به} أي: بالغرض {لو اكتفى به} ولم يبدله بغيره {كما إذا أتى} العبد {بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه} المولى {بعد} - بالقطع عن الإضافة - {فإنّ الأمر بحقيقته وملاكه} عطف بيان {لم يسقط بعد} لبقاء الملاك، وهو الغرض الدّاعي إلى الأمر كرفع العطش في المثال {ولذا} الّذي ذكرنا من بقاء الملاك وعدم سقوط حقيقة الأمر {لو أهرق الماء واطّلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً} ويكون الحال بعد الإهراق في وجوب الإتيان {كما إذا لم يأت به أوّلاً}.

ثمّ بيان وجه وجوب الإتيان بعد الإهراق بقوله: {ضرورة بقاء طلبه} أي: طلب المولى للماء {ما لم يحصل غرضه} من رفع العطش {الدّاعي إليه} أي: إلى الأمر {وإلّا} فلو سقط الأمر مع بقاء الغرض {لما أوجب} الغرض {حدوثه} إذ عدم الأمر حينئذٍ يكشف عن عدم أهميّة الغرض بحيث يوجب الفعل، لكن فيه تأمّل، إذ يمكن تعارض الغرض بقاعدة التّسهيل على العبد بعد الإتيان الأوّل، فإنّ في الفعل مرّتين مشقّة ليست في المرّة الأُولى - كما لا يخفى - .

والحاصل: أنّ الإتيان الثّاني يحتاج إلى أمرين: بقاء الغرض وعدم مزاحمته بشيء موجب لعدم تأثيره في البعث {فحينئذٍ} أي: حين لم يكن الإتيان علّة تامّة لحصول الغرض {يكون له} أي: للعبد {الإتيان بماء آخر موافق للأمر} مع الذّهاب بالماء الأوّل وإلّا لم يصدق التّبديل، ويكون هذا الإتيان بالماء الثّاني

ص: 484

- كما كان له قبل إتيانه الأوّل - بدلاًعنه.

نعم، كان الإِتْيانُ علّةً تامّةً لحصول الغرض، فلا يبقى موقع للتّبديل، كما إذا أُمِرَ بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه.

بل لو لم يعلم أنّه من أيّ القبيل، فله التّبديل باحتمال أن لا يكون علّة، فله إليه سبيل.

ويؤيّد ذلك - بل يدلّ عليه - ما ورد من الرّوايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعةً، وأنّ الله - تعالى - يختار أحبّهما إليه(1).

___________________

{كما كان له} الإتيان به {قبل إتيانه الأوّل}.

مثلاً: لو أتى أوّلاً بالماء في الإناء الأحمر، ثمّ أتى بالماء في الإناء الأبيض، فإنّه يجوز هذا الإتيان الثّاني، كما كان يجوز له الإتيان بالأبيض من أوّل الأمر لكن في الصّورة الأُولى يكون الإناء الأبيض {بدلاً عنه} أي: عن الإتيان الأوّل وفي الصّورة الثّانية يكون مستقلّاً.

{نعم، في ما كان الإتيان} بالفعل {علّة تامّة لحصول الغرض} أو كان بحيث لا يمكن تبديله {فلا يبقى موقع للتبديل} وذلك {كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه} فإنّه لا موقع للتبديل {بل لو لم يعلم أنّه} أي: المأمور به {من أيّ القبيل} ممّا يجوز تبديله بأن لم يكن علّةً للغرض أو ممّا لا يجوز تبديله بأن كان علّة للغرض {فله التّبديل باحتمال أن لايكون} الفعل {علّة} تامّة لحصول الغرض {فله} أي: للعبد {إليه} أي: إلى التّبديل {سبيل} لكفاية الاحتمال هنا.

{ويؤيّد ذلك} الّذي ذكرنا من جواز تبديل الامتثال {بل يدلّ عليه ما ورد من الرّوايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعة وأنّ الله - تعالى - يختار أحبّهما إليه} كرواية أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللّه(علیه السلام): أُصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصّلاة

ص: 485


1- وسائل الشيعة 8: 401403.

الموضع الثّاني: وفيه مقامان:

المقام الأوّل: في أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ثانياً بعد رفع الاضطرار - في الوقت إعادةً وفي خارجه قضاءً - أو لا يجزي؟

تحقيق الكلام فيه يستدعي التّكلّم فيه:

تارةً في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء،

___________________

وقد صلّيتُ؟ فقال(علیه السلام): «صلّ معهم، يختار اللّه أحبّهما إليه»(1).

وفي مرسلة الصّدوق: «يحسب له أفضلهما وأتمّهما»(2).

ولا يذهب عليك أنّ هذه الرّوايات وأمثالها لا تدلّ على تبديل الامتثال في موردها فضلاً عن الدّلالة على التّبديل في غيره - كما لا يخفى - .

{الموضع الثّاني} في بيان كفاية كلّ من الأمر الاضطراري والظّاهري عن الأمر الواقعي وعدمها {وفيه مقامان}:{المقام الأوّل في} بيان {أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري} كالصلاة مع التّيمّم {هل يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي} كالصلاة مع الوضوء بحيث لا تجب الصّلاة الاختياريّة {ثانياً بعد رفع الاضطرار} سواء كان رفع الاضطرار {في الوقت} فلا تجب الصّلاة {إعادة} أ {و في خارجه} فلا تجب {قضاءً أو لا يجزي} الفعل الاضطراري عن الاختياري؟

و{تحقيق الكلام فيه} أي: في هذا المقام {يستدعي التّكلّم فيه تارة في} مقام الثّبوت، أي: {بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء} والوجوه من

ص: 486


1- تهذيب الأحكام 3: 270؛ الكافي 3: 379.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 384.

وبيان ما هو قضيّةُ كلٍّ منها من الإجزاء وعدمه.

وأُخرى في تعيين ما وقع عليه.

فاعلم: أنّه يمكن أن يكون التّكليف الاضطراري في حال الاضطرار - كالتكليف الاختياري في حال الاختيار - وافياً بتمام المصلحة وكفاياً في ما هو المهم والغرض. ويمكن أن لا يكون وافياً به كذلك، بل يبقى منه شيءٌ أمكن استيفاؤه، أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه، أو يكون بمقدار يستحب.

___________________

الوفاء بتمام المصلحة أو بعضها، وهكذا {وبيان ما هو قضيّة كلّ منها من الإجزاء وعدمه} بيان «ما» {و} التّكلّم تارة {أُخرى في} مقام الإثبات، أي: {تعيين ما وقع عليه} الأمر الاضطراري من الأنحاء في الشّريعة المقدّسة.إذا عرفت ذلك {فاعلم أنّه يمكن} في مقام الثّبوت {أن يكون التّكليف الاضطراري في حال الاضطرار} على خمسة وجوه:

الأوّل: أن يكون {كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافياً بتمام المصلحة} من غير نقص شيء {وكافياً في ما هو المهم} للمولى {و} ما هو {الغرض} له وإنّما لم يجب من أوّل الأمر تخييراً لعدم وفائه في حال الاختيار بتمام المصلحة.

{ويمكن أن لا يكون وافياً به} أي: بتمام المصلحة {كذلك} أي: كالقسم الأوّل الّذي كان وافياً {بل يبقى منه} أي: من تمام المصلحة {شيء} إمّا {أمكن استيفاؤه} وسيأتي {أو لا يمكن} استيفاؤه.

فحاصل القسم الثّاني هو: ما لا يكون وافياً بتمام الغرض وليس يمكن استيفاء الباقي مع حرمة التّفويت {وما أمكن} استيفاؤه على ضربين؛ لأنّه إمّا {كان بمقدار يجب تداركه} وهو الثّالث {أو يكون} الباقي {بمقدار يستحبّ} تداركه وهو القسم الرّابع.

الخامس: ما لا يكون وافياً بتمام الغرض وليس يمكن استيفاء الباقي مع عدم

ص: 487

ولا يخفى: أنّه إن كان وافياً به

___________________

حرمة التّفويت.

وإن شئت قلت: إنّ الفعل الاضطراري: إمّا أن يكون وافياً بتمام الغرض أو لا، وما لا يكون وافياً بتمام الغرض إمّا يمكن استيفاء الباقي أو لا، وما يمكن استيفاءالباقي إمّا أن يكون الاستيفاء واجباً أو مستحبّاً، وما لا يمكن استيفاء الباقي إمّا مع حرمة التّفويت أم لا.

مثلاً: لو فرض أنّ هناك مزرعة لزم سقيها بماء عذب ماؤه كرّ ثمّ لم يتمكّن السّاقي من ذلك واضطرّ إلى سقيها بالماء الأُجاج بذلك المقدار فهناك خمس صور:

الأوّل: أن يكون الأُجاج وافياً بتمام الغرض في هذا الحال.

الثّاني: أن يكون وافياً بنصف الغرض ويمكن استيفاء النّصف الآخر مع وجوبه.

الثّالث: إمكان الاستيفاء مع استحبابه.

الرّابع: أن يكون الأُجاج وافياً بنصف الغرض ولا يمكن استيفاء الباقي مع حرمة هذا التّفويت.

الخامس: عدم إمكان الاستيفاء بدون حرمة التّفويت.

هذا كلّه في مقام الثّبوت والواقع من جهة فرض الأقسام، وأمّا مواقع الكلام في هذه الأقسام الخمسة فثلاثة:

الأوّل: بيان أجزاء كلّ قسم وعدمه.

الثّاني: إمكان تشريع البدار في كلّ قسم وعدمه.

الثّالث: جواز تشريع التّخيير بين الاضطراري في الوقت والاختياري في خارجه في كلّ قسم وعدمه {ولا يخفى أنّه إن كان} الفعل الاضطراري {وافياً به}

ص: 488

فيجزي، فلا يبقى مجال أصلاً للتدارك، لا قضاء ولا إعادةً.

وكذا لو لم يكن وافياً، ولكن لا يمكن تداركه.

ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصّورةإلّا لمصلحة، كانت فيه؛ لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة، لولا مراعاة ما هو فيه من الأهمّ، فافهم.

لا يقال: عليه، فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار؛

___________________

أي: بتمام الغرض وهو القسم الأوّل {فيجزي} عن الواقع {فلا يبقى مجال أصلاً للتدارك لا قضاء ولا إعادة} وأمّا جواز البدار فسيشير إليه بقوله: «وأمّا تسويغ البدار» الخ وأمّا التّخيير فلا مانع منه في ما إذا كان مصلحة الوقت مكافئاً لمصلحة كمال الغرض.

{وكذا} يجزي الفعل الاضطراري {لو لم يكن وافياً ولكن لا يمكن تداركه} مع حرمة التّفويت، وهو القسم الثّاني في المتن والرّابع في الشّرح {ولا يكاد يسوغ له} أي: للمولى تجويز {البدار} والمسارعة بإتيان الفعل في أوّل الوقت {في هذه الصّورة} الثّانية {إلّا لمصلحة كانت فيه} أي: في البدار {لما فيه} أي: في تجويز البدار {من نقض الغرض} في ما لو بادر العبد ثمّ تمكّن من الفعل الاختياري، {و} ذلك لأنّ فيه {تفويت مقدار من المصلحة} غير المتداركة {لولا مراعاة} المولى {ما هو فيه} أي: المصلحة الّتي هي في البدار {من} فضيلة أوّل الوقت - مثلاً - الّتي هي {الأهم} من تلك المصلحة الفائتة، وأمّا التّخيير فلا مانع منه مع تكافئ المصلحتين - كما لا يخفى - {فافهم} لعلّه إشارة إلى القسم الخامس وأنّه يجوز تشريع البدار فيه، فليس قوله: «وكذا لم يكن وافياً» الخ على إطلاقه في عدم إمكان تشريع البدار.

{لا يقال: عليه} أي: بناء على فرض لزوم نقض الغرض من القسم الثّاني {فلا مجال لتشريعه} أي: تشريع هذا القسم{ولو} من دون بدار، أي: {بشرط الانتظار} إلى آخر الوقت.

ص: 489

لإمكان استيفاء الغرض بالقضاء.

فإنّه يقال: هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت.

وأمّا تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصّورة الأُولى، فيدورُ مدار كون العمل بمجرّد الاضطرار - مطلقاً، أو بشرط الانتظار،

___________________

والحاصل: أنّ البدل الاضطراري إذا كان غير واف بتمام الغرض الحاصل من الفعل الاختياري كيف يجوز تشريعه ولو في آخر الوقت، بل اللّازم عدم تشريعه أصلاً؟ {لإمكان استيفاء الغرض} بتمامه {بالقضاء} فمع إمكان الاستيفاء يكون في تشريع النّاقص نقضاً للغرض وهو قبيح.

{فإنّه يقال} في الجواب: {هذا} الّذي ذكرتم من عدم جواز التّشريع في القسم الثّاني {كذلك} كما ذكرتم صحيح {لولا المزاحمة بمصلحة الوقت} وأمّا لو زوحم بأن دار الأمر بين تشريع الفعل في الوقت الموجب لفوت بعض الغرض مع درك مصلحة الوقت وبين عدم تشريع الفعل، بل إيجاب القضاء الموجب لحصول تمام الغرض، لكن مع فوت مصلحة الوقت، فاللّازم حينئذٍ ملاحظة أهمّ هذين الأمرين، فإن كان الأوّل أهمّ شرع الأداء، وإن كان الثّاني أهم شرع القضاء وإن لم يكن أحدهما أهمّ، بل تكافي الأمران لزم التّخيير.

{وأمّا} ما أشرنا إليه سابقاً من {تسويغ} تجويز المولى {البدار} بالفعل {أو} عدم جواز تسويغه بل {إيجاب الانتظار} إلى آخر الوقت {في الصّورة الأُولى} وهي ما كان الفعل الاضطراري في الوقت وافياً بتمام الغرض {فيدور مدار} أحدالملاكات الثّلاث:

الأوّل: {كون العمل بمجرّد الاضطرار مطلقاً} سواء يَئِسَ عن طروّ الاختيار {أو} لا ذا مصلحة، وحينئذٍ يسوغ للمولى تجويز المبادرة إلى الفعل مطلقاً.

الثّاني: كون العمل {بشرط الانتظار} إلى آخر الوقت ذا مصلحة، وحينئذٍ فلا يسوغ

ص: 490

أو مع اليأس عن طروّ الاختيار - ذا مصلحة ووافياً بالغرض.

وإن لم يكن وافياً وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت، أو مطلقاً ولو بالقضاء خارج الوقت، فإن كان الباقي ممّا يجب تداركه فلا يجزي، فلا بدّ من إيجاب الإعادة أو القضاء، وإلّا فيجزي.

ولا مانع عن البدار في الصّورتين.

___________________

للمولى تجويز المبادرة إلى الفعل مطلقاً مع اليأس عن طروّ الاختيار {أو} بدونه.

الثّالث: كون العمل {مع اليأس} للعبد {عن طروّ الاختيار ذا مصلحة} بأن كان ليأس العبد مدخلاً في المصلحة، فإن يئس كان الفعل تامّ المصلحة {ووافياً بالغرض} وإن لم ييأس لم يكن الفعل وافياً، وحينئذٍ يسوغ للمولى تجويز البدار مع اليأس وعدم تجويزه مع عدم اليأس.

{وإن لم يكن} الفعل الاضطراري {وافياً} بتمام الغرض عطف على قوله: «ولا يخفى أنّه إن كان وافياً به فيجزي» الخ {وقد أمكن تدارك الباقي} الفائت {في الوقت} فقط دون خارج الوقت {أو} أمكن تدارك الفائت {مطلقاً ولو بالقضاء خارجالوقت} فله صورتان:

الأُولى: أن يكون الباقي واجب التّدارك.

الثّانية: أن يكون مستحبّ التّدارك، {فإن كان الباقي ممّا يجب تداركه} وهو القسم الثّالث في المتن والثّاني في الشّرح {فلا يجزي} الفعل الاضطراري وحينئذٍ {فلا بدّ من إيجاب الإعادة} إذا تمكّن في الوقت {أو القضاء} إذا تمكّن خارجه {وإلّا} بأن كان الباقي لا يجب تداركه، بل يستحبّ في ما كان الفعل وافياً ببعض الغرض وكان الباقي ممكن التّدارك وهو القسم الرّابع في المتن والثّالث في الشّرح {فيجزي} الفعل الاضطراري ولا مانع في عدم إيجاب القضاء والإعادة {ولا مانع عن} تسويغ المولى {البدار في الصّورتين} الثّالثة والرّابعة - أعني: صورتي

ص: 491

غاية الأمر يتخيّر في الصّورة الأُولى بين البدار والإتيان بعملين: - العمل الاضطراري في هذا الحال، والعملِ الاختياري بعد رفع الاضطرار - أو الانتظار والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار. وفي الصّورة الثّانية يتعيّن عليه البدار(1)،

ويستحبّ إعادته بعد طروّ الاختيار.

___________________

وجوب التّدارك واستحبابه - {غاية الأمر يتخيّر في الصّورة الأُولى} وهي الممكن التّدارك واجباً {بين البدار} بالفعل الاضطراري {و} ذلك بشرط {الإتيان بعملين} حتّى يحرز تمام المصلحة بعضها بسبب {العمل الاضطراري في هذا الحال} أي: أوّل الوقت وهو حال الاضطرار {و} بعضها الآخر بسبب{العمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو} بين {الانتظار} لوقت الاختيار {والاقتصار بإتيان ما هو تكليف} الشّخص {المختار} ووجه التّخيير واضح، إذ يمكن تحصيل الغرض في الصّورتين {وفي الصّورة الثّانية} وهي الممكن التّدارك مستحبّاً{يتعيّن عليه البدار} بالفعل الاضطراري بحيث يقع في الوقت ملاحظة لمصلحة الوقت {ويستحبّ إعادته بعد طروّ الاختيار(2)} في خارج الوقت لاستيفاء بقيّة المصلحة غير الملزمة.

وأمّا القسم الخامس: وهو ما لا يكون وافياً مع عدم حرمة تفويت الباقي - فإنّه يجزي الفعل الاضطراري لدرك المقدار اللّازم من المصلحة ويسوغ البدار في الوقت، وأمّا التّخيير بينه وبين خارج الوقت، فيتوقّف على تكافؤ مصلحة الوقت ومصلحة بقيّة الغرض.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ المصنّف استعمل البدار تارة بمعنى أوّل الوقت في قوله:

ص: 492


1- وفي النّسخة الأصليّة: «يتعيّن عليه استحباب البدار، وإعادته بعد طروء الاختيار».
2- ما ذكرناه من العبارة مطابق لكفاية القوچاني والمشكيني، وفي كفاية الحكيم العبارة هكذا: «يتعيّن عليه استحباب البدار» الخ، وفي كفاية الرّشتي هكذا: «البدار ويستحبّ الإعادة».

هذا كلّه في ما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الأنحاء.

وأمّا ما وقع عليه: فظاهر إطلاق دليله - مثل قوله، تعالى: {فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا}(1)، وقوله(علیه السلام): «التّراب أحد الطَّهُورين»(2)

و«يكفيك عشر سنين»(3) - هوالإجزاء

___________________

«ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصّورة» الخ، والدّليل على ذلك قوله بعد: «لا يقال عليه» الخ؛ لأنّه لو كان المراد من البدار الوقت كان معنى قول المصنّف(رحمة الله) لا يكاد يسوغ تشريع الفعل في الوقت فلا مجال لهذا الإشكال، وكذا المراد من البدار في قوله: «وأمّا تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار» الخ بقرينة قوله بعد: «أو بشرط الانتظار» الخ.

واستعمله تارة بمعنى تمام الوقت مقابل القضاء في قوله: «وفي الصّورة الثّانية يتعيّن عليه البدار» الخ، والدّليل على ذلك أنّ الصّورة الثّانية وهي الممكن التّدارك مستحبّاً لا يجب فعله في أوّل الوقت بل يجزي إتيانه في أيّ جزء من تمام الوقت.

وقد تحصّل ممّا ذكر أنّ الأقسام خمسة وأنّ في كلّ قسم جهات ثلاثة من الكلام الإجزاء وجواز البدار والتّخيير.

{هذا كلّه في ما يمكن أن يقع عليه} الفعل {الاضطراري من الأنحاء} في مقام الثّبوت {وأمّا ما وقع عليه} الفعل الاضطراري وثبت بالدليل النّقلي {فظاهر إطلاق} الدّليل في بعض الأوامر الاضطراريّة ما خلا التّيمّم ظاهر {دليله مثل قوله - تعالى - : {فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا} وقوله(علیه السلام): «التّراب أحد الطّهورين» و«يكفيك عشر سنين» هو الإجزاء}.

ص: 493


1- سورة النّساء، الآية: 43؛ سورة المائدة، الآية: 6.
2- الكافي 3: 64، وفيه: «إن التيمم...».
3- من لا يحضره الفقيه 1: 108، وفيه: «يكفيك الصعيد...».

وعدمُ وجوب الإعادة أو القضاء، ولا بدّ في إيجاب الإتيان به ثانياً من دلالة دليلبالخصوص.

وبالجملة: فالمتّبع هو الإطلاق لو كان، وإلّا فالأصل، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة؛ لكونه شكّاً في أصل التّكليف، وكذا من إيجاب القضاء بطريق أولى.

___________________

أمّا إطلاق الآية فحيث كان المولى في مقام البيان لتمام ما له دخل في حصول الغرض المترتّب على الفعل الاختياري ومع ذلك لم يأمر بالقضاء والإعادة كشف ذلك عن كفايته بهذا البدل، وأمّا إطلاق قوله(علیه السلام): «التّراب أحد الطّهورين»؛ فلأنّ إطلاق البدليّة يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه في جميع الآثار والخواص، وأمّا إطلاق قوله(علیه السلام): «يكفيك عشر سنين» فواضح وإن كان في الكلّ تأمّل.

وعلى كلّ حال فلو انعقد لدليل الاضطرار إطلاق كان مقتضاه هو الإجزاء {وعدم وجوب الإعادة} في الوقت لو تمكّن من الفعل الاختياري {أو القضاء} في خارجه كذلك.

{و} على هذا {لا بدّ في إيجاب} المولى {الإتيان به ثانياً} في حال الاختيار {من دلالة دليل بالخصوص} ولا يمكن الاكتفاء بإطلاق دليل المبدل، إذ هو ساقط لحكومة دليل البدل عليه.

{وبالجملة فالمتّبع هو الإطلاق} لدليل البدل المقتضي للإجزاء {لو كان} هناك إطلاق ولو مقاميّاً {وإلّا} يكن إطلاق لفظيّ أو مقامي {فالأصل} العملي يكون المرجع {وهو يقتضي البراءة من إيجاب} المولى {الإعادة} في الوقت {لكونه شكّاً في أصل التّكليف} إذ التّكليف الاختياري سقط بالاضطرار وعدم الإمكان، والتّكليف الاضطراري سقط بالإتيان.{وكذا} الأصل يقتضي البراءة {من إيجاب القضاء بطريق أولى} لأنّ عدم وجوب

ص: 494

نعم، لو دلّ دليله على أنّ سببه فوت الواقع - ولو لم يكن هو فريضة - كان القضاء واجباً عليه؛ لِتَحَقُّقِ سَبَبهِ وإن أتى بالغرض، لكنّه مجرّد الفرض.

___________________

الإعادة في الوقت في ما لو ارتفع الاضطرار يكشف عن وفاء الاضطرار بتمام الغرض ومع الوفاء بتمام الغرض لا مجال أصلاً لإيجاب القضاء، وهذا بخلاف العكس فإنّ عدم إيجاب القضاء لا يكشف عن عدم إيجاب الإعادة.

وإن شئت قلت: إنّه كلّما وجب القضاء وجبت الإعادة، وهذه قضيّة شرطيّة متصلة بحسب الفهم العرفي فتنتج وضع المقدّم ورفع التّالي، فتدبّر.

{نعم} قد لا يكون مسرح لأصل البراءة، وذلك في ما {لو دلّ دليله} أي: دليل القضاء {على أنّ سببه} أي: سبب القضاء {فوت الواقع} وعدم الإتيان به بحيث إنّه يجب القضاء كلّما لم يؤت بالواقع {ولو لم يكن هو فريضة} في حال الاضطرار {كان} جواب «نعم» {القضاء واجباً عليه لتحقّق سببه} الّذي هو عدم فعل الواقع {وإن أتى} المكلّف {بالغرض} الباعث للأمر الاختياري و{لكنّه} أي: كون دليل القضاء كذلك {مجرّد الفرض} والإمكان في مكان الواقع.

وأمّا ما ورد من الأدلّة فلا تدلّ إلّا على وجوب قضاء ما فات من الفريضة والمفروض في المقام عدم الفريضة، ففي النّبوي المشهور - كما في مصباح الفقيه - : «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته»(1)، وفي تعليقة العلّامة الرّشتيقوله(علیه السلام): «ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك»(2).

ولا يذهب عليك عدم تماميّة هذا الكلام، إذ ليس المراد من الحديث فوت الفريضة الفعليّة فقط، فإنّ النّائم - مثلاً - ليس عليه فريضة فعليّة، مع أنّهم يتمسّكون لوجوب القضاء عليه بهذا الحديث وكذا غيره من ذوي الأعذار، فراجع.

ص: 495


1- غوالي اللئالي 2: 54؛ مصباح الفقيه 6: 338.
2- شرح كفاية الأصول 1: 118.

المقام الثّاني: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظّاهريّ وعدمه.

___________________

{المقام الثّاني} من الموضع الثّاني {في} بيان {إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظّاهري} عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ثانياً - بعد كشف الواقع - في الوقت إعادة وفي خارجه قضاءً {وعدمه} فيجب الإعادة والقضاء بعد الانكشاف.

وقبل الشّروع في الكلام لا بدّ من بيان أقسام الحكم، فنقول: الحكم على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الحكم الواقعي وينقسم إلى أفراد طوليّة كالحكم الواقعي الاختياري والحكم الواقعي الاضطراري، فوجوب الصّلاة مع الطّهارة للشّخص المختار حكم واقعيّ أوّليّ ووجوبها، مع التّيمّم للمضطرّ حكم واقعيّ ثانوي، وهذا القسم من الأحكام لا يجوز للمكلّف إخراج نفسه من الأوّلي إلى الثّانوي، ولهذا سمّي طوليّاً.

وإلى أفراد عرضيّة كالحكم للحاضر والمسافر والغنيّ والفقير، فوجوب التّمام على الحاضر والخمس على الغني حكم لموضوع ووجوب القصر على المسافر وعدم وجوب الخمس على الفقير حكم لموضوع آخر، وهذا القسم من الأحكاميجوز للمكلّف إخراج نفسه من أحدهما إلى الآخر، ولهذا سمّي عرضيّاً.

الثّاني: الحكم الظّاهري وله إطلاقان: الأوّل ما كان للجهل مدخل فيه بخلاف الحكم الواقعي الّذي لا مدخل للجهل فيه.

ثمّ إنّ مدخليّة الجهل في الحكم الظّاهري قد يكون بنحوٍ أخذ ظرفاً وهي محلّ الأدلّة الاجتهاديّة، وتنقسم إلى الحكميّة كأخبار الآحاد والموضوعيّة كالبيّنة.

وقد يكون بنحو أخذ جزءاً للموضوع وهي مجرى الأصول العمليّة، وتنقسم إلى

ص: 496

والتّحقيق: أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التّكليف

___________________

ما له كشف ناقص عن الواقع، كالاستصحاب، وما ليس له ذلك، كالبراءة والاحتياط والتّخيير.

وتنقسم بتقسيم آخر إلى الأصول الحكميّة الكليّة، كحليّة شرب التّتن، والموضوعيّة الخارجيّة، كحليّة هذا البيع الموجود والحكميّة الجزئيّة، كأصل الصّحّة واليد وسوق المسلمين. الثّاني من إطلاقي الحكم الظّاهري إطلاقه على ما يقابل الأدلّة الاجتهاديّة، فتختصّ بموارد الأصول العمليّة فقط.

الثّالث: الحكم التّخيّلي كالقطع فإنّه ليس مجعولاً، بل هو طريق بنفسه - كما سيأتي في المجلّد الثّاني - إن شاء اللّه تعالى.

والمراد من الأمر الظّاهري في كلام المصنّف(رحمة الله) ما سوى الواقعي والتّخيّلي، أمّا الواقعي فاختياريّه خارج عن مبحث الإجزاء، واضطراريّه تقدّم الكلام فيه في المقام الأوّل، وأمّا التّخيّلي فسيأتي الكلام فيه في التّذنيب الأوّل، فالكلام الآن في الأمر الظّاهري بإطلاقه الأوّل، فاعلم أنّ الأمر الظّاهري على نحوين:الأوّل: الأصل وهو ما يكون مفاد دليله جعل نفس موضوع الحكم الشّرعي حقيقة - بمعنى الاتساع في موضوع الحكم - فلو قال: (صلّ مع طهارة اللّباس) ثمّ قال: (المشكوك طاهر) كان مفاد الدّليلين جواز الصّلاة في الطّاهر الواقعي ومشكوك الطّهارة.

الثّاني: الأمارة وهو ما يكون مفاد دليله ثبوت موضوعه الواقعي - بمعنى أنّ الشّارع جعل بعض الأُمور كاشفاً عن موضوع حكمه - فلو قال: (صلّ مع الوضوء) ثمّ قال: (البيّنة حجّة) لم يكن مفاد الدّليلين أزيد من جواز الصّلاة مع الوضوء الواقعي وإنّما البيّنة طريق إليه، كالقطع.

{و} إذا عرفت ما تقدّم، فاعلم {التّحقيق أنّ} الأمر الظّاهري {ما كان منه يجري} أي: يكون مجعولاً {في تنقيح ما هو موضوع التّكليف} وهو النّحو الأوّل

ص: 497

وتحقيق متعلّقه، وكان بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره - كقاعدة الطّهارة أو الحليّة، بل واستصحابهما، في وجهٍ قويّ، ونحوهما بالنّسبة إلى كلّ ما اشترط بالطّهارة أو الحليّة - يجزي؛ فإنّ دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط،

___________________

{وتحقيق متعلّقه و} ذلك بأن {كان} الأمر الظّاهري {بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره} أي: جزؤه {كقاعدة الطّهارة} أي: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» {أو} قاعدة {الحليّة} أي: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» {بل واستصحابهما} والفرق بين القاعدتين واستصحابهما أنّ القاعدة لا تحتاج إلى سابقة الطّهارة والحليّة والاستصحاب يحتاج إليها، وكلّما اجتمع الاستصحاب والقاعدة كان الاستصحاب مقدّماً؛ لأنّ الاستصحاب رافعلموضوع الشّكّ، وهذا بعكس استصحاب عدم الحجيّة والشّكّ في عدم الحجيّة فإنّ الاستصحاب ساقط، كما لا يخفى، إذ الأثر للشّكّ لا للمشكوك {في وجه قوي} وهو كون الاستصحاب جعل للمؤدّى كما هو مختار المصنّف(رحمة الله)، مقابل من يقول بأنّه تنزيل بلحاظ العمل {ونحوهما} أي: نحو القاعدتين والاستصحابين ممّا هو جعل لموضوع الحكم حقيقة، كقاعدة الفراغ {بالنسبة إلى كلّ ما اشترط بالطّهارة} عن الخبث {أو الحليّة} كالصلاة والطّواف ونحوهما، والجار في قوله: «بالنسبة» متعلّق بقوله: «كقاعدة الطّهارة» {يجزي} خبر قوله: «إنّ ما كان» {فإنّ} علّة للإجزاء {دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط} أي: دليل قاعدة الطّهارة والحليّة ونحوهما حاكم على دليل اشتراط الصّلاة بالطهارة الخبثيّة وحليّة لباس المصلّي ومكانه.

ومعنى الحكومة: أن يكون أحد الدّليلين ناظراً إلى الدّليل الآخر ويكون موسّعاً لموضوعه أو مضيِّقاً له، مثلاً: قال المولى: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (زيد عالم) - في ما كان جاهلاً خارجاً - كان قوله: (زيد عالم) حاكماً على دليل (أكرم

ص: 498

ومبيِّناً لدائرة الشّرط، وأنّه أعمّ من الطّهارة الواقعيّة والظّاهريّة، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنّسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل.

___________________

العلماء) لأنّه وسّع دائرة العلماء.

وهكذا لو قال بعد قوله: (أكرم العلماء): (عمرو ليس بعالم) - في ما كانعالماً خارجاً - فإنّه حاكم على دليل (أكرم العلماء) لأنّه ضيّق دائرة العلماء.

وفي ما نحن فيه كذلك، إذ الدّليل القائل بوجوب كون الصّلاة مع الطّهارة، ومع حليّة اللّباس محكوم بدليل «كلّ شيء لك طاهر» و«كلّ شيء لك حلال»، إذ هما يوسّعان دائرة الطّهارة والحليّة فكلّ من دليل القاعدتين يكون حاكماً موسّعاً {ومبيّناً لدائرة الشّرط} أي: شرط الطّهارة والحليّة في الصّلاة {وأنّه} أي: الشّرط {أعمّ من الطّهارة الواقعيّة} والحليّة الواقعيّة {و} من الطّهارة والحليّة {الظّاهريّة} ولو كان نجساً وحراماً واقعاً.

وعلى هذا التّقدير - وهو أن يكون الشّرط أعمّ من الواقع والظّاهر - {فانكشاف الخلاف فيه} أي: في الشّرط بأن تبيّن بعد الصّلاة نجاسة الثّوب المشكوك أو حرمته {لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه} حتّى تجب الإعادة والقضاء {بل} العمل بعد انكشاف الخلاف {بالنسبة إليه} أي: إلى الشّرط {يكون من قبيل ارتفاعه} أي: ارتفاع الحكم {من حين ارتفاع الجهل} فكما أنّ تبدّل الموضوع بموضوع آخر في سائر الموارد لا يضرّ بالعمل الّذي أتى به في حال وجود الموضوع الأوّل - مثل ما لو صلّى في السّفر ثمّ صار حاضراً فإن بدّل موضوع المسافر إلى الحاضر غير ضائر بالصلاة المأتي بها في حال السّفر - كذلك تبدّل الجهل بالنجاسة إلى العلم بها لا يضرّ بالعمل الّذي أتى به في حال الجهل، فالصلاة المأتي بها في حال الشّك في الحليّه صحيحة ولا تحتاج إلى الإعادة إذا تبيّن حرمة اللّباس.

ص: 499

وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنّه ما هو الشّرط واقعاً - كما هو لسان الأمارات - ، فلا يجزي؛ فإنّ دليل حجيّته حيث كان بلسان أنّه واجِدٌ لما هو شرطه الواقعيّ،فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقداً.

هذا على ما هو الأظهر الأقوى في الطّرق والأمارات، من أنّ حجيّتها ليست بنحو السّببيّة.

___________________

{وهذا} إنّما يتمّ في الأمر الظّاهري الّذي كان بلسان تحقيق شرط التّكليف وشطره {بخلاف ما كان منها} أي: من الأوامر الظّاهريّة {بلسان} الكشف عن الواقع {أنّه ما هو الشّرط واقعاً} وهو النّحو الثّاني على ما تقدّم {كما هو} أي: النّحو الثّاني {لسان الأمارات} كالبيّنة وغيرها، وكذلك الاستصحاب في وجه غير قوي عند المصنّف، فإنّ الأمارة إذا قامت على وجود الشّرط - مثلاً - ثمّ انكشف الخلاف {فلا يجزي} بل يجب الإتيان بالعمل ثانياً أداءً أو قضاءً، وذلك {فإنّ دليل حجيّته} أي: حجيّة النّحو الثّاني وهو مصداق ما في قوله: «ما كان منها بلسان» الخ {حيث كان بلسان أنّه واجد لما هو شرطه الواقعي} فإنّ البيّنة القائمة على كون زيد متوضّئاً تقول بوجود الوضوء الواقعي الّذي هو شرط الصّلاة {فبارتفاع الجهل} وتبيّن اشتباه البيّنة {ينكشف أنّه لم يكن} العمل {كذلك} واجداً للشّرط الواقعي {بل كان لشرطه فاقداً} فلم ينعقد العمل صحيحاً حتّى لا يجب التّدارك.

{هذا} أي: ما ذكرنا من عدم الإجزاء في ما كان بلسان أنّه ما هو الشّرط واقعاً مبنيّ {على ما هو الأظهر الأقوى} عندنا {في الطّرق والأمارات} والفرق بينهما أنّ الطّرق في الأحكام والأمارات في الموضوعات {من أنّ حجيّتها ليست بنحو السّببيّة}.اعلم أنّ التّعبّد بالأمر الظّنّي سواء كان في الأحكام أو في الموضوعات يتصوّر على وجهين:

ص: 500

وأمّا بناءً عليها - وأنّ العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره يصير حقيقة صحيحاً، كأنّه واجد له، مع كونه فاقِدَهُ - فيجزي لو كان الفاقد معه -

___________________

الأوّل: الطّريقيّة، وهو أنّه يجب العمل به لمجرّد كونه طريقاً إلى الواقع وكاشفاً ظنيّاً عنه، بحيث لم يلاحظ فيه سوى الكشف عن الواقع وإصابته، فإن صادفه أحرز مصلحة الواقع وإن لم يصادفه لم يكن له شيء.

الثّاني: السّببيّة، وهو أنّه يجب العمل به لأجل أنّه يحدث فيه بسبب قيام الطّريق مصلحة مساوية أو راجحة على المصلحة الواقعيّة الّتي تفوت عند مخالفة تلك الطّريق للواقع.

مثلاً: إذا أوجب المولى على عبده إطاعة زيد ثمّ أرشده زيد إلى إرادة المولى منه تحصيل الغِذاء الكذائي، فعلى الأوّل لو كان زيد خاطئاً لم يكن للعبد أجر تحصيل ذلك الغِذاء للمولى. نعم، لا يكون معاقباً حينئذٍ، وعلى الثّاني كان للعبد الأجر المساوي أو الأكثر على الأجر الّذي كان له لو صادف الواقع.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الإجزاء وعدمه مبتنٍ على القولين، فمن يقول بأنّ حجيّة الأمارات من باب الطّريقيّة - ومنهم المصنّف(رحمة الله) - يرى عدم الإجزاء في ما لو قامت الأمارة على شيء ثمّ تبيّن الخلاف، إذ المصلحة الواقعيّة غير محرزة والواقع على حاله.

{وأمّا بناءً عليها} أي: على السّببيّة وهو القول الثّاني {و} ذلك بمعنى {أنّ العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره يصير حقيقة صحيحاً}ويكون {كأنّه} أي: العمل {واجد له مع كونه فاقده} في الحقيقة، ففي الإجزاء وعدمه تفصيل، إذ الأقسام المتصوّرة حينئذٍ أربعة: لأنّ المأتيّ به إمّا وافٍ بتمام الغرض أو لا، وعلى الثّاني فالباقي من الغرض إمّا يمكن استيفاؤه أم لا، والممكن الاستيفاء إمّا واجب استيفاؤه أو مستحبّ {فيجزي لو كان الفاقد} للشّرط أو الشّطر {معه}

ص: 501

في هذا الحال - كالواجد، في كونه وافياً بتمام الغرض، ولا يجزي لو لم يكن كذلك.

ويجب الإتيان بالواجد لاستيفاء الباقي إن وجب، وإلّا لاستحبّ.

هذا مع إمكان استيفائه، وإلّا فلا مجال لإتيانه، كما عرفت في الأمر الاضطراري.

ولا يخفى: أنّ قضيّة إطلاق دليل الحجيّة على هذا هو الاجتزاء بموافقته أيضاً.

هذا في ما إذا أُحْرِزَ أنّ الحجيّة بنحو الكشف والطّريقيّة، أو بنحو الموضوعيّة والسّببيّة.

___________________

أي: مع كونه فاقداً {في هذا الحال} أي: في حال قيام الأمارة {كالواجد في كونه وافياً بتمام الغرض} وهي الصّورة الأُولى {ولا يجزي لو لم يكن} العمل الفاقد {كذلك} وافياً بتمام الغرض {و} حين عدم الوفاء بتمامه {يجب الإتيان بالواجد} ثانياً {لاستيفاء الباقي إن وجب} الاستيفاء وهي الصّورة الثّالثة {وإلّا} يجب الاستيفاء {لاستحبّ} الإتيان ثانياً وهي الصّورة الرّابعة.

{هذا} كلّه {مع إمكان استيفائه} الباقي {وإلّا} يمكن الاستيفاء {فلا مجال لإتيانه} ثانياً وهي الصّورة الثّانية {كماعرفت} الصّور الأربعة وأحكامها {في الأمر الاضطراري} فراجع، وفي كلام المصنّف مواقع للتأمّل.

{ولا يخفى أنّ} الاحتمالات وإن كانت أربعة في مقام الثّبوت لكن {قضيّة إطلاق دليل الحجيّة} للأمارة {على هذا} القول وهو السّببيّة {هو الاجتزاء بموافقته} أي: موافقة دليل الحجيّة {أيضاً} كما كان بعض صور مقام الثّبوت مقتضياً للإجزاء.

ثمّ {هذا} الكلام الّذي ذكرنا من عدم الإجزاء على الطّريقيّة والإجزاء على السّببيّة في بعض الصور {في ما إذا أحرز أنّ الحجيّة} في باب الطّرق والأمارات {بنحو الكشف والطّريقيّة} كما هو مسلك المشهور {أو بنحو الموضوعيّة والسّببيّة}

ص: 502

وأمّا إذا شكّ ولم يحرز أنّها على أيّ الوجهين، فأصالةُ عدم الإتيان بما يسقط معه التّكليف مقتضيةٌ للإعادة في الوقت.

واستصحاب عدم كون التّكليف بالواقع فعليّاً في الوقت لا يُجْدِي، ولا يُثبت كونَ ما أتى به مسقطاً، إلّا على القول بالأصل المثبت، وقد علم اشتغال ذمّته بما يشكّ في فراغها عنه

___________________

كما هو مسلك بعض {وأمّا إذا شكّ ولم يحرز أنّها} أي: الحجيّة {على أيّ الوجهين} من الطّريقيّة والموضوعيّة بعد إحراز الإجزاء بناءً على السّببيّة {فأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التّكليف} أي: بالفعل المسقط للأمر {مقتضية للإعادة في الوقت} في ما إذا انكشف الواقع بعد الإتيان بالفعل موافقاً للأمر الظّاهري، وذلك لأنّ الواقع لا يسقط عن الفعليّة بقيام الأمارة علىخلافها بناءً على الطّريقيّة وإن سقط عن التّخيير.

وعلى هذا فالتكليف مردّد بين الواقع على الطّريقيّة وبين الظّاهر على السّببيّة، فأصالة بقائه جارية {واستصحاب عدم كون التّكليف بالواقع فعليّاً في الوقت} بأن يقال: إنّه لو انكشف الخلاف في الوقت يرجع إلى استصحاب عدم فعليّة التّكليف، إذ في حال الجهل بالتكليف الواقعي وقيام الحجّة على خلافه لم يكن ملزماً بالإتيان بالواقع، فلو شكّ في صورة الانكشاف جرى الاستصحاب.

ولكن هذا الاستصحاب {لا يجدي ولا يُثْبِتُ كون ما أتى به مسقطاً} لأنّه من اللّوازم غير الشّرعيّة وهو لا يثبت الاستصحاب {إلّا على القول بالأصل المثبت} وهو خلاف التّحقيق، إذ الأصل كما ثبت في محلّه إنّما يترتّب عليه الآثار الشّرعيّة دون العادية والعقليّة، فاستصحاب عدم فعليّة التّكليف بالواقع لا يثبت إجزاء ما أتى به.

{و} على تقدير عدم إفادة الأصل الإجزاء كان اللّازم الإتيان بالفعل ثانياً؛ لأنّه {قد علم اشتغال ذمّته بما} أي: بتكليف {يشكّ في فراغها} أي: الذّمّة {عنه} أي:

ص: 503

بذلك المأتي.

وهذا بخلاف إذا علم أنّه مأمورٌ به واقعاً، وشكّ في أنّه يجزي عمّا هو المأمور به الواقعي الأوّلي - كما في الأوامر الاضطراريّة أو الظّاهريّة، بناءً على أن يكون الحجيّة على نحو السّببيّة - ، فقضيّة الأصل فيها - كما أشرنا إليه - عدمُ وجوب الإعادة؛ للإتيان بما اشتغلت به الذّمّة يقيناً،

___________________

عن ذلك التّكليف {بذلك} الفعل الظّاهري {المأتي} به، والمرجع في ذلك أصالة عدم الإتيان - كما لا يخفى - .

{وهذا} الّذي ذكرنا من كون الشّكّ في الإجزاء للشّكّ في الطّريقيّة والموضوعيّة مجراه الاشتغال {بخلاف} ما إذا كان الشّكّ في الإجزاء للشّكّ في وفاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظّاهري بناءً على السّببيّة، فإنّ المرجع فيهما البراءة بعد ارتفاع الاضطرار أو انكشاف الخلاف، وأشار إليه بقوله: بخلاف ما {إذا علم أنّه مأمور به واقعاً} ثانويّاً {وشكّ في أنّه يجزي عمّا هو المأمور به الواقعي الأوّلي} أم لا {كما في الأوامر الاضطراريّة أو} الأوامر {الظّاهريّة} وليس المراد بها الأمر الظّاهري بناءً على الطّريقيّة؛ لأنّه على هذا ليس مأموراً به بالأمر الواقعي، بل {بناءً على أن يكون الحجيّة} في الأوامر الظّاهريّة {على نحو السّببيّة} والموضوعيّة {فقضيّة الأصل فيها} أي: في الاضطراريّة والظّاهريّة {كما أشرنا إليه} في المقام الأوّل {عدم وجوب الإعادة} لو ارتفع الاضطرار وانكشف الواقع في الوقت.

والفرقُ بين الشّكّ في الطّريقيّة والسّببيّة، الموجب للإعادة، وبين الشّكّ بعد رفع الاضطرار وانكشاف الخلاف الّذي لا يوجب الإعادة: أنّه في الأوّل قطع بالاشتغال فيستصحب عدم إتيان متعلّقه، وأمّا الثّاني فلا يجب {للإتيان بما اشتغلت به الذّمّة يقيناً} من الأمر الاضطراري والظّاهري.

ص: 504

وأصالةِ عدم فعليّة التّكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف.

وأمّا القضاء به فلا يجب، بناءً على أنّه فرضٌ جديدٌ وكان الفوتُ المعلّق عليه وجوبهلا يثبت بأصالة عدم الإتيان إلّا على القول بالأصل المثبت، وإلّا فهو

___________________

{و} إن قلت: هنا أيضاً قطع بالاشتغال فيستصحب عدم إتيان متعلّقه.

قلت: بل الأمر بالعكس، إذ {أصالة عدم فعليّة التّكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف} محكمة - كما لا يخفى - .

هذا كلّه حال الأداء بالنسبة إلى الأُمور المذكورة {وأمّا القضاء به} فحاله حال الأداء بناءً على تبعيّة القضاء للأداء {فلا يجب} في بعض الصّور ويجب في بعضها الآخر على ما تقدّم، وعدم وجوبه يكون {بناءً على أنّه فرض جديد} وهذا هو الّذي اختاره المحقّقون.

{و} إن قلت: بل يجب القضاء وإن قلنا أنّه بأمر جديد؛ لأنّ الأصل عدم الإتيان بالتكليف، وإذا ثبت فوت التّكليف وانضمّ إليه قوله(علیه السلام) «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته»(1)، أنتج وجوب القضاء، فموضوع الوجوب - وهو الفوت - يثبت بالأصل ومحموله وهو الوجوب يثبت بالحديث.

قلت: موضوع قوله: «من فاتته» الخ {كان} هو {الفوت المعلّق عليه وجوبه} أي: وجوب القضاء، ومن الواضح أنّه أمر وجودي، وذلك {لا يثبت بأصالة عدم الإتيان إلّا على القول بالأصل المثبت} إذ استصحاب الأمر العدمي لإثبات أمر وجوديّ من أظهر مصاديق الأصل المثبت، بأن يقال: لم يأت بالتكليف، فثبت الفوت.

وقد تقدّم ويأتي عدم جريان الأصل، لإفادة لازمه العادي والعقلي {وإلّا} يكن الأمر كذلك، بأن كان القضاء تابعاً للأداء، أو قلنا بأنّ الفوت عبارة عن عدم الإتيان لا أنّه أمر وجودي، أو قلنا: إنّ الأصل المثبت حجّة {فهو} أي:القضاء

ص: 505


1- غوالي اللئالي 2: 54؛ و ورد بمضمونه في وسائل الشيعة 8: 268.

واجب، كما لا يخفى على المتأمّل، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّ هذا كلّه في ما يجري في متعلّق التّكاليف، من الأمارات الشّرعيّة والأصول العمليّة.

وأمّا ما يجري في إثبات أصل التّكليف - كما إذا قام الطّريق أو الأصلُ على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوبُ صلاة الظّهر في زمانها - فلا وجه لإجزائها مطلقاً،

___________________

{واجب} بعد رفع الاضطرار أو انكشاف الخلاف خارج الوقت {كما لا يخفى على المتأمّل} وذلك لعين الدّليل الّذي ذكر في الأداء.

{فتأمّل جيّداً} يمكن أن يكون وجهه ما أشار إليه السّيّد الحكيم بأنّ: «موضوع القضاء لا يختصّ بالفوت، بل المذكور في جملة من نصوصه نسيان الفريضة أو النّوم عنها أو نحو ذلك، ممّا يفهم منه كون الموضوع تركها في تمام الوقت، فلو جرت أصالة عدم الإتيان في نفسها كفت في وجوب القضاء»(1)،

فراجع.

{ثمّ إنّ هذا} الكلام الّذي ذكر بالنسبة إلى الإعادة والقضاء {كلّه في ما يجري في متعلّق التّكاليف} ثمّ بيّن مصداق كلمة «ما» في قوله: «في ما» بقوله: {من الأمارات الشّرعيّة والأصول العمليّة} أي: كان الكلام إلى الحال في الأمارات والأصول المتعلّقة بالموضوعات بعد الفراغ عن ثبوت أصل التّكليف.

{وأمّا ما يجري} من الأمارات والأصول {في إثباتأصل التّكليف كما إذا قام الطّريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظّهر في زمانها} سواء كان الانكشاف في الوقت أو في خارجه {فلا وجه لإجزائها} أي: صلاة الجمعة عن صلاة الظّهر {مطلقاً} سواء قلنا بالطريقيّة أم بالسببيّة:

أمّا إذا قلنا بالطريقيّة فواضح، إذ تبيّن خطأ الطّريق فلم يحرز المكلّف المصلحة

ص: 506


1- حقائق الأصول 1: 212.

غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة فيها أيضاً ذات مصلحة لذلك، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظّهر على ما هي عليه من المصلحة، كما لا يخفى، إلّا أن يقوم دليلٌ بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

___________________

الواقعيّة.

وأمّا إذا قلنا بالسببيّة فلأنّ قيام الطّريق إنّما تجعل الجمعة ذات مصلحة، لا أنّ الطّريق يسقط الغرض المتعلّق بصلاة الظّهر.

هذا كلّه في الأداء، وأمّا القضاء فلأنّ الواقع فائت قطعاً فيشمله قوله(علیه السلام): «من فاتته» الخ.

وإلى ما تقدّم من قولنا: «وأمّا إذا قلنا بالسببيّة فلأن» الخ أشار المصنّف بقوله: {غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة فيها} أي: في الجمعة يعني يومها {أيضاً ذات مصلحة} كما كان صلاة الظّهر ذات مصلحة {لذلك} أي: لأجل تعلّق الأمارة بوجوبها على تقدير القول بالسببيّة {ولا ينافي هذا} الّذي ذكرنا من صيرورة صلاة الجمعة ذات مصلحة {بقاء صلاة الظّهر على ما هي عليه} في الواقع {منالمصلحة} لعدم المحذور في اجتماع المصلحتين الملزمتين في يوم واحد {كما لا يخفى} فمصلحة الظّهر واقعيّة ومصلحة الجمعة سببيّة {إلّا أن يقوم دليل بالخصوص} من الخارج {على عدم وجوب صلاتين} الأعمّ من الوجوب الواقعي والأماري {في يوم واحد} إذ لو قام دليل كذلك وقع التّنافي بين وجوب الظّهر بعد وجوب الجمعة، فإذا ثبت وجوب إحداهما بالأصل أو الأمارة ثبت عدم وجوب الأُخرى، فحيث أتى بالجمعة ثمّ انكشف الخلاف لم تجب الظّهر لا أداءً ولا قضاءً؛ لأنّ وجوب إحداهما يلازم عدم وجوب الأُخرى حسب الفرض، لكن ليس في الأدلّة ما يفيد ذلك، إذ غاية ما يستفاد من الضّرورة أو الإجماع عدم وجوب صلاتين واقعيّتين في يوم واحد لا عدم الوجوب في الأعمّ من الواقعي والأماري، فلاحظ.

ص: 507

تذنيبان:

الأوّل: لا ينبغي توهّم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ؛ فإنّه لا يكون موافقة للأمر فيها، وبقي الأمر بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن يخفى.

نعم، ربّما يكون ما قطع بكونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة في هذا الحال، أو على مقدارٍ منها ولو في غير الحال،

___________________

[تذنيبان]

{تذنيبان} (التّذنيب) جعل الشّيء ذُنابةً للشّيء، وعن الصّحاح: الذّناب - بالكسر - عقيب كلّ شيء، وذنابة الوادي: الموضع الّذي ينتهي إليه سيله، وكذا الذّنابة - بالضمّ - ، والذّانب: التّابع(1).التّذنيب {الأوّل} في الأمر التخيّلي {لا ينبغي توهّم الإجزاء في} ما لو فعل بسبب {القطع بالأمر} فإنّه لا يجزي {في صورة} كشف {الخطأ، فإنّه} أي: الفعل المأتي به {لا يكون موافقة للأمر فيها} أي: في صورة الخطأ {وبقي الأمر} الواقعي {بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن يخفى} إذ القطع إنّما هو منجّز في صورة الإصابة ومعذّر في صورة الخطأ - كما تقرّر في محلّه - والإجزاء إنّما يكون في ما لو كشف الأمر الشّرعي عن مصلحة في متعلّقه، فحيث لا أمر كما في صورة القطع لا إجزاء بعد انكشاف الخطأ.

{نعم، ربّما يكون ما قطع بكونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة في هذا الحال} أي: حال القطع.

وإنّما قيّده بذلك؛ لأنّ المقطوع لو كان مشتملاً على المصلحة مطلقاً كان واجباً في عرض الواجب الواقعي، فكان الإجزاء فيه معلوماً {أو} كان المقطوع مشتملاً {على مقدار منها} أي: المصلحة الواقعيّة {ولو في غير الحال} أي: غير حال

ص: 508


1- الصحاح 1: 125.

غير ممكن مع استيفائه استيفاءُ الباقي منه، ومعه لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي، وهكذا الحال في الطّرق.

فالإجزاء ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعي أو الطّريقي للإجزاء، بل إنّما هو لخصوصيّة اتفاقيّة في متعلّقهما،

___________________

القطع بأن كان مشتملاً على بعض المصلحة في كلّ حال حال القطع وعدمه لكن بشرطين:الأوّل: أن لا يكون هذا المقدار من المصلحة وافياً بالغرض.

الثّاني: أن يكون هذا المقدار {غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منه}.

أمّا الأوّل، فلأنّه لو كان وافياً بالغرض كان واجباً تخييراً بينه وبين الواجب الواقعي.

وأمّا الثّاني، فلأنّه لو كان الباقي ممكن الاستيفاء لكان اللّازم التّخيير دائماً بين الواقع وبين متعلّق القطع بشرط استيفاء الباقي.

{ومعه} أي: مع كون المقطوع به مشتملاً على تمام المصلحة أو على مقدار لا يمكن استيفاء الباقي {لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي} بعد الإتيان بالمقطوع ويكون مجزياً في الصّورتين {وهكذا الحال في الطّرق} فلو قطع بطريقيّة شيء ثمّ عمل على طبقه فإن كان بلا مصلحة لم يُجْزِ، وإن كان في حال القطع ذا مصلحة أو وافياً ببعض المصلحة في جميع الأحوال أجزأ.

والحاصل: أنّه لا يفرق بين كون متعلّق القطع طريقاً وبين كونه حكماً {فالإجزاء} في الصّورتين {ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعي} في القطع بالحكم {أو الطّريقي} في القطع بالطريق {للإجزاء} كما توهّم بعض {بل} الإجزاء {إنّما هو لخصوصيّة اتفاقيّة} وصدفة {في متعلّقهما} أي: متعلّق القطع بالحكم أو الطّريق، والخصوصيّة الاتفاقيّة ما تقدّم من الاشتمال على المصلحة في حال القطع أو على بعضها دائماً بحيث لا يمكن استيفاء الباقي

ص: 509

كما في الإتمام والقصر، والإخفات والجهر.

الثّاني: لا يذهب عليك أنّ الإجزاء في بعض موارد الأصول والطّرق والأمارات - على ما عرفت تفصيله - لا يوجبُ التّصويبَ المجمعَعلى بطلانه

___________________

{كما في الإتمام والقصر والإخفات والجهر} فمن أتمّ في موضوع القصر جاهلاً أجزء.

وكذا لو جهر في موضع الإخفات نسياناً أو أخفت في موضع الجهر ولا يجب الإعادة ولا القضاء لو علم بعد ذلك أو تذكّر، ويدلّ على الحكم الأوّل - قبل الإجماع - روايات:

منها: صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم، عن الباقر(علیه السلام) قالا: قلنا رجل صلّى في السّفر أربعاً أيُعيد أم لا؟ قال: «إن كان قُرئت عليه آية التّقصير وفُسِّرت له فصلّى أربعاً أعاد، وإن لم يكن قُرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة»(1).

ويدلّ على الحكم الثّاني - قبل إجماع التذكرة والرّياض(2)

وعدم الخلاف فيه في الجملة - صحيحة زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام) في رجل جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه؟ فقال: «أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، وإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته»(3).

التّذنيب {الثّاني} في بيان عدم المنافاة بين التخطئة والإجزاء {لا يذهب عليك أنّ الإجزاء في بعض موارد الأصول والطّرق والأمارات} كما تقدّم {على ما عرفت تفصيله لا يوجب التّصويب المجمع على بطلانه} وبيانه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ الشّيعة ذهبوا إلى التّخطئةوالعامّة ذهبوا إلى التّصويب، فالأوّلون قائلون

ص: 510


1- تهذيب الأحكام 3: 226؛ من لا يحضره الفقيه 1: 435.
2- تذكرة الفقهاء 3: 153؛ رياض المسائل 3: 162.
3- تهذيب الأحكام 2: 162؛ من لا يحضره الفقيه 1: 344.

___________________

بعدم إصابة كلّ مجتهد، بل المجتهد عندهم قد يكون مصيباً وقد لا يكون؛ لأنّه لا يكون عنده الحكم معلوماً، والآخرون يقولون بإصابة كلّ مجتهد، والتّصويب على أقسام ذكرها المشكيني في حاشية هذا المقام(1)،

والمجمع على بطلانه منها هو خلوّ الواقعة عن الحكم غير ما أدّت إليه الأمارة، والأخبار ببطلان هذا القسم متظافرة والإجماع محقّق، ولا بأس بذكر رواية منها:

قال أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليه - كما في نهج البلاغة وغيره: «ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعاً، وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد، أفأمرهم اللّه - سبحانه - بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه ديناً تامّاً فقصّر الرّسول(صلی الله علیه و آله) عن تبليغه وأدائه؟ واللّه - سبحانه - يقول: {مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَبِ مِن شَيۡءٖۚ}(2) وفيه تبيان كلّ شيء، وذكر أنّ الكتاب يصدِّق بعضه بعضاً وأنّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: {وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَفٗا كَثِيرٗا}(3) وأنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظّلمات إلّا به»(4).أقول: لا يخفى أنّ هذا الكلام لا يشمل فقهاء الشّيعة المختلفين بوجهٍ أصلاً بقرينة قوله(علیه السلام): «فيصوّب آراءهم» فإنّه طريق المصوّبة لا المخطئة. وللعلّامة المجلسي(رحمة

الله)

ص: 511


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 443.
2- سورة الأنعام، الآية: 38.
3- سورة النّساء، الآية: 82.
4- نهج البلاغة، الخطبة: 18.

في تلك الموارد؛ فإنّ الحكم الواقعي بمرتبته محفوظٌ فيها؛ فإنّ الحكم المشترك بين العالم والجاهل، والملتفت والغافل، ليس إلّا الحكم الإنشائيّ المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأوّليّة، بحسب ما يكون فيها من المقتضيات، وهو ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الأمارات. وإنّما المنفي فيها ليس إلّا الحكم الفعلي البعثي،

___________________

هنا بيان(1)

ذكره يوجب التّطويل.

إذا عرفت ما ذكرناه فنقول: حكي عن تمهيد القواعد أنّ الإجزاء لازم مساوٍ للتصويب الباطل، وعدمه لازم مساوٍ للتخطئة، ولكنّه غير مستقيم، إذ الإجزاء {في تلك الموارد} المتقدّمة لا يوجب التّصويب، إذ التّصويب يلازم عدم الحكم الواقعي والإجزاء بالعكس {فإنّ الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ فيها} أي: في موارد الإجزاء {فإنّ الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ليس إلّا الحكم الإنشائي} ويقول به المخطئة حتّى في موارد الإجزاء.

بيان ذلك: أنّ للحكم مراتب أربع كما سيأتي: الاقتضاء والإنشاء والفعليّة والتّنجّز، والمخطئة مطبقون على وجود الحكم الإنشائي {المدلولعليه بالخطابات المشتملة على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأوليّة} لا الثّانويّة كالحرج والاضطرار ونحوهما، فالحكم للموضوعات موجود {بحسب ما يكون فيها من المقتضيات} فالموضوع المقتضي للوجوب محكوم عليه بالوجوب إنشاءً، والموضوع المقتضي للحرمة محكوم عليه بالحرمة كذلك، وكذا موضوعات سائر الأحكام {وهو} أي: الحكم الإنشائي {ثابت في تلك الموارد} أي: موارد الأجزاء المتقدّمة {كسائر موارد الأمارات} الّتي لا نقول بالإجزاء فيها {وإنّما المنفي فيها} أي: في موارد الأمارات غير المصيبة {ليس إلّا الحكم الفعلي البعثي} فلا

ص: 512


1- بحار الأنوار 2: 284.

وهو منفيّ في غير موارد الإصابة، وإن لم نقل بالإجزاء.

فلا فرق بين الإجزاء وعدمه إلّا في سقوط التّكليف بالواقع بموافقة الأمر الظّاهري، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم الإصابة.

وسقوطُ التّكليف - بحصول غرضه، أو لعدم إمكان تحصيله - غيرُ التّصويب المجمع على بطلانه - وهو خلوّ الواقعة عن الحكم غير ما أدّت إليه الأمارة - كيف؟ وكان الجهل بها - بخصوصيّتها

___________________

بعث فعلاً لا أنّه لا حكم كما تقول المصوّبة {و} عدم الحكم الفعلي في موارد الإجزاء غير مستغرب، بل {هو} أي: الحكم الفعلي {منفيّ في غير موارد الإصابة} للأمارة مطلقاً {وإن لم نقل بالإجزاء} إذ الحكم إنّما يصير فعليّاً إذا كان هناك بيان، والمفروض عدم البيان بالنسبة إلى الحكم الواقعي في مورد أدّت الأمارة إلى خلافه {فلا فرق} في مورد خطأ الأمارة {بين الإجزاء وعدمه} في عدمالحكم الفعلي {إلّا} أنّ الفرق بينهما موجود {في} أمر آخر وهو {سقوط التّكليف بالواقع بموافقة الأمر الظّاهري} في مورد الإجزاء {وعدم سقوطه} في غيره، وقوله: {بعد انكشاف عدم الإصابة} تنازع فيه قوله: «إلّا في سقوط التّكليف» وقوله: «وعدم سقوطه» أي: يتبيّن السّقوط وعدمه حال الانكشاف.

{و} من البديهي أنّ {سقوط التّكليف بحصول غرضه} كما في موارد الأصول بناءً على جعل الحكم وكما في موارد الطّريق بناءً على السّببيّة {أو لعدم إمكان تحصيله} كما إذا لم يمكن استيفاء الباقي {غير التّصويب المجمع على بطلانه وهو خلوّ الواقعة عن الحكم غير ما أدّت إليه الأمارة} وكذا تعدّد الحكم على حسب تعداد آراء المجتهدين أو غيرهما.

و{كيف} يكون الإجزاء تصويباً مجمعاً على بطلانه {و} قد {كان} مقابلاً للتصويب، فإنّه كان {الجهل بها} أي: بالواقعة {بخصوصيّتها} كما في الشّبهة

ص: 513

أو بحكمها - مأخوذاً في موضوعها، فلا بدّ مِن أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته محفوظاً فيها، كما لا يخفى.

___________________

الموضوعيّة {أو بحكمها} كما في الشّبهة الحكميّة {مأخوذاً في موضوعها} أي: في موضوع الأمارات والأصول {فلا بدّ من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته} الإنشائيّة.

{محفوظاً فيها} أي: في موارد الأمارات والأصول {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل. ولا يذهب عليك أنّ المصنّف جمع في كلامه بين الرّدّ على المصوّبة وبين عدم التّلازم بين الإجزاء والتّصويب، وفيه أيضاً ردّ علىشيخنا المرتضى(قدس سره)، وبالتّأمّل في كلامه يعرف عدم استقامة الرّد، واللّه العالم.

ص: 514

فهرس المحتويات

كلمة الناشر..... 7

المقدمة

الأمر الأوّل: موضوع العلم ومسائله وموضوع علم الأصول وتعريفه.... 15

موضوع العلم..... 17

المسائل ... 19

المبادئ .... 23

موضوع الأصول .... 25

تعريف الأصول ...... 34

الأمر الثّاني: الوضع وأقسامه ...... 37

المعنى الحرفي ... 43

الخبر والإنشاء ... 54

أسماء الإشارة والضمائر ..... 55

الأمر الثّالث: استعمال اللفظ في ما يناسب معناه ...... 59

الأمر الرّابع: إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه ... 62

الأمر الخامس: وضع الألفاظ لذوات المعاني ... 71

توجيه ما حُكي عن الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي ... 75

الأمر السّادس: وضع المركّبات ..... 79

الأمر السّابع: أمارات الوضع ... 82

التّنصيص ..... 83

ص: 515

التّبادر ..... 83

صحّة السّلب ...... 87

الاطّراد ... 94

الأمر الثّامن: أحوال اللفظ ... 97

تعارض الأحوال ..... 99

الأمر التّاسع: الحقيقة الشرعية ... 100

الأمر العاشر: الصحيح والأعم .... 109

محلّ النّزاع ..... 110

معنى الصّحّة ... 113

الجامع على الصّحيحيّ ..... 116

الجامع على الأعمّي .... 121

وضع ألفاظ العبادات .... 132

فائدة لغوية حول كلمة النهاية ...... 134

ثمرة النّزاع ..... 134

وجوه القول بالصحيح ...... 140

وجوه القول بالأعم ...... 146

الكلام في أسامي المعاملات .... 157

عدم الإجمال في أسامي المعاملات بناءً على وضعها للصحيح ...... 161

أنحاء دخل الشيء في المأمور به ...... 164

الأمر الحادي عشر: الاشتراك ..... 173

توهم استحالة وقوع الاشتراك والجواب عنه ...... 174

توهم منع استعمال المشترك في القرآن والجواب عنه .... 176

توهم لزوم وقوع الاشتراك في اللغات والجواب عنه ..... 179

الأمر الثّاني عشر: استعمال اللفظ في أكثر من معنى .... 181

الأظهر عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلاً ..... 182

القول بالتفصيل بين التثنية والجمع وبين المفرد والمناقشة فيه ... 187

ص: 516

المقصود من بطون القرآن ..... 195

الأمر الثّالث عشر: في المشتقّ ... 198

المراد بالمشتقّ ...... 200

عدم اختصاص النزاع باسم الفاعل وما بمعناه .... 203

مراد المصنف من العرض والعرضي..... 206

شمول النزاع لبعض الجوامد ... 207

اسم الزّمان ...... 212

الأفعال والمصادر ...... 215

دلالة الفعل على الزّمان .... 218

امتياز الحرف عن الأمر والفعل ... 225

اختلاف مبادئ المشتقّات ... 233

المراد بالحال .... 235

تأسيس الأصل ...... 243

الخلاف في المشتق ..... 247

تبادر التّلبّس ..... 249

صحّة السّلب عن المنقضي .... 249

المضادة دليل الاشتراط ..... 252

إشكال على صحّة السّلب ... 261

عدم الفرق بين المشتق اللازم والمتعدّي.... 264

عدم الفرق بين المتلبّس بضد المبدأ وغير المتلبس .... 266

أدلّة كون المشتق حقيقة في المنقضي ...... 267

دليل المفصّل .... 279

مفهوم المشتق ... 281

بيان في معنى عقد الوضع وعقد الحمل ... 292

إرشاد في معنى بساطة المشتق .... 305

الفرق بين المشتق والمبدأ ...... 308

ص: 517

دفع اشتباه الفصول ..... 313

كيفيّة جري الصّفات على اللّه تعالى .... 316

كيفيّة قيام المبادئ بالذات ... 321

معنى الخارج المحمول والمحمول بالضميمة ...... 325

الكلام في الصفات الجارية عليه تعالى .... 325

كلام الفصول في صفاته تعالى ومناقشته ...... 327

في الإسناد المجازي للمشتق ... 334

المقصد الأوّل: في الأوامر

المقصد الأوّل: في الأوامر وفيه فصول ...... 339

الفصل الأوّل : في ما يتعلّق بمادّة الأمر ...... 341

معاني لفظ الأمر في اللغة والعرف .... 341

معنى لفظ الأمر في الاصطلاح .... 344

تعدد موارد استعمال الأمر في الكتاب والسنة ..... 347

اعتبار العلو ..... 348

إفادة الأمر الوجوب...... 351

الطّلب والإرادة...... 357

اتحاد الطلب والإرادة.... 361

دفع وهم...... 372

مدلول الجملات الخبرية والإنشائية عند الأصحاب والمعتزلة..... 373

إشكال ودفع ..... 376

شبهة الجبر وردّها ...... 383

الإشكال في عقاب العاصي والجواب عنه ..... 385

وهم ودفع ... 393

الفصل الثّاني: في ما يتعلّق بصيغة الأمر .... 395

المبحث الأوّل: معنى صيغة الأمر ..... 395

ص: 518

إيقاظ: توهم انسلاخ صيغ الإنشاء عن معانيها إذا وقعت في كلامه تعالى والجواب عنه ...... 399

المبحث الثّاني: الصيغة حقيقة في الوجوب ...... 402

المبحث الثّالث: الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب ظاهرة في الوجوب ... 406

المبحث الرّابع: ظهور صيغة الأمر في الوجوب ..... 412

المبحث الخامس: ما تقتضيه الصيغة من التوصلية أو التعبدية .... 415

معنى الواجب التوصلي والتعبدي ...... 417

امتناع أخذ قصد الامتثال شرعاً في متعلق الأمر ...... 418

توهم إمكان اعتبار قصد القربة في العبادة والمناقشة فيه ..... 420

امتناع التمسك بإطلاق الأمر لإثبات التوصلية .... 430

إمكان التمسك بالإطلاق المقامي لإثبات التوصلية ..... 432

مقتضى الأصول العمليّة: الاشتغال .... 435

عدم جريان البراءة الشرعية في المقام .... 438

المبحث السّادس: مقتضى إطلاق الصّيغة .... 442

المبحث السّابع: الأمر عقيب الحظر ...... 444

المبحث الثّامن: المرّة والتّكرار ... 447

المراد بالتّكرار ..... 453

في ما يحصل به الامتثال ... 458

المبحث التّاسع: الفور والتّراخي ...... 463

الإتيان فوراً ففوراً ...... 469

الفصل الثّالث: الإجزاء ..... 471

المراد من كلمة (وجهه) .... 471

المراد من كلمة (الاقتضاء) .... 474

المراد من كلمة (الإجزاء) ..... 478

الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة المرّة والتكرار ..... 480

الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة تبعيّة القضاء للأداء .... 481

تحقيق مسألة الإجزاء في موضعين ...... 482

ص: 519

الموضع الأوّل: إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمر نفسه دون غيره .... 482

الموضع الثّاني: إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمر غيره .... 486

في إجزاء الأمر الاضطراري ..... 486

أنحاء الأمر الاضطراري وحكم كل واحد منها.... 487

تعيين ما وقع عليه الأمر الاضطراري .... 492

في إجزاء الأمر الظاهري ..... 496

الإجزاء في الأصول المنقّحة لموضوع التكليف ...... 497

في إجزاء الأمارات المنقّحة لموضوع التكليف بناءً على الطريقية ...... 500

في إجزاء الأمارات بناءً على السببية ..... 501

حكم الإجزاء في ما إذا شك في السببية والطريقية .... 502

عدم الإجزاء في الأصول والأمارات الجارية في إثبات أصل التكليف .. 506

تذنيبان: عدم الإجزاء في صورة القطع بالأمر خطأً ..... 508

الإجزاء لا يوجب التصويب ... 510

فهرس المحتويات ...... 515

ص: 520

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.